السخرية والاحتقار: قال تعالى: }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ[11]{ “سورة الحجرات” والمسلم لا يصدر منه إلا خير، وإن تكلم تكلم بالحكمة والموعظة الحسنة، وإن تسامر وضحك لا يجرح الآخرين، وهنا مقالة للمهلب بن أبي صفرة يقول فيها:'يعجبني أن أرى عقل الكريم زائدًا على لسانه، ولا يعجبني أن أرى لسانه زائدًا على عقله. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا[ وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ] بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ] رواه مسلم وأحمد.
كيف تكسب ود الناس ؟
هناك وسائل كثيرة يستطيع الأخ الداعية من خلالها أن يكسب ود الآخرين، والتي منها:
الالتزام بحسن الخلق :قال أبو حاتم رضي الله عنه:' الواجب على العاقل أن يتحبب إلى الناس بلزوم حسن الخلق، وترك سوء الخلق؛ لأن الخلق الحسن يذيب الخطايا، كما تذيب الشمس الجليد، وإن الخلق السيئ ليفسد العمل، كما يفسد الخلُّ العسل، وقد يكون في الرجل أخلاق كثيرة صالحة كلها، وخلق سيئ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الصالحة كلها... قال الفضيل بن عياض: [إذا خالطت، فخالط حسن الخلق، فإنه لا يدعو إلا إلى خير، وصاحبه منه في راحةٍ، ولا تخالط سيئ الخلق؛ فإنه لا يدعو إلا إلى شر، وصاحبه منه في عناء، ولأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحبُّ إليَّ من أن يصحبني قارئ سيئ الخلق؛ إن الفاسق إذا كان حسن الخلق عاش بعقله، وخف على الناس وأحبوه، وإن العابد إذا كان سيئ الخلق ثقل على الناس ومقتوه].
قال أبو حاتم رضي الله عنه: حسن الخلق بذر اكتساب المحبة، كما أن سوء الخلق بذر استجلاب البغضة، ومن حسن خلقه؛ صان عرضه، ومن ساء خلقه هتك عرضه؛ لأن سوء الخلق يورث الضغائن، والضغائن إذا تمكنت في القلوب أورثت العداوة، والعداوة إذا ظهرت من غير صاحب الدين أهوت صاحبها إلى النار، إلا أن يتداركه المولى بتفضل منه وعفو.
ومن أعظم ما يُتوسل به إلى الناس، ويستجلب به محبتهم: البذلُ لهم مما يملك المرء من حُطام هذه الدُّنيا، واحتماله عنهم ما يكونُ منهم من الأذى. فمن عدم المال فليبسط وجهه للناس؛ فإنَّ ذلك يقوم مقام بذل المعروف، إذ هو أحد طرفيه، وقد سُئل ابن المبارك عن حسن الخلق، فقال: [هو بسط الوجه، وبذل المعروف].
استعمال المداراة وترك المداهنة مع الناس :قال أبو حاتم رضي الله عنه:' الواجب على العاقل أن يلزم المداراة مع من دُفع إليه في العشرة من غير مقارفة المداهنة، إذ المداراة من المداري صدقة له، والمداهنة من المداهن تكون خطيئة عليه، والفصل بين المداراة والمداهنة: هو أن يجعل المرء وقته في الرياضة لإصلاح الوقت الذي هو له مقيم بلزوم المداراة من غير ثلم في الدين من جهة من الجهات، فمتى ما تخلَّق المرء بخلق وشابه بعض ما كره الله منه في تخلقه، فهذا هو المداهنة؛ لأن عاقبتها تصير إلى قلّ. ويلازم المداراة: لأنها تدعو إلى صلاح أحواله، ومن لم يدار الناس ملَّوه، كما أنشدني علي بن محمد البسامي :
دار من الناس ملالاتهم من لم يدار الناس ملُّوه
ومُكرمُ الناس حبيب لهم من أكرم الناس أحبوه
... وعن ابن الحنفية قال: [ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدًّا، حتى يأتيه الله منه بالفرج أو المخرج].
قال أبو حاتم رضي الله عنه: من التمس رضى جميع الناس التمس مالا يُدرك، ولكن يقصد العاقل رضى من لا يجد من معاشرته بُدًّا، وإن دفعه الوقت إلى استحسان أشياء من العادات كان يستقبحها، واستقباح أشياء كان يستحسنها، ما لم يكن مأثمًا، فإن ذلك من المداراة، وما أكثر من دارى فلم يسلم، فكيف توجد السلامة لمن لا يداري؟!.
قال أبو حاتم رضي الله عنه: من لم يعاشر الناس على لزوم الإغضاء عما يأتون من المكروه، وترك التوقع لما يأتون من المحبوب، كان إلى تكدير عيشه أقرب منه إلى صفائه، وإلى أن يدفعه الوقت إلى العداوة والبغضاء أقرب منه إلى أن ينال منهم الوداد، وترك الشحناء، ومن لم يدار صديق السوء كما يداري صديق الصدق ليس بحازم.(/5)
إفشاء السلام ، وإظهار البشر والتبسم : عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [السلام اسم من أسماء الله وضعه الله في الأرض, فأفشوه بينكم, فإن الرجل المسلم إذا مر بقوم فسلم عليهم فردوا عليه, كان له عليهم فضل درجة بتذكيره إياهم السلام, فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم و أطيب] رواه البزار والطبراني والبيهقي، وقال المنذري في الترغيب 3/428:وأحد إسنادي البزار جيد قوي. قال أبو حاتم رضي الله عنه: الواجب على العاقل أن يلزم إفشاء السلام على العام؛ لأن من سلَّم على عشرة كان له عتق رقبة، والسلام مما يذهبُ إفشاؤه بالمكتن من الشحناء، وما في الخَلَد من البغضاء، ويقطع الهجران، ويصافي الإخوان. والبادئ بالسلام بين حسنتين، تفضيل الله عز وجل إياه على المسلّم عليه بفضل درجة، لتذكيره إياهم بالسلام، وبين ردّ الملائكة عليه عند غفلتهم عن الرد... قال زبيد الياميإن أجود الناس من أعطى مالاً لايريد جزاءه ، وإن أحسن الناس عفوًا من عفا بعد قدرة، وإن أفضل الناس من وصل من قطعه، وإن أبخل الناس من بخل بالسلام]...وَعَنْ عَمَّار بْن يَاسِر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: [ ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ: الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ] رواه البخاري- تعليقا- .
قال أبو حاتم رضي الله عنه: الواجب على المسلم إذا لقي أخاه المسلم أن يسلم عليه مبتسمًا إليه، فإن من فعل ذلك تحات عنهما خطاياهما كما تحات ورق الشجر في الشتاء إذا يبس، وقد استحق المحبة من أعطاهم بشر وجهه.
وعن سعيد بن الخمس أنه قيل له:ما أبشّك؟ قال :' إنه يقوم عليّ برخيص'.
قال أبو حاتم : البشاشة إدام العلماء ، وسجية الحكماء، لأن البشر يطفئ نار المعاندة، ويحرق هيجان المبغضة، وفيه تحصينٌ من الباغي، ومنجاة من الساعي، ومن بشَّ للناس وجهًا لم يكن عندهم بدون الباذل لهم ما يملك... ولسعيد بن عبيد الطائي:
الق بالبشر من لقيت من الناس جميعًا ولاقِهم بالطلاقه
تجن منهم أجنى ثمار، فخذها طيبًا طعمهُ لذيد المذاقه
... وعن حبيب بن أبي ثابت قال: [من حسن خلق الرجل أن يحدث صاحبه وهو يتبسم].
الإقلال من المزاح : عَنْ أَنَس بْن مَالِكٍ قَال:َ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَادٍ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ رُوَيْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ لَا تَكْسِرْ الْقَوَارِيرَ] قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي ضَعَفَةَ النِّسَاءِ .رواه البخاري ومسلم والدارمي وأحمد.
قال أبو حاتم رضي الله عنه: الواجب على العاقل أن يستميل قلوب الناس إليه بالمزاح، وترك التعبُّس.
والمزاح على ضربين: فمزاح محمود ، ومزاح مذموم.
فأما المزاح المحمود: فهو الذي لا يشوبه ما كره الله عز وجل، ولا يكون بإثم ولا قطيعة رحم.
وأما المزاح المذموم: فالذي يثير العداوة، ويُذهب البهاء، ويقطع الصداقة ويُجرِّئ الدنيء عليه، ويحقد الشريف به... قال ربيعة:'إياكم والمزاح، فإنه يُفسد المودة، ويُغِلُّ الصدر'. وعن عبد الله بن حُبيق قال:'لا تمازح الشريف، فيحقد عليك، ولا تمازح الوضيع، فيجترئ عليك'.
قال أبو حاتم رضي الله عنه: المزاح في غير طاعة الله مسلبة للبهاء، مقطعة للصداقة، يورث الضغن، وينبت الغِلَّ. وإنما سمي المزاح مزاحًا لأنه زاح عن الحق، وكم من افتراق بين أخوين، وهجران بين متآلفين، كان أول ذلك المزاح، عن الحكم قال: كان يقال:'لا تمار صديقك ولا تمازحه، فإن مجاهدًا كان له صديق، فمازحه، فأعرض كل واحدٍ منهما عن صاحبه، فما زاده عن السلام حتى مات'.
قال أبو حاتم رضي الله عنه: وإن من المزاح ما يكون سببًا لتهييج المراء، والواجب على العاقل اجتنابه؛ لأن المراء مذموم في الأحوال كلها، ولا يخلو المماري من أن يفوته أحد رجلين في المراء: إما رجلٌ هو أعلم منه، فكيف يجادل من هو دونه في العلم؟! أو يكون ذلك أعلم منه، فكيف يماري من هو أعلم منه؟! ... وعن الأوزاعي قال: قال بلال بن سعد:'إذا رأيت الرجل لجوجًا مماريًا معجبًا برأيه؛ فقد تمت خسارته'... عن محمد بن المنكدر قال: قالت لي أمي وأنا غلام: 'لا تمازح الغلمان، فتهون عليهم، أو يجترئوا عليك'. وقال عمر بن الخطاب:'من كثر ضحكه؛ قلت هيبته، ومن مزح؛ استخف به، ومن أكثر من شيء؛ عُرف به].
وصايا ونصائح للداعية في هذا الباب:
1 - يجب على الأخ اللبق أن يُحسن الإنصات إلى محدثه مع حسن الاستماع: وهناك قول لطيف، وهو:'إذا أردت أن يحبك الناس، فكن مستمعًا طيبًا وشجع محدثك على الكلام عن نفسه'.(/6)
2 - إكرام الضيف يكون بطلاقة الوجه وحسن اللقاء وطيب الكلام والطعام : قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجه والدارمي وأحمد.
3 - الدعاء : وذلك بأن تدعو الله تبارك وتعالى أن يجعلك محبوبًا بين إخوانك، وتدعوه سبحانه أن يجعل هؤلاء الفتية الذين آمنوا بالله ربًا وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً أن يكونوا متحابين متزاورين متباذلين في الله، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي] رواه مسلم وأحمد والدارمي ومالك.
4- الدقة في المواعيد والالتزام بها مع الناس.
5- تبادل الأخ الهدايا مع إخوانه وأرحامه: فإن الهدية تجلب المحبة، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: [ تَهَادَوْا .. تَحَابُّوا] رواه البخاري في 'الأدب المفرد' وأبو يعلى والبيهقي .
6 ـ بث الحماس والتشجيع في محدثك : إن عمل عملاً طيبًا يستحق الثناء والتشجيع [فإننا نتعهد بالغذاء أجساد أبنائنا وذوينا، ولكننا قلما نطفئ ولو جزءًا يسيرًا من ظمئهم إلى أن يكونوا شيئًا مذكورًا، وبينما نغدق عليهم الطعام والشراب ألوانًا وأشكالاً، ترانا نبخل عليهم بكلمات التقدير والتشجيع، فلو أنها استخدمت؛ فإنها تختزن في ذاكرتهم، وتتجاوب أصداؤها في صدورهم على مر السنين نغمًا حلوًا لا ينسى]”كيف تكسب الأصدقاء ص29”.
7 ـ لا تكثر الجدل في أي شأن من الشئون أيًا كان، فإن المراء لا يأتي بخير.
8 ـ قدر الأخ الذي أمامك وحدثه بما يهتم به: فيسر لذلك، وينفتح بالحديث عن نفسه ورغباته ومشاكله، وهنا ترسم في قلبه صورة طيبة عنك تكون أوضح في لقاء آخر، ولا تنس أن تكثر من ترديد اسمه أثناء محادثتك إياه.
9 ـ أن يكون تعاملك وحبك للناس مندرجا تحت هذه القاعدة [الحب في الله والبغض في الله].
الخلاصة :
نصل بعد كل ما ذكرناه [إن من حببه الله إلى الناس؛ فقد أنعم عليه نعمة وسيعة، كما أن من بغضه إليهم فقد جعل له نقمة فظيعة، والسبب فيمن يكون محبًا إلى الخلق أن من رعاه الله، فصفا جوهره، وطاب حسن عمله له نور في مشاعر من يراه فيحبه، وإياه قصد تعالى بقوله لموسى عليه السلام: }وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي[39]{“سورة طه”. قال الإمام القرطبي في هذه الآيةقال ابن عباس:' أحبه الله وحببه إلى خلقه']. وقال ابن عطية: [جعل عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه]. وقال قتادة: كانت في عيني موسى ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه، وقال عكرمة: المعنى: جعلت فيك حسنًا وملاحة فلا يراك أحد إلا أحبك، وقال القرطبي: المعنى وألقيت عليك رحمتي. وقال ابن زيد: جعلت من رآك أحبك حتى أحبك فرعون؛ فسلمت من شره، وأحبتك آسية بنت مزاحم فتبنتك].
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ قَالَ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ قَالَ فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ قَالَ فَيُبْغِضُونَهُ ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ]رواه البخاري ومسلم وأحمد ومالك.يقول الإمام النووي في شرح هذا الحديث: [...وحب جبريل والملائكة يحتمل وجهين: أحدهما: استغفارهم له وثناؤهم عليه ودعاؤهم . والثاني: أن محبتهم على ظاهرها المعروف من المخلوقين، وهو ميل القلب إليه واشتياقه إلى لقائه. وسبب حبهم إياه كونه مطيعًا لله تعالى، محبوبًا له، ومعنى: [ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ] أي الحب في قلوب الناس ورضاهم عنه؛ فتميل إليه القلوب وترضى عنه، وقد جاء في رواية: [ فَتُوضَعُ لَهُ المَحَبَةُ] . فنسأل الله تبارك وتعالى أن تكون أعمالنا خالصة لوجهه سبحانه، فيرضى عنا، ثم يكتب لنا القبول في الأرض، فيحبنا الناس، فينفتح بذلك باب من أبواب الخير للدعوة الإسلامية، وللإسلام عمومًا.. والحمد لله رب العالمين .
تمت
من سلسلة رسائل فتيان الدعوة:'كيف يكون الداعية شخصية محبوبة' بإشراف /(/7)
الشيخ / جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين.. الشيخ / أحمد بن عبد العزيز القطان .(/8)
كيف يواجه المؤمن احزان الدنيا ؟
ماأكثر الأحزان في حياتنا الدنيا .. نحزن لفراق الأحباب .. نحزن لعدم اكتمال الفرحة أو كما يقولونفرحة ماتمت كأن يقام حفل عرس , والجميع يتوقع أن تكون سهرة ممتعة .. واذا بواحد من أهل العروس أو من أهل العريس أو من باقي المعازيم يقوم بالواجب !! فيطلق من بندقيته طلقات مجاملة لأهل العريس أو العروس .. فيصيب من يصيب وقد تكون بعض الاصابات في مقتل .. وذلك إحياء للعرس !! وينقلب الفرح الي مأتم ..
بالفعل .. كثيرا مالاتكتمل الفرحة .. ليس بالضرورة أن تكون النهاية درامية الي هذا الحد .. ولكن شيئا مايحدث .. لم يكن في الحسبان , كأن يمرض واحد من الأهل أويصاب في حادث مروري ( أو غيره ..) في نفس التوقيت .. فلاتكتمل الفرحة ولاتتم .
والأحزان ليست كلها علي هذه الشاكلة .. بل قد يحزن الواحد من الناس لأن ترقية كانت في طريقها اليه حصل عليها شخص آخر بطريق التدليس (!) أو شخص تقدم لخطبة فتاة , فرفضه أهلها أو رفضته الفتاة نفسها .. وكان يظن أنه سيظفر بفتاته , وأن ذلك أمر مقطوع به .. ربما يكون شخص اخر تقدم للفتاة في نفس الوقت , وكان أكثر من الخطيب الأول وجاهة أو وسامة أو أكثر مالا وأعز نفرا (!) يحدث هذا فيفقد الخطيب الأول صوابه , وقد يرتكب حماقة في حق نفسه فيقدم علي الانتحار مثلا أو في حق خطيبته .. كأن يتربص بها ويلقي علي وجهها ماء النار حتي تتشوه ولاتكون له ولا لغيره !! وأخبار الحوادث والقضايا لاتخلو من هذه السيناريوهات المؤسفة .. أو يحزن واحد من الناس لأن مشروعا له فشل وخسر بسببه مدخراته كلها أو جلها .
أو رياضي يمارس لعبة فردية لم يحالفه التوفيق الذي كان ينتظره في إحدي المسابقات المهمة والتي كان يعقد الآمال علي الفوز فيها .. أو رجل أعمال لم يرسو عليه عطاء كان يظنه من قسمته ومن نصيبه !! وكان يعتبر الظفر به نقطة تحول في حياته العملية ..
أسباب الحزن في حياتنا الدنيا لاتسعها المجلدات .. وغير المؤمن أو المؤمن الذي هو في حقيقة أمره قليل الايمان , لايتقبل الصدمة ولايدع الحزن يغادره , بل يظل يجتره ويسترجعه .. وهذا أمر قاتل . اذ يفتك بصاحبه نفسيا وعصبيا .. ويتركه فريسة الأمراض التي تتسبب فيها مثل هذه الهزات النفسية والعصبية .
أما المؤمن صادق الايمان فالأمر معه مختلف .. فهو يتقبل مايجري عليه بصدر رحب , دون أن ينهار ودون أن تهبط معنوياته الي الحضيض أو مادون الحضيض بقليل (!)
ولذلك أسباب كثيرة نأتي علي بعضها فيما يلي :
* المؤمن يكل أمره الي الله .. ويؤمن أن لله ماأعطي ولله ماأخذ .. وأن أنعم الله ودائع مستردة أو هي قابلة للاسترداد في أي وقت وبلا سابق انذار .. فاذا أعطانا الله شيئا ثم استرده منا فلا ينبغي أن نحتج أو نتذمر أو نسخط علي أقدرانا .. وحاشا لله من كل ذلك .. العمر نفسه قابل للاسترداد في أي وقت ..
* المؤمن يعلم أنه سيبتلي ليختبر .. وهذا ـ كما قلت وأقول دائما ـ هو سبب وجودنا علي ظهر الأرض لفترة اختبار محدودة في عمر الزمن .. فاذا جزعنا ولم نحسن تلقي الصدمة .. بأن نسلم الأمر لله ونتقبل مايجريه علينا من أحداث كنا من الراسبين في الاختبار .
* المؤمن يعلم أيضا أنه اذا أحسن تقبل الصدمة وصبر عليها واحتسبها عند الله فقد فاز انما الصبر عند الصدمة الأولي ( حديث شريف ) وماله ألا يصبر وقد وعد الله الصابرين بالجنة ومايلقاها الا الذين صبروا ومايلقاها الا ذو حظ عظيم ( فصلت 35),
الأزمات والصدمات اذا لم يتعامل معها المرء بحكمة ويجتازها بثبات , تحطم نفسيا وجسديا .. لو أن هذا الفتي قد تقبل الأمر الواقع ومرره , لما حلت به هذه الكارثة المقيتة , والتي لن تغادره أبدا ..
صحة الانسان النفسية والجسدية يجب أن تكون أغلي عنده من أي شيء آخر .. والمحافظة عليها بالايمان هو أمضي الأسلحة ضد النكبات وأقوي الدروع ضد الصدمات التي يحتمل أن يواجهها الانسان في مراحل حياته المختلفة ..
أدري أن المصيبة قد تكون فادحة والخطب جللا .. ولكن ماذا يفيد أن نضيف الي الهم الذي حل بنا هما من عندنا؟ ! انه سيزيد الأمر تعقيدا .. ثم إذا نظرنا الي بعيد .. أفليست الجنة عائدا مجزيا اذا صبرنا علي ماحل بنا؟ !, ولايلقاها إلا الصابرو ن ( القصص 80)..(/1)
كيف يُقضى على مظاهر الفقر ...
18-01-2006
اشتكى أحد الأحباب من الأوضاع الاقتصادية في فلسطين، وصعوبة العيش، وكثرة الفقراء والمحتاجين، وحتماً فإن الشعب الفلسطيني يعيش وضعاً صعباً، ويكثر فيه أهل الفقر والحاجة، إلا أنني قلت لهذا الرجل: إن ما يعانيه الشعب الفلسطيني من أزمة مالية، وارتفاع في نسبة الفقراء والمحتاجين، يعود إلى عدم قيام المجتمع على تقوى الله سبحانه، وإن ما يصيبنا هو مما كسبت أيدينا، قال سبحانه : (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً (79)) .النساء
وقد ضربت له على ذلك مثلاً واضحاً فقلت له: كم نسبة سكان فلسطين؟ قال : قرابة أربعة ملايين نسمة. قلت: كم نسبة المدخنين منهم؟ قال : لا يقل عن مليون. قلت : مليون مدخن، كم علبة سجائر يحتاجون يومياً؟ قال على أقل تقدير مليون علبة؟ قلت كم سعر العلبة ؟ قال تتراوح ما بين 10شيكل و17 شيكل. قلت فلنأخذ بالأدنى ، وعليه فإن الشعب الفلسطيني يحتاج يومياً إلى عشرة ملايين شيكل لينفقها على الدخان كحد أدنى، وإلى خمسة وعشرين مليون كحد وسط، وإلى خمسة وثلاثين مليون كحد أقصى، وهذا الرقم الضخم لو أنفق على مصارف الخير لما بقي في فلسطين من هو تحت خط الفقر .
ثم قلت له: إنني لا أريد أن أخوض في حكم التدخين، وإن كنت أعتقد جازماً حرمته ، إلا أنني أقول : إن العقلاء من بني البشر ، يجمعون على أن التدخين عادة سيئة لا فائدة منها، بل هي مضرة بالصحة والمال ، إذن فالشعب الفلسطيني ينفق يومياً ملايين الشواكل على عادة سيئة لا يستفيد منها شيئاً، بل على العكس هي مضرة له، لو أنفقت هذه الملايين على الفقراء والمحتاجين بدلاً من إنفاقها على ما لا فائدة منه،فما هي النتيجة ؟ النتيجة ما قلت، إسهام في القضاء على ظاهرة الفقر في فلسطين خاصة، وفي سائر بلاد المسلمين عامة، فكيف إذا أضفنا إلى ذلك تخلي المسلمين عن الإنفاق عن كل ما لا فائدة فيه ، وصرف هذه الأموال الضخمة في أوجه الخير؟
فعلى سبيل المثال: لو أخذنا أقل تعديل لحجم الأموال التي تهدر يومياً على التدخين وحده تبلغ 10ملايين شيكل يومياً بما يعادل 2 مليون دولار أمريكي، فإذا ضربنا هذا الرقم بثلاثين يوماً أي بشهر يكون الرقم 60 مليون دولار، فكم نستطيع أن نقيم مؤسسات اقتصادية واجتماعية بهذا المبلغ الشهري ؟
الجواب : أكثر من خمس عشرة مؤسسة كبيرة تعمل على الخدمات الاجتماعية والتربوية والاقتصادية ،وأما في السنة فنستطيع إقامة 180 مؤسسة اجتماعية فماذا يعني ذلك :
1: القضاء على نسبة الفقر من خلال تشغيل الأيدي العاملة ، والقضاء على ظاهرة البطالة.
2 : الاكتفاء الذاتي .
3: الاستغناء عن استنجاد الدول المستعمرة وغيرها .
4: تفعيل القدرات والمهارات البشرية.
5: تبني الطلاب والمقعدين والمرضى وغيرهم .
6: انتعاش الوضع الاقتصادي والاجتماعي والتربوي.
7: المحافظة على ثبات الأوضاع وتطويرها .
8: التكافل الاجتماعي والترابط الأخوي .
9: بناء جسور تعاون مع إخواننا خارج فلسطين.
وغير ذلك من الفوائد الجمة التي تعود على شعبنا فقط بتركه للتدخين، والتبرع بثمن علب السجائر الخبيثة لصالح الشعب .
أضف إلى ذلك الفوائد الشرعية التي يتحصل عليها المتصدق منها:
1: الأجر العظيم من الله سبحانه، قال سبحانه : (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (262) ) . البقرة
2 : مضاعفة الأجر ،قال تعالى : (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) ) . البقرة
3: زيادة المال والمباركة فيه، قال تعالى : (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) ) .
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:( ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ). رواه الترمذي وقال حسن صحيح .
4 : إرجاع المال للمتصدق، قال سبحانه : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) ) . سبأ
وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم : (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما، اللهم أعط منفقاً خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفا ) رواه مسلم.(/1)
5: تولي الله سبحانه عبده بالنفقة، فقد جاء في الحديث القدسي: قال الله تبارك وتعالى: ( يا ابن آدم أنفق، أُنفق عليك ). رواه مسلم.
6 :مغفرة الذنوب، فعن عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم :( أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر . قد أدلع لسانه من العطش . فنزعت له بموقها فغفر لها ) . صحيح مسلم فإذا كانت هذه المغفرة لهذه الزانية بسبب تصدقها على كلب ، فكيف بمن يتصدق على أهل الإيمان والتقوى!!!
7 : تقي مصارع السوء، لما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (صنائع المعروف تقي مصارع السوء وصدقة السر تطفئ غضب الرب ) . رواه الطبراني وغيره
فكل هذه الفوائد وغيرها الكثير، تتسبب بها الصدقة التي يبتغى بها وجه الله سبحانه، ومع ذلك لا نجد الناس يقبلون على التصدق في سبيل الله سبحانه،في الوقت الذي ينفقون فيه أموالاً طائلة على الأمور المحرمة ،والتي لا فائدة فيها، أوليس بعد هذا الأمر تسلم معي على أن ما يصيب المسلمين من فقر وغيره هو بما كسبت أيديهم .(/2)
كيفية معالجة قضية الأسرى والشهداء
لا نود التحدث هنا عن الرؤى والمفاهيم المتعلقة بالفكرة الإسلامية عن الموضوع، فالآيات القرآنية الكريمة حافلة بالحديث عن الشهداء والأسرى من حيث تقديرهم وتكريمهم، ولكننا نود الحديث عنهم من جهة المعالجات التي تتصل بالطريقة الإسلامية، بمعنى نريد الحديث عن الأحكام العملية المتصلة بالأسرى والشهداء.
بالنسبة إلى موضوع الأسرى، فلا شك بأن الإسلام أولاهم عناية خاصة، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - تبادل مع المشركين أسارى معركة بدر الرجل برجلين، وسيدنا عمر بن الخطاب - صلى الله عليه وسلم - عندما علم بأن عبد الله بن حذافة السهمي حرَّرَ أسرى المسلمين من قبضة الروم بتقبيل رأس القيصر قال: "حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ بذلك".
فهذه حوادث عملية تدل على مدى حرص الدولة الإسلامية على فك أسر المعتقلين من المسلمين عند أعدائهم، وتدل كذلك على اعتبار هذه القضية قضية مصيرية تهم المجتمع الإسلامي ككل، وهذا بخلاف ما ظهر من تقصير وإهمال من قبل الدول العربية والسلطة الفلسطينية بالأسرى العرب والفلسطينيين، فقد ظهر أن هناك أسرى لعشرات السنوات من المغرب وليبيا والسودان وسوريا والأردن في السجون (الإسرائيلية)، ولم تطالب بهم دولهم ولم تلتفت إليهم، وهناك أسرى دول عربية ودول غير عربية من دول المسلمين لم تطالب بأسراها في سجن غوانتانامو، حتى أن هذه الدول لم تتعاون مع هيئة محامين خاصة كانت تجمع معلومات عن أسماء المعتقلين، لكي تدافع عنهم، مما يدل على أن هذه الدول لم تخالف فقط حكم الأسير في الإسلام، وضرورة الإسراع في محاولة إطلاق سراحه، بل إنها تآمرت مع أعدائها على تسليم هؤلاء الشرفاء إلى الأميركيين، وغيرهم من أعداء الأمة. وكذلك السلطة الفلسطينية، فإنها تآمرت على الأسرى الفلسطينيين، عندما وقَّعت اتفاق أوسلو، ولم تضمن فيه بند إلزام العدو بإطلاق سراح الأسرى.
فالمعالجة الإسلامية الصحيحة لموضوع الأسرى أن يقاتل العدو، ويؤخذ من أسراه لمفاداة أسارى العدو بأسارى المسلمين، كما قال تعالى: { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } [محمد/4]. هذا هو العلاج الشرعي، مقاتلة الأعداء، وشد الوثاق، ثم تحرير الأسرى المسلمين بأسلوب القتال والأسر، لا بأسلوب المفاوضات من غير قتال، ولا بأسلوب الاستجداء.
أما موضوع الشهداء، فلم يرد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يطالب برفاتهم أو بدفنهم في أماكن سكناهم، وقوله تعالى يؤكد ذلك: { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } [لقمان/34]، فهي عامة في كل ميت، وبالتالي فرفات الشهداء ليس محلاً للمساومة مع الأعداء. وإن سقط الشهداء في أرض العدو ودفنوا فيها، صار على المسلمين واجب العمل لاسترداد الأرض التي فيها مقابر الشهداء، وأبو أيوب الأنصاري الصحابي الجليل قال ليزيد قائد حملة المسلمين في بلاد الروم: "اقرأ عني السلام على جنود المسلمين، وقل لهم يوصيكم أبو أيوب أن توغلوا في أرض العدو إلى أبعد غاية وأن تحملوه معكم، وأن تدفنوه تحت أقدامكم عند أسوار القسطنطينية" وهذا ما حصل بالفعل فقد دفنوه في أرض العدو، ثم بعد ذلك حرروا تلك الأرض، وأصبح قبر هذا الصحابي الجليل مزاراً للمسلمين في اسطنبول، وأصبح علامة على إسلامية تلك الأرض.
وهكذا، فالشهداء الذين سقطوا في فلسطين سواء قديماً في عسقلان والرملة وبيت المقدس أم حديثاً، فإن رفاتهم في فلسطين دليل على إسلاميتها، ودليل على وجوب تحريرها بأقصى سرعة وإعادتها للمسلمين. أي إن الشهيد الذي يستشهد في أرض فلسطين، يجب العمل على إعادة الأرض التي استشهد عليها، وليس إعادة جثته وترك الأرض.
هذه هي الأحكام العملية الشرعية المتعلقة بموضوع الأسرى والشهداء، وعلى المسلمين السير بحسبها إذا أرادوا تطبيق الإسلام في هذه الناحية. وتطبيقها يقتضي وجود الدولة الإسلامية الحقيقية المستعدة للدخول في حرب فعلية طاحنة مع العدو، ولتحقيق هذه الأحكام، ولا يكتفى بقيام المنظمات أو الأحزاب بذلك العمل بل لا بد من تولي الدولة لهذه المسؤولية قرآن كريم
أبو حمزة - القدس(/1)
كيفية مواجهة المؤتمرات المعولمة للحياة الاجتماعية د. ست البنات خالد*
الموقف من هذه المؤتمرات
إن الوعي بأهداف هذه المؤتمرات، وما تدعو إليه، ومن يقف وراءها يجعلنا نتمكن من اختيار الطريقة المناسبة لكيفية مواجهتها، واتخاذ الموقف المناسب تجاهها.وهذه الطريقة ذات اتجاهين: موقف نظري ، وموقف عملي.
فالموقف النظري يقوم على ما يلي:
1 - كشف سوءاتها وعوارها للجمهور الإسلامي، وبيان مراميها، ومخالفتها لمقاصد الشريعة، وأنها أحد أذرعة العولمة المعاصرة ؛ وذلك من خلال وسائل الإعلام المختلفة( المقروءة، والمسموعة، والمرئية )، والندوات، والمحاضرات؛ وذلك من قبل العلماء، والدعاة، وطلاب العلم، والمثقفين الإسلاميين، والإعلاميين، والقيادات النسائية، وتحميلهم المسؤولية في بث الوعي العام؛ للوصول إلى تحصين داخلي قوي.
2 - أن تقوم الوزارات والهيئات والمؤسسات الإسلامية( الرسمية وغير الرسمية )، كوزارات الخارجية، والشؤون الإسلامية، والشؤون الاجتماعية، ورابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وهيئة كبار العلماء، ، ودور الإفتاء، وكل من يقوم على أمور المسلمين بأداء دورهم اللازم، وتكوين حضور قوي في الداخل والخارج، ومن ذلك إصدار بيانات تستنكر هذه المؤتمرات وأهدافها الخبيثة، ونشر هذه البيانات وتغطيتها تغطية إعلامية حتى يتبين الأمر للجمهور الإسلامي.
3 - كشف زيغ التيار النسوي التغريبي في العالم الإسلامي والعربي، وأنه جزء من تيار الزندقة المعاصر، والمدعوم من هيئات مشبوهة خارجية.
4 - قيام الجهات الخيرية الإسلامية والأقسام النسائية فيها على وجه الخصوص، والجمعيات الخيرية النسائية، بتحمل مسؤولياتها، والتنسيق فيما بينها، وإصدار وثيقة للأسرة المسلمة تؤصَّل فيها الرؤية الشرعية حول المرأة وحقوقها الأساسية في الإسلام، وكذلك الأسرة ومفهومها الشرعي.
وكذلك القيام بالمناشط الدعوية التثقيفية لمختلف شرائح المجتمع.
5 - عمل رصد إعلامي جاد لكل فعاليات المؤتمرات الدولية والإقليمية، ومتابعة الخطوات الفعلية لتنفيذ توصيات المؤتمرات السابقة التي ناقشت قضايا المرأة، وإصدار ملاحق صحفية؛ لبيان الموقف الشرعي من هذه المؤتمرات وتوصياتها.
6 - إقامة أسابيع ثقافية في المدارس والجامعات؛ لبيان مخالفة مثل هذه المؤتمرات لمقاصد الشريعة الإسلامية.
7 - ممارسة ضغوط شعبية قوية على وسائل الإعلام المختلفة التي تقوم بالترويج والتغطية السيئة لهذه المؤتمرات لتكف عن ذلك.
8 - اعتماد إدخال الأسرة في مناهج التعليم في المرحلة المتوسطة والثانوية للبنين والبنات، ويشتمل هذا المنهج بوصفه صيغة مقترحة على: قيمة الأسرة، ومكانة المرأة في الإسلام، والمفهوم الشرعي للعلاقة بين الرجل والمرأة، والحقوق الزوجية، والوسائل الفعالة في تربية الأولاد، وبيان الأفكار المتصادمة مع الفطرة، ويشتمل هذا المنهج أيضاً على عرض تاريخي للجهود الدولية في إفساد الأسرة والمرأة المسلمة، وعولمة الحياة الاجتماعية عموماً عن طريق هذه المؤتمرات العالمية، وبيان أهدافها الخبيثة الحالية والمستقبلية.
9 - تكوين هيئات عليا للنظر في كل ما يتعلق بالأسرة من النواحي النفسية، والثقافية، والصحية، وتفعيل دور وزارات الشؤون الاجتماعية للقيام بدور فاعل للاستجابة لمتطلبات الأسرة المسلمة.
10 - تفعيل دور الأئمة والخطباء، وإعطاؤهم دورات تثقيفية حول هذه المؤتمرات، والإيعاز إليهم بتكثيف التوعية بخطورة مثل هذه المؤتمرات وتوصياتها على الأجيال القادمة مع تجنب العنف والإثارة.(/1)
كُسوفا
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
لآلِئُ في السُّفوحِ وفي الجِبَالِ
وطَيْفُكِ مِنْ جَمالِكِ والجَلالِ
على رَبواتِكِ الشّهَداءُ جادوا
فكانوا كالجواهِرِ واللآلي
دماؤُك يا " كُسوفا " ! أيُّ نُورٍ
سَرَى منها يموجُ بكلِّ غالِ
دماؤُك يا " كُسوفا " ! أيُّ عِطْرٍ
نَشَرْتِ على الرُّبَى عَبَق اللَّيالي
وأين روائِعُ التاريخ تجري
مُحمّلة بأَشْواقِ المعالي
وأين مَضاجِعُ الشّهداء فيها
تُعِيدُ جَلالَ أَيَّامٍ خوالِ
* *
* *
على ساحاتك الخضراءِ ماجَتْ
مَلاحمُ في السُّهول وفي الجبالِ
تمرُّ بك القُرونُ تظلُّ تَرْوي
فواجعَ جُزْنَ آفاق الخَيال
كأنّ الأَمسَ عادَ اليومَ حَيّاً
تَدَفَّقَ بالدِّماءِ و بالغوالي
وأَكْوامٍ مِنَ الأَشْلاءِ تَعْلُو
وأَحْزانٍ تَطُوفُ بِها ثِقَالِ
وصَيْحَاتِ الأَرَامِلِ و الثَّكالَى
عَلى هَوْلِ العَواصِف والصِّيالِ (1)
وكَمْ مِنْ غادةٍ حَسْناءَ عَفّتْ
عَلى طُهْرِ العَزيمَةِ والدَّلالِ
غَزَاها المُجْرمون وجَرَّدوها
عَلى قَهْر الجَريمةِ والفعَالِ
وأَطْفالٍ تَهِيمُ بِكُلِّ شِعْبٍ
وأَشْواقٍ مَرَرْنَ بِها عِجَالِ
تطاردُها الفواجعَ حَيْثُ تمضي
وأَصداءُ الملاحِمِ والقِتالِ
فكمٍ طِفلٍ تَلَفّتَ : أَيْنَ أُمي ؟
وأيْنَ أبي وعمي ؟ أَين خالي
وأَين ... ؟ وغابَ واضطرَبتْ رؤاهُ
لتُطوَى في الدّموع وفي انهمال
فكم مِنْ دَمْعَةٍ روّتْ دُرُوباً
مَشَاها ؟ كَمْ أسىً ؟ كم من سُؤالِ
وكمْ مِن حُرْقَةٍ في الصَّدْر أضْحت
تَفَجَّر بالّلهيب وباشتِعَال
فَيأخُذُ مِنْ بِسَاطِ الأَرْضِ صَدْراً
يَحِنُّ عَليْهِ مِنْ وهَنِ الكَلاَلِ
ويَلْتَحِفُ السَّماء ! وهل لَدَيْه
بَقيّةُ عَزْمةٍ عند ارتحالِ
ويَنْظُرُ في مَدَى الآفاق يُحيْي
عَزيمته بآمالٍ طِوالِ
تلفَّتَ ! أين عَهْدُ الله يَبْني
بِدَارِ المسْلِمين عُرَا الوِصال
وأيْنَ كتائبُ الإسلام ؟ ! أضحتْ
مُقطّعةَ الوشائج والحبَالِ
أَيَعْبَثُ في مَحارمِنا ذئابُ
وتُنْشِبُ من مخالبها الثّعالي
* *
* *
عجِبْتُ ويُشْفِقُ " النائي " عَلَيهم
ويُقْبلُ كلُّ مُحَتالٍ وقَالي
ويغفو المسلمون على هَوَانٍ
كَأنَّك لا ترى أحداً يُبَالي
أَمات هوانُهُمُ آمَالَ عِزَّ
ونَخْوَة مُنْجِدٍ وهَوَى النّزالِ
فكم رجلٍ لَهُ بالموتِ عُمْرُ
وكم تُحْيي الشَّهادَةُ مِنْ رِجال
ويُدْفَنُ في الحياةِ أَخو هَوانٍ
يَمُوتُ مِنَ الهَوَان بلا قِتَال
ولا تَهبُ الزخَارِفُ أيَّ نَصْرٍ
ولا يُدْني الشِّعارُ مِنَ النَّوالِ
فكَمْ ضَجَّ الشِّعارُ على فضاءٍ
وغابَ عن المواقِع والنِّزالِ
* *
* *
رُويْدَكِ يا " كُسُوفا " كَمْ رَأيْنَا
بأَرْضِ " البُوسْنَ " قَبْلكِ مِنْ مِثالِ
غُزاةُ الصّربِ والكفّارِ مَالوا
بأَحقادٍ تَفَجّرُ بالضَّلال
ديارَ " البوسْن والهرسِك ْ " أفيضي
وقُوْلي كمْ بَلَوْتِ مِنَ التقالي
لقد تخِذوا " الدِّيانَةَ " بابَ حِقْدٍ
بِما كَذبُوا وحَاكُوا مِنْ خَبالِ
فَيُخْفونَ المطامِعَ في صُدُورٍ
ويُبْدُون العَداوةَ بالنِّصالِ
هي الأَهواءُ والدُّنيا عُروضُ
تُجَمِّع مِنْ دَعيٍّ أو مُوالِ
* *
* *
دِماؤُكِ يَا " كُسُوفا " أَيْنَ تَجْري
وأَيْنَ تَصُبُّ مِنْ صَحْبٍ وَآل ؟ !
تَصُبُّ بأبحرٍ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ
دِماءُ المسلمين بِذُلِّ حَالِ
فكم من ساحَةٍ في الأرضِ صَبَّتْ
دَماً مِنْ مسلمٍ غافٍ وسَالِ
إذا هانَتْ نفوسُ القومِ هانَتْ
دِماؤُهُمُ ومَالوا للزَّوالِ
* *
* *
رُويْدَكِ " كُسوفا " ! كَيْف هَانَت
وأُفْرِغتِ الدّيارُ من الرّجالِ
وكيفَ تُسَاقُ أفواجُ الضَّحايا
وأطفالُ وربّاتُ الحِجال
حُشودُ النازحين تَموج حيرى
بأودِيَةٍ تَغورُ وفي التلالِ
تُسَدُّ أَمامَها سُبُلُ وتُلْقَى
على الآفاقِ تائِهةَ النَّوال
تُصَدُّ عَنِ الحُدودِ فَأَيْنَ تأوي
وَكُلُّ في لَهيب الموتِ صَالي ؟ !
فما مِنْ مُسْعِف إلاَّ جحيمُ
ومَا مِنْ مَلْجأٍ أو مِنْ ثِمالِ (2)
تَدُبُّ خُطَاهُمُ هُونْاً وتَمْضِي
بآمالٍ تَذوبُ على الرّمَالِ
قوافل لِلُّجوءِ تصُبُّ صبّاً
على هَوْل المذَلّة والوَبالِ
فكم من ساحَة ألقَت بَنِيها
إلى هَلَكِ الضَّياع أَو النّصالِ
تزاحَمتِ الدُّروبُ بِهمْ وضاقَتْ
ووُسِّعتِ المجَازِرُ للنَّكالِ
* *
* *
لقد نَعِموا بطيبِ العَيْش حيناً
عَلى خَدَرٍ ولهوٍ واحْتِيالِ
يُمَنِّيهمْ عدوُّ الله مَكراً
بِزُخْرُفِ فتنةٍ وغُرورِ حَالِ
ويخدَعهُمْ بِدَعْوى السِّلم حِيناً
وحِيناً بالفَساد أو الضَّلالِ
فألْقَوْا عَنْ كَواهِلِهمْ سِلاَحاً
ودَارُوا في هَوى قِيلٍ وقالِ
فَفُتِّحَتِ القُلوبُ لِكلِّ غازٍ
وفُتّحَت الدّيارُ لكلِّ قالِ (3)
وفاجاهُمْ سِلاحُ ذُو مَضَاءٍ
يُقَتِّل باليَمينِ وبالشِّمالِ
* *
* *
رُوَيدَكِ يا ديارَ " البُسنَ " صَبْراً
رُوَيْدَكِ " كُوسُفا " فالحقُّ غَالِ !
روَيْدَكمُ فَوعْدُ اللهِ حَقُّ
فأَوفُوا بالعُهودِ وبالخلالِ
رُويْدَكِ يا " فلسْطين " اسْتَعِدّي
ويا " كَشميرُ " شُدّي في النِّضال(/1)
ويا " صُومَالُ " لمِّي مِنْ صِراعٍ
أَصَابَكِ مِنْهُ أَلْوانُ الهُزَال
ويا دارَ الجَزائرِ كَمْ بَلاء
أُصِبْتِ به وكمْ مَرضٍ عُضَالِ
ديارُ المْسلمين اليَوْمَ أضحتْ
مُمزّقَةً بِهُونٍ واعتلالِ
فَلُمُّوا من صفوفِكُمُ جميعاً
عَلى حَقٍّ أشَدَّ مِنْ الجِبَالِ
أَقِيموا أُمَّة الإسلام فيكُمْ
بِنَاءً شِيدَ مِن عَزْمِ الرِّجَالِ
ومِنْ عَزْمِ التُّقاةِ إِذا أنابُوا
على سَاحِ الشهادةِ والنّزالِ
* *
* *
الرياض
22/12/1419هـ
8/4/1999م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان عبر وعبرات .
(1) صال : صولاً وصيالاً : سطا ووثب .
(2) ثِمال : غياث .
(3) القالي : الكاره وهو العدوّ .(/2)
لآلئ الشِّعر أوزانُ وقافيةٌ
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
يَقولُ : تَرْتَجِلُ الأَشْعَار تُنْشِدُها
وَزْناً وَقَافِيةٍ قَيْداً وإِعسارا
دَعِ القْوافيَ والأَوْزَانَ ! إِنَّ بِهَا
رَجْعَ التُّراثِ وأَغلالاً وأَوضارا
ودَعْ بَلاغَةَ أَجْدَادٍ وقَدْ غَبَروا
واتْبَعْ هواكَ ومَا قَدْ شاءَ واخْتارا
و " اغْسلْ " كَلامَك أو "طهّره" إِنّ به
مِنْ السِّنين، مِنَ التّاريخ ، وإِغبارا(1)
واتْركْ قَواعِدَهمْ واهْدِمْ دَعائِهُمْ
واجعل " حديثك " بينَ الناس أَسرارا
واجْعَلْ مِنَ الشّعرِ ألغازاً تدورُ بِهِمْ
لا يَفْقَهُ القومُ ما قَدْ قِيلَ أو دارا
حُرّاً يُعِيدُ أَساطيرَ الخَيالِ بِهِ
ويَنتَشي بِضَلالٍ حَيْثُما سَارا
يَهيمُ في كلِّ وادٍ مِنْ ضلالَتِه
مَعَ الشياطينِ إِقْبَالاً وإِدْبَارا
كُلُّ القَدِيم قَدِيمٌ لا يُبَالِ بِهِ
وجَدِّدِ اليوم أَهْوَاءً وأَفْكارا
ومَزِّقِ "الشَّكلَ" لَيْسَ "الشَّكْلُ" ذا صِلَةٍ
بالدِّينِ ! أَنْشِبْ بهِ ناباً وأَظفَاراً (2)
كلُّ الشياطين جَالَتْ في مَنَازِلِهِ
تُغْري وتُطلِقُ أَعواناً وأَنْصَارا
فَكَمْ جَذَبْنَا بأَلْوانِ الخِدَاع فَتىً
هَوَى يُرَدِّدُ أعذاراً وإِعْذارا
***
*
***
فَقُلْتُ : وَيْحَكَ ما قَدْ قُلْتَ إِنَّ بِهِ
مِنْ فِتْنَةِ الشَّرِّ أو مِنْ وقْدِه نارا
الشِّعْرُ حُرُّ بِأَوْزَانٍ وقَافِيةٍ
ملءَ المَيَادينِ دفَّاقاً وزَخَّاراً
إذا تَجَرَّدَ مِنْها غابَ في ظُلُمٍ
بَيْنَ المَجَاهِل إِجْداباً وإِقْفارا
كَأَنَّهُ هَذَرٌ لمُ يُبْقِ آصِرَةٍ
لَهُ مَعَ الشِّعْرِ لا صَحْباً ولا جَارا
لَمَ يَتْرُكُوا نَسَباً للشِّعْرِ أَو رحِماً
يَاوَيْلَ مَنْ قطَّعَ الأرْحام أَو جَارا
***
*
***
لاّلئُ الشِّعْرِ أَوْزانٌ وقافِيةٌ
تَشِعُّ مِنْ وَهَجِ الإِبْداعَ أَنْوارا
الشِّعْرُ فَنُّ وآلافُ السِّنين بَنَتْ
لآلئَ الوزنِ أو صَاغَتْ لَه الغَارا
لِسَانُهُ لُغةُ القُرْآنِ آيَتُها
إِعْجازُه دَارَ إِجْلالاً وإِكْبارا
وَعَبْقَرِيُّ عَطاءِ الشعْرِ قَافِيةٌ
تَجْري مَعَ " البَحْر " إِنشاداً وإِبْحارا
الشِّعْرُ فنُّ إّذا ما قُلْتُه انتفَضَتْ
مِنْكَ الجَوارح تَحْنَاناً وَتَذْكَارا
في صُورةٍ جَمَعَتْ أَلْوانَها فَزَهتْ
وحرّكَتْ من بَدِيع اللَّحْنِ أوتارا
وخفقَةٍ عَبْقرِيُّ الفَنِّ يُطلِقُها
رَوائِعاً مِنْ غَنِيِّ الشعْر أَبْكارا
كَأَنْها اسْتَلْهَمَتْ مِنْ كُلِّ قَافِيةٍ
لَحْناً تموحُ به الأَشْعَارُ أَشْعارا
وعطّرَتْ بالقوافي كلَّ رَابِيَةٍ
وزيَّنَتْ بالقوافي السَّاح والدَّارا
وأَطْلَقَتْ في سَماء الشِّعْر أَنْجُمَهَا
لآلِئاً وعَلى الآفاقِ أقْمارا
كَأنّما اتَّسَعَتْ للشِّعْر سَاحَتُه
فَكَانَ بَحْراً وهِاجَ البَحْرُ إِعْصارا
لا يرْكَبَنَّ غَبَابَ البَحْرْ غيرُ فتىً
جَلْدٍ تمرَّس إِقلاعاً وإِبحارا
يَخُوضُهُ كُلُّ ذي عَزمٍ وموهِبَةٍ
ويَنْثَي العَاجِزُ المضطرُّ إِدْبارا
يَغُوصُ يَطْلُبُ مِنْ أَعْماقِه دُرَراً
ويَعْتَلي ظَهْرَهُ جُوْداً وإصْدارا
هذي " البُحورُ "بُحُورُ الشِّعْرِ ، واهِبَةٌ
للصَّادقين عُلاً يَزهو وأَعْمارا
وإِنّ فِيها لأَصْدافاً تُصَانُ بِهاَ
لآلِئُ الشِّعْرِ أوْزانا وَأقْدَارا
***
*
***
الشعْرُ بَابَانِ : بَابٌ منْ أَبالِسَةٍ
يُوحُون بالشَعْر آثاماً وأَوزَاَرا
وزُخْرُفاً لم تَزَلْ تَرْضَاه أَفْئدَةٌ
تَلقَى به النَّارَ أو تَلْقى به العارا
وشاعَرٌ من هُدى الرَّحْمنِ خَفْقَتُه
مَعْنى ولفظاً وأشْواقاً وإيثارا
يَطُوفُ في الكوْنِ يَلقَى مِنْ عَجائبه
آياً تُفَتِّح للأَلْبَابِ أَسْفارا
يهتزُّ من شَوْقِهِ للحقِّ ، يَخْشَعُ في
جَلاَلِه رَهَباً يَغْشَى وأَذكَارا
ويُطلِقُ الشِّعْرَ أَنداءً مضمّخة
كالرّوضِ تلقاهُ أَنواراً وأَثْمارا
يَفيضُ فِيه الجَنى في ظِلِّ وارِفةٍ
تُفجِّرُ الماء يَنبُوعاً وَ أَنْهَارا
هذا هو الشّعْرُ !شِعْرُ المُؤمنين جَرَى
يَرْوي مَعَ الدَّهْر أَمثالاً وأَخْبارا
كَأنَّه يَهَبُ الأَحْداثَ خَفْقَتها
يَجْرِي فَيَمْلأُ أَسْماَعَا وأَبصاراً
***
*
***
حتَّى إِذا سَمِعَ الأَشعارَ أُطْلِقُها
رَوْضاً تفتَّح أوْراداً وأَزْهارا
فعادَ عن غَيِّه وارتَدَّ من عَجَبٍ
يُرَجّع الشّعرِ إِعْجاباً وإِكْباراً
يَقُولُ هذا هُو الشّعْرُ الحَلالُ جَرَى
عِطراً يَمُوجُ وسِحْراً بَيْنَهُ دارا
***
*
***
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· الشعر المتفلت بين النثر والتفعيلة .
(1) إشارة إلى قول الحداثيين في أوروبا وما نقله عنهم الحداثيون في بلادنا من أنه ضروري أن نغسل الكلمة ونطهرها مما علق بها من " غبار السنين " .
(2) الشكل هنا شكل الشعر الذي يحافظ على الوزن والقافية . وإشارة إلى قوله بعضهم لسنا متعبّدين بالشكل .(/1)
لأحلام ومصير الأمة
سامي بن عبد العزيز الماجد 6/9/1423
21/11/2001
فيما تعاني الأمة أنواعاً شتى من المآسي وَالنكبات تتنوع الطرائق في مواجهة هذه المحن ولكلًّ وِجهةٌ هو مولَّيها ، والذي يعنينا في هذه الكُليمة فريقٌ وَجَد ملاذه في تتبع الرؤى وَالأحلام وَ تعبيرها بطريقة حالمة -أيضاً- ثم الاستسلام لِخَدَر هذه الأحلام وترقّب تعبيرها.
إنّ شدة المعاناة والضعف، وثقل الهزيمة ، وخور العزائم ، وغلبة اليأس آلام محرقة، تبعث النفوس التي تعانيها على التعلل بالأماني الكواذب والهروب من الواقع المأزوم إلى أطياف الأحلام؛ لتجد فيها سلوىً عن آلامها وهزائمها وما هي إلا أوهامٌ لا تغني من الواقع شيئاً. فما أضغاث الأحلام إلا سراب من الأوهام، يحسبه الظمآن ماءً ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
وهذا الهروب الموهوم من الواقع المأزوم إلى أطياف الأحلام، هو صورة أخرى من صور الهزيمة النفسية ، وشاهد آخر من شواهد غيبة الوعي وسذاجة التفكير، التي إن غطت على العقول، فلا يؤمن عليها حينئذٍ التياثها بدجل الشعوذة ، وأساطير الخرافات ، ونبوءات أهل الكتاب الكاذبة ، ولا تقوم إلا فيمن هان عليه أن يعيش بغير عقل وازع يزعه عن شطط الضلال والظنون، الذي كان يرجع إليه في أكرم مقاصده وأعزها عليه، ومن هان عليه أن يعيش بغير هذا العقل الوازع الحصيف لم يكن ليعز عليه أن يكون محلاً لخديعة الأحلام والمنامات ، وأكاذيب النبوءات .
إن الذي يعيش عالم الأحلام الموهوم ، فيؤثره على واقع الحياة المشهود لجدير أن يقول ما لا يفعل ، وأن يفعل مالا يقتضيه عقل صريح، ولا يقضي به شرع صحيح ؛ لأنه يريد أن يحقق بها أحلامه، ويرضي بها وساوس منامه، وإنْ أًسْخطَ بها الرحمن وأجْلبَ على نفسه وعلى غيره المفاسدَ والفتن، فمنهجه وسلوكه يصبح نهباً لعواطفه وأحلامه، توجهه إلى العمل بمقتضاها، أو تؤثر في منهجه وعمله إيحاءاتها ودلالتها ؛ فتزج به إلى مخالفة المنهج السَّوِيّ والهدى المحمود، وتعرضه لفتن ومحن لم تكن أصلاً في طريقه لولا اغتراره بتلك المنامات والنبوءات .
وما أكثر هؤلاء في أمتنا اليوم، الذين غرَّتهم الأحلام، فاستجرَّتهم إلى مزالق مهلكة، واجتالتهم عن هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – كأنما يريدون أن يعيدوا تجارب السابقين، وأن يعيشوا حاضراً غير موصول بأي سبب إلى الماضي، فتعيد المأساة نفسها، وتصبح تجارب الآخرين صدًى لتجارب الأولين بالمزالق نفسها، وهكذا يذهب الاتعاظ والاعتبار مع غياب الوعي وتعطيل العقول. وما أشقى الأمة التي لا تحنَّكها التجارب ولا تزعها الحوادث .
وما زلنا نذكر سلفاً ومثلاً قريباً لهؤلاء اتخذوا الأحلام هادياً ومبشراً ونذيراً، فأَعْملوها في منهجهم وسيرتهم، فهم يسيرون في ظلها ويتفقدون إيحاءاتها، ودلالاتها، قد اطمأنوا بها، واستناموا إليها، لا يبغون عنها مَصْرِفاً ، فأعقبهم ذلك أن فُتِنوا بها وفَتَنوا، ورأوا أنهم قد ضلوا يوم جعلوا تلك المنامات هادياً لهم يزاحمون به هدي الرسول – صلى الله عليه وسلم- .
وما أُتي هؤلاء يوم استهوتهم الأحلام فأردتهم في المهالك إلا من قلة الفقه في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم- وغلبة العاطفة على العقل.
وهذان شاهدان من سيرته - عليه الصلاة والسلام - تمنعان الرؤى مهما بلغ صدقها، ومهما حوت من المبشرات، أن يكون لها سبيلٌ إلى توجيه العمل وتصريفه ، أو سلطان على المنهج تُحِيله عن جادته أو تشترع له جديداً، أو تصرف رجاله عن السعي في تحقيق ما تقتضيه مقاصد الشرع وتبليغ رسالاته .
إن نبينا – صلى الله عليه وسلم – كان قبل النبوة لا يرى رؤية إلا جاءت مثل فلق الصبح ، وأما بعد النبوة فرؤياه – صلى الله عليه وسلم- وحيٌ يوحى وهو المعصوم – صلوات الله وسلامه عليه – من تلاعب الشيطان وهو – صلوات الله وسلامه عليه – الذي تنام عيناه ولا ينام قلبه ، ومع هذا كله فهذه شواهد من تعامله مع الرؤيا:
أما الشاهد الأول: فإنه لما حشدت قريش رجالها ؛ وخرجت في غزوة أحد لتثأر لقتلاها ببدر : استشار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أصحابه ، أيخرج إليهم، أم يمكث في المدينة ؟ وأخبرهم أنه قد رأى رؤيا ، وما رؤياه إلا من الوحي ، فقال : رأيت بقراً تنحر ورأيت في ذباب سيفي ثَلْماً، ورأيت أني قد أدخلت يدي في درع حصينة، فتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأوَّل الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأول الدرع بالمدينة .(/1)
فكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها ، فإن دخلها المشركون قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة ، والنساء من فوق البيوت . فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر، وأشاروا عليه بالخروج، وألحُّوا عليه في ذلك، وقال بعض الأنصار : واللهِ ما دخلت علينا في الجاهلية، أفتدخل علينا في الإسلام، وأبى أكثرهم إلا الخروج ، فقال عليه السلام: فشأنكم إذن. ثم نهض ، ودخل بيته ولبس لأْمَته وخرج عليهم، فقالوا: أَكْرَهْنا رسولَ الله على الخروج، فقالوا: يا رسول الله إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل، فقال : ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه .
فنجد - هاهنا - أن رسول الله قد اعتمد المشورة ثباتاً منه على المنهج الذي ارتضاه له ربه ، وترك العمل بإيحاءات رؤياه تلك ودلالاتها فلم تثنه عن الخروج للقتال، أو يُغر بها .
وإنما دفعه للخروج مشورة أصحابه لما استشارهم، ومشايعة منه لرغبتهم في الخروج، وترك الرؤيا تدور مدار الإنذار والتبشير .
إنه الثبات الذي لم تصرفه الرؤى عن التزام المنهج الصحيح والانقياد له . وأين عن هذا الثبات أولئك الذين جعلوا الأحلام والرؤى هادياً لهم لا يريمونه ، وإن هداهم إلى ما لا تقتضيه مقاصد الشرع ، أو إلى ما يخالف هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وأما الشاهد الآخر: فإنه عليه الصلاة والسلام أُري في المنام وهو بالمدينة أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام ، وأخذ مفتاح الكعبة ، وطافوا واعتمروا وحلق بعضهم وقصّر بعضهم ، فأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ففرحوا بها فرحاً عظيماً، فهي تلك الرؤيا التي عناها الله بقوله: "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ... " الآية .
ثم إنه - عليه الصلاة والسلام - خرج بأصحابه عام الحديبية إلى مكة يريد العمرة، وما كانوا يشكون أنهم سيعتمرون عامهم ذلك تصديقاً لرؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فلما وقع - من أمر الصلح مع المشركين بالحديبية – ما وقع، وما اقتضاه ذلك الصلح من أن يرجع المسلمون عامهم ذلك من غير عمرة على أن يعودوا مِنْ قابِل ، وثقل ذلك على المسلمين كثيراً، وعزَّ عليهم أنه يرجعوا إلى المدينة من غير أن يطوفوا بالبيت الحرام، حتى ذهب عمر يراجع رسول الله في ذلك حتى قال له: " أَوَلسْتَ تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به!! فقال: بلى، أفأخبرتك أن تأتيه العام هذا؟ فقال: لا، فقال : فإنك آتيه ومطوف به" .
ونجد في هذا الشاهد –كذلك- أن رؤياه تلك لم تكن لتصرفه عن منهجه الذي ارتضاه لنفسه ، وأراد أن يربي عليه أصحابه وأمته، ومن ذلك حسن النظر في العواقب، وتقدير المصالح واهتبالها إذا سنحت، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم المصلحة في الصلح رضي به وانقاد له غير آبهٍٍِ بشيء، ولم تكن الرؤيا هي همّه، ول اغايةً يسعى لتحقيقها، بل ولم تكن أفعاله خاضعة لدلالتها ومقتضاها. وإنما ترك تأويل رؤياه يأتي تباعاً في الطريق الذي نَهجَه والتزم سلوكه.
وهكذا أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الرؤيا في حدودها ومكانها اللائق بها، فهي عنده مُبشَّرة لا موجهة.
هذا، ورؤياه عليه الصلاة والسلام جزء من الوحي فكيف برؤيا غيره التي ربما اختلطت بأضغاث الأحلام وتحديث الشيطان.
وإذا كان من الخطأ في المنهج اتخاذ الرؤى هادياً ودليلاً يترسم به المرءُ الطريق ، ويتبصّر به الحق، فإن من الخطأ –كذلك- أن يسارع المرء إلى التصديق بكل ما يحكى من الرؤى أو يغتر بتأويلها. لا سيما في هذا الزمان الذي رقَّ فيه الإيمان، وكثر فيه الكذابون المتفيهقون، وأصبح اشتغال الناس بالرؤى وتأويلها أكثر من اشتغالهم بالعمل الذي يواجهون به حقائق الواقع الأليم.
إننا لمن الموقنين بقوله - صلى الله عليه وسلم - "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة" متفق عليه.
وبقوله "لم يبق بعدي من النبوة إلاّ المبشرات ، فقالوا: وما المبشرات؟! فقال: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له " متفق عليه.
ولكننا نرتاب كثيراً أن تكون كل المرويات من أحلام الناس اليوم هي من جملة تلك الرؤى الصالحة المبشرة.
فثمة أمور تدفعنا للتريث كثيراً، وتبطئنا عن المسارعة إلى تصديق كل ما يروى من الأحلام وبما يحكى من تأويلها.
الأمر الأول: أن يكون المرء الذي نسبت إليه تلك الرؤيا كاذباً ، قد تحلّم بحلم لم يره. وهذا احتمال وارد، والوعيد في ذلك شديد، يقول - صلى الله عليه وسلم - "من تحلّم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل" رواه البخاري.(/2)
ثم إذا فرضنا صحة الرؤيا وأن صاحبها صادق ، فثمة أمر آخر يرد عليها، وهو كون ذلك الحلم من قبيل حديث النفس ، فإن بعض المنامات تتأثر بالهموم الشخصية والحالة النفسية، وقد أثبت الرسول هذا في قوله " الرؤيا ثلاث : فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، والرؤيا من تحزين الشيطان، والرؤيا مما يحدث به الرجل نفسه" أخرجه الترمذي بسند صحيح.
ثم إن سلمنا أن الرؤيا ليست من حديث النفس ، فثمة وارد يمنع أن تستخفنا تأويلات تلك الأحلام فنسارع إلى تصديقها واستظهار الغيب بها.
وهذا الوارد هو احتمال خطأ المُعبَّر ، فليس لزاماً أن يوافق تأويله عين الحقيقة ؛ لأن تأويله اجتهاد يحتمل الخطأ والوهم ،كما يحتمله كل اجتهاد.
وقد أخطأ في تأويل بعض الرؤى صحابة - رسول الله صلى الله عليه وسلم - ، فأولى أن يخطئ غيرهم ويهم.
ومن ذلك أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: إني رأيت رؤيا. ثم قصّها عليه في حديث طويل، فقال أبو بكر: يا رسول الله، بأبي أنت، لتدعني فأعبرها فأذن له، فعبرها، ثم قال : فأخبرني يا رسول الله، أصبتُ أم أخطأت؟!!
فقال: أصبتَ بعضاً، وأخطأتَ بعضاً".
وقد وجدنا شيئاً من تأويل المعبرين اليوم. تخالف سنناً ربانيةً لم تخرمها قرون متطاولة، أفيخرمها حلم حالم.
وقد تسامع الناس في هذه الأيام برؤى عبرت بنصر من الله وفتح قريب يقع في فلسطين محدد باليوم والشهر في مدة قريبة جداً.
وإننا لنوقن أن ذلك ليس على الله بعزيز، فما كان ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض. ولكن أين نحن من سنن الله التي ذكّرنا بها، وأمرنا أن نتدبرها ؟.
أين نحن من قوله تعالى "إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم" ؟ وهذه سنة جارية في الخير والشر جميعاً.
وأين نحن عن قوله – عز وجل - " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم" مع قوله "وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" ؟.
ولسنا في شك من أن الله سينصر دينه ويعلي كلمته ، ولكن هل نحن – بواقعنا اليوم- أهل لاستحقاق هذا النصر والتمكين ، وهل تحديد يوم النصر ذلك بيوم بعينه هو مما تحتمله تلك الرؤى بصورها ومدلولاتها ؟.
ألا فلنربأ بأنفسنا وعقولنا عن هذا الإسفاف والاستخفاف . والقصدَ القصدَ في الاشتغال بالرؤى والانسياق لتأويل المعبرين، فإنه ليس يجدينا الآن الفزع في المنامات والأحلام، ومحاولة تنزيلها على الواقع.
إنما الذي يجدينا هي تلك الحلول الواقعية العملية التي تأخذ سنن الله الثابتة وتستهدي بنورها، والتوجه إلى الإيجابيات من الأعمال - التي تستفرغ التفكير والجهد - جديرٌ أن يطرد عنا هذا الوهم والانخداع(/3)
لأكل في الإسلام.. مفاهيم وآداب*
د. وائل أبو هندي**
"إن مقصد ذوي الألباب لقاء الله تعالى في دار الثواب ولا طريق إلى الوصول للقاء الله إلا بالعلم والعمل، ولا يمكن المواظبة عليهما إلا بسلامة البدن، ولا تصفو سلامة البدن إلا بالأطعمة والأقوات والتناول منها بقدر الحاجة على تكرر الأوقات،
فمن هذا الوجه قال بعض السلف الصالحين: إن الأكل من الدين وعليه نبه رب العالمين بقوله وهو أصدق القائلين: {كلوا من الطيبات واعملوا صالحا}، هكذا قدم الإمام الغزالي لباب آداب الأكل في كتاب إحياء علوم الدين. وسنحاول هنا عرض رؤية طبية نفسية لما ورد بالباب ويختصُّ بما لا بد للآكل من مراعاته وإن انفرد بالأكل.
ومن يقرأُ ما كتبهُ الغزالي يدركُ كيفَ أن المسلم حين ينظر إلى الطعام والشراب إنما ينظرُ نظرةً تميزهُ عن غير المسلمين، فهو ينظر إليهما نظرة الوسيلة التي تقود لما هو أفضل وأكمل، فتصبحُ عمليةُ الأكل في حد ذاتها عبادةً ما دامت النيةُ أن يتقوى بها المسلمُ على العبادة بمفهومها الواسع، والذي يشملُ كل سعي يسعاهُ المسلمُ في حلال.
ما قبل الأكل
ويبينُ الإمام الغزاليُّ في آداب ما قبلَ الأكل البدء بالتأكد من كون الطعام حلالاً من كسبٍ حلال، ثم يتبع ذلك بالوضوء أو غسل اليدين قبل الطعام، ويستشهدُ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفى اللمم"، وفي رواية "ينفي الفقر قبل الطعام وبعده"، ولأبي داود والترمذي من حديث سلمان: "بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده"، ورغم أنها كلها أحاديثُ ضعيفة، فإن الغزالي يرى أن غسل اليد أقربُ إلى النظافة والنزاهة.
ولم يذكر الغزالي في هذا الموضع ما أجدهُ في فقه السنة (السيد سابق، 1365هـ) من أن الوضوءَ قبل الأكل يستحبُّ إذا كانَ الإنسانُ جُنُبًا، فعن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالت: "كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا كانَ جُنُبًا وأراد أن يأكلَ أو ينامَ توضَّأ"، وعن عمار بن ياسر "أن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّصَ للجنبِ إذا أرادَ أن يأكلَ أو يشربَ أو ينام أن يتوضَّأ وضوءهُ للصلاة" رواهُ أحمدُ والترمذيُّ وصححه.
أما الأمر الثالثُ الذي أوصى به الغزالي فهو "أن يوضع الطعام على السفرة الموضوعة على الأرض؛ فهو أقرب إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من رفعه على المائدة، ثم يستشهدُ الغزاليُّ بحديث أبي هريرةَ رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام وضعه على الأرض" أخرجه أحمد في كتاب الزهد ورواه البزار، والسفرةُ هيَ فرشةُ المسافر على الأرض، ويستكملُ الغزاليُّ: وإن قلنا الأكل على السفرة أولى فلسنا نقول الأكل على المائدة منهي عنه نهي كراهة أو تحريم؛ إذ لم يثبت فيه نهي، وما يقال إنه أُبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس كل ما أبدع منهيا بل المنهي بدعةٌ تضادُّ سنةً ثابتة وترفع أمرا من الشرع مع بقاء علته، بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب، وليس في المائدة إلا رفع الطعام عن الأرض لتيسير الأكل وأمثال ذلك مما لا كراهة فيه.
ثمَّ يوصي الغزاليُّ في الأمر الرابع بإحسان الجلسة على السفرة أثناء الأكل. فعن عبد الله بن بشير رضيَ اللهُ عنهُ قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما جثا للأكل على ركبتيه وجلس على ظهر قدميه، وربما نصب رجله اليمنى وجلس على اليسرى" أخرجه أبو داود.
وأما الأمرُ الخامسُ من آداب ما قبل الأكل فيتعلقُ بنية الآكل "أن ينوي بأكله أن يتقوى به على طاعة الله تعالى ليكون مطيعا بالأكل ولا يقصد التلذذ والتنعم به، فإنه إذا أكل لأجل قوة العبادة لم تصدق نيته إلا بأكل ما دون الشبع؛ حيث إن الشبع يمنع من العبادة ولا يقوي عليها، فمن ضرورة هذه النية كسر الشهوة وإيثار القناعة على الاتساع. ويستشهدُ الغزالي بحديث المقداد بن معد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ آدمي وعاءً شرا من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن لم يفعل فثلث طعام وثلث شراب وثلث للنفس"، رواهُ الترمذي والنسائي وابن ماجه.
والأمرُ السادس هو "أن يرضى بالموجود من الرزق والحاضر من الطعام ولا يجتهد في التنعم وطلب الزيادة"، فعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "سأل أهله الأدم فقالوا ما عندنا إلا خل، فدعا به فجعل يأكل ويقول نعم الأدم الخل نعم الأدم الخل". رواه مسلم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه " ، متفقٌ عليه.
وأما الأمرُ السابعُ فهو الاجتهادُ في تكثير الأيدي على الطعام ولو من الأهل والولد، ويستشهدُ بالحديث الشريف عن وحشي بن حرب رضي الله عنهُ أنهُ قال: "قال صلى الله عليه وسلم اجتمعوا على طعامكم يبارك لكم فيه"، أخرجه أبو داود وابن ماجه. وعن أنس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل وحده".
حالة الأكل(/1)
يقول الإمام الغزاليُّ في آداب حالة الأكل: أن يبدأ بـ بسم الله في أوله وبالحمد لله في آخره ولو قال مع كل لقمة بسم الله فهو حسن حتى لا يشغله الشره عن ذكر الله تعالى، ويقول مع اللقمة الأولى بسم الله ومع الثانية بسم الله الرحمن ومع الثالثة بسم الله الرحمن الرحيم، ويجهر به ليذكر غيره". ومن الأحاديث التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب تسمية المسلمِ في حالة الأكل: عن عمر بن أبى سلمة رضي الله عنهما قال : قال لي صلى الله عليه وسلم: " سمِّ الله وكل بيمينك، وكل مما يليك " . متفقٌ عليه، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى، فإذا نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله، فليقل: بسم الله أوله وآخره " رواه أبو داود والترمذي.
ومع بدء الأكل "يأكل باليمنى ويبدأ بالملح ويختم به ويصغر اللقمة ويجود مضغها وما لم يبتلعها لم يمد اليد إلى الأخرى فإن ذلك عجلة في الأكل، ولا يجوز الإسراف في الأكل، ويُكره أن يزيد عن الشبع لقوله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجدٍ وكُلوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفوا إنهُ لا يُحِبُّ المسرفين} (الأعراف 31)، ولكن أجازَ بعضُ الفقهاء زيادةَ الشبع للتَّقَوِّي على الطاعات كالصوم وغيره، أو التقوي على أداء الواجبات، أو حتى لا يستحيي الضيفُ.. ولشدة كراهة الإسراف في الطعام فقد شبَّهَ القرآن الكافرين بالأنعام السائبة في أكلهم وشربهم: (والذين كفروا يَتَمَتَّعُونَ ويأكلونَ كما تأكُلُ الأنْعامُ والنَّارُ مَثْوًى لهم).
ومن السّنّة النبوية الأكل بثلاث أصابع، قال القاضي: والأكل بأكثر منها من الشّره وسوء الأدب، ولأنّه غير مضطرٍّ لذلك لجمعه اللّقمة وإمساكها من جهاتها الثّلاث: وإن اضطُرّ إلى الأكل بأكثر من ثلاثة أصابع، لخفّة الطّعام وعدم تلفيقه بالثّلاث يدعمه بالرّابعة أو الخامسة هذا إن أكل بيده، ولا بأس باستعمال الملعقة ونحوها، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكلُ بثلاث أصابع؛ فقد جاء في صحيح مسلم عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال : "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ لعقها ".
بعد الأكل
وفي القسم الثالث يعرض الغزاليُّ ما يستحبُّ بعد الفراغ من الطعام فأولُ كلامه "أن يمسك قبل الشبع ويلعق أصابعه ثم يمسح بالمنديل ثم يغسلها"، فعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان إذا رفع مائدته قال الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مستغنى عنه ربنا"، رواه البخاري، وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكل طعاما فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه". رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن.
ومما ورد في لعق الأصابع بعد الأكل ويستفاد منه أيضًا إكرامُ الخبز ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط ما أصابها من أذى وليأكلها ولا يمسح يده حتى يلعقها أو يُلْعِقها، فإنه لا يدري في أي طعامه البركة". قال النووي: أي أن الطعام الذي يحضر الإنسان فيه بركة لا يدري أن تلك البركة فيما أكل أو فيما بقي على أصابعه أو فيما بقي في أسفل القصعة أو في اللقمة الساقطة، فينبغي أن يحافظ على هذا كله فتحصل البركة، والمراد بالبركة ما يحصل به التغذية ويسلم عاقبته من الأذى، ويقوي على الطاعة.
وأما التقاطُ فتات الطعام فإن روايات الأحاديث الواردة بشأنهِ قد وصفها الغزالي بأنها منكرةٌ جدٍّا، ورغمَ أن التقاط اللقمة الساقطة وإماطة الأذى عنها إن كانَ قد لحقها أذىً ثم أكلها، كما ورد في الحديث الصحيح عند مسلم، قد يوحي باستحباب التقاط الفتات، فإن الغزالي اكتفى بما أخرجهُ أبو الشيخ في كتاب الثواب وهو قولهُ صلى الله عليه وسلم: "من أكل ما يسقط من المائدة عاش في سعة وعوفي في ولده"، كما أشار الغزالي إلى أن التقاط الفتات هو بمثابة مهور الحور العين.
** أستاذ مساعد للطب النفسي بكلية الطب - جامعة الزقازيق – مصر(/2)
لأنهم لا يعقلون ...
06-02-2006
وصف الله سبحانه اليهود، بصفات ذميمة، ذلك بما اقترفوه من الآثام، وتحريفهم للكلم عن مواضعه، وإن من أبرز ما حملهم على الظلم والإفساد، الحسد والحرص، والحسد والحرص من أعظم ما يباعد الإنسان عن الجادة ويوقعه في المهالك ، فما أُتي آدم عليه السلام إلا من قبل الحرص قال تعالى : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) ) .الأعراف
وما أتي ابنه إلا من قبل الحسد ، قال سبحانه : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) ) . المائدة
وقد بين الله سبحانه أن اليهود عليهم من الله ما يستحقون، من احرص الناس على الحياة فقال : ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) ) . البقرة
فاليهود من أحرص الناس على حياة ، وحياة اسم نكرة ، يدل على عموم، أي هم أحرص الناس على أي حياة، بغض النظر أكانت حياة طيبة أم لا، المهم أنهم يعيشون، وهذا ما حملهم على البخل، قال سبحانه : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) ) . النساء
والبخل هو ما حملهم على الهوى وقتل بعضهم لبعض كما جاء في الحديث الصحيح جاء الحديث:( إياكم والشح؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا) . رواه أبو داود والحاكم عن عبد الله بن عمر.
وأما الحسد فهو ما حملهم على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، والإعراض عنه، والوقوع بشخصه الكريم، وهو ما حملهم على بُغض المؤمنين، وكراهية الخير لهم قال سبحانه : (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)) . البقرة
وكما أشرت فإن هاتين الصفتين الذميمتين، هما ما حمل بني إسرائيل على التباغض والتدابر ،وما تمخض عن هاتين الصفتين ما قاله الله سبحانه : (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ (14) ) الحشر
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ) أي تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين وهم مختلفون غاية الاختلاف قال إبراهيم النخعي يعني أهل الكتاب والمنافقين ذلك بأنهم قوم لا يعقلون . أ هـ
إذن فاليهود كونهم مجتمعين في الظاهر، متفرقين في الباطن لا يعقلون، فأنت عندما تنظر إليهم تحسب أنهم جسداً واحداً، وهذا بسبب ما يجمعهم من المصالح، فهم على علم ودراية بأن تفرقهم يؤدي إلى هلالكم، لذا يجتمعون حرصاً منهم على مصالحهم العامة، وإن كانوا في بواطنهم متباغضين متخالفين، فإذا كان الله سبحانه قد وصف اليهود بأنهم لا يعقلون بسبب توافقهم في الظاهر وتخالفهم في الباطن، فكيف بنا نحن المسلمين اليوم ، وقد اختلفنا ظاهراً وباطناً؟ أليس حالنا أشد سوء من حال اليهود، إن الله سبحانه وصف عباده المؤمنين بأن قلوبهم متآلفة فقال سبحانه : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) ) . آل عمران(/1)
ففي هذه الآية الكريمة يذكر الله المؤمنين بنعمته عليهم ، وهي أنه سبحانه ألف بين قلوبهم، وهذه النعمة ليست من أعظم النعم على المؤمنين ، بل هنالك نعمة هي أكبر على المؤمنين من هذه، وهي نعمة الإيمان، فبالإيمان يخرج المرء من الظلمات إلى النور، وبه يدخل الجنة على ما كان من عمل، فإن يموتوا على التوحيد يدخلون الجنة وإن كانوا غير متآلفين، وإن استحقوا الإثم العظيم على ذلك ، أما من مات على غير التوحيد فهو من أهل النار وإن أتى بكثير من الأعمال الصالحة ، بل هذا ينطبق عليه قول الله سبحانه : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً (23) ) . الفرقان
إذاً فنعمة الإيمان أعظم من نعمة تآلف قلوب المؤمنين، فلمَ لم يقل سبحانه : واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم كفاراً فهاداكم إلى الإيمان ؟ هذا القول أخي الحبيب يجعلك تستبصر حقيقة غائبة عن ذهنك، وهي إن الإيمان الحقيقي هو ما يحمل أصحابه على التآلف، فقد ألف الله سبحانه بين قلوب المؤمنين بما تحققوا عليه من إيمان، فإن هذا التآلف لا يكون إلا بالإيمان، فمهما أنفق الناس من أموال من أجل أن يألفوا بين قلوب العباد، فلن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً ، قال سبحانه : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) ). الأنفال
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية : لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم " أي لما كان بينهم من العداوة والبغضاء فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية بين الأوس والخزرج وأمور يلزم منها التسلسل في الشر حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان كما قال تعالى ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) . وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين قال لهم : يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمَن ولهذا قال تعالى ( ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم . أ هـ ، فالله سبحانه ألف بين قلوب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بإيمانهم، فالإيمان الصحيح من شأنه أن يألف بين القلوب، لا أن يباعد بينها، وهذا ما نص عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه وغيره قال صلى الله عليه وسلم : (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على عمل إذا فعلتموه تحاببتم؟، أفشوا السلام بينكم).
ففي هذا الحديث ربط صريح بين الإيمان والحب ، فقد علق الرسول صلى الله عليه وسلم دخول الجنة بالإيمان ، وعلق الإيمان بالمحبة ،وعليه لا يكون الإيمان إيماناً صحيحاً حتى يحمل أصحابه على حب بعضهم بعضاَ ، ومما يعزز هذا المعنى ما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) .
فهذا هو مثل المؤمنين، وهذا ما يجب أن يكونوا عليه، لذا نهى ديننا الحنيف عن كل ما يحول دون محبة المسلمين بعضهم لبعض وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( لا تباغضوا ولا تقاطعوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ) .
وإذا حرم الإسلام شيء فهو يكون محرماً لمقدماته، وهذا بناء على القاعدة الشرعية :( الوسائل لها حكم المقاصد ) والوسيلة إلى الحرام محرمة، فكل أمر يحول دون تآلف قلوب المؤمنين فهو محرم، ومن أبرز ذلك التفرق والاختلاف، لذا شدد الله سبحانه في هذا الأمر وتوعد أصحابه بالعذاب العظيم، قال سبحانه : (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) ) . آل عمران قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة : ينهى تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضية في افتراقهم واختلافهم وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم .
ثم ذكر عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ما رواه في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة - وهي الجماعة - وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ) .(/2)
فالتفرق والاختلاف من أعظم ما يؤثر في قلوب العباد ويولد بينهم العداوة البغضاء، ومع الأسف فإن هذا الداء العضال قد أصاب الأمة فافترقت واختلفت وتحاسدت ففي الحديث عن الزبير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء , والبغضاء هي الحالقة , وأما إني لا أقول تحلق الشعر , ولكن تحلق الدين ) . رواه الترمذي والبيهقي وغيرهما ، وهذه ظاهرة متفشية يعلمها القاصي والداني ، فيا عباد الله إن كان اليهود تحملهم مصالحهم العامة على رص صفوفهم، وتلاحم جموعهم ، وهم كما قال تعالى (لا يعقلون) فهل أصبح المسلمون اليوم بتفرقهم هذا أشد جهلاً من اليهود .
بقلم: ابراهيم بن عبد العزيز بركات(/3)
لإعجاز البياني واللغوي في القرآن الكريم
أ. د. عمر يوسف حمزة*
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين الذي أنزل الله تعالى القرآن على قلبه بلسان عربي مبين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدِّين.
وبعد، فإنَّ قضية الإعجاز القرآني قد استحوذت ـ منذ وقت
مبكر ـ على قدر كبير من اهتمام العلماء وعنايتهم، وكانت هي الدافع القوي وراء ما بذلوه من جهود مباركة، يرمون من ورائها إلى تحقيق هدف ديني أصيل، جدير بأنْ يبذل في سبيله كل جهد، وتستنفد كل طاقة.
ذلك أنَّ التسليم بأنَّ القرآن الكريم معجز للبشر، يؤدي بدوره إلى التسليم بأنه من عند الله تعالى، وهذا بدوره يؤدي إلى التسليم بأنَّ كل ما تضمنه حق خالص، لا سبيل للباطل إليه، وأنه الصراط المستقيم، وحبل الله المتين، وأنَّ العصمة والنجاة في الاحتماء بحصنه.
لقد بعث الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة، فكان صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، ورسالته خاتمة الرسالات جميعاً، فأنزل الله تعالى عليه القرآن بلسان عربي مبين في أُمَّة أُمية لها باعها الطويل والقِدْح المُعلَّى في البيان والفصاحة وروعة الأسلوب، حتى كانت لهم الأسواق والمنابر والمواسم يعرضون فيها أنفس البضائع، وأدق وأجود وأبرع صناعتهم البيانية، إنها بضاعة الكلام من الشعر والنثر والخطابة، وكان النقد والمساجلة والمناظرة، حتى يختاروا من هذه الصناعة البيانية أروعها وأحسنها في جو من التنافس الشديد، ليتفاخروا بما قدموه، ولتتناقله العرب بعد ذلك تذوقاً للُّغة التي تهذبت كلماتها وأساليبها واختيرت ألفاظها أحسن اختيار.
فنزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو معجزته الكبرى، ودليله على النبوة وأنه لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلاَّ وحي يوحى، وقد وقف أئمة اللُّغة من العرب عاجزين أمام القرآن أنْ يحاكوه أو يماثلوه في أزهى العصور للأُمَّة العربية بياناً وفصاحة وبلاغة. فكان التحدي بألفاظ القرآن وكلماته في فصاحته وبلاغته وبيان أسلوبه، لذا قبل الدخول في لب موضوعنا وهو: "الإعجاز البياني واللُّغوي في القرآن الكريم"، يحسن بنا أنْ نشير إلى الموضوعات التي سوف نتناولها بالدراسة من خلال البحث إنْ شاء الله تعالى، وهي على الترتيب التالي:
[1] معجزات الأنبياء.
[2] تعريف المعجزة، الإعجاز.
[3] تعريف البيان، الفصاحة، البلاغة.
[4] معجزة القرآن.
[5] التحدي بالقرآن.
[6] حالة العرب الفكرية.
[7] وجوه الإعجاز.
[8] كتب الإعجاز.
[9] نماذج من القرآن الكريم دالة على إعجازه البياني.
[10] خاتمة تشمل على أهم النتائج التي توصل إليها البحث، كما ذيَّلتُ الدراسة بفهرس المراجع، ثم نأتي بعد الإجمال إلى التفصيل.
والله أسال أنْ يوفقني لإخراج هذا البحث على الصورة المقبولة إنه سميع مجيب.
[1] معجزات الأنبياء:
اقتضت حكمة الله تعالى أنْ يؤيِّد رسله بالمعجزات لتكون تصديقاً لهم فيما يبلغون من رسالاته، إذا ما داخل الشك قلوب أقوامهم، وأنكروا عليهم دعواهم، كما قالت ثمود لصالح عليه السلام: (مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ)([1]).
وكما قال موسى عليه السلام لفرعون: (يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ)([2]).
وكما قال عيسى عليه السلام لبني إسرائيل: (...أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)([3]).
وكما قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم : (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ)([4]) وكأنهم أرادوها آيات حسية على غرار آيات صالح، وموسى، وعيسى عليهم السلام فقال الله تعالى لهم: (قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ)([5]).
فلفت الله تعالى أنظارهم إلى أنَّ القرآن آية محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزته، وهو قائم مقام معجزات غيره من الأنبياء.(/1)
[2] تعريف المعجزة:
عندنا فعلان: أحدهما: ثلاثي، والآخر رباعي.
الثلاثي: عجز، يعجز فهو عاجز، ومصدر الفعل هو: العجز.
أما الرباعي: فهو أعجز، يعجز فهو معجز ومصدر الفعل هو الإعجاز.
المعجزة إذاً: هو اسم الفاعل المؤنث من فعل ذلك الفعل([6]).
والمعجزة في الاصطلاح: "هي الأمر الخارق للعادة، السالم من المعارضة يظهره الله تعالى على يد النبي، تصديقاً له في دعوى النبوة"([7]).
ويشترط في المعجزة:
[1] أنْ تكون فعلاً من الأفعال المخالفة لما تعوَّد عليه الناس وألفوه.
[2] أنْ يظهره الله تعالى على يد من يدّعي النبوة.
[3] أنْ يكون الغرض من ظهور هذا الفعل الخارق هو تحدي المنكرين، سواء صرح النبي صاحب المعجزة بالتحدي أو كان التحدي مفهوماً من قرائن الأحوال.
[4] أنْ تجيء المعجزة موافقة ومصدقة لدعوى النبوة، فإذا حدثت المعجزة وكذبت النبي في دعواه فلا يكون النبي صادقاً، كما لو نطق الجماد مثلاً بتكذيب صاحب المعجزة.
[5] أنْ يعجز المنكرون عن الإتيان بمعجزة مماثلة لمعجزة النبي، أي يعجزون عن معارضته([8]).
تعريف الإعجاز:
الإعجاز لغة: مصدر، وفعله رباعي هو أعجز، تقول: أعجز يعجز إعجازاً واسم الفاعل معجز([9]).
والإعجاز في الاصطلاح: له عدة تعريفات، منها تعريف الإمام الجرجاني([10]) في كتابه القيم "التعريفات": "أنْ يؤدي المعنى بطريق، هو أبلغ من جميع ما عداه من الطرق"([11]).
وقد عرَّفه مصطفى صادق الرافعي بقوله: "وإنما الإعجاز شيئان:
[1] ضعف القدرة الإنسانية في محاولة المعجزة، ومزاولته على شدة الإنسان واتصال عنايته.
[2] ثم استمرار هذا الضعف على تراخي الزمن وتقدمه. فكأنَّ العالم كله في العجز إنسان واحد، ليس له غير مدنه المحدودة بالغة ما بلغت"([12]).
ومن التعريفات المتعلقة بهذا الباب:
[3] تعريف البيان:
البيان: عبارة عن إظهار المعنى بعبارة مبيِّنة عن حقيقته من غير توسع في الكلام، فإنْ تأنقت في إسهاب فهي البلاغة.
وأما الفصاحة: فعبارة عن الظهور من قولهم: "أفصح الصبح"، إذا ظهر. واللفظ الفصيح هو الظاهر، والغالب أنه يستعمل باعتبار اللفظ الكثير الاستعمال في معناه وإنْ خالف القياس([13]).
[4] معجزة القرآن:
ولما كان التفوق عنصراً مشتركاً بين المعجزات الحسية والعقلية على حد سواء، كان القرآن ـ وهو معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ـ متفوقاً عما يشاكله من كلام البشر، غير أنَّ القوم أنكروا هذا التفوق، وقالوا حين تليت عليهم آياته: (قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ)([14]) وجاء التحدي (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ)([15]).
[5] التحدي بالقرآن:
وحار القوم في إجابة هذا التحدي، كيف يأتون بكلام مثل هذا الكلام كله؟ ربما قد حاولوا، ولكنهم عجزوا، وقالوا: (إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ)([16])، فتجاوز لهم عن بعض ما طولبوا به، ولم يشأ أنْ يفلتوا بما أعذروا أنفسهم به، فلئن كان حديثاً مفترى أعين عليه (فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)([17])، وما أجداهم أنْ يستعينوا بمَنْ شاءوا ومَنْ استطاعوا في أنْ يأتوا بالعشر المفتريات، فأرخى لهم إمعاناً في التحدي الساخر بقدرتهم، فتجاوز عن العشر إلى واحدة مع العون أيضاً فقال: (قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)([18])، ولئن تقاصرت قدرتكم أنْ تأتوا بسورة مماثلة لسورة على التحديد (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)([19])، فربما كانت مماثلته على التقريب أيسر عليكم من مماثلة على التحديد.. وهذا ما أشارت إليه آية البقرة باستخدام لفظ (مِن مِّثْلِهِ).
[6] حالة العرب الفكرية:(/2)
لن نعجل بالجواب، قبل أنْ نلقي نظرة على حالة العرب الفكرية والبيانية قبيل عصر المبعث، لنرى مبلغ رُقِيّهم الفكري والأدبي، ممثلاً في أسواقهم الأدبية، يعرضون فيها أنفس بضاعتهم من الكلام، وأغلب صناعتهم من الشعر والبيان، يتبارون في عرضها ونقدها واختيار أحسنها، والمفاخرة بأجودها، كذلك لم يكن غريباً أنْ نرى القرآن ـ وقد صادف هذا المستوى الفكري لدى هؤلاء العرب ـ أنْ يناقش ويجادل عن نفسه، وأنْ يشتد في جداله ودفاعه ويعلو صوته حتى يصافح وجه السماء، فما ذاك إلاَّ أنه وجد أمامه خصوماً ألداء وأعداء أشداء، أوتوا حظاً من نضج الفكر، وبلاغة القول، وعزة النفس. كذلك لم يشأ الله أنْ تكون آيته إليهم إلاَّ القرآن، آية عقلية تناسب نضجهم الفكري، ورتبتهم في سلم الرُّقي البشري، وكلما ارتكسوا في حمأة اليأس من معارضته، ونكسوا على رؤوسهم في طلب معجزة حسية، أبى الله ذلك ـ وكان قادراً على أنْ ينزل عليهم آية فتظل أعناقهم لها خاضعين ـ لأنهم تجاوزوا دور الطفولة البشرية، وتخطوا مرحلة البلادة الفكرية التي اقتضت أنْ تكون معجزة البشرية في تلك المرحلة حسية([20]).
نحن إذاً أمام مجتمع حي قادر على التفكير، ترى ما الذي منعه أنْ يرد على هذا التحدي؟
[7] وجوه الإعجاز:
ما الذي أعجزه أنْ يبذل جهده في المعارضة؟
وهنا يأتي الجواب: إنه العجز عن التشبع بالمعاني الجديدة التي كان يطرقها القرآن، وهذا بعض المعجزة، إنه العجز عن الوقوف على أسرار البلاغة القرآنية، وطريقة تناول الآيات للمعاني، وهذا باقي المعجزة.
وهكذا أنبأنا التاريخ بهذا العجز في عصر القرآن، ولكن لم تُطْو صفحة التحدي في العصر الذي بعده وأهله بعد على سلائقهم العربية، وفيهم من يود أنْ يتأتى على هذا الدين من أساسه، وما أيسره عليه لو دخل إليه من باب القرآن بقبول التحدي، ولكن التاريخ لم يسجل لأحد فيه قدرة على ذلك، بل حِيل بينهم وبين ما يشتهون كما فُعِلَ بأشياعهم من قبل.
ومضت القرون، وورث اللُّغة عن أهلها الوارثون، وكلما تطاول الزمان بين عصر المبعث والعصور التالية له، كان أهلها أشد عجزاً، وأقل طمعاً في هذا المطلب العزيز، لانحراف ألسنتهم وفساد سلائقهم، وكانت شهادة على إعجاز القرآن إلى أنْ تطوى صفحة هذا الوجود، ويرث الله تعالى الأرض ومن عليها.
ونحن وإنْ كنا نذهب مذهب القائلين بأنَّ عجز القوم راجع إلى نظم القرآن وبلاغته، وشرف معناه ودقته؛ فما ذاك إلاَّ لأنه لم يصح وجه آخر لإعجاز القرآن سواه عند التحدي أول عهد العرب به، وأنَّ ما أضيف إلى إعجازه البلاغي من وجوه أخرى كالإعجاز الغيبي، والإعجاز العلمي، والإعجاز التشريعي، فإنما كان ذلك عندما اكتمل عقد القرآن، ونظر الباحثون إليه جملة.
ونحن لا ننكر هذه الوجوه أنْ تكون من آيات إعجازه؛ وإنما نريد أنْ نؤكد:
أولاً: أنَّ التحدي بالقرآن كان في حدود ما نزل من سوره في بداية الدعوة.
وثانياً: أنَّ التحدي كان في أدنى مراتبه بأقصر سورة منه.
وثالثاً: أنَّ التحدي كان بوجه مما برع القوم فيه شأن المعجزات.
فما وجه الإعجاز إذاً إنْ لم يكن الإعجاز البلاغي، فهو عنصر قائم في أقصر سورة من القرآن، وهو مناط براعة القوم، وهو أسبق من غيره تمثلاً فيما نزل.
وقد تضافرت الروايات التي سبقت من شهادات قريش حول القرآن على تأكيد هذا الوجه، فهو منبع السحر الذي وصفوا القرآن به، ومهوى أفئدتهم في الاستماع إليه وسبب الإيمان لمن اهتدى به([21]).
ويمكن ملاحظة ذلك في الآتي:
[1] تسجيل انبهارهم بأسلوب القرآن إدانة لكفرهم وتنديداً بمغالاتهم في الكفر مع اعترافهم بهذا الانبهار. هذا ما حكته الآيات من سورة المدثر التي تحدثت عن قصة الوليد بن المغيرة حين سمع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وانبهر به.
قال السيوطي في "الإتقان"([22]): "أخرج الحاكم عن ابن عباس أنه قال: جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رَقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم، إنَّ قومك يريدون أنْ يجمعوا لك مالاً ليعطوكه لئلا تأتي محمداً لتعرض لما قاله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إنَّ لقوله الذي يقول لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكَّر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره". وقد قص الله تعالى علينا خبره في سورة المدثر([23]).(/3)
[2] تسجيل تخبطهم في تفسير سر بلاغة القرآن ومحاولتهم المستمرة للنيل منه، فمرة يقولون: إنه قول شاعر، ومرة يقولون: إنه أساطير الأولين، ومرة يزعمون أنَّ رجلاً أعجمياً يوحي به إلى محمد، ومرة يشبهونه بما يقوله شعراؤهم في المناسبات ويطلبون من محمد أنْ يأتي بالقرآن كله جملة واحدة، ومرة يطلبون منه أنْ يغيِّره ويبدلَّه. والقرآن يتعقب هذه المحاولات اليائسة ويذكرها:
(وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)([24]).
وقالوا: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)([25]).
وقالوا: (أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ)([26]).
وقالوا: (لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)([27]).
وقالوا: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ)([28]).
[3] وسجَّل القرآن هذه المحاولات كلها للطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفي كون القرآن وحياً، وأشار إلى هذا بقوله تعالى: (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا)([29]).
[4] فلما باءت محاولاتهم بالفشل المتتابع والإخفاق المتتالي، ادَّعوا أنهم قادرون على تأليف مثله؛ فأوقعوا أنفسهم في مأزق التحدي.
قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ)([30]).
[5] ومن هنا بدأت أزمتهم الحقيقية، فقد نزل الوحي صريحاً في تحديهم بكل وضوح وقوة وتأكيد، وقد ورد التحدي في الآيات التي تقدم ذكرها([31]).
[6] وقد اختلف العلماء في مسألة "القدر المعجز" من القرآن، وهذا الاختلاف هو اللبنة الأولى في صرح البحوث الإعجازية في تطورها التاريخي، والتي امتدت إلى أنْ أصبحت أساساً لما سُمِّيَ فيما بعد بـ "الإعجاز البياني".
أيَّاً ما كان الأمر، فقد بدأت بحوث اللُّغويين والمتكلمين في قضية الإعجاز تتبلور بشكل محدد قرب نهاية القرن الثاني الهجري بعد فتنة خلق القرآن التي أثيرت في عهد المأمون بصورة واضحة بتأثير من أحد النصارى وهو: عبد المسيح بن إسحاق الكندي، الذي رفض الدخول في الإسلام حين دعاه بعض رجال المأمون، وانتقد الإسلام وأثار قضية أنَّ القرآن مخلوق. وما خلفته هذه الفتنة من مآسٍ معروفة لا داعي هنا لإعادة طرحها أو الإشارة إليها.
غير أنَّ هذه الفتنة امتدت فيما تلا ذلك من سنوات، وتمخضت عن عدة اتجاهات فكرية تمثلت في تبني المعتزلة ممثلين في النَّظَّام
(ت 200هـ) لفكرة "الصرفة"، ومعناها: أنَّ إعجاز القرآن كان بصرف الله تعالى للعرب أنْ يأتوا بمثله، وبهذا القول قال كثير من المعتزلة بعد ذلك، بل وقد قال به بعض المفسرين والعلماء من غير المعتزلة، إلاَّ أنَّ الرد على هذه الفكرة ميسور، لأن الإعجاز لو كان بالصرفة فمعناه أنَّ القرآن بذاته غير معجز والإعجاز قائم على قدرة الله تعالى. وهذا ما لا تدل عليه آيات التحدي.
قال العلاَّمة ابن عاشور([32]): "فعجز جميع المتحدين عن الإتيان بمثل القرآن أمر متواتر بتواتر هذه الآيات بينهم وسكوتهم عن المعارضة مع توافر دواعيهم عليها".
وقد اختلف العلماء في تعليل عجزهم عن ذلك فذهبت طائفة قليلة إلى تعليله بأنَّ الله تعالى صرفهم عن معارضة القرآن فسلبهم المقدرة أو سلبهم الداعي، لتقوم الحُجَّة عليهم، بمرأى ومسمع من جميع العرب، ويعرف هذا القول بالصرفة كما في "الموافق" للعضد و"المقاصد" للتفتازاني (ولعلها بفتح الصاد وسكون الراء، وهي مرة من الصرف، وصيغ بصيغة المرة للإشارة إلى أنها صرف خاص، فصارت كالعَلَم بالغلبة) ولم ينسبوا هذا القول إلاَّ إلى الأشعري فيما حكاه أبو الفضل عياض([33]) في "الشفا"، وإلى النَّظَّام والشريف المرتضى، وأبي إسحاق الاسفرائني فيما حكاه عنهم عضد الدين في "المواقف"، وهو قول ابن حزم صرح به في كتاب "الفِصَل"([34])، وقد عزاه صاحب "المقاصد" في شرحه إلى كثير من المعتزلة.
وأما الذي عليه جمهرة أهل العلم والتحقيق، واقتصر عليه إمام الحرمين، وعليه الجاحظ وأهل العربية كما في "المواقف"؛ فالتعليل لعجز المتحدين به بأنه بلوغ القرآن في درجات البلاغة والفصاحة مبلغاً تعجز قدرة بلغاء العرب عن الإتيان بمثله.
[8] كتب الإعجاز:(/4)
على الرغم من كون الجاحظ([35]) معتزلياً وتلميذاً لإبراهيم النَّظَّام؛ فقد آمن بفكرة الإعجاز، ووضع كتاباً حول الإعجاز الأسلوبي للقرآن أسماه "نظم القرآن"، لم يصل إلينا، ولكن الجاحظ على طريقته في الإشارة إلى بعض كتبه في بعضها الآخر، أورد بعض الفقرات من هذا الكتاب في كتابيه: "الحيوان" و"البيان والتبيين" الموجودين حالياً، ويتلخص رأي الجاحظ في تبنيه للقول بالصرفة إلى جانب إيمانه بأنَّ العرب عجزوا عجزاً حقيقياً ـ مع محاولاتهم ـ عن الإتيان بمثل القرآن، بسبب طريقة نظم القرآن أي أسلوبه، ويعتبر كتاب الجاحظ المفقود هذا أول كتاب في إعجاز القرآن كما يقول الباقلاني (ت 306هـ)، أشار إليه الرافعي وقال: "إنه سبق به عبد القاهر الجرجاني".
وفي القرن الرابع نجد رسالة للرماني في إعجاز القرآن، أشار الرافعي في كتابه "إعجاز القرآن" إلى أنها تعتبر المرحلة الثالثة ـ بعد الجاحظ والواسطي ـ من مراحل القول بأنَّ الإعجاز أسلوبي بياني. وقد أشار ابن سنان الخفاجي في "سر الفصاحة" والسيوطي في "الإتقان"([36]) إلى رسالة الرماني هذه. وهي تتميز بأنها نقلت مباحث الإعجاز خطوة إلى الأمام بتلخيص الرماني لكل ما قيل قبله من آراء في رسالته هذه.
وممن ساروا على هذا الطريق أيضاً الخطابي (ت 388هـ)، في كتاب له عن إعجاز القرآن من جهة بلاغته، وقد اجتهد في تفصيل وجوه الإعجاز من جهة البلاغة، وخرج به عن دائرة النظم إلى دوائر أخرى من المعاني كالإخبار بما يحدث في المستقبل، وبهذا يكون البحث في الإعجاز قد بدأ ينتقل إلى طور جديد.
وابتداء من القرن الخامس الهجري، ومع اتساع مجالات علم الكلام([37])، وتفشَّي بعض مظاهر الزندقة والإلحاد([38])؛ بدأت البحوث في الإعجاز القرآني تتخذ مسارات أكثر تطوراً، وساعد على هذا التطور الازدهار المشهود الذي اتسمت به البحوث اللُّغوية والفنون الأدبية، ويُعَدُّ كتاب الباقلاني من أفضل نتاج هذا القرن في مجال الإعجاز، إلى جانب إنجازات عبد القاهر الجرجاني الذي وضع نظرية النظم وضعاً متكاملاً، وإليها يرجع الفضل في تطور علوم البلاغة بعد ذلك، بل إننا لا نغالي إذا قلنا: إنَّ ما جاءت به بعض المدارس اللُّغوية المعاصرة التي اهتمت بالأسلوب والتحليل البنائي للتراكيب اللُّغوية لم تضف كثيراً إلى ما نادى به عبد القاهر ـ كما سيتضح ذلك بعد قليل ـ.
أما كتاب الباقلاني فقد تلا ذلك من عصور، هو المنوال الذي نسج عليه المؤلفون في الإعجاز بعد عصر الباقلاني، وفيه ناقش مسألة في غاية الأهمية، وهي أنَّ القرآن لم يجيء معجزاً للكفار في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فقط؛ بل إنَّ إعجازه يشمل كل العصور التالية، والدليل على ذلك
ـ في رأيه ـ أنَّ أسلوب القرآن سيظل أرقى من كل الأساليب مهما تطورت.
كما فرَّق الباقلاني بين إعجاز القرآن وإعجاز غيره من الكتب السماوية، فأوضح أنَّ إعجاز تلك الكتب مقصور على الإخبار بالغيب فقط، والقرآن إعجازه متعدد الجوانب([39]).
أما عبد القاهر فقد بنى نظريته في النظم على أساس لغوي نحوي بحت، فهو في كتابه: "دلائل الإعجاز" يوضح جوانب نظريته تلك توضيحاً كافياً ويرد على مخالفيها. وملخص ما ذهب إليه أنَّ البلاغة التقليدية تقوم على حسن اختيار الألفاظ، فيتقوى المعنى بما يبذله المنشئ للأدب من جهد في التقديم والتأخير والاستعارة.
أما القرآن فإنه يقوم بالأساس على فكرة أداء المعنى المراد بصورة جمالية مؤثرة في النفس من خلال العلاقات اللُّغوية (صوتياً بين الحروف، ونحوياً بين الكلمات، وصرفياً باختيار بناء صرفي محدد) وهذه العلاقات الثلاث تسهم في وضعية الدلالة وتأثيرها.
وهكذا بدأت بحوث الإعجاز تتميز عن بحوث البلاغة وعلم الكلام، وفتح عبد القاهر والباقلاني باب تلك البحوث لمن جاء بعدهما. ففي القرن التالي لهما، وهو القرن السادس، نجد الاهتمام بالبحث في الإعجاز يتسع ليشمل متكلِّمين كأبي حامد الغزالي (شافعي المذهب)، والقاضي عياض (مالكي المذهب)، ومفسرين كالإمام الزمخشري([40]) وابن عطية([41]).
وفي القرن السابع نجد الإمام فخر الدين الرازي، وهو مفسر مشهور ويأخذ تفسيره المُسَمَّى "مفاتيح الغيب" طابعاً خاصاً يهتم بالرد على فرق كثيرة من المتكلِّمين والزنادقة([42]).
ونجد السكاكي البلاغي في كتابه: "مفتاح العلوم" الذي يعدّه كثير من الباحثين خاتمة كتب البلاغة القديمة في صورتها الإبداعية، ويعدّون مؤلفات البلاغة بعد السكاكي مجرد شروح وحواش وتلخيصات واجترار لما قاله السابقون.
كما نجد اهتماماً بالبحث في الإعجاز في هذا القرن أيضاً عند ابن العربي الآمدي، علي بن أبي علي (ت 631هـ)، وحازم القرطاجني (ت 684هـ)، ثم البيضاوي المفسر([43]).(/5)
وفي القرن الثامن نجد آراء قيمة للزملكاني (ت 727هـ) في كتابه: "التبيان في إعجاز القرآن"، وابن تيمية (ت 728هـ) في كتابه: "جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمن"، والخطيب الذي لخص كتاب: "مفتاح العلوم" للسكاكي، ويحيى بن حمزة العلوي صاحب كتاب: "الطراز" (ت 749هـ)، وابن القيم (ت751هـ) صاحب كتاب "الفوائد المشوقة إلى علم القرآن وعلم البيان"، الذي يتناول فيه بإسهاب قضية الإعجاز القرآني وما سبقه من آراء فيها. كما نجد إشارات للإعجاز في تفسير ابن كثير (ت 774هـ)([44]).
وتتابعت الكتابات في الإعجاز القرآني بعد ذلك، حيث نجد في القرن التاسع آراء لابن خلدون والفيروزآبادي والمراكشي.
وفي القرن العاشر يظهر السيوطي بكتابيه: "الإتقان في علوم القرآن" و"معترك الأقران في إعجاز القرآن"، وكتابه الثاني جامع ومفيد يقع في ثلاثة مجلدات، وهو في رأي بعض الباحثين أثمن كثيراً من الإتقان وأشمل، ويغفل عنه كثير من الباحثين على الرغم من قيمته العظيمة، وقد رتّبه الإمام السيوطي على خمسة وثلاثين وجهاً من وجوه الإعجاز، ويقدم لكل وجه بمن ألَّف فيه قبله، وهو يُعَدُّ سجلاً للمؤلفين والكُتَّاب في هذا الفن([45]).
كما نجد في هذا القرن أيضاً تفسير أبي السعود([46]) وبعض الإشارات عند طاش كبرى زاده.
وفي القرن الحادي عشر نجد الشهاب الخفاجي، وفي القرن الثاني عشر نجد الضرير المالكي الإسكندري، الذي تفرَّد بين علماء التفسير بوضعه تفسيراً منظوماً كاملاً للقرآن الكريم، كما نجد الجمل الذي وضع حاشية على تفسير الجلالين.
وفي القرن الثالث عشر يتميَّز الإمام الشوكاني بتفسيره: "فتح القدير"([47]) والألوسي بـ: "روح المعاني"([48]). وقد تحدث كل منهما في ثنايا تفسيره عن البلاغة القرآنية وجوانبها المختلفة. وخير ما نجده في هذا العصر كتاب "البرهان في علوم القرآن" للإمام بدر الدين الزركشي، وفيه مبحث جيد في إعجاز القرآن، والكتاب مطبوع حالياً في أربعة مجلدات ومتداول.
ومن الكتب الجيدة أيضاً التي تناولت الإعجاز بتفصيل دقيق "مناهل العرفان في علوم القرآن" للشيخ/ محمد عبد العظيم الزرقاني حيث عرَّف إعجاز القرآن بقوله: "أصل الإعجاز في اللُّغة: إثبات القرآن عجز الخلق عن الإتيان بما تحداهم به، فهو من إضافة المصدر لفاعله، والمفعول وما تعلق بالفعل محذوف للعلم به.
والتقدير: إعجاز القرآن خلق الله تعالى عن الإتيان بما تحداهم به. ولكن التعجيز المذكور ليس مقصوداً لذاته، بل المقصود لازمه وهو إظهار أنَّ هذا الكتاب حق، وأنَّ الرسول الذي جاء به رسول صدق، وكذلك الشأن في كل معجزات الأنبياء، ليس المقصود بها تعجيز الخلق لذات التعجيز، ولكن للازمه وهو دلالتها على أنهم صادقون فيما يبلغون عن الله تعالى، فينتقل الناس من الشعور بعجزهم إزاء المعجزات، إلى شعورهم وإيمانهم بأنها صادرة عن الإله القادر، لحكمة عالية، وهي إرشادهم إلى تصديق من جاء بها ليسعدوا باتباعه في الدنيا والآخرة"([49]). ولقد تناول في المبحث السابع عشر إعجاز القرآن وما يتعلق به بالتفصيل، فارجع إلى ذلك هناك([50]).
ولم يعدم القرن الأخير كُتَّاباً شغلهم إعجاز القرآن فألَّفوا فيه كالرافعي في كتابيه: "آداب العرب" و"إعجاز القرآن"، والدكتور/ محمد عبد الله دراز في كتابه: "النبأ العظيم" في بعض مباحثه، وسيد قطب في كتابه: "التصوير الفني في القرآن"([51]).
وما زال في الساحة كثير ممن لا أحصيهم عدداً، وفي ضمير الغيب كثير ممن سَيُقَيَّضُونَ لهذا العمل الجليل، ويورثون علم هذا الكتاب العزيز حتى آخر الزمان.
[9] نماذج من القرآن الكريم دالَّة على إعجازه البياني:
لنأخذ بعض الأمثلة الدالَّة على الإعجاز البياني على سبيل الإيضاح لبعض الجوانب المهمة في براعة أسلوب القرآن وكونه معجزاً.
يقول القاضي عياض: "أولها حسن تأليفه"، من حيث تركيبه بين حروفه، وكلماته، وآياته، وسوره، وقصصه، وحكاياته، وانتظام كلماته، في سلك مبانيها المتناسبة لمقتضى معانيها المتناسقة.(/6)
وهذا هو السر في أنَّ القرآن لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية، من حيث ذوات المفردات والجمل وقوانينها العامة، بل جاء كتاباً عربياً جارياً على مألوف العرب من هذه الناحية، فمن حروفهم تألَّفت كلماته، ومن كلماتهم تألَّفت تراكيبه، وعلى قواعدهم العامة في صياغة هذه المفردات وتكوين التراكيب جاء تأليفه، ولكن المعجز والمدهش أنه مع دخوله على العرب من هذا الباب الذي عهدوه، ومع مجيئه بهذه المفردات والتراكيب التي توافروا على معرفتها، وتنافسوا في حلبتها، وبلغوا الشأو الأعلى فيها، نقول: إنَّ القرآن مع ذلك كله وبرغم ذلك كله؛ قد أعجزهم بأسلوبه الفذ، ومذهبه الكلامي المعجز. ولو دخل عليهم من غير هذا الباب الذي يعرفونه، لأمكن أنْ يلتمس لهم عذر أو شبه عذر، وأنْ يسلم لهم طعن أو شبه طعن (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ آأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ)([52])، ولهذا المعنى وصف الله كتابه بالعروبة في غير آية. فقال جَلَّ ذكره في سورة يوسف: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)([53])، وقال في سورة الزخرف: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)([54])، وقال في سورة الزمر: (قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)([55]).
ومن فصاحة القرآن وضوح بيان معانيه، مع اقتصاد مبانيه، مع إيجازه، وذلك بإيفاء واكتفاء وإيماء([56])، غير مخل ولا ممل، ومن بلاغته في عجائب التراكيب، وغرائب الأساليب، وبدائع العبارات، وروائع الإشارات، المتجاوزة لعادة العرب من فصاحتهم وبلاغتهم.. حيث إنهم كانوا أرباب هذا الشأن من الفصاحة والبلاغة وفرسان الكلام، وقد خُصوا من البلاغة والحِكَم ومن كمال العقل ما لم يُخص به غيرهم من الأمم سابقة ولاحقة، حتى إنهم تساجلوا في النظم والنثر وتفاخروا وتكاثروا، فما راعهم إلاَّ رسول كريم جاءهم بخلاف هواهم لكنه معه هداهم.. حتى أتاهم بكتاب عزيز (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)([57]) أُحكمت آياته، وفُصلت كلماته، وبَهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول نظماً أو نثراً. وهذا الوليد بن المغيرة سمع من النبي صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)([58])، قال الوليد قولته المشهورة: "والله إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أسفله لمغدق، وإنَّ أعلاه لمثمر.. ما يقول هذا بشر"([59]).
وكل هذا مما جعل القرآن الكريم في فصاحته وبلاغته خارقاً للعادة، يعجز المنكرين واعتراف المفترين، ولنأخذ مثلاً للتأمل في إعجاز بلاغته متأملاً الإيجاز الباهر في الإعجاز الظاهر في قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)([60]) نجد من بدائع التركيب وروائع الترتيب، مع ما فيه من المطابقة بين معنيين متقابلين، وهما: القصاص والحياة. ومن الغرابة بجعل القتل الذي هو مفوت الحياة ظرفاً لها. ومن البلاغة حيث أتى بلفظ يسير متضمن لمعنى كثير، فإنَّ الإنسان إذا علم أنه إذا قَتل اقتُصَّ منه دعاه ذلك إلى ردعه عن قتل صاحبه، فكأنه أحيا نفسه وغيره، فيرتفع بالقصاص كثير من قتل الناس بعضهم بعضاً، فيكون القصاص حياة لهم مع ما في القصاص من زيادة الحياة الطيبة في الآخرة. وفي هذا نجد أنه أولى من كلام موجز عند العرب وهو أنَّ: (القتل أنفى للقتل)، في قلة المباني، وكثرة المعاني، وعدم تكرار اللفظ المنفر، وفي الإيماء إلى أنَّ القصاص ـ الذي بمعنى المماثلة ـ سبب للحياة دون مطلق القتل بالمقابلة، إذ ربما يكون سبباً لفتنة فيها قتل فئة وفساد جماعة.
وهناك أمثلة كثيرة تدلُّ على حسن تأليفه وروعة تراكيبه، ففي العصر الذهبي للُّغة العربية حيث بلغت الذروة في الصفاء والقوة، وحيث كانت تُخلع ألقاب التشريف والتكريم علانية على الشعراء والخطباء في المسابقات السنوية، ما إنْ ظهر محكم التنزيل حتى اكتسح الحماس للشعر والنثر، وأُنزلت المعلقات السبع من باب الكعبة، واتجهت كل الأسماع إلى هذا الإعجاز الجديد في اللُّغة العربية.
فلغة القرآن مادة صوتية، تبعد عن طراوة لغة أهل الحضر، وخشونة لغة أهل البادية، وتجمع ـ في تناسق حكيم ـ بين رقة الأولى وجزالة الثانية، وتحقق السحر المنشود، بفضل هذا التوفيق الموسيقي البديع بينهما([61]).
إنها ترتيب في مقاطع الكلمات في نظام أكثر تماسكاً من النثر، وأقل نظماً من الشعر، يتنوع في خلال الآية الواحدة ليجذب نشاط سامعه، ويتجانس في آخر الآيات سجعاً، لكي لا يختل الجرس العام للوقفات في كل سورة([62]).(/7)
أما كلماته فمنتقاة من بين الكلمات المشهورة، دون أنْ تهبط إلى الدارج، ومختارة من بين الكلمات السامية، التي لا توصف بالغريب إلاَّ نادراً.
وتمتاز بالإيجاز العجيب في الكلام، إذ تُعَبِّر بأقل عدد من الكلمات عن أفكار كبيرة يصعب التعبير عنها في العادة إلاَّ بجمل مطوَّلة نسبياً.
([1]) سورة الشعراء، الآيتان (154ـ155).
([2]) سورة الأعراف، الآيات (104-108).
([3]) سورة آل عمران، الآية (49).
([4]) سورة الأنبياء، الآية (5).
([5]) سورة العنكبوت، الآيتان (50-51).
([6]) سيد قطب: في ظلال القرآن، 1/48. وانظر: مجلة المنهل، عدد خاص، القرآن الكريم الهدى والإعجاز، عدد 491، عام 1412هـ ـ 1991م، بحث الإعجاز البياني في القرآن الكريم، ص 123.
([7]) شرح الجلال على العقائد العضدية، 2/276.
([8]) بحوث في الثقافة الإسلامية، تأليف عدد من أساتذة جامعة قطر، ص 275.
([9]) انظر: المصباح المنير، ص 149.
([10]) هو: علي بن محمد بن علي، المعروف بالشريف الجرجاني، فيلسوف من كبار العلماء بالعربية، ولد في تاكوا قرب استرياد، ودرس في شيراز وأقام بها إلى أنْ توفي، له نحو خمسين مصنفاً. انظر ترجمته في: الفوائد البهية، 125، ومفتاح السعادة، 1/167، وبروكلمن في دائرة المعارف الإسلامية، 6/333، والضوء اللامع، 5/328، ومعجم المطبوعات، 678، وآداب اللًّغة، 3/235، والأعلام للزركلي، 5/159-190.
([11]) د. صلاح عبد الفتاح الخالدي: البيان في إعجاز القرآن، ص 23-31.
([12]) الرافعي: إعجاز القرآن، ص 139.
([13]) كمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم: البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن.
([14]) سورة الأنفال، الآية (31).
([15]) سورة الطور، الآية (34).
([16]) سورة الفرقان، الآية (4).
([17]) سورة هود، الآية (13).
([18]) سورة يونس، الآية (38).
([19]) سورة البقرة، الآية (23).
([20]) انظر: د. إسماعيل أحمد الطحان: دراسات حول القرآن الكريم، ص 92.
([21]) قال سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ: "وإذا تجاوزنا عن النفر القليل الذين كانت شخصية محمد صلى الله عليه وسلم وحدها هي داعيتهم إلى الإيمان في أول الأمر، كزوجه خديجة، وصديقه أبي بكر، وابن عمه علي، ومولاه زيد، وأمثالهم، فإنَّا نجد القرآن كان العامل الحاسم، أو أحد العوامل الحاسمة في إيمان من آمنوا أوائل الدعوة، يوم لم يكن لمحمد صلى الله عليه وسلم حَول ولا طَول، ويوم لم يكن للإسلام قوة ولا منعة، وقصة إيمان عمر بن الخطاب، وتولي الوليد بن المغيرة نموذجان من قصص كثيرة للإيمان والتولي، وكلتاهما تكشف عن هذا السحر القرآني الذي أخذ العرب منذ اللحظة الأولى، وتبينان في اتجاهين مختلفين عن مدى هذا السحر القرآني الذي يستوي في الإقرار به المؤمنون والكافرون". انظر: التصوير الفني في القرآن، ص 11.
([22]) السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، 2/326. وانظر: تفسير الطبري، 29/98، وتفسير ابن كثير، 8/267.
([23]) سورة المدثر، الآيات (11-26).
([24]) سورة الفرقان، الآية (5).
([25]) سورة النحل، الآية (103).
([26]) سورة الأنبياء، الآية (5).
([27]) سورة الفرقان، الآية (32).
([28]) سورة يونس، الآية (15).
([29]) سورة الفرقان، الآية (33).
([30]) سورة الأنفال، الآية (31).
([31]) انظر: ص (18) من البحث، والآيات التي ورد التحدي بها هي الآية رقم (13) من سورة هود، والآية (38) من سورة يونس، والآية (23) من سورة البقرة.
([32]) انظر: تفسير التحرير والتنوير، لابن عاشور، 1/103.
([33]) هو: عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي السبتي أبو الفضل، عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته، كان من أعلم الناس بكلام العرب وأنسابهم وأيامهم، له عدة تصانيف منها: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم ". انظر ترجمته في: أزهار الرياض = = في أخبار القاضي عياض، وفيات الأعيان، 1/392، وقضاة الأندلس، 101، وقلائد
العقبات، 222، والفهرس التمهيدي، 368، وبغية المتلمس، 425.
([34]) ابن حزم: الفِصَل في المِلَل والأهواء والنِّحَل، 3/7، و2/184.
([35]) هو: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء الليثي، أبو عثمان الشهير بالجاحظ، ورئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة، مولده ووفاته في البصرة، له تصانيف كثيرة منها: "الحيوان"، و"البيان والتبيين"، و"سحر البيان" وغيرها. انظر ترجمته في: إرشاد
الأريب، 6/80، والوفيات، 1/388، وأمراء البيان، 311، ولسان الميزان، 4/355، وتاريخ بغداد 12/212.
([36]) انظر: الإتقان للسيوطي، 2/326 وما بعدها.
([37]) علم الكلام هو: علم التوحيد، والكلام في أصل اللُّغة: الأصوات المفيدة، وعند المتكلِّمين: "المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بألفاظ يقال: في نفس الكلام"، وفي اصطلاح النُّحاة: "الجملة المركبة المفيدة، نحو: جاء الشتاء، أو شبهها مما يكتفي بنفسه، نحو يا علي". انظر: المصباح المنير، 206، والمعجم الوسيط، 2/796، وشرح الأصول الخمسة(/8)
لعبد الجبار، 6.
([38]) الزنديق: المشهور على ألسنة الناس أنَّ الزنديق هو الذي لا يتمسك بشريعة، ويقول بدوام الدهر، والعرب تُعبِّر عن هذا بقولهم: ملحد أي طاعن في الأديان، وفي "التهذيب": وزندقة الزنديق أنه لا يؤمن بالآخرة ولا بوحدانية الخالق. انظر: المصباح المنير، 98.
([39]) انظر: بحث الإعجاز القرآني نظرة تاريخية، د. مصطفى رجب، مجلة المنهل، العدد 491، أكتوبر 91، ص 38.
([40]) انظر: الكشاف للزمخشري، 4/295.
([41]) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية، تفسير سورة البقرة.
([42]) تفسير الفخر الرازي، 14/22. وانظر: كشف الظنون، مادة (تفسير)، 431.
([43]) تفسير البيضاوي، 5/204.
([44]) تفسير ابن كثير، تحقيق سامي محمد السلامة، 1/47.
([45]) انظر: د. إسماعيل أحمد الطحان: دراسات حول القرآن الكريم، ص 97.
([46]) إرشاد العقل السليم لأبي السعود، 5/390.
([47]) انظر: فتح القدير للشوكاني، مؤسسة الريان، بيروت، ط/1، 1418هـ، 1/69. ومحاسن التأويل للقاسمي، 1/72، وتفسير النسفي، 4/381.
([48]) انظر: روح المعاني للألوسي، 30/256.
([49]) راجع: مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني، 2/331.
([50]) انظر: 2/331-434، وراجع: مناهل العرفان لتقف على تفصيل أكثر، 1/56-84.
([51]) انظر: سيد قطب: التصوير الفني في القرآن، ص 11، وما بعدها، و د. محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم، ص 80-109.
([52]) سورة فصلت، الآية (44).
([53]) سورة يوسف، الآية (2).
([54]) سورة الزخرف، الآية (3).
([55]) سورة الزمر، الآية (28).
([56]) انظر: مناهل العرفان، 2/334.
([57]) سورة فصلت، الآية (42).
([58]) سورة النحل، الآية (90). وراجع: تفسير الآية في: زاد المسير للسيوطي، 4/483 وما بعدها، وتفسير ابن كثير، 4/596 وما بعدها، والطبري، 14/409، والحلية، 8/255، والإصابة، 1/118، والاستيعاب، 1/146، ومسند أحمد، 5/36.
([59]) الإتقان في علوم القرآن، 2/326.
([60]) سورة البقرة، الآية (179). يقول ابن قتيبة: "يريد أنَّ سافك الدم إذا أُقيد منه، ارتدع مَنْ يهم بالقتل فلم يَقتل خوفاً على نفسه أنْ يُقتل، فكان في ذلك حياة". انظر: تفسير غريب
القرآن، 72. وانظر: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة، 5، والدر المنثور للسيوطي، 1/17.
([61]) راجع: د. محمد عبد الله دراز: مدخل إلى القرآن الكريم، ص 115.
([62]) هناك استثناءات من هذه القاعدة، فقد لا ينتظم السجع إلاَّ على مراحل، ويختلف بين مجموعات الآيات في نفس السورة، انظر مثلاً، سورة الحاقة والسورة التالية(/9)
لئن أدركت رمضان ليَرينَّ اللهُ ما أصنع !!
عمر بن عبدالله المقبل 29/8/1424
25/10/2003
أخذ صاحبي مكانه في مصلى العيد، وبدأ يناجي نفسه ويحادثها، ويسترجع معها شريط الذكريات لشهر كاملٍ... شهرٍ مضى وكأنه يوم واحد... جلس وهو يعتصر ألماً على تلك الليالي التي تصرمت، والأيام التي تقضت، ومما زاد ألمه أنه قارن نفسه ببعض من حوله، فإذا المسافة بينه وبينهم كبيرة.. لقد دخلوا الميدان في يوم واحد بل في ساعة واحدة، ولكنه تباطأ وسوّف؛ بل ونام كثيراً حتى سبقه السابقون، لقد حاول أن ينظر إليهم بمقرب الصور ( الدربيل ) فلم يستطع، فقد سبقوه سبقاً بعيداً، وظفروا بالجوائز الكبرى..
استنجد صاحبي بذاكرته ليقلب من خلالها صفحات عمله في هذا الشهر الذي انصرم، لعله يجد فيها ما يرفع من معنويات نفسه المنكسرة، فبدأ يقلب صفحات البر التي تيسر له أن يقوم بشيء منها.. ففتح صفحة قراءة القرآن، فإذا هو لم يكد يصل إلى ختمة واحدة إلا بشق الأنفس ! وهو يسمع ـ ليس في أخبار السلف السابقين ـ بل في أخبار أناس حوله من الصالحين بل ومن الشباب من ختم خمس مرات، ومن ختم ست بل وعشر مرات !!
حاول أن يخفف حسرته هذه ليفتح صفحة البذل والجود والعطاء لمن هم حوله أو لمن هم خارج بلاده من منكوبي المسلمين، خاصة وأنه يعلم أن الله تعالى قد أعطاه وأنعم الله عليه بالمال، وإذا هو لم يكن له النصيب الذي يليق بمثله من الصدقة والصلة والإحسان.. تنهد .. سكت قليلاً... نظر فإذا صدقته وبذله لا يتناسب مع ما آتاه الله تعالى من المال.. فالسائل والمحروم ليس لهم من ماله في هذا الشهر نصيب إلا النزر اليسير، بل قد يكون بعض كرام النفوس الذين عافاهم الله تعالى من شح النفس ـ مع قلة ذات أيديهم ـ أكثر منه بذلاً...
أشاح بوجهه عن هذه الصفحة، وحاول أن يخفي ألمه وحسرته، بتقليب صفحة أخرى لعله يجد نفسه سابقاً ولو في ميدان واحد، فإذا بصفحة صوم الجوارح تواجهه، وهنا أسقط في يده، لقد تذكر ليالٍ كثيرة أطلق لبصره ولسمعه وللسانه فيها العنان...
تذكر تلك المجالس التي يجتمع فيها هو وأصحابه على مشاهدة البرامج التي يعدها قطاع الطريق في هذا الشهر المبارك ـ طريق الجنة ـ من الدعاة إلى أبواب جهنم ببرامجهم الفضائحية... من أفلام ومسلسلات يستحي العاقل ـ فضلاً عن المؤمن المشفق على قلبه وعمله ـ أن يشاهدها في غير رمضان فكيف في شهر الرحمة والرضوان ؟!
وتذكر صحابنا ـ والألم والحسرة يكادان يفلقان كبده ـ كم ضاع وقته في تتبع المسابقات الدنيوية في الصحف والقنوات التي أشغلته عن المسابقات الأخروية... تذكرها وهو يبكي على ما أصيب به من خذلان : كيف أشغل نفسه بمسابقات دنيوية نسبة فوزه بها في أحيان كثيرة تصل إلى الواحد من 500.000 أو أكثر، يبذل فيها جهداً ومالاً ووقتاً، وفي النهاية لا يفوز إلا خمسة أو عشرة أو حتى مئة من ملايين المتسابقين ! تذكرها وهو يعاتب نفسه كيف أعرضت عن مسابقات الفوز بها مضمون؟! وأي فوز هو ؟ إن جائزة مسابقتنا هي الجنان، ورضا الرحمن، وأنهار، وأشجار، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون ، ونسبة الفوز فيها لمن أخلص وتابع مضمونة 100% !! ولكنه حب الدنيا الذي زاد عن حده، واللهث وراءها !!
وبينما هو جالس في المصلى، التفت صاحبي في مصلى العيد فرأى بعض أصحابه في الاستراحة و الجلسة الليلية الرمضانية... رآهم في أحسن حُلّة، وأجمل لباس، والابتسامات تتوزع هنا وهناك...
ولما حوّل بصره إلى ناحية أخرى نظر فإذا جملة من العباد والصالحين في مقدمة الصفوف ممن عرفهم بأنواع الطاعات وأصناف القربان، رآهم والبشر والسرور يطفح على وجوههم ، وكأن الواحد منهم ـ لولا خشية إفشاء العمل ـ لقال بلسان حاله : هاؤم اقرؤوا كتابيه .. لقد لبسوا الجديد كما لبسه أصحابه، ولكن شتان بين ابتسامة وابتسامة !! وشتان بين جديد وجديد... ، هنا، أخذت الأحاسيس تتردد في نفسه، وبدأت الأسئلة تتدفق على ذهنه... هؤلاء أصحابي الذين أمضيت ما أمضيت معهم من الوقت فيما لا فائدة فيه؛ بل فيما حرَّم الله أحياناً.. على ماذا يبتسمون يا ترى ؟! أهم يبتسمون ويضحكون على التخلص من رمضان أم على ماذا ؟ أم فرحا بإطلاق العنان لشهوات النفس ؟ أم على لبس الجديد أم على ماذا يا ترى ؟ وتذكر لحظتها كلمة سمعها في خطبة العيد العام الماضي : ليس العيد لمن لبس الجديد ، ولكنه لمن رضي عنه ربُّ العبيد ، وأعتقه من العذاب الشديد ...
طافت به هذه التساؤلات وهو يقلب طرفه في أولئك الصالحين والعباد وهو يتذكر ما قرأه في بعض الكتب ، وهو أن الصالحين يفرحون بالعيد لتمام نعمة الله عليهم ببلوغ الشهر وتمامه ، والرجاء يحدوهم من الرب الكريم أن يقبله منهم ! وتذكر تلك الكلمة التي سمعها من إمام المسجد، والتي كان الإمام يحيى بن أبي كثير يقولها إذا جاء شهر رمضان : اللهم سلمني لرمضان وسلم لي رمضان ، وتسلمه مني مُتقبلا.(/1)
خرج صاحبنا من مصلى العيد ، وهو يعد نفسه الوعود الصادقة ، ويمنيها بالعزمات الأكيدة ، ويقول في نفسه : لئن أحياني الله تعالى إلى رمضان القادم ليَرينَّ اللهُ ما أصنع !! ولأعيشنَّ هذه الفرحة التي عاشها الصالحون العاملون...
هذه ـ أخي الحبيب ـ مشاعر نادم على التفريط، جالت في ذهنه وبسرعة وهو في مصلى العيد ينتظر الصلاة مع المسلمين في عيد الفطر الماضي...
وهي بالتأكيد مشاعر كل مؤمن في قلبه حسٌ وإدراك لفضائل هذا الشهر الكريم، ومناقبه وعظيم منزلته عند الله..
ودارت الأيام، وأقبل شهر رمضان، وهاهو اليوم ينقل لكم عزمه وتصميمه ـ بإذن الله ـ على استغلال أيام وليالي هذا الشهر المبارك بكل ما يستطيع!.
ومما زاد من عزمه وتصميمه أنه نظر من حوله، فإذا الموت قد أخذ واحداً من أفراد عائلته، وشخصاً من حيهم الذي يسكن فيه، كما أن زميله في العمل أو الدراسة قد وافته هو الآخر منيتُه.. كل ذلك جعله يحمد الله أن أمهله حتى وصل إلى هذا اليوم راجياً من ربه أن يبلغه الشهر الكريم، فقد تقطع قلبه شوقاً إليه ...
وما له لا يشتاق، وهو يسمع فضائله العظيمة، ومناقبه الكبيرة ؟ أليس هو شهر القرآن، والرحمة والدعاء، والمغفرة، والرضوان ؟!
ما له لا يشتاق، بل لو تقطع قلبه شوقاً لما كان ـ وربي ـ ملوماً ، وهو يسمع قول الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول : "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " ؟ "ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" ؟ "ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" ؟
أَيُلام هذا ؟! وهو يعلم أن الذي يعده بهذه الكنوز ليس قناة فضائية ولا صحيفة سيارة، بل الذي يعده هو محمد -صلى الله عليه وسلم- ؟!.
أًيُلام هذا على شوقه، وهو يسمع حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة ، وغلقت أبواب النار ، وصفدت الشياطين " ...
لا تلوموه ـ يا أحبة ـ فهو يعلم أن أبواب الجنة ما فتحت، وأن أبواب النار لم تغلق من أجل الملائكة ! ولا من أجل الجبال ! ولا من أجل الشجر ! ولا من أجل الدواب ! بل فتحت أبواب الجنة من أجله هو وإخوانه المؤمنين إنسهم وجنهم ...
نعم ! من أجله هو من بين مخلوقات السماوات والأرض ! ولا أغلقت أبواب النار إلا لأجله هو... أفَيُلامُ هذا على فرحه وسروره وغبطته وحبوره؟!
من ذا الذي يلومه ؟! وهو يسمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات" وقد علم أن القرآن ثلاثُمائة ألف حرف تقريباً، أي أنه في الختمة الواحدة له ثلاث ملايين حسنة ! وفضل الله أوسع وأعظم ولسنا نعده ولا نحصيه، فإذا ضوعفت الحسنة إلى سبعمائة ضعف، فمن الذي يستطيع عد ذلك ؟! .
فنسأل الله تعالى، وهو واسع الفضل والعطاء، ذو المن والجود والكرم والسخاء، نسأله أن يمن علينا وعلى أخينا الكريم باستغلال أيام العمر فيما يرضيه عنا، وأن لا يحرمنا فضله بذنوبنا، ولا نواله بسوء فعالنا، إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم(/2)
لا .. للمرتدين ذهنيًّا
د. نورة خالد السعد 26/4/1425
14/06/2004
الأمة الإسلامية في مرحلة من الوهن والانحطاط لا تحسد عليها .. وأخفقت هذه الأمة في حمل رسالة الإسلام عقيدة ومنهج حياة ومجال تقدم في العلم والمعرفة.. رغم وجود إرهاصات ممتازة في ماليزيا –مثلاً-؛ ولكن في معظم مجتمعاتنا العربية الوضع هو الاستكانة والاعتماد على مصانع أمريكا والغرب في استيراد ما يسد رمق الشعوب.. وإن توقف الأمر على هذا الاستيراد (المادي) فربما تكون المصيبة أهون، ولكن ما لا يطاق هو الإصرار على الاستيراد للفكر والثقافة والنموذج الغربي بكل مثالبه.
وبما أن حضارة الغرب قامت على التقدم المتسارع في مجال العلم والمعرفة وتطبيقاتها في الحياة مما خطف أبصار الراكضين خلف بريقها من مجموعة يطلق عليها (المثقفون)!! هذه الطبقة التي تتوالد في كل مجتمع عربي مسلم تباعدت عن البيئة المسلمة وقيمها، واعتنقت حضارة الغرب ومدنيته، وآمنت بفلسفة هذه الحضارة، وتشبعت ذهنياتهم بما تحمله من توجيهات لا دينية بعد عزل الدين عن منهج الحياة وإبقائه فيما أطلق عليه (المؤسسة الدينية) .. وسلوك هذه الطبقة يماشي أسلوب تفكيرهم الذي أصبح نتاجاً غريبًا؛ فرغم أنهم ولدوا ونشأوا في بيئات عربية ومسلمة، ولكن ما يتحدثون به وينادون به هو ( نشاز) إذا ما قيس بمعيار (التشريع الإسلامي) الذي يوجه كل مناحي الحياة سياسياً وتربوياً وإعلامياً واجتماعياً واقتصادياً، ولا يعزل في (مؤسسة دينية) كما يقولون وينادون ..
إن هؤلاء أصيبوا بما يسمى (ارتداد ذهني) مخيف، ووجدوا فرصتهم في معظم المجتمعات العربية من خلال تيار سياسي أو ثقافي أو اختراق للوزارات المسؤولة عن الإعلام وعن الثقافة والتربية؛ فأحدثوا وحققوا ما يرغبون .. والنتائج هي مزيد من الانسلاخ عن قيم المجتمعات المسلمة وعدم تحقيق أي مخرجات مجتمعية تسهم في دور تنموي فاعل .. وتقرير التنمية السنوي الذي نشر في العام السابق أو العام الحالي مؤشر للإخفاق الاقتصادي والاجتماعي .
هنا .. في مجتمعنا .. لم يكن لهذه الفئة وجود إلا من خلال نشاط أدبي!! ولكن مؤخراً وجدنا أنهم يتوالدون كالأرانب !! يهاجمون الدين وليس علماء الدين كما يدّعون تحت مظلة أن العالم ليس معصوماً من الخطأ!.
يفسرون الآيات القرآنية كما يرغبون !! ويستعدون الدولة على المؤسسات الدعوية وعلى النشاط اللا منهجي في المدارس!! وعلى بعض المعلمين الذين يتهمون بأنهم (غلاة)!! والتهمة لا يتم اقتصارها على عدد محدود إذا افترضنا أنهم كذلك؛ ولكنهم يتهمون الجميع، بل ويطالب أحدهم عبر قناة مشبوهة بأن يتم اجتثاث جذورهم فهم العبء الذي نعاني منه – كما يقول !!
هذا الهجوم على الدين عبر هذا الشخص الذي جند جهوده لمحاربة المناهج الدينية منذ اللحظات الأولى لهجمات سبتمبر، وعبر قناة فضائية اشترك معه فيها عدد من الأفاضل أنكروا عليه هذا، وخصوصاً أن أحدهم كان رجل تربية ويعرف المناهج جيداً .. ويومها لم ينطق ولم يكابر .. ولكنه ما فتئ في كل فرصة يعيد المقولة، وأن (المؤسسة الدينية) هي المهيمنة على مؤسسات التعليم وهنا يكمن الخطر – كما يقول !! ويطالب بتحييد المؤسسة الدينية !! وكي يجد قبولاً لدى من يسمعه يحاول أن يكون عقلانياً فيقول : " يجب أن نفرق بين الدين وبين المؤسسة الدينية .. الدين من الممكن أن أعطيه عدة تفسيرات الآن، في الإمكان أن أفسر لك وأقول لك، أو أخرج بنظرية ليبرالية من الدين أو نظرية من الدين أو نظرية شمولية ، يعتمد على موقفي.. فالدين واسع وسمح.. لكن المشكلة عندما يكون هناك مؤسسة دينية معينة ذات تدثير معين، ذات رأي واحد تفرضه على الجميع على أنه هو الدين .. هنا تكمن المشكلة وخاصة في المملكة ".
هذه العبارات ألا تؤكد بُعد هذا الإنسان عن فهم الدين كما ينبغي وما الفرق بين العقيدة في الإسلام وما تؤمن به أو تعتقده الديانات التي عزلت الدين في (مؤسسة دينية)!! ثم إن هذه الفئة تحارب العلماء والمشايخ بدعوى أنهم (يفسرون الدين وفق مرجعيتهم)؛ بينما هو هنا يدعى أنه يمكن له أن يفسر الدين وفق نظرية ليبرالية أو شمولية !! بل وفي مقالات له يقوم بشرح الآيات والأحاديث وهو لا يفقه في أصول علم الفقه أو التفسير .. أي وفق (مرجعيته) !!
هذا نموذج فقط؛ إذ إن الآخرين لا يملون من الانتقاد، بل والهجوم على محتوى المناهج وفق (انتقائية) غربية.. كما قام أ حدهم في قناة فضائية باستعراض الدراسة التي قدمت في الحوار الفكري الثاني، وشرحها للعالم العربي والإسلامي والأمريكي!! كي يدركوا ما في هذه المناهج من عداء للآخر!! بل (ويفسر) ما قد لا يفهم لمن يستمع إليه .. فهل هذا سبيل الإصلاح ينتهجه هؤلاء ؟! وبعضهم كانوا مشاركين في الحوار الوطني!(/1)
وهل هذا الهجوم على المناهج الدينية سوف يفتح آفاقاً لعالم المعرفة والعلم واللحاق (بالتقدم)؟! وهل استخدام (ورقة النساء) للهجوم على ثوابت الشريعة التي تحرّم الاختلاط كما هو حالياً وليس الاختلاط الذي يدعونه وأنه يحدث في المسجد الحرام !! هل الإصلاح الإداري والقضاء على الفقر سيتم من خلال تكوين ما يسمى بثورة النساء!! أي خلع الحجاب ؟! هل سنبني مجتمعنا بالتخلي عن ثوابتنا الشرعية التي لم تؤسس هذه الدولة إلاّ على أركانها؟!
نعم هناك مناهج في حاجة إلى التطوير .. ومدارس فقيرة من جميع أولويات الوسائل التعليمية والمناخ التربوي.. لم يطالب أحد بإصلاحها أو تجنيد المجتمع لذلك!!
ونعم هناك عدم فعالية في تطبيق بعض الأحكام القضائية الخاصة بقضايا المطلقات وحضانة الأطفال، والميراث، وسوء استخدام لمفهوم القوامة و ..إلخ من قضايا تمس حياة الفرد في المجتمع .. نعم هناك ما نحتاج جميعًا إلى التعاون لإصلاحه؛ ولكن لن يتم هذا وفق منهجية الغرب وتبعية (فئة الارتداد الذهني)!(/2)
( لا أدري الإسلامية ) سبقت ( لا أعرف الغربية )
د. حسام الدين عفانه
جامعة القدس
قرأت مقالة د. أفنان دروزة بعنوان ( لا أعرف ) والتي أثنت فيها ثناء عاطراً على الإنسان الغربي وصراحته وأثنت على أستاذها البروفيسور العارف والمتعمق في مادته والمشهود له بالمستوى الأكاديمي الرفيع والرتبة العلمية إلى آخر أوصاف المدح والثناء على أستاذها الأمريكي وعبرت عن إعجابها به عندما سئل عن سؤال فقال في الجواب : لا أعرف .
ثم كالت المديح والثناء للعقلية الغربية وللثقافة الغربية وللتربية الغربية التي تعود أبنائها على قول لا أعرف ثم نعت على الثقافة العربية لأنه لا يوجد في قاموس الإنسان العربي عبارة لا أعرف وأخيراً دعت الدكتورة إلى تغيير طريقة تفكيرنا وأسلوب تربيتنا وحياتنا ومنظور ثقافتنا … إلخ .
وأقول إن كثيراً من مثقفينا بهرتهم الثقافة الغربية والعقلية الغربية وظنوا أن ما يوجد فيها ليس له وجود في تفكيرنا الإسلامي وعقلنا الإسلامي . وما ذكرته الدكتورة خير مثال على ذلك فاعتبرت قول أستاذها الأمريكي ( لا أعرف ) في جواب سؤال مثلاً أعلى يجب الاقتداء به .
وأنا أقول لها إن علماء المسلمين قد سبقوا أستاذها الغربي بأكثر من ألف عام عندما قرروا قاعدة لا أدري وأسوق للدكتورة الفاضلة باقة من أقوال علماء الأمة في أهمية أن يقول العالم وطالب العلم لا أدري من باب التذكير فإن الذكرى تنفع المؤمنين :
قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - :( أيها الناس من علم منكم شيئاً فليقل ومن لم يعلم فليقل لما لا يعلم الله أعلم فإن من علم المرء أن يقول لما لا يعلم الله أعلم وقد قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - :( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) سورة ص : الآية 86 ) رواه البخاري ومسلم .
وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - :[ أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله بغير علم ؟ وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه سئل عن شيء فقال :[ لا أدري ] .
فلما ولى الرجل قال : نعما قال عبد الله بن عمر سئل عما لا يعلم فقال : لا علم لي به .
وعن عبد الله بن يزيد بن هرمز قال :[ إني أحب أن يكون من بقايا العالم بعده : لا أدري ليأخذه من بعده ] .
وعن مجاهد قال :[ سئل ابن عمر عن فريضة من الصلب فقال : لا أدري فقيل له : فما منعك أن تجيبه ؟ فقال : سئل ابن عمر عما لا يدري فقال : لا أدري ] .
وقال عبد الملك بن أبي سليمان :[ سئل سعيد بن جبير عن شيء فقال : لا أعلم ثم قال : ويل للذي يقول لما لا يعلم : إني أعلم ] .
وعن القاسم قال :[ يا أهل العراق إنّا والله لا نعلم كثيراً مما تسألونا عنه ولأن يعش المرء جاهلاً إلا أنه يعلم ما افترض الله عليه خير له من أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم ] .
وعن ابن عون قال :[ كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فسأله عن شيء فقال القاسم : لا أحسنه فجعل الرجل يقول : إني دفعت إليك لا أعرف غيرك . فقال القاسم : لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي والله ما أحسنه فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه : يا ابن أخي الزمها فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم . فقال القاسم : والله لأن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي به ] .
وعن ابن وهب قال : سمعت مالكاً يقول :[ سأل عبد الله بن نافع أيوب السختياني عن شيء فلم يجبه فقال له : لا أراك فهمت ما سألتك عنه قال : بلى قال : فلم لا تجيبني ؟ قال : لا أعلمه ] .
وكان عبد الرحمن بن مهدي يقول :[ كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال : يا أبا عبد الله جئتك من مسيرة ستة أشهر حملني أهل بلدي مسألة أسألك عنها قال : فسل فسأله الرجل عن مسألة قال : لا أحسنها قال فبهت الرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء قال فقال : فأي شيء أقول لأهل بلدتي إذا رجعت لهم ؟ قال : تقول لهم قال مالك : لا أحسن ] .
ذكر هذه النصوص الحافظ ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله 308-311 .
وأخيراً أقول ليت شعري متى نرجع إلى أصول ثقافتنا العربية الإسلامية وإلى كنوزها العظيمة ومتى نترك تمجيد الغرب وثقافته ومتى نعرف أن أمتنا الإسلامية قد سبقت الغرب في ميادين كثيرة ولكن العجز والتقصير في جيلنا الحاضر .
إنني أدعو مثقفينا وأساتذة جامعاتنا إلى الرجوع إلى المصدر العذب الخالي من الشوائب ليشربوا منه وليتركوا المصادر الكدرة .
والله الهادي إلى سواء السبيل
نُشر في جريدة القدس بتاريخ 23/6/2002 م(/1)
( لا أدري الإسلامية ) سبقت ( لا أعرف الغربية )
بسم الله الرحمن الرحيم
د. حسام الدين عفانه
جامعة القدس
قرأت مقالة د. أفنان دروزة بعنوان ( لا أعرف ) والتي أثنت فيها ثناء عاطراً على الإنسان الغربي وصراحته وأثنت على أستاذها البروفيسور العارف والمتعمق في مادته والمشهود له بالمستوى الأكاديمي الرفيع والرتبة العلمية إلى آخر أوصاف المدح والثناء على أستاذها الأمريكي وعبرت عن إعجابها به عندما سئل عن سؤال فقال في الجواب : لا أعرف .
ثم كالت المديح والثناء للعقلية الغربية وللثقافة الغربية وللتربية الغربية التي تعود أبنائها على قول لا أعرف ثم نعت على الثقافة العربية لأنه لا يوجد في قاموس الإنسان العربي عبارة لا أعرف وأخيراً دعت الدكتورة إلى تغيير طريقة تفكيرنا وأسلوب تربيتنا وحياتنا ومنظور ثقافتنا … إلخ .
وأقول إن كثيراً من مثقفينا بهرتهم الثقافة الغربية والعقلية الغربية وظنوا أن ما يوجد فيها ليس له وجود في تفكيرنا الإسلامي وعقلنا الإسلامي . وما ذكرته الدكتورة خير مثال على ذلك فاعتبرت قول أستاذها الأمريكي ( لا أعرف ) في جواب سؤال مثلاً أعلى يجب الاقتداء به .
وأنا أقول لها إن علماء المسلمين قد سبقوا أستاذها الغربي بأكثر من ألف عام عندما قرروا قاعدة لا أدري وأسوق للدكتورة الفاضلة باقة من أقوال علماء الأمة في أهمية أن يقول العالم وطالب العلم لا أدري من باب التذكير فإن الذكرى تنفع المؤمنين :
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :( أيها الناس من علم منكم شيئاً فليقل ومن لم يعلم فليقل لما لا يعلم الله أعلم فإن من علم المرء أن يقول لما لا يعلم الله أعلم وقد قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - :( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) سورة ص : الآية 86 ) رواه البخاري ومسلم .
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه :[ أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله بغير علم ؟ وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن شيء فقال :[ لا أدري ] .
فلما ولى الرجل قال : نعما قال عبد الله بن عمر سئل عما لا يعلم فقال : لا علم لي به .
وعن عبد الله بن يزيد بن هرمز قال :[ إني أحب أن يكون من بقايا العالم بعده : لا أدري ليأخذه من بعده ] .
وعن مجاهد قال :[ سئل ابن عمر عن فريضة من الصلب فقال : لا أدري فقيل له : فما منعك أن تجيبه ؟ فقال : سئل ابن عمر عما لا يدري فقال : لا أدري ] .
وقال عبد الملك بن أبي سليمان :[ سئل سعيد بن جبير عن شيء فقال : لا أعلم ثم قال : ويل للذي يقول لما لا يعلم : إني أعلم ] .
وعن القاسم قال :[ يا أهل العراق إنّا والله لا نعلم كثيراً مما تسألونا عنه ولأن يعش المرء جاهلاً إلا أنه يعلم ما افترض الله عليه خير له من أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم ] .
وعن ابن عون قال :[ كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فسأله عن شيء فقال القاسم : لا أحسنه فجعل الرجل يقول : إني دفعت إليك لا أعرف غيرك . فقال القاسم : لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي والله ما أحسنه فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه : يا ابن أخي الزمها فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم . فقال القاسم : والله لأن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي به ] .
وعن ابن وهب قال : سمعت مالكاً يقول :[ سأل عبد الله بن نافع أيوب السختياني عن شيء فلم يجبه فقال له : لا أراك فهمت ما سألتك عنه قال : بلى قال : فلم لا تجيبني ؟ قال : لا أعلمه ] .
وكان عبد الرحمن بن مهدي يقول :[ كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال : يا أبا عبد الله جئتك من مسيرة ستة أشهر حملني أهل بلدي مسألة أسألك عنها قال : فسل فسأله الرجل عن مسألة قال : لا أحسنها قال فبهت الرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء قال فقال : فأي شيء أقول لأهل بلدتي إذا رجعت لهم ؟ قال : تقول لهم قال مالك : لا أحسن ] .
ذكر هذه النصوص الحافظ ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله 308-311 .
وأخيراً أقول ليت شعري متى نرجع إلى أصول ثقافتنا العربية الإسلامية وإلى كنوزها العظيمة ومتى نترك تمجيد الغرب وثقافته ومتى نعرف أن أمتنا الإسلامية قد سبقت الغرب في ميادين كثيرة ولكن العجز والتقصير في جيلنا الحاضر .
إنني أدعو مثقفينا وأساتذة جامعاتنا إلى الرجوع إلى المصدر العذب الخالي من الشوائب ليشربوا منه وليتركوا المصادر الكدرة .
والله الهادي إلى سواء السبيل
نُشر في جريدة القدس بتاريخ 23/6/2002 م(/1)
لا أستطيع.. مستحيل!
4/9/1423
أ.د.ناصر بن سليمان العمر- المشرف العام على موقع المسلم
*كلمتان تتكرران على الألسنة كثيراً، وهما سبب رئيس لحالة الفشل العامة والخاصة؛ التي تعيشها الأمة,وأفرادها.
إن منبع هاتين الكلمتين؛ هو العجز العقلي, قبل أن يكون عجزاً حقيقياً واقعياً. والعقول العاجزة لا تصنع إلا الفشل. لا مراء ولا جدال أن هناك أموراً في الحياة لا يستطيعها الفرد؛ ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبايع الصحابة يقول لهم: (فيما استطعت)؛ كما في حديث ابن عمر – رضى الله عنهما - وغيره. بل يقول سبحانه تأكيداً لهذا الأمر: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية 286)؛ مما يدل على: أن هناك ما هو فوق الوسع والطاقة. ومن هنا فإن هذه الحقيقة ليست مندرجة في هذا الموضوع الذي نحن بصدده, حتى لا ندخل في جدال لا ينتهي؛ بل ينتهي بنا إلى الوهم الكبير: (لا أستطيع – مستحيل) ويزيد على ذلك: بأن نلبسه لباساً شرعياً. إن هاتين الكلمتين - مع ما بينهما من فرق في اللغة والدلالة والمعنى - فقد أصبحتا قانوناً لكل عجز,وتأخر, وتفريط. تساقان للتبرير, والتخدير, وتحطيم العزائم ووأد النجاح. كثير من الناس، وأجيال تتلوها أجيال، جعلت من هاتين الكلمتين: نبراساً لحياتهم ومنهجاً لتفكيرهم، ومنطلقاً للشعور بعدم التقصير، وأساساً للرضى بالواقع المرير. إنني أقف مدهوشاً أمام هذا التخلف الرهيب, في واقع الأمة وحياتها؛ مع ما تملكه من مقومات النجاح, والتفوق, والريادة, والسيادة. ومن ثم, أعملت تفكيري في هذا الأمر الجلل؛ فتوصلت - بعد مراحل من البحث والتحليل، والسبر والتقسيم - إلى أن من أهم الأسباب في ذلك – والأسباب كثيرة–: تحول هذا الوهم الكبير: (لا أستطيع – مستحيل) إلى قاعدة صلبة في حياة كثير من أفراد الأمة أولاً، وشعوبها ثانياً. منها ينطلقون، وفي ظلامها يسيرون. وكم جر علينا هذا الوهم - ولا يزال-: من مآس , وتأخر, وتقهقر في أمور الدين والدنيا؛ ولذلك فإن من أخطر ما يتعلق بهذا الأمر هو: عدم الإدراك بأنه وهم، لا يثبت عند التحقيق , والتمحيص. فترى من يفني جزءاً من حياته للدفاع عن هذا الصنم؛ ليثبت أنه ركن صلب, وحقيقة قائمة، ومسلمة لا مراء فيها.
إن هذا الوهم لم ينشأ بين عشيه وضحاها؛ وإنما هو ثمرة لمجموعة من التراكمات والعوامل؛ نشأت على مر السنين والأعوام. وهو إفراز لظروف مرت بها الأمة في تاريخها الطويل. فبدل أن تنتج من رحم المعاناة رجالاً؛ يقودون الأمة إلى الرقي, والتقدم دون استسلام للصعوبات، والعقبات وبنيات الطريق؛ وإذا بتلك العوامل تكون سببا لمزيد من الإحباط, واليأس, والفشل, والتردي في هوة الوادي السحيق.
كم يتعجب المرأ عندما يرى أمة وثنية؛ اتخذت من الشدائد منطلقاً لرقيها ومزاحمتها لأشد أعدائها,دون أن تستسلم للهزيمة النفسية، والإحباط المعنوي. فهذه اليابان جعلت من حطام قنبلتي (هيروشيما, وناجازاكي) وقوداً سريع الإنضاج, لما وصلت إليه من رقى, وتحضر في أمور الدنيا؛ حتى أصبحت رقماً مهماً في المعادلة الاقتصادية الدولية، ولم تجعل من تلك الهزائم, والفواجع وسيلة للبكاء , واستدرار عطف الآخرين. أما ألمانيا؛ فقد خرجت من تحت أنقاض الخراب والدمار دولة كبرى. يحسب لها المجتمع الدولي ألف حساب. وأصبح اقتصادها من أقوى ركائز الاقتصاد في العالم مع أنه لم يمر على تدمير ألمانيا سوى سنوات معدودة؛ حيث إن النقلة بين التاريخيين لا تزيد عن (30) عاماً. إنني أسرح في تفكيري بعيداً !! فأقول: يا تُرى , لو أن المجددين والمصلحين -من قادة الأمة - استسلموا لهذا الوهم الكبير: (لا أستطيع – مستحيل)، كيف سيكون حال الأمة ومصيرها ؟!!
لو أن أبا بكر – رضي الله عنه – قال: لا أستطيع مقاتلة العرب بعد ارتدادهم واستسلم لهذا الواقع المرير – وحاشاه من ذلك – كيف ستكون النتيجة ؟! إن مجرد التفكير في ذلك؛ يحدث هزة ورعباً.(/1)
لو أن أحمد بن حنبل – رحمه الله – لم يقف ذلك الموقف الصعب الصلب , في وجه قادة الفتنة , من أساطين المبتدعة , المدعومين من حكام لم يدركوا خطورة ما فعلوا واستسلم لـ (لا أستطيع – مستحيل), فهل يا ترى يكون قد تحقق ذلك النصر المذهل , لأهل السنة على يد رجل واحد، تخلى عنه أقرب الناس إليه، وبقى في الميدان وحيداً، يواجه عتاة الفتنة العمياء، وتأول المحبين؟!. لو أن صلاح الدين الأيوبي –رحمه الله - استسلم لذلك الذل الرهيب , الذي كانت تعيشه الأمة تحت استعمار الصليبيين، وهم يدنسون بقعة من أقدس البقاع في الأرض، معللاً نفسه بأنه: لا يستطيع أن يواجه تلك القوى الغاشمة , التي تملك أقوى الأسلحة المادية، مع الدعم اللا محدود من كثير من بلدان العالم، ورضى لنفسه ما رضيه كثير من حكام زمانه؛ بالخضوع والخنوع, مع ضمان الملك والسلطان. لو أنه فعل ذلك، وقال: إن إخراج النصارى ومواجهتهم مستحيلة، أكانت القدس تطهر من براثن الصليبيين وحقدهم ؟!! قد تمر سنوات طويلة؛ حتى يتحقق ما تحقق على يد صلاح الدين في حطين، وما أشبه الليلة بالبارحة!
إن هاتين الكلمتين - مع ما بينهما من فرق في اللغة والدلالة والمعنى - فقد أصبحتا قانوناً لكل عجز,وتأخر, وتفريط. تساقان للتبرير, والتخدير, وتحطيم العزائم ووأد النجاح
لو أن شيخ الإسلام، ابن تيمية – رحمه الله – لم يشمر عن ساعد الجد علماً وعملاً وجهاداً، في زمن سيطر عليه الجمود، وارتفعت فيه أصوات أهل الباطل، من المبتدعة، وأرباب الكلام، مع هزائم سياسية وعسكرية؛ عانت منها الأمة في وقته لو أنه استسلم لعقيدة (لا أستطيع – مستحيل)، أيكون قد حفظ لنا التاريخ ذلك التراث الضخم من البطولات، والصولات، والجولات، والعلم الغزير، والمنهج السديد الرصين، والتحدي للباطل - حتى آخر نفس من حياته، وهو فرد واحد، ولكنه كان يأوي إلى ركن شديد؟!!
ولو أن محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – وقد وجد الجزيرة تعيش في ظلمة الجهل، والبدع، والتقليد، والتعصب، لو أنه رضي لنفسه ما رضيه غيره من الطيبين والأخيار، وتناغم مع ذلك الوهم الذي أصبح واقعاً: (لا أستطيع – مستحيل)، فهل يا ترى تكون الجزيرة قد تخلصت من بدعها، وشركياتها واستيقظت من نومها , وسباتها ؟!! علم ذلك عند ربي جل وعلا.
وتاريخنا الطويل مليء بمثل أولئك الرواد من القادة، والمصلحين، والمجددين، الذين سطروا بمداد من نور أروع الأمثلة، والنماذج على قدرة المسلم على تحطيم اعتي العقبات الحسية، والمعنوية دون أن يستسلموا للهزيمة النفسية والتخدير المركب.
سيقول كثيرون: إن أولئك الرجال عظماء، وقليل ما هم !!
فأقول: إننا لم نعرف أنهم عظماء؛ إلا بعد أن سجلوا تلك الصفحات المشرقة وقاموا بتلك البطولات الرائعة في شتى الميادين؛ وإلا فإنهم قبل ذلك رجال عاديون؛ ولكنهم - لأسباب كثيرة - تدرجوا في قصة النجاح الطويلة، التي جعلت منهم أبطالاً وقادة. وكان على قمة تلك الأسباب: تحطيم ذلك الوهم الكبير (لا أستطيع – مستحيل).
--------------------------------------------
* نشر هذا المقال في موقع الإسلام اليوم بتاريخ 4/9/1423(/2)
لا أستطيع – مستحيل
أ.د/ناصر بن سليمان العمر 4/9/1423
19/11/2001
كلمتان تتكرران على الألسنة كثيراً ، وهما سبب رئيس لحالة الفشل العامة والخاصة ؛ التي تعيشها الأمة,وأفرادها .
إن منبع هاتين الكلمتين ؛ هو العجز العقلي , قبل أن يكون عجزاً حقيقياً واقعياً . والعقول العاجزة لا تصنع إلا الفشل .
لا مراء ولا جدال أن هناك أموراً في الحياة لا يستطيعها الفرد ؛ ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم - وهو يبايع الصحابة يقول لهم : ( فيما استطعت ) ؛كما في حديث ابن عمر – رضى الله عنهما - وغيره .
بل يقول سبحانه تأكيداً لهذا الأمر : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ) ( البقرة: من الآية 286) ؛ مما يدل على : أن هناك ما هو فوق الوسع والطاقة . ومن هنا فإن هذه الحقيقة ليست مندرجة في هذا الموضوع الذي نحن بصدده , حتى لا ندخل في جدال لا ينتهي ؛ بل ينتهي بنا إلى الوهم الكبير :
( لا أستطيع – مستحيل ) ويزيد على ذلك : بأن نلبسه لباساً شرعياً .
إن هاتين الكلمتين - مع ما بينهما من فرق في اللغة والدلالة والمعنى - فقد أصبحتا قانوناً لكل عجز,وتأخر, وتفريط . تساقان للتبرير , والتخدير , وتحطيم العزائم ووأد النجاح .
كثير من الناس ، وأجيال تتلوها أجيال ، جعلت من هاتين الكلمتين: نبراساً لحياتهم ومنهجاً لتفكيرهم ، ومنطلقاً للشعور بعدم التقصير ، وأساساً للرضى بالواقع المرير .
إنني أقف مدهوشاً أمام هذا التخلف الرهيب , في واقع الأمة وحياتها ؛ مع ما تملكه من مقومات النجاح,والتفوق, والريادة , والسيادة . ومن ثم , أعملت تفكيري في هذا الأمر الجلل ؛ فتوصلت - بعد مراحل من البحث والتحليل، والسبر والتقسيم - إلى أن من أهم الأسباب في ذلك – والأسباب كثيرة– :تحول هذا الوهم الكبير : ( لا أستطيع – مستحيل ) إلى قاعدة صلبة في حياة كثير من أفراد الأمة أولاً، وشعوبها ثانياً . منها ينطلقون ، وفي ظلامها يسيرون.
وكم جر علينا هذا الوهم - ولا يزال- : من مآس , وتأخر, وتقهقر في أمور الدين والدنيا ؛ ولذلك فإن من أخطر ما يتعلق بهذا الأمر هو : عدم الإدراك بأنه وهم ، لا يثبت عند التحقيق , والتمحيص . فترى من يفني جزءاً من حياته للدفاع عن هذا الصنم ؛ ليثبت أنه ركن صلب , وحقيقة قائمة ، ومسلمة لا مراء فيها .
إن هذا الوهم لم ينشأ بين عشيه وضحاها ؛ وإنما هو ثمرة لمجموعة من التراكمات والعوامل ؛ نشأت على مر السنين والأعوام . وهو إفراز لظروف مرت بها الأمة في تاريخها الطويل . فبدل أن تنتج من رحم المعاناة رجالاً ؛ يقودون الأمة إلى الرقي , والتقدم دون استسلام للصعوبات , والعقبات وبنيات الطريق ؛ وإذا بتلك العوامل تكون سببا لمزيد من الإحباط , واليأس , والفشل , والتردي في هوة الوادي السحيق .
كم يتعجب المرأ عندما يرى أمة وثنية ؛ اتخذت من الشدائد منطلقاً لرقيها ومزاحمتها لأشد أعدائها,دون أن تستسلم للهزيمة النفسية ، والإحباط المعنوي .
فهذه اليابان جعلت من حطام قنبلتي ( هيروشيما , وناجازاكي ) وقوداً سريع الإنضاج , لما وصلت إليه من رقى, وتحضر في أمور الدنيا ؛ حتى أصبحت رقماً مهماً في المعادلة الاقتصادية الدولية ، ولم تجعل من تلك الهزائم, والفواجع وسيلة للبكاء , واستدرار عطف الآخرين .
أما ألمانيا ؛ فقد خرجت من تحت أنقاض الخراب والدمار دولة كبرى . يحسب لها المجتمع الدولي ألف حساب. وأصبح اقتصادها من أقوى ركائز الاقتصاد في العالم مع أنه لم يمر على تدمير ألمانيا سوى سنوات معدودة ؛ حيث إن النقلة بين التاريخيين لا تزيد عن ( 30 ) عاماً .
إنني أسرح في تفكيري بعيداً !! فأقول : يا تُرى , لو أن المجددين والمصلحين -من قادة الأمة - استسلموا لهذا الوهم الكبير : ( لا أستطيع – مستحيل ) ، كيف سيكون حال الأمة ومصيرها ؟!!
لو أن أبا بكر – رضي الله عنه – قال : لا أستطيع مقاتلة العرب بعد ارتدادهم واستسلم لهذا الواقع المرير – وحاشاه من ذلك – كيف ستكون النتيجة ؟! إن مجرد التفكير في ذلك ؛ يحدث هزة ورعباً .
لو أن أحمد بن حنبل – رحمه الله – لم يقف ذلك الموقف الصعب الصلب , في وجه قادة الفتنة , من أساطين المبتدعة , المدعومين من حكام لم يدركوا خطورة ما فعلوا واستسلم لـ ( لا أستطيع – مستحيل ) , فهل يا ترى يكون قد تحقق ذلك النصر المذهل , لأهل السنة على يد رجل واحد ، تخلى عنه أقرب الناس إليه ، وبقى في الميدان وحيداً، يواجه عتاة الفتنة العمياء ، وتأول المحبين؟! .(/1)
لو أن صلاح الدين الأيوبي –رحمه الله - استسلم لذلك الذل الرهيب , الذي كانت تعيشه الأمة تحت استعمار الصليبيين ، وهم يدنسون بقعة من أقدس البقاع في الأرض ، معللاً نفسه بأنه : لا يستطيع أن يواجه تلك القوى الغاشمة , التي تملك أقوى الأسلحة المادية ، مع الدعم اللا محدود من كثير من بلدان العالم ، ورضى لنفسه ما رضيه كثير من حكام زمانه ؛ بالخضوع والخنوع , مع ضمان الملك والسلطان . لو أنه فعل ذلك ، وقال: إن إخراج النصارى ومواجهتهم مستحيلة ، أكانت القدس تطهر من براثن الصليبيين وحقدهم ؟!! قد تمر سنوات طويلة ؛ حتى يتحقق ما تحقق على يد صلاح الدين في حطين ، وما أشبه الليلة بالبارحة!
لو أن شيخ الإسلام ، ابن تيمية – رحمه الله – لم يشمر عن ساعد الجد علماً وعملاً وجهاداً ، في زمن سيطر عليه الجمود ، وارتفعت فيه أصوات أهل الباطل ، من المبتدعة ، وأرباب الكلام ، مع هزائم سياسية وعسكرية ؛ عانت منها الأمة في وقته لو أنه استسلم لعقيدة ( لا أستطيع – مستحيل ) ، أيكون قد حفظ لنا التاريخ ذلك التراث الضخم من البطولات ، والصولات ، والجولات ، والعلم الغزير ، والمنهج السديد الرصين ، والتحدي للباطل - حتى آخر نفس من حياته ، وهو فرد واحد ، ولكنه كان يأوي إلى ركن شديد؟!!
ولو أن محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – وقد وجد الجزيرة تعيش في ظلمة الجهل ، والبدع ، والتقليد ، والتعصب ، لو أنه رضي لنفسه ما رضيه غيره من الطيبين والأخيار ، وتناغم مع ذلك الوهم الذي أصبح واقعاً : ( لا أستطيع – مستحيل ) ، فهل يا ترى تكون الجزيرة قد تخلصت من بدعها ، وشركياتها واستيقظت من نومها , وسباتها ؟!! علم ذلك عند ربي جل وعلا .
وتاريخنا الطويل مليء بمثل أولئك الرواد من القادة ، والمصلحين ، والمجددين ، الذين سطروا بمداد من نور أروع الأمثلة ، والنماذج على قدرة المسلم على تحطيم اعتي العقبات الحسية ، والمعنوية دون أن يستسلموا للهزيمة النفسية والتخدير المركب .
سيقول كثيرون: إن أولئك الرجال عظماء ، وقليل ما هم !!
فأقول : إننا لم نعرف أنهم عظماء ؛ إلا بعد أن سجلوا تلك الصفحات المشرقة وقاموا بتلك البطولات الرائعة في شتى الميادين ؛ وإلا فإنهم قبل ذلك رجال عاديون ؛ ولكنهم - لأسباب كثيرة - تدرجوا في قصة النجاح الطويلة ، التي جعلت منهم أبطالاً وقادة . وكان على قمة تلك الأسباب : تحطيم ذلك الوهم الكبير ( لا أستطيع – مستحيل )(/2)
لا أمل ولا حل إنها النهاية!!
الوسواس القهري [1]
لا أمل .. ولا حل .. إنها النهاية' صرخة تنفجر من أعماق طالما تألمت وعانت وقاست بل وحاولت الخروج من هذا البئر الغائر مرات ومرات ولم ينلها إلا انفلات يديها الصاعدة من على الجدران الزلقة ويأس عينيها من التطلع إلى النور في الأعلى إنه في كل حين وبعد كل محاولة فاشلة يتباعد ضوؤه ويقل هجه وتنخفض الرأس المتطلعة لرؤياه فتعود لا تنظر إلا إلى قعر البئر الغائر تري عمقه وتشعر برودة جدرانه فتفقد الهمة للصعود وتعود لا ترى إلا الهبوط والركون ... كلا وألف كلا ما هذه الحياة يغلفها اليأس والقنوط ما هذه الحياة التي تفقد قيمتها حين يفقد الإنسان قدرته على المقاومة والإرادة وتحقيق أحلامه وطموحاته ما تساوي هذه الحياة إذا تحول الإنسان فيها إلى مجرد كيان مادي جسدي محطم النفس والروح كلا ما لهذا خلقنا الله تعالى وما لهذا فضلنا على باقي الخلائق إنما هو الطموح والإرادة إنما هو التصميم والمثابرة إنما هو الأمل لا ينقطع أبدًا والصبر يتجدد دوما وتأملوا معي هذا الحديث النبوي الشريف.
'ما أنزل الله من داء إلا وأنزل معه الدواء علمه من علمه وجهله من جهله' جبال الحكمة وأطنان الأمل وينابيع الرحمة تنفجر عيونا من هذا الحديث النبوي الشريف لنبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم وكيف لا وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم ومنتهى البلاغة وهداه الله قلبا يفيض بالرحمة على الخلق كلهم حيهم وميتهم جمادهم ومتحركهم فهو يبث الأمل في النفوس ويشع اليقين للقلوب ومنه هذا الحديث الذي ننطلق منه ها هنا في حوارنا كيف ذلك؟ تابعونا:
[1] 'ما أنزل الله من داء إلا وأنزل معه الدواء' يقين لو ملأ جوانح المسلم وقلبه لما تسرب اليأس إلى النفوس ولما تسرب الشيطان إلى القلوب بالقنوط من رحمة الله تعالى أو الإحباط من تكرار المحاولة إنه الدواء خلقه الله كما خلق الداء إنه الحل أوجده الله تعالى كما أوجد المشكلة مثلا بمثل فكما ترى المشكلة أو المأساة رأي العين فكذا الحل كن على يقين أنه قريب منك رأي العين فالذي خلق هذا خلق هذا سواء بسواء ولكنه اليقين والثقة فأين تراها ذهبت؟ {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] إنه الإيمان بالغيب مناط الامتحان في الدنيا لم يعدهم الله ورسوله التضييق والقتل وإنما وعدهم النصر ولكنهم رأوه حقيقة عيانا كما يرون بأعينهم الأحزاب قد اجتمعوا لقتالهم والقضاء عليهم تأمل معي هكذا وستتأكد أن الله تعالى في كل الامتحانات والمواقف التي نتعرض لها في الدنيا إنما يمتحن فينا إيماننا بالغيب ولما وصف الله تعالى في مفتتح كتابة أهل الإيمان كانت أول صفاتهم {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] ثم بعد ذلك بين لنا الوسائل التي بها يزرع العبد هذا الإيمان بالغيب في القلوب عن طريق الإتيان بالعبادات الشرعية بالصورة السليمة'.
الذين يقيمون الصلاة .. 'إنه في نهينا عن المنكرات إنما يمتحن إيماننا بالغيب بعدم بيان الحكمة من النهي في كثير من الأحيان ومع ذلك نطيعه للإتباع والإيمان بالغيب أنه تعالى أخبرنا أنه حرم هذا وانتهى وكذا في الأوامر إنما هو التنفيذ والإتباع والتسليم وهو حقيقة الإسلام في مضمونه ومجمله وتفصيله إنه اليقين بأن كل ما أخبرنا به الله تعالى حق وكذا ما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم ثم كيف يكون حال المسلم وهو على يقين أن الدواء لهذا الداء أو ذاك موجود مخلوق وإنما يلزم بذل الجهد فقط لتحصيله إنه لا ييأس ولا ييأس أبدا ولا يمل ولا يكل فهو في معين الرضا والاطمئنان أن الأمر ما هو إلا مسألة وقت فقط وأنه إن تأخر فإنما يؤدي عبادة الوقت ألا وهي الصبر والرضا والثقة بالله ورحمته لعباده وعدم إساءة الطن بربه تعالى وحتى وهو يقضي الوقت يبحث عن الحل فهو يؤجر على ذلك ولا يضيع بحثه وبذله سدى بل الله تعلى يحفظه له ويبارك له فيه فبوركت والله هذه الحياة التي تمتلئ رضا بالله واختياره لعبيده حتى والعبد من أصعب اللحظات لا يفقد الوصلة بربه وأنه الرحيم بأنه وإنما يرفع درجته ويعلي مكانته فياله من بؤس ينقلب نعيمًا ويا لبؤس من فقد هذا اليقين كم تنقلب حياته هما وغما وهو يرفل في أثواب الصحة والنعيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'يؤتى بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة فيغمس في الجنة غمسة فيقال له: هل رأيت بؤسا قط؟ هل مرت بك شدة قط؟ فيقول لا يا رب ويؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيغمس في النار غمسة ويقال له: هل رأيت نعيمًا قط؟ فيقول: لا والله يا رب' إنه اختلاف المقاييس يحفظه الموقن جيدًا ويغفل عنه من لا يعرف الله تعالى حق المعرفة فحقًا' ما أنزل الله من داء إلا وأنزل معه الدواء'.(/1)
[2] 'علمه من علمه وجهله من جهله' هذا هو الشق الثاني من الحديث وهو الذي سيرد على التساؤل الذي لا بد سيرد على الأذهان بعدما ذكرناه في تفسير وبيان معنى الشق الأول وهو كيف بنا إن صبرنا وصبرنا ولم نجد حلا؟! أهو الصبر إلى الممات ذلك الذي تعنيه بقولك الصبر واليقين وكيف ذلك؟ ما دم الحل موجودا فلم لا نصل إليه ولم لا نحصل عليه ولم لا فيض أمل ومزيد يقين لكل هذه الأسئلة وغيرها إنه الدواء لكل مصيبة وأزمة ومشكلة خلقه الله تعالى يقينا ولكن أين هو؟ علمه من علمه وجهله من جهله إن عدم توصلنا للحل إنما يرجع لأسباب عديدة منها:
1ـ أننا لا نعرف عما نبحث بل نحن نضع صورة للحل توافق هوانا ورغبتنا ولا يشترط أن تكون هي الحل كلا بل لا بد من تمام التسليم من المريض للطبيب لتحقق الشفاء التام بإذن الله تعالى إننا في الحقيقة نبحث عما نطمع لا ما نعرف أنه الحل نبحث عن تصوراتنا نحن للحل لا عن حقيقة الحل ودعوني أضرب مثلا بسيطا فقد سألني أحدهم ونحن نتحدث عن كتاب الله تعالى القرآن وعن تصوراتنا حوله كيف أنه بحث في المصحف وهو خاتم له عن الصورة العاطفية الجياشة فلم تلحظها عيناه ثم جعل يبحث عنها ورجا أن تكون في صورة يوسف ولكني استوقفته قليلا سائلا إياه عما يبحث بالضبط؟
ما هي الصورة التي تضعها في ذهنك للعاطفة الجياشة إنها تلك الصورة التي تكونت في أذهاننا وعقولنا من أجهزة إعلامنا وأبواق مجتمعاتنا المجافية لحياة الروح التي أمر بها ربنا تبارك وتعالى إذن أنت تبحث عن صورة لن تجدها لأنها في الحقيقة من صنع تصورات البشر بل الصحيح أنك تبحث عن العاطفة انطلق لتبحث عنها في القرآن ولكن تعلمها من القرآن سله هو عن الصورة السليمة لها فهو المصدر أقبل على النص القرآني لا تبحث عما تريد بل تسأل ما تريده وكيف تحصل عليه؟ بذا تنال الحل على حقيقته وبه يكون الشفاء بإذن الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ[15]يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15ـ16].
2ـ قد يكون بحثنا عن الحل في المكان الخاطئ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: [[علمه من علمه وجهله من جهله]] وفي هذا الأثر علم وحل وأمل فالعلم أن الدواء قد لا يوجد عند من تبحث عنه وهو تنبيه ألا تتجه بالمشاكل إلا لأهل الاختصاص والخبرة والمؤتمنون على دينك وأهل المشورة الصحيحة المعروفين بعلمهم وورعهم وخبرتهم وحرصهم على مصالح الناس والحل أن تعيد البحث عن غير من استشرت ولا يمتنع أن يوجد جزء من الحل عند هذا أو ذاك وتجمع من كل منهم ما يفيدك ويعينك على تجاوز المحن والصبر والثبات وأما الأمل فإن الحل الموجود وإذا فقدته عند أحد فستجده فإذن الله تعالى عند آخر ولكنها الهمة في البحث والتنقيب والصبر يرفعه الله في آخر الطريق جائزة للواصلين المطمئنين إلى وعد الله تعالى.
إذن أيها المريض أقبل فإنما أنت اختيار الله تعالى واصطفاؤه لتكون من حزب الصابرين والراضين بقضاء الله تعالى وقدره, فها هو اليقين يملأ جوانحك أن الله تعالى ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء وأنه سبحانه نبهنا أن هذا الدواء لا يعلمه كل الناس, بل هو مما يحتاج إلى البحث عنه وبذل الجهد لتحصيله, وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن الناس يوم القيامة عندما يرون أجر الصابرين يتمنون أن يعودوا إلى الدنيا فيقرضوا بالمقاريض لما يرون من عظم أجر الصابرين.
ولكل ما سبق يأتي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: [[ولا تداووا بحرام, إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم]] وكيف ونحن في ظلال عبادة المرض عبادة الرضا والصبر والأخذ بالأسباب, فكيف نصلها بالحرام؟ كلا بل هي تنال بالرضا واليقين فاللهم ارفع منازلنا وثبت قلوبنا وزد يقيننا وعلمنا بك تبارك وتعاليت.
وكذا هنا تعاملنا مع مريض الوسواس القهري لأن عدوه خفي غير ظاهر وداءه مرهق لا يستسلم بسهولة ويعتمد على إفشال المحاولات المستمرة للتخلص من العلاج, بل ويضع مرض الوسواس القهري في داخل سلوكياته الجين المقاوم للشفاء بأن يجمع بين السلوك غير المرغوب والاعتقاد بأن ترك هذا السلوك أو التخلي عنه سينبني عليه قلق عظيم وهم شديد, فكلما حاول الشخص التخلص من السلوك المرضي ضغط عليه الوسواس بأن هذا ليس هو الحل وأنه بذلك لم يفعل أكثر من أن سبب لنفسه القلق والاضطراب فضلاً عن إقناعه عند أول فشل أنه لا يمكنه مطلقًا التخلي عن هذا السلوك, فقد أصبح من مكوناته وبالذات إذا كان مستمرًا عليه لسنوات أو شهور كعادة متأصلة, فكم تحتاج من مجهود لإزالتها.(/2)
وسنعرض في الجزء الثاني من هذه المقالة للحديث عن علاج مرضى الوسواس القهري ودرجاته ومراحله حتى يستوعب المريض بنفسه أبعاد هذا المرض وكيفية السيطرة عليه والتعامل معه وحبسه في أضيق الحدود وكذا لمعونة الأهل والمحيطين بمريض الوسواس القهري على التغلب على مرضه وتحجيمه قدر الإمكان والاستطاعة.
ولقد كان من الأهمية بمكان التقديم للحديث عن العلاج بمقدمة تبعث الأمل وتحفظ الصبر وتضمن المواصلة على الطريق للبحث عن الشفاء لأنه قد ثبت من الإحصائيات أن 25% من مرضى الوسواس القهري لا يتم لهم الشفاء, والسبب الرئيس في ذلك هو تخليهم عن الاستمرار في العلاج سواء الدوائي أو المعرفي والسلوكي ومن المعلوم أن السبب الرئيس للانقطاع عن العلاج هو اليأس وفقد الأمل من العلاج مع الأخذ في الاعتبار أن هناك نسبة تمتنع نظرًا لدفع التكلفة المادية, ولكن الأغلب إنما يمتنعون وينقطعون نظرًا لدرجات الإحباط المختلفة التي يواجهونها مع بداية مراحل العلاج المختلفة.
رزقنا الله تعالى وإياكم الصبر والرضا باختياره وجعلنا أهلاً لاصطفائه لنا بالبلاء لرفع الدرجات ووهبنا الثبات على ما يحب رؤيته منا في هذا المقام من مقامات العبودية اللهم آمين وإلى اللقاء في الجزء الثاني.(/3)
لا إله إلا الله مفتاح الجنة
لفضيلة الشيخ/ د.
ياسر بن حسين بن برهامي
الدعوة السلفية بالإسكندرية
Omar_rahal84@hotmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
لاإله إلا الله
كلمة نجاة ومنهاج حياة
هل تساءلت يا أخي يوماً :
ماذا تريد من هذه الحياة؟ وماذا يرد الله من إيجادنا في هذه الحياة؟
لاشك أنك وكل إنسان على ظهر الأرض تبحث عن السعادة والطمأنينة وسكون النفس , ولا شك أن هذا الأمر لا يتحقق إلا بحصول التوافق بين إرادتنا وبين الغاية التي خلقنا الله من أجلها وركب صورتنا لتحقيقها ونحن خلقنا بلا إستشارة منا ولا رضا كما نرحل عن هذه الدنيا بالموت دون إستشارة ولا رضا وفيما بين البداية والنهاية نعيش أيضاً على ما فرطنا وجبلنا عليه إلا أن الله جعل لنا الإرادة والاختيار امتحاناً لنا واختباراً , وأرسل إلينا الرسل وأنزل عليهم الكتب إبلاغاً وإعذاراً , وأوحى إلى جميع الرسل دعوة واحدة لا تتغير , تبين للناس هذه الغاية التي خلقوا من أجلها وفطروا عليها ولا يسعدون إلا بحصولها : فقال الله عز وجل :
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (36) سورة النحل.
وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (25) سورة الأنبياء .
وقال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)} سورة الزخرف .
قال العلماء : هي كلمة لا إله إلا الله .
وقال عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه : {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } (26) سورة هود .
وكذلك هود وصالح وغيرهم من الرسل عليهم السلام .
وقال المسيح: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (72) سورة المائدة .
فكلمة " لا إله إلا الله " هي دعوة الرسل أجمعين وهي عنوان التوحيد وهي العروة الوثقى وهي كلمة النجاة _ فهل هي كلمة تقال ونفعل بعد ذلك ما نفعل؟
لا إله إلا الله منهاج حياة
{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(163)} سورة الأنعام .
فليس التوحيد مجرد كلام يُقال أو أفكار تعتنق فحسب بل الإيمان علم وعمل , عقيدة وشريعة , فهو إيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره , وهو طاعة لله وإخلاص واتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وانقياد , وهو حب لله وشوق له وخوف منه وحده ورجاء لفضله , وهو دعاء وتضرع وخضوع واستسلام لله وحده وهو شكر للنعم وصبر على البلاء وعلى الطاعة وبُعد عن الشهوات .
وهو صلاة وصوم وزكاة وحج وجهاد , وهو ذبح ونذر وحلف بالله وحده لا شريك له , وهو أكل الحلال وترك للحرام في المأكل والمشرب والملبس والمكسب , وهو بر الوالدين وصلة أرحام وإحسان إلى الجيران وحسن خلق مع كل الناس من وفاء بالعهد وأداء للأمانة وترك الغش , وهو تحاكم إلى شرع الله والتزام به واللاضا بحكمه , وهو غض للبصر وحفظ للفرج وحجاب وستر للعورة , وهو دعوة إلى الله ونصرة للدين وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وإقامة الشرع في الأرض كلها , وهو إنتماء إلى حزب المؤمنين , حزب الله سبحانه وتعالى وترك أحزاب الضلال أتبْاع الشيطان.
فهو إجمالاًأن الإنسان في كل أموره حنيفاً لله , أي متوجهاً إليه , متقرباً إليه على ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (30) سورة الروم .
معنى لاإله إلا الله
قال تعالى : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (19) سورة محمد .
فالعلم بمعنى لا إله إلا الله فرض على كل مُكلف , والإله: هو المعبود والذي (يفزع) إليه الخلائق في حوائجهم .
فمعنى لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله ولا يلجأ العباد ويضرعون ويفزعون في كل ما ينوبهم إلا إلى الله وهو الذي تشتاق إليه وتميل إليه .
ومن هنا تعلم خطأ من ظن أن معنى الإله أنه القادر على الخلق والإختراع فحسب , حيث أن ( المشركين ) كانوا يقرون بذلك وإنما طالبهم رسلهم بان يقروا بأنه لا يستحق العبادة إلا الله , فمن أقر بوجود الله ثم عبد غيره أو كذب رسله فهو كافر بالله مخلد في النار , وكذلك من دعا غير الله أو استغاث به أو ذبح له من دون الله بعد بلوغ الحجة .(/1)
وكلمة لا إله إلا الله تتضمن الكفر بالطاغوت في شقها الأول (لا إله) وهي نفي الإلهية واستحقاق العبادة عن كل أحد دون الله , وتتضمن الإيمان بالله في شقها الثاني (إلا الله) .
قال تعالى: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256) سورة البقرة .
قال العلماء ( العروة الوثقى : هي لا إله إلا الله ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله " رواه مسلم وأحمد.
فالنطق بها علامة على الكفر بما يعبد من دون الله فلا يتم الإيمان بالله إلا بالكفر بالطاغوت , فما هو الطاغوت؟ وما معنى الكفر به؟
معنى الطاغوت وصفته الكفرية
الطاغوت: أصله الطغيان وهو مجاوزة الحد , فالطاغوت هو كل ما جاوز العبد به حده_ أي حد العبودية _وادعى لنفسه صفة أو حقاً من حقوق الألوهية أو الربوبية , فالطاغوت يشمل كل من عبد من دون الله وهو راض ويشمل رؤوساً خمسة هم السبب في ضلال أكثر العالم .
أولهم الشيطان الداعى لعبادة غير الله , قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (60) سورة يس .
فما معنى عبادة الشيطان؟ وهل هُناك من يقول أن إلهه هو الشيطان؟
ألا نرى أن الجميع حتى الكفار يسبون الشيطان ويلعنونه؟! بلى ولكن عبادة الشيطان هي طاعة في الكفر والشرك وتكذيب الرُسل عليهم السلام , فمن قبل ذلك منه وأطاعه فيه فقد عبده من دون الله .
الثاني من رؤوس الطواغيت :
الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله والدليل القاطع عل ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (60) سورة النساء .
نزلت فيمن أراد التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي أو إلى بعض الكُهان وهي تشمل كل من يتحاكم إلى من يحكم بغير ما أنزل الله , لا شك أن الذي يحكم بغير ما أنزل الله قد جاوز حد العبودية التي تستلزم تلقي أحكام الله وشرعه بالقبول ( والأذعان ) ونسب إلى نفسه الربوبية في التشريع .
قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (54) سورة الأعراف .
وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} (21) سورة الشورى .
فسمى الله من اتخذ من يُشرع له من دون الله مشركاً وهؤلاء المشرعين شركاء بالباطل فالله لا شريك له في خلقه كذلك .
والثالث من رؤوس الطواغيت:
الأحبار والرهبان الذين يُبدلون الشرع .
( أي علماء السوء وعباد السوء ) جرياً وراء الدنيا , قال تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (31) سورة التوبة .
فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقولهِ: " ألم يحلوا لكم الحرام , ويحرموا عليكم الحلال فأتبعتومُهم فتلك عبادتهم " (1)
والرابع والخامس من رؤوس الطواغيت:
الساحر والكاهن , فالساحر يدعي الضر , والنفع والخلق , وتقليب القلوب وكل هذه من صفات الربوبية , والكاهن يدعى علم الغيب , وعلم الغيب استأثر سبحانه وتعالى به .
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (59) سورة الأنعام .
وصفات الكفر بالطاغوت
أن يعتقد بطلان ما زعموه لأنفسهم من صفات أو حقوق الإله الحق لا شريك له , وأن يُصرح بلسانه بذلك , وبأن يعلم أنه حين ينطق بلاَ إله إلا الله فإنه يعني بها تكذيب كل هؤلاء أو غيرهم ممن يعبد من دون الله , ثم يكون عمله مُطَابقاً لقوله وأعتقاده فلا يُطيع الشيطان ولا يستجيب لدعائه فيما يأمرون به من الكفر والمعاصي ولا يتحاكم إلى من يحكم بغير ما أنزل الله , ولا يتبع من بدل شرع الله , ولا يأتي السحرة والكهان ثم تكميل هذا كله بالجهاد باللسان واليد والمال والنفس لإبطال عبادة الطواغيت من على ظهر الأرض وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد:
(1)هذا الحديث حسن : رواه الترمذي والبيهقي في الكبير وحسنه الألباني في صحيح الترمذي .(/2)
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (39) سورة الأنفال .
الولاء والبراء
من حقيقة معنى لا إله إلا الله
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أوثق عُرى الإيمان الحب في الله والبُغض في الله ) (1) .
هل يتصور مؤمن يحب الله ويعبده وفي نفس الوقت يكره المؤمنين ويعاديهم ولا يُنصرهم؟!.
لا يتصور هذا إلا ممن لا يعرف حقيقة الإيمان .
قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } (22) سورة المجادلة .
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (51) سورة المائدة .
فإن قال قائل: أليس اليهود والنصارى يؤمنون بالله؟
نقول لا نجيب نحن ولكن يجيبكم القرآن , قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (72) سورة المائدة .
وقال تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} (73) سورة المائدة .
(1) حسن رواه الطبراني في الكبير وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2536) .
وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}سورة التوبة .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار " رواه مسلم والإمام أحمد .
و إن قال قائل: أليسوا أهل كتاب؟ فنقول , قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (6) سورة البينة , فمن كذب محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر وإن كان من أهل الكتاب .
فإن قيل لنا: أليس الدين لله والوطن للجميع؟
قلنا: بل الدين له والأرض كُلها _وليس الوطن فقط_ لله رب العالمين بلا شريك له , قال تعالى: { إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (128) سورة الأعراف .
ويكفي في إبطال روابط القومية والوطنية هذه الآيات البينات من سورة الممتحنة .
قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (4) سورة الممتحنة .
فإن قالوا: ألم يقل الله: { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} (82) سورة المائدة .
قلنا لهم: أكملوا الآية ولا تبتلروها حتى تعلموا من هؤلاء .
قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (83) سورة المائدة .
فهذه الآية نزلت فيمن آمن منهم كالنجاشي وغيرهم وأما من لم يؤمن فقد قال الله فيهم: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (29) سورة التوبة .
ومن أوضح صور موالاة المشركين النهي التشبيه بهم في هديهم سواء الظاهر منه أو الباطن , قال صلى الله عليه وسلم " من تشبه بقومٍ فهو منهم"(/3)
ومن التشبه بهم في أعيادهم الباطلة التي هي من شعائر دينهم الباطل .
قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (72) سورة الفرقان .
قال المفسرون في تفسيرها: أي أعياد المشركين
الإسلام دين السماحة والعدل
نعم ولكن هناك فرق بين المحبة والرضا بملة غير الإسلام , وبين العدل والسماحة .
فالمسلم لا يظلم ولو كافراً , ولا يغدر , ولا ينقض عهداً , وهويحسن إلى من لم يحاربه في الدين وإن كان يكرهه ويبغضه على كفره , فالبر والقسط غير المحبة والموالاة والتشبه , ويجوز للمسلم البيع والشراء والإجارة وقبول الهدية والإهداء تألفاً للكفار , ولا يجوز له محبتهم , ولا نصرتهم ولا مدحهم على باطلهم ولا متابعتهم ولا طاعتهم ولا صداقتهم قال صلى الله عليه وسلم: " لا تصاحب إلا مؤمناً " رواه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني .
هل نحن متطرفون؟؟
أخي: عرضنا عليك عقيدتنا في كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) بالأدلة الواضحة من الكتاب والسنة الصحيحةفليس من حقنا أو حق أي إنسان أن ينسب إلى الإسلام قولاً أو فعلاً إلا بدليل من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وعلمائها , فهل من أعتقد ذلك وعمل بها يكون متطرفاً؟
فإن كان كذلك فوالله إنا لفي الطرف الذي عليه الكتاب السنة وإن فارقنا العالم أجمع , والموعد غداً بين يدي الله { يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (3) سورة الممتحنة .
فانظر لنفسك أين تكون غداً , فأنت تقرره اليوم .
{وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (173) سورة الصافات .
وكتبه :
ياسر برهامي
والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته.(/4)
لا إيمان بدون عمل ...
الإيمان عند أهل السنة والجماعة، الذين هم على ما كان عليه النبي عليه الأمين وأصحابه الكرام: "قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية".. قال الإمام ابن أبي شيبة: " الإيمان عندنا قول وعمل يزيد وينقص"، الإيمان له..
وقال الإمام البخاري: " كتبت عن ألف نفر من العلماء، لم أكتب إلا عمن قال الإيمان: قول وعمل، ولم أكتب عمن قال: الإيمان قول". اللالكائي ..
وللسلف تعريف آخر للإيمان وهو أنه:
اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح..
فالعمل:
- جزء من الإيمان، وركن من أركانه،..
- يزيد الإيمان بزيادة العمل لله، وينقص الإيمان بنقصانه، وينعدم بانعدامه.
هذا هو اعتقاد الطائفة المنصورة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وكل اعتقاد يخالف هذا الاعتقاد فهو باطل..
(الإيمان: قول= تأخر وانحطاط)...
والمؤسف أن هذه العقيدة النبوية الإيمانية الصحيحة غابت عند كثير من المسلمين وحل محلها عقيدة المرجئة، الذين يقولون:
الإيمان في القلب، وإن كان لا بد فنطق اللسان، أما العمل فلا يشترط في الإيمان، وليس جزءا منه، بل هو من كمال الإيمان، وأن الإيمان لايضر معه ذنب..
هذه العقيدة الباطلة أسهمت بشكل فعال في تدمير قوة المسلمين وعلوهم على أعدائهم الكافرين، فالمسلمون إنما يستمدون قوتهم وعلوهم من العقيدة الصافية التي كان عليها رسول الله وأصحابه من بعده، وأي انحراف عن هذه العقيدة فإنه يفضي إلى نزع المهابة من قلوب الأعداء، ويصيب المسلمين بالوهن، وهذا ما حدث بالفعل:
لما انتشر بين المسلمين عقيدة المرجئة التي تسوغ للمسلم ترك الطاعات، وتغرس في نفسه كفاية التصديق بالقلب، وتقنعه أن إيمانه كامل ولو لم يعمل خيرا قط، وتخفف عليه خطورة المعصية، وتفهمه أن إيمانه لايتضرر بارتكاب الذنوب، وقع الناس في أمرين خطيرين:
1ـ تحامى الناس الطاعات وتقللوا منها، واكتفوا منها ببعض الواجب، وتركوا باقي الواجبات، صارت قناعتهم أن الدين لايطلب منا سوى بعض الطاعات اليسيرة، وأما باقي الطاعات فليست واجبة، بل صاروا يتهمون من يلتزم بالواجبات قدر المستطاع بالتشدد والتنطع والتطرف، ويسمونه بالمتطوع، وما ذاك إلا لأنهم قنعوا بما هم عليه، وظنوا أن الدين صلاة الفرض وصيام رمضان وحج البيت وزكاة المال فحسب، ومازاد على ذلك فهو تطوع، مع أن ما يعدونه تطوعا إنما هو واجب لايجوز للإنسان تركه:
أليسوا يسمون من أطلق لحيته، وقصر ثوبه، وغض بصره، ولم يسمع الأغاني، متطوعا؟..
مع أن هذه الأمور وغيرها ليست من باب التطوع، بل من هي باب الفريضة، لكن هذا الفكر الذي اعتنقه كثير من الناس بدراية أو بغير دراية، هو الذي يقول لهم إن هذه تطوعات لا واجبات.
2ـ كذلك لما انتشر في المسلمين عقيدة المرجئة القائلة: لايضر مع الإيمان ذنب..
انطلق كثير منهم في المعاصي دون خوف أو وجل على إيمانهم من الضعف أو الزوال، وذلك لقناعتهم أن الإيمان لن يتضرر بما يفعلون، وما قول العاصي لمن ينصحه في معصيته:
"الله غفور رحيم، الإيمان في القلب"..
إلا دليل على أن هذا الفكر قد انتشر بين الكثير دون أن يدركوا أنه مخالف لعقيدة السلف.. مهما كان الإنسان مسرفا على نفسه بالخطايا فإنه قريب من رحمة الله مادام يعتقد أن الإيمان:
"قول وعمل، يزيد وينقص"..
وذلك أن مثل هذا إذا نصح تقبل النصيحة وسمعها وتمنى السلامة مما هو فيه، لأنه يعلم أن ذنبه يضره وينقص إيمانه، ولذا فإنه يحدث نفسه بالإقلاع عن الذنب..
لكن الخطر يكمن في الذي لا يعتقد أن الإيمان يزيد ينقص، وليس قولا وعملا، فمثل هذا إذا وعظ في فعل الطاعات أو في ترك المعصية، استنكر النصيحة، لأنه يراها في غير محلها، فهو يعتقد أن إيمانه لايتضرر بما يفعله من معاصي، وأن إيمانه لاينقص بترك الطاعات، ومن ثم فلا يرى أي مسوغ لأن يسمع مثل ذلك الوعظ.
وبهذا صار كثير من المسلمين يلغون في المعاصي بجرأة عجيبة، ويدبرون عن الطاعات بنفور ظاهر،، صار إيمانهم خاليا من روحه، ففقدوا مصدر قوتهم، فضعفوا وانقلب عزهم الماضي ذلا في الحاضر، لأنهم صاروا أصحاب شهوات..
(الإيمان: قول وعمل = تقدم وقوة)..
إن المسلمين حكموا العالم يوم أن كانت عقيدتهم تملي عليهم القيام بالطاعات والانتهاء عن المعاصي، يوم أن كانت عقيدتهم:
" الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية"..
لكن لما تبدلت تلك العقيدة فصارت أفعالهم تخالف ما في قلوبهم وما ينطقونه بألسنتهم لحقتهم الهزيمة..
إن سبب قوة المسلمين هو إيمانهم، وسبب إيمانهم عملهم بما يدعو إليه ذلك الإيمان، ومن ترك العمل صار بلا إيمان، والتارك للعمل هو المنتهك للحرمات، المفرط في الطاعات..(/1)
ومن المعلوم أن المسلمين ما قاتلوا الكافرين يوما بكثرة عدة أو عتاد، بل هم في جل المعارك أقل من أعدائهم في القوة المادية والبشرية، ثم إن الله كان ينصرهم لصدق إيمانهم، لأن إيمانهم كان إيمان عمل، لا إيمان كسل، لكن إذا صار إيمانهم أجوفا ليس له حقيقة، إيمان لا يدعو إلى العمل، فإنهم سيفقدون سبب النصر الأعظم، ومن ثم فلا عجب أن يهزموا أمام عدوهم، لأن المنطق يقضي بغلبة صاحب العدة حين يغيب صاحب الإيمان.
( الإيمان: قول وعمل... عقيدة حية مؤثرة)...
كان المسلمون الأوائل يحاسبون أنفسهم على كل صغيرة وكبيرة، ويتهمونها بالتقصير، ويتعاهدون إيمانهم لأنهم يعلمون أنه يزيد وينقص، فهم يحبون زيادته، ويخافون من نقصانه، قال أبو الدرداء:
" من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه"، الطحاوية 343
كانوا يجتنبون المعاصي جميعها، وإذا أذنبوا استغفروا ولم يصروا على ما فعلوا، كانوا يسارعون في الطاعات طلبا للزيادة من الإيمان، هذا عمر يقول:
" هلموا نزدد إيمانا" الطحاوية343
كانوا يعلمون أن رأس مالهم هو إيمانهم، وأن الطاعات وقود هذا الإيمان، واجتناب المعاصي يحفظ ذلك الإيمان، ولأجل ذا نصرهم الله، وأعلى بهم الدين، وجعلهم سادة العالم..
وإذا ما تمكن أعداؤهم منهم لبعض الفترات بسبب الغفلة والشهوات سرعان ما كان يفيض وجدان المسلم وإيمانه فيسترد عافيته، وينطلق ليحرر الأرض ويحرر الإنسان، وما ذلك إلا لصحة اعتقاده، فإنه مهما كان مسرفا إلا أن عقيدته الصحيحة كانت كفيلة بإرجاعه إلى الطريق المستقيم، لكن البلية والمصيبة حلت عندما فسد الاعتقاد، فضاع المسلم بين شهوة وعقيدة فاسدة، فالشهوة أضعفت قوته، وسلبت منه العزة، ومكنت منه عدوه، والعقيدة الفاسدة ضيعت عليه طريق العودة إلى قوته وعزته، بل ساهمت في زرع الهوان في نفسه..
وقد أدرك أعداء الإسلام أهمية إفساد اعتقاد المسلم ليسهل قياده وإذلاله، فنشطوا كل الطوائف والفرق الضالة التي تهدم العقيدة الإسلامية، من ذلك فرق الصوفية، تلك الفرق التي تدعو إلى عبادة القبور، أي تدعو إلى الشرك، والتي لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر، لأنه ليس في قاموسها تلك الشعيرة العظيمة، وفي ذات الوقت نشط أعداء الملة في بث الشهوات المحرمة من خلال وسائلهم الخبيثة، ليحكموا القبضة على عنق المسلم، فصار المسكين بين:
- عقيدة ضالة، لا تخوفه من المعصية، ولا تدعوه إلى الطاعة..
- وهوى النفس وشهواتها المحرمة،..
- وثالثة الأثافي تزيين الرذيلة والدعوة إليها ليلا ونهارا، في كل مكان، وتيسير سبيلها، ومكافأة فاعليها، ورفع شأنهم، وتناقل أخبارهم..
فما كان منه إلا أن انجرف خلف التيار الجارف دون وعي، فسقط في حبائل الشيطان، فصار أسير في يد الأعداء، ولربما أفاق حينا من غفلته، وأزمع على التوبة من ذنبه، وشعر بالندم بفطرته، لكنه يصدم بمن يقول له:
"الإيمان في القلب، وأنت لم تكفر، والله غفور رحيم"..
وربما قال له: " أنت صاحب رسالة سامية".. فيفسخ العزم، ويعود إلى مستقنع الرذيلة مرة أخرى..
لذا فأول طريق الإصلاح هو تصحيح الاعتقاد، وما ضربت إلا مثلا واحدا من الأمثلة في فساد الاعتقاد، وكيف كان ذلك سببا في ضعف المسلم وهوانه، فما نقول في كثير الاعتقادات الفاسدة التي غزت أمة الإسلام؟، فلا بد إذن من تنقية الإيمان مما شابه، فنعود لنذكر بأن الإيمان:
"قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية"..
فاحفظوا هذا، وتعلموه، وعلموه من تلقون ومن تعرفون من أهليكم وبنيكم وأمتكم.
أبو سارة(/2)
لا بد للحق من رجال ...
31-05-2004
على مدار التاريخ كله لم يحدث قط أن أنزل الله تعالى على الناس كتابا مسطورا يقرؤونه دون أن يكون ثمة رسول من البشر يحمله ويبلغه . بل كانت سنته تعالى أن يختار ويصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ، ويأمر هؤلاء الملائكة بتبليغ الوحي إلى المصطفى من البشر .
وكان الرسول البشري مكلفا بتبليغ الوحي إلى الناس ، وأن يكون هو أول الممتثلين إلى لأوامره و زواجره ، ولذلك كان شعيب عليه السلام يقول لقومه : " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " .
وقد ختم المرسلين بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي كان مسك الختام وواسطة عقد النظام وكان موته صلى الله عليه وسلم يعني نهاية تنزل الوحي على بشر ، لقد انقطع بموته خبر السماء . وفي صحيح البخاري أن أبا بكر قال لعمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم " انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها " فلما جاءا إليها بكت فقالا لها :
ما يبكيك : أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
قالت : أما إني لا أبكي إني أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكني أبكي انقطاع الوحي من السماء !
فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها .
إنها امرأة فقيهة حقا … إن فقد رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يكن سهلا عليها كيف وهي حاضنته ومن أقرب الناس إليه وكان عليه الصلاة والسلام يحبها ويتلطف معها ، وكان ابنها أسامة وزوجها زيد من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن صلى الله عليه وسلم بالذي يهون فقده . لكنها نظرت إلى الجانب الآخر … الجانب الذي نظر إليه حسان بن ثابت وهو يقول في رثاء رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فقدنا الوحي والتنزيل فينا ---- يروح به ويغدو جبرائيل
ولكن فضل الله أدرك هذه الأمة الممتدة في أحقاب الزمن إلى يوم القيامة بأن جعل منها (( ورثة )) يخلفون الأنبياء في العلم والتربية ويهدون الناس إلى الحق والعدل { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } إنهم إذا (( أمة )) وليسوا آحادا معدودين .
وهذا معنى ما بشر به صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر الذي جاء عن واحد وعشرين صحابيا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خافهم ، إلا ما يصيبهم من اللأواء ، حتى يأتي أمر الله ، وهم ظاهرون على الناس " ، إنها منارات لا تغيب مهما أدلهم الظلام ، وأحلو لك الليل .
وهذا إيذان بامتناع هيمنة (( الجاهلية )) المطلقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يستثنى من ذلك إلا الفترة اليسيرة التي تسبق قيام الساعة حين يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك ، كما ورد في سنن ابن ماجة ومستدرك الحاكم وغيرهما عن حذيفة بسند صحيح .
فهو – من جهة – خبر عن أمر قدري آت لا محالة مهما أرجف المرجفون ، وتشكك المرتابون ولا يشك في هذا أحد لأنه خبر قطعي لا ريب فيه . ولكنه – من جهة ثانية – تكليف شرعي للأمة أن (( تكون )) منها هذه الطائفة المجاهدة فهي من هذا الجانب كقوله تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } فالأمة (( مطالبة )) شرعا بتكوين هذه الطائفة وتمكينها من القيام بعملها ومباشرة مهمتها الربانية . وما هي مهمتها الربانية ؟
أهي البقاء على الحق والالتزام بالسنة – قولا وفعلا واعتقادا فحسب ؟ أم هي أمر وراء ذلك وفوقه ؟ كلا … إن مهمتها أعظم من ذلك .
فإن الفرقة التي تقنع بصلاح نفسها دون أن تنازل الباطل وتقارعه إنما تسمى (( ناجية )) فحسب ، لأنها تجنبت طريق الهالكين من أهل الضلالة . أما هذه الطائفة فلم يصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بمجرد النجاة والسلامة ، بل أطلق عليها وصفا ذا دلالة عميقة ، إنه (( الطائفة المنصورة الظاهرة )) .
فهي أولا : (( طائفة )) تلتف حول الحق وتدور معه حيث دار .
وهي ثانيا : (( ظاهرة )) ليست خفية مستترة ، ولا ضعيفة مهزومة ، تخجل من الحق الذي معها فتسكت عنه أو تبدله .
وهي ثالثا : (( منصورة )) وهذا يقتضي بداهة أنها (( مجاهدة )) لأن النصر لا يعطى إلا للمجاهدين في ميدان الكلمة وفي ميدان الدعوة وفي ميدان السيف .
فهي الواجهة التي تقارع أرباب المذاهب المنحرفة والأهداف التخريبية ، وتكشف ألاعيب المتآمرين من صرعى الشبهات أو صرعى الشهوات ، ومع الصبر واليقين تمنح النصر ويعطى زعماؤها و مبرزوها وسام الإمامة { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون }
يقول سفيان رضي الله عنه " بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين " .
وإذا لم يكن زعماء هذه الطائفة ورؤساؤها هم العلماء الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم (( ورثة الأنبياء )) فمن يكونون إذا ؟(/1)
وإذا لم تكن وراثة النبوة بالعلم الصحيح المستقى من الكتاب والسنة ، وبتربية الناس على هذا العلم … فماذا تكون الوراثة إذا ؟ إنها مهمة العلماء الربانيين و من سار على دربهم { ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون }.
الشيخ سلمان بن فهد العودة(/2)
لا تتألَّوا على الله أن يقبل التائبين من بقايا بعث العراق !!
الحمد لله على نعمائة ، و الصلاة و السلام على نبيه محمدٍ و آله ، و بعد ..
فإن من أشنع صور التعدي أن يتعدى المخلوق على حق الخالق ، فينصب نفسه حكماً يتألى على أحكم الحاكمين ، و يستدرك على أرحم الراحمين ، فيصنف آحاد البشر بين الجنة و النار ، و كأنَّه اطَّلَع الغيب أو اتَّخذَ عند الرحمن عهداً .
و في زماننا الذي يلتبس فيه الحق بالباطل إلى حد بعيد ، يحلوا للبعض أن يتحجروا رحمة الله تعالى على أنفسهم و من يحبون ، و لا يدعون لسواهم في رحمة الله و فضله حقاً ، بل يوصدون أبواب التوبة في أبواب الأوابين ، و يأخذون بحجز الناس عن الجنة ، بدلاً من أن يأخذوا بنواصيهم إليها .
و تتكرر هذه المواقف كثيراً حينما يُذكَر المجاهدون المرابطون من أهل العراق ، فينبري البعض لينعتهم بأنهم فلول البعث ، أو بقايا نظام طاغوتي بائد ، ضارباً بعرض الحائط تبرأهم من الطاغوت الهالك و حزبه و أعوانه ، و إقبالهم على الله تعالى طلباً للشهادة في سبيله ، و الإثخان في أعدائه .
لذلك رأيت - لزاماً - أن أدعو إخواني الغيارى على دين الله إلى الكف عن التألي على الله ، و إحسان الظن بأهل الثغور ، و حمل كلامهم على أحسن المحامل ، بالدعاء لهم بدلاً من الدعاء عليهم ، و التخذيل عنهم بدلاً من تخذيلهم ، لأن الله تعالى أمرنا بالحكم بظواهر الأمور ، و استأثر لنفسه بعِلمِ السرِّ و أخفى .
و الأولى بمن يبتغي التمكين لشرع الله في أرضه و عباده أن يحرص على تصحيح معتقدات حملة السلاح في وجه الطغاة المحتلين ، فيدعوهم إلى ما يصلح دينهم و دنياهم ، و يجعلهم أهلاً لأحدى الحسنيين ، و يدعو لهم بالهداية و التوفيق و السداد ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلَّم يدعوا بالهداية لأهل الغواية ، فيقول كما روى أحمد و الترمذي بإسناد قال عنه : حسن صحيح غريب ( اللهم اهدِ ثَقِيْفاً ) رغم أن سهام ثقيف كانت تنهل من دماء المسلمين ، فيقول الصحابة : يا رسول الله ! أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم ، فلا يزيد عليه الصلاة و السلام على الدعاء لهم بالهداية كما روى ابن أبي شيبة و أصحاب المغازي !
فكيف لو كانت قذائفهم و نبالهم تصب حممها على أعداء الدين ؟ كما هو الحال اليوم في بلاد الرافدين و عاصمة الرشيد ، حيث مثلث الجهاد ، و معقل الرباط .
و في الصحيحين و غيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : جَاءَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ فَقَالَ : إِنَّ دَوْسًا قَدْ هَلَكَتْ عَصَتْ وَ أَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَ أْتِ بِهِمْ .
و لا يعارَض هذا بما ثبت من دعاء النبي صلى الله عليه و سلم على بعض المشركين ، و تسمية بعضهم بأعيانهم في القنوت و غيره ، إذ إن لكل من المقامين المتباينين ( مقام الدعاء للمشركين ، و مقام الدعاء عليهم ) ما يناسبه من المقال .
و قد بوب الإمام البخاري في صحيحه على خبر الدعاء لدوسٍ بالهداية فقال : ( باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم ) ، و هو ما عقب عليه الحافظ في الفتح قائلاً : و قوله ( ليتألفهم ) من تفقه المصنف إشارة منه إلى الفرق بين المقامين ، و أنه صلى الله عليه و سلم كان تارة يدعو عليهم و تارة يدعو لهم ، فالحالة الأولى حيث تشتد شوكتهم ، و يكثر أذاهم ... و الحالة الثانية حيث نؤمن غائلتهم و يرجى تألفهم . اهـ .
و لا شك أن من يقاومون طغيان الاحتلال في العراق اليوم ( من غير المجاهدين لتكون كلمة الله هي العليا ) أقرب إلى أن تؤمن غائلتهم ، و يرجى تألفهم ، خاصة بعد أن تمايزت الصفوف ، و انقسم العالم بأسره إلى فسطاطين لا ثالث لهما ؛ فسطاط الجبروت الأمريكي المحاد لله و لرسوله ، و المتربص بصالح عباده و أوليائه ، و فسطاط من يأبى الدنية في دينه ، و لا يركن إلى عدوه ، بل يتصدى له بقلة من العَدد و العُدَد في كثير من العزم و العزيمة .
أفلا يحسن بنا اليوم - و الحال هذه - أن نقول : اللهم اهدِ فلول البعث ، و بقايا القوميين ، بدلاً من أن نرد تائبهم ، و نتألى على الله أن يقبل من أزاح الغشاوة عن عينيه بعد طول عمى !؟
روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده عَنْ جُنْدَب البَجَليّ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ حَدَّثَ : ( أَنَّ رَجُلاً قَالَ: وَ اللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لِفُلاَنٍ ، وَ إِنَّ اللهَ تَعَالَىَ قَالَ : مَنْ ذَا الْذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ ، فَإِنَّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ ) . معنى يتألى يحلف و الالية اليمين .(/1)
قال الإمام المناوي رحمه الله في فتح القدير : ( قال المظهر : لا يجوز لأحد أن يجزم بالغفران أو العقاب ؛ لأن أحداً لا يعلم مشيئة اللّه و إرادته في عباده بل يرجو للمطيع و يخاف للعاصي . و إنما يجزم في حق من جاء فيه نصٌ كالعشرة المبشرة اهـ . و قال العزالي : روي أن نبياً من الأنبياء كان ساجداً فوطئ بعض العتاة عنقه حتى ألصق الحصى بجبهته فرفع النبي عليه السلام رأسه مغضباً و قال : اذهب فلن يغفر اللّه لك ! فأوحى اللّه إليه : تتألى عليّ في عبادي ؟ قد غفرت له ) .
ربنا اهدنا و اهدِ بنا و يسر الهدى لنا
و ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيءٍ ، إنك أنت الغفور الرحيم
و صلى الله وسلم على نبينا محمد و آله وصحبه أجمعين
و كتب
د.أحمد بن عبد الكريم نجيب(/2)
لا تتزوج ملكة جمال (بتصرّف)
قابلت صديقا لي فوجدته ضيق الصدر كأن به علة في جسده أو هما في قلبه فسألته أن يكشف لي أمره فتأبى ساعة وتردد ثم قال لي أنت الصديق لا يكتم عنه وأنى مطلعك على سري ومستشيرك فيه أني أريد الزواج.
قلت: وما فعلت ربة دارك وأم أولادك؟
قال: هي على حالها.
قلت: وهل أنكرت شيئا من خلقها أو من دينها أو من طاعتها لك وميلها إليك؟
قال: لا والله.
قلت: فلم إذن؟
قال: إني رجل أحب العصمة وأكره الفجور وقد ألفت زوجتي حتى ما أجد فيها ما يقنع نفسي عن أن تميل إلى غيرها وبصري عن أن يشرد إلى سواها وأطلت عشرتها حتى مللتها وذهبت في عيني فتنتها.
قلت: ما أقبح والله ما جزيتها به عن صحبتها وإخلاصها وما أعجب أمرك تسمع صوت النفس وأن تظنه صوت العقل وتتبع طريق الهوى وأنت تحسبه سبيل الصلاح وهذا تلبيس إبليس أو من وساوسه.
وهل تحسب أن المرأة الجديدة تقنعك وتغنيك إن أنت لم تقهر نفسك وتزجرها؟ إن الجديدة تمر عليها الأيام فتصير قديمة وتطول ألفتها فتصير مملولة وتستقري جمالها فلا تجد فيها جمالا فتطلب ثالثة والثالثة تجر إلى الرابعة ولو أنك تزوجت مائة ولو أنك قضيت العمر في زواج لوجدت نفسك تطلب امرأة أخرى.
وهل يمضى زوج عمره في تقبيل وعناق؟ إن لذلك لحظات؟ وباقي العمر تعاون على الحياة وتبادل في الرأي وسعي للطعام واللباس وتربية للولد.. واسترجاع الماضي وإعداد للمستقبل.
وهل تظنك تسعد بين زوجتين وتعرف إن جمعتها ما طعم الراحة؟ وهل تحسب أن ولدك يبقى معك وقد عاديت أمه وصادقت غريبة جئت بها تشاركها مالها ودارها وزوجها؟ فهل يرضيك أن تثير في أسرتك حربا تكون أنت أول ضحاياها كلا يا صاحبي لقد تغير الزمان وحكم الله في التعدد باق أبدا ولكنه مباح؟ ليس واجبا أو مندوبا.. فعليك بزوجك عد إليها وانظر إخلاصها لا تنظر إلى وجهها ولا إلى جسمها فإني قرأت كتبا في تعريف الجمال كثيرة فلم أجد أصدق من تعريف طاغور "إن الجمال هو الإخلاص" ولو أن ملكة الجمال خانتك وغدرت بك لرأيتها قبيحة في عينك ولو أخلصت لك زوجة قبيحة لرأيتها ملكة الجمال.
وثق أن ما حدثتني به سيبقى سرا بيننا ولا أفشيه أبدا ولا اطلع عليه أحدا.
وهل سمعت أديبا (أفشى) سرا!!؟؟(/1)
لا تتمنَ غيره [1]!!
لو أنه كان مثل فلان..... لو أنها تتصرف مثل فلانة.....
يأكل يلبس يتكلم يتعامل ينظر تأكل تلبس تتعامل تنظر تلبس تختار
مفكرة الإسلام : يتمنى بعض الأزواج أو الزوجات لو أن الآخر كان مختلفًا شيئا ما ولو قليلا عما هو عليه.
وسواء اعترفنا بذلك علانية أو احتفظنا به داخلنا، فإن أغلب الناس يفكرون في ذلك ولو بصورة بسيطة، فقد يتمنى الواحد لو أن شريكه يشبه شخصًا آخر بصورة شديدة كأن يكون جزيل العطاء، أكثر طموحًا وألطف، شديد العطف، يصغي إليه بانتباه، وسيمًا، أقل انفعالاً، متعاونًا بشدة، أو أيًا من مجموع تلك الصفات وبأي حال سيكون هناك شيء أو آخر نرغبه أو نريده.
أين تكمن المشكلة ؟
المشكلة تكمن أننا عندما نعاني من وجود هوة بين ما لدينا وبين ما نريده ينتابنا شعور بعدم الرضا أو بأننا فاقدون للأمل.
والنتيجة الطبيعية لذلك هو هذا الخطاب الداخلي:
'لو أن شريكي كان مختلفًا، أو لو أنه يتخذ شكلاً معينًا أو لو أنه أحدث بعض التغييرات لكي يصل إلى مستوى توقعاتي فوقتها فقط سأكون سعيدًا'.
ـ وما يقوم به أغلبنا كاستجابة لهذا الخطاب الداخلي هو أن:
نتطلع، نتخيل، نتمنى، نرجو أو في بعض الحالات نطالب بأن يتغير شريكنا ونقول لأنفسنا: 'أنا لن أكون سعيدًا إلا بعد أن يتغير شريكي في الحياة'.
ومن خلال قراءتنا للكثير من القصص والتجارب يمكن أن نرجع الأسباب التي تجعل كل من الزوجين يتمنى أن يكون رفيقه شخصًا مختلفًا إلى:
[1] الاختيار من البداية:
فإذا كان هناك سوء اختيار من البداية فإنه حتمًا سيثمر بعد الزواج تمنى أحد الزوجين للطرف الثاني لو أنه كان شخصًا آخر غير الموجود.
[2] اختلاف التوقعات:
من الطبيعي أن يبدأ الزوجان في علاقتهما بدرجة عالية جدًا من التوقعات العاطفية غير الواقعية، والتي صاغتها في عقليهما وسائل المجتمع من مؤلفات وروايات ووسائل الإعلام، فإذا بهما يكتشفان وبعد قليل من الزمن خطأ هذه التوقعات وقد يشعران بخيبة الأمل والإحباط مما يزيد التوتر وقلة الانسجام فيما بينهما.
إنهما الآن بعد التعامل المستمر والتعايش لفترات طويلة معا يريان الأمور بواقعية وعلى حقيقتها، بينما في البداية كانت أمور الحياة تسير بشكل سهل ومريح، وكانت العلاقة مليئة بالمحبة والسلوك الحسن، والآن ومع تزايد صعوبات الحياة اليومية ومشاكلها بدأت هذه المحبة بالتعرض للاختبار والامتحان فهما الآن يختلفان في كيفية صرف المال وشراء الحاجيات، وفي من يساعد في تنظيف البيت وتدريس الأولاد، وفي كيفية التعامل مع والدي الزوجين، وربما الاختلاف في كل شيء تقريبًا.
وتختلف التوقعات عند الزوجين بسبب الآتي:
1ـ اختلاف الشخصيتين.
2ـ اختلاف تجارب الحياة.
3ـ النشأة في بيئة أسرية مختلفة.
4ـ اختلاف طريقة التربية والتدريب كذكر أو أنثى.
5ـ اختلاف ما يحمله كل منهما من تأثير الإعلام ومفاهيم المجتمع الثقافية وغيرها.
كل هذه الفروق تتسبب في تواجد فروقات في التوقعات التي لن تتحقق عند كل منهما وبالتالي فستبدأ النزاعات بين الطرفين إما عاجلاً أو آجلاً.
[3] الفضائيات دروس مجانية في إفساد العلاقة الزوجية:
من الأمور التي تجعل كل من الزوجين أو أحدهما يتمنى أن يكون رفيقه شخصًا آخر هو إطلاق النظر إلى الغير سواء على أرض الواقع أو من خلال وسائل الإعلام فهذه المرأة الحسناء الجميلة الباهرة التي تخلب عقول الرجال في وسائل الإعلام، وهذا الرجل الوسيم اللبق التي تهفو إليه قلوب النساء 'الضعيفات دينًا وخلقًا طبعًا' ولنستمع إلى قصة إحداهن وهي تروي:
أصبحت حياتي الزوجية بؤرة قلقي وألمي، فزوجي رغم طيبته وسمو أخلاقه إلا أنني غير مقتنعة به، فما أراه على الفضائيات من رومانسيات وأحلام الطيف والسعادة بأبعادها كلها، أريد الحياة... زهدتُ بزوجي وأصبحتُ أنظر إليه نظرة دونية قريبة من التصغير واللامبالاة.
وهذه أخرى:
تزوّجتْ في السابعة عشرة من عمرها وتتمتع بقسط وافر من الجمال وحريصة أشد الحرص على الزينة، ولأن زوجها مولع بالفضائيات أخذ يمتدح ممشوقات القوام ويبالغ في مديحهن، وصارت تُجدُّ في زينتها علّها تشبع نهم تلك النظرات، لكنه بلغ بخياله المريض وعقله الصغير أن تمنّى السفر إلى البلد الفلاني لملاقاة ممثلته المفضلة وأخذ صور تذكارية معها.
فما أحط هذه التصورات التي تدخل صاحبها في دوامة من التخيلات وتؤدي به إلى مزالق العبث، وكانت النتيجة هي فصم عرى تلك الرابطة وكان الطلاق.
بئس العلاج:
في جلسة ضمّت كثيرًا من الزوجات يتحدثن عن تأثر الأزواج بالفضائيات قالت إحدى الجالسات:
إنها ألقمت زوجها حجرًا حين عاملته بالمثل ورمته بذات السهم فهو لا ينفك يمتدح تلك المذيعة ويعبر عن إعجابه الشديد بشكل هذه وتلك مما يضايقها ويثير فيها كوامن الغيرة، فصارت تقوم بالإطراء على أحد المذيعين وتمجيد وسامته وشياكته كي تؤدب زوجها وتوقفه عند حده.
فأي سقوط هذا؟ وأي خير يُرجى لبيت كهذا؟(/1)
وجدير بنا هنا أن نقف عند الآثار المترتبة على العلاقة الزوجية إن كانت بهذه الصورة المرفوضة وهي:
ـ انحسار المحبة واضطرابها بين الزوجين، والبيوت إنما تبُنى على المحبة والرحمة وذلك بسبب:
1ـ وجود المنافس الأجمل والأقدر على الإغراء والتأثير من الرجال على النساء ومن النساء على الرجال.
2ـ تقليل مساحة الحديث البنّاء بين الزوجين، أو بمعنى أقرب للصواب انعدام لغة الحوار والتفاهم بين الزوجين وهذا يؤدي حتمًا إلى الفراغ العاطفي بين الزوجين.
[4] عقد المقارنات سبب الأزمات:
عندما تتواجد الزوجة في مجلس نساء وتستمع إلى أحوال غيرها من النساء وأزواجهن فهنا تعقد الزوجة المقارنات بين زوجها وزوج الأخرى، وتتحرك مشاعرها تجاه هذه المقارنة بالسلب وتتمنى أن يكون زوجها شخص مختلف عمن بين يديها. وهذا قد يحدث أيضًا في مجالس الرجال أحيانًا عند عقد المقارنات بين الرجل وغيره من الأصدقاء.
وهذا مفتاح شر كبير لإفساد الحياة الزوجية ولأهميته سنفرد له مقالا لاحقًا إن شاء الله.
[5] النقد: من أعداء الزواج:
يقول أحد الأزواج:
لا أستطيع العيش مع إنسانة لا تعرف سوى النقد وتوجيه الأوامر، ولقد كانت دائمة النقد، فكل شيء أفعله خطأ، وسخيف وناقص، سيل من الانتقادات التي لا تتوقف على مدار الساعة.
وكذلك الحال عند نقد الزوج لزوجته في كل شيء فإن النقد المستمر يهدم العلاقة بين الأزواج.
[6] عدم اهتمام أحد الشريكين بالآخر:
وأوجه هنا حديثي للزوجة فهي المسئولة عن ابتعاد زوجها، وتقع مسئولية انبهار الزوج بأي امرأة أخرى على زوجته، التي لم تعرف كيف تحتفظ به، ويرجع ذلك في معظم الأحيان إلى جهل الزوجات بالأسلوب الذي يجب أن يتعاملن به مع أزواجهن لتحصينهم أمام رقة ونعومة أي امرأة أخرى.
ومن الأمور الهامة التي يجب أن تفطن إليها كل زوجة أن عدم اهتمامها بزوجها يؤدي إلى ابتعاده عنها.
ومن الخطأ أن تظن الزوجة أن اهتمام زوجها بها أمر مفروغ منه لأن ذلك يجعلها تتصرف بلا مبالاة فيما يتعلق بجلب اهتمام زوجها، الذي سرعان ما يمل ويبتعد عنها وقد ينزلق في تيارات أخرى ملقيًا باللوم عليها.
عزيزي القارئ اقرأ معي في الجزء الثاني:
ماذا يفعل الزوجان حتى يرضى كل واحد بالشريك الآخر ولا يتمنَى غيره؟ ما الحل؟.
وإلى حين اللقاء لكم منا خير تحية وأطيب سلام
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لا تتمن غيره..[2]
تقول إحدى الزوجات:
أعاني من عدم رضائي عن زوجي، ومن جفاف العلاقة بيننا حتى أن زوجي سلّم بهذا واقتنع أن الذي بيننا فقط 'زواج' بالاسم، وعلى الرغم من أننا نؤدي مهام الزوجية كاملة لكن هذا أيضًا لم يشفع أن اقترب منه....
...أنا لا أكره زوجي لكني لا أحبه.
يمكننا القول أن هناك مراحل حرجة في عمر الزواج تزيد فيها فرص التباعد بين الزوجين مثل: قدوم الأطفال، وتزايد أعباء الزوجة وإرهاقها مع الصغار ساعات بالليل والنهار. وهنا أوجه حديثي إلى كل زوجة بعدم الانهماك في خدمة الأطفال بشكل جائر على حق الزوج، وأنه من الأفضل إشراك الزوج في بعض الشؤون الأسرية، وعدم الاعتقاد بأن إبعاده تمامًا عن هذا المجال يُعد تفانيًا من جانبها لخدمة أسرتها؛ لأن ذلك من شأنه أن يُبعد الزوج عن جو الأسرة.
ومرحلة حرجة أخرى تأتي مع تقدم سنوات الزواج عندما يبلغ الأبناء سن المراهقة وتنغمس الأم في مشاكل أبنائها.
وقد يؤدي تقدمها في العمل وتحقيقها لمركز مرموق أن يشعر الزوج أنها ليست في حاجة إليه أو أن هناك شيئًا آخر يشغلها عنه.
فإذا اكتفت الزوجة بأولادها وبعملها ـ إن كانت تعمل ـ فإن هذا يساعد على التباعد بينهما.
وهنا أقول إنه يجب على كل زوجة أن تغدق على زوجها بكلمات المجاملة الرقيقة التي تشعره باهتمامها البالغ مهما بلغ عمره أو عمر زواجهما، فالمرأة بحكم طبيعتها أكثر قدرة على العطاء وهذا العطاء يُعد الحافظ لقيام الزواج بدوره وبالعطاء المستمر لزوجته.
وهنا يأتي السؤال ماذا يفعل الزوجان حتى يرضى كل واحد بالشريك الآخر ولا يتمنى غيره؟
عزيزي القارئ:
إن الزواج علاقة مستمرة وعلاقة سامية جدًا ولابد من النظر إليها بنظرة ذات بُعد، وإبعاد كل ما يجول من أفكار قد تكون السبب الحقيقي في إيجاد فجوة في الحياة الزوجية. فإلى الزوجين أهدي هذه الباقة من الزهور لرسم لوحة زوجية جميلة ونجيب فيها عن السؤال الذي طرحناه لاحقًا:
[1] وهو الهدف الأساسي:
على الزوجين وضع العلاقة الزوجية واستمرارها، بل أقول السعادة الزوجية هدفًا حتميًا يريدان الوصول إليه وهو الهدف الأساسي.
[2] ما عند الآخرين عندكما:
أرجو أن يعرف كل من الزوجين أن ما عند المرأة وما عند الرجل الآخر هو أيضًا عندهما، ولكن قد ينقصهما التفكير في أنه كيف يبدو كل واحد منهما رائعًا أمام الآخر.
فليرضَ كل واحد بما عند الآخر ورددا معي قول ابن حزم:
لا تتبع النفس الهوى ودع التعرض للمحن
إبليس حي لم يمت والعين باب للفتن(/2)
وهنا أقف وأتساءل هل الجمال قضية تهم المرأة والرجل على السواء؟
والحقيقة أن الجمال فعلاً قضية أساسية تهم كل من الرجل والمرأة، ولكن الجمال عند المرأة يختلف عنه عند الرجل.
فبالنسبة للمرأة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'تُنكح المرأة لأربع؛ لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك'.
ونلاحظ هنا كيف ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم صفة الجمال وأنها مرغوبة لدى الناس ولكن لماذا ذكر من صفات طلب المرأة الجمال، ولم يذكر هذه الصفة في الرجال؟
فبالنسبة للرجل فقد قال عنه صلى الله عليه وسلم : 'إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه'.
فلماذا جعل صلى الله عليه وسلم الصفة المرغوبة في الرجل هي الدين والخلق؟
لأن الدين والخلق بحد ذاته جمال لدى الرجل في عين المرأة، ونجد ذلك واضحًا عندما نرى رجلاً يتزوج من امرأة ونحن نرى بالبصر عدم تناسب هذين الزوجين، وذلك لأننا نظرنا إلى الشكل فقط، والبصر لا يدرك جمال الروح، ولا يعرف أن هذين الزوجين بينهما قناعة روحية وجمال روحي طغى على الشكل.
الحب لا يكون بالنظر فقط بل للحب وسائل ثلاث هي:
1ـ حب البصر.
2ـ حب العقل.
3ـ حب الروح.
وهذا لا ينفي أن جمال الشكل مرغوب، فهذا ابن عباس رضي الله عنهما يقول: 'إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي' ولكن أن نجعله يأخذ كل اهتمامنا فهذا الخطأ، وكذا أن ننشغل بالشكل وننسى جمال النفس والروح والخلق والدين.
فعلى المرأة والرجل أيضًا أن يوازنا بين جمال الشكل وبين جمال الخلق والدين.
[3] المجاملة ثم المجاملة:
الحياة الزوجية الناجحة تقوم على المجاملة، فالفتاة قبل الزواج قد لا تهتم بمشاعر الصديقات وتقول ما تريد وقت ما تريد، أما مع الزوج فإن الحال يختلف.
فعلى الزوجة أن تجامل، وإليكم هذه القصة العجيبة التي حدثت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
'دخل أبو غرزة على امرأته ـ وكان معه ابن الأرقم ـ فقال: أتبغضينني؟ قالت: نعم , فأتى ابن الأرقم عمر بن الخطاب فأخبره، وكان عمر آنذاك أمير المؤمنين فأرسل عمر إلى امرأته ـ زوجة أبي غرزة ـ فقال: ما حملكِ على ما قلتِ؟ قالت: إنه استحلفني فكرهتُ أن أكذب فقال عمر: بلى، فلتكذب إحداكن ولتجمل ' التجمل يعني: لتقول قولاً جميلاً' فليس كل البيوت تُبنى على الحب، ولكن معاشرة على الأحساب والإسلام'.
عزيزي القارئ:
إن الزوجة الجاهلة هي التي تصارح زوجها بأنها لا تحبه، فماذا تريد منه أن يفعل؟ هل تريد منه أن يطلقها؟ إن كان الأمر كذلك فلها ما شاءت.
أما أن تخبره بذلك وهي لا تريد أن تهدم حياتها الزوجية، فإنها تهدمها فعلاً بطريق أخرى، طريق المشكلات والمنغصات.
إن على المرأة الذكية الواعية أن تشعر زوجها بأنها تحبه حبًا جمًا، وبأنها تراه كأحسن ما يكون، فلا تعب شكله وهيئته مثلاً، بل عليها أن تتجمل في القول له، وفي مدحه، وفي الثناء عليه، حتى وإن كان هو غير ذلك، لعل الله أن يحببها فيه إن كانت لا تحبه، أو لا تحب فيه شيئًا معينًا.
والكذب في مثل هذه الأمور مباح لأنه كذب لدوام العشرة الطيبة، وللحفاظ على كيان أسرة مسلمة، ولإصلاح ما بين الزوجين.
تقول أم كلثوم بنت عقبة: ما سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم رخّص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: 'الرجل يقول القول يريد به الإصلاح، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها' [رواه مسلم].
فحين تقول الزوجة لزوجها: إنك أحسن وأفضل من رأت عيناي، فهي لا تكذب حتى وإن لم يكن هذا صحيحًا، وحين يأتي لها بشيء ما فتمدحه وتقول له: جزاك الله خيرًا هذا ما كنتُ أتمناه، فهي لا تكذب حتى وإن لم يكن كذلك وإن لم تكن تتمناه.
فالحياة الزوجية تحتاج إلى ما نسميه المجاملة، وهو لا يصح إلا فيها لأن هذه المجاملة في غيرها نوع من النفاق.. لكن لتحذر المرأة من الكذب خلاف هذه الأمور.
[4] كفى المرء نبلاً أن تُعد معايبه:
وأقول لمن هو كريم في نقد الطرف الآخر هل كان يريد إنسانًا بلا أخطاء؟ إنسانًا مثاليًا في كل أفعاله وأقواله وحتى في أفكاره؟
فلا تكن كثير النقد حتى وإن لم يكن وراء نقدك إلا حرصك على أن يكون الشريك الآخر في أحسن صورة وترنم معي قول الشاعر:
من ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تُعد معايبه
وعلى الزوج أيضًا أن ينصح... يقترح.. يغلف طلباته بكلمات معسولة تذيب جليد القطب... وتشعل شموع المشاعر.
[5] اجلسا معًا ولو ساعة:
إن جلوس الزوجين لمدة ساعة يوميًا تكون الزوجة خلالها متفرغة لزوجها تمامًا، تتجاذب أطراف الحديث في الشؤون التي تهمه يُعد أنفع وأجدى من قيامها بأي عمل آخر مهما كلفها ذلك من تضحيات.
[6] غضب يعقبه رضا:
كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول لزوجته: 'إذا رأيتني غضبتُ فرضني، وإذا رأيتك غضبت رضيتك، وإلا لم نصطحب'.(/3)
التراضي بين الزوجين: إنها كلمات من زوج محب عارف بنواميس النفس البشرية وهو في غاية الهدوء النفسي والنضج الفكري، ما أروعه من قانون وما أحوج حياتنا الزوجية لمثل هذا القانون الجميل، فإن الزوجين يحتاجان إلى خلق الصفح والتغاضي عن الزلات والتراضي، ونسيان مساوئ الطرف الآخر.
[7] أين التجديد والتغيير في حياتكما؟
على الزوجين التجديد في حياتهما ـ وخصوصًا الزوجة ـ فحاولي أيتها الزوجة التجديد من خلال تغيير أماكن أثاث البيت، والتجديد في شكل الملابس ـ بغير إسراف ـ وتجميل البيت بالزهور وتعطير غرفة النوم، وكذلك التجديد العقلي بقراءة كتب مفيدة والاطلاع على كل جديد يحدث في العالم، وهكذا يكون التجديد أيضًا في الحديث وطريقة الحوار.
وأحب هنا أن أوجه كل زوجين لقراءة كتاب التفاهم في الحياة الزوجية، للدكتور/ مأمون مبيض فإنه حقيقة مرجع مهم للحياة الزوجية وفنونها.
وأخيرًا، عزيزي الزوج... تحتاج المرأة في جميع أطوار سني عمرها المختلفة إلى لمسات حانية وكلمات عذبة تلامس مشاعرها المرهفة وطبيعتها الأنثوية ومن تخلو بيوتهم من تلك الإشراقات المتميزة فإنه يكون للشقاء فيها نصيب.
فلا تبخل على زوجتك بكرمك، وتصوّب نحوها كل التهم والأعباء فقد قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: 'خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي'.
عزيزي القارئ اقرأ معنا في الأعداد القادمة إكمالاً لهذا الموضوع:
ـ المقارنات سبب الأزمات.
وإلى حين اللقاء جعلك الله ذخرًا وخيرًا لأهلك اللهم آمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/4)
لا تجعلوا بيوتكم مقابر
المحتويات
مقدمة
الصلاة
القرآن الكريم
الذكر
آثار ونتائج إحياء البيوت بذكر الله
الأثر الأول
الأثر الثاني
الأثر الثالث
الأثر الرابع
الأثر الخامس
الأثر السادس
الأثر السابع
الأثر الثامن
الأثر التاسع
مقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله أما بعد:
ولا تجعلوا بيوتكم مقابر.. هو عنوان حديثنا في هذه المحاضرة، خص الله سبحانه وتعالى هذه الأمة بخصائص وفضلها على سائر الأمم بفضائل وتحدث صلى الله عليه وسلم عن شيء من هذه الفضائل والخصائص ومنها قوله صلى الله عليه وسلم " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فإيما أمرء من أمتي أدركته الصلاة فليصلي" وذلك أن الأمم السابقة كانوا لا يصلون إلا في بيعهم وكنائسهم وصلواتهم - أي أماكن عبادتهم - أما هذه الأمة فالأرض لها مسجد وطهور، فهم يصلون حيثما أدركتهم الصلاة هذا ما يتعلق بالصلاة المكتوبة، أما سائر الصلوات فلها شأن آخر ! لاشك أن الله سبحانه وتعالى أعلى شأن بيوته، وأخبر الله سبحانه وتعالى بأن هذه البيوت فيها النور والبركة ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والأصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتتقلب فيه القلوب والأبصار ) سورة النور 36.
فهذه البيوت أمر الله سبحان وتعالى ببنائها وتطهيرهاورفعها وأثنى على أولئك الذين يعمرون هذه المساجد ويذكرون الله عز وجل فيها، وأخبر سبحانه وتعالى أن هذه المساجد إنا يعمرها أهل الطاعة " ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر " الآية التوبة ، ثم قال بعد ذلك " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وأتى الزكاة " إلى آخر الآيات لاشك في فضل هذه المساجد فهي بيوت الله كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر " من بنى لله بيتاً بنى الله له بيتاً في الجنة " أخرجه البخاري ومسلم وقال صلى الله عله وسلم " من غدا إلى المسجد أو راح أعد له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح " وثبت عنه صلى الله عليه وسلم " إذا خرج المرء من بيته فإن الله يتبشبش كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم".
فكل هذه الفضائل مرتبة على عمارة هذه المساجد بذكر الله، وعبادته وطاعته سبحانه وتعالى ومع كل هذه الفضائل التي اختصت بها بيوت الله إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يكون لبيت المسلم نصيب من عبادته وطاعته وأن لا يقفر بيته من توجهه إلى الله سبحانه وتعالى، وتضرعه له وعبادته لله عز وجل، ويظهر ذلك في أمور عدة منها:
الصلاة
وهي أعظم ما يتقرب به الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى أو ليس النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر الذي سأله مرافقته في الجنة أن يعينه بكثرة السجود أوليست الصلاة هي أول ركن عملي يجب على الإنسان .. وهي العمل الذي يكفر تاركه، وكان اصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعدون شيئاً تركه كفر مثل الصلاة ولعظم شأنها ومنزلتها عند الله سبحانه وتعالى صارت حداً فاصلاً وعهداً بين الإيمان والكفر والشرك .
وصارت أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة وكل ما فضلت فريضته فضلت نافلته وإذا تأكد وجوب أمر فهذا دليل على محبة الله سبحانه وتعالى له، وعلى أنه يزيد العبد قرباً من الله سبحانه وتعالى أن هذا العمل له أعظم الأثر في إصلاح قلب العبد وصلاح حاله مع الله، ومن عظمة الصلاة وعلو منزلتها أن الله سبحانه وتعالى فرضها على نبيه صلى الله عليه وسلم .. حيث أُسريَ به صلى الله عليه وسلم، فإذا عظمت فريضة الصلاة عظمت نافلتها أيضاً وإذا كانت الصلاة هي أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة فإن صلحت أفلح وأنجح وإن فسدت خاب وخسر. وإن انتقص شئ من صلاته قال الله سبحانه وتعالى انظروا هل لعبدي من تطوع ؟ فيكمل بها ما انتقص بها من صلاته. إذاً صارت نافلة هذه الصلاة وسيلة لأن يكمل بها ما نقص من فريضته . وهذا ليس موضوع حديثنا وإنما هي تقدمه بين يدي نافلة الصلاة فلاشك أن النافلة نافلة العمل قريبة من فريضته فكلما ازدادت فضلاً كلما ازدادت النافلة فضلاً . ثم إن النافلة تكميل لما ينقص من عمل المرء فما دامت الصلاة بهذا القدر من الأهمية، وهي أول ما يحاسب عليه العبد كان حريا به أن يعني بها، ويحرص عليها وأن يُعنى بنوافلها أيضاً، لأنها وسيلة لسد ما لعله أن يُنقص من شأن هذه الفريضة العظيمة ولهذا أوصى صلى الله عليه وسلم أن يصلي المرء في بيته - يعني النافلة و الراتبة - وثبت في آحاديث عدة منها ما هو في الصحيحين من حديث ابن عمر رضى الله عنهما واللفظ لمسلم " أجعلوا من صلاتكم في بيوتكم لا تتخذوها قبوراً " وفي رواية له أيضاً " وصلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً" .(/1)
ولمسلم أيضاً " إذا قضى احدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً " وفي قصة احتجاره صلى الله عليه وسلم موضعاً في المسجد وصلاة الناس بصلاته، صلوا الليلة الأولى، فتحدثوا فكثروا ثم الليلة الثانية، ثم الثالثة، ثم لم يخرج إليهم صلى الله عليه وسلم، وكان فيما قاله لهم صلى الله عليه وسلم " فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " وهذا نص عام يدل على أن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يصلى الرواتب في بيته، وكان صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على أن يصلوا الرواتب في بيوتهم، مع أنهم كانوا يصلون في مسجده صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي تضاعف فيه الحسنات وتضاعف فيه الصلاة فالصلاة فيه تعدل ألف صلاة مما سواه . ومع ذلك يأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالصلاة في بيوتهم وحقاً وصدقاً فإن صلاتهم في بيوتهم خير لهم من صلاتهم في مسجده صلى الله عليه وسلم، إن فغيره من المساجد من باب أولى، وهذا الأمر هدى راتب عند سلف الأمة فحين نقرأ سير السلف، نرى أنه قد حُفظ عن الكثير من أصحابه صلى الله عليه وسلم ومن تلاهم من التابعين أنهم كانوا يصلون الراتبة والنافلة في بيوتهم . في مصنف ابن أبي شيبة " أن عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه كان يصلي الركعتين بعد المغرب في بيته ".
وفيه أيضاً عن سهل بن سعد رضى الله عنه قال : لقد أدركت زمان عثمان بن عفان وإنه ليسلم من المغرب فما أرى رجلاً واحداً يصليهما حتى يخرجوا فيصلونها في بيوتهم" وروى أيضاً عن ميمون قال: " كانوا يستحبون هاتين الركعتين بعد المغرب في البيت" وروى عن عبد الله بن يزيد قال : " رأيت السائب بن يزيد يصلى في المسجد ثم يخرج قبل أن يصلي فيه شيئاً ". يعني : لا يتطوع وروى أيضاً عن إبراهيم قال : " سئل حذيفة رضى الله عنه عن التطوع في المسجد - يعني بعد الفريضة - فقال إني : لأكرهه بينما هم جميعاً في الصلاة وأختلفوا - يعني كانوا يصلون الفريضة جماعة أصبح يصلى كل منهم التطوع لوحده - . فهذه ليست دعوة منه رضى الله عنه إلى أن يصلوا التطوع والراتبة جماعة ولكنها دعوة إلى أن يصلوا في بيوتهم.
وروى عن الأعمش قال: " ما رايت إبراهيم متطوعاً في مسجد قومه" وروى عن الربيع ابن خثيم أنه ما رؤى متطوعاً في مسجد الحي قط والربيع ابن خثيم من زهاد التابعين وهو الذي قال عنه ابن مسعود رضى الله عنه " لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك" كان رجلاً مشهوراً بالزهد، والرقة والصلاح والتقوى، وكان من أخص أصحاب ابن مسعود رضى الله عنه.
وروى أيضاً مثله عن عبيدة أنه ما رؤي متطوعاً في المسجد قط" وروى عن أبي معمر قال : إذا صليت المكتوبة فبيتك "
وعلى كل حال فموضوع الحديث عن صلاة الراتبة في المنزل جزء من حديثنا، وهذه بعض الآثار والنصوص حيث قلب طرفك في كتب السنة ودواوينها، أو كتب تراجم أئمة السلف رضوان الله عليهم، فأنت راء من ذلك حمل بعير من أحوالهم وأقوالهم ونصوصهم والتي تدعوا إلى أن يكون لبيوتهم نصيباً من الصلاة الراتبة.
القرآن الكريم
أيضاً البيت له نصيب من تلاوة القرآن الكريم كقول عائشة كما ثبت في الصحيحين " وكان صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأن حائض فيقرأ القرآن ".
أين يتكئ صلى الله عليه وسلم في حجرها إن لم يكن ذلك في بيته صلى الله عليه وسلم ؟ ويأمر صلى الله وسلم بتلاوة القرآن في البيت ويخبر أن ذلك مطردة للشيطان، كما في صحيح مسلم " أنه صلى الله عليه وسلم قال " لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرَأُ فيه سورة البقرة " .
و المسلم له نصيب من كتاب الله سبحانه وتعالى وحاله مع كتاب الله عز وجل كحال السمكة مع الماء والطائر مع الهواء فحين يمضي عليه وقت وزمان ولو كان يسيراً لم يقرأ فيه شيئاً فإنه يشعر بضيق ووحشة في صدره، وبعد عن الله سبحانه وتعالى وقسوة في قلبه وخاصةً حفاظ كتاب الله عز وجل، والمسلم أياً كان شأنه لابد أن يكون له نصيبٌ من تلاوة كتابه عز وجل . نصيب لا يخل به في أي وقت، وحافظ كتاب الله عز وجل هو أولى الناس بذلك، وهو أولى الناس بكتاب الله حتى يشفع له كتاب الله عز وجل فالقرآن حجة لك أو عليك فإنه يأتي يوم القيامة يحاج عن صاحبه ويخاصم عنه قائلاً " أي ربي منعته ا لنوم بالليل فشفعني فيه " .
فلابد أن يكون لنا نصيب من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى في بيوتنا والإقبال عليه كما أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم وكما هو ثابت من هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ القرآن في بيته ثم إن ذاك مدعاةٌ لطرد الشيطان ونفوره.
الذكر
والبيت أيضاً ينبغي أن يكون له نصيب من ذكر الله عز وجل، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى عليه وسلم قال " مثل البيت الذي يُذكر الله فيه والبيت الذي لا يُذكر الله فيه مثل الحي والميت " .(/2)
وفي الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه يقول صلى الله عليه وسلم : " اغلق بابك واذكر اسم الله عز وجل فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله وخمر إناك ولو بعود تعرضه عليه واذكر اسم الله سبحانه واربط سقاءك واذكر اسم الله سبحانه عز وجل " متفق عليه .
فتكون حال المؤمن حال الذاكر لله عز وجل فحين يدخل بيته يذكر اسم الله عز وجل، وحين يغلق بابه يذكر اسم الله عز وجل، والشيطان لا يفتح باباً مغلقا، وحين يدخل يسلم على أهل بيته، والسلام من ذكر الله عز وجل كما ثبت عنه صلى الله وسلم حين دخل عليه رجل فلم يرد عليه السلام حتى تيمم، ثم قال كرهت أن اذكر الله إلا على طُهر فالسلام من ذكر الله، فإذا دخلت فسلم يكن سلامك بركة عليك وعلى أهل البيت، والمؤمن يذكر اسم الله عز وجل حين يطفئ مصباحه، ويذكر اسم الله حين يأوي إلى فراشه، وفي كل أحواله وأوقاته لا يفارقه ذكر الله سبحانه وتعالى وحينها يودع الشيطان، وتحل البركة في هذا المنزل كما أن المسلم لا يفارقه ذكر الله فهو يستحضر وصية رسول الله صلى الله وعليه وسلم " لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عز وجل " وهو يتطلع إلى أن يتحقق فيه قول الله عز وجل "من ذكرني في ملأ ذكرته في ملاء خير منهم, ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ". وهو يتطلع إلى أن يكون من الذاكرين الله عز وجل والذاكرات . يتطلع إلى أن يبلغ منازل الذاكرين، ولهذا فما يفتر لسانه من ذكر الله سبحانه وتعالى قائماً أو قاعداً أو مضطجعاً . وأمام ناظرَيه حال أولئك الذين أثنى الله سبحانه وتعالى عليهم في كتابه " إنَّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات و الأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار" فهو يتطلع إلى أن يكون من الذاكرين الله قائما,ً وقاعدا,ً وعلى جنبه, حتى يستحق هذا الوسام وينال هذا التشريف, وهذا التكريم، ويتطلع أن يكون ممن وصفهم الله في كتابه بأنّهم من أولي الألباب, وأن يكون ممن قال الله عز وجل فيهم " فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض وحين يدرك المؤمن هذه المعاني العظيمة في ذكر الله عز وجل , يعمر أوقاته وأحواله - ومنها حاله في بيته - يعمرها كلها بذكر الله سبحانه وتعالى بتسبيحه ,وتمجيده, والثناء عليه عز وجل . إذاً هذه نماذج، وهي دعوة إلى أن يعمر المرء بيته بطاعة الله سبحانه وتعالى، وعبادته وأن يكون لبيته نصيب من عبادة الله عز وجل وطاعته وأن لا يكون كحال أولئك الذين لا يعبدون الله إلا في بيَعهم . وصلواتهم وكنائسهم ومعابدهم .
ولكن هذه العبادة وهذه الدعوة منضبطة بالضابط الشرعي فما شرع الله أن يكون في المسجد فهو في المسجد وما شرع الله أن يكون مع الناس وأمام الناس فهو مع الناس، وما شرع في البيت فهو في البيت أولى .
آثار ونتائج إحياء البيوت بذكر الله
الأثر الأول
أن لا يكون البيت من المقابر, فالنبي صلى الله عليه وسلم قد شبَّه البيت الذي لا يُصلَّى فيه بالمقبرة . ووجهه الشبه بين البيت الذي لا يُصلى فيه وبين المقبرة, أنَّ أهل المقابر لا يصلون في قبورهم , وحين لا يصلّي المرء في بيته يصبح بيته كالمقبرة . وأيضاًهناك معناً آخر وهو أنَّ البيت الذي لا يُصلَّي فيه الإنسان, يصبح للنوم, والإستراحة, والنوم أخو الموت . فهو الموتةُ الصغرى كما قال تعالى: " وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار"، ومتى أيضاً " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها".
فحين يكون بيت المرء لنومه فقط , صار شبيهاً بالمقبرة , التي هي للأموات , فصار حال هذا البيت كحال القبور لأصحابها , فهم لا يعيشون فيها إلاّ موتى , وهذا لا يعيش فيه إلاّ موتى , ويؤيدُ هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم " مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت " و على كل حال فهذه المعاني كلها متحققة في هذا البيت,الذي لا يُصلَّى فيه .
الأثر الثاني(/3)
لإحياء العبادة في البيت , هو نفور الشيطان فإن الشياطين إنَّما تأنس للأماكن القذرة التي لا يذكر الله فيها . أوليس النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرنا أن نستعيذ بالله حين ندخل الخلاء من (الشياطين من الخبث والخبائث) وأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ هذه الحشوش محتضرة, فالشياطين إنَّما هي نجسة. تأوي للأماكن النجسة , المستقذرة,كما أنها تأوي إلى الأماكن التي يُعصى الله عز وجل فيها, ولهذا فهي تأوي إلى هذه البيوت . أما حين يُعمرُ البيت بطاعة الله عز وجل, وتلاوة كتابه, وذكره سبحانه وتعالى, فإنَّ الشياطين تنفر منه, ويدل على ذلك ما سبق في قوله صلى الله عليه وسلم "أنَّ الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأُ فيه سورة البقرة" وأيضاً في حديث جابر قال عليه الصلاة والسلام " أغلق بابك واذكر اسم الله فإنَّ الشيطان لا يَفتحُ باباً مغلقاً, و أطفىء سراجك واذكر اسم الله " فذكر الله عز وجل يمنع الشيطان من دخول البيت .
وتصور أخي هذا البيت الذي إذا دخل رب المنزل ذكر اسم الله, وإذا دخل الابن ذكر اسم الله , وإذا دخلت المرأة ذكرت اسم الله, وإذا أطفاء المصباح ذكر اسم الله, وهم فيما بين ذلك يذكرون الله ويسبِّحونه, ويحمدونه, ويكبِّرونه, وإذا اضطجعوا ذكروا الله, وإذا قرَّبوا طعامهم ذكروا الله, ثم هم أيضاً يتلون كتاب الله عز وجل في هذا البيت, ويحيونه بالصلاة النافلة, والراتبة, أو بإحياء الليل, فأي مكان سيجده الشيطان, في هذا البيت العامر بالتقوى والأيمان وعبادة الله عز وجل.
الأثر الثالث
كل هذا مدعاةٌ لنزول البركة, وحلولها. فإنَّ البيوت التي يُذكرُ فيها اسم الله سبحانه وتعالى, تحلُّ فيها الملائكة, وتنفر منها الشياطين, فتحلُّ فيها البركة, ولاشك أن اسم الله عز وجل ما ذكر على أمر إلا وحلت البركة فيه . وحين يكون البيت معموراً بالصلاة, والذكر, والتسبيح, وغير ذلك مما هو من أمور طاعة الله سبحانه وتعالى, وعبادته. فإنَّ هذا البيت يصبحُ بيتاً مبارَكاً على أهله, وعلى من يسكنه, وكم تحتاج إلى أن تعيش في هذا الجو الآمن المطمئن, الذي تحل فيه البركة, والخير, كما أخبر صلى الله عليه وسلم. فإذا كان السلام مدعاةً إلى أن يكون بركة المرء علي المرء , وعلى أهل بيته فكيف إذا أضيف مع السلام , ذكر الله في كل الأحوال, وكيف إذا أضيف مع ذلك, تلاوة كتاب الله عز وجل , والصلاة, والتوجه لله سبحانه وتعالى .
الأثر الرابع
العبادة في البيت, مدعاة إلى أن يتربى أهل البيت, على عبادة الله عز وجل, و طاعته سبحانه وتعالى, و للأسف! كم تفتقد بيوت المسلمين لهذا الأمر. إنَّك لو أتيت إلى بيوتٍ ِِِِِِِِِِِِِِِِِِ الصلحاءِ , الخالية من المعاصي, والفجور, دعك مِن بيوت من سواهم _ وهم عامة وأغلب المسلمين _ إنَّك لو أتيت إلى بيوت هؤلاء, لوجدت أنَّ الأبناء, والبنات, الذين يعيشون في هذا البيت, لا يرون فيه أثرَ الطاعة, والعبادة، فإذا كان الرجل الصالح , لا يجعل لبيته من صلاته , حظاً ولا نصيباً . وتكون نوافله في المسجد . ولا يرى أبناءه منه , إلا حديث الدنيا , أو الذهاب , و الإياب , أو الاجتماع على الطعام , والمبيت , فكيف يتربى أبناءه , وأهل بيته , على التقوى والصلاح ؟! .(/4)
"باع أحد السلف جاريةً له وكان بيته معموراً بقيام الليل, وعبادة الله سبحانه وتعالى, فلما ذهبت وهي ترى بقية الناس من خلال هذا البيت الذي نشأت فيه . وهي جارية وأمَة تخدمهم, لما جاء ثلث الليل قامت توقظهم , قالوا لم يحن الفجر ؟!. فقالت أو ما تستيقظون إلا الفجر إنَّكم قوم سوء . فلما أصبحت خرجت تبكي إلى سيدها , الذي باعها تسأله بالله أن يعيدها إليه , فقد باعها إلى قوم سوء لا يستيقظون إلا مع الفجر , فماذا عسى هذه الجارية أن تقول لو رأت الكثير من بيوت المسلمين , والذين لا يستيقظون حتى مع الفجر , وانظر إلى أثر هذا البيت , الذي عمر بالتقوى , والصلاح , وعبادة الله سبحانه وتعالى , كيف كان أثره على هذه الجارية , التي تخدم فيه حتى بكت, كرهت أن تفارق هذا البيت , فكيف بأثره على الأبناء , والبنات , والذرية . انّه أثرٌ كبير يتركه المرء على أسرته , وبيته . غير أنّه من المؤسف حقاً أنَّ أهل المنزل , يرون هذا الشاب, قد ركب قطار الصالحين , وسار في طريق الأخيار العابدين , لكنهم لا يرونه إلا في أوقاتٍ محدودة , يتناول معهم الطعام , أو يرتاح في المنزل , أو منزوياً هنا وهناك , وقَلَّ ما يرونه تالياً لكتاب الله عز وجل , قلما يرونه مصلياً ذاكراً لله عز وجل , ولهذا نرى أن البعض من الشباب يقل أثره على أهل بيته , والسبب هو إهماله لهذا الأمر . ولو كانت العبادة شأنه , والطاعة ديدنه , فَعَمَر أوقاته , وبيته , بعبادة الله سبحانه وتعالى , تلاوةً , وصلاةً , وذكراً لله عز وجل, لترك أثراً بالغاً على أهل بيته , وكم رأينا من بيوت صلحت , واستقام أهلها ,كبيرهم وصغيرهم , بصلاح واحد من الأبناء ربما لم يتجاوز الحلم إلا بقليل .
الأثر الخامس
امتلأت بيوت المسلمين بالمعاصي , وبما يسخط الله سبحانه وتعالى , ومعلومٌ أنَّ الملائكة , لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة , ـ صورةٌ أي صورةٍ ـ لا تدخل الملائكة هذا البيت الذي فيه هذه الصور فكيف إذا أمتلأ البيت بالصور . بل بالصورة الفاتنة , والمثيرة . وكيف إذا ملىء بأجهزة الغناء , واللهو التي تعرض الرذيلة , والفساد , والسوء , فيعيش البيت في جو صاخب , من المشاهدات المؤذية , والمعازف , ومعصية الله , إنَّ هذا البيت , أحرى أن تفارقه الملائكة , و أن تحل فيه الشياطين . وحين يُبتلى الشاب ببيت فيه شيء من هذه المعاصي , فليجعل لبيته نصيباً من صلاته , وذكره , وتلاوته لكتاب الله , يدفع بذلك شيئاً من هذه الشرور ولآثام عن هذا المنزل وعن هذا البيت.
الأثر السادس
حين يعبد المسلم ربه في بيته , وحين يكون لبيته نصيب من صلاته, وعبادته لله عز وجل . فإنَّ هذا مدعاةٌ لأن تكون العبادة شأناً له , وديدناً له في كل أحواله , فهو يعبد الله في المسجد , وهو يعبد الله حين يلتقي برفقته وإخوانه الصالحين, وحين يعود إلى البيت كذلك . فتصبح العبادة شأناً له , وديدناً . فيلهج لسانه , وجوارحه , وأحواله كلها بالعبادة لله سبحانه وتعالى, فتصبح عبادة الله عز وجل عادةً له يشق عليه أن يتركها , وأمراً يألفه يصعب عليه أن يفارقه , بعد أن كان يجاهد نفسه , ويكابدها على هذه العبادة . أرأيت مثلاً الذي لا يشهد صلاة الفجر مع الجماعة , كم يثقل عليه حين يريد أن يستيقظ للصلاة . أما الذي اعتاد أن يستيقظ للصلاة , فالأمر عليه هينٌ وسهلٌ , بل يثقل عليه , ويشق عليه , ويصيبه السأم , ولا ينسى أنَّه لم يستيقظ مرةً من المرات . فإذا دوام المرء العبادة , صعب وشق عليه تركها , ويصبح حينها من المخبتين , المتقين , المقبلين الى الله سبحانه وتعالى .
الأثر السابع(/5)
وهي قضيةٌ مهمةٌ خاصةً للشباب . وهي أنَّ كثيراً من الشباب , يشتكي من الفراغ أو الخلوة في البيت , وحين يبقى في منزله فكأنه في زنزانة , وعلى أحر من الجمر , فهو ينتظر أن يطرق صاحبه عليه بابه , أ و جرس الهاتف مؤذناً له بأنه سيحل عليه , وحين يفارق أصحابه أو يفارقونه , فإنه يشعر بوحشة , وغربة , ويعيش في البيت كأنه يعيش في جحيم ولهذا فإنّه يتمنى ألا يعود مبكراً إلى المنزل , ويتمنى أن يفارق المنزل إذا حل فيه , وله شئٌ من العذر في ذلك أنّه حين يكون مع إخوانه , ومع رفقته , يكون أكثرَ إقبالاً على الله سبحانه وتعالى وأكثر طاعة له عز وجل , وأكثر بعداً عن المعصية , أمَّا حين يخلوا بنفسه , ويغلق عليه بابه , فإنَّ ذلك مدعاة لأن يستولي عليه الشيطان ويوقعه في معصية الله عز وجل , والشيطان يهم بالواحد وهو من الاثنين أبعد ويهم بالاثنين وهو من الثلاثة أبعد . ولهذا نجد البعض من الشباب قد ينحرف , وقد يضل حين ينقطع عن رفقته , ويبقى وقتاً في منزله ولو كان قصيراً ولم يعد يحتمل البقاء في المنزل ولو وقتاً قصيراً ويتسائل ما العلاج لهذه الظاهرة ؟! أمّا لو أنّه اعتاد أن يَعمُرَ البيت بالعبادة , فيقرأ القرآن في بيته , ويذكر الله , ويصلى لله عز وجل في أي وقت , والصلاة مشروعة في أي وقت , وليست خاصةً بالرواتب , وليست خاصةً بقيام الليل إلا أن يكون وقتاً نُهي عن الصلاة فيه . فالمرء مشروع له أن يصلي لله سبحانه وتعالى , فيصلي ما كتب له فإذا اعتاد هذا الأمر فحينما يخلوا في منزله , يفزع إلى صلاته , إلى تلاوة كتاب الله عز وجل , إلى ذكر الله سبحانه وتعالى . فلا يشعر بالعزلة , لا يشعر بالوحشة , لا يشعر بأثر فقدانه لأصحابه , وإخوانه , بل ربما صار يدعوه ذلك إلى أن يجتهد لأن يكون له نصيب من خلوته بالله سبحانه وتعالى . له نصيبٌ يخلو فيه , ويبتعد فيه عن الناس ليركع ركعتين في ظلمة الليل , أو يتلوا كتاب الله عز وجل , أو يذكر الله يقلبه ولسانه خالياً علَّ عينه تفيض بدمعة خوفاً من الله سبحانه وتعالى , أو شوقاً إلى رحمته ولقائه , فيكون ممن قال فيهم صلى الله عليه وسلم " سبعة يظلمهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ومنهم رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه" . أقول حينما نعتاد العبادة بأبوابها وطرقها , في منازلنا . فإننا لن نشكو هذه الشكوى , بل ربما نسعى إلى أن نوفّر جزءًا من وقتنا , نخلوا به في بيوتنا , لنعتبر إلى سبحانه وتعالى . وحين يفضل وقت غير ذلك فسيصرفه في قرائة كتاب من كتب أهل العلم , أو سماع ما يتعلم به فيرى حينها أنّ وقته كله صار معموراً بطاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته .
الأثر الثامن
عبادة المرء في بيته, لها أثرٌ عظيم في تحقيق الإخلاص في نفسه , وتجنب الرياء , وقد يجد المرء نشاطاً حينما يصلي مع الناس , ليس ذلك باباً من أبواب الرياء , بل هو من باب التعاون على البر والتقوى . لكن أيضاً العبادة في السر تلاوةً وصلاةً , وذكراً لله عز وجل , وتفكراً , لها أثرٌ آخر , وأمرٌ آخر . وهما كالجناحين للطائر لاينوب أحدهما عن صاحبه , و لا يقوم أحدهما مقام الآخر , إنَّك أبداً لا يمكن أن تستقيم حياتك , ولا أن يصلح قلبك حين تعبد الله عز وجل في المسجد وحده , أن تعبد الله مع إخوانك. لأن العبادة في البيت لها أثر عظيم في إصلاح القلب , وإصلاح النفس , وفي فتح جوانب من العبودية , والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى . لا يمكن أن تنفتح للعبد وهو مع الناس , وفي مَشَاهد الناس , ولها أثر في تأصيل الإخلاص في قلبك وتنقيته من شوائب الرياء , وإرادة ما سوى الله عز وجل .
الأثر التاسع
وأخيراً ما الذي يبكي عليك ؟ يقول الله سبحانه وتعالى حيث أهلك قوم فرعون - ونسأل الله عز وجل للطغاة آمثالهم - يقول ( فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ) نعم لم تعرف الأرض من قوم فرعون, إلاّ الطغيان , والتَّجبُّر , فقد كانوا يستذلُّون الناس , ويستحيون نسائهم ويقتلون أولادهم , كانوا يبدّلون دين الله عز وجل , وكانوا بالمرصاد حرباً على موسى , ومن معه , لا لشيءٍ إلا لأنهم دعوا إلى الله سبحانه وتعالى , وآمنوا بالله عز وجل وأرادوا إخراج الناس من عبودية , ورقة , وذل . إلى عبودية الله سبحانه وتعالى , فأخذهم الله عز وجل غير مأسوفٍ عليهم فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين.
وروى ابن جرير في تفسيره , عن ابن عباس رضى الله عنهما في هذه الآية : " أنّ رجلاً قال له : يا أبا العباس أرأيت قول الله تعالى ( فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ) فهل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ قال رضى الله عنه : نعم : إنّه ليس أحدٌ من الخلائق , إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه , وفيه يصعد عمله , ففقده بكى عليه، وإذا فقده مصلاه في الأرض التي كان يصلى فيها , ويذكر الله عز وجل فيها , بكت عليه.(/6)
فسيفقدك مبيتك وغرفتك التي كنت تأوي إليها سنيين عدداً , ستفقدك عاجلاً أو آجلاً , فهل تُراها ستبكي عليك أم أن لها شأناً آخر , فقد فقدت معصية الله عز وجل , وأنت أعلم بحالك , وحين تعمرُ مكانك , وغرفتك , وبيتك , بصلاة , وذكر وتلاوة لله عز وجل فهي تبكي عليك يوم تفارقها , قريباً أو بعيداً , وقد رويت آثارٌ في ذلك عن جمعٍ من التابعين , بل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال ابن عباس , و مجاهد , و سعيد بن جبير , وغير واحد : " أنّ الأرض تبكي على المؤمن أربعين صباحاً ".
وقال مجاهد : " ما مات مؤمنٌ إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً . قال فقلت له أتبكي الأرض ؟ فقال أتعجب وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود ؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دويٌ كدويّ النحل؟ " .
هذه معشر الأخوة بعضُ آثار إحياء العبادة في بيوتنا , بأنواعها , وأبوابها وطرقها , وهي كلها تدعونا إلى أن يكون لبيوتنا نصيب من عبادتنا , ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن تبكي عليه السماء والأرض وممن يعمر قلبه وبيته بعبادته وطاعته, إنه سميع مجيب .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..(/7)
لا تحزن إن الله معنا
محمد بن عبدالرحمن العريفي
دار القاسم
منذ فتره لم أره ضاحكا، نعم يتبسم أحيانا، لكن الحزن والكآبة أبدا ظاهران على محياه، يكثر السؤال عن أحوال المسلمين، يتتبع أخبار الاضطهاد والقتل والتشريد.. قال لي يوما:
- أحمد!.. أولسنا على الحق وأعداؤنا على الباطل؟ قلت: بلى!!
- أولسنا في صف الرحمن، وهم في صف الشيطان؟ قلت: بلى!!.
- أولسنا ندعو إلى الفضيلة وهم يدعون إلى الرذيلة؟ أولسنا مسالمين لا نعتدي ولا نظلم وهم السفاحون الخونة؟.. قلت: بلى.. بلى !!
- فلماذا لا ينصرنا الله عليهم؟ لماذا نبقى في اضطهاد وتشريد؟.. أكاد أجن ! بل لو جاز قتل النفس لفعلت، مانفيق من ألم
صفعة إلا تتبعها أخرى! من الاعتداء على أفغانستان، إلى مذابح كشمير، وهدم المساجد في الهند، و.. و.. وآلام وويلات في بلاد الإسلام، حتى بلغنا من الذل أن ذبحنا ذبح الشياه في البوسنة والهرسك، ثم في كوسوفا.. ولاندري أين يكون الجرح القادم..
أطفال يتامى.. نساء أرامل.. فتيات يحملن في أحشائهن أبناء المعتدين ! لم يستطعن أن يحصلن ولو على حبوب منع الحمل..
إلى متى يستمر حال الأمة هكذا؟! صارالمسلم الآن لاينتظر إذا أصبح إلا خبرا مبكيا، أو موتا منسيا.. لاحول ولا قوة إلا بالله..
ثم بكى !.. بل اشتد بكاؤه.. وهو ينظر إلي.. ينتظر أن أشاركه النياحة!!..
أدخلت يدي في جيبي وناولته منديلا يمسح به بقية همه وغمه، ثم قلت له:
- خالد! لاتحزن إن الله معنا .. إن نصر الله قريب.. إي والله إنه قريب، وما يصيب أمة الاسلام الآن إلا آلام ماقبل الولادة.. نعم ولادة النصر والتمكين لهذا الدين
والدين منصور وممتحن فلا *** تعجب فهذي سنة الرحمن
واستمع إلى هذه البشائر:
قال تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:8-9]، وقال سبحانه: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، وان جندنا لهم الغالبون [الصافات:171-173]، وقال عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:155].
فهذه كلها وعود جازمة بالنصر والتمكين، وعدنا بها من بيده ملك السماوات والأرض، وعدنا بها من قلوب العباد، وعقولهم، ونواصيهم، وقواتهم، وأسلحتهم، وتخطيطاتهم، بيده وحده لاشريك له.. فهل تنكر من ذلك شيئا؟..
ثم لا تنبهر عينك من كثرة الكافرين وتألبهم على المسلمين، ولا تخش من أسلحتهم، وتطورهم، وظهورهم، فإن كيدهم مهما عظم فهو ضعيف: إنهم يكيدون كيدا، وأكيد كيدا، فمهل الكافرين أمهلهم رويدا [الطارق:15-17]، نعم أمهلهم رويدا.. وقد يكون هذا الرويد سنة أو سنتين أو عشرأ أو عشرين أو ألفا.. لكنه رويد مهما طال، وهم مع اجتماعهم، واتفاقهم على حربنا، إلا أنهم والله يوشكون أن يختلفوا ويقتتلوا، ويكفي الله المؤمنين القتال تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى [الحشر:14].
واستمع إلى هذه البشائر:
عن تميم الداري قال: سمعت رسول الله يقول: { ليبلغن هذا الأمر مابلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الشرك } [أخرجه أحمد والحاكم، وصححه الألباني].
وعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله قال: { تكون النبوة فيكم ماشاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، تكون ماشاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ماشاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة } [أخرجه أحمد، وصححه العرا قي، والألباني].
وعن سعد بن أبي وقاص أن وسول الله قال: { لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لايضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك } [رواه مسلم].
وعن أبي بن كعب رضي الله أن رسول الله قال: { بشر هذه الأمة بالنساء، والنصر، والتمكين، ومن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا؟ لم يكن له في الآخرة نصيب } [أخرجه أحمد، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي والألباني].
هل تعلم؟!! سوف نقاتل اليهود ! نعم اليهود، الذين نجري الآن وراءهم نستجديهم السلام ! سوف نقاتلهم، بل سوف نقتلهم، ويقاتلهم معنا كل شيء حتى الحجر والشجر!.(/1)
عن أي هريرة أن رسول الله قال: { لاتقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبأ اليهودي من وراء الحجروالشجر! فيقول الحجرأو الشجر: يامسلم ! ياعبدالله ! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد
فإنه من شجر اليهود } [رواه البخاري ومسلم].
وسوت نفتح مأرز النمرانية، ونسيطر على أرض الفاتيكات، سوت نملك "روما " ونحكمها بالاسلام، نعم.. النصارى الذي يرسمون الصلبان بالسكاكين على صدور المسلمين في كوسوفا، وقبلها في البوسنة، وقبلها في بقاع كثيرة.. سوف يؤدون لنا الجزية عن يد وهم صاغرون، إلا أن يدخلوا في الإسلام..
عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه قال: { بينما نحن عند رسول الله نكتب، إذ سئل: أي المديتتين تفتح أولا: أقسطنطينية، أم رومية؟ فقال رسول الله : "مدينة هرقل تفتح أولا، يعني القسطنطينية. } [أخرجه أحمد، والحاكم وصححه ووافقه ا لذهبي، والألباني].
وهناك بشائر أخرى، منها:
أن دين الاسلام: هو الدين الذي يتوافق مع فطرة الأنسان، ويكفل له سعادتي الدنيا والاخرة، ولايمكن أن يعيش الناس في أمن وسعادة في ظل دين آخر..
جرائم الاغتصاب، والسرقة، والقتل، بل والتفكك الأسري، والأمراض النفسية، كلها في إزدياد يوما بعد يوم في أكثر البلاد تطورا وحضارة، ولماذا؟ لأن أديانهم الباطلة والمحرفة لم تفلح في تعليق قلوبهم بالآخرة..
في أمريكا: في عام 1997: أصبح الذين لديهم خبرة في الأجرام بمختلف أنواعه 8، 34 مليون، منهم 74% جرائمهم كبيرة جدا!! ومن كل: 1000 شخص، تم القبض على: 199 سارقا !! [تم استخراج هذه المعلومات، وما بعدها، من إدارة الاحصاءات الأمريكية]
ووصل معدل الجريمة خلال عام واحد الى 25. 14 مليون جريمة!!
وبلغت نسبة الطلاق 60% من عدد الزيجات!!
ويغتصب يوميا 1900 فتاة!! 20% منهن يغتصبن من قبل آبائهن!!
فهل تظن أن مجتمعا مثل هذا يظل منصررا متمكنا؟!: فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا [مريم:84].
ومن البشائر: مانشاهده يوما بعد يوم في بلاد الإسلام، من إقبال الناس على التمسك بالدين، والاهتمام بأحكامه، بل وفي غير بلاد الاسلام نرى، ازياد الداخلين في الإسلام.
أما مانشاهده اليوم من اضطهاد، وقتل، وتشريد للمسلمين،فهو لايعني أن الأمة سيستمر حالها هكذا، لا، بل سيأتي يوم ينتصر فيه الاسلام، وعندما يأتي ذلك اليوم، فماذا يعني عمر جيل من البشر؟ أو أجيال؟ النصر قادم.. ليس المهم متى سيأتي النصر، لكن المهم أنه سيأتي، مهما وقع من المصائب والآلام.. سيأتي وكان حقا عليا نصر المؤمنين [الروم:47].
ولو قلبت صفحات التاريخ، لرأيت أنه قد حل بالمسلمين في أزمان مضت، مذابح، ومصائب، تشيب منها مفارق الولدان!! ثم لما حاسب المسلمون أنفسهم، ولجئوا إلى ربهم، كشف الله كربتهم، وأبدل خوفهم أمنا، وذلهم عزا..
ومن ذلك: ماحل بالمسلمين عام 656 هـ لما نزل التتار ببلاد الاسلام، وانتهبوها، حتى وصلوا إلى بغداد- عاصمة الخلافة وقتئذ- فحاصروها، ثم قتلوا الخليفة، وجنده، وحاشيته، وستباحوا بغداد أربعين يوما يقتلون ما نالته أيديهم من الرجال والنساء والصبيان.. لم يكن لجنود التتار شغل إلا: القتل.. القتل..
أتدري كم قتل من المسلمين خلال أربعين يوما؟ ذبحا بالسكاكين، وطعنا بالرماح، وتغريقا في دجلة؟!
إلبك ماذكره الإمام ابن كثير في تاريخه، واصفا الحال، كله، قال رحمه الله:
"ومالوا على البلد فقتلوا جميع مق قدروا عليه من الرجال، والنساء، والولدان، والمشا يخ، والكهول، والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار، وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، ومكثوا كذلك أياما لايظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات، ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، فيهرب الناس إلى السطوح، فيقتلونهم هناك حتى جرت الميازيب بالدماء في الأزقة!!
وقتل خلال الأربعين يوما ألف ألف وثمانمائة ألف!! فإنا لله وإنا إليه راجعون.. وكان الرجل يستدعى فيخرج بأولاده ونسائه فيساقون إلى المقبرة ثم يذبحون ذبح الشياه، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه..
ولما انقضت الأربعون خرج التتار من بغداد، وبقيت خاوية على عروشها، القتلى قي الطرقات كالتلال، وسقط عليهم المطر فأنتوا، وتغير الهواء، ووقع بسبب ذلك وباء مات بسببه خلق في الشام من سريان الهواء الفاسد إليهم!!
أما من كان مختبئا في المقابر والمطامير، فخرجوا بعد الأربعين يوما كأنهم موتى نشروا من قبورهم.. قد أنكر بعضهم بعضا.. لايعرف الوالد ولده.. ولا الأخ أخاه.. فلم يلبثوا أن أصابهم الوباء فتصرعوا، ولحقوا بمن مضى، واجتمعوا تحت الثرى، بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى" ا. هـ [ج 215/13 بتصرف].
وبعد هذه المحنة العظيمة، كشف الله تعالى الكربة، ورفع البلاء، وراجع المسلمون دينهم، وعاد لهم عزهم ومجدهم: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيدكم ويعفو عن كثير [الشورى:30].(/2)
ووقوع ذلك البلا عليهم، بل ووقوع غيره قبله وبعده إلى زماننا هذا، لايعني أن الله تعالى يبغض المسلمين، أو يفضل عليهم الكافرين، ولكن قل هو من عند أنفسكم [آل عمران:165]، إن الله لا يغير ما بقومحتى يغيروا ما بانفسهم [الرعد:11].
ولعله يسأل سائل فيقول: كيف يكون المستقبل للإسلام؟ والأعداء قد اجتمعوا عليه وتكالبوا من كل جهة؟ وقد سلطوا عذابهم ونيرانهم على المسلمين عامة، وعلى الدعاة إليه والمتمسكين به خاصة؟ كيف والأعداء يملكون القنابل النووية، والأسلحة الفتاكة، والمسلمرن عزل من السلاح؟
إن هذا السائل لينسى: أن الذى ينصر المسلمين هو الله - جل شأنه - لاجهدهم ولا قوتهم: قاتلوهم يعذبهم اللة بأيديكم [التوبة:14]، فالمسلمون سبب لتحقيق قدر الله وإرادته: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [الأنفال:17].
وينسى هذا السائل: أن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض، ومما يسبح له قنابل هؤلاء وأسلحتهم وسجونهم ومعتقلاتهم.
وينسى هذا الساثل: أن الله إذا أراد أمرا، فإنما يقول له: كن، فيكون: وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر [القمر:50].
وينسى هذا السائل: أن الأعداء وصلوا إلى هذا المستوى الهائل من القوة والتمكين، بجهدهم البشري، وهو ليس حكرا على أحد، فالمسلمون قادرون على أن يسيروا في طريق التقدم العلمي والمادي مع المحافظة على الأصول الأسلامية، بل يمكن أن يبدءوا من حيث انتهى غيرهم، بل لو وقفت فاحصا عن العقول التي شاركت في صنع هذه القنابل والأسلحة المتطورة لوجدتها لاتخلوا من عقول إسلامية.
وينسى هذا السائل: أن الاسلام الذي انتصر - أول ما ظهر - على الرغم من كيد قريش واليهود ومشركي العرب، بل بالرغم من كيد فارس والررم، والصليبيين والتتار، هو الذي تواجهه الآن القوى المختلفة المتنازعة فيما بينها، من النصارى واليهود، كتب اللة لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزير [المجادلة:21]، وصدق الله إذ يقول: وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ، وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ، وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود:121-123].
ولكن هناك أمور لابد أن نراعيها لنستجلب النصر:
أولها: أن نصلح حالنا مع ربنا جل جلاله، وأهم ذلك أن نخلص التوحيد له وحده سبحانه، ونتخلص من جميع صور الشرك، كدعاء غير الله، أو الاستعانة بغير الله، أو تعظيم القبور وبناء المساجد عليها، أو الحلف بغير الله، أو غير ذلك من صور الشرك.
ثانياً: أن نقوي علاقتنا بالله عز وجل، وأول ذلك أن نحرص على إقامة الصلوات الخمس، مع ما استطعنا من النوافل، مع الاكثار من تلاوة القرآن والذكر.
ثالثاً: أن نحاسب أنفسنا: لماذا وقعت علينا هذه العقوبات؟إذ كيف ينصرنا الله ونحن نعصيه بأسماعنا وأبصارنا؟ ثم: هل ربينا أولادنا على الاسلام؟ هل علمناهم الصلاة؟ هل حفظناهم ا لقرآن؟ هل حجبنا نساءنا؟ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذاقل هو من عد أنفسكم [آل عمران:165].
رابعاً: أن يبذل كل واحد منا مايستطيع من جهود: مالية، وبدنية وفكرية، لنشر الخير، ودعوة المسلمين جميعا.. مهما كلفنا ذلك، ومهما بذلنا من جهد ووقت ومال، فإن هذا قليل في سبيل انتصار الدين وظهوره..
انظر ! كم يبذل الأعداء من جهود وأموال في سبيل إضلال المسلمين، وتغييبهم عن واقعهم، من خلال مجلات ماجنة، أو قنوات هابطة، أو من خلال دعوات صريحة إلى التبرؤ من الاسلام، واستبداله بالنصرانية أو العلمانية اللادينية!! والله لو بذلنا نصف ما يبذلون لتغيرت أحوال لعالم كله، فـ ياليت قومي يعلمون .
خامساً: أنه مهما طال أمد انتظار النصر فلا ينبغي أن نيئس من حصوله، عن خباب قال: { أتيت رسول الله وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة - ولقد لقينا من المشركين شدة - فقلت: يارسول الله، ألا تدعوا الله لنا؟! فقعد وهو محمر وجهه، فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد مادون عظامه من لحم أو عصب مايصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه وليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت مايخاف إلا الله } [رواه البخاري].
سادساً: أن نزرع في نفوس الناس الثقة بهذا الدين وإنتصاره، وننشر بينهم النصوص الشرعية، والدلاثل الواقعية التي تؤكد ذلك.(/3)
سابعاً: لاينبغي أن نستمع إلى المخذلين، وضعفاء الأيمان، الذبن استسلموا لأعدائهم، وأعطوهم قيادهم، وأيبسوا من رحمة الله ونصره وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا [الأحزاب:12] هذا حال المنافقين، أما المؤمنون فإنهم ولما رآى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا اللة ورسوله وصدق اللة ورسوله وما زادهم إلا ايماناً وتسليماً [الأحزاب:22].
أسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته.. آمين.(/4)
لا تحزن من نقد أهل الباطل والحساد
لا تحزن على ذلك فإنك مأجور على صبرك ، سأل موسى ربه أن يكف ألسنة الناس عنه فقال الله عز وجل : يا موسى ما اتخذت ذلك لنفسي ، وإني أخلقهم وأرزقهم وإنهم يسبوني ويشتموني !!
إنك لن تستطيع أن تعتقل ألسنة البشر عن فرْي عرضك ، ولكنك تستطيع أن تفعل الخير ، وتجتنب كلامهم ونقدهم . يقول أحد أدباء الغرب : أفعل ما هو صحيحاً ثم أدر ظهرك لكل نقد سخيف . ومن الفوائد والتجارب : لا ترد على كلمة جارحة فيك ، أو مقولة أو قصيدة فإن الاحتمال دفن المعايب ، والحلم عز ، والصمت يقهر الأعداء ، والعفو مثوبة وشرف ونصف الذين يقرءون الشتم فيك نسوة والنصف الآخر ما قرءوه وغيرهم لا يدرون ما السبب وما القضية فلا ترسخ ذلك أنت وتعمقه بالرد على ما قيل .
قال الشاعر :
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ***** فالناس أعداءٌ له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ***** حسداً ومقتاً إنه لذميم
ويقول آخر :
وهم يحسدوني على موتي فوا أسفا **** حتى على الموت لا أخلو من الحسد
ويقول آخر :
وإذا الفتى بلغ السماء بمجده ***** كانت كأعداد النجوم عِداهُ
ورموه عن قوس بكل عظيمة ***** لا يبلغون بما جنوه مداهُ
كيف التصرف حيال أذى الناس ؟
الناس قد يؤذونك وخاصة بأقوالهم السيئة , فلا بد لك أن تعلم أن هذا الأذى يضرهم ولا يضرك ,إلا إذا شغلت نفسك بأقوالهم فعندها ستتضايق , وإن أهملتها فستكون مرتاحاً 0 قال صلى الله عليه وسلم :
" أتدرون من المفلس ؟ إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ,ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا , وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته , فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار " رواه مسلم .
فإذن الذي يغتابني ويسبني ويتكلم علي هو في الحقيقة يعطيني من حسناته ويحسن إلي فجزاه الله خيراً . فإذا قال لك شخص كلاماً يؤذيك , فاتركه واذهب وهو الذي سيتضايق ويغتاظ ( قل موتوا بغيظكم ) وأما إذ أشغلت نفسك بهذا الكلام فستتضايق حتماً , وقد مر عمر بن عبدالعزيز في سوق المدينة فعثر في رجل فقال له الرجل : أعمى ؟ قال عمر : لا 0 وقد أراد به الحارس – حارس عمر – فقال عمر : دعه سألني : أعمى قلت : لا .(/1)
لا تحزن
للشيخ / عائض القرني
http://www.saaid.net/
هذا الكتاب
دراسة ... ٌ جادةٌ أخّاذةٌ مسؤولةٌ ، تعنى بمعالجةِ الجانبِ المأسوي من حياةِ البشريةِ جانب الاضطرابِ والقلق ِ ، وفقدِ الثقةِ ، والحيرة ، والكآبةِ والتشاؤمِ ، والهمِّ والغمِّ ، والحزنِ ، والكدرِ ، واليأس والقنوطِ والإحباطِ .
وهو حلٌّ المشكلاتِ العصر على نورٍ من الوحي ، وهدي من الرسالة ، وموافقةٍ مع الفطرةِ السويَّةِ ، والتجاربِ الراشدةِ ، والأمثالِ الحيَّةِ ، والقصصِ الجذَّابِ ، والأدبِ الخلاَّبِ ، وفيه نقولاتٌ عن الصحابة الأبرار ، والتابعين الأخيارِ ، وفيه نفحاتٌ من قصيِدِ كبارِ الشعراء ، ووصايا جهابذةِ الأطباءِ ، ونصائحِ الحكماءِ ، وتوجيهاتِ العلماء .
وفي ثناياه أُطروحاتٌ للشرقيين والغربيين ، والقدامى والمحدثين . كلُّ ذلك مع ما يوافقُ الحقَّ مما قدَّمَتْه وسائلُ الإعلام ، من صحفٍ ومجلات ، ودورياتٍ وملاحق ونشرات .
إن هذا الكتاب مزيجٌ مرتَّبٌ ، وجهدٌ مهذَّبٌ مشذَّبٌ . وهو يقولُ لك باختصار :
(( اسعدْ واطمئنَّ وأبشرْ وتفاءلْ ولا تحزن ))
*************************************
http://www.saaid.net/
المقدمة
الحمدُ ... لله ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ الله ِ ، وعلى آله وصحبهِ وبعدُ :
فهذا الكتاب ( لا تحزن ) ، عسى أن تسعد بقراءتهِ والاستفادةِ منه ، ولك قبل أن تقرأ هذا الكتابٍ أن تحاكمه إلى المنطقِ السليمِ والعقلِ الصحيحِ ، وفوق هذا وذاك النقْل المعصوم .
إنَّ من الحيْفِ الحكمَ المُسبق على الشيءِ قبلَ تصوُّرهِ وذوقهِ وشمِّهِ ، وإن من ظلمِ المعرفةِ إصدار فتوى مسبقةٍ قبلَ الإطلاعِ والتأمُّلِ ، وسماعِ الدعوى ورؤيةِ الحجةِ ، وقراءةِ البرهان .
كتبتُ هذا الحديث لمن عاش ضائقةً أو ألمَّ بهِ همٌّ أو حزنٌ ، أو طاف به طائفٌ من مصيبةٍ ، أو أقضَّ مضجعة أرقٌ ، وشرَّدَ نومَه قلقٌ . وأيُّنا يخلو من ذلك ؟!
هنا آياتٌ وأبياتٌ ، وصورٌ وعِبرٌ ، وفوائدُ وشواردُ ، وأمثالٌ وقصصٌ ، سكبتُ فيها عصارة ما وصل إليه اللامعون ؛ من دواءٍ للقلبِ المفجوعِ ، والروحِ المنهكةِ ، والنفسِ الحزينةِ البائسةِ .
هذا الكتابُ يقولُ لك : أبشِر واسعدْ ، وتفاءَلْ واهدأ . بل يقولُ : عِشِ الحياة كما هي ، طيبةً رضيَّة بهيجةً .
هذا الكتابٌ يصحّحُ لك أخطاء مخالفةِ الفطرة ، في التعاملِ مع السننِ والناسِ ، والأشياءِ ، والزمانِ والمكانِ .
إنه ينهاك نهياً جازماً عن الإصرارِ على مصادمةِ الحياةِ ومعاكسةِ القضاءِ ، ومخاصمةِ المنهجِ ورفضِ الدليل ، بل يُناديك من مكانٍ قريبٍ من أقطارِ نفسِك ، ومن أطرافِ رُوحِك أن تطمئنَّ لحُسْنِ مصيرِك ، وتثق بمعطياتِك وتستثمر مواهبك ، وتنسى منغّصاتِ العيشِ ، وغصص العمرِ وأتعاب المسيرةِ .
وأريدُ التنبيه على مسائل هامّة في أوله :
أنَّ المقصد من الكتاب جلْبُ السعادةِ والهدوءِ والسكينة وانشراح ِ الصدرِ ، وفتحُ بابِ الأملِ والتفاؤلِ والفرج والمستقبلِ الزاهرِ .
وهو تذكيرٌ برحمة اللهِ وغفرانِهِ ، والتوكُّلِ عليه ، وحسنِ الظنِّ بهِ ، والإيمانِ بالقضاءِ والقدرِ ، والعيشِ في حدودِ اليومِ ، وتركِ القلقِ على المستقبل ِ ، وتذكُّرِ نِعَمِ الله ِ .
وهو محاولةٌ لطردِ الهمِّ والغمِّ ، والحزن والأسى ، والقلقِ والاضْطرابِ ، وضيقِ الصدرِ والانهيارِ واليأسِ ، والقنوطِ والإحباطِ .
جمعتُ فيه ما يدورُ في فلكِ الموضوعِ منْ التنزيلِ ، ومن كلام المعصومِ ( ، ومن الأمثلةِ الشاردة ِ ، والقصصِ المعبرةِ ، والأبياتِ المؤثّرةِ ، وما قالهُ الحكماءُ والأطباءُ والأدباءُ ، وفيه قبسٌ من التجاربِ الماثِلة والبراهينِ الساطعة ، والكلمةِ الجادَّةِ وليس وعظاً مجرداً ، ولا ترفاً فكريّاً ، ولا طرحاً سياسياً ؛ بل هو دعوةٌ مُلِحَّةٌ من أجلِ سعادتِك .
هذا الكتابُ للمسلم وغيره ، فراعيتُ فيه المشاعر ومنافذ النفسِ الإنسانيةِ ؛ آخذاً في الاعتبار المنهج الربانيَّ الصحيح ، وهو دينُ الفطرِة .
سوف تجدُ في الكتاب نُقولاتٍ عن شرقيين وغربيّين ، ولعلّه لا تثريب علىَّ في ذلك ؛ فالحكمة ضالةُ المؤمنِ ، أنَّى وجدها فهو أحقُّ بها .
لم أجعلْ للكتاب حواشي ، تخفيفاً للقارئ وتسهيلاً له ، لتكون قراءاته مستمرّةً وفكرُه متصلاً . وجعلتُ المرجع مع النقلِ في أصلِ الكتاب ِ .
لم أنقلْ رقم الصفحةِ ولا الجزءِ ، مقتدياً بمنْ سبق في ذلك ؛ ورأيتُه أنفع وأسهل ، فحيناً أنقلُ بتصرُّفٍ ، وحيناً بالنصِّ ، أو بما فهمتُه من الكتابِ أو المقالةِ .
لم أرتبْ هذا الكتاب على الأبوابِ ولا على الفصولِ ، وإنما نوعتُ فيه الطَّرح ، فربَّما أداخلُ بين الفِقراتِ ، وأنتقلُ منْ حديثٍ إلى آخر وأعودُ للحديثِ بعد صفحاتٍ ، ليكون أمتع للقارئ وألذّ لهُ وأطرف لنظرهِ .(/1)
لم أُطِلْ بأرقامِ الآياتِ أو تخريجِ الأحاديث ؛ فإنْ كان الحديثُ فيه ضعفٌ بيّنتُهُ ، وإن كان صحيحاً أو حسناً ذكرتُ ذلك أو سكتُّ . وهذا كلُّه طلباً للاختصار ، وبُعداً عن التكرارِ والإكثارِ والإملالِ ، (( والمتشبِّعُ بما لم يُعط كلابسِ ثوبيْ زُورٍ )) .
ربما يلْحظُ القارئُ تكراراً لبعض المعاني في قوالب شتّى ، وأساليب متنوعةٍ ، وأنا قصدتُ ذلك وتعمدتُ هذا الصنيع لتثبت الفكرةُ بأكثر من طرحٍ ، وترسخ المعلومةُ بغزارةِ النقلِ ، ومن يتدبّرِ القرآن يجدْ ذلك .
... تلك عشرةٌ كاملةٌ ، أقدِّمها لمن أراد أن يقرأ هذا الكتاب ، وعسى أن يحملَّ هذا الكتاب صدْقاً في الخبرِ ، وعدلاً في الحكم ِ ، وإنصافاً في القولِ ، ويقيناً في المعرفةِ ، وسداداً في الرأيِ ، ونوراً في البصيرة .
... إنني أخاطبُ فيه الجميع ، وأتكلم ، فيه للكلّ ، ولم أقصِدْ به طائفةً خاصّةً ، أو جيلاً بعينهِ ، أو فئةً متحيّزةً ، أو بلداً بذاتهِ ، بل هو لكلِّ من أراد أنْ يحيا حياة سعيدةً .
ورصعتُ فيهِ الدُّرَّ حتى تركتُهُ
يُضيءُ بلا شمسٍ ويسرْي بلا قمرْ
فعيناهُ سحرٌ والجبينُ مهنَّدٌ
ولله درُّ الرَّمشِ والجيدِ والحورْ
*****************************************
يا الله
? يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ? : إذا اضطرب البحرُ ، وهاج الموجُ ، وهبَّتِ الريحُ ، نادى أصحابُ السفينةِ : يا الله.
إذا ضلَّ الحادي في الصحراءِ ومال الركبُ عن الطريقِ ، وحارتِ القافلةُ في السيرِ ، نادوا : يا الله.
إذا وقعت المصيبةُ ، وحلّتِ النكبةُ وجثمتِ الكارثةُ ، نادى المصابُ المنكوبُ : يا الله.
إذا أُوصدتِ الأبوابُ أمام الطالبين ، وأُسدِلتِ الستورُ في وجوهِ السائلين ، صاحوا : يا الله .
إذا بارتِ الحيلُ وضاقتِ السُّبُلُ وانتهتِ الآمالُ وتقطَّعتِ الحبالُ ، نادوا : يا الله.
إذا ضاقتْ عليك الأرضُ بما رحُبتْ وضاقتْ عليك نفسُك بما حملتْ ، فاهتفْ: يا الله.
إليه يصعدُ الكلِمُ الطيبُ ، والدعاءُ الخالصُ ، والهاتفُ الصَّادقُ ، والدَّمعُ البريءُ ، والتفجُّع الوالِهُ .
إليه تُمدُّ الأكُفُّ في الأسْحارِ ، والأيادي في الحاجات ، والأعينُ في الملمَّاتِ ، والأسئلةُ في الحوادث.
باسمهِ تشدو الألسنُ وتستغيثُ وتلهجُ وتنادي،وبذكرهِ تطمئنُّ القلوبُ وتسكنُ الأرواحُ ، وتهدأُ المشاعر وتبردُ الأعصابُ ، ويثوبُ الرُّشْدُ ، ويستقرُّ اليقينُ، ? اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ?
الله : أحسنُ الأسماءِ وأجملُ الحروفِ ، وأصدقُ العباراتِ ، وأثمنُ الكلماتِ، ? هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ? ؟! .
اللهُ : فإذا الغنى والبقاءُ ، والقوةُ والنُّصرةُ ، والعزُّ والقدرةُ والحِكْمَةُ ، ? لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ? .
الله : فإذا اللطفُ والعنايةُ ، والغوْثُ والمددُ ، والوُدُّ والإحسان ، ? وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ? .
الله : ذو الجلالِ والعظمةِ ، والهيبةِ والجبروتِ.
اللهم فاجعلْ مكان اللوعة سلْوة ، وجزاء الحزنِ سروراً ، وعند الخوفِ أمنْاً. اللهم أبردْ لاعِج القلبِ بثلجِ اليقينِ ، وأطفئْ جمْر الأرواحِ بماءِ الإيمانِ .
يا ربُّ ، ألق على العيونِ السَّاهرةِ نُعاساً أمنةً منك ، وعلى النفوسِ المضْطربةِ سكينة ، وأثبْها فتحاً قريباً. يا ربُّ اهدِ حيارى البصائرْ إلى نورِكْ ، وضُلاَّل المناهجِ إلى صراطكْ ، والزائغين عن السبيل إلى هداك .
اللهم أزل الوساوس بفجْر صادقٍ من النور ، وأزهقْ باطل الضَّمائرِ بفيْلقٍ من الحقِّ ، وردَّ كيد الشيطانِ بمددٍ من جنودِ عوْنِك مُسوِّمين.
اللهم أذهبْ عنَّا الحزن ، وأزلْ عنا الهمَّ ، واطردْ من نفوسنِا القلق.
نعوذُ بك من الخوْفِ إلا منْك ، والركونِ إلا إليك ، والتوكلِ إلا عليك ، والسؤالِ إلا منك ، والاستعانِة إلا بك ، أنت وليُّنا ، نعم المولى ونعم النصير.
***************************************
كن سعيداً
الإيمان والعمل الصالح هما سر حياتك الطيبة ، فاحرص عليهما .
اطلب العلم والمعرفة ، وعليك بالقراءة فإنها تذهب الهم .
جدد التوبة واهجر المعاصي ؛ لأنها تنغص عليك الحياة .
عليك بقراءة القرآن متدبراً ،وأكثر من ذكر الله دائماً .
أحسن إلى الناس بأنواع الإحسان ينشرح صدرك .
كن شجاعاً لا وجلاً خائفاً ، فالشجاع منشرح الصدر .
طهر قلبك من الحسد والحقد والدغل والغش وكل مرض .
اترك فضول النظر والكلام والاستماع والمخالطة والأكل والنوم .
انهمك في عمل مثمر تنسَ همومك وأحزانك .
عش في حدود يومك وانس الماضي والمستقبل .
انظر إلى من هو دونك في الصورة والرزق والعافية ونحوها .
قدِّر أسوأ الاحتمال ثم تعامل معه لو وقع .
لا تطاوع ذهنك في الذهاب وراء الخيالات المخيفة والأفكار السيئة .
لا تغضب ، واصبر واكظم واحلم وسامح ؛ فالعمر قصير .
لا تتوقع زوال النعم وحلول النقم ، بل على الله توكل .(/2)
أعطِ المشكلة حجمها الطبيعي ولا تضخم الحوادث .
تخلص من عقدة المؤامرة وانتظار المكاره .
بسِّط الحياة واهجر الترف ، ففضول العيش شغل ، ورفاهية الجسم عذاب للروح .
قارن بين النعم التي عندك والمصائب التي حلت بك لتجد الأرباح أعظم من الخسائر .
الأقوال السيئة التي قيلت فيك لن تضرك ، بل تضر صاحبها فلا تفكر فيها .
صحح تفكيرك ، ففكر في النعم والنجاح والفضيلة .
لا تنتظر شكراً من أحد ، فليس لك على أحد حق ، وافعل الإحسان لوجه الله فحسب .
حدد مشروعاً نافعاً لك ، وفكر فيه وتشاغل به لتنسى همومك .
احسم عملك في الحال ولا تؤخر عمل اليوم إلى غد .
تعلم العمل النافع الذي يناسبك ، واعمل العمل المفيد الذي ترتاح إليه .
فكر في نعم الله عليك ، وتحدث بها واشكر الله عليها .
اقنع بما آتاك الله من صحة ومال وأهل وعمل .
تعامل مع القريب والبعيد برؤية المحاسن وغض الطرف عن المعائب .
تغافل عن الزلات والشائعات وتتبع السقطات وأخبار الناس .
عليك بالمشي والرياضة والاهتمام بصحتك ؛ فالعقل السليم في الجسم السليم .
ادع الله دائماً بالعفو والعافية وصالح الحال والسلامة .
*****************************
فكر واشكر
المعنى : أن تذكر نِعم اللهِ عليك فإذا هي تغْمُرُك منْ فوقِك ومن تحتِ قدميْك ? وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ? صِحَّةٌ في بدنٍ ، أمنٌ في وطن ، غذاءٌ وكساءٌ ، وهواءٌ وماءٌ ، لديك الدنيا وأنت ما تشعرُ ، تملكُ الحياةً وأنت لا تعلمُ ? وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً? عندك عينان ، ولسانٌ وشفتانِ ، ويدانِ ورجلانِ ? فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ? هلْ هي مسألةٌ سهلةٌ أنْ تمشي على قدميْك ، وقد بُتِرتْ أقدامٌ؟! وأنْ تعتمِد على ساقيْك ، وقد قُطِعتْ سوقٌ؟! أحقيقٌ أن تنام ملء عينيك وقدْ أطار الألمُ نوم الكثيرِ؟! وأنْ تملأ معدتك من الطعامِ الشهيِّ وأن تكرع من الماءِ الباردِ وهناك من عُكِّر عليه الطعامُ ، ونُغِّص عليه الشَّرابُ بأمراضٍ وأسْقامٍ ؟! تفكَّر في سمْعِك وقدْ عُوفيت من الصَّمم ، وتأملْ في نظرِك وقدْ سلمت من العمى ، وانظر إلى جِلْدِك وقد نجوْت من البرصِ والجُذامِ ، والمحْ عقلك وقدْ أنعم عليك بحضورهِ ولم تُفجعْ بالجنونِ والذهولِ .
أتريدُ في بصرِك وحدهُ كجبلِ أُحُدٍ ذهباً ؟! أتحبُّ بيع سمعِك وزن ثهلان فضةَّ ؟! هل تشتري قصور الزهراءِ بلسانِك فتكون أبكم؟! هلْ تقايضُ بيديك مقابل عقودِ اللؤلؤ والياقوتِ لتكون أقطع؟! إنك في نِعمٍ عميمةٍ وأفضالٍ جسيمةٍ ، ولكنك لا تدريْ ، تعيشُ مهموماً مغموماً حزيناً كئيباً ، وعندك الخبزُ الدافئُ ، والماءُ الباردُ ، والنومُ الهانئُ ، والعافيةُ الوارفةُ ، تتفكرُ في المفقودِ ولا تشكرُ الموجود، تنزعجُ من خسارةٍ ماليَّةٍ وعندك مفتاحُ السعادة، وقناطيرُ مقنطرةٌ من الخيرِ والمواهبِ والنعمِ والأشياءِ ، فكّرْ واشكرْ ? وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ? فكّرْ في نفسك ، وأهلِك ، وبيتك ، وعملِك ، وعافيتِك ، وأصدقائِك ، والدنيا من حولِك ?يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا ? .
*****************************************
ما مضى فات
تذكُّرُ الماضي والتفاعلُ معه واستحضارُه ، والحزنُ لمآسيه حمقٌ وجنونٌ ، وقتلٌ للإرادةِ وتبديدٌ للحياةِ الحاضرةِ. إن ملفَّ الماضي عند العقلاء يُطْوَى ولا يُرْوى ، يُغْلَقُ عليه أبداً في زنزانةِ النسيانِ ، يُقيَّدُ بحبالٍ قوَّيةٍ في سجنِ الإهمالِ فلا يخرجُ أبداً ، ويُوْصَدُ عليه فلا يرى النورَ ؛ لأنه مضى وانتهى ، لا الحزنُ يعيدُهَ ، ولا الهمُّ يصلحهُ ، ولا الغمَّ يصحِّحُهُ ، لا الكدرُ يحييهِ ، لأنُه عدمٌ ، لا تعشْ في كابوس الماضي وتحت مظلةِ الفائتِ ، أنقذْ نفسك من شبحِ الماضي ، أتريدُ أن ترُدَّ النهر إلى مَصِبِّهِ ، والشمس إلى مطلعِها ، والطفل إلى بطن أمِّهِ ، واللبن إلى الثدي ، والدمعة إلى العينِ ، إنَّ تفاعلك مع الماضي ، وقلقك منهُ واحتراقك بنارهِ ، وانطراحك على أعتابهِ وضعٌ مأساويٌّ رهيبٌ مخيفٌ مفزعٌ .
القراءةُ في دفتر الماضي ضياعٌ للحاضرِ ، وتمزيقٌ للجهدِ ، ونسْفٌ للساعةِ الراهنةِ ، ذكر اللهُ الأمم وما فعلتْ ثم قال : ? تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ? انتهى الأمرُ وقُضِي ، ولا طائل من تشريحِ جثة الزمانِ ، وإعادةِ عجلةِ التاريخ.
إن الذي يعودُ للماضي ، كالذي يطحنُ الطحين وهو مطحونٌ أصلاً ، وكالذي ينشرُ نشارةُ الخشبِ . وقديماً قالوا لمن يبكي على الماضي : لا تخرج الأموات من قبورهم ، وقد ذكر من يتحدثُ على ألسنةِ البهائمِ أنهمْ قالوا للحمارِ : لمَ لا تجترُّ؟ قال : أكرهُ الكذِب.
إن بلاءنا أننا نعْجزُ عن حاضِرنا ونشتغلُ بماضينا ، نهملُ قصورنا الجميلة ، ونندبُ الأطلال البالية ، ولئنِ اجتمعتِ الإنسُ والجنُّ على إعادةِ ما مضى لما استطاعوا ؛ لأن هذا هو المحالُ بعينه .(/3)
إن الناس لا ينظرون إلى الوراءِ ولا يلتفتون إلى الخلفِ ؛ لأنَّ الرِّيح تتجهُ إلى الأمامِ والماءُ ينحدرُ إلى الأمامِ ، والقافلةُ تسيرُ إلى الأمامِ ، فلا تخالفْ سُنّة الحياة .
****************************************
يومك يومكَ
إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساءُ ، اليوم فحسْبُ ستعيشُ ، فلا أمسُ الذي ذهب بخيرِهِ وشرِهِ ، ولا الغدُ الذي لم يأتِ إلى الآن . اليومُ الذي أظلَّتْكَ شمسُه ، وأدركك نهارُهُ هو يومُك فحسْبُ ، عمرُك يومٌ واحدٌ ، فاجعلْ في خلدِك العيش لهذا اليومِ وكأنك ولدت فيهِ وتموتُ فيهِ ، حينها لا تتعثرُ حياتُك بين هاجسِ الماضي وهمِّهِ وغمِّهِ ، وبين توقعِ المستقبلِ وشبحِهِ المخيفِ وزحفِهِ المرعبِ ، لليومِ فقطْ اصرفْ تركيزك واهتمامك وإبداعك وكدَّك وجدَّك ، فلهذا اليومِ لابد أن تقدم صلاةً خاشعةً وتلاوةً بتدبرٍ واطلاعاً بتأملٍ ، وذِكْراً بحضورٍ ، واتزاناً في الأمور ، وحُسْناً في خلقِ ، ورضاً بالمقسومِ ، واهتماماً بالمظهرِ ، واعتناءً بالجسمِ ، ونفعاً للآخرين .
لليوم هذا الذي أنت فيه فتقُسِّم ساعاتِه وتجعل من دقائقه سنواتٍ ، ومن ثوانيهِ شهوراً ، تزرعُ فيه الخيْر ، تُسدي فيه الجميل ، تستغفرُ فيه من الذنب ، تذكرُ فيه الربَّ ، تتهيأ للرحيلِ ، تعيشُ هذا اليوم فرحاً وسروراً ، وأمناً وسكينةً ، ترضى فيه برزقِك ، بزوجتِك، بأطفالِك بوظيفتك ، ببيتِك ، بعلمِك ، بمُسْتواك ? فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ ? تعيشُ هذا اليوم بلا حُزْنٍ ولا انزعاجٍ ، ولا سخطٍ ولا حقدٍ ، ولا حسدٍ .
إن عليك أن تكتب على لوحِ قلبك عبارةً واحدة تجعلُها أيضاً على مكتبك تقول العبارة : (يومك يومُك). إذا أكلت خبزاً حارّاً شهيّاً هذا اليوم فهل يضُرُّك خبزُ الأمسِ الجافِّ الرديء ، أو خبزُ غدٍ الغائبِ المنتظرِ .
إذا شربت ماءً عذباً زلالاً هذا اليوْم ، فلماذا تحزنُ من ماءِ أمس الملحِ الأجاجِ ، أو تهتمُّ لماءِ غدٍ الآسنِ الحارِّ.
إنك لو صدقت مع نفسِك بإرادةٍ فولاذيةٍ صارمةٍ عارمةٍ لأخضعتها لنظرية: (لن أعيش إلى هذا اليوْم ). حينها تستغلُّ كلَّ لحظة في هذا اليوم في بناءِ كيانِك وتنميةِ مواهبك ، وتزكيةِ عملكُ ، فتقول : لليوم فقطْ أُهذِّبُ ألفاظي فلا أنطقُ هُجراً أو فُحْشاً ، أو سبّاً ، أو غيبةً ، لليوم فقطْ سوف أرتبُ بيتي ومكتبتي ، فلا ارتباكٌ ولا بعثرةٌ ، وإنما نظامٌ ورتابةٌ. لليوم فقط سوف أعيشُ فأعتني بنظافةِ جسمي ، وتحسين مظهري والاهتمامِ بهندامي ، والاتزانِ في مشيتي وكلامي وحركاتي.
لليوم فقطْ سأعيشُ فأجتهدُ في طاعةِ ربِّي ، وتأديةِ صلاتي على أكملِ وجهِ ، والتزودِ بالنوافلِ ، وتعاهدِ مصحفي ، والنظرِ في كتبي ، وحفظِ فائدةٍ ، ومطالعةِ كتابٍ نافعٍ .
لليومِ فقطْ سأعيشُ فأغرسُ في قلبي الفضيلةً وأجتثُّ منه شجرة الشرِّ بغصونِها الشائكةِ من كِبْرٍ وعُجبٍ ورياءٍ وحسدٍ وحقدٍ وغِلًّ وسوءِ ظنٍّ .
لليوم فقط سوف أعيشُ فأنفعُ الآخرين ، وأسدي الجميلَ إلى الغير ، أعودُ مريضاً ، أشيِّعُ جنازةً ، أدُلُّ حيران ، أُطعمُ جائعاً ، أفرِّجُ عن مكروبٍ ، أقفٌ مع مظلومٍ ، أشفعُ لضعيفٍ ، أواسي منكوباً، أكرمُ عالماً ، أرحمُ صغيراً ، أجِلُّ كبيراً .
لليوم فقط سأعيشُ ؛ فيا ماضٍ ذهب وانتهى اغربْ كشمِسك ، فلن أبكي عليك ولن تراني أقفُ لأتذكرك لحظة ؛ لأنك تركتنا وهجرتنا وارتحلْت عنَّا ولن تعود إلينا أبد الآبدين .
ويا مستقبلُ أنْت في عالمِ الغيبِ فلنْ أتعامل مع الأحلامِ ، ولن أبيع نفسي مع الأوهام ولن أتعجَّلَ ميلاد مفقودٍ ، لأنَّ غداً لا شيء ؛ لأنه لم يخلق ولأنه لم يكن مذكوراً.
يومك يومُك أيها الإنسانُ أروعُ كلمةٍ في قاموسِ السعادةِ لمن أراد الحياة في أبهى صورِها وأجملِ حُلِلها.
****************************************
اتركِ المستقبلَ حتى يأتيَ
? أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ? لا تستبقِ الأحداث ، أتريدُ إجهاض الحملِ قبْل تمامِهِ؟! وقطف الثمرةِ قبل النضج ؟! إنَّ غداً مفقودٌ لا حقيقة لهُ ، ليس له وجودٌ ، ولا طعمٌ ، ولا لونٌ ، فلماذا نشغلُ أنفسنا بهِ ، ونتوجَّسُ من مصائِبِهِ ، ونهتمُّ لحوادثهِ ، نتوقعُ كوارثهُ ، ولا ندري هلْ يُحالُ بيننا وبينهُ ، أو نلقاهُ ، فإذا هو سرورٌ وحبورٌ ؟! المهمُّ أنه في عالمِ الغيبِ لم يصلْ إلى الأرضِ بعْدَ ، إن علينا أنْ لا نعبر جسراً حتى نأتيه ، ومن يدري؟ لعلَّنا نقِف قبل وصولِ الجسرِ ، أو لعلَّ الجسرَ ينهارُ قبْل وصولِنا ، وربَّما وصلنا الجسر ومررنا عليه بسلامٍ.(/4)
إن إعطاء الذهنِ مساحةً أوسع للتفكيرِ في المستقبلِ وفتحِ كتابِ الغيبِ ثم الاكتواءِ بالمزعجاتِ المتوقعةِ ممقوتٌ شرعاً ؛ لأنه طولُ أملٍ ، وهو مذمومٌ عقلاً ؛ لأنه مصارعةُ للظلِّ. إن كثيراً من هذا العالم يتوقُع في مُستقبلهِ الجوعَ العري والمرضَ والفقرَ والمصائبَ ، وهذا كلُّه من مُقرراتِ مدارسِ الشيطانِ ? الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً ? .
كثيرٌ همْ الذين يبكون ؛ لأنهم سوف يجوعون غداً، وسوف يمرضون بعد سنةٍ، وسوف ينتهي العالمُ بعد مائةِ عام. إنَّ الذي عمرُه في يد غيره لا ينبغي لهُ أن يراهن على العدمٍ ، والذي لا يدرِي متى يموتُ لا يجوزُ لهُ الاشتغالُ بشيءٍ مفقودٍ لا حقيقة له.
اترك غداً حتى يأتيك ، لا تسأل عن أخبارِه ، لا تنتظر زحوفه ، لأنك مشغولٌ باليوم.
وإن تعجبْ فعجبٌ هؤلاء يقترضون الهمَّ نقداً ليقضوه نسيئةً في يومٍ لم تُشرق شمسُه ولم ير النور ، فحذار من طولِ الأملِ .
****************************************
كيف تواجه النقد الآثم ؟
الرُّقعاءُ السُّخفاءُ سبُّوا الخالق الرَّازق جلَّ في علاه ، وشتموا الواحد الأحد لا إله إلا هو ، فماذا أتوقعُ أنا وأنت ونحنُ أهل الحيف والخطأ ، إنك سوف تواجهُ في حياتِك حرْباً! ضرُوساُ لا هوادة فيها من النًّقدِ الآثمِ المرِّ ، ومن التحطيم المدروسِ المقصودِ ، ومن الإهانةِ المتعمّدةِ مادام أنك تُعطي وتبني وتؤثرُ وتسطعُ وتلمعُ ، ولن يسكت هؤلاءِ عنك حتى تتخذ نفقاً في الأرضِ أو سلماً في السماءِ فتفرَّ منهم ، أما وأنت بين أظهرِهِمْ فانتظرْ منهمْ ما يسوؤك ويُبكي عينك ، ويُدمي مقلتك ، ويقضُّ مضجعك.
إن الجالس على الأرضِ لا يسقطُ ، والناسُ لا يرفسون كلباً ميتاً ، لكنهم يغضبون عليك لأنك فُقْتَهمْ صلاحاً ، أو علماً ، أو أدباً ، أو مالاً ، فأنت عندهُم مُذنبٌ لا توبة لك حتى تترك مواهبك ونِعَمَ اللهِ عليك ، وتنخلع من كلِّ صفاتِ الحمدِ ، وتنسلخ من كلِّ معاني النبلِ ، وتبقى بليداً ! غبيَّا ، صفراً محطَّماً ، مكدوداً ، هذا ما يريدونهُ بالضبطِ . إذاً فاصمد لكلامِ هؤلاءِ ونقدهمْ وتشويهِهِمْ وتحقيرِهمْ (( أثبتْ أُحُدٌ )) وكنْ كالصخرةِ الصامتةِ المهيبةِ تتكسرُ عليها حبّاتُ البردِ لتثبت وجودها وقُدرتها على البقاءِ . إنك إنْ أصغيت لكلامِ هؤلاءِ وتفاعلت به حققت أمنيتهُم الغالية في تعكيرِ حياتِك وتكديرِ عمرك ، ألا فاصفح الصَّفْح الجميل ، ألا فأعرضْ عنهمْ ولا تكُ في ضيقٍ مما يمكرون. إن نقدهمُ السخيف ترجمةٌ محترمةٌ لك ، وبقدرِ وزنِك يكُون النقدُ الآثمُ المفتعلُ .
إنك لنْ تستطيع أن تغلق أفواه هؤلاءِ ، ولنْ تستطيع أن تعتقل ألسنتهم لكنك تستطيعُ أن تدفن نقدهُم وتجنّيهم بتجافيك لهم ، وإهمالك لشأنهمْ ، واطِّراحك لأقوالهِمِ!. ? قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ? بل تستطيعُ أنْ تصبَّ في أفواهِهِمُ الخرْدَلَ بزيادةِ فضائلك وتربيةِ محاسنِك وتقويم اعوجاجِك . إنْ كنت تُريد أن تكون مقبولاً عند الجميع ، محبوباً لدى الكلِّ ، سليماً من العيوبِ عند العالمِ ، فقدْ طلبت مستحيلاً وأمَّلت أملاً بعيداً .
************************************************
لا تنتظرْ شكراً من أحدٍ
خلق اللهُ العباد ليذكروهُ ورزق اللهُ الخليقة ليشكروهُ ، فعبد الكثيرُ غيره ، وشكرَ الغالبُ سواه ، لأنَّ طبيعة الجحودِ والنكرانِ والجفاءِ وكُفْرانِ النِّعم غالبةٌ على النفوس ، فلا تُصْدمْ إذا وجدت هؤلاءِ قد كفروا جميلك ، وأحرقوا إحسانك ، ونسوا معروفك ، بل ربما ناصبوك العِداءَ ، ورموك بمنجنيق الحقدِ الدفين ، لا لشيءٍ إلا لأنك أحسنت إليهمْ ? وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ? وطالعْ سجلَّ العالمِ المشهود ، فإذا في فصولِهِ قصةُ أبٍ ربَّى ابنهُ وغذّاهُ وكساهُ وأطعمهُ وسقاهُ ، وأدَّبهُ ، وعلَّمهُ ، سهر لينام ، وجاع ليشبع ، وتعِب ليرتاح ، فلمَّا طرَّ شاربُ هذا الابن وقوي ساعده ، أصبح لوالدهِ كالكلبِ العقورِ ، استخفافاً ، ازدراءً ، مقتاً ، عقوقاً صارخاً ، عذاباً وبيلاً .
ألا فليهدأ الذين احترقت أوراقُ جميلِهمْ عند منكوسي الفِطرِ ، ومحطَّمي الإراداتِ ، وليهنؤوا بعوضِ المثوبةِ عند من لا تنفدُ خزائنُه .
إن هذا الخطاب الحارَّ لا يدعوك لتركِ الجميلِ ، وعدمِ الإحسانِ للغير ، وإنما يوطِّنُك على انتظار الجحودِ ، والتنكرِ لهذا الجميلِ والإحسانِ ، فلا تبتئس بما كانوا يصنعون.
اعمل الخير لِوجْهِ اللهِ ؛ لأنك الفائزُ على كل حالٍ ، ثمَّ لا يضرك غمْطُ من غمطك ، ولا جحودُ من جحدك ، واحمدِ الله لأنك المحسنُ ، واليدُ العليا خيرٌ من اليدِ السفلى ? إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً ? .(/5)
وقد ذُهِل كثيرٌ من العقلاءِ من جبلَّةِ الجحودِ عند الغوْغاءِ ، وكأنهمْ ما سمعوا الوحي الجليل وهو ينعي على الصنف عتوَّه وتمردهُ ? مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ? لا تُفاجأ إذا أهديت بليداً قلماً فكتب به هجاءك ، أو منحت جافياً عصاً يتوكأ عليها ويهشُّ بها على غنمهِ ، فشجَّ بها رأسك ، هذا هو الأصلُ عند هذهِ البشريةِ المحنّطةِ في كفنِ الجحودِ مع باريها جلَّ في علاه ، فكيف بها معي ومعك ؟! .
****************************************
الإحسانُ إلى الآخرين انشراحٌ للصدر
الجميلُ كاسمِهِ ، والمعروفُ كرسمِهِ ، والخيرُ كطعمِهِ. أولُ المستفيدين من إسعادِ النَّاسِ همُ المتفضِّلون بهذا الإسعادِ ، يجنون ثمرتهُ عاجلاً في نفوسهِمْ ، وأخلاقِهم ، وضمائِرِهِم ، فيجدون الانشراح والانبساط ، والهدوء والسكينة.
فإذا طاف بك طائفٌ من همٍّ أو ألمِّ بك غمٌّ فامنحْ غيرك معروفاً وأسدِ لهُ جميلاً تجدِ الفرج والرَّاحة. أعطِ محروماً ، انصر مظلوماً ، أنقِذْ مكروباً ، أطعمْ جائعاً ، عِدْ مريضاً ، أعنْ منكوباً ، تجدِ السعادة تغمرُك من بين يديْك ومنْ خلفِك.
إنَّ فعلَ الخيرِ كالطيب ينفعُ حاملهُ وبائعه ومشتريهُ ، وعوائدُ الخيرِ النفسيَّة عقاقيرُ مباركةٌ تصرفُ في صيدليةِ الذي عُمِرتْ قلوبُهم بالبِّر والإحسان .
إن توزيع البسماتِ المشرقةِ على فقراءِ الأخلاقِ صدقةٌ جاريةٌ في عالمِ القيمِ (( ولو أن تلقى أخاك بوجهِ طلْقِ )) وإن عبوس الوجهِ إعلانُ حربٍ ضروسٍ على الآخرين لا يعلمُ قيامها إلا علاَّمٌ الغيوبِ .
شربةُ ماءِ من كفِّ بغي لكلب عقورٍ أثمرتْ دخول جنة عرضُها السمواتُ والأرضُ ؛ لأنَّ صاحب الثوابِ غفورٌ شكورٌ جميلٌ ، يحبُّ الجميل ، غنيٌ حميدٌ .
يا منْ تُهدِّدهُمْ كوابيسُ الشقاءِ والفزع والخوفِ هلموا إلى بستانِ المعروفِ وتشاغلوا بالآخرين، عطاءً وضيافةً ومواساةً وإعانةً وخدمةً وستجدون السعادة طعماً ولوناً وذوقاً ?وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى{19} إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى{20} وَلَسَوْفَ يَرْضَى ? .
*****************************************
اطردِ الفراغ بالعملِ
الفارغون في الحياةِ هم أهلُ الأراجيفِ والشائعات لأنَّ أذهانهم موزَّعةٌ ? رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ ? .
إنَّ أخطر حالات الذهنِ يوم يفرغُ صاحبُه من العملِ ، فيبقى كالسيارةِ المسرعةِ في انحدارِ بلا سائقٍ تجنحُ ذات اليمين وذات الشمالِ .
يوم تجدُ في حياتك فراغاً فتهيَّأ حينها للهمِّ والغمِّ والفزعِ ، لأن هذا الفراغ يسحبُ لك كلَّ ملفَّاتِ الماضي والحاضرِ والمستقبلِ من أدراج الحياةِ فيجعلك في أمرٍ مريجٍ ، ونصيحتي لك ولنفسي أن تقوم بأعمالٍ مثمرةٍ بدلاً من هذا الاسترخاءِ القاتلِ لأنهُ وأدٌ خفيٌّ ، وانتحارٌ بكبسولٍ مسكِّنٍ .
إن الفراغً أشبهُ بالتعذيب البطيءِ الذي يمارسُ في سجونِ الصينِ بوضعِ السجينِ تحت أنبوبٍ يقطُرُ كلَّ دقيقةٍ قطرةً ، وفي فتراتِ انتظارِ هذه القطراتِ يُصابُ السجينُ بالجنونِ .
الراحةُ غفلةٌ ، والفراغُ لِصٌّ محترِفٌ ، وعقلك هو فريسةٌ ممزَّقةٌ لهذه الحروبِ الوهميَّة .
إذاً قم الآن صلِّ أو اقرأ ، أو سبِّحْ ، أو طالعْ ، أو اكتبْ ، أو رتِّب مكتبك ، أو أصلح بيتك ، أو انفعْ غيرك حتى تقضي على الفراغِ ، وإني لك من الناصحينْ .
اذبحْ الفراغ بسكينِ العملِ ، ويضمن لك أطباءُ العالم 50% من السعادة مقابل هذا الإجراءِ الطارئِ فحسب ، انظر إلى الفلاحين والخبازين والبنائين يغردون بالأناشيد كالعصافيرِ في سعادةٍ وراحةٍ وأنت على فراشك تمسحُ دموعك وتضطرُب لأنك ملدوغٌ .
****************************************
لا تكن إمعة
لا تتقمص شخصية غيرك ولا تذُب في الآخرين. إن هذا هو العذاب الدائم ، وكثيرٌ هم الذين ينسون أنفسهم وأصواتِهم وحركاتِهم ، وكلامَهم ، ومواهبهم ، وظروفهم ، لينصْهرُوا في شخصيِّات الآخرين ، فإذا التكلّفُ والصَّلفُ ، والاحتراقُ ، والإعدامُ للكيان وللذَّات.
من آدم إلى آخر الخليقة لم يتفق اثنانِ في صورةٍ واحدةٍ ، فلماذا يتفقون في المواهبِ والأخلاق .
أنت شيءٌ آخرُ لم يسبق لك في التاريخِ مثيلٌ ولن يأتي مثُلك في الدنيا شبيه .
أنت مختلف تماماً عن زيد وعمرو فلا تحشرْ نفسك في سرداب التقليد والمحاكاة والذوبان .
انطلق على هيئتك وسجيَّتك ? قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ? ، ? وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ ? عشْ كما خلقت لا تغير صوتك ، لا تبدل نبرتك ، لا تخالف مشيتك ، هذب نفسك بالوحي ، ولكن لا تلغِ وجودك وتقتل استقلالك.
أنت لك طعم خاص ولون خاص ونريدك أنت بلونك هذا وطعمك هذا ؛ لأنك خلقت هكذا وعرفناك هكذا ((لا يكن أحدكم إمَّعة)) .(/6)
إنَّ الناس في طبائعهمْ أشبهُ بعالمِ الأشجارِ : حلوٌ وحامضٌ ، وطويلٌ وقصيرٌ ، وهكذا فليكونوا. فإن كنت كالموزِ فلا تتحولْ إلى سفرجل ؛ لأن جمالك وقيمتك أن تكون موزاً ، إن اختلاف ألوانِنا وألسنتِنا ومواهبِنا وقدراتِنا آيةٌ منْ آياتِ الباري فلا تجحد آياته .
******************************
قضاء وقدر
?مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا? ، جفَّ القلمُ ، رُفعتِ الصحفُ ، قضي الأمرُ ، كتبت المقادير ، ? قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا ? ، ما أصابك لم يكنْ لِيُخطئِك ، وما أخطأكَ لم يكنْ لِيُصيِبك ... .
إن هذه العقيدة إذا رسختْ في نفسك وقرَّت في ضميرِك صارتْ البليةُ عطيةً ، والمِحْنةُ مِنْحةً ، وكلُّ الوقائع جوائز وأوسمةً ((ومن يُرِدِ اللهُ به خيراً يُصِبْ منه)) فلا يصيبُك قلقٌ من مرضٍ أو موتِ قريبٍ ، أو خسارةٍ ماليةٍ ، أو احتراقِ بيتٍ ، فإنَّ الباري قد قدَّر والقضاءُ قد حلَّ ، والاختيارُ هكذا ، والخيرةُ للهِ ، والأجرُ حصل ، والذنبُ كُفِّر .هنيئاً لأهلِ المصائب صبرهم ورضاهم عن الآخذِ ، المعطي ، القابضِ ، الباسط ، ? لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ? .
ولن تهدأ أعصابُك وتسكن بلابلُ نفسِك ، وتذْهب وساوسُ صدْرِك حتى تؤمن بالقضاءِ والقدرِ ، جفَّ القلمُ بما أنت لاقٍ فلا تذهبْ نفسُك حسراتٍ ، لا تظنُّ أنه كان بوسعِك إيقافُ الجدار أن ينهار ، وحبْسُ الماءِ أنْ ينْسكِبُ ، ومَنْعُ الريحِ أن تهبُّ ، وحفظُ الزجاج أن ينكسر ، هذا ليس بصحيحٍ على رغمي ورغمك ، وسوف يقعُ المقدورُ ، وينْفُذُ القضاءُ ، ويحِلُّ المكتوبُ ? فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ? .
استسلمْ للقدر قبْل أن تطوّق بجيش السُّخْط والتذمُّر والعويل ، اعترفْ بالقضاءِ قبْل أن يدهمك سيْلُ النَّدمِ ، إذاً فليهدأ بالُك إذا فعلت الأسباب ، وبذلت الحِيل ، ثم وقع ما كنت تحذرُ ، فهذا هو الذي كان ينبغي أن يقع ، ولا تقُلْ ((لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ، ولكن قُلْ : قدَّر اللهُ وما شاء فعلْ)) .
***************************************
? إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ?
يا إنسانُ بعد الجوع شبعٌ ، وبعْدَ الظَّمأ ريٌّ ، وبعْدَ السَّهرِ نوْمٌ ، وبعْدَ المرض عافيةٌ ، سوف يصلُ الغائبُ ، ويهتدي الضالُّ ، ويُفكُّ العاني ، وينقشعُ الظلامُ ? فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ ? .
بشَّر الليل بصبح صادق يطاردُهُ على رؤِوسِ الجبال ، ومسارب الأوديةِ ، بشِّر المهمومَ بِفرجٍ مفاجئ يصِلُ في سرعةِ الضَّوْءِ ، ولمُحِ البصرِ ، بشِّرِ المنكوب بلطف خفيٍّ ، وكفٍ حانيةٍ وادعةٍ .
إذا رأيت الصحراء تمتدُّ وتمتدُّ ، فاعلم أنَّ وراءها رياضاً خضراء وارفةّ الظِّلالِ.
إذا رأيت الحِبْل يشتدُّ ويشتدُّ ، فاعلمْ أنه سوف يَنْقطُعِ .
مع الدمعةِ بسمةٌ ، ومع الخوفِ أمْنٌ ، ومع الفَزَعِ سكينةٌ .
النارُ لا تحرقُ إبراهيم الخليلِ ، لأنَّ الرعايةَ الربانيَّة فَتَحتْ نَافِذَةَ ? بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ? .
البحرُ لا يُغْرِقُ كَلِيمَ الرَّحْمَنِ ، لأنَّ الصَّوْتَ القويَّ الصادق نَطَقَ بـ ? كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ? .
المعصومُ في الغارِ بشَّرَ صاحِبهُ بأنه وحْدَهْ جلَّ في عُلاهُ معنا ؛ فنزل الأمْنُ والفتُح والسكينة .
إن عبيد ساعاتِهم الراهنةِ ، وأرِقّاءَ ظروفِهِمُ القاتمةِ لا يرَوْنَ إلاَّ النَّكَدَ والضِّيقَ والتَّعاسةَ ، لأنهم لا ينظرون إلاَّ إلى جدار الغرفةِ وباب الدَّارِ فَحَسْبُ. ألا فلْيَمُدُّوا أبصارَهُمْ وراء الحُجُبِ وليُطْلِقُوا أعنة أفكارِهِمْ إلى ما وراء الأسوارِ.
إذاً فلا تضِقْ ذرعاً فمن المُحالِ دوامُ الحالِ ، وأفضلُ العبادِة انتظارُ الفرجِ ، الأيامُ دُولٌ ، والدهرُ قُلّبٌ ، والليالي حُبَالى ، والغيبُ مستورٌ ، والحكيمُ كلَّ يوم هو في شأنٍ ، ولعلَّ الله يُحْدِثُ بعد ذلك أمراً ، وإن مع العُسْرِ يُسْراً ، إن مع العُسْرِ يُسْراً .
*******************************
اصنع من الليمون شراباً حلواً
الذكيُّ الأريبُ يحوّلُ الخسائر إلى أرباحٍ ، والجاهلُ الرِّعْديِدُ يجعلُ المصيبة مصيبتينِ.
طُرِدَ الرسولُ ( من مكةَ فأقامَ في المدينةِ دولةً ملأتْ سمْع التاريخِ وبصرهُ .(/7)
سُجن أحمدُ بنُ حَنْبَلَ وجلد ، فصار إمام السنة ، وحُبس ابنُ تيمية فأُخْرِج من حبسهِ علماً جماً ، ووُضع السرخسيُّ في قعْرِ بئْرٍ معطلةٍ فأخرج عشرين مجلداً في الفِقْهِ ، وأقعد ابن الأثيرِ فصنّفَ جامع الأصول والنهاية من أشهرِ وأنفعِ كتبِ الحديثِ ، ونُفي ابنُ الجوزي من بغداد ، فجوَّد القراءاتِ السبعِ ، وأصابتْ حمى الموتِ مالك بن الريبِ فأرسل للعالمين قصيدتهُ الرائعة الذائعة التي تعدِلُ دواوين شعراءِ الدولةِ العباسيةِ ، ومات أبناءُ أبي ذؤيب الهذلي فرثاهمْ بإلياذة أنْصت لها الدهرُ ، وذُهِل منها الجمهورُ ، وصفَّق لها التاريخُ .
إذا داهمتك داهيةٌ فانظرْ في الجانبِ المشرِقِ منها ، وإذا ناولك أحدُهمْ كوب ليمونٍ فأضفْ إليهِ حِفْنَةً من سُكَّر ، وإذا أهدى لك ثعباناً فخذْ جلْدَهُ الثمين واتركْ باقيه ، وإذا لدغتْك عقربٌ فاعلم أنه مصلٌ واقٍ ومناعةٌ حصينة ضد سُمِّ الحياتِ .
تكيَّف في ظرفكِ القاسي ، لتخرج لنا منهُ زهْراً وورْداً وياسميناً ? وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ? .
سجنتْ فرنسا قبل ثورتِها العارمةِ شاعرْين مجيديْنِ متفائلاً ومتشائماً فأخرجا رأسيْهما من نافذةِ السجنِ . فأما المتفائلُ فنظر نظرةٌ في النجومِ فضحك. وأما المتشائمٌ فنظر إلى الطينِ في الشارعِ المجاور فبكى. انظرْ إلى الوجه الآخر للمأساةِ ، لأن الشرَّ المحْض ليس موجوداً ؛ بل هناك خيرٌ ومَكْسبٌ وفَتْحٌ وأجْرٌ .
*****************************************
? أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ?
من الذي يفْزعُ إليه المكروبُ ، ويستغيثُ به المنكوبً ، وتصمدُ إليه الكائناتُ ، وتسألهُ المخلوقاتُ ، وتلهجُ بذكِرِه الألسُنُ وتُؤَلِّهُهُ القلوب ؟ إنه اللهُ لا إله إلاَّ هو.
وحقٌ عليَّ وعليك أن ندعوهُ في الشدةِ والرَّخاءِ والسَّراءِ والضَّراءِ ، ونفزعُ إليه في المُلِمَّاتِ ونتوسّلُ إليه في الكرباتِ وننطرحُ على عتباتِ بابهِ سائلين باكين ضارعين منيبين ، حينها يأتي مددُهْ ويصِلُ عوْنُه ، ويُسْرعٌ فرجُهُ ويَحُلَّ فتْحُهُ ? أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ? فينجي الغريق ويردُّ الغائب ويعافي المبتلي وينصرُ المظلوم ويهْدِي الضالَّ ويشفي المريض ويفرّجُ عن المكروبِ ? فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ? .
ولن أسْرُد عليك هنا أدعية إزاحةِ الهمِ والغمِ والحزنِ والكربِ ، ولكن أُحيلُك إلى كُتُبِ السُّنَّةِ لتتعلم شريف الخطابِ معه ؛ فتناجيهِ وتناديهِ وتدعوهُ وترجوه، فإن وجدْتهُ وجدْت كلَّ شيءٍ ، وإن فقدت الإيمان به فقدت كلَّ شيء ، إن دعاءك ربَّك عبادةٌ أخرى ، وطاعةٌ عظمى ثانيةٌ فوق حصولِ المطلوبِ ، وإن عبداً يجيدُ فنَّ الدعاءِ حريٌّ أن لا يهتمَّ ولا يغتمَّ ولا يقلق كل الحبال تتصرّم إلاَّ حبلُه كلُّ الأبوابِ توصدُ إلاَّ بابهُ وهو قريبٌ سميعٌ مجيبٌ ، يجيب المضطرَّ إذا دعاه يأمُرُك- وأنت الفقيرُ الضعيفُ المحتاجُ ، وهو الغنيُّ القويُّ الواحدُ الماجدُ - بأن تدعوه ? ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ? إذا نزلتْ بك النوازلُ ، وألَمَََََّتْ بك الخطوبُ فالْهجْ بذكرِهِ ، واهتفْ باسمِهِ ، واطلبْ مددهُ واسألْه فتْحهُ ونصْرَهُ ، مرِّغِ الجبين لتقديسِ اسمِهِ ، لتحصل على تاج الحريَّةِ ، وأرغم الأنْف في طين عبوديتِهِ لتحوز وِسام النجاةِ ، مدَّ يديْك ، ارفع كفَّيْكَ ، أطلقْ لسانك ، أكثرْ من طلبِهِ ، بالغْ في سؤالِهِ ، ألحَّ عليه ، الزمْ بابهُ ، انتظرْ لُطْفُه ، ترقبْ فتْحهُ ، أشْدُ باسمِهِ ، أحسنْ ظنَّك فيه ، انقطعْ إليه ، تبتَّلْ إليه تبتيلاً حتى تسعد وتُفْلِحَ .
**************************************
وليسعك بيتك
العُزْلةُ الشرعيَّةُ السنيَّةُ : بُعْدُك عن الشرِّ وأهلِهِ ، والفارغين َواللاهين والفوضويين ، فيجتمعُ عليك شملُك ، ويهدأ بالُك ، ويرتاحُ خاطرُك ، ويجودُ ذهنُك بِدُررِ الحِكم ، ويسرحُ طرفُكَ في بستانِ ا لمعارفِ.(/8)
إن العزلة عن كلِّ ما يشغلُ عن الخيرِ والطاعةِ دواءٌ عزيزٌ جرَّبهٌ أطباءُ القلوبِ فنجح أيَّما نجاحٍ ، وأنا أدُّلك عليهِ ، في العزلةِ عن الشرِّ واللّغوِ وعن الدهماءِ تلقيحٌ للفِكْر ، وإقامةٌ لناموسِ الخشيةِ ، واحتفالٌ بمولدِ الإنابةِ والتذكرِ ، وإنما كان الاجتماعُ المحمودُ والاختلاطُ الممدوحُ في الصلواتِ والجُمَعِ ومجالسِ العِلْمِ والتعاونِ على الخيْرِ ، أما مجالسُ البطالةِ والعطالةِ فحذارِ حذارِ ، اهربْ بجلدِك ، ابكِ على خطيئتك ، وأمسكْ عليك لسانك ، وليسعك بيتك ، الاختلاط الهمجي حرب شعواء على النفس ، وتهديد خطير لدنيا الأمنِ والاستقرارِ في نفسك ، لأنك تجالسُ أساطين الشائعاتِ ، وأبطال الأراجيفِ، وأساتذة التبشير بالفتن والكوارث والمحن، حتى تموت كلَّ يومٍ سَبْعَ مراتٍ قبل أن يصلك الموتُ ? لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً? .
إذاً فرجائي الوحيدُ إقبالك على شانِك والانزواءُ في غرفتِك إلاَّ من قولِ خيرٍ أو فعلِ خيرٍ ، حينها تجدُ قلبك عاد إليك ، فسلمَ وقتُك من الضياعٍ ، وعمرُك من الإهدارِ ، ولسانُك من الغيبةِ ، وقلبُك من القلقِ ، وأذنُك من الخنا ونفسُك من سوءِ الظنِ ، ومن جرَّب عَرَفَ ، ومن أركب نفسه مطايا الأوهامِ ، واسترسل مع العوامِ فقلْ عليه السلامُ .
*************************************
العوض من الله
لا يسلبك الله شيئا إلاَّ عوَّضك خيراً منه ، إذا صبرْتَ واحْتَسَبْتَ ((منْ أخذتُ حبيبتيه فصبر عوَّضتُه منهما الجنة)) يعني عينيه ((من سلبتُ صفيَّهُ من أهل الدنيا ثم احتسب عوَّضْتُهُ من الجنَّة)) من فقد ابنه وصبر بُني له بَيْتُ الحمدِ في الخُلْدِ ، وقِسْ على هذا المنوالِ فإن هذا مجردُ مثال .
فلا تأسفْ على مصيبة فان الذي قدّرها عنده جنةٌ وثوابٌ وعِوضٌ وأجرٌ عظيمٌ .
إن أولياء الله المصابين المبتلين ينوِّهُ بهم في الفِرْدوْسِ ? سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ? .
وحق علينا أن ننظر في عِوض المصيبةِ وفي ثوابها وفي خلفها الخيِّر ? أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ? هنيئاً للمصابين ، بشرى للمنكوبين.
إن عُمْر الدنيا قصيرٌ وكنزُها حقيرٌ ، والآخرةُ خيرٌ وأبقى فمن أُصيب هنا كُوفِئ هناك ، ومن تعب هنا ارتاح هناك ، أما المتعلقون بالدُّنيا العاشقون لها الراكنون إليها ، فأشدَّ ما على قلوبهم فوت حظوظُهم منها وتنغيصُ راحتهم فيها لأنهم يريدونها وحدها فلذلك تعظُمً عليهمُ المصائبُ وتكبرُ عندهمُ النكباتُ ؛ لأنهمْ ينظرون تحت أقدامِهم فلا يرون إلاَّ الدُّنيا الفانية الزهيدة الرخيصة.
أيها المصابون ما فات شيءٌ وأنتمُ الرابحون ، فقد بعث لكمْ برسالةٍ بين أسطرها لُطْفٌ وعطْفٌ وثوابٌ وحُسنُ اختيار. إن على المصابِ الذي ضرب عليه سرادقُ المصيبة أن ينظر ليرى أن النتيجة ?فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ? ، وما عند اللهِ خيرٌ وأبقى وأهنأ وأمرأُ وأجلُّ وأعلى .
**************************************
الإيمان هو الحياة
الأشقياءُ بكلِّ معاني الشقاءِ همُ المفلسون من كنوزِ الإيمانِ ، ومن رصيدِ اليقينِ ، فهمْ أبداً في تعاسةٍ وغضبٍ ومهانةٍ وذلَّةٍ ? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ? .
لا يُسعدُ النفس ويزكّيها ويطهرُها ويفرحُها ويذهبُ غمَّها وهمّها وقلقها إلاَّ الإيمانُ بالله ربِّ العالمين ، لا طعم للحياةِ أصلاً إلاَّ بالإيمانِ .
إنَّ الطريقة المثلى للملاحدةِ إن لم يؤمنوا أن ينتحرُوا ليريحُوا أنفسهم من هذه الآصارِ والأغلالِ والظلماتِ والدواهي ، يا لها منْ حياةِ تاعِسة بلا إيمان ، يا لها منْ لعنةٍ أبديةٍ حاقتْ بالخارجين على منهج الله في الأرض ? وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ? وقد آن الأوانُ للعالمِ أن يقتنع كلَّ القناعة ، وأن يؤمن كلَّ الإيمانِ بأنَّ لا إله إلا الله بعْدَ تجربةٍ طويلةٍ شاقةٍ عبْرَ قُرونٍ غابرةٍ توصَّل بعدها العقْلُ إلى أن الصنم خرافةٌ والكفر لعنةٌ ، والإلحاد كِذْبةٌ وأنّ الرُّسُلَ صادقون ، وأنّ الله حقٌّ له الملكُ ولهُ الحمدُ وهو على كلِّ شيء قديرٌ .
وبقدرِ إيمانِك قوةً وضعفاً ، حرارةً وبرودةً ، تكون سعادتُك وراحتُك وطمأنينتُك .(/9)
? مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ? وهذه الحياةُ الطيبةُ هي استقرارُ نفوسِهم لَحُسْنِ موعودِ ربِّهم ، وثباتُ قلوبِهم بحبِّ باريهم ، وطهارةُ ضمائرِهم من أوضارِ الانحرافِ ، وبرودُ أعصابِهِم أمام الحوادثِ ، وسكينةُ قلوبِهم عندْ وقْعِ القضاءِ ، ورضاهم في مواطن القدر ، لأنهم رضُوا باللهِ ربّاً وبالإسلام ديِناً ، وبمحمَّدٍ ( نبياً ورسولاً .
*************************************
اجنِ العسل ولا تكسرِ الخليَّة
الرفقُ ما كان في شيءٍ إلاَّ زانهُ ، وما نُزع من شيءٍ إلاَّ شانُه ، اللينُ في الخطاب ، البسمةُ الرائقةُ على المحيا ، الكلمةُ الطيبةُ عند اللقاءِ ، هذه حُلُلٌ منسوجةٌ يرتديها السعداءُ ، وهي صفاتُ المؤمِنِ كالنحلة تأكلُ طيِّباً وتصنعُ طيِّباً ، وإذا وقعتْ على زهرةٍ لا تكسرُها ؛ لأنَّ الله يعطي على الرفقِ ما لا يعطي على العنفِ . إنَّ من الناسِ من تشْرَئِبُّ لقدومِهِمُ الأعناقُ ، وتشخصُ إلى طلعاتِهمُ الأبصارُ ، وتحييهمُ الأفئدةُ وتشيّعهُمُ الأرواحُ ، لأنهم محبون في كلامهِم ، في أخذهم وعطائِهم ، في بيعهِم وشرائِهم ، في لقائِهم ووداعِهِم .
إن اكتساب الأصدقاءِ فنٌّ مدروسٌ يجيدُهُ النبلاءُ الأبرارُ ، فهمْ محفوفون دائماً وأبداً بهالةٍ من الناسِ ، إنْ حضروا فالبِشْرُ والأنسُ ، وإن غابوا فالسؤالُ والدعاءُ .
إنَّ هؤلاءِ السعداء لهمْ دستور أخلاقٍ عنوانُه : ? ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ? فهمْ يمتصون الأحقاد بعاطِفتِهِمُ الجيّاشةِ ، وحلمِهِمُ الدافِئ ، وصفْحِهم البريءِ ، يتناسون الإساءة ويحفظون الإحسان ، تمُرُّ بهمُ الكلماتُ النابيةُ فلا تلجُ آذانهم ، بل تذهبُ بعيداً هناك إلى غيرِ رجْعةٍ . همْ في راحةٍ ، والناسُ منهمُ في أمنٍ ، والمسلمون منهمُ في سلام (( المسلمُ من سلِم المسلمونُ من لِسانِهِ ويَدِهِ ، والمؤمنُ من أمِنَهُ الناسُ على دمائِهم وأموالِهم )) (( إن الله أمرني أنْ أصل منْ قطعني وأن أعْفُوَ عمَّن ظلمني وأن أُعطي منْ حرَمَنِي )) ? وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ? بشّرْ هؤلاء بثوابٍ عاجلٍ من الطمأنينةِ والسكينةِ والهدوءِ .
وبشرهم بثوابٍ أخرويٍّ كبيرٍ في جوارِ ربٍّ غفورٍ في جناتٍ ونَهَرٍ ? فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ? .
**********************************
? أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ?
الصدقُ حبيبُ اللهِ ، والصراحةُ صابونُ القلوبِ ، والتجربةُ برهانٌ ، والرائدُ لا يكذبُ أهله ، ولم يوجدْ عملٌ أشرحُ للصدرِ وأعظمُ للأجرِ كالذكر ? فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ? وذكرُهُ سبحانهُ جنَّتُهُ في أرضِهِ ، من لمْ يدخلْها لم يدخل جنة الآخرةِ ، وهو إنقاذٌ للنفس من أوصابِها وأتعابِها واضطرابِها ، بلْ هو طريقٌ ميسّرٌ مختصرٌ إلى كلِّ فوزٍ وفلاحٍ . طالعْ دواوين الوحي لترى فوائدَ الذكرِ ، وجَرِّبْ مع الأيامِ بلْسمهُ لتنالَ الشفاءَ .
بذكره سبحانهُ تنقشعُ سُحُبُ الخوفِ والفَزَعِ والهمِّ والحزنِ . بذكره تُزاحُ جبالُ الكَرْبِ والغمِ والأسى .
ولا عجبَ أنْ يرتاح الذاكرون ، فهذا هو الأصلُ الأصيلُ ، لكن العَجَبَ العُجابَ كيف يعيشُ الغافلون عن ذكِرِهِ ? أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ? .
يا منْ شكى الأرق ، وبكى من الألم ، وتفجَّع من الحوادثِ ، ورمتْهُ الخطوبُ ، هيا اهتفْ باسمه المقدس ، ? هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ? .
بقدرِ إكثارك من ذكرِه ينبسطُ خاطرُك ، يهدأُ قلبُك ، تسعدُ نفْسُك ، يرتاحُ ضميرك ، لأن في ذكره جلَّ في عُلاه معاني التوكلِ عليه ، والثقةِ به والاعتمادِ عليه ، والرجوعِ إليه ، وحسنِ الظنِّ فيه ، وانتظار الفرجِ منُه ، فهو قريبٌ إذا دُعِي ، سميعٌ إذا نُودِي ، مجيبٌ إذا سُئلَ ، فاضرعْ واخضعْ واخشعْ ، ورَدِّدِ اسمهُ الطيب المبارك على لسانِك توحيداً وثناءً ومدحاً ودعاءً وسؤالاً واستغفاراً ، وسوف تجدُ – بحولِهِ وقوتِهِ – السعادة والأمنَ والسرور والنور والحبورَ ? فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ ? .
*****************************
? أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ?
...
الحسدَ كالأكلةِ الملِحَةِ تنخرُ العظمَ نخْراً ، إنَّ الحسد مرضٌ مزمنٌ يعيثُ في الجسم فساداً ، وقد قيل : لا راحة لحسود فهو ظالمٌ في ثوبِ مظلوم ، وعدوٌّ في جِلْبابِ صديقٍ . وقد قالوا : لله درُّ الحسدِ ما أعْدَلَهْ ، بدأ بصاحبهِ فقتَلَهَ .(/10)
إنني أنهى نفسي ونفسك عن الحسدِ رحمةً بي وبك ، قبل أنْ نرحم الآخرين ؛ لأننا بحسدِنا لهمْ نطعمُ الهمَّ لحومنا ، ونسقي الغمَّ دماءَنا ، ونوزِّعُ نوم جفوننا على الآخرين .
إنَّ الحاسد يُشْعِلُ فرناً ساخناً ثم يقتحمُ فيه . التنغيصُ والكدرُ والهمُّ الحاضرُ أمراضٌ يولّدها الحسدُ لتقضي على الراحةِ والحياةِ الطيبةِ الجميلةِ . بلِيَّةُ الحاسِدِ أنهُ خاصمَ القضاءَ ، واتهم الباري في العدْلِ ، وأساء الأدب مع الشَّرعْ ، وخالف صاحبَ المنْهجِ .
يا للحسد من مرضٍ لا يُؤجرُ عليهِ صاحبُه ، ومن بلاءٍ لا يُثابُ عليه المُبْتَلَى به ، وسوف يبقى هذا الحاسدُ في حرقةٍ دائمةٍ حتى يموت أو تذْهَبَ نِعمُ الناسِ عنهم . كلٌّ يُصالحُ إلاَّ الحاسد فالصلحُ معه أن تتخلّى عن نعمٍ اللهِ وتتنازل عن مواهِبِك ، وتُلْغِي خصائِصك ، ومناقِبك ، فإن فعلت ذلك فلَعَلَّهُ يرضى على مضضٍ ، نعوذُ باللهِ من شرِّ حاسد إذا حسدْ ، فإنه يصبحُ كالثعبانِ الأسودِ السَّام لا يقر قراره حتى يُفرِغَ سمَّهُ في جسم بريءٍ .
فأنهاك أنهاك عن الحسد واستعذ باللهِ من الحاسِدِ فإنه لك بالمرصادِ .
***********************************
اقبلِ الحياة كما هي
...
حالُ الدنيا منغصةُ اللذاتِ ، كثيرةُ التبعاتِ ، جاهمةُ المحيَّا ، كثيرةُ التلوُّنِ ، مُزِجتْ بالكدرِ ، وخُلِطتْ بالنَّكدِ ، وأنت منها في كَبَد .
ولن تجد والداً أو زوجةً ، أو صديقاً ، أو نبيلاً ، ولا مسكناً ولا وظيفةً إلاَّ وفيه ما يكدِّرُ ، وعنده ما يسوءُ أحياناً ، فأطفئ حرَّ شرِّهِ ببردِ خيْرِهِ ، لتنْجُوَ رأساً برأس ، والجروحُ قصاصٌ .
أراد اللهُ لهذه الدنيا أن تكون جامعةً للضدينِ ، والنوعين ، والفريقين ، والرأيين خيْرٍ وشرٍ ، صلاحٍ وفسادٍ ، سرورٍ وحُزْنٍ ، ثم يصفو الخَيْرُ كلُّهُ ، والصلاحُ والسرورُ في الجنةِ ، ويُجْمَعُ الشرُّ كله والفسادُ والحزنُ في النارِ . في الحديث : (( الدنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها إلا ذكرُ اللهِ وما والاهُ وعالمٌ ومتعلمٌ )) فعشْ واقعكَ ولا تسرحْ من الخيالِ ، وحلّقْ في عالمِ المثالياتِ ، اقبلْ دنياكَ كما هي ، وطوِّع نفسك لمعايشتها ومواطنتِها ، فسوف لا يصفو لك فيها صاحبٌ ، ولا يكملُ لك فيها أمرٌ ، لأنَّ الصَّفْوَ والكمال والتمام ليس من شأنها ولا منْ صفاتِها .
لن تكمل لك زوجةٌ ، وفي الحديث : (( لا يفركُ مؤمنٌ مؤمنةً إن كره منها خلقاً رضي منها آخر )) .
فينبغي أنْ نسدد ونقارب ، ونعْفُوَ ونصْفحَ ، ونأخُذ ما تيسَّرَ ، ونذر ما تعسَّر ونغضَّ الطَّرْف أحياناً ، ونسددُ الخطى ، ونتغافلُ عن أمورٍ .
******************************************
تعزَّ بأهلِ البلاءِ
تَلَفَّتْ يَمْنَةً ويَسْرَةً ، فهل ترى إلاَّ مُبتلى ؟ وهل تشاهدُ إلاَّ منكوباً في كل دارٍ نائحةٌ ، وعلى كل خدٍّ دمْعٌ ، وفي كل وادٍ بنو سعد .
كمْ منَ المصائبِ ، وكمْ من الصابرين ، فلست أنت وحدك المصاب ، بل مصابُكَ أنت بالنسبةِ لغيرِك قليلٌ ، كمْ من مريضٍ على سريره من أعوامٍ ، يتقلبُ ذات اليمينِ وذات الشِّمالِ ، يَئِنُّ من الألمِ ، ويصيحُ من السَّقم .
كم من محبوس مرت به سنوات ما رأى الشمس بعينه ، وما عرف غير زنزانته .
كمْ من رجلٍ وامرأةٍ فقدا فلذاتِ أكبادهِما في ميْعَةِ الشبابِ وريْعانِ العُمْرِ .
كمْ من مكروبٍ ومدِينٍ ومُصابٍ ومنكوبٍ .
آن لك أن تتعزّ بهؤلاءِ ، وأنْ تعلم عِلْمَ اليقين أنِّ هذه الحياة سجْنٌ للمؤمنِ ، ودارٌ للأحزانِ والنكباتِ ، تصبحُ القصورُ حافلةً بأهلها وتمسي خاويةً على عروشها ، بينها الشَّمْلُ مجتمِعٌ ، والأبدانُ في عافية ، والأموالُ وافرةً ، والأولادُ كُثرٌ ، ثمَّ ما هي إلاَّ أيامٌ فإذا الفقرُ والموْتُ والفراقُ والأمراضُ ? وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ? فعليك أن توطِّن مصابك بمنْ حولك ، وبمن سبقك في مسيرةِ الدهرِ ، ليظهر لك أنك معافىً بالنسبة لهؤلاءِ ، وأنه لم يأتك إلا وخزاتٌ سهلةٌ ، فاحمدِ الله على لُطْفهِ ، واشكره على ما أبقى ، واحتسِبْ ما أخذ ، وتعزَّ بمنْ حولك .(/11)
ولك في الرسول ( قدوةٌ وقدْ وُضعِ السَّلى على رأسِهِ ، وأدمِيتْ قدماه وشُجَّ وجهُه ، وحوصِر في الشِّعبِ حتى أكل ورق الشجرِ ، وطُرِد من مكَّة ، وكُسِرتْ ثنيتُه ، ورُمِي عِرْضُ زوجتِهِ الشريفُ ، وقُتِل سبعون من أصحابهِ ، وفقد ابنه ، وأكثر بناتِه في حياتهِ ، وربط الحجر على بطنِه من الجوعِ ، واتُّهِم بأنهُ شاعِرٌ ساحِرُ كاهن مجنونٌ كاذبٌ ، صانُهُ اللهُ من ذلك ، وهذا بلاءٌ لابدَّ منهُ وتمحيصٌ لا أعظم منهُ ، وقدْ قُتِل زكريَّا ، وذُبِح يحيى ، وهُجّرَ موسى ووضع الخليلُ في النارِ ، وسار الأئمةُ على هذا الطريق فضُرِّج عُمَرُ بدمِهِ ، واغتيل عثمانُ ، وطٌعِن عليٌ ، وجُلِدَتْ ظهورُ الأئمةِ وسُجِن الأخيارُ، ونكل بالأبرار ?أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ? .
********************************
الصلاة .. الصلاة
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ?
إذا داهمك الخَوْفُ وطوَّقك الحزنُ ، وأخذ الهمُّ بتلابيبك ، فقمْ حالاً إلى الصلاةِ ، تثُبْ لك روحُك ، وتطمئنَّ نفسُك ، إن الصلاة كفيلةٌ – بأذنِ اللهِ باجتياحِ مستعمراتِ الأحزانِ والغمومِ ، ومطاردةِ فلولِ الاكتئابِ .
كان ( إذا حزبَهُ أمرٌ قال : (( أرحنا بالصلاةِ يا بلالُ )) فكانتْ قُرَّةَ عينِهِ وسعادتهُ وبهجتَهُ .
وقد طالعتُ سِيرُ قومٍ أفذاذٍ كانتْ إذا ضاقتْ بهم الضوائقُ ، وكشَّرتْ في وجوههمُ الخطوبُ ، فزعوا إلى صلاةٍ خاشعةٍ ، فتعودُ لهم قُواهُمْ وإراداتُهم وهِمَمُهُمْ .
إنّ صلاة الخوفِ فُرِضتْ لِتُودَّى في ساعةِ الرعبِ ، يوم تتطايرُ الجماجمُ، وتسيلُ النفوسُ على شفراتِ السيوفِ ، فإذا أعظمُ تثبيتٍ وأجلُّ سكينةٍ صلاةٌ خاشعةٌ .
إنَّ على الجيلِ الذي عصفت به الأمراضُ النفسيةُ أن يتعرّفَ على المسجدِ ، وأن يمرّغَ جبينَهُ لِيُرْضِي ربَّه أوَّلاً ، ولينقذ نفسهُ من هذا العذابِ الواصِبِ ، وإلاَّ فإنَّ الدمع سوف يحرقُ جفْنهُ ، والحزن سوف يحطمُ أعصابهُ ، وليس لديهِ طاقةٌ تمدّهُ بالسكينةِ والأمنِ إلا الصلاةُ .
من أعظمِ النعمِ – لو كنّا نعقلُ – هذهِ الصلواتُ الخمْسُ كلَّ يومٍ وليلةٍ كفارةٌ لذنوبِنا ، رفعةٌ لدرجاتِنا عند ربِّنا ، ثم هي علاجٌ عظيمٌ لمآسينا ، ودواءٌ ناجِعٌ لأمراضِنا ، تسكبُ في ضمائرِنا مقادير زاكيةً من اليقين ، وتملأُ جوانحنا بالرِّضا أما أولئك الذين جانبوا المسجد ، وتركوا الصلاة ، فمنْ نكدٍ إلى نكدٍ ، ومن حزنٍ إلى حزنٍ ، ومن شقاءٍ إلى شقاءٍ ? فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ? .
*****************************
حسبنا الله ونعم الوكيل
تفويضُ الأمرِ إلى اللهِ ، والتوكلُ عليهِ ، والثقة بوعدِهِ ، والرضا بصنيعهِ وحُسنُ الظنِّ بهِ ، وانتظارُ الفرجِ منهُ ؛ من أعظمِ ثمراتِ الإيمانِ ، وأجلِّ صفاتِ المؤمنين ، وحينما يطمئنُّ العبدُ إلى حسنٍ العاقبةِ ، ويعتمدُ على ربِّهِ في كلِّ شأنِه ، يجد الرعاية ، والولاية ، والكفاية ، والتأييدَ ، والنصرةَ .
لما ألقي إبراهيمُ عليه السلامُ في النارِ قال : حسبنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ ، فجعلها اللهُ عليه برْداً وسلاماً ، ورسولُنا ( وأصحابُه لما هُدِّدُوا بجيوشِ الكفار ، وكتائبِ الوثنيةِ قالوا : ?حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{173} فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ? .
إنَّ الإنسان وحده لا يستطيعُ أنْ يصارع الأحداث ، ولا يقاوم الملمَّاتِ ، ولا ينازل الخطوبَ ؛ لأنه خُلِقَ ضعيفاً عاجزاً ، إلا حينما يتوكلُ على ربِّه ويثقُ بمولاه ، ويفوِّضُ الأمرَ إليه ، وإلا فما حيلةُ هذا العبدِ الفقيرِ الحقيرِ إذا احتوشتْهُ المصائب ، وأحاطتْ به النكباتُ ? وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ? .
فيا من أرادَ أن ينصح نفسه : توكلْ على القويِّ الغنيِّ ذي القُوَّةِ المتين ، لينقذك من الويلاتِ ، ويخرجك من الكُرُباتِ ، واجعلْ شعِارَك ودثارَكَ حسبنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ ، فإن قلَّ مالُك ، وكثُرَ ديْنُك ، وجفَّتْ موارِدك ، وشحّتْ مصادِرُك ، فنادِ : حسبُنا اللهِ ونِعْمَ الوكيلُ .
وإذا خفتَ من عدوٍّ ، أو رُعبْتَ من ظالِمٍ ، أو فزعت من خَطْبٍ فاهتفْ : حسبنا اللهُ ونِعْمَ الوكيل .
? وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ? .
**********************************
? قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ?(/12)
مما يشرحُ الصَّدْرَ ، ويزيحُ سُحُب الهمِّ والغمِّ ، السَّفَرُ في الديارِ ، وقَطْعُ القفارِ ، والتقلبُ في الأرضِ الواسعةِ ، والنظرُ في كتابِ الكونِ المفتوحِ لتشاهد أقلام القدرةِ وهي تكتبُ على صفحاتِ الوجودِ آياتِ الجمالِ ، لترى حدائق ذات بهجةٍ ، ورياضاً أنيقةً وجناتٍ ألفاً ، اخرجْ من بيتكَ وتأملْ ما حولك وما بين يديك وما خلفك ، اصْعَدِ الجبال ، اهبطِ الأودية ، تسلّقِ الأشجارَ ، عُبَّ من الماءِ النميرِ ، ضعْ أنفك على أغصانِ الياسمين ، حينها تجدُ روحك حرةً طليقةً ، كالطائرِ الغرّيدِ تسبحِّ في فضاءِ السعادةِ ، اخرجْ من بيتِك ، ألقِ الغطاء الأسودَ عن عينيك ، ثم سرْ في فجاجِ اللهِ الواسعةِ ذاكراً مسبحاً .
إنَّ الانزواء في الغرفةِ الضيّقةِ مع الفراغِ القاتل طريقٌ ناجحٌ للانتحارِ ، وليستْ غرفتك هي العالمُ ، ولست أنت كلَّ الناسِ فَلِمَ الاستسلامُ أمام كتائبِ الأحزان ؟ ألا فاهتفْ ببصرِك وسمعِك وقلبِكَ : ? انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً ? ، تعال لتقرأ القرآن هنا بين الجداولِ والخمائِل ، بَيْنَ الطيورِ وهي تتلو خُطَبَ الحبِّ ، وبَيْنَ الماءِ وهو يروي قصة وصولهِ من التلِّ .
إن التَّرحْالَ في مساربِ الأرض متعةٌ يوصِي بها الأطباءُ لمن ثَقُلَتْ عليه نفسُهُ ، وأظلمتْ عليهِ غرفتهُ الضيقةُ ، فهيَّا بنا نسافْر لنسعد ونفرح ونفكر ونتدبّر ? وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ ? .
************************************
فصبرٌ جميلٌ
التحلِّي بالصبر من شيمِ الأفذاذِ الذين يتلقون المكاره برحابةِ صَدْرٍ وبقوةِ إرادةٍ ، ومناعةٍ أبيَّة . وإنْ لم أصبرْ أنا وأنت فماذا نصنعُ ؟! .
هل عندك حلٌّ لنا غيرُ الصبرِ ؟ هل تعلم لنا زاداً غيرَهُ ؟
كان أحدُ العظماءِ مسرحاً تركضُ فيه المصائبُ ، وميداناً تتسابقُ فيهِ النكباتُ كلما خرج من كربةٍ زارتهُ كربةٌ أخرى ، وهو متترسٌ بالصبرِ ، متدرّعٌ بالثقةِ باللهِ .
هكذا يفعلُ النبلاءُ ، يُصارعون الملمّاتِ ويطرحون النكباتِ أرضاً .
دخلوا على أبي بكر -رضي اللهُ عنهُ- وهو مريضٌ ، قالوا : ألا ندعو لك طبيباً ؟ قال : الطبيبُ قد رآني . قالوا : فماذا قال ؟ قال : يقولُ : إني فعَّالٌ لما أريدُ .
واصبرْ وما صبرُك إلاَّ باللهِ ، اصبرْ صَبْرَ واثقٍ بالفرجِ ، عالم بحُسْنِ المصيرِ ، طالبٍ للأجرِ ، راغبٍ في تفكيرِ السيئاتِ ، اصبرْ مهما ادلهمَّت الخطوبُ ، وأظلمتِ أمامك الدروبُ ، فإنَّ النصر مع الصَّبْرِ ، وأنَّ الفرج مع الكَرْبِ ، وإن مع العُسْرِ يُسْراً .
قرأتُ سير عظماءٍ مرُّوا في هذه الدنيا ، وذهلتُ لعظيمِ صبرِهِمْ وقوةِ احتمالِهم ، كانت المصائبُ تقعُ على رؤوسِهم كأنَّها قطراتُ ماءٍ باردةٍ ، وهم في ثباتِ الجبالِ ، وفي رسوخِ الحقِ ، فما هو إلاَّ وقت قصيرٌ فتشرقُ وجوهُهم على طلائع فجرِ الفرجِ ، وفرحةِ الفتحِ ، وعصرِ النصرِ . وأحدُهم ما اكتفى بالصبرِ وَحْدَهُ ، بل نازَلَ الكوارِث ، وصاحَ في وجهِ المصائبِ مُتحدِّياً .
***************************************
لا تحملِ الكرة الأرضية على رأسِكَ
نفرٌ من الناسِ تدورُ في نفوسِهم حرْبٌ عالميَّةٌ ، وهم على فُرُش النوم ، فإذا وضعتِ الحرْبُ أوزارها غَنِمُوا قُرْحَة المعدةِ ، وضَغْطَ الدمِّ والسكَّريَّ . يحترقون مع الأحداثِ ، يغضبون من غلاءِ الأسعارِ ، يثورون لتأخر الأمطارِ ، يضجُّون لانخفاضِ سعْرِ العملةِ ، فهم في انزعاجٍ دائمٍ ، وقلقٍ واصِبٍ? يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ? .
ونصيحتي لكَ أنْ لا تحملِ الكرة الأرضية على رأسِكَ ، دعِ الأحداث على الأرضِ ولا تضعْها في أمعائِك . إن بعض الناس عنده قلبٌ كالإسفنجة يتشربُ الشائعاتِ والأراجيفَ ، ينزعجُ للتوافِهِ ، يهتزِ للوارداتِ ، يضطربُ لكلِّ شيءٍ ، وهذا القلبُ كفيلٌ أن يحطم صاحبهُ ، وأن يهدم كيان حامِلِهِ .
أهلُ المبدأ الحقِّ تزيدُهم العِبرُ والعظاتُ إيماناً إلى إيمانِهم ، وأهْلُ الخورِ تزيدُهم الزلازلُ خوفاً إلى خوفِهِم ، وليس أنفع أمام الزوابع والدواهي من قلبٍ شجاعٍ ، فإن المِقْدام الباسلَ واسعُ البطانِ ، ثابتُ الجأشِ ، راسخُ اليقينِ ، باردُ الأعصابِ ، منشرحُ الصدر ، أما الجبانُ فهو يذبح فهو يذبح نفسه كلَّ يوم مرات بسيف التوقّعات والأراجيفِ والأوهامِ والأحلامِ ، فإن كنت تريدُ الحياة المستقرَّةَ فواجِهِ الأمور بشجاعةٍ وجلدٍ ، ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون ، ولا تك في ضيْقٍ ممَّا يمكرون ، كنْ أصلب من الأحداثِ ، وأعْتى من رياحِ الأزماتِ ، وأقوى من الأعاصيرِ ، وارحمتاه لأصحابِ القلوبِ الضعيفةِ ، كم تهزُّهم الأيامُ هزّاً ?وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ? ، وأما الأُباةُ فهم من اللهِ في مَدَدٍ ، وعلى الوعدِ في ثقةٍ ? فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ? .(/13)
****************************************
لا تحطمك التوافهُ
كم من مهمومٍ سببُ همِّهِ أمرٌ حقيرٌ تافهٌ لا يُذْكَرُ !! .
انظر إلى المنافقين ، ما أسقط همَمَهُم ،وما أبْردَ عزائِمَهُمْ . هذه أقوالُهم : ? لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ ? ، ? ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي ? ، ? بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ? ، ? نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ ? ، ? مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ? .
يا لخيبةِ هذِهِ المعاطس يا لتعاسةِ هذهِ النفوسِ .
همهم البطونُ والصحونُ والدورُ والقصورُ ، لم يرفعوا أبصارهم إلى سماء المُثُلِ ، لم ينظروا أبداً إلى نجوم الفضائل . همُّ أحدِهِمْ ومبلغُ عِلْمِهِ : دابَّتهُ وثوبُهُ ونعلُهُ ومأدبتُهُ ، وانظرْ لقطَّاعٍ هائلٍ منَ الناسِ تراهم صباح مساء سببُ همومهمْ خلافٌ مع الزوجةِ ، أو الابنِ ، أو القريبِ ، أو سماعُ كلمةٍ نابيةٍ ، أو موقفٌ تافهٌ . هذه مصائبُ هؤلاءِ البشَرِ ، ليس عندهم من المقاصدِ العليا ما يشغلُهم ، ليس عندهم من الاهتماماتِ الجليلةِ ما يملأُ وقتهم ، وقدْ قالوا : إذا خرج الماءُ من الإناءِ ملأهُ الهواءُ ، إذاً ففكرْ في الأمرِ الذي تهتمُّ له وتغتمُّ ، هلْ يستحقُ هذا الجهد وهذا العناءَ ، لأنك أعطيته من عقلِك ولَحْمِك ودَمِك وراحتِك ووقتِك ، وهذا غُبْنٌ في الصفقةِ ، وخسارةٌ هائلةٌ ثمنُها بخسٌ ، وعلماءُ النفسِ يقولون : اجعلْ لكلِ شيء حداً معقولاً ، وأصدق من هذا قولهُ تعالى : ? قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ? فأعطِ القضية حجْمها ووزنها وقدْرها وإياكَ والظلم والغُلُوَّ .
هؤلاءِ الصحابةُ الأبرارُ همهم تحت الشجرةِ الوفاءُ بالبيعةِ فنالوا رِضوان اللهِ ، ورجُلٌ معهم أهمَّه جملُهُ حتى فاتهُ البيعُ فكان جزاءهُ الحرمانُ والمقتُ ,
فاطرحِ التوافِه والاشتغال بها تجدْ أنَّ أكثر همومِك ذهبتْ عنك وعُدْتَ فَرِحاً مسروراً .
*******************************
ارض بما قسمَ اللهُ لكَ
تكنْ أغنى الناسِ
مرَّ فيما سبق بعضُ معاني هذا السبب ؛ لكنني أبسطُهُ هنا ليُفهم أكثرَ وهو : أنَّ عليكَ أن تقْنع بما قُسِمَ لك من جسمٍ ومالٍ وولدٍ وسكنٍ وموهبةٍ ، وهذا منطقُ القرآن ? فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ ? إنَّ غالبَ علماءِ السلفِ وأكثر الجيلِ الأولِ كانوا فقراء لم يكنْ لديهم أُعطياتٌ ولا مساكنُ بهيةٌ ، ولا مراكبُ ، ولا حشمٌ ، ومع ذلك أثْروُا الحياة وأسعدوا أنفسهم والإنسانية ، لأنهم وجّهوا ما آتاهمُ اللهُ من خيرٍ في سبيلِهِ الصحيحِ ، فَبُورِكَ لهم في أعمارِهم وأوقاتِهم ومواهبهم ، ويقابلُ هذا الصنفُ المباركُ مَلأٌ أُعطوا من الأموالِ والأولادِ والنعمِ ، فكانتْ سببَ شقائِهم وتعاستِهم ، لأنهم انحرفوا عن الفطرةِ السويَّةِ والمنهجِ الحقِّ وهذا برهانٌ ساطعٌ على أن الأشياءَ ليستْ كلَّ شيءٍ ، انظرْ إلى من حمل شهاداتٍ عالميَّةً لكنهُ نكرةٌ من النكراتِ في عطائهِ وفهمهِ وأثرهِ ، بينما آخرون عندهم علمٌ محدودٌ ، وقدْ جعلوا منه نهراً دافقاً بالنفعِ والإصلاحِ والعمارِ .
إن كنت تريدُ السعادةُ فارضَ بصورتِك التي ركبَّك اللهُ فيها ، وارض بوضعكِ الأسري ، وصوتِك ، ومستوى فهمِك ، ودخلِك ، بل إنَّ بعض المربّين الزهادِ يذهبون إلى أبعدِ من ذلك فيقولون لك : ارض بأقلَّ ممَّا أنت فيهِ ودون ما أنت عليهِ .
هاك قائمةً رائعةً مليئةً باللامعين الذين بخسوا حظوظهُمُ الدنيوية :
عطاءُ بنُ رباح عالمُ الدنيا في عهدهِ ، مولى أسودُ أفطسُ أشَلُّ مفلفلُ الشعرِ .
الأحنفُ بنُ قيس ، حليمُ العربِ قاطبةً ، نحيفُ الجِسْمِ ، أحْدَبُ الظهرِ ، أحنى الساقين ، ضعيفُ البنيةِ .
الأعمش محدِّثُ الدنيا ، من الموالي ، ضعيفُ البصرِ ، فقيرُ ذاتِ اليدِ ، ممزقُ الثيابِ ، رثُ الهيئةِ والمنزلِ .
بل الأنبياء الكرامُ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم ، كلٌّ منهم رعى الغنَمَ ، وكان داودُ حَدَّاداً ، وزكريا نجاراً ، وإدريس خياطاً ، وهم صفوةُ الناسِ وخَيْرُ البشرِ .
إذاً فقيمتُك مواهبُك ، وعملُك الصالحُ ، ونفعُك ، وخلقك ، فلا تأس على ما فات من جمالٍ أو مالٍ أو عيالٍ ، وارض بقسمِة اللهِ ? نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ? .
****************************************
ذكّر نفسك بجنةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ(/14)
إنْ جمعتَ في هذه الدارِ أو افتقرتَ أو حزنتَ أو مرضتَ أو بخستَ حقاً أو ذقت ظلماً فذكِّر نفسك بالنعيمِ ، إنك إن اعتقدت هذه العقيدة َ وعملتَ لهذا المصيرِ ، تحولتْ خسائرُك إلى أرباحِ ، وبلاياك إلى عطايا . إن أعقلَ الناسِ هم ُ الذين يعملون للآخرةِ لأنها خيرٌ وأبقى ، وإنَّ أحمق هذه الخليقة هم الذين يرون أنَّ هذه الدنيا هي قرارُهم ودارُهم ومنتهى أمانيهم ، فتجدَهم أجزعَ الناسِ عند المصائبِ ، وأندهم عندَ الحوادثِ ، لأنهمْ لا يرون إلاَّ حياتهمْ الزهيدة الحقيرة ، لا ينظرون إلاَّ إلى هذهِ الفانيةِ ، لا يتفكرون في غيرِها ولا يعملون لسواها ، فلا يريدون أن يعكّر لهم سرورُهم ولا يكدّر عليهم فرحُهم ، ولو أنهمْ خلعوا حجاب الرانِ عن قلوبهِمْ ، وغطاء الجهلِ عن عيونهِمْ لحدثوا أنفسهم بدارِ الخلدِ ونعيمِها ودورِها وقصورِها ، ولسمعوا وأنصتوا لخطابِ الوحيِ في وصفِها ، إنها واللهِ الدارُ التي تستحقُّ الاهتمام والكدَّ والجهْدَ .
هل تأملنا طويلاً وصف أهلِ الجنة بأنهم لا يمرضون ولا يحزنون ولا يموتون ، ولا يفنى شبابُهم ، ولا تبلى ثيابُهم ، في غرفٍ يُرى ظاهرُها من باطنِها ، وباطِنُها من ظاهرهِا ، فيها ما لا عينٌ رأتْ ، ولا أُذُنٌ سمعتْ ، ولا خَطَرَ على قلبِ بَشَرٍ ، يسيرُ الراكبُ في شجرةٍ من أشجارهِا مائة عامٍ لا يقطعُها ، طول الخيمَّةِ فيها ستون ميلاً ، أنهارُها مُطَّرِدةٌ قصورُها منيفةٌ ، قطوفُها دانيةٌ ، عيونُها جاريةٌ ، سُرُرُها مرفوعةٌ ، أكوابُها موضوعةٌ ، نمارقُها مصفوفَةٌ ، زرابيُّها مبثوثةٌ ، تمَّ سروَرها ، عظُم حبورُها ، فاح عرْفُها ، عظُم وصْفُها ، منتهى الأماني فيها ، فأين عقولُنا لا تفكرْ ؟! ما لنا لا نتدبَّرْ ؟!
إذا كان المصيرُ إلى هذه الدارِ ؛ فلتخفَّ المصائبُ على المصابين ، ولتَقَرَّ عيونْ المنكوبين ، ولتفرح قلوبُ المعدمين .
فيها أيها المسحوقون بالفقرِ ، المنهكون بالفاقةِ ، المبتلون بالمصائب ، اعملوا صالحاً ؛ لتسكنوا جنة اللهِ وتجاوروهُ تقدستْ أسماؤُه ? سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ? .
****************************************
? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ?
العدلُ مطْلَبٌ عقليٌّ وشرعيٌّ ، لا غُلُوَّ ولا جفاءٌ ، لا إفراطٌ ولا تفريطٌ ، ومنْ أراد السعادة فعليهِ أنْ يضبطَ عواطفهُ ، واندفاعاتِهِ ، وليكنْ عادلاً في رضاهُ وغضبِهِ ، وسرورِهِ وحُزْنِهِ ؛ لأن الشَّطَطَ والمبالغةَ في التعامل مع الأحداثِ ظلمٌ للنفسِ ، وما أحْسنَ الوسطيّةَ ، فإنَّ الشرع نزل بالميزان والحياةُ قامتْ على القِسط ، ومنْ أتعبِ الناسِ منْ طاوعَ هواه ، واستسلم لعواطفِهِِ وميولاتِه ، حينها تتضخّمُ عنده الحوادثُ ، وتظِلمُ لديه الزوايا ، وتقومُ في قلبِه معاركُ ضاربةٌ من الأحقادِ والدخائلِ والضغائنِ ، لأنه يعيشُ في أوهامٍ وخيالاتٍ ، حتى إن بعضهمْ يتصوّرُ أنَّ الجميع ضِدَّهُ ، وأنَّ الآخرينَ يحبكون مؤامرةً لإبادتهِ ، وتُمْلِي عليه وساوسُه أنَّ الدنيا له بالمرصادِ فلذلك يعيشُ في سحبٍ سودٍ من الخوفِ والهّمِ والغّمِ .
إن الإرجافُ ممنوعٌ شرعاً ، رخيصٌ طبعاً ، ولا يمارسُه إلاَّ أناسٌ مفلسون من القيمِ الحيَّةِ والمبادئِ الربانيَّةِ? يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ ? .
أجلِسْ قلبَكَ على كرسيّه ، فأكثرُ ما يخافُ لا يكونُ ، ولك قبْلَ وقوع ما تخافُ وقوعه أن تقدِّرَ أسوأ الاحتمالاتِ ، ثم توطِّن نفسكِ على تقبُّل هذا الأسوأ ، حينها تنجو من التكهُّناتِ الجائرةِ التي تمزّقُ القلب قبلَ أنْ يَقَعَ الحَدَثُ فَيَبْقَى .
فيا أيُّها العاقلُ النَّابهُ : أعطِ كلَّ شيء حجمَهُ ، ولا تضخِّم الأحداث والمواقفَ والقضايا ، بل اقتصدْ واعدلْ والبغضِ في الحديث : (( أحبب حبيبَك هوْناً ما ، فعسى أن يكون بغيضَكَ يوماً ما ، وأبغض بغيضك هوْناً ما ، فعسى أن يكون حبيبكَ يوماً ما )) ?عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ?.
إنَّ كثيراً من التخويفات والأراجيف لا حقيقة لها .
*********************************
الحزنُ ليس مطلوباً شرعاً ، ولا مقصوداً أصلاً
فالحزنُ منهيٌّ عنهُ قوله تعالى : ? وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا ? . وقولِه : ? وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ? في غيْرِ موضعٍ . وقوله : ? لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ? . والمنفيُّ كقوله : ? فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ? . فالحزنُ خمودٌ لجذْوَةِ الطلبِ ، وهُمودٌ لروحِ الهمَّةِ ، وبرودٌ في النفسِ ، وهو حُمَّى تشلُّ جسْمَ الحياةِ .(/15)
وسرُّ ذلك : أن الحزن مُوَقِّفٌ غير مُسَيّر ، ولا مصلحة فيه للقلب ، وأحبُّ شيءٍ إلى الشيطان : أن يُحْزِن العبد ليقطعهُ عن سيرِه ، ويوقفه عن سلوكِه ، قال الله تعالى :? إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ? . ونهى النبيُّ ( : (( أن يَتَناجَى اثنانِ منهم دون الثالثِ ، لأن ذلك يُحْزِنُه )) . وحُزْنُ المؤمنِ غيْرُ مطلوبٍ ولا مرغوبٍ فيه لأنَّهُ من الأذى الذي يصيبُ النفس ، وقد ومغالبتُه بالوسائلِ المشروعةِ .
فالحزنُ ليس بمطلوبٍ ، ولا مقصودٍ ، ولا فيه فائدةٌ ، وقدِ استعاذ منه النبيُّ ( فقال : (( اللهمَّ إني أعوذُ بك من الهمِّ والحزنِ )) فهو قرينُ الهمِّ ، والفرْقُ ، وإنّ كان لما مضى أورثه الحُزْنَ ، وكلاهما مضعِفٌ للقلبِ عن السيرِ ، مُفتِّرٌ للعزمِ .
والحزنُ تكديرٌ للحياةِ وتنغيصٌ للعيشِ ، وهو مصلٌ سامٌّ للروحِ ، يورثُها الفتور والنكَّدَ والحيْرَة ، ويصيبُها بوجومٍ قاتمٍ متذبِّلٍ أمام الجمالِ ، فتهوي عند الحُسْنِ ، وتنطفئُ عند مباهج الحياةِ ، فتحتسي كأسَ الشؤم والحسرةِ والألمِ .
ولكنَّ نزول منزلتِهِ ضروريٌ بحسبِ الواقعِ ، ولهذا يقولُ أهلُ الجنةِ إذا دخلوها : ?الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ? فهذا يدلُّ على أنهمْ كان يصيبُهم في الدنيا الحزنُ ، كما يصيبهُم سائرُ المصائبِ التي تجري عليهم بغيرِ اختيارِهم . فإذا حلَّ الحُزْنُ وليس للنفسِ فيه حيلةٌ ، وليس لها في استجلابهِ سبيلٌ فهي مأجورةٌ على ما أصابها ؛ لأنه نوْعٌ من المصائبِ فعلى العبدِ أنْ يدافعه إذا نزل بالأدعيةِ والوسائلِ الحيَّةِ الكفيلةِ بطردِه .
وأما قوله تعالى : ? وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ? .
فلمْ يُمدحوا على نفسِ الحزنِ ، وإنما مُدحوا على ما دلَّ عليه الحزنُ من قوةِ إيمانِهم ، حيث تخلَّفوا عن رسولِ اللهِ ( لِعجزِهم عن النفقِة ففيهِ تعريضٌ بالمنافقين الذين لم يحزنوا على تخلُّفهم ، بل غَبَطُوا نفوسهم به .
فإن الحُزْن المحمود إنْ حُمِدَ بَعْدَ وقوعِهِ – وهو ما كان سببُه فوْت طاعةٍ ، أو وقوع معصيةٍ – فإنَّ حُزْنَ العبدِ على تقصيرِهِ مع ربّه وتفريطِهِ في جَنْبِ مولاه : دليلٌ على حياتهِ وقبُولِهِ الهدايةَ ، ونورِهِ واهتدائِهِ .
أما قولُه ( في الحديثِ الصحيحِ : (( ما يصيبُ المؤمن من همِّ ولا نصب ولا حزن ، إلاَّ كفر اللهُ به من خطاياه )) . فهذا يدلُّ على أنه مصيبةٌ من اللهِ يصيبُ بها العبْدَ ، يكفّرُ بها من سيئاتِه ، ولا يدلُّ على أنه مقامٌ ينبغي طلبُه واستيطانُه ، فليس للعبدِ أن يطلب الحزن ويستدعيّه ويظنُّ أنهُ عبادة ، وأنَّ الشارعَ حثَّ عليه ، أو أَمَرَ به ، أو رَضِيَهُ ، أو شَرَعَهُ لعبادِهِ ، ولو كان هذا صحيحاً لَقَطَعَ ( حياتَهُ بالأحزانِ ، وصَرَفَهَا بالهمومِ ، كيفَ وصدرُه مُنْشَرِحٌ ووجهُه باسمٌ ، وقلبُه راضٍ ، وهو متواصلُ السرورِ ؟! .
وأما حديثُ هنْدِ بن أبي هالة ، في صفةِ النبيّ ( : (( أنهُ كان متواصلَ الأحزانِ )) ، فحديثٌ لا يثبُتُ ، وفي إسنادهِ من لا يُعرَفُ ، وهو خلاف واقعِهِ وحالِهِ ( .
وكيف يكونُ متواصلَ الأحزانِ ، وقد صانَهُ اللهُ عن الحزنِ على الدنيا وأسبابها ، ونهاهُ عن الحزنِ على الكفارِ ، وغَفَرَ له ما تقدَّم من ذنبِهِ وما تأخَّرَ ؟! فمن أين يأتيهِ الحزنُ ؟! وكيفَ يَصلُ إلى قلبِهِ ؟! ومن أي الطرق ينسابُ إلى فؤادِهِ ، وهو معمورٌ بالذِّكرِ ، ريّانٌ بالاستقامةِ ، فيّاضٌ بالهداية الربانيةِ ، مطمئنٌّ بوعدِ اللهِ ، راض بأحكامه وأفعالِه ؟! بلْ كانَ دائمَ البِشْرِ ، ضحوك السِّنِّ ، كما في صفته (( الضَّحوك القتَّال )) ، صلوات الله وسلامه عليه . ومَن غاصَ في أخبارهِ ودقَّقَ في أعماقِ حياتِهِ واسْتَجْلَى أيامَهْ ، عَرَفَ أنه جاءَ لإزهاقِ الباطلِ ودحْضِ القَلَقِ والهمِّ والغمِّ والحُزْنِ ، وتحريرِ النفوسِ من استعمارِ الشُّبَهِ والشكوكِ والشِّرْكِ والحَيْرَةِ والاضطرابِ ، وإنقاذهِا من مهاوي المهالكِ ، فللهِ كمْ له على البَشَرِ من مِنَنٍ .(/16)
وأما الخبرُ المرويُّ : (( إن الله يحبُّ كلَّ قلب حزين )) فلا يُعرف إسنادُه ، ولا مَن رواه ولا نعلم صِحَّتَهُ . وكيف يكونُ هذا صحيحاً ، وقد جاءت الملَّةُ بخلافِهِ ، والشرعُ بنقْضِهِ؟! وعلى تقديرِ صحتِهِ : فالحزنُ مصيبةٌ من المصائبِ التي يبتلي اللهُ بها عَبْدَهُ ، فإذا ابتُلي به العبدُ فصيرَ عليهِ أحبَّ صبرَه على بلائِهِ . والذين مدحوا الحزنَ وأشادوا بهِ ونسبُوا إلى الشرعِ الأمر به وتحبيذهُ ؛ أخطؤوا في ذلك ؛ بلْ ما ورد إلاَّ النهيَّ عنهُ ، والأمرُ بضدِّه ، من الفرحِ برحمةِ اللهِ تعالى وبفضلهِ ، وبما أنزل على رسولِ اللهِ ( ، والسرورِ بهدايةِ اللهِ ، والانشراحِ بهذا الخيرِ المباركِ الذي نَزَلَ من السماءِ على قلوبِ الأولياءِ .
وأما الأثَرُ الآخَرُ : (( إذا أحبَّ اللهُ عبداً نَصَبَ في قلْبِهِ نائحةً ، وإذا أبغض عبداً جعلَ في قلبه مِزْماراً )) . فأثر إسرائيليٌّ ، قيل : إنه في التوراة . وله معنى صحيحٌ ، فإنَّ المؤمنَ حزينٌ على ذنوبهِ ، والفاجرُ لاهٍ لاعبٌ ، مترنِّمٌ فَرِحٌ . وإذا حصَلَ كسْرٌ في قلوبِ الصالحينَ فإنما هو لمِا فاتَهُم من الخيراتِ ، وقصّروا فيهِ من بلوغِ الدرجاتِ ، وارتكبوهُ من السيئاتِ . خلاف حزنِ العُصاةِ ، فإنَّهُ على فوتِ الدنيا وشهواتِها وملاذِّها ومكاسبِها وأغراضِها ، فهمُّهُمْ وغمُّهُمْ وحزنُهُمْ لها ، ومن أجلِها وفي سبيلِها .
وأما قولُه تعالى عن نبيِّهِ (( إسرائيل )) : ? وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ? : فهو إخبارٌ عن حالهِ بمصابِه بفقْدِ وِلدِهِ وحبيبِهِ ، وأنه ابتلاهُ بذلك كما ابتلاهُ بالتفريق بينَهُ وبينَهُ . ومجرد الإخبارِ عن الشيءِ لا يدلُّ على استحسانِ ه ولا على الأمرِ به ولا الحثِّ عليه ، بل أمرنا أنْ نستعيذَ باللهِ من الحزنِ ، فإنَّهُ سَحَابَةٌ ثقيلةٌ وليل جاِثمٌ طويلٌ ، وعائقٌ في طريقِ السائرِ إلى معالي الأمور .
وأجمع أربابُ السلوكِ على أنَّ حُزْنَ الدنيا غَيْرُ محمودٍ ، إلا أبا عثمان الجبريَّ ، فإنهُ قالَ : الحزنُ بكلِّ وجهٍ فضيلةٌ ، وزيادةٌ للمؤمنِ ، ما لمْ يكنْ بسببِ معصيةٍ . قال : لأنهُ إن لم يُوجبْ تخصيصاً ، فإنه يُوجبُ تمحيصاً .
فيُقالُ : لا رَيْبَ أنهُ محنةٌ وبلاءٌ من اللهِ ، بمنزلةِ المرضِ والهمِّ والغَمِّ وأمَّا أنهُ من منازِلِ الطريقِ ، فلا .
فعليكَ بجلب السرورِ واستدعاءِ الانشراحِ ، وسؤالِ اللهِ الحياةَ الطيبةَ والعيشةَ الرضيَّة ، وصفاءَ الخاطرِ ، ورحابة البالِ ، فإنها نِعمٌ عاجلة ، حتى قالَ بعضُهم : إنَّ في الدنيا جنةً ، منْ لم يدخلها لم يدخلْ جنةَ الآخرةِ .
والله المسؤولُ وَحْدَهْ أن يشرح صدورَنا بنورِ اليقينِ ، ويهدي قلوبنا لصراطِهِ المستقيمِ ، وأنْ ينقذنا من حياةِ الضَّنْكِ والضيِّقِ .
********************************
وقفة
هيَّا نهتفْ نحنُ وإياكَ بهذا الدعاءِ الحارِّ الصّادقِ . فإنهُ لِكشفِ الكُرَبِ والهمِّ والحزنِ : (( لا إلهَ إلا اللهُ العظيمُ الحليم ، لا إله إلا اللهُ ربُّ العرشِ العظيمِ ، لا إله إلا اللهُ ربُّ السمواتِ وربُّ الأرضِ وربُّ العرشِ الكريمِ ، يا حيٌّ يا قيومُ لا إله إلا أنتَ برحمتك أستغيثُ )) .
(( اللهمَّ رحمتكَ أرجو ، فلا تكِلْني إلى نفسي طرْفَةَ عَيْنِ ، وأصلحْ لي شأنيَ كلَّه ، لا إله إلا أنتَ )) .
(( استغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيومَ وأتوبَ إليه )) .
((لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين )) .
(( اللهمَّ إني عبدُكً ، ابنُ عبدِك ، ابنُ أمتِك ، ناصيتي بيدِك ، ماضٍ فيَّ حكمُكَ ، عدْلٌ فيَّ قضاؤُك ، أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك سمَّيت به نفسك ، أو أنزلتهُ في كتابكَ ، أو علَّمتهُ أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علمِ الغيبِ عندكَ ، أنْ تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وذهاب همِّي ، وجلاء حزني )) .
(( اللهمَّ إني أعوذُ بك من الهمِّ والحزنِ ، والعَجْز والكَسَلِ ، والبُخْلِ والجُبْنِ ، وضلعِ الديْنِ وغلبةِ الرِّجالِ )) .
(( حسبنا اللهُ ونعم الوكيلُ )) .
************************************
ابتسمْ
الضَّحِكُ المعتدلُ بلْسَمٌ للهمومِ ومرهَمٌ للأحزانِ ، وله قوةٌ عجيبةٌ في فرحِ الروحِ ، وجَذلِ القلْبِ ، حتى قال أبو الدرداء – رضي اللهُ عنه - : إني لأضحك حتى يكونَ إجماماً لقلبي . وكان أكرمُ الناس ( يضحكُ أحياناً حتى تبدو نواجذُه ، وهذا ضحكُ العقلاءِ البصراءِ بداءِ النفسِ ودوائِها .
والضحك ذِروةُ الانشراحِ وقِمَّةُ الراحةِ ونهايةُ الانبساطِ . ولكنه ضحكٌ بلا إسرافٍ : (( لا تُكثرِ الضحك ، فإنَّ كثرةَ الضحكِ تُميتُ القلبَ )) . ولكنه التوسُّط : (( وتبسُّمك في وجهِ أخيك صدقةٌ )) ، ? فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا ? . ومن نعيمِ أهلِ الجنةِ الضحكُ : ? فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ? .(/17)
وكانتِ العربُ تمدحُ ضحوكَ السِّنِّ ، وتجعلُه دليلاً على سعةِ النفسِ وجودةِ الكفِّ ، وسخاوةِ الطبعِ ، وكرمِ السجايا ، ونداوةِ الخاطرِ .
وقالَ زهيرٌ في (( هَرِم )) :
تراهُ إذا ما جئتَهُ متهلِّلاً
كأنكَ تعطيهِ الذي أنت سائلهُ
والحقيقةُ أنَّ الإسلامَ بُنيَ على الوسطيةِ والاعتدالِ في العقائدِ والعبادات والأخلاقِ والسلوكِ ، فلا عبوسٌ مخيفٌ قاتمٌ ، ولا قهقهةٌ مستمرةٌ عابثةٌ لكنه جدٌّ وقورٌ ، وخفَّةُ روحٍ واثقةٍ .
يقول أبو تمام :
نفسي فداءُ أبي عليِّ إنهُ
صبحُ المؤمِّلِ كوكبُ المتأمِّلِ
فَكِهٌ يجمُّ الجدّ أحياناً وقدْ
ينضُو ويهزلُ عيشُ من لم يهزلِ
إن انقباضَ الوجهِ والعبوس علامةٌ على تذمُّرِ النفسِ ، وغليانِ الخاطرِ ، وتعكُّرِ المزاجِ ?ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ? .
* « ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلْق » .
يقولُ أحمد أمين في « فيْضِ الخاطرِ » : ((ليس المبتسمون للحياة أسعدَ حالاً لأنفسِهِمْ فقط ، بلْ هم كذلك أقدرُ على العملِ ، وأكثرُ احتمالاً للمسؤوليةِ ، وأصلحُ لمواجهةِ الشدائدِ ومعالجةِ الصعابِ ، والإتيانِ بعظائمِ الأمورِ التي تنفعهُمْ وتنفعُ الناس .
لو خُيِّرتُ بين مالٍ كثيرٍ أو منصبٍ خطيرٍ ، وبين نفسٍ راضيةٍ باسمةٍ ، لاخترتُ الثانيةَ ، فما المالُ مع العبوسِ ؟! وما المنصبُ مع انقباضِ النفسِ ؟! وما كلُّ ما في الحياةِ إذا كان صاحبُه ضيِّقاً حرجاً كأنه عائدٌ من جنازة حبيبٍ؟! وما جمالُ الزوجة إذا عبستْ وقلبتْ بيتها جحيماً ؟! لخيرٌ منها – ألفَ مرةٍ – زوجةٌ لم تبلغْ مبلغها في الجمالِ وجعلتْ بيتها جنَّةً .
ولا قيمةَ للبسمةَ الظاهرةِ إلا إذا كانتْ منبعثةً مما يعتري طبيعة الإنسانِ من شذوذ ، فالزهرُ باسِمٌ والغاباتُ باسمةٌ ، والبحارُ والأنهارُ والسماءُ والنجومُ والطيورُ كلُّها باسمةٌ . وكان الإنسانُ بطبعهِ باسماً لولا ما يعرضُ له من طمعٍ وشرٍّ وأنانيةٍ تجعلُهُ عابساً ، فكان بذلك نشازاً في نغماتِ الطبيعةِ المنسجعةِ ، ومنْ اجلِ هذا لا يرى الجمال من عبستْ نفسُه ، ولا يرى الحقيقةَ من تدنَّس قلبُه ، فكلُّ إنسانٍ يرى الدنيا من خلال عمِله وفكْرِه وبواعِثه ، فإذا كان العملُ طيباً والفكرُ نظيفاً والبواعثُ طاهرةً ، كان منظارُه الذي يرى به الدنيا نقياً ، فرأى الدنيا جميلةً كما خُلقتْ ، وإلاَّ تغبَّشَ منظارُه، واسودَّ زجاجُه ، فرأى كلَّ شيء أسود مغبشاً.
هناك نفوسٌ تستطيعُ أن تصنع من كلِّ شيء شقاًء ، ونفوسٌ تستطيع أن تصنع من كلِّ شيءٍ سعادةً ، هناك المرأةُ في البيتِ لا تقعُ عينُها إلا على الخطأ ، فاليومُ أسودُ ، لأنَّ طبقاً كُسِر ، ولأن نوعاً من الطعامِ زاد الطاهي في مِلْحِه ، أو لأنها عثرتْ على قطعةٍ من الورقِ في الحجرةِ ، فتهيجُ وتسبُّ ، ويتعدَّى السبابُ إلى كلِّ منْ في البيتِ ، وإذا هو شعلةٌ من نارِ ، وهناك رجلٌ ينغِّصُ على نفسِه وعلى مَنْ حوله ، مِن كلمةٍ يسمعُها أو يؤوِّلها تأويلاً سيِّئاً ، أو مِنْ عملٍ تافِهٍ حدثَ له ، أو حدثَ منه ، أو من رِبْحٍ خسِرهُ ، أو منْ رِبْحٍ كان ينتظرُه فلم يحدثُ ، أو نحو ذلك ، فإذا الدنيا كلُّها سوداءُ في نظرِه ، ثم هو يسوِّدُها على منْ حوله . هؤلاء عندهمْ قدرةٌ على المبالغةِ في الشرِّ ، فيجعلون من الحبَّةِ قُبَّةً ، ومن البذرةِ شجرةً ، وليس عندهمْ قدرةٌ على الخيرِ ، فلا يفرحون بما أُوتوا ولو كثيراً ، ولا ينعمون بما نالوا ولو عظيماً .
الحياةُ فنٌّ ، وفنٌّ يُتَعلَّمُ ، ولخيرٌ للإنسانِ أن يَجِدَّ في وضعِ الأزهارِ والرياحينِ والحُبِّ في حياتهِ ، من أن يجدَّ في تكديسِ المالِ في جيبهِ أو في مصرفِه . ما الحياةُ إذا وُجِّهتْ كلُّ الجهودِ فيها لجمعِ المالِ ، ولم يُوجَّهْ أيُّ جهدٍ لترقيةِ جانب الرحمةِ والحبِّ فيها والجمالِ ؟!
أكثرُ الناسِ لا يفتحون أعينهُمْ لمباهجِ الحياةِ ، وإنما يفتحونها للدرهمِ والدينارِ ، يمرُّون على الحديقةِ الغنَّاءِ ، والأزهارِ الجميلةِ ، والماءِ المتدفِّقِ ، والطيورِ المغرِّدةِ ، فلا يأبهون لها ، وإنما يأبهون لدينارٍ يدخلُ ودينارٍ يخرجُ . قدْ كان الدينارُ وسيلةً للعيشةِ السعيدةِ ، فقلبوا الوضع وباعوا العيشة السعيدة من أجلِ الدينارِ ، وقد رُكِّبتْ فينا العيونُ لنظرِ الجمالِ ، فعوَّدناها ألا تنظر إلاَّ إلى الدينارِ .
ليس يعبِّسُ النفس والوجه كاليأسِ ، فإنْ أردت الابتسامُ فحارب اليأس . إن الفرصة سانحةً لك وللناسِ ، والنجاحُ مفتوحٌ بابُه لك وللناسِ ، فعوِّدْ عقلك تفتُّح الأمل ، وتوقُّع الخيرِ في المستقبلِ .(/18)
إذا اعتقدت أنك مخلوقٌ للصغيرِ من الأمورِ لمْ تبلغْ في الحياةِ إلا الصغير ، وإذا اعتقدت أنك مخلوقٌ لعظائمِ الأمورِ شعرت بهمَّةٍ تكسرُ الحدود والحواجز ، وتنفذُ منها إلى الساحةِ الفسيحةِ والغرضِ الأسمى ، ومِصْداقُ ذلك حادثٌ في الحياةِ الماديةِ ، فمنْ دخل مسابقة مائةِ مترٍ شعر بالتعبِ إذا هو قطعها ، ومن دخل مسابقة أربعمائِةِ مترٍ لمْ يشعرْ بالتعبِ من المائةِ والمائتينِ . فالنفسُ تعطيك من الهمَّةِ بقدرِ ما تحدِّدُ من الغرضِ . حدِّدْ غرضك ، وليكنْ سامياً صعْب المنالِ ، ولكنْ لا عليك في ذلك ما دمت كلَّ يومٍ تخطو إليه خطواً جديداً . إنما يصدُّ النفس ويعبِّسَها ويجعلُها في سجنٍ مظلمٍ : اليأسُ وفقدانُ الأملِ ، والعيشةُ السيئةُ برؤيةِ الشرورِ ، والبحثِ عن معايبِ الناسِ ، والتشدُّقِ بالحديثِ عن سيئاتِ العالمِ لا غير .
وليس يُوفَّقُ الإنسانُ في شيء كما يُوفَّقُ إلى مُرَبٍّ ينمّي ملكاتهِ الطبيعيةِ ، ويعادلُ بينها ويوسِّعُ أفقه ، ويعوِّدهُ السماحةَ وسَعةَ الصدرِ ، ويعلِّمهُ أن خَيْرَ غرضٍ يسعى إليهِ أن يكونَ مصدرَ خيرٍ للناس بقدرِ ما يستطيعُ ، وأنْ تكون نفسُه شمساً مشعَّةً للضوءِ والحبِّ والخيرِ ، وأنْ يكون قلبُه مملوءاً عطفاً وبراً وإنسانية ، وحباً لإيصالٍ الخيرِ لكلِّمن اتصل به .
النفسُ الباسمةُ ترى الصعابَ فيلذُّها التغلُّبُ عليها ، تنظرُها فتبسَّم ، وتعالجها فتبسمْ ، وتتغلبْ عليها فتبسمْ ، والنفسُ العابسةُ لا ترى صعاباً فتخلفها ، وإذا رأتْها أكبرتْها واستصغرتْ همَّتها وتعلَّلتْ بلو وإذا وإنْ . وما الدهرُ الذي يلعنُه إلا مزاجُه وتربيتُه ، إنه يؤدُّ النجاح في الحياةِ ولا يريدُ أن يدفع ثمَنَهُ ، إنه يرى في كلِّ طريق أسداً رابضاً ، إنه ينتظرُ حتى تمطرَ السماءُ ذهباً أو تنشقَّ الأرضُ عن كَنْزٍ .
إن الصعابَ في الحياةِ أمورٌ نسبيةٌ ، فكلُّ شيءٍ صَعْبٌ جداً عند النفسِ الصغيرةِ جداً ، ولا صعوبة عظيمةً عند النفسِ العظيمةِ ، وبينما النفسُ العظيمةُ تزداد عظمةً بمغالبةِ الصِّعابِ إذا بالنفوس الهزيلةِ تزدادُ سقماً بالفرارِ منها ، وإنما الصعابُ كالكلبِ العقورِ ، إذا رآك خفت منهُ وجريْتَ ، نَبَحَكَ وعدا وراءك ، وإذا رءاك تهزأُ به ولا تعيره اهتماماً وتبرقُ له عينك ، أفسح الطريق لك ، وانكمش في جلدِه منك .
ثمَّ لا شيء أقتلُ للنفسِ من شعورِها بضَعَتِها وصِغَرِ شأنِها وقلَّةِ قيمتهِا ، وأنها لا يمكنُ أن يصدر عنها عملٌ عظيمٌ ، ولا يُنتظرُ منها خيرٌ كبيرٌ . هذا الشعورُ بالضَّعةِ يُفقِدُ الإنسان الثقة بنفسِه والإيمان بقوتِها ، فإذا أقدم على عملٍ ارتاب في مقدرتِه وفي إمكانِ نجاحِه ، وعالجه بفتورٍ ففشِلَ فيهِ . الثقةُ بالنفس فضيلةٌ كبرى عليها عمادُ النجاحِ في الحياةِ ، وشتَّان بينها وبين الغرورِ الذي يُعدُّ رذيلةً ، والفرقُ بينهما أنَّ الغرور اعتمادُ النفسِ على الخيالِ وعلى الكِبْرِ الزائفِ ، والثقةُ بالنفس اعتمادُها على مقدرتِها على تحمُّلِ المسؤوليةِ ، وعلى تقويةِ ملكاتِها وتحسينِ استعدادِها )) .
يقول إيليا أبو ماضي :
قالَ : « السماءُ كئيبةٌ ! » وتجهَّما
قلتُ: ابتسمْ يكفي التجهُّمُ في السما !
السما!
قالَ : الصِّبا ولَّى ! فقلتُ لهُ : ابتسمْ
لن يُرجعَ الأسفُ الصبِّا المتصرِّما !
قالً : التي كانتْ سمائي في الهوى
صارتْ لنفسي في الغرامِ جهنَّما
خانتْ عهودي بعدما ملَّكتُها
قلبي ، فكيف أُطيقُ أن أتبسَّما !
قلتُ : ابتسمْ واطربْ فلوْ قارنْتَها
قضَّيْتَ عمركَ كلَّه متألمَّا !
قالَ : التِّجارةُ في صراعٍ هائلٍ
مثلُ المسافرِ كاد يقتلهُ الظَّما
أو غادةٍ مسْلولةٍ محتاجةٍ
لدمٍ ، وتنفُثُ كلمَّا لهثتْ دَمَا !
قلتُ : ابتسمْ ، ما أنت جالبَ دائها
وشِفائها ، فإذا ابتسمت فربَّما ..
أيكونُ غيرُك مجرماً ، وتبيتُ في
وجلٍ كأنك أنت صرت المُجْرما ؟
قال : العِدى حولي علتْ صيحاتُهُمْ
أَأُسَرُّ والأعداءُ حولي في الحِمَى ؟
قلتُ : ابتسمْ لم يطلبوك بذمِّهمْ
لو لم تَكُنْ منهمْ أجلَّ وأعظما !
قال : المواسمُ قد بدتْ أعلامُها
وتعرَّضتْ لي في الملابسِ والدُّمى
وعليَّ للأحبابِ فرضٌ لازمٌ
لكنّ كفِّي ليسَ تملكُ درهما
قلتُ : ابتسمْ يكفيك أنَّك لم تزلْ
حياً ، ولستَ من الأحبَّةِ مُعدما !
قال : الليالي جرَّعتني علقماً
قلتُ : ابتسمْ ، ولئنْ جُرِّعتَ العلقما
فلعلِّ غيركَ إن رآك مرنِّماً
طَرَحَ الكآبة جانباً وترنَّما
أتُراك تغنمُ بالتبرُّمِ درهماً
أم أنت تخسرُ بالبشاشةِ مغنما ؟
يا صاحِ لا خطرٌ على شفتيك أنْ
تتثلَّما ، والوجهِ أنْ يتحطَّما
فاضحكْ فإنَّ الشّهْبَ تضحكُ والدّ
جى متلاطِمٌ ، ولذا نحبُّ الأنجُما !
قال : البشاشةُ ليس تُسعِدُ كائناً
يأتي إلى الدنيا ويذهبُ مُرْغَما
قلت : ابتسم مادام بينك والردَّى
شبرٌ ، فإنَّك بعدُ لنْ تتبسَّما(/19)
ما أحوجنا إلى البسمةِ وطلاقةِ الوجهِ ، وانشراحِ الصَّدْرِ وأريحيّةِ الخُلُقِ ، ولطفِ الروحِ ولينِ الجانبِ ، ((إنَّ الله أوحى إليَّ تواضعوا ، حتى لا يبغي أحدٌ على أحدٍ ولا يفخر أحدٌ على أحدٍ )) .
******************************************
وقفة
لا تحزنْ : لأنك جرّبتَ الحزن بالأمسِ فما نَفَعَكَ شيئاً ، رَسَبَ ابنُك فحزنتَ ، فهل نَجَحَ؟! مات والدُك فحزنت فهل عادَ حيّاَ ؟! خسِرت تجارتُك فحزنت، فهل عادتْ الخسائرُ أرباحاً؟!
لا تحزنْ : لأنك حزنت من المصيبةِ فصارتْ مصائبَ ، وحزنتَ من الفقرِ فازْددْتَ نَكَداً ، وحزنتَ من كلام أعدائك فأعنتهمْ عليك ، وحزنْت من توقُّع مكروهٍ فما وقع .
لا تحزنْ : فإنهُ لنْ ينفعك مع الحُزْن دارٌ واسعةٌ ، ولا زوجةٌ حسناءُ ، ولا مالٌ وفيرٌ ، ولا منصبٌ سامٍ ، ولا أولادٌ نُجباءُ .
لا تحزنْ : لأنَّ الحُزْنَ يُريك الماءَ الزلالَ علْقماً ، والوردةَ حَنْظَلَةً ، والحديقةَ صحراءَ قاحلةً ، والحياة سجناً لا يُطاقُ .
لا تحزنْ : وأنت عندك عينانِ وأذنانِ وشفتانِ ويدانِ ورجلانِ ولسانٌ ، وجَنَانٌ وأمنٌ وأمانٌ وعافيةٌ في الأبدانِ : ? فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ? .
لا تحزنْ : ولك دينٌ تَعْتَقِدُهُ ، وبيتٌ تسكُنُهُ ، وخبزٌ تأكلُه ، وماءٌ تشربُهُ ، وثوبٌ تَلْبَسُهُ ، وزوجةٌ تأوي إليها ، فلماذا تحزنْ ؟!
**********************************
نعمة الألم
الألمُ ليس مذموماً دائماً ، ولا مكروهاً أبداً ، فقدْ يكونُ خيراً للعبدِ أنْ يتأَلَّمَ .
إنَّ الدعاء الحارَّ يأتي مع الألمِ ، والتسبيحَ الصادقَ يصاحبُ الألَمَ ، وتألُّم الطالبِ زَمَنَ التحصيلِ وحمْله لأعباءِ الطلبِ يُثمرُ عالماً جَهْبَذاً ، لأنهُ احترق في البدايةِ فأشرق في النهايةِ. وتألُّم الشاعرِ ومعاناتُه لما يقولُ تُنتجُ أدباً مؤثراً خلاَّباً ، لأنه انقدحَ مع الألمِ من القلبِ والعصبِ والدمِ فهزَّ المشاعرَ وحرَّكَ الأفئدةَ . ومعاناة الكاتبِ تُخرجُ نِتاجاً حيّاً جذَّاباً يمورُ بالعِبرِ والصورِ والذكرياتِ .
إنَّ الطالبَ الذي عاشَ حياةَ الدَّعةِ والراحةِ ولم تلْذعْهُ الأَزَمَاتُ ، ولمْ تكْوِهِ المُلِمَّاتُ ، إنَّ هذا الطالبَ يبقى كسولاً مترهِّلاً فاتراً .
وإنَّ الشاعر الذي ما عرفَ الألمَ ولا ذاقَ المر ولا تجرَّع الغُصَصَ ، تبقى قصائدهُ رُكاماً من رخيصِ الحديثِ ، وكُتلاً من زبدِ القولِ ، لأنَّ قصائدَهُ خرجَتْ من لسانِهِ ولم تخرُجْ من وجدانِهِ ، وتلفَّظ بها فهمه ولم يعِشْها قلبُه وجوانِحُهُ .
وأسمى من هذهِ الأمثلةِ وأرفعُ : حياةُ المؤمنين الأوَّلين الذين عاشوا فجْرَ الرسالةِ ومَولِدَ الملَّةِ ، وبدايةَ البَعْثِ ، فإنهُم أعظمُ إيماناً ، وأبرُّ قلوباً ، وأصدقُ لهْجةً ، وأعْمقُ عِلمْاً ، لأنهم عاشوا الأَلَمَ والمعاناةَ : ألمَ الجوع والفَقْرِ والتشريدِ ، والأذى والطردِ والإبعادِ، وفراقَ المألوفاتِ ، وهَجْرَ المرغوباتِ ، وألمَ الجراحِ ، والقتلِ والتعذيبِ ، فكانوا بحقٍّ الصفوة الصافيةَ ، والثلَّةَ المُجْتَبَاةَ ، آياتٍ في الطهرِ ، وأعلاماً في النبل ، ورموزاً في التضحية ، ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ? .
وفي عالم الدنيا أناسٌ قدَّموا أروعَ نتِاجَهُمْ ، لأنهم تألمَّوا ، فالمتنبي وعَكَتْه الحُمَّى فأنشدَ رائعته :
وزائرتي كأنَّ بها حياءَ
فليسَ تزورُ إلاَّ في الظلامِ
والنابغةُ خوّفَهُ النعمانُ بنُ المنذرِ بالقتلِ ، فقدَّم للناس :
فإنكَ شمسٌ والملوكُ كواكبٌ
إذا طلعتْ لم يبْدُ منهنَّ كَوكبُ
وكثيرٌ أولئك الذين أَثْرَوا الحياةَ ، لأنهم تألمَّوا .
إذنْ فلا تجزعْ من الألم ولا تَخَفَ من المعاناةِ ، فربما كانتْ قوةً لك ومتاعاً إلى حين ، فإنكَ إنْ تعشْ مشبوبَ الفؤادِ محروقَ الجَوَى ملذوعَ النفسِ ؛ أرقُّ وأصفى من أن تعيشَ باردَ المشاعرِ فاترَ الهِمَّةِ خامدَ النَّفْسِ ، ? وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ?
ذكرتُ بهذا شاعراً عاش المعاناةَ والأسى وألمَ الفراقِ وهو يلفظُ أنفاسَه الأخيرةَ في قصيدةٍ بديعةِ الحُسْنِ ، ذائعةِ الشُّهرةِ بعيدةٍ عن التكلُّف والتزويق : إنه مالك بن الرّيب ، يَرثي نفسه :
أَلَمْ تَرَني بِعْتُ الضَّلاَلةَ بالهُدَى
وأصبحتُ في جيش ابنِ عفَّانَ غازيَا
فللهِ دَرِّي يومَ أُتْرَكُ طائعاً
بَنِيَّ بأعلى الرقمتيْن وماليا
فيا صاحِبَيْ رحلي دنا الموتُ فانزلا
برابيةٍ إنِّي مقيمٌ لياليا
أقيما عليَّ اليومَ أوْ بَعْضَ ليلةٍ
ولا تُعجِلاني قد تبيَّن ما بيا
وخُطاً بأطرافِ الأسنةِ مضجعي(/20)
ورُدَّا على عَيْنَيَّ فضلَ ردائيا
ولا تحسُداني بارَك اللهُ فيكما
مِن الأرضِ ذاتِ العَرْض أنْ تُوسِعَا ليا
إلى آخرِ ذاكَ الصوتِ المتهدِّجِ ، والعويلِ الثاكل ، والصرخةِ المفجوعةِ التي ثارتْ حمماً منْ قلبِ هذا الشاعرِ المفجوعِ بنفسهِ المصابِ في حياتهِ .
إن الوعظَ المحترقَ تَصِلُ كلماتُه إلى شِغافِ القلوبِ ، وتغوصُ في أعماقِ الرُّوحِ لأنه يعيشُ الألمَ والمعاناةَ ? فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ? .
لا تعذلِ المشتاقَ في أشواقِه
حتى يكونَ حشاكَ في أحشائِه
لقد رأيتُ دواوينَ لشعراءَ ولكنها باردةً لا حياةَ فيها، ولا روح لأنهمْ قالوها بلا عَناء ، ونظموها في رخاء ، فجاءتْ قطعاً من الثلجِ وكتلاً من الطينِ .
ورأيتُ مصنَّفاتٍ في الوعظِ لا تهزُّ في السامعِ شعرةً ، ولا تحرِّكُ في المُنْصِتِ ذرَّةً ، لأنهم يقولونَها بلا حُرْقةٍ ولا لوعةٍ ، ولا ألمٍ ولا معاناةٍ، ?يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ? .
فإذا أردتَ أن تؤثِّر بكلامِك أو بشعْرِك ، فاحترقْ به أنت قَبْلُ ، وتأثَّرْ به وذقْه وتفاعلْ مَعَهُ ، وسوفَ ترى أنك تؤثِّر في الناس ،? فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ? .
************************************
نعمة المعرفة
? وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ? .
الجهلُ موتٌ للضميرِ وذَبْحٌ للحياةِ ، ومَحْقٌ للعمرِ ? إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ? .
والعلمُ نورٌ البصيرة ، وحياةٌ للروحِ ، ووَقُودٌ للطبعِ ، ? أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ? .
إنَّ السرورَ والانشراحَ يأتي معَ العلم ، لأنّ العلمَ عثورٌ على الغامضِ ، وحصولٌ على الضَّالَّة ، واكتشافٌ للمستورِ ، والنفسُ مُولَعةٌ بمعرفةِ الجديدِ والاطلاعِ على المُسْتَطْرَفِ .
أمَّا الجهلُ فهوَ مَلَلٌ وحُزْنٌ ، لأنه حياةٌ لا جديدَ فيها ولا طريفَ ، و لا مستعذَباً ، أمسِ كاليومِ ، واليومَ كالغدِ .
فإنْ كنتَ تريدُ السعادةَ فاطلبِ العلمَ وابحثْ عن المعرفةِ وحصِّل الفوائدَ ، لتذهبَ عنكَ الغمومُ والهمومُ والأحزانُ ، ? وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ? ، ? اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ? . ((من يردِ اللهُ به خيراً يفقِّههُ في الدينِ )). ولا يفخرْ أحدٌ بمالِهِ أو بجاهِهِ ، وهو جاهلٌ صفْرٌ من المعرفةِ ، فإنَّ حياتَه ليستْ تامَّةً وعمرُه ليس كاملاً : ? أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ? .
قال الزمخشريُّ :
سهري لتنقيحِ العلومِ ألذُّ لي
مِنَ وَصْلِ غانيةٍ وطيِبِ عنِاقِ
وتمايُلي طرَباً لحلِّ عويصةٍ
أشهى وأحلى من مُدامةِ ساقي
وصريرُ أقلامي على أوراقها
أحلى من الدَّوْكاءِ والعشَّاقِ
وألذُّ من نقرِ الفتاةِ لدُفِّها
نقري لأُلقي الرملَ عن أوراقي
يا مَنْ يحاول بالأماني رُتْبتي
كمْ بين مُسْتَغْلٍ وآخرَ راقي
أأبيتُ سهران الدُّجى وتبيتهُ
نوماً وتبغي بعدَ ذاكَ لحِاقي
ما أشرفَ المعرفة ، وما أفرحَ النفسَ بها ، وما أثلجَ الصدرَ ببرْدها ، وما أرحبَ الخاطرَ بنزولها ، ? أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ ? .
***************************************
فن السرور
من أعظمِ النعمِ سرورُ القلبِ ، واستقرارُه وهدوؤُهُ ، فإنَّ في سرورهِ ثباتُ الذهنِ وجودةِ الإنتاجِ وابتهاجِ النفسِ ، وقالوا. إنّ السرورَ فنٌّ يُدرَّسُ ، فمنْ عرفَ كيفَ يجلبُه ويحصلُ عليه ، ويحظى به استفادَ من مباهجِ الحياةِ ومسارِ العيشِ ، والنعمِ التي من بينِ يديْه ومن خلفِه. والأصلُ الأصيلُ في طلبِ السرورِ قوةُ الاحتمالِ ، فلا يهتزُّ من الزوابعِ ولا يتحرَّكُ للحوادثِ ، ولا ينزعجُ للتوافِهِ . وبحسبِ قوةِ القلبِ وصفائِهِ ، تُشرقُ النَّفْسُ .
إن خَوَرَ الطبيعةِ وضَعْفَ المقاومةِ وجَزَعَ النفسِ ، رواحلُ للهمومِ والغمومِ والأحزانِ ، فمنْ عوَّد نفسَه التصبُّر والتجلُّدَ هانتْ عليه المزعجاتُ ، وخفَّتْ عليهِ الأزماتُ .
إذا اعتاد الفتى خوضَ المنايا
فأهونُ ما تمرُّ به الوحولُ(/21)
ومن أعداءِ السرورِ ضيِقُ الأُفُقِ ، وضحالَةَ النظرةِ ، والاهتمامُ بالنفس فَحَسْبُ ، ونسيانُ العالمِ وما فيه ، واللهُ قدْ وصفَ أعداءَهُ بأنهمْ ? أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ ? ، فكأن هؤلاءِ القاصرينَ يَرَوْن الكَوْنَ في داخلِهم ، فلا يفكّرونَ في غيرِهِمْ ، ولا يعيشوَن لسواهُمْ ، ولا يهتمّونَ للآخرينَ . إنَّ عليَّ وعليكَ أنْ نَتَشَاغَلَ عن أنفسِنَا أحياناً ، ونبتعد عن ذواتِنا أزماناً لِنَنْسَى جراحَنا وغمومَنا وأحزانَنا ، فنكسبَ أمرْين : إسعادَ أنفسنِا ، وإسعادَ الآخرين.
من الأصولِ في فنِّ السرورِ : أن تُلجمَ تفكيرَكَ وتعصمهَ ، فلا يتفلَّتُ ولا يهربُ ولا يطيشُ ، فإنك إنْ تركتَ تفكيرَكَ وشأنَهُ جَمَحَ وطَفَحَ ، وأعادَ عليكَ مَلفَّ الأحزانِ وقرأَ عليكَ كتابَ المآسي منذُ ولدتْكَ أمُّكَ. إنَّ التفكيرَ إذا شردَ أعادَ لك الماضي الجريحَ وجرجَرَ المستقبلَ المخيفَ ، فزلزلَ أركانَك ، وهزّ كيانَك وأحرقَ مشاعرَك ، فاخطمْه بخطامِ التوجُّهِ الجادِّ المركّزِ على العملِ المثمرِ المفيدِ ، ? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ? .
ومن الأصول أيضاً في دراسةِ السرورِ : أنْ تُعطيَ الحياةَ قيمتَها ، وأنْ تُنزلَهَا منزلتها ، فهي لهْوٌ ، ولا تستحقُّ منكَ إلا الإعراضَ والصدودَ ، لأنها أمُّ الهجْرِ ومُرضِعةُ الفجائعِ ، وجالبةُ الكوارثِ ، فمَنْ هذه صفتُها كيف يُهتمُّ بها ، ويُحزنُ على ما فات منها. صفُوها كَدَرٌ ، وبرقُها خُلَّبٌ ، ومواعيدُها سرابٌ بقيِعةٍ ، مولودُها مفقودٌ ، وسيدُها محسودٌ ، ومنعَّمُها مهدَّدٌ ، وعاشقُها مقتولٌ بسيفِ غَدْرِها .
أًبَني أَبِينا نحنُ أهلُ منازلِ
أبداً غُرابُ البَيْنِ فيها يَنْعِقُ
نبكي على الدنيا وما مِنْ معشرٍ
جمعتْهُمُ الدنيا فلمْ يتفرَّقوا
أينَ الجَبَابِرَةُ الأكاسرةُ الأُلى
كَنَزْوا الكنوزَ فلا بقينَ ولا بَقُوا
مِن كلِّ مَنْ ضاقَ الفَضَاءُ بِعَيْشِه
حتى ثَوى فحَوَاه لحدٌ ضَيِّقُ
خُرْسٌ إذا نُودوا كأنْ لمْ يعلمُوا
أنَّ الكلامَ لهم حَلاَلٌ مُطلَقُ
وفي الحديثِ : (( إنما العلمُ بالتعلُّمِ والحِلْمُ بالتحلُّمِ )) .
وفي فنِّ الآدابِ : وإنما السرورُ باصطناعِه واجتلابِ بَسْمَتِهِ ، واقتناصِ أسبابِهِ ، وتكلُّفِ بوادرِه ، حتى يكونَ طبْعاً .
إن الحياةَ الدُّنيا لا تستحقُّ منا العبوسَ والتذمُّرَ والتبرُّمَ .
حُكْمُ المنيَّةِ في البريةِ جارِي
ما هذهِ الدنيا بدارِ قرارِ
بينا تَرَى الإنسان فيها مُخْبِراً
ألفيْتَهُ خَبَراً مِن الأخبارِ
طُبِعَتْ على كَدَرٍ، وأنتَ تريدُها
صَفْواً من الأقذارِ والأكدارِ
ومكلِّفُ الأيَّامِ ضِدَّ طباعِها
مُتطلِّبٌ في الماء جُذْوَةَ نارِ
والحقيقةُ التي لا ريبَ فيها أنكَ لا تستطيعُ أنْ تنزعَ من حياتِكَ كلِّ آثارِ الحزنِ ، لأنَّ الحياة َخُلقتْ هكذا ? لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ? ، ? إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ ? ، ? لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ? ، ولكنَّ المقصودَ أن تخفّفُ من حزنِك وهمِّك وغمِّك ، أما قَطْعُ الحُزْنِ بالكليَّةِ فهذا في جناتِ النعيمِ ؛ ولذلك يقولُ المنعمون في الجنة : ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ? . وهذا دليلٌ على أنهُ لم يذهبْ عنهُ إلا هناكَ ، كما أنَّ كلَّ الغِلِّ لا يذهبُ إلا في الجنةِ ، ? وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ? ، فمنْ عَرَفَ حالةَ الدنيا وصفتها ، عَذَرَها على صدودِها وجفائِها وغَدْرِها ، وعَلِمَ ان هذا طبعُها وخلُقُها ووصفُها .
حلفتْ لنا أنْ لا تخون عهودَنا
فكأَّنها حَلَفَتْ لنا أنْ لا تَفِي
فإذا كان الحالُ ما وصفْنا ، والأمرُ ما ذكرنا ، فحرِيٌّ بالأريبِ النابِهِ أنْ لا يُعينَها على نفسِه ، بالاستسلامِ للكدرِ والهمِّ والغمِّ والحزنِ ، بل يدافعُ هذه المنغصاتِ بكلِّ ما أوتيَ من قوةٍ ، ?وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ? ، ? فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ ? .
**********************************
وقفة
لا تحزَنْ : إن كنتَ فقيراً فغيرُك محبوسٌ في دَيْنٍ ، وإن كنت لا تملكُ وسيلةَ نَقْلٍ ، فسواك مبتورُ القدمين ، وإن كنت تشكو من آلامٍ فالآخرون يرقدون على الأسِرَّة البيضاءِ ومنذ سنواتٍ ، وإن فقدتَ ولداً فسواك فقد عدداً من الأولادِ في حادثٍ واحدٍ .
لا تحزَنْ : لأنك مسلمٌ آمنتَ باللهِ وبرسلِهِ وملائكتِهِ واليومِ الآجِرِ وبالقضاءِ خيرِهِ وشرِّه ، وأولئكَ كفروا بالربِّ وكذَّبوا الرسلَ واختلفوا في الكتابِ ، وجَحَدُوا اليومَ الآخرَ ، وألحدوا في القضاءِ والقَدَرِ .(/22)
لا تحزَنْ : إن أذنبتَ فتُبْ ، وإن أسأت فاستغفرْ ، وإن أخطأت فأصلِحْ ، فالرحمةُ واسعةٌ ، والبابُ مفتوحٌ ، والغفران جمٌّ ، والتوبةُ مقبولةٌ .
لا تحزَنْ : لأنك تُقلقُ أعصابَك ، وتهزُّ كيانك وتُتعبُ قلبَك ، وتُقضّ مضجعَك ، وتُسْهِرْ ليلَك .
قال الشاعر :
وَلَرُبَّ نازلةٍ يضيقُ بها الفتى
ذَرْعاً وعندَ اللهِ منها المخرَجُ
ضاقتْ فلمَّا استحكمتْ حلقاتُها
فُرِجَتْ وكانَ يظنُّها لا تُفرجُ
************************************
ضبْطُ العواطف
تتأجَّجُ العواطفُ وتعصفُ المشاعرُ عند سببين : عند الفرحةِ الغامرةِ ، والمصيبةِ الدَّاهمةِ ، وفي الحديثِ : (( إني نُهِيْتُ عن صوتيْن أحمقيْن فاجريْن : صوتٍ عند نعمةٍ ، وصوتٍ عندَ مصيبةٍ )) ? لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ? . ولذلك قال ( : (( إنما الصبرِ عند الصدمِة الأولى )) . فمَنِ مَلَكَ مشاعره عندَ الحدَث الجاثم وعند الفرَح الغامرِ ، استحقَّ مرتبةَ الثباتِ ومنزلةَ الرسوخِ ، ونالَ سعادة الراحةِ ، ولذَةَ الانتصارِ على النفسِ ، واللهُ جلَّ في عُلاه وصف الإنسان بأنهُ فرِحٌ فخورٌ ، وإذا مسَّه الشرُّ جزوعاً وإذا مسَّهُ الخيرُ منوعاً ، إلاَّ المصلِّين . فَهُم على وسطيةٍ في الفرحِ والجزعِ ، يشكرونَ في الرخاءِ ، ويصبرون في البلاءِ .
إنَّ العواطف الهائجةَ تُتْعِبُ صاحبها أيَّما تَعَبٍ ، وتضنيهِ وتؤلمُهَ وتؤرِّقُهُ ، فإذا غضب احتدَّ وأزبد ، وأرعد وتوعَّد ، وثارتْ مكامنُ نفسِهِ ، والتهبتْ حُشاشَتُهُ ، فيتجاوزُ العَدْلَ ، وإن فرحَ طرِبَ وطاشَ ، ونسيَ نفسَه في غمرةِ السرورِ وتعدّى قدره ، وإذا هَجَرَ أحداً ذمَّه ، ونسِي محاسنَهُ ، وطمس فضائِلَهُ ، وإذا أحبَّ آخر خلع عليه أوسمة التبجيلِ ، وأوصله إلى ذورةِ الكمالِ . وفي الأثر : (( أحببْ حبيبك هوْناً ما ، فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما وأبغضْ بغيضك هوناً ما ، فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما )) . وفي الحديث : (( وأسألك العدل في الغضب والرضا )) .
فمَن ملك عاطفته وحَكَّم عقلَه ، ووزنَ الأشياء وجعل لكلِّ شيء قدراً ، أبصر الحقَّ ، وعَرَفَ الرشدَ ، ووقع على الحقيقةِ ، ? لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ? .
إنَّ الإسلام جاءَ بميزان القيمَ والأخلاقِ والسلوكِ ، مثلما جاء بالمِنْهَجِ السَّويِّ ، والشرعِ الرضيِّ ، والملّةِ المقدسةِ ، ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً? ، فالعدلِ ، الصدقِ في الأحبارِ ، والعدلِ في الأحكامِ والأقوال والأفعالِ والأخلاقِ ، ? وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً? .
*********************************
سعادةُ الصحابةِ بمحمدِ (
لقدْ جاءَ رسولُنا ( إلى الناسِ بالدعوةِ الربانيةِ ، ولم يكنْ له دعايةٌ منَ دنيا ، فلمْ يُلقَ إليه كَنْزٌ ، وما كانتْ له جنَّة يأكلُ منها ، ولم يسكنْ قصراً ، فأقبلَ المحبُّون يبايعون على شظفٍ من العيشِ ، وذروةٍ من المشقَّةِ ، يوم كانوا قليلاً مستضعفين في الأرضِ يخافونَ أنْ يتخطفهمُ الناسُ من حولِهمْ ، ومع ذلك أحبَّهُ أتباعُه كلَّ الحبِ .
حُوصروا في الشِّعْبِ ، وضُيِّق عليهمْ في الرزقِ ، وابتُلوا في السمعةِ ، وحُوربوا من القرابةِ ، وأُوذُوا من الناسِ ، ومع هذا أحبُّوه كلَّ الحبِّ .
سُحِبَ بعضُهم على الرمْضاءِ ، وحُبسَ آخرونَ في العراءِ ، ومنهمْ منْ تفنَّنَ الكفارُ في تعذيبهِ ، وتأنَّقوا في النكالِ بهِ ، ومعَ هذا أحبُّوه كلَّ الحبِّ .
سُلبوا أوطانهم ودورهم وأهليهم وأموالهم ، طُردوا من مراتعِ صباهمْ ، وملاعبِ شبابهمْ ومغاني أهلهِمْ ، ومع أحبوهُ كلَّ الحبِّ .
ابُتلي المؤمنون بسببِ دعوتِه ، وزُلْزِلوا زلزالاً شديداً ، وبلغتْ منهمْ القلوبُ الحناجرَ وظنُّوا باللهِ الظنونا ، ومعَ أحبوه كلَّ الحبِّ .
عُرِّضَ صفوةُ شبابهمْ للسيوفِ المُصْلَتَةِ ، فكانتْ على رؤوسِهِم كأغصانِ الشجرةِ الوارفةِ .
وكأنَّ ظلَّ السيفِ ظِلُّ حديقةِ
خضراء تُنْبِتُ حولنا الأزهارا
وقُدِّمَ رجالُهم للمعركةِ فكانوا يأتونَ الموتَ كأنهمْ في نزهةٍ ، او في ليلة عيدٍ ؛ لأنهمْ أحبوه كلَّ الحبِّ .
يُرْسَلُ أحدُهمْ برسالةٍ ويَعْلمُ أنه لنْ يعودَ بعدها إلى الدنيا ، فيؤدّي رسالتَه ، ويُبعَثُ الواحدُ منهمْ في مهمَّةٍ ويعلمُ أنها النهايةُ فيذهبُ راضياً ؛ لأنهمْ أحبوه كلَّ الحبَّ .
ولكنْ لماذا أحبُّوه وسعِدُوا برسالتِه ، واطمأنُّوا المنهجهِ ، واستبشرُوا بقدومهِ ، ونسوا كلَّ ألمٍ وكلَّ مشقةٍ وجُهدٍ ومعاناةٍ من أجلِ اتباعِهِ ؟!
إنهمْ رأوا فيهِ كلَّ معاني الخيرِ والفرحِ ، وكلَّ علاماتِ البرِّ والحقِّ ، لقدْ كانَ آيةً للسائلين في معالي الأمورِ ، لقدْ أَبردَ غليلَ قلوبِهِمْ بحنانِهِ ، وأثلجَ صدورَهمْ بحديثهِ ، وأفْعَمَ أرواحَهُمْ برسالتِه .(/23)
لقدْ سكبَ في قلوبهمُ الرضا ، فما حسبوا للآلام في سبيلِ دعوتهِ حساباً ، وأفاضَ على نفوسِهِمْ منَ اليقينِ ما أنساهمْ كلَّ جُرْحٍ وكَدَرٍ وتنغيصٍ .
صَقَلَ ضمائرَهم بهداهُ ، وأنارَ بصائرَهم بسناهُ ، ألقى عن كواهِلهمْ آصارَ الجاهليةِ ، وحطَّ عن ظهورِهم أوزارَ الوثنيةِ ، وخلعَ من رقابِهمْ تبعاتِ الشركِ والضلالِ ، وأطفأ من أرواحِهمْ نارَ الحقدِ والعداوةِ ، وصبَّ على المشاعرِ ماءَ اليقين ، فهدأتْ نفوسُهمْ ، وسكنَتْ أبدانُهُمْ ، واطمأنتْ قلوبُهم ، وبردتْ أعصابُهم .
وجدوا لذَّةُ العيشِ معهُ ، والأنسَ في قربهِ ، والرضا في رحابِهِ ، والأمنَ في اتباعهِ ، والنجاة في امتثالِ أمرِهِ ، والغِنى في الاقتداء به .
? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ? ، ? وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? ، ? وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ? ، ? هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ?، ? وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ? ، ? اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ? ، ? وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ? .
لقدْ كانوا سعداء حقّاً مع إمامِهمْ وقدوتِهمْ ، وحُقَّ لهمْ أنْ يسعدُوا ويبتهجُوا .
اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ على محرِّرِ العقولِ من أغلالِ الانحرافِ ، ومنقذِ النفوسِ من ويلاتِ الغوايِةِ ، وارضَ عن الأصحابِ والأمجادِ ، جزاءَ ما بذلُوا وقدّمُوا .
**************************************
اطردِ المَلَلَ مِنْ حياتِكَ
إن مَنْ يعِشْ عمرَهُ على وتيرةٍ واحدة جديرٌ أن يصيَبهُ المللُ ؛ لأن النفس ملولةٌ ، فإنَّ الإنسانَ بطبعهِ يَمَلُّ الحالةَ الواحدةَ ؛ ولذلكَ غايَرَ سبحانَهُ وتعالى بين الأزمنةِ والأمكنةِ ، والمطعوماتِ والمشروباتِ ، والمخلوقاتِ ، ليلٌ ونهارٌ ، وسهلٌ وجَبَلٌ ، وأبيضُ وأسودُ ، وحارٌّ وباردٌ ، وظلٌّ وحَرُور ، وحُلْوٌ وحامضٌ ، وقدْ ذكر اللهُ هذا التنُّوعَ والاختلافَ في كتابِهِ : ?يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ? ?صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ? ?مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ? ?وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا? ? وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ? .
وقد ملَّ بنو إسرائيل أجود الطعامِ ؛ لأنهمْ أداموا أكْله : ?لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ? . وكان المأمونُ يقرأُ مرةً جالساً ، ومرةً قائماً ، ومرةً وهو يمشي ، ثم قال : النفسُ ملولةٌ ، ?الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ? .
ومن يتأمَّلِ العباداتِ ، يَجِدْ التنوُّعَ والجدَّةَ ، فأعمالٌ قلبيَّةٌ وقوليةٌ وعمليةٌ وماليةٌ ، صلاةٌ وزكاةٌ وصومٌ وحجٌّ وجهادٌ ، والصلاةُ قيامٌ وركوعٌ وسجودٌ وجلوسٌ ، فمنْ أراد الارتياح والنشاط ومواصلةَ العطاءِ فعليهِ بالتنويعِ في عملِهِ ، واطلاعِهِ وحياتِهِ اليوميَّةِ ، فعندَ القراءةِ مثلاً ينوِّعُ الفنونَ ، ما بين قرآنٍ وتفسيرٍ وسيرةٍ وحديثٍ وفقهٍ وتاريخٍ وأدبٍ وثقافةٍ عامَّةٍ ، وهكذا ، يوزِّع وقته ما بين عبادةٍ وتناولِ مباحٍ ، وزيادةٍ واستقبالِ ضيوفٍ ، ورياضةٍ ونزهةٍ ، فسوفَ يجدُ نفسَهُ متوثِّبةً مشرقةً ؛ لأنها تحبُّ التنويعَ وتستملحُ الجديدَ .
*************************************
دعِ القَلَقَ
لا تحزنْ ، فإنَّ ربك يقولُ :
? أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ? : وهذا عامٌّ لكلِّ من حمَلَ الحقَّ وأبصرَ النورَ ، وسلَكَ الهُدَى .
?أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ? : إذاً فهناك حقٌّ يشرحُ الصدور ، وباطلٌ يقسِّيها .
?فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ? : فهذا الدينُ غايةٌ لا يصلُ إليها إلا المسدَّد .
? لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ? : يقولُها كلُّ منْ يتيقَّنَ رعاية اللهِ ، وولايته ولطفه ونصرَه.
?الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ? : كفايتُه تكفيك ، وولايتُه تحميك .
?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ? : وكلُّ منْ سلك هذهِ الجادَّة حصل على هذا الفوزِ .
? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ? : وما سواهُ فميِّتٌ غَيْرُ حيٍّ ، زائلٌ غَيْرُ باقٍ ، ذليلٌ وليس بعزيزٍ .(/24)
? وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ{127} إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ? : فهذهِ معيتهُ الخاصةُ لأوليائِهِ بالحفظِ والرعايةِ والتأييدِ والولايةِ ، بحسبِ تقواهمْ وجهادِهمْ .
?وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ?: علوّاً في العبوديةِ والمكانةِ .
? لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ? .
?كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ? .
? إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ? .
وهذا عهدٌ لنْ يخْلَفَ ، ووعدٌ لنْ يتأخَّرَ .
? وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ{44}فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا? .
? وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ? .
لا تحزنْ وقدِّرْ أنكَ لا تعيشُ إلا يوماً واحداً فَحَسْبُ ، فلماذا تحزنُ في هذا اليومِ ، وتغضبُ وتثورُ ؟!
في الأثرِ : (( إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساءَ ، وإذا أمسيتَ فلا تنتظرِ الصباحَ )) .
والمعنى : أن تعيشَ في حدودِ يومِك فَحَسْبُ ، فلا تذكرِ الماضي ، ولا تقلقْ من المستقبلِ . قال الشاعرُ :
ما مضى فاتَ والمؤمَّل غَيْبٌ
ولك الساعةُ التي أنت فيها
إنَّ الاشتغالَ بالماضي ، وتذكُّرَ الماضي ، واجترار المصائبِ التي حدثتْ ومضتْ ، والكوارثَ التي انتهتْ ، إنما هو ضَرْبٌ من الحُمْقِ والجنونِ .
يقول المَثَلُ الصينيُّ : لا تعبرْ جِسْراً حتى تأتيَه .
ومعنى ذلك : لا تستعجلِ الحوادثَ وهمومَها وغمومَها حتى تعيشَها وتدركَها .
يقولُ أَحَدُ السلفِ : يا ابن آدمَ ، إنما أنتَ ثلاثةُ أيامٍ : أمسُكَ وقدْ ولَّى ، وغدُكَ ولمْ يأتِ ، ويومُك فاتقِّ اللهَ فيه .
كيف يعيشُ منْ يحملُ همومَ الماضي واليومِ والمستقبلِ ؟! كيف يرتاحُ منْ يتذكرُ ما صار وما جرى ؟! فيعيدهُ على ذاكرتِهِ ، ويتألمُ لهُ ، وألمُه لا ينفعُه ! .
ومعنى : (( إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساءَ ، وإذا أمسيتَ فلا تنتظرِ الصباحَ )): أيْ : أن تكونُ قصيرَ الأملِ ، تنتظرُ الأجَلَ ، وتُحْسِنُ العَمَلَ ، فلا تطمحْ بهمومك لغيرِ هذا اليومِ الذي تعيشُ فيه ، فتركّزَ جهودكَ عليه ، وتُرتِّبَ أعمالَكَ ، وتصبَّ اهتمامَك فيهِ ، محسِّناً خُلقَكَ مهتمّاً بصحتِك ، مصلحاً أخلاقَكَ مع الآخرين .
*************************************
وقفةٌ
لا تحزنْ : لأنَّ القضاءَ مفروغٌ منهُ ، والمقدورُ واقعٌ ، والأقلامُ جَفَّتْ ، والصحفُ طُويتْ ، وكلُّ أمرٍ مستقرٌّ ، فحزنُك لا يقدِّمُ في الواقعِ شيئاً ولا يؤخِّرُ ، ولا يزيدُ ولا يُنقِصُ .
لا تحزنْ : لأنك بحزنِك تريدُ إيقافَ الزمنِ ، وحبسَ الشمسِ ، وإعادةَ عقاربِ الساعةِ ، والمشيَ إلى الخلفِ ، وردَّ النهرِ إلى منبعِهِ .
لا تحزنْ : لأنَّ الحزَنَ كالريحِ الهوْجاءِ تُفسدُ الهواءَ ، وتُبعثرُ الماءَ ، وتغيِّرُ السماءَ ، وتكسرُ الورودَ اليانعة في الحديقةِ الغنَّاءِ .
لا تحزنْ : لأنَّ المحزون كالنهرِ الأحمقِ ينحدرُ من البحرِ ويصبُّ في البحرِ ، وكالتي نقضتْ غزلها من بعدِ قوةٍ أنكاثاً ، وكالنافِخِ في قربةٍ مثقوبةٍ ، والكاتبِ بإصبعهِ على الماءِ .
لا تحزنْ : فإنَّ عمركَ الحقيقيَّ سعادتُك وراحةُ بالِك ، فلا تُنفقْ أيامكَ في الحزْنِ ، وتبذِّرْ لياليَك في الهمِّ ، وتوزِّع ساعاتِك على الغمومِ ولا تسرفْ في إضاعةِ حياتِك ، فإنَّ الله لا يحبُّ المسرفين .
******************************
لفرح بتوبة الله عليك
ألا يشرحُ صدركَ ، ويزيلُ همَّك وغمَّك ، ويجلبُ سعادتك قولُ ربِّك جلَّ في علاه : ? قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ? ؟ فخاطَبَهُمْ بـ «يا عبادي» تأليفاً لقلوبِهِمْ ، وتأنيساً لأرواحِهِمْ ، وخصَّ الذين أسرفُوا ، لأنهمُ المكثرون من الذنوبِ والخطايا فكيف بغيرِهم ؟! ونهاهْم عنِ القنوطِ واليأسِ من المغفرةِ وأخبر أنه يغفرُ الذنوب كلَّها لمنْ تاب ، كبيرها وصغيرَها ، دقيقها وجليلَها . ثم وصفَ نفسه بالضمائرِ المؤكدةِ ، و «الـ » التعريفِ التي تقتضي كمال الصفةِ ، فقال : ? إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ? .
ألا تسعدُ وتفرحُ بقولِهِ جلَّ في علاه : ? وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ? ؟!(/25)
وقولِهِ جلَّ في علاه : ? وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ? ؟!
وقولِهِ : ? إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً ? ؟!
وقولِهِ عزَّ من قائلٍ : ? وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً ? ؟!
وقولِهِ تعالى : ? وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ? ؟!
ولما قَتَلَ موسى عليه السلامُ نفساً قال : ?رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ?.
وقال عن داودَ بعدما تاب وأناب : ? فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ? .
سبحانَهُ ما أرحَمهُ وأكرمَهُ !! حتى إنه عرض رحمته ومغفرته لمنْ قالَ يلبتثليثِ ، فقال عنهم : ? لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{73} أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? .
ويقولُ ( فيما صحَّ عنهُ : (( يقولُ اللهُ تباركَ وتعالى : يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرْتُ لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم ، لوْ بلغتْ ذنوبُك عَنَانَ السماءِ ، ثمَّ استغفرتني غفرتُ لك ولا أُبالي ، يا ابن آدم ، لو أتيتني بقُرابِ الأرضِ خطايا ثم لقيتني لا تشركُ بي شيئاً ، لأتيتُك بقرابِها مغفرةً )) .
وفي الصحيح عنهُ ( أنه قال : (( إنَّ الله يبسُطُ يدهُ بالليلِ ليتوبَ مسيءُ النهارِ ، ويبسُطُ يدهُ بالنهار ليتوب مسيءُ الليلِ ، حتى تطلعَ الشمسُ من مغربِها )) .
وفي الحديث القدسيِّ : (( يا عبادي ، إنكمْ تُذنبون بالليلِ والنهارِ ، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعاً ، فاستغفروني أغفرْ لكم )) .
وفي الحديثِ الصحيحِ : (( والذي نفسي بيدهِ ، لو لمْ تذنبُوا لذهبَ اللهُ بكمْ ولجاءَ بقومٍ آخرين يذنبون ، فيستغفرون الله ، فيغفرُ لهم )) .
وفي حديثٍ صحيحٍ : (( والذي نفسي بيدهِ لو لمْ تذنبوا لَخِفْتُ عليكم ما هو أشدُّ من الذنبِ ، وهو العُجْبُ )) .
وفي الحديثِ الصحيح : (( كلُّكمْ خطَّاءٌ ، وخيرُ الخطَّائين التوابون )) .
وصحَّ عنه ( أنه قالَ : (( للهُ أفرحُ بتوبةِ عبدِه من أحدكم كان على راحلتِهِ ، عليها طعامُهُ وشرابه ، فضلَّت منهُ في الصحراء ، فبحث عنها حتى أيِسَ ، فنام ثم استيقظ فإذا هي عند رأسِه ، فقال : اللهمَّ أنت عبدي ، وأنا ربُّكَ . أخطأ من شَّدةِ الفرحِ )) .
وصحَّ عنه ( أنه قالَ : (( إنَّ عبداً أذنب ذنباً فقال : اللهم اغفرْ لي ذنبي فإنهُ لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنت ، ثم أذنب ذنباً ، فقال : اللهمَّ اغفرْ لي ذنبي فإنه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنت ، ثم أذنب ذنباً ، فقال : اللهمَّ اغفرْ لي ذنبي فإنه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنت . فقال اللهُ عزَّ وجلَّ علِمَ عبدي أنَّ له ربّاً يأخذُ بالذنبِ، ويعفو عن الذنبِ ، فليفعلْ عبدي ما شاء)).
والمعنى : ما دام أنهُ يتوبُ ويستغفرُ ويندمُ ، فإني أغفرُ له .
***************************************
كلُّ شيءٍ بقضاءٍ وقدَر
كلُّ شيءٍ بقضاءٍ وقدرٍ ، وهذا معتقدُ أهلِ الإسلامِ ، أتباعِ رسولِ الهدى ( ؛ أنهُ لا يقعُ شيءٌ في الكونِ إلا بعلمِ اللهِ وبإذنِه وبتقديرِه .
? مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ? .
? إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ? .
? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ? .
وفي الحديثِ : (( عجباً لأمرِ المؤمنِ !! إنَّ أمرهَ كلَّه له خير ، إنْ أصابْتهُ سرَّاءُ شكر فكان خيراً له ، وإنْ أصابتْه ضرَّاءُ صبر فكان خيراً له ، وليسَ ذلك إلا للمؤمن )) .
وصحَّ عنه ( أنه قال : (( إذا سألتَ فاسألِ اللهَ ، وإذا استعنت فاستعنْ باللهِ ، واعلمْ أنَّ الأمةَ لو اجتمعُوا على أنْ ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوكَ إلا بشيءٍ قد كتبهُ اللهُ لك ِ ، وإن اجتمعوا على أن يضرُّوكَ بشيءٍ لم يضرُّوك إلا بشيءٍ قدْ كتبهُ اللهُ عليكَ ، رُفعتِ الأقلامُ ، وجفَّتِ الصحفُ )) .
وفي الحديثِ الصحيح أيضاً : (( واعلمْ أن ما أصابك لم يكنع لِيخطئَك ، وما أخطأكَ لمْ يكن ليصيبَك )) .
وصحَّ عنه ( أنه قالَ : (( جفَّ القلمُ يا أبا هريرة بما أنت لاقٍ )) .(/26)
وصحَّ عنه ( أنهُ قالَ : (( احرصْ على ما ينفعُك ، واستعنُ باللهِ ولا تعجزْ ، ولا تقلْ : لو أني فعلتُ كذا لكان كذا وكذا ، ولكنْ قلْ : قدَّر اللهُ وما شاءَ فَعَلَ )) .
وفي حديثٍ صحيحٍ عنه ( : (( لا يقضي اللهُ قضاءً للعبدِ إلا كان خيراً له )) .
سُئل شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ عن المعصيةِ : هلْ هيَ خَيْرٌ للعبدِ ؟ قالَ : نعمْ بشرطِها من الندمِ والتوبةِ ، والاستغفارِ والانكسارِ .
وقولُه سبحانه : ? وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ? .
هيَ المقاديرُ فلُمني أو فَذَرْ
تجري المقاديرُ على غرْزِ الإِبَرْ
*****************************************
انتظرِ الفرَجَ
في الحديثِ عند الترمذيِّ : « أفضلُ العبادةِ : انتظارُ الفَرَجِ » . ? أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ? .
صُبْحُ المهمومين والمغمومين لاحَ ، فانظرْ إلى الصباحِ ، وارتقبِ الفَتْحَ من الفتَّاحِ .
تقولُ العربُ : « إذا اشتدَّ الحبلُ انقطع » .
والمعنى : إذا تأزَّمتِ الأمورُ ، فانتظرْ فرجاً ومخرجاً .
وقالَ سبحانَهُ وتعالى : ? وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ? . وقالَ جلَّ شأنُه: ? وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ? . ? وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ? .
وقالت العَرَبُ :
الغَمَراتُ ثمَّ يَنْجلِينَّهْ
ثم يذهبْنَ ولا يجنَّهْ
وقال آخرُ :
كمْ فرجٍ بَعْدَ إياسٍ قد أتى
وكمْ سرورٍ قد أتى بَعْدَ الأسى
من يحسنِ الظنَّ بذي العرشِ جنى
حُلْوَ الجنَى الرائقَ من شَوْكِ السَّفا
وفي الحديثِ الصحيحِ : (( أنا عند ظنِّ عبدي بي ، فلْيظنَّ بي ما شاءَ )) .
? حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء ? .
وقولهُ سبحانَهُ : ? فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً{5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ? .
قال بعضُ المفسرين – وبعضُهُم يجعلُهُ حديثاً - : (( لنْ يغلبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن )) .
وقال سبحانهُ : ? لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ? .
وقالَ جلَّ اسمُه: ?أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ? .? إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ?.
وفي الحديثِ الصحيح : (( واعلمْ أنَّ النصْرَ مع الصَّبْرِ ، وأن الفَرَجَ مَعَ الكُرْبِ )) .
وقال الشاعرُ :
إذا تضايقَ أمرٌ فانتظرْ فَرَحاً
فأقربُ الأمرِ أدناهُ إلى الفَرجِ
وقال آخرُ :
سهرتْ أعينٌ ونامتْ عيونُ
في شؤونٍ تكونُ أو لا تكونُ
فدعِ الهمَّ ما استطعتَ فحِمْـ
ـلانُك الهمومَ جُنونُ
إن ربّاً كفاكَ ما كانَ بالأمـ
ـسِ سيكفيكَ في غدٍ ما يكونُ
وقال آخرُ :
دعِ المقاديرَ تجري في أعنَّتِها
ولا تنامنَّ إلا خالي البالِ
ما بينَ غمضةِ عيْنٍ وانتباهتِها
يغيّرُ اللهُ مِن حالٍ إلى حالِ
************************************
وقفة
لا تحزنْ : فإنَّ أموالك التي في خزانتِك وقصورَك السامقةَ ، وبساتينَك الخضراءَ ، مع الحزنِ والأسى واليأسِ : زيادةٌ في أسَفِكَ وهمِّكَ وغمِّكَ .
لا تحزنْ : فإنَّ عقاقير الأطباء ، ودواء الصيادلةِ ، ووصفةَ الطبيبِ لا تسعدُكَ ، وقدْ أسكنت الحزن قلبَك ، وفرشتَ له عينك ، وبسطتَ له جوانحَك ، وألحفتَه جلدَك .
لا تحزنْ : وأنت تملكُ الدعاءَ ، وتُجيدُ الانطراح على عتباتِ الربوبيةِ ، وتُحسنُ المسكنة على أبواب ملِكِ الملوكِ ، ومعكَ الثلثُ الأخيرُ من الليلِ ، ولديكَ ساعةُ تمريغ الجبينِ في السجودِ .
لا تحزنْ : فإنَّ الله خَلَقَ لكَ الأرض وما فيها ، وأنبت لك حدائقَ ذاتَ بهجةٍ ، وبساتين فيها من كلِّ زوجٍ بهيجٍ ، ونخلاً باسقاتٍ له طلعٌ نضيدٌ ، ونجوماً لامعاتٍ ، وخمائل وجداول ، ولكنَّك تحزن !!
لا تحزنْ : فأنت تشربُ الماء الزلال ، وتستنشقُ الهواء الطَّلْق ، وتمشي على قدميْك معافى ، وتنام ليلكَ آمناً .
***************************************
أكثِرْ من الاستغفارِ
? فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً{10} يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً{11} وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً? .
فأكثر من الاستغفارِ ، لترى الفرَحَ وراحةَ البالِ ، والرزق الحلالِ ، والذرية الصالحةَ ، والغيثَ الغزيرَ .
? وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ? .
وفي الحديثِ : (( من أكثر منَ الاستغفارِ جعلَ اللهُ لهُ منْ كلِّ همٍّ فَرَجاً ، ومن كلِّ ضيقٍ مخرجاً )) .(/27)
وعليكَ بسيّدِ الاستغفار ، الحديثُ الذي في البخاري : (( اللهمَّ أنت ربي لا إلهَ إلا أنت ، خلقتني وأنا عبدُك ، وأنا على عهدِك ووعدِك ما استطعتُ ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ ، أبوءُ لكَ بنعمتِك عليَّ ، وأبوءُ بذنبي فاغفِرْ لي ، فإنهُ لا يغفرُ الذنوب إلا أنت)).
**********************************
عليكَ بذكرِ اللهِ دائماً
قال َ سبحانه : ? أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ? . وقال : ?فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ? . وقال : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً{41} وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ? . وقال سبحانه : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ? . وقال : ? وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ? . وقال : ? وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ{48} وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ? . وقال سبحانه : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ? .
وفي الحديثِ الصحيحِ : (( مَثَلُ الذي يذكرُ ربَّه والذي لا يذكرُ ربَّه ، مَثَلُ الحيِّ والميتِ )) .
وقوله ( : (( سَبَقَ المفرِّدون )) . قالوا : ما المفِّردون يا رسولَ اللهِ ؟ قال (( الذاكرون الله كثيراً والذاكرات )) .
وفي حديثٍ صحيحٍ : (( ألا أخبرُكم بأفضلِ أعمالِكِم ، وأزكاها عند مليكِكُمْ وخيْرٍ لكمْ من إنفاقِ الذهبِ والورِقِ ، وخيرٍ لكمْ من أن تلقوا عدوَّكم فتضربوا أعناقهُمْ ويضربوا أعناقُكُمْ )) ؟ قالوا : بلى يا رسول اللهِ . قال : (( ذِكْرُ اللهِ )) .
وفي حديث صحيح : أنَّ رجلاً أتى إلى رسول ( فقال : يا رسول اللهِ إنَّ شرائع الإسلام قدْ كُثرَتْ عليَّ ، وأنا كَبِرْتُ فأخبرْني بشيءٍ أتشبَّثُ بهِ . قال : (( لا يزالُ لسانُكَ رطْباً بذكرِ اللهِ )) .
*****************************************
لا تيأسْ منْ رَوْحِ اللهِ
? إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ? .
? حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا ? .
? وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ? .
? وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا{10} هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً? .
******************************************
اعفُ عمَّن أساء إليكَ
ثمنُ القَصَاصِ الباهظِ ، وهو الذي يدفعُه المنتقمُ من الناسِ ، الحاقدُ عليهمْ : يدفعُه من قلبِه ، ومن لحمِهِ ودمِهِ ، من أعصابِه ومن راحتِهِ ، وسعادتِه وسرورِهِ ، إذا أراد أنْ يتشفَّى ، أو غضبَ عليهِمْ أو حَقَدَ . إنه الخاسرُ بلا شكٍّ .
وقدْ أخبرَنا اللهُ سبحانه وتعالى بدواءِ ذلك وعلاجِهِ ، فقالَ : ? وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ? .
وقالَ : ? خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ? .
وقالَ : ? ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ? .
*************************************
عندك نعم كثيرة
فكِّرْ في نِعَمِ اللهِ الجليلةِ وفي أعطياتِهِ الجزيلةِ ، واشكُرْهُ على هذهِ النعمِ ، واعلمْ أنكَ مغمورٌ بأعطياتِهِ .
قال سبحانه وتعالى : ? وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ? .
وقال : ? وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ? .
وقال سبحانه : ? وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ? .
وقال سبحانه وهو يقررُ العبدُ بنعمِهِ عليهِ : ? أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ{8} وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ{9} وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ? .
نِعَمٌ تَتْرَى : نعمةُ الحياةِ ، ونعمةُ العافيةِ ، ونعمةُ السمعِ ، ونعمةُ البصرِ ، واليدينِ والرجليْن ، والماءِ والهواءِ ، والغذاءِ ، ومن أجلِّها نعمةُ الهدايةِ الربانية: ( الإسلاَمُ ) . يقولُ أحدُ الناسِ : أتريدُ بليون دولار في عينيك ؟ أتريُد بليون دولارٍ في أذنيك ؟ أتريدُ بليون دولار في رجليك ؟ أتريدُ بليون دولارٍ في يديك ؟ أتريدُ بليون دولارٍ في قلبك ؟ كمْ من الأموالِ الطائلةِ عندك وما أديتَ شُكْرَها !! .
****************************************
الدنيا لا تستحق الحزن عليها
إنَّ مما يثبتُ السعادة وينمِّيها ويعمقُها : أنْ لا تهتمَّ بتوافهِ الأمورِ ، فصاحبُ الهمةِ العاليةِ همُّه الآخرةُ .(/28)
قال أحدُ السلفِ وهو يُوصِي أحد إخوانِه : اجعلْ الهمَّ همّاً واحداً ، همَّ لقاءِ اللهِ عز وجل ، همَّ الآخرة ، همَّ الوقوفِ بين يديْهِ ، ? يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ? . فليس هناك همومٌ إلا وهي أقلُّ من هذا الهمِّ ، أيّ همٍّ هذه الحياةُ ؟ مناصبِها ووظائِفها ، وذهبِها وفضتِها وأولادِها ، وأموالِها وجاهِها وشهرتِها وقصورِها ودورِها ، لا شيء !!
واللهُ جلّ وعلا قد وصف أعداءَهُ المنافقين فقال : ? أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ? ، فهمُّهم : أنفسُهْم وبطونُهم وشهواتُهم ، وليست لهمْ هِمَمٌ عاليةٌ أبداً !
ولمَّا بايع ( الناس نَحتَ الشجرةِ انفلت أحدُ المنافقين يبحثُ عن جَمَلٍ لهُ أحمر ، وقالَ : لحُصولي على جملي هذا أحبُّ إليَّ من بيْعتِكُمْ . فورَدَ : « كلُّكمْ مغفورٌ له إلاَّ صاحبَ الجملِ الأحمرِ » .
إنَّ أحد المنافقين أهمتْهُ نفسهُ ، وقال لأصحابهِ : لا تنفروا في الحرِّ . فقال سبحانه : ?قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً ? .
وقال آخرُ : ? ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي ? . وهمُّه نفسُه ، فقال سبحانه : ? أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ ? .
وآخرون أهمتْهُمْ أموالُهُمْ وأهلوهْم : ? شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ? . إنهِا الهمومُ التافهةُ الرخيصةُ ، التي يحملُها التافهون الرخيصون ، أما الصحابة الأجلاَّءُ فإنهمْ يبتغون فضلاً من اللهِ ورضواناً .
**********************************
لا تحزنْ واطردِ الهمَّ
راحةُ المؤمن غَفْلَةٌ ، والفراغُ قاتلٌ ، والعطالَةُ بطالَةٌ ، وأكثرُ الناسِ هموماً وغموماً وكدراً العاطلونَ الفارغونَ . والأراجيفُ والهواجسُ رأسُ مالِ المفاليسِ من العملِ الجادِّ المثمرِ .
فتحرَّك واعملْ ، وزاولْ وطالعْ ، واتْلُ وسبِّحْ ، واكتبْ وزُرْ ، واستفدْ منْ وقتِك ، ولا تجعلْ دقيقةً للفراغِ ، إنك يوم تفرغُ يدخلُ عليك الهمُّ والغمُّ ، والهاجسُ والوساوسُ ، وتصبحُ ميداناً لألاعيبِ الشيطانِ .
*************************************
اطلب ثوابك من ربك
اجعلْ عملك خالصاً لوجهِ اللهِ ، ولا تنتظرْ شكراً من أحدٍ ، ولا تهتمَّ ولا تغتمَّ إذا أحسنت لأحدٍ من الناسِ ، ووجدته لئيماً ، لا يقدِّرْ هذهِ اليد البيضاء ، ولا الحسنة التي أسديتها إليه ، فاطلبْ أجرك من اللهِ .
يقول سبحانه عن أوليائِه : ? يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً ? . وقال سبحانه عن أنبيائِه : ? وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ? . ? قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ? .? وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى? . ? إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً? .
قال الشاعرُ :
مَنْ يفعلِ الخيرَ لا يعدمْ جوازِيَهُ
لا يذهبُ العُرفُ بين اللهِ والناسِ
فعاملِ الواحدَ الأحد وحدهُ فهو الذي يُثيبُ ويعطي ويمنحُ ، ويعاقبُ ويحاسبُ ، ويرضى ويغضبُ ، سبحانهُ وتعالى .
قُتلَ شهداءُ بقندهار ، فقال عمرُ للصحابةِ : من القتلى ؟ فذكروا لهُ الأسماء ، فقالوا : وأناسٌ لا تعرفُهم . فدمعتْ عينا عمرَ ، وقال : ولكنَّ الله يعلَمُهم .
وأطعمَ أحدُ الصالحين رجلاً أعمى فالوْذَجاً ( من أفخرِ الأكلاتِ ) ، فقال أهلُه : هذا الأعمى لا يدري ماذا يأكلُ ! فقالَ : لكنَّ الله يدري !
ما دام أنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عليك ويعلمُ ما قدَّمته من خيرٍ ، وما عملته من بِرٍّ وما أسديتهُ منْ فضلٍ ، فما عليك من الناسِ .
********************************
لوم اللائمينَ وعذْل العُذَّالِ
? لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى ? ? وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ? . ? وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ? . ? فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ? .
لا يضرُّ البحرَ أمسى زاخراً
أنْ رمى فيهِ غلامٌ بِحَجَرْ
وفي حديثٍ حسن أنَّ الرسول ( قال : : (( لا تبلِّغوني عن أصحابي سوءاً ، فإني أُحِبُّ أنْ أخرجَ إليكمَ وأنا سليمُ الصَّدرِ )) .
***********************************
لا تحزنْ منْ قلَّةِ ذاتِ اليدِ ، فإن القِلَّةُ معها السّلامةُ
كلّما ترفَّهَ الجسمُ تعقدتِ الروحُ ، والقلَّةُ فيها السلامةُ ، والزهدُ في الدنيا راحةٌ عاجلةٌ يقدِّمها اللهُ لمن شاءَ من عبادهِ : ? إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا ? .
قال أحدُهم :
ماءٌ وخبزٌ وظِلُّ
ذاك النعيمُ الأجَلُّ
كفرتُ نعمةَ ربِّي
إنْ قلتُ إني مُقلُّ
ما هيَ الدنيا إلا ماءٌ باردٌ وخبزٌ دافئٌ ، وظلٌ وارفٌ !!
وقال الشافعي :
أمطري لؤلؤاً سماء سرنْديـ
ـبَ وفيِضي آبارَ تكْرُور تبِِرا
أنا إنْ عشتُ لستُ أعدمُ قوتاً
وإذا متُّ لستُ أعدمُ قبرا
همَّتي هِمَّةُ الملوكِ ونفسي
نفسُ حرٍّ ترى المذلَّةَ كُفْرا(/29)
إنها عزَّةُ الواثقين بمبادئِهمْ ، الصَّادقين في دعوتِهِمْ ، الجادّين في رسالتِهِمْ .
*********************************
لا تحزنْ ممَّا يُتَوَقَّع
وُجدَ في التوراةِ مكتوباً : أكثرُ ما يُخاف لا يكونُ !
ومعناهُ : إنَّ كثيراً مما يتخوَّفُهُ الناسُ لا يقعُ ، فإنَّ الأوهامَ في الأذهانِ ، أكثُر من الحوادثِ في الأعيانِ .
إذا جاءك حدثٌ ، وسمعتَ بمصيبةٍ ، فتمهَّلْ وتأنَّ ولا تحزنْ ، فإنَّ كثيراً من الأخبارِ والتوقُّعات لا صحَّة لها ، إذا كان هناك صارفٌ للقدرٍ فيُبحثُ عنهُ، وإذا لم يكنْ فأين يكونُ؟!
? َأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ{44}فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ?.
***********************************
نقْد أهلِ الباطلِ والحُسَّادِ
فإنك مأجورٌ – من نقدهمْ وحسدهِمْ – على صبرِك ، ثمَّ إنَّ نقدهُمْ يساوي قيمتك ، ثم إنَّ الناس لا ترفسُ كلباً ميتاً ، والتافهين لا حُسَّاد لهم .
قال أحدُهمْ :
إن العرانين تلقاها مُحَسَّدةً
ولا ترى لِلِئَامِ الناسِ حُسَّادا
وقال الآخر :
حَسَدُوا الفتى إذْ لم ينالوا سعيَهُ
فالناسُ أعداءٌ لهُ وخصومُ
كضرائرِ الحسناءِ قُلْن لوجهِهَا
حسداً ومقتاً إنهُ لذميمُ
وقال زهيرٌ :
مُحسَّدُون على ما كان من نِعَمٍ
لا ينزعُ الله منهمْ ما له حُسِدوا
وقال آخرُ :
همْ يحسدوني على موتي فوا أسفاً
حتى على الموتِ لا أخلو مِنَ الحسدِ
وقالُ الشاعرُ :
وشكوتَ مِن ظلمِ الوشاةِ ولنْ تجدْ
ذا سؤددٍ إلا أُصيب بحُسَّدِ
لا زلت ياسِبط الكرامِ محسَّداً
والتافهُ المسكينُ غيرُ محسَّدِ
سألَ موسى ربَّ أنْ يكفَّ ألسنةَ الناسِ عنهُ ، فقال اللهُ عزَّ وجلَّ : (( يا موسى ، ما اتخذتُ ذلك لنفسي ، إني أخلقُهم وأرزقُهُمْ ، وإنهم يسبُّونَنِي ويشتُموننِي )) !!
وصحَّ عنهُ ( أنهُ قال : (( يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ : يسبُّني ابنُ آدمَ ، ويشتمني ابنُ آدم ، وما ينبغي له ذلك ، أمَّ سبُّه إياي فإنهُ يسبُّ الدهر ، وأنا الدهرُ ، أقلِّبُ الليلَ والنهارَ كيف أشاءُ ، وأما شتمُه إياي ، فيقولُ : إنّ لي صاحبةً وولداً، وليسَ لي صاحبةٌ ولا ولدٌ)).
إنكَ لنْ تستطيع أن تعتقل ألسنةَ البشرِ عن فرْي عِرْضِك ، ولكنك تستطيعُ أن تفعلَ الخيرَ ، وتجتنب كلامهم ونقدهم .
قال حاتمٌ :
وكلمةِ حاسدٍ منْ غيرِ جرْمِ
سمعتُ فقلتُ مٌرّي فانفذيني
وعابوها عليَّ ولم تعِبْني
ولم يند لها أبداً جبيني
وقال آخرُ :
ولقدْ أمرُّ على السفيهِ يسُبُّني
فمضيتُ ثَمَّة قلتُ لا يعنيني
وقال ثالثٌ :
إذا نَطَقَ السَّفيهُ فلا تُجِبْهُ
فخيرٌ مِنْ إجابِتِه السكوتُ
إنَّ التافهين والمخوسين يجدون تحدِّياً سافراً من النبلاءِ واللامعين والجهابذةِ .
إذا محاسني اللائي أُدِلُّ بها
كانتْ ذنوبي فَقُلْ لي كيف أعتذرُ؟!
أهلُ الثراءِ في الغالبِ يعيشون اضطراباً ، إذا ارتفعتْ أسهمُهم انخفضَ ضغطُ الدمِ عندهم ، ? وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ{1} الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ{2} يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ{3} كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ? .
يقولُ أحدُ أدباءِ الغَرْبِ : افعلْ ما هو صحيحٌ ، ثم أدرْ ظهرك لكلِّ نقدٍ سخيفٍ !
ومن الفوائدِ والتجاربِ : لا تردَّ على كلمةٍ جارحةٍ فيك ، أو مقولةٍ أو قصيدةٍ ، فإنَّ الاحتمالَ دفنُ المعايبِ ، والحلم عزٌّ ، والصمت يقهرُ الأعداء ، والعفو مثوبةٌ وشرفٌ ، ونصفُ الذين يقرؤون الشتم فيك نسوهُ ، والنصفُ الآخرُ ما قرؤوه ، وغيرهم لا يدرون ما السببُ وما القضيةُ ! فلا تُرسِّخْ ذلك أنت وتعمِّقهُ بالردِّ على ما قيل .
يقولُ أحدُ الحكماءِ : الناسُ مشغولون عني وعنك بنقصِ خبزِهم ، وإنَّ ظمأ أحدِهم ينُسيهم موتي وموتك .
بيتٌ فيه سكينةٌ مع خبز الشعيرِ ، خيرٌ من بيتٍ مليء بأعدادٍ شهيةٍ من الأطعمةِ ، ولكنه روضة للمشاغبة والضجيج .
***********************************
وقفة
لا تحزنْ : فإنَّ المرضَ يزولُ ، والمصابَ يحولُ ، والذنبَ يُغفرُ ، والدَّيْنَ يُقضى ، والمحبوسَ يُفكُّ ، والغائبَ يقدمُ ، والعاصي يتوبُ ، والفقيرَ يغتني .
لا تحزنْ : أما ترى السحاب الأسود كيف ينقشعُ ، والليل البهيم كيف ينجلي ، والريح الصَّرْصَرَ كيف تسكنُ ، والعاصفة كيف تهدأ ؟! إذاً فشدائدُك إلى رخاء ، وعيشُك إلى هناء ، ومستقبلُك إلى نَعْماءِ .
لا تحزنْ : لهيبُ الشمس يطفئُهُ وارفُ الظلِّ ، وظمأُ الهاجرةِ يُبردُه الماءُ النميرُ ، وعَضَّةٌ الجوعِ يُسكِّنُها الخُبْزُ الدافِئُ ، ومعاناةُ السهرِ يعقبُهُ نومٌ لذيذٌ ، وآلامُ المرضِ يُزَيُلها لذيذُ العافيةِ ، فما عليك إلا الصبرُ قليلاً والانتظارُ لحظةً .
لا تحزنْ : فقدْ حارِ الأطباءُ ، وعَجَزَ الحكماءُ ، ووقفَ العلماءُ ، وتساءلَ الشعراء ، وبارت الحيل أُمام نفاذِ القدرةِ ، ووقوعِ القضاءِ ، وحتميةِ المقدورِ قال عليُّ بنُ جبلةَ :
عسى فرجٌ يكونُ عسى(/30)
نعلّلُ نفسنا بعسى
فلا تقنط وإن لاقيْـ
ـت همّاً يقبضُ النَّفسَا
فأقربُ ما يكونُ المرْ
ءُ مِنْ فرجٍ إذا يئسِا
***************************************
اخترْ لنفسك ما اختاره اللهُ لك
قمْ إن أقامك ، واقعدْ إنْ أقعدك ، واصبرْ إذا أفقرَك ، واشكرْ إذا أغناك .
فهذه من لوازم : (( رضيتُ باللهِ رباً ، وبالإسلامِ ديناً ، وبمحمد ( نبياً )) .
قال أحدُهُمْ :
لا تُدبِّرْ لك أمراً
فأولوا التدبيرِ هلْكى
وارضَ عنَّا إن حَكمْنا
نحنُ أولى بِك مِنكا
***************************************
لا تراقبْ تصرُّفات الناس
فإنَّهم لا يملكون ضرّاً ولا نفعاً ، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، ولا ثواباً ولا عقاباً .
قال أحدُهم :
مَنْ راقب الناسَ ماتَ همّاً
وفاز باللذةِ الجسورُ
وقال بشَّار :
من راقب الناس لم يظفرْ بحاجتهِ
وفاز بالطيباتِ الفاتِكُ اللَّهِجُ
قالَ إبراهيمُ بن أدهم : نحن في عيْشٍ لوْ علم بهِ الملوكُ لجالدونا عليهِ بالسيوفِ .
وقال ابنُ تيمية : إنه ليمرُّ بالقلبِ حالٌ ، أقولُ : إن كان أهلُ الجنةِ في مثلِ حالِنا إنهم في عيشٍ طيبٍ .
قال أيضاً : إنه ليمرُّ بالقلبِ حالاتٌ يرقصُ طرباً ، من الفرحِ بذكرهِ سبحانه وتعالى والأنس به .
وقال ابنُ تيمية أيضاً عندما أُدخِل السجنَ ، وقدْ أغلق السجَّانُ الباب ، قال ? فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ? .
وقال وهو في سجنِه : ماذا يفعلُ أعدائي بي ؟! أنا جنتي وبستاني في صدري ، أنَّى سرْتُ فهي معي ، إنَّ قتلي شهادةٌ ، وإخراجي من بلدي سياحةٌ وسجني خلوةٌ .
يقولون : أيُّ شيء وَجَدَ من فقدَ الله ؟! وأيُّ شيءٍ فقدَ من وجد الله ؟! لا يستويان أبداً ، منْ وجد الله وجد كلَّ شيء ، ومنْ فقد الله فقد كلَّ شيءٍ .
يقول ( : (( لإن أقولُ : سبحان اللهِ ، والحمدُ للهِ ، ولا إله إلا اللهُ ، واللهُ أكبرُ ، أحبُّ إليَّ مما طلعتْ عليه الشمسُ )) .
قال أحدُ السلفِ عنِ الأثرياءِ وقصورِهمْ ودورِهمْ وأموالهمْ : نأكلُ ويأكلون ، ونشربُ ، ويشربون ، وننظرُ وينظرون ، ولا نُحاسبُ ويُحاسبون .
? وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ? .
المؤمنون يقولون : ? صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ ? . والمنافقون يقولون : ? مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ? .
حياتُك منْ صنع أفكارِك فالأفكارُ التي تستثمرُها وتفكرُ فيها وتعيشُها هي التي تؤثرُ في حياتِك ، سواءٌ كانتْ في سعادةٍ أو شقاوةٍ .
يقولُ أحدُهم : إذا كنت حافياً ، فانظرْ لمنْ بُتِرَتْ ساقاه ، تحمَّدْ ربَّك على نعمةِ الرجْلَيْن .
قال الشاعرُ :
لا يملأُ الهولُ قلبي قبل وقعتِهِ
ولا أضيقُ به ذرعاً إذا وقعا
************************************
أحسن إلى الناس
فإنَّ الإحسانَ على الناسِ طريقٌ واسعةٌ من طرقِ السعادةِ . وفي حديثٍ صحيح : (( إنَّ الله يقولُ لعبدهِ وهو يحاسبُهُ يوم القيامةِ : يا ابنَّ آدم ، جعتُ ولم تطعمْني . قال : كيف أطعمُك وأنت ربُّ العالمين ؟! قال : أما علمت أنَّ عبدي فلان ابن فلانٍ جاع فما أطعمْتهُ ، أما إنكَ لو أطعمْتَهُ وجدتَ ذلك عندي . يا ابن آدم ، ظمئتُ فلمْ تسقني . قال : كيف أسقيك وأنت ربُّ العالمينَ! قال : أما علمت أنَّ عبدي فلان ابن فلانٍ ظمِئَ فما أسقيته ، أما إنَّك لوْ أسقيته وجدْت ذلك عندي . يا ابن آدم ، مرضْتُ فلم تعُدني . قال : كيف أعودُك وأنت ربُّ العالمين ؟! قال : أما علمْت أنَّ عبدي فلان ابن فلانٍ مرض فما عدْتَهُ ، أما إنك لوْ عدتهْ وجدتني عندهُ ؟! )) .
هنا لفتةٌ وهي وجدتني عندهُ ، ولم يقلْ كالسابقتين : وجدته عندي ؛ لأنَّ الله عند المنكسِرة قلوبُهم ، كالمريض . وفي الحديثِ : (( في كلِّ كبدٍ رطبةٍ أجرٌ )) . واعلمْ أنَّ أدخل امرأةً بغِيّاً منْ بني إسرائيل الجنة ، لأنها سقتْ كلباً على ظمأ . فكيف بمنْ أطعمَ وسقى ، ورفع الضائقة وكشف الكُرْبَةَ ؟!
وقدْ صحَّ عنهُ ( أنهُ قال : (( مَنْ كان لهُ فضلُ زادٍ فليَعُد بهِ على مَنْ لا زاد لهُ ، ومنْ كان له فضلُ ظهْرٍ فليعدْ بهِ على منْ لا ظهر لهُ )) . أي ليس لهُ مركوبٌ .
وقدْ قال حاتمٌ في أبياتٍ لهُ جميلةٍ ، وهو يُوصِي خادمهُ أنْ يلتمس ضيفاً يقولُ
أوقدْ فإنَّ الليل ليلٌ قرُّ
إذا أتى ضيفٌ فأنت حُرُّ
ويقول لامرأته :
إذا ما صنعتِ الزاد فالتمسي لهُ
أكيلاً فإني لستُ آكلُهُ وحدي
وقال أيضاً :
أماويَّ إنَّ المال غادٍ ورائحٌ
ويبقى من المالِ الأحاديثُ والذِّكْرُ
أماويَّ ما يُغني الثراءُ عنِ الفتى
إذا حشرجتْ يوماً وضاق بها الصدرُ
ويقول :
فما زادنا فخراً على ذي قرابةٍ
غِنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقْرُ
وقال عروةُ بنُ حزامٍ
أتهزأُ مني أن سمنِت وأن ترى
بوجهي شحوب الحقِّ والحقُّ جاهدُ
أوزِّعُ جسمي في جسومٍ كثيرةٍ
وأحسو قراح الماءِ والماءُ باردُ(/31)
وكان ابنُ المباركِ لهُ جارٌ يهوديٌ ، فكان يبدأ فيُطعم اليهوديَّ قبل أبنائهِ ، ويكسوه قبل أبنائِه ، فقالوا لليهوديِّ : بعنا دارك . قال : داري بألفيْ دينارٍ ، ألفٌ قيمتُها ، وألفٌ جوارُ ابن المباركِ ! . فسمع ابن المباركِ بذلك ، فقال : اللهمَّ اهدِهِ إلى الإسلامِ . فأسلم بإذنِ اللهِ !.
ومرَّ ابنُ المبارك حاجّاً بقافلةٍ ، فرأى امرأةً أخذتْ غُراباً مْيتاً من مزبلةٍ ، فأرسلَ في أثرِها غلامه فسألها ، فقالتْ : ما لنا منذُ ثلاثةِ أيامٍ إلا ما يُلقى بها . فدمعتْ عيناهُ ، وأمر بتوزيعِ القافلةِ في القريةِ ، وعاد وترك حجّته تلك السنةِ ، فرأى في منامِهِ قائلاً يقولُ : حجٌّ مبرورٌ ، وسعيٌ مشكورٌ ، وذنبٌ مغفورٌ .
ويقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ : ? وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ? .
وقالَ أحدُهُمْ :
إني وأنْ كنتُ امرأً متباعداً
عن صاحبي في أرضهِ وسمائِهِ
لمفيدهُ نصري وكاشفُ كَرْبهِ
ومجيبُ دعوتِه وصوتُ ندائِه
وإذا ارتدى ثوباً جميلاً لمْ أقلْ
يا ليت أنَّ علىَّ فضلَ كسائِهِ
يا للهِ ما أجملَ الخلُقَ ! وما أجلَّ المواهبَ ! وما أحسن السجايا !
لا يندمُ على فعْلِ الجميلِ احدٌ ولو أسرف ، وإنما الندمُ على فعلِ الخطأ وإنْ قلَّ .
وقال أحدُهُمْ في هذا المعنى :
الخيرُ أبقى وإنْ طال الزمانُ بهِ
والشرُّ أخبثُ ما أوْعَيْتَ مِنْ زَادِ
*****************************************
إذا صكَّتْ أذانك كلمةٌ نابيةٌ
احرِصْ على جمعِ الفضائلِ
واجتهدْ
واهجرْ ملامةَ مَنْ تشفَّى أو حَسَدْ
واعلمْ بأنَّ العمرَ موْسمُ طاعةٍ
قُبِلتْ وبعد الموتِ ينقطعُ الحسدْ
يقولُ أحدُ علماءِ العصرِ : إنَّ على أهلِ الحساسيةِ المرهفة من النقدِ أنْ يسكبوا في أعصابِهم مقادير من البرودِ أمام النقدِ الظالمِ الجائرِ .
وقالوا : « للهِ دَوُّ الحسدِ ما أعْدَلَهُ ، بدأ بصاحبِهِ فقتلهُ » .
وقال المتنبي :
ذِكْرُ الفتى عمرهُ الثاني وحاجتُه
ما فاته وفضولُ العيْشِ أشغالُ
وقال عليٌّ رضي اللهُ عنهُ : الأجلُ جنةٌ حصينةٌ .
وقال أحدُ الحكماء : الجبانُ يموتُ مرَّاتٍ ، والشجاعُ يموتُ مرةً واحدةً .
وإذا أراد الله بعبادهِ خيراً في وقت الأزمات ألقى عليهم النعاس أَمَنَةً منه، كما وقع النعاس على طلحة رضي الله عنه في أُحُد ، حتى سقط سيفُه مراتٍ منْ يدِه ، أَمْناً وراحة بالٍ .
وهناك نعاسٌ لأهلِ البدعِة ، فقدْ نعس شبيبُ بنُ يزيدٍ وهو على بغلتِهِ ، وكان منْ أشجعِ الناسِ ، وامرأتُهُ غزالةُ هي الشجاعةٌ التي طردتِ الحجَّاج ، فقال الشاعرُ :
أسدٌ عليَّ وفي الحروبِ نعامةٌ
فتخاءُ تَنْفِرُ مِن صفيرِ الصافرِ
هلاّ برزتَ إلى غزالةَ في الوغى
أم كان قلبُك في جناحيْ طائرِ
وقال اللهُ تعالى عزَّ وجلَّ : ? قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ ? .
وقال سبحانه : ? وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ? .
وقال الشاعرُ :
أقولُ لها وقدْ طارتْ شعاعاً
مِن الأبطالِ ويْحكِ لَنْ تُراعِي
فإنكِ لو سألتِ بقاء يومٍ
عن الأجلِ الذي لكِ لم تُطاعي
فصبراً في مجالِ الموتِ صبْراً
فما نيلُ الخلودِ بمستطاعِ
وما ثوبُ الحياة بثوبِ عِزٍّ
فيُخلعُ عن أخِ الخنعِ اليراعِ
إي والله ، فإذا جاء أجلُهم لا يستأخرون عنه ساعةً ولا يستقدمون .
قال عليٌّ رضي اللهُ عنه :
أيُّ يوميَّ مِن الموتِ افرُّ
يوم لا قُدِّر أمْ يوم قُدِرْ
يوم لا قُدِّر لا أرهبُهُ
ومِن المقدورِ لا ينجو الحَذِرْ
وقال أبو بكرٍ رضي اللهُ عنه : اطلبوا الموت تُوهَبْ لكمُ الحياةُ .
*********************************
وقفة
لا تحزنْ : فإنَّ الله يدافعُ عنك، والملائكةُ تستغفرُ لك، والمؤمنون يشركونك في دعائِهمْ كلَّ صلاةٍ ، والنبيُّ ( يشفعُ ، والقرآنُ يِعدُك وعداً حسناً ، وفوق هذا رحمةُ أرحم الراحمين .
لا تحزنْ : فإنَّ الحسنة بعشر أمثالِها إلى سبعمائةِ ضِعْفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ ، والسيئةُ بمثلها إلا أنْ يعفوَ ربّك ويتجاوز ، فكمْ للهِ مِن كرمٍ ما سُمع مثله ! ومن جودٍ لا يقاربُه جُودٌ!
لا تحزنْ : فأنت من روَّادِ التوحيدِ وحَملةِ الملَّةِ وأهلِ القبلةِ ، وعندك أصلُ حبِّ اللهِ وحبِّ رسوله ( ، وتندمُ إذا أذنبت ، وتفرحُ إذا أحسنت ، فعندك خيرٌ وأنت لا تدري .
لا تحزنْ : فأنت على خيرٍ في ضرائِك وسرائِك ، وغناك وفقرِك ، وشدَّتِك ورخائِك ، (( عجباً لأمرِ المؤمنِ ، إنَّ أمرهَ كلَّه له خيرٌ ، وليسَ ذلك إلا للمؤمنِ ،نْ أصابْته سرَّاءَ فشكر كان خيراً له ، وإنْ أصابتْه ضرَّاءُ فصبر فكان خيراً له )) .(/32)
***********************************
الصبر على المكارِهِ وتحمُّلُ الشدائدِ
طريقُ الفوزِ والنجاحِ والسعادةِ
? وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ ? . ? فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ?. ?فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ? . ? سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ? . ? وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ? ?اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ ? .
قال عمرُ رضي اللهُ عنهُ : « بالصبرِ أدركنا حسْن العيشِ » .
لأهلِ السنةِ عند المصائبِ ثلاثةُ فنونٍ : الصبرُ ، والدُّعاءُ ، وانتظارُ الفَرَجِ .
وقال الشاعرُ :
سقيناهُمُو كأساً سقوْنا بمثلِها
ولكنَّنا كُنا على الموتِ أصبر
وفي حديث صحيح : (( لا أحد أصبرُ على أذى سمِعه من اللهِ : إنهم يزعمون أنَّ له ولداً وصاحبةً ، وإنهُ يعافيهم ويرزقُهم )) . وقال ( : (( رحِم اللهُ موسى ، ابتُلي باكثر من هذا فصبرَ )) .
وقال ( : (( من يتصبَّرْ يُصبِّرهْ اللهُ )) .
دببتَ للمجدِ والساعون قد
بلغُوا
جهد النفوسِ وألقوا دونهُ الأُزُرَا
وكابدوا المجد حتى ملَّ أكثرُهمْ
وعانق المجد مَنْ أوفى ومنْ صبرا
لا تحسبِ المجد تمراً أنتَ آكلُهُ
لنْ تبلغ المجد حتى تلْعق الصَّبِرا
إن المعالي لا تُنالُ بالأحلامِ ، ولا بالرؤيا في المنامِ ، وإنَّما بالحزمِ والعَزْمِ .
************************************
لا تحزنْ من فِعلِ الخَلْقِ مَعَكَ
وانظرْ إلى فعْلِهم مع الخالقِ
عندَ أحمد في كتابِ الزهدِ ، أن الله يقولُ : (( عجباً لك يا ابن آدم ! خلقتُك وتعبدُ غيري ، ورزقتُك وتشكرُ سواي ، أتحبَّبُ إليك بالنعمِ وأنا غنيٌّ عنك ، وتتبغَّضُ إليَّ بالمعاصي وأنت فقيرٌ إليَّ ، خيري إليك نازلٌ ، وشرُّك إليَّ صاعدٌ )) !! .
وقد ذكروا في سيرة عيسى عليه السلامُ أنه داوى ثلاثين مريضاً ، وأبرأ عميان كثيرين ، ثم انقلبوا ضدَّه أعداءً .
************************************
لا تحزنْ منْ تعسُّر الرزقِ
فإنَّ الرزَّاق هو الواحدُ الأحدُ ، فعنده رِزْقُ العبادِ ، وقدْ تكفَّلَ بذلك ، ? وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ? .
فإذا كان اللهُ هو الرزاقُ فلِم يتملَّقُ البشرُ ، ولِم تُهانُ النفسُ في سبيلِ الرزقِ لأجل البشرِ ؟! قال سبحانه : ? وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا ? . وقال جلَّ اسمُه : ? مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ? .
*********************************
أسبابٌ تهوِّنُ المصائب
1. ... انتظارُ الأجرِ والمثوبةِ من عند اللهِ عزَّ وجلَّ : ? إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ? .
2. رؤيةُ المصابين :
ولولا كثرةُ الباكِين حولي
على إخوانِهمْ لَقَتَلْتُ نفسي
فالتفِتْ يَمْنَةً والتفتْ يَسْرَةً ، هل ترى غلا مصاباً أو ممتحناً ؟ وكما قيل : في كلِّ وادٍ بنو سعدٍ .
3. وأنها أسهلُ منْ غيرِها .
4. وأنها ليستْ في ديِنِ العبدِ ، وإنما في دنياه .
5. وأنَّ العبودية في التسليم عند المكارهِ أعظمُ منها أحياناً في المحابِّ .
6. وأنه لا حيلة :
فاتركِ الحيلة في تحويِلها
إنما الحيلةُ في تَرْكِ الحيَلْ
7. وأنَّ الخبرة للهِ ربِّ العالمين : ? وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ? .
*******************************
لا تتقمص شخصية غيرِك
? وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ ? ? وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ? ? قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ? .
الناسُ مواهبُ وقدراتٌ وطاقاتٌ وصنعاتٌ ، ومن عظمةِ رسولِنا ( أنه وظَّف أصحابه حسب قُدراتِهمْ واستعداداتِهم ، فعليٌّ للقضاءِ ، ومعاذٌ للعِلْمِ ، وأُبيٌّ للقرآنِ ، وزيدٌ للفرائضِ ، وخالد للجهادِ ، وحسَّانُ للشعِر ، وقيسُ بنُ ثابتٍ للخطابةِ .
فوضْعُ الندى في موضعِ السيف بالعُلا
مُضِرٌّ كوضعِ السيفِ في موضعِ الندى
الذوبانُ في الغيرِ انتحارٌ تقمُّصُ صفاتِ الآخرين قتلٌ مُجْهِزٌ.
ومنْ آياتِ اللهِ عزَّ وجلَّ : اختلافُ صفاتِ الناسِ ومواهبِهمْ ، واختلافِ ألسنتِهمْ وألوانِهمْ ، فأبو بكر برحمتِهِ ورفقِهِ نفعَ الأمةَ والملَّة ، وعمرُ بشدَّتِهِ وصلابتِهِ نصر الإسلامَ وأهله ، فالرضا بما عندك من عطاءٍ موهبةٌ ، فاستثمرها ونمِّها وقدِّمها وانفع بها ، ? لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ? .
إنَّ التقليد الأعمى والانصهار المسرف في شخصياتِ الآخرين وأدٌ للموهبةِ ، وقَتْلٌ للإرادةِ وإلغاءٌ متعمَّدٌ التميُّزِ والتفرُّدِ المقصودِ من الخليقةِ .
**********************************
عزُّ العزلةِ
وأقصدُ بها العزلة عن الشرِّ وفضولِ المباحِ ، وهي ممّا يشرحُ الخاطر ويُذهبُ الحزن .(/33)
قال ابن تيمية : لا لابدَّ للعبدِ من عزلةٍ لعبادتِه وذكرِه وتلاوتِه ، ومحاسبتِه لنفسِه ، ودعائِه واستغفارِه ، وبُعدِه عن الشرِّ ، ونحوِ ذلك .
ولقد عقد ابنُ الجوزي ثلاثة فصولٍ في ( صيْدِ الخاطرِ ) ، ملخَّصها أنه قال : ما سمعتُ ولا رأيتُ كالعزلة ، راحةً وعزّاً وشرفاً ، وبُعداً عن السوءِ وعن الشرِّ ، وصوْناً للجاهِ والوقتِ ، وحِفظاً للعمرِ ، وبعداً عن الحسَّادِ والثقلاءِ والشامتين ، وتفكُّراً في الآخرةِ ، واستعداداً للقاءِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، واغتناماً في الطاعةِ ، وجولان الفكر فيما ينفعُ ، وإخراج كنوزِ الحِكَمِ ، والاستنباط من النصوصِ .
ونحو ذلك من كلامِهِ ذكرهُ في العزلةِ هذا معناه بتصرُّف .
وفي العزلةِ استثمارُ العقلِ ، وقطْفُ جَنَى الفكرِ ، وراحةُ القلبِ ، وسلامةُ العرْض ، وموفورُ الأجرِ ، والنهيُ عن المنكر ، واغتنامُ الأنفاسِ في الطاعةِ ، وتذكُّرُ الرحيمِ ، وهجرُ الملهياتِ والمشغلاتِ ، والفرارُ من الفتنِ ، والبعدُ عن مداراةِ العدوِّ ، وشماتةِ الحاقدِ ، ونظراتِ الحاسدِ ، ومماطلةِ الثقيلِ ، والاعتذارِ على المعاتِبِ ، ومطالبةِ الحقوقِ ، ومداجاةِ المتكبِّرِ ، والصبرِ على الأحمقِ .
وفي العزلةِ سَتْرٌ للعوراتِ : عوراتِ اللسانِ ، وعثراتِ الحركاتِ ، وفلتاتِ الذهنِ ، ورعونةِ النفسِ .
فالعزلةُ حجابٌ لوجهِ المحاسنِ ، وصدَفٌ لدُرِّ الفضلِ ، وأكمامٌ لطلْع المناقبِ ، وما أحسن العزلةَ مع الكتابِ ، وفرةً للعمرِ ، وفسحةً للأجلِ ، وبحبوحةً في الخلوةِ ، وسفراً في طاعةِ ، وسياحةً في تأمُّلٍ .
وفي العزلةِ تحرصُ على المعاني ، وتحوزُ على اللطائفِ ، وتتأملُ في المقاصدِ ، وتبني صرح الرأيِ ، وتشيدُ هيْكلَ العقلِ .
والروحُ في العزلةِ في جَذلٍ ، والقلبُ في فَرَحٍ اكبرَ ، والخاطرُ في اصطيادِ الفوائدِ .
ولا تٌرائي في العزلةِ : لأنهُ لا يراك إلا اللهُ ، ولا تُسمعِ بكلامِك بشراً فلا يسمعك إلا السميعُ البصيرُ .
كلُّ اللامعين والنافعين ، والعباقرِة والجهابذةِ وأساطين الزمنِ ، وروَّادِ التاريخِ ، وشُداةِ الفضائلِ ، وعيونِ الدهرِ ، وكواكبِ المحافلِ ، كلُّهم سَقَوْا غَرْسَ نُبْلهم من ماءِ العزلةِ حتى استوى على سُوقِهِ ، فنبتتْ شجرةُ عظمتِهم ، فآتتْ أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها .
قال عليُّ عبدِالعزيز الجُرْجانيُّ :
يقولون لي فيك انقباضُ وإنما
رأوا رجلاً عن موقفِ الذُّلِّ أحْجَما
إذا قيلَ هذا موردٌ قلتُ قدْ أَرَى
ولكنَّ نفس الحُرِّ تحتملُ الظَّما
ولم أقضِ حقَّ العلمِ إن كنتُ كلَّما
بدا طمعٌ صيَّرتُهُ لِيَ سُلَّما
أأشقى به غَرْساً وأجنيهِ ذلَّةً
إذن فاتَّباعُ الجهلِ قدْ كان أحزما
ولو أنَّ أهل العلمِ صانوه صانهمْ
ولو عظَّموه في النفوسِ لَعُظَّما
ولكنْ أهانُوهُ فهانوا ودنَّسوا
مُحَيَّاهُ بالأطماعِ حتى تهجَّما
وقال أحمدُ بنُ خليلٍ الحنبليُّ :
مَنْ أراد العزَّ والرا
حةَ مِن همِّ طويلِ
ليكُنْ فرداً من النا
سِ ويرضى بالقليلِ
كيف يصفو لامرئٍ ما
عاش مِنْ عيشٍ وبِيلِ
بين غمزٍ مِنْ ختولٍ
ومداجاةِ ثقيل ِ
ومداراةِ حسودٍ
ومعاناةِ بخيلِ
آهِ منْ معرفةِ النا
سِ على كلِّ سبيلِ
وقال القاضي عليُّ بن عبدالعزيزِ الجرجانُّي :
ما تطعَّمتُ لذةَ العيشِ حتَّى
صرتُ للبيتِ والكتابِ جليسا
ليس شيءٌ أعزّ من العلـ
ـم فما أبتغي سواهُ أنيسا
إنَّما الذُّل في مخالطةِ النا
سِ فدعْهُم وعِشْ عزيزاً رئيساً
وقال آخر :
أنِسْتُ بوحدتي ولزِمتُ بيتي
فدام لِي الهنا ونَمَا السرورُ
وقاطعتُ الأنامَ فما أبالي
أسارَ الجيشُ أم ركِبَ الأميرُ
وقال الحميدي المحدِّث :
لقاءُ الناسِ ليس يُفيدُ شيئاً
سوى الإكثارِ منْ قيلٍ وقالِ
فأقْلِلْ منْ لقاءِ الناسِ إلاَّ
لكسبِ العلمِ أو إصلاحِ حالِ
وقال ابنُ فارس :
وقالوا كيف حالُك قلتُ خيراً
تًقضَّى حاجةٌ وتفوتُ حاجُ
إذا ازدحمتْ همومُ الصدرِ قُلْنا
عسى يوماً يكونُ لهُ انفراجُ
نديمي هِرَّتي وأنيسُ نفسي
دفاترُ لي ومعشوقي السراجُ
قالوا : كلُّ من أحبَّ العزلة فهي عِزٌّ لهُ . ولك أن تراجع كتاب (( العزلةِ)) للخطَّابي .
**********************************
فوائد الشدائد
فإنَّ الشدائد تقوِّي القلب ، وتمحو الذنب ، وتقصِمُ العُجْبَ ، وتنسفُ الكِبْرَ ، وهي ذوبانٌ للغفلةِ ، وإشعالٌ للتذكُّرِ ، وجلْبُ عطفِ المخلوقين ، ودعاءٌ من الصالحين ، وخضوعٌ للجبروتِ ، واستسلامٌ للواحد القهارِ ، وزجْرٌ حاضرٌ ، ونذيرٌ مقدمٌ ، وإحياءٌ للذكرِ ، وتضرُّع بالصبرِ ، واحتسابٌ للغصصِ ، وتهيئةٌ للقدومِ على المولى ، وإزعاجٌ عن الركونِ على الدنيا والرضا بها والاطمئنان إليها ، وما خفي من اللطفِ أعظمُ ، وما سُتِرَ من الذنبِ أكبرُ ، وما عُفي من الخطأ أجلُّ .
***********************************
وقفةٌ(/34)
لا تحزنْ : لأنَّ الحزن يضعفُك في العبادةِ ، ويعطِّلك عن الجهادِ ، ويُورثُك الإحباط ، ويدعوك إلى سوء الظنِّ ، ويُوقعُك في التشاؤمِ .
لا تحزنْ : فإنَّ الحزن والقلق أساسُ الأمراضِ النفسيةِ ، ومصدرُ الآلامِ العصيبةِ ، ومادةُ الانهيارِ والوسواسِ والاضطرابِ .
لا تحزنْ : ومعك القرآنُ ، والذكرُ ، والدعاءُ ، والصلاةُ ، والصدقةُ ، وفعْلُ المعروفِ ، والعملُ النافعُ المثمِرُ .
لا تحزنْ : ولا تستسلمْ للحزن عن طريقِ الفراغِ والعطالةِ ، صلِّ .. سبِّحْ اقرأْ .. اكتبْ .. اعملْ .. استقبلْ .. زُرْ .. تأمَّلْ .
? ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ? ? ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ? ?فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ? ? قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ? .
*******************************
قواعد في السعادة
اعلمْ أنك إذا لم تعِشْ في حدودِ يومِك تشتَّت ذهنُك ، واضطربتْ عليك أمورُك ، وكثرتْ همومُك وغمومُك ، وهذا معنى : (( إذا أصبحت فلا تنتظرِ المساء ، وإذا أمسيت فلا تنتظرِ الصباح )) .
انْس الماضي بما فيه ، فالاهتمامُ بما مضى وانتهى حُمْقٌ وجنونٌ .
لا تشتغلْ بالمستقبلِ ، فهو في عالمِ الغيبِ ، ودعِ التفكرَ فيه حتى يأتي .
لا تهتزَّ من النقدِ ، واثبتْ ، واعلمْ أنَّ النقد يساوي قيمَتَكَ .
الإيمانُ باللهِ ، والعملُ الصالحُ هو الحياةُ الطيبةُ السعيدةُ .
من أراد الاطمئنان والهدوء والراحةَ ، فعليه بذكرِ اللهِ تعالى .
على العبدِ أن يعلم أنَّ شيءٍ بقضاء وقدرٍ .
لا تنتظرْ شكراً من أحدٍ .
وطَِنْ نفسك على تلقِّي أسوأ الفروضِ .
لعلَّ فيما حصل خيراً لك .
كلُّ قضاءٍ للمسلمِ خيرٌ له .
فكِّرْ في النعمِ واشكرْ .
أنت بما عندك فوق كثيرٍ من الناسِ .
من ساعةٍ إلى ساعةٍ فَرَجٌ .
بالبلاءِ يُسْتَخْرَجُ الدعاءُ .
المصائبُ مراهمُ للبصائرِ وقوَّةٌ للقلبِ .
إنَّ مع العُسْرِ يُسْراً .
لا تقضِ عليك التوافِهُ .
إن رَّبك واسعُ المغفرةِ .
لا تغضبْ ، لا تغضبْ ، لا تغضبْ .
الحياةُ خبزٌ وماءٌ وظلٌّ ، فلا تكترثْ بغير ذلك .
? وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ? .
أكثر ما يٌخافْ لا يكونُ .
لك في المصابين أُسوةٌ .
إنَّ الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهُمْ .
كَرِّرْ أدعيةَ الكَرْبِ .
عليك بالعملِ الجادِّ المثمرِ ، واهجرِ الفراغ .
اتركِ الأراجيف ، ولا تصدقْ الشائعاتِ .
حقدُكَ وحرصُك على الانتقامِ يضُرُّ بصِحَّتِكَ أكثر مما يَضُرُّ الخصّمُ .
كلُّ ما يصيبك فهو كفَّارةٌ للذنوبِ .
***********************************
ولِم الحزنُ وعندك ستَّةُ أخلاطٍ ؟
ذكر صاحبُ ( الفرجِ بعد الشدةِ ) : أنَّ احدَ الحكماءِ ابتُليَ بمصيبةٍ ، فدخلَ عليه إخوانُه يعزُّونَهُ في المصابِ ، فقال : إني عملتُ دواءً من ستةِ أخلاطٍ . قالوا : ما هي ؟ قال : الخلطُ الأولُ : الثقةُ باللهِ . والثاني : علمي بأنَّ كلَّ مقدور كائنٌ . والثالثُ : الصبرُ خيرٌ ما استعملهُ الممتحنُون . والرابعُ : إنْ لم أصبرْ أنا فأيًّ شيء أعمل ؟! ولم أكنْ أُعين على نفسي بالجزع . والخامسُ : قد يمكنُ أن أكون في شرٍّ مما أنا فيه . والسادسُ : من ساعةٍ إلى ساعةٍ فَرَجٌ .
**********************************
لا تَحْزَنْ إذا واجهتْكَ الصعابُ وداهمتْك المشاكلُ واعترضتك العوائق ، واصبر وتحمَّلُ
إنْ كانَ عندك يا زمانُ بقيَّةٌ
مما تُهينُ بهِ الكرامَ فهاتِها
إنَّ الصبر أرفقُ من الجزعِ ، وإنَّ التحمل أشرفُ من الخورِ ، وإن الذي لا يصبرُ اختياراً سوف يصبرُ اضطراراً .
وقال المتنبي :
رماني الدهرُ بالأرزاءِ حتى
فؤادي في غشاءٍ من نبالِ
فصرتُ إذا أصابتني سهامٌ
تكسَّرتِ النصالُ على النصالِ
فعشتُ ولا أُبالي بالرزايا
لأني ما انتفعتُ بأنْ أُبالي
وقال أبو المظفر الأبيوردي :
تنكَّرَ لي دهري ولم يدرِ أنني
أَعِزُّ وأحداثُ الزمانِ تهُونُ
فبات يُريني الدهرُ كيف اعتداؤُهُ
وبِتُّ أُريهِ الصبر كيف يكونُ
إن الكوخ الخشبيَّ ، وخيمةَ الشَّعْرِ ، وخبز الشعيرِ ، أعزُّ وأشرفُ – مع حفظِ ماءِ الوجهِ وكرامةِ العِرْضِ وصوْنَ النفسِ – من قَصْرٍ منيفٍ وحديقةٍ غنَّاءَ مع التعكيرِ والكَدَرِ .
المحنةُ كالمرض ، لابدَّ له من زمن حتى يزول ، ومن استعجل في زوالهِ أوشك أن يتضاعف ويستفحل ، فكذلك المصيبةُ والمِحْنَةُ لابدَّ لها من وقتٍ ، حتى تزول آثارُها ، وواجبُ المبتلي : الصبرُ وانتظارُ الفرجِ ومداومةُ الدُّعاءِ .
*******************************
وقفة(/35)
? وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ? . ? وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ ? . ? إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ? . ? لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ? . ? وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ? . ? اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ? . ? وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ? . ? لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ? . ? إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ? . ? وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ? . ?وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ? .
قال الشاعرُ :
متى تصفُو لك الدنيا بخيرٍ
إذا لم ترض منها بالمزاجِ
ألم تر جوهر الدنيا المصفَّى
ومخرجهُ من البحرِ الأُجاجِ
ورُبَّ مُخيفةٍ فجأتْ بِهوْلٍ
جرتْ بمسرَّةٍ لك وابتهاجِ
ورُبَّ سلامةٍ بَعْدَ امتناعٍ
وربَّ إقامةٍ بَعْدَ اعوِجاجِ
*************************************
وخيرُ جليسٍ في الأنامِ كتابُ
إنّ من أسباب السعادة : الانقطاع إلى مطالعة الكتاب ، والاهتمام بالقراءة ، وتنمية العقلِ بالفوائدِ .
والجاحظ يُوصِك بالكتاب والمطالعة ، لتطرد الحزن عنك فيقول :
والكتاب هو الجليسُ الذي لا يُطرِيك ، والصديقُ الذي لا يُغرِيك ، والرفيقُ الذي لا يَمَلُّك ، والمستميحُ الذي لا يستريثك ، والجارُ الذي لا يستبطيك ، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملقِ ، ولا يعاملُك بالمكْر ، ولا يخدعُك بالنفاق ، ولا يحتالُ لك بالكذِبِ .
والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك ، وشحذ طباعك ، وبسط لسانك ، وجوَّ بنانك ، وفخَّم ألفاظك ، وبحبح نفسك ، وعمَّرَ صدرك ، ومنحك تعظيم العوامِّ ، وصداقة الملوك ، وعرفت به شهرٍ ما لا تعرفه من أفواهِ الرجال في دهْرٍ ، مع السلامة من الغُرْمِ ، ومن كدِّ الطلب ، ومن الوقوفِ ببابِ المكتسب بالتعليم ، ومن الجلوس بين يدي مَن أنت أفضلُ منه خُلُقاُ ، وأكرمُ منه عِرقاً ، ومع السلامة من مجالسة البغضاء ، ومقارنة الأغنياء .
والكتاب هو الذي يطيعك بالليل كطاعته بالنهار ، ويطيعك في السفر كطاعته في الحضَرِ ، ولا يعتلُّ بنومٍ ، ولا يعتريهِ كَلَلُ السهرِ ، وهو المعلِّمُ الذي إن افتقرت إليه لم يخْفِرْك ، وإن قطعت عنه المادة لم يقطعْ عنك الفائِدةَ ، وإن عزلته لم يدعْ طاعتك ، وإن هبَّت ريحُ أعاديك لم ينقلبْ عليك ، ومتى كنت معه متعلِّقاً بسبب أو معتصماً بأدنى حبْل كان لك فيه غنىً من غيره ، ولم تضرَّك معه وحشةُ الوحدة إلى جليسِ السوءِ ، ولو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إليك إلاَّ منْعُه لك من الجلوس على بابِك ، والنظرُ إلى المارة بك . مع ما في ذلك من التعرُّض للحقوق التي تلزم ، ومن فضولِ النظرِ ، ومن عادةِ الخوْضِ فيما لا يعنيك ، ومن ملابسةِ صغارِ الناسِ ، وحضورِ ألفاظهم الساقطة ، ومعانيهم الفاسدة ، وأخلاقِهم الرديئة ، وجهالاتهم المذمومة . لكان في ذلك السلامةُ ثم الغنيمةُ ، وإحرازُ الأصل مع استفادةِ الفرْعِ ، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه يشغلك عن سخف المُنى ، وعن اعتياد الراحةِ وعن اللَّعبِ ، وكل ما أشبه اللعب ، لقد كان على صاحبه أسبغ النعمة وأعظم المِنَّةَ .
وقد علمنا أن أفضل ما يقطع به الفُرَّاغُ نهارهم ، وأصحاب الفكاهات ساعاتِ ليلهم : الكتابُ ، وهو الشيء الذي لا يُرى لهم فيه مع النيل أثر في ازدياد تجربة ولا عقل ولا مروءة ، ولا في صوْن عِرض ، ولا في إصلاح دينٍ ، ولا في تثمير مال ، ولا في رب صنيعةٍ ولا في ابتداءِ إنعامٍ .
* أقوالٌ في فضل الكتاب :
وقال أبو عبيدة : قال المهلَّب لبنيه في وصيته : يا بَنِيَّ ، لا تقوموا في الأسواق إلا على زرَّاد أو ورَّاق .
وحدّثني صديق لي قال : قرأتُ على شيخ شامي كتاباً فيه من مآثرِ غطفان ، فقال : ذهبتِ المكارم إلا من الكتب . وسمعتُ الحسن اللؤلؤي يقول: غبرتُ أربعين عاماً ما قِلتُ ولا بتُ ولا اتكأتُ ، إلا والكتاب موضوع على صدري .
وقال ابن الجهم : إذا غشيني النعاس في غير وقت نوم . وبئس الشيء النوم الفاضل عن الحاجة . تناولتُ كتاباً من كتب الحِكم ، فأجدُ اهتزازي للفوائد ، والأريحية التي تعتريني عند الظفر ببعض الحاجة ، والذي يغشى قلبي من سرور الاستبانة ، وعزُّ التبين أشدُّ إيقاظاً من نهيقِ الحميرِ ، وهدَّةِ الهَدْمِ .(/36)
وقال ابنُ الجهم : إذا استحسنتُ الكتاب واستجدتُه ، ورجوتُ منه الفائدة ، ورأيتُ ذلك فيه ، فلو تراني وأنا ساعة بعد ساعة أنظرُ كم بقي من ورقة مخافة استنفاده ، وانقطاع المادة من قلبه ، وإن كان المصحفُ عظيم الحجمِ كثير الورقِ كثير العددِ فقد تمَّ عيشي وكمل سروري .
وذكر العتبي كتاباً لبعض القدماء فقال : لولا طولُه وكثرةُ ورقِهِ لنسختُه . فقال ابن الجهم : لكني ما رغَّبني فيه إلا الذي زهَّدك فيه ، وما قرأتُ قطُّ كتاباً كبيراً فأخلاني من فائدة ، وما أحصي كم قرأتُ من صغار الكتب فخرجتُ منها كما دخلتُ ! .
وأجلُّ الكتب وأشرفها وأرفعها : ? كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ? .
* فوائد القراءة والمطالعة :
طردً الوسواسِ والهمِّ والحزنِ .
اجتنابُ الخوضِ في الباطلِ .
الاشتغالُ عن البطَّالين وأهلِ العطالةِ .
فتْقُ اللسان وتدريبٌ على الكلام، والبعدُ عن اللَّحْنِ، والتحلِّي بالبلاغةِ والفصاحةِ.
تنميةُ العَقْلِ ، وتجويدُ الذِّهْنِ ، وتصفيةُ الخاطِرِ .
غزارةُ العلمِ ، وكثرةُ المحفوظِ والمفهومِ .
الاستفادةُ من تجاربِ الناسِ وحكمِ الحكماءِ واستنباطِ العلماءِ .
إيجادُ المَلَكَةِ الهاضمةِ للعلومِ ، والمطالعةُ على الثقافات الواعية لدورها في الحياة .
زيادةُ الإيمانِ خاصَّةً في قراءة كتبِ أهلِ الإسلامِ ، فإن الكتاب من أعظم الوعَّاظ ، ومن أجلِّ الزاجرين ، ومن أكبر الناهين ، ومن أحكمِ الآمرين .
راحةٌ للذِّهن من التشتُّتِ ، وللقلب من التشرذُمِ ، وللوقتِ من الضياعِ .
الرسوخُ في فَهْمِ الكلمةِ ، وصياغةِ المادةِ ، ومقصودِ العبارةِ ، ومدلولِ الجملةِ ، ومعرفةِ أسرارِ الحكمةِ .
فروحُ الروحِ أرواحُ المعاني
وليس بأنْ طعمت ولا شربتا
***********************************
وقفة
مرض أبو بكرٍ رضي الله عنه فعادوه ، فقالوا : ألا ندعو لك الطبيب ؟ فقال : قد رآني الطبيب . قالوا : فأيُّ شيء قال لك ؟ قال : إني فعّالٌ لما أريدُ .
قال عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه : وجدنا خَيْرَ عيشنِا بالصبرِ .
وقال أيضاً : أفضلُ عيشٍ أدركناه بالصبر ، ولو أنَّ الصبر كان من الرجالِ كان كريماً .
وقال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا إن الصَّبْرَ من الإيمان بمنزلة الرأسِ من الجسدِ ، فإذا قُطع الرأسُ بار الجسمُ ، ثم رَفَعَ صوتَه فقال : إنه لا إيمان لمن لا صَبْرَ له . وقال : الصبرُ مطيَّةٌ لا تَكْبُو .
وقال الحسن : الصبر كَنْزٌ من كنوزِ الخيرِ ، لا يعطيه اللهُ إلا لعبدٍ كريمٍ عنده .
وقال عمرُ بنُ عبدالعزيز : ما أنعم اللهُ على عبدٍ نعمةً ، فانتزعَها منه ، فعاضه مكانها الصبر ، إلاَّ كان ما عوَّضه خيراً مما انتزعهُ .
وقال ميمون بنُ مهران : ما نال أحد شيئاً من ختمِ الخيرِ فيما دونه إلا الصبر .
وقال سليمان بنُ القاسم : كلُّ عمل يُعرف ثوابه إلا الصبرَّ ، قال تعالى : ? إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ? قال : كالمال المنهمر .
*****************************
لا تحزنْ لأنَّ هناك مشهداً آخر وحياةً أخرى ، ويوماً ثانياً
يجمع الله فيه الأوَّلين والآخرين ، وهذا يجعلك تطمئنُّ لعدلِ اللهِ ، فَمَنْ سُلِبَ مالُه هنا وجده هناك ، ومن ظُلم هنا أُنصف هناك ، ومن جار هنا عُوقِب هناك !!
نُقل عن « كانت » الفيلسوف الألماني أنه قال : (( إن مسرحيَّة الحياة الدنيا لم تكتملْ بَعْدُ ، ولابدَّ من مشهدٍ ثانٍ ؛ لأننا نرى هنا ظالماً ومظلوماً ولم نجدْ الإنصاف ، وغالباً ومغلوباً ولم نجد الانتقام ، فلابدَّ إذن من عالمٍ آخر يتمُّ فيه العَدْلُ )) .
قال الشيخ علي الطنطاوي معلِّقاً : وهذا الكلام اعتراف ضمني باليوم الآخر والقيامة ، من هذا الأجنبي .
إذا جارَ الوزيرُ وكاتبِاهُ
وقاضي الأرضِ أجحف في القضاءِ
فَوَيْلٌ ثم وَيْلٌ ثُمَّ ويْلٌ
لقاضي الأرضِ من قاضي السماءِ
? لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ? .
*********************************
أقوالٌ عالميةٌ ونُقولاتٌ من تجاربِ القومِ
كتب « روبرت لويس ستيفنسون » : (( فكل إنسان يستطيع القيام بعمله مهما كان شاقّاً في يوم واحد ، وكل إنسانٍ يستطيعُ العيش بسعادة حتى تغيب الشمسُ . وهذا ما تعنيه الحياة )) .
قال أحدهم : (( ليس لك من حياتِك إلا يومٌ واحد ، أمس ذهب ، وغَدٌ لم يأتِ )) .
كتب « ستيفن ليكوك » : فالطفل يقول : حين أصبح صبيّاً ، والصبيُّ يقول : حين أُصبح شابّاً . وحين أُصبح شابّاً أتزوج . ولكن ماذا بعد الزواج؟ وماذا بَعْدَ كل هذه المراحل؟ تتغيرُ الفكرة نحو : حين أكون قادراً على التقاعُد . ينظر خلفه ، وتلفحه رياح باردة ، لقد فقد حياته التي ولَّت دون أن يعيش دقيقةً واحدة منها ، ونحن نتعلَّم بعد فواتِ الأوانِ أنَّ الحياة تقعُ في كل دقيقة وكلِّ ساعة من يومنا الحاضرِ )) .(/37)
وكذلك المسوّفُون بالتوبة .
قال أحد السلف : (( أنذرتُكم ( سوف ) ، فغنها كلمةٌ كم منعت من خير وأخَّرت من صلاح )) .
? ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ? .
يقول الفيلسوف الفرنسي « مونتين » : (( كانت حياتي مليئة بالحظِّ السيئ الذي لم يرحمْ أبداً )) .
قلتُ : هؤلاء لم يعرفوا الحكمة من خلْقهم ، على الرغم من ذكائهم ومعارفهم ، لكن لم يهتدوا بهدي الله الذي بعث به رسوله ( ، ? وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ? . ? إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ? .
يقول : « دانسي » : (( فكِّرْ إن هذا اليوم لن ينبثق ثانيةً )) .
قلتُ : وأجملُ منه وأكملُ حديث : (( صلِّ صلاةَ مودِّعٍ ))
ومن جعل في خلدِهِ أن هذا اليوم الذي يعيشُ فيه آخرُ أيامِهِ ، جدَّدَ توبته ، وأحسن عمله ، واجتهد في طاعِة ربِّهِ واتباعِ رسولِهِ ( .
كتب المثل المسرحي الهندي الشهير « كاليداسا » :
تحيةً للفجر
انظرْ إلى هذا النهار
لأنه هو الحياة ، حياة الحياة
في فترتِهِ ، تُوجد مختلفُ حقائقِ وجودِك
نعمةُ النُّمُوِّ
العملُ المجيدُ
وبهاءُ الانتصارِ
ولأن الأمس ليس سوى حُلُمٍ
والغَدُ ليس إلا رُؤًى
لكنَّ اليوم الذي تعيشه بأكمله يجعل الأمس حُلْماً جميلاً
وكل غد رؤيةً للأملِ
فانظر جيِّداً إلى هذا النهار
هذه هي تحية الفجر
*********************************
اسألْ نفسك هذه الأسئلة
أغلق الأبواب الحديديَّة على الماضي والمستقبل ، وعشْ دقائقَ يومِك :
هل أقصد أن أؤجِّل حياتي الحاضرة من أجل القلقِ بشأنِ المستقبلِ ، أو الحنينِ إلى (( حديقة سحرية وراء الأُفُقِ )) ؟
هل أجعل حاضري مريراً بالتطلُّعِ إلى أشياء حَدَيَثْ في الماضي ، حَدَثَتْ وانقضتْ مع مرورِ الزمنِ ؟
هل أستيقظُ في الصباحِ ، وقد صمَّمْتُ على استغلالِ النهارِ ، والإفادةِ القصوى من الساعات الأربعِ والعشرين المقبلة ؟
هل أستفيد من الحياة إذا ما عشتُ دقائق يومي ؟
متى سأبدأُ في القيام بذلك ؟ الأسبوع المقبل ؟ .. في الغدِ ؟ .. أو اليومَ ؟
اسألْ نفسك : ما اسوأُ احتمالٍ يمكنُ أنْ يَحْدُث ؟ ثم :
- جهِّزْ نفسك لقبولهِ وتحمُّلِهِ .
- باشْرِ بهدوءٍ لتحسين ذلك الاحتمالِ . ? الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ? .
********************************
وقفة
? وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً{2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ? . ? سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ? .
(( واعلم أن النصر مع الصبرِ ، وأن الفرج مع الكرْبِ ، وأنَّ مع العُسْرِ يُسْراً )) .
(( أنا عند ظنِّ عبدي بي فلْيَظُنَّ بي ما شاء )) .
? فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ? .
? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ? .
? فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ ? .
? لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ? .
**************************************
الحزنُ يحطِّمُ القوَّة ويهدُّ الجسم
قال الدكتور « ألكسيس كاريل » الحائز على جائزة نوبل في الطبِّ : (( إن رجال الأعمالِ الذين لا يعرفون مجابهة القلقِ ، ويموتون باكراً )) .
قلتُ : كلُّ شيء بقضاءٍ وقدرٍ ، لكن قد يكون المعنى : أن من الأسباب المتلفة للجسم المحطِّمة للكيان ، هو القلقُ . وهذا صحيح .
(( والحزنُ أيضاً يثيرُ القُرْحة! )) :
يقول الدكتور « جوزيف ف . مونتاغيو » مؤلف كتاب (( مشكلة العصبية )) ، يقول فيه: (( أنت لا تُصاب بالقُرْحَةِ بسببِ ما تتناولُ من طعامٍ ، بل بسببِ ما يَأْكُلُك )) !!.
قال المتنبي :
والهمُّ يخترمُ الجسيم نحافةً
ويُشيبُ ناصية الغلامِ ويُهرِمُ
وطبقاً لمجلة « لايف » تأتي القُرْحَةُ في الدرجة العاشرةِ من الأمراض الفتَّاكة .
وإليك بعض آثارِ الحُزْنِ :
تُرجمت لي قطعة من كتاب الدكتور إدوار بودولسكي ، وعنوانه : (( دعِ القلق وانطلق نحو الأفضلِ )) إليك بعضاً من عناوين فصولِ هذا الكتاب :
ماذا يفعلُ القلقُ بالقلبِ .
ضغطُ الدمِ المرتفع يغذِّيه القلقُ .
القَلَقُ يمكن أن يتسبب في أمراضِ الروماتيزم .
خفِّفْ من قلقِك إكراماً لمعدتِك .
كيف يمكن أن يكون القلقُ سبباً للبردِ .
القلق والغدَّةُ الدرقيةُ .
مصابُ السكري والقلقُ .
وفي ترجمة لكتاب د. كارل مانينغر ، أحد الأطباء المتخصصين في الطبِ النفسي ، وعنوانه : (( الإنسان ضدّ نفسه )) ، يقول : (( لا يعطيك الدكتور مانينغر قواعدَ حولَ كيفيةِ اجتنابِ القلقِ ، بل تقريراً مذهلاً عن كيف نحطمُ أجسادنا وعقولنا بالقلقِ والكبْتِ ، والحقدِ والازدراءِ ، والثورةِ والخوْفِ )) .(/38)
إن من أعظم منافع قوله تعالى : ? وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ? : راحة القلب ، وهدوءَ الخاطِرِ ، وسعَةَ البالِ والسعادة .
وفي مدينة « بوردو » الفرنسية ، يقول حاكمها الفيلسوف الفرنسي « مونتين » : (( أرغبُ في معالجة مشاكلكم بيدي وليس بكبدي ورئتيَّ )) .
ماذا يفعل الحزنُ ، والهمُّ والحِقْدُ ؟
وضع الكتور راسل سيسيل – من جامعة « كورنيل » ، معهد الطب – أربعة أسبابٍ شائعة تسبب في التهابِ المفاصلِ :
انهيارُ الزواجِ .
الكوارثُ الماديةُ والحزنُ .
الوحدةُ والقلقُ .
الاحتقارُ والحِقْدُ .
وقال الدكتور وليم مالك غوينغل ، في خطاب لاتحاد أطباء الأسنان الأمريكيين : (( إن المشاعر غَيْرِ السارَّةِ مِثْل القلقِ والخوفِ .. يمكن أن تؤثر في توزيع الكالسيوم في الجسم ، وبالتالي تؤدي إلى تَلَفِ الأسنانِ )) .
وتناول أمورك بهدوء :
يقول دايل كارنيجي : (( إن الزنوج الذين يعيشون في جنوبِ البلادِ والصينيين نادراً ما يُصابون بأمراض القلبِ الناتجةِ عن القلقِ ؛ لأنهم يتناولون الأمور بهدوء )) .
ويقول : (( إن عدد الأمريكيين الذين يُقبلون على الانتحار هو أكثر بكثير من الذين يموتون نتيجة للأمراض الخمسة الفتَّاكة )) .
وهذه حقيقة مذهلة تكادُ لا تصدَّقُ !
حسِّنْ ظنَّك بربِّك :
قال وليم جايمس: ((إن الله يغفرُ لنا خطايانا، لكن جهازنا العصبي لا يفعل ذلك أبداً))!
ذكر ابن الوزير في كتابه «العواصم والقواصم» : ((إن الرجاء في رحمة الله - عزَّ وجلَّ - يفتح الأمل للعبدِ، ويقوِّيه على الطاعةِ ، ويجعلُه نشيطاً في النوافلِ سابقاً إلى الخيراتِ)) .
قلتُ : وهذا صحيح ، فإن بعض النفوس لا يصلحها إلا تذكُّر رحمة الله وعفوه وتوبته وحلمه ، فتدنو منه ، وتجتهدُ وتثابرُ .
إذا هامَ بِك الخيالُ :
يقول توماس أدسون : (( لا توجد وسيلةٌ يلجأُ إليها الإنسانُ هَرَباً من التفكير )) .
وهذا صحيح بالتجربة ، فإن الإنسان قد يقرأُ أو يكتبُ وهو يفكرُ ، ولكن من أحسن ما يحدُّ التفكير ويضبطه العملُ الجادُّ المثمرُ النافعُ ، فإن أهل الفراغ أهلُ خيالٍ وجنوحٍ وأراجيف .
****************************
رحِّبْ بالنَّقدِ البنِّاءِ
يقولُ أندريه مورو : (( إنَّ كلَّ ما يتفقُ مع رغباتِنا الشخصيةِ يبدو حقيقيّاً ، وكلَّ ما هو غيرُ ذلك يُثير غضبنا .
قلتْ وكذلك النصائح والنقدُ ، فالغالبُ أننا نحبُّ المدح ونَطْرَبُ لهُ ، ولو كان باطلاً ، ونكرهُ النقد والذّّمَّ ولو كان حقّاً وهذا عيبٌ وخطأٌ خطيرٌ .
? وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ{48} وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ? .
يقولُ وليمُ جايمس : (( عندما يتمُّ التوصلُّ إلى قرارٍ يُنفَّذُ في نفسِ اليومِ ، فإنك ستتخلَّص كليّاً من الهمومِ لبتي ستسيطرُ عليك فيما أنت تفكرُ بنتائجِ المشكلةِ ، وهو يعني أنك إذا اتخذت قراراً حكيماً يركزُ على الوقائعِ ، فامضِ في تنفيذِهِ ولا تتوقَّف متردِّداً أو قلِقاُ أو تتراجعٌ في خطواتِك ، ولا تضيَّعْ نفسك بالشكوكِ التي لا تلدُ غلاَّ الشكوك ، ولا تستمرَّ في النظرِ إلى ما وراءِ ظهرك )) .
واشدوا في ذلك :
ومٌشتَّتُ العزماتِ يُنفقُ عمرهُ
حيران لا ظفرٌ ولا إخفاقُ
وقال آخرُ :
إذا كنت ذا رأي فكنُ ذا عزيمةٍ
فإنَّ فساد الرأي أة تتردَّدا
إن الشجاعة في اتخاذِ القرارِ إنقاذ لك من القلقِ والاضطرابِ . ? فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ? .
**************************************
لا تتوقفْ متفكِّراً أو متردِّداً
بل اعملْ وابذُلْ واهجرِ الفراغ
يقولُ الدكتورُ ريتشاردز كابوت : أستاذُ الطبِّ في جامعةِ ( هارفرد ) ، في كتابةِ بعنوان ( بم يعيشُ الإنسانُ ) : (( بصفتي طبيباً ، أنصحُ بعلاجِ ( العملِ ) للمرضى الذين يعانون من الارتعاشِ الناتجِ عن الشكوكِ والتردُّدِ والخوفِ .. فالشجاعةُ التي يمنحُها العملُ لنا هي مثلُ الاعتمادِ على النَّفسِ الذي جعله ( أمرسونُ ) دائم الرَّوعةِ )) .
? فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ ? .
يقولُ جورج برناردشو : (( يمكنُ سرُّ التعاسةِ في أن يتاح لك وقتٌ لرفاهيةِ التفكيرِ ، فيما إذا كنت سعيداً أو لا ، فلا تهتمَّ بالتفكيرِ في ذلك بل ابق منهمكاً في العمل ، عندئذ يبدأُ دمُك في الدورانِ ، وعقُلك بالتفكيرِ ، وسرعان ما تُذهِبُ الحياةُ الجديدة القلق من عقلِك ! عملْ وابق منهمكاً في العملِ ، فإنَّ أرخص دواءٍ موجودٍ على وجهِ الأرضِ وأفضلُه )) .
? وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ? .
يقولُ دزرائيلي : « الحياةُ قصيرةٌ جداً ، لتكون تافهةً » .
وقال بعض حكماءِ العربِ : « الحياةُ أقصرُ من أن نقصِّرها بالشحناءِ » .(/39)
? قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ{112} قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ{113} قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ? .
أكثرُ الشائعاتِ لا صحَّة لها :
يقولُ الجنرالُ جورج كروك – وهو ربما أعظمُ محاربٍ هنديٍّ في التاريخ الأمريكيِّ – في صفحة 77 من مذكراته : « إنَّ كلَّ قلقِ وتعاسةِ الهنودِ تقريباً تصدرُ من مخيلتِهمْ وليس من الواقعِ » .
قال سبحانهُ وتعالى: ? يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ? ? لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ ? .
يقولُ الأستاذُ هوكسْ – من جامعة « كولومبيا » - إنه اتخذ هذهِ الترنيمة واحداً من شعاراتِهِ : « لكلَّ علّةٍ تحت الشمس يُوجدُ علاجٌ ، أو لا يوجدُ أبداً ، فإنْ كان يوجدُ علاجٌ حاول أن تجدهُ ، وإن لم يكنْ موجوداً لا تهتمَّ بهِ » .
وفي حديثٍ صحيحٍ : (( ما أنزل اللهُ من داءٍ إلا أنزل له دواء علِمهُ من عَلِمَهُ وجهِلَهُ مَنْ جهِلَهُ )) .
الرفقُ يجنبُك المزالق :
قال أستاذٌ يابانيٌّ لتلاميذهِ : « الانحناءُ مثلُ الصَّفصاصِ ، وعدمُ المقاومةِ مثلُ البلُّوط » .
وفي الحديث : (( المؤمنُ كالخامةِ من الزرعِ ، تفيئُها الريحُ يَمْنَةً ويَسْرَةً )) .
والحكيمُ كالماءِ، لا يصطدمُ في الصخرةِ، لكنه يأتيها يَمْنَةً ويسْرَةُ ومِنْ فوقِها ومِنْ تحِتها.
وفي الحديثِ : (( المؤمنُ كالجملِ الأنِفِ ، لو أُنيخ على صخرةٍ لأناخ عليها )) .
ما فات لن يعود :
? لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ? .
وقف الدكتورُ بول براندوني ، وألقى بزجاجةِ حليبٍ إلى الأرضِ ، وهتف قائلاً : « لا تبكِ على الحليب المُراق » .
وقالتِ العامَّة : الذي لم يُكْتَبْ لك عسيرٌ عليك .
وقال آدمُ لموسى عليهما السلامُ : أتلومني على شيءٍ كتبهُ اللهُ عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين عاماً ؟ قال رسولُ اللهِ ( : (( فحجَّ آدمُ موسى ، فحجَّ آدمُ موسى ، فحجَّ آدم موسى )) .
وابحث عن السعادةِ في نفسك وداخلكِ لا من حولِك وخارجِك .
قال الشاعرُ الإنجليزيُّ ميلتون : (( إنَّ العقل في مكانهِ وبِنفسِهِ يستطيعُ أن يجعل الجنة جحيماً ، والجحيم جنةً )) !
قال المتنبي :
ذو العقْلِ يشقى في النعيمِ بعقلِهِ
وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ
فالحياةُ لا تستحقُّ الحزن :
قال نابليونُ في « سانت هيلينا » : « لم أعرفْ ستة أيامٍ سعيدةِ في حياتي » !!
قال هشامُ بنُ عبدِالملكِ -الخليفةُ-:. « عددتُ أيام سعادتي فوجدتُها ثلاثة عَشَرَ يوماً »
وكان أبوه عبدُالملكِ يتأوَّه ويقولُ : « يا ليتني لمْ أتولَّ الخلافة » .
قال سعيدُ بنُ المسيبِ : الحمدُ للهِ الذي جعلهُمْ يفرُّرون إلينا ولا نفرُّ إليهم .
ودخل ابن السماكِ الواعظُ على هارون الرشيدِ ، فظمئ هارونُ وطلب شرْبة ماءٍ ، فقال ابنُ السماكِ : لو مُنعتَ هذهِ الشربة يا أمير المؤمنين ، أتفتديها بنصفِ ملكك ؟ قال : نعم . فلمّا شربها ، قال : لو مُنعت إخراجها ، أتدفعُ نصف ملكك لتخرُج ؟ قال : نعم . قال ابنُ السماكِ : فلا خير في ملكٍ لا يساوي شربة ماءٍ .
إنَّ الدنيا إذا خلتْ من الإيمانِ فلا قيمة لها ولا وزن ولا معنى .
يقولُ إقبالُ :
إذا الإيمانُ ضاع فلا أمانٌ
ولا دنيا لِمنْ لم يُحيي دينا
ومن رضي الحياة بغيرِ دينٍ
فقدْ جعل الفناء لها قرينا
قال أمرسونُ في نهايةِ مقالتهِ عن ( الاعتمادِ على النفسِ ) : « إنَّ النصر السياسيَّ ، وارتفاع الأجورِ ، وشفاءك من المرضِ ، أو عودة الأيامِ السعيدةِ تنفتحُ أمامك ، فلا تصدِّقُ ذلك ؛ لأنَّ الأمر لن يكون كذلك . ولا شيء يجلبُ لك الطمأنينة إلا نفسُك » .
? يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ{27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ? .
حذَّر الفيلسوفُ الروائيُّ أبيكتويتوس : « بوجوب الاهتمامِ بإزالةِ الأفكارِ الخاطئةِ من تفكيرِنا ، أكثر من الاهتمامِ بإزالةِ الورمِ والمرضِ منْ أجسادِنا » .
والعجبُ أنَّ التحذير من المرض الفكريِّ والعقائديِّ في القرآن أعظمُ من المرضِ الجسمانيِّ ، قال سبحانه : ? فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ? ? فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ? .
تبنِّى الفيلسوفُ الفرنسيُّ مونتين هذه الكلماتِ شعاراً في حياتِهِ : « لا يتأثرُ الإنسانُ بما يحدثُ مثلما يتأثرُ برأيِهِ حول ما يحدثُ » .
وفي الأثر : (( اللهم رضِّني بقضائك حتى أعلم أن ما أصابني لم يكنْ ليخطئني ، وما أخطأني لم يكن ليصيبني )) .
****************************************
وقفة ٌ
لا تحزنْ : لأنَّ الحزن يُزعجُك من الماضي ، ويخوِّفك من المستقبلِ ، ويُذهبُ عليك يومك .(/40)
لا تحزنْ : لأنَّ الحزن ينقبضُ له القلبُ ، ويعبسُ له الوجهُ ، وتنطفئُ منهُ الروحُ ، ويتلاشى معه الأملُ .
لا تحزنْ : لأنَّ الحزن يسرُّ العدوَّ ، ويغيظُ الصديق ، ويُشْمِت بك الحاسد ، ويغيِّرُ عليك الحقائق .
لا تحزنْ : لأنَّ الحزن مخاصمةٌ للقضاءِ ، وتبرُّمٌ بالمحتومِ ، وخروجٌ على الأنسِ ، ونقمةٌ على النعمةِ .
لا تحزنْ : لأنَّ الحزن لا يردُّ مفقوداً وذاهباً ، ولا يبعثُ ميِّتا ، ولا يردُّ قدراً ، ولا يجلبُ نفعاً .
لا تحزنْ : فالحزنُ من الشيطانِ والحزنُ يأسٌ جاثمٌ ، وفقرٌ حاضرٌ ، وقنوطٌ دائمٌ ، وإحباطٌ محقَّقٌ ، وإخفاقٌ ذريعٌ .
? أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ{1} وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ{2} الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ{3} وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ{4} فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً{5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً{6} فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ{7} وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ? .
************************************
لا تحزنْ ما دمْتَ مؤمناً بالله
إنَّ هذا الإيمان هو سرُّ الرضا والهدوءِ والأمنِ ، وإنَّ الحَيْرَةَ والشقاءَ مع الإلحادِ والشكِّ . ولقدْ رأيتُ أذكياء – بل عباقرةً – خلتْ أفئدتُهمْ من نورِ الرسالِة ، فطفحتْ ألسنتُهمْ عنِ الشريعةِ .
يقولُ أبو العلاءِ المعرِّيُّ عنِ الشريعةِ : تناقضٌ ما لنا إلا السكوتُ له !!
ويقولُ الرازيُّ : نهاية إقدامِ العقولِ عِقالُ .
ويقولُ الجويني ، وهو لا يدري أين اللهُ : حيَّرني الهمدانيُّ ، حيرني الهمدانيُّ .
ويقولُ ابنُ سينا : إنَّ العقل الفعَّال هو المؤثِّرُ في الكونِ .
ويقولُ إيليا أبو ماضي :
جئتُ لا أعلمُ مِن أين ولكنيِّ أتيتُ
ولقد أبصرتُ قُدَّامي طريقاً فمشيتُ
إلى ير ذلك من الأقوالِ التي تتفاوتُ قُرباً وبُعداً عن الحقِّ .
فعلمتُ أنه بحسبِ إيمان العبدِ يسعدُ ، وبحسبِ حيْرِتِهِ وشكِّه يشقى ، وهذهِ الأطروحاتُ المتأخرةُ بناتٌ لتلك الكلماتِ العاتيةِ منذُ القِدم ، والمنحرفُ الأثيمُ فرعون قال : ? مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ? . وقال : ? أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ? .
ويا لها من كفريَّاتٍ دمَّرَتِ العالم .
يقولُ جايمس ألين ، مؤلفُ كتاب « مثلما يفكرُ الإنسانُ » : « سيكتشفُ الإنسانُ أنهُ كلما غيَّر أفكاره إزاء الأشياءِ والأشخاصِ الآخرين ، ستتغيرُ الأشياءُ والأشخاصُ الآخرون بدورِهِمْ .. دعْ شخصاً ما يغيِّرُ أفكارهُ ، وسندهشُ للسرعةِ التي ستتغيرُ بها ظروفُ حياتِهِ الماديةِ ، فالشيءُ المقدَّسُ الذي يشكِّل أهدافنا هو نفسنا .. » .
وعن الأفكارِ الخاطئةِ وتأثيرِها ، يقولُ سبحانه: ?بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً ? . ? يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ? .
ويقولُ جايمس ألين أيضاً : « وكلُّ ما يُحقِّقه الإنسانُ هو نتيجةٌ مباشرةٌ لأفكارهِ الخاصَّةِ .. والإنسانُ يستطيعُ النهوض فقطْ والانتصارَ وتحقيق أهدافِهِ منْ خلالِ أفكارِهِ ، وسيبقى ضعيفاً وتعِساً إذا ما رفض ذلك » .
قال سبحانه عن العزيمةِ الصادقةِ والفكرِ الصائبِ : ? وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ ? .
وقال تعالى : ? وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ ? .
وقال : ? فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ? .
*****************************************
لا تحزنْ للتوافِهِ فإنّ الدنيا بأسْرها تافهةٌ
رُمي أحدُ الصالحين الكبارُ بين براثِنِ الأسدِ ، فأنجاه اللهُ منه ، فقالوا له : فيم كنت تفكِّر ؟ قال : أفكِّر في لعابِ الأسدِ ، هلْ هو طاهرٌ أم لا !! . وماذا قال العلماءُ فيهِ .
ولقد ذكرتُ الله ساعة خوفِهِ
للباسلين مع القنا الخطَّارِ
فنسيتُ كلَّ لذائذٍ جيَّاشةٍ
يوم الوغى للواحدِ القهارِ
إنَّ الله – جلَّ في علاه – مايز بين الصحابةِ بحسبِ مقاصدهِمْ ، فقال : ? مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ? .
ذكر ابنُ القيم أنَّ قيمة الإنسانِ همتُه ، وماذا يريدُ ؟! .
وقال أحدُ الحكماءِ : أخبرْني عن اهتمامِ الرجلِ أُخبرْكَ أيُّ رجلٍ هو .
ألا بلَّغ اللهُ الحمى من يريدُهُ
وبلَّغ أكناف الحِمى من يريدُها
وقال آخرُ :
فعادوا باللّباسِ وبالمطايا
وعدْنا بالملوكِ مصفَّدينا
انقلب قاربٌ في البحرِ ، فوقع عابدٌ في الماءِ ، فأخذ يوضِّئ أعضاءه عضواً عضواً ، ويتمضمضُ ويستنشقُ ، فأخرجهُ البحرُ ونجا ، فسئل عنْ ذلك ؟ فقال : أردتُ أن أتوضأ قبل الموتِ لأكون على طهارةٍ .
للهِ دَرُّك ما نسيت رسالةً
قدسيةً ويداك في الكُلاَّبِ(/41)
أفديكَ ما رمشتْ عيونُك رمشةُ
في ساعةُ والموتُ في الأهدابِ
الإمامُ أحمدُ في سكراتِ الموتِ يشيرُ إلى تخليلِ لحيتِهِ بالماءِ وهمُ يوضِّئونه !!
? فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ ? .
***********************************
العفو العفوَ
فإنك إنْ عفوت وصفحتَ نلت عزَّ الدنيا وشرفَ الآخرةِ : ? فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ? .
يقولُ شكسبيرُ : « لا توقدِ الفرن كثيراً لعدِّوك ، لئلاَّ تحرق به نفسك » .
فقلْ للعيونِ الرُّمدِ للشمسِ أعينٌ
تراها بحقٍّ في مغيبٍ ومطْلعِ
وسامحْ عيوناً أطفأ اللهُ نورها
بأبصارِها لا تستفيقُ ولا تعي
وقال أحدُهم لسالمِ بنِ عبدِالله بنِ عمر العالمِ التابعيِّ : إنك رجلُ سوء! فقال : ما عَرَفَني إلاَّ أنت .
قال أديبٌ أمريكيٌ : « يمكنُ أن تحطِّم العِصيُّ والحجارةُ عظامي ، لكنلنْ تستطيع الكلماتُ النيْل مني » .
قال رجل لأبي بكر : واللهِ لأسبنَّك سبّاً يدخلُ معك قبرك ! فقال أبو بكر : بلْ يدخلُ معك قبرك أنت !! .
وقال رجلٌ لعمروِ بن العاصِ : لأتفرغنَّ لحربِك . قال عمروٌ الآن وقعت في الشغلِ الشاغِلِ .
يقولُ الجنرالُ أيزنهاور: «دعونا لا نضيِّعُ دقيقةً من التفكيرِ بالأشخاصِ الذين لا نحبُّهم»
قالتِ البعوضةُ للنخلةِ : تماسكي ، فإني أريدُ أنْ أطير وأدَعَكِ . قالتِ النخلةُ : واللهِ ما شعرتُ بكِ حين هبطتِ عليَّ ، فكيف أشعرُ بكِ إذا طرتِ ؟!
قال حاتمٌ :
وأغفرُ عوراء الكريم ادِّخارهُ
وأُعرضُ عن شتْم اللئيمِ تكرُّما
قال تعالى :? وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً ? . وقال تعالى : ? وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ? .
قال كونفوشيوس : « إنَّ الرجل الغاضب يمتلئ دائماً سُمّاً » .
وفي الحديثِ : (( لا تغضبْ ، لا تغضبْ ، لا تغضبْ )) .
وفيه : (( الغضبٌ جمرةٌ من النار )) .
إنَّ الشيطان يصرعُ العبدَ عند ثلاثٍ : الغضبِ ، والشَّهوةِ ، والغَفْلَةِ .
*****************************
العالم خُلِق هكذا
يقولُ ماركوس أويليوس – وهو من أكثر الرجالِ حكمةً ممن حكموا الإمبراطورية الرومانية – ذات يوم : « سأقابلُ اليوم أشخاصاً يتكلَّمون كثيراً ، أشخاصاً أنانيِّين جاحدين ، يحبُّون أنفسهم، لكن لن أكون مندهشاً أو منزعجاً من ذلك، لأنني لا أتخيلُ العالم من دونِ أمثالهم »!
يقولُ أرسطو : « إنَّ الرجل المثاليَّ يفرحُ بالأعمالِ التي يؤديها للآخرين ، وبخجلُ إن أدى الآخرون الأعمال لهُ ، لأن تقديم العطفِ هو من التفوقِ ، لكنْ تلقِّي العطفِ هو دليلُ الفشل » .
وفي الحديث : (( اليدُ العليا خيرٌ من اليدِ السفلى )) .
والعليا هي المعطيةُ ، والسفلى هي الآخذةُ .
******************************************
لا تَحْزَنْ إذا كان معك كِسْرةُ خُبْزٍ
وغرفةُ ماءٍ وثوْبٌ يَسْتُرُكَ
ضلَّ أحدُ البحارةِ في المحيطِ الهادي وبقي واحداً وعشرين يوماً ، ولما نجا سألهُ الناسُ عن أكبرِ درسٍ تعلَّمه ، فقال : إنَّ أكبر درسٍ تعلمتُه منْ تلك التجربةِ هو : إذا كان لديك المال الصافي ، والطعامُ الكافي ، يجبُ أنْ لا تتذمَّر أبداً !
قال أحدُهم : الحياةُ كلُّها لقمةٌ وشَرْبَةٌ ، وما بقي فضلٌ .
وقال ابنُ الوردي :
مُلْكُ كِسرى عنهُ تُغني كِسرةٌ
وعنِ البحرِ اجتزاءٌ بالوشلْ
يقولُ جوناثان سويفت : « إنَّ أفضل الأطباءِ في العالمِ همْ : الدكتورُ ريجيم، والدكتورُ هادئ ، والدكتورُ مرِح ، وإنَّ تقليل الطعامِ مع الهدوءِ والسرورِ علاجٌ ناجعٌ لا يسألُ عنه » .
قلتُ : لأنَّ السمنة مرضٌ مزمنٌ ، والبطنةُ تُذهبُ الفِطنةَ والهدوُء متعةٌ للقلبِ وعيدٌ للروحِ ، والمرحُ سرورٌ عاجلٌ وغذاءٌ نافعٌ .
*************************************
لا تحزَنْ من محنةٍ فقدْ تكونُ منْحة
ولا تحزنْ من بليَّةٍ فقد تكونُ عطية
قال الدكتورُ صموئيل جونسون : « إن عادة النظر إلى الجانبِ الصالحِ من كلِّ حادثةٍ ، لهو أثمنُ من الحصول على ألفِ جنيهٍ في السنةِ » .
?أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ?.
وعلى الضدِّ يقولُ المتنبي :
ليت الحوادث باعتني التي أخذتْ
مني بحلمي الذي أعطتْ وتجريبي
وقال معاوية : لا حليم إلا ذو تجربة .
قال أبو تمامٍ في الأفشين :
كمْ نعمةٍ لله كانتْ عندهُ
فكأنها في غُربةٍ وإسارِ
قال أحدُ السَّلفِ لرجلٍ من المترفين : إني أرى عليك نعمةً ، فقيِّدْها بالشكرِ .
قال تعالى : ? لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ? ، ? وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ? .(/42)
***********************************
كن نفسك
يقولُ الدكتور جايمس غوردون غليلكي : « إنَّ مشكلة الرغبةِ في أنْ تكون نفسك ، هي قديمةٌ قِدَمَ التاريخ ، وهي عامَّةٌ كالحياةِ البشريةِ . كما أنَّ مشكلة عدمِ الرغبةِ هي في أن تكون نَفسك هي مصدرُ الكثيرِ من التوترِ والعُقدِ النفسيةِ » .
وقال آخر : « أنت في الخليقةِ شيءٌ آخرُ لا يشبهك أحدٌ ، ولا تشبهُ أحداً ، لأنَّ الخالق – جلّ في علاه – مايز بين المخلوقين » . قال تعالى : ? إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ? .
كتب إنجيلو باتري ثلاثة عشَرَ كتاباً، وآلاف المقالاتِ حول موضوعِ «تدريبِ الطفلِ» ، وهو يقولُ : « ليس من أحدٍ تعِسٍ كالذي يصبو إلى أنْ يكون غيْر نفسهِ ، وغَيْرَ جسدهِ وتفكيرِه » .
قال سبحانه وتعالى : ? أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ? .
لكلٍّ صفاتٌ ومواهبُ وقدراتٌ فلا يذوبُ أحدٌ في أحدٍ .
أَوْرَدَهَا سعدٌ وسعدٌ مُشتَمِلْ
ما هكذا تُورَدُ يا سعْدُ الإبِلْ
إنكَ خُلقت بمواهب محدَّدةٍ لتودي عملاً محدَّداً ، وكما قالوا : اقرأ نفسكَ ، واعرف ماذا تقدِّمُ .
قال أمرسونُ في مقالتِهِ حول « الاعتمادِ على النفسِ » : « سيأتي الوقتُ الذي يصلُ فيه علمُ الإنسانِ إلى الإيمانِ بأنَّ الحَسَدَ هو الجَهْلُ ، والتقليدَ هو الانتحارُ ، وأن يعتبر نفسه كما هي مهما تكنِ الظروفُ ؛ لأنَّ ذاك هو نصيبُه . وأنهُ رغم امتلاءِ الكون بالأشياءِ الصالحةِ ، لنْ يحصل على حبَّةِ ذُرةٍ إلا بعد زراعةِ ورعايةِ الأرضِ المعطاةِ لهُ ، فالقوى الكامنةُ في داخلِهِ ، هي جديدةٌ في الطبيعةِ ، ولا أحد يعرفُ مدى قدرتِه ، حتى هو لا يعرفُ ، حتى يجرِّب » .
? وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ? .
*********************************
وقفة
هذه آياتٌ تقوِّي من رجائِك ، وتشدُّ عَضُدَك ، وتحسِّنُ ظنَّك بريِّك .
? قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ? .
? وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ? .
? وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ? .
? وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ? .
? أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ? .
? الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{173} فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ? .
? وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ{44} فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا? .
*****************************************
رُبَّ ضارةِ نافعةٌ
يقولُ وليم جايمس : « عاهاتُنا تساعدُنا إلى حدٍّ غَيْرِ متوقَّعٍ ، ولو لمْ يعشْ دوستيوفسكي وتولستوي حياةً أليمةً لما استطاعا أنْ يكتبا رواياتِهما الخالدةَ ، فاليُتمُ ، والعمى ، والغربةُ ، والفقرُ ، قد تكونُ أسباباً للنبوغِ والانجازِ ، والتقدمِ والعطاءِ » .
قد ينُعمُ اللهُ بالبلوى وإنْ عظمتْ
ويبتلي اللهُ بعض القومِ بالنعمِ
إنَّ الأبناء والثراءَ ، قد يكونون سبباً في الشقاءِ : ? فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ? .
ألَّف ابنُ الأثيرِ كُتبهُ الرائعة ، كـ : «جامعِ الأصولِ»، و «النهايةِ»، بسببِ أنهُ مُقْعَدٌ .
وألَّف السرخسي كتابه الشهير « المبسوط » خمسة عشر مجلَّداً ؛ لأنهُ محبوسٌ في الجُبِّ!
وكتب ابنُ القيم ( زاد المعاد ) وهو مسافرٌ !
وشرح القرطبيُّ ( صحيح مسلم ) وهو على ظهرِ السفينةِ !
وجُلُّ فتاوى ابنِ تيمية كتبها وهو محبوسٌ !
وجمع المحدِّثون مئاتِ الآلافِ من الأحاديثِ لأنهمْ فقراءُ غرباءُ .
وأخبرني أحدُ الصالحين أنه سُجن فحفظ في سجنِهِ القرآن كلَّه ، وقرأ أربعين مجلَّداً !
وأملى أبو العلاء المعري دواوينه وكُتُبه وهو أعمى !
وعمي طه حسين فكتب مذكّراته ومصنَّفاتِه !(/43)
وكم من لامعٍ عُزِل من منصبِه ، فقدَّم للأمةِ العلم والرأي أضفاف ما قدَّم مع المنصبِ .
يقولُ فرانسيسُ بايكون : « قليلٌ من الفلسفةِ يجعلُ الإنسان يميلُ إلى الإلحادِ ، لكنَّ التعمُّق في الفلسفةِ يقرِّب عقل الإنسان من الدِّينِ » .
? وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ? . ? إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ? .
? وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ? .
? قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ? .
يقولُ الدكتورُ أ. أ . بريل : « إنّ أيَّ مؤمنٍ حقيقي لنْ يُصاب بمرضٍ نفسيٍّ » .
? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ? .
? مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ? .
? وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? .
**********************************
الإيمانُ أعظمُ دواء
يقول أبرزُ أطباءِ النفسِ الدكتورُ كارل جائغ في الصفحة (264) من كتابِهِ « الإنسانُ الحديثُ في بحثهِ عنِ الروحِ » : « خلال السنواتِ الثلاثين الماضيةِ ، جاء أشخاصٌ من جميعِ أقطارِ العالمِ لاستشارتي ، وقد عالجتُ مئاتِ المرضى ، ومعظمُهم في منتصفِ مرحلةِ الحياةِ ، أيْ فوق الخامسةِ والثلاثين من العمرِ ، ولمْ يكنْ بينهمْ من لا تعودُ مشكلتُه إلى إيجادِ ملجأ ديني يتطلَّع من خلالِهِ إلى الحياةِ ، وباستطاعتي أنْ أقول : إن كلاّ منهم مرِض لأَّنهُ فقد ما مَنحهُ الدينُ للمؤمنين ، ولم يُشْف من لمْ يستعِد إيمانه الحقيقيَّ » .
? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ? .
? سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ ? .
? ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ? .
**************************************
اللهُ يجيبُ المُضْطرَّ
كاد المهاتما غاندي – الزعيمُ الهنديُّ بعد بوذا – ينهارُ لولا أنه استمدَّ الإلهام من القوةِ التي تمنحُها الصلاةُ ، وكيف لي أنْ أعلم ذلك ؟ لأنَّ غاندي نفسهُ قال : لو لمْ أصلِّ لأصبحتُ مجنوناً منذُ زمنٍ طويلٍ .
هذا وغاندي ليس مسلماً ، وإنما هو على ضلالةٍ ، لكنهُ على مذهبِ : ? فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ? . ? أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ? . ? وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ? .
سبرتُ أقوال علماءِ الإسلامِ ومؤرخيهم وأدبائِهمْ في الجملةِ ، فلمْ أجدْ ذاك الكلام عن القلقِ والاضطرابِ والأمراضِ النفسيةِ ، والسببُ أنهم عاشوا من دينِهمْ في أمن وهدوءٍ ، وكانتْ حياتُهم بعيدةً عن التعقيدِ والتكلُّفِ : ? وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ? .
اسمعْ قول أبي حازمٍ ، إذْ يقولُ : « إنما بيني وبين الملوكِ يومٌ واحدٌ ، أما أمسِ فلا يجدون لذَّته ، وأنا وهُمْ منْ غدٍ على وَجَلٍ ، وإنما هو اليومُ ، فما عسى أن يكون اليومُ ؟! » .
وفي الحديثِ: (( اللهمَّ إني أسالُك خَيْرَ هذا اليومٍ : بركته ونَصْرَهُ ونُورَهُ وهدايتَهُ )).
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ ? وقولٌه تعالى : ? وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ? .
وقال الشاعر :
فإنْ تكنِ الأيامُ فينا تبدِّلتْ
بِبُؤسى ونُعْمَى والحوداثُ تفعلُ
فما ليَّنتْ منّا قناةً صليبة
ولا ذللتنا للتي ليس تجملُ
ولكنْ رحلناها نفوساً كريمةً
تُحمَّلُ مالا يُستطاعُ فتحملُ
وقيْنا بحسنِ الصبر منَّا نفوسنا
وصحَّتْ لنا الأعراضُ والناسُ هُزَّلُ
? وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ{147} فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ ? .
****************************************
لا تحزنْ فالحياةُ أقصرُ ممَّا تتصوَّرُ(/44)
ذكر دايلْ كارنيجي قصَةَ رجل أصابَتْه قُرْحةٌ في أمعائه ، بلغ منْ خطورتِها أنَّ الأطباء حدَّدوا لهُ أوان وفاتِهِ ، وأوعزُوا إليه أنْ يجهِّزَ كَفَنَهُ . قال : وفجأة اتخذ « هاني » - اسم المريضِ – قراراً مدهشاً إنهُ فكَّرَ في نفسِهِ : إذا لم يبق لي في هذهِ الحياةِ سوى أمدٍ قصيرٍ ، فلماذا لا أستمتعُ بهذا الأمدِ على كلِّ وجه ؟ لطالما تمنيتُ أنْ أطوف حول العالمِ قبل أنْ يدركني الموتُ ، ها هو ذا الوقتُ الذي أحقِّق فيه أمنيتي . وابتاع تذكرة السفر ، فارتاع أطباؤه ، وقالوا له : إننا نحِذّرُك ، إنك إن أقدمت على هذهِ الرحلةِ فستدفنُ في قاعِ البحرِ !! لكنه أجاب : كلا لنْ يحدث شيءٌ من هذا ، لقدْ وعِدتُ أقاربي ألا يدفن جثماني إلا في مقابرِ الأسرةِ . وركب « هاني » السفينة ، وهو يتمثَّل بقولِ الخيامِ :
تعال نروي قصةً للبشرْ
ونقطعُ العمرَ بحُلْوِ السَّمَرْ
فما أطال النومُ عمراً وما
قصَّرَ في الأعمارِ طولُ السّهرْ
وهذه أبيات يقولها وثنٌّي غير مسلم .
وبدأ الرجلُ رحلةً مُشبعةً بالمرحِ والسرورِ ، وأرسل خطاباً لزوجتِهِ يقولُ فيه : لقد شربتُ وأكلتُ ما لذَّ وطاب على ظهرِ السفينِة ، وأنشدتُ القصائد ، وأكلتُ ألوان الطعامِ كلَّها حتى الدَّسِم المحظور منها، وتمتعتُ في هذه الفترةِ بما لم أتمتعْ به في ماضي حياتي. ثم ماذا؟!
ثم يزعمُ دايل كارنيجي أنَّ الرجل صحَّ من علَّتِهِ ، وأنَّ الأسلوب الذي سار عليه أسلوبٌ ناجعٌ في قهْرِ الأمراضِ ومغالبةِ الآلامِ !!
إنني لا أوافقُ على أبياتِ الخيَّامِ ، لأنَّ فيها انحرافاً عن النهج الرَّبانيِّ ، ولكنَّ المقصود من القصةِ : أن السرور والفرح والارتياح أعظمُ بكثيرٍ من العقاقيرِ الطبيَّة .
****************************************
اقنع واهدأ
قالَ ابنُ الروميِّ :
قرَّب الحِرْصُ مركباً لِشقيّ
إنما الحِرْصُ مركبُ الأشقياءِ
مرحباً بالكفافِ يأتي هنيئاً
وعلى المُتعباتِ ذيلُ العفاءِ
? وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ? .
يقول دايل كارنيجي : « لقدْ أثبت الإحصاءُ أنّ القَلَقَ هو القائلُ ( رقم1) في أمريكا ، ففي خلالِ سنِّي الحربِ العالميةِ الأخيرةِ ، قُتِلَ من أبنائِنا نحو ثُلُثِ مليون مقاتلٍ ، وفي خلالِ هذه الفترةِ نفسِها قضى داءُ القلبِ على مليونيْ نسمةٍ . ومن هؤلاءِ الأخيرين مليونُ نسمةٍ كان مرضهُمْ ناشئاً عنِ القلقِ وتوتُّرِ الأعصابِ » .
نعمْ إنَّ مرض القلبِ من الأسباب الرئيسيةِ التي حدتْ بالدكتورِ « ألكسيس كاريل » على أن يقول: «إن رجال الأعمالِ الذين لا يعرفون كيف يكافحون القلق ، يموتون مبكِّرين»
والسببُ معقولٌ ، والأجلُ مفروغٌ منه : ? وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً ? .
وقلَّما يمرضُ الزنوجُ في أمريكا أو الصينيون بأمراضِ القلبِ ، فهؤلاءِ أقوامٌ يأخذون الحياة مأخذاً سهلاً ليِّناً ، وإنك لترى أن عدد الأطباءِ الذين يموتون بالسكتةِ القلبيةِ يزيدُ عشرين ضِعْفاً على عددِ الفلاحين الذين يموتون بالعلَّة نفسِها ، فإنَّ الأطباء يحيوْن حياةً متوترةً عنيفةً ، يدفعون الثمن غالياً . « طبيبٌ يداوي الناس وهو عليلُ » !!
*******************************
الرضا بما حصل يُذهبُ الحُزْن
وفي الحديث : (( ولا نقولُ إلا ما يُرضي ربَّنا )) .
إنَّ عليك واجباً مقدَّساً ، وهو الانقيادُ والتسليمُ إذا داهمك المقدورُ، لتكون النتيجةُ في صالحِك ، والعاقبةُ لك ؛ لأنك بهذا تنجو من كارثةِ الإحباطِ العاجلِ والإفلاسِ الآجلِ .
قال الشاعرُ :
ولما رأيتُ الشِّيْب لاح بعارضي
ومَفْرِقِ رأسي قلتُ للشَّيب مرحبا
ولو خِفْتُ أني إنْ كَفَفْتُ تحيتي
تنكَّب عني رُمْتُ أنْ يتنكبا
ولكن إذا ما حلَّ كُرْهٌ فسامحتْ
به النفسُ يوماً كان للكُرْهِ أذهبا
لا مفرَّ إلا أن تؤمن بالقدرِ ، فإنهُ سوف ينفُذُ ، ولو انسلخت من جلدِك وخرجت من ثيابِك !!
نُقِلَ عن إيمرسون في كتابه « القدرةُ على الإنجازِ » حيث تساءل : « منْ أين أَتَتْنا الفكرةُ القائلةُ : إن الحياة الرغدة المستقرةَ الهادئة الخالية من الصعابِ والعقباتِ تخلقُ سعداء الرجالِ أو عظماءهم ؟ إنَّ الأمر على العكسِ ، فالذين اعتادوا الرثاء لأنفسهِمْ سيواصلون الرثاءَ لأنفسهم ولو ناموا على الحريرِ ، وتقلَّبُوا في الدِّمقسِ . والتاريخُ يشهدُ بأنَّ العظمة والسعادة الخبيثُ ، وبيئاتٌ لا يتميزُ فيها بين طيبٍ وخبيثٍ ، في هذه البيئاتِ نَبَتَ رجالٌ حملوا المسؤولياتِ على أكتافِهم ، ولم يطرحوها وراء ظهورِهم » .(/45)
إنَّ الذين رفعوا علم الهدايةِ الربانيَّةِ في الأيامِ الأولى للدعوةِ المحمدية هم الموالي والفقراءُ والبؤساءُ ، وإنَّ جُلَّ الذين صادمُوا الزحف الإيمانيَّ المقدَّس همْ أولئك المرموقون والوجهاءِ والمترفون : ? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ? . ? وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ? . ?أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ? . ? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ? . ? قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ? . ? وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ{31} أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ? .
وإني لأذكرُ بيتاً لعنترة ، وهو يخبرُنا أنَّ قيمته في سجاياه ومآثِرِهِ ونُبْلِهِ لا في أصلِهِ وعنصرِهِ ، يقولُ :
إن كنتُ فإني سيدٌ كَرَماً
أوْ أسود اللونِ إني أبيضُ الخُلُقِ
*****************************************
إنْ فقدت جارحةً من جوارحك
فقدْ بقيتْ لك جوارحُ
يقولُ ابنُ عباس :
إنْ يأخذِ اللهُ من عينيَّ نورهما
ففي لساني وسمعي منهما نورُ
قلبي ذكيٌّ وعقلي غيرُ ذي عِوجٍ
وفي فمي صارمٌ كالسيفِ مأثورُ
ولعلَّ الخير فيما حَصَلَ لك من المصابِ ، ?وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ?.
يقولُ بشَّارُ بنُ بُرْدٍ :
وعيَّرني الأعداءُ والعيبُ فيهمو
فليس بعارٍ أن يُقال ضريرُ
إذا أبصر المرءُ المروءة والتُّقى
فإنَّ عمى العينينِ ليس يضيرُ
رأيتُ العمى أجراً وذُخراً وعِصْمةً
وإني إلى تلك الثلاثِ فقيرُ
انظرْ إلى الفرقِ بين كلامِ ابنِ عباسٍ وبشَّارِ ، وبين ما قاله صالحُ بن عبدالقدوسِ لمَّا عَمي :
على الدنيا السلامُ فما لشيخٍ
ضريرِ العينِ في الدنيا نصيبُ
يموتُ المرءُ وهو يُعَدُّ حيّاً
ويُخلِفُ ظنَّهُ الأملُ الكذوبُ
يُمنِّيني الطبيبُ شفاء عيني
فإنَّ البعض مِن بعضٍ قريبُ
إن القضاء سوف ينفذُ لا محالة ، على القابِل لهُ والرافضِ لهُ ، لكنَّ ذاك يُؤجَرُ ويسْعَدُ ، وهذا يأثمُ ويشقى .
كتب عمرُ بن عبدالعزيزِ إلى ميمون بن مهران : كتبت تعزّيني على عبدالملكِ ، وهذا أمرٌ لم أزل أنتظرهُ ، فلمّا وقع لم أُنكِرْهُ .
*********************************
الأيامُ دُولٌ
يُروى أنّ أحمد بن حنبل – رحمه الله- زار بقيَّ بن مخلدٍ في مرضٍ له فقال له : « يا أبا عبدالرحمن ، أبشرْ بثوابِ اللهِ ، أيامُ الصِّحِّةِ لا سُقمَ فيها ، وأيامُ السقمِ لا صحَّة فيها .. » .
والمعنى : أن أيام الصحةِ لا يعرضُ المرضُ فيها بالبالِ ، فتقوى عزائمُ الإنسانِ ، وتكثر آمالُه ، ويشتدُّ طموحُه . وأيامُ المرضِ الشديدِ لا تعرضُ الصحةُ بالبالِ ، فيخيِّم على النفسِ ضعف الأملِ ، وانقباض الهمَّةِ وسلطان اليأس . وقولُ الإمامِ أحمد مأخوذٌ من قولهِ تعالى : ?وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ{9} وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ{10} إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ? .
قال الحافظُ ابنُ كثيرٍ – رحمهُ اللهُ - : « يخبرُ اللهُ تعالى عن الإنسانِ وما فيهِ من الصفاتِ الذميمةِ ، إلا منْ رحم اللهُ من عبادِهِ المؤمنين ، أنه إذا أصابتْه شدَّةٌ بعد نعمةٍ ، حصل له يأسٌ وقنوطٌ من الخيرِ بالنسبةِ إلى المستقبلِ ، وكفرٌ وجحودٌ لماضي الحالِ ، كأنه لم ير خيراً ولم يرجُ فرجاً » .
وهكذا إن أصابتهُ نعمةٌ بعد نقمةٍ : ? لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ? .
أي يقولُ : ما ينالني بعد هذا ضيمٌ ولا سوءٌ ، ? إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ? .
أي فرح بما في يدِهِ ، بطرٌ فخورٌ على غيره . قال اللهُ تعالى : ? إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ? .
***************************************
سيروا في الأرض
قال أحدُهُمْ : السفرُ يذهبُ الهموم .
قال الحافظُ الرامهرمزيُّ في كتابِهِ « المحدِّثُ الفاضلُ » ، في بيانِ فوائدِ الرحلةِ في طلبِ العلمِ والمتعِ الحاصلةِ بها ، ردّاً على من كرِه الرحلة وعابها ما يلي :(/46)
« ولو عَرَفَ الطاعنُ على أهلِ الرِّحلةِ مقدار لذَّةِ الرَّاحلِ في رحلتِهِ ونشاطِهِ عند فصولِهِ منْ وطنهِ ، واستلذاذِ جميعِ جوارحِهِ ، عند تصرُّفِ الأقطارِ وغياضِها ، وحدائِقِها ، ورياضِها ، وتصفُّح الوجوهِ ، ومشاهدةِ ما لمْ ير منْ عجائبِ البلدانِ ، واختلافِ الألسنةِ والألوانِ ، والاستراحةِ في أفياءِ الحيطانِ ، وظلالِ الغيطانِ ، والأكلِ في المساجدِ ، والشربِ من الأوديةِ ، والنومِ حيثُ يدركهُ الليلُ ، واستصحابِ منْ يحبُّهُ في ذاتِ اللهِ بسقوطِ الحشمةِ ، وتركِ التصنُّعِ ، وكلِّ ما يصلُ إلى قلبهِ من السرورِ عنْ ظفرِهِ ببغيتِهِ ، ووصولِهِ إلى مقصدِهِ ، وهجومِهِ على المجلسِ الذي شمَّرَ لهُ ، وقطع الشُّقَّةَ إليه – لعلَّمَهُ أنَّ لذَّاتِ الدنيا مجموعةٌ في محاسن تلك المشاهدِ ، وحلاوةِ تلك المناظرِ ، واقتناصِ تلك الفوائدِ ، التي هي عند أهلِها أبهى منْ زهرِ الربيعِ ، وأنفسُ من ذخائرِ العِقيانِ ، من حيثُ حُرِمها الطاعنُ وأشباهُهُ » .
قوِّضْ خيامك عنْ ربْهٍ أُهِنْت بهِ
وجانِبِ الذُّلَّ إنَّ الذُّلَّ يُجتَنَبُ
*******************************************
وقفةٌ
((إنَّ الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم، فمنْ رضي فله الرِّضا، ومنْ سخطَ فَلَهُ السَّخْطُ)) .
(( أشدُّ الناسِ بلاء الأنبياءُ ، ثمَّ الأمثلُ فالأمثلُ يُبتلى الرجلُ على قدرِ دينهِ ، فإنْ كان في دينهِ صلابةٌ أشتدَّ بلاؤه ، وإن كان في دينه رقَّةٌ ابتُلي على قدرِ دينه ، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ ، حتى يتركهُ يمشي على الأرضِ وما عليه خطيئةٌ )) .
(( عجباً لأمرِ المؤمنِ إنَّ أمرَّهُ كلَّه خيرٌ !! وليس ذاك لأحدِ إلا للمؤمنِ ، إن أصابتْه سرَّاء شكر فكان خيراً له ، وإنْ أصابتهُ ضرَّاء صبر فكان خيراً له )) .
(( واعلمْ أنَّ الأمة لو اجتمعتْ على أنْ ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبُ اللهُ لك ، وإنِ اجتمعوا على أنْ يضرُّوك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قدْ كتبهُ اللهُ عليك )).
(( يُبتلى الصالحون الأمثلُ فالأمثلُ )) .
(( المؤمنُ كالخامةِ من الزرعِ تُفيِّئُها الريحُ يَمنْةً ويَسْرةً )) .
********************************************
حتَّى في سكراتِ الموتِ تبسَّمْ
فهذا أبو الريحانِ البيرونيُّ ( ت440 ) ، مع الفسحةِ في التعميرِ فقدْ عاش 78 سنةً مُكِبّاً على تحصيلِ العلومِ ، مُنْصَبّاً إلى تصنيفِ الكتبِ ، يفتحُ أبوابها ويحيطُ بشواكلِها وأقرابِها – يعنى : بغوامضِها وجليّاتِها – ولا يكادُ يفارقُ يده القلمُ ، وعينه النظرُ ، وقلبه الفكرُ ، إلا فيما تمسُّ إليه الحاجةُ في المعاشِ منْ بُلْغة الطعامِ وعلقةِ الرياشِ ، ثم هِجِّيراهُ – أي دَيْدَنُهُ – في سائرِ الأيامِ من السنةِ : علمٌ يُسفرُ عن وجههِ قناع الإشكالِ ، ويحسرُ عن ذراعيْةِ أكمالُ الإغلاقِ .
حدَّث الفقيهُ أبو الحسنِ عليُّ بنُ عيسى ، قال : دخلتُ على أبي الريحانِ وهو يجودُ بِنفْسِهِ – أيْ وهو في نزْعِ الروحِ قارب الموتَ – قد حشرجتْ نفسُهُ ، وضاق بها صدرُهُ ، فقال لي في تلك الحالِ : كيف قلت لي يوماً حسابُ الجدَّاتِ الفاسدةِ ؟ أيْ الميراثُ ، وهي التي تكونُ من قِبل الأمِّ ، فقلتُ له إشفاقاً عليه : أفي هذهِ الحالةِ ؟ قال لي : يا هذا ، أودِّعُ الدنيا وأنا عالمٌ بهذهِ المسألة ، ألا يكون خيراً من أنْ أخلِّيها وأنا جاهلٌ بها ؟! فأعدتُ ذلك عليهِ ، وحفِظَ وعلَّمني ما وعد ، وخرجتُ من عندِهِ فسمعتُ الصراخ!! إنها الهممُ التي تجتاحُ ركام المخاوفِ .
والفاروقُ عمرُ في سكراتِ الموتِ ، يثعبُ جرحُه دماً ، ويسألُ الصحابة : هلْ أكمل صلاتهُ أمْ لا ؟! .
وسعدُ بنُ الربيع في (( أُحدٍ)) مضرَّج بدمائِهِ ، وهو يسألُ في آخرِ رَمَقٍ عن الرسولِ ( ، إنها ثباتةُ الجأشِ وعمارُ القلبِ !
وقفتَ ما في الموتِ شكٌّ لواقفِ
كأنك في جفنِ الردى وهو نائمُ
تمرُّ بكَ الأبطالُ كلمى هزيمةً
ووجهُك وضاحٌ وثغرُك باسمُ
قال إبراهيمُ بنُ الجراحِ : مرض أبو يوسف فأتيتُه أعودُه ، فوجدتُه مُغْمىً عليهِ ، فلمَّا أفاق قال لي : ما تقولُ في مسألةٍ ؟ قلتُ : في مثلِ هذه الحالِ ؟! قال : لا بأس ندرسُ بذلك لعلَّه ينجو به ناجٍ .
ثم قال : يا إبراهيمُ ، أيُّما أفضلُ في رمي الجمارِ : أن يرميها الرجلُ ماشياً أو راكباً ؟ قلتُ : راكباً . قال : أخطأت . قلتُ : ماشياً . قال : أخطأت . قلتُ : أيُّهما أفضلُ ؟ قال : ما كان يُوقفُ عندهُ فالأفضلُ أنْ يرميه ماشياً ، وأما ما كان لا يُوقفُ عنده ، فالأفضلُ أن يرميه راكباً ، ثم قمتُ من عندهِ فما بلغتُ باب دارِهِ حتى سمعتُ الصراخ عليه وإذا هو قدْ مات . رحمةُ الله عليه .(/47)
قال احدُ الكُتَّابِ المعاصرين : هكذا كانوا !! الموتُ جاثمٌ على رأسِ أحدِهِمْ بكُربِهِ وغُصَصِهِ ، والحشرجةُ تشتدُّ في نفسِهِ وصدرِهِ ، والأغماءُ والغشيانُ محيطٌ بهِ ، فإذا صحا أو أفاق من غشيتِهِ لحظاتٍ ، تساءل عنْ بعضِ مسائلِ العلمِ الفرعيَّةِ أو المندوبةِ ، ليتعلَّمها أو ليعلِّمها ، وهو في تلك الحالِ التي أخذ فيها الموتُ منه الأنفاس والتلابيب .
في موقفٍ نسي الحليمُ سدادهُ
ويطيشُ فيه النابِهُ البيْطارُ
يا للهِ ما أغلى العلم على قلوبِهمْ !! وما أشغلَ خواطرهُمْ وعقولَهُمْ به !! حتى في ساعةِ النزعِ والموتِ ، لم يتذكروا فيها زوجةً أو ولداً قريباً عزيزاً ، وإنما تذكروا العلم !! فرحمةُ اللهِ تعالى عليهمْ . فبهذا صاروا أئمة في العلمِ والدِّينِ .
*********************************
أسرارُ الشدائدِ
أورد المؤرخُ الأديبُ أحمدُ بنُ يوسف الكاتبُ المصريُّ في كتابِهِ المعجبُ الفريدُ (المكافأةُ وحسنُ العُقبى ) فقال : وقدْ علم الإنسانُ أن سُفورَ الحالةِ – أي انكشاف الغُمَّةِ والشدَّةِ – عن ضدِّه ، حَتْمٌ لابدَّ منه ، كما علم أنَّ انجلاء الليلُ يسفرُ عن النهار ، ولكنَّ خور الطبيعةِ أشدُّ ما يلازمُ النفس عندَ نزولِ الكوارثِ ، فإذا لم تُعالجْ بالدواءِ ، اشتدّتِ العلةُ ، وازدادتِ المحنةُ ، لأن النفس إذا لم تُعَنْ عند الشدائدِ بما يجدّدُ قُواها ، تولَّى عليها اليأسُ فأهلكها .
والتفكُّرُ في أخبارِ هذا البابِ – بابِ أخبارِ من ابتلي فصبر ، فكان ثمرةُ صبرِه حسن العقبى – ممَّا يُشجِّع النفْس ، ويبعثُها عن ملازمةِ الصبرِ وحسنِ الأدبِ مع الربِّ عزَّ وجلَّ ، بحسنِ الظنِّ في موافاةِ الإحسانِ عند نهايةِ الامتحانِ .
وقال أيضاً – في آخر الكتابِ - : « خاتمةٌ : قال بُزُرْجمْهَرُ : الشدائدُ قبل المواهبِ ، تشبهُ الجوع قبل الطعامِ ، يحسُّ بهِ موقُعُهُ ، ويلذُّ معه تناولهُ » .
وقال أفلاطونُ : « الشدائدُ تُصلِحُ من النفسِ بمقدارِ ما تفسدُ من العيشِ ، والتَّترُّف – أي الترفُ والترفُّه – يفسدُ من النفسِ بمقدارِ ما يصلحُ من العيشِ » .
وقال أيضاً : « حافظ على كلِّ صديقٍ أهدتْه إليك الشدائدُ ، والْه عنْ كلِّ صديقٍ أهدتْه إليك النعمةُ » .
وقال أيضاً : « الترفُّفهُ كالليلِ ، لا تتأملْ فيه ما تصدرُه أو تتناولُه ، والشدة كالنهارِ ، ترى فيها سعيك وسعي غيرِك » .
وقالُ أزدشير : « الشدَّةُ كُحْلٌ ترى به ما لا تراه بالنعمة » .
ويقول أيضاً : « ومِلاكُ مصلحةِ الأمرِ في الشدَّةِ شيئان : أصغرُهما قوةُ قلبِ صاحبِها على ما ينوبُه ، وأعظمُها حُسْنُ تفويضِهِ إلى مالكِهِ ورازقِهِ » .
وإذا صَمَدَ الرجلُ بفكرِهِ نَحْوَ خالقِهِ ، علم أنهُ لمْ يمتحِنْه إلا بما يوجبُ له مثوبةً ، أو يمحِّصُ عنه كبيرةً ، وهو مع هذا من اللهِ في أرباحٍ متصلةٍ ، وفوائد متتابعةٍ .
فأما إذا اشتدَّ فكرُهُ تلقاء الخليقةِ ، كثرتْ رذائلُه ، وزاد تصنُّعه ، وبرِم بمقامِه فيما قصُر عن تأمُّلهِ ، واستطال من المِحنِ ما عسى أن ينقضي في يومِهِ ، وخاف من المكروهِ ما لعلَّه أنْ يخطئهُ .
وإنما تصدقُ المناجاةِ بين الرجلِ وبين ربِّهِ ، لعلمِهِ بما في السرائرِ وتأييدِهِ البصائر ، وهي بين الرجلِ وبين أشباهِهِ كثيرةُ الأذيةِ ، خارجةٌ عن المصلحةِ .
وللهِ تعالى رَوْحٌ يأتي عند اليأسِ منهُ ، يُصيبُ به منْ يشاءُ من خلقِهِ ، وإليهِ الرغبةُ في تقريبِ الفرجِ ، وتسهيلِ الأمرِ ، والرجوعِ إلى أفضلِ ما تطاول إليه السُّؤْلُ ، وهو حسبي ونِعْم الوكيلُ .
طالعتُ كتاب ( الفرجُ بعد الشدةِ ) للتنوخيِّ ، وكرَّرتُ قراءته فخرجتُ منه بثلاثِ فوائدَ :
أنَّ الفرج بعد الكربِ سنَّةٌ ماضيةٌ وقضيةٌ مُسلَّمةٌ ، كاليحِ بعد الليلِ ، لا شكَّ فيه ولا ريب .
أنَّ المكاره مع الغالبِ أجملُ عائدةً ، وأرفعُ فائدةً للعبدِ في دينِهِ ودنياهُ من المحابِّ .
أنَّ جالب النفعِ ودافع الضرِّ حقيقةٌ إنما هو الله جلَّ في علاه ، واعلمْ أنّ ما أصابك لم يكنْ لِيخطِئك وما أخطأك لمْ يكنْ ليصيبك .
**************************************
حقارةُ الدنيا
يقولُ ابنُ المباركِ العالمُ الشهير : قصيدةُ عديِّ بنِ زيدٍ أحبُّ غليَّ من قصرِ الأميرِ طاهرِ بنِ الحسينِ لو كان لي .
وهي القصيدةُ الذائعةُ الرائعةُ ، ومنها :
أيُّها الشامتُ المُعيِّرُ بالدَّهْـ
ـرِ أأنت المبرَّؤُ الموفورُ
أمْ لديك العهدُ الوثيقُ من الأيَّـ
ـامِ بلْ أنت جاهلٌ مغرورُ
أيْ : يا من شمِت بمصائبِ الآخرين، هل عندك عهدٌ أنْ لا تصيبك أنت مصيبةٌ مثلُهم؟! أم هلْ منحتْك الأيامُ ميثاقاً لسلامتِك من الكوارثِ والمحنِ ؟! فلماذا الشماتةُ إذنْ ؟(/48)
وفي الحديثِ الصَّحيِحِ : (( لوْ أنَّ الدنيا تساوي عند اللهِ جناح بعوضةِ ، ما سقى كافراً منها شربة ماءٍ )) . إنّ الدنيا عند اللهِ تعالى أهونُ من جناحِ البعوضةِ ، وهذه حقيقةُ قيمتِها ووزنِها ، فلِم الجزعُ والهلعُ عليها ومن أجلهِا ؟!
السعادةُ : أنْ تشعر بالأمنِ على نفسِك ومستقبلك وأهلِك ومعيشتِك ، وهي مجموعةٌ في الإيمانِ والرضا اللهِ وقضائهِ وقدرهِ ، والقناعةُ : الصبرُ .
*****************************************
قيمةُ الإيمانِ
? بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ ? .
من النعيمِ الذي لا يدركُهُ إلاَّ الفطناءُ : نظرُ المسلمِ إلى الكافرِ ، وتذكُّرُ نعمةِ اللهِ في الهدايةِ إلى دين الإسلامِ ، وأنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يقدِّرْ لك أنْ تكون كهذا الكافرِ في كفرِه بربِّه وتمرُّدهِ عليهِ ، وإلحادِه في آياتِه ، وجحودِ صفاتِه ، ومحاربتِه لمولاهُ وخالقِه ورازقِه ، وتكذيبِه لرسلِه وكتبه ، وعصيانِهِ أوامرهُ ، ثم تذكَّرْ أنت أنَّك مسلمٌ موحِّدٌ ، تؤمنُ باللهِ ورسولهِ واليومِ الآخرِ ، وتؤدِّي الفرائض ولو على تقصيرٍ ، فإنَّ هذا في حدِّ ذاته نعمةٌ لا تُقدَّر بثمن ولا تُباعُ بمالٍ ، ولا تدورُ في الحسبانِ ، وليس لها شبيهٌ في الأعيانِ : ? أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ ? .
حتى ذكر بعضُ المفسرين أنَّ مِنْ نعيمِ أهلِ الجنَّةِ نظُرهم إلى أهِل النارِ ، فيشكرون ربَّهم على هذا النعيمِ : « وبضدِّها تتميزُ الأشياءُ » .
*************************************
وقفةٌ
لا إله إلا اللهُ : أيْ لا معبود بحقٍّ إلا اللهُ سبحانهُ وتعالى ، لتفرُّدِهِ بصفاتِ الألوهيَّةِ ، وهي صفاتُ الكمالِ .
روحُ هذه الكلمةِ وسرُّها : إفرادُ الربِّ – جلَّ ثناؤه وتقدَّستْ أسماؤُه ، وتبارك اسمُه ، وتعالى جدُّه ، ولا إله غيرُهُ – بالمحبةِ والإجلالِ والتعظيمِ ، والخوفِ والرجاءِ ، وتوابعِ ذلك من التوكّلِ والإنابةِ والرغبةِ والرهبةِ ، فلا يُحبُّ سواهُ ، وكلُّ ما يُحبُّ غيرُه فإنما يُحبُّ تبعاً لمحبتِه ، وكونِه وسيلةً إلى زيادةِ محبتِه ، ولا يُخافُ سواهُ ولا يُرجى سواهُ ، ولا يُتوكَّل إلا عليهِ ، ولا يُرغبُ إلا إليهِ ، ولا يُرهبُ إلا منهُ ، ولا يُحلفُ إلا باسمِهِ ، ولا يُنذرُ إلا لهُ ، ولا يُتابُ إلا إليهِ ، ولا يُطاعُ إلا أمرُه ، ولا يتحسَّبُ إلا بهِ ، ولا يُستغاثُ في الشدائدِ إلا به ، ولا يُلتجأ إلا إليهِ ، ولا يُسجدُ إلا لهُ ، ولا يُذبحُ إلا له وباسمِهِ ، ويجتمعُ ذلك في حرفٍ واحدٍ ، وهو : أنْ لا يُعبد إلا إياهُ بجميعِ أنواعِ العبادةِ .
******************************************
معاقون متفوقون
في ملحقِ عُكاظٍ العددُ 10262 في 7 / 4 / 1415 هـ ، مقابلةٌ مع كفيف يُدعى : محمود بن محمدٍ المدنيَّ ، درس كتب الأدبِ بعيونِ الآخرين ، وسمع كتب التاريخِ والمجلاتِ والدورياتِ والصحف ، وربما قرأ بالسماعِ على أحدِ أصدقائِه حتى الثالثةِ صباحاً حتى صار مرجعاً في الأدب والطُّرفِ والأخبار .
كتب مصطفى أمين في زاويةِ ( فكرة ) في الشرقِ الأوسطِ كلاماً ، منه : اصبرْ على كيد الكائدين ، وظلمِ الظالمين ، وسطوةِ الجبابرةِ ، فإنَّ السوط سوف يسقطُ ، والقيد سوف ينكسرُ ، والمحبوس سوف يخرجُ ، والظلام سوف ينقشعُ ، لكن عليك أن تصبر وتنتظر .
وَلَرُبَّ نازلةٍ يضيقُ بها الفتى
ذرْعاً وعِند الله منها المخرجُ
قابلتُ في الرياضِ مفتي ألبانيا ، وقد سُجن عشرين سنةً مِن قبل الشيوعيين في ألبانيا مع الأعمالِ الشاقَّةِ ، والحبسِ والكيدِ ، والنكَّالِ والظلمِ ، والظلامِ وجوعِ ، وكان يصلِّى الصلواتِ الخمس في ناحيةٍ من دورةِ المياه خوفاً منهمْ ، ومع هذا صَبَرَ واحتسب حتى جاءهُ الفرجُ ، ? فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ ? .
هذا ( نلسون مانديلا ) رئيس جنوبِ أفريقيَّة ، سُجن سبعاً وعشرين سنةً ، وهو ينادي بحريَّةِ أمَّتهِ ، وخلوصِ شعبهِ من القهرِ والكبتِ والاستبدادِ والظلمِ ، وهو مُصِرٌّ صامدٌ مواصلٌ مستميتٌ ، حتى نال مجدهُ الدنيويَّ . ? نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ? ? إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ? .
وأشجعُ مني كُلّ يومٍ سلامتي
وما ثبتتْ إلا وفي نفسِها أَمْرُ
? إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ? .
**********************************
لا تحزن إذا عرفت الإسلام(/49)
ما أشقى النفوس التي لا تعرفُ الإسلام ، ولم تهتدِ إليه ، إنَّ الإسلام يحتاجُ إلى دعايةٍ منْ أصحابهِ وحَمَلتِهِ ، وإعلان عالميٍّ هائل ، لأنهُ نبأ عظيمٌ ، والدعايةُ له يجبُ أن تكون راقيةً مهذبةً جذابةً ، لأنَّ سعادة البشريةِ لا تكونُ إلا في هذا الدينِ الحقِّ الخالدِ ، ? وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ? .
سكن داعيةٌ مسلمٌ شهيرٌ مدينة ميونخ الألمانية ، وعند مدخلِ المدينةِ تُوجدُ لوحةٌ إعلانيةٌ كبرى مكتوبٌ عليها بالألمانيةِ : « أنت لا تعرفُ كفراتِ يوكوهاما » . فنصب هذا الداعيةُ لوحةً كبرى بجانب هذه اللوحةِ كتب عليها : « أنت لا تعرفُ الإسلام ، إنْ أردت معرفتهُ ، فاتصل بنا على هاتفِ كذا وكذا » . وانهالتْ عليه الاتصالاتْ من الألمانِ منْ كلِّ حَدَبٍ وصوب ، حتى أسلم على يدهِ في سنةِ واحدة قرابة مائة ألفِ ألمانيٍّ ما بين رجلٍ وامرأةٍ وأقام مسجداً ومركزاً إسلامياً ، وداراً للتعليمِ .
إن البشرية حائرٌ بحاجةٍ ماسَّةِ إلى هذا الدينِ العظيمِ ، ليردَّ إليها أمنها وسكينتها وطمأنينتها ، ? يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? .
يقول أحدُ العُبَّادِ الكبارِ : ما ظننتُ أنَّ في العالمِ أحداً يعبدُ غير الله .
لكنْ ? وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ? ، ? وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ? ، ? وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ? .
وقد أخبرني أحدُ العلماءِ أن سودانيّاً مسلماً قدم من البادية إلى العاصمةِ الخرطومِ في أثناءِ الاستعمارِ الإنكليزيِّ ، فرأى رجل مرورٍ بريطانيّاً في وسطِ المدينةِ ، فسأل هذا المسلمُ : منْ هذا ؟ قالوا : كافرٌ . قال : كافرٌ بماذا ؟ قالوا : باللهِ . قال : وهلْ أحدٌ يكفرُ بالله ؟! فأمسك على بطنِهِ ثمَّ تقيَّأ ممَّا سمع ورأى ، ثم عاد إلى الباديةِ . ? فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ? .!
يقولُ الأصمعيُّ : سمع أعرابيٌّ يقرأُ : ? فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ? ، قال الأعرابيَّ : سبحان اللهِ ، ومن أحوج العظيم حتى يقسم ؟!
إنه حسنُ الظنِّ والتطلُّعُ إلى كرمِ المولى وإحسانِه ولطفه ورحمته .
وقد صحَّ في الحديثِ أنَّ الرسول ( قال : (( يضحك ربُّنا )) . فقال أعرابيٌّ : لانعدامُ منْ ربٍّ يضحكُ خيراً .
? وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا ? ، ? إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ? ? أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ? .
منْ يقرأُ كتب سيرِ الناسِ وتراجم الرجالِ يستفيدُ منها مسائل مطَّرِدةً ثابتةً منها :
أنَّ قيمة الإنسانِ ما يُحسنُ ، وهي كلمةٌ لعليِّ بن أبي طالبٍ ، ومعناها : أنَّ علم الإنسانِ أو أدبهُ أو عبادتهُ أو كرمهُ أو خلقهُ هي في الحقيقةِ قيمتُهُ ، وليستْ صورتُه أو هندامُهُ ومنصبُهُ : ? عَبَسَ وَتَوَلَّى{1} أَن جَاءهُ الْأَعْمَى ? . ? وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ? .
بقدرِ همَّةِ الإنسانِ واهتمامِهِ وبذلِهِ وتضحيِتَه تكونُ مكانُتُه ، ولا يعطى لهُ المجْدُ جُزافاً .
لا تحسبِ المجد تمراً أنت آكلُهُ ..
? وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً ? . ? وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ? .
أنَّ الإنسان هو الذي يصنعُ تاريخه بنفسِهِ بإذنِ الله ، وهو الذي يكتبُ سيرتهُ بأفعالِهِ الجميلةِ أو القبيحةِ : ? وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ? .
وإنَّ عمر العبدِ قصيرٌ ينصرمُ سريعاً ، ويذهبُ عاجلاً ، فلا يقصره بالذنوبِ والهمومِ والغمومِ والأحزانِ : ? لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ? . ? قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ ? .
كفى حزناً أنَّ الحياة مريرةٌ
ولا عملٌ يرضى بهِ اللهُ صالحُ
منْ أسبابِ السعادةِ :
العملُ الصالحُ : ? مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ?.
الزوجةُ الصالحةُ : ? رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ? .
البيتُ الواسعُ : وفي الحديثِ : (( اللهمّ وسِّعْ لي في داري )) .
الكسْبُ الطيبُ : وفي الحديثِ : (( إنَّ الله طيِّبٌ لا يقبلُ إلا طيِّباً )) .
حُسْنُ الخُلقُ والتودُّدُ للناسِ : ? وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ ? .(/50)
السلامةُ من الدَّيْنِ ، ومن الإسرافِ في النفقةِ : ? لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ? . ? وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ? .
مقومات السعادةِ :
قلبٌ شاكرٌ ، ولسانٌ ذاكرٌ ، وجسمٌ صابرٌ .
وعليك بالشكر عن النعم والصبر عند النقم والاستغفار من الذنوب .
لوْ جمعتُ لك علْم العلماءِ ، وحكمة الحكماءِ ، وقصائد الشعراءِ عنِ السعادةِ ، لما وجدتها حتى تعزم عزيمةً صادقة على تذوُّقِها وجَلْبِها ، والبحثِ عنها وطرْدِ ما يضادُّها : « منْ أتاني يمشي أتيتهُ هرولةً » .
ومن سعادةِ العبدِ : كتمُ أسرارِهِ وتدبيرِه أمورهُ .
ذكروا أنّ أعربيّاً استُؤمن على سرٍّ مقابل عشرةِ دنانير ، فضاق ذرعاً بالسرِّ ، وذهب إلى صاحبِ الدنلنيرِ ، وردَّها عليهِ مقابل أنْ يُفشي السرَّ ، لأنَّ الكتمان يحتاجُ إلى ثباتٍ وصبرٍ وعزيمةٍ : ? لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ? ، لأنَّ نِقاط الضعفِ عند الإنسانِ كشفُ أوراقِهِ للناسِ ، وإفشاءُ أسرارِه لهمْ ، وهو مرضٌ قديمٌ ، وداءٌ متأصِّلٌ في البشريةِ ، والنفسُ مُولعةٌ بإفشاءِ الأسرارِ ، ونقْلِ الأخبار . وعلاقةُ هذا بموضوعِ السعادةِ أنَّ منْ أفشى أسراره فالغالبُ عليه أن يندم ويحزن ويغْتمَّ .
وللجاحظِ في الكتمانِ كلامٌ خلاَّبٌ في رسائلِهِ الأدبيةِ ، فليعُدْ إليها منْ أراد . وفي القرآن : ? وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ? ، وهذا أصلٌ في كتمانِ السرِّ ، والأعرابيُّ يقول : وأكتمُ السرَّ فيه ضربةُ العنقِ .
***************************************
لن تموت قبل أجلِك
? فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ? .
هذه الآيةُ عزاءٌ للجبناءِ الذين يموتون مراتٍ كثيرةً قبل الموتِ ، فلْيعلموا أنَّ هناك أجلاً مسمى ، لا تقديم ولا تأخير ، لا يعجِّلُ هذا الموت أحدٌ ، ولا يؤجِّله بشرٌ ، ولو اجتمع أهل الخافقيْن ، وهذا في حدِّ ذاتهِ يجلبُ للعبدِ الطمأنينة والسكينة والثبات : ? وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ? .
واعلمْ أنَّ التعلُّق بغيرِ اللهِ شقاءٌ : ? فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ ? .
( سِيَرُ أعلامِ النبلاءِ ) للذهبيِّ ثلاثةٌ وعشرون مجلداً ، ترجم فيها للمشاهيرِ من العلماءِ والخلفاءِ والملوكِ والأمراءِ والوزراءِ والأثرياءِ والشعراءِ ، وباستقراءِ هذا الكتابِ تجدُ حقيقتين مهمتين :
الأولى : أنَّ منْ تعلَّق بغيرِ اللهِ منْ مالٍ أو ولدٍ أو منصبٍ أو حرفةٍ ، وكلهُ اللهُ إلى هذا الشيءِ ، وكان سبب شقائِهِ وعذابِهِ ومحْقِهِ وسحقِهِ : ? وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ? . فرعونُ والمنصِبُ قارونُ والمالُ ، وأُميَّةُ بنُ خلفٍ والتجارةُ ، والوليدُ والولدُ : ? ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ? .
أبو جهل والجاهُ ، أبو لهبٍ والنسبُ ، أبو مسلم والسلطةُ ، المتنبئ والشهرةُ ، والحجَّاج والعلوُّ في الأرضِ ، ابنُ الفراتِ والوزارةُ .
الثانيةُ : أنَّ منِ اعتزَّ باللهِ وعمل له وتقرَّب منه ، أعزَّه ورفعه وشرَّفه بلا نسبٍ ولا منصبٍ ولا أهلٍ ولا مالٍ ولا عشيرةٍ : بلالُ والأذانُ ، سلمانُ والآخرةُ ، صُهيبٌ والتضحيةُ ، عطاءٌ والعِلْمُ ، ? وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا ? .
***************************************
« يا ذا الجلالِ والإكرامِ »
صحَّ عنه ( أنهُ قال : « ألظُّوا بيا ذا الجلالِ والإكرامِ » . أي الزموها ، وأكثرُوا منها ، وداوموا عليها ، ومثلُها وأعظمْ : يا حيُّ يا قيومْ . وقيل : إنه الاسمُ الأعظمُ لربِّ العالمين الذين إذا دُعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى . فما للعبدِ إلا أنْ يهتف بها وينادي ويستغيث ويدمن عليها ، ليرى الفرَجَ والظفرَ والفلاحَ : ? إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ? .
في حياةِ المسلمِ ثلاثةُ أيامٍ كأنها أعيادٌ :
يومٌ يؤدّي فيه الفرائض جماعةً ، ويسْلمُ من المعاصي: ? اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم ? .
ويومٌ يتوبُ فيه من ذنبِهِ ، وينخلعُ من معصيتِهِ ، ويعودُ إلى ربِهِ : ? ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ ?.
ويومٌ يلقى فيه ربِّه على خاتمةٍ حسنةٍ وعملٍ مبرورٍ : ((مَنْ أحبَّ لقاء الله أحبَّ اللهُ لقاءهُ )) .
وبشّرتُ آمالي بشخصٍ هو الورى
ودارٍ هي الدنيا ويومٍ هو الدهرُ
قرأتُ سِير الصحابة – رضوانُ اللهِ عليهم - ، فوجدتُ في حياتِهمْ خمس مسائل تميزُهم عنْ غيرِهمْ :
الأولى : اليُسْرُ في حياتِهِمْ ، والسهولةُ وعدم التكلُّف ، وأخذ الأمور ببساطة ، وترك التنطع والتعمُّق والتشديد : ? وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ? .(/51)
الثانيةَ : أن عِلْمهم غزيرٌ مباركٌ متصلٌ بالعملِ ، لا فضولَ فيه ولا حواشي ، ولا كثرة كلامٍ ، ولا رغوة أو تعقيد : ? إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ? .
الثالثةَ : أنَّ أعمال القلوبِ لديهمْ أعظمُ من أعمالِ الأبدانِ ، فعندهُمُ الإخلاصُ والإنابُةُ والتوكلُ والمحبةُ والرغبةُ والرهبةُ والخشْيةُ ونحوُها ، بينما أمورُهم ميسَّرةٌ في نوافلِ الصلاةِ والصيامِ ، حتى إن بعض التابعين أكثرُ اجتهاداً منهمْ في النوافلِ الظاهرةِ : ? فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ? .
الرابعة : تقلُّلهمْ من الدنيا ومتاعِها ، وتخفُّفُهم منها ، والإعراضُ عن بهارجها وزخارفِها ، مما أكسبهم راحةً وسعادةً وطمأنينةً وسكينةً : ? وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ? .
الخامسة : تغليبُ الجهادِ على غيرِه من الأعمالِ الصالحةِ ، حتى صار سِمةً لهمْ ، ومعْلماً وشعاراً . وبالجهادِ قضوْا على همومِهم وغمومِهم وأحزانِهمْ ، لأنَّ فيه ذكراً وعملاً وبذلاً وحركةً .
فالمجاهدُ في سبيل اللهِ منْ أسعدِ الناسِ حالاً ، وأشرحِهم صدْراً وأطيبهِم نفساً : ?وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ? .
في القرآن حقائقُ وسُننٌ لا تزولُ ولا تحولُ ، أذكرُ ما يتعلقُ منها بسعادةِ العبدِ وراحةِ بالِهِ ، منْ هذِهِ السُّننِ الثابتةِ :
أنَّ منِ استنصر باللهِ نَصَرَهُ : ? إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ? . ومنْ سألهُ أجابهُ : ? ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ? . ومن استغفره غَفَرَ له : ? فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ? . ومنْ تاب إليه قبل منه : ? وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ? . ومنْ توكَّل عليهِ كفاهُ : ? وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ? .
وأنَّ ثلاثةً يعجِّلُها اللهُ لأهلِها بنكالِها وجزائها : البغيُ : ? إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم ? ، والنكثُ : ? فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ? ، والمكرُ : ? وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ? . وأنَّ الظالم لنْ يفلت من قبضةِ اللهِ : ? فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ? . وأنَّ ثمرة العملِ الصالحِ عاجلةٌ وآجلةٌ ، لأنَّ الله غفورٌ شكورٌ : ? فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ ? ، وأن من أطاعه أحبَّه : ? فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ? . فإذا عَرَفَ العبدُ ذلك سعد وسُرَّ ، لأنه يتعاملُ مع ربٍّ يرزقُ ويَنْصُرُ : ? إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ? ، ? وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ ? ، ويغفرُ : ? وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ ? ، ويتوبُ : ? إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ? ، وينتقمُ لأوليائه منْ أعدائِهِ : ? إِنَّا مُنتَقِمُونَ ? ، فسبحانه ما أكملهُ وأجلًّهُ : ? هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ? ؟! .
للشيخِ عبدِالرحمنِ بنِ سعديٍّ – رحمهُ اللهُ – رسالةٌ قيِّمةٌ اسمُها ( الوسائلُ المفيدةُ في الحياةِ السعيدةِ ) ، ذكر فيها : « إنَّ منْ أسبابِ السعادةِ أنْ ينظر العبدُ إلى نعمِ اللهِ عليه ، فسوف يرى أنهُ يفوقُ بها أمماً من الناسِ لا تُحْصى ، حينها يستشعرُ العبدُ فضل اللهِ عليه » .
أقولُ : حتى في الأمورِ الدينيَّةِ مع تقصيرٍ العبدِ ، يجُد انه أعلى منْ فئامٍ من الناسِ في المحافظةِ على الصلاةِ جماعةً ، وقراءةِ القرآن والذكرِ ونحْو ذلك ، وهذه نعمةٌ جليلةٌ لا تُقدَّرُ بثمنٍ : ?وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ? .
وقدْ ذكر الذهبيُّ عن المحدِّثِ الكبيرِ ابنِ عبدِ الباقي انه : استعرض الناس بعد خروجِهم من جامعِ ( دارِ السلامِ ) ببغداد ، فما وَجَدَ أحداً منهمُ يتمنَّى أنه مكانه وفي مسلاخه .
ولهذِهِ الكلمةِ جانبٌ إيجابيٌّ وسلبيٌّ : ? وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ? .
كلُّ هذا الخلْقِ غِرٌّ وأنا
منهمُ فاتركْ تفاصيل الجُمَلْ
****************************************
وقفةٌ
عن أسماء بنتِ عُميْسٍ – رضي اللهُ عنها – قالتْ : قال لي رسولُ الله ( :
(( ألا أُعلِّمكِ كلماتٍ تقولِينهُن عند الكرْبِ . أو في الكرْبِ . ؟ : اللهُ اللهُ ربِّي لا أُشركُ به شيئاً )) .
وفي لفظٍ : (( منْ أصابهُ همٌّ أو غمٌّ أو سقمٌ أو شِدَّةٌ ، فقال : اللهُ ربي ، لا شريك له . كُشِف ذلك عنه )) .
« هناك أمورٌ مظلمةٌ تورِدُ على القلبِ سحائب متراكماتٍ مظلمةً ، فإذا فرَّ إلى ربِّهِ ، وسلّم أمره إليهِ ، وألقى نفسهُ بين يديهِ مِنْ غيرِ شرِكةِ أحدٍ من الخلقِ ، كشَفَ عنه ذلك ، فأمَّا منْ قال ذلك بقلبٍ غافلٍ لاهٍ ، فهيهات » .
قال الشاعرُ :
وما نبالي إذا أرواحٌنا سلِمتْ
بما فقدناهُ مِنْ مالٍ ومِنْ نَشَبِ(/52)
فالمالُ مكتسبٌ والعِزُّ مُرْتجعٌ
إذا النفوسُ وقاها اللهُ مِنْ عَطَبِ
**********************************
مَن خاف حاسداً
المعوِّذاتُ مع الأذكارِ والدعاءِ عموماً : ? وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ? .
كِتمانُ أمرِك عنِ الحاسِدِ : ? لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ? .
الابتعادُ عنه : ? وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ? .
الإحسانُ إليه لِكفِّ أذاهُ : ? ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? .
************************************
حسِّنْ خلُقكَ
حُسْنُ الخُلُقِ يُمْنٌ وسعادةٌ ، وسُوءُ الخُلُقِ شُؤمٌ وشقاءٌ .
(( إن المرء لَيبْلغ بحسنِ خلُقِهِ درجةَ الصائمِ القائمِ)) . ((ألا أُنبِّئُكم بأحبِّكمُ وأقربِكُمْ منِّي مجلساً يوم القيامةِ ؟! أحاسنُكمْ أخلاقاُ)) . ? وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ?. ? فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ? . ? وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ? .
وتقولُ أمُّ المؤمنين عائشةُ بنتُ الصديق – رضي الله عنهما – في وصفها المعصوم عليه صلاةُ ربي وسلامُه : (( كان خُلُقُهُ القُران )) .
إن سَعَةَ الخُلُق وبَسْطَهَ الخاطرِ : نعيمٌ عاجلٌ وسرورٌ حاضرٌ لمن أراد به اللهُ خيْراً ، وإنَّ سرعة الانفعالِ والحِدَّةِ وثورة الغضبِ : نَكَدٌ مستمرٌّ وعذابٌ مقيمٌ .
*************************************
دواءُ الأرقِ
ماذا يفعلُ منْ أُصيب بالأرقِ ؟
الأرقُ تعسُّرُ النومِ ، والتململُ على الفراشِ .
الأذكارُ الشرعيَّةُ : ? أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ? .
هَجْرُ النومِ بالنهارِ إلا لحاجةٍ ماسَّةٍ :? وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ? .
القراءةُ والكتابةُ حتى النومِ : ? وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ? .
إتعابُ الجسمِ بالعملِ النافعِ نهاراً : ? وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً ? .
التقليلُ منْ شربِ المنبِّهاتِ كالقهوةِ والشايِ .
شكوْنا إلى أحبابِنا طول ليلِنا
فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا
وذاك بأنَّ النوم يُغشِي عيونهم
يقيناً ولا يُغشِي لنا النومُ أعْينا
مرارةُ الذنبِ تنافي حلاوة الطاعةِ ، وبشاشة الإيمانِ ، ومذاق السعادةِ .
يقولُ ابنُ تيمية : المعاصي تمنعُ القلبَ منَ الجولانِ في فضاءِ التوحيدِ : ? قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? .
************************************
عواقب المعاصي
حجابٌ بين العبدِ وربِّه : ? كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ? .
يُوحشُ المخلوق من الخالقِ : إذا ساء فعلُ المرءِ ساءتْ ظنونُه .
كآبةٌ دائمةٌ : ? لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ? .
خوفٌ في القلبِ واضطرابٌ : ? سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ ? .
نكدٌ في المعيشةِ : ? فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ? .
قسوةٌ في القلبِ وظلمةٌ : ? وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ? .
سوادٌ في الوجهِ وعبوسٌ : ? فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم ? .
بغضٌ في قلوبِ الخلْقِ : (( أنتم شهداءُ اللهِ في أرضِهِ )) .
ضيقٌ في الرزقِ : ? وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ? .
غضبُ الرحمنِ ، ونقْصُ الإيمانِ ، وحلولُ المصائبِ والأحزانِ : ? فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ? .? بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ? . ?وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ? .
**************************************
اطلبِ الرزق ولا تحرِصْ
الدودةُ في الطِّينِ يرزقُها ربُّ العالمين: ?وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا?.
الطيورُ في الوكورِ يطعمُها الغفورُ الشكورُ : (( كما يرزقُ الطيرَ ، تغدو خِماصاً وتروحُ بِطاناً )) .
السمكُ في الماءِ يرزقُه ربُّ الأرضِ والسماء : ? يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ? .
وأنت أزكى من الدودةِ والطيرِ والسمكِ ، فلا تحزنْ على رزقِك .(/53)
عرفتُ أناساً ما أصابُهُمُ الفقرَ والكدرُ وضيقُ الصدر إلا بسببِ بعدِهم عن اللهِ عزَّ وجلَّ ، فتجدُ أحدهم كان غنيّاً ، ورزقُه واسعٌ وهو في عافيةٍ منْ ربِّهِ وفي خيرٍ منْ مولاه ، فأعرض عن طاعةِ اللهِ ، وتهاون بالصلاةِ ، واقترف كبائر الذنوبِ ، فسلبَهَ ربُّه عافية بدنِهِ وسعة رزقِهِ ، وابتلاهُ بالفقْرِ والهمِّ والغمِّ ، فأصبح منْ نكدٍ إلى نكدٍ ، ومنْ بلاءٍ إلى بلاءٍ : ? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ? . ? ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ? . ? وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ? . ? وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً ? .
أتبكي على ليلى وأنت قتلتها
هنيئاً مريئاً أيُّها القاتلُ الصَّبُّ
**************************************
? اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ?
سرُّ الهدايةِ
ولنْ يهتدي للسعادةِ ولنْ يجدها ولنْ ينعم بها ، إلا منِ اتبع الصراط المستقيم الذي تركنا محمدٌ ( على طرفِهِ ن وطرفُه الآخرُ في جناتِ النعيمِ : ?وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً?.
فسعادةُ من لزم الصراط المستقيم أنهُ مطمئنٌّ لحسْنِ العاقبةِ ، واثقٌ منْ طيبِ المصيرِ ، ساكنٌ إلى موعودِ ربِّهِ ، راضٍ بقضاءِ مولاهُ ، مخبتٌ في سلوكِهِ هذا السبيلُ ، يعلمُ انَّ له هادياً يهديهِ على هذا الصراطِ ، وهو معصومٌ لا ينطقُ عن الهوى ، ولا يتبعُ منْ غوى ، قَوْلُهُ حجَّةٌ على الورى ، محفوظٌ منْ نزغاتِ الشيطانِ ، وعثراتِ القرانِ ، وسقطاتِ الإنسانِ : ? لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ? .
وهذا العبدُ يجدُ السعادة في سلوكِهِ هذا الصراط ؛ لأنهُ يعلمُ أنَّ له إلهاً ، وأمامهُ أسوةً ، وبيدِهِ كتاباً ، وفي قلبِه نوراً ، وفي خلدِه ، واعظاً ، وهو ذاهبٌ إلى نعيمٍ ، وعاملٌ في طاعةٍ ، وساعٍ إلى خيرٍ : ? ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ? .
أين ما يُدعى ظلاماً يا رفيق الدربِ أينْا
إنَّ نور اللهِ في قلبي وهذا ما أراهُ
وهما صراطان : معنويٌّ وحِسِّيٌّ ، فالمعنويٌّ : صراطُ الهدايةِ والإيمانِ ، والحسيُّ : الصراطُ على متْنِ جهنم ، فصراطُ الإيمانِ على متنِ الدنيا الفانيةِ له كلاليبٌ من الشهواتِ ، والصراطُ الأخرويُّ على متْنِ جهنم له كلاليبُ كشوكِ السعدانِ ، فمنْ تجاوز هذا الصراط بإيمانِهِ تجاوز ذاك الصراط على حسْبِ إيقانهِ ، وإذا اهتدى العبدُ إلى الصراطِ المستقيمِ زالتْ همومُه وغمومُه وأحزانُه .
*******************************************
عشرُ زهِراتٍ يقطفُها منْ أراد الحياة الطيبة
جلسةٌ في السَّحر للاستغفارِ : ? وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ? .
وخلوةٌ للتفكُّرِ : ? وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? .
ومجالسةُ الصالحين : ? وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ? .
والذِّكْر : ? اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ? .
وركعتانِ بخشوعٍ : ? الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ? .
وتلاوةٌ بتدبُّرٍ : ? أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ? .
وصيامُ يومٍ شديدِ الحرِّ : (( يدع طعامه وشرابه وشهواته منْ أجلي )) .
وصدقةٌ في خفاءٍ : (( حتى لا تعلم شمالهُ ما تنفقُ يمينُه )) .
وكشْفُ كربةٍ عنْ مسلمٍ : (( منْ فرَّج عنْ مسلمِ كربةً منْ كُربِ الدنيا فرَّج اللهُ عنه كربةً منْ كربِ يومِ القيامةِ )) .
وزهْدٌ في الفانيةِ : ? وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ? .
تلك عشرةٌ كاملةٌ .
منْ شقاءِ ابنِ نوحٍ قولُه : ? سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء ? . ولو أوى إلى ربِّ الأرضِ والسماءِ لكان أجلَّ وأعزَّ وأمنع .
ومن شقاءِ النمرودِ قولهُ : أنا أُحيي وأُميتُ . فتقمَّص ثوباً ليس له ، واغتصب صفةً لا تحلُّ له ، فُبِهِت وخسأ وخاب .
? فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ? .
مفتاحُ السعادةِ كلمةٌ ، وميراثُ الملَّةِ عبارةٌ ، ورايةُ الفلاحِ جملةٌ ، فالكلمةُ والعبارةُ والجملةُ هي : لا إله إلا اللهُ . محمدٌ رسولُ اللهِ ( .
سعادةُ منْ نطقها في الأرضِ : أن يُقال لهُ في السماءِ : صدقْتَ : ? وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ? .
وسعادةُ منْ عمل بها : أنْ ينجو من الدمارِ والشَّنارِ والعارِ والنارِ : ? وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ ? .
وسعادةُ منْ دعا إليها : أنْ يٌعان ويُنْصَرَ ويُشْكَرَ : ? وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ? .
وسعادةُ منْ أحبَّها : أنْ يُرفع ويُكرَمَ ويُعزَّ : ? وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ? .(/54)
هتف بها بلالٌ الرقيقُ فأصبح حرّاً : ? يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ ? .
وتلعثم في نطقهاِ أبو لهبٍ الهاشميُّ ، فمات عبداً ذليلاً حقيراً : ? وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ? .
إنها الإكسيِرُ الذي يحولِّ الركام البشريَّ الفاني إلى قممٍ لإيمانيةٍ ربانيةٍ طاهرةٍ : ? وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا ? .
لا تفرحْ بالدنيا إذا أعرضْت عنِ الآخرةِ ، فإنَّ العذاب الواصب في طريقِك ، والغلَّ والنَّكالُ ينتظرُك : ? مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ{28} هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ ? . ? إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ? .
ولا تفرحْ بالولدِ إذا أعرضت عن الواحدِ الصمدِ ، فإنَّ الإعراض عنه كلُّ الخذلانِ ، وغايةُ الخسرانِ ، ونهايةُ الهوانِ : ? وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ? .
ولا تفرحْ بالأموالِ إذا أسأت الأعمال ، فإنَّ إساءة العمل محقٌ للخاتمةِ وتبابٌ في المصيرِ ، ولعنةٌ في الآخرةِ : ? وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى ? ? وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ? .
*************************************
وقفةٌ
(( يا حيُّ يا قيومُ برحمتِك أستغيثُ )) : في رفع هذا الدعاءِ مناسبةٌ بديعةٌ ، فإنَّ صفة الحياةِ متضمِّنةً لجميع صفاتِ الكمالِ ، مستلزمةٌ لها ، وصفةُ القيَّوميةُ متضمِّنةٌ لجميعِ صفاتِ الأفعالِ ، ولهذا كان اسمُ اللهِ الأعظمُ الذي إذا دُعِيَ به أجاب ، وإذا سُئل به أعطى : هو اسمُ الحيُّ القيومُ . والحياةُ التامَّة تضادُّ جميع الأسقامِ والآلام ؛ ولهذا لما كمُلتْ حياةُ أهلِ الجنةِ ، لمْ يلحقْهُمْ همُّ ولا غمٌّ ولا حَزَنٌ ولا شيءٌ من الآفاتِ . ونقصانُ الحياةِ تضرُّ بالأفعالِ ، وتنافي القيومية ، فكمالُ القيوميةِ لكمالِ الحياةِ ، فالحيُّ المطلقُ التامُّ الحياةِ لا تفوتُه صفةُ الكمالِ ألبتة ، والقيومُ لا يتعذَّرُ عليه فعْل ممكن ألبتة ، فالتوسلُ بصفةِ الحياةِ والقوميةِ له تأثيرٌ في إزالةِ ما يُضادُّ الحياةَ ويضرُّ بالأفعالِ .
قال الشاعرُ :
لعمْرُك ما المكروهُ منْ حيث تتَّقي
وتخشى ولا المحبوبُ من حيثُ تَطْمَعُ
وأكثرُ خوفِ الناسِ ليس بكائنِ
فما درْكُ الهمِّ الذي ليس ينفعُ
*************************************
تعامَلْ معَ الأمرِ الواقعِ
إذا هوَّنت ما قدْ عزَّ هان ، وإذا أيسْت من الشيءِ سلتْ عنهُ نفسُك : ? سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ? .
قرأتُ أنَّ رجلاً قفز منْ نافذةٍ وكان بأصبعِه اليسرى خاتم ، فنشب الخاتمُ بمسمارِ في النافذةِ ، ومع سقوطِ الرجلِ اقتلع المسارُ أصبعه من أصلها ، وبقي بأربعُ أصابع ، يقولُ عنْ نفسِهِ : لا أكادُ أتذكَّرُ أن لي أربعُ أصابع في يدٍ فحسبُ ، أو أنني فقدتُ أصبُعاً من أصابعِي إلا حينما أتذكرُ تلك الواقعةَ ، وإلا فعلمي على ما يرامُ ، ونفسي راضيةٌ بما حدث : (( قدّر اللهُ وما شاء فعل )) .
وأعرفُ رجلاً بُتِرتْ يدُه اليسرى من الكتِفِ لمرضٍ أصابهُ ، فعاش طويلاً وتزوَّج ، ورُزق بنين ، وهو يقودُ سيارتهُ بطلاقةٍ ، ويؤدي عمله بارتياحٍ ، وكأنَّ اللهِ لم يخلقْ له إلا يداً واحدةً : (( ارض بما قسم اللهُ لك ، تكنْ أغنى الناس )) .
ما أسرع ما نتكيَّف مع واقعِنا ، وما أعجب ما نتأقلمُ مع وضعِنا وحياتِنا ، قبل خمسين سنةً كان قاعُ البيتِ بساطاً منْ حصيرٍ النخلِ ، وقربة ماءٍ ، وقدراً منْ فخارٍ ، وقصعةً ، وجفنةً، وإبريقاً ، وقامتْ حياتُنا واستمرتْ معيشتُنا ، لأننا رضينا وسلَّمنا وتحاكمْنا إلى واقعِنا.
والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبْتها
وإذا تُردُّ إلى قليلٍ تقْنعُ(/55)
وقعتْ قتنةٌ بين قبيلتينِ في الكوفةِ في المسجدِ الجامعِ ، فسلُّوا سيوفهم ، وامتشقوا رماحهم ، وهاجتْ الدائرةُ ، وكادتِ الجماجمُ تفارقُ الأجسادَ ، وانسلَّ أحدُ الناسِ من المسجدِ ليبحث عن المُصْلحِ الكبيرِ والرجلِ الحليمِ ، الأحنفِ بنِ قيسٍ ، فوجدهُ في بيتِه يِحلبُ غنمه ، عليه كساءٌ لا يساوي عشرة دراهم ، نحيلُ الجسمِ ، نحيفُ البنيةِ ، أحنفُ الرجلين ، فأخبروه الخبرَ فما اهتزتْ في جسمِهِ شعرةٌ ولا اضطرب ؛ لأنه قدِ اعتاد الكوارث ، وعاش الحوادث ، وقال لهم : خيراً إنْ شاء اللهُ ، ثم قُدِّم له إفطارُه وكأنْ لم يحدثْ شيءٌ ، فإذا إفطارهٌ كِسْرةٌ من الخبزِ اليابسِ ، وزيتٌ وملحٌ ، وكأسٌ من الماءِ ، فسمَّى وأكل ، ثمَّ حمدَ اللهَ ، وقال : بُرٌّ منْ بُرِّ العراق ، وزيتٌ من الشامِ ، مع ماءِ دجلة ، وملح مرو ، إنها لنعمٌ جليلةٌ . ثم لبس ثوبَهَ ، وأخذ عصاهُ ، ثم دلف على الجموعِ ، فلمّا رآه الناسُ اشرأبَّتْ إليه أعناقُهم ، وطفحتْ غليه عيونُهم ، وأنصتوا لما يقولُ ، فارتحل كلمة صُلْحٍ ، ثمَّ طلب من الناسِ التفرُّق ، فذهب كلُّ واحداً منهمْ لا يلوي على شيءٍ ، وهدأت الثائرةُ ، وماتتِ الفتنةُ .
قدْ يدركُ الشرف الفتى ورداؤُهُ
خَلَقٌ وجيْبُ قميصِه مَرْقوعُ
في القصةِ دروسٌ ، منها :
أنَّ العظمة ليستْ بالأبهةِ والمظهرِ ، وأنَّ قلَّة الشيءِ ليستْ دليلاً على الشقاءِ ، وكذلك السعادةُ ليستْ بكثرةِ الأشياءِ والترفُّهِ : ? فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ{15} وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ? .
وأنَّ المواهب والصفاتِ الساميةِ هي قيمةُ الإنسان ، لا ثوْبُهُ ولا نعلُهُ ولا قَصْرُهُ ولا دارُهُ ، إنها وزنهُ في علمهِ وكرمهِ وحلمهِ وعقلهِ : ? إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ? . وعلاقةُ هذا بموضوعِنا أن السعادة ليستْ في الثراءِ الفاحشِ ، ولا في القصْرِ المنيفِ ، ولا في الذهبِ والفضَّةِ ، ولكنَّ السعادةَ في القلبِ بإيمانهِ ، برضاهُ ، بأنسهِ ، بإشراقهِ : ? فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ ? ? قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ? .
عوِّدْ نفسك على التسليمِ بالقضاءِ والقدرِ ، ماذا تفعلُ إذا لمْ تؤمنْ بالقضاءِ والقدرِ ، هلْ تتخذُ في الأرضِ نفقاً أو سُلَّماً في السماءِ ، لنْ ينفعك ذلك ، ولنْ ينقذك من القضاءِ والقدرِ . إذنْ فما الحلّ ؟
الحلُّ : رضينا وسلَّمنا: ?أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ?.
منْ أعنفِ الأيام في حياتي ، ومن أفظعِ الأوقاتِ في عمري : تلك الساعةُ التي أخبرني فيها الطبيبُ المختصُّ ببترِ يد أخي محمدٍ – رحمه اللهُ – من الكتفِ ، ونزل الخبرُ على سمعي كالقذيفةِ ، وغالبتُ نفسي ، وثابتْ روحي إلى قولِ المولى : ? َا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ? ، وقولهِ : ? وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ? .
كانتْ هذه الآياتُ برْداً وسلاماً وروْحاً وريْحاناً .
وليس لنا من حيلةٍ فنحتالُ ، إنما الحيلةُ في الإيمانِ والتسليمِ فَحَسْبُ ، ? أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ? ? وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ? ? وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ? .
إن الخنساء النخعيةَ تُخبرُ في لحظةٍ واحدةِ بقتلِ أربعةِ أبناءٍ لها في سبيلِ اللهِ بالقادسيةِ ، فما كان منها إلا أنْ حمدتِ ربَّها ، وشكرتْ مولاها على حُسْن الصنيعِ ، ولطفِ الاختيارِ ، وحلولِ القضاءِ ؛ لأنَّ هناك معيناً من الإيمانِ ، ورافداً من اليقينِ لا ينقطعُ ، فمثلُها تشكرُ وتُؤجرُ وتسعدُ في الدنيا والآخرةِ ، وإذا لمْ تفعلْ هذا فما هو البديلُ إذنْ ؟! التسخُّطُ والتضجُّرُ والاعتراضُ والرفضُ ، ثم خسارةُ الدنيا والآخرةِ ! (( فمنْ رضي فلهُ الرَّضا ، ومنْ سخط فله السخطُ )) .
إن بلسم المصائبِ وعلاج الأزماتِ ، قولُنا : إنّا للهِ وإنّا إليه راجعون .
والمعنى : كلُّنا للهِ ، فنحنُ خَلْقُه وفي ملكِهِ ، ونحنُ نعودُ إليهِ ، فالمبدأُ منه ، والمعادُ إليه ، والأمرُ بيدهِ ، فليس لنا من الأمرِ شيءٌ .
نفسي التي تملكُ الأشياء ذاهبةٌ
فكيف أبكي على شيءٍ إذا ذهبا
?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ? ، ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ? ،?إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ? .(/56)
لو فوجئت بخبرٍ صاعقِ باحتراقِ بيتِك ، أو موتِ ابنك ، أو ذهابِ مالك فماذا عساك أنْ تفعل ؟ من الآنِ وطِّنْ نفسك ، لا ينفعُ الهربُ ، لا يجدي الفرارُ والتملُّصُ من القضاء والقدر ، سلِّمْ بالأمرِ ، وارض بالقدرِ ، واعترفْ بالواقعِ ، واكتسبِ الأجر ، لأنه ليس أمامك إلا هذا . نعمْ هناك خيارٌ آخرُ ، ولكنه رديءٌ أحذِّرك منُه ، إنه : التبرُّمُ بما حَصَلَ والتضجُّرُ مما صار ، والثورةُ والغضبُ والهيجان ، ولكنْ تحصلُ على ماذا منْ هذا كلِّه ؟! إنك سوف تنالُ غضب الربِّ جلَّ في عليائِه ، ومقْت الناسِ ، وذهاب الأجْرِ ، وفادح الوزرِ ، ثمَّ لا يعودُ عليك المصاب ، ولا ترتفعُ عنك المصيبةُ ، ولا ينصرفُ عنك الأمرُ المحتومُ : ?فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ? .
**************************************
ما تحزنُ لأجلِهِ سينتهي
فإنَّ الموتَ مقدمٌ على الكلِّ : الظالمِ والمظلومِ ، والقويِّ والضعيفِ ، والغنيِّ والفقيرِ ، فلست بِدعاً من الناسِ أنْ تموت ، فقبلك ماتتْ أممٌ وبعدك تموتُ أممٌ .
ذكر ابنُ بطوطة أنَّ في الشمالِ مقبرةً دُفن ألفُ ملِكٍ عليها لوحةٌ مكتوبٌ فيها :
وسلاطينُهم سلِ الطين عنهمُ
والرؤوسُ العظامُ صارتْ عظاماً
إنَّ الأمرَ المذهل في هذا : غفلةُ الإنسانِ عنْ هذا الفناءِ المداهمِ له صباح مساء ، وظنُّه أنهُ خالدٌ مخلَّدٌ منعَّمٌ ، وتغافلُه عن المصيرِ المحترمِ وتراخيه عن النهايةِ الحقَّةِ لكلِّ حيٍّ : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ? ، ? اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ ? .
لما أهلك اللهُ الأمم ، وأباد الشعوب ، ودمَّرَ القُرى الظالمةَ وأهلها ، قال–عزَّ مِنْ قائل-: ? هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ? ؟! انتهى كلُّ شيءٍ عنهمْ إلا الخبرَ والحديث .
هل عندكمْ خبرٌ منْ أهلِ أندلسٍ
فقدْ مضى بحديثِ القومِ ركبانُ
************************************
وقفةٌ
دعاء الكربِ : مشتمِلٌ على توحيدِ الإلهيةِ والربوبيةِ ، ووصفِ الربِّ سبحانهُ بالعظمةِ والحِلمِ ، وهاتانِ الصفتانِ مستلزمتانِ لكمالِ القدرةِ والرحمةِ ، والإحسانِ والتجاوزِ ، ووصْفهِ بكمالِ ربوبيتِه للعالمِ العلويِّ والسُّفليِّ والعرشِ الذي هو سقفُ المخلوقاتِ وأعظمُها .
والربوبيةُ التامَّةُ تستلزمُ توحيده ، وأنهُ الذي لا تنبغي العبادةُ والحبُّ والخوفُ والرجاءُ والإجلالُ والطاعةُ إلا لهُ . وعظمتُه المطلقةُ تستلزمُ إثبات كلِّ كمالٍ لهُ ، وسلب كلِّ نقصٍ وتمثيلٍ عنهُ ؛ وحِلمُهُ يستلزمُ كمال رحمتِهِ وإحسانِهِ إلى خلقِهِ .
فعلْمُ القلبِ ومعرفتُهُ بذلك تُوجبُ محبتُهُ وإجلالُهُ وتوحيدُهُ ، فيحصلُ له من الابتهاجِ واللذةِ والسرورِ ما يدفعُ عنهُ ألم الكْربِ والهمِّ والغمِّ ، وأنت تجدُ المريض إذا ورد عليهِ ما يسُرُّهُ ويُفرحُه ، ويُقوِّي نفسهُ ، كيف تقوى الطبيعةُ على دفعِ المرضِ الحسيِّ ، فحصولُ هذا الشفاءِ للقلبِ أولى وأحرى .
***************************************
الاكتئابُ طريقُ الشقاءِ
ذكرتْ جريدةُ ( المسلمون ) عدد 240 في شهرِ صفر سنة 1410هـ ، أنَّ هناك 200 مليون مكتئبٍ على وجهِ الأرضِ !
الاكتئابُ العالم!! لا يفرِّقُ بين دولةٍ غربيةٍ وأخرى شرقية ! أو غنيٍّ وفقيرٍ . إنه مرضٌ يصيبُ الجميع .. ونهايتُه في الغالبِ الانتحارُ !!
الانتحارُ لا يعترفُ بالأسماءِ والمناصبِ والدولِ ، لكنَّه يخافُ من المؤمنين ، بعضُ الأرقامِ تؤكدُ أنَّ ضحاياهُ وصلوا إلى 200 مليون مريضٍ في كلِّ أنحاءِ العالمِ .. إلاَّ أنَّ آخر الإحصاءاتِ تؤكّدُ أنَّ واحداً على الأقلِّ بين كل عشرةِ أفرادٍ على وجهِ الأرضِ مصابٌ بهذا المرضِ الخطير !!
وقد وصلتْ خطورةُ هذا المرضِ أنه لا يصيبُ الكبار فقط ، بل يصِلُ إلى حدِّ مداهمةِ الجنينِ في بطنِ أمِّه !!
الاكتئابُ بوابةُ الانتحار :
? َلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ? ، ? وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ? .
تذكر الأخبارُ التي تناقلتْها وِكالاتُ الأنباءِ أنَّ مرض الاكتئابِ قد تمكَّن من الرئيسِ السابق للولاياتِ المتحدة الأمريكية (رونالدْ ريجان). وتعودُ إصابةُ الرئيس الأمريكي بهذا المرضِ لتجاوزِه سنَّ السبعين في الوقتِ الذي لا يزالُ يتعرَّضُ فيه لضغوطٍ عصبيةٍ كبيرةٍ .. بالإضافةِ للعملياتِ الجراحيةِ التي أُجريتْ له على فتراتٍ متلاحقةٍ ،?وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ? .(/57)
وهناك الكثيرُ من المشاهيرِ وخاصَّةً مَنْ يعملون بالفنِّ ، يداهمُهمْ هذا المرضُ ، وقد كان الاكتئابُ سبباً رئيساً – إنْ لم يكنْ الوحيد – في موتِ الشاعرِ صلاح جاهين ، وكذلك يُقال : إنَّ نابليون بونابرت مات مكتئباً في منفاهُ ? وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ? .
وما زلنا نذكرُ أيضاً الخبر الذي طيَّرتْه وكِالات الأنباءِ ، احتلَّ صدر الصفحاتِ الأولى في أغلبِ صحفِ العالمِ ، عن الجريمةِ المروِّعةِ التي ارتكبتْها أمٌّ ألمانيةٌ بقتلِ ثلاثةٍ منْ أطفالها، واتضح أنَّ السبب هو مرضُها بالاكتئابِ ، ولحبِّها الشديدِ لأطفالها خافتْ أنْ تورثهم العذاب والضيق الذي تشعرُ بهِ ، فقرّرتْ « إراحتهم» !! منْ هذا العذابِ بقتِلهم الثلاثةِ .. ثم قتلتْ نفسها !!.
وأرقامُ (منظمةِ الصحةِ العالميةِ) تشيرُ إلى خطورةِ الأمرِ.. ففي عام 1973 م كان عددُ المصابين بالاكتئابِ في العالمِ 3% ، وارتفعتْ هذه النسبةُ لتصل إلى 5% في عام 1978 م ، كما أشارتْ بعضُ الدراساتِ إلى وجودِ فردٍ أمريكيٍّ مصابٍ بالاكتئاب منْ كلِّ أربعةٍ !! في حين أعلن رئيسُ مؤتمرِ الاضطرابِ النفسيِّ الذي عُقد في شيكاغو عام 1981 م أنَّ هناك 100 مليونِ شخصٍ في العالمِ يعانون من الاكتئابِ ، أغلبُهمْ منْ دولِ العالمِ المتقدم ، وقالتْ أرقامٌ أخرى أنهم مائتا مليون مكتئبٍ!! ?أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ?
قال أحدُ الحكماءِ : اصنعْ من الليمونِ شراباً حُلواً . وقال أحدُهم : ليس الذكيُّ الفطِنُ الذي يستطيعُ أنْ يزيد أرباحهُ، لكنّ الذكيَّ الذي يحوِّلُ خسائره إلى أرباحٍ ?أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ? .
وفي المثلِ : لا تنطحِ الحائط !!
والمعنى : لا تعانِدْ منْ لا تستفيدُ منْ عنادِهِ فائدةً تعودُ عليك بخيْرٍ .
إذا لم تستطعْ شيئاً فدَعْهُ
وجاوِزْه إلى ما تستطيعُ
وقالوا : ولا تطحنِ الدقيق ، ? فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ? .
والمعنى : أنَّ الأمور التي فُرغ منها وانتهتْ لا ينبغي أن تُعاد وتُكرَّر ؛ لأنَّ في ذلك قلقاً واضطراباً وتضييعاً للوقت .
وقالوا أيضاً – وهو مثلٌ إنكليزيٌ - : لا تنشرِ النشارة .
والمعنى : أي نشارةَ الخشبِ ، لا تأت وتنشرْها مرةً ثانيةُ ، فقدْ فرغ منها .
يقولون ذلك لمنْ يشتغلُ بالتوافهِ ، واجترار الهمومِ ، وإعادةِ الماضي ، ? الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ?.
هناك مجالاتٌ للفارغين من الأعمالِ يمكنُ سدُّها ، كالتزودِ بالصالحاتِ ، ونفْعِ الناسِ ، وعيادةِ المرضى ، وزيارةِ المقابرِ ، والعنايةِ بالمساجدِ ، والمشاركةِ في الجمعياتِ الخيريةِ ، ومجالسِ الأحيَّاءِ ، وترتيبِ المنزلِ والمكتبةِ والرياضةِ النافعةِ ، وإيصالِ النفع للفقراءِ والعجزةِ والأراملِ ، ? إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ? .
ولم أر كالمعروفِ أمَّا مذاقُهُ
فحلوٌ وأماَّ وجهُهُ فجميلُ
اقرأِ التاريخ لتجد المنكوبين والمسلوبين والمصابين .
وبعد فصولٍ منْ هذا البحثِ سوف أطلعك على لوحةٍ من الحزنِ للمنكوبين بعنوان : تعزَّ بالمنكوبين .
اقرأ التاريخ إذْ فيه العِبرْ
ضلَّ قومٌ ليس يدرون الخبرْ
? وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ? ، ? لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ? ، ? فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? .
قال عمرُ : أصبحتُ وما لي مطلبٌ إلا التمتُّعُ بمواطنِ القضاءِ .
ومعنى ذلك : أنه مرتاحٌ لقضاءِ اللهِ وقدرهِ ، سواءٌ كان فيما يحلو له أو فيما كان مرّاً .
وقال بعضُهمْ : ما أبالي على أيِّ الراحلتيْنِ ركبتُ ، إنْ كان الفقرُ لهم الصبرُ ، وإنْ كان الغنى لهو الشكرُ .
ومات لأبي ذؤيب الهذليِّ ثمانيةٌ من الأبناءِ بالطاعونِ في عامٍ واحدٍ فماذا عسى أنْ يقول؟ إنه آمن وسلَّم وأذعن لقضاءِ ربهِ ، وقال :
وتجلُّدي للشامتين أُريهمُ
أني لريبِ الدهرِ لا أتضعضعُ
وإذا المنيةُ أنشبت أظفارها
ألفيت كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ
? مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ? .
وفقد ابنُ عباسٍ بصره فقال – معزِّياً نفسه - :
إنْ يأخذِ اللهُ منْ عينيَّ نورها
ففي فؤادي وقلبي منهما نورُ
قلبي ذكيٌّ غيرُ ذي عِوجٍ
وفي فمي صارمٌ كالسيفِ مشهورُ
وهو التسلِّي بما عنده منَ النَّعِم الكثيرةِ إذا فقد القليل منها .(/58)
وبُترتْ رِجْلُ عروة بن الزبيرِ ، ومات ابنُه في يومٍ واحداً ، فقال : اللهمَّ لِك الحمْد ، إنْ كنت أخذت فقدْ أعطيْت ، وإنْ كنت ابتليْتَ فقدْ عافيْت ، منحتني أربعة أعضاءِ ، وأخذت عضواً واحداً ، ومنحتني أربعة أبناءٍ وأخذت ابناً واحداً . ? وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً? ، ? سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ? .
وقُتل عبدُاللهِ بنُ الصِّمَّةِ أخو دريدٍ ، فعزَّى دريدٌ نفسه بعد أن ذكر أنه دافع عنْ أخيهِ قدْر المستطاعِ ، ولكنْ لا حيلة في القضاءِ ، مات أخوه عبدُالله فقال دريدٌ :
وطاعنتُ عنه الخيل حتى تبدَّدتْ
وحتى علاني حالِكُ اللونِ أسودِ
طعان امرئِ آسى أخاهُ بنفسهِ
ويعلمُ أنَّ المرء غيرُ مخلَّدِ
وخفَّفتُ وجدي أنني لم أقلْ لهُ
كذبت ولم أبخلْ بما ملكتْ يدِي
ويروى عنِ الشافعيِّ – واعظاً ومعزِّياً للمصابين - :
دعِ الأيام تفعلْ ما تشاءُ
وطِبْ نفساً إذا حكم القضاءُ
إذا نزل القضاءُ بأرضِ قومٍ
فلا أرضٌ تقيةِ ولا سماءُ
وقال أبو العتاهيةِ :
كمْ مرةِ حفَّتْ بك المكارِه
خار لك اللهُ وأنت كارِهْ ؟
كمْ مرةٍ خفنا من الموتِ فما متْنا ؟!
كمْ مرةٍ ظننا انها القاضيةُ وأنها النهايةُ ، فإذا هي العودةُ الجديدةُ والقوةُ والاستمرارُ ؟!
كم مرةٍ ضاقتْ بنا السُّبُلُ ، وتقطَّعتْ بنا الحبالُ ، وأظلمتْ في وجوهِنا الآفاقُ ، وإذا هو الفتحُ والنصرُ والخيرُ والبِشارةُ ؟! ? قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ? .
كمْ مرةٍ أظلمتْ أمامنا دنيانا ، وضاقتْ علينا أنفسُنا والأرضُ بما رحُبتْ ، فإذا هو الخيرُ العميمُ واليسرُ والتأييدُ ؟! ? وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ ? .
منْ علم أنَّ الله غالبٌ على أمرِه ، كيف يخافُ أمر غيرِه ؟! منْ علم أنَّ كلَّ شيءٍ دون اللهِ ، فكيف يخوَّفونك بالذين منْ دونِه ؟! منْ خاف الله كيف يخافُ منْ غيرِه ، وهو يقولُ : ? فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ ? .
معهُ سبحانُهُ العزةُ ، والعزةُ للهِ ولرسولهِ وللمؤمنين .
معه الغَلَبَةُ ? وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ? ، ? إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ? .
ذكر ابنُ كثيرٍ في تفسيرِه أثراً قدسيّاً : (( وعزتي وجلالي ما اعتصم بي عبدٌ ، فكادتْ له السماواتُ والأرضُ ، إلا جعلتُ له منْ بينِها فرجاً ومخرجاً . وعزَّتي وجلالي ما اعتصم عبدي بغيري إلا أسخْتُ الأرض من تحتِ قدميْهِ )) .
قال الإمامُ ابنُ تيمية : بـ (( لا حول ولا قوة إلا بالله ِ )) تُحمل الأثقالُ ، وتُكابدُ الأهوالُ ، ويُنالُ شريفُ الأحوالِ .
فالزمْها أيُّ العبدُ ! فإنها كنزٌ منْ كنوزِ الجنةِ . وهي منْ بنودِ السعادةِ ، ومنْ مساراتِ الراحةِ ، وانشراحِ الصدرِ .
***************************************
الاستغفارُ يفتحُ الأقفال
يقول ابنُ تيمية : إنَّ المسألة لتغلقُ عليَّ ، فأستغفرُ الله ألف مرةٍ أو أكثر أو أقلَّ ، فيفتحُها اللهُ عليَّ .
? فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ? .
إنَّ منْ أسبابِ راحةِ البالِ ، استغفار ذي الجلال .
رُبَّ ضارةٍ نافعةٌ ، وكلُ قضاءٍ خيرٌ حتى المعصيةُ بشرطِها .
فقدْ ورد في المسندِ : ((لا يقضي اللهُ للعبدِ قضاء إلا كان خيراً له)) . قيل لابن تيمية: حتى المعصية ؟ قال : نعمْ ، إذا كان معها التوبةُ والندمُ ، والاستغفارُ والانكسارُ . ?وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً?
قال أبو تمامٍ في أيامِ السعودِ وأيامِ النحسِ :
مرَّتْ سنونُ بالسعودِ وبالهنا
فكأنَها مِنْ قِصْرِها أيَّامُ
ثمَّ انْثنتْ أيامُ هجرٍ بعدها
فكأنها منْ طولِها أعوامُ
ثمَّ انقضت تلك السنونُ وأهلُها
فكأنَّها وكأنَّهُمْ أحلامُ
? وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ? ، ? كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ? .
عجبتُ لعظماء عَرَفَهُمُ التاريخُ ، كانوا يستقبلون المصائب كأنَّها قطراتُ الغيثِ ، أو هفيفُ النسيمُ ، وعلى رأسِ الجميع سيدُ الخلْقِ محمدٌ ( ، وهو في الغارِ ، يقولُ لصاحبِه : ?لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ? . وفي طريقِ الهجرةِ ، وهو مطاردٌ مشرَّدٌ يبشِّرُ سراقة بأنه يُسوَّرُ سواريْ كسرى !
بُشرى مِن الغيبِ ألقتْ في فمِ
الغار
وحْياً وأفضت إلى الدنيا بأسرارِ
وفي بدر يثبُ في الدرعِ ( وهو يقولُ : ? سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ? .
أنت الشجاعُ إذا لقِيت كتيبةً
أدَّبْت في هوْلِ الردى أبطالها
وفي أُحدٍ – بعد القتلِ والجراحِ – يقولُ للصحابةِ : (( صُفُّوا خلفي ، لأُثني على ربي )) . إنها هِممٌ نبويَّةٌ تنطحُ الثريَّا ، وعزْمٌ نبويٌ يهزُّ الجبال .(/59)
قيسُ بنُ عاصم المنْقرِيُّ منْ حلماءِ العربِ ، كان مُحتبياً يكلِّم قومهُ بقصةٍ ، فأتاه رجلٌ فقال : قُتِل ابنُك الآن ، قَتَلَهُ ابنُ فلانة . فما حلَّ حَبْوَتَهُ ، ولا أنهى قصّتهُ ، حتى انتهى منْ كلامِه ، ثم قال : غسِّلوا ابني وكفِّنوه ، ثمَّ آذنِوني بالصلاةِ عليه ! ? وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ ? .
وعِكرِمةُ بنُ أبي جهلٍ يُعطى الماء في سكراتِ الموتِ ، فيقولُ : أعطوه فلاناً . لحارثِ بنِ هشامِ ، فيتناولونه واحداً بعد واحداً ، حتى يموتُ الجميعُ .
**************************************
الناسُ عليك لا لك
إنَّ العاقل الحصيف يجعلُ الناس عليهِ لا لهُ ، فلا يبني موقفاً ، أو يتخذ قراراً يعتمدُ فيهِ على الناسِ ، إن الناس لهمْ حدودٌ في التضامنِ مع الغيرِ ، ولهمْ مدىً يصلون إليهِ في البذلِ والتضحيةِ لا يتجاوزونهُ .
انظرْ إلى الحسينِ بنِ عليٍّ – رضي اللهُ عنهُ وأرضاهُ – وهو ابنُ بنتِ الرسولِ ( ، يُقتلُ فلا تنبسُ الأمَّةُ ببنتِ شفةٍ ، بل الذين قتلوهُ يكبِّرون ويهلّلون على هذا الانتصارِ الضخمِ بِذبحِهِ !! ، رضي اللهُ عنه . يقولُ الشاعرُ :
جاؤوا برأسِك يا ابن بنتِ محمدٍ
مُتزمِّلاً بدمائِهِ تزميلا
ويُكبِّرون بأنْ قُتلت وإنما
قتلوا بك التكبير والتهليلا
ويُساق أحمدُ بنُ حنبلٍ إلى الحبسِ ، ويُجلدُ جلداً رهيباً ، ويشرفُ على الموتِ ، فلا يتحرّكُ معهُ أحدٌ .
ويُؤخذُ ابنُ تيمية مأسوراً ، ويركبُ البغل إلى مصر ، فلا تموجُ تلك الجموعُ الهادرةُ التي حضرتْ جنازتهُ ، لأنَّ لهمْ حدوداً يصلون إليها فَحَسْبُ ، ? وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً ? ، ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ? ، ? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ? ، ? إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً ? .
فالزمْ يديْك بحبلِ اللهِ معتصماً
فإنَّهُ الركنُ إنْ خانَتْك أركانُ
***********************************************
رفقاً بالمالِ « ما عال منِ اقْتَصَدَ »
قال أحدهُمْ :
اجمعْ نقودك إنَّ العِزَّ في المالِ
واستغنِ ما شئت عنْ عمٍّ وعنْ خالِ
إنَّ الفلسفة التي تدعو إلى تبذيرِ المالِ وتبديدهِ وإنفاقِه في غيرِ وجْهِهِ أو عدمِ جمعِه أصلاً ليستْ بصحيحةٍ ، وإنما هي منقولةٌ منْ عُبَّادِ الهنودِ ، ومنْ جهلةِ المتصوفةِ .
إنَّ الإسلام يدعو إلى الكسبِ الشريفِ ، وإلى جمعِ المالِ الشريفِ ، وإنفاقهِ في الوجهِ الشريفِ ، ليكون العبدُ عزيزاً بماله، وقدْ قال ( : ((نِعم المالُ الصالحُ في يدِ الرجلِ الصالحِ)) . وهو حديثٌ حسنٌ .
وإنَّ مما يجلبُ الهموم والغموم كثرةُ الديونِ ، أو الفقرُ المضني المهلك : (( فهلْ تنتظرون إلاَّ غنى مطغياً أو فقراً منسياً )) . ولذا استعاذ ( فقال : (( اللهم إني أعوذُ بك منَ الكفرِ والفقْرِ )) . و (( كاد الفقْرُ أنْ يكون كفراً )) .
وهذا لا يتعارضُ مع الحديثِ الذي يرويه ابنُ ماجة : (( ازهدْ في الدنيا يحبّك اللهُ ، وازهدْ فيما عند الناسِ يحبُّك الناسُ )) . على أنَّ فيهِ ضعيفاً .
لكنَّ المعنى : أن يكون لك الكفافُ ، وما يكفيك عن استجداءِ الناسِ وطلبِ ما عندهم من المالِ ، بلْ تكونُ شريفاً نزيهاً ، عندك ما يكفُّ وجهكَ عنهمْ ، (( ومن يستغنِ يُغنِه اللهُ )) .
وفي الصحيحِ : (( إنك إنْ تَذَرُ ورثَتَكَ أغنياء ، خيرٌ منْ أن تَذَرَهُمْ عالةً يتكفَّفونُ الناس )) .
أَسُدُّ به ما قدْ أضاعوا وفرَّطوا
حقوق أناسٍ ما استطاعوا لها سدّا
يقولُ أحدُهم في عِزَّةِ النفسِ :
أحسنُ الأقوالِ قولي لك خذْ
أقبحُ الأقوالِ كلاَّ ولعلْ
وفي الصحيح : (( اليدُ العليا خيرٌ من اليدِِ السُّفلى )) . اليدُ العليا المعطيةُ ، واليدُ السُّفلى الآخذةُ أو السائلةُ ، ? يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ ? .
والمعنى : لا تتملَّق البشرَ فتطلب منهمْ رزقاً أو مكسباً ، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ ضمِنَ الرزق والأجلَ والخلْقَ لأنَّ عزَّةَ الإيمانِ قعساءُ ، وأهلُه شرفاءُ ، والعزةُ لهم ، ورؤوسُهم دائماً مرتفعةٌ ، وأنوفُهم دائماً شامخةٌ : ? أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ? . قال ابنُ الورديُّ :
أنا لا أرغبُ تقبيل يدٍ
قطْعُها أحسنُ منْ تلك القُبلْ
إنْ جزتْني عنْ صنيعِ كنتُ في
رِقِّها أو لا فيكفيني الخجلْ
*******************************************
لا تتعلقْ بغيرِ اللهِ
إذا كان المحيي والميتُ والرزاقُ هو اللهُ ، فلماذا الخوفُ من الناس والقلقُ منهمُ ؟! ورأيتُ أنَّ أكثر ما يجلبُ الهموم والغموم التعلُّقُ بالناسِ ، وطلبُ رضاهمْ ، والتقربُ منهمُ ، والحرصُ على ثنائِهم ، والتضرُّر بذمِّهمْ ، وهذا من ضعفِ التوحيدِ .(/60)
فليتك تحلو والحياةُ مريرةٌ
وليتك ترْضى والأنامُ غضابُ
إذا صحَّ منك الودُّ فالكُلُّ هيِّنٌ
وكلُّ الذي فوق الترابِ ترابُ
***************************************
أسبابُ انشرحِ الصَّدْرِ
أهمُّها : التوحيدُ : فإنهُ بِحسبِ صفائِهِ ونقائِه يوسعُ الصدرَ ، حتى يكون أوسع من الدنيا وما فيها .
ولا حياة لمُشركٍ وملحِدٍ ، يقولُ سبحانه وتعالى : ? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ? . وقال سبحانه : ? فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ? . وقال سبحانه : ? أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ? .
وتوعَّد اللهُ أعداءه بضيقِ الصَّدرِ والرهبةِ والخوفِ والقلقِ والاضطرابِ ، ? سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً ? ، ? فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ? ، ? فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ? .
ومما يشرحُ الصَّدْرَ : العلمُ النافعُ ، فالعلماءُ أشرحُ الناسِ صدوراً ، وأكثرُهم حُبوراً ، وأعظمُهمْ سروراً ، لما عندهمْ من الميراثِ المحمديِّ النبويِّ : ? وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ? ، ? فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ? .
ومنها : العملُ الصالحُ : فإنَّ للحسنةِ نوراً في القلبِ ، وضياءً في الوجهِ ، وسَعَةَ في الرزقِ ، ومحبةً في قلوبِ الخلْقِ ، ? لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً ? .
ومنها : الشجاعةُ : فالشجاعُ واسعُ البطانِ ، ثابتُ الجَنَانِ ، قويُّ الأركانِ ، لأنه يؤولُ على الرحمنِ ، فلا تهمُّه الحوادثُ ، ولا تهزُّهُ الأراجيفُ ، ولا تزعزِعُهُ التوجساتُ .
تردَّى ثبات الموتِ حُمْراً فما أتى
لها الليلُ إلا وهي مِنْ سندسٍ خُضْرُ
وما مات حتى مات مضرِبُ سيفِهِ
مِن الضربِ واعتلتْ عليه القنا السّمْرُ
ومنها : اجتنابُ المعاصي : فإنها كدرٌ حاضرٌ ، ووحشةٌ جاثمةٌ ، وظلامٌ قاتمٌ .
رأيتُ الذنوب تُميتُ القلوب
وقدْ يُورثُ الذُّلَّ إدمانُها
ومنها : اجتنابُ كثرةِ المباحاتِ : من الكلامِ والطعامِ والمنام والخلطةِ ، ? وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ? ، ? مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ? ، ? وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ ? .
*************************************
فُرِغ من القضاءِ
سألَ أحدُ المرضى بالهواجسِ والهمومِ طبيب القلقِ والاضطرابِ ، فقال له الطبيبُ المسلمُ : اعلمْ أنَّ العالم قدْ فرغَ منْ خلقِهِ وتدبيرِه ، ولا يقعُ فيهِ حركةٌ ولا هَمْسٌ إلا بإذن اللهِ ، فلِم الهمُّ والغمُّ؟! ((إنَّ الله كتب مقادير الخلائقِ قبل أنْ يَخْلُقَ الخلْق بخمسين ألف سنةٍ)) .
قال المتنبي على هذا :
وتعْظُمُ في عينِ الصغيرِ صغارُها
وتصغرُ في عينِ العظيمِ العظائِمُ
*********************************
طَعْمُ الحريَّةِ اللذيذُ
يقولُ الراشدُ في كتابِ ( المسار ) : منْ عندَهُ ثلاثمائةٍ وستون رغيفاً وجرَّة زيتٍ وألفٌ وستمائة تمرة ، لم يستعبدْه أحدٌ .
وقال أحدُ السلفِ : منِ اكتفى بالخبزِ اليابسِ والماءِ ، سلِم من الرِّقِّ غلا للهِ تعالى ? وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى ? .
قال أحدُهم :
أطعتُ مطامعي فاستعبدتني
ولوْ أني قِنِعْتُ لكنتُ حراً
وقال آخرُ :
أرى أشقياء الناسِ لا يسأمونها
على أنَّهمْ فيها عُراةٌ وجُوَّعُ
أراها وإنْ كانتْ تسُرُّ فإنها
سحابةُ صيفٍ عنْ قليلٍ تقشَّعُ
إنَّ الذين يسعوْن على السعادةِ بجمع المالِ أو المنصبِ أو الوظيفةِ ، سوف يعلمون أنهمْ همُ الخاسرون حقّاً ، وأنهمْ ما جلبوا إلا الهموم والغموم ، ? وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ ? ، ? بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا{16} وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ? .
************************************
سفيانُ الثوريُّ مخدَّتُهُ الترابُ
توسَّد سفيانُ الثوريُّ كومْةً منْ الترابِ في مزدلفة وهو حاجٌّ ، فقال له الناسُ : أفي مثلِ هذا الموطنِ تتوسَّدُ الترابَ وأنت مُحدِّثُ الدنيا ؟ قال : لمخدَّتي هذهِ أعظمُ منْ مخدةِ أبي جعفرٍ المنصورِ الخليفةِ .
? قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ ? .
*********************************
لا تركنْ إلى المُرجِفِينَ(/61)
الوعودُ الكاذبةُ ، والإرهاصاتُ الخاطئةُ المغلوبةُ ، التي يخافُ منها أكثرُ الناسِ ، إنما هي أوهامٌ ، ? الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ? .
والقلقُ والأرقُ وقُرْحةُ المعدةِ : ثمراتُ اليأسِ والشعورِ بالإحباطِ والإخفاق .
***********************************
لنْ يضرَّك السبُّ والشَّتْمُ
كان الرئيسُ الأمريكيُّ ( إبراهام لينكولن ) يقولُ : أنا لا أقرأُ رسائل الشتمِ التي تُوجَّه إليَّ ، ولا أفتحُ مظروفها فضلاً عن الردِّ عليها ؛ لأنني لو اشتغلتُ بها لمَا قدَّمت شيئاً لشعبي ?فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ? ، ? فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ? ، ? فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ? .
قال حسَّانُ :
ما أبالي أنبَّ بالحزْنِ تَيْسٌ
أو لحاني بظهرِ غَيْبٍ لئيمُ
المعنى : أنَّ كلماتِ اللؤماءِ والسخفاءِ والحقراءِ الشتّامين المتسلقين على أعراضِ الناسِ ، لا تضرُّ ولا تُهُمُّ ، ولا يمكنُ أنْ يتلفت لها مسلمٌ ، أو أن يتحرك منها شجاعٌ .
كان قائدُ البحريةِ الأمريكيةِ في الحربِ العالميةِ الثانيةِ رجلاً لامعاً ، يحرصُ على الشهرةِ ، فتعاملَ مع مرؤوسيةِ الذين كالوا له الشتائم والسباب والإهاناتِ ، حتى قال : أصبح اليوم عندي من النقدِ مناعةٌ ، لقدْ عَجَمَ عودي ، وكبرتْ سني ، وعلمتُ أنَّ الكلام لا يهدمُ ولا ينسِفُ سُوراً حصيناً .
وماذا تبتغي الشعراءُ منّي
وقدْ جاوزتُ حدَّ الأربعينا
يُذكرُ عن عيسى – عليه السلامُ – أنهُ قال : أحبوا أعداءكم .
والمعنى : أنْ تُصدروا في أعدائِكمْ عفواً عامّاً ، حتى تسلموا من التشفِّي والانتقامِ والحقدِ الذي ينهي حياتَكُمْ، ?وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ?. ((اذهبوا فأنتمُ الطلقاءُ)) ، ? لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ? ، ? عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف ? .
*************************************
اقرأ الجمال في الكوْنِ
مما يشرحُ الصدر قراءةُ الجمالِ في خلْقِ ذي الجلالِ والإكرامِ، والتمتُّعُ بالنظرِ في الكونِ، هذا الكتابُ المفتوحُ ، إنَّ الله يقولُ في خلقِهِ : ? فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ? ? هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ? ، ? قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ? .
وسوف أنقلُ لك ، بعد صفحاتِ ، من أخبارِ الكونِ ما يدلُّك على حكمةٍ وعظمةٍ ?الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ? .
قال الشاعرُ :
وكتابي الفضاءُ أَقرأُ فيهِ
صوراً ما قرأتُها في كتابي
قراءةٌ في الشمسِ اللامعةِ ، والنجومِ الساطعةِ ، في النهرِ .. في الجدولِ .. في التلِّ .. في الشجرةِ .. في الثمرةِ .. في الضياءِ .. في الهواءِ .. في الماءِ ،
وفي كلِّ شيءٍ لهُ آيةٌ
تدلُّ على أنَّه الواحدُ
يقول إيليا أبو ماضي :
أيُّها الشاكي وما بك داءٌ
كيف تغدو إذا غدوت عليلاَ
أترى الشوك في الورودِ وتَعْمَى
أن ترى فوقهُ النَّدى إكليلاَ
والذي نفسُه بغيرِ جمالٍ
لا يرى في الوجودِ شيئاً جميلا
*******************************************
? أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ?
يقولُ أيْنشتاين : مَنْ ينظرْ إلى الكونِ يعلمْ أنَّ المبدع حكيمٌ لا يلعبُ بالنَّردِ . ? الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ? ، ? مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ? ، ? أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ?.
والمعنىِ : أنَّ كلَّ شيءٍ بِحُسْبانٍ وبحكمةٍ ، وبترتيبٍ وبنظامٍ ، يعلمُ منْ يرى هذا الكون أنَّ هناك إلهاً قديراً لا يُجري الأمور مجازفةً ، جلَّ في علاهُ .
ثمَّ يقولُ سبحانهُ وتعالى : ? الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ? ، ? لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ? .
**********************************
لا يجدي الحِرْصُ
قال ( : (( لنْ تموتَ نفسٌ حتى تستكمل رزْقها وأجلَها )) . فلِم الجَزَعُ ؟!ولِم الهَلَعُ ؟! ولِم الحِرْصُ إذنْ ، إذا انتهى منْ هذا وفَرَغَ ؟! ? وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ? ، ?وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً ? .
**************************************
الأزماتُ تكفِّرُ عنك السيئاتِ
يُذكَرُ عن الشاعرِ ابن المعتزِّ أنهُ قال : آللهُ ما أوطأ راحلةً المتوكل على اللهِ ، وما أسرع أوْبةَ الواثقِ باللهِ !! وقد صحَّ عنهُ ( أنهُ قال : (( ما يصيبُ المؤمنَ منْ همٍّ ، ولا غمٍّ ، ولا وصبٍ ، ولا نصبٍ ، ولا مرضٍ ، حتى الشوكةُ يُشاكُها ، إلا كفَّر اللهُ بها منْ خطاياهُ )) . فهذا لمن صبر واحتسب وأناب ، وعَرَفَ أنهُ يتعاملُ مع الواحدِ الوهابِ .
قال المتنبي في أبياتٍ حكيمةٍ تضفي على العبدِ قوةً وانشراحاً :(/62)
لا تلق دهرك إلا غيْرَ مكترثٍ
ما دام يصحبُ فيهِ رُوحك البدنُ
فما يُديمُ سُروراً ما سُرِرْت بهِ
ولا يردُّ عليك الغائب الحزنُ
? لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ? .
**********************************
« حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ »
« حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ » : قالها إبراهيمُ لما أُلقي في النارِ ، فصارتْ بردْاً وسلاماً . وقال محمدٌ ( في أُحُدٍ ، فنصره اللهُ .
لما وُضِع إبراهيمُ في المنجنيقِ قال له جبريلُ : ألك إليَّ حاجةٌ ؟ فقال له إبراهيمُ : أمَّا إليك فلا ، وأمَّا إلى اللهِ فَنَعَمْ !
البحرُ يُغْرقُ ، والنارُ تَحْرِقُ ، ولكن جفَّ هذا ، وخمدتْ تلك ، بسبب : « حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ » .
رأى موسى البحرَ أمامه والعدَّ خلفه ، فقال : ? قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ? . فنجا بإذنِ اللهِ .
ذُكِر في السيرةِ أنَّ الرسول ( لما دخل الغار ، سخَّ الله الحمام فبنتْ عشّها ، والعنكبوت فبنت بيتها بفمِ الغارِ ، فقال المشركون : ما دخل هنا محمدٌ .
ظنُّوا الحمام وظنُّوا العنكبوت على
خيرِ البريةِ لم تنسِخْ ولم تَحُمِ
عنايةُ اللهِ أغنيتْ عنْ مضاعفةٍ
من الدروعِ وعنْ عالٍ من الأُطمُِ
إنها العنايةُ الربانيةُ إذا تلمَّحها العبدُ ، ونظر أنَّ هناك ربّاً قديراً ناصراً وليّاً راحماً ، حينها يركنُ العبدُ إليه .
يقولُ شوقي :
وإذا العنايةُ لاحظتْكَ عيونُها
نمْ فالحوادثُ كُلُّهن أمانُ
? فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ? ، ? فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ? .
*************************************
مكوِّناتُ السَّعادةِ
وعند الترمذيِّ عنهُ ( : (( منْ بات آمناً في سِرْبهِ ، معافىً في بدنه ، عندهُ قوتُ يومِهِ ، فكأنما حِيزَتْ له الدنيا بحذافِيرِها )) .
والمعنى : إذا حصل على غذاءٍ ، وعلى مأوًى وكان آمناً ، فقدْ حصل على أحسنِ السعاداتِ ، وأفضلِ الخيراتِ ، وهذا يحصلُ عليه كثيرٌ من الناسِ ، لكنهمْ لا يذكرونه ، ولا ينظرون إليه ولا يلمسونه .
يقولُ سبحانه وتعالى لرسوله : ? وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ? . فأيُّ نعمةٍ تمّتْ على الرسولِ ( ؟
أهي المادةُ ؟ أهو الغذاءُ ؟ أهي القصورُ والدورُ والذهبُ والفِضَّةُ ، ولم يملكْ من ذلك شيئاً ؟
إنَّ هذا الرسول العظيم ( كان ينامُ في غرفةٍ منْ طينٍ ، سقفُها منْ جريدِ النخلِ ، ويربطُ حَجَريْنِ على بطنِهِ ، ويتوسَّدُ على مخدَّةٍ منْ سَعَف النخلِ تؤثِّر في جنبهِ ، ورهن دِرْعهُ عند يهوديٍّ في ثلاثين صاعاً منْ شعيرٍ، ويدورُ ثلاثة أيامٍ لا يجدُ رديء التمرِ ليأكله ويشبع منه.
مِت ودرعُك مرهونٌ على شظفٍ
من الشَّعيرِ وأبقى رهَكَ الأجلُ
لأنَّ فيك معاني اليُتْمِ أعذبُهُ
حتى دُعيت أبا الأيتامِ يا بَطَلُ
وقلتُ في قصيدةٍ أخرى :
كفاك عنْ كلِّ قصرٍ شاهقٍ عمدٍ
بيتٌ من الطينِ أو كهفٌ من العلمِ
تبني الفضائل أبراجاً مشيَّدةً
نُصْيَ الخيامِ التي منْ أروعِ الخيمِ
? وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى{4} وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ? ، ? إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ? .
***************************************
نَصَب المَنْصِب
منْ متاعبِ الحياةِ المنصبُ ، قال ابنُ الورديُّ :
نصبُ المنصبِ أوهي جَلَدي
يا عنائي منْ مداراةِ السفَلْ
والمعنى : انَّ ضريبةَ المنصبِ غاليةٌ ، إنها تأخذُ ماء الوَجْهِ ، والصِّحِّة والراحةَ ، وقليلٌ مَنْ ينجو منْ تلك الضرائبِ التي يدفعُها يوميّاً ، منْ عرقِهِ ، من دِمِ ، منْ سمعتِه ، من راحتِه ، منْ عزتِه ، منْ شرفِه ، منْ كرامتِه ، ((لا تسألِ الإمارةَ)) . ((نِعْمَتِ المرضعةُ وبِئست الفاطمةُ)) ? هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ ? .
قال الشاعرُ :
هبِ الدنيا تصيرُ غليك عفواً
أليس مصيرُ ذلك للزوالِ ؟!
قدِّرْ أنَّ الدنيا أتتْ بكل شيءٍ ، فإلى أي شيء تذهبُ ؟ إلى الفناءِ ، ? وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ? .
قال أحدُ الصالحين لابنه : لا تكنْ يا بُنيَّ رأساً ، فإنَّ الرأس كثيرُ الأوجاعِ .
والمعنى : لا تُحِبَّ التصدُّرَ دائماً والتَّرؤُّس ، فإنَّ الانتقاداتِ والشتائمِ والإحراجاتِ والضرائبِ لا تصلُ إلا إلى هؤلاء المقدَّمين .
إنَّ نصف الناسِ أعداءٌ لمِنْ
ولي السلْطة هذا إنْ عدلْ
*****************************************
هيا إلى الصلاة
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ? .
كان ( إذا حزبه أمرٌ فَزِع إلى الصلاةِ .
وكان يقولُ : (( أرِحنْا بها يا بلالُ )) .
ويقولُ : (( جُعلت قرَّةُ عيني في الصلاةِ )) .
إذا ضاق الصدرُ ، وصعُب الأمرُ ، وكثر المكْرُ ، فاهرعْ إلى المصلَّى فصلِّ .
إذا أظلمتْ في وجهِك الأيامُ ، واختلفتْ الليالي ، وتغيَّرَ الأصحابُ ، فعليك بالصلاةِ .(/63)
كان النبيُّ ( في المهمَّاتِ العظيمةِ يشرحُ صدره بالصلاةِ ، كيومِ يدْرٍ والأحزابِ وغيرِها من المواطنِ . وذكروا عنِ الحافظِ ابن حجرٍ صاحبِ ( الفتحِ ) أنه ذهب إلى القلعةِ بمصر فأحط به اللصوصُ ، فقام يصلي ، ففرَّج اللهُ عنهُ .
وذكر ابنُ عساكر وابنُ القيمِ : أنَّ رجلاً من الصالحين لقيه لصٌّ في إحدى طرقِ الشامِ ، فأجهز عليه ليقتله ، فطلب منه مهلةٍ ليصلي ركعتين ، فقام فافتتح الصلاة ، وتذكَّرَ قول اللهِ تعالى : ? أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ? . فردَّدها ثلاثاً ، فنزل ملكٌ من السماءِ بحربةٍ فَقَتَلَ المجرم ، وقال : أنا رسولُ منْ يجيبُ المضطرَّ إذا دعاهُ . ? وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ? ، ? إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ? ، ? إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً ? .
وإن ممَّا يشرحُ الصدر ، ويزيلُ الهمَّ والغمَّ ، الصلاةُ على الرسول ( : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ? .
صحَّ ذلك عند الترمذيِّ : أنَّ أُبَيَّ بن كعب – رضي اللهُ عنهُ – قال : يا رسول اللهِ ، كمْ أجعلُ لك من صلاتي ؟ قال : (( ما شئت )) . قال : الربع ؟ قال : (( ما شئت ، وإنْ زدت فخيْرٌ )) . قال : الثُّلُثيْن ؟ قال : (( ما شئت ، وإنْ زدت فخيرٌ )) . قال : أجعلُ لك صلاتي كلهَّا ؟ قال : (( إذنْ يُغفرُ ذنبُك ، وتُكْفى همُّك )) .
وهنا الشاهدُ ، أنْ الهمَّ يزولُ بالصلاةِ والسلامِ على سيدِ الخلْقِ : (( منْ صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى اللهُ عليهِ بها عَشْراً )) . (( أكِثروا من الصلاةِ عليَّ ليلة الجمعةِ ويوم الجمعةِ ، فإنَّ صلاتكمْ معروضةٌ عليَّ)) . قالوا : كيف تُعرضُ عليك صلاتُنا وقدْ أرمْت ؟! -أي بليت- قال: ((إنَّ الله حرمَّ على الأرضِ أنْ تأكل أجساد الأنبياءِ)) . إنَّ للذين يقتدون به ( ويتّبعون النور الذي أُنْزِلَ معهُ نصيباً من انشراحِ صدرِه وعُلوِّ قدرِه ورفعةِ ذكرهِ .
يقولُ ابنُ تيمية : أكملُ الصلاةِ على الرسولِ ( هي الصلاةُ الإبراهيميةُ : اللهم صلِّ على محمدِ وعلى آل محمَّدٍ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وباركْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ كما باركْت على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم في العالمين . إنك حميدٌ مجيدٌ .
نسينا في ودادِك كُلَّ غالِ
فأنت اليومَ أغلى ما لَدَيْنَا
نُلامُ على محبَّتِكمْ ويكفي
لنا شرفاً نلامُ وما علينا
****************************************
الصَّدَقةُ سَعةٌ في الصَّدْرِ
ويدخلُ في عمومِ ما يجلبُ السعادة ويزيلُ الهمَّ والكدر : فعلُ الإحسانِ ، من الصدقةِ والبِرُّ ولإسداءِ الخيرِ للناسِ ، فإنَّ هذا منْ أحسنِ ما يُوسَّعُ بهِ الصَّدْرُ ، ? أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم? ، ? وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ ? .
وقدْ وصف ( البخيلُ والكريمُ برجليْن عليهما جُبَّتانِ ، فلا يزالُ الكريمُ يُعطي ويبذلُ ، فتتوسَّعُ عليه الجبَّةُ والدِّرْعُ من الحديدِ حتى يعفُوَ وأثرُه ، ولا يزالُ البخيلُ يمسكُ ويمنعُ ، فتتقلَّص عليهِ ، فتخنقهُ حتى تضيق عليهِ روحهُ ! ? وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ? . وقال سبحانه وتعالى : ? وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ? .
إنَّ غلَّ الروحِ جزءٌ منْ غلِّ اليدِ ، وإنَّ البخلاء أضيقُ الناسِ صدوراً وأخلاقاً ؛ لأنهم بخلُوا بفضلِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، ولو عملوا أنَّ ما يعطونه الناس إنما هو جلبٌ للسعادةِ ، لسارعوا إلى هذا الفعلِ الخيِّرِ ، ? إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ? .
وقال سبحانه وتعالى : ? وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? ، ? وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ?
اللهُ أعطاك فابذلْ مِنْ عطيتهِ
فالمالُ عاريةٌ والعمرُ رحَّالُ
المالُ كالماءِ إنْ تحبسْ سواقِيهُ
يأسنْ يجرِ يعذُبْ منه سلسالُ
يقولُ حاتمُ :
أما والذي لا يعلمُ الغيب غيرهُ
ويُحيي العظام البيض وهي رميمُ
لقدْ كنتُ أطوي البطن والزادُ يُشتهى
مخافة يومٍ أنْ يُقال لئيمُ
إنَّ هذا الكريم يأمرُ امرأته أنْ تستضيف له ضيوفاً ، وأن تنتظر روَّاده ليأكلوا معه ، ويؤانسوهُ ليشرح صدرهُ ، يقولُ :
إذا ما صنعتِ الزاد فالتمسي لهُ
أكولاً فإني لستُ آكلُه وحدي
ثمّ يقولُ لها وهو يعلنُ فلسفته الواضحة ، وهي معادلةٌ حسابيةٌ سافرةٌ :
أريني كريماً مات مِنْ قبلِ حِينهِ
فيرضى فؤادي أو بخيلاً مخلدَّا
هلْ جمْعُ المالِ يزيدُ في عمرِ صاحبِه ؟ هلْ إنفاقُهُ يُنقصُ من أجلِه ؟ ليس بصحيحٍ .(/64)
***************************************
لا تغضبْ
? وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ? .
أوصى ( أحد أصحابه فقال : (( لا تغضبْ ، لا تغضبْ ، لا تغضبْ )) .
وغضب رجلٌ عنده فأمرهُ ( أنْ يستعيذ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ .
وقال تعالى : ? وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ? ، ? إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ? .
إنَّ ممَّا يورِثُ الكَدَرَ والهمَّ والحزن الحِدَّةُ والغضبُ ، وله أدواءٌ عند المصطفى ( .
منها : مجاهدةُ الطبعِ على تركِ الغَضَبِ ، ? وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ? ، ? وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ? .
ومنها : الوضوءُ ، فإنَّ الغَضَبَ جمرةٌ من النارِ ، والنارُ يطفئُها الماءُ ، (( الطهورُ شطْرُ الإيمانِ )) ، (( الوضوءُ سلاحُ المؤمنِ )) .
ومنها : إذا كان واقفاً أن يجلس ، وإذا كان جالساً أن يضطجع .
منها : أنْ يسكت فلا يتكلمُ إذا غضِب .
ومنها أيضاً : أن يتذكر ثواب الكاظمين لغيظِهم ، والعافين عن الناسِ المسامحين .
***************************************
وِرْدٌ صباحيٌّ
وسوف أخبرُك بورْد من الأذكارِ تداومُ عليه كلَّ صباحٍ ، ليجلب لك السعادة ، ويحفظك منْ شرِّ شياطينِ الإنسِ والجنَّ ، ويكون لك عاصِماً طِيلة يومِك حتى تُمسي .
منْ هذهِ الأدعيةِ ، وهي التي صحَّتْ عنه ( :
أصبحنا وأصبح الملكُ للهِ ، والحمدُ للهِ ، ولا إله إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شريك لهُ ، لهُ الملكُ وله الحمدُ ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ . ربِّ أسألُك خَيْرَ ما في هذه الليلةِ ، وخَيْرَ ما بعدها ، وأعوذُ بك منْ شرِّ هذه الليلةِ وشرِّ ما بعدها ، ربِّ أعوذُ بك من الكسلِ وسُوءِ الكبِرِ ، ربِّ أعوذُ بك منْ عذابٍ في النارِ وعذابٍ في القبرِ )) .
وحديثُ : (( اللهمَّ عالم الغيبِ والشهادةِ ، فاطر السماواتِ والأرضِ ، ربَّ كلِّ شيء ومليِكه ، أشهدُ أنْ لا إله إلا أنت ، أعوذُ بك منْ شرِّ نفسي ، وشرِّ الشيطانِ وشركهِ ، وأنْ أقترف على نفسي سوءاً أو أجرَّه إلى مسلمٍ )).
وحديثُ : (( بسمِ اللهِ الذي لا يضرُّ مع اسمِه شيءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ ، وهو السميعُ العليمُ )) . ثلاث مراتٍ .
(( اللهمَّ إني أصبحتُ أشهدُك وأشهدُ حملة عرشِك وملائكتك وجميع خلقِك أنك أنت اللهُ لا إله إلاَّ أنت ، وحدك لا شريك لك ، وأنَّ محمداً عبدُك ورسولُك ( )) . أربع مرات .
((اللهمَّ إني أعوذُ بك أنْ أشرك بك شيئاً وأنا أعلمُ ، وأستغفرُك لما لا أعلمُ)).
(( أصبحنا على فِطْرةِ الإسلامِ ، وعلى كلمةِ الإخلاصِ ، وعلى دينِ نبيِّنا محمدٍ ( ، وعلى ملَّةِ أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين )) .
(( سبحان اللهِ وبحمدهِ : عَدَدَ خَلْقِهِ ، ورضا نفسِهِ ، وزِنه عرشِهِ ، ومِداد كلماتِهِ )) . ثلاث مراتٍ .
(( رضيتُ باللهِ رَبّاً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمدٍ ( نبياً )) . ثلاث مراتٍ .
(( أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّاتِ منْ شرُ ما خَلَقَ )) . ثلاثاً في المساء .
(( اللهمّ بك أصبحْنا ، وبك أمسنا ، وبك نحْيا ، وبك نموتُ ، وإليك النشورُ )) .
(( لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك لهُ ، لهُ المُلْكُ ولهُ الحمْدُ ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ )) . مائة مرة .
*********************************
وقفة
يقولُ ابنُ القيِّم : (( أجمع العارفون بالله على أنَّ الخِذْلان : أنْ يكلك اللهُ على نفسِك ، ويُخلِّي بينك وبينها . والتوفيقُ أنْ لا يكِلك اللهُ إلى نفسِك .
فالعبيدُ متقلِّبون بين توفيقهِ وخذلانِهِ ، بلِ العبدُ في الساعةِ الواحدةِ ينالُ نصيبه منْ هذا وهذا ، فيطيعهِ ويُرضيهِ ، ويذكرُه ويشكرُه بتوفيقِه له ، ثم يعصيهِ ويخالفُه ، ويُسْخِطُه ويغفلُ عنه بخذلانِهِ له ، فهو دائرٌ بين توفيقِه وخِذْلانِهِ .
فمتى شهِد العبدُ هذا المشهد وأعطاهُ حقَّه ، علِم شِدَّة ضرورتِه وحاجتِه إلى التوفيق في كلِّ نَفَسٍ وكلِّ لحظةٍ وطرْفةِ عيْنٍ ، وأنَّ إيمانه وتوحيده بيدِهِ تعالى ، لو تخلَّى عنه طرفة عينٍ لَثُلَّ عَرْشُ توحيدِه ، ولخَرَّتْ سماءُ إيمانِهِ على الأرضِ ، وأنَّ الممسك له : هو منْ يمسك السماء أنْ تقع على الأرضِ إلا بإذنِهِ )) .
*****************************************
القرآنُ .. الكتابُ المباركُ(/65)
ومنْ أسبابِ السعادةِ وانشراحِ الصدرِ قراءةُ كتابِ اللهِ بتدبُّرٍ وتمعُّنٍ وتأمُّلٍ ، فإنَّ الله وَصَفَ كتابه بأنه هدىً ونورٌ وشفاءٌ لما في الصدورِ، ووصفه بأنه رحمةٌ، ? قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ ? ، ? أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا? ، ?أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ? ، ? كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ? .
قال بعضُ أهلِ العِلْمِ : مباركٌ في تلاوتِهِ ، والعملِ به ، وتحكيمِه والاستنباطِ منه .
وقال أحدُ الصالحين : أحسسْتُ بغمٍّ لا يعلمهُ إلا اللهُ ، وبهمٍّ مقيمٍ ، فأخذتُ المصحف وبقيتُ أتلو ، فزال عني – والله – فجأةً هذا الغمُّ ، وأبدلني اللهُ سروراً وحبوراً مكان ذلك الكدرِ . ? إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ? ، ? يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ ? ، ? وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ? .
****************************************
لا تحرصْ على الشهرةِ
فإنَّ لها ضريبةً من الكدرِ والهمِّ والغمِّ
مما يشتتُ القلب ويكدِّرُ صفاءه واستقراره وهدوءه : الحرصُ على الظهورِ والشهرةِ ، وطلبِ رضا الناسِ ، ? لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً ? .
ولذلك قال أحدُهم بالمقابلِ :
مَنْ أخمل النفس أحياها وروَّحها
ولم يبتْ طاوياً منها على ضجرِ
إنَّ الرياح إذا اشتدَّتْ عواصفُها
فليس ترمي سوى العالي منَ الشجرِ
((منْ راءى راءى اللهُ بهِ ، ومنْ سمَّع سمَّع اللهُ بهِ)) . ? يُرَآؤُونَ النَّاسَ ? ، ?وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ ? ، ?وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ?.
ثوبُ الرياءِ يشِفُّ عمَّا تحتهُ
فإذا التْحفْت بهِ فإنَّك عاري
***********************************
الحياةُ الطيبةُ
من القضايا الكبرى المسلَّمةِ أنَّ أعظم هذه الأسبابِ التي أكتبُها هنا في جلبِ السعادةِ هو الإيمانُ باللهِ ربِّ العالمين ، وأنَّ السباب الأخرى والمعلوماتِ والفوائد التي جمعتْ إذا أُهديتْ لشخصٍ ولم يحصلْ على الإيمانِ باللهِ ، ولم يحُزْ ذلك الكنْز ، فلنْ تنفعه أبداً ، ولا تفيده ، ولا يتعبْ نفسه في البحثِ عنها .
إنَّ الأصل الإيمانُ باللهِ ربّاً ، وبمحمدٍ نبيّاً ، وبالإسلامِ ديناً .
يقولُ إقبالُ الشاعرُ :
إنما الكافرُ حيرانُ له الآفاقُ تِيهْ
وأرى المؤمن كوناً تاهتِ الآفاقُ فيِه
وأعظمُ منْ ذلك و أصدقُ ، قولُ ربِّنا سبحانه : ? مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ? .
وهناك شرطان :
الإيمانُ باللهِ ، ثمَّ العملُ الصالحُ ، ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ? .
وهناك فائدتان :
الحياةُ الطيبةُ في الدنيا والآخرةِ ، والأجرُ العظيمُ عند اللهِ سبحانهُ وتعالى ? لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ? .
********************************
البلاءُ في صالحِك
لا تجزعْ من المصائبِ ، ولا تكترثْ بالكوارثِ ، ففي الحديثِ : (( إن الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم ، فمنُ رضي فلهُ الرضا ، ومنْ سخط فَلَهُ السخطُ )) .
**************************************
عبوديةُ الإذعانِ والتسليمِ
ومنْ لوازمِ الإيمانِ أنْ ترضى بالقدرِ خيرهِ وشرِّهِ ، ? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ? . إنَّ الأقدار ليستْ على رغباتِنا دائماً وإنما بقصورِنا لا نعرفُ الاختيار في القضاءِ والقدرِ ، فلسْنا في مقامِ الاقتراحِ ، ولكننا في مقامِ العبوديِّةِ والتسليمِ .
يُبتلى العبدُ على قدرِ إيمانه ، (( أُوعكُ كما يُوعَكُ رجلان منكمْ )) ، (( أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ ، ثمَّ الصالحون )) ، ? فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ? ، (( مَن يردِ اللهُ بهِ خيراً يصبْ منهُ )) ، ? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ? ، ? وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ? .
****************************************
مِن الإمارة إلى النجارة(/66)
عليُّ بنُ المأمون العباسي – أميرٌ وابنُ خليفة – كان يسكنُ قصراً فخماً ، وعندهُ الدنيا مبذولةٌ ميسَّرةٌ ، فأطلَّ ذات يومٍ منْ شرفةِ القصرِ ، فرأى عاملاً يكدحُ طِيلةَ النهارِ ، فإذا أضحى النهارُ توضَّأ وصلَّى ركعتين على شاطئ دِجلة ، فإذا اقترب الغروبُ ذهب إلى أهلِه ، فدعاهُ يوماً من الأيامِ فسألهُ فأخبره أن له زوجةً وأختين وأُمّاً يكدحُ عليهنَّ ، وأنه لا قوت لهُ ولا دخل إلا ما يتكسبُه من السوقِ ، وأنه يصومُ كلَّ يومٍ ويُفطرُ مع الغروبِ على ما يحصلُ ، قال : فهلْ تشكو منْ شيءٍ ؟ قال : لا والحمدُ للهِ ربِّ العالمين . فترك القصر ، وترك الإمارة ، وهام على وجههِ ، ووُجد ميتاً بعد سنواتٍ عديدةٍ وكان يعملُ في الخشب جهة خرسان ؛ لأنهُ وجد السعادة في عملِه هذا ، ولم يجدْها في القصرِ ، ? وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ? .
يذكِّرني هذه بقصةِ أصحاب الكهفِ ، الذين كانوا في القصور مع الملكِ ، فوجدُوا الضيقَ ، ووجدوا التشتُّتَ ، ووجدوا الاضطرابَ ؛ لأنَّ الكفر يسكنُ القصر ، فذهبوا ، وقال قائلُهم : ? فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً ? .
لبيتٌ تخفقُ الأرياحُ فيهِ
أحبُّ إليَّ مِنْ قصْرٍ منيفِ
سَمُّ الخِياطِ مع الأحبابِ ميدانُ ...
والمعنى : أن المحلَّ الضيَّق مع الحبِّ والإيمانِ ، ومع المودَّةِ يتَّسعُ ويتحمَّلُ الكثير ، ((جفانُنا لضيوفِ الدار أجفانُ )) .
****************************************
منْ أسبابِ الكدرِ والنكدِ مجالسةُ الثقلاءِ
قال أحمدُ : الثقلاءُ أهلُ البدعِ . وقيلَ : الحمقى . وقيل الثقيلُ : هو ثخينُ الطبعِ ، المخالفُ في المشربِ ، الباردُ في تصرفاتِه ، ? كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ? ، ? لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ? .
قال الشافعيَّ عنهمْ : إنَّ الثقيل ليجلسُ إليَّ فأظنُّ أنَّ الأرض تميلُ في الجهةِ التي هو فيها.
وكان الأعمشُ إذا رأى ثقيلاً ، قال : ? رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ? .
لا بأس بالقومِ مِنْ طُولٍ ومِنْ قِصرٍ
جِسْمُ البِغالِ وأحلامُ العصافيرِ
وكان ابنُ تيمية إذا جالس ثقيلاً ، قال : مجالسةُ الثقلاءِ حمَّى الربْعِ، ?وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ? . ? فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ? . ((مثلُ الجليسِ السيّئِ كنافخ الكيرِ)) . إنَّ مِن اثقلِ الناسِ على القلوبِ العرِيَّ من الفضائلِ الصغير في المُثُلِ، الواقف على شهواتِه ، المستسلم لرغباتِه، ? فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ ? .
قال الشاعرُ :
أنت يا هذا ثقيلٌ وثقيلٌ وثقيلْ
أنت في المنظرِ إنسانٌ وفي الميزان فِيلْ
قال ابنُ القيمِ : إذا ابتُليت بثقيلٍ ، فسلِّم له جسمك ، وهاجرْ بروحِك ، وانتقلْ عنهُ وسافرْ ، وملِّكْه أذناً صمَّاء ، وعيْناً عمياءَ ، حتى يفتح اللهُ بينك وبينه . ? وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ? .
**********************************
إلى أهلِ المصائبِ
في الحديثِ الصحيحِ : (( منْ قبضتُ صفيَّهُ من أهلِ الدُنْيا ثمَّ احْتَسَبَهُ عوضتهُ منه الجنة )) . رواه البخاري .
وكانتْ في حياتِك لي عظاتٌ
فأنت اليوم أوعظُ منك حيّاً
وفي الحديثِ الصحيح : (( من ابتليتُه بحبيبتيْهِ ( أي عينيْهِ ) عوضتُه منهما الجنة )) . ? فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? .
وفي حديثٍ صحيحٍ : (( إنَّ الله – عزَّ وجلَّ – إذا قبض ابن العبدِ المؤمنِ قال للملائكةِ : قبضتُم ابن عبدي المؤمنِ ؟ قالُوا : نعمْ . قال : قبضتُهمْ ثمرة فؤادِه ؟ قالوا : نعم . قال : ماذا قال عبدي ؟ قالوا : حَمَدَكَ واسترجَعَ . قال : ابْنُوا لعبدي بيتاً في الجنةِ ، وسمُّوه بَيْتَ الحَمْدِ )) . رواه الترمذي .
وفي الأثرِ : يتمنَّى أناسٌ يوم القيامةِ أنَّهمْ قُرِضوا بالمقارضِ ، لمِا يروْن منْ حُسْنِ عُقبى وثوابِ المصابين . ? إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ? ، ? سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ? ، ? رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً ? ، ? وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ ? ، ? فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ? .
وفي الحديثِ : (( إنَّ عِظَمَ الجزاءِ منْ عِظمِ البلاءِ ، وإنَّ الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهمْ ، فمنْ رضي فلهُ الرَّضا ، ومنْ سخِط فلُه السخطُ )) . رواه الترمذي .(/67)
إنَّ في المصائبِ مسائلَ : الصبرَ والقدرَ والأجرَ ، وليعلمِ العبدُ انَّ الذي أخذ هو الذي أعطى ، وأنَّ الذي سلب هو الذي منح، ? إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ? .
وما المالُ والأهلون إلا ودِيعةٌ
ولابدَّ يوماً أنْ تُردَّ الودائعُ
************************************
مشاهد التوحيد
إنَّ منْ مشاهدِ التوحيدِ عند الأذيَّةِ ( استقبالِ الأذى من الناسِ ) أموراً :
أولُها مشهدُ العَفْوِ : وهو مشهدُ سلامةِ القلبِ ، وصفائهِ ونقائِه لمنْ آذاك ، وحبُّ الخيرِ وهي درجةٌ زائدةٌ . وإيصالُ الخَيْرِ والنَّفعِ له ، وهي درجة أعلى وأعظمُ ، فهي تبدأ بكظْمِ الغَيْظِ ، وهو : أنْ لا تُؤذي منْ آذاك ، ثمَّ العفو ، وهو أنْ تسامحهُ ، وأنْ تغفرَ له زلَّتهُ . والإحسانِ ، وهو : أنْ تبادله مكان الإساءةِ منه إحساناً منك ، ? وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ? ، ? فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ? ، ? وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ? .
وفي الأثرِ : (( إنَّ الله أمرني أنْ أصِلَ منْ قطعني ، وأنْ أعفو عمَّنْ ظلمنِي وأنْ أُعطي منْ حَرَمَنِي )) .
ومشهدُ القضاءِ : وهي أنْ تعلم أنه ما آذاك إلا بقضاءٍ من اللهِ وقَدَرٍ ، فإنَّ العبد سببٌ من الأسبابِ ، وأنَّ المقدر والقاضي هو اللهُ ، فتسلِّمَ وتُذْعن لمولاك .
ومشهدُ الكفارةِ : وهي أنَّ هذا الأذى كفارةٌ منْ ذنوبك وحطٌّ منْ سيئاتِك ، ومحوٌ لزلاّتِك ، ورفعةٌ لدرجاتِك ، ? فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ? .
من الحكمةِ التي يؤتاها كثيرٌ من المؤمنين ، نَزْعُ فتيلِ العداوةِ ، ? ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ? ، (( المسلمُ منْ سلِم المسلمون منْ لسانِه ويدهِ )) .
أيْ : أن تَلْقَى منْ آذاك بِبِشر وبكلمةٍ لينةٍ ، وبوجهٍ طليقٍ ، لتنزع منهُ أتون العداوةِ ، وتطفئ نار الخصومِة ? وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ? .
كٌن ريِّق البِشْرِ إنَّ الحُرَّ شيمتُهُ
صحيفةٌ وعليها البِشْرُ عنوانُ
ومنْ مشاهدِ التوحيدِ في أذى منْ يؤذيك :
مشهدُ معرفةِ تقصيرِ النفسِ : وهو انَّ هذا لم يُسلَّطِ عليك إلا بذنوبٍ منك أنت ، ?أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ? ، ?وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ?
وهناك مشهدٌ عظيمٌ ، وهو مشهدٌ تحمدُ الله عليهِ وتشكرُه ، وهو : أنْ جعلك مظلوماً لا ظالماً .
وبعضُ السلفِ كان يقولُ : اللهمَّ اجعلْني مظلوماً لا ظالماً . وهذا كابنْيْ آدم ، إذ قال خيرُهما : ? لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ? .
وهناك مشهدٌ لطيفٌ آخرُ ، وهو : مشهدُ الرحمةِ وهو : إن ترْحَمَ منْ آذاك ، فإنهُ يستحقُّ الرحمةَ ، فإنَّ إصراره على الأذى ، وجرأته على مجاهرةِ اللهِ بأذيةِ مسلمٍ : يستحقُّ أن ترقَّ لهُ ، وأنْ ترحَمَهُ ، وأنْ تنقذه من هذا ، (( انصرْ أخاك ظالماً أو مظلوماً )) .
ولمَّا آذى مِسْطَحٌ أبا بكرٍ في عِرْضِهِ وفي ابنتِهِ عائشة ، حلف أبو بكرٍ لا ينفقُ على مسطحٍ ، وكان فقيراً ينفقُ عليه أبو بكرٍ ، فأنزل اللهُ : ? وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ? . قال أبو بكرٍ : بلى أُحِبُّ أن يغفرَ اللهُ لي . فأعاد له النفقة وعفا عنهُ .
وقال عيينهُ بنُ حِصْنٍ لعمر : هيهِ يا عمرُ ؟ والله ما تعطينا الجَزْلَ ، ولا تحكمُ فينا بالعدْلِ . فهمّ به عمرُ ، فقال الحرُّ بنُ قيس : يا أمير المؤمنين ، إنَّ الله يقول : ? خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ? ، قال : فواللهِ ما جاوزها عمرُ ، وكان وقَّفاً عند كتابِ اللهِ .
وقال يوسُفُ إخوتِهِ : ? قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ? .
وأعلنها ( في الملأِ فيمنْ آذاهُ وطرده وحاربه منْ كفارِ قريش ، قال : (( اذهبُوا فأنتمُ الطلقاءُ )) قالها يوم الفتحِ ، وفيِ الحديثِ : (( ليس الشديدُ بالصُّرَعَةِ ، إنَّما الشديدُ الذي يملكُ نفسه عندَ الغضبِ )) .
قال ابنُ المباركِ :
إذا صاحبت قوماً أهل وُدٍّ
فكْن لهمُ كذي الرَّحِمِ الشفيقِ(/68)
ولا تأخذْ بزلَّةِ كلِّ قومٍ
فتبقى في الزمانِ بلا رفيقِ
قال بعضُهم : موجودٌ في الإنجيل : اغفرْ لمنْ أخطأ عليك مرةً سبع مراتٍ ? مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ?
أيْ : منْ أخطأ عليك مرةً فكرِّرْ عليه العَفْوَ سبع مراتٍ ، ليسلم لك دينُك وعِرْضُك ، ويرتاح قلبُك ، فإنَّ القَصَاصَ منْ أعصابِك ومنْ دمِك ، ومنْ نومِك ومنْ راحتِك ومنْ عِرضِك ، وليس من الآخرين .
قال الهنودُ في مثلٍ لهم : « الذي يقهرُ نفسه : أشجعُ من الذي يفتحُ مدينةً » . ? إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ ? .
**********************************
وقفةٌ
« أما دعوةُ ذي النونِ ، فإنَّ فيها منْ كمالِ التوحيدِ والتنزيهِ للربِّ تعالى ، واعترافِ العبدِ بظلمهِ وذنبه ، ما هو منْ أبلغ أدويةِ الكربِ والهمِّ والغمِّ ، وأبلغ الوسائلِ إلى اللهِ سبحانه في قضاءِ الحوائجِ فإنَّ التوحيد والتنزيهَ وتضمَّنانِ إثبات كلِّ كمالٍ للهِ ، وسلب كلِّ نقصٍ وعيبٍ وتمثيلٍ عنه . والاعترافُ بالظلمِ يتضمَّنُ إيمان العبدِ بالشرعِ والثوابِ والعقابِ ، ويُوجبُ انكساره ورجوعهُ إلى اللهِ ، واستقالته عثرته ، والاعتراف بعبوديتهِ وافتقارِه إلى ربِّه فهاهنا أربعة أمورٍ قدْ وقع التوسُّلُ بها : التوحيدُ ، والتنزيهُ ، والعبوديةُ ، والاعترافُ » .
? وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ{156} أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ? .
**************************************
اعتنِ بالظاهرِ والباطنِ
صفاءُ النفسِ بصفاءِ الثوبِ ، وهنا أمرٌ لطيفٌ وشيءٌ شريف ، وهو أنَّ بعض الحكماءِ يقولُ : منِ اتسخ ثوبُه ، تكدَّرتْ نفسُه . وهذا أمرٌ ظاهرٌ .
وكثيرٌ من الناسِ يأتيهِ الكَدَرُ بسببِ اتساخ ثوْبِهِ ، أو تغيُّرِ هِندامِهِ ، أو عدمِ ترتيبِ مكتبتِهِ ، أو اختلاطِ الأوراقِ عنده ، أو اضطرابِ مواعيدِه وبرنامِجِه اليوميِّ ، والكونُ بُني على النظامِ ، فمنْ عَرَفَ حقيقة هذا الدِّينِ ، علم أنه جاء لتنظيمِ حياةِ العبدِ ، قليلِها وكثيرِها ، صغيرِها وجليلِها ، وكلُّ شيءٍ عنده بحُسْبانٍ ? مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ? . وفي حديثٍ عند الترمذيِّ : (( إنَّ الله نظيفٌ يحبُّ النظافة )) .
وعند مسلمٍ في الصحيحِ : (( إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال )) .
وفي حديثٍ حسنٍ : (( تجمَّلُوا حتى تكونوا كأنكمْ شامةٌ في عيونِ الناسِ )) .
يمشون في الحُللِ المضاعفِ نسْجُها
مشي الجمالِ إلى الجِمالِ البُزَّلِ
زأولُ الجمالِ : الاهتمامُ بالغسلِ . وعند البخاري : (( حقٌّ على المسلمِ أنْ يغتسل في كلِّ سبعةِ أيامٍ يوماً ، يغسلُ فيه رأسه وجسمهُ )) .
هذا على أقلِّ تقديرٍ . وكان بعضُ الصالحين يغتسلُ كلَّ يومٍ مرةً كعثمان بنِ عفان فيما ورد عنهُ ، ? هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ? .
ومنها خصالُ الفطرةِ : كإعفاءِ اللحيِة وقصِّ الشاربِ ، وتقليمِ الأظافرِ ، وأخذِ الشعرِ الزائدِ من الجسمِ ، والسواكِ ، والطِّيبِ ، وتخليلِ الأسنانِ ، وتنظيفِ الملابسِ ، والاعتناءِ بالمظهرِ ، فإنَّ هذا مما يوسِّعُ الصدر ويفسحُ الخاطر . ومنها لُبسُ البياضِ ، (( البسوا البياض ، وكفِّنوا فيه موتاكمْ )) .
رقاقُ النعالِ طيّباً حُجُزاتُهم
يُحيّون بالرَّيْحانِ يوم السباسِبِ
وقد عقد البخاريُّ باب : لبسِ البياضِ : (( إنَّ الملائكة تنزلُ بثيابٍ بيضٍ عليهمْ عمائمُ بِيضٌ )) .
ومنها ترتيبُ المواعيدِ في دفترٍ صغيرٍ ، وتنظيمُ الوقتِ ، فوقتٌ للقراءةِ ، ووقتٌ للعبادةِ ، ووقتٌ للمطالعةِ ، ووقتٌ للراحة ، ? لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ? ، ? وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ? .(/69)
في مكتبةِ الكونجرسِ لوحةٌ مكتوبٌ عليها : الكونُ بُني على النظامِ . وهذا صحيحٌ ، ففي الشرائعِ السماويةِ الدعوةُ إلى التنظيمِ والتنسيقِ والترتيبِ ، وأخبر – سبحانه وتعالى – أنَّ الكون ليس لهْواً ولا عبثاً ، وأنه بقضاءٍ وقدرٍ ، وأنه بترتيب وبحُسبانٍ : ? الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ? . ? لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ? . ? وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ? . ? وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ? .? رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ? . ?وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ{16} لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ? .
? وَقُلِ اعْمَلُواْ ? :
كان حكماءُ اليونانِ إذا أرادُوا معالجة المصابِ بالأوهامِ والقلق والأمراضِ النفسيةِ : يجبرونهُ على العملِ في الفلاحة والبساتين ، فما يمرُّ وقتٌ قصير إلا وقد عادت إليه عافيته وطمأنينته ، ? فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ? ، ? وَقُلِ اعْمَلُواْ ? .
إنَّ أهل الأعمالِ اليدويِة همْ أكثُر الناسِ راحةً وسعادةً وبسْطة بالٍ، وانظرْ إلى هؤلاءِ العمَّالِ كيف يملكون منْ البالِ وقوةِ الأجسامِ ، بسببِ حركتِهمْ ونشاطِهمْ ومزاولاتِهمْ ، ((وأعوذُ بك من العجْزِ والكسلِ )) .
*********************************************
التْجِئ إلى الله
اللهُ : هو الاسم الجليلُ العظيمُ ، هو أعرفُ المعارفِ ، فيه معنىً لطيفٌ ، قيل : هو مِنْ أَلهَ ، وهو الذي تألهُهُ القلوبُ ، وتحبُّه ، وتسكنُ إليه ، وترضى بهِ وتركنُ إليهِ ، ولا يمكنُ للقلبِ أبداً أن يسكن أو يرتاح أو يطمئنَّ لغيرهِ سبحانه ، ولذلك علّم ( فاطمة ابنتهُ دعاء الكرْبِ : (( اللهُ ، اللهُ ربي لا أشركُ به شيئاً )) . وهو حديثٌ صحيحٌ ، ? قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ? ، ? وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ? ، ? اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ? ، ? وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ? ، ? وْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ? ، ? إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ? .
***************************************
عليهِ توكَّلْتُ
ومنْ أعظمِ ما يُضفي السعادة على العبدِ ركونُهُ إلى ربِّه ، وتوكُّلُه عليهِ ، واكتفاؤه بولايتهِ ورعايتهِ وحراستهِ ، ? هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ? ، ? إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ? ، ? أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ? .
**********************************
أجمعُوا على ثلاثةٍ
طالعتُ الكتب التي تعتني بمسألةِ القلقِ والاضطرابِ ، سواءٌ كانتْ لسلفِنا من محدِّثين وأدباء ومربِّين ومؤرِّخين أو لغيرِهمْ مع النشراتِ والكتبِ الشرقيةِ والغربيةِ والمترجمةِ ، والدورياتِ والمجلاَّتِ ، فوجدتُ الجميع مجمعين على ثلاثةِ أسسِ لمنْ أراد الشفاء والعافية وانشراح الصدرِ ، وهي :
الأولُ : الاتصالُ باللهِ عزَّ وجلَّ ، وعبوديتُه ، وطاعتُه واللجوءُ إليه ، وهي مسألةُ الإيمانِ الكبرى ، ? فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ? .
الثاني : إغلاقُ ملفِّ الماضي ، بمآسيهِ ودموعِه ، وأحزانِه ومصائِبِه ، وآلامِه وهمومِه ، والبدءِ بحياةٍ جديدةٍ مع يومٍ جديدٍ .
الثالثُ : ترْكُ المستقبلِ الغائبِ ، وعدمُ الاشتغالِ بهِ والانهماكُ فيهِ ، وتركُ التوقعاتِ والانتظاراتِ والتوجُّساتِ ، وإنِّما العيشُ في حدودِ اليومِ فَحَسْبُ .
قال عليٌّ : إيَّاكمْ وطول الأملِ ، فإنَّه يُنْسِي ، ? وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ? .
إيَّاك وتصديق الأراجيفِ والشائعاتِ ، فإنَّ الله قال عنْ أعدائِه : ? يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ? .(/70)
وعرفتُ أناساً منْ سنواتٍ عديدةٍ ، وهمْ ينتظرون أموراً ومصائب وحوادث وكوارث لمْ تقعْ ، ولا يزالون يُخوِّفون أنفسهم وغيرهم منها، فسبحان الله ما أنكدُ عَيْشَهمْ !! ومَثَلُ هؤلاءِ كالسجينِ المعذَّبِ عند الصينيين ، فإنهمْ يجعلونه تحت أنبوبٍ يقطُرُ على رأسِهِ قطرةً من الماءِ في الدقيقةِ الواحدةِ ، فيبقى هذا السجينُ ينتظرُ كلَّ قطرةٍ ثمَّ يصيبُه الجنونُ ، ويفقدُ عقله . وقدْ وصف اللهُ أهل النارِ فقال : ? لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ? ، ? لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى ? ، ? كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ? .
****************************************
أحِلْ ظالمك على الله
إلى الدَّيانِ يوم الحشْرِ نمضي
وعند اللهِ تجتمعُ الخصومُ
ويكفي العبد إنصافاً وعدْلاً أنهُ ينتظرُ يوماً يجمعُ اللهُ فيهِ الأولين والآخرين ، لا ظلم في ذلك اليومِ ، والحكمُ هو اللهُ عزَّ وجلَّ ، والشهودُ الملائكةُ ، ? وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ? .
*****************************
كسرى وعجوزٍ
ذكر بُزر جمهرُ حكيمُ فارس : أنَّ عجوزاً فارسيةً كان عندها دجاجٌ في كوخٍ مجاورٍ لقصرِ كسرى الحاكمِ ، فسافرتْ إلى قريةٍ أخرى ، فقالتْ : يا ربِّ أستودعُك الدجاج . فلمَّا غابتْ ، عدا كسرى على كوخِها ليوسع قصْره وبستانهُ ، فذبح جنودُه الدجاج ، وهدمُوا الكوخ ، فعادتِ العجوزُ فالتفتتْ إلى السماءِ وقالتْ : يا ربّ ، غبتُ أنا فأين أنت ! فأنصفها اللهُ وانتقم لها ، فعدا ابنُ كسرى على أبيه بالسكينِ فَقَتَلهُ على فراشِهِ . ? أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ? ، ليتنا جميعاً نكونُ كخيْرَي ابني آدم القائلِ : ? لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ ? . (( كنْ عبد اللهِ المقتول ، ولا تكنْ عبد الله القاتل )) ، إنَّ عند المسلمِ مبدأ ورسالةً وقضيةً أعظمُ من الانتقامِ والتشفي والحِقْدِ والكراهيةِ .
******************************************
مُرَكَّبُ النقْصِ قد يكونُ مُرَكَّبَ كمالٍ
? لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ? . بعضُ العباقرةِ شقُّوا طريقهم بصمودٍ لإحساسِهم بنقصٍ عارضٍ ، فكثيرٌ من العلماءِ كانوا موالي ، كعطاءٍ ، وسعيدِ بن جُبيْرٍ ، وقَتَادَةَ ، والبخاريِّ ، والترمذيِّ ، وأبي حنيفة .
وكثيرٌ منْ أذكياءِ العالمِ وبحورِ الشريعةِ أصابهُم العمى ، كابن عباسٍ ، وقتادة ، وابنِ أمِّ مكتوم ، والأعمشِ ، ويزيدِ بنِ هارون .
ومن العلماء المتأخرين : الشيخُ محمدُ بنُ إبراهيم آل الشيخ ، والشيخُ عبدُاللهِ بنُ حميد ، والشيخُ عبدُالعزيزِ بنُ بازٍ . وقرأتُ عن أذكياء ومخترعين وعباقرةٍ عَرَبٍ كان بهمْ عاهاتٌ ، فهذا أعمى ، وذاك أصمُّ وآخرُ أعوجُ ، وثانٍ مُقْعدٌ ، ومع ذلك أثَّروا في التاريخ ، وأثَّروا في حياةِ البشريةِ بالعلومِ والاختراعاتِ والكشوفِ . ? وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ? .
ليستِ الشهادةُ العلميةُ الراقيةُ كلَّ شيءٍ ، لا تهتمَّ ولا تغتمَّ ولا تضِقْ ذرْعاً لأنك لم تنلِ الشهادة الجامعية ، أو الماجستير ، أو الدكتوراه ، فإنها ليستْ كلُّ شيء ، بإمكانِك أنْ تؤثِّرَ وأنْ تلمع وأنْ تقدّم للأمةِ خيراً كثيراً ، ولوْ لمْ تكنْ صاحب شهادةٍ علميةٍ . كمْ منْ رجلٍ شهيرٍ خطيرٍ نافعٍ لا يحملُ شهادةً ، إنما شقَّ طريقه بعصاميَّتِهِ وطموحِه وهمَّتِه وصمودِه . نظرتُ في عصرِنا الحاضرِ فرأيتُ كثيراً من المؤثِّرين في العالمِ الشرعي والدعوةِ والوعي والتربيةِ والفكرِ والأدبِ ، لم يكنْ عندهمْ شهاداتٌ عالميةٌ ، مثلُ الشيخ ابن بازِ ، ومالكِ بنِ نبيٍّ ، والعقادِ ، والطنطاوي ، وأبي زهرة ، والمودوديِّ والندويِّ ، وجمعٍ كثيرٍ .
ودونك علماء السلفِ ، والعباقرة الذين مرُّوا في القرونِ المفضَّلةِ .
نفسُ عصامٍ سوَّدتْ عِصاما
وعلَّمتْهُ الكرَّ والإقداما
وعلى الضدِّ منْ ذلك آلافُ الدكاترةِ في العالمِ طولاً وعرضاً ، ? هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ? . القناعةُ كَنْزٌ عظيمٌ ، وفي الحديثِ الصحيحِ : (( ارض بما قسم اللهُ لك تَكُنْ أغنى الناسِ )) .
ارضْ بأهلِك ، بدخْلِك ، بمرْكبِك ، بأبنائِك ، بوظيفتِك ، تجدِ السعادة والطمأنينة .
وفي الحديثِ الصحيحِ : (( الغِنى غِنى النفسِ )) .
وليس بكثرةِ العرضِ ولا بالأموالِ وبالمنصبِ، لكنَّ راحة النفسِ ، ورضاها بما قَسَمَ الله.(/71)
وفي الحديثِ الصحيحِ : ((إنَّ الله يحبُّ العبد الغنيَّ التقيَّ الخفيَّ)) . وحديثِ : ((اللهمَّ اجعلْ غناه في قلبِهِ )) .
قال أحدُهم : ركبتُ مع صاحبِ سيارةٍ من المطارِ ، متوجّهاً إلى مدينةٍ من المدنِ ، فرأيتُ هذا السائق مسروراً جذِلاً ، حامداً للهِ وشاكراً ، وذاكراً لمولاهُ ، فسألُه عن أهلِه فأخبرني أنَّ عنده أسرتين ، وأكثر منْ عشرةِ أبناءٍ ، ودخلُهُ في الشهرِ ثمانمائةِ ريالٍ فَحَسْبُ ، وعنده غُرفٌ قديمةٌ يسكنُها هو وأهلُه ، وهو مرتاح البالِ ، لأنهُ راضٍ بما قَسَمَ اللهُ لهُ .
قال : فعجبتُ حينما قارنتُ بين هذا وبين أناسٍ يملكونُ ملياراتٍ من الأموالِ والقصورِ والدورِ ، وهمْ يعيشون ضنْكاً من المعيشةِ ، فعرفتُ أن السعادة ليستْ في المالِ .
عرفتُ خَبَرَ تاجرٍ كبيرٍ ، وثريٍّ شهيرٍ عندهُ آلافُ الملايين وعشراتُ القصورِ والدورِ ، وكانَ ضيِّق الخُلُقِ ، شرس التعاملِ ثائر الطبع ، كاسف البالِ ، مات في غربةٍ عنْ أهلِه ، لأنهُ لم يَرْضَ بما أعطاهُ اللهُ إياه ، ? ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ{15} كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً ? .
منْ معالمِ راحةِ البالِ عند العربيِّ القديمِ أنْ يَخْلُو بنفسِه في الصحراءِ ، وينفرد عنِ الأحياءِ ، يقولُ أحدُهم :
عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذْ عوى
وصوَّت إنسانٌ فكِدْتُ أطِيرُ
وقد خرج أبوٍّ ذر إلى الربذةِ . وقال سفيانُ الثوريَّ : ودِدْتُ أني في شِعْبٍ من الشِّعابِ لا يعرفُني أحدٌ ! وفي الحديثِ : (( يُوشِكُ أنْ يكون خَيْرَ مالِ المسلمِ : غَنَمٌ يتبعُ بها مواقع القطرِ وشعف الجبالِ ، ويفرُّ بدينِه من الفِتنِ )) .
فإذا حصلتِ الفتنُ كان الأسلمُ للعبدِ الفرار منها ، كما فعل ابنُ عُمرَ وأسامةُ بنُ زيدٍ ومحمدُ بنُ مسلمة لما قُتِل عثمانُ .
عَرفْتُ أناساً ما أصابهمُ الفقْرُ والكدرُ وضيِقُ الصَّدْرِ إلا بسببِ بُعْدِهم عنِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، فتجدُ أحدهم كان غنيّاً ورزقُهُ واسعاً ، وهو في عافيةٍ منْ ربِّه ، وفي خيرٍ منْ مولاه ، فأعرض عنْ طاعِة اللهِ ، وتهاون بالصلاةِ ، واقترف كبائر الذنوبِ ، فسلبَه ربُّه عافية بدنِه ، وَسَعَةَ رِزْقِهِ ، وابتلاهُ بالفقْرِ والهمِّ والغمِّ ، فأصبح منْ نكدٍ إلى نَكَدٍ ، ومنْ بلاءٍ إلى بلاءٍ ، ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ? ، ? ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ? ، وقوله تعالى : ? وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ? ، ?وَأَن أَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً?.
ودِدتُ أنَّ عندي وصفةً سحريَّة ألقيها على همومك وغمومِك وأحزانِك ، فإذا هي تلْقفُ ما يأفِكون ، لكنْ مِنْ أين لي ؟! ولكنْ سوف أخبرُك بوصفةٍ طبيَّةٍ منْ عيادةِ علماءِ الملَّةِ وروَّاد الشَّريعةِ ، وهي : اعبدِ الخالق ، وارض بالرزقِ ، وسلّمْ بالقضاءِ ، وازهدْ في الدُّنيا ، وقصَّرِ الأمل . انتهى .
عجبتُ العالِم نفسانٍّي شهيرٍ أمريكيٍّ ، اسمُهُ ( وليم جايمس ) ، هو أبو علِم النفسِ عندهم ، يقولُ : إننا نحنُ البشرُ نفكِّرُ فيما لا نملكُ ، ولا نشكرُ الله على ما نملكُ ، وننظرُ إلى الجانبِ المأسويِّ المظلمِ في حياتِنا ، ولا ننظرُ إلى الجانب المشْرقِ فيها ، ونتحسَّرُ على ما ينقصُنا ، ولا نسعدُ بما عندنا ، ? لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ? ، (( وأعوذُ باللهِ منْ نفسٍ لا تَشْبَعُ )) .
وفي الحديثِ : (( منْ أصبح والآخرةُ همُّه ، جمع اللهُ شمله ، وجَعَلَ غناه في قلبِه ، وأتتْه الدنيا وهي راغمةٌ ، ومنْ أصبح والدنيا همُّه ، فرَّق اللهُ عليهِ شمله ، وجعلَ فَقْرَهُ بين عيْنَيْه ، ولم يأتِه من الدنيا إلاَّ ما كٌتِب له )) . ? وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ? .
******************************************
وأخيراً اعترفُوا
( سخروف ) عالمٌ روسيٌ ، نُفِي إلى جزيرةِ سيبيريا ، لأفكارِه المخالفةٍ للإلحادِ ، والكفرِ باللهِ ، فكان يُنادي أنَّ هناك قوةً فاعلةً مؤثرةً في العالمِ خلاف ما يقولُه الشيوعيُّون : لا إله ، والحياةُ مادةٌ . ومعنى هذا : أنَّ النفوس مفطورةٌ على التوحيدِ . ? فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ? .
إنَّ الملحد لا مكان له هنا وهناك ؛ لأنه منكوسُ الفِطْرةِ ، خاوي الضميرِ مبتورُ الإرادةِ ، مخالفٌ لمنهجِ اللهِ في الأرضِ .(/72)
قابلتُ أستاذاً مسلماً في معهدِ الفكرِ الإسلاميِّ بواشنطن قبل سقوطِ الشيوعيةِ – أو الاتحادِ السوفيتيِّ – بسنتين ، فذكر لي هذه الآية : ? َنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ? وقال: سوف تتمُّ هذه الآيةُ فيهمْ: ?فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ ? ، ? فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ? ، ? فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ? ، ? فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ? .
****************************************
لحظاتٌ مع الحمقى
للزيِّاتِ في مجلةِ ( الرسالة) كلامٌ عجيبٌ ، ومقالةٌ رائعةٌ في وصفِ الشيوعيةِ ، حينما أرسلوا سفينة الفضاءِ إلى القمرِ وعادتْ ، فكتبَ أَحَدُ روّادِها مقالاً في صحيفةِ ( البرافدا) الروسيةِ ، يقولُ فيها : صعِدْنا إلى السماءِ فلمْ نجدْ هناك إلهاً ولا جنةً ولا ناراً ولا ملائكةً .
فكتب الزيَّاتْ مقالةً فيها : « عجباً لكم أيُّها الحُمُرُ الحمْقى !! أتظنون أنكمْ سوف تَرَوْنَ ربَّكُم على عرشِهِ بارزاً ، وسوف ترون الحُور العِين في الجناتِ يمشين في الحريرِ ، وسوف تسمعون رقرقة الكوْثرِ ، وسوف تشمُّون رائحة المعذَّبين في النارِ ، إنكمْ إنْ ظننتم ذلك خسرتُم خسرانكم الذي تعيشونه ، ولكنْ لا أفسرُ ذلك التيه والضلال والانحراف والحُمْق إلا بالشيوعيةِ والإلحادِ الذي في رؤوسِكمْ . إنَّ الشيوعية يومٌ بلا غدٍ ، وأرضٌ بلا سماءٍ ، وعملٌ بلا خاتمةٍ ، وسعيٌ بلا نتيجةٍ .. » إلى آخرِ ما قال ، ? أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ? ، ? لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا ? ، ? وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ? ، ? أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ? ، ? أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ? .
ومن كلامِ العقادِ في كتابِ ( مذاهبُ ذوي العاهاتِ ) ، وهو ينهدُ غاضباً على هذهِ الشيوعيةِ ، وعلى هذا الإلحادِ السخيفِ الذي وقع في العالمِ ، كلامٌ ما معناه : إنَّ الفطرة السويَّة تقبلُ هذا الدين الحقَّ ، دين الإسلامِ ، أما المعاقون عقلياً والمختلفون وأهلُ الأفكارِ العفِنةِ القاصرةِ ، فإنها يمكنُ أنْ ترتكب الإلحاد . ? وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ? .
إنَّ الإلحاد ضربةٌ قاصمةٌ للفكرِ ، وهو أشبهُ بما يُحدِّثُه الأطفالُ في عالمِهم ، وهو خطيئةٌ ما عَرَفَ الدهرُ أكبر منها خطيئةً . ولذلك قال اللهُ سبحانه وتعالى: ? أَفِي اللّهِ شَكٌّ....? !!
يعني : أنَّ الأمر لا شكَّ فيه ، وهو ظاهرٌ . بلْ ذكر ابنُ تيمية : أن الصانع - يعني : الله سبحانه وتعالى – لم ينكرْه أحدٌ في الظاهِرِ إلا فرعونُ ، مع العلمٍ أنهُ معترفٌ به في باطنِه ، وفي داخلهِ ، ولذلك يقولُ موسى : ? قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً ? ، ولكنَّ فرعون في آخر المطافِ صرخ بما في قلبِه : ? آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ? .
**************************************
الإيمانُ طريقُ النجاةِ
في كتابِ ( اللهُ يتجلَّى في عصرِ العلمِ ) ، وكتاب ( الطبُّ مِحْرابُ الإيمانِ ) حقيقةٌ وهي : وجدتُ أنَّ أكثر مُعين للعبدِ في التخلُّص منْ همومِه وغمومِه ، هو الإيمانُ باللهِ عزَّ وجلّ، وتفويضُ الأمرِ إليه ، ? وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ? ، ? مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ? .
منْ يعلمْ أنَّ هذا بقضاءٍ وقدرٍ ، يهدِ قلبه للرضا والتسليمِ أو نحو ذلك ، ? وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ? .
وأعلمُ أني لم تُصِبْني مصيبةٌ
مِن الله إلا قدْ أصابتْ فتىً قبلي(/73)
إن كُتَّاب الغربِ اللامعِين ، مثل ( كرسي مريسون ) ، و ( ألكس كاريل ) ، و ( دايل كارنيجي ) ، يعترفون أنَّ المنقذ للغربِ الماديِّ المتدهورِ في حياتهم إنما هو الإيمانُ باللهِ عزَّ وجلَّ ، وذكروا أنَّ السبب الكبير والسرَّ الأعظم في حوادثِ الانتحاراتِ التي أصبحتْ ظاهرةً في الغربِ ، إنّما هو الإلحادُ والإعراضُ عنِ الله – عزَّ وجلَّ – ربِّ العالمين ، ? لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ? ، ? وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ? .
ذكرتْ جريدةُ ( الشرق الأوسط ) في عددها بتاريخ 21/ 4/ 1415 هـ ، نقلاً عنْ مذكراتِ عقيلةِ الرئيسِ الأمريكيِّ السابقِ ( جورج بوش ) : أنَّها حاولتِ الانتحار أكثر منْ مرةٍ ، وقادتِ السيارة إلى الهاويةِ تطلبُ الموت مظانَّهُ ، وحاولتْ أنْ تختنق .
لقدْ حضر قزمانُ معركة أُحدٍ يقاتلُ فيها مع المسلمين فقاتلُ قتالاً شديداً . قال الناسُ : هنيئاً له الجنةُ . فقال ( : ((إنهُ منْ أهلِ النارِ))!! فاشتدتْ به جراحُه فلم يصبرْ ، فَقَتَلَ نفسه بالسيفِ فمات، ?الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً?.
وهذا معنى قولِهِ سبحانه وتعالى: ? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ? .
إنَّ المسلم لا يقدمُ على مثلِ هذهِ الأمورِ ، مهما بلغتْ الحالُ . إنَّ ركعتين بوضوءٍ وخشوعٍ وخضوعٍ كفيلتان أنْ تُنهيا كلَّ هذا الغمِّ والكدرِ والهمِّ والإحباطِ ، ? وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ? .
إنَّ القرآن يتساءلُ عنْ هذا العالمِ ، وعنِ انحرافِه وضلالِه فيقولُ : ?فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ? ؟! ما هو الذي يردُّهمْ عنِ الإيمانِ، وقدْ وضُحتِ المحجةُ ، وقامتِ الحجةُ، وبان الدليلُ ، وظهر الحقُّ ، وسطع البرهانُ. ?سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ? ، يتبينُ لهمْ أنَّ محمداً ( صادقٌ ، وأنَّ الله إلهٌ يستحقُّ العبادة ، وأنَّ الإسلام دينٌ كاملٌ يستحقُّ أنْ يعتنقه العالمُ ، ?وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى?.
******************************
حتى الكُفَّارُ درجاتٌ
في مذكراتِ الرئيسِ ( جورج بوش ) بعنوان ( سيرةٌ إلى الأمامِ ) : ذكر أنَّه حضر جنازة برجنيف ) ، رئيسِ الاتحادِ السوفيتيِّ في موسكو ، قال فوجدتُها جنازةً مظلمةً قاتمةً ، ليس فيها إيمانٌ ولا روحٌ . لأنّ (بوش ) نصرانيٌّ وأولئك ملاحدةٌ ? وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ? . فانظرْ كيف أدرك هذا مع ضلالِهِ انحراف أولئك ، لأنَّ الأمر أصبح نسبيّاً فكيف لو عَرَف بوش الإسلام ، دين اللهِ الحقِّ ؟! ? وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? .
وذكَّرني هذا بمقالةٍ لشيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية ، وهو يتحدَّثُ عن أحدِ البطائحيةِ ( الفرقِ الضالًّةِ الصوفيةِ المنحرفةِ ) . يقولُ هذا البطائحيُّ لابنِ تيمية : ما لكمْ يا ابن تيمية إذا جئْنا إليكمْ – يعني أهل السنةِ – بارتْ كرامتُنا وبطلتْ ، وإذا ذهبْنا إلى التتِر المغولِ الكفارِ ظهرتْ كرامتُنا؟ قال ابنُ تيمية : أتدري ما مثلُنا ومثلُكُم ومثَلُ التتارِ ؟ أما نحنُ فخيولٌ بيضٌ ، وأنتم بُلْقٌ ، والتترُ سُودٌ ، فالأبلقُ إذا دخل بين السودِ أصبح أبيض ، وإذا خالط البض أصبح أسود ، فأنتمْ عندكمْ بقيةٌ منْ نورٍ ، إذا دخلتمْ مع أهلِ الكفرِ ظَهَرَ هذا النورُ وإذا أتيتُم إلينا ونحنُ أهل النورِ الأعظمِ والسنة ، ظهر ظلامُكم وسوادُكم ، فهذا مثلكُم ومثلُنا ومثلُ التتارِ . ? وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? .
**********************************
إرادةٌ فولاذيةٌ(/74)
ذهب طالبٌ منْ بلادِ الإسلامِ يدرسُ في الغربِ ، وفي لندن بالذاتِ ، فسكن مع أسرةٍ بريطانيةٍ كافرةٍ ، ليتعلَّم اللغة ، فكان متديِّناً وكان يستيقظُ مع الفجرِ الباكرِ ، فيذهبُ إلى صنبورِ الماءِ ويتوضأُ ، وكان ماءً بارداً ، ثمَّ يذهبُ إلى مصلاَّهُ فيسجدُ لربِّه ويركعُ ويسبحُ ويَحْمَدُ ، وكانتْ عجوزٌ في البيتِ تلاحظهُ دائماً ، فسألتْه بعد أيامٍ : ماذا تفعلُ ؟ قال : أمرني ديني أنْ أفعل هذا . قالتْ : فلو أخَّرْت الوقت الباكر حتى ترتاح في نومِك ثمَّ تستيقظ . قال : لكنَّ ربي لا يقبلُ منِّي إذا أخّرتُ الصلاة عن وقتِها . فهزَّتْ رأسها ، وقالتْ : إرادةٌ تكسرُ الحديد !! ? رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ? .
إنِّها إرادةُ الإيمانِ ، وقوةُ اليقينِ ، وسلطانُ التوحيدِ . هذهِ الإرادةُ هي التي أوحتْ إلى سحرةِ فرعون وقدْ آمنوا باللهِ ربِّ العالمين في لحظةِ الصراعِ العالميِّ بين موسى وفرعون ، قالوا لفرعون : ? قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ? . وهو التحدّي الذي ما سُمع بمثلِهِ ، وأصبح عليهمْ أنْ يؤدُّوا هذه الرسالة في هذه اللحظةِ ، وأنْ يبلِّغوا الكلمة الصادقة القوية إلى هذا الملحدِ الجبارِ .
لقدْ دخل حبيبُ بنُ زيدٍ إلى مسيلمة يدعوه إلى التوحيدِ ، فأخذ مسيلمةُ يقطعُهُ بالسيفِ قطعةً قطعةً ، فما أنَّ ولا صاح ولا اهتزَّ حتى لقي ربَّ شهيداً ، ? وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ? .
ورُفع خُبيبُ بنُ عديٍّ على مشنقةِ الموتِ ، فأنشد :
ولستُ أبالي حين أُقتلُ مسلماً
على أيِّ جنبٍ كان في اللهِ مصرعي
**************************************
فطرة اللهِ
إذا اشتدَّ الظلامُ وزمجر الرَّعْدُ وقصفتِ الريحُ، استيقظتِ الفطرةُ. ?جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ? . غَيْرَ أنَّ المسلم يدعو ربَّه في الشدَّةِ والرخاءِ ، والسراءِ والضراءِ : ? فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ{143} لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ? . إنَّ الكثير يسألُ الله وقت حاجتِه وهو متضرِّعٌ إلى ربِّه ، فإذا تحقَّق مطلبُه أعرض ونأى بجانبِه ، واللهُ عزَّ وجلَّ لا يُلعبُ عليه كما يُلعبُ على الولدانِ ، ولا يُخادعُ كما يُخادعُ الطفلُ ، ? يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ? . إنَّ الذين يلتجئون إلى اللهِ في وقتِ الصَّنائعِ ما همْ إلا تلاميذٌ لذاك الضالِّ المنحرفِ فرعون ، الذي قيل لهُ بعد فواتِ الأوانِ : ? آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ? .
سمعتُ هيئة الإذاعةِ البريطانيةِ تُخبرُ حين احتلَّ العراقُ الكويت : أن تاتشر رئيسة الوزراءِ البريطانية السابقة كانت في ولايةِ كلورادو الأمريكيةِ ، فلما سمعتِ الخبر هُرِعتْ إلى الكنيسةِ وسجدتْ !
ولا أفسرُ هذه الظاهرة إلا باستيقاظِ الفطرةِ عند مِثْلِ هؤلاءِ إلى فاطرِها عزَّ وجلَّ ، مع كفرِهم وضلالِهم ، لأنَّ النفوس مفطورةٌ على الإيمانِ بهِ تعالى : (( كلُّ مولودِ يُولدُ على الفطرةِ ، فأبواهُ يهوِّدانِهِ أو ينصِّرانِه أو يمجِّسانِهِ )) .
**********************************************
لا تحزنْ على تأخُّر الرِّزقِ ، فإنِّه بأجلٍ مسمّىً
الذي يستعجلُ نصيبه من الرِّزقِ ، ويبادرُ الزمن ، ويقلقُ منْ تأخُّرِ رغباتِه ، كالذي يسابقُ الإمام في الصلاةِ ، ويعلُم أنَّه لا يسلِّمُ إلا بعْد الإمام! فالأمورُ والأرزاقُ مقدَّرةٌ ، فُرِغ منها قبل خلْقِ الخليقةِ ، بخمسين ألف سنةٍ ، ? أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ? ، ? وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ ? .
يقولُ عمرُ : « اللَّهمَّ إني أعوذُ بك من جلدِ الفاجرِ ، وعجزِ الثقةِ » . وهذهِ كلمةٌ عظيمةٌ صادقةٌ . فلقدْ طُفْتُ بفكري في التاريخِ ، فوجدتُ كثيراً منْ أعداءِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، عندهمْ منْ الدَّأبِ والجلدِ والمثابرةِ والطُّموحِ : العَجَبَ العُجابَ . ووجدتُ كثيراً من المسلمين عندهمْ من الكسلِ والفتورِ والتَّواكُلِ والتَّخاذُلِ : ما اللهُ به عليمٌ ، فأدركتُ عُمْق كلمةِ عُمَرَ – رضي اللهُ عنه - .
*****************************************
انغمسْ في العملِ النافعِ(/75)
أنَّ الوليد بن المغيرةِ وأُمية بن خَلَفٍ والعاص بن وائل أنفقوا أموالهم في محاربةِ الرسالةِ ومجابهةِ الحقِ ? فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ? . ولكنَّ كثيراً من المسلمين يبخلون بأموالِهمْ ، لئلاَّ يُشاد بها منارُ الفضيلةِ ، ويُبنى بها صرحُ الإيمانِ ? وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ? ، وهذا جَلَدُ الفاجِر وعجْزُ الثقةِ .
في مذكّراتِ ( جولدا مائير ) اليهوديةِ ، بعنوان ( الحقد ) : فإذا هي في مرحلةٍ منْ مراحلِ حياتِها تعملُ ستَّ عشرة ساعةً بلا انقطاعٍ ، في خدمةِ مبادئِها الضّالَّةِ وأفكارِها المنحرفةِ ، حتى أوجدتْ مع ( بن جوريون ) دولةً ، ومنْ شاء فلينظُرْ كتابها .
ورأيتُ ألوفاً منْ أبناءِ المسلمين لا يعملون ولو ساعةً واحدةً ، إنما همْ في لهو وأكلٍ وشُربٍ ونومٍ وضياعٍ ? مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ ? .
كان عمرُ دؤوباً في عمله ليلاً ونهاراً ، قليل النوم . فقال أهلُه : ألا تنامُ ؟ قال : لو نمتُ في اللّيلِ ضاعتْ نفْسِي ، ولو نمتُ في النهارِ ضاعتْ رعيَّتِي .
في مذكراتِ الهالكِ ( موشى ديان ) بعنوان ( السيفُ والحكمُ ) : كان يطيرُ من دولةٍ إلى دولةٍ ، ومنْ مدينةٍ إلى مدينةٍ ، نهاراً وليلاً ، سرّاً وجهراً ، ويحضرُ الاجتماعاتِ ، ويعقدُ المؤتمراتِ ، وينسِّقُ الصَّفقاتِ ، والمعاهدات ، ويكتبُ المذكّراتِ . فقلتُ : واحسرتاهُ ، هذا جَلَدُ إخوانِ القردةِ والخنازيرِ ، وذاك عَجْزُ كثيرٍ من المسلمين ، ولكنْ هذا جلدُ الفاجرِ وعَجْزُ الثقةِ .
لو كنتُ منْ مازنٍ لم تستبِحْ إبِلي
بنو اللَّقطيةِ مِنْ ذُهْلِ بنِ شيْبانا
لقدْ حارب عمرُ العطالة والبطالة والفراغ ، وأخرج شباباً سكنوا المسجد ، فضربهم وقال : اخرجوا واطلبوا الرِّزق ، فإنَّ السماء لا تمطرُ ذهباً ولا فضةً . إنَّ مع الفراغ والعطالةِ : الوساوس والكدَرَ والمرضَ النفسيَّ والانهيارً العصبيَّ والهمَّ والغمَّ . وإنَّ مع العملِ والنشاطِ : السرور والحُبُور والسعادة . وسوف ينتهي عندنا القلقُ والهمُّ والغمُّ ، والأمراضُ العقليَّةُ والعصبيَّةُ والنفسيَّةُ إذا قام كلٌّ بدورِهِ في الحياةِ ، فعُمِلتِ المصانعُ ، واشتغلتِ المعاملُ ، وفتحتِ الجمعيّاتُ الخيريَّةُ والتعاونيَّةُ والدعويَّةُ ، والمخيماتُ والمراكزُ والمُلتقياتُ الأدبيَّةُ ، والدَّوراتُ العلميَّةُ وغَيْرُها .. ? وَقُلِ اعْمَلُواْ ? ، ? فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ? ، ? سَابِقُوا? ، ?وَسَارِعُواْ? ، (( وإن نبيَّ اللهِ داود كان يأكلُ من عملِ يدِه )) .
وللرّاشدِ كتابٌ ، بعنوان ( صناعةُ الحياةِ ) ، تحدَّث عنْ هذهِ المسالةِ بإسهابٍ ، وذَكَرَ أنَّ كثيراً من الناسِ لا يقومون بدورِهم في الحياةِ .
وكثيرٌ من الناسِ أحياءٌ ، ولكنَّهم كالأمواتِ ، لا يُدركون سرَّ حياتِهم ، ولا يُقدمون لمستقبلهم ولا لأُمَّتِهمْ ، ولا لأنفسِهم خيراً ? رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ ? ، ? لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ ? .
إنَّ المرأة السوداء التي كانتْ تقُمُّ مسجد الرسول ( قامتْ بدورِها في الحياةِ ، ودخلتْ بهذا الدَّورِ الجنة ? وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ? .
وكذلك الغلامُ الذي صَنَعَ المِنْبر للرسولِ ( أدَّى ما عليهِ ، وكسب اجراً بهذا الأمرِ ، لأنَّ موهلته في النّجارةِ ? وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ ? .
سمحتِ الولاياتُ المتحدةُ الأمريكيَّةُ عام 1985 م بدخولِ الدُّعاةِ المسلمين سجون أمريكا ، لأنَّ المجرمين والمروِّجين والقَتَلَةَ ، إذا اهتدَوْا إلى الإسلامِ ، أصبحوا أعضاءً صالحين في مجتمعاتِهمْ ? أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ? .
دعاءانِ اثنانِ عظيمانِ ، نافعانِ لمنْ أراد السَّداد في الأمورِ وضبْطِ النفسِ عند الأحداثِ والوقائعِ .
الأولُ : حديثُ عليٍّ ، أنَّ الرسول ( قال لهُ : (( قُلْ : اللهمَّ اهدنِي وسدِّدْني )) . رواهُ مسلمٌ .
الثاني : حديثُ حُصيْن بن عبيدٍ ، عند أبي داود : قال له ( : (( قلْ : اللَّهمَّ ألهمني رُشدْي ، وقِني شرَّ نَفَّسي )) .
إذا لمْ يكنْ عونٌ من اللهِ للفتى
فأكثرُ ما يجني عليه اجتهادُهُ(/76)
التَّعلُّقُ بالحياة ، وعشْقُ البقاءِ ، وحبُّ العيْشِ ، وكراهِيَةُ الموتِ ، يُوردُ العبدَ : الكدَرَ وضِيقَ الصَّدرِ والمَلَقَ والقلق والأرق والرَّهق ، وقد لام الله اليهود على تعلُّقِهم بالحياةِ الدنيا ، فقال : ? وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ? .
وهنا قضايا ، منها : تنكيرُ الحياةِ ، والمقصودُ : أنَّها أيَّ حياةٍ ، ولو كانتْ حياة البهائمِ والعجْماواتِ ، ولو كانتْ شخصيةً رخيصةً فإنَّهمْ يحرصون عليها .
ومنها : اختيارُ لفظِ : ألفِ سنةٍ لأنَّ اليهوديَّ كان يلقى اليهوديَّ فيقولُ لهُ : عِمْ صباحاً ألف سنةٍ . أي : عِشْ ألف سنةٍ . فذكر سبحانهُ وتعالى أنهمْ يريدون هذا العمر الطويل ، ولكنْ لو عاشوهُ فما النهايةُ ؟! مصيرُهم إلى نارٍ تلظَّى ? وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ? .
منْ أحسنِ كلماتِ العامةِ : لا همَّ واللهُ يُدْعى .
والمعنى : أنَّ هناك إلهاً في السماءِ يُدعى ، ويُطلبُ منهُ الخيْرُ ، فلماذا تهتمّ أنت في الأرضِ ، فإذا وكَّلت ربَّك بهمِّك ، كشَفَه وأزاله ? أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ? ، ? وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ? .
أخلِقْ بذي الصَّبرِ أنْ يحظى بحاجتِهِ
ومُدْمِنِ القرْعِ للأبوابِ أن يلِجا
**************************************
في حياتِك دقائقُ غاليةٌ
رأيتُ موقفيْنِ مُؤثِّريْنِ مُعبِّريْنِ للشيخِ علي الطنطاويِّ في مذكّراتهِ :
الموقفُ الأولُ : تحدَّثَ عن نفسِه وكاد يغرقُ على شاطئِ بيروت ، حينما كان يسبحُ فأشرف على الموتِ ، وحُمِل مَغْمِيّاً عليهِ ، وكان في تلك اللحظاتِ يُذعِنُ لمولاهُ ، ويودُّ لو عادَ ولو ساعةً إلى الحياةِ ، ليجدِّد إيمانه وعملهُ الصّالح ، فيَصلِ الإيمانُ عنده منتهاه .
والموقفُ الثاني : ذَكَرَ أنه قدِم في قافلةٍ منْ سوريا إلى بيتِ اللهِ العتيقِ، وبينما هو في صحراءِ تبوك ضلُّوا وبَقُوا ثلاثة أيام ، وانتهى طعامُهُم واشرابُهُم ، وأشرفوا على الموتِ ، فقام وألقى في الجموعِ خطبة الوداعِ من الحياةِ ، خطبةً توحيديَّة حارَّةً رنَّانة ، بكى وأبكى الناس ، وأحسَّ أنَّ الإيمان ارتفع ، وأنه ليس هناك مُعينٌ ولا مُنقذٌ إلا اللهُ جلَّ في علاه ? يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ? .
يقولُ سبحانهُ وتعالى : ? وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ? .
إنَّ الله يحبُّ المؤمنين الأقوياء الذين يتحدَّون أعداءهم بصبرٍ وجلادةٍ ، فلا يهِنون ، ولا يُصابون بالإحباطِ واليأسِ ، ولا تنهارُ قواهُم ، ولا يستكينون للذِّلَّةِ والضعْفِ والفشلِ ، بل يصمُدون ويُواصلون ويُرابطون ، وهي ضريبةُ إيمانِهم بربِّهم وبرسولِهمْ وبدينِهمْ (( المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ والضَّعيفِ وفي كلٍّ خيرٌ )) .
جُرحتْ أُصْبُعُ أبي بكرٍ – رضي اللهُ عنهُ – في ذاتِ اللهِ فقال :
هلْ أنتِ إلا إصْبَعٌ دَمِيتِ
وفي سبيلِ الله ما لقِيتِ
ووضع أبو بكرٍ إصبعهُ في ثَقْبِ الغارِ ليحمي بها الرسول ( من العقربِ ، فلُدغ ، فقرأ عليها ( فبرئتْ بإذِن اللهِ .
قال رجلٌ لعنترة : ما السِّرُّ في شجاعتِك ، وأنك تغِلبُ الرِّجال ؟ قال : ضعْ إصبعك في فمي ، وخُذ إصبعي في فمك . فوضعها في فمِ عنترة ، ووضَعَ عنترةُ إصبعه في فمِ الرَّجلِ ، وكلٌّ عضَّ إصبع صاحبِه ، فصاح الرجلُ من الألم ، ولم يصبرْ فأخرجَ له عنترةُ إصبعه ، وقال : بهذا غلبتُ الأبطال . أي بالصَّبرِ والاحتمالِ .
إنَّ ممَّ يُفرحُ المؤمن أن لُطفَ اللهِ ورحمته وعفوه قريبٌ منه، فيشعرُ برعايةِ اللهِ وولايتِهِ بحسبِ إيمانِهِ . والكائناتُ والأحياءُ والعجماواتُ والطيورُ والزواحفُ تشعرُ بأنَّ لها ربّاً خالِقاً ورازقاً ? وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ? .
يا ربّ حمداً ليس غيرُك يُحمدُ
يا منْ لهُ كُلُّ الخلائِقِ تصْمدُ
عندنا ، العامَّةُ وَقْتَ الحرْثِ يرمون الحبَّ بأيديهمْ في شقوقِ الأرضِ ، ويهتفون : حبٌّ يابسٌ ، في بلدٍ يابسٍ ، بين يديك يا فاطر السماوات والأرضِ ? أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ{63} أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ? . إنَّها نزعةُ توحيدِ البري ، وتوجُّهُ إليهِ ، سبحانه وتعالى .(/77)
قام الخطيبُ المِصْقعُ عبدُالحميدِ كشكُ – وهو أعمى – فلمَّا علا المِنْبرَ ، أخرج منْ جيبهِ سعفة نخلٍ ، مكتوبٌ عليها بنفسِها : اللهُ ، بالخطِّ الكوفيِّ الجميلِ ، ثم هَتَفَ في الجموعِ :
انظُرْ لتلك الشَّجرهْ
ذاتِ الغُصُونِ النَّضِرهْ
منِ الذي أنبتها
وزانها بالخضِرهْ
ذاك هو اللهُ الذي
قُدرتُه مُقْتدِرهْ
فأجْهش الناسُ بالبكاءِ .
إنهُ فاطرُ السماواتِ والأرضِ مرسومةٌ آياتُه في الكائناتِ ، تنطقُ بالوحدانيَّةِ والصَّمديةِ والربوبيَّةِ والألوهيَّةِ ? رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ? .
منْ دعائمِ السرورِ والارتياحِ ، أنْ تشْعُرَ أنَّ هناك ربّاً يرحمُ ويغفرُ ويتوبُ على منْ تاب ، فأبشِرْ برحمةِ ربِّك التي وسعتِ السماواتِ والأرض ، قال سبحانه : ? وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ? ، وما أعظم لطفهُ سبحانه وتعالى ، وفي حديثٍ صحيحٍ : أنَّ أعرابيّاً صلًّى مع رسولِ اللهِ ( ، فلمَّا أصبح في التَّشهُّدِ قال : اللهمَّ ارحمني ومحمداً ، ولا ترحمْ معنا أحداً . قال ( : (( لقدْ حجرت واسعاً )) . أي : ضيَّقت واسعاً ، إنَّ رحمة الهِ وسعتْ كلَّ شيءٍ ? وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ? ، (( اللهُ أرحمُ بعبادِهِ منْ هذهِ بولدِها )) .
أحرق رجلٌ نفسه بالنارِ فراراً منْ عذابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فجمعه سبحانه وتعالى وقال له: (( يا عبْدِي ، ما حَمَلَك على ما صنعت ؟ قال : يا ربِّ ، خِفْتُك ، وخشيتُ ذنوبي . فأدخلهُ اللهُ الجنّة )) . حديثٌ صحيحٌ .
? وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى{40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ? .
حاسب اللهُ رجلاً مُسرفاً على نفسِه موحِّداً، فلمْ يجدْ عندهُ حسَنَةً ، لكنَّه كان يُتاجرُ في الدنيا، ويتجاوزُ عنِ المُعْسِرِ، قال اللهُ: نحنُ أولْى بالكرمِ منك ، تجاوزوا عنهُ. فأدخله اللهُ الجنّة .
? وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ? ، ? لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ? .
عند مسلمٍ : أنّ الرسول ( صلَّى بالناسِ ، فقام رجلٌ فقال : أصبْتُ حدّاً ، فأقِمْهُ عليَّ . قال : (( أصليت معنا ؟ )) . قال : نعمْ . قال . (( اذهبْ فقد غُفِر لك )) .
? وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ? .
هناك لُطفٌ خفيٌّ يكْتنف العبدَ ، مِنْ أمامِهِ ومنْ خلفه ، وعن يمينهِ وعنْ شمالِهِ ، ومِنْ فوقِه ومنْ تحتِ قدميْهِ ، صاحبُ اللُّطفِ الخفيِّ هو اللهُ ربُّ العالمين ، انطبقتْ عليهمُ الصَّخْرةُ في الغارِ ، وأنْجى إبراهيم من النارِ ، وأنجى موسى من الغرقِ ، ونُوحاً من الطُّوفانِ ، ويوسف من الجُبِّ وأيوب من المرضِ .
***************************************
وقفة
عن أمِّ سَلَمَةَ أنَّها قالتْ : سمعتُ رسول اللهِ ( يقولُ : (( ما منْ مسلمٍ تُصيبُه مصيبةٌ ، فيقولُ ما أمره اللهُ : ? إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ? اللَّهمَّ اجُرْني في مصيبتي وأخلفْ لي خيراً منْها ؛ إلاَّ أخلف اللهُ لهُ خيراً منْها )) .
قال الشاعرُ :
خليليَّ لا واللهِ ما مِنْ مُلِمَّةٍ
تدُومُ على حيٍّ وإنْ هِي جلَّتِ
فإنْ نزلتْ يوماً فلا تخْضَعَنْ لها
ولا تُكثِر الشَّكْوى إذا النَّعلُ زلَّتِ
فكمْ مِنْ كريمٍ قدْ بُليْ بنوائبٍ
فصابرها حتى مضتْ واضمحلَّتِ
وكانتْ على الأيامِ نفسي عزيزةً
فلمَّا رأتْ صبري على الذُّلِّ ذلَّتِ
وقال آخر :
يضيقُ صدري بغمٍّ عند حادِثةٍ
ورُبَّما خِير لي في الغمِّ أحيانا
ورُبَّ يومٍ يكونُ الغمُّ أوَّلهُ
وعند آخرِه روْحاً وريْحانا
ما ضِقتُ ذرْعاً عند نائِبةٍ
إلاَّ ولي فرجٌ قد حلَّ أوْ حانا
********************************
الأفعالُ الجميلةُ طريقُ السعادةِ
رأيتُ في أوّلِ ديوانِ حاتمٍ الطّائيِّ كلمةً جميلةً لهُ ، يقولُ فيها : إذا كان تركُ الشَّرِّ يكفيك ، فدَعْهُ .
ومعناهُ : إذا كان يسع السُّكوتُ عنِ الشَّرِّ واجتنابُه ، فحسبُه بذلك ?فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ? ، ? وَدَعْ أَذَاهُمْ ? .
محبَّةُ للناسِ موهبةٌ ربَّانيَّةٌ ، وعطاءٌ مباركٌ من الفتَّاحِ العليمِ .
يقول ابنُ عباسٍ متحدِّثاً بنعمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ : فيَّ ثلاثُ خصالٍ : ما نزل غيثٌ بأرضٍ ، إلاَّ حمدتُ الله وسُررتُ بذلك ، وليس لي فيها شاةٌ ولا بعيرٌ . ولا سمعتُ بقاضٍ عادلٍ ، إلاَّ دعوتُ الله له ، وليس عنده لي قضيَّةٌ . ولا عَرَفتُ آيةً منْ كتابِ اللهِ ، إلاَّ ودِدتُ أنَّ الناس يعرفون منها ما أعرفُ .
إنه حُبُّ الخيرِ للناسِ ، وإشاعةُ الفضيلةِ بينهمْ وسلامةُ الصَّدرِ لهمْ ، والنَّصْحُ كلُّ النصحِ للخليقةِ .
يقولُ الشاعرُ :
فلا نزلتْ علىَّ ولا بأرضي
سحائِبُ ليس تنْتَظِمُ البلادا(/78)
المعنى : إذا لم تكنِ الغمامةُ عامَّةً ، والغيْثُ عامّاً في الناسٍ ، فلا أريدُها أنْ تكون خاصَّةً بي، فلستُ أنانيّاً ?الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ?
ألا يُشجيك قوْلُ حاتمٍ ، وهو يتحدَّثُ عنْ رُوحِه الفيَّاضةِ ، وعن خلقِهِ الجمِّ :
أما والذي لا يعلمُ الغيب غيرُهُ
ويُحْيي العِظام البيض وهْي رميمُ
لقدْ كنتُ أطوِي البطن والزَّادُ يُشتهى
مخافة يومٍ أن يُقالَ لئيمُ
****************************************
العِلْمُ النافعُ والعلمُ الضَّارّ
لِيهْنِك العِلْمُ إذا دلَّك على اللهِ . ? وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ? . إنَّ هناك علماً إيمانيّاً ، وعلماً كافراً ، يقولُ سبحانه وتعالى عنْ أعدائِهِ : ? يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ? . ويقول عنهم : ? بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ ? . ويقولُ عنهم ? ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ .... ? . ويقولُ جلَّ وعلا : ? وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ{175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? . وقال سبحانه وتعالى عنِ اليهودِ وعنْ علمِهم : ? كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ? : إنَّه علمٌ لكنَّه لا يهدي ، وبرهانٌ لا يشفي ، وحجَّةٌ ليستْ قاطعةً ولا فالجِةً ، ونَقْلٌ ليس بصادِقٍ ، وكلامٌ ليس بحقٍّ ، ودلالةٌ ولكن إلى الانحرافِ ، وتوجُّهٌ ولكن إلى غيٍّ ، فكيف يجدُ أصحابُ هذا العلمِ السعادة ، وهمْ أوَّلُ منْ يسحقُها بأقدامِهم : ? فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ? ، ? وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ? .
رأيتُ مئاتِ الألوفِ من الكتبِ الهائلةِ المذهلةِ في مكتبةِ الكونجرس بواشنطن، في كلِّ فنٍّ ، وفي كلِّ تخصُّصٍ ، عنْ كلِّ جيلٍ وشعبٍ وأُمةٍ وحضارةٍ وثقافةٍ ، ولكنَّ الأمة التي تحتضنُ هذه المكتبة العظمى ، أُمَّةٌ كافرةٌ بربِّها ، إنها لا تعلمُ إلا العالم المنظور المشهود ، وأمّا ما وراء ذلك فلا سمْع ولا بَصَرَ ولا قلْبَ ولا وَعْيَ ? وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ ? .
إن الرَّوضَ أخْضَرُ ، ولكنَّ العنْزَ مريضةٌ ، وإنَّ التَّمْرَ مقفزيٌّ ، ولكنّ البُخل مرْوزِيٌّ ، وإن الماء عذْبٌ زُلالٌ ، ولكن في الفم مرارةً ? كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ? . ? وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ? .
***************************************
أكْثِرْ من الاطِّلاعِ والتَّأمُّلِ
إنَّ ممَّا يشرحُ الصدر : كثْرةُ المعرفةِ ، وغزارةُ المادّةِ العلميَّةِ ، واتِّساعُ الثقافةِ ، وعُمقُ الفكرِ ، وبُعدُ النَّظْرةِ ، وأصالةُ الفهْمِ ، والغوْصُ على الدليلِ ، ومعرفةُ سرِّ المسألةِ ، وإدراكُ مقاصدِ الأمورِ ، واكتشافُ حقائقِ الأشياءِ ? إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ? ، ? بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ ? . إنَّ العالِم رحْب الصدرِ ، واسع البالِ ، مطمئنّ النفْسِ ، منشرحُ الخاطرِ ..
يزيدُ بكثْرةِ الإنفاقِ منهُ
وينقصُ إنْ به كفّاً شددْتا
يقولُ أحد مفكَّري الغربِ : لي ملفٌّ كبيرٌ في درجِ مكتبي ، مكتوبٌ عليه : حماقاتٌ ارتكبتُها ، أكتبُه لكلِّ سقطاتِ وتوافه وعثراتٍ أُزاولُها في يومي وليلتي ، لأتخلَّص منها .
قلت : سبقك علماءُ سلفِ هذه الأُمَّةِ بالمُحاسبةِ الدقيقةِ والتَّنْقيبِ المُضني لأنفسِهم ?وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ? .
قال الحسنُ البصريُّ : المسلمُ لنفسِهِ أشدُّ مُحاسَبَةً من الشريكِ لشريكِهِ .
وكان الربيعُ بنُ خُثيْمٍ يكتُبُ كلامهُ من الجمعةِ إلى الجمعةِ ، فإنْ وَجَدَ حسنةً حمِد الله ، وإنْ وَجَدَ سيِّئةً استغفر .
وقال أحدُ السلفِ : لي ذنبٌ منْ أربعين سنةً ، وأنا أسألُ الله أنْ يغفرهُ لي ، ولا زلتُ أُلحُّ في طلبِ المغفرةِ ? وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ? .
********************************
حاسِبْ نَفْسَكَ(/79)
احتفظِ بمذكّرةٍ لديك ، لتُحاسب بها نفْشك ، وتذكر فيها السلبيَّاتِ الملازمة لك ، وتبدأ بذكْر التَّقدُّمِ في معالجتِها .
قال عمرُ : حاسِبوا أنفُسكُمْ قبل أنْ تُحاسبوا ، وزِنُوها قبل أن تُوزنوا ، وتزيَّنوا للعرضِ الأكبرِ .
ثلاثةُ أخطاءٍ تتكرَّرُ في حياتِنا اليومية :
الأولُ : ضياعُ الوقتِ .
الثاني : التَّكلُّمُ فيما لا يعني : (( مِنْ حُسْنِ إسلامِ المرءِ تركهُ ما لا يعنيهِ )) .
الثالثُ : الاهتمامُ بتوافِهِ الأمورِ ، كسماعِ تخويفاتِ المُرجِفين ، وتوقُّعاتِ المثبِّطين ، وتوهُّماتِ المُوسوسِين ، كَدَرٌ عاجلٌ ، وهمٌّ معجَّلٌ ، وهو منْ عوائقِ السعادةِ وراحةِ البالِ .
يقولُ امرؤُ القيسِ :
ألا عِمْ صباحاً أيها الطَّللُ البالي
وهلْ يعِمنْ منْ كان في العُصُر الخالي
وهلْ يعِمنْ إلا سعيدٌ منعَّمٌ
قليلُ الهموم لا يبِيتُ بأوجالِ
علَّم الرسولُ ( عمَّ العباس دعاءً يجمعُ سعادة الدنيا والآخرةِ ، وهو قولُه ( : ((اللّهم إني أسألُك العَفْوَ والعافية )) .
وهذا جامعٌ مانعٌ شافٍ كافٍ فيه خيرُ العاجلِ والآجلِ .
? فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ ? ، ? فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ? .
***************************************
خُذوا حِذْرَكَمْ
منْ سعادةِ العبدِ اخْذُ الحَيْطةِ واستعمالُ الأسبابِ ، مع التَّوكُّلِ على اللهِ عزَّ وجلَّ ، فإن الرسول ( بارز في بعضِ الغزواتِ وعليه دِرعٌ ، وهو سيِّدُ المتوكَّلين ، وقال لأحدِهم لما قال له : أعقِلُها يا رسول اللهِ ، أوْ أتوكَّلُ ؟ قال : (( اعقِلها وتوكَّل )) .
فالأخْذُ بالسببِ والتَّوكُّلُ على اللهِ قُوامُ التوحيدِ ، وترْكُ السبب مع التوكُّلِ على اللهِ قدْحٌ في الشرعِ ، وأخذُ السببِ مع ترْكِ التوكُّلِ على اللهِ قَدْحٌ في التوحيدِ .
وذَكَرَ ابنُ الجوزيِّ في هذا : أنَّ رجلاً قصَّ ظفره ، فاستفحل عليه فمات ، ولم يأخُذْ بالحيْطةِ .
ورجُلٌ دَخَلَ على حمارٍ منْ سردان ، فهصر بطنهُ فمات .
وذكروا عنْ طه حسين – الكاتبِ المصريِّ – أنه قال لسائقِهِ : لا تُسرعْ حتى نصِل مبكِّرين .
وهذا معنى مثلٍ : رُبَّ عجلةٍ تهبُ ريْثاً .
قال الشاعرُ :
قد يُدرِكُ المُتأنِّي بعض حاجتِه
وقدْ يكونُ مع المتعجِّلِ الزَّللُ
فالتَّوقِّي لا يُعارضُ القدر ، بلْ هو منهُ ، ومنْ لُبِّهِ ? وَلْيَتَلَطَّفْ ? ، ? تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ? .
******************************************
اكْسبِ الناس
ومنْ سعادةِ العبدِ قُدرتُه على كسْبِ الناس ، واستجلاب محبَّتِهم وعطفِهم ، قال إبراهيمُ عليه السلامُ : ? وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ? ، قال المفسرون : الثّناءُ الحسنُ . وقال سبحانه وتعالى عنْ موسى : ? وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ? . قال بعضُهم : ما رآك أحدٌ إلا أحبَّك .
وفي الحديثِ الصحيحِ : (( أنتم شهداءُ اللهِ في الأرض )) . وألسنةُ الخلْقِ أقلامُ الحقِّ .
وصحَّ : (( أن جبريل يُنادي في أهلِ السماءِ : إنَّ يحبُّ فلاناً فأحبُّوه ، فيُحبُّهُ أهلُ السماءِ ، ويُوضعُ له القبُول في الأرضِ )) .
ومنْ أسبابِ الودِّ : بسْطةُ الوجهِ ولِينُ الكلامِ وسَعَةُ الخُلقُ .
إنَّ منْ العواملِ القويةِ في جلْبِ أرواحِ الناسِ إليك : الرِّفقُ ؛ ولذلك يقولُ ( : (( ما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلا زانه ، وما نُزع منْ شيءٍ إلا شانهُ )) .
ويقول : (( من يُحرم الرفق ، يُحرم الخير كلّه )) .
قال أحد الحكماء : الرفق يُخرج الحيَّة من جُحْرها .
قال الغربيُّون : اجْنِ العسل ، ولا تَكْسِرِ الخلِيَّة .
وفي الحديثِ الصحيحِ : (( المؤمُن كالنَّحْلةِ تأكلُ طيِّباً ، وتضعُ طيّباً ، وإذا وقعتْ على عودٍ ، لم تكسِرْهُ )) .
************************************
تنقَّلْ في الدِّيارِ واقرأْ آياتِ القُدرة
وممَّا يجلُب الفرح والسُّرور : الأسْفارُ والتَّنقُّلُ في الدِّيارِ ورؤيةُ الأمصارِ ، وقد سبقتْ كلمةٌ في أوّل هذا الكتابِ عنْ هذا . قال سبحانه : ? انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? ، ? قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا ? ، ? أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ ? .
قال الشاعرُ :
ولا تلبثْ بِربْعٍ فيه ضيْمٌ
يُذيبُ القلب إلا إنْ كُبِلْتا
وغرِّبْ فالتَّغرُّبُ فيه نفْعٌ
وشرِّقْ إنْ بِرِِيِقك قدْ شرِقْتا
ومنْ يقرأْ رحلة ابنِ بطُّوطة ، على ما فيها من المبالغاتِ ، يجِدِ العَجَبَ العجاب مِن خلْقِ اللهِ سبحانه وتعالى ، وتصريفِه في الكونِ ، ويرى أنها من العِبر العظيمةِ للمؤمنِ ، ومن الراحةِ له أنْ يسافر ، وأنْ يغِّيرَ أجواءه ومكانه ومحلَّه ، لقرأ في هذا الكتابِ الكونيِّ المفتوحِ .
يقولُ أبو تمام – وهو يتحدَّث عن التنقلِ في الدِّيارِ - :
بالشَّامِ أهلي وبغدادُ الهوى وأنا
بالرَّقْمتينِ وبالفسطاطِ جِيراني(/80)
? قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ? ، ? فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ ? ، ? حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ? ، ? حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ? .
************************************
تهجَّدْ مع المتهجِّديِن
ومما يُسعدُ النَّفْس ويشرحُ الصدر : قيامُ الليلِ .
وقدْ ذكر ( في الصحيح : أنَّ العبد إذا قام من الليلِ ، وذكر الله ، ثم توضَّأ وصلَّى ، أصبح نشيطاً طيِّب النفْسِ . ? كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ? ، ? وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ? .
وقيامُ الليلِ يُذهبُ الدّاء عن الجسدِ ، وهو حديثٌ صحيحٌ عند أبي داود : (( يا عبدالله ، لا تُكنْ مثْل فلانٍ ، كان يقومُ الليل ، فتَركَ قيامَ الليلِ )) ، (( نِعْمَ الرجلُ عبدُاللهِ لو كان يقومُ من الليلِ )) .
لا تأسفْ على الأشياءِ الفانيةِ ، كلُّ شيءٍ في هذه الحياةِ فانٍ إلا وجْههُ سبحانه وتعالى ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ? ، ? كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ{26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ? .
إنَّ الإنسان الذي يأسفُ على دنياه ، كالطِّفلِ الذي يبكي على فقْدِ لعبتِهِ .
**********************************
وَقْفَةٌ
« كلُّ اثنينِ منهما قرينانِ ، وهما منْ آلامِ الرُّوح ومعذّباتِها ، والفرْق بينهما أنَّ الهمَّ توقُّع الشَّرِّ في المستقبلِ ، والحزُن التَّألُّمُ على حُصُولِ المكروهِ في الماضي أو فواتُ المحبوبِ ، وكلاهما تألُّمٌ وعذابٌ يرِدُ على الرُّوحِ ، فإنْ تعلَّق بالماضي سُمِّي حزناً ، وإنْ تعلّق بالمستقبلِ سُمِّي همّاً » .
(( اللَّهمَّ إني أسألك العافية في الدُّنيا والآخرةِ ، اللَّهمَّ إني أسألُك العفْو والعافية في ديِني ودُنياي وأهلي ومالي ، اللهمَّ استُرْ عوراتي وآمِنْ روْعاتي ، اللهم احفظني منْ بينِ يديَّ ومِنْ خلْفي ، وعنْ يميني وعنْ شمالي ومِنْ فوقي ، وأعوذُ بعظمتك أنْ أُغْتال مِنْ تحتي )) .
قال الشاعرُ :
ألم تر أنَّ ربَّك ليس تٌحصى
أيادِيهِ الحديثةُ والقديمهْ
تَسَلَّ عنِ الهمومِ فليس شيءٌ
يُقيِمُ ولا همومُك بالمُقيمهْ
لعلَّ الله ينظُرُ بعد هذا
إليك بنظرةٍ مِنْهُ رحيِمهْ
**************************************
ثَمَنُك الجنَّةُ
يقولُ للشاعرُ :
نفسْي التي تملِكُ الأشياء ذاهبةٌ
فكيف أبكي على شيءٍ إذا ذهبا
إنَّ الدنْيا بذهبِها وفضَّتِها ومناصبِها ودُورِها وقصورِها لا تستأهلُ قطرة دمعٍ ، فعند الترمذيِّ أنَّ الرسول ( قال : (( الدنيا ملعونةٌ ، ملعونٌ ما فيها إلا ذكْر اللهِ ، وما والاه ، وعالماً ومتعلَّماً )) .
إنها ودائعُ فحسْبُ ، كما يقولُ لبِيدُ :
وما المالُ والأهلون إلا ودِيعةٌ
ولابدَّ يوماً أنْ تُردَّ الودائعُ
إن الملياراتِ والعقاراتِ والسياراتِ لا تؤخِّرُ لحظةً واحدةً منْ أجلِ العبدِ ، قال حاتمُ الطّائيُّ :
لعَمْرُكَ ما يُغني الثَّراءُ عن الفتى
إذا حشرجتْ يوماً وضاق بها الصَّدْرُ
ولذلك قال الحكماءُ : اجعلْ للشيء ثمناً معقولاً، فإنَّ الدنيا وما فيها لا تُساوي المؤمنِ: ? وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ? .
ويقولُ الحسنُ البصريُّ : لا تجعلْ لنفسِك ثمناً غير الجنةِ ، فإنَّ نفْس المؤمنِ غاليةٌ ، وبعضُهم يبيعها برُخْصٍ .
إنَّ الذين ينوحون على ذهابِ أموالِهمْ وتهدُّمِ بيوتِهم واحتراقِ سياراتِهم ، ولا يأسفون ويحزنون على نقْصِ إيمانِهم وعلى أخطائِهم وذنوبِهم ، وتقصيرِهم في طاعةِ ربِّهمْ سوف يعلمون أنهمْ كانوا تافهين بقدْرِ ما ناحُوا على تلك ، ولم يأسفوا على هذهِ ؛ لأنَّ المسألة مسألةُ قيمٍ ومُثُلٍ ومواقف ورسالةٍ: ?إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً?.
******************************************
الحبُّ الحقيقيُّ
كُنْ منْ أولياءِ اللهِ وأحبائهِ لِتسْعدَ ، إنَّ منْ أسعْدِ السعداءِ ذاك الذي جعل هدفه الأسمى وغايتُه المنشودة حُبَّ اللهِ عزَّ وجلَّ ، وما ألْطف قولهُ : ? يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ? .
قال بعضُهم : ليس العَجَبُ منْ قولهِ : يحبُّونه ، ولكنَّ العجب منْ قولِهِ يحبُّهم ؛ فهو الذي خلقهم ورزقهم وتولاَّهُم وأعطاهُمْ ، ثم يحبُّهم : ? قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ? .
وانظرْ إلى مكرُمةِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ ، وهي تاجٌ على رأسهِ : رجلٌ يُحبُّ الله ورسوله ، ويحبُّه اللهُ ورسولهُ .
إنَّ رجلاً من الصحابة أحبَّ ? قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ? ، فكان يردِّدُها في كلِّ ركعةٍ ، ويتَولَّهُ بذكْرِها ، ويعيدها على لسانه ، ويُشجي بها فؤاده ، ويحرِّكُ بها وجدانه ، قال له ( : (( حبُّك إيَّاها أدْخَلَك الجنة )) .
ما أعجب بيتين كنتُ أقرؤهما قديماً ، في ترجمةٍ لأحدِ العلماءِ ، يقول :
إذا كان حُبُّ الهائِمين من الورى(/81)
بليلى وسلمى يسلُبُ اللُّبَّ والعقْلا
فماذا عسى أن يفعل الهائِمُ الذي
سَرَى قلبُه شوقاً على العالمِ الأعلى
? وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ? .
إنَّ مجنون ليلى قتلهُ حبُّ امرأةٍ ، وقارون حبُّ مالٍ ، وفرعون حبُّ منصبٍ ، وقُتل حمزةُ وجعفرُ وحنظلةُ حبّاً لله ولرسوله ، فيا لبُعْدِ ما بين الفريقين .
****************************************
وقفة
« ينتحرُ 300 ضابطِ شرطةٍ سنويّاً في أمريكا ، منهمْ عشرةٌ في نيويورك وحدها .. ومنذُ عام 1987 م يتزايدُ عدد ضُبّاط الشرطةِ المُنتحِرِين هناك .. وهي ظاهرةٌ أقلقتِ السُّلطاتِ ، وقام الاتحادُ الوطنيُّ لضبّاطِ الشرطةِ ببحْثِها .
لقدْ وجد الاتحادُ أنَّ أبرز أسبابِ انتحارِ الضباطِ هو : توتُّرُ الأعصابِ الدّائمِ الذي يعيشون فيه ، فهمْ مُطالبون دائماً بالثَّباتِ في الأزماتِ ، وتحمُّلِ الضُّغوطِ المتزايدةِ مع ارتفاعِ نسبةِ الجريمةِ ، وتحمُّل الآلامِ النّاتجة عن التَّعامُلِ مع المجرمين، ورؤيةِ جثثِ الضحايا منْ أطفالٍ ونساءٍ وعجائز. والسببُ الثاني هو : وجودُ الأسلحةِ معهمْ بشكلٍ دائمٍ ، فهي تُساعدُهم أو تسهِّلُ عليهمُ عمليَّة الانتحارِ .
وقد وُجد أنَّ ثمانين بالمائةِ منْ حوادثِ انتحارِ الضباطِ تتمُّ بسلاحِهم الخاصّ ، في ثلاثةِ أيامٍ متتاليةٍ انتحر ثلاثُة ضُبّاطٍ ، كلٌّ منهم بواسطِة مسدسِهِ الميري » .
********************************
شريعةٌ سهْلةٌ مُيسَّرةٌ
إنَّ مما يُثلجُ صدر المسلم ظاهرةُ اليُسْرِ والسَّماحةِ في الشريعةِ الإسلاميةِ ? طه{1} مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى? ، ? وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى? ، ? لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا? ، ? لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا ? ، ? وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ? ، ? وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ? ، ? فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً{5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً? ، ? رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ? .
(( رُفع عنْ أُمَّتي الخطأُ والنسيانُ وما استُكْرِهُوا عليهِ )) ، (( إنَّ الدِّين يُسْرٌ ، ولنْ يُشادَّ الدين أحدٌ إلاَّ غلبه )) ، سدِّدُوا وقارِبُوا وأبشِرُوا )) ،(( بُعثتُ بالحنيفيِّة السِّمْحةِ )) ، (( خَيْرُ دينكم أيْسَرُه )) .
عُرِضتْ على شاعرٍ معاصرٍ في دولةٍ وزارةٌ يتولاَّها ، على أنْ يترُك طموحاتِه ورسالاتِه وأطرُوحاتِه الحقَّةِ ، فقال :
خُذوا كلَّ دنياكُمُ واتركُوا
فؤادي حُراً طليِقاً غريبا
فإنِّي أعْظمُكم ثروةً
وإنْ خِلْتُمُوني وحيداً سليِنا
********************************************
أُسُسٌ للرّاحةِ
في مجلّةِ ( أهلاً وسهلاً ) بتاريخ 3 / 4 / 1415هـ مقالةٌ بعنوان « عشرون وصفةٍ لتجنُّبِ القلق » بقلم د . حسان شمسي باشا .
من معاني هذه المقالةِ :
إنَّ الأجلَ قد فُرِغ منهُ ، وإنَّ كلَّ شيءٍ بقضاءٍ وقدرٍ ، فلا يأْسفِ العبدُ ، ولا يحزنْ على ما يجري . إنَّ رزق المخلوقِ عند الخالقِ في السماءِ ، فلا يملكُه أحدٌ ، ولا يتصرَّفُ فيه قومٌ ، ولا يمنعُه إنسانٌ . وإنَّ الماضي قدْ ذَهَبَ بهمومِه وغمومِه ، وانتهى فلنْ يعود، ولو اجتمع العالمُ بأسْرِه على إعادتِه . وإنَّ المستقبل في عالمِ الغيْبِ ، ولم يحضرْ إلى الآن ، ولم يستأذِن عليك ، فلا تسْتدْعِهِ حتى يأتي . وإنَّ الإحسان إلى الناسِ يُضفي على القلبِ سروراً ، وعلى الصدرِ انشراحاً ، وهو يعودُ على مُسديِه أعْظَمَ بركةٍ وثوابٍ وأجرٍ وراحةٍ ممنْ أُسدي إليهِ .
ومنْ شِيم المؤمنِ عدمُ الاكتراثِ بالنقْدِ الجائر الظالمِ ، فلمْ يَسْلَمْ من السَّبِّ والشَّتْمِ حتى ربُّ العالمين ، الذي هو الكاملُ الجليلُ الجميلُ ، تقدَّستْ أسماؤُه .
قلتُ في أبياتٍ لي :
فعلام تَحْرِقُ أدمُعاً قد وُضِّئتْ
ويظلُّ يُقْلِقُ قلْبَك الإرهابُ
وكِّلْ بها ربّاً جليلاً كلَّما
نام الخلِيُّ تَفَتَّحتْ أبوابُ
*************************************
احْذرِ العِشق
إياك وعِشْق الصُّورِ ، فإنَّها همٌّ حاضِر ، وكَدَرٌ مستمرٌّ . منْ سعادةِ المسلمِ يُعدُه عنْ تأوُّهاتِ الشعراءِ وولهِهِم وعشقِهم ، وشكواهُم الهجْر والوصْل والفراق ، فإنَّ هذا منْ فراغ القلبِ ? أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ? .(/82)
وأنا الذي جَلَبَ المنيَّة طَرْفُهُ
فمنِ المُطالبُ والقتيلُ القاتِلُ
والمعنى : إنني أستحقُّ وأستأهلُ ما ذُقتُ من الألمِ والحسرةِ ؛ لأنني المتسبِّبُ الأعظمُ فيما جرى لي .
وآخرُ أندلسٌّ يتباهى بكثرةِ هيامِه وعشقِه وولهِهِ ، فيقولُ :
شكا ألم الفِراقِ النَّاسُ قبْلي
ورُوِّع بالجوى حيٌّ وميْتُ
وأمّا مِثْلما ضمَّتْ ضلوعي
فإنِّي ما سمعتُ ولا رأيْتُ
ولو ضمَّ بين ضلوعهِ التقوى والذْكر وروحانيّةً وربّانيّةً ، لَوَصَلَ إلى الحقِّ ، ولَعَرَ الدليل ، ولأبصر الرُّشد ، ولَسَلَك الجادَّة : ? وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ ? ، ?إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ? .
إنَّ ابن القيِّمِ عالج هذهِ المسألة علاجاً شافياً كافياً في كتابِهِ (الداءُ والدواءُ) فليُرْجَعْ إليهِ.
إن للعشق أسباباً منها :
فراغُ منْ حُبِّه سبحانه وتعالى وذكْرِهِ وشُكرِه وعبادتِهِ .
إطلاقُ البصرِ ، فإنهُ رائدٌ يجلبُ على القلبِ أحزاناً وهموماً : ? قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ?، ((النظرةُ سهمٌ منْ سهامِ إبليس)).
وأنت متى أرسلت طرْفك رائداً
إلى كلِّ عينٍ أتعبتْكَ المناظِرُ
رأيت الذي لا كُلُّه أنت قادرٌ
عليه ولا عنْ بعضِهِ أنت صابِرُ
التقصيرُ في العبوديَّةِ ، والتقصيرُ في الذِّكْرِ والدُّعاءِ والنوافلِ ? إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ? .
أمَّ دواءُ العِشْقِ ، فمنْهُ :
? كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ? .
الانطراحُ على عتباتِ العبوديِّةِ ، وسؤالُ المولى الشِّفاء والعافية .
وغضُّ البصرِ وحفْظُ الفرْجِ ? وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ? ، ? وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ? .
وهجْرُ ديارِ منْ تعلَّق بهِ القلبُ ، وتركُ بيتهِ وموطنِهِ وذكْرِهِ .
والاشتغالُ بالأعمالِ الصالحةِ : ? إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً ? .
والزَّواجُ الشَّرْعيُّ ? فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء ? ، ? وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ? ، (( يا معشر الشبابِ ، منِ استطاع منكمُ الباءة فليتزوَّجْ )) .
****************************************
حقوقُ الأخوَّةِ
مما يُسعدُ أخاك المسلم أنْ تُناديهِ بأحبِّ الأسماءِ إليهِ .
أُكْنِيهِ حين أُناديِه لأُكرِمهُ
ولا أُلقِّبُهُ والسَّوْءَةُ اللَّقبُ
وأنْ تهشَّ وتَبَشَّ في وجهِه (( ولو أنْ تلْقى أخاك بوجه طلْقٍ )) ، (( تبسُّمُك في وجهِ أخيك صدقةٌ )) . وأنْ تشجِّعهُ على الحديثِ معك – أي تتركَ له فرصةً ليتكلَّم عنْ نفسِه وعن أخبارِهِ – وتأل عنْ أمورِه العامّةِ والخاصّةِ ، التي لا حَرَجَ في السؤالِ عنها ، وأنْ تهتمّ بأموره (( منْ لم يهتمَّ بأمرِ المسلمين فليس منهمْ )) ، ? وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ? .
ومنها : أنْ لا تلومه ولا تعْذله على شيءٍ مضى وانتهى ، ولا تحرجه بالمزاحِ : (( لا تُمارِ أخاك ولا تُمازِحْه ، ولا تعِدهُ موعداً فتُخْلِفه )) .
*************************************
« أسرارٌ في الذنوبِ .. ولكنْ لا تذنبْ ! »
ذكر بعضُ أهلِ العلمِ : أنَّ الذنب كالختْمَ على العبد ، ومنْ أسرارها بعد التوبةِ : قصْمُ ظهر العُجْبِ ، وكثرةُ الاستغفارِ والتوبةُ والإنابةُ والتَّوجُّهُ والانكسارُ والندامة ، ووقوع القضاءِ والقدرِ ، والتَّسليمُ بعبوديَّةِ مُقابلةِ القضاءِ والقدرِ .
ومنها : تحقُّقُ أسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتِه العُلى مثلِ : الرحيمِ والغفورِ والتَّوّابِ .
*************************************
اطْلُبِ الرزق ولا تحرِصْ
سبحان الخالقِ الرازقِ ، أعطى الدودةَ رزقها في الطَّينِ ، والسمكة في الماءِ ، والطائرَ في الهواءِ ، والنملةَ في الظَّلماءِ ، والحيَّة بين الصخورِ الصَّمّاءِ .
ذَكَرَ ابنُ الجوزيِّ لطيفةً من اللَّطائفِ : أنَّ حيَّةُ عمياء كانتْ في رأسِ نخلةٍ ، فكان يأتيها عصفورٌ بلحمٍ في فمِه ، فإذا اقترب منها وَرْوَرَ وصفَّرَ ، فتفتحُ فاها ، فيضعُ اللحم فيهِ سبحان منْ سخرَّ هذا لهذِه ? وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ? .
وإذا ترى الثعبان ينفُثُ سُمَّهُ
فاسألهُ منْ ذا بالسُّمومِ حشاكا
واسألهُ كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو
تحيا وهذا السُّمُّ يَمْلأُ فاكا
كانتْ مريمُ عليها السلامُ يأتيها رزقُها في المحرابِ صباح مساء ، فقيل لها : ? يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ? .(/83)
لا تحزنْ فرزقُك مضمونٌ ? وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ? . لتعلم البشريَّةُ أنَّ رازق الوالدِ ، هو الذي لم يلدْ ولمْ يولدْ .
? وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم ? إنَّ صاحب الخزائنِ الكبرى جلَّ في علاهُ قد تكفَّل بالرزقِ ، فِبم القلقُ والزعيمُ بذلك اللهُ ؟!
? فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ? .
? وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ? .
*****************************************
وقفة
« أمّا الصلاةُ فشأُنها في تفريغِ القلبِ وتقويتِه ، وشرْحِه ، وابتهاجهِ ولذَّتِه ، أكبَرْ شأنٍ ، وفيها اتِّصالُ القلبٍ والرُّوحِ باللهِ ، وقُربِه والتَّنعُّمِ بذكرِهِ ، والابتهاجِ بمُناجاتِه ، والوقوفِ بين يديْهِ ، واستعمالِ جميعِ البدنِ وقُواهُ وآلاتِهِ في عبوديَّتِهِ ، وإعطاءِ كلِّ عضو حظَّه منها ، واشتغالِه عن التَّعلُّقِ بالخلقِ ومُلابستِهم ومُحاوَرَتِهم ، وانجذاب قوى قلبِهِ وجوارحِهِ إلى ربِّه وفاطرِهِ ، وراحتهِ منْ عدوِّه حالة الصلاةِ ما صارتْ بهِ منْ أكبرِ الأدويةِ والمفرحاتِ والأغذيِةِ التي لا تُلائمُ إلا القلوب الصحيحة . وأمّا القلوبُ العليلةُ فهي كالأبدانِ ، لا تُناسبها إلاَّ الأغذيةُ الفاضلةُ » .
« فالصلاةُ منْ أكبرِ العوْنِ على تحصيلِ مصالحِ الدنيا والآخرةِ ، ودفْع مفاسِد الدنيا والآخرةِ ، وهي منْهاةٌ عن الإثْمِ ، ودافعةٌ لأدواءِ القلوبِ ، ومطْردةٌ للداءِ عن الجسدِ ، ومُنَوِّرةٌ للقلبِ ، ومُبيِّضةٌ للوجهِ ، ومنشِّطةٌ للجوارحِ والنفْسِ ، وجالِبةٌ للرزقِ ، ودافعةٌ للظُّلْمِ ، وناصِرةٌ للمظلوم ، وقامعةٌ لأخلاطِ الشّهواتِ ، وحافظةٌ للنعمةِ ، ودافعةٌ للنقمةِ ، ومُنزلةٌ للرحمةِ ، وكاشفةٌ للغُّمةِ » .
*************************************
شريعةٌ سَمْحةٌ
ممَّا يُفرِّحُ العبد المسلم ، ما في الشريعةِ من الثَّوابِ الجزيلِ والعطاءِ الضخْمِ ، يتجلَّى ذلك في المكفِّراتِ العشْرِ ، كالتوحيدِ وما يكفِّرُه من الذنوبِ . والحسناتِ الماحيةِ ، كالصلاةِ ، والجمعةِ إلى الجمعةِ ، والعمرةِ إلى العمرةِ ، والحجِّ ، والصومِ ، ونحو ذلك من الأعمالِ الصالحةِ . وما هناك منْ مُضاعَفَةِ الأعمالِ الصالحةِ ، كالحسنةِ بعشرِ أمثالِها إلى سبعمائةِ ضِعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ . ومنها التوبةُ تجُبُّ ما قبلها من الذنوبِ والخطايا . ومنها المصائبُ المكفِّرةُ فلا يصيبُ المؤمن منْ أذىً إلا كفَّرَ اللهُ بهِ منْ خطاياهُ . ومنها دعواتُ المسلمين لهُ بظهْرِ الغيبِ . ومنها ما يُصيبُه من الكرْبِ وقت الموتِ . ومنها شفاعةُ المسلمين له وقت الصلاةِ عليهِ . ومنها شفاعةُ سيِّد الخلقِ ( ، ورحمةُ أرحم الراحمين تبارك وتعالى ? وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ? ، ? وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ? .
*****************************************
? لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى ?
أوجس موسى في نفسِهِ خِيفةً ثلاث مرَّاتٍ :
الأولى : عندما دخل ديوان الطاغيةِ فرعون ، فقال : ? إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى ? ، قال اللهُ : ? قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ? .
وحقِيقٌ بالمؤمنِ أن تكون في ذاكرتهِ وفي خلدِه : لا تخفْ ، إنني أسمعُ وأرى .
والثانية : عندما ألقى السحرةُ عِصِيَّهم ، فأوْجس في نفسِه خيِفةً موسى .
فقال الله تعالى : ? لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى ? .
الثالثةُ : لما أتْبعهُ فرعونٌ بجنودِه ، فقال له اللهُ : ?اضْرِب بِّعَصَاكَ ? وقال موسى: ?كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ? .
*************************************
إياك وأربعاً
أربعٌ تُورثُ ضنْكَ المعيشةِ وكَدَرَ الخاطرِ وضيِقَ الصَّدْرِ :
الأولى : التَّسخُّطُ من قضاءِ اللهِ وقدرِه ، وعَدَمُ الرِّضا بهِ .
الثانيةُ : الوقوعُ في المعاصي بلا توبةٍ ? قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ? ،? فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ? .
الثالثةُ : الحقدُ على الناسِ ، وحُبُّ الانتقامِ منهمْ ، وحَسَدُهم على ما آتاهُمُ اللهُ منْ فضلِه ? أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ? ، (( لا راحة لحسودِ )) .
الرابعةُ : الإعراضُ عنْ ذكرِ اللهِ ? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ? .
******************************************
اسكُنْ إلى ربِّك
راحةُ العبدِ في سكونِه إلى ربِّه سبحانه وتعالى .(/84)
وقد ذَكَرَ اللهُ السكينةَ في مواطن منْ كتابِه عزَّ من قائلٍ ، فقال : ? َأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ? ، ? فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ? ، ? ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ ? ، ? فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ? .
والسَّكينةُ هي ثباتُ القلبِ إلى الرَّبّ ، أو رسوخُ الجنان ثقةً بالرحمنِ ، أو سُكُونُ الخاطرِ توكُّلاً على القادرِ . والسكينةُ هدوءُ لواعِجِ النفْسِ وسكونُها ، واستئناسُها ورُكُودُها وعدمُ تفلُّتِها ، وهي حالةٌ من الأمنِ ، يَحْظَىَ بها أهلُ الإيمانِ ، تُنقذُهُمْ منْ مزالقِ الحيْرةِ والاضطرابِ ، ومهاوي الشَّكِّ والتَّسخُّطِ ، وهي بحسب ولايةِ العبدِ لربِّه ، وذكْرِه وشُكرِه لمولاهُ ، واستقامتِه على أمرهِ ، واتِّباعِ رسولِهِ ( ، وتمسُّكِه بهدْيِه ، وحبِّه لخالقِهِ ، وثقتِه في مالكِ أمرهِ ، والإعراضِ عمَّ سواهُ ، وهجْر ما عداهُ، لا يدعو إلا الله، ولا يعبدُ إلا أياهُ ? يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ? .
*****************************************
كلمتان عظيمتان
قال الإمامُ أحمد : كلمتان نفعني اللهُ بهما في المحنةِ
الأولى : لرجُلٍ حُبس في شربِ الخمْرِ ، فقال : يا أحمدُ ، اثبتْ ، فإنك تُجلدُ في السُّنَّةِ ، وأنا جُلِدُتُ في الخمرِ مراراً ، وقدْ صبرْتُ . ? إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ? ، ? فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ? .
الثانيةُ : لأعرابيٍّ قال للإمامِ أحمد – والإمامُ أحمدُ قدْ أُخِذَ إلى الحبْسِ ، وهو مقيَّدٌ بالسلاسلِ : يا أحمدُ ، اصبرْ ، فإنَّما تُقتل منْ هنا ، وتدخُلُ الجنة منْ هنا . ? يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ? .
*******************************************
منْ فوائدِ المصائبِ
استخرجُ مكنونِ عبوديةِ الدعاءِ ، قال أحدُهم : سبحان منِ استخرج الدعاء بالبلاءِ . وذكَرُوا في الأثرِ : أنَّ الله ابتلى عبداً صالحاً منْ عبادِهِ ، وقال لملائكتِه : لأسمع صوتهُ . يعني : بالدعاءِ والإلحْاحِ .
ومنها : كَسْرُ جماحِ النفسِ وغيِّها ؛ لأنَّ الله يقول : ? كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى{6} أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ? .
ومنها : عطفُ الناسِ وحبُّهم ودعاؤُهم للمصابِ ، فإنَّ الناس يتضامنون ويتعاطفون مع منْ أُصيب ومنِ ابتُلي .
ومنها : صرْفُ ما هو أعظمُ منْ تلك المصيبةِ ، فغنها صغيرةٌ بالنسبةِ لأكبر منها ، ثمَّ هي كفَّارةٌ للذنوبِ والخطايا ، وأجرٌ عند اللهِ ومثوبةٌ . فإذا عَلِمَ العبدُ أنَّ هذه ثمارُ المصيبةِ أنس بها وارتاح ، ولم ينزعجْ ويَقْنطْ ? إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ? .
************************************
العلم هُدى وشِفاءٌ :
ذَكَرَ ابنُ حزمٍ في ( مُداواة النفوس ) أنَّ منْ فوائدِ العلمِ : نَفْيَ الوسواسِ عن النَّفْسِ ، وطرْدَ الهمومِ والغمومِ والأحزانِ .
وهذا كلامٌ صحيحٌ خاصَّةً لمنْ أحبَّ العِلْم وشغف به وزاولهُ ، وعمل به وظهر عليه نفْعُه وأثرُه .
فعلى طالبِ العلمِ أن يوزِّع وقته ، فوقتٌ للحفْظِ والتكرارِ والإعادةِ ، ووقتٌ للمطالعةِ العامَّةِ ، ووقتٌ للاستنباطِ ، ووقتٌ للجَمْعِ والتَّرتيبِ ، ووقتٌ للتأمُّلِ والتدبُّرِ .
فكُنْ رجُلاً رِجْلُه في الثَّرى
وهامةُ هِمَّتِهِ في الثُّريَّا
*******************************************
عسى أن يكون خيراً
للسيوطي كتابٌ بعنوان ( الأرجُ في الفرج ) : ذَكَرَ منْ كلامِ أهلِ العلمِ ما مجموعُه يُفيدُنا أنَّ المحَابَّ كثيرةٌ في المكارهِ ، وأنَّ المصائب تُسفرُ عن عجائب وعن رغائب لا يُدركُها العبدُ ، إلا بعد تكشُّفِها وانجلائِها .
لعَمْرُك ما يدري الفتى كيف يتَّقي
نوائب هذا الدَّهرِ أمْ كيف يحْذرُ
يرى الشيء ممَّا يُتَّقى فيخافُه
وما لا يرى مما يقِي اللهُ أَكْبَرُ
******************************************
السعادةُ موهبةٌ ربَّانيَّة
ليس عجباً أنْ يكون هناك نفرٌ من الناسِ يجلسون على الأرصفةِ ، وهم عُمَّالٌ لا يجدُ احدُهم إلا ما يكفي يومه وليلته ، ومع ذلك يبتسمون للحياةِ ، صدورُهم منشرِحةٌ وأجسامُهم قويةٌ ، وقلوبُهم مطمئنَّةٌ ، وما ذلك إلا لأنَّهم عَرَفوا أنَّ الحياة إنما هي اليومُ ، ولم يشتغلوا بتذكُّرِ الماضي ولا بالمستقبلِ وإنما أفنوْا أعمارهم في أعمالِهم .
وما أُبالي إذا نفسي تطاوعُني
على النَّجاةِ بمنْ قدْ عاش أو هلكا(/85)
وقارِنْ بين هؤلاء وبين أناسٍ يسكنون القصور والدُّور الفاخرة ، ولكنَّهمْ بَقُوا في فراغٍ وهواجس ووساوس ، فشتتهُمُ الهمُّ ، وذهب بهم كلَّ مذهبِ .
لحا اللهُ ذي الدِّنيا مُناخاً لراكِبٍ
فكُلُّ بعيدٍ الهمِّ فيها مُعذَّبُ
*********************************************
الذِّكْرُ الجميلُ عمرٌ طويلٌ
منْ سعادِة العبدِ المسلمِ أنْ يكون لهُ عمرٌ ثانٍ ، وهو الذِّكْرُ الحسنُ ، وعجباً لمنْ وجد الذكْر الحسنَ رخيصاً ، ولمْ يشترِهِ بمالِه وجاهِه وسعيِه وعملِه .
وقدْ سبق معنا أنَّ إبراهيم عليهِ السلامُ طلب منْ ربِّه لسان صدْقٍ في الآخرِين ، وهو : الثَّناءُ الحسنُ ، والدعاءُ له .
وعجبْتُ لأُناسٍ خلَّدوا ثناءً حسناً في العالمِ بحُسْنِ صنيعهِم وبكرمهِم وبذْلِهم ، حتى إنَّ عُمَرَ سأل أبناء هرِم بنِ سنانٍ : ماذا أعطاكمْ زهيرٌ ، وماذا أعطيتُموهُ ؟ قالوا : مَدَحَنا ، وأعطيناهُ مالاً . قال عمرُ : ذهب واللهِ ما أعطيتموهُ ، وبقي ما أعطاكمْ .
يعني : الثناءُ والمديحُ بقي لهمْ أبد الدّهرِ .
أولى البرِيَّةِ طُرَّا أنْ تُواسِيهُ
عند السُّرورِ الذي واساك في الحزنِ
إن الكرام إذا ما أُرسِلُوا ذكرُوا
منْ كان يألفُهم في المنزلِ الخشنِ
******************************************
أُمَّهاتُ المراثي
هناك ثلاثُ قصائد خلَّدتْ منْ قِيلتْ فيهم :
ابنُ بقيَّة الوزيرُ الشهيرُ ، قتلهُ عَضُدُ الدولةِ ، فرثاهُ أبو الحسنِ الأنباريُّ بقصيدتِه الرائعةِ العامرةِ ، ومنها :
عُلُوٌّ في الحياةِ وفي المماتِ
لحقٌّ تِلْك إحدى المُعجزاتِ
كأنَّ الناس حوْلك حين قاموا
وفودُ نداك أيام الصِّلاتِ
كأنَّك واقِفٌ فيهم خطيباً
وهمْ وقفُوا قِياماً للصَّلاةِ
مددت يديْك نحوهمُو اختفاءً
كمدِّهما إليهمْ بالهِباتِ
ولما ضاق بطنُ الأرضِ عنْ أنْ
يُواروا فيه تلك المكْرُماتِ
أصاروا الجوَّ قبرك واستعاضوا
عليك اليوم صوت النّائِحاتِ
وما لك تُربةٌ فأقولُ تُسقى
لأنَّك نُصْب هطْلِ الهاطِلاتِ
عليك تحيَّة الرحمنِ تتْرى
بتبريكِ الفؤادِ الرّائِحاتِ
لِعظْمِك في النُّفُوسِ تباتُ تُرعى
بحُراسٍ وحُفَّاظٍ ثقاتِ
وتُوقدُ حولك النيرانُ ليلاً
كذلك كُنت أيام الحياةِ
ما أجمل العباراتِ ، وما أجمل الأبياتِ ، وما أنْبَلَ هذهِ المُثُل ، وما أضخم هذهِ المعاني . الله ما أجْملها من أوسمةٍ ، وما أحسنها من تِيجان !!
لمَّا سمع هذه الأبيات عضدُ الدولة الذي قتلهُ ، دمعتْ عيناه وقال : وددتُ واللهِ أنني قُتلتُ وصُلِبْتَ ، وقيِلتْ فيَّ .
ويُقتلُ محمدُ بنُ حميدٍ الطوسيُّ في سبيلِ اللهِ ، فيقولُ أبو تمام يرثيه :
كذا فليجلَّ الخطبُ وليَفْدحِ الأمرُ
فليْس لِعَيْنٍ لم يفِضْ ماؤها عُذْرُ
تُوفِّيتِ الآمالُ بعد محمَّدٍ
وأصبح في شُغلٍ عن السَّفرِ السَّفرُ
تردَّ ثياب الموت حُمْراً فما دَجَى
لها الليلُ إلا وهي منْ سُنْدُسٍ خُضْرُ
إلى آخرِ ما قال في تلك القصيدةِ الماتِعةِ ، فسمِعها المعتصمُ ، وقال : ما مات من قِيلتْ فيه هذهِ الأبياتُ .
ورأيتُ كريماً آخر في سلالةِ قُتيبة بنِ مسلمٍ القائدِ الشهيرِ ، هذا الكريمُ بذل ماله وجاههُ ، وواسى المنكوبين ، ووقف مع المصابين وأعطى المساكين ، وأطعم الجائعين ، وكان ملاذاً للخائفين ، فلمَّا مات ، قال أحدُ الشعراء :
مضى ابنُ سعيدٍ حين لم يبق مشرِقٌ
ولا مغرِبٌ غلاَّ لهُ فيهِ مادحُ
وما كنتُ أدري ما فواضِلُ كفِّهِ
على الناسِ حتى غيَّبتْهُ الصَّفائحُ
وأصبح في لحدٍ مِن الأرضِ ضيِّقٍ
وكانتْ به حيّاً تضِيقُ الصَّحاصحُ
سأبكيك ما فاضتْ دموعي فإنْ تفِضْ
فحسْبُك مني ما تجِنُّ الجوابِحُ
فما أنا مِنْ رُزْءٍ وإنْ جلَّ جازِعٌ
ولا بسرورٍ بعد موتِك فارِحُ
كأنْ لم يُمتْ حيٌّ سواك ولم تقُمْ
على أحدٍ إلا عليك النَّوائِحُ
لئنْ عظُمتْ فيك المراثي وذكْرُها
لقد عظمتْ مِنْ قبلُ فيك المدائحُ
وهذا أبو نواس يكتبُ تاريخ الخصيبِ أميرِ مِصْرِ، ويسجِّل في دفترِ الزمانِ اسمه فيقولُ :
إذا لم تزُرْ أرض الخصيبِ ركابُنا
فأيَّ بلادٍ بعدهنَّ تزورُ
فما جازهُ جودٌ ولا حلَّ دونه
ولكنْ يسيرُ الجودُ حيثُ يسيرُ
فتىً يشتري حُسْن الثَّناءِ بمالِه
ويعلمُ أنَّ الدَّائراتِ تدورُ
ثم لا يذكُرُ الناسُ منْ حياةِ الخصيبِ ، ولا منْ أيامِه إلا هذهِ الأبيات .
*********************************************
وقفةٌ
((اللهمَّ اقِسمْ لنا مِنْ خشيتِك ما تحُولُ به بيننا وبين معاصيك ، ومنْ طاعتِك ما تُبلُغُنا به جنَّتك ، ومن اليقينِ ما تُهوِّنُ به علينا مصائب الدنيا ، ومتِّعْنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقوَّتِنا ما أحْييْتنا ، واجْعلْه الوارِث منا ، واجعلْ ثأرنا على منْ ظَلَمَنا ، وانصُرْنا على منْ عادانا ، ولا تجعلْ مصيبتنا في ديننِا ، ولا تجعلِ الدُّنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ عِلْمِنا ، ولا تُسلِّطْ علينا بذنوبنا منْ لا يرحمُنا )) .
قال عليُّ بنُ مقلة :
إذا اشتملتْ على اليأسِ القلوبُ(/86)
وضاق لما بهِ الصَّدرُ الرَّحيبُ
وأوْطنتِ المكارهُ واطمأنَّتْ
وأرستْ في أماكنِها الخطوبُ
ولم تر لانكشافِ الضُّرِّوجهاً
ولا أغنى بحِيلتِهِ الأريبُ
أتاك على قُنُوطِك منهُ غَوْثٌ
يمُنُّ به القريبُ المُستجيِبُ
وكُلُّ الحادثاتِ وإن تناهتْ
فموصولٌ بها فرجٌ قريبُ
****************************************
ربٌّ لا يظْلِمُ ولا يَهْضِمُ
ألا يحقُّ لك أنْ تَسْعَدَ ، وأنْ تهدأ وأنْ تسكن إلى موعودِ اللهِ ، إذا علمت أنَّ في السماء ربّاً عادلاً ، وحكماً مُنصفاً ، أدخل امرأةُ الجنة في كلبٍ ، وأدخل امرأةً النار في هِرَّة .
فتلك امرأةٌ بغيٌّ منْ بني إسرائيل ، سقتْ كلباً على ظمأٍ ، فغفر اللهُ لها وأدخلها الجنة ، لمِا قام في قلبِها منْ إخلاصِ العملِ للهِ .
وهذهِ حبست قطَّةً في غُرفةٍ ، لا هي أطعمتْها ، ولا سقتْها ، ولا تركتْها تأكلُ منْ خشاشِ الأرضِ ، فأدخلها اللهُ النار .
فهذا ينفعُك ويُثلجُ صدرك بحيثُ تعلمُ أنه سبحانه وتعالى يجزي على القليلِ ، ويُثيبُ على العملِ الصغيرِ ، ويُكافئُ عبدهُ على الحقيرِ .
وعند البخاريِّ مرفوعاً : (( أربعون خصْلةً ، أعلاها منِحةُ العنزِ ما من عاملٍ يعملُ بخصلةٍ منها رجاء موعودِها وتصديق ثوابِها إلا أدخله اللهُ الجنة )) ? فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ{7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ? ، ? إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ? .
فرِّجْ عنْ مكروبٍ ، وأعطِ محروماً ، وانصرْ مظلوماً ، وأطعمْ جائعاً ، واسْقِ ظامئاً ، وعُدْ مريضاً ، وشيِّع جنازةً ، وواسِ مصاباً ، وقُدْ أُعْمى ، وأرشِدْ تائِهاً ، وأكرم ضيفاً ، وبِرَّ جاراً ، واحترمْ كبيراً ، وارحمْ صغيراً ، وابذُلْ طعامك ، وتصدَّقْ بدِرْهمِك ، وأحسِنْ لفظك ، وكُفَّ أذاك ، فإنه صدقةٌ لك .
إنَّ هذه المعاني الجميلة ، والصفاتِ السامية ، منْ أعظمِ ما يجلبُ السعادة ، وانشراح الصدرِ ، وطردَ الهمِّ والغمِّ والقلق والحزن .
لله دِرُّ الخُلُقِ الجميلِ ، لو كان رجلاً لكان حَسَنَ الشّارةِ ، طيِّب الرائحةِ حَسَنَ الذكْرِ ، باسِم الوجهِ .
********************************************
اكتبْ تأريخك بَنفْسِك
كنتُ جالساً في الحرَمِ في شدَّةِ الحرّ ، قبل صلاةِ الظهرِ بساعةٍ ، فقام رجلٌ شيخٌ كبيرٌ ، وأخذ يُباشِرُ على الناسِ بالماءِ الباردِ ، فيأخذُ بيدهِ اليُمنى كوباً ، وفي اليُسرى كوباً ، ويسقيهمُ منْ ماءِ زمزم ، فكلَّما شرب شاربٌ ، عاد فأسقى جارهُ ، حتى أسقى فِئاماً من الناسِ ، وعَرَقُه يتصبَّبُ ، والناسُ جلوسٌ كلٌّ ينتظرُ دوره ليشرب منْ يدِ هذه الشيخِ الكبيرِ ، فعجبتُ منْ جلدِهِ ومنْ صبرِهِ ومنْ حبِّه للخيرِ ، ومن إعطائِه هذا الماءَ للناسِ وهو يتبسَّمُ ، وعلمتُ أنَّ الخير يسيرٌ على منْ يسرَّه اللهُ عليه ، وأنَّ فِعْلَ الجميِل سَهْلٌ على منْ سهَّلهُ اللهُ عليه ، وأنَّ للهِ ادِّخاراتٍ من الإحسانِ ، يمنحُها منْ يشاءُ منْ عبادهِ ، وأنَّ اللهُ يُجري الفضائل ولو كانتْ قليلةً على يدِ أناسٍ خيرِّين ، يحبُّون الخيْر لعبادِ اللهِ ، ويكرهون الشَّرَّ لهم .
أبو بكر يعرِّضُ نفسه للخطرِ في الهجرةِ ، حمايةً للرسولِ ( .
وحاتمُ ينامُ جائعاً ، ليشبع ضيوفه .
وأبو عبيدة يسهرُ على راحةِ جيشِ المسلمين .
وعمرُ يطوفُ المدينة والناسُ نيامٌ .
ويتلوى من الجوعِ عام الرَّمادة ، ليُطعم الناس .
وأبو طلحة يتلقى السهام في أُحُدٍ ، ليقي رسول اللهِ ( .
وابنُ المباركِ يُباشِرُ على الناسِ بالطعامِ وهو صائمٌ .
ذهبوا يرون الذكر عمراً ثانيا
ومضوا يعدُّون الثناء خلودا
? وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ? .
********************************************
أنْصِتْ لكلامِ اللهِ
هدِّئ أعصابك بالإنصاتِ إلى كتابِ ربِّك ، تلاوةً مُمتعةً حسنةً مؤثِّرةً منْ كتابِ اللهِ ، تسمعُها منْ قارئٍ مجوِّدٍ حَسَنِ الصوتِ ، تصلُك على رضوانِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، وتُضفي على نفسِك السكينة ، وعلى قلبِك يقيناً وبرداً وسلاماً .
كان ( يحبُّ أنْ يسمع القرآن منْ غيرِهِ ، وكان ( يتأثَّرُ إذا سمع القرآن منْ سواهُ ، وكان يطلُبُ منْ أصحابِه أنْ يقرؤوا عليهِ ، وقد أُنزل عليهِ القرآنُ هو ، فيستأنسُ ( ويخشعُ ويرتاحُ .
إنَّ لك فيهِ أسوةً أنْ يكون لك دقائقُ ، أو وقتٌ من اليومِ أو الليلِ ، تفتحُ فيهِ المذياع أو مسجّلاً ، لتستمع إلى القارئِ الذي يعجبُك ، وهو يتلو كلام اللهِ عزَّ وجلَّ .
إنَّ ضجَّة الحياةِ وبلبلة الناسِ ، وتشويش الآخرين ، كفيلٌ بإزعاجِك ، وهدِّ قُواك ، وبتشتيتِ خاطرِك . وليس لك سكينةٌ ولا طمأنينةٌ ، إلاَّ في كتابِ ربِّك وفي ذكرِ مولاك : ?الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ? .(/87)
يأمرُ ( ابن مسعودٍ ، فيقرأ عليه منْ سورةِ النساءِ ، فيبكي ( حتى تنهمر دموعُه على خدِّه ، ويقولُ : (( حسْبُك الآن )) .
ويمرُّ بأبي موسى الأشعريِّ ، وهو يقرأُ في المسجدِ ، فيُنصتُ لهُ ، فيقولُ له في الصباحِ : (( لو رأيتني البارحة وأنا أستمعُ لقراءتِك )) ، قال أبو موسى : لو أعلمُ يا رسول الله أنك تستمعُ لي ، لحبَّرْتُهُ لك تحبيراً .
عند ابن أبي حاتم يمرُّ ( بعجوزٍ ، فيُنصت إليها منْ وراءِ بابها ، وهي تقرأُ ? هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ? ، تعيدُها وتكرِّرُها ، فيقولُ : (( نعم أتاني ، نعم أتاني )) .
إنَّ للاستماعِ حلاوةً ، وللإنصاتِ طلاوةً .
أحدُ الكُتاّبِ اللامعين المسلمين سافر إلى أوربا ، فأبحر في سفينةٍ ، وركبتُ معه امرأةٌ منْ يوغسلافيا ، شيوعيَّةٌ فرَّتْ منْ ظُلمٍ ومنْ قهرِ تيتو ، فأدركتْه صلاةُ الجمعةِ مع زملائِه ، فقام فخطبهم ، ثم صلَّى بهمْ وقرأ سورة الأعلى والغاشية ، وكانتِ المرأةُ لا تجيدُ العربية ، كانتْ تُنصتُ إلى الكلام وإلى الجرْسِ وإلى النَّغمةِ ، وبعد الصلاةِ سألتْ هذا الكاتب عن هذهِ الآياتِ ؟ فأخبرها أنها من كلامِ اللهِ عزَّ وجَّل ، فبقيتْ مدهوشةً مذهولةً ، قال : ولم تمكنّي لغتي لأدعُوها إلى الإسلامِ : ? قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ? .
إنَّ للقرآنِ سلطاناً على القلوبِ ، وهيبةٌ على الأرواحِ ، وقوةً مؤثَّرةً فاعلةً على النفوسِ.
عجبتُ لأناسٍ من السلفِ الأخبارِ ، ومن المتقدِّمين الأبرار، انهدُّوا أمام تأثيرِ القرآن ،وأمام إيقاعاتِه الهائلةِ الصادقةِ النافذةِ : ? لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ? .
فذاك عليُّ بنُ الفُضيل بن عياضٍ يموتُ لمَّا سمع أباه يقرأُ : ? وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ{24} مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ? .
وعمرُ رضي اللهُ عنه وأرضاهُ منْ سماعِه لآيةٍ ، ويبقى مريضاً شهراً كاملاً يُعادُ ، كما يُعادُ المريضُ ، كما ذكر ذلك ابنُ كثيرٍ . ? وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ? .
وعبدُاللهِ بنُ وهبٍ ، مرَّ يوم الجمعةِ فسمع غلاماً يقرأُ : ? وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ... ? فأُغمي عليه ، ونُقل إلى بيتهِ ، وبقي ثلاثة أيامٍ مريضاً ، ومات في اليوم الرابعِ . ذَكَرَه الذهبيُّ .
وأخبرني عالمٌ أنه صلَّى في المدينةِ ، فقرأ القارئُ بسورةِ الواقعةِ ، قال : فأصابني من الذهولِ ومن الوجلِ ما جعلني اهتزُّ مكاني ، وأتحرَّكُ بغيرِ إرادةٍ مني ، مع بكاءٍ ، ودمعِ غزيرٍ . ? فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ? .
ولكنْ ما علاقةُ هذا الحديثِ بموضوعِنا عنِ السعادةِ ؟!
إنَّ التشويش الذي يعيشُه الإنسانُ في الأربعِ والعشرين ساعةً كفيلٌ أنْ يُفقِده وعيهُ ، وأن يُقلقه ، وأن يُصيبه بالإحباطِ ، فإذا رَجَعَ وأنصت وسَمَعَ وتدبَّر كلام المولى ، بصوتٍ حسنٍ منْ قارئٍ خاشعٍ ، ثاب إليه رُشدُه ، وعادتْ إليه نفسهُ ، وقرَّتْ بلابلهُ ، وسكنتْ لواعِجُه . إنني أُحذَّرك بهذا الكلامِ عنْ قومٍ جعلُوا الموسيقى أسباب أُنسِهمْ وسعادتِهمْ وارتياحِهم ، وكتبُوا في ذلك كُتُباً ، وتبجَّح كثيرٌ منهمْ بأنَّ أجمل الأوقات وأفضل الساعات يوم يُنصت إلى الموسيقى ، بلْ إنَّ الكُتَّاب الغربيين الذين كتبُوا عن السعادةِ وطردِ القلقِ يجعلون منْ عواملِ السعادةِ الموسيقى . ? وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً ? ، ? سَامِراً تَهْجُرُونَ ? .
إنَّ هذا بديلٌ آثِم ، واستماعٌ محرَّم ، وعندنا الخيْرُ الذي نزل على محمدٍ ( ، والصِّدقُ والتوجيهُ الرَّاشدُ الحكيمُ ، الذي تضمَّنه كتاب اللهِ عزَّ وجلَّ : ? لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ? .
فسماعٌنا للقرآنِ سماعٌ إيمانيٌّ شرعيٌّ محمديٌّ سنيٌّ ? تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ ? ، وسماعُهم للموسيقى سماعٌ لاهٍ عابثٌ ، لا يقومُ به إلا الجَهَلةُ والحمقى والسُّفهاءُ من الناسِ ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ? .
*****************************************
كلٌّ يبحثُ عنِ السعادةِ ولكنْ(/88)
للعالمِ الإسكافيِّ كتابٌ بعنوان ( لُطْفُ التدبيرِ ) وهو كتابٌ جمُّ الفائدةِ ، أخَّاذٌ جذَّابٌ جلاَّبٌ ، مؤدَّى الكلامِ فيه البحثُ عن السيادةِ والسعادةِ والرِّيادةِ ، فإذا الاحتيالُ والمكرُ والدهاءُ ، وضَرْبٌ من السياسةِ ، وأفانينُ من الالتواءِ ، فَعًَلها كثيرٌ من الملوكِ والرؤساءِ ، والأدباءِ والشعراءِ ، وبعضِ العلماءِ ، كلُّهم يريدُ أنْ يهدأ وأنْ يرتاح ، وأنْ يحصل على مطلوبهِ ، حتى إنّهُ منْ عناوينِ هذا الكتابِ :
في لطفِ التدبيرِ ، تسكيرُ شغْبٍ ، وإصلاحُ نِفارٍ أو ذاتِ بيْن ، ماذا يفعلُ المنهزمُ في مكائدِ الأعداءِ ، مُكايَدَةُ صغيرٍ لكبيرٍ ، في دفعِ مكروهٍ بقولٍ ، في دفعِ مكروهٍ بمكروهٍ ، في دفعِ مكروهٍ بلُطفٍ ، في لُطفِ التدبيرِ في دفعِ مكروهٍ ، في مُداراةِ سلطانٍ ، في الانتقامِ منْ سالِب مُلكٍ ، في الخلاصِ منْ نِقْمةٍ في الفتْكِ والاحترازِ منُه في إظهارِ أمرٍ لإخفاءِ غيرِه . إلى آخرِ تلك الأبوابِ .
ووجدتُ أنَّ الجميع كلَّهمْ يبحثون عنِ السعادِة والاطمئنانِ ، ولكنْ قليلٌ منهمْ منِ اهتدى إلى ذلك ووُفِّق لنيْلِها . وخرجتُ من الكتابِ بثلاثِ فوائد :
الأولى : أنَّ منْ لم يجعلِ الله نصب عينيه ، عادتْ فوائدُه خسائِر وأفراحُه أتراحاً ، وخيراتُه نكباتٍ ? سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ? .
الثانيةِ : أنَّ الطرق الملتوية الصَّعْبة التي يسعى إليها كثيرٌ من الناسِ في غيرِ الشريعةِ ، لنيلِ السعادةِ ، يجدونها – بطُرُقٍ أسهَلَ وأقرَبَ – في طريق الشرعِ المحمديِّ ، ? وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ? فينالون خَيْرَ الدنيا وخَيْرَ الآخرةِ .
الثالثةِ : أنَّ أُناساً ذهبتْ عليهمْ دنياهم وأخراهم ، وهمْ يظُنُّون أنهم يُحسنون صُنعاً ، وينالون سعادةً ، فما ظفرُوا بهذه ولا بتلك ، والسببُ إعراضُهم عن الطريقِ الصحيحِ الذي بعث اللهُ به رُسُلَهُ ، وأنزل به كتبه ، وهي طلبُ الحقِّ ، وقولُ الصدْقِ ، ? َتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ ? .
كان أحدُ الوزراءِ في لهوهِ وطربِه ، فأصابه غمٌّ كاتِمٌ ، وهمٌّ جاثِمٌ فصرخ :
ألا موتٌ يُباعُ فأشترِيهِ
فهذا العيشُ ما لا خير فيهِ
إذا أبصرتُ قبراً من بعيدٍ
وددتُ لو أنني ممَّا يليِهِ
ألا رحِم المهيمنُ نفْس حُرٍّ
تصدَّق بالوفاةِ على أخيهِ
**************************************
وقفةٌ
« فليُكْثِرِ الدُّعاء في الرَّخاءِ : أيْ في حالِ الرَّفاهيةِ والأمنِ والعافيةِ ؛ لأنَّ مِنْ سمةِ المؤمنِ الشاكرِ الحازمِ ، أنْ يرِيش الشهم قبل الرمْي ، ويلتجئ إلى اللهِ قبْل الاضطرارِ ، بخلافِ الكافرِ الشَّقيِّ والمؤمنِ الغبيِّ ? وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً ? .
فتعيَّن على منْ يريدُ النجاةَ مِنْ ورطاتِ الشَّدائدِ والغُمومِ ، أنْ لا يفعل بقلبهِِ ولسانِه عنِ التَّوجُّهِ إلى حضرةِ الحقِّ – تقدّسَ – بالحمْدِ والابتهالِ إليه والثَّناء عليه ، إذ المراد بالدعاء في الرخاء – كما قاله الإمام الحليمي – دعاء الثناءِ والشُّكرِ والاعترافِ بالمِنن ، وسؤالِ التوفيقِ والمعونةِ والتَّأييدِ . والاستغفارِ لعوارضِ التَّقصيرِ ، فإنَّ العبد – وإنْ جهِد – لم يُوفِّ ما عليهِ منْ حقوقِ الله بتمامِها ، ومنْ غفل عنْ ذلك ، ولم يُلاحظْه في زَمَنِ صِحَّتِهِ وفراغِه وأمْنِهِ ، فقدْ صدقَ عليه قولُه تعالى : ? فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ? » .
**************************************
نعيمٌ وجحيمٌ
نشرتْ الصحفُ العالميةُ خبراً عن انتحارِ رئيسِ وزراءِ فرنسا في حُكمِ الرئيسِ ميتران ، والسببُ في ذلك أنَّ بعض الصحفِ الفرنسية شنَّتْ عليهِ غارةً من النقْدِ والشتْمِ والتَّجريحِ ، فلمْ يجدْ هذا المسكينُ إيماناً ولا سكينةً ولا استقراراً يعودُ إليه ، ولم يجدْ منْ يركنُ إليه ، فبادر فأزْهَقَ رُوحَه .
إنَّ هذا الرجل المسكين الذي أقدم على الانتحارِ لم يهتدِ بالهدايةِ الرَّبّانيَّةِ المتمثَّلةِ في قولِهِ سبحانه : ? وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ? وقولِه سبحانه : ? لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى ? ، وقوله : ? وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ? ، لأنَّ الرجل فَقَدَ مفتاح الهدايةِ ، وطريق السَّدادِ وسبيل الرَّشادِ : ? مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ? .(/89)
إنَّ منْ وصايا الآخرين لكلِّ مُثْقلٍ بالهمِّ والحزنِ ، أنْ يأمروه بالجلوسِ على ضفافِ النهرِ ، ويستمتع بالموسيقى ، ويلعب النَّرْد ، ويتزلَّج على الثْلجِ .
لكنْ وصايا أهل الإسلامِ ، وأهلَ العبوديَّةِ الحقَّةِ : جلسةٌ بين الأذانِ والإقامِة في روضةٍ منْ رياضِ الجنَّةِ ، وهتافٌ بذِكرِ الواحد الأحدِ ، وتسليمٌ بالقضاءِ والقدرِ ، ورضاً بما قسم اللهُ ، وتؤكُّلٌ على اللهِ جلَّ وعلا .
************************************
? أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ?
نَزَلَ هذا الكلامُ على رسولِ اللهِ ( فتحقَّقتْ فيه هذهِ الكلمةُ ، فكان سهل الخاطرِ ، منشرح الصدرِ ، متفائلاً ، جيَّاشَ الفؤادِ ، حيَّ العاطفةِ ، ميسَّراً في أمورِهِ ، قريباً من القلوبِ ، بسيطاً في عظمةٍ ، دانياً من الناسِ في هيبةٍ ، متبسماً في وقارٍ ، متحبباُ في سموٍّ ، مألوفاً للحاضر والبادي ، جمَّ الخُلُقِ ، طلْقَ المُحيَّا ، مشرق الطلْعةِ ، غزير الحياءِ ، يهشُّ للدُّعابةِ ، ويَبَشُّ للقادِم ، مسروراً بعطاءِ اللهِ ، جذِلاُ بالهِباتِ الرَّبانيَّةِ ، لا يعتريه اليأسُ ، ولا يعرفُ الإحباط ، ولا يخلدُ إلى التَّخْذِيلِ ، ولا يعترفُ بالقنوطِ ، ويُعجبُه الفألُ الحسنُ ، ويكرهُ التَّعمُّق والتَّشدُّق ، والتَّفيْهُق والتَّكلُّف والتَّنطُّع ؛ لأنهُ صاحبُ رسالةٍ ، وحاملُ مبدأ ، وقدوةُ أُمَّةٍ ، وأُسوةُ أجيالٍ ، ومعلِّمُ شعوبٍ ، وربُّ أسرةٍ ، ورجُلُ مجتمعٍ ، وكنْز مُثُلٍ ، ومَجْمَعُ فضائل ، وبحرُ عطايا ، ومشرِقُ نورٍ .
إنه باختصارٍ : ميسرٌ لليُسرى ، ، وإنه بإيجازٍ ? وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ? أو بعبارةٍ أخرى : ? رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ? وكفى !! ? شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً{45} وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ? .
إنَّ مما يُعارضُ الرسالة الميسَّرة السهلة : تنطُّعُ الخوارجِ ، وتزندُقُ أهلِ المنطقِ عبيدِ الدنيا ، وانحرافُ مرتزقةِ الأفكار ? فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? .
******************************************
مفهومُ الحياةِ الطَّيِّبةِ
يقولُ أحدُ أذكياءِ الإنكليزِ : بإمكانك وأنت في السجنِ منْ وراءِ القضبانِ الحديديةِ أنْ تنظُرَ إلى الأُفُقِ ، وأنْ تُخْرِج زهرةً منْ جيبِك فتشُمَّها وتبتسم ، وأنت مكانك ، وبإمكانِك وأنت في القصْرِ على الديباج والحريرِ ، أنْ تحتدَّ وأنْ تغضب وأنْ تثور ساخطاً منْ بيتِك وأسرتِك وأموالِك .
إذنْ السعادةُ ليستْ في الزمانِ ولا في المكانِ ، ولكنَّها في الإيمانِ ، وفي طاعةِ الدَيَّانِ ، وفي القلبِ . والقلبُ محلُّ نظرِ الرَّبَّ ، فإذا استقرَّ اليقينُ فيه ، انبعثتِ السعادةُ ، فأضفتْ على الروح وعلى النفسِ انشراحاً وارتياحاً ، ثمَّ فاضتْ على الآخرين ، فصارتْ على الظِّرابِ وبطونِ الأودية ومنابتِ الشجرِ .
أحمدُ بنُ حنبل عاش سعيداً ، وكان ثوبُه أبيض مرقَّعاً ، يخيطُه بيدِهِ ، وعندهُ ثلاثُ غُرفٍ منْ طينٍ يسكُنها ، ولا يجدُ إلا كِسرَ الخُبْزِ مع الزيتِ ، وبقي حذاؤه – كما قال المترجمون عنهُ – سبع عشرة سنةً يرقِّعها ويخيطُها ، ويأكلُ اللحم في شهرٍ مرَّةً ويصومُ غالب الأيامِ ، يذرعُ الدنيا ذهاباً وإياباً في طلَبِ الحديثِ ، ومع ذلك وجد الراحة والهدوء والسكينة والاطمئنان ؛ لأنهُ ثابتُ القدم ، مرفوعُ الهامةِ ، عارفٌ بمصيرِه ، طالبٌ لثوابٍ ، ساعٍ لأجرٍ ، عاملٌ لآخرةٍ ، راغبٌ في جنَّةٍ .
وكان الخلفاءُ في عهدِه – الذين حكموا الدنيا – المأمونُ ، والواثقُ ، والمعتصمُ ، والمتوكلُ عندهم القصورُ والدُّورُ والذهبُ والفضةُ والبنودُ والجنودُ ، والأعلامُ والأوسمةُ والشاراتُ والعقاراتُ ، ومعهمْ ما يشتهون ، ومع ذلك عاشُوا في كَدَرٍ ، وقَضَوْا حياتَهم في همٍّ وغمٍّ ، وفي قلاقل وحروبٍ وثوراتٍ وشَغَبٍ وضجيجٍ ، وبعضُهم كان يتأوَّهُ في سكراتِ الموتِ نادماً على ما فرَّط ، وعلى ما فعل في جنبِ اللهِ .(/90)
ابنُ تيمية شيخُ الإسلامِ ، لا أهل ولا دار ولا أسرة ولا مال ولا منصب ، عندهُ غرفةٌ بجانبِ جامعِ بني أمية يسكنُها ، ولهُ رغيفٌ في اليومِ ، وله ثوبانِ يغيِّر هذا بهذا ، وينامُ أحياناً في المسجدِ ، ولكنْ كما وَصَف نفسه : جنَّتُه في صدرِه ، وقتْلُه شهادةٌ ، وسجْنه خِلْوةٌ ، وإخراجهُ منْ بلدِهِ سياحةٌ ؛ لأن شجرة الإيمانِ في قلبِهِ استقامتْ على سُوقِها ، تُؤتي أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها يمُدُّها زيتُ العنايةِ الربانيةِ ، ? يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ? ، ? كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ? ،? وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ? ،? تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ? .
خرج أبو ذرٍّ رضي اللهُ عنه وأرضاهُ إلى الرَّبذةِ ، فنصب خيمتهُ هناكَ ، وأتى بامرأتِه وبناتِهِ ، فكان يصومُ كثيراً من الأيامِ ، يذكُرُ مولاهُ ، ويسبِّحُ خالقهُ ، ويتعبَّدُ ويقرأُ ويتلو ويتأمَّلُ ، لا يملكُ من الدنيا إلا شمْلةً أو خيمةً ، وقطعةً من الغنمِ مع صحْفةٍ وقصْعةٍ وعصا ، زارَهُ أصحابُه ذات يوم ، فقالوا : أين الدنيا؟ قال : في بيتي ما أحتاجُه من الدنيا ، وقدْ أخبرنا ( أنَّ أمامنا عقبةً كؤوداً لا يجيزُها إلا المُخِفُّ .
كان منشرحَ الصدرِ ، ومنثلج الخاطرِ ، فعندهُ ما يحتاجُه من الدنيا ، أمّا ما زاد على حاجتِه ، فأشغالٌ وتبِعاتٌ وهمومٌ وغمومٌ .
قلتُ في قصيدةٍ بعنوان : أبو ذرٍّ في القرن الخامسِ عَشَرَ ، متحدِّثاً عنْ غُربةِ أبي ذرٍّ وعن سعادتِه ، وعن وحدتِه وعزلتِه ، وعن هجرتِه بروحِه ومبادئِه ، وكأنه يتحدثُ عن نفسِه :
لاطفُوني هدَّدْتُهم هدَّدُوني
بالمنايا لاطفتُ حتى أحسَّا
أركبُوني نزلتُ أركبُ عزْمي
أنزلُوني ركِبتُ في الحقِّ نفْسا
أطرُدُ الموت مُقْدِماً فيُولِّي
والمنايا أجتاحُها وهْي نعْسَى
قد بكتْ غربتي الرمالُ وقالتْ
يا أبا ذرٍّ لا تخفْ وتأسَّا
قلتُ لا خوف لم أزلْ في شبابٍ
مِنْ يقيني ما مِتُّ حتى أُدسَّا
أنا عاهدتُ صاحِبِي وخليلي
وتلقَّنْتُ منْ أمالِيهِ درْسا
***************************************************
إذنْ فما هي السعادةُ ؟!
(( كنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيل )) ، (( فطوبى للغرباءِ )) .
ليسِ السعادةُ قصر عبدِالملك بنِ مروان ، ولا جيوش هارونِ الرشيدِ ولا دُور ابنِ الجصَّاصِ ، ولا كنوز قارون ، ولا في كتابِ الشفاءِ لابنِ سينا ، ولا في ديوانِ المتنبي ، ولا في حدائقِ قرطبة ، أو بساتينِ الزهراءِ .
السعادةُ عند الصحابِة مع قلَّةِ ذاتِ اليدِ ، وشظفِ المعيشةِ ، وزهادهِ المواردِ ، وشُحِّ النَّفقةِ .
السعادةُ عند ابنِ المسيبِ في تألُّهِه ، وعند البخاري في صحيحِهِ ، وعند الحسنِ البصريِّ في صِدْقِهِ ، ومع الشافعيِّ في استنباطاتِه ، ومالكٍ في مُراقبتِه ، وأحمد في ورعِهِ ، وثابتٍ البنانيِّ في عبادتهِ ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ? .
ليستِ السعادةُ شيكاً يُصرفُ ، ولا دابةً تُشترَى ، ولا وردةً تُشَمّ ، ولا بُرّاً يُكالُ ، ولا بزّاً يُنشرُ .
السعادةُ سلوةُ خاطرٍ بحقٍّ يحمِلُه ، وانشراحُ صدرٍ لمبدأ يعيشُه، وراحةُ قلبٍ لخيرٍ يكْتنِفُه.
كنّا نظُنُّ أننا إذا أكثْرنا من التوسٌّعِ في الدُّوِر ، وكثْرةِ الأشياءِ ، وجمْعِ المسهِّلاتِ والمرغِّباتِ والمشتهياتِ ، أننا نسعدُ ونفرحُ ونمرحُ ونُسرُّ ، فإذا هي سببُ الهمِّ والكَدَرِ والتنغيصِ ؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ بهمِّه وغمِّه وضريبةِ كدِّهِ وكدْحِهِ ? وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ? .
إنَّ أكبر مُصلِحٍ في العالمِ رسولُ الهدى محمدٌ ( ، عاش فقيراً ، يتلوَّى من الجوعِ ، لا يجدُ دقْلَ التمرِ يسدُّ جوعه ، ومع ذلك عاش في نعيمٍ لا يعلمُه إلا اللهُ ، وفي انشراحٍ وارتياحٍ ، وانبساطٍ واغتباطٍ ، وفي هدوءٍ وسكينةٍ ? وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ{2} الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ? ، ? وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ? ، ? اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ? .
في الحديثِ الصحيحِ : (( البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ ، والإثم ما حاك في صدرِك وكرهْت أن يطلع عليه الناسُ )) .
إنَّ البرَّ راحةٌ للضميرِ ، وسكونٌ للنفسِ ، حتى قال بعضُهم :
البرُّ أبقى وإنْ طال الزَّمانُ به
والإثمُ أقبحُ ما أوعيت منْ زادِ(/91)
وفي الحديث : (( البرُّ طُمأنينةٌ ، والإثم ريبةٌ )) . إنَّ المحسن صراحةً يبقى في هدوءٍ وسكينةٍ ، وإنَّ المريب يتوجَّسُ من الأحداثِ والخطراتِ ومن الحركاتِ والسَّكناتِ ?يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ? . والسببُ أنه أساء فحسْبُ ، فإنَّ المسيء لابدَّ أنْ يقلق وأنْ يرتبِك وأنْ يضطرب ، وأنْ يتوجَّس خِيفةً .
إذا ساءِ فِعْلُ المرءِ ساءتْ ظنونُهُ
وصدَّق ما يعتادُهُ مِنْ تَوَهُّمِ
والحلُّ لمنْ أراد السعادة ، أنْ يُحْسن دائماً ، وأنْ يتجنَّب الإساءة ، ليكون في أمنٍ ?الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ? .
أقبل راكبٌ يحثُّ السير ، يثورُ الغبارُ منْ على رأسِهِ ، يريدُ سعد بن أبي وقَّاصٍ ، وقدْ ضرب سعدٌ خيمتهُ في كبِدِ الصحراءِ ، بعيداً عنِ الضجيجِ ، بعيداً عنِ اهتماماتِ الدَّهْماءِ ، منفرداً بنفسِهِ وأهلِهِ في خيمتِهِ ، معهُ قطيعٌ من الغنمِ ، فاقترب الراكبُ فإذا هو ابنُه عُمَرُ ، فقال ابنُه له : يا أبتاهُ ، الناسُ يتنازعون الملك وأنت ترعى غنمك . قال : أعوذُ باللهِ منْ شرِّك ، إني أولى بالخلافةِ منِّي بهذا الرداءِ الذي عليَّ ، ولكن سمعتُ الرسول ( يقولُ : (( إنَّ الله يحبُّ العبد الغنيَّ التَّقيَّ الخفيَّ )) .
إن سلامة المسلمِ بدينِه أعْظمُ منْ مُلكِ كسرى وقيصر ؛ لأنَّ الدين هو الذي يبقى معك حتى تستقرَّ في جناتِ النعيمِ ، وأما الملكُ والمنصبُ فإنَّهُ زائلٌ لا محالة ? إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ? .
*******************************************
إليهِ يصعدُ الكلِمُ الطَّيَّبُ
كان للصحابةِ كنوزٌ من الكلماتِ المباركاتِ الطَّيِّباتِ ، التي عَّمهم إياها صفوةُ الخلْقِ ( .
وكلُّ كلمةٍ عند أحدِهم خيرٌ من الدنيا وما فيها ، ومِنْ عظمتِهمْ معرفتُهم بقيمةِ الأشياءِ ومقاديرِ الأمورِ .
أبو بكرٍ يسألُ الرسول ( أنْ يُعلِّمه دعاءً ، فقال له : (( قلْ : ربِّ إني ظلمتُ نفسي ظُلماً كثيراً ، ولا يغفرُ الذنوب غلا أنت ، فاغفرْ لي مغفرةً منْ عندِك وارحمني ، إنك أنت الغفورُ الرحيمُ )) .
ويقولُ ( للعباسِ : (( اسألِ الله العفو والعافية )) .
ويقولُ لعليٍّ : (( قلْ : اللَّهمَّ اهدنِي وسدِّدْني )) .
ويقولُ لعبيدِ بنِ حصينٍ : (( قلْ : اللهمَّ ألهمْنِي رُشدي ، وقِنِي شرَّ نفسْي )) .
ويقولُ لشدَّادِ بن أوسٍ : (( قلْ : اللهمَّ إني أسالُك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشدِ ، وشُكرَ نعمتِك ، وحُسْنَ عبادتِك ، وأسألُك قلباً سليماً ، ولساناً صادقاً ، وأسألُك مِنْ خَيْرِ ما تعْلمُ ، وأعوذُ بك منْ شرِّ ما تعلمُ ، وأستغفرُك لما تعلمُ ، إنك أنت علاَّمُ الغيوبِ )) .
ويقولُ لمعاذٍ : (( قلْ : اللهمَّ أعني على ذكرِك وشُكْرِك وحُسْنِ عبادتِك )) .
ويقولُ لعائشة : (( قولي : اللهم إنك عفُوٌّ تحبُّ العَفْوَ ، فاعْفُ عنِّي )) .
إنَّ الجامعَ لهذهِ الأدعيةِ : سؤالُ رضوانِ اللهِ عزَّ وجلَّ ورحمتِهِ في الآخرةِ ، والنَّجاةِ منْ غضبِه ، وأليمِ عقابِه ، والعونِ على عبادتِه سبحانه وتعالى وشكرِه .
وإنَ الرّابط بينها : طَلَبُ ما عند اللهِ ، والإعراضُ عمَّ في الدنيا . إنهُ ليس فيها طلبُ أموالِ الدنيا الفانيةِ ، وأعراضِها الزائلِة ، أو زخرِفها الرخيصِ .
**************************************
? وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى
وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ?
إنَّ منْ تعِاسةِ العبدِ ، وعثْرةِ قدمِهِ وسقوطِ مكانتِهِ : ظُلمُهُ لعبادِ اللهِ ، وهضْمُهُ حقوقهم ، وسحْقُه ضعيفهم ، حتى قال أحدُ الحكماءِ : خفْ ممَّن لم يجدْ له عليك ناصراً إلا الله .
ولقدْ حفظ لنا تاريخُ الأممِ أمثلةً في الأذهانِ عنْ عواقبِ الظَّلمةِ .
فهذا عامرُ بنُ الطفيل يكيد للرسول ( ، ويحاولُ اغتيالهُ ، فيدعو عليه ( ، فيبتليه اللهُ بغدَّةٍ في نحْرِه ، فيموتُ لساعتِه ، وهو يصرخُ من الألمِ .
وأربدُ بنُ قيسٍ يؤذي رسول اللهِ ( ، ويسعى في تدبيِر قتْلِهِ ، فيدعو عليه ، فيُنزلُ اللهُ عليه صاعقةً تحرقُه هو وبعيرُه .
وقبل أنْ يقتُل الحجاجُ سعيد بن جبيرٍ بوقتٍ قصيرٍ ، دعا عليه سعيدٌ وقال : اللَّهمَّ لا تسلِّطْهُ على أحدٍ بعدي . فأصاب الحجاجَ خُرَّاجٌ في يدهِ ، ثمَّ انتشر في جسمِهِ ، فأخذ يخوُر كما يخورُ الثورُ ، ثم مات في حالةٍ مؤسفةٍ .
واختفى سفيانُ الثوريُّ خَوْفاً منْ أبي جعفرِ المنصورِ ، وخرج أبو جعفر يريدُ الحرمَ المكِّيَّ وسفيانُ داخل الحرمِ ، فقام سفيانُ وأخذ بأستارِ الكعبةِ ، ودعا الله عزَّ وجلَّ أن لا يُدِخِلَ أبت جعفر بيته ، فمات أبو جعفر عند بئرِ ميمونٍ قبل دخولِه مكَّةَ .(/92)
وأحمدُ بن أبي دؤادٍ القاضي المعتزليُّ يُشاركُ في إيذاءِ الإمامِ أحمدِ بن حنبل فيدعو عليهم فيُصيبُه اللهُ بمرض الفالجِ فكان يقول : أمَّا نصفُ جسمي ، فلوْ وقع عليه الذبابُ لظننتُ أنَّ القيامة قامتْ ، وأمَّا النصفُ الآخرُ ، فلو قُرِض بالمقاريض ما أحسستُ .
ويدعو أحمدُ بنُ حنبل أيضاً على ابن الزَّيّاتِ الوزيرِ ، فيسلِّطُ اللهُ عليه منْ أخذَهُ ، وجعَلَهُ في فرنٍ من نارٍ ، وضرب المسامير في رأسِه .
وحمزةُ البسيونيُّ كان يعذِّبُ المسلمين في سجنِ جمالِ عبدِالناصر ، ويقولُ في كلمةٍ له مؤذية : « أين إلُهكمْ لأضعَهُ في الحديدِ » ؟ تعالى اللهُ عمَّا يقولُ الظالمون علوّاً كبيراً . فاصطدمتْ سيارتُه – وهو خارجٌ من القاهرةِ إلى الإسكندريةِ – بشاحنةٍ تحملُ حديداً ، فدخل الحديدُ في جسمه منْ أعلى رأسِهِ إلى أحشائِه ، وعَجَزَ المنقذون أنْ يُخرجوُه إلا قطعاً ?وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ? ، ? وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ? .
وكذلك صلاحُ نصرٍ منْ قادةِ عبدِالناصرِ ، وممَّنْ أكثرَ في الأرضِ الظلُّم والفساد ، أصيب بأكثر منْ عشرةِ أمراضٍ مؤلمةٍ مُزمِنةٍ ، عاش عدَّة سنواتٍ منْ عمرِهِ في تعاسةٍ ، ولم يجدْ لهُ الطبُّ علاجاً ، حتى مات سجيناً مزجوجاً بهِ في زنزاناتِ زعمائِه الذين كان يخدمُهمْ .
? الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ{11} فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ{12} فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ? ، (( إنَّ الله ليُمْلي للظالمِ ، حتى إذا أخذهُ لم يُفْلِتْه )) ، (( واتَّقِ دعوة المظلومِ ، فإنه ليس بينها وبين اللهِ حجابٌ )) .
قال إبراهيمُ التيميُّ : إنَّ الرجل ليظلمُني فأرحَمُهُ .
وسُرقتْ دنانيرُ لرجلٍ صالح منْ خراسان ، فجعل يبكي ، فقال له الفضيلُ : لِم تبكي ؟ قال : ذكرتُ أنَّ الله سوف يجمعُني بهذا السارقِ يوم القيامةِ ، فبكيتُ رحمةً له .
واغتاب رجُلٌ أحد علماءِ السلفِ ، فأهدى للرجُلِ تمراً وقال : لأنهُ صنع لي معروفاً .
*****************************************
قلتُ : بالبابِ أنا
على هيئةِ الأممِ المتحدةِ بنيويورك لوحةٌ ، مكتوبٌ عليها قطعةٌ جميلةٌ للشاعرِ العالميِّ السعدي الشيرازي ، وقدْ ترجمتْ إلى الإنجليزيةِ وهي تدعو إلى الإخاءِ والأُلفةِ والاتحادِ ، يقول:
قال لي المحبوبُ لمَّا زرتُهُ
منْ ببابي قلتُ بالبابِ أنا
قال لي أخطأت تعريف الهوى
حينما فرَّقت فيه بيْنَنَا
ومضى عامٌ فلمَّا جئتُهُ
أطرُقُ الباب عليه مُوهِنا
قال لي منْ أنتَ قلتُ أنْظُرْ فما
ثم َّ إلاَّ أنتَ بالبابِ هُنا
قال لي أحسنت تعريف الهوى
وعَرَفْتَ الحُبَّ فادخُلْ يا أنا
لابُدَّ للعبد منْ أخٍ مفيدٍ يأنسُ إليه ، ويرتاحُ إليه ، ويُشاركُه أفراحهُ وأتراحهُ ، ويبادلُه ودّاً بودٍّ . ? وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي{29} هَارُونَ أَخِي{30} اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي{31} وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي{32} كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً{33} وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً ? .
ولابدُّ منْ شكوى إلى ذي قرابةٍ
يُواسيك أو يُسلِيك أو يَتَوجَّعُ
? بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ? ، ? كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ? ، ? وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ? ، ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ? .
******************************************
لابدَّ منْ صاحبٍ
إنَّ منْ أسبابِ السعادةِ أنْ تجد منْ تنفعُك صُحبتُه ، وتُسعدُك رفقتُه . (( أين المتحابُّون في جلالي ، اليوم أُظِلُّهمْ في ظِلِّي يوم لا ظِلَّ إلا ظلِّي )) .
(( ورجلانِ تحابَّا في اللهِ ، اجتمعا عليهِ وتفرَّقا عليِه )) .
*******************************************
الأمْنُ مطلبٌ شرعيٌّ وعقليٌّ
? أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ? ، ? الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ? ، ?أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً? ، ? وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ? ، ? ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ? .
(( منْ بات آمِناً في سِرْبِهِ ، مُعافىً في بدنِهِ ، عنده قُوتُ يومِهِ ، فكأنَّما حِيزتْ له الدنيا بحذافيرِها )) .
فأمنُ القلبِ : إيمانُه ورسوخُه في معرفةِ الحقِّ ، وامتلاؤُه باليقينِ .
وأمْنُ البيتِ : سلامتُه من الانحرافِ ، وبُعْدُه عنِ الرذيلةِ ، وامتلاؤُهُ بالسكينةِ ، واهتداؤه بالبرهانِ الرَّبّانيِّ .
وأمْنُ الأمةِ : جمْعُها بالحبِّ ، وإقامةُ أمرِها بالعَدْلِ ، ورعايتُها بالشريعةِ .
والخوف عدوُّ الأمنِ ? فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ ? ، ? فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ? .
ولا راحة لخائفٍ ولا أمْن لملحِدٍ ، ولا عيش لمريضٍ .
إنَّما العُمرُ صحَّةٌ وكفافٌ(/93)
فإذا وليا عن العُمرِ ولَّى
للهِ ما أتْعسَ الدَّنيا ، إنْ صحَّتْ منْ جانبٍ فسدتْ منْ جانبٍ آخر ، إنْ أقبل المالُ مَرِضَ الجسمُ ، وإنْ صحَّ الجسمُ حلَّتِ المصائبُ ، وإنْ صلُح الحالُ واستقام الأمرُ حلَّ الموتُ .
خرج الشاعرُ الأعشى منْ ( نجدٍ ) إلى الرسولِ ( يمتدحُه بقصيدةٍ ويسلمُ ، فعرض له أبو سفيان فأعطاهُ مائة ناقةٍ ، على أنْ يترك سفَرَهُ ويعود إلى ديارِهِ ، فأخذ الإبل وعاد ، وركب أحدها فهو جلتْ به ، فسقط على رأسِهِ ، فاندقَّتْ عنقُهُ ، وفارق الحياة ، بلا دينٍ ولا دنيا. أمَّ قصيدتُه التي هيَّأها ليقولها بين يديْ رسول اللهِ ( ، فهي بديعةُ الحُسْنِ يقولُ فيها:
شبابٌ وشيبٌ وافتقارٌ وثروةٌ
فللّهِ هذا الدَّهرُ كيف تردَّدا
إذا أنت لمْ ترْحلْ بزادٍ من التُّقى
ولاقيت بعد الموتِ منْ قدْ تزوَّدا
ندمْت على أنْ لا تكون كمثْلِهِ
وأنَّك لمْ تُرْصِدْ لما كان أرْصدَا
***************************************
أمجادٌ زائلةٌ
إنَّ منْ لوازمِ السعادةِ الحقَّةِ أنْ تكون دائمةً تامَّةً ، فدوامُها أنْ تكون في الدنيا والآخرةِ ، في الغيبِ والشهادةِ ، اليوم وغداً .
وتمامُها أنْ لا يُنغِّصها نكَدٌ ، وأنْ لا يخْدشَ وجهُ محاسِنها بسخطٍ .
جلس النعمانُ بنُ المنذرِ – ملكُ العراقِ – تحت شجرةٍ متنزَّهاً يشربُ الخَمْرَ فأراد عديُّ بنُ زيد – وكان حكيماً – أنْ يعظه بلفظٍ فقال له : أيُّها الملكُ ، أتدري ماذا تقولُ هذهِ الشَّجرةُ ؟ قال الملكُ : ماذا تقول : قال عديٌّ : تقولُ :
رُبَّ ركبِ قدْ أناخُوا حولنا
يمْزُجُون الخمر بالماءِ الزُّلالْ
ثمَّ صاروا لَعِب الدَّهْرُ بهمْ
وكذاك الدَّهرُ حالاً بعد حالْ
فتنغصُ النعمانُ ، وترك الخمر ، وبقي متكدِّراً حتى مات .
وهذا شاهُ إيران الذي احتفل بمرورِ ألفينِ وخمسمائةِ سنةٍ على قيام الدولةِ الفارسيِّةِ ، وكان يُخطِّطُ لتوسيعِ نفوذِه ، وبسْطِ ملكهِ على بقعةٍ أكبر منْ بلدِهِ ، ثم يُسلب سلطانُه بين عشيَّةٍ وضحاها ? تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء ? .
ويطرُدُ منْ قصورِهِ ودُورِهِ ودنياه طرداً ، ويموتُ مشرَّداً بعيداً محرُوماً مفلساً ، لا يبكي عليه أحدٌ : ? كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ{25} وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ{26} وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ? .
وكذلك شاوشيسكو رئيسُ رومانيا ، الذي حكم اثنتين وعشرين سنة ، وكان حَرَسُه الخاصُّ سبعين ألفاً ، ثمَّ يحيطُ شعبُه بقصرِهِ ، فيمزِّقونهُ وجنودهُ إرباً إرباً ? فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ ? . لقدْ ذهب ، فلا دنيا ولا آخرة .
وذاك رئيسُ الفلبينِ ماركوس : جمع الرئاسة والمال ، ولكنَّه أذاق أمَّته أصناف الذُّلّ ، وأسقاها كأس الهوانِ ، فأذاقه اللهُ غُصص التعاسةِ والشقاءِ ، فإذا هو مشرَّدٌ منْ بلادِهِ ومنْ أهلِه وسلطانِه ، لا يملكُ مأوى يأوي إليه ، ويموتُ شقيّاً ، يرفضُ شعبُهُ أن يُدفَنَ في بلدِهِ : ? أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ? ، ? فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى? ، ? فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ? .
*********************************************
اكتسابُ الفضائل أكاليلٌ على هامِ الحياةِ السعيدةِ
مطلوبٌ من العبدِ لكيْ يكسب السعادة والأمن والراحة ، أن يُبادر إلى الفضائل ، وأنْ يُسارع إلى الصفاتِ الحميدةِ والأفعالِ الجميلةِ (( احرصْ على ما ينفعُك واستعِنْ باللهِ )) .
أحدُ الصحابةِ يسألُ الرسول ( مرافقَتَهُ في الجنةِ فيقول : (( أعِنِّي على نفسِك بكثْرةِ السجودِ ، فإنَّك لا تسجُدُ للهِ سجدةً ، إلاَّ رَفَعَك بها درجة )) . والآخرُ يسألُ عنْ بابٍ جامعٍ من الخيرِ ، فيقولُ له : (( لا يزالُ لسانُك رطباُ من ذكر اللهِ )) . وثالثٌ يسألُ فيقولُ له : (( لا تسُبَّنَّ أحداً ، ولا تضرِبنَّ بيدِك أحداً ، وإنْ أحدٌ سبَّك بما يعلمُ فيك فلا تسُبَّنَّه بما تعلمُ فيه ، ولا تحقِرنَّ من المعروفِ شيئاً ، ولو أنْ تُفْرِغ منْ دَلْوِك في إناءِ المستقي )) .
إنَّ الأمر يقتضي المبادَرَةَ والمُسارعة : (( بادرِوا بالأعمالِ فتناً )) ، (( اغتنِمْ خمساً قبل خمسٍ )) ، ?وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ?، ? إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ? ، ? وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ? .
لا تُهمِلْ في فِعْلِ الخَيْرِ ، ولا تنتظرْ في عملِ البِرِّ ، ولا تُسوِّفْ في طَلَبِ الفضائلِ :
دقَّاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ له
إنَّ الحياة دقائقٌ وثوانِ
? وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ? .(/94)
عمرُ بنُ الخطابِ بعد أنْ طُعِن وثَجَّ دمُه ، يرى شابّاً يجرُّ إزاره ، فقال له عمرُ : (( يا ابن أخي ، ارْفَعْ إزارك ، فإنهُ أتقى لربِّك ، وأنْقى لثوبك )) . وهذا أمرٌ بالمعروفِ في سكراتِ الموتِ ? لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ? .
إنَّ السعادة لا تحصلُ بالنومِ الطويلِ ، والخلودِ إلى الدَّعةِ ، وهَجْرِ المعالي ، واطِّراحِ الفضائلِ . ? وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ? .
إنَّ منطق أصحابِ الهممِ الدَّنيَّةِ والنفوسِ الهابطةِ يقولُ : ? لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ ? ، ? لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ ? .
وقد نهي العبدُ بالوحي عن التَّأخرِ عنْ فِعلِ الخيرِ : ? مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ ? ، ? وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ ? ، ? وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ ? ، ? أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ ? ، ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ ? ، ? وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ ? ، ?وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى ? ، (( اللَّهمَّ إني أعوذُ بك من الكسلِ )) ، (( والكيُسُ منْ دان نفْسه وعمِل لما بعد الموتِ ، والعاجزُ منْ أتْبَعَ نَفْسَه هواها ، وتمنَّى على اللهِ الأماني )) .
*********************************************
الخُلدُ والنعيمُ هناك لا هُنا
هلْ تريدُ أن تبقى شابّاً مُعافىً غنيّاً مخلَّداً ؟ إنْ كنت تريدُ ذلك فإنهُ ليس في الدنيا ، بلْ هناك في الآخرةِ ، إنَّ هذهِ الحياة الدنيا كَنَبَ اللهُ عليها الشقاء والفناء ، وسمَّاها لهواً ولعِباً ومتاع الغرورِ .
عاش أحدُ الشعراءِ معدماً مُفِلساً ، وهو في عنفوان شبابِهِ ، يريدُ درهماً فلا يجدُهُ ، يريدُ زوجةً فلا يحصُلُ عليها ، فلمَّا كبرتْ سِنُّ وشاب رأسُه ، ورقَّ عَظْمُهُ ، جاءهُ المالُ منْ كلِّ مكانٍ ، وسهُلَ أمرُ زواجهِ وسكنِه ، فتأوَّه منْ هذه المتَادّاتِ وأنشد :
ما كنتُ أرجوهُ إذ كنتُ ابن عشرينا
مُلِّكْتُهُ بعد ما جاوزتُ سبعينا
تطُوفُ بي منْ بناتِ التُّركِ أغْزِلةٌ
مِثلُ الظِّباءِ على كُثبانِ يبرينا
قالوا أنينُك طول الليلِ يُسْهِرُنا
فما الذي تشتكي قلتُ الثمانينا
? أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ ? ، ? وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ? ، ? وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ? .
إنَّ مَثَلَ هذهِ الحياةِ الدنيا كمسافرٍ استظلَّ تحت ظلِّ شجرةٍ ثم ذهب وتركها .
**********************************
أعداءُ المنهجِ الرَّبانيّ
قرأتُ كتباً للملاحدِة الصَّادِّين عنْ منهج اللهِ شعراً ونثراً ، فرأيتُ كلام هؤلاءِ المنحرفين عنْ منهجِ الله في الأرضِ ، وطالعتُ سخافاتِهم ، ووجدتُ الاعتداء الجارف على المبادئِ الحقةِ ، وعلى التعاليمِ الرَّبّانيَّة ، ووجدتُ هذا الرُّكام الرخص الذي تفوَّهَ به هؤلاء ورأيتُ منْ سُوءِ أدبِهم ، ومنْ قلَّةِ حيائِهم، ما يستحي الإنسانُ أنْ ينقُل للناسِ ما قالوه وما كتبوه وما أنشدوهُ.
وعلمتُ أنَّ الإنسان إذا لمْ يحملْ مبدأً ولم يستشعِرْ رسالةً ، فإنَّهُ يتحوَّلُ إلى دابَّةٍ في مِسْلاخ إنسانٍ ، وإلى بهيمةٍ في هيكلٍ رجُلٍ : ? أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ? .
وسألتُ نفسي ، وأنا أقرأُ الكتاب : كيف يَسْعَدُ هؤلاءِ وقدْ أعرضُوا عنِ اللهِ الذي يملكُ السعادة ويعطيها سبحانه وتعالى لمنْ يشاءُ ؟!
كيف يسعدُ هؤلاءِ وقدْ قطعوا الحبال بينهم وبينه ، وأغلقوا الأبواب بين أنفسِهم الهزيلةِ المريضِ وبين رحمةِ اللهِ الواسعةِ ؟!
كيف يسعدُ هؤلاءِ وقد أغضبُوا الله ؟!
وكيف يجدون ارتياحاً وقدْ حاربُوه ؟!
ولكنِّي وجدتُ أنَّ أول النَّكالِ أخذ يُصيبُهم في هذه الدارِ بمقدِّماتِ نكالٍ أخرويٍّ – إنْ لم يتوبوا – في نار جهنمِّ ، نكالُ الشقاءِ ، وعدمُ المبالاةِ ، والضِّيقُ ، والانهيارُ والإحباطُ : ? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ? .
حتى إنَّ كثيراً منهمْ يريدُ أنْ يزول العالمُ ، وأنْ تنتهي الحياةُ ، وأنْ تُنسف الدنيا ، وأن يُفارق هذه المعيشة .(/95)
إنَّ القاسم المشترك الذي يجمعُ الملاحدة الأوَّلين والآخِرين هو : سوءُ الأدبِ مع اللهِ ، والمجازفةُ بالقيمِ والمبادئِ ، والرُّعُونةُ في الأخْذِ والعطاءِ والإعراضُ عن العواقبِ ، وعدمُ المبالاةِ بما يقولون ويكتبون ويعملون : ? أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ? .
إنَّ الحلَّ الوحيد لهؤلاءِ الملاحدةِ ، للتَّخلُّصِ منْ همومِهم وأحزانِهم – إنّ لم يتوبوا ويهتدوا – أنْ ينتحرُوا ويُنهُوا هذا العيش المُرَّ ، والمرَ التافِه الرخيص: ? قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ? ، ? فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ? .
*******************************************
حقيقةُ الدُّنيا
إنَّ ميزان السعادةِ في كتابِ اللهِ العظيمِ ، وإنَّ تقدير الأشياءِ في ذِكْرِهِ الحكيم ، فهو يقرِّرُ الشيء وقيمتهُ ومردودَهُ على العبدِ في الدُّنيا والآخرةِ ? وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ{33} وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ{34} وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ? .
هذهِ هي حقيقةُ الحياةِ ، وقصورُها ودُورُها ، وذهبُها وفضَّتُها ومناصبُها .
إنَّ منْ تفاهتِها أنْ تعطي الكافر جملةً واحدةً ، وأن يُحْرَمَهَا المؤمنُ ليبيّن للناسِ قيمة الحياةٍ الدنيا.
إنَّ عتبة بن غزوان الصحابيَّ الشهير يستغربُ وهو يخطبُ الناس الجمعة : كيف يكونُ في حالةٍ مع رسولِ اللهِ ( ، مع سيِّدِ الخَلْقِ يأكلُ معهُ وَرَقَ الشجرِ مجاهداً في سبيلِ اللهِ ، في أرْضى ساعاتِ عمرِهِ ، وأحلى أيامِهِ ، ثمَّ يتخلَّفُ عنْ رسولِ اللهِ ( ، فيكونُ أميراً على إقليمٍ ، وحاكماً على مقاطعةٍ ، إنَّ الحياة التي تُقبلُ بعد وفاةِ الرسولِ ( حياةٌ رخيصةٌ حقّاً .
أرى أشقياء الناسِ لا يسأمُونها
على أنَّهمْ فيها عراةٌ وجُوَّعُ
أراها وإنْ كانت تُسِرُّ فإنها
سحابةُ صيفٍ عنْ قليلٍ تقشَّعُ
سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ يصيبُهُ الذهولُ وهو يتولَّى إمرة الكوفةِ بعدَ وفاةِ الرسولِ ( ، وقدْ أكل معه الشجر ، ويأكلُ جلداً ميِّتاً ، يشويهِ ثمَّ يسحقُه ، ثم يحتسيهِ على الماءِ ، فما لهذهِ الحياةِ وما لقصورِها ودُورِها ، تُقبلُ بعد إدبارِ الرسولِ ( ، وتأتي بعد ذهابهِ ( ? وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى ? .
إذنْ في الأمر شيءٌ ، وفي المسألةِ سرٌّ ، إنها تفاهةُ الدنيا فَحَسْبُ ? أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ{55} نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ ? ، (( واللهِ ما الفقر أخشى عليكمْ )) .
لمَّ دخل عُمر على رسولِ اللهِ ( وهو في المشْرَبِة ، ورآه على حصيرٍ أثَّر في جنبهِ ، وما في بيتهِ إلا شعيرٌ معلّقٌ ، دمعتْ عينا عُمَرَ .
إنَّ الموقف مؤثِّرٌ ، أنْ يكون رسولُ الله ( قدوةُ الناسِ وإمامُ الجميع ، في هذهِ الحالةِ ?وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ? .
ثمَّ يقولُ له عُمَرُ – رضي اللهُ عنه - : كسرى وقيصر فيما تعلمُ يا رسول اللهِ ! قال رسولُ الله ( : (( أفي شكٍّ أنت يا بن الخطاب ، أما ترضى أن تكون لنا الآخرةُ ولهم الدنيا )) .
إنها معادلةٌ واضحةٌ ، وقسمةٌ عادلةٌ ، فلْيَرْضَ مَنْ يرضى ، ولْيَسخطْ منْ يسخطُ ، وليطلُبِ السعادة منْ أرادها في الدِّرهمِ والدينارِ والقصرِ والسيارةِ ويعملْ لها وحدها ، فلنْ يجدها والذي لا إله إلا هو .
? مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ{15} أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ? .
عفاءٌ على دنيا رَحَلْتُ لغيرِها
فليس بها للصّالحين مُعَرَّجُ
****************************************
مفتاحُ السعادةِ
إذا عرفت الله وسبَّحْته وعبدْتَهُ وتألَّهْتهُ وأنت في كوخٍ ، وجدت الخَيْرَ والسعادةَ والراحة والهدوء .
ولكنْ عند الانحرافِ ، فلوْ سكنت أرقى القصورِ ، وأوسع الدورِ ، وعندك كلُّ ما تشتهي، فاعلمْ أنَّها نهايتُك المُرَّةُ ، وتعاستُك المحققةُ ؛ لأنك ما ملكت إلى الآنِ مفتاح السعادةِ.
? وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ? .
*****************************************
وقفةٌ(/96)
? إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ? . إي : يدفعُ عنهمُ شرور الدنيا والآخرة .
« هذا إخبارٌ ووعدٌ وبشارةٌ من اللهِ للذين آمنوا ، أنه يدفعُ عنهمْ كلَّ مكروهٍ ، ويدفعُ عنهم – بسببِ إيمانِهم – كلَّ شرٍّ منْ شرورِ الكفارِ ، وشرورِ وسوسةِ الشيطانِ ، وشرورِ أنفسِهم ، وسيئاتِ أعمالِهم ، ويحملُ عنهمْ عند نزولِ المكارهِ ما لا يتحملونه ، فيُخفِّف عنهمْ غاية التخفيفِ ، كلُّ مؤمنٍ له منْ هذه المدافعةِ والفضيلةِ بحسب إيمانِه ، فمُستقلٌّ ومُستكثِرٌ » .
« منْ ثمراتِ الإيمانِ أنه يُسلِّى العبدُ به عند المصائبِ ، وتُهوَّن عليه الشدائدُ والنَّوائبُ ?وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ? وهو العبدُ الذي تصيبُه المصيبةُ ، فيعلمُ أنها منْ عندِ اللهِ ، وأنَّ ما أصابه لم يكُنْ ليُخطئه ، وما أخطأهُ لم يكُنْ ليُصيبه ، فيرضى ويُسَلِّمُ للأقدارِ المؤلمِة ، وتهونُ عليه المصائبُ المزعجةُ ، لصدورِها منْ عندِ اللهِ ، ولإيصالِها إلى ثوابِهِ » .
************************************
كيف كانُوا يعيشُ
تعال إلى يومٍ منْ أيام أحدِ الصحابةِ الأخبارِ ، وعظمائِهم الأبرارِ ، عليِّ بن أبي طالبٍ مع ابنهِ رسولِ اللهِ ( ، مع فلذةِ كبدِهِ ، بصحُو عليٌّ في الصباحِ الباكرِ ، فيبحثُ هو وفاطمةُ عن شيءٍ منْ طعامٍ فلا يجدانِ ، فيرتدي فرواً على جسمِهِ منْ شدَّةِ البردِ ويخرجُ ، ويتلمَّسُ ويذهبُ في أطرافِ المدينةِ ، ويتذكرُ يهوديّاً عنده مزرعةٌ ، فيقتحمُ عليٌّ عليه باب المزرعةِ الضَّيِّقِ الصغيرِ ويدخلُ ، ويقولُ اليهوديُّ : يا أعرابيُّ ، تعالى وأخرِج كلَّ غَرْبٍ بتمرةٍ . والغربُ هو الدلوُ الكبيرُ ، وإخراجُه ، أيْ : إظهارُه من البئرِ مُعاوَنَةً مع الجملِ . فيشتغلُ عليٌّ – رضي اللهُ عنهُ – معهُ برهةً من الزمنِ ، حتى ترِم يداه ويكلُّ جسمُه ، فيُعطيهِ بعددِ الغروبِ تمراتٍ ، ويذهبُ بها ويمرُّ برسولِ اللهِ ( ويُعطيه منها ، ويبقى هو وفاطمةُ يأكلان مِنْ هذا التمرِ القليلِ طيلة النهارِ .
هذهِ هي حياتهم ، لكنَّهم يشعرون أنَّ بيتهُمْ قد امتلأ سعادةً وحبوراً ونوراً وسروراً .
إنَّ قلوبهم تعيشُ المبادئ الحقَّةَ التي بُعثَ بها الرسولُ ( ، والمُثُل السامية ، فهمْ في
أعمالٍ قلبيَّةٍ ، وفي روحانيَّة قُدسيَّةٍ يُبصرون بها الحقَّ ، ويُنصرون بها الباطل ، فيعملون لذاك ويجتنبون هذا ، ويُدركون قيمة الشيءِ وحقيقة الأمرِ ، وسرَّ المسألةِ .
أين سعادةُ قارون ، وسرورُ وفرحُ وسكينةُ هامان ؟! فالأولُ مدفونٌ ، والثاني ملعون ?كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً ? .
السعادةُ عند بلالِ وسلمان وعمّارٍ ، لأنَّ بلالاً أذَّن للحقِّ ، وسلمان آخى على الصِّدقِ ، وعمّاراً وفّى الميثاق ? أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ? .
******************************************
أقوالُ الحكماءِ في الصَّبْرِ
يُحكى عنْ أنوشروان أنهُ قال : جميعُ المكارِهِ في الدنيا تنقسمُ على ضربين : فضربٌ فيه حِيلةٌ ، فالاضطرابُ دواؤه ، وضربٌ لا حيلة فيه ، فالاصطبارُ شفاؤُهُ .
كان بعضُ الحكماءِ يقولُ : الحِيلةُ فيما لا حيلة فيه ، الصبرُ .
وكان يقالُ : منِ اتَّبع الصبر ، اتَّبعَهُ النصرُ .
ومن الأمثالِ السائرة ، الصبرُ مفتاحُ الفَرَجِ منْ صَبَرَ قَدَرَ ، ثمرةُ الصبرِ الظَّفرُ ، عند اشتدادِ البلاءِ يأتي الرَّخاءُ .
وكان يقالُ : خفِ المضارَّ منْ خللِ المسارِّ ، وارجُ النفْع منْ موضعِ المنْعِ ، واحرصْ على الحياةِ بطلبِ الموتِ ، فكمْ منْ بقاءٍ سببُه استدعاءُ الفناءِ ، ومنْ فناءٍ سببُه البقاءِ ، وأكثرُ ما يأتي الأمنُ منْ قِبل الفزعِ .
والعربُ تقولُ : إنَّ في الشرَّ خِياراً .
قال الأصمعيَّ : معناهُ : أنَّ بعض الشَّرِّ أهونُ منْ بعْضٍ .
وقال أبو عبيدة : معناهُ : إذا أصابتْك مصيبةٌ ، فاعلمْ أنهُ قدْ يكونُ أجلُّ منها ، فلتهُنْ عليك مصيبتُك .
قال بعضُ الحكماءِ : عواقبُ الأمورِ تتشابهُ في الغيوب ، فرُبَّ محبوبٍ في مكروهٍ ، ومكروهٍ في محبوبٍ ، وكمْ مغبوطٍ بنعمةٍ هي داؤُه ، ومرحومٍ من داءٍ هو شفاؤُه .
وكان يُقالُ : رُبَّ خيرٍ منْ شرٍّ ، ونفعٍ منْ ضرٍّ .
وقال وداعةُ السهميُّ ، في كلامٍ له : اصبرْ على الشَّرِّ إنْ قَدَحَك ، فربَّما أجْلى عما يُفرحُك ، وتحت الرَّغوةِ اللبنُ الصَّريحُ .
يأتي اللهُ بالفرحِ عند انقطاعِ الأملِ : ? حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا? ، ?إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ?، ? إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ? .(/97)
يقولُ بعضُ الكُتّابِ : وكما أنَّ الله – جلَّ وعلا – يأتي بالمحبوبِ من الوجهِ الذي قدَّرّ ورودّ المكروهِ منه، ويفتحُ بفرج عند انقطاعِ الأملِ، واستبهامِ وجوهِ الحِيل، ليحُضَّ سائر خلْقه بما يريدهم من تمام قدرته ، على صرف الرجاء إليهِ ، وإخلاصِ آمالِهم في التَّوكُّلِ عليه ، وأنْ لا يَزْوُوا وجوههُم في وقتٍ من الأوقاتِ عنْ توقُّعِ الرَّوْحِ منه ، فلا يعدلُوا بآمالِهم على أيِّ حالٍ من الحالاتِ ، عنِ انتظارِ فرجٍ يصدُر عنه ، وكذلك أيضاً يسرُّهم فيما ساءهم ، بأنْ كفاهم بمحنةٍ يسيرةٍ، ما هو أعظمُ منها، وافتداهُمْ بمُلِمَّةٍ سهلةٍ ، ممَّ كان أنكى فيهمْ لو لحِقهُمْ.
لعلَّ عتْبك محمودٌ عواقبُهُ
فربَّما صحَّتِ الأجسامُ بالعِللِ
قال إسحاقُ العابدُ : ربما امتحنَ اللهُ العبْدَ بمحنةٍ يخلِّصُه بها من الهلكةِ ، فتكون تلك المحنةُ أجلَّ نعمةٍ .
يقالُ : إنَّ منِ احتمل المحنة ، ورضي بتدبيرِ اللهِ تعالى في النكْبةِ ، وصبر على الشِّدَّةِ ، كشف له عنْ منفعتِها ، حتى يقف على المستورِ عنه منْ مصلحتِها .
حُكي عن بعضِ النصارى أنَّ بعض الأنبياءِ عليهمُ السلامُ قال : المِحنُ تأديبٌ من اللهِ ، والأدبُ لا يدومُ ، فطوبى لمنْ تصبَّر على التأديبِ ، وتثبَّت عند المحنةِ ، فيجبُ له لُبسُ إكليِلِ الغَلَبَةِ ، وتاجِ الفلاحِ ، الذي وعَدَ اللهُ به مُحِبِّيه ، وأهلِ طاعتِهِ .
قال إسحاقُ : احذرِ الضَّجَرَ ، إذا أصابتْك أسِنَّةُ المحنِ ، وأعراضُ الفِتنِ ، فإنَّ الطريق المؤدِّي إلى النجاةِ صعْبُ المسْلكِ .
قال بزرجمهرُ : انتظارُ الفَرَجِ بالصبرِ ، يُعقبُ الاغتباط .
******************************************
حُسْنُ الظَّنِّ باللهِ لا يخيبُ
(( أنا عند ظنِّ عبدي بي ، فليظنَّ بي ما شاء )) .
لبعضِ الكُتّابِ : إنَّ الرجاء مادَّةُ الصبرِ ، والمُعينُ عليه . فكذلك عِلَّةُ الرجاءِ ومادَّتهُ ، حُسْنُ الظَّنِّ باللهِ ، الذي لا يجوزُ أن يخيب ، فإنَّا قد نستقري الكرماء ، فنجدُهم يرفعون منْ أحسن ظنَّهُ بهمْ ، ويتحوَّبُون منْ تخيّب أملُه فيهمْ ، ويتحرَّ جون مِنْ قصدَهم ، فكيف بأكرمِ الأكرمين ، الذي لا يعوزُه أنْ يمنح مؤمِّليه ، ما يزيدُ على أمانيِّهم فيه .
وأعدلُ الشواهدِ بمحبَّةِ الله جلَّ ذِكْرُه ، لتمسُّكِ عبدِه برحابهِ ، وانتظارُ الرَّوحِ منْ ظلِّهِ ومآبِه ، أنَّ الإنسان لا يأتيه الفَرَجَ ، ولا تُدركُه النجاةُ ، إلا بعد إخفاقِ أملهِ في كلِّ ما كان يتوجِّه نحوه بأملِه ورغبتِه ، وعند انغلاقِ مطالبِهِ ، وعَجْزِ حيلتِه ، وتناهي ضَرِّهِ ومحنتِه ، ليكون ذلك باعثاً له على صَرْفِ رجائِهِ أبداً إلى اللهِ عزَّ وجلَّ ، وزاجراً له على تجاوز حُسْنِ ظنِّه به ?إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ? .
**************************************
يُدركُ الصَّبُورُ أحْمَدَ الأمورِ
رُوِي عنْ عبدِالله بنِ مسعودٍ : الفَرَجُ والروحُ في اليقيِن والرضا ، والهمُّ والحزنُ في الشَّكِّ والسخطِ .
وكان يقولُ : الصَّبُورُ ، يُدركُ أحْمد الأمورِ .
قال أبانُ بنُ تغلب : سمعتُ أعربيّاً يقولُ : منْ أفْضلِ آداب الرجالِ أنهُ إذا نزلتْ بأحدِهمْ جائحةٌ استعمل الصبر عليها ، وألهم نفْسه الرجاء لزوالِها ، حتى كأنه لصبرِه يعاينُ الخلاص منها والعناء ، توكُّلاً على اللهِ عزَّ وجلَّ ، وحُسْنِ ظنٍّ به ، فمتى لزِم هذه الصفة ، لم يلبثْ أن يقضي اللهُ حاجته ، ويُزيل كُربيه ، ويُنجح طِلْبتهُ ، ومعهُ دينُه وعِرضُه ومروءتُه .
روى الأصمعيُّ عنْ أعرابيٍّ أنه قال : خفِ الشَّرّ منْ موضعِ الخيْرِ ، وارجُ الخيْرَ منْ موضعِ الشَّرِّ ، فرُبَّ حياةٍ سببُها طلبُ الموتِ ، وموتٍ سببُه طلبُ الحياةِ ، وأكْثَرُ ما يأتي الأمنُ من ناحيِة الخوْفِ .
وإذا العنايةُ لاحظتْك عيونُها
نَمْ فالحوادِثُ كلُّهُنَّ أمانُ
وقال قطريُّ بنُ الفجاءةِ :
لا يَرْكَنَنْ أحدٌ إلى الإحجامِ
يوم الوغى مُتَخَوِّفاً لحمِامِ
فلقدْ أراني للرِّماحِ دريئة
من عن يميني مرَّةً وأمامي
حتى خضبتُ بما تحدَّر مِن دمي
أحناء سرْجي أو عنان لجامي
ثم انصرفتُ وقدْ أصبتُ ولم أُصبْ
جذع البصيرةِ قارِح الإقدامِ
وقال بعضُ الحكماءِ : العاقلُ يتعزَّى فيما نزل به منْ مكروهٍ بأمرينِ :
أحدهما : السرورُ بما بقي له .
والآخر : رجاءُ الفَرَجِ مما نَزَلَهُ به .
والجاهل يجزعُ في محنتِهِ بأمرينِ :
أحدهما : استكثارُ ما أوى إليه .
والآخر : تخوُّفُه ما هو أشدُّ منهُ .
وكان يقالُ : المِحنُ آدابُ اللهِ عزَّ وجلَّ لخلقِهِ ، وتأديبُ اللهِ يفتحً القلوب والأسماع والأبصار .(/98)
ووصف الحّسَنُ بنُ سَهْلٍ المِحن فقال : فيها تمحيصٌ من الذنبِ ، وتنبيهٌ من الغفلةِ ، وتعرُّضٌ للثوابِ بالصبرِ ، وتذكيرٌ بالنعمةِ ، واستدعاءٌ للمثوبةِ ، وفي نظرِ اللهِ عزَّ وجلَّ وقضائِهِ الخيارُ .
فهذا من أحبَّ الموت ، طلباً لحياةِ الذِّكْرِ . ? الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ? .
أقوالٌ في تهوينِ المصائبِ :
قال بعضُ عقلاءِ التُّجَّارِ : ما أصْغرَ المصيبة بالأرباحِ ، إذا عادتْ بسلامةِ الأرواحِ .
وكان منْ قولِ العربِ : إنّ تسْلمِ الجِلَّةُ فالسَّخْلةُ هَدَرٌ .
ومنْ كلامِهم : لا تيأسْ أرضٌ من عمرانٍ ، وإن جفاها الزمانُ .
والعامَّة تقول : نهرٌ جرى فيه الماءُ لابدَّ أن يعود إليه .
وقال ثامسطيوس : لم يتفاضلْ أهلُ العقولِ والدِّينِ إلا في استعمالِ الفضْلِ في حالِ القُدرةِ والنعمةِ ، وابتذالِ الصبرِ في حالِ الشِّدَّةِ والمحنةِ .
***************************************
وقفةٌ
? إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ? .
ولهذا يوجدُ عند المؤمنين الصادقين حين تصيبُهم النَّوازلُ والقلاقِلُ والابتلاءُ مِن الصبرِ والثباتِ والطُّمأنينِة والسكُّونِ والقيامِ بحقِّ اللهِ مالا يوجدُ عُشْرُ مِعْشارِهِ عند من ليس كذلك ، وذلك لقوَّةِ الإيمانِ واليقينِ .
عن معقلِ بن يسارٍ رضي اللهُ عنه قال : قال رسولُ اللهِ ( : (( يقولُ ربُّكم تبارك وتعالى : يا بن آدم ، تفرَّغْ لعبادتي ، أملأ قلبك غنى ، وأملأ يديْك رزِقاً . يا بن آدم ، لا تباعدْ مني ، فأملأْ قلبك فقراً ، وأملأْ يديك شُغلاً )) .
« الإقبالُ على اللهِ تعالى ، والإنابةُ إليه ، والرِّضا بهِ وعنهُ ، وامتلاءُ القلبِ من محبَّتِه ، واللَّهجُ بذكْرِهِ ، والفرحُ والسرورُ بمعرفتِه ثوابٌ عاجِل ، وجنَّةٌ ، وعيشٌ ، لا نسبة لعيشِ الملوكِ إليه ألبتَّةَ » .
****************************************
لا تحزنْ إنْ قلَّ مالُك أو رثَّ حالُك
فقيِمتُك شيءٌ آخرُ
قال عليٌّ رضي اللهُ عنهُ : قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحسِنُ .
فقيمةُ العالمِ عِلْمُهُ قلَّ منهُ أو كُثرَ ، وقيمةُ الشاعرِ شعرُه أحسن فيهِ أو أساء . وكلُّ صاحبِ موهبةٍ أو حرفةٍ إنما قيمتُه عند البشرِ تلك الموهبةُ أو تلك الحرفةُ ليس إلا ، فليحرصِ العبدُ على أنْ يرفع قيمتهُ ، ويُغلي ثمنه بعملِهِ الصالحِ ، وبعلْمِه وحكمتِه ، وجُودِهِ وحفْظِهِ ، ونبوغِه واطِّلاعِه ، ومُثابرتِه وبحْثِهِ ، وسؤالِه وحِرْصِهِ على الفائدةِ ، وتثقيفِ عقْلِهِ وصقْلِ ذهنهِ ، وإشعالِ الطموحِ في رُوحِهِ ، والنُّبلِ في نفسِهِ ، لتكون قيمتُه غاليةً عاليةً .
*************************************
لا تحزنْ ، واعلمْ أنك بوساطةِ الكُتُبِ
يمكنُ أن تُنمِّي مواهبك وقدراتِك
مطالعةُ الكتبِ تُفتِّقُ الذِّهن ، وتهدي العِبر والعظاتِ ، وتمدُّ المطَّلعِ بمددٍ من الحِكم ، وتُطلقُ اللسان ، وتُنمِّي مَلَكةَ التفكيرِ ، وترسِّخُ الحقائق ، وتطردُ الشُّبَهَ ، وهي سلوةٌ للمتفرِّدِ ، ومناجاةٌ للخاطر ، ومحادثةٌ للسامرِ ، ومتعةٌ للمتأمِّلِ ، وسراجٌ للسَّاري ، وكلَّما كٌرِّرتِ المعلومُةٌ وضُبطتْ ، ومُحِّصتْ ، أثمرتْ وأينعتْ وحان قِطافُها ، واستوتْ على سوقِها ، وآتت أُكُلها كلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها ، وبلغ الكتابُ بها أجَلَهُ ، والنبأُ مستقرَّهُ .
وهجْرُ المطالعةِ ، وترْكُ النظرِ في الكتبِ والانفرادُ بها ، حُبْسهٌ في اللسانِ ، وحَصْرٌ للطَّبعِ ، وركودٌ للخاطرِ ، وفتورٌ للعقلِ ، وموتٌ للطبيعةِ ، وذبولٌ في رصيدِ المعرفةِ ، وجفافٌ للفكرِ ، وما منْ كتابٍ إلا وفيهِ فائدةٌ أو مَثَلٌ ، أو طُرفةٌ أو حكايةٌ ، أو خاطرةٌ أو نادرةٌ .
هذا وفوائدُ القراءةِ فوق الحَصْرِ ، ونعوذُ باللهِ منْ موتِ الهِممِ وخِسَّةِ العزيمةِ ، وبرودِ الرُّمحِ ، فإنها منْ أعظمِ المصائبِ .
****************************************
لا تحزنْ ، واقرأْ عجائب خلقِ اللهِ في الكونِ
وطالِعْ غرائب صُنعِهِ في المعمورةِ ، تجدِ العَجَبَ العُجابَ ، وتقضي على همومِك وغمومِك ، فإنَّ النَّفْس مُولعةٌ بالطَّريفِ الغريبِ .
رَوَى البخاريُّ ومسلمٌ ، عنْ جابرِ بن عبدِاللهِ رضي اللهُ عنه ، قال : بَعَثَنا رسولُ اللهِ ( ، وأمَّر علينا أبا عبيدة ، نتلقَّى عِيراً لقريشٍ ، وزوَّدنا جِراباً منْ تمرٍ لمْ يجِدْ لنا غَيْرَه ، فكان أبو عبيدة يُطينا تمرةً تمرةً .
قال – الراوي عنْ جابرٍ - : فقلتُ : كيف كنتُمْ تصنعون بها ؟ قال : نمصُّها كما يمُصُّ الصَّبيُّ ، ثمَّ نشربُ عليها من الماءِ ، فتكفينا يومنا إلى الليلِ ، وكنَّا نضربُ بِعصيِّنا الخَبَطَ – أي ورق الشجرِ – ثم نبُلُّه فنأكُلَهُ .(/99)
قال : وانطلْقْنا على ساحلِ البحرِ فإذا شيءٌ كهيئةِ الكثيبِ الضخمِ – أي كصورةِ التَّلَّ الكبيرِ المستطيلِ المُحْدَوْدبِ من الرملِ – فأتيناهُ ، فإذا هي دابَّةٌ تُدعى العَنْبَرَ . قال : قالَ أبو عبيدة : ميْتةٌ . ثم قال : لا بلْ نحنُ رُسُلُ رسول الله ( ، وفي سبيلِ اللهِ ، وقدْ اضطُررْتُم فكُلُوا . قال : فأقمْنا عليه شهراً ونحنُ ثلاثمائة حتى سمِنَّا . قال : ولقدْ رأيتُنا نغترفُ منْ وَقْبِ عينِه – أي منْ داخلِ عينِه – ونفرقُها بالقلالِ – أي بالجرارِ الكبيرةِ – الدُّهْنَ ، ونقتطعُ منه الفِدر – أيْ القِطع – كالثورِ أو قدْرِ الثورِ . فلقدْ أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشرَ رجلاً ، فأقعدهم في وقبِ عينِهِ ، وأخذ ضلعاً منْ أضلاعِهِ فأقامها ، ثمَّ رحَّل أعظم بعيرٍ ، ونظر إلى أطولِ رجُلٍ فحملهُ عليهِ ، فمرَّ منْ تحتِها .
وتزوَّدْنا منْ لحْمِه وشائِق ، فلمَّا قدمْنا المدينة ، أتينا رسول اللهِ ( ، فذكرنا له ذلك ، فقال : (( هو رزقٌ أخرجه اللهُ لكمْ ، فهل معكمْ منْ لحمِهِ شيءٌ فتُطعمونا ؟ )) ، قال : فأرسلْنا إلى رسولِ اللهِ ( ، فأكل منه .
? الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ? :
البذرةُ إذا وُضِعتْ في الأرضِ لا تنبتُ حتى تهتزَّ الأرضُ هِزَّةً خفيفةً ، تُسجَّلُ بجهاز رِخْتَرَ ، فتفقسُ البذرةُ وتنبتُ : ? فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ? .
? الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ? :
قال أبو داود في كتابهِ ( السنن) في بابِ زكاةِ الزرعِ : شَبَرْتُ قثاءةً بمصر ثلاثة عشر شِبْراً ، ورأيتُ أُتْرُجَّةً على بعيرٍ بقطعتيْن ، قُطعتْ وصيِّرَتْ على مثْلِ عِدلْينِ .
? الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ? :
ذكر الدكتورُ زغلولُ النجّارُ الدارسُ للآياتِ الكونيةِ – في إحدى محاضراتِه – أنَّ هناك نجوماً انطلقتْ منْ آلافِ السنواتِ ، وهي في سرعةِ الضوءِ ، ولم تصلْ حتى الآن إلى الأرضِ ، وما بقي إلا مواقعُها ? فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ? .
? الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ? :
جاء في (جريدة الأخبارِ الجديدة) في العددِ 396 بتاريخِ 27/ 9/ 1953 م ص 2 أنه : « دخلُ صباح اليومِ ( أونا) باريس دخول الفاتحين ، يحرسُه عشراتُ منْ رجالِ البوليس ، الراكبِ والراجلِ . أمَّا ( أونا ) هذا فهو حوتٌ نرويجيٌّ ضخمٌ محنَّطٌ ، وزنه 80000 كيلو ، وكان محمولاً على عَشْرِ جراراتٍ مربوطةٍ بسيارةِ نقلٍ ضخمةٍ ، وسيُعرضُ الحوتُ لمدةِ شهْر ويُسمحُ للناسِ بدخولِ كرشِهِ المضاءِ بالكهرباءِ ، ويستطيعُ عشرةُ أشخاص أنْ يدخلوا بطنَه مرَّةً واحدةً .
لكنَّ المشرفين على معرضِ ( أونا ) وبوليس المدينةِ ، لم يتفقا على المكانِ الذي يوضعُ فيه الحوتُ ، وهمْ يخشون وضْعَهُ فوق محطةِ القطارِ الأرضيِّ خشيةَ أنْ ينهار الشارعُ .
وبرغمِ أنَّ سِنَّ هذا الحوتِ لا يزيدُ على 18 شهراً ، فإنَّ طوله 20 متراً ، وقد صيد في شهرِ سبتمبر من العامِ الماضي في مياهِ النرويج ، وقدْ صُنِعتْ لهُ عربةُ قطارٍ خاصَّةٌ ، لنقْلِه في جولةٍ عَبْرَ أوربا ، ولكنَّها انهارتْ تحته ، فصنُعتْ له سيارةُ جرٍّ ، طولها 30 متراً » .
? الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ? :
النملةُ تدَّخِرُ قُوتها من الصيفِ للشتاءِ ؛ لأنَّها لا تخرجُ في الشتاءِ ، فإذا خشيتْ أنْ تنبت الحبَّةُ ، كسرتْها نصفين ، والحيَّةُ في الصحراءِ إذا لم تجدْ طعاماً ، نصبت نفسها كالعودِ ، فيقعُ عليها الطائرُ فتأكلهُ .
? الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ? :
قال عبدُالرزاقِ الصنعانيُّ : سمعتُ معمر بن راشدٍ البصريَّ يقولُ : رأيتُ باليمنِ عنقود عنبٍ ، وقْرَ بَغْلٍ تامٍّ . ? وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ? . كلّ الأشجارِ والنباتاتِ تُسقى بماءٍ واحدٍ ? وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ ? . وللنباتاتِ مناعةٌ خاصَّةٌ ، فمنها القويَّةُ بنفسهِا ، ومنها الشوكيَّةُ التي تدافعُ بشوكِها ، ومنها الحامضةُ اللاّذِعةُ .
? الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ? :
قال كمالُ الدين الأُدفويُّ المِصْريُّ في كتابِه (الطالع السعيد الجامع نجباء أنباء الصعيد) : « رأيت قطف عنبٍ ، جاءتْ زنُته ثمانيةُ أرطالٍ باللّيثيِّ ، ووُزِنتْ حبَّةُ عنبٍ ، جاءتْ زنتُها عشرةُ دراهم ، وذلك بأُدفو بلدِنا » .
? الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ? :
وقد ذكر علماءُ الفلكِ أنَّ الكون لا يزالُ يتَّسعُ شيئاً فشيئاً كما تتَّسع البالونةُ : ?وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ? . وذكروا أنَّ الأرض اليابسة تنقصُ ، وأنَّ المحيطات تتَّسعُ ، ? أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ? .(/100)
? الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ? :
جاء في مجلةِ ( الفيصل) عدد 62 سنة 1402 هـ ص 112 صورةٌ لثمرةِ كرنبٍ (ملفوف) وزنت 22 كيلو غراماً ، وبلغ قطرُها متراً واحداً ، وصورةٌ لبصلةٍ يابسةٍ واحدة ، وزنت 2,3 كيلو غراماً ، وبلغ قطرها 30 سم .
وذكرتِ المجلةُ عقِب ذلك ، أنَّ ثمرة بندورةٍ (طماطم) واحدةٍ بلغ محيطُها أكثر منْ 60 سم ، وأنَّ هذه الأشياء غَيْرَ العاديةِ ، نبتتْ في أرضِ المُزارِعِ المكسيكي ( جوزيه كارمن) ذي الخبرةِ الطويلةِ في الزراعةِ والعنايةِ بالأرضِ ، مما جعلَهُ المزارع الأوَّل في المكسيكِ .
**************************************
يا الله يا الله
? قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ? .
? أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ? .
? قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ? .
? وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ? .
وقال عنْ آدم : ? ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ? .
ونوحٍ : ? وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ? .
وإبراهيم : ? قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ? .
ويعقوب : ? عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ? .
ويوسف : ? وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ ? .
وداود : ? فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ? .
وأيوب : ? فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ? .
ويونس : ? وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ? .
وموسى : ? فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ ? .
ومحمد : ? إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ ? ، ? أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى{6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى{7} وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ? .
? كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ? :
قال بعضُهم : يغفرُ ذنباً ، ويكشفُ كرْباً ، ويرفع أقواماً ، ويضعُ آخرين .
اشْتدِّي أزمةُ تنْفرِجي
قد آذن صُبْحُكِ بالبَلَجِ
سحابة ثمَّ تنقشع : ? لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ?
*********************************************
لا تحزنْ ، فإنَّ الأيام دُوَلٌ
سَجَنَ ابنُ الزبير محمد بن الحنفيَّةِ في سجنِ (عارمٍ) بمكة ، فقال كُثِّر عزة :
وما رونقُ الدُّنيا بباقٍ لأهلها
وما شدَّةُ الدُّنيا بضرْبةِ لازِمِ
لهذا وهذا مُدَّةٌ سوف تنقضي
ويُصبِحُ ما لاقيتُهُ حلم حالكِ
وتأمَّلتُ بعد هذا الحدث بقرونٍ، فإذا ابنُ الزبيرِ وابنُ الحنفية وسِجْنُ عارمِ كحلمِ حالمٍ: ? هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ? .
مات الظالمُ والمظلومُ والحابسُ والمحبوسُ .
كلُّ بطَّاحٍ مِن الناسِ له يومٌ بطوحٌ .
***************************************
? هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ?
وفي الحديثِ : (( لتُؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلهِا حتى يُقاد للشاةِ الجلْحاءِ من القرْناءِ ))
مثِّلْ أنفْسِك أيُّها المغرورُ
يوم القيامةِ والسَّماءُ تمورُ
هذا بلا ذنبٍ يخافُ لِهوْلِهِ
كيف الذي مرَّتْ عليهِ دُهُوُرُ
***********************************
لا تحزنْ ، فيُسرَّ عدوُّك
إنَّ حزنك يُفْرحُ خصمك ، ولذلك كان منْ أصولِ الملَّةِ إرغامُ أعدائِها : ? تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ ? .
وقولُه ( لأبي دُجانة ، وهو يخطرُ في الصفوفِ متبختراً في أُحًد : ((إنها لمشيةٌ يبغضُها اللهُ إلا في هذا الموطنِ )) . وأمر أصحابهُ بالرَّمل حَوْلَ البيتِ ، ليُظهروا قوتهم للمشركين .
إنَّ أعداء الحقِّ وخصوم الفضيلةِ سوف يتقطَّعون حسرةً إذا علمُوا بسعاتِنا وفرحِنا وسرورِنا ، ? قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ? ، ? إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ? ،? وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ ? .
رُبَّ منْ أنضجتُ يوماً قلْبهُ
قد تمنَّى لي شراً لم يُطعْ
وقال آخر :
وتجلُّدي للشَّامتين أُريِهمُ
أنِّي لريْبِ الدَّهرِ لا أتضعْضعُ
وفي الحديثِ : (( اللهمّ لا تُشمِتْ بي عدُواً ولا حاسِداً )) .
وفيه : (( ونعوذُ بك منْ شماتِةِ الأعداءِ )) .
كُلُّ المصائبِ قد تمُرُّ على الفتى
وتهونُ غير شماتةِ الأعداءِ
وكانوا يتبسَّمون في الحوادِثِ ، ويصبرون للمصائبِ ، ويتجلَّدُون للخطوبِ ، لإرغامِ أُنُوفِ الشّامِتِين ، وإدخالِ الغيْظ في قلوبِ الحاسدين : ? فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ ? .
**********************************
تفاؤلٌ وتشاؤمٌ
? فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ{124} وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ? .(/101)
كثيرٌ من الأخيارِ تفاءلوا بالأمرِ الشّاقِّ العسير ، ورأوْا في ذلك خيْراً على المنهجٍ الحقِّ : ? وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ? .
فهذا أبو الدرداءِ يقولُ : أُحبُّ ثلاثاً يكرهُها الناسُ : أحبُّ الفَقْرَ والمرَضَ والموْتَ ، لأنَّ الفقرَ مسكنةٌ ، والمرضَ كفَّرةٌ ، والموت لقاءٌ باللهِ عزَّ وجلَّ .
ولكنَّ الآخرَ يكرهُ الفقر ويذُمُّه ، ويُخبرُ أنَّ الكلاب حتى هي تكرهُ الفقير :
إذا رأتْ يوماً فقيراً مُعدماً
هرَّتْ عليهِ وكشرَّتْ أنيابها
والحُمَّى رحَّب بها بعضُهم فقال :
زارتْ مكفِّرةُ الذنوبِ سريعةً
فسألتُها باللهِ أن لا تُقْلِعِي
لكنّ المتنبي يقولُ عنها :
بذلتُ لها المطارف والحشايا
فعافتْها وباتتْ في عِظامي
وقال يوسُفُ عليهِ السلامُ عنِ السجنِ : ? السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ? .
وعليُّ بنُ الجهم يقولُ عنِ الحبْسِ أيضاً :
قالوا حُبِسْت فقلتُ ليس بضائري
حبسْي وأيُّ مهنَّدٍ لا يُغْمدُ
ولكنّ عليَّ بن محمدٍ الكاتب يقولُ :
قالوا حُبست فقلتُ خطْبٌ نكِدٌ
أنْحى عليَّ به الزمانُ المُرْصدُ
والموتُ أحبَّه كثيرٌ ورحَّبوا بهِ ، فمعاذٌ يقولُ : مرحباً بالموتِ ، حبيبٌ جاء على فاقةٍ ، أفلح منْ ندم .
ويقولُ في ذلك الحُصيُن بنُ الحمامِ :
تأخَّرتُ أستبقي الحياة فلمْ أجِدْ
لنفسي حياةً مثْل أن أتقدَّمَا
ويقولُ الآخرُ : لا بأس بالموتِ إذا الموتُ نزلْ .
ولكنَّ الآخرين تذمَّرُوا من الموتِ وسبُّوه وفرُّوا منهُ .
فاليهودُ أحرصُ الناسِ على حياةٍ ، قال سبحانه وتعالى عنهمْ : ? قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ? .
وقال بعضُهم :
ومالي بعد هذا العيشِ عيشٌ
ومالي بعد هذا الرأسِ رأسُ
والقتلُ في سبيل اللهِ أمنيةٌ عذْبةٌ عند الأبرارِ الشرفاءِ : ? فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ? .
وابنُ رواحة ينشدُ :
لكنَّني أسألُ الرحمنَ مغفرةً
وطعنةً ذات فزعٍ تقذِفُ الزَّبدا
ويقولُ ابنُ الطِّرِمَّاح :
أيا ربَّ لا تجعلْ وفاتِي إنْ أتتْ
على شرْجَعَ يعلو بحُسْنِ المطارِفِ
ولكنْ شهيداً ثاوياً في عصابةٍ
يُصابون في فجٍّ مِن الأرض خائفِ
غير أنَّ بعضهمْ كرِه القتْلَ وفرَّ منه ، يقولُ جميلُ بثينة :
يقولون جاهِد يا جميلُ بغزوةٍ
وأيُّ جهادٍ غيرهُنَّ أُريدُ
وقال الأعرابيُّ : واللهِ إني أكرهُ الموت على فراشي ، فكيف أطلبُه في الثغورِ ? قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ? ، ? قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ? . إنَّ الوقائع واحدةٌ لكنَّ النفوس هي التي تختلفُ .
***********************************
أيُّها الإنسان
أيُّها الإنسانُ : يا منْ ملَّ من الحياةِ ، وسئِم العيش ، وضاق ذرعاً بالأيامِ وذاق الغُصص ، أنَّ هناك فتحاً مبيناً ، ونصراً قريباً ، وفرجاً بعد شدَّة ، ويُسراً بعد عُسْرٍ .
إنَّ هناك لُطفاً خفيّاً منْ بينِ يديْك ومنْ خلقِك ، وإنَّ هناك أملاً مشرقاً ، ومستقبلاً حافلاً ، ووعداً صادقاً ، ? وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ? . إن لضِيقِك فُرْجةً وكشْفاً ، ولمصيبتِك زوالٌ ، وإن هناك أنساً وروحاً وندىً وطلاً وظلاً . ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ? .
أيُّها الإنسانُ : آنَ أنْ تُداوي شكَّك باليقينِ ، والتواء ضميرِك بالحقِّ ، وعِوج الأفكارِ بالهُدى ، واضطراب المسيرةِ بالرُّشدِ .
آن أنْ تقشع عنك غياهب الظلامِ بوجْهِ الفجرِ الصادقِ ، ومرارةِ الأسى بحلاوةِ الرَّضا ، وحنادسِ الفِتن بنورٍ يلقفُ ما يأفكُون .
أيُّها الإنسانُ: إنَّ وراء بيدائِكمْ القاحلِةِ أرضاً مطمئنَّةً، يأتيها رزقُها رَغَداً منْ كلِّ مكانٍ
وإنَّ على رأسِ جبلٍ المشقَّة والضَّنى والإجهاد ، جنَّةً أصابها وابلٌ ، فهي مُمرعةً ، فإنْ لم يصبْها وابلٌ فطلٌّ من البُشرى والفألِ الحسنِ ، والأملِ المنشودِ .
يا منْ أصابه الأرقُ ، وصرخ في وجهِ الليلِ : ألا أيُّها الليل الطويلُ ألا انْجلِ ، أبشِرْ بالصبحِ ? أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ? . صبحٌ يملؤُك نوراً وحبوراً وسروراً .
يا منْ أذهب لُبَّه الهمُّ : رُويْدك ، فإنَّ منْ أُفُقِ الغيبِ فَرَجاً ، ولك منْ السُّننِ الثابتِة الصادقِة فُسْحةً .
يا منْ ملأت عينك بالدمعِ : كفْكِفْ دموعك ، وأرِحْ مُقلتيْك ، اهدأْ فإنَّ لك منْ خالقِ الوجودِ ولايةً ، وعليك منْ لطفهِ رعايةً ، اطمئنَّ أيُّها العبدُ ، فقدْ فُرغ من القضاءِ ، ووقع الاختيارُ ، وحَصَلَ اللُّطفُ ، وذهب ظمأُ المشقَّةِ ، وابتلَّتْ عروقُ الجهدِ ، وثبت الأجرُ عند منْ لا يخيبُ لديهِ السعْيُ .(/102)
اطمئنَّ : فإنك تتعاملُ مع غالبٍ على أمرِهِ ، لطيفٍ بعبادِه ، رحيمٍ بخْلقِهِ ، حسنِ الصُّنعِ في تدبيرِهِ .
اطمئنَّ : فإنَّ العواقب حسنةٌ ، والنتائج مريحةٌ ، والخاتمة كريمةٌ .
بعد الفقرِ غِنَّى ، وبعد الظَّمأ رِيٌّ ، وبعد الفراقِ اجتماعٌ ، وبعد الهجْر وَصْلٌ ، وبعد الانقطاعِ اتِّصالٌ ، وبعد السُّهادِ نومٌ هادئٌ ، ? لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ? .
لمعتْ نارُهُم وقْد عسْعَسَ الليـ
ـلُ وملَّ الحادي وحار الدَّلِيلُ
فتأمَّلتُها وفِكْري من البيْـ
ـنِ عليلٌ وطرْفُ عيني كلِيلُ
وفؤادي ذاك الفؤادُ المعنَّى
وغرامي ذاك الغرامُ الدَّخِيلُ
وسألْنا عن الوكيلِ المرجَّى
للمُلِمَّاتِ هل إليهِ سبيلُ ؟
فوجدْناه صاحب المُلْكِ طُرّاً
أكرم المُجزِلِين فردٌ جليلُ
أيُّها المعذَّبُون في الأرضِ ، بالجوعِ والضَّنْكِ والضَّنى والألمِ والفقْرِ والمرضِ ، أبشرُوا ، فإنكم سوف تشبعون وتسعدون ، وتفرحون وتصِحُّون ، ? وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ{33} وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ? .
فلابُدَّ لِلَّيلِ أنْ ينجلِيْ
ولابدَّ للقيْدِ أنْ ينكسِرْ
ومنْ يتهيَّبْ صُعُود الجبالِ
يعِشْ أبد الدَّهْرِ بين الحُفرْ
وحقٌّ على العبدِ أن يظُنَّ بربِّه خيراً ، وان ينتظر منهُ فضلاً ، وأنْ يرجُو من مولاهُ لُطفاً ، فإنَّ منْ أمرُه في كلمةِ ( كُن) ، جديرٌ أنْ يُوثق بموعودِهِ ، وأنْ يُتعلَّقَ بعهودِهِ ، فلا يجلبُ النفع إلا هو ، ولا يدفع الضُّرَّ إلا هو ، ولهُ في كلِّ نفسٍ لُطفٌ ، وفي كلِّ حركةٍ حكمةٌ ، وفي كلِّ ساعةٍ فَرَجٌ ، جعل بعدَ الليلِ صُبحاً ، وبعد القحْطِ غَيْثاً ، يُعطي ليُشْكر ، ويبتلي ليعلم من يصْبِرُ ، يمنحُ النَّعْماء ليسمع الثَّناء ، ويُسلِّطُ البلاء ليُرفع إليه الدُّعاءُ ، فحريٌّ بالعبدِ أن يقوِّي معه الاتِّصال ، ويُمدَّ إليه الحبال ، ويُكِثرُ السؤال ? وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ ? ، ?ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ? .
لو لمْ تُرِدْ نيْل ما أرجو وأطْلُبُهُ
مِن جُودِ كفِّك ما علَّمْتني الطَّلبا
انقطع العلاءُ بنُ الحضرميِّ ببعضِ الصحابةِ في الصحراءِ ، ونفِد ماؤُهم ، وأشرفُوا على الموتِ ، فنادى العلاءُ ربَّه القريب ، وسأل إلهاً سميعاً مجيباً ، وهتف بقولِهِ : يا عليُّ يا عظيمُ ، يا حكيمُ يا حكيمُ . فنزل الغيثُ في تلك اللحظةِ ، فشربُوا وتوضؤوا ، واغتسلوا وسَقوْا دوابَّهم . ? وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ? .
***************************************
وقفةٌ
« محبَّةُ اللهِ تعالى ، ومعرفُته ، ودوامُ ذِكْرِه ، والسُّكُونُ إليه ، والطمأنينةُ إليه ، وإفرادُه بالحُبِّ والخوفِ والرجاءِ والتَّوكُّلُ ، والمعاملةُ ، بحيثُ يكون هو وَحْدَهُ المستولي على همومِ العبدِ وعزماتِه وإرادتِه . هو جنَّةُ الدنيا ، والنعيمُ الذي لا يُشبِههُ نعيمٌ ، وهو قُرَّة عينِ المُحِبين ، وحياةُ العارفين » .
« تعلُّقُ القلبِ باللهِ وحدهُ واللَّهجُ بذِكرِهِ والقناعةُ : أسبابٌ لزوالِ الهمومِ والغمومِ ، وانشراحُ الصدرِ والحياةُ الطَّيِّبة . والضِّدُّ بالضِّدِّ ، فلا أضْيقُ صدراً ، وأكْثَرُ همّاً ، ممَّنْ تعلَّق قلبُه بغيرِ اللهِ ، ونسي ذِكْر اللهِ ، ولم يقْنَعْ بما آتاهُ اللهُ ، والتَّجرِبةُ أكبرُ شاهدٍ » .
*************************************
تعزَّ بالمنكوبين
? وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى ? .
وممَّنْ نُكِب نكبةً داميةً ساحقةً ماحقةً : البرامكةُ ، أُسرةُ الأُسرةُ الأُبَّهةِ والتَّرَفِ والبذْلِ والسَّخاءِ ، وأصبحتْ نكْبتُهم عِبرةً وعظةً ومثلاً ، فإنَّ هارون الرشيد سطا عليهمْ بيْن عشيَّةٍ وضُحاها ، وكانوا في النعيمِ غافلين ، وفي لحافِ الرَّغدِ دافِئين ، وفي بستانِ الترفِ مُنعَّين ، فجاءهم أمرُ اللهِ ضُحىً وهم يلعبون ، على يدِ أقربِ الناسِ إليهم ، فخرَّب دُورهم ، وهدمَ قصورهُم ، وهتك سُتُورهُم ، واستلب عبيدهُمْ ، وأسال دماءهم ، وأوردهم موارد الهالِكين ، فَجَرَحَ بمصابِهم قلوب أحبابِهم ، وقرَّح بنكالِهم عيون أطفالِهم ، فلا إله إلا اللهُ ، كم منْ نعمةٍ عليهم سُلبتْ ، وكمْ منْ عبرةٍ منْ أجلهِم سُفكتْ ، ? فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ? . قبل نكبتهم بساعةٍ ، كانوا في الحرير يرْفُلون ، وعلى الدِّيباجِ يزحفون ، وبكأسِ الأماني يترعُون ، فيها لهوْلِ ما دهاهُم ، ويا لفجيعةِ ما علاهم
هذا المصابُ وإلاَّ غيرُه جللُ
وهكذا تُمحقُ الأيَّامُ والدُّولُ(/103)
اطمأنوا في سِنةٍ من الدهرِ ، وأمْنٍ من الحدثان ، وغفْلةٍ من الأيامِ ? وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ? . خفقتْ على رؤوسِهِمُ البنودُ ، واصطفَّتْ على جوانِبِهم الجنودُ .
كأنْ لم يكُن بين الحَجُونِ إلى الصفّا
أنيسٌ ولم يسْمُرْ بمكَّة سامِرُ
رتعُوا في لذَّةِ العيشِ لاهين ، وتمتَّعُوا في صفْو الزمان آمنِين ، ظنُّوا السراب ماءً ، والورم شحْماً ، والدنيا خُلُوداً ، والفناء بقاءً ، وحسبوا الوديعة لا تُستردُّ ، والعارية لا تُضمنُ ، والأمانة لا تُؤدَّى ، ? وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ? .
فجائعُ الدهرِ ألوانٌ مُنوَّعةٌ
وللزَّمانِ مَسَرَّاتٌ وأحزانُ
وهذه الدارُ لا تبقي على أحدٍ
ولا يدومُ على حالٍ لها شأنُ
أصبحوا في سرورٍ وأمسوْا في القبورِ ، وفي لحظةٍ منْ لحظاتِ غَضَبِ هارونِ الرشيدِ ، سلَّ سيف النّقمةِ عليهمْ ، فقتل جعفر بن يحيى البرمكيَّ ، وصلبهُ ثمَّ أحرق جثمانه ، وسجن أباه يحيي بن خالدٍ ، وأخاه الفضْل بن يحيى ، وصادر أموالهمْ وأملاكهم .
ولما قَتَلَ أبو جعفر المنصورُ محمد بن عبدِاللهِ بن الحَسَنِ ، بعث برأسِهِ إلى أبيهِ عبدِاللهِ بن الحسنِ في السجنِ مع حاجبِهِ الربيعِ ، فوضعَ الرأسَ بين يديهِ ، فقال : رحمك اللهُ يا أبا القاسم ، فقدْ كنت من الذين يُفون بعهدِ اللهِ ، ولا ينقُضون الميثاق ، والذين يصِلون ما أمر اللهُ بهِ أنْ يُوصل ويخشوْن ربَّهم ويخافون سوء الحسابِ ، ثم تمثَّل بقولِ الشاعرِ :
فتى كان يحميه مِنْ الذُّلِّ سيفُه
ويكفيه سوءاتِ الأمورِ اجتنابُها
والتفت إلى الربيع حاجبِ المنصورِ ، وقال له : قُلْ لصاحبِك : قدْ مضى منْ بُؤسِنا مُدَّةٌ ، ومنْ نعيمِك مِثُلها ، والموعدُ اللهُ تعالى !
وقدْ أخذ هذا المعنى العباسُ بنُ الأحنفِ – وقيل : عمارةُ بنُ عقيلٍ – فقال :
فإنْ تلحظي حالي وحالكِ مرَّةً
بنظرةِ عينٍ عنْ هَوَى النَّفْسِ تُحْجبُ
نجِد كُلَّ مرَّ منْ بُؤسِ عيشتي
يمُرُّ بيومٍ منْ نعيمكِ يُحْسبُ
كما في ( قولٍ على قول ) .
والآن : أين هارون الرشيدُ وأين جعفرُ البرمكيُّ ؟ أين القاتلُ والمقتولُ ؟ أين الآمرُ والمأمورُ ؟ أين الذين أصدر أمره وهو على سريرهِ في قصرهِ ؟ وأين الذي قتِل وصُلِب ؟ لا شيء ، أصبحوا كأمسِ الدَّابر ، وسوف يجمعُهم الحكمُ العدْلُ ليومِ لا ريب فيه ، فلا ظُلْم ولا هضْم ، ? قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ? ، ? يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ? ، ? يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ? .
قيل ليحيى بن خالدٍ البرمكيِّ : أرأيت هذه النكْبة ، هل تدري ما سببُها ؟ قال : لعلَّها دعوةُ مظلومٍ ، سرتْ في ظلامِ الليلِ ونحنُ عنها غافلون .
ونُكب عبدُالله بنُ معاوية بنِ عبدِاللهِ بنِ جعفر ، فقال في حبْسهِ :
خَرَجْنَا من الدنيا ونحنُ مِن أهلِها
فلسْنا مِن الأمواتِ فيها ولا الأحياء
إذا دخل السَّجانُ يوماً لحاجةٍ
عجِبْنا وقلنا : جاء هذا من الدُّنيا
ونفرحُ بالرُّؤْيا فجُلُّ حديثِنا
إذا نحنُ أصبحنا الحديث عن الرُّؤْيا
فإنْ حسُنتْ كانتْ بطيئاً مجيئُها
وإنْ قبُحتْ لم تنتظر وأتتْ سعيا
سجنَ أحدُ ملوكِ فارس حكيماً منْ حكمائِهمْ ، فكتب لهُ رقعةً يقولُ : إنها لنْ تمُرَّ عليَّ فيها ساعةٌ ، إلا قرَّبتْني من الفرجِ وقرَّبتْك من النِّقمةِ ، فأنا أنتظرُ السَّعة ، وأنت موعودٌ بالضيِّقِ .
ويُنكبُ ابنُ عبَّادٍ سلطانُ الأندلسِ ، عندما غلب عليه الترفُ ، وغلب عليهِ الانحرافُ عنِ الجادَّةِ ، فكثرُتِ الجواري في بيتهِ ، والدُّفوفُ والطَّنابيرُ ، والعزْفُ وسماعُ الغناءِ ، فاستغاث يوماً بابن تاشفين – وهو سلطانُ المغربِ – على أعدائِهِ الروم في الأندلسِ ، فعبر ابنُ تاشفين البحر ، ونصرَ ابن عبَّادِ ، فأنزلهُ ابنُ عبَّادٍ في الحدائقِ والقصورِ والدُّورِ ، ورحَّب به وأكرمه . وكان ابنُ تاشفين كالأسدِ ، ينظرُ في مداخلِ المدينة وفي مخارجِها ، لأنَّ في نفسه شيئاً .
وبعد ثلاثةِ أيام هجم ابنُ تاشفين بجنودِه على المملكةِ الضعيفةِ ، وأسر ابن عبَّادٍ وقيَّده وسَلَبَ مُلكه ، وأخذ دُوره ودمَّر قصوره ، وعاث في حدائقِهِ ، ونَقَلَهُ إلى بلدِه ( أغماتٍ) أسيراً ، ? وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ? . فتقلَّد ابنُ تاشفين زِمام الحُكمِ ، وادعى أنَّ أهل الأندلسِ همُ الذين استدعوْه وأرادوه .
ومرَّتِ الأيامُ ، وإذا ببناتِ ابنِ عبَّادٍ يصِلْنه في السجنِ ، حافياتٍ باكياتٍ كسيِفاتٍ جائعاتٍ ، فلمَّا رآهنّ بكى عند البابِ ، وقال :
فيما مضى كُنت بالأعيادِ مسرورا
فساءك العيدُ في أغمات مأسورا
ترى بناتِك في الأطمارِ جائعةً
يغزِلْن للناسِ ما يمْلِكْن قطميرا
بَرَزْنَ نحْوك للتَّسليمِ خاشعةً(/104)
أبصارُهُنَّ حسيراتٍ مَكاسِيرا
يطأْن في الطينِ والأقدامُ حافيةٌ
كأنَّها لم تطأ مِسكاً وكافُورا
ثمَّ دخل الشاعرُ ابنُ اللَّبانةِ على ابنِ عبّادٍ ، فقال له :
تَنَشَّقْ رياحين السَّلامِ فإنَّما
أصُبُّ بها مِسْكاً عليك وحَنْتَما
وقُلْ مجازاً إن عدمت حقيقةً
بأنك ذو نُعمى فقد كُنت مُنعما
بكاك الحيا والريحُ شقَّتْ جُيُوبها
عليها وتاه الرَّعدُ باسمِك مُعْلِما
وهي قصيدةٌ بديعة ، أوْرَدَها الذهبيُّ ومدحها .
روى الترمذيُّ ، عن عطاءٍ ، عنْ عائشة – رضي اللهُ عنها وأرضاها – أنَّها مرَّتْ بقبرِ أخيها عبدِالله الذي دُفن فيه بمكة ، فسلَّمت عليهِ ، وقالتْ : يا عبداللهِ ، ما مثلي ومثُلك إلا كما قال مُتمِّمٌ :
وكُنَّا كندْماني جُذيْمَةَ بُرهةً
من الدهرِ حتى قِيل لنْ يتصدَّعا
وعِشْنا بخيرٍ في الحياةِ وقبلنا
أصاب المنايا رهط كسرى وتُبَّعا
فلمَّا تفرَّقْنا كأنِّي ومالِكاً
لطُولِ اجتماعٍ لم نبِتْ ليلةً معا
ثمَّ بكتْ وودَّعتْه .
وكان عمرُ رضي اللهُ عنهُ يقولُ لمتمِّمِ بن نويرة : يا متمِّم ، والذي نفسي بيده ، لَوَدِدْتُ أني شاعرٌ فأرثي أخي زيداً ، واللهِ ما هبَّتِ الصّبا منْ نجد إلاَّ جاءتني بريحِ زيدٍ . يا متممُ ، إنَّ زيداً أسلم قبلي وهاجرَ وقتل قبلي ، ثمَّ يبكي عمر . يقول متمِّم :
لعمْري لقد لام الحبيبُ على البُكا
حبيبي لِتذْرافِ الدُّموعِ السَّوافِكِ
فقال أتبكي كلَّ قبرٍ رأيتهُ
لقبرٍ ثوى بين اللِّوى فالدّكادِكِ
فقلتُ له إن الشَّجى يبعثُ الشَّجى
فدعْني فهذا كلُّهُ قبرُ مالِكِ
نُكب بنو الأحمرِ في الأندلسِ ، فجاء الشاعرُ ابنُ عبدون يُعزِّيهم في هذه المصيبةِ فقال :
الدَّهْرُ يفجعُ بعد العَيْنِ بالأثرِ
فما البكاءُ على الأشباحِ والصُّورِ
أنهاك أنهاك لا آلُوك موعظة
عنْ نوْمَةٍ بين نابِ اللَّيْثِ والظُّفُرِ
وَلَيْتها إذ فدتْ عمراً بخارجةٍ
فدتْ عليّاً بمنْ شاءتْ من البشرِ
? فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ? ،? إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ ? .
**************************************
ثمراتُ الرِّضا اليانعة
? رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ? .
وللرضا ثمراتٌ إيمانيةٌ كثيرةٌ وافرةٌ تنتجُ عنه ، يرتفعُ بها الراضي إلى أعلى المنازلِ ، فيُصبحُ راسخاً في يقيِنه ، ثابتاً في اعتقادِه ، وصادقاً في أقوالِه وأعمالِه وأحوالِه .
فتمامُ عبوديِّتِه في جَرَيانِ ما يكرهُهُ من الأحكام عليه . ولو لم يجْرِ عليه منها إلاَّ ما يحبُّ ، لكان أبْعَد شيءٍ عنْ عبوديَّة ربِّه ، فلا تتمُّ له عبوديَّة . من الصَّبرِ والتَّوكلِ والرِّضا والتضرُّعِ والافتقارِ والذُّلِّ والخضوعِ وغَيْرِها – إلاَّ بجريانِ القدرِ له بما يكرهُ ، وليس الشأنُ في الرضا بالقضاءِ الملائم للطبيعةِ ، إنما الشأنُ في القضاءِ المُؤْلِمِ المنافِرِ للطَّبْعِ . فليس للعبدِ أنْ يتحكَّم في قضاءِ اللهِ وقدرِه ، فيرضى بما شاء ويرفضُ ما شاء ، فإنَّ البشر ما كان لهمِ الخِيَرَةُ ، بلْ الخيرةُ اللهِ ، فهو أعْلمُ وأحْكمُ وأجلُّ وأعلى ، لأنه عالمُ الغيبِ المطَّلِعُ على السرائرِ ، العالمُ بالعواقبِ المحيطُ بها .
رضاً برضا :
ولْيَعْلم أنَّ رضاه عن ربِّه سبحانهُ وتعالى في جميعِ الحالاتِ ، يُثمِرُ رضا ربُه عنه ، فإذا رضي عنه بالقليلِ من الرِّزقِ ، رضي ربُّه عنه بالقليلِ من العملِ ، وإذا رضي عنه في جميع الحالاتِ ، واستوتْ عندهُ ، وجدهُ أسْرَعَ شيءٍ إلى رضاهُ إذا ترضَّاه وتملَّقه ؛ ولذلك انظرْ للمُخلصيِن مع قِلَّةِ عملهِم ، كيف رضي اللهُ سعيهم لأنهمْ رضُوا عنهُ ورضي عنهمْ ، بخلافِ المنافقين ، فإنَّ الله ردَّ عملهم قليلهُ وكثيرهُ ؛ لأنهمِ سخِطُوا ما أنزلَ الله وكرهُوا رضوانهُ ، فأحبط أعمالهم .
منْ سخِط فلهُ السُّخْطُ :(/105)
والسُّخطُ بابُ الهمِّ والغمِّ والحزنِ ، وشتاتِ القلبِ ، وكسفِ البالِ ، وسُوءِ الحالِ ، والظَّنِّ بالله خلافُ ما هو أهلُه . والرضا يُخلِّصُه منْ ذلك كلِّه ، ويفتحُ له باب جنةِ الدنيا قبل الآخرةِ ، فإنَّ الارتياح النفسيَّ لا يتمُّ بمُعاكسةِ الأقدارِ ومضادَّة القضاءِ ، بل بالتسليمِ والإذعانِ والقبُولِ ، لأنَّ مدبِّر الأمرِ حكيمٌ لا يُتَّهمُ في قضائِه وقدرهِ ، ولا زلتُ أذكرُ قصة ابن الراونديِّ الفيلسوف الذَّكّيِ الملحدِ ، وكان فقيراً ، فرأى عاميّاً جاهلاً مع الدُّورِ والقصورِ والأموالِ الطائلةِ ، فنظر إلى السماءِ وقال : أنا فيلسوفُ الدنيا وأعيشُ فقيراً ، وهذا بليدٌ جاهلٌ ويحيا غنيّاً ، وهذه قِسمةٌ ضِيزى . فما زادهُ اللهُ إلا مقْتاً وذُلاّ وضنْكاً ? وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ? .
فوائدُ الرِّضا :
فالرِّضا يُوجِبُ له الطُّمأنينة ، وبرد القلبِ ، وسكونهُ وقراره وثباتهُ عند اضطرابِ الشُّبهِ والتباسِ والقضايا وكثْرةِ الواردِ ، فيثقُ هذا القلبُ بموعودِ اللهِ وموعودِ رسوله ( ، ويقولُ لسانُ الحالِ : ? هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ? . والسخطُ يوجبُ اضطراب قلبِه ، وريبتهُ وانزعاجهُ ، وعَدَمَ قرارِهِ ، ومرضهُ وتمزُّقهُ ، فيبقى قلِقاً ناقِماً ساخِطاً متمرِّداً ، فلسانُ حالِه يقولُ : ? مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ? . فأصحابُ هذه القلوبِ إن يكُن لهمُ الحقُّ ، يأتوا إليه مُذعِنِين ، وإن طُولِبوا بالحقِّ إذا همْ يصْدفِون ، وإنْ أصابهم خيرٌ اطمأنٌّوا به ، وإنْ أصابتهم فتنةٌ انقلبُوا على وجوههِم ، خسرُوا الدنيا والآخرةِ ? ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ? . كما أنّ الرضا يُنزلُ عليه السكينة التي لا أَنْفَعَ له منها ، ومتى نزلتْ عليه السكينةُ ، استقام وصلحتْ أحوالُه ، وصلح بالُه ، والسُّخط يُبعِدُه منها بحسبِ قلَّتِه وكثرتِه ، وإذا ترحَّلتْ عنهُ السكينةُ ، ترحَّل عنه السرورُ والأمْنُ والراحةُ وطِيبُ العيشِ . فمنْ أعْظَمِ نعمِ اللهِ على عبدِه : تنزُّلُ السكينةِ عليهِ . ومنْ أعظمِ أسبابِها : الرضا عنه في جميعِ الحالاتِ .
لا تُخاصِم ربَّك :
والرضا يخلِّصُ العبد منْ مُخاصمةِ الربِّ تعالى في أحكامِه وأقضيتِه . فإنَّ السُّخط عليهِ مُخاصمةٌ له فيما لم يرض به العبدُ ، وأصلُ مخاصمةِ إبليس لربِّه : منْ عَدَمِ رضاه بأقْضِيَتِه ، وأحكامِه الدِّينيِة والكونيِة . وإنَّما ألحد منْ ألحدَ ، وجَحِدَ منْ جحد لأنهُ نازعَ ربَّه رداء العظمةِ وإزار الكبرياءِ ، ولم يُذعِنْ لمقامِ الجبروتِ ، فهو يُعطِّلُ الأوامر ، وينتهِكُ المناهي ، ويتسخَّطُ المقادير ، ولم يُذعِنْ للقضاءِ .
حُكْمٌ ماضٍ وقضاءٌ عَدْلٌ :
وحُكمُ الرَّبِّ ماضٍ في عبدِه ، وقضاؤُه عدْلٌ فيه ، كما في الحديثِ : (( ماضٍ فيَّ حكمُك ، عَدْلٌ في قضاؤك )) . ومنْ لم يرض بالعدلِ ، فهو منْ أهلِ الظُّلمِ والجوْرِ . واللهُ أحكمُ الحاكمين ، وقدْ حرَّ الظلُّمَ على نفسِه ، وليس بظلاَّمٍ للعبيدِ ، وتقدَّس سبحانه وتنزَّه عنْ ظُلْمِ الناسِ ، ولكنّ أنْفُسهم يظلمون .
وقولُه : ((عَدْلٌ في قضاؤك )) يَعُمُّ قضاء الذنبِ ، وقضاء أثرِهِ وعقوبتِه ، فإنَّ الأمرينِ منْ قضائِه عزَّ وجلَّ ، وهو أعدلُ العادلين في قضائِه بالذنبِ ، وفي قضائِه بعقوبتِه . وقد يقضي سبحانه بالذنبِ على العبدِ لأسرارٍ وخفايا هو أعْلَمُ بها ، قد يكونُ لها من المصالحِ العظيمِة ما لا يعلمُها إلا هُو .
لا فائدة في السُّخطِ :
وعدمُ الرَّضا : إمَّا أنْ يكون لفواتِ ما أخطأهُ ممَّ يحبُّه ويريدهُ ، وإمّا لإصابةٍ بما يكرهُه ويُسخطُه . فإذا تيقَّن أنَّ ما أخطأه لم يكُنْ ليُصيبَه ، وما أصابه لم يكنْ ليُخطئه ، فلا فائدة في سخطِه بعد ذلك إلا فواتُ ما ينفعُه ، وحصولُ ما يضرُّه . وفي الحديث : (( جفَّ القلمُ بما أنت لاقٍ يا أبا هريرة ، فقدْ فُرِغَ من القضاءِ ، وانتُهِي من القدرِ ، وكُتِبتِ المقاديرُ ، ورُفِعتِ الأقلامُ ، وجفَّتِ الصُّحُفُ )) .
السلامةُ مع الرِّضا :
والرضا يفتحُ له باب السلامةِ ، فيجعلُ قلبهُ سليماً ، نقيّاً من الغشِّ والدَّغلِ والغلِّ ، ولا ينجو منْ عذابِ اللهِ إلا منْ أتى الله بقلبٍ سليمٍ ، وهو السَّالِمُ من الشُّبهِ ، والشَّكِّ والشِّركِ ، وتلبُّسِ إبليس وجُندِه ، وتخذيلِهِ وتسويفِهِ، ووعْدِه ووعيدِه ، فهذا القلبُ ليس فيهِ إلا اللهُ: ?قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ? .(/106)
وكذلك تستحيلُ سلامةُ القلبِ من السُّخطِ وعدمِ الرضا ، وكلَّما كان العبدُ أشدَّ رضاً ، كان قلبُه أسْلَمَ . فالخبثُ والدَّغَلُ والغشُّ : قرينُ السُّخطِ . وسلامةُ القلبِ وبرُّه ونُصحُه : قرينُ الرضا . وكذلك الحسدُ هو منْ ثمراتِ السخطِ . وسلامةُ القلبِ منهُ : منْ ثمراتِ الرضا . فالرضا شجرةٌ طيِّبة ، تُسقى بماءِ الإخلاصِ في بستانِ التوحيدِ ، أصلُها الإيمانُ ، وأغصانُها الأعمالُ الصالحةُ ، ولها ثمرةٌ يانِعةٌ حلاوتُها . في الحديثِ : (( ذاق طعْم الإيمانِ منْ رضي باللهِ ربّاً ، وبالإسلام ديِناً ، وبحمدٍ نبياً )) . وفي الحديث أيضاً : (( ثلاثٌ منْ كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمانِ .... )) .
السُّخْطُ بابُ الشَّكِّ :
والسُّخطُ يفتحُ عليهِ باب الشَّكِّ في اللهِ ، وقضائه ، وقدرِه ، وحكمتِهِ وعلمِهِ ، فقلَّ أنْ يَسْلَمَ الساخِطُ منْ شكٍّ يُداخلُ قلبه ، ويتغلغلُ فيه ، وإنْ كان لا يشعرُ به ، فلوْ فتَّش نفسه غاية التفتيشِ ، لوَجَدَ يقينهُ معلولاً مدخولاً ، فإنَّ الرضا واليقين أخوانِ مُصطحبانِ ، والشَّكَّ والسُّخط قرينانِ ، وهذا معنى الحديثِ الذي في الترمذيِّ : (( إنِ استطعت أن تعمل بالرِّضا مع اليقينِ ، فافعل . فإن لم تستطع ، فإن في الصبر على ما تكره النَّفْسُ خيْراً كثيراً )) . فالساخطُون ناقِمون منْ الداخلِ ، غاضبِون ولوْ لمْ يتكلمَّوا ، عندهم إشكالاتٌ وأسئلةٌ ، مفادُها : لِم هذا ؟ وكيف يكونُ هذا ؟ ولماذا وقع هذا ؟
الرِّضا غِنىً وأمْنٌ :
ومنْ ملأ قلبه من الرضا بالقدر ، ملأ اللهُ صدرهُ غِنىً وأمْناً وقناعةً ، وفرَّغ قلبه لمحبَّتِه والإنابِة إليه ، والتَّوكُّلِ عليه . ومنْ فاته حظُّه من الرِّضا ، امتلأ قلبُه بضدِّ ذلك ، واشتغل عمَّا فيه سعادتُه وفلاحُه .
فالرِّضا يُفرِّغُ القلب للهِ ، والسخطُ يفرِّغُ القلب من اللهِ ، ولا عيش لساخِطٍ ، ولا قرار لناقِمٍ ، فهو في أمر مريجٍ ، يرى أنَّ رزقهُ ناقصٌ ، وحظَّهُ باخِسٌ ، وعطيَّتهُ زهيدةٌ ، ومصائبهُ جمَّةٌ ، فيرى أنه يستحقّ أكْثر منْ هذا ، وأرفع وأجلَّ ، لكنّ ربَّه – في نظرِهِ – بخسهُ وحَرَمَه ومنعَهُ وابتلاه ، وأضناهُ وأرهَقَه ، فكيف يأنسُ وكيف يرتاح ، وكيف يحيا ؟ ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ? .
ثمرةُ الرِّضا الشُّكْرُ :
والرضا يُثمرُ الشكر الذي هو منْ أعلى مقاماتِ الإيمانِ ، بل هو حقيقةُ الإيمانِ . فإنَّ غاية المنازلِ شكرِ المولى ، ولا يشكُرُ اللهُ منْ يرضى بمواهبه وأحكامِه ، وصُنعِه وتدبيرِه ، وأخذِه وعطائِه ، فالشاكرُ أنْعمُ الناسِ بالاً ، وأحسنُهم حالاً .
ثمرةُ السُّخطِ الكفرُ :
والسخطُ يُثمِر ضدَّه ، وهو كُفْرُ النِّعمِ ، وربما أثمر له كُفْر المنعِم . فإذا رضي العبدُ عن ربِّه في جميعِ الحالاتِ ، أوجب له لذلك شُكره ، فيكونُ من الراضين الشاكرين . وإذا فاتهُ الرضا ، كان من الساخطين ، وسلك سُبُل الكافرين . وإنما وقع الحيْفُ في الاعتقاداتِ والخللُ في الدياناتِ مِنْ كوْنٍ كثيرٍ من العبيدِ يريدون أن يكونوا أرباباً ، بلْ يقترحون على ربِّهم ، ويُحِلُّون على مولاهم ما يريدون: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ? .
السُّخطُ مصيدةٌ للشيطانِ :
والشيطانُ إنما يظفرُ بالإنسانِ غالباً عند السخطِ والشهوةِ ، فهناك يصطادُه ، ولاسيَّما إذا استحكم سخطُه ، فإنهُ يقولُ ما لا يُرضي الرَّبَّ ، ويفعلُ ما لا يُرضيه ، وينوي ما لا يُرضيهِ ، ولهذا قال النبيَّ ( عند موت ابنهِ إبراهيم : (( يحزنُ القلبُ وتدمعُ العينُ ، ولا نقولُ إلا ما يُرضي ربَّنا )) . فإنَّ موت البنين من العوارضِ التي تُوجِبُ للعبدِ السخط على القَدَرِ ، فأخبرَ النبيُّ ( أنهُ لا يقولُ في مثْلِ هذا المقامِ – الذي يسخطُه أكثرُ الناسِ ، فيتكلَّمون بما لا يُرضي الله ، ويفعلون ما لا يرضيه – إلا ما يُرضي ربَّه تبارك وتعالى . ولو لمح العبدُ في القضاءِ بما يراهُ مكروهاً إلى ثلاثةِ أُمورٍ ، لهان عليه المصابُ .
أوَّلها : علمُه بحكمةِ المقدِّرِ جلَّ في علاه ، وأنهُ أخْبَرُ بمصلحةِ العبدِ وما ينفعُه .
ثانيها : أنْ ينظر للأجرِ العظيمِ والثوابِ الجزيلٍ ، كما وعد اللهُ منْ أُصِيب فصبر مِنْ عبادِهِ .
ثالثُها : أن الحُكم والأمر للرَّبِّ ، والتسليم والإذعان للعبدِ : ? أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ? .
الرِّضا يُخرجُ الهوى :
والرضا يُخرجُ الهوى من القلبِ ، فالراضي هواهُ تبعٌ لمرادِ ربِّه منه ، أعني المراد الذي يحبُّه ربُّه ويرضاهُ ، فلا يجتمعُ الرضا واتِّباعُ الهوى في القلبِ أبداً ، وإنْ كان معهُ شُعبةٌ منْ هذا ، وشعبةٌ منْ هذا ، فهو للغالِب عليه منهما .
إنْ كان رضاكُم في سهري
فسلامُ اللهِ على وَسَنِي
? وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ? .(/107)
إنْ كان سرَّكُمُ ما قال حاسِدُنا
فما لجرْجٍ إذا أرضاكمو ألمُ
******************************************
وقفة
(( تعرَّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ ، يعرفْك في الشِّدَّة )) .
« (تعرَّفْ) بتشديدِ الرَّاءِ (إلى اللهِ) أيْ : تحبَّبْ وتقرَّبْ إليهِ بطاعتِه ، والشُّكرِ لهُ على سابغِ نعمتِه ، والصبر تحت مُرِّ أقْضِيتِهِ ، وصدْقِ الالتجاءِ الخاصِ قبل نزولِ بليَّتِه . (في الرخاءِ) أيْ : في الدَّعةِ والأمْنِ والنعمةِ وسَعَةِ العمرِ وصحَّةِ البدنِ ، فالزمِ الطاعاتِ والإنفاق في القُرُباتِ ، حتى تكون متَّصِفاً عنده بذلك ، معروفاً به . (يعرفْك في الشِّدَّة) بتفريجِها عنك ، وجعْلِه لك منْ كلِّ ضِيقٍ مخرجاً ، ومنْ كلِّ همٍّ فرجاً ، بما سلف منْ ذلك التَّعرُّفِ » .
« ينبغي أنْ يكون بين العبدِ وبين رِّبهِ معرفةٌ خاصَّةٌ بقلبِهِ ، بحيثُ يجدُه قريباً للاستغناءِ لهُ منهُ ، فيأنسُ بهِ في خلوتِه ، ويجدُ حلاوة ذكْرِه ودعائِه ومناجاتِه وطاعتِه ، ولا يزالُ العبدُ يقع في شدائد وكُربٍ في الدنيا والبرْزخِ والموقفِ ، فإذا كان بينهُ وبين ربِّه معرفةٌ خاصَّة ، كفاهُ ذلك كلُّه » .
*************************************
الإغضاءُ عنِ هفواتِ الإخوانِ
? خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ? .
لا ينبغي أنْ يزهد فيهِ – أي الأخ- لخُلُقٍ أو خُلُقَيْن ينكرُهما منهُ، إذا رضي سائر أخلاقِه ، وحمِد أكثرَ شِيمِه ، لأنَّ اليسير مغفورٌ ، والكمال مُعوزٌ ، وقدْ قال الكِنْديُّ : كيف تريدُ منْ صديقِك خُلُقاً واحداً ، وهو ذو طبائع أربعٍ . مع أنَّ نفْس الإنسانِ التي هي أخصُّ النفوسِ به ، ومدبَّرةٌ باختيارِه وإرادتِه ، لا تُعطيه قيِادها في كلِّ ما يريدُ ، ولا تُجيبُه إلى طاعتِه في كلِّ ما يجبُ ، فكيف بنفسِ غيرِه ؟! ? كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ ? ، ? فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ? .
وحسْبُك أنْ يكون لك منْ أخيك أكثرُه ، وقدْ قال أبو الدرداءِ – رضي الله عنه - : مُعاتبَةُ الأخِ خَيْرٌ منْ فقْدِه ، منْ لك بأخيك كلِّه ؟! فأخذ الشعراءُ هذا المعنى ، فقال أبو العتاهية :
أَأُخيَّ منْ لك مِن بني الد
نيا بكلِّ أخيك منْ لكْ
فاسْتبْقِ بعضك لا يَمَلُّـ
ـك كلُّ منْ لم تُعْطِ كُلَّكْ
وقال أبو تمامٍ الطائيُّ :
ما غبن المغبون مِثْلُ عقْلِهِ
منْ لك يوماً بأخيك كُلِّهِ
وقال بعضُ الحكماء : طَلَبُ الإنصافِ ، مِنْ قلَّةِ الإنصافِ .
وقال بعضُهم : نحنُ ما رضِينا عنْ أنفُسِنا ، فكيف نرضى عنْ غيرِنا !!
وقال بعضُ البلغاءِ : لا يُزهدنَّك في رجلٍ حمدت سيرته ، وارتضيت وتيرته ، وعرفت فَضْله ، وبطنت عقله – عَيْبٌ خفيٌّ ، تحيطُ به كثرةُ فضائلِه ، أو ذنبٌ صغيرٌ تستغفرُ له قوةُ وسائلِه ، فإنك لنْ تجِد – ما بقيت – مُهذَّباً لا يكونُ فيه عيبٌ ، ولا يقعُ منه ذنبٌ ، فاعتبرْ بنفسك بعدُ ألاَّ تراها بعينِ الرضا ، ولا تجري فيها على حُكمِ الهوى ، فإنَّ في اعتبارِك بها ، واختبارِك لها ، ما يُواسيك مما تطلبُ ، ويعطِفك على منْ يُذنبُ ، وقد قال الشاعرُ :
ومنْ ذا الذي تُرضى سجاياهُ كلُّها
كفى المرء نُبلاً أنْ تُعدَّ معايبُهْ
وقال النابغةُ الذُّبيانيُّ :
ولست بمُسْتبْقٍ أخاً لا تلُمُّهُ
على شعثٍ أيُّ الرِّجالِ المهذَّبِ
وليس ينقضُ هذا القول ما وصفناهُ منْ اختبارِه ، واختبارِ الخصالِ الأربع فيه ، لأنَّ ما اعوز فيه معفوٌّ عنهُ ، هذا لا ينبغي أنْ تُوحشك فترةٌ تجدُها منهُ ، ولا أنْ تُسيء الظَّنَّ في كبوةٍ تكونُ منه ، ما لم تتحقَّق تغيُّره ، وتتيقَّن تنكُّره ، وليصرفْ ذلك إلى فتراتِ النفوسِ ، واستراحاتِ الخواطرِ ، فإنَّ الإنسان قد يتغيَّرُ عنْ مُراعاةِ نفسِه التي هي أخصُّ النفوسِ به ، ولا يكونُ ذلك منْ عداوةٍ لها ، ولا مللٍ منها . وقدْ قيل في منثورِ الحِكمِ : لا يُفسِدنَّك الظَّنُّ على صديقٍ قد أصلحك اليقينُ له . وقال جعفرُ بنُ محمدٍ لابنِه : يا بُنيَّ ، منْ غضب من إخوانِك ثلاث مرَّاتٍ ، فلمْ يقُل فيك سوى الحقِّ ، فاتخِذْه لنفسِك خِلاّ . وقال الحسنُ بنُ وهبٍ : منْ حقوقٍ المودَّةِ أخْذُ عَفْوِ الإخوانِ ، والإغضاءُ عن تقصير إن كان . وقد روي عنْ عليٍّ – رضي اللهُ عنهُ – في قولِه تعالى : ? فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ? ، قال : الرِّضا بغيرِ عتابٍ .
وقال ابنُ الروميِّ :
همُ الناسُ والدنيا ولابُدَّ منْ قذىً
يُلِمُّ بعينٍ أو يُكدِّرُ مشْربا
ومنْ قلّةِ الإنصافِ أنَّك تبتغي الـ
ـمُهذَّب في الدنيا ولست المهذَبا
وقال بعضُ الشعراءِ :
تَوَاصُلُنا على الأيامِ باقٍ
ولكنْ هجرُنا مطرُ الرَّبيعِ
يرُوعُك صَوْبُهُ لكنْ تراهُ
على علاَّتِهِ داني النُّزُوعِ
معاذ اللهِ أنْ تلقى غِضاباً
سوى دلُ المطاعِ على المُطيعِ(/108)
? وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ?
تريدُ مُهذَّباً لا عيب فيه
وهلْ عُودٌ يفُوحُ بلا دُخانِ
? فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ? .
************************************************
الصِّحَّةُ والفراغُ
ينبغي ألا تضيِّع صِحَّة جسمِك ، وفراغ وقتِك ، بالتقصيرِ في طاعةِ ربِّك ، والثِّقةِ بسالفِ عمِلك ، فاجعلْ الاجتهاد غنيمة صحَّتِك ، والعمل فرصة فراغِك ، فليس كلُّ الزمانِ مستعداً ولا ما فات مستدركاً ، وللفراغِ زيْغٌ أو ندمٌ ، وللخْلوةِ مَيْلٌ أو أسفٌ .
وقال عمرُ بنُ الخطابِ : الراحةُ للرجالِ غفْلةٌ ، وللنساءِ غُلْمةٌ .
وقال بزرجمهرُ : إنْ يكنِ الشغلُ مَجْهَدةً ، فالفراغُ مفْسدَةٌ .
وقال بعضُ الحكماءِ : إيَّاكمْ والخلواتِ ، فإنها تُفسدُ العقول ، وتعقِدُ المحلول .
وقال بعضُ البلغاءِ : لا تمضِ يومك في غير منفعةٍ ، ولا تضعْ مالك في غيْر صنيعةٍ ، فالعمرُ أقصرُ منْ ينفَدَ في غيرِ المنافعِ ، والمالُ أقلُّ منْ أنْ يُصرف في غيرِ الصانع ، والعاقلُ أجلُّ منْ أنْ يُفني أيامه فيما لا يعودُ عليه نفعُه وخيرهُ ، ويُنفق أموالهُ فيما لا يحصُل له ثوابُه وأجْرُه .
وأبلغُ منْ ذلك قولُ عيس ابن مريم ، على نبينا وعليه السلامُ : البرُّ ثلاثةٌ : المنطقُ ، والنَّظرُ ، والصَّمتُ ، فمنْ كان منطقُه في غيرِ ذكرٍ فقد لغا، ومنْ كان نظرُه في غيْرِ اعتبارٍ فقدْ سها ، ومنْ كان صمْته في غيرِ فِكْرٍ فقد لها .
********************************************
اللهُ وليُّ الذين آمنُوا
العبدُ بحاجةٍ إلى إلهٍ ، وفي ضرورةٍ إلى مولىً ، ولابدَّ في الإلهِ من القُدرةِ والنُّصرةِ ، والحُكمِ ، والغنمِ ، والغناءِ والقوةِ ، والبقاءِ . والمُتَّصِفِ بذلك هو الواحدُ الأحدُ الملكُ المهيمنُ ، جلَّ في علاه .
فليس في الكائناتِ ما يسكُن العبدُ إليهِ ويطمئنُّ به ، ويتنعَّمُ بالتَّوجُّه إليه إلا اللهُ سبحانه ، فهو ملاذُ الخائفين ، ومعاذُ المُلجئِين ، وغوْثُ المستغيثين ، وجارُ المستجيرين : ? إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ? ، ? وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ ? ، ? لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ? ، ومنْ عبد غيْر اللهِ ، وإنْ أحبَّه وحصل له به مودَّةٌ في الحياةِ الدنيا ، ونوعٌ من اللَّذَّةِ – فهو مَفْسَدةٌ لصاحبه أعظمُ منْ مفسدةِ التذاذِ أكلِ الطعامِ المسمومِ ? لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ? فإنَّ قوامهُما بأنْ تألها الإله الحقَّ ، فلو كان فيهما آلهةٌ غيرُ اللهِ ، لم يكنْ إلهاً حقّاً ، إذ اللهُ لا سمِيّ له ولا مِثْل له ، فكانتْ تفسُد ، لانتفاء ما به صلاحُها ، هذا من جهة الإلهية . فعُلِم بالضرورة اضطرار العبدِ إلى إلهِهِ ومولاهُ وكافِيهِ وناصرِه ، وهو اتِّصالُ الفاني بالباقي ، والضعيفِ بالقويِّ ، والفقيرِ بالغنيِّ ، وكلُّ منْ لم يتَّخِذ الله ربّاً وإلهاً ، اتَّخذ غيره من الأشياءِ والصورِ والمحبوباتِ والمرغوباتِ ، فصار عبداً لها وخادماً ، لا محالة في ذلك : ? أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ? ، ?وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً ? . وفي الحديثِ : (( يا حُصيْنُ ، كم تعبدُ ؟ )) قال : أعبدُ سبعةً ، ستةً في الأرضِ ، وواحداً في السماءِ . قال : (( فمنْ لِرغبِك ولِرهبِك ؟ )) . قال : الذي في السماءِ . قال : (( فاترُكِ التي في الأرضِ ، واعبُدِ الذي في السماءِ )) .
واعلمْ أنَّ فقر العبدِ إلى اللهِ ، أنْ يعبد الله لا يُشركُ به شيئاً ، ليس له نظيرٌ فيُقاسُ به ، لكنْ يُشبِهُ – منْ بعضِ الوجوهِ – حاجة الجسدِ إلى الطعامِ والشرابِ ، وبينهما فروقٌ كثيرةٌ .
فإنَّ حقيقة العبدِ قلبُه ورُوحُه ، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها اللهِ الذي لا إله إلا هو ، فلا تطمئنَّ في الدنيا إلا بذكْرِه ، وهي كادحةٌ إليه كدْحاً فمُلاقيتُه ، ولابُدَّ لها منْ لقائِه ، ولا صلاح لها إلا بلقائِهِ .
ومنْ لقاء اللهِ قد أحبَّا
كان له اللهُ أشدَّ حُبّا
وعكسُه الكارِهُ فالله اسألْ
رحْمتهُ فضلاً ولا تتكِلْ
ولو حصل للعبد لذَّاتٌ أو سرورٌ بغيرِ اللهِ ، فلا يدومُ ذلك ، بلْ ينتقلُ منْ نوع إلى نوع ، ومنْ شخصٍ إلى شخصٍ ، ويتنعَّمُ بهذا في وقتٍ وفي بعض الأحوالِ ، وتارةً أُخرى يكون ذلك الذي يتنعَّمُ به ويلتذُّ ، غير منعّمٍ لهُ ولا ملتذٍّ له ، بلْ قد يُؤذيهِ اتّصالُه به ووجودُه عنده ، ويضرُّه ذلك .
وأمّا إلههُ فلابُدَّ لهُ منه في كلِّ حالٍ وكلِّ وقتِ ، وأينما كان فهو معه .
عساك ترضى وكلُّ الناسِ غاضبةٌ
إذا رضيت فهذا مُنتهى أملي(/109)
وفي الحديثِ : (( منْ أرضى الله بسخطِ الناسِ ، رضي الله عليه ، وأرضى عنه الناس . ومنْ أسخط الله برضا الناس ، سخِط اللهُ عليه وأسخط عليهِ الناس )) . ولا زلتُ أذكرُ قصَّة (العكوَّك ) الشاعرِ وقدْ مدح أبا دلفٍ الأمير فقال :
ولا مددْت يداً بالخيرِ واهِبةً
إلاَّ قضيت بأرزاقٍ وآجالِ
فسلَّط اللهُ عليهِ المأمون فَقَتَلَه على بساطِهِ بسببِ هذا البيت ? وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ? .
****************************************
إشاراتٌ في طريقِ الباحِثِين
للسعادةِ والفلاحِ علاماتٌ تلوحُ ، وإشاراتٌ تظهرُ ، وهي شهودٌ على رقيِّ صاحبها ، ونجاحِ حامِلها ، وفلاحِ منِ اتَّصف بها .
فمنْ علاماتِ السعادةِ والفلاحِ : أنَّ العبد كلَّما زاد وزُنه ونفاستُه ، غاص في قاعِ البحارِ ، فهو يعلمُ أنَّ العلم موهبةٌ راسخةٌ يمتحِنُ اللهُ بها منْ شاء ، فإنْ أحْسَنَ شُكَرَها ، وأحسن في قبُولِهِ ، رَفعهُ به درجاتٍ ? يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ? . وكلَّما زِيد في عملهِ ، زيد في خوفِهِ وحَذَرِه ، فهو لا يأمنُ عثرة القدمِ ، وزلَّة اللسانِ ، وتقلُّب القلبِ ، فهو في مُحاسبةٍ ومُراقبةٍ كالطائرِ الحذِر ، كلَّما وقع على شجرةٍ تركها لأخرى ، يخافُ مهارة القنَّاص ، وطائشة الرصاصِ . وكلَّما زيد في عمرِه ، نقص من حِرْصِهِ ويعلمُ علم اليقينِ أنَّهُ قدِ اقترب من المنتهى ، وقطع المرحلة ، وأشرف على وادي اليقين . وهو كلَّما زِيد في مالِه ، زيد في سخائِه وبذْلهِ ؛ لأنَّ المال عاريةٌ ، والواهب ممتحنٌ ، ومناسباتِ الإمكانِ فُرصٌ ، والموت بالمرصادِ . وهو كلَّما زيد في قدْرِه وجاهِه ، زيد في قُربِه من الناسِ وقضاءِ حوائجِهم والتَّواضُعِ لهم ؛ لأنَّ العباد عيالُ الله ، وأحبُّهم إلى اللهِ أنفعُهم لعيالِه .
وعلاماتُ الشقاوةِ : أنَّ كلَّما زيد في علمِهِ ، زيد في كِبْره وتيههِ ، فعلْمُه غيرُ نافعٍ ، وقلبُه خاوٍ ، وطبيعتُه ثخينةٌ ، وطينتُه سِباخٌ وعْرةٌ . وهو كَّلما زيد في عملِه ، زِيد في فخْره واحتقارِه للناس ، وحُسْنِ ظنَّه بنفسهِ . فهو الناجي وحده ، والباقون هلْكى ، وهو الضامنُ جواز المفازةِ ، والآخرون على شفا المتالِفِ . وهو كلَّما زِيد في عمرِه ، زيد في حِرصِهِ ، فهو جمُوعٌ منُوعٌ ، لا تُحرِّكهُ الحوادِثُ ، ولا تُزعزعُه المصائبُ ، ولا تُوقِظهُ القوارِعُ . وهو كلَّما زِيد في مالِه ، زيد في بُخلِه وإمساكِه ، فقلْبُه مقفرٌ من القِيم ، وكفُّه شحيحةٌ بالبذْلِ ، ووجهُه صفيقٌ عريَّ من المكارمِ . وهو كلَّما زيد في قدْرِه وجاهِه ، زيِد في كِبرِه وتيْهِه ، فهو مغرورٌ مدحورٌ ، طائشُ الإرادةِ منتفخُ الرِّئةِ ، مريشُ الجناحِ ، لكنَّه في النهايةِ لا شيء : (( يُحشر المتكبَّرون يوم القيامةِ في صورةِ الذَّرِّ ، يطؤهُمْ الناسُ بأقدامِهمْ )) . وهذهِ الأموُر ابتلاءٌ من اللهِ وامتحانٌ ، يَبْتَلي بها عباده فيسْعدُ بها أقوامٌ ، ويشقى بها آخرون .
****************************************
الكرامةُ ابتلاءٌ
وكذلك الكراماتُ امتحانٌ وابتلاءٌ ، كالمُلْكِ والسُّلطانِ والمالِ ، قال تعالى عنْ نبيِّه سليمان لمَّا رأى عِرش بلقيس عنده : ? هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ? ، فهو سبحانه يُسْدِي النعمة ليرى منْ قبِلها بقبُولٍ حسن ، وشكرها وحفظها ، وثمَّرها وانتفع ونفع بها ، ومنْ أهلها وعطَّلها ، وكفرهاً وصرفها في مُحاربةِ المعطي ، واستعان بها في مُحادّةِ الواهبِ جلِّ في عُلاهُ .
فالنِّعمُ ابتلاءٌ من اللهِ وامتحانٌ ، يظهرُ بها شُكْرُ الشكُورِ وكُفرُ الكفورِ . كما أنَّ المحنَ منهُ سبحانه ، فهو يبتلي بالنعمِ كما يبتلي بالمصائبِ قال تعالى : ? فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ{15} وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ{16} كَلَّا .... ? ، أي ليس كلُّ منْ وسَّعْتُ عليهِ وأكرمتُه ونعَّمتُه ، يكونُ ذلك إكراماً مني له ، ولا كلُّ منْ ضيَّقتُ عليهِ رزقه وابتليتُه ، يكونُ إهانةً مني له .
************************************
الكنوزُ الباقيةُ
إنَّ المواهب الجزيلة والعطايا الجليلة ، هي الكنوزُ الباقيةُ لأصحابها ، الراحلةُ معهمْ إلى دارِ المقامِ ، من الإسلامِ والإيمانِ والإحسانِ والبر والتقُّى والهجرةِ والجهادِ والتوبة والإنابةِ : ?لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ... ? إلى قولهِ تعالى : ? هُمُ الْمُتَّقُونَ ? .
**************************************
همَّةٌ تنطحُ الثُّريَّا(/110)
إذا أُعطي العبدُ همَّةً كبرى ، ارتحلتْ بهِ في دروبِ الفضائلِ ، وصعِدتْ بهِ في درجاتِ المعالي .
ومنْ سجايا الإسلامِ التَّحلِّي بكِبر الهمَّةِ ، وجلالةِ المقصودِ ، وسموِّ الهدفِ ، وعظمةِ الغايةِ . فالهمَّة هي مركزُ السالبِ والموجبِ في شخصِك ، الرقيبُ على جوارحِك ، وهي الوقودُ الحسِّيُّ والطاقةُ الملتهبةُ ، التي تمدُّ صاحبها بالوثوبِ إلى المعالي والمسابقةِ إلى المحامِدِ . وكِبَرُ الهمَّةِ يجلبُ لك . بإذن اللهِ خيْراً غير مجذوذٍ ، لترقى إلى درجاتِ الكمالِ ، فيُجْرِي في عروقِك دم الشهامةِ ، والركْضِ في ميدانِ العلمِ والعملِ . فلا يراك الناسُ واقفاً إلا على أبواب الفضائلِ ، ولا باسطاً يديْك إلا لمهمَّاتِ الأمورِ ، تُنافسُ الرُّوَّاد في الفضائلِ ، وتُزاحمُ السَّادة في المزايا ، لا ترضى بالدُّون ، ولا تقفُ في الأخيرِ ، ولا تقبلُ بالأقلِّ . وبالتحلِّي بالهِمَّةِ ، يُسلبُ منك سفساف الآمال والأعمالِ ، ويُجتثُّ منك شجرةُ الذُّلِّ والهوانِ ، والتملُّق ، والمداهنةِ ، فكبيرُ الهِمَّةُ ثابتُ الجأشِ ، لا تُرهبُه المواقفُ ، وفاقدُها جبانٌ رِعديدٌ ، تُغلقُ فمه الفهاهةُ .
ولا تغلطْ فتخْلِط بين كِبرِ الهمة والكِبْر ، فإن بينهما من الرْق كما بين السماء ذاتِ الرَّجعِ والأرضِ ذاتِ الصَّدْعِ ، فكِبرُ الهمَّةِ تاجٌ على مفْرِق القلبِ الحُرِّ المثالي ، يسعى به دائماً وأبداً إلى الطُّهرِ والقداسةِ والزِّيادة والفضلِ ، فكبيرُ الهمّةِ يتلمَّظُ على ما فاته من محاسن ، ويتحسَّرُ على ما فقده من مآثِر ، فهو في حنينٍ مستمرٍّ ، ونهمٍ دؤوبٍ للوصولِ إلى الغايةِ والنهايةِ .
كِبَرُ الهمَّةِ حِلْيةُ ورثةِ الأنبياءِ ، والكِبْرُ داءُ المرضى بعلَّة الجبابرةِ البؤساءِ .
فكِبرُ الهمَّةِ تصعَدُ بصاحبِها أبداً إلى الرُّقيِّ ، والكِبْرُ يهبطُ به دائماً إلى الحضيضِ . فيا طالب العلم ، ارسمْ لنفسك كِبر الهمّةِ ، ولا تنفلتْ منها وقد أومأ الشرعُ إليها في فقهيَّاتٍ تُلابس حياتك ، لتكون دائماً على يقظةٍ من اغتنامِها ، ومنها : إباحةُ التَّيمُّمِ للمكلَّفٍ عند فقْدِ الماءِ ، وعدمُ إلزامهِ بقبُولِ هِبةٍ ثمن الماءِ للوضوءِ ، لما في ذلك من المنَّةِ التي تنالُ من الهمَّة منالاً ، وعلى هذا فقيِسْ .
فالله الله في الاهتمامِ بالهمَّةِ ، وسلِّ سيفِها في غمراتِ الحياةِ :
هو الجِدّث حتى تفضُل العينُ أختها
وحتَّى يكون اليومُ لليومِ سيِّدا
***************************************
قراءة العقول
ممَّا يشرح الخاطر ويسُرُّ النَّفْس ، القراءةُ والتأمُّلُ في عقولِ الأذكياءِ وأهلِ الفِطنةِ ، فإنَّها متعةٌ يسلو بها المُطالعِ لتلك الإشراقاتِ البديعةِ من أولئك الفطناءِ . وسيِّدُ العارفين وخيرةُ العالمين ، رسولُنا ( ، ولا يُقاسُ عليهِ بقيّةُ الناسِ ، لأنهُ مؤيَّدٌ بالوحْي ، مصدَّقٌ بالمعجزاتِ ، مبعوثٌ بالآياتِ البيِّناتِ ، وهذا فوق ذكاءِ الأذكياء ولمُوع الأدباءِ .
***********************************
? وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ?
قال أبقراطُ : « الإقلالُ من الضَّارّ ، خيرٌ من الإكثارِ من النافعِ » . وقال : « استديموا الصِّحَّة بترْكِ التَّكاسُلِ عن التعبِ ، وبتركِ الامتلاءِ من الطعامِ والشرابِ » .
وقال بعضُ الحكماءِ : « من أراد الصحة : فليُجوِّد الغداء ، وليأكُلْ على نفاءٍ ، وليشربْ على ظماءٍ ، وليُقلِّلْ من شُربِ الماءِ ، ويتمدَّدْ بعد الغداءِ ، ويتمشَّ بعد العشاءِ ، ولا ينمْ حتى يعرض نفسهُ على الخلاءِ ، وليحْذرْ دخول الحمَّامِ عقيِب الامتلاء ، ومرَّةٌ في الصيفِ خيرٌ من عشرٍ في الشتاءِ » .
وقال الحارثُ : « من سرَّه البقاءُ – ولا بقاء – فليُباكِرِ الغداءَ ، وليُعجِّلِ العشاء ، ولُخفِّفِ الرِّداء ، وليُقلَّ غِشيان النساءِ » .
وقال أفلاطون : « خمسٌ يُذبْن البَدنَ ، وربما قَتَلْنَ : قِصَرُ ذاتِ اليدِ ، وفراقُ الأحبَّةِ ، وتجرُّعُ المغايظِ ، وردُّ النُّصح ، وضحِكُ ذوي الجهلِ بالعقلاءِ » .
ومن جوامعِ كلماتِ أبقراط قولهُ : « كلُّ كثيرٍ ، فهو مُعادٍ للطبيعةِ » .
وقيل لجالينوس : ما لك لا تمرضُ ؟ فقال : « لأني لم أجمعْ بين طعاميْنِ رديئينِ ، ولم أُدخِل طعاماً على طعامٍ ، ولم أحبِسْ في المعدةِ طعاماً تأذَّيتُ منه » .(/111)
وأربعةُ أشياء تُمرضُ الجسْم : الكلامُ الكثيرُ ، والنومُ الكثيرُ ، والأكلُ الكثيرُ ، والجماعُ الكثيرُ . فالكلامُ الكثيرُ : يقلِّل مُخَّ الدِّماغِ ويُضعفُه ، ويعجِّلُ الشَّيْب . والنومُ الكثيرُ : يصفِّرُ الوجه ، ويُعمي القلب ، ويُهيِّجُ العين ، ويُكسلُ عن العملِ ، ويولِّدُ الغليظة ، والأدواء العسِرة . والجماعُ الكثيرُ : يَهُدُّ الَبَدنَ ، ويُضعفُ القُوى ، ويُجفِّفُ رُطُوبات البدنِ ، ويُرخي العصبَ ، ويُورثُ السُّدَدَ ، ويعُمُّ ضررُهُ جميع البدنِ ، ونخفضُّ الدِّماغ لكثْرةِ ما يتحلَّلُ منهُ من الرُّوحِ النَّفساني . ولإضعافُهُ أكثر من إضعافِ جميعِ المستفرغاتِ ، ويستفرِغ من جوهرِ الرُّوحِ شيئاً كثيراً .
أربعةٌ تهدم البدن : الهمُّ ، والحزنُ ، والجوعُ ، والسَّهرُ .
وأربعة تُفرحُ : النَّظرُ إلى الخُضرةِ ، وإلى الماءِ الجاري ، والمحبوبِ ، والثمارِ .
وأربعة تُظلِم البصر : المشْيُ حافياً ، والتَّصبُّحُ والإمساءُ بوجهِ البغيضِ والثقيلِ والعدوُ ، وكثْرةُ البُكاءِ ، وكثرةًُ النَّظرِ في الخطِّ الدِّقيقِ .
وأربعةٌ تقوِّي الجسم : لُبْسُ الناعمِ ، ودخولِ الحمَّامِ المعتدلِ ، وأكلُ الطعامِ الحلوِ والدَّسمِ ، وشمُّ الروائحِ الطيَّبةِ .
وأربعةٌ تُيبِّس الوجه، وتُذهبُ ماءه وبهجتهُ وطلاقَتَهُ : الكذِبُ ، والوقاحةُ ، وكثْرةُ السؤالِ عن غيرِ علمٍ ، وكثْرةُ الفجورِ .
وأربعةٌ تزيدُ في ماءِ الوجه وبهجتِه : المروءةُ ، والوفُاء ، والكرمُ ، والتقوى .
وأربعةٌ تجلبُ البغضاء والمقْتَ : الكِبْرُ ، والحسدُ ، والكَذِبُ ، والنَّميمةُ .
وأربعةٌ تجلبُ الرزق : قيامُ الليلِ ، وكثْرةُ الاستغفارِ بالأسحارِ ، وتعاهُدُ الصدقةِ ، والذِّكْر أول النهارِ وآخِره .
وأربعةٌ تمنعُ الرزق : نومُ الصُّبحة ، وقلِّةُ الصلاةِ ، والكسلُ ، والخيانةُ .
وأربعةٌ تُضرُّ بالفهمِ والذهنِ : إدمانُ أكْلِ الحامضِ والفواكهِ ، والنومُ على القفا ، والهمُّ ، والغمُّ .
وأربعةٌ تزيدُ في الفهم : فراغُ القلبِ ، وقلَّةُ التَّملِّي من الطعام والشرابِ ، وحُسْنِ تدبيرِ الغذاءِ بالأشياءِ الحُلوةِ والدَّسِمةِ ، وإخراجُ الفضلاتِ المثقِّلةِ للبَدنِ .
**************************************
خُذُوا حِذْركمْ
فالحازم يتوقَّفُ حتى يرى ويبصر ، ويترقَّب ، ويتأمَّل ، ويُعيدَ النظر ، ويقرأ العواقب ، ويقدِّر الخطواتِ ، ويُبرم الرأي ، ويحتاط ويَحْذر ، لئلاَّ يندم ، فإن وقع الأمرُ على ما أراد ، حَمِدَ الله ، وشكر رأيه ، وإن كانتِ الأُخرى ، قال : قدرَّ اللهُ ، وما شاء فَعَلَ . ورضي ولم يحزنْ .
*******************************************
فتبيَّنُوا
فالعاقلُ ثابتُ القدمِ ، سديدُ الرَّأْي ، إذا هجمتْ عليهِ الأخبارُ ، وأشكلتِ المسائلُ ، فلا يأخُذُ بالبوادِر ، ولا يتعجَّل الحُكم ، وإنما يُمحِّصُ ما يسمعُ ، ويقلِّبُ النظر ، ويُحادثُ الفكر ، ويُشاوِرُ العقلاء ، فإنَّ الرَّأْي الخمير ، خيرٌ من الرأي الفطيرِ . وقالوا : لأن تُخطئ في العفوِ ، خيرٌ منْ أنْ تخطئ في العقوبةِ ? فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ? .
*****************************************
اعزمْ وأقْدِمْ
إنَّ كلَّ ما أكتبُه هنا منْ آياتٍ وأبياتٍ ، وأثرٍ وعِبر ، وقصصٍ وحِكم ، تدعوك بأنْ تبدأ حياةً جديدةً ، مِلْؤُها الرجاءُ في حُسْنِ العاقبةِ ، وجميلِ الختامِ ، وأفضلِ النتائجِ . ولا تستطيعُ أن تستفيد إلا بهمَّةٍ صادقةٍ ، وعزمٍ حثيثٍ ، ورغبةٍ أكيدةٍ في أن تتخلَّص منْ همومِك وغمومك وأحزانِك وكآبتِك . قيل لأحدِ العلماءِ : كيف يتوبُ العبدُ ؟ قال : لابُدَّ له منْ سوْطِ عَزْمٍ . ولذلك ميَّز اللهُ أُولي العزمِ بالهِممِ ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ? . وآدمُ ليس من أُولي العَزْمِ ، لأنه ?فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً?، وكذلك أبناؤه ، فهي شِنْشِنَةٌ نعرفُها مِنْ أخْزمِ، ومنْ يُشابِه أباه فما ظلَمَ ، لكن لا تقْتدِ به في الذنبِ ، وتُخالِفْه في التوبةِ. واللهُ المستعانُ .
***********************************
ليستْ حياتُنا الدنيا فحسْب
سعادةُ الآخرةِ مرهونةٌ بسعادةِ الدنيا ، وحقٌّ على العاقِل أن يعلم أنَّ هذه الحياة متَّصلة بتلك ، وأنها حياة واحدةُ ، الغيب والشهادةُ ، والدنيا والآخرة ، واليومُ وغدٌ . وظنَّ بعضُهم أنَّ حياته هنا فحسْب ، فجمع فأوعى ، وتشبَّث بالبقاءِ ، وتعلَّق بحياةِ الفناء ، ثم مات ومآرُبه وطموحاتُه ومشاغلُه في صدرِه .
نروحُ ونغدو لحاجاتِنا
وحاجةُ منْ عاش لا تنقضي
تموت مع المرِ حاجاتهُ
وتبْقى له حاجةٌ ما بقِي
أشاب الصغير وأفني الكبيـ
ـرُّ الغداةِ ومرُّ العشِي
إذا ليلةٌ أهرمت يومها
أتى بعد ذلك يومٌ فتِي(/112)
وعجبتُ لنفسي والناسِ من حولي : آمالٌ بعيدةٌ ، وأحلامٌ مديدةٌ وطموحاتٌ عارمةٌ ، ونوايا في البقاءِ ، وتطلَّعاتٌ مُذهلةٌ ، ثم يذهبُ الواحدُ منّا ولا يُشاورُ أو يُخبرُ أو يُخبَّرُ ? وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ? .
وأنا أعرضُ عليك ثلاث حقائق :
الأولى : متى تظنُّ أنك سوف تهدأُ وترتاحُ وتطمئنُّ ، إذا لم ترض عن ربَّك وعنْ أحكامِه وأفعالِه وقضائِه وقدرِه ، ولم ترض عنْ رزقِك ، ومواهبِك وما عندك!
الثانية : هلْ شكرت على ما عندك من النِّعم والأيادي والخبرات حتى تطلب غيرها ، وتسأل سواها ؟! إنَّ منْ عَجَزَ عن القليلِ ، أوْلى أن يعجز عن الكثير .
الثالثة : لماذا لا نستفيدُ من مواهبِ اللهِ التي وهبنا وأعطانا، فنثمِّرُها، وننمِّيها، ونوظِّفُها توظيفاً حسناً ، وننقيها من المثالبِ والشَّوائبِ ، وننطلقُ بها في هذه الحياةِ نفعاً وعطاءً وتأثيراً .
إن الصِّفاتِ الحميدة والمواهب الجليلة ، كامنةٌ في عقولِنا وأجسامِنا ، ولكنَّها عند الكثير منّا كالمعادنِ الثمينةِ في التُّرابِ ، مدفونةٌ مغمورةٌ مطمورةٌ ، لم تجِد حاذقاً يُخرِجُها من الطينِ ، فيغسلُها وينقِّيها ، لتلمع وتشعَّ وتُعرف مكانتُها .
***************************************
التَّوارِي من البطْش حلٌّ مؤقَّتٌ ريثما يبرُقُ الفرجُ
قرأتُ كتاب ( المتوارين ) لعبدِ الغني الأزديِّ ، وهو لطيفٌ جذَّاب ، يتحدَّث فيه عمَّن توارى خوفاً من الحجاجِ بن يوسف ، فعلمتُ أنَّ في الحياةِ فسحةً ، وفي الشَّرِّ خياراً ، وعنِ المكروهِ مندوحةً أحياناً .
وذكرتُ بيتينِ للأبيورديِّ عن تواريهِ ، يقولُ :
تستَّرْتُ مِن دهري بظِلِّ جناحِهِ
فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسألِ الأيام عنُي ما دَرَتْ
وأين مكاني ما عرفت مكاني
هذا القارئُ الأديبُ اللامعُ الفصيحُ الصَّادِقُ ، أبو عمرو بنُ العلاءِ ، يقولُ عن مُعاناتِه في حالة الاختبار : « أخافني الحجَّاجُ فهربتُ إلى اليمن ، فولجتُ في بيتٍ بصنعاء ، فكنتُ من الغدواتِ على سطحِ ذلك البيتِ ، إذْ سمعتُ رجلاً يُنشدُ:
رُبَّما تجزعُ النُّفوسُ من الأمـ
ـرِ لهُ فُرْجَةٌ كحلِّ العِقالِ
قال : فقلتُ : فُرْجةٌ . قال : فسُررتُ بها . قال : وقالَ آخرَ : مات الحجّاجُ . قال : فواللهِ ما أدري بأيِّهما كنتُ أُسَرُّ ، بقولهِ : فرْجةٌ . أو بقولِه : مات الحجّاجُ » .
إنَّ القرار الوحيد النافذ ، عند من بيده ملكوتُ السماواتِ والأرضِ ? كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ? .
توارى الحسنُ البصريُّ عنِ عين الحجَّاج ، فجاءه الخبرُ بموتِهِ ، فسجد شكراً اللهِ .
سبحان اللهِ الذي مايز بين خلْقِه ، بعضُهم يموتُ ، فيُسجدُ غيْرُهُ للشُّكر فرحاً وسروراً ? فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ? . وآخرون يموتون ، فتتحوَّلُ البيوتُ إلى مآتِم ، وتقرحُ الأجفانُ ، وتُطعنُ بموتهم القلوبُ في سويدائِها .
وتوارى إبراهيمُ النَّخعِيُّ من الحجَّاج ، فجاءه الخبرُ بموتِهِ ، فبكى إبراهيمُ فرحاً .
طفح السرورُ عليَّ حتى إنني
منْ عظمِ ما قد سرَّني أبكاني
إنَّ هناك ملاذاتٍ آمنة للخائفين في كَنَف أرحمِ الراحمين ، فهو يرى ويسمعُ ويُبصرُ الظالمين والمظلومين ، والغالبين والمغلوبين ? وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ? .
ذكرتُ بهذا طائراً يسمَّى الحُمَّرة ، جاءت تُرفرفُ على رسولِ الله ( ، وهو جالسٌ مع أصحابِه تحت شجرةٍ ، كأنها بلسانِ الحالِ تشكو رجلاًَ أخذ أفراخها منْ عشِّها ، فقال ( : (( منْ فجع هذه بأفراخِها ؟ رُدُّوا عليها أفراخها )) .
وفي مثل هذا يقولُ أحدُهم :
جاءتْ إليك حمامةٌ مُشتاقةٌ
تشكو إليك بقلبِ صبِّ واجفِ
منْ أخبر الورْقاء أنَّ مكانكم
حَرَمٌ وأنَّك ملجأٌ للخائِفِ
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ : واللهِ لقد فررتُ من الحجَّاج ، حتى استحييتُ من اللهِ عزَّ وجلَّ . ثم جيءَ به إلى الحجّاج ، فلمَّا سُلَّ السيفُ على رأسِه ، تبسَّم . قال الحجاجُ : لِم تبتسمُ ؟ قال : أعجبُ منْ جُرأتك على اللهِ ، ومن حِلْمِ الله عليك . يا لها من نفْسٍ كبيرةٍ ، ومن ثقةٍ في وعدِ اللهِ ، وسكونٍ إلى حُسْنِ المصيرِ ، وطِيبِ المُنقلَب . وهكذا فليكُنِ الإيمانُ .
**************************************
أنت تتعاملُ مع أرحمِ الراحمين
إن لفت نَظَرَك هذا الحديثُ ، فقد لفت نظري أيضاً ، وهو ما رواه أحمد وأبو يعلى والبزارُ والطبرانيُّ ، أنَّ شيخاً كبيراً أتى النبي ( وهو مُدَّعِمٌ على عصا ، فقال : يا نبيَّ اللهِ ، إنَّ لي غدراتٍ وفجراتِ ، فهل يُغفرُ لي ؟ فقال النبي ( : (( تشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وأنَّ محمداً رسول الله ؟)) قال : نعمْ يا رسول اللهِ . قال : (( فإن الله قد غفر لك غدراتِك وفجراتِك)) . فانطلق وهو يقول : اللهُ أكبرُ ، اللهُ أكبرُ .(/113)
أفهمُ من الحديث مسائل : منها سعةُ رحمةِ أرحمِ الراحمين ، وأنَّ الإسلام يهدمُ ما قبله ، وأن التوبة تجبُّ ما قبلها ، وأن جبال الذنوب في غفرانِ علاّم الغيوب لاشيءٌ ، وأنه يجبُ عليك حُسْنُ الظَّنِّ بمولاك ، والرجاءُ في كرمِه العميمِ ، ورحمتِه الواسعةِ .
*******************************
براهينُ تدعوك للتفاؤلِ
في كتابِ « حُسْنِ الظَّنّ باللهِ » لابن أبي الدنيا ، واحدٌ وخمسون ومائة نصٍّ ، ما بين آيةٍ وحديث ، كلُّها تدعوك إلى التفاؤلِ ، وترْكِ اليأسِ والقنوطِ ، والمُثابرَة على حُسْنِ الظَّنِّ وحُسْنِ العَمَلِ ، حتى إنك لتجدُ نصوصَ الوعدِ أعْظَمَ منْ نصوصِ الوعيدِ ، وأدلَّةَ التهديدِ ، وقد جعل اللهُ لكلِّ شيءٍ قدراً .
***************************************
حياةٌ كلُّها تعبٌ
لا تحزنْ منْ كدرِ الحياةِ ، فإنها هكذا خُلقتْ .
إنَّ الأصل في هذه الحياة المتاعبُ والضَّنى ، والسرورُ فيها أمرٌ طارئٌ ، والفرحُ فيها شيءٌ نادرٌ . تحلو لهذه الدارِ واللهُ لم يرْضها لأوليائِه مستقرَّا ؟!
ولولا أنَّ الدنيا دارُ ابتلاءٍ ، لم تكُنْ فيها الأمراضُ والأكدارُ ، ولم يضِقِ العيشُ فيها على الأنبياء والأخبار ، فآدمُ يُعاني المِحن إلى أن خرج من الدنيا ، ونوحٌ كذَّبهُ قومُه واستهزؤُوا به ، ولإبراهيمُ يُكابِدُ النار وذَبْحَ الولد ، ويعقوبُ بكى حتى ذهب بصرُه ، وموسى يُقاسي ظُلم فرعون ، ويلقى من قومه المِحنَ ، وعيسى بنُ مريم عاش معدماً فقيراً ، ومحمدٌ ( يُصابِرُ الفقْر ، وقتلِ عمِّهِ حمزة ، وهو منْ أحبِّ أقاربِه إليه ، ونفورِ قومِهِ منهُ . وغير هؤلاء من الأنبياءِ والأولياءِ مما يطُول ذِكْرُهُ . ولو خُلقتِ الدنيا لِلَّذَّةِ ، لم يكنْ للمؤمنِ حظٌّ منها . وقال النبي ( : (( الدنيا سجنُ المؤمنِ ، وجنَّةُ الكافرِ )) . وفي الدنيا سُجِن الصّالحون، وابتُلي العلماءُ العاملون ، ونغِّص على كبارِ الأولياءِ . وكدّرتْ مشارِبُ الصادِقِين.
*******************************
وقفة
عن زيدِ بنِ ثابتٍ – رضي اللهُ عنه – قال : سمعتُ رسول اللهِ ( يقولُ : ((منْ كانتِ الدنيا همَّةُ ، فرَّق اللهُ عليهِ أمرهُ ، وجعل فقرهُ بين عينيْه ، ولم يأتِهِ منَ الدنيا إلا ما كُتب له. ومنْ كانتِ الآخرةُ نِيَّتهُ، جمع اللهُ له أمرهُ ، وجعل غناهُ في قلبِهِ ، وأتتْه الدنيا وهي راغمةٌ)).
وعنْ عبدِالله بن مسعودٍ – رضي اللهُ عنه – قال : سمعتُ نبيَّكم ( يقولُ : (( منْ جعل الهموم هماً واحداً ، وهمَّ آخرته ، كَفَاهُ اللهُ همَّ دنياه ، ومنْ تشعبَّتْ به الهُمُومُ في أحوالِ الدُّنيا ، لم يُبالِ اللهُ في أيِّ أَوْدِيتِها هَلَكَ )) .
قال الكاتبُ المعروفُ بـ « الببْغاء » :
تنكَّبْ مذْهبَ الهمجِ
وعُذْ بالصبرِ تبْتَهِجِ
فإنَّ مُظلمَ الأيَّا
م محجوجٌ بلا حُججِ
تُسامحُنا بلا شُكرٍ
وتمْنَعُنا بلا حرجِ
ولُطفُ الله في إتيا
نهِ فتْحٌ مِن اللّججِ
فمِنْ ضِيقٍ إلى سعةٍ
ومِنْ غمٍّ إلى فرجِ
*****************************************
الوَسَطِيَّةُ نجاةٌ من الهلاك
تمامُ السعادة مبنيٌّ على ثلاثةِ أشياء :
اعتدالِ الغضبِ .
اعتدالِ الشهوةِ .
اعتدالِ العِلْمِ .
فيحتاجُ أن يكون أمرُها متوسِّطاً ، لئلاَّ تزيد قوةُ الشهوةِ ، فتُخرِجه إلى الرُّخصِ فيهلِك ، أو تزيدُ قوةُ الغضبِ ، فيخرُج إلى الجموحِ فيهلك . (( وخيرُ الأمورِ أوسطُها )) .
فإذا توسَّطتِ القُوَّتانِ بإشارة قوَّةِ العِلْمِ ، دلَّ على طريقِ الهدايةِ . وكذلك الغضبُ : إذا زاد ، سهُل عليهِ الضرْبُ والقتلُ ، وإذا نقص ، ذهبتِ الغيرةُ والحميَّةُ في الدينِ والدنيا ، وإذا توسَّط ، كان الصبرُ والشجاعةُ والحِكْمةُ . وكذلك الشهوةُ : إذا زادتْ ، كان الفِسْقُ والفجورُ ، وإنْ نقصتْ ، كان العَجْزُ والفتورُ ، وإن توسَّطتْ ، كانتِ العفةُ والقناعةُ وأمثالُ ذلك . وفي الحديثِ (( عليكم هدْياً قاصِداً )) ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً?
*************************************
المرءُ بصِفاتِهِ الغالِبة
منْ سعادتِك أنْ تغْلِب صفاتُ الخيرِ فيك صفاتِ الذَّمِّ ، فيُساقُ إليك الثناءُ حتى على شيءٍ ليس فيك ، ولم يقْبَلِ الناسُ فيك ذمّا ولو كان صحيحاً ، لأنَّ الماء إذا بلغ قُلَّتين لم يحملِ الخبث . إنَّ الجبل لا يزيدُ فيه حجرٌ ولا ينقصهُ حَجَرٌ .
طالعتُ هجوماً مقذعاً في قيسِ بن عاصم حليمِ العربِ ، وفي البرامكةِ الكرماء ، وفي قُتيْبة بن مسلمٍ القائدِ الشهيرِ ، ووجدت أنَّ هذا الشتْم والهجْو ، لم يُحفظْ ولم يُنقلْ ولم يُصدِّقْه أحدٌ ، لأنه سقط في بحرِ المحاسنِ فغرق ، ووجدتُ على الضِّدِّ منْ ذلك مدْحاً وثناءً في الحجَّاج ، وفي أبي مسلمٍ الخراساني ، وفي الحاكم بأمر الله العُبيْدِي ، ولكنَّه لم يُحفظْ ولم يُنقلْ ولم يُصدِّقه أحدٌ ، لأنه ضاع في ركامِ زيفِهم وظلمِهم وتهوًّرِهم ، فسبحان العادلِ بين خلْقِهِ .(/114)
*****************************************
هكذا خُلِقت
في الحديث : (( كلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِق له )) . فلماذا تُعْسفُ المواهبُ ويُلْوى عنقُ الصِّفاتِ والقدراتِ لَيَّا ؟! إن الله إذا أراد شيئاً هيَّأ أسبابه ، وما هناك أتْعَسُ نفْساً وأنْكدُ خاطراً من الذي يريدُ أنْ يكون غَيْرَ نَفْسِه ، والذكيُّ الأريبُ هو الذي يدرسُ نفسهُ ، ويسدُّ الفراغ الذي وُضع له ، إن كان في السَّاقةِ كان في السَّاقةِ ، وإنْ كان في الحراسةِ كان في الحراسةِ ، هذا سيبويه شيخُ النَّحْوِ ، تعلَّم الحديث فأعياهُ ، وتبلَّد حسُّهُ فيع ، فتعلَّم النحو ، فَمَهَرَ فيه وأتى بالعَجَب العُجاب . يقولُ أحدُ الحكماءِ : الذي يريدُ عملاً ليس منْ شأنِهِ ، كالذي يزرعُ النَّخْل في غوطةِ دمشق ، ويزرعُ الأتْرُجَّ في الحجازِ .
حسانُ بنُ ثابتٍ لا يُجيدُ الأذان ، لأنهُ ليس بلالاً ، وخالدُ بنُ الوليد لا يقسمُ المواريث ، لأنه ليس زيد بن ثابتٍ ، وعلماءُ التربيةِ يقولون : حدِّدْ موقِعَكَ .
*********************************
لابُدَّ للذَّكاء مِن زكاء
سمعتُ إذاعة لندن تُخبرُ عنْ محاولةِ اغتيالِ الكاتب نجيبِ محفوظٍ ، الحائزِ على جائزةِ نوبل في الأدبِ ، وعدتُ بذاكراتي إلى كتبٍ له كنتُ قرأتُها مْن قبْلُ ، وعجبتُ لهذا الذَّكيِّ ، كيف فاتهُ أنَّ الحقيقة أعظمُ من الخيالِ ، وأنَّ الخلود أجلُّ من الفناءِ ، وأن المبدأ الرَّبّانيَّ السَّماويَّ أسْمى من المبدأِ البشريِّ ? أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى ? . بمعنى أنهُ كتب مسرحياتٍ منْ نسْج خيالِهِ ، مُستخدمِاً قدراتِه القويَّة في التصويرِ والعرضِ والإثارةِ ، والنهايةُ أنها أخبارٌ لا صحَّة لها .
لقد استفدتُ من قراءةِ حياتِه مسألةً كبرى ، وهي أنَّ السعادة ليستْ سعاد الآخرين على حسابِ سعادتِك وراحتِك ، فليس بصحيحٍ أن يُسرَّ بك الناسُ وأنت في همٍّ وغمٍّ وحزنٍ ، إنَّ بعض الكُتاَّابِ يمدحُ بعض المُبدعِين ، ويصفُه بأنه يحترقُ ليُضيء للناس ، والمنهجُ السَّويُّ الثابتُ هو الذي يجعلُ المبدع يُضيءُ في نفْسِه ويضيءُ للناسِ ، ويعمرُ نفسه بالخيرِ والهدى والرُّشدِ ، ليعمر قلوب الناسِ بذلك .
وبعد هذا ، فماذا ينفعُ الإنسان لو حاز على مُلكِ كسرى وقلبُه بالباطلِ مكسورٌ ، وحصل على سلطانِ قيصر وأملُه عن الخيْرِ مقصورُ ؟! إنَّ الموهبةَ إذا لم تكنْ سبباً في النجاةِ ، فما نفعُها وما ثمرتُها ؟!
*****************************************
كُنْ جميلاً تَرَ الوجود جميلاً
إنَّ منْ تمامِ سعادتِنا أنْ نتمتَّع بمباهج الحياةِ في حدودِ منطقِ الشرعِ المقدّسِ ، فاللهُ أنبت حدائق ذات بهجةٍ ، لأنهُ جميلُ يحبُ الجمالَ ، ولتقرأُآياِ الوحدانية في هذا الصُّنع البهيج ? هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ? .
فالرائحةُ الزَّكيةُ والمطعمُ الشهيُّ والمنظرُ البهيُّ ، تزيدُ الصَّدْرَ انشراحاً والرُّوح فرحاً ?كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً ? . وفي الحديث : (( حُبِّب إليَّ من دنياكمْ : الطَّيبُ ، والنساءُ ، وجُعِلتْ قُرَّةُ عيني في الصلاةِ )) .
إنَّ الزهدَ القاتِم والورع المُظلِم ، الذي دلف علينا منْ مناهج أرضيَّةٍ ، قدْ شوَّه مباهج الحياةِ عند كثيرٍ مِنَّا ، فعاشُوا حياتهم همَّا وغمَّا وجوعاً وسهراً وتبتُّلاً ، بقولُ رسولُنا ( : (( لكنَّي أصومُ وأُفطرُ ، وأقومُ وأفترُ ، وأتزوَّجُ النساء ، وآكُلُ اللحم ، فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني )) .
وإنْ تعجبْ ، فعجبٌ ما فعلهُ بعضُ الطوائفِ بأنفسهمْ ! فهذا لا يأكلُ الرّطب ، وذاك لا يضحكُ ، وآخرُ لا يشربُ الماء البارد ، وكأنهم ما علمُوا أنَّ هذا تعذيبٌ للنفسِ وطمْسٌ لإشراقها ? قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ? .
إنَّ رسولنا ( أكل العسل وهو أزْهدُ الناسِ في الدنيا ، واللهُ خلق العسل ليُؤكل : ?يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ ? . وتزوَّج الثَّيِّباتِ والأبكار : ?فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ? . ولبِس أجمل الثيابِ في مناسباتِ الأعيادِ وغيرِها : ? خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ? . فهو ( يجمعُ بين حقِّ الرُّوحِ وحقِّ الجسدِ ، وسعادةِ الدنيا والآخرةِ ، لأنه بُعث بدينِ الفطرةِ التي فطرَ اللهُ الناس عليها .
**************************************
أبشِرْ بالفَرَج القريبِ(/115)
يقولُ بعضُ مؤلِّفي عصرنا : إنَّ الشدائد – مهما تعاظمتْ وامتدَّتْ . لا تدومُ على أصحابِها ، ولا تخلَّدُ على مصابِها ، بل إنها أقوى ما تكونُ اشتداداً وامتداداً واسوداداً ، أقربُ ما تكونُ انقشاعاً وانفراجاً وانبلاجاً ، عن يُسْرٍ وملاءةٍ، وفرجٍ وهناءةٍ ، وحياةٍ رخيَّةٍ مشرقةٍ وضَّاءةٍ ، فيأتي العونُ من اللهِ والإحسانُ عند ذروةِ الشِّدَّةِ والامتحانِ ، وهكذا نهايةُ كلِّ ليلٍ غاسِق ، فجرٌ صادِقٌ .
فما هي إلا ساعةٌ ثُمَّ تنْقضي
ويَحْمَدُ غِبَّ السَّيْرِ منْ هو سائرُ
***********************************
أنتَ أرْفَعُ مِنَ الأحقاد
أسعدُ الناس حالاً وأشرحُهم صدْراً ، هو الذي يريدُ الآخرة ، فلا يحسُدُ الناس على ما آتاهم اللهُ منْ فضْلِهِ ، وإنما عنده رسالةٌ من الخيرِ ومُثُلٌ ساميةٌ من البِرِّ والإحسانِ ، يريدُ إيصال نفْعِه إلى الناسِ ، فإنْ لم يستطعْ ، كفَّ عنهم أذاه . وانظرْ إلى ابنِ عباسٍ بحْرِ العلمِ وترْجُمانِ القرآنِ ، كيف استطاع بخُلُقه الجمِّ وسخاوةِ نفسِه مساراتِه الشرعّةِ ، أنْ يحوِّل أعداءهُ منْ بني أُميَّةَ وبني مروان ومنْ شايعهم إلى أصدقاء ، فانتفع الناسُ بعلْمِه وفهْمه ، فملأ المجامع فِقهاً وذكراً وتفسيراً وخيْراً . لقد نسي ابنُ عباسٍ أيام الجمَلِ وصِفِّين ، وما قبلها وما بعدها ، وانطلق يبني ويُصلحُ ، ويرتُقُ الفتْقَ ، ويسمحُ الجراح ، فأحبَّهُ الجميعُ ، وأصبح – بحقٍّ حبْرَ الأمةِ المحمديةِ . وهذا ابنُ الزبيرِ – رضي اللهُ عنه - ، وهو منْ هو في كرمِ أصلِهِ وشهامِته وعبادتِه وسموِّ قدرِه ، فضَّل المُوجَهةَ مجتهداً في ذلك ، فكان من النتائجِ أن شُغِلَ عن الرِّوايةِ ، وخسِر جمْعاً كثيراً من المسلمين ، ثمَّ حصلتِ الواقعةُ فضُرِبتِ الكعبةُ لأجل مُجاوَرَتِه في الحرمِ ، وذُبِح كثيرُ من الناسِ ، وقُتِل هو ثمَّ صُلِب ? وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً ? . وليس هذا تنقُّصاً للقومِ ، ولا تطاوُلاً على مكانتِهم ، وإنما هي دراسةٌ تاريخيَّة تجمعُ العِبَرَ والعِظاتِ . إنَّ الرِّفق واللِّين والصَّفح والعفْو ، صفاتٌ لا يجمعُها إلاَّ القِلَّةُ القليلةُ من البشرِ ، لأنها تُكلِّفُ الإنسان هضْم نفْسِه ، وكبْح طموحِه ، وإلجام اندفاعِه وتطلّعِه .
***********************************
وقفة
« قولهُ ( : (( تعرَّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ ، يعرفك في الشِّدَّة )) يعنى أنَّ العبد إذا اتَّقى الله وحفظ حدودهُ ، وراعى حقوقهُ في حالِ رخائِه ، فقد تعرَّف بذلك إلى اللهِ ، وصار بينه وبين ربِّه معرفةٌ خاصَّةٌ ، فمعرفهُ ربُّه في الشِّدَّةِ ورعى له تعرُّفهُ إليه في الرخاءِ ، فنجَّاهُ من الشدائدِ بهذِه المعرفة ، وهذه معرِفة خاصَّةٌ ، تقتضي قُرب العبدِ من ربِّهْ ومحبَّته له وإجابتهُ لدعائِه » .
« الصبرُ إذا قام به العبد كما ينبغي ، انقلبتْ المِحنةُ في حقِّه مِنْحةً ، واستحالتِ البليَّة عطيَّة ، وصار المكروهُ محبوباً ، فإنَّ الله سبحانه وتعالى لم يبْتلِهِ عطيَّة ، وصار المكروهُ محبوباً ، فإنَّ الله تعالى على العبدِ عبوديَّةً في الضَّراءِ ، كما له عبوديَّةٌ في السَّرَّاءِ ، وله عبوديَّةٌ عليه فيما يحبُّونه ، والشأنُ في إعطاءِ العبوديَّةِ في المكارِهِ ، ففيه تفاوتُ مراتبِ العبادِ ، وبحسبِه كانتْ منازلُهم عند اللهِ تعالى » .
******************************************
العِلْمُ مِفتاحُ اليُسْرِ
العِلْمُ واليُسْرُ قرينان وأخوانِ شقيقانِ، ولك أنْ تنظر في بحورِ الشريعةِ من العلماءِ الراسخين ، ما أيْسرَ حياتهُم ، وما أسْهل التَّعامُل معهم! إنهم فهموا المقصد ، ووقعُوا على المطلوب ، وغاصُوا في الأعماقِ ، بينما تجدُ مِنْ أعْسرِ الناسِ ، وأصعبِهم مراساً ، وأشقِّهم طريقةً الزُّهَّادُ الذين قلَّ نصيبُهم من العِلْمِ ، لأنهم سمعُوا جُملاً ما فهموها ، ومسائل ما عَرَفُوها ، وما كانتْ مصيبةُ الخوارج إلاَّ منْ قلَّةِ علْمِهِمْ وضحالةِ فهْمِهم ؛ لأنهمْ لم يقعُوا على الحقائقِ، ولم يهتدُوا إلى المقاصدِ ، فحافظُوا على النُّتفِ، وضيَّعُوا المطالب العالية، ووقعُوا في أمرٍ مريجٍ .
*************************************
ما هكذا تُوردُ الإِبِل
طالعتُ كتابينِ شهيرينِ ، لا أرى إلاَّ أنَّ فيهما سطوةً عارمةً على السعادةِ واليُسْرِ اللذيْنِ أتى بهما الشارعُ الحكيمُ .
فكتابُ « إحياء عِلوم الدينِ » للغزاليِّ ، دعوةٌ صارخةٌ للتجويعِ والعُرْيش ( والبهذلة) ، والآصالِ والأغلالِ التيِ أتى رسولُنا ( لوضْعِها عنِ العالمين . فهو يجمعُ من الأحاديثِ ، المتردِّية والنطِيحة وما أكل السَّبُعُ ، وغالبُها ضعيفةٌ أو موضوعةٌ ، ثم يبني عليها أُصُولاً يظنُّها منْ أعظمِ ما يُوصِّلُ العبدُ إلى ربِّه .(/116)
وقارنتُ بين إحياءِ علومِ الدين وبينِ الصحيحين للبخاري ومسلم ، فبان البونُ وظهر الفرْقُ ، فذاك عَنَتٌ ومشقَّةٌ وتكلُّفٌ ، وهذه يُسْرُ وسماحةٌ وسهولةٌ ، فأدركتُ قول البري : ?وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ? .
والكتابُ الثاني : « قُوتُ القلوبِ » لأبي طالب المكَّيَّ ، وهو طلبٌ مُلِحٌّ منه لترْكِ الحياة الدنيا والانزواء عنها ، وتعطيل السَّعْيِ والكسْبِ ، وهجْرِ الطَّيَّباتِ ، والتَّسابُقِ في طرقِ الضَنْكِ والضَّنى والشِّدَّة .
والمؤلِّفان : أبو حامدٍ الغزاليُّ ، وأبو طالبٍ المكيُّ ، أرادا الخَبْرَ ، لكنْ كانت بضاعتُهما في السُّنّةِ والحديثِ مُزْجاةً ، فمنْ هنا وقع الخَلَلُ ، ولابُدَّ للدليل أن يكون ماهراً في الطريق خِرِّيتاً في معرفة المسالكِ ? وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ? .
*****************************************
أشْرَحُ الناسِ صدراً
الصّفةُ البارزةُ في مُعَلِّمِ الخيرِ ( : انشراحُ الصدرِ والرِّضا والتَّفاؤلُ ، فهو مبشِّرٌ ، ينهى عن المشقَّةِ والتنفير، ولا يعرفُ اليأس والإحباط ، فالبسمةُ على مُحيَّاه ، والرِّضا في خلدِه ، واليُسْرُ في شريعتِه ، والوسطيَّةُ في سُنَّتِه ، والسعادةُ في مِلَّته . إنَّ جُلَّ مهمَّتِهِ أن يضع عنهم إصْرهم والأغلال التي كانتْ عليهم .
*************************************
رويداً .. رويداً
إنّ من إضفاء السعادة على المُخاطبين بكلمة الوعي ، التَّدرُّجُ في المسائلِ ، الأهمُّ ، يصدِّقُ هذا وصيتُه ( لمعاذٍ – رضي اللهُ عنه – لمَّا أرْسَلَه إلى اليمنِ : (( فليكُنْ أوَّل ما تدعوهمْ إليه ، أنْ لا إله إلا الله وأني رسولُ اللهِ ..... )) الحديث . إذن في المسألة أولٌ وثانٍ وثالثٌ ، فلماذا نُقحمُ المسائل على المسائل إقحاماً ، ولماذا نطرحُها جملةً واحدةً ؟! ? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ? .
إنَّ من سعادةِ المسلمين بإسلامِهم أنْ يشعُروا بالارتياح منْ تعاليمِه وباليُسر في تلقِّي أوامره ونواهيه ؛ لأنه أتى أصلاً لإنقاذهم من الاضطرابِ النفسيِّ والتَّشرُّردِ الذِّهنيِّ والتَّفلُّتِ الاجتماعي .
« التكليفُ لم يأتِ في الشرعِ إلا منفيّاً ? لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ? ، لأنَّ التكليف مشقَّةٌ ، والدينُ لم يأتِ بالمشقَّةِ ، وإنما أتي لإزالتِها » .
إنَّ الصحابيَّ كان يطلبُ من الرسولِ ( وصيتهُ ، فيُخبرُه بحديثٍ مختَصَرٍ الحاضرُ والبادي ، فإذا الواقعيةُ ومراعاةُ الحالِ واليُسْرُ هي السمةُ البارزةُ في تلك النصائحِ الغاليةِ .
إننا نخطئُ يوم نسْرُدُ على المستمعين كلَّ ما في جعْبتِنا منْ وصايا ونصائح ، وتعاليم وسُننٍ وآداب، في مقامٍ واحدٍ ?وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً? .
أوْرَدَها سعْدٌ وسعدٌ مُشْتمِلْ
ما هكذا تُوردُ يا سعْدُ الإبِلْ
**********************************************
كيف تشكُرُ على الكثيرِ
وقد قصَّرت في شُكْرِ القليلِ
إنَّ منْ لا يحمدُ الله على الماءِ الباردِ العذْبِ الزُّلالِ ، لا يحمدُه على القصورِ الفخمةِ ، والمراكبِ الفارِهةِ ، والبساتينِ الغنَّاءِ .
وإنّ منْ لا يشكُرُ الله على الخبزِ الدافئِ ، لا يشكرهُ على الموائدِ الشَّهيَّةِ والوجباتِ اللَّذيذةِ ، لأنَّ الكنُود الجحُود يرى القليل والكثير سواءً ، وكثيرٌ منْ هؤلاء أعطى ربَّه المواثيق الصارمة ، على أنه متى أنعم عليه وحباهُ وأغدق عليه فسوف يشكُرُ ويُنفقُ ويتصدَّقُ ? وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ{75} فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ? .
ونحنُ نلاحظُ كلَّ يومٍ منْ هذا الصِّفِ بشراً كثيراً ، كاسف البالِ مكدَّر الخاطرِ ، خاوي الضميرِ ، ناقماً على ربِّه أنه ما أجْزل له العطيَّة ، ولا أتحفهُ برزقٍ واسعٍ بينما هو يرفُلُ في صحَّةٍ وعافيةٍ وكفافٍ ، ولم يشكُرْ وهو في فراغٍ وفسحةٍ ، فكيف لو شُغِل مثل هذا الجاحدُ بالكنوزِ والدُّورِ والقصورِ ؟! إذنْ كان أكْثرَ شُرُداً من ربِّه ، وعقوقاً لمولاهُ وسيِّدهِ .
الحافي منّا يقول : سوف أشكرُ ربِّي إذا مَنحَني حذاءً . وصاحبُ الحذاءِ يؤجِّل الشُّكْر حتى يحصُل على سيَّارةٍ فارهةٍ نأخُذ النعيمِ نقْداً ، ونُعطي الشُّكْر نسيئةًُ ، رغباتُنا على اللهِ ملحَّةٌ ، وأوامرُ اللهِ عندنا بطيئةُ الامتثالِ .
***********************************
ثلاثُ لوحاتٍ
بعضُ الأذكياء علَّق على مكتبِهِ ثلاث لوحاتٍ ثمينةٍ :
مكتوبٌ على الأولى : يوْمُك يومُك . أي عِشْ في حدودِ اليوم .(/117)
وعلى الثانيةِ : فكِّرْ واشكرْ . أي فكِّرْ في نِعَمِ اللهِ عليك ، واشكُرْه عليها .
وعلى الثالثةِ : لا تغضبْ .
إنها ثلاثُ وصايا تدلُّك على السعادةِ منْ أقْربِ الطرقِ ، ومن أيْسرِ السُّبُلِ ، ولك أن تكتبها في مُفكِّرتِك لتطالِعها كلَّ يومٍ .
***********************************
وقفة
« منْ لطائفِ أسرارِ اقترانِ الفرج بالكرْب ، واليُسْرِ ، أنَّ الكرب إذا اشتدَّ وعظُم وتناهى ، وحصل للعبد اليأسُ من كشْفِه من جهةِ المخلوقين تعلَّق باللهِ وحده ، وهذا هو حقيقةُ التَّوكُّلِ على اللهِ .
وأيضاً فإنَّ المؤمن إذا استبطأ الفرج ، وأيِس منه كثْرةِ دعائِه وتضرُّعِه ، ولم يظهر عليه أثرُ الإجابةِ ، فرجع إلى نفسِه باللاَّئمةِ ، وقال لها : إنما أُتيتُ منْ قِبلِكِ ، ولو كان فيك خيرٌ لأُجبْتُ . وهذا اللومُ أحبُّ إلى الله منْ كثيرٍ من الطاعاتِ ، فإنه يُوجبُ انكسار العبدِ لمولاهُ ، واعترافُه له بأنه أهلٌ لما نزل من البلاءِ ، وأنه ليس أهلاً لإجابةِ الدعاءِ ، فلذلك تُسرعُ إليه حينئذٍ إجابةُ الدعاءِ وتفريجُ الكرْبِ » .
ويقولُ إبراهيمُ بنُ أدهم الزاهدُ . « نحن في عيشٍ لو علم به الملوكُ ، لجالدُونا عليه بالسيوفِ » .
ويقولُ ابنُ تيمية شيخُ الإسلامِ : « إنها لَتَمُرُّ بقلبي ساعاتٌ أقولُ : إن كان أهلُ الجنةِ في مِثْلِ ما أنا فيه ، فهم في عيشٍ طيِّبٍ » .
************************************
اطمئِنُّوا أيُّها الناسُ
في كتاب « الفَرَجِ بعد الشِّدَّةِ » أكْثر منْ ثلاثين كتاباً ، كلُّها تُخبرُنا أنَّ في ذروة المُدلهِمات انفراجاً ، وفي قمَّةِ الأزماتِ انبِلاجاً ، وأنَّ أكثر ما تكون مكبوتاً حزيناً غارقاً في النكْبةِ ، أقْرَبُ ما تكونُ إلى الفتْحِ والسُّهُولةِ والخروجِ منْ هذا الضَّنْكِ ، وساق لنا التَّنوخيُّ في كتابِه الطويل الشائقِ ، أكثَرَ منْ مائتي قصَّةٍ لمن نُكبُوا ، أو حُبسُوا أو عُزلُوا ، أو شُرِّدُوا وطُردُوا ، أو عُذِّبُوا وجُلدُوا ، أو افتقرُوا وأملقوا ، فما هي إلا أيام ، فإذا طلائع الإمداد وكتائب الإسعاد وافتْهم على حين يأس ، وباشرتْهم على حين غفلةٍ ، ساقها لهم السميع المجيب . إنَّ التنوخيَّ يقولُ للمصابين والمنكوبين : اطمئنُّوا ، فلقد سبقكُم فوقٌ في هذا الطَّريقِ وتقدَّمكم أُناسٌ :
صحِب الناسُ قبْلنا ذا الزَّمانا
وعناهُم مِنْ شأنِهِ ما عنانا
رُبَّما تُحْسِنُ الصَّنِيع ليـ
ـالِيه ولكنْ تُكدِّرُ الإحْسانا
إذنْ فهذه سُنَّةٌ ماضية ? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ ? ، ? وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ? . إنها قضيَّةٌ عادلةٌ أنْ يُمحِّص اللهُ عباده ، وأنُ يتعَّبدهم بالشّدَّةِ كما تعبَّدهُمْ بالرخاءِ ، وأنْ يُغايِر عليهم الأطوار كما غاير عليهم الليل والنهار ، فلِم إذن التَّسخُّطُ والاعتراضُ والتَّذمُّرُ ? وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ? .
*******************************************
صنائعُ المعروفِ تقي مصارع السُّوءِ
منْ أجملِ الكلماتِ ، قولُ أبي بكرٍ الصِّديق – رضي الله عنه - : صنائع المعروف تقي مصارع السوءِ . وهذا كلامٌ يُصدِّقه النَّقلُ والعقلُ : ? فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ{143} لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ? . تقولُ خديجةُ للرسول ( : (( كلا واللهِ لا يُخزيك اللهُ أبداً لتصِلُ الرَّحِم ، وتحمِلُ الكلَّ ، وتكسِبُ المعدوم ، وتُعينُ على نوائِبِ الدَّهْرِ )) . فانظُرْ كيف استدلَّتْ بمحاسنِ الأفعالِ على حُسْنِ العواقبِ ، وكَرَمِ البدايةِ على جلالِة النهايةِ .(/118)
وفي كتاب « الوزراء » للصابي ، و« المنتظم » لابنِ الجوزي ، و «الفَرَجِ بعد الشِّدَّةِ » للتنوخي قصَّةٌ ، مفادُها : أن ابن الفراتِ الوزير ، كان يتتبَّعُ أبا جعفرٍ بن بسطامٍ بالأذِيَّة ، ويقصدُه بالمكاره ، فلقي منه في ذلك شدائد كثيرةً ، وكانت أُمّ أبي جعفر قد عوَّدته – منذُ كان طفلاً – أنْ تجعل له في كلِّ ليلةٍ ، تحت مخدَّته التي ينامُ عليها رغيفاً من الخبزِ ، فإذا كان في غدٍ ، تصدَّقتْ به عنه . فلمَّا كان بعد مُدَّة من أذيَّةِ ابنِ الفراتِ له ، دخل إلى ابن الفراتِ في شيءٍ احتاج إلى ذلك فيه ، فقال له ابنُ الفراتِ : لك مع أُمِّك خُبْزٌ في رغيف ؟ قال : لا . فقال : لابُدَّ أن تصدُقني . فذكر أبو جعفر الحديث ، فحدَّثه به على سبيل التَّطايُبِ بذلك منْ أفعالِ النساءِ . فقال ابنُ الفراتِ : لا تفعلْ ، فإنّي بتُّ البارحة ، وأنا أُدبِّرُ عليك تدبيراً لو تمَّ لاستأصلْتُك ، فنمتُ ، فرأيتُ في منامي كأنَّ بيدي سيفاً مسلولاً ، وقد قصدتُك لأقتلك به ، فاعترضتْني أُمُّك بيدِها رغيفٌ تُترِّسُك به منّي ، فما وصلتُ إليك ، وانتبهتُ . فعاتبه أبو جعفر على ما كان بينهما ، وجعل ذلك طريقاً إلى استصلاحِه ، وبذل لهُ منْ نفْسِه ما يريدُه منْ حُسْنِ الطاعةِ ، ولم يبرحْ حتى أرضاهُ ، وصارا صديقيْن . وقال له ابنُ الفراتِ : واللهِ ، لا رأيت منِّي بعدها سُوءاً أبداً .
***************************************
استجمامٌ يُعين علىُ مُواصلةِ السَّيْرِ
من المعلومِ أنَّ في الشريعةِ سَعَةً وفُسحةً ، تُعينُ العبد على الاستمرار في عبادتِه وعطائِه وعملِه الصالحِ ، فرسولُنا ( كان يضحكُ ? وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ? ، وكان يمزحُ ولا يقولُ إلا حقّاً ، وسابق عائشة رضي اللهُ عنها ، وكان يتخوَّلُ الصحابة بالموعظةِ ، كراهِية السَّآمِة عليهم ، وكان ينهى عن التَّعمُّق والتَّكلُّفِ والتشديدِ ، ويُخبرُ أنه لن يُشادّ الدِّين أحدٌ ، إلا غَلَبَهُ ، وفي الحديثِ أنَّ الدين متينٌ ، فأوغِلُوا فيه برفْقٍ . وفي الحديثِ أيضاً أنَّ لكل عابد شِرَّةً ، وهي الشّدَّةُ والضَّراوةُ والاندِفاعُ . ولا يلبثُ المتكلِّفُ إلا أنْ ينقطع ، لأنه نظر إلى الحالةِ الراهنةِ ونسي الطوارئ وطُول المُدَّة وملالة النَّفْس ، وإلاَّ فالعاقلُ له حدٌّ أدنى في العملِ يُداومُ عليه ، فإنْ نشط زاد ، وإنْ ضعف بقي على أصلِه ، وهذا معنى الأثر منْ كلامِ بعضِ الصحابة : إنَّ للنفوسِ إقبالاً وإدباراً ، فاغتنموها عند إقبالها ، وذرُوها عند إدبارِها .
وما رأيتُ نفراً زادُوا في الكْيلِ ، وأكثَرُوا من النوافل ، وحاولوا أنْ يُغالوا ، فانقطعُوا وعادُوا أضْعفَ ممَّا كانوا قبْلَ البدايةِ .
والدِّينُ أصلاً جاء للإسعاد ? مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ? . وقد لام اللهُ قوماً كلَّفُوا أنفُسهم فوق الطَّاقةِ ، ثم انسحبوا منْ أرضِ الواقع ناكثِين ما ألزمُوا أنفسهم به ?وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ? .
وميزةُ الإسلامِ على سائر الأديانُ أنه دينُ فطرةٍ ، وأنه وَسَطٌ ، وأنه للرُّوحِ والجسمِ ، والدنيا والآخرةِ ، وأنه ميسرٌ ? ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ? .
عن أبي سعيد الخُدْريّ قال : جاء أعرابيٌّ إلى النبيِّ ( فقال : يا رسول اللهِ ، أيُّ الناس خيْرٌ ؟ قال: ((مؤمِنٌ مجاهِدٌ بنفسِه ومالِه في سبيلِ اللهِ، ثم رجُلٌ معتزلٌ في شِعْبٍ من الشِّعابِ يعبُد ربَّه )) . وفي روايةٍ : (( يتَّقي الله ويدع الناس من شرِّه )) ، وعنْ أبي سعيدٍ قال : سمعتُ النبي ( يقولُ : (( يُوشكُ أنْ يكون خير مالِ المسلم غنمٌ يتبعُ بها شعْفَ الجبالِ ومواقع القطْرِ ، يفرُّ بدينِه من الفِتنِ )) . رواه البخاريُّ .
قال عمرُ : « خُذُوا حظَّكم من العُزلةِ » . وما أحْسنَ قول الجنيدِ : « مُكابدَةُ العزلةِ أيسرُ مْن مداراةِ الخلطةِ » . وقال الخطَّابيُّ : لو لم يكُنْ في العزلةِ إلا السلامةُ من الغيبةِ ، ومنْ رؤيةِ المنكرِ الذي لا يقدرُ على إزالتهِ ، لكان ذلك خيراً كثيراً .
وفي هذا معنى ما أخرجهُ الحاكمُ ، منْ حديث أبي ذرٍّ مرفوعاً ، بلفظ : (( الوحدُة خيرٌ من جلِيسِ السُّوء )) . وسنده حَسَنٌ .(/119)
وذَكَر الخطَّابيُّ في « كتاب العزلة » أنَّ العزلة والاختلاط يختلفُ باختلافِ متعلقاتهما ، فتُحمل الأدلَّةُ الوارِدةُ في الحضِّ على الاجتماعِ ، على ما يتعلَّقُ بطاعةِ الأئمةِ وأمورِ الدينِ ، وعكسُها في عكسِهِ ، وأما الاجتماعُ والافتراقُ بالأبدانِ ، فمنْ عَرَفَ الاكتفاء بنفسِه في حقِّ معاشِهِ ومحافظةِ دينهِ ، فالأوْلى لهُ الانكفافُ منْ مخالطةِ الناسِ ، بشرْطِ أنْ يُحافظَ على الجماعِة ، والسَّلامِ والرَّدِّ ، وحقوقِ المسلمين من العيادةِ وشهودِ الجنازةِ ، ونحْوِ ذلك . والمطلوبُ إنما هو ترْكُ فضولِ الصُّحبةِ ، لما في ذلك منْ شغِلِ البالِ وتضييعِ الوقتِ عن المُهمَّاتِ ، ويجعلُ الاجتماع بمنزلةِ الاحتياجِ إلى الغداءِ والعشاءِ ، فيقتصرُ منه على ما لابدَّ له منه ، فهو أرْوَحُ للبَدَنِ والقلبِ . واللهُ أعلمُ .
وقال القُشيريُّ في « الرسالة» : طريقُ من آثرَ العُزلةَ ، أن يعتقد سلامة الناسِ منْ شرِّه ، لا العكسُ ، فإنَّ الأول : يُنتجهُ استصغارُه نفْسه ، وهي صفةُ المتواضعِ ، والثاني : شهودُه مزيةً له على غيرِه ، وهذه صفةُ المتكبِّرِ .
والناسُ في مسألةِ العُزلةِ والخلطةِ طرفانِ ووسطٌ .
فالطرف الأوَّلُ : من اعتزل الناس حتى عن الجُمعِ والجماعاتِ والأعيادِ ومجامع الخيْرِ ، وهؤلاءِ أخطؤُوا .
والطرف الثاني : منْ خالط الناس حتى في مجالسِ اللَّهوِ واللَّغوِ والقيلِ والقالِ وتضييعِ الزَّمانِ ، وهؤلاء أخطؤُوا .
والوسط : منْ خالط الناس في العباداتِ التي لا تقوُم إلا باجتماعٍ ، وشاركهم في ما فيه تعاونٌ على البِرِّ والتقوى وأجرٌ ومثوبةُ ، واعتزال مناسباتِ الصَّدِّ والإعراضِ عن اللهِ وفضولِ المباحاتِ ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً? .
************************************************
وقفة
عن عُباد بنِ الصامتِ قال : قال رسولُ اللهِ ( : (( عليكمْ بالجهاد في سبيلِ اللهِ ، فإنه بابٌ من أبوابِ الجنةِ ، يُذهِبُ اللهُ به الغمَّ والهمَّ )) .
« وأمَّا تأثيرُ الجهاد في دفْع الهمِّ والغمِّ ، فأمرٌ معلومٌ بالوجدان ، فإنَّ النَّفْس متى تركتْ صائل الباطلِ وصولتهُ واستيلاءهُ ، اشتدَّ همُّها وغمُّها ، وكربُها وخوفُها ، فإذا جاهدتْه للهِ ، أبدل اللهُ ذلك الهمَّ والحُزْن فرحاً ونشاطاً وقوةً ، كما قال تعالى : ? قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ{14} وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ? . فلا شيء أذْهبُ لجَوَى القلبِ وغمِّه وحزنِه من الجهادِ ، واللهُ المستعانُ » .
قال الشاعرُ :
وإني لأُغضي مقلتيَّ على القذى
وألْبَسُ ثوب الصبرِ أبيض أبْلجا
وإني لأدعو الله والأمرُ ضيِّقٌ
عليَّ فما ينفكُّ أن يَتَفَرَّجَا
وكم من فتى سُدَّتْ عليه وجوهُهُ
أصاب لها في دعوةِ اللهِ مَخْرَجا
*************************************
مَسارِحُ النَّظر في الملكوت
منْ طُرُقِ الارتياحِ وبسْطِة الخاطرِ ، التَّطلُّعُ إلى آثارِ القُدرةِ في بديعِ السماواتِ والأرضِ ، فتستلذّ بالبهجة العامرةِ في خلقِ الباري – جلَّ في عُلاهُ – في الزهرة ، في الشجرةِ ، في الجدولِ ، في الخميلةِ ، في التلِّ والجبل ، في الأرضِ والسماءِ ، في الليلِ والنهارِ ، في الشمسِ والقمرِ ، فتجدُ المتعة والأُنس ، وتزدادُ إيماناً وتسليماً وانقياداً لهذا الخالقِ العظيمِ ? فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ? .
يقول أحدُ الفلاسفةِ ممنْ أسلموا : كنتُ إذا شككْتُ في القُدرةِ ، نظرتُ إلى كتابِ الكونِ ، لأُطالع فيه أحْرُفَ الإعجازِ والإبداعِ ، فأزدادُ إيماناً .
*********************************
خُطوات مدروسة
يقولُ الشوكانيُّ : أوصاني بعضُ العلماءِ فقال : لا تنقطعِ عن التأليف ولو أنْ تكتُب في اليومِ سطرين . قال : فأخذتُ بوصيَّتِه ، فوجدتُ ثمرتها .
وهذا معنى الحديث : (( خيرُ العملِ ما داوم عليه صاحبُه وإنْ قلَّ )) وقال : القطرةُ مع القطرةِ تجتمعُ سيلاً عظيماً .
أما تَرَى الحبلَ بطُولِ المدى
على صليبِ الصَّخْر قدْ أثَّرا
وإنما يأتينا الاضطرابُ منْ أننا نريدُ أن نفعل كلَّ شيءٍ مرَّةً واحدةً ، فنَمَلُّ ونتعبُ ونترُكُ العمل ، ولو أننا أخذْنا عَمَلنا شيئاً فشيئاً ، ووزَّعْناه على مراحل ، لقطعْنا المراحل في هدوءٍ ، واعتبِرْ بالصلاةِ ، فإنَّ الشَّرْع جَعَلَها في خمسةِ أوقاتٍ متفرِّقةٍ ، ليكون العبدُ في استجمامٍ وراحةٍ ، ويأتي لها بالأشواق ، ولو جُمعتْ في وقتٍ ، لملَّ العبد، وفي الحديثِ : ((إن المُنْبتَّ لا ظهْراً أبْقى ولا أرضاً قطع )) . ووُجِد بالتَّربةِ ، أنَّ منْ يأخذُ العَمَلَ على فتراتٍ ، يُنجزُ ما لم يُنجزْهُ منْ أخذهُ دفعةً واحدةً ، مع بقاءِ جذوةِ الرُّوحِ وتوقُّدِ العاطفةِ .(/120)
ومما استفدتُه عنْ بعض العلماءِ ، أنَّ الصلوات ترتِّبُ الأوقاتِ ، أخذاً منْ قولِ الباري : ? إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً ? . فلو أنَّ العبد وزَّع أعمالهُ الدينية والدُّنيوية بعد كلِّ صلاةٍ ، لوجد سعةً في الوقت ، وفسحةً في الزمنِ .
وأنا أضربُ لك مَثَلاَ: فلو أن طالب العِلْم، جعل ما بعد الفجرِ للحفْظِ في أيّ فنٍّ شاء، وجعل بعد الظُّهر للقراءةِ السهْلةِ في المجامع العامَّة ، وجعل بعد العصر للبحثِ العلميِّ الدقيقِ ، وما بعد المغربِ للزِّيارةِ والأُنسِ ، وما بعد العشاءِ لقراءة الكُتُبِ العصريَّةِ والبحوثِ والدوريَّاتِ والجلوس مع الأهل ، لكان هذا حسناً ، والعاقِل له مِنْ بصيرتِه مَدَدٌ ونورٌ . ? إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ? .
*******************************************
بلا فوضويَّة
مما يُكدِّرُ ويُشتِّتُ الذِّهن ، الفوضويَّةُ الفكريَّةُ التي يعيشُها بعضُ الناسِ ، فهو لم يحدِّد قُدراتِه ، ولم يقصدْ إلى ما يجمعُ شمل فكْرهِ ونظرِه ؛ لأن المعرفة شعوبٌ ودروبٌ ، ولابُدَّ منْ تحديدِ آيتِها ومعرفةِ مسالكها ، ويُجمعُ رأْيه على مشربٍ معروفٍ ، لأنّ التَّفرد مطلوبٌ .
وكذلك ممَّا يشتِّتُ الذهن ، ويُورِث الغمَّ ، الدَّيْنُ والتبِعاتُ الماليةُ والتكاليفُ المعيشيَّةُ . وهناك أصولٌ في هذه المسألةِ أريدُ ذِكرها :
أولها : ما غال منِ اقتصدُ : ومنْ أحْسَنَ الإنفاق ، وحفِظ مالهُ إلاَّ للحاجة ، واجتنب التبذير والإسراف ، وَجَدَ العون من اللهِ ? إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ? ، ? وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ? .
الثاني : كسْب المال من الوجوهِ المُباحةِ ، وهجْرُ كلِّ كسبٍ محرَّمٍ ، فإنَّ الله طيِّبٌ لا يقبلُ إلا طيِّباً ، واللهُ لا يُباركُ في المكسبِ الخبيثِ ? وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ? .
الثالث : السَّعْيُ في طلبِ المالِ الحلالِ ، وجمْعُه منْ حلِّه ، وتركُ العطالةِ والبطالةِ ، واجتنابِ إزجاءِ الأوقاتِ في التفاهاتِ ، فهذا ابنُ عوف يقول : دُلُّوني على السوقِ : ? فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ? .
******************************************
ثمنُك إيمانُك وخُلُقُك
مرَّ هذا الرجلُ الفقيرُ المعدومُ ، وعليهِ أسمالٌ باليةٌ وثيابٌ رثَّة ، جائع البطْن ، حافي القدمِ ، مغمور النَّسبِ ، لا جاهٌ ولا مالٌ ولا عشيرةٌ ، ليس له بيتٌ يأوي إليهِ ، ولا أثاث ولا متاع ، يشربُ من الحياضِ العامَّةِ بكفَّيْه مع الواردين ، وينامُ في المسجدِ ، مخدَّتُه ذراعُه ، وفراشُه البطحاءُ ، لكنَّه صاحبُ ذِكرٍ لربِّه وتلاوةٍ لكتابِ مولاهُ لا يغيبُ عنِ الصَّفِّ الأولِ في الصلاةِ والقتالِ ، مرَّ ذات يومٍ برسولِ اللهِ ( فناداهُ باسمِهِ وصاح به : (( يا جُليْبيبُ ألا تتزوَّجُ ؟ )) . قال : يا رسول اللهِ ، ومنْ يُزوِّجُني ؟ ولا مالٌ ولا جاهٌ ؟ ثمَّ مرَّ به أخرى ، فقال له مثْل قولهِ الأولِ ، وأجاب بنفسِ الجواب، ومرَّ ثالثةً ، فأعاد عليه السؤال وأعاد هو الجواب ، فقال ( : (( يا جليبيبُ ، انطلِقْ إلى بيتِ فلانٍ الأنصاريِّ وقُلْ له : رسولُ اللهِ ( يقرئُك السلام ، ويطلبُ منك أن تُزوِّجني بِنْتك )) .
وهذا الأنصاريَّ منْ بيتٍ شريفٍ وأسرةٍ موقرةٍ ، فانطلق جليبيبٌ إلى هذا الأنصاريِّ وطرق عليه الباب وأخبره بما أمره به رسولُ اللهِ ( فقال الأنصاريُّ : على رسول الله ( السلامُ ، وكيف أُزوِّجك بنتي يا جليبيبُ ولا مالٌ ولا جاهٌ ؟ وتسمعُ زوجتُه الخَبَرَ فتعجبُ وتتساءلُ : جليبيبٌ ! لا مالٌ ولا جاهٌ ؟ فتسمُع البنتُ المؤمنةُ كلام جليبيبٍ ورسالة الرسولِ ( فتقول لأبويها : أترُدَّانِ طلب رسولِ اللهِ ( ، لا والذي نفسي بيدِهِ .
وحصل الزواج المبارك والذُّرِّيَّةُ المباركةُ والبيتُ العامرُ ، المؤسَّسُ على تقوى من اللهِ ورضوانٍ ، ونادى منادي الجهادِ ، وحضر جليبيبُ المعركة ، وقتل بيده سبعةً من الكفارِ ، ثم قُتل في سبيلِ اللهِ ، وتوسد الثرى راضياً عنْ ربِّه وعنْ رسولِه ( وعنْ مبدئِه الذي مات منْ أجلِهِ ، ويتفقَّدُ الرسولُ ( القتلى ، فيُخبرُه الناسُ بأسمائِهم ، وينسون جليبيباً في غمرةِ الحديث ، لأنهُ ليس لامعاً ولا مشهوراً ، ولكنّ الرسول ( يذكُرُ جليبيباً ولا ينساهُ ، ويحفظُ اسمه في الزحامِ ولا يُغفله ، ويقولُ : (( لكنَّني أفقِدُ جليبيباً )) .
ويجده وقد تدثَّر بالتراب ، فينفضُ التراب عن وجهه ويقولُ له : (( قَتَلْتَ سبعة ثم قُتِلْت ؟ أنت مني وأنا منك ، أنت مني وأنا منك ، أنت مني وأنا منك )) . ويكفي هذا الوسام النبويُّ جليبيباً عطاءً ومكافأةً وجائزةً .(/121)
إنَّ ثمنَ جليبيبٍ ، إيمانُه وحبُّ رسولِ اللهِ ( له ، ورسالتُه التي مات من أجلِها . إنَّ فقره وعدمَه وضآلةُ أسرتِه لم تُؤخِّرْه عنْ هذا الشرفِ العظيمِ والمكسب الضخمِ ، لقدْ حاز الشهادة والرِّضا والقبُول والسعادة في الدنيا والآخرة : ? فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ? .
إنَّ قيمتك في معانيك الجليلةِ وصفاتِك النبيلةِ .
إنَّ سعادتك في معرفتِك للأشياءِ واهتماماتِك وسموِّك .
إنَّ الفقرَ والعوز والخمول، ما كان - يوماً من الأيامِ- عائقاً في طريق التَّفوُّقِ والوصولِ والاستعلاءِ . هنيئاً لمنْ عَرَفَ ثمنه فعلاً بنفسِه ، وهنيئاً لمنْ أسعد نفسهُ بتوجيههِ وجهادِه ونُبِله ، وهنيئاً لمنْ أحْسنَ مرَّتيْن ، وسعد في الحياتينِ ، وأفلح في الكرتيْنِ ، الدُّنيا والآخرةِ .
**********************************************
يا سعادة هؤلاء
أبو بكرٍ – رضي اللهُ عنهُ - : بآيةٍ : ? وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى{17} الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ? .
عمرُ - رضي الله عنه - : بحديثِ : (( رأيتُ قصراً أبيض في الجنةِ ، قلتُ : لمن هذا القصرُ ؟ قيل لي : لعمر بنش الخطابِ )) .
وعثمانُ - رضي الله عنهُ - : بدعاءِ : (( اللهمَّ اغفْر لعثمان ما تقدَّم منْ ذنبِه وما تأخَّر )) .
وعليٌّ - رضي الله عنهُ - : (( رجُلٌ يحبُّ الله ورسوله ، ويحبُّه الله ُ ورسولُه )) .
وسعدُ بنُ معاذٍ - رضي الله عنهُ - : (( اهتزَّ له عرشُ الرحمنِ )) .
وعبدُاللهِ بن عمْرٍو الأنصاريُّ - رضي الله عنهُ -: ((كلَّمه اللهُ كِفاحاً بلا ترْجُمان )) .
وحنْظَلَةُ - رضي الله عنهُ - : (( غسَّلتْهُ ملائكةُ الرحمنِ )) .
****************************************
ويا شقاوة هؤلاء
فرعونُ : ? النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ? .
وقارونُ : ? فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ? .
والوليدُ بنُ المغيرة : ? سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ? .
وأُميَّةُ بنُ خلف : ? وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ? .
وأبو لهبٍ : ? تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ? .
والعاص بنُ وائلٍ : ? كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً ? .
****************************************
وقفة
« قلَّةُ التوفيقِ وفسادُ الرأي ، وخفاءُ الحقِّ وفسادُ القلب ، وخمولُ الذِّكْرِ ، وإضاعةُ الوقتِ ، ونَفْرَةُ الخلْق ، والوحْشةُ بين العبدِ وبين ربِّه ، ومنْعُ إجابةِ الدعاءِ ، وقسوةُ القلبِ ، ومحْقُ البركةِ في الرِّزقِ والعُمرِ ، وحرمانُ العلمِ ، ولباسُ الذُّلِّ ، وإهانةُ العدوِّ وضيقُ الصدرِ ، والابتلاءُ بقرناءِ السوءِ الذين يُفسدون القلب ويُضيِّعون الوقت ، وطولُ الهمِّ ، وضنْكُ المعيشةِ ، وكَسْفُ البالِ ... تتولَّد من المعصيةِ والغفلِة عن ذكرِ اللهِ ، كما يتولَّد الزرعُ عن الماءِ ، والإحراقُ عن النارِ . وأضدادُ هذه تتولَّدُ عن الطاعةِ » .
« أمَّا تأثيرُ الاستغفارِ في دفْع الهمِّ والغمِّ والضيقِ ، فمِمَّا اشترك في العلْمِ به أهلُ المللِ وعقلاءُ كلِّ أمَّة ، إنَّ المعاصي والفساد تُوجِب الهمَّ والغمَّ ، والخوف والحزن، وضِيق الصدر ، وأمراض القلب ، حتى إنّ أهلها ذا قضوا منها أوطارها ، وسئمتْها نفوسُهم ، ارتكبوها دفعاً لما يجدونهُ في صدورهِم من الضِّيقِ والهمِّ والغمِّ ، كما قال شيخُ الفسوقِ :
وكأسٍ شرِبْتُ على لذَّةٍ
وأُخرى تداويْتُ مِنْها بها
وإذا كان هذا تأثيرُ الذنوبِ والآثامِ في القلوبِ ، فلا دواء لها إلا التوبةُ والاستغفارُ» .
*************************************
رِقْقاً بالقوارير
? وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ? . ? وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ? .
وفي الحديثِ : (( استوصُوا بالنساءِ خيراً ، فإنهنَّ عوانٍ عندكم)) .
وفي حديثِ آخر : (( خيرُكم خيركم لأهِلهِ ، وأنا خيرُكم لأهلي )) .
البيتُ السعيدُ هو العامرُ بالأُلفةِ ، القائمُ على الحبِّ المملوءُ تقوى ورضواناً : ? أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ? .
*****************************************
بَسْمةٌ في البدايةِ
من حُسنِ الطالع وجميلِ المقابلةِ تبسُّم الزوجةِ لزوجِها والزوجُ لزوجتِه ، إن هذه البسمة إعلانٌ مبدئيٌّ للوفاقِ والمصالحةِ : (( وتبسُّمك في وجه أخيك صدقةٌ )) . وكان ( ضحَّاكاً بسَّاماً .(/122)
وفي البدايةِ بالسلامِ : ? فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ? ، وردُّ التحيةِ من أحدِهما للآخرِ : ? وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ? .
قال كُثيِّر :
حيَّتْك عزّةُ بالتسليمِ وانصرفتْ
فحيِّها مثل ما حيَّتْك يا جملُ
ليت التحية كانتْ لي فأشكرها
مكان يا جملاً حُيِّيت يا رجلُ
ومنها الدعاءُ عند دخول المنزلِ : (( اللهمَّ إني أسألُك خَيْرَ الموْلجِ وخير المخرجِ ، باسم اللهِ ولجْنا ، وباسمِ اللهِ خرجْنا ، وعلى اللهِ ربِّنا توكَّلنا )) .
ومن أسبابِ سعادةِ البيتِ : لِينُ الخطابِ من الطرفين : ? وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? .
وكلامُها السحرُ الحلالُ لو أنه
لم يجنِ قتل المسلمِ المتحرِّزِ
إنْ طال لمْ يُمْلَلْ وإنْ هي أوجزتْ
ودَّ المحدَّثُ أنها لم تُوجزِ
يا ليت الرجل ويا ليت المرأة ، كلٌّ منهما يسحبُ كلام الإساءةِ وجرْح المشاعرِ والاستفزازِ ، يا ليت أنهما يذكرانِ الجانب الجميل المشرق في كلٍّ منهما ، ويغضَّانِ الطرْف عن الجانبِ الضعيفِ البشريِّ في كليهما .
إن الرجل إذا عدَّد محاسن امرأتِه ، وتجافى عن النقصِ ، سعِد وارتاح ، وفي الحديثِ : (( لا يفرُكُ مؤمنٌ مؤمنةً ، إن كره منها خلُقاً رضي منها آخر )) .
ومعنى لا يفرك : لا يبغضِ ولا يكره .
من ذا الذي ما ساء قطْ
ومنْ له الحسنى فقطْ
من الذي ما ما نبا سيفُ فضائلِه ولا كبا جوادُ محاسنِه : ? وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ? .
أكثرُ مشاكلِ البيوتِ من معاناةِ التوافهِ ومعايشةِ صغارِ المسائلِ ، وقد عشتُ عشراتِ القضايا التي تنتهي بالفراقِ ، سببُ إيقادِ جذوتها أمورٌ هينةٌ سهلة ، أحدُ الأسبابِ أن البيت لم يكن مرتّباً ، والطعام لمِ يقدَّم في وقتِه ، وسببُه عند آخرين أن المرأة تريدُ من زوجها أن لا يُكثر من استقبالِ الضيوفِ ، وخذْ من هذه القائمة التي تُورثُ اليتُم والمآسي في البيوتِ .
إن علينا جميعاً أن نعترف بواقِعنا وحالِنا وضعفِنا ، ولا نعيشُ الخيال والمثالياتِ ، التي لا تحصلُ إلا لأولي العزمِ من أفرادِ العالمِ .
نحن بشرٌ نغضبُ ونحتدُّ ، ونضعفُ ونخطئُ ، وما معنا إلا البحثُ عن الأمرِ النسبيِّ في الموافقة الزوجيةِ حتى بعد هذه السنواتِ القصيرةِ بسلامِ .
إن أريحية أحمد بنِ حنبل وحُسْن صحبته تقدّم في هذه الكلمة ، إذ يقول بعد وفاة زوجتهِ أمِّ عبدِالله : لقد صاحبتُها أربعين سنةً ما اختلفتُ معها في كلمةٍ .
إن على الرجل أن يسكت إذا غضبتْ زوجتُه ، وعليها أن تسكتُ هي إذا غضب ، حتى تهدأ الثائرةُ ، وتبرد المشاعرُ ، وتسكن اضطراباتُ النفسِ .
قال ابنُ الجوزيِّ في « صيدِ الخاطرِ » : « متى رأيت صاحبك قد غَضِبَ وأخذ يتكلَّمُ بما لا يصلحُ ، فلا ينبغي أن تعقد على ما يقولُه خِنْصِرا ( أي لا تعتدَّ به ولا تلتفتْ إليه ) ، ولا أن تؤاخذه به ، فإن حاله حالُ السكرانِ لا يدري ما يجري ، بل اصبرْ ولو فترةً ، ولا تعوِّلْ عليها ، فإن الشيطان قد غلبه ، والطبعُ قد هاج ، والعقلُ قد استتر ، ومتى أخذت في نفسِك عليه ، أو أجبته بمقتضى فعْله ، كنت كعاقل واجه مجنوناً ، أو مفيقٍ عاتب مغمىً عليه ، فالذنبُ لك، بل انظرْ إليه بعينِ الرحمةِ ، وتلمَّحْ تصريف القدر له ، وتفرَّجْ في لعبِ الطبعِ به .
واعلم أنه إذا انتبه ندِم على ما جرى ، وعَرَفَ لك فضْل الصَّبْرِ ، وأقلُّ الأقسامِ أن تُسْلِمه فيما يفعلُ في غضبِه إلى ما يستريحُ به .
وهذه الحالةُ ينبغي أن يتلمَّحها الولدُ عند غضب الوالدِ ، والزوجةُ عند غضبِ الزوج ، فتتركه يشفى بما يقولُ ، ولا تعوِّلْ على ذلك ، فسيعودُ نادماً معتذراً ، ومتى قُوبل على حالته ومقالتِه صارتِ العداوةُ متمكِّنةً ، وجازى في الإفاقةِ على ما فُعِل في حقِّه وقت السُّكْرِ .
وأكثرُ الناسِ على غيْرِ هذا الطريقِ ، متى رأوا غضبان قابلُوه بما يقولُ ويعملُ ، وهذا على غيْرُ مقتضى الحكمةِ ، بل الحِكمةُ ما ذكرتُ ، وما يعقلُها إلا العالمون » .
*****************************************
حبُّ الانتقامِ سُمُّ زُعاف في النفوسِ الهائجةِ
في كتاب « المصلوبون في التاريخ » قصصٌ وحكاياتٌ لبعضِ أهل البطشِ الذين أنزلوا بخصومهم أشدَّ العقوباتِ وأقسى المُثلات ، ثم لما قتلوهم ما شفى لهم القتلُ غليلاً ، ولا أبرد لهم عليلاً ، حتى صلبوهُم على الخُشُب ، والعَجَبُ أن المصلوب بعد قتلِهِ لا يتألَّم ولا يُحِسُّ ولا يتعذبُ ، لأن روحه فارقتْ جسمه ، ولكن الحيَّ القاتل يأنسُ ويرتاحُ ، ويُسرُّ بزيادةِ التنكيلِ . إن هذه النفوس المتلمِّظة على خصومِها المضطرمةَ على أعدائِها لن تهدأ أبداً ولن تسعد ، لأن نار الانتقامِ وبركان التشفِّي يدمِّرُهم قبل خصومِهِمْ .(/123)
وأعجبُ من هذا أن بعض خلفاءِ بني العباس فاته أن يقتل خصومه من بني أمية ، لأنهم ماتُوا قبل أن يتولَّى ، فأخرجهم من قبورهم وبعضُهم رميمٌ فجلدهم ، ثم صلبهم ، ثم أحرقهم . إنها ثورةُ الحقدِ العارمِ الذي يُنهي على المسرَّاتِ وعلى مباهجِ النفسِ واستقرارِها .
إن الضرر على المنتقمِ أعظمُ ، لأنه فَقَدَ أعصابَه وراحته وهدوءهُ وطمأنينته .
لا يبلغُ الأعداءُ من جاهلٍ
ما يبلغُ الجاهلُ مِنْ نَفْسِهِ
? وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ? .
*****************************************
وقفةٌ
« ليس للعبدِ إذا بُغِي عليه وأُوذي وتسلَّط عليه خصومُه ، شيء أنفعُ له من التوبةِ النصوحِ ، وعلامةُ سعادتِه أن يعكس فكره ونظره على نفسِه وذنوبِه وعيوبِه ، فيشتغل بها وبإصلاحها ، وبالتوبةِ منها ، فلا يبقى فيه فراغٌ لتدبُّر ما نَزَل به ، بل يتولَّى هو التوبة وإصلاح عيوبه ، واللهُ يتولى نُصرته وحفظه والدفع عنه ولابدَّ ، فما أسعدهُ من عبدٍ ، وما أبركها من نازلةٍ نزلتْ به ، وما أحسن أثرها عليه ، ولكن التوفيق والرشد بيدِ اللهِ ، لا مانعٍ لما أعطى ولا مُعطي لما منع ، فما كلُّ أحدٍ يُوفَّق لهذا ، لا معرفةً به ، ولا إرادةً له ، ولا قدرةً عليه ، ولا حول ولا قوة إلا باللهِ » .
سبحان منْ يعفو ونهفو دائماً
ولم يزلْ مهما هفا العبدُ عفا
يُعطي الذي يخطي ولا يمنعُه
جلالُه عن العطا لذي الخطا
*******************************************
لا تذُبْ في شخصيةِ غيرك
تمرُّ بالإنسان ثلاثةُ أطوار : طوْرُ التقليد ، وطورُ الاختيارِ ، وطورُ الابتكارِ . فالتقليدُ : هو المحاكاةُ للآخرين وتقمُّصُ شخصياتِهم وانتحالُ صفاتِهم والذوبانُ فيهم ، وسببُ هذا التقليدِ هو الإعجابُ والتعلُّقُ والميْلُ الشديدُ ، وهذا التقليدُ الغالي ليحمل بعضهُم على التقليد في الحركاتِ واللحظاتِ ، ونبْرةِ الصوتِ والالتفاتِ ، ونحو ذلك ، وهو وأْدٌ للشخصية وانتحارٌ معنويٌّ للذاتِ . ويا لمُعاناةِ هؤلاءِ من أنفسِهم ، وهم يعكسون اتجاههُمْ ، ويسيرون إلى الخلفِ !! فالواحدُ منهم ترك صوته لصوتِ الآخرِ ، وهَجَرَ مشيته لمشيةِ فلانٍ ، ليت هذا التقليد كان للصفاتِ الممدوحةِ التي تُثري العمر وتُضفي عليه هالة من السموِّ والرّفعةِ ، كالعِلْمِ والكرمِ والحلمِ ونحوها ، لكنك تُفاجأُ أن هؤلاء يقلِّدون في مخارجِ الحروفِ وطريقةِ الكلامِ وإشارةِ اليدِ !! .
أريدُ التأكيد عليك بما سبق : إنك خَلْقٌ آخرُ وشيءٌ آخرُ ، إنه نهجُك أنت من خلالِ صفاتِك وقدراتِك ، فإنه منذُ خَلَقَ اللهُ آدم إلى أن ينهي اللهُ العالم ، لم يتفقْ اثنانِ في الصورةِ الخارجيةِ للجسمِ ، بحيثُ ينطبق شكلُ هذا على شكلِ ذاك : ? وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ......? الآية . فلماذا نحنُ نريدُ أن نتفقَ مع الآخرين في صفاتِنا ومواهبِنا وقدراتِنا ؟!
إن جمال صوتِك أن يكون متفرِّداً ، وإن حُسْن إلقائِك أن يكون متميِّزاً : ? وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ? .
************************************
المكظومون في انتظار لطْف الله
هذا الخطيبُ المِصْقعُ لا يلتوي لسانُه إذا تراكضتِ الألفاظُ في ميدانِ البيانِ ، بل يمضي ساطعاً صارماً متدفِّقاً .
هو خطيبُ الرسول ( وحسْبُ ، وخطيب الإسلام وكفى ، كان يرفع صوته بالخطبِ بين يدي رسول اللهِ ( لنصرةِ الدِّين ، إنه ثابتُ بنُ قيسِ بن شمّاس ، وأنزل اللهُ : ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ? . وظنَّ قيسٌ أنه هو المقصودُ ، فاعتزل الناس واختبأ في بيتِه يبكي ، وفقده رسولُ اللهِ ( فسأل عنه ، فأخبره الصحابةُ الخَبَرَ ، فقال : (( كلاَّ ، بل هو من أهلِ الجنةِ )) .
فصارتِ النذارةُ بشارةٌ .
هناءٌ محا ذاك العزاء المقدَّما
فما جزِع المحزونُ حتى تبسَّما
وتبقى عائشةُ أمُّ المؤمنين – رضي اللهُ عنها – تبكي شهراً كاملاً ليلاً ونهاراً ، حتى كاد البكاء يمزِّقُ كبِدها ويفري جسمها ، لأنها طُعنتْ في عِرْضها الشريفِ ، العفيفِ ، فجاء الفرج : ? إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ? . وحمدتِ الله وصارتْ أطهر الطُّهرِ ، كما كانتْ ، وفرح المؤمنون بهذا الفتحِ المبينِ .
والثَّلاثةُ الذين تخلَّفوا عن غزوةِ تبوك ، وضاقْتْ عليهمْ الأرضُ بما رحُبتْ ، وضاقتْ عليهم أنفسُهم ، وظنُّوا أن لا ملجأ من اللهِ إلا إليه ، أتاهم الفرجُ ممنْ يملكُه – سبحانه- ونزل عليهم الغوْثُ من السميعِ القريبِ .
*************************************(/124)
احرصْ على العملِ الذي ترتاحُ لهُ
يقولُ ابن تيمية : « ابتدأني مرضٌ ، فقال لي الطبيبُ : إنَّ مطالعتك وكلامك في العلمِ يزيدُ المرض . فقلت له : لا أصبرُ على ذلك ، لا أصبرُ على ذلك ، وأنا أحاكمُك إلى علمِك ، أليستِ النَّفسُ إذا فرجتْ وسُرَّتْ قويتِ الطَّبيعةُ ، فَدَفعتِ المرض ؟ فقال : بلى . فقلتُ له : فإن نفسي تُسرُّ بالعلمِ ، فتقوى به الطبيعةُ ، فأجدُ راحةً . فقال: هذا خارجٌ عن علاجِنا» ?لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ? .
لعلَّ عَتْبَك محمودٌ عواقبُهُ
فربَّما صحتِ الأجسامُ بالعِللِ
********************************************
كُلاً نُمِدُّ هؤلاءِ وهؤلاء
ما أحوجنا إلى المثابرةِ واستثمارِ الوقت ، ومسابقةِ الأنفاسِ بالعملِ الصالحِ النافعِ المفيدِ ، إننا سوف نسعدُ يوم نقدِّم للآخرين نفعاً ووعياً وخدمة وثقافةً وحضارةً ، وسوف نسعدُ إذا علمْنا أننا لم نأتِ إلى الحياةِ سُدّى ، ولم نُخْلقْ عَبَثاً ، ولم نُوجدْ لعِباً .
يوم تصفَّحتُ « الأعلام » للزركليِّ فوجدتُ تراجم شرقيين وغربيين ، ساسةً وعلماء ، وحكماء وأدباء وأطباء ، يجمعهم أنهم نابغون مؤثِّرون لامعون ، ووجدتُ في سِيرهم جميعاً سنة اللهِ في خلقِه ، ووعد اللهِ في عبادِه ، وهي أن من أحسن من أجل الدنيا وُفّي نصيبه من الدنيا ، من الذيوعِ والشهرةِ والانتشارِ ، وما يلحقُ ذلك من مالِ ومنصبٍ وإتحافٍ ، ومن أحسن للآخرةِ وجدها هنا وهناك ، من النفعِ والقبولِ والرضا والأجرِ والمثوبةِ : ? كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً ? .
ووجدتُ في الكتابِ أيضاً أن هؤلاءِ العباقرةِ الذين قدَّموا للبشرية نفعاً ونتاجاً ولم يعملُوا للآخرة – وأخصُّ منهم غيْر المؤمنين باللهِ ولقائِه – وجدتُهم أسعدوا الناس أكثر من أنفسِهم ، وأفرحوا أرواح الآخرين أكثر من أرواحهِم ، فإذا بعضُهم ينتحرُ ، وبعضهم يثورُ من واقعِه ويغضبُ من حياتِهِ ، وآخرون منهم يعيشون بؤساً وضنْكاً .
وسألتُ نفسي : ما هي الفائدةُ إذا سعد بي قومٌ وشقيت أنا ، وانتفع بي ملأٌ وحُرمِت أنا ؟!
ووجدتُ أنَّ الله أعطى كلَّ أحدٍ من هؤلاءِ البارزين ما أراد ، تحقيقاً لوعدِه ، فجمْعٌ منهم حصل على جائزةِ نوبل ، لأنه أرادها وسعى لها ، ومنهم من تبوَّأ الصدارة في الشهرةِ ، لأنه بحث عنها وشغف بها ، ومنهم من وَجَدَ المال ، لأنه هام به وأجبَّه ، ومنهم عبادُ اللهِ الصالحون ، حصلُوا على ثوابِ الدنيا وحسنِ ثوابِ الآخرةِ – إنْ شاء اللهُ - ، يبتغون فضلاً من اللهِ ورِضْواناً .
إنَّ من المعادلات الصحيحة المقبولة : أن المغمور السعيد الواثق من منهجِه وطريقِه ، أنعمُ حظّاً من اللامعِ الشهيرِ الشقيِّ بمبادئِه وفكرِهِ .
إنَّ راعي الإبلِ المسلمِ في جزيرةِ العربِ أسعدُ حالاً بإسلامِه من « تولوستوي » الكاتب الروائي الشهيرِ ، لأن الأول قضى حياته مطمئناً راضياً ساكناً يعرفُ مصيرَهُ ومنقلبه ، والثاني عاش ممزَّق الإرادةِ ، مبعثر الجهدِ ، لم يبردْ غليلُه من مرادِه ، ولا يعرفْ مستقبلهُ .
عند المسلمين أعظمُ دواءٍ عرفتْه البشريةُ ، وأجلُّ علاجٍ اكتشفتْه الإنسانيةُ . إنه الإيمانُ بالقضاءِ والقدرِ ، حتى قال بعضُ الحكماءِ : لن يسعد في الحياةِ كافرٌ بالقضاءِ والقدرِ . وقد أعدتُ عليك هذا المعنى كثيراً ، وعرضتُه لك في أساليب شتَّى ، وأنا على عمْد ، لأنني أعرفُ من نفسي ومن كثير مثلي أننا نؤمنُ بالقضاءِ والقدرِ فيما نحبُّه ، وقد نتسخَّطُ عليه فيما نكرهُهُ ، ولذلك كان شرطُ الملَّةِ وميثاقُ الوحيِ : (( أن تؤمن بالقدرِ خيرِه وشره ، حلوِه ومرِّه )) .
************************************
ومن يؤمنْ بالله يهدِ قلبَه
أسوقُ هنا قصةً لتظهر سعادة من رضي بالقضاءِ ، وحيرة وتكدُّر وشكَّ منْ سخِط مِن القضاءِ :(/125)
فهذا كاتبٌ أمريكيٌ لامعٌ ، اسمُه « بودلي » مؤلّفُ كتابِ « رياح على الصحراءِ » ، و « الرسول ( » وأربعة عشرَ كتاباً أخرى ، وقد استوطن عام 1918 م إفريقية الشمالية الغربية ، حيث عاش مع قومٍ من الرُّحَّل البدوِ المسلمين ، يصلُّون ويصومون ويذكرون الله . يقولُ عن بعضِ مشاهدِه وهو معهم : هبَّتْ ذات يومٍ عاصفةٌ عاتية ، حملت رمال الصحراءِ وعبرتْ بها البحر الأبيض المتوسط ، ورمتْ بها وادي الرون في فرنسا ، وكانت العاصفة حارةً شديدةً الحرارةِ ، حتى أحسستُ كأنَّ شعْر رأسي يتزعزعُ من منابتِهِ لفرطِ وطأةِ الحرِّ ، فأحسستُ من فرطِ الغيظِ كأنني مدفوعٌ إلى الجنون ، ولكنَّ العرب لم يشكوا إطلاقاً ، فقد هزُّوا أكتافهم وقالوا : قضاءٌ مكتوبٌ . واندفعوا إلى العمل بنشاطٍ ، وقال رئيسُ القبيلةِ الشيخُ : لم نفقدِ الشيء الكثير ، فقد كنا خليقين بأن نفقد كلَّ شيءٍ ، ولكن الحمدُ للهِ وشكراً ، فإن لدنيا نحو أربعين في المائة مِن ماشيِتنا ، وفي استطاعِتنا أن نبدأ بها عملنا من جديد .
وثمَّة حادثةٌ أخرى .. فقدْ كنا نقطعُ الصحراء بالسيارةِ يوماً فانفجر أحدُ الإطارات ، وكان الشائقُ قد نسي استحضار إطار احتياطيٍّ ، وتولاني الغضبُ ، وانتابني القلقُ والهمُّ ، وسألتُ صحبي من الأعرابِ : ماذا عسى أن نفعل ؟ فذكَّروني بأن الاندفاع إلى الغضبِ لن يُجدي فتيلاً ، بل هو خليقٌ أن يدفع الإنسان إلى الطيشِ والحُمْقِ ، ومنْ ثم درجتْ بنا السيارة وهي تجري على ثلاثة إطارات ليس إلا ، لكنها ما لبثت أن كفَّتْ عن السير ، وعلمت أن البنزين قد نفَدَ ، وهناك أيضاً لم تثرْ ثائرة أحدٍ منْ رفاقي الأعرابِ ، ولا فارقهُم هدوؤهم ، بل مضوْا يذرعون الطريق سيراً على الأقدامِ ، وهم يترنَّمون بالغناءِ !
قد أقنعتني الأعوامُ السبعةُ التي قضيتُها في الصحراءِ بين الأعرابِ الرحَّلِ ، أنَّ الملتاثين ، ومرضى النفوسِ ، والسكيرين ، الذين تحفلُ بهم أمريكا وأوربة ، ما هم إلا ضحايا المدينةِ التي تتخذُ السرعة أساساً لها .
إنني لم أعانِ شيئاً من القلق قطُّ ، وأنا أعيشُ في الصحراءِ ، بل هنالك في جنةِ اللهِ ، وجدتُ السكينة والقناعة والرضا ، وكثيرون من الناسِ يهزؤون بالجبريةِ التي يؤمن بها الأعرابُ ، ويسخرون من امتثالِهِم للقضاءِ والقدرِ .
ولكن منْ يدري ؟ فلعلَّ الأعراب أصابُوا كبِد الحقيقة ، فإني إذ أعودُ بذاكرتي إلى الوراءِ .. وأستعرضُ حياتي ، أرى جلياً أنها كانت تتشكَّلُ في فتراتٍ متباعدةٍ تبعاً لحوادث تطرأ عليها ، ولم تكنْ قطُّ في الحُسبانِ أو مما أستطيعُ له دفعاً ، والعربُ يطلقون على هذا اللون من الحوادث اسم : « قدَر » أو « قِسْمة» أو « قضاءُ اللهِ » ، وسمِّه أنت ما شئت .
وخلاصةُ القولِ : إنني بعد انقضاءِ سبعةَ عشر عاماً على مغادرتي الصحراء ، ما زلتُ أتخذ موقف العربِ حيال قضاءِ اللهِ ، فأقابلُ الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسكينة ، ولقد أفلحت هذه الطباعُ التي اكتسبتُها من العرب في تهدئِة أعصابي أكثر مما تفلحُ آلاف المسكِّناتِ والعقاقيرِ ! ...اهـ .
أقولُ : إن أعراب الصحراءِ تلقَّنُوا هذا الحقَّ من مشكاةِ محمدٍ ( وإن خلاصة رسالةِ المعصومِ هي إنقاذ الناسِ من التِّيهِ ، وإخراجِهم من الظلماتِ إلى النورِ ، ونفْضِ الترابِ عن رؤوسِهم ، ووضعِ الآصارِ والأغلالِ عنهم . إنّ الوثيقة التي بُعِث بها رسولُ الهُدى ( فيها أسرارُ الهدوءِ والأمنِ ، وبها معالمُ النجاةِ من الإخفاق ، فهي اعترافٌ بالقضاء وعمل بالدليل ، ووصول إلى غاية ، وسعي إلى نجاة ، وكدح بنتيجة . إن الرسالة الربانية جاءت لتحدد لك موقعك في الكون المأنوس ، ليسكن خاطرك ، ويطمئن قلبك ، ويزول همك ، ويزكو عملك ، ويجمُل خلقك ، لتكون العبد المثالي الذي عرف سرَّ وجوده ، وأدرك القصد من نشأته .
***************************************
المنهج وَسَط
? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً? .
السعادة في الوَسَطِ ، فلا غُلُوَّ ولا جَفَاءَ ، ولا إفراط ولا تفريط ، وإن الوسطيَّة مِنْهجٌ ربَّانيٌّ حميدٌ يمنعُ العبد من الحَيْفِ إلى أحدِ الطرفيْن . إن من خصائصِ الإسلامِ أنه دينُ وسطٍ ، فهو وسطٌ بين اليهوديةِ والنصرانيةِ : اليهوديةِ التي حملتِ العِلمِ وألغتِ العَمَلِ ، والنصرانيةِ التي غالتْ في العبادةِ واطَّرحتِ الدليل ، فجاء الإسلامُ بالعِلْمِ والعَمَلِ ، والروحِ والجَسَدِ ، والعقلِ والنقلِ .(/126)
وإن ممَّا يسعدُك في حياتِك الوسطية ، الوسطيةُ في عبادتِك : فلا تغْلُ فتنهك جسمك وتقضي على نشاطك ومداومتِك، ولا تجف فتطرح النوافل وتخدش الفرائض وتركن إلى التسويقِ . وفي إنفاقكِ : فلا تتلفْ أموالك وتهلكْ دخلك فتبقى حسيراً مُمْلِقاً ، ولا تمسكْ عطاءك وتبخلْ بنوالك ، فتبقى ملوماً محروماً . ووسطٌ في خلقِك : بين الجدّ المفرطِ واللِّينِ المتداعي ، بين العبوسِ الكالحِ والضحكِ المتهافتِ ، بين العزلةِ الموحشةِ والخلطةِ الزائدةِ على الحدِّ .
إنّه مِنهجُ الاعتدالِ في أخذِ الأمورِ ، والحكمِ على الأشياءِ ، ومعاملةِ الآخرين ، فلا زيادة يطفو بها كيْلُ القِيمِ ، ولا نقْص يضمحلُّ به أصلُ الخيْر ، لأن الزيادة ترفٌ وسَرفٌ ، والنقص جفاءٌ و‘حفاءٌ : ? فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? .
إنّ الحسنة بين السيِّئتين : سيئة الإفراط وسيئة التفريط ، وإن الخيْر بين الشرَّين : شرِّ الغُلُوِّ وشرِّ المجافاةِ ، وإن الحقَّ بين الباطلينِ : باطلِ الزيادةِ وباطلِ النقصِ ، وإن السعادة بين الشقاءين : شقاءِ التهورِ وشقاءِ النكوصِ .
*************************************
لا هذا ولا هذا
يقولُ مطرِّف بنُ عبدالله : أشرُّ السَّيْرِ الحقحقة . وهو الذي يجتهد في السيرِ حتى يضرَّ بنفسهِ ودابتِه . وفي الحديثِ : (( شرُّ الرِّعاء الحُطَمَةُ )) . وهو الذي يتعسّفُ في ولايتِه لأهلِه أو من ولاه اللهُ شأنه . إن الكرم بين الإسرافِ والبخلِ ، وإن الشجاعة بين الجبنِ والتهورِ ، وإن الحلم بين الحدَّةِ والتبلُّد ، وإن البسمة بين العبوس والضحك ، وإن الصبر بين القسوة والجزعِ ، وللغلوِّ دواءٌ هو التخفيفُ من هذا الغلوِّ ، وإطفاءُ شيءٍ من هذا اللهيب المحرق وللجفاءِ دواء هو سوْطُ عزمٍ ، وومضةُ هِمَّة ، وبارقةُ من رجاءٍ ، ? اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ{6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ? .
*******************************
وقفةٌ
« ليس في الوجود شيءٌ أصعبُ من الصبرِ ، إما عن المحبوبِ، أو على المكروهاتِ. وخصوصاً إذا امتدَّ الزمان ، أو وقع اليأسُ من الفرجِ . وتلك المدةُ تحتاجُ إلى زادٍ يُقطعُ به سفرُها ، والزاد يتنوعُ من أجناسٍ :
فمنه : تلمُّحُ مقدارِ البلاءِ ، وقد يمكنُ أن يكون أكثر .
ومنه : أنه في حالِ فوقها أعظمُ منها ، مثل أن يُبتلى بفقْدِ ولدٍ وعنده أعزُّ منه .
ومن ذلك : رجاء العِوضِ في الدنيا .
ومنه : تلمُّح الأجرِ في الآخرةِ . ومنه : التلذُّذُ بتصويرِ المدحِ والثناءِ من الخلْقِ فيما يمدحون عليه ، والأجرُ من الحقِّ عزَّ وجلَّ .
ومن ذلك : أن الجزع لا يفيدُ ، بل يفضحُ صاحِبهُ .
إلى غيْرِ ذلك من الأشياء التي يقدحُها العقلُ والفكرُ ، فليس في طريقِ الصبرِ نفقةٌ سواها ، فينبغي للصابرِ أن يشغل بها نفسه ، ويقطع بها ساعاتِ ابتلائِهِ » .
*********************************************
مَنْ هُمُ الأولياءُ
من صفات الأولياء : انتظارُ الأذانِ بالأشواقِ ، والتَّهافُتُ على تكبيرةِ الإحرامِ ، والوَلَهُ بالصفِّ الأوّلِ ، ومداومةِ الجلوسِ في الروضةِ ، وسلامةُ الصدرِ ، وظهورُ مراسيمِ السُّنَّةِ ، وكثرةُ الذِّكرِ ، وأكل الحلالِ ، وتركُ ما لا يعني ، والرضا بالكفافِ ، وتعلُّمُ المحيِ كتاباً وسنةً ، وطلاقةُ المُحَيَّا ، والتوجُّعُ لمصائب المسلمين ، وتركُ الخلافِ ، والصبرُ للشدائدِ ، وبذْلُ المعروفِ .
التوسطُ في المعيشةِ أفضلُ ما يكونُ ، فلا غنى مطغياً ولا فقراً منسياً ، وإنما ما كفى وشفى ، وقضى الغرض ، وأتى بالمقصودِ في المعيشةِ ، فهو أجلُّ العيشِ عائدةً ، وأحسنُ القوتِ فائدةً .
والكفايةُ : بيتٌ تسكُنهُ ، وزوجةٌ تأوي إليها ، ومركبٌ حَسَنٌ ، وما يكفي من المالِ لسدِّ الحاجةِ وقضاءِ اللازمِ
********************************
اللهُ لطيفٌ بعبادِهِ(/127)
أخبرني أحدُ أعيانِ مدينةِ الرياضِ أنه في عام 1376 هـ ، ذهب مجموعةٌ من البحارةِ من أهلِ الجبيلِ إلى البحرِ ، يريدون اصطياد السمكِ ، ومكثوا ثلاثة أيام بلياليهنَّ لم يحصلُوا على سمكةٍ واحدةٍ ، وكانوا يصلون الصلواتِ الخمس ، وبجانبهم مجموعةٌ أخرى لا تسجدُ للهِ سجدةً ، ولا تصلّي صلاةً ، وإذا هم يصيدون ، ويحصلون على طلبِهم من هذا البحرِ ، فقال بعضُ هؤلاءِ المجموعةِ : سبحان اللهِ ! نحن نصلي للهِ عزَّ وجلَّ صلاةٍ ، وما حصلْنا على شيءٍ من الصيدِ ، وهؤلاء لا يسجدون للهِ سجدةً وها هو صيدُهم !! فوسوس لهم الشيطانُ بتركِ الصلاةِ ، فتركُوا صلاة الفجرِ ، ثم صلاة الظهرِ ، ثم صلاة العصرِ ، وبعد صلاةِ العصرِ أتوْا إلى البحرِ فصادُوا سمكةً ، فأخرجُوها وبقرُوا بطنها ، فوجدُا فيها لؤلؤةً ثمينةً ، فأخذها أحدُهم بيدِه ، وقلَّبها ونظر إليها ، وقال : سبحان اللهِ ! لما أطْعنا الله ما حصلنا عليها ، ولما عيناه حصلْنا عليها !! إن هذا الرزق فيه نظرٌ . ثم أخذ اللؤلؤة ورمى بها في البحرِ ، وقال : يعوضُنا اللهُ ، واللهِ لا آخذُها وقد حصلتْ لنا بعد أن تركْنا الصلاة ، هيا ارتحلُوا بنا من هذا المكان الذي عصينا الله فيه ، فارتحلُوا ما يقاربُ ثلاثة أميالٍ ، ونزلُوا هناك في خيمتِهم ، ثم اقتربُوا من البحرِ ثانية ، فصادُوا سمكة الكنعد ، فبقروا بطنها فوجدوا اللؤلؤة في بطنِ تلك السمكةِ ، وقالوا : الحمدُ للهِ الذي رزقنا رزقاً طيباً . بعد أنْ بدؤوا يصلُّون ويذكرون الله ويستغفرونه ، فأخذوا اللؤلؤة . اهـ .
فانظرْ كيف كان منْ ذي قبل ، في وقت معصيةٍ ، وكان رزقاً خبيثاً ، وانظر كيف أصبح الآن في وقتِ طاعةٍ ، وأصبح رزقاً طيباً . ? وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ? .
إنه لطفٌ اللهِ ، ومن ترك شيئاً للهِ عوَّضه اللهُ خيراً منه .
يذكِّرني هذا بقصةٍ لعليٍّ – رضي الله عنه - ، وقد دخل مسجد الكوفةِ ليصلي ركعتي الضحى ، فوجد غلاماً عند البابِ ، فقال : يا غلامُ ، احبسْ بغلتي حتى أصلي . ودخل عليٌّ المسجد ، يريدُ أن يعطي هذا الغلام درهماً ، جزاء حبْسه للبغلةِ ، فلما دخل عليٌّ المسجد ، أتى الغلام إلى خطامِ البغلةِ ، فاقتلعه منْ رأسِها وذهب به إلى السوقِ ليبيعه ، وخرج عليٌّ فما وجد الغلام ، ووجد البغلة بلا خطامٍ ، فأرسل رجلاً في أثرِهِ ، وقال : اذهبْ إلى السوقِ ، لعلَّه يبيعُ الخطام هناك . وذهب الرجلً ، فوجد هذا الغلام يحرِّجُ على الخطامِ ، فشراه بدرهمٍ ، وعاد يخبرُ علياً ، قال سبحان الله ! واللهِ لقدْ نويتُ أن أعطيهَ درهماً حلالاً ، فأبى إلا أنْ يكون حراماً .
إنه لطفُ الله عزَّ وجلَّ ، يلاحقُ عباده أينما سارُوا وأينما حلُّوا وأينما ارتحلُوا : ? وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ? .
********************************************
? وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ?
وقد ذَكَرَ التنوخيُّ في كتابهِ «الفَرَجِ بعد الشِّدَّةِ » ما يناسبُ هذا المقام : أن رجلاً ضاقتْ عليه الحِيلُ ، وأُغلقتْ عليه أبوابُ المعيشةِ ، وأصبح ذات يومٍ هو وأهلُه لا شيء في بيتهم ، قال : فبقيت أنا وأهلي اليوم الأول جوْعى وفي الثاني ، فلما دنتِ الشمسُ للمغيبِ ، قالت لي زوجتي : اذهبْ وانطلقْ والتمسْ لنا رزقاً أو طعاماً أو أكلاً ، فقد أشرفْنا على الموتِ . قال : فتذكَّرتُ امرأةً قريبة لي ، فذهبتُ إليها وأخبرتُها الخَبَرَ ، قالت : ما في بيتِنا إلا هذهِ السمكةُ وقد أنتنتْ . قلتُ : عليَّ بها ، فإنا قد أشرفْنا على الهلاكِ . وذهبتُ بها وبقرتُ بطنها ، فأخرجتُ منها لؤلؤةً بعتُها بآلافِ الدنانيرِ ، وأخبرتُ قريبتي ، قالتْ : لا آخذُ معكم إلا قسمي . قال : فاغتنيتُ فيما بعدُ ، وأثَّثتُ من ذلك بيتي ، وأصلحتُ حالي ، وتوسّعتُ في رزقي . فهو لطفُ اللهِ سبحانه وتعالى ليس غيرَهُ .
? وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ? .
? إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ? .
******************************************
? وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ ?(/128)
حدَّثنا أحدُ الفضلاءِ من العُبَّادِ : أنه كان بأهلِه في الصحراءِ ، في جهةِ الباديةِ ، وكان عابداً قانتاً منيباً ذاكراً للهِ . قال : فانقطعتْ المياهُ المجاورةُ لنا ، وذهبتُ ألتمسُ ماءً لأهلي ، فوجدتُ أن الغدير قد جفَّ ، فعُدتُ إليهم ، ثم التمسْنا الماء يمْنةً ويسْرَةً ، قلم نجدْ ولو قطرةً ، وأدركنا الظمأُ ، واحتاج أطفالي للماء ، فتذكرتُ ربَّ العزةِ – سبحانه- القريب المجيب ، فقمتُ فتيمَّمتُ ، واستقبلتُ القبلة وصلَّيتُ ركعتين ، ثم رفعتُ يديَّ وبكيتُ ، وسالتْ دموعي ، وسألتُ الله بإلحاحٍ ، وتذكرتُ قوله : ? أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ.....? الآية ، وواللهِ ما هو إلا أن قمتُ من مقامي ، وليس في السماء من سحاب ولا غيْم ، وإذا بسحابة قد توسَّطتْ مكاني ومنزلي في الصحراءِ ، واحتكمتْ على المكان ، ثم أنزلتْ ماءها ، فامتلأتِ الغدرانُ من حولِنا وعن يميننا وعن يسارِنا ، فشرْبنا واغتسْلنا وتوضأنا ، وحمدْنا الله سبحانه وتعالى ، ثم ارتحلتُ قليلاً خلْف هذا المكان ، وإذا الجدْبُ والقحطُ ، فعلمتُ أن الله ساقها لي بدعائي ، فحمدتُ الله عزَّ وجلَّ : ? وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ? .
إنه لابدَّ أن نلحَّ على اللهِ سبحانه وتعالى ، فإنه لا يُصْلِحُ الأنفس ، ولا يرزقُ ولا يهدي ، ولا يوفِّقُ ولا يثبِّتُ ، ولا يعينُ ولا يغيثُ ، إلاَّ هو سبحانه وتعالى . واللهُ ذكَرَ أحدَ أنبيائه فقال : ? وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ? .
************************************
عوَّضهُ اللهُ خيراً منهُ
ذكر ابنُ رجب وغيرُه أنَّ رجلاً من العُبَّادِ كان في مكة ، وانقطعتْ نفقتُه ، وجاع جوعاً شديداً ، وأشرف على الهلاكِ ، وبينما هو يدورُ في أحدِ أزقَّةِ مكة إذ عثر على عِقْدِ ثمينٍ غالٍ نفيسٍ ، فأخذه في كمِّه وذهب إلى الحَرَمِ وإذا برجلٍ ينشدُ عن هذا العقد ، قال : فوصفه لي ، فما أخطأ من صفتِه شيئاً ، فدفعتُ له العِقْد على أن يعطيني شيئاً . قال : فأخذ العقد وذهب ، لا يلوي على شيء ، وما سلَّمني درهماً ولا نقيراً ولا قطميراً . قلتُ : اللهمّ إني تركتُ هذا لك ، فعوِّضني خيراً منه ، ثم ركب جهة البحرِ فذهب بقاربٍ ، فهبَّتْ ريحٌ هوجاءُ ، وتصدَّع هذا القاربُ ، وركب هذا الرجل على خشبةٍ ، وأصبح على سطحِ الماءِ تلعبُ به الريح يمْنَةً ويَسْرَةً ، حتى ألقتْه إلى جزيرةِ ، ونَزلَ بها ، ووجد بها مسجداً وقوماً يصلُّون فصلَّى ، ثم وجد أوراقاً من المصحفِ فأخذ يقرأ ، قال أهل تلك الجزيرةِ : أئنك تقرأ القرآن ؟ قلتُ : نعمْ . قالوا : علِّمْ أبناءنا القرآن . فأخذتُ أعلِّمهم بأجرةٍ ، ثم كتبتُ خطاً ، قالوا : أتعلِّم أبناءنا الخطَّ ؟ قلتُ : نغم . فعلَّمتُهم بأجرةٍ .
ثم قالوا : إن هنا بنتاً يتيمةً كانت لرجلٍ منا فيه خيْرٌ وتُوفِّي عنها، هل لك أن تتزوجها؟ قلتُ: لا بأس. قال: فتزوجتُها ، ودخلتُ بها فوجدتُ العقْد ذلك بعينهِ بعنقِها . قلتُ: ما قصةُ هذا العقدِ ؟ فأخبرتِ الخَبَرَ ، وذكرتْ أن أباها أضاعه في مكة ذات يوم، فوجده رجلٌ فسلّمه إليه ، فكانَ أبوها يدعو في سجودِه ، أن يرزق ابنته زوجاً كذلك الرجل . قال : فأنا الرجلُ .
فدخل عليه العِقْدُ بالحلالِ ، لأنه ترك شيئاً للهِ ، فعوَّضه الله خيراً منه (( إنَّ الله طيبٌ لا يقبلُ إلاَّ طيِّباً )) .
******************************************
إذا سألت فاسألِ الله
إنَّ لطف اللهِ قريبٌ ، وإنه سميعٌ مجيبٌ ، وإن التقصير منا ، إننا بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى أن نلحَّ وندعوه ، ولا نَمَلّ نسأمُ ، ولا يقولُ أحدنا : دعوتُ دعوتُ فلم يُستجبْ لي . بل نمرِّغُ وجوهنا في الترابِ ، ونهتفُ ، ونلظُّ بـ (( يا ذا الجلالِ والإكرامِ )) ، ونعيدُ ونبدئُ تلك الأسماءِ الحسنى والصفاتِ العُلى ، حتى يجيبَ اللهُ سبحانه وتعالى طلبنا ، ، أو يختار لنا خبرةً من عنده سبحانه وتعالى ? ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ? .(/129)
ذكر أحدُ الدعاةِ في بعضِ رسائِله أن رجلاً مسلماً ذهب إلى إحدى الدول والتجأ بأهِله إليها ، وطلب بأن تمنحه جنسية ، فأغلقتْ في وجههِ الأبوابُ ، وحاول هذا الرجل كلَّ المحاولةِ ، واستفرغ جهده ، وعرضَ الأمرَ على كلِّ معارفِه ، فبارتِ الحِيَلُ ، وسُدَّتِ السبل ، ثم لقي عالماً ورِعاً فشكا إليه الحال ، قال : عليك بالثلث الأخيرِ من الليلِ ، ادع مولاك ، فإنه الميسرُ سبحانه وتعالى – وهذا معناه في الحديث : (( إذا سألتَ فاسألِ الله ، وإذا استعنت فاستعنْ بالله ، واعلمْ أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك )) – قال هذا الرجل : فواللهِ لقد تركتُ الذهاب إلى الناس ، وطلب الشفاعات ، وأخذتُ أداومُ على الثلث الأخير كما أخبرني هذا العالِم ، وكنتُ أهتفُ للهِ في السَّحرِ وأدعوه ، فما هو إلا بعد أيام ، وتقدَّمتُ بمعروضٍ عادي ولم أجعل بيني وبينهم واسطة ، فذهب هذا الخطابُ ، وما هو إلا أيام وفوجئْتُ في بيتي ، وإذ أنا أُدعى وأسلَّمُ الجنسية ، وكانت في ظروفٍ صعبةٍ .
********************************************
? اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ?
الدقائقُ الغاليةُ :
ذكر التنوخيُّ : أن أحدُ الوزراءِ في بغداد – وقد سمَّاه – اعتدى على أموالِ امرأةٍ عجوزٍ هناك ، فسلبها حقوقها وصادر أملاكها ، ذهبتْ إليه تبكي وتشتكي من ظلمِه وجوْزِه ، فما ارتدع وما تاب وما أناب ، قالت : لأدعونَّ الله عليك ، فأخذ يضحكُ منها باستهزاءٍ ، وقال : عليك بالثلثِ الأخيرِ من الليل . وهذا لجبروتِه وفسْقِه يقول باستهزاءٍ ، فذهبتْ وداومتْ على الثلثِ الأخير ، فما هو إلا وقتٌ قصيرٌ إذ عُزِل هذا الوزيرُ وسُلبتْ أموالُه ، وأُخذ عقارُه ، ثم أُقيم في السوقِ يُجلدُ تعزيراً له على أفعالِه بالناسِ ، فمرَّتْ به العجوزُ ، فقالتْ له : أحسنتَ! لقد وصفت لي الثلث الأخير من الليلِ ، فوجدتُه أحسنَ ما يكونُ .
إنَّ ذاك الثلث غالٍ منْ حياتِنا ، نفيسٌ في أوقاتنا ، يوم يقولُ ربُّ العزةِ : (( هلْ منْ سائلٍ فأعطيه ، هلْ منْ مستغفرٍ فأغفرَ له ، هلْ منْ داعٍ فأجيبه )) .
لقد عشتُ في حياتي على أني شابٌّ . وسمعتُ سماعاتٍ وأثر في حياتي حادثاتٌ لا أنساها أبد الدهرِ ، وما وجدتُ أقرب من القريبِ ، عنده الفرجُ ، وعنده الغوْثُ ، وعنده اللطفُ سبحانه وتعالى .
ارتحلتُ مع نَفَرٍ من الناسِ في طائرٍة من أبها إلى الرياضِ في أثناءِ أزمةِ الخليجِ ، فلما أصبحْنا في السماءِ أُخبِرْنا أننا سوف نعودُ مرةً ثانيةً إلى مطارٍ أبها لخللٍ في الطائرِة ، وعدْنا وأصلحُوا ما استطاعُوا إصلاحه ، ثم ارتحلْنا مرةً أخرى ، فلما اقتربنا من الرياضِ أبتْ العجلاتُ أنْ تنزل ، فأخذ يدورُ بنا على سماء الرياضِ ساعةً كاملةً ، ويحاولُ أكثر منْ عشْرِ محاولاتٍ يأتي المطار ويحاولُ الهبوط فلا يستطيعُ ، فيرتحلُ مرةً أخرى ، وأصابنا الهلعُ ، وأصاب الكثير الانهيارُ ، وكثرُ بكاءُ النساءِ ، ورأيتُ الدموع تسيلُ على الخدودِ ، وأصبحْنا بين السماءِ والأرضِ ننتظرُ الموت أقرب منْ لمحِ البَصَرِ ، وتذكرتُ كلَّ شيءٍ فما وجدتُ كالعملِ الصالحِ ، وارتحل القلبُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ وإلى الآخرةِ ، فإذا تفاهَةُ الدنيا ، ورخصُ الدنيا ، وزهادةُ الدنيا ، وأخذْنا نكرِّر : (( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملكُ وله الحمدُ وهو كلِّ شيءٍ قديرٌ )) ، في هتافٍ صادقٍ ، وقام شيخٌ كبيرٌ مسنٌّ يهتفُ بالناسِ أن يلجؤُوا إلى اللهِ وأنْ يدعوهُ ، وأنْ يستغفروهُ وأنْ ينيبُوا له .
وقد ذكر اللُهِ عن الناسِ أنهم: ? فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ?.
ودعوْنا الذي يجيبُ المضطر إذا دعاه ، وألححْنا في الدعاءِ ، وما هو إلا وقتٌ ، ونعودُ للمرةِ الحادية عشرة والثانية عشرة ، فنهبطُ بسلام ، فلما نزلْنا كأنا خرجْنا من القبورِ ، وعادتِ النفوسُ إلى ما كانتْ ، وجفتِ الدموعُ ، وظهرتِ البَسَماتُ ، فما أعظم لطف اللهِ سبحانه وتعالى .
كمْ نطلبُ الله في ضُرِّ يحِلُّ بِنا
فإنْ تولَّتْ بلايانا نَسِيَناهُ
ندعوه في البحرِ أنْ يُنْجي سفينتَنا
فإنْ رجعنا إلى الشاطي عصيناهُ
ونركبُ الجوَّ في أمنٍ وفي دَعَةٍ
وما سقطْنا لأنَّ الحافظ اللهُ
إنهُ لطفُ الباري سبحانه وتعالى ، وعنايتُه ، ليس إلا .
**************************************
« مَنْ لَنَا وقت الضائقةِ ؟ »(/130)
ذكرتْ جريدةُ « القصيم » -وهي جريدةٌ قديمةٌ كانتْ تصدُر في البلاد- ذكرتْ أن شابّاً في دمشق حجزَ ليسافرَ ، وأخبر والدته أنَّ موعدَ إقلاعِ الطائرةِ في الساعةِ كذا وكذا ، وعليها أنْ توقظه إذا دنا الوقتُ ، ونام هذا الشابُّ ، وسمعتْ أمُّه الأحوال الجوية في أجهزةِ الإعلامِ ، وأنَّ الرياح هوجاءُ وأنَّ الجوَّ غائمٌ ، وأنَّ هناك عواصف رمليَّةً ، فأشفقتْ على وحيدها وبخلتْ بابنها ، فما أيقظتْه أملاً منها أن تفوته الرحلةُ ، لأنَّ الجوَّ لا يساعدُ على السفرِ ، وخافْت منْ الوضعِ الطارئِ ، فلما تأكَّدتْ من ْ أنَّ الرحلة قد فاتتْ ، وقد أقعلتِ الطائرةُ بركَّابِها ، أتتْ إلى ابنِها توقظُه فوجدتْه ميِّتاً في فراشِه .
? قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ? .
فرَّ من الموتِ وفي الموتِ وَقَع .
وقدْ قالتِ العامةُ : « للناجي في البحر طريقٌ » .
وإذا حضر الأجلُ فأيُّ شيء يقتلُ الإنسان .
*************************************
منَ قصصِ الموتِ
ذكر الشيخُ علي الطنطاوي في سماعاتِه ومشاهداتِه : أنه كان بأرضِ الشام رجلٌ له سيارةُ لوري ، فركب معه رجلٌ في ظهرِ السيارة ، وكان في ظهرِ السيارة نَعشٌ مهيَّأ للأمواتِ ، وعلى هذا النعش شراعٌ لوقتِ الحاجةِ ، فأمطرتِ السماءُ وسال الماءُ فقام هذا الراكبُ فدخل في النعش وتغطَّى بالشراعِ ، وركب آخرُ فصعِد في ظهرِ الشاحنةِ بجانبِ النعشِ ، ولا يعلمُ أنَّ في النعشِ أحداً ، واستمرَّ نزولُ الغيثِ ، وهذا الرجلُ الراكبُ الثاني يظنُّ أنه وحده في ظهر السيارةِ ، وفجأةً يْخرج هذا الرجلُ يده من النعشِ ، ليرى : هلْ كفَّ الغيثُ أم لا ؟ ولما أخرج يده أخذ يلوحُ بها ، فأخذ هذا الراكبُ الثانيِ الهلعُ والجزعُ والخوفُ ، وظنَّ أن هذا الميت قد عاد حيّاً ، فنسي نفسه وسقط من السيارةِ ، فوقع على أمِّ رأسهِ فمات .
وهكذا كتب اللهُ أن يكون أجلُ هذا بهذهِ الطريقةِ . وأنْ يكون الموتُ بهذه الوسيلةِ .
كلُّ شيءٍ بقضاءٍ وقدرْ
والمنايا عِبرٌ أيُّ عِبرْ
وعلى العبدِ أنْ يتذكَّر دائماً أنه يحمِلُ الموت ، وأنه يسعى إلى الموتِ ، وأنه ينتظرُ الموت صباح مساء ، وما أحسن الكلمة الرائقة الرائعة التي قالها عليُّ بنُ أبي طالب – رضي اللهُ عنه – وهو يقولُ : (( إن الآخرة قد ارتحلتْ مقبلةً ، وإن الدنيا قد ارتحلتْ مُدْبِرة ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عملٌ ولا حسابُ ، وغداً حسابٌ ولا عملٌ )) .
وهذا يفيدُنا أنَّ على الإنسان أن يتهيَّأ وأن يتجهزَّ وأن يُصلح من حالِه ، وأن يُجدِّد توبته ، وأن يعلم أنه يتعاملُ مع ربِّ كريمٍ قويٍ عظيمٍ لطيفٍ .
إن الموت لا يستأذنُ على أحدٍ ، ولا يحابي أحداً ، ولا يجاملُ ، وليس للموت إنذارٌ مبكر يخبرُ به الناس، ?وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ?
*****************************************
? لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ?
ذكر الطنطاويُّ أيضاً في سماعاتِه ومشاهداتِه : أن باصاً كان مليئاً بالركاب ، وكان سائقُه يلتفتُ يَمْنَةً ويسْرَةً ، وفجأة وقف ، فقال له الركابُ : لِم تقفُ ؟ قال : أقفُ لهذا الشيخ الكبيرِ الذي يُشيرُ بيده ليركب معنا . قالوا : لا نرى أحداً ، قال : انظروا إليه . قالُوا : لا نرى أحداً ! قال : هو أقبل الآن ليركب معنا . قالوا كلُّهم : واللهِ لا نرى أحداً من الناسِ ! وفجأة مات هذا السائقُ على مقعدِ سيارتِهِ .
لقدْ حضرتْ منيَّتُه ، وحلَّتْ وفاتُه ، وكان هذا سبباً ، ? فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ? ، إنَّ الإنسان يجبُن من المخاوفِ ، وينخلعُ قلبه منِ مظانِّ المنايا ، وإذا بالمآمنِ تقتلُه ، ? الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ? . والعجيبُ فينا أننا لا نفكرُ في لقاءِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، ولا في حقارةِ الدنيا ، ولا في قصةِ الارتحالِ منها إلا ذا وقعْنا في المخاوفِ .
*************************************
فربما صحَّتِ الأجسامُ بالعللِ(/131)
ذكر أهلُ السيِّرِ : أن رجلاً أصابه الشللُ ، فأُقعد في بيته ، ومرتْ عليه سنواتٌ طوالٌ من المللِ واليأسِ والإحباطِ ، وعَجَزَ الأطباءُ في علاجِه ، وبلَّغوا أهله وأبناءه ، وفي ذات يومٍ نزلتْ عليه عقربٌ من سقفِ منزلِه ، ولم يستطعْ أن يتحرك من مكانِه ، فأتتْ إلى رأسِه وضربتْه برأسِها ضرباتٍ ولدغتْه لدغاتٍ ، فاهتزَّ جسمُه من أخمصِ قدميه إلى مشاشِ رأسِه ، وإذا بالحياةُ تدبُّ في أعضائِه ، وإذا بالبُرءِ والشفاء يسير في أنحاءِ جسمِه ، وينتفضُ الرجلُ ويعودُ نشيطاً ، ثم يقفُ على قدميه ، ثم يمشي في غرفتِه ، ثم يفتحُ بابه ، ويأتي أهله وأطفاله ، فإذا الرجلُ واقفاً ، فما كانوا يصدِّقون وكادوا من الذهول يُصعقون ، فأخبرهم الخَبَرَ .
فسبحان الذي جعل علاج هذا الرجلِ في هذا !!
وقد ذكرتُ هذا لبعضِ الأطباءِ فصدَّق المقولة ، وذكَرَ أن هناك مصْلاً سامّاً يُستخدم بتخفيفٍ كيماويٍّ ، ويعالجُ به هؤلاءِ المشلولون .
فجلَّ اللطيفُ في علاه ، ما أنزل داءً إلا وأنزل له دواءً .
****************************************
وللأولياء كرامات
هذا صلةُ بن أشيم العابدُ الزاهدُ من التابعين : يذهب إلى الشمالِ ليجاهد في سبيل اللهِ ، ويضمُّه الليلُ فيذهبُ إلى غايةٍ ليصلي فيها ، ويدخل بين الشجرِ ويتوضَّأ ، ويقوم مصلياً ، وينهدُّ عليه أسدٌ كاسرٌ ، ويقتربُ من « صِلة » وهو في صلاته ، ويدورُ به ، وصلةُ في تبتُّله مستمرٌّ ، ولم يقطعْ صلاته وذِكره ، ويسلِّمُ صلةُ بن أشيم من ركعتين ، ثم يقولُ للأسدِ : إن كنت أُمرت بقتلي فكلْني ، وإن تُؤْمر فاتركْني أناجي ربي . فأرخى الأسدُ ذيله وذهب من المكان ، وترك صلة يصلي .
ولك أن تنظر في « البداية والنهاية » وغيرها من كتبِ التاريخِ ، وهذا مذكورٌ عن «سفينة» مولى رسولِ اللهِ ( في كتبِ تراجمِ الصحابةِ ، أنه أتى هو ورفْقةٌ معهُ من ساحلِ البحرِ ، فلما نزلُوا البرَّ فإذا بأسدٍ كاسر مُقبلٍ يريدُهم ، فقال سفينةُ : يا أيها الأسدُ أنا من أصحابِ رسولِ الله ِ ( وأنا خادمُه ، وهؤلاء رفقتي ولا سبيل لك علينا . فولَّى الأسدُ هارباً ، وزأر زأْرةً كاد يملأ بها ربوع المكانِ .
وهذه الوقائعُ والأحداثُ لا ينكرُها إلا مكابرٌ ، وإلا ففي سُننِ اللهِ في خلقِهِ ما يشهدُ بمثل هذا ، ولولا طولُ المقامِ لأوردْتُ عشراتِ القصصِ الصحيحةِ الثابتةِ في هذا الباب ، لكنْ يكفيك دلالةً من هذا الحديث ، لتعلم أن هناك ربّا لطيفاً حكيماً لا تغيبُ عنه غائبةٌ . إن علم الله يلاحقُ الناس ، ولطفه سبحانه وتعالى وشهوده واطلاعه : ? مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ? .
*****************************************
كفى باللهِ وكيلاً وشهيداً
ذكر البخاريُّ في صحيحهِ : أن رجلاً من بني إسرائيل طلب من رجلٍ أن يُقرضه ألف دينارٍ ، قال : هل لك شاهدٌ ؟ قال : ما معي شاهدٌ إلا اللهُ . قال : كفى بالله شهيداً . قال : هل معك وكيلٌ ؟ قال : ما معي وكيل إلا اللهُ . قال : كفى بالله وكيلاًً. ثم أعطاه ألف دينار ، وذهب الرجل وكان بينهما موعدٌ وأجلٌ مسمَّى ، وبينهما نهرٌ في تلك الديارِ ، فلما حان الموعدُ أتى صاحبُ الدنانيرِ ليعيدها لصاحبِها الأولِ ، فوقف على شاطئ النهرِ ، يريدُ قارباً يركبُه إليه ، فما وجد شيئاً ، وأتى الليلُ وبقي وقتاً طويلاً ، فلم يجدْ من يحملُه ، فقال : اللهمَّ إنه سألني شهيداً فما وجدتُ إلا أنت ، وسألني كفيلاً فما وجدتُ إلا أنت ، اللهمّ بلِّغْه هذه الرسالة . ثم أخذ خشبةً فنقرها وأدخل الدنانير فيها ، وكتب فيها رسالةً ، ثم أخذ الخشبة ورماها في النهرِ ، فذهبتْ بإذنِ الله ، وبلطفِ اللهِ ، وبعنايةِ اللهِ سبحانه وتعالى ، وخرج ذاك الرجلُ صاحبُ الدنانير الأولُ ينتظرُ موعد صاحبهِ ، فوقف على شاطئ النهرِ وانتظر فما وجد أحداً ، فقال : لِم لا آخذ حطباً لأهل بيتي ؟! فعرضتْ له الخشبةُ بالدنانير ، فأخذها وذهب بها إلى بيتِه ، فكسرها فوجد الدنانير والرسالة .
لأنَّ الشهيد سبحانه وتعالى أعان ، ولأن الوكيل أدَّى الوكالة ، فتعالى اللهُ في عُلاهُ .
? وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ? .
? وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ? .
**********************************************
وقفةٌ
قال لبيدُ :
فاكذبِ النفس إذا حدَّثْتها
إنَّ صِدْق النفسِ يُزْرِي بالأملْ
وقال البستيُّ :
أفِدْ طبعك المكدود بالهمِّ راحةً
تجمَّ وعلِّلْهُ بشيءٍ من المزْحِ
ولكنْ إذا أعطيته ذاك فليكنْ
بمقدارِ ما يُعطى الطعامُ مِن الملحِ
وقال أبو علي بن الشبل :
بحفظِ الجسمِ تبقى النفسُ فيهٍ
بقاء النارِ تُحفظُ بالوعاءِ
فباليأسِ المُمِضِّ فلا تُمِتْها
ولا تمددْ لها طول الرجاءِ(/132)
وعِدْها في شدائدها رخاءً
وذكِّرْها الشدائد في الرخاءِ
يُعدُّ صلاحُها هذا وهذا
وبالتركيبِ مَنْفَعَةُ الدواءِ
*****************************************
أطِبْ مطعمك تكنْ مستجاب الدعوةِ
كان سعدُ بنُ أبي وقَّاص يدركُ هذه الحقيقة ، وهو أحدُ العشرةِ المبشرين بالجنةِ ، وقد دعا له ( بسدادِ الرمي وإجابةِ الدعوةِ ، فكان إذا دعا أُجيبْت دعوتُه كَفَلقِ الصبحِ .
أرسل عمرُ – رضي اللهُ عنه – أناساً من الصحابة يسألون عن عدْلِ سعدٍ في الكوفةِ ، فأثنى الناسُ عليه خيْراً ، ولما أتْوا في مسجدِ حيٍّ لبني عبْسٍ ، قام رجلٌ فقال : أما سألتموني عنْ سعدٍ ؟ فإنه لا يعدلُ في القضيةِ ، ولا يحكمُ بالسَّويَّةِ ، ولا يمشي مع الرعية . فقال سعدٌ : اللهمَّ إنْ كان قام هذا رياءً وسمعةً فأعْمِ بصره ، وأطلْ عمره ، وعرِّضْه للفتنِ . فطال عُمْرُ هذا الرجلِ ، وسقط حاجباهُ على عينيه ، وأخذ يتعرَّضُ للجواري ويغمزهُنّ في شوارعِ الكوفةِ ، ويقول : شيخٌ مفتون ، ، أصابتْني دعوة سعْدٍ .
إنه الاتصالُ باللهِ عزَّ وجلَّ ، وصدق النية معه ، والوثوق بموعودِه ، تبارك اللهُ ربَّ العالمين .
وفي « سيرِ أعلامِ النبلاءِ» : عن سُعد أيضاًَ : أن رجلاً قام يَسُبُّ علياً -رضي اللهُ عنه– ، فدافع سعدٌ عن علي ، واستمرَّ الرجل في السبِّ والشتمِ ، فقال سعدٌ : اللهم اكفنيه بما شئت . فانطلق بعيرٌ من الكوفةِ فأقبل مسرعاً ، لا يلوي على شيء ، وأخذ يدخل من بينِ الناس حتى وَصَلَ إلى الرجلِ ، ثم داسه بخفَّيْه حتى قتله أمام مشهدٍ ومرأى من الناسِ .
? إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ? .
وإنني أعرضُ لك هذه القصص لتزداد إيماناً ووثوقاً بموعودِ ربِّك فتدعوه وتناجيه ، وتعلم أن اللطف لطفُه سبحانه ، وأنه قد أمرك في محكم التنزيل فقال : ? ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ? . ? وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ? ..
لقد استدعى الحجَّاجُ الحسن البصريَّ ليبطش به ، وذهب الحسنُ وما في ذهنه إلا عنايةُ اللهِ ولطفُ الله ، والوثوقُ بوعِد اللهِ ، فأخذ يدعو ربَّه ، ويهتفُ بأسمائِه الحسنى ، وصفاتِه العلى ، فيحوِّل اللهُ قلب الحجاجِ ، ويقذفُ في قلبه الرعب ، فما وصل الحسَنُ إلا وقد تهيأ الحجاجُ لاستقبالِه ، وقام إلى البابِ ، واستقبل الحَسَنَ ، وأجلسَه معه على السريرِ ، وأخذ يُطيِّب لحيته ، ويترفَّقُ به ، ويُلينُ له في الخطابِ !! فما هو إلا تسخيرُ ربِّ العزةِ والجلالِ .
إنَّ لطف اللهِ يسري في العالمِ ، في عالم الإنسانِ ، في عالمِ الحيوانِ ، في البرِّ والبحْرِ ، في الليلِ والنهارِ ، في المتحركِ والساكنِ ، ? وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ? .
صحَّ : أنَّ سليمان عليه السلام قد أُوتي منطق الطيرِ ، خَرَجَ يستسقي بالناسِ ، وفي طريقِه من بيتِه إلى المصلَّ رأى نملةً قد رفعتْ رجليها تدعو ربَّ العزِة ، تدعو الإله الذي يعطي ويمنحُ ويلطفُ ويُغيثُ ، فقال سليمان : أيُّها الناسُ ، عودُوا فقد كُفيتُم بدعاءِ غيرِكم .
فأخذ الغيثُ ينهمرُ بدعاءِ تلك النملةِ ، النملةِ التي فهِم كلامها سليمانُ عليه السلامُ ، وهو يزجفُ بجيشه الجرَّار ، فتعظُ أخواتها في عالم النملِ : ? قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ{18} فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا? . في كثير من الأحيان يأتي لطفُ البري سبحانه وتعالى بسبب هذه العجماواتِ .
وقد ذكر أبو يعلى في قدسي أن الله يقولُ : (( وعِزَّتي وجلالي ، لولا شيوخٌ رُكَّعٌ ، وأطفال رُضَّعٌ ، وبهائمُ رُتَّعٌ ، لمنعتُ عنكم قطْرَ السماءِ )) .
********************************************
وإنْ منْ شيء إلا يسبِّحُ بحمدِ ربِّه
إنَّ الهدد في عالمِ الطيورِ عرف ربَّهُ ، وأذعنّ لمولاهُ ، وأخبت لخالقِه .
ذهب الهدهدُ ، وكانت تلك القصةُ الطويلةُ ، وانتهتْ إلى تلك النتائجِ التاريخيةِ ، وكان سببها هذا الطائرُ الذي عَرَفَ ربَّه ، حتى قال بعضُ العلماءِ : عجيبٌ ! الهدد أذكى من فرعون ، فرعونُ كَفَرَ في الرخاءِ فما نفعه إيمانُه في الشِّدَّة ، والهدهدُ آمن بربِّه في الرخاءِ ، فنفعه إيمانُه في الشّدةِ .(/133)
الهدهدُ قال : ? أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ......? . وفرعونُ يقول : ? مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي...... ? . إن الشقيَّ من كان الهدهد أذكى منه ، والنملة أفهمُ لمصيرِها منه . وإن البليد من أظلمتْ سبُله ، وتقطَّعتْ حبالُه ، وتعطَّلتْ جوارحُه عن النفعِ ، ? لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا ? .
في عالم النحل لطفٌ اللهِ يسري ، وخيرُه يجرِي ، وعنايتُه تلاحقُ تلكم الحشرة الضئيلة المسكينة ، تنطلقُ من خليّتها بتسخيرٍ من الباري ، تلتمسُ رزقها ، لا تقعُ إلا على الطيبِ النقيِّ الطاهرِ ، تمصُّ الرحيقَ ، تهيمُ بالورودِ ، تعشقُ الزَّهْر ، تعودُ محمَّلةً بشرابٍ مختلفٍ ألوانُه فيه شفاءٌ للناسِ ، تعودُ إلى خليتِها لا إلى خليةٍ أخرى ، لا تضلُّ طريقها ، ولا تحارُ في سبلِها ، ? وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ{68} ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ? .
إن سعادتك منْ هذا القصص ، ومن هذا الحديثِ ، ومن هذه العِبر : أن تعلم أن هناك لطفاً خفياً للهِ الواحدِ الحدِ ، فتدعوه وحده ، وترجوه وحده ، وتسألهُ وحده ، وأنَّ عليك واجباً شرعياً نزلَ في الميثاقِ الربانيِّ ، وفي النَّهْجِ السماويِّ أن تسجد له ، وأن تشكره ، وأن تتولاَّه ، وأن تتجه بقلبِك إليه . إن عليك أنْ تعلم أن هذا البشَرَ الكثير وهذا العالم الضخم ، لا يُغنون عنك من اللهِ شيئاً ، إنهم مساكينُ ، إنهم كلهم محتاجون إلى اللهِ ، إنهم يطلبون رزقهم صباح مساء ، ويطلبون سعادتهم وصحَّتهم وعافيتهم وأشياءهم وأموالهم ومناصبهم من اللهِ الذي يملكُ كلَّ شيءٍ .
? يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ? ، إن عليك أن تعلم علم اليقينِ أنه لا يهديك ولا ينصرُنك ، ولا يحميك ولا يتولاك ، ولا يحفظُك ، ولا يمنحُك إلا اللهُ ، إن عليك أن توحِّد اتجاه القلبِ ، وتفرد الربِّ بالوحدانيةِ والألوهيةِ والسؤالِ والاستعانةِ والرجاءِ ، وأن تعلم قْدر البشرِ ، وأن المخلوق يحتاجُ إلى الخالقِ ، وأن الفاني يحتاجُ إلى الباقي ، وأن الفقيرَ يحتاجُ إلى الغني ، وأن الضعيف يحتاجُ إلى القويِّ . والقوةُ والغنى والبقاءُ والعزَّةُ المطلقةُ يملكُها اللهُ وَحْدَهُ .
إذا علمت ذلك ، فاسعدْ بقربهِ وبعبادتِه والتبتلِ إليه ، إليه ، إنِ استغفرته غَفَرَ لك ، وإن تبت إليه تاب عليك ، وإن سألته أعطاك ، وإن طلبت منه الرزق رزقك ، وإن استنصرته نصرك ، وإن شكرته زادك .
******************************************
ارض عن الله عزَّ وجلَّ
من لوازمِ ((رضيتُ باللهِ رباً ، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ ( نبياً)). أن ترضى عن ربِّك سبحانه وتعالى ، فترضى بأحكامِه ، وترضى بقضائِه وقدرِهِ ، خيرِه وشرِه ، حُلوِه ومُرِّه .
إن الانتقائية بالإيمانِ بالقضاءِ والقدرِ ليستْ صحيحةً ، وهي أن ترضى فَحَسْبُ عند موافقةِ القضاءِ لرغباتِك ، وتتسخَّط إذا خالف مرادك وميْلك ، فهذا ليس من شأنِ العبدِ .
إن قوماً رضُوا بربِّهم في الرخاءِ وسخطُوا في البلاءِ ، وانقادُوا في النعمةِ وعاندُوا وقت النقمةِ ، ? فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ? .
لقدْ كان الأعرابُ يُسْلمون ، فإذا وجدُوا في الإسلامِ رغداً بنزولِ غيثٍ ، ودرِّ لبنٍ ، ونبْتِ عشبٍ ، قالوا : هذا دينُ خيْرٍ . فانقادُوا وحافظوا على دينِهم .
فإذا وجدُوا الأخرى ، جفافاً وقحْطاً وجدْباً واضحملالاً في الأموالِ وفناءً للمرعى ، نكصُوا على أعقابهم وتركُوا رسالتهم ودينهم .
هذا إذن إسلامُ الهوى ، وإسلامُ الرغبةِ للنفس . إن هناك أناساً يرضون عن اللهِ عزَّ وجلَّ ، لأنهم يريدون ما عند اللهِ ، يريدون وجهه ، يبتغون فضلاً من اللهِ ورضواناً ، يسعون للآخرةِ .
رضينا بك اللهمَّ رباً وخالقاً
وبالمصطفى المختارِ نوراً وهاديا
فإمَّا حياةٌ نظَّم الوحيُ سيرها
وإلا فموتٌ لا يسُرُّ الأعاديا
إن من يرشحُه اللهُ للعبوديّةِ ويصطفيه للخدمةِ ويجتبيه لسدانةِ الملَّةِ ، ثم لا يرضى بهذا الترشيحِ والاصطفاءِ والاجتباءِ ، لهو حقيقٌ بالسقوطِ الأبدي والهلاك السَّرمديِّ : ? آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ? ، ? وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ? .(/134)
إن الرّضا بوابةُ الديانةِ الكبرى ، منها يَلجُ المقرَّبون إلى ربِّهم ، الفرحون بهداه ، المنقادون لأمرِه ، المستسلمون لحكمه .
قَسَّمَ ( غنائم حُنَيْنٍ ، فأعطى كثيراً من رؤساءِ العربِ ومتأخري العرب ، وترك الأنصار ، ثقةً بما في قلوبِهم من الرضى والإيمانِ واليقين والخيرِ العميمِ ، فكأنهم عتبُوا لأن المقصود لم يظهر لهم ، فجمعهم ( وفسَّرَ لهم السرَّ في المسألةِ ، وأخبرهم أنه معهم ، وأنه يحبُّهم ، وأنه ما أعطى أولئك إلا تأليفاً لقلوبهم ، لنقْصِ ما عندهم من اليقين ، وأما الأنصارُ فقال لهم : (( أما ترضون أن ينطلق الناس بالشاء والبعير ، وتنطلقون برسولِ اللهِ ( إلى رحالِكم ؟! الأنصار شعارٌ ، والناسُ دِثار ، رحم اللهُ الأنصار ، وأبناء الأنصارِ ، وأبناء أبناءِ الأنصارِ ، لو سلك الناسُ شِعْباً ووادياً ، وسلك الأنصارُ شعباً ووادياً لسلكتُ وادي الأنصارِ وشِعْبَ الأنصارِ )) . فغمرتْهم الفرحةُ . وملأتْهم المسرَّةُ ، ونزلتْ عليهم السكينةُ ، وفازوا برضا اللهِ ورضا رسولِهِ ( .
إن الذين يتطلعون إلى رِضْوانِ اللهِ ويتشوَّقون إلى جنَّةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ ، لا يقبلون الدنيا بحذافيرِها بدلاً من هذا الرضوانِ ، ولا عوضاً عن هذا النوالِ العظيمِ .
أسلم أعرابيٌّ بين يدي رسول اللهِ ( فأعطاه ( بعض المالِ ، فقال : يا رسول اللهِ ، ما على هذا بايعتُك . فقال رسولُ اللهِ ( : ((على ماذا بايعتني ؟)) قال : بايعتُك على أن يأتيني سهمٌ طائش فيقع هنا (وأشار إلى حلْقِه) ويخرج من هنا (وأشار إلى قفاه).قال له: ((إن تصْدُقِ اللهُ يصدقُكَ)). وحضر المعركة، وجاءه سهمٌ طائش ونفذ من نحرِه، ولقي ربَّه راضياً مرضيّا .
ما المالُ والأيَّامُ ما الدُّنيا وما
تلك الكنوزُ من الجواهرِ والذَّهَبْ
ما المجدُ والقصرُ المنيفُ وما المنى
ما هذه الأكداسُ مِن أغلى النشبْ
لا شيء كُلُّ نفيسةٍ مرغوبةٍ
تفنى ويبقى اللهُ أكرم من وَهَبْ
ووزَّع ( ذات يوم أموالاً ، فأعطى أناساً . قليلي الدين ، ضحلى الأمانة ، مقفرين في عالم المُثُل ، وترك أناساً ثُلَّمتْ سيوفُهم في سبيلِ اللهِ ، وأُنفقتْ أمواُلهم، وجُرحتْ أجسامُهم في الجهادِ والذبِّ عن الملَّةِ ، ثم قام ( خطيباً في المسجدِ وأخبرهم بالأمرِ ، وقال لهم : (( إني أعطي أناساً لمِا جعل اللهُ في قلوبِهم من الجزعِ والطمعِ ، وأدَعُ أناساً لما جعل اللهُ في قلوبِهم من الإيمانِ – أو الخيْرِ – منهم : عمرو بنُ تغلب )) . فقالَ عمروُ بنُ تغلب : كلمةً ما أريدُ أنَّ لي بها الدنيا وما فيها .
إنه الرضا عن اللهِ عزَّ وجلَّ الرضا عن حكْمِ رسولِهِ ( ، طلبَ ما عندَ اللهِ ، إنَّ الدنيا لا تساوي عند الصحابي الواحد كلمة راضية باسمة منه ( .
لقد كانت وُعودُ الرسول ( لأصحابِه ثواباً من عندِ اللهِ ، وجنةً عنده ورضواناً منه ، لم يَعِدْ ( أحداً منهم بقصرِ أو ولايةِ إقليمٍ أو حديقةٍ . كان يقول لهم : من يفعلُ كذا وله الجنةُ ؟ ولآخر : وهو رفيقي في الجنةِ ؟ لأن البذلُ الذي بذلوه والمالُ الذي أنفقوه والجهدُ الذي قدموه ، لا جزاء له إلا في الدارِ الآخرةِ ، لأن الدنيا بما فيها لا تكافئُ المجهود الضخم ؛ لأنها ثمنٌ بخيسٌ ، وعطاءٌ رخيصٌ وبذْلٌ زهيدٌ .
وعند الترمذيِّ : يستأذنُ عمرُ -رضي اللهُ عنه - رسول اللهِ ( في العمرةِ ، قال : ((لا تنسنا من دعائِك يا أخي )) .
وقائل هذه الكلمة هو رسولُ الهدى ( ، الإمامُ المعصومُ ، الذي لا ينطقُ عن الهوى ، ولكنها كلمةٌ عظيمةٌ وثمينةٌ ونفيسةٌ ، قال عمرُ فيما بعدُ : كلمة ما أريد أنَّ لي بها الدنيا وما فيها .
ولك أنْ تشعر أن رسول اللهِ ( ، قال لك أنت بعينكِ : لا تْنسنا من دعائك يا أخي .
كان رضا رسول الله ( عن ربِّه فوق ما يصفُه الواصفون ، فهو راضٍ في الغنى والفقرِ ، راضٍ في السلْمِ والحربِ ، راضٍ وقت القوةٍ والضعفِ ، راضٍ وقت الصحةِ والسقمِ ، راضٍ في الشدةِ والرخاءِ .
عاش ( مرارة اليُتْمِ ، وأسى اليتمِ ، ولوعة اليتمِ فكان راضياً ، وافتقر ( حتى ما يجد دَقَلَ التمرِ – أي رديئه - ، وكان يربطُ الحجر على بطنِه من شدَّةِ الجوعِ ، ويقترضُ شعيراً من يهودي ويرهنُ درعه عنده ، وينامُ على الحصير فيؤثرُ في جنبِه ، وتمرُّ ثلاثةُ أيام لا يجدُ شيئاً يأكلُه ، ومع ذلك كان راضياً عن اللهِ ربِّ العالمين ? تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً ? .(/135)
ورضي عن ربِّه وقت المجابهةِ الأولى ، يوم وقَفَ هو في حزبِ اللهِ ، ووقفتِ الدنيا – كلُّ الدنيا – تحاربُه بخيلِها ورجِلها ، بغناها بزخرفِها ، بزهوِها بخيلائها ، فكان راضياً عن اللهِ . رضي عنِ اللهِ في الفترةِ الحرجةِ ، يوم مات عمُّه وماتت زوجتٌه خديجةُ ، وأُوذي أشدَّ الأذى ، وكُذب أشدَّ التكذيبِ ، وخُدشتُ كرامتُه ، ورُمي في صِدْقِهِ ، فقيل له : كذَّابٌ ، وساحرٌ ، وكاهنٌ ، ومجنونٌ ، وشاعرٌ .
ورضي يوم طُرِد من بلدِه ، ومسقطِ رأسهِ ، فيها مراتعُ صباه ، وملاعبُ طفولتِه ، وأفانينُ شبابِه ، فيلتفتُ إلى مكة وتسيلُ دموعُه ، ويقول : (( إنكِ أحبُّ بلادِ اللهِ إليَّ ، ولولا أنَّ أهلك أخرجوني منك ما خرجتُ )) .
ورضي عن اللهِ وهو يذهبُ إلى الطائفِ ليعرِض دعوته ، فيُواجه بأقبحِ ردٍّ ، وبأسوأِ استقبالٍ ، ويُرمى بالحجارةِ حتى تسيل قدماه ، فيرضى عن مولاه .
ويرضى عن اللهِ وهو يخرج من مكة مرغماً ، فيسير إلى المدينة ويُطاردُ بالخيلِ ، وتُوضعُ العراقيلُ في طريقِه أينما ذهب .
يرضى عن ربه في كلِّ موطنٍ ، وفي كل مكانٍ ، وفي كل زمنٍ .
يحضر أُحُداً ( فيُشجّ رأسُه ، وتُكسرُ ثنيتُه ، ويُقتلُ عمُّه ، ويُذبحُ أصحابهُ ، ويُغلبُ جيشُه ، فيقول : (( صُفُّوا ورائي لأُثني على ربي )) .
يرضى عن ربِّه وقد ظهر حِلْفٌ كافرٌ ضدَّه من المنافقين واليهود والمشركين ، فيقف صامداً متوكِّلاً على اللهِ ، مفوِّضاً الأمر إليه .
وجزاءُ هذا الرضا منه ( : ? وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ? .
******************************************
هِتافٌ في وادي نخلة
أُخرج محمدٌ المعصومُ ( من مكة حيث أهلُه وأبناؤه ودارُه ووطنُه ، طُردُ طرداً وشًرِّد تشريداً ، والتجأ إلى الطائفِ فقُوبل بالتكذيبِ وجُوبِه بالجحودِ ، وتهاوتْ عليه الحجارةُ والأذى والسُّ والشتمُ .
فعيناه بدموع الأسى تكِفانِ وقدماه بدماءِ الطهرِ تنزفانِ ، وقلبُه بمرارةِ المصيبة يَلْعَجُ ، فإلى من يلتجئ ؟ ومن يسألُ ؟ وإلى من يشكو ؟ وإلى من يقصدُ ؟ إلى اللهِ إلى القويِّ إلى القهارِ ، إلى العزيزِ ، إلى الناصرِ .
استقبل محمدٌ ( القبلة ، وقصد ربَّ ، وشكر مولاه ، وتدفَّق لسانهُ بعباراتِ الشكوى وصادقِ النجوى وأحرِّ الطلبِ ، ودعا وألحَّ وبكى ، وشكا وتظلَّم وتألَّم .
المآقي من الخطوبِ بكاءُ
والمآسي على الخدودِ ظِماءُ
وشفاهُ الأيامِ تلثمُ وجهاً
نَحَتَتْهُ الرعودُ والأنواءُ
اسمع سؤال النبي ( مولاهُ وإلهه ليلة نخلة ، إذْ يقول : (( اللهم إني أشكو إليك ضعْف قوتي وقِلَّة حيلتِي وهواني على الناسِ ، أنت أرحمُ الراحمين، وربُّ المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكِلُني ؟ إلى قريبٍ يتجهَّمُني ، أو إلى عدوٍّ ملَّكْتَه أمري ، إن لم يكن عليَّ غَضَبٌ فلا أبالي ، غير أن عافيتك هي أوسع لُي ، أعوذُ بنور وجهِك الذي أشرقتْ له الظلماتُ ، وصَلُحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرةِ ، أن ينزلُ بي غَضَبُك ، أو يحلَّ بي سخطُك ، لك العُتْبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بكَ )) .
**********************************************
جوائز للرعيل الأول
? لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ? .
هذه غايةُ ما يتمناه المؤمنين وما يطلبُه الصادقون وما يحرصُ عليه المفلحون .. رضوانِ اللهِ . إن الرضا أجلُّ المطالبِ وأنبلُ المقاصدِ وأسمى المواهبِ .
هنا في هذه الآية جاء رضا اللهِ ، بينما ذُكِر في موضعٍ آخر الغفرانُ : ? لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ?.وفي موطنٍ ثانٍ التوبةُ :? لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ ? . وفي ثالثٍ العفوُ : ? عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ? .
أما هنا : فالرضوان المحقَّقُ ، لأنهم يبايعونك تحت الشجرةِ وعلم اللهُ ما في قلوبِهم ، فبيْعتُهم بيعةٌ لأرواحهم الثمينةِ عندهم لتزهق لمرضاةِ الملكِ الحقِّ ، وبيعةٌ لأنفسهم النفيسةِ لتذهب لمرضاةِ الواحدِ القهارِ ، وبيعةٌ لوجودهم وحياتهم ، لأنَّ في موتهم حياة للرسالة ، وفي قتلهم خلوداً للملة ، وفي ذهابِهم بقاءً للميثاقِ .
وعِلم ما في قلوبهم من الإيمانِ المكينِ واليقينِ المتين ، والإخلاصِ الصافي والصدقِ الوافي ، لقد تعبُوا وسهرُوا ، وجاعُوا وظمئُوا ، وأصابهم الضررُ والضيقُ ، والمشقةُ والضنى ، لكنه رضي عنهم .
لقد فارقُوا الأهل والأموال والأولاد والديار ، وذاقُوا مرارة الفراقِ ولوعة الغربةِ ، ووعثاء السفرِ وكآبة الارتحالِ ، لكنه رضي عنهم .
لقد شُرِّدوا وطُرِدُوا وفُرِّقُوا وتعِبُوا وأُجهدُوا ، لكنَّه رضي عنهم .(/136)
هل جزاءُ هؤلاء المجاهدين والمنافحين عن الملةِ : غنائمُ من إبل وبقرٍ وغنمٍ ؟ هل مكافأةُ هؤلاء المناضلين عن الرسالة الذابِّين عن الدينِ : عُروضٌ ماليةٌ ؟ هل تظنُّ أنه يُبرِدُ غليل هؤلاءِ الصفوةِ المجتباةِ والنخبةِ المصطفاةِ ، دراهمُ معدودةٌ أو بساتينُ غنَّاء أو دورٌ منمَّقةٌ ؟ لا .
يُرضيهم رضوانُ اللهِ ، ويُفرحُهم عفوُ اللهِ ، ويُثلجُ صدورهم كلمةٍ : ? وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً{12} مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً{13} وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً{14} وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا{15} قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ? .
****************************************
الرضا ولو على جمْر الغضَا
خرج رجلٌ من بني عبْسٍ يبحثُ عن إبلِه التي ضلَّتْ ، فذهب والتمسها ، ومكث ثلاثة أيامٍ في غيابِه ، وكان هذا الرجل غنياً ، أعطاه اللهُ ما شاء من المالِ والإبلِ والبقرِ والغنمِ والبنين والبناتِ ، وكان هذا المالُ والأهلُ في منزلٍ رحْبٍ على ممرِّ سيْلٍ في ديارِ بني عبس ، في رغدٍ وأمنٍ وأمانٍ ، لم يفكرْ والدُهم ولم يفكرْ أبناؤه أن الحوادث قد تزورهم ، وأن المصائب قد تجتاحُهم .
يا راقد الليلِ مسروراً بأوَّلِه
إنَّ الحوادث قد يطْرُقْنَ أسْحارا
نام الأهلُ جميعاً كبارُهم وصغارُهم ، معهم أموالُهم في أرضٍ مستوية ، ووالدهم غائبٌ يبحثُ عن ضالَّتِه ، وأرسل اللهُ عليهم سيْلاً جارفاً لا يلوي على شيءٍ ، يحملُ الصخور كما يحملُ التراب ، ومرَّ عليهم في آخر الليلِ ، فاجتاحهم جميعاً ، واقتلع بيوتهم من أصلها ، وأخذ الأموال معه جميعاً ، وأخذ الأهل جميعاً ، وزهقتْ أرواحُهم من تدفُّقِ الماء ، وصارُوا أثراً بعد عيْنٍ ، فكأنهم لم يكونوا ، صارُوا حديثاً يُتلى على اللسانِ .
وعاد الأبُ ثلاثةِ أيامٍ إلى الوادي ، فلم يُحِسَّ أحداً ، ولم يسمعْ رافداً ، لا حيَّ ولا ناطق ولا أنيس ، المكانُ قاعٌ صَفْصَفٌ ، يا اللهُ !! يا للدَّاهيةِ الدهياءِ !! لا زوجة لا ابن لا ابنة ، لا ناقةَ لا شاةَ لا بقرة ، لا درهم لا دينار ، لا ثوب لا شيء ، إنها مصيبةٌ !!
وزيادةً في البلاء : إذا جملٌ منْ جمالِهْ قْد شرد ، فحاول أنْ يدركه وأخذ بذيِله علَّة أن يجد رجلاً يقودُه إلى مكان يأوي إليه ، وبعد حينٍ ووقتٍ من هذا اليوم سمعه أعرابيُّ آخرُ ، فأتى إليه وقاده ، وذهب به إلى الوليدِ بنِ عبدِالملك الخليفةِ في دمشق ، وأخبره الخَبَرَ ، فقالَ : كيف أنتَ ؟ قال : رضيتُ عن اللهِ .
وهي كلمةٌ كبيرةٌ عظيمةٌ ، يقولُها هذا المسلُم الذي حَمَلَ التوحيد في قلبِه ، وأصبح آيةً للسائلين ، وعظِةً للمتَّعظين ، وعبرةً للمعتبرين .
والشاهد : الرضا عن اللهِ .
والذي لا يرضى ولا يسلِّمُ للمقدّر ، فإن استطاع أن يبتغي نفقاً في الأرض أو سُلَّماً في السماء، وإن شاء: ?فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ?
********************************************
وقفة
قال أبو عليِّ بنِ الشبل :
وإذا هممت فناجِ نفسك بالمُنى
وَعْداً فخيراتُ الجنانِ عِداتُ
واجعلْ رجاءك دُون يأسِك جُنَّةً
حتى تزول بهمَّك الأوقاتُ
واسترْ عن الجُلَساءِ بثَّك إنما
جلساؤُك الحُسَّادُ والشُّمَّاتُ
ودعِ التوقُّع للحوادثِ إنه
للحيِّ منْ قبلِ المماتِ مماتُ
فالهمُّ ليس لهُ ثباتٌ مثلِ ما
في أهلِهِ ما للسرورِ ثباتُ
لولا مغالطةُ النفوسِ عقولها
لم تصْفُ للمتيقظين حياةُ
*******************************************
اتخاذُ القرار
? فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ? . ? إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ? .
إن كثيراً منا يضطربُ عندما يريد أن يتخذ قراراً ، فيصيبُه القلقُ والحيرةُ والإرباكُ والشكُّ ، فيبقى في ألمٍ مستمرٍ وفي صداعٍ دائمٍ . إن على العبدِ أن يشاور وأن يستخير اللهَ ، وأن يتأمَّل قليلاً ، فإذا غلب على ظنه الرأيُ الأصوبُ والمسلكُ الأحسنُ أقدم بلا إحجام ، وانتهى وقتُ المشاورةِ والاستخارةِ ، وَعَزَم وتوكَّل ، وصمَّم وَجَزَم ، لينهي حياة التردُّد والاضطرابِ .
لقد شاور ( الناس وهو على المنبر يوم أُحُد ، فأشاروا بالخروجِ، فلبس لأمته وأخذ سيفه ، قالوا : لعلَّنا أكرهناك يا رسول الله ؟ لو بقيت في المدينةِ . قال : (( ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن ينزعها حتى يقضي اللهُ بينه وبين عدوِّهِ )) . وَعَزَم ( على الخروجِ .
إن المسألة لا تحتاجُ إلى ترددٍ ، بل إلى مضاءٍ وتصميمٍ وعزمٍ أكيدٍ ، فإن الشجاعة والبسالة والقيادة في اتخاذِ القرارِ .(/137)
تداول ( مع أصحابِه الرأي في بدرٍ : ? وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ? ، ? وَأَمْرُهُمْ شُورَى ? ، فأشارُوا عليه فَعَزَم ( وأقدم ، ولم يلوِ على شيءٍ .
إن التردٌّد فسادٌ في الرأيِ ، وبرودٌ في الهمَّةِ ، وَخَورٌ في التصميمِ وشَتاتٌ للجهدِ ، وإخفاقٌ في السَّيْرِ . وهذا التردُّدُ مرضٌ لا دواء له إلا العزمُ والجزمُ والثباتُ . أعرفُ أناساً من سنواتٍ وهم يُقدِمون ويُحجمون في قراراتِ صغيرةٍ ، وفي مسائل حقيرةٍ ، وما أعرفُ عنهم إلا روح الشكِّ والاضطرابِ ، في أنفسِهم وفي من حولهم .
إنهم سمحوا للإخفاقِ أن يصل إلى أرواحِهم فَوَصَلَ ، وسمحُوا للتشتُّتِ ليزور أذهانهم فزار .
إنه يجب عليك بعد أن تدرس الواقعة ، وتتأمَّل المسألة ، وتستشير أهل الرأي، وتستخير ربَّ السماواتِ والأرضِ ، أن تُقدِم ولا تُحجِم ، وأن تُنْفِذ ما ظهر لك عاجلاً غير آجلٍ .
وقف أبو بكر الصدِّيق يستشيرُ الناس في حروبِ الردةِ ، فأشار الناسُ كلهم عليه بعدمِ القتالِ ، لكنَّ هذا الخليفة الصدِّيق انشرح صدرُه للقتالِ ، لأن هذا إعزازٌ للإسلامِ ، وقطْعٌ لدابر الفتنةِ ، وسحقٌ للفئاتِ الخارجةِ على قداسةِ الدينِ ، ورأى بنورِ اللهِ أن القتال خيرٌ ، فصمَّم على رأيه ، وأقسم : والذي نفسي بيدهِ ، لأُقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاةِ والزكاةِ ، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدُّونه لرسولِ الله ( لقاتلتُهم عليه . قال عمر : فلما علمتُ أن الله شرح صدر أبي بكر ، علمتُ أنه الحقُّ . ومضى وانتصر وكان رأيهُ الطيب المبارك ، الصحيح الذي لا لُبْس فيه ولا عِوَجَ .
إلى متى نضطربُ ؟ وإلى متى نراوحُ في أماكنِنا ؟ وإلى متى نتردَّد في اتخاذِ القرارِ ؟
إذا كنت ذا رأي فكنْ ذا عزيمةٍ
فإنَّ فساد الرأي أنْ تتردَّدا
إنَّ منْ طبيعةِ المنافقين إفشال الخطَّةِ بكثرةِ تكرارِ القولِ ، وإعادةِ النظرِ في الرأي : ?لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ? . ? الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ?.
إنهم يصطحبون « لو » دائماً ، ويحبون « ليت » ويعشقون « لعلَّ » فحياتُهم مبنيةٌ على التسويقِ ، وعلى الإقدامِ والإحجامِ ، وعلى التذبذبِ ، ? مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء ? .
مرةً معنا ومرةً معهم ، مرةً هنا ومرةً هناك .
كما في الحديثِ : (( كالشاة العائرةِ بين القطيعين من الغنمِ )) وهو يقولون في أوقاتِ الأزماتِ : ? لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ ? . وهم كاذبون على اللهِ ، كاذبون على أنفسهم ، فهم يسرون وقت الأزمةِ ، ويأتون وقت الرخاءِ وأحدُهم يقول : ? ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي ? . إنه لم يتخذ إلا قرار الإخفاقِ والإحباطِ . ويقولون في الأحزابِ : ? إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ? . ولكنَّه التخلصُ من الواجبِ ، والتملُّصُ من الحقِّ المبينِ .
*******************************************
اثبتْ أُحُدُ
إنَّ منْ طبيعِة المؤمنِ : الثبات والتصميم والجزم والعزم ، ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ? ، أما أولئك : ? فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ? ، وفي قرارِهم يضطربون ، وعلى أدبارِهم ينكصون ، ولعهودِهم ينقضون . إن عليك أيُّها العبدُ إذا لمع بارقُ الصوابِ ، وظهر لك غالبُ الظنِّ ، وترجَّح لديك النفعُ ، أن تُقدِم بلا التواءٍ ولا تأخُّرٍ .
اطَّرحْ ليتاً وسوفاً ولعلْ
وامضِ كالسيف على كفِّ البطلْ
لقد تردَّدَ رجلٌ في طلاق زوجته التي أذاقْته الأمرَّيْن ، وذهب إلى حكيمٍ يشتكيه ، قال: كم لك من سنة مع هذه الزوجةِ ؟ قال : أربع سنواتٍ . قال : أربع سنواتٍ وأنت تحتسي السُّمَّ ؟!
صحيحٌ أن هناك صبراً وتحمُّلاً وانتظاراً ، لكن إلى متى ؟ إن الفطِن يعلمُ أن هذا الأمرين يتمُّ أو لا يتمُّ ، يصلحُ أو لا يصلحُ ، يستمرُّ أو لا يستر ، فْليتخذْ قراراً .
والشاعرُ يقولُ :
وعلاجُ ما لا تشْتهِيـ
ـهِ النفسُ تعجلُ الفراقِ
والذي يظهرُ من السِّيرِ واستقراءِ أحوالِ الناسِ ، أن الإرباك والحيرة يأتيهم في مواقف كثيرةٍ ، لكن غالب ما يأتيهم في أربعِ مسائل :
الأولى : في الدراسةِ واختيارِ التخصُّصِ ، فهو لا يدري أيَّ قسم يسلكُه ، فيبقى في ذلك فترةً . وعرفتُ طُلاَّباً ضيَّعُوا سنواتٍ بسبب تردُّدِهم في الأقسامِ ، وفي الكلياتِ ، فيبقى بعضهم متردداً قبل التسجيل ، حتى يفوته التسجيلُ ، وبعضُهم يدخلُ في قسمٍ سنةً أو سنتين ، فيرتضي الشريعة ثم يرى الاقتصاد ، ثم يعودُ إلى الطبِّ ، فيذهبُ عمرُ شَذَرَ مَذَرَ .(/138)
ولو أنه درس أمره وشاور واستخار الله في أولِ أمرِهِ ، ثم ذهب لا يلوي على شيء ، لأحرز عمره وصان وقته ، ونال ما أراد من هذا التخصُّصِ .
الثانية : العملُ المناسبُ ، فبعضهم لا يعرفُ ما هو العمل الذي يناسبُه ، فمرةً يعتنقُ وظيفةً ، ثم يتركُها ليذهب إلى شركةٍ ، ثم يهجرُ الشركة إلى عمل تجاري بحتٍ ، ثم يحصلُ على العدمِ والإفلاسِ والفقرِ ثم يلزمُ بيته مع صفوفِ العاطلين .
وأقولُ لهؤلاءِ : من فُتح له بابُ رزقٍ فلْيلزمْهُ ، فإنَّ رزقه منْ هذا المكانِ ، ومنْ لزم باباً أُوتي سهولته وفَتْحه وحكمته .
الثالثة : الزواجُ ، وأكثرُ ما يأتي الشباب الحيرةُ والاضطرابُ في مسألةِ اختيارِ الزوجةِ ، وقد يدخلُ رأي الآخرين في الاختيارِ ، فالوالدُ يرى لولدهِ امرأةً غير التي يراها الابنُ أو التي تراها الأمُّ ، فربما وافق الابنُ رغبة والدِه ، فيحصلُ ما لا يريدُه ، وما يحبَّه ، وما لا يقدمُه .
ونصيحتي لهؤلاءِ أن لا يُقدمُوا في مسألة الزواجِ بالخصوصِ إلا على ما يرتاحون إليه في جانبِ الدين والحُسْنِ والموافقةِ ، لأن المسألة مسألةُ مصيرِ امرأةٍ لا مكان للمجازفةِ بها .
الرابعة : تأتي الحيرةُ والاضطرابُ في مسألةِ الطلاقِ ، فيوماً يرى الفراق ويوماً يرى المعايشة ويوماً يرى أن يُنهي المعايشة ، وآخر يرى أن يقطع الحبْل ، فيصيبه من الإعياء ، وحُمَّى الروحِ ، وفسادِ الرأي ، وتشتُّتِ الأمرِ ، ما اللهُ به عليمٌ .
إن على العبدِ أن يُنهي هذه الضوائق النفسية بقرارِه الصارمِ ، إن العمر واحدٌ ، وإن اليوم لن يتكرَّر ، وإن الساعة لن تعود ، فعليه أن يعيشها سعادةً يشارك فيها بنفسِه ، يشاركُ بنفسِه في استجلابِ هذه السعادةِ ، وتأتي هذه السعادةُ باتخاذِ القرارِ . إن العبد المسلم إذا همَّ وعزم وتوكل على اللهِ بعد أن يستخير ويُشاوِر ، صار كما قال الأول :
إذا همَّ ألقى بين همَّيْه عينهُ
وأعرض عن ذكْرِ العواقبِ جانبا
إقدامٌ كإقدام السيل ، ومضاءٌ كمضاءِ السيفِ ، وتصميمٌ كتصميمِ الدهرِ ، وانطلاقٌ كانطلاقِ الفجرِ ، ? فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ ? .
***********************************************
كما تدين تُدان
عجباً لنا ! نريدُ من الناسِ أن يكونوا حلماء ونحنُ نغضبُ ، ونريدُ منهم أن يكونوا كرماء ونحن نبخلُ ، ونريد منهم الوفاء بحسن الإخاءِ ، ونحن لا نؤدي ذلك .
تُريدُ مهذَّباً لا عيب فيهِ
وهل عُودٌ يفوحُ بلا دُخانِ
وقالوا : من لأخيك كلِّه .
وقال آخر :
ولست بِمُسْتبْقٍ أخاً لا تلُمُّهُ
على شعثٍ أيُّ الرجالِ المهذَّبُ
وقال ابنُ الروميُّ :
ومِنْ عجبِ الأيامِ أنَّك تبتغي الـ
ـمهذَّب في الدنيا ولست مُهذَّبا
*************************************************
وقفةٌ
قال إيليا أبو ماضي :
أيُّها الشاكي وما بك داءٌ
كيف تغدو إذا غدوت عليلا
إنَّ شرَّ الجُناةِ في الأرض نفسٌ
تتوقَّى ،قبل الرحيلِ الرَّحيلا
وترى الشَّوْك في الورودِ، وتعمْى
أن ترى فوقها الندى إكليلا
هو عبءٌ على الحياةِ ثقيلٌ
مَنْ يظُنُّ الحياة عبئاً ثقيلا
والذي نفسُهُ بغير جمالٍ
لا يرى في الوجودِ شيئاً جميلا
فتمتَّعْ بالصُّبحِ ما دُمت فيهِ
لا تخفْ أنْ يزول حتى يزُولا
وإذا ما أظلَّ رأْسك همٌّ
قصِّر البحث فيه كيْلا يطُولا
أدركتْ كُنْهَهَ طيورُ الرَّوابي
فمِن العارِ أن تظلَّ جهُولا
ما تراها والحقلُ مِلْكُ سواها
تخِذتْ فيه مَسْرَحاً ومقيلا
**********************************************
ضريبةُ الكلامِ الخلاَّبِ
إنّ سعادتنا تكملُ في قيامِنا بواجبنا مع خالقِنا ، ثم مع خلْقِه ، مع اللهِ ثم مع الإنسانِ . إن الكلام سهلٌ نطقُه وتجبيرُه وزخرفتُه ، لكن الأصعب من ذلك صياغتُه في مُثُلٍ عليا من الصفاتِ الحميدةِ والأعمالِ الجليلةِ ? أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ? .
إنَّ الآمر بالمعروفِ التارك له ، والناهي عن المنكرِ الفاعل له ، يُوضعُ – كما في الحديث الصحيح – يوم القيامةِ في النارِ ، فيدورُ بأمعائِه كما يدورُ الحمارُ برحاهُ ، فيسأله أهلُ النارِ عن سرِّ هلاِكه ، فقال : كنتُ آمرُكم بالمعروفِ ولا آتيهِ ، وأنهاكُم عن المنكرِ وآتيةِ .
يا أيُّها الرجلُ المعلِّمُ غَيرهُ
هلاَّ لنفسِك كان ذا التعليمُ
وقف الوعظُ الشهيرُ أبو معاذ الرازي فبكى وأبكى الناس ، ثم قال :
وغيرُ نقيِّ يأمرُ الناس بالتقى
طبيبٌ يداوي الناس وهُو عليلٌ
كان بعضُ السلفِ إذا أراد أن يأمر الناس بالصدقةِ ، تصدَّق هو أولاً ، ثم أمرهم ، فاستجابُوا طواعيةً .(/139)
وقرأتُ أن واعظاً في عهدِ القرونِ المفضَّلةِ ، أراد أن يأمر الناس بالعِتْقِ ، وقد طلب منه كثيرٌ من الرقيق أن يسأل الناس ذلك ، فجمع نقوداً في وقتٍ طويل ثم أعتق رقبةً ، ثم أمَّ فأمرَ بالعِتْق ، فاقتدى الناسُ وأعتقُوا رقاباً كثيرة .
**********************************
الراحةُ في الجنَّةِ
? لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ? .
يقولُ أحمدُ بنُ حنبلَ ، وقد قيل له : متى الراحةُ ؟ قال : إذا وضعت قدمك في الجنةِ ارتحت .
لا راحة قبل الجنةِ ، هنا في الدنيا إزعاجاتُ وزعازعُ وفتنٌ وحوادثُ ومصائبُ ونكباتُ ، مَرَضٌ وهمٌّ وغمُّ وحزنٌ ويأسٌ .
طُبِعَتْ على كدرٍ وأنت تريدُها
صفواً من الأقذاءِ والأكدارِ
أخبرني زميلُ دراسةٍ من نيجيريا ، وكان رجلاً صاحب أمانةٍ ، أخبرني أن أمَّه كانت تُوقظُه في الثلثِ الأخير ، قال : يا أمَّاهُ ، أريد الراحة قليلاً . قالت : ما أوقظك إلا لراحتِك ، يا بني إذا دخلت الجنة فارتحْ .
كان مسروقٌ – أحدُ علماءِ السلفِ – ينامُ ساجداً ، فقال له أصحابهُ : لو أرحت نفسك . قال : راحتها أريدُ .
إن الذين يتعجَّلون الراحة بتركِ الواجبِ ، إنما يتعجَّلون العذاب حقيقةً .
إنَّ الراحةً في أداءِ العمل الصالحِ ، والنفعِ المتعدِّي، واستثمارِ الوقتِ فيما يقرِّبُ من اللهِ .
إنَّ الكافر يريدُ حظَّه هنا ، وراحتَهُ هنا ، ولذلك يقولون : ? رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ? .
قال بعضُ المفسِّرين : أي : نصيبنا من الخَيْرِ وحظَّنا من الرزقِ قبل يومِ القيامةِ .
? إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ? ، ولا يفكِّرون في الغدِ ولا في المستقبلِ ، ولذلك خسرُوا اليوم والغد ، والعمل والنتيجة ، والبداية والنهاية .
وهكذا خُلقتِ الحياةِ ، خاتمتُها الفناءُ فهي شربٌ مكدَّرٌ ، وهي مزاجٌ ملوَّن لا تستقرُّ على شيء ، نعمةٌ ونقمةٌ ، شدَّةٌ ورخاءٌ ، غنىً وفقرٌ .
هذه هي النهاية :
? ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ? .
**********************************************
وقفةٌ
قال إيليا أبو ماضي :
كمْ تشتكي وتقولُ إنك معُدِمُ
والأرضُ ملكُك والسما والأنجُمْ؟
ولك الحقولُ وزهرُها وأريجُها
ونسيمُها والبُلْبلُ المترنِّمُ
والماءُ حولك فضَّةٌ رقْراقةٌ
والشمسُ فوقك عسْجدٌ يتضرَّمُ
والنورُ يبني في السُّفوح وفي الذُّرا
دوراً مزخرفةً وحيناً يهْدِمُ
هشَّتْ لك الدنيا فما لك واجماً ؟
وتبسَّمتْ فعلام لا تتبسَّمُ ؟
إن كنت مكتئباً لعزٍّ قد مضى
هيهات يُرجعُه إليك تَنَدُّمُ
أو كنت تُشفقُ من حلولِ مصيبةٍ
هيهات يمنعُ أنْ يحِلَّ تجهُّمُ
أو كنت جاوزت الشباب فلا تقلْ
شاخ الزمانُ فإنه لا يَهْرَمُ
انظرْ فما زالتْ تُطِلُّ من الثَّرى
صورٌ تكادُ لحِسْنِها تتكلَّمُ
**************************************************
الرِّفْقُ يُعينُ على حصولِ المقصودِ
مرَّتْ آثارٌ ونصوصٌ في الرفقِ ، والرفقُ شفيعٌ لا يُرَدُّ في طلبِ الحاجاتِ ، ولك أن تعلم أن الطريق الضيق بين جدارين ، الذي لا يتسع إلا لمرور سيارةٍ واحدةٍ فَحَسْبُ ، لا تدخلُها هذه السيارة إلا برفقٍ من قائدِها وحذرٍ وتوقٍّ ، بينما لو أقبل بها مسرعاً وأراد المرور من هذا المكان الضيقِ لاصطدم يمْنةً وَيسْرَةً وتعطلتْ سيارتُه ، والطريقُ لم يزِد ولم ينقصْ ، والسيارةُ هي هي ، لكنَّ الطريقة هي التي اختلفت، تلك برفقٍ وهذه بشدَّةٍ . والشجرةُ الصغيرةُ التي نغرسُها في حوضِ فناءِ أحدِنا ، إذا سكبت عليها الماء شيئاً فشيئاً تشربُ منه وينفعُها ، فإذا أخذت كميةً من هذا الماء بعينهِ وحجْمه وألقيته دفعةً واحدة لاقتلعت هذه النبتة من مكانِها ، إن كمية الماءِ واحدةٌ ولكن الأسلوب تغيَّر .
إن منْ يخلعُ ثوبه برفقٍ يضمنُ سلامة ثوبِه ، خلاف من يجذِبُه بقوةٍ ويسحبُه بسرعةٍ ، فإنه يشكو من تقطُّعِ أزرارِه وتمزُّقِهِ .
ومن اللطائف في انكشافِ عَدَمَ صدقِ إخوةِ يوسف في مجيئِهم بثوبِهِ ، وزعْمِهم أن الذئب أكله : أنهم خلعُوا الثوب برفق فلم يحصل فيه شقوقٌ ، ولو أكله الذئبُ كما زعموا لمزَّق الثوب كلَّ ممزَّقٍ ، ولم يخلْعْه خلْعاً .
إن حياتنا تحتاجُ إلى رفقٍ نرفقُ بأنفسِنا : (( وإن لنفسِك عليك حقاً )) . نرفقُ بإخواننا : (( إن الله رفيق يحب الرفق )) . نرفقُ بالمرأةِ : (( رفقاً بالقواريرِ )) .
على الجسورِ الخشبيِة التي بناها الأتراكُ على ممراتِ الأنهارِ ، مكتوبٌ في أول الجسرِ : رفقاً رفقاً . لأن المارَّ بهدوءٍ لا يسقطُ ،أما المسرعُ فجديرُ أن يهوي إلى مستقرِّ النهر .(/140)
وفي مذكّراتٍ لأديب سوريٍّ كان يسكنُ في مدينة « السلمية » ، وله درَّاجةٌ ناريةٌ ، أراد أن يعبر بها على جسر بناه الأتراكُ من الخشبِ على النهرِ ، وهم بنوْه لمن أراد أن يمشي بدراجته متئداً متأنياً ، قال هذا الرجل : فذهبتُ مسرعاً على جسري ، فلما أصبحتُ من أعلى الجسرِ متوسِّطاً النهر ، نظرتُ يَمْنَةً ويَسْرَةً ، وأنا لم أرفقْ بنفسي ولا بدراجتي فاضطربتْ بي واختلَّ نظري ، فوقعتُ بدراجتي في النهرِ ... وكانت قصةً طويلة .
إنَّ على مداخلِ حدائقٍ الزهورِ والورود في بعضِ مدنِ أوروبة : لوحةٌ مكتوب فيها : «تَرَفَّقْ» ، لأن الداخل مسرعاً لا يرى ذاك النبت الجميل ولا يضمنُ سلامة ذاك الوردِ الباهي ، فيحصل الدعس والدفس والإبادة ، لأنه ما رفق ولا تأنَّى .
هناك معادلة تربوية تقول : إن العصفور تربوية تقول : إن العصفور لا يترفَّقُ كالنحلة . وفي الحديث : (( المؤمنُ كالنحلة ، تأكلُ طيباً وتضعُ طيباً ، وإذا وقعتْ على عُودٍ لم تكسْرِه )) . فالنحلة لا تُحِسُّ بها الزهرةُ أبداً ، وهي تعلقُ الرحيق بهدوء ، وتنالُ مطلوبها برفقٍ . والعصفورُ على ضآلةِ جسمِه يخبرُ الناس بنزولِه على سنابل ، فإذا أراد النزول سقط سقوطاً ، ووثب وثْباً .
ولا أزالُ أذكرُ قصة الرسَّام الهنديِّ ، وقد رسم لوحةً بديعة الحسنِ ملخَّصها : سنبلةُ قمح عليها عصفورٌ قد وقع ، وهذه السنبلة مليئةٌ بالحبِّ ، مترعرعةُ النموِّ ، باسقةُ الطولِ ، وعلَّقها الملِكُ على جدارِ ديوانِه ، ودخل الناسُ يهنِّئون الملك بهذه اللوحةِ ويشكرون الرسَّام على حسنِها ، ودخل رجلٌ فقيرٌ مغمورٌ في وسطِ الزحامِ فاعترض على اللوحةِ ، وأخبرَ أنها خطٌأ ، وضجَّ الناسُ به وصجُّوا ، لأنه خالف الإجماع، فاستدعاه الملكُ برفقٍ وقال : ما عندك؟ قال : هذه اللوحةُ خطٌأ رسمُها ، وَغَلطٌ عرْضها . قال : ولِمَ ؟ قال : لأنَّ الرسام رسمَ العصفور على السنبلةِ وترك السنبلة مستقيمةً ممتدةً ، وهذا خطٌأ ، فإنِّ العصفور إذا نزل على سنبلة القمحِ أمالها، وأخضعها ، لأنه ثقيلٌ لا يملكُ الرفق . قال الملكُ : صدقت . وقال الناسُ: صدقت . وأنزل اللَّوْحة ، وسُحبت الجائزةُ من الرسامِ .
إنَّ الأطباء يُوصون بالرفقِ في تناولِ العلاجِ ، وفي مزاولةِ العملِ والأخذِ والعطاءِ .
فذاك يقلعُ ظفْره بيده ، وذاك يباشرُ سِنِّه بنفسِه ، وآخر يَغُصُّ باللقمة ، لأنه أَكَبرَها وما أحسن مضْغها .
إن الماء يترفَّقُ ، وإن الريح تُزمجرُ فتدمِّرُ . قرأتُ لبعضِ السلفِ أنه قال : إن مِن فِقْهِ الرجل رِفْقَهُ في دخولِه وخروجِه منه ، وارتداءِ ثوبِه وخَلْعِ نعلِه وركوبِ دابتهِ .
إن العَجَلةَ والهوجَ والطيْشَ في أخذ الأمورِ وتناولِ الأشياء ، كَفِيلةٌ بحصولِ الضررِ وتفويتِ المنفعِة ، لأن الخَيْرَ بُني على الرفقِ : (( ما كان الرفقُ في شيء إلاَّ زانه ، وما نُزع الرفقُ من شيء إلاَّ شانهُ )) .
إنَّ الرفق في التعاملِ تُذعنُ له الأرواحُ ، وتنقادُ له القلوبُ ، وتخشعُ له النفوسُ .
إن الرفيق من البشرِ مِفتاحٌ لكلِّ خَيْرٍ ، تستسلمُ له النفوسُ المستعصية ، وتثوبُ إليه القلوبُ الحاقدةُ ، ? فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ? .
*******************************************
وقفةٌ
طه حسين يتحدَّثُ بصيغةِ الغائب :
« كان يرى نفسه إنساناً من الناسِ وُلد كما يُولدون ، وعاش كما يعيشون ، يقسِّم الوقت والنشاط فيما يقسِّمون فيه وقتهم ونشاطهم ، ولكنه لم يكنْ يأنسُ إلى أحدٍ ، ولم يكنْ يطمئنُّ إلى شيء ، قد ضُرِب بينه وبين الناسِ والأشياء حجابٌ ظاهرُه الرضا والأمنُ ، وباطنُه من قِبَلِه السخطُ والخوفُ والقلقُ واضطرابُ النفسِ ، في صحراء موحشة لا تحدُّها الحدودُ ، ولا تقومُ فيها الأعلام ، ولا يتبيَّن فيها طريقه التي يمكنُ أن يسلكها ، وغايته التي يمكن أن ينتهي إليها » .
يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ : « إنها تمرُّ بالقلبِ لحظاتٌ من السرور أقول : إن كان أهلُ الجنة في مِثْلِ هذا العيش ، إنَّهم لفي عيشٍ طيِّبٍ » .
وقال إبراهيم بن أدهم : « نحن في عيش لو علم به الملوكُ لجالدونا عليه بالسُّيوفِ » .
************************************
http://www.saaid.net/
حتى تكون أسعد الناس
الإيمانُ يُذْهِبُ الهموم ,ويزيلُ الغموم , وهو قرةُ عينِ الموحدين , وسلوةُ العابدين .
ما مضى فاتَ , وما ذهبَ ماتَ ,فلا تفكرْ فيما مضى , فقد ذهب وانقضى .
ارض بالقضاءِ المحتومِ , والرزقِ المقسومِ , كلُّ شيءٍ بقدرٍ ، فدعِ الضَّجَرَ .
ألا بذكر اللهِ تطمئنُّ القلوبُ , وتحطُّ الذنوبُ , وبه يرضى علاّمُ الغيوبِ , وبه تفرجُ الكروبِ .
لا تنتظرْ شكراً من أحدٍ , ويكفي ثواب الصمدِ , وما عليك ممَّنْ جحدَ , وحقدَ, وحسدَ.
إذا أصبحت فلا تنتظرِ المساء , وعشْ في حدودِ اليومِ , وأجمعْ همَّك لإصلاحِ يومِك .(/141)
اتركِ المستقبلَ حتى يأتي , ولا تهتمَّ بالغدِ ؛ لأنك إذا أصلحت يومك صلح غَدُكَ .
طهِّرْ قلبك من الحسدِ, ونقِّهِ من الحقدِ , وأخرجْ منه البغضاء , وأزلْ منه الشحناءَ.
اعتزلِ الناس إلا من خيرٍ , وكن جليس بيتِك , وأقبلْ على شأنِك , وقلِّلْ من المخالطةِ .
الكتابُ أحسنُ الأصحابِ , فسامرِ الكتب , وصاحبِ العِلْمَ , ورافقِ المعرفة .
الكونُ بُني على النظامِ , فعليك بالترتيبِ في ملبسِك وبيتِك ومكتبِك وواجبِك .
اخرجْ إلى الفضاءِ , وطالعِ الحدائق الغناء وتفرَّجْ في خَلْقِ الباري وإبداعِ الخالقِ .
عليك بالمشي والرياضةِ , واجتنبِ الكَسَلَ والخمولَ, واهجرِ الفراغَ والبطالةَ .
اقرأ التاريخَ ، وتفكرْ في عجائبهِ ، وتدبْر غرائبَه واستمتعْ بقصصِه وأخبارِه .
جدِّدْ حياتَك , ونوِّعْ أساليبَ معيشتِك , وغيِّرْ من الروتينِ الذي تعيشُه .
اهجر المنبهاتِ والإكثار منها كالشاي والقهوةِ, واحذرِ التدخين والشيشةَ وغَيْرَها.
اعتنِ بنظافة ثوبِك وحسنِ رائحتِك وترتيبِ مظهرِك مع السواكِ والطيبِ .
لا تقرأْ بعض الكتبِ التي تربِّي التشاؤمَ والإحباطَ واليأسَ والقنوطَ .
تذكرْ أن ربَّك واسعُ المغفرةِ يقبلُ التوبة ويعفو عن عباده , ويبدلُ السيئاتِ حسناتٍ .
اشكرُ ربَّك على نعمةِ الدينِ والعقلِ والعافيةِ والسِّتْرِ والسمعِ والبصرِ والرزقِ والذريةِ وغيرِها .
ألا تعلمُ أن في الناس من فَقَدَ عقله أو صِحَّتَه أو هو محبوسٌ أو مشلولٌ أو مبتلًى ؟! .
عشْ مع القرانِ حفظاً وتلاوةٌ وسماعاً وتدبراً فإنه من أعظمِ العلاجِ لطردِ الحزنِ والهمَّ .
توكلْ على اللهِ وفوِّضْ الأمرَ إليه , وارضَ بحكمِه , والجأ إليه , واعتمْد عليه فهو حَسْبُك وكافيكَ .
اعفُ عمَّنْ ظلَمَك , وصلْ من قطعَك , وأعطِ من حرمَك , واحلمْ على من أساءَ إليكَ تجدِ السرورَ والأمنَ .
كَرِّرْ «لا حولَ ولا قوَة إلا باللهِ » فإنها تشرحُ البالَ وتصلح الحالَ , وتُحمل بها الأثقالُ , وترضي ذا الجلال .
أكثر من الاستغفارِ , فمعَه الرزقُ والفرجُ والذريةُ والعِلْمُ النافعُ والتيسيرُ وحطُّ الخطايا .
اقنعْ بصورتِك وموهبتِك ودخلِك وأهلِك وبيِتك تجدِ الراحةَ والسعادةَ .
اعلم أن مع العسرِ يسراً ، وأن الفرجَ مع الكَرْبِ وأنه لا يدومُ الحالُ ، وأن الأيامَ دولٌ .
تفاءلْ ولا تقنطْ ولا تيأسْ , وأحسن الظنَّ بربِّك وانتظرْ منه كلَّ خيرٍ وجميلِ .
افرحْ باختيارِ اللهِ لك , فإنك لا تدري بالمصلحِة فقد تكونُ الشدةُ لك خيْراً من الرخاء .
البلاءُ يقرِّبُ بينك وبين اللهِ ويعلِّمك الدعاء ويذهبُ عنك الكِبْرَ والعُجْبَ والفَخْرَ .
أنت تحملُ في نفسِك قناطير النعم وكنوز الخيرات التي وهبك الله إياها .
أحسن إلى الناس وقدمِ الخير للبشرِ ؛ لتلقى السعادة من عيادةِ مريضٍ وإعطاءِ فقيرٍ والرحمةِ بيتيمٍ .
اجتنبْ سوء الظنِّ ، واطرحِ الأوهامَ ، والخيالاتِ الفاسدةَ ، والأفكارَ المريضةَ .
اعلم أنك لستَ الوحيدَ في البلاءِ , فما سَلِمَ من الهمِّ أحدٌ , وما نجا من الشدةِ بَشَرٌ .
تيقَّن أن الدنيا دارُ محنٍ وبلاءٍ ومنغِّصاتٍ وكدرٍ فاقبلْها على حالِها واستعنْ باللهِ .
تفكرْ فيمن سبقوك في مسيرةِ الحياةِ ممَّن عُزِلَ وحُبِسَ وقتلَ وامْتُحِنَ وابتليَ ونكبَ وصودرَ .
كل ما أصابك فأجرُه على اللهِ من الهمِّ والغمِّ والحزنِ والجوعِ والفقرِ والمرضِ والدَيْنِ والمصائبِ .
اعلمْ أن الشدائد تفتحُ الأسماع والأبصار وتحيي القلبَ ، وتردعُ النفسَ ، وتذكر العبدَ وتزيد الثوابَ .
لا تتوقعِ الحوادثَ , ولا تنتظر السوءَ, ولا تصدقِ الشائعاتِ , ولا تستسلمْ للأراجيفِ .
أكثرُ ما يُخافُ لا يكونُ , وغالبُ ما يُسمع من مكروهٍ لا يقعُ , وفي اللهِ كفايةٌ وعنده رعايةٌ ومنه العَوْنُ .
لا تجالسِ البُغضاءَ والثُقلاءَ والحَسَدَة فإنهم حُمَّى الروحِ , وهمْ رُسُلُ الكَدَرِ وحملةُ الأحزانِ .
حافظْ على تكبيرة الإحرامِ جماعةً , وأكثرِ المُكْثَ في المسجدِ , وعوِّد نفسَك المبادرةَ للصلاةِ لتجدَ السرورَ .
إياك والذنوبَ , فإنها مصدرُ الهمومِ والأحزانِ ، وهي سبب النكباتِ ، وبابُ المصائبِ والأزماتِ .
داومْ على ?لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ? . فلها سرٌّ عجيبٌ في كشف الكْربِ , ونبأٌ عظيمٌ في رفعِ المحنِ .
لا تتأثْر من القولِ القبيحِ والكلامِ السيئِ الذي يقال فيك ، فإنه يؤذي قائلَه ولا يؤذيك .
سَبُّ أعدائك لك وشتمُ حسّادِك يساوي قيمتَك ؛ لأنك أصبحتَ شيئاً مذكوراً ، ورجلاً مهماً .
اعلمْ أن من اغتابك فقد أهدَى لك حسناتِه ، وحطَّ من سيئاتِك ، وجعلَك مشهوراً، وهذه نعمةٌ .
لا تشدِّدْ على نفسِك في العبادةِ , والزمِ السنةَ واقتصدْ في الطاعةِ , واسلكِ الوسطَ وإياكَ والغُلُوَّ .
أخلصْ توحيدك لربك لينشرحَ صدرُك , فبقدرِ صفاءِِ توحيدِك ونقاءِ إخلاصِك تكونُ سعادتُك .(/142)
كن شجاعاً قويَّ القلبِ ، ثابتَ النفسِ ، لديك همةٌ وعزيمةٌ , ولا تغرنَّك الزوابعُ والأراجيفُ .
عليك بالجود فإن صدرَ الجوادِ منشرحٌ وباله واسعٌ ، والبخيلُ ضيقُ الصدرِ ، مظلمُ القلبِ ، مكدرُ الخاطرِ .
أبسط وجهَك للناسِ تكسبْ ودَّهم , وألنْ لهم الكلامَ يحبوك , وتواضْع لهم يجلّوك .
ادفع بالتي هي أحسنُ , وترفقْ بالناسِ , وأطفئِ العداواتِ , وسالمْ أعداءُك , وكثّر أصدقاءَكَ .
من أعظم أبوابِ السعادةِ دعاءُ الوالدين , فاغتنمْه ببرِّهما ليكون لك دعاؤهما حصناً حصيناً من كلِّ مكروهٍ .
اقبل الناس على ما هم عليه وسامحْ ما يبدرُ منهم , واعلمْ أن هذه هي سنة اللهِ في الناسِ والحياةِ .
لا تعشْ في المثاليّاتِ بل عشْ واقعَك , فأنت تريدُ من الناسِ ما لا تستطيعه فكنْ عادلاً.
عشْ حياة البساطةِ وإياكَ والرفاهيةَ والإسراف والبَذْخَ فكلما ترفَّهَ الجسمُ تعقَّدتِ الروحُ .
حافظْ على أذكارِ المناسباتِ فإنها حفظُ لك وصيانةٌ , وفيها من السدادِ والإرشادِ ما يصلحُ به يومُكَ .
وزّعِ الأعمالَ ولا تجمعْها في وقتٍ واحدٍ ، بل اجعلْها في فتراتٍ وبينها أوقاتُ للراحةِ ليكنْ عطاؤُك جيداً .
انظرْ إلى من هو دونك في الجسمِ والصورةِ والمالِ والبيتِ والوظيفةِ والذريةِ ، لتعلمَ أنك فوقَ ألوفِ الناسِ .
تيقّنْ أن كل من تعاملُهم من أخٍ وابنٍ وزوجةٍ قريبٌ وصديقٌ لا يخلو من عيبٍ، فوطِّنْ نفسَك على تقبلِ الجميعِ .
الزمِ الموهبة التي أعطيتها، والعلمَ الذي ترتاحُ له، والرزقَ الذي فُتِح لك ، والعمل الذي يناسبُك.
إياك وتجريح الأشخاصِ والهيئاتِ، وكن سليمَ اللسانِ ،طيبَ الكلامِ ، عَذْبَ الألفاظِ ، مأمونَ الجانبِ .
اعلمْ أن الاحتمالَ دفنٌ للمعائب ،والحلمَ سترٌ للخطايا , والجودَ ثوبٌ واسعٌ يغطي النقائصَ والمثالبَ .
انفردْ بنفسِك ساعةً تدبِّرُ فيها أمورك ، وتراجعُ فيها نفسك ، وتتفكرْ في آخرتِك ، وتصلحُ بها دنياك .
مكتبتُك المنزليةُ هي بستانُك الوارفُ , وحديقتُك الغنَّاءُ ,فتنزَّهْ فيها مع العلماءِ والحكماءِ والأدباءِ والشعراءِ .
اكسبِ الرزقَ الحلالَ وإياكَ والحرامَ , واجتنبْ سؤالَ الناسِ , والتجارةُ خَيْرٌ من الوظيفةِ , وضاربْ بمالِكِ واقتصدْ في المعيشةِ .
البسْ وسطاً , لا لباسَ المترفين ولا لباسَ البائسين , ولا تُشهرْ نفسَك بلباسٍ , وكْن كعامةِ الناسِ .
لا تغضبْ فإن الغَضَبَ يفسدُ المزاجَ ، ويغيِّر الخلقَ ويسيءُ العشرةَ ، ويفسدُ المودةَ ، ويقطعُ الصلة .
سافر أحياناً لتجدد حياتك ، وتطالعَ عوالمَ أخرى ، وتشاهدَ معالمَ جديدةً ، وبلداناً أخرى ، فالسفرُ متعةٌ .
احتفظُ بمذكرة في جيبِك ترتّبُ لك أعمالَك ، وتنظمُ أوقاتِك ، وتذكرُك بمواعيدِك ، وتكتبُ بها ملاحظاتك.
ابدأِ الناسَ بالسلامِ ، وحيَّهم بالبسمةِ ، وأعِرْهمُ الاهتمام ؛ لتكون حبيباً إلى قلوبهم قريباً منهم .
ثق بنفسِك ولا تعتمدْ على الناس ، واعتبرْ أنهم عليك لا لك وليس معك إلا اللهُ ولا تغترَّ بإخوانِ الرخاءِ .
احذرْ كلمة (سوف) وتأخيرَ الأعمالِ والتسويفَ بأداء الواجبِ ، فإن هذ عنوانُ الفشلِ والإخفاقِ .
اترك الترددَ في اتخاذِ القرارِ ، وإياك والتذبذبَ في المواقفِ ، بل اجزمْ واعزمْ وتقدمْ .
لا تضيِّع عمرك في التنقلِ بين التخصصاتِ والوظائفِ والمهنِ ، فإن معنى هذا أنك لم تنجحْ في شيء.
افرحْ بمكفراتِ الذنوبِ كالصالحاتِ ، والمصائبِ والتوبةِ ودعاءِ المسلمين ، ورحمةِ الرحمنِ، وشفاعةِ الرسولِ ( .
عليك بالصدقةِ ولو بالقليلِ ، فإنها تطفئُ الخطيئةَ ، وتسرُّ القلبَ ، وتُذْهِبُ الهمَّ ، وتزيدُ في الرزقِ .
اجعلْ قدوتك إمامك محمداً ( فإنه القائدُ إلى السعادةِ , والدالُّ على النجاحِ ، والمرشدُ إلى النجاةِ والفلاحِ .
زُرِ المستشفى لتعرف نعمةَ العافية , والسجْنَ لتعرفَ نعمة الحريةِ , والمارستان لتعرف نعمةَ العقلِ ؛ لأنك في نِعَم لا تدري بها .
لا تحطمْك التوافِهُ , ولا تعطِ المسألةَ أكبرَ من حجمِها , واحذرْ من تهويلِ الأمورِ والمبالغةِ في الأحداثِ .
كن واسع الأفُقِ ، والتمسِ الأعذارَ لمن أساءَ إليك لتعش في سكينةٍ وهدوءٍ , وإياك ومحاولةَ الانتقامِ .
لا تُفرِحْ أعداءك بغضبِك وحزنِك فإن هذا ما يريدون , فلا تحققْ أمنيتَهم الغالية في تعكيرِ حياتِك .
لا توقد فرناً في صدرك من العداواتِ والأحقادِ ، وبغضِ الناسِ ، وكرهِ الآخرين , فإن هذا عذابٌ دائمٌ .
كن مهذباً في مجلسِك , صموتاً إلا من خيرٍ , طلق الوَجْهِ محترماً لجلاّسِك ، منصتاً لحديثِهم , ولا تقاطِعْهُم أثناء الكلامِ .
لا تكنْ كالذبابِ لا يقعُ إلا على الجُرْحِ , فإياك والوقوعَ في أعراضِ الناسِ وذكرِ مثالبِهم والفرحِ بعثراتِهم وطلبِ زلاتِهم .
المؤمنُ لا يحزنُ لفواتِ الدنيا ولا يهتمُّ بها ، ولا يرهبُ من كوارثِها ، لأنها زائلةٌ ذاهبةُ حقيرةٌ فانيةٌ .(/143)
اهجرِ العِشْقَ والغرامَ ، والحبَّ المحرمَ ؛ فإنه عذاب للروحِ ، ومرضٌ للقلبِ , وافزعْ إلى اللهِ وإلى ذكرِه وطاعتِه .
إطلاقُ النظرِ إلى الحرامِ يورثُ هموماً وغموماً وجراحاً في القلبِ , والسعيدُ من غضَّ بصرَه وخافَ ربَّهُ .
احرص على ترتيبِ وجباتِ الطعامِ , وعليك بالمفيدِ ، واجتنبِ التخمة ، ولا تنمْ وأنت شبعانُ .
قدرِّ أسوأ الاحتمالاتِ عند الخوفِ من الحوادثِ , ثم وطّنْ نفسك لتقبلَ ذلك فسوف تجدُ الراحةَ واليسرَ .
إذا اشتدَّ الحبلُ انقطَعَ , وإذا أظلمَ الليلُ انقشَعَ , وإذا ضاقَ الأمرُ اتَّسَعَ , ولن يغلبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ .
تفكّرْ في رحمةِ الرحمنِ ، غَفَرَ لبغيٍّ سقتْ كلباً، وعفا عمن قَتَلَ مائةَ نفسٍ ، وبسط يده للتائبين ، ودعا النصارى للتوبةِ .
بعدَ الجوع شبَعٌ ، وعقب الظمأِ رِيٌّ، وإثر المرض عافيةٌ ، والفقرُ يعقبُه الغنى ، والهمُّ يتلوه السرورُ ، سَنَّةٌ ثابتةٌ .
تدبّرْ سورة ? أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ? وتذكرْها عند الشدائدِ ، واعلمْ أنها من أعظمِ الأدويةِ عند الأزماتِ .
أين أنت من دعاءِ الكَرْبِ (( لا إله إلا اللهُ العظيمُ الحليمُ ، لا إله إلا اللهُ ربٌّ العرشِ العظيم ،لا إله إلا الله ربُّ السمواتِ وربُّ الأرضِ ربُّ العرشِ الكريم )) .
لا تغضبْ إذا غضبتَ فاسكتْ و تعوذْ من الشيطانِ وغيّرْ مكانك ، وإن كنت قائماً فاجلسْ وتوضأ وأكثرْ من الذكرِ .
لا تجزَعْ من الشدةِ فإنها تقوي قلبَك ، وتذيقُك طعمَ العافيةِ ، وتشدُّ من أزرِك وترفعُ شأنِك ، وتظهرُ صبرَك.
التفكر في الماضي حُمْقٌ وجنون ، وهو مثل طَحْنِ الطحينِ ونَشْرِ النشارةِ وإخراجُ الأمواتِ من قبورِهم .
انظرْ إلى الجانبِ المشرقِ من المصيبةِ ، وتلمّحْ أجرها ، واعلمْ أنها أسهلُ من غيرِها ، وتأسَّ بالمنكوبين .
ما أصابك لم يكن ليخطئَك ، وما أخطأك لم يكنْ ليصيبَك , وجُفَّ القلمَ بما أنت لاقٍ , ولا حيلة لك في القضاءِ .
حوِّل خسائرك إلى أرباحٍ , واصنعْ من الليمونِ شراباً حلواً , وأضفْ إلى ماءِ المصائبِ حفنة سكرٍ , وتكيَّفْ مع ظرفِك .
لا تيأسْ من روحِ الله ولا تقنط من رحمة الله ، ولا تنس عون الله , فإن المعونة تنزل على قدر المؤونةِ .
الخيرةُ فيما تكرهُ أكثرُ منها فيما تُحُّب , وأنت لا تدري بالعواقبِ , وكم من نعمةٍ في طيِّ نقمةٍ ، ومن خيرٍ في جلبابِ شرٍّ .
قيّدْ خيالَك لئلا يجمحَ بك في أوديةِ الهمومِ , وحاولْ أن تفكرَ في النعمِ والمواهبِ والفتوحاتِ التي عندَك .
اجتنب الصخبَ والضجةَ في بيتِك ومكتبِك , ومن علامات السعادةِ الهدوءُ والسكينةُ والنظامُ .
الصلاةُ خَيْرُ معين على المصاعبِ , وهي تسمو بالنفسِ في آفاقٍ علويةٍ ، وتهاجرُ بالروحِ إلى فضاءِ النورِ والفلاحِ .
إن العملَ الجادَ المثمرَ يحررُ النفسَ من النزواتِ الشريرةِ والخواطرِ الآثمةِ ، والنزعاتِ المحرَّمةِ .
السعادةُ شجرةٌ ماؤُها وغذاؤُها وهواؤُها وضياؤها الإيمانُ باللهِ ، والدارُ الآخرةُ .
منْ عندَه أَدَبٌ جمٌّ ، وذوقٌ سليمٌ وخُلُقٌ شريفٌ ، أسعدَ نفسَه وأسعدَ الناسَ ، ونال صلاحَ البالِ والحالِ .
روّح على قلبِك فإن القلبَ يكّلُّ ويملُّ , ونوّعْ عليه الأساليبَ , والتمسْ له فنون الحكمةِ وأنواع المعرفةِ .
العلم يشرحُ الصدرَ ، ويوسعُ مدارِك النظرِ ويفتحُ الآفاقَ أمامَ النفسِ فتخرجُ من همِّها وغمِّها وحزنِها .
من السعادةِ الانتصارُ على العقباتِ ومغالبةُ الصعابِ , فلذةُ الظفرِ لا تعدلها لذةٌ ، وفرحة النجاحِ لا تساويها فرحةٌ .
إذا أردتَ أن تسعدَ مع الناسِ فعامِلْهم بما تحبُّ أن يعاملوك به . ولا تبخَسْهم أشياءَهم ، ولا تضعْ من أقدارِهم .
إذا عرف الإنسانُ نفسَه ، والعلم الذي يناسبُه ، وقام به على أكملِ وجهٍ ؛ وجد لذة النجاح ومتعة الانتصارِ .
المعرفةُ والتجربةُ والخبرةُ أعظمُ من رصيدِ المالِ ؛ لأن الفرح بالمالِ بهيميٌّ ، والفرح بالمعرفةِ إنسانيٌّ .
إذا غضبَ أحدُ الزوجين فليصمتِ الآخَرُ ، وليقْبَلْ كلٌّ منهما الآخرَ على ما فيه فإنه لن يخلوَ أحدٌ من عيبٍ .
الجليسُ الصالحُ المتفائلُ يهوَّن عليك الصعابَ ويفتح لك بابَ الرجاءِ ، والمتشائمُ يسوّدُ الدنيا في عينك .
من عنده زوجةٌ وبيتٌ وصحةٌ وكفايةٌ مالٍ فقد حاز صَفْوَ العيشِ ، فليحمدِ الله وليقنعْ ، فما فوق ذلك إلا الهمُّ .
((من أصبح منكم آمناً في سِرْبِهِ , معافىً في جسدِهِ ،عندهُ قوتُ يومِهِ ، فكأنما حِيزت له الدنيا )) .
(( من رضي باللهِ رّباً وبالإسلامِ ديناً ، وبمحمدٍ ( رسولاً ، كان حقاً على الله أن يرضيه )) ، وهذه أركانُ الرضا.
أصولُ النجاحِ أن يرضى اللهُ عنك ، وأن يرضى عنك منْ حَوْلَكَ وأن تكونَ نفسُك راضية وأن تقدم عملاً ًمثمراً.
الطعامُ سعادةُ يومٍ ، والسفرُ سعادةُ أسبوعٍ ، والزواجُ سعادة شهرٍ ، والمالُ سعادةُ سنةٍ، والإيمانُ سعادةُ العمرِ كلِّه .(/144)
لن تسعدَ بالنومِ ولا بالأكلِ ولا بالشربِ ولا بالنكاحِ ، وإنما تسعدُ بالعملِ وهو الذي أوجدَ للعظماءِ مكاناً تحت الشمسِ .
من تيسرتْ له القراءةُ فإنه سعيدٌ لأنه يقطف من حدائقِ العالمِ ، ويطوفُ على عجائبِ الدنيا ويطوي الزمانَ والمكانَ .
محادثةُ الإخوان تُذْهِبُ الأحزان ،والمزاحُ البريءُ راحةٌ ، وسماعُ الشعرِ يريحُ الخاطرَ .
أنت الذي تلوّن حياتَك بنظرِك إليها ،فحياتُك من صنعِ أفكارِك ، فلا تضعْ نظارةً سوداءَ على عينْيكَ .
فكرْ في الذين تحبهم ولا تعطِ من تكرههم لحظةً واحدةً من حياتِك ، فإنهم لا يعلمون عنك وعن همِّك.
إذا استغرقْت في العملِ المثمر بردتْ أعصابُك ، وسكنتْ نفسُك ، وغمرَكَ فيضٌ من الاطمئنانِ .
السعادةُ ليستْ في الحَسَبِ ولا النَّسَبِ ولا الذهبِ، وإنما في الدينِ والعلمِ والأدبِ وبلوغِ الأربِ .
أسعدُ عبادِ اللهِ عند اللهِ أبذُلهم للمعروفِ يداً، وأكثرُهم على الإخوانِ فضلاً ، وأحسنُهم على ذلك شكراً.
إذا لم تسعدْ بساعتِك الراهنةِ فلا تنتظرْ سعادةً سوف تطلُّ عليك من الأفقِ ، أو تنزلُ عليك من السماءِ .
فكّرُ في نجاحاتِك وثمارِ عملِك وما قدْمَته من خَيْرٍ وافرحْ به ، واحمدِ الله عليه ، فإنه هذا مما يشرحُ الصدرَ .
الذي كفاك همَّ أمسِ يكفيك همَّ اليومِ وهمَّ غدٍ، فتوكلْ عليه، فإذا كان معك فمنْ تخافُ ؟ وإذا عليك فمن ترجو؟
بينك وبين الأثرياءِ يومٌ واحدٌ ، أما أمس فلا يجدون لذتَه ، وغدٌ فليس لي ولا لهم ، وإنما لهم يومٌ واحدٌ ، فما أقله من زمنٍ !
السرور ينشطُ النفسَ ، ويفرحُ القلبَ ، ويوازنُ بين الأعضاءِ ، ويجلُب القوة ، ويعطي الحياةَ قيمةً والعمرَ فائدةً .
الغنى والأمنُ والصحةُ والدينُ وركائزُ السعادةِ ، فلا هناءَ لمعدمٍ ، ولا خائفَ ولا مريضَ ولا كافرَ , بل هم في شقاء .
من عرف الاعتدالَ عرفَ السعادةَ , ومن سلكَ التوسطَ أدركَ الفوزَ , ومن اتبعَ اليسرَ نال الفلاحَ .
ليس في ساعةِ الزمنِ إلا كلمةٌ واحدةٌ : الآنَ , وليس في قاموسِ السعادة إلا كلمة واحدةٌ : الرضا .
إذا أصابتْك مصيبةٌ فتصوَّرها أكبرَ تَهُنْ عليك, وتفكّرْ في سرعةِ زوالِها , فلولا كربُ الشدةِ ما رُجيتْ فرحةُ الراحةِ .
إذا وقعت في أزمة فتذكر كم أزمةٍ مرتْ بك ونجاك اللهُ منها ، حينها تعلمُ أن من عافاك في الأولى سيعافيك في الأخرى .
العاقُّ ليومِه من أذهبه في غير حقٍّ قضاه ،أو فرض أدَّاه ، أو مجدٍ شيّدهُ ، أو حمدٍ حصَّله ، أو علمٍ تعلمَه، أو قرابةٍ وصلها، أو خيرٍ أسداه.
ينبغي أن يكون حولك أو في يدك كتابُ دائم ؛ لأن هناك أوقاتاً تذهب هدراً، والكتاب خير ما يحفظُ به الوقتُ ويعمرُ به الزمنُ .
حافظُ القرآنِ ، التالي له آناءَ الليلِ وأطرافَ النهارِ لا يشكو مللا ًولا فراغا ًولا سأماً، لأن القرآن ملأ حياته سعادةً .
لا تتخذ قراراً حتى تدرسه من جوانبِه كافَّةً , ثم استخرِ الله وشاورْ أهلَ الثقة , فإن نجحت فهذا المراد و إلا فلا تندمْ .
العاقل يُكثِرُ أصدقاءه ويُقللُ أعداءه ، فإن الصديق يحصلُ في سنةٍ والعدو يحصل في يوم ، فطوبى لمن حببه الله إلى خَلْقِهِ .
اجعل لمطالبِك الدنيوية حداً ترجع إليه ،وإلا تشتَّت قلبُك وضاقَ صدرُك ، وتنغّص عيشُك ، وساء حالُك .
ينبغي لمن تظاهرتْ عليه نعمُ اللهِ أن يقيّدَها بالشكرِ ، ويحفظها بالطاعةِ ، ويرعاها بالتواضعِ لتدومَ .
من صفتْ نفسُه بالتقوى ،وطَهُرَ فكرُه بالإيمانِ ، وصُقِلَتْ أخلاقُه بالخَيْرِ نال حُبَّ اللهِ وحُبَّ الناسِ .
الكسولُ الخاملُ هو المتعبُ الحزينُ حقيقةً ، أما العاملُ المجِدُّ فهو الذي عرف كيف يعيشُ وَعَرَفَ كيفَ يسعدُ .
إن لذةَ الحياة ومتعتَها أضعافُ أضعافِ مصائبِها وهمومِها، ولكنَّ السرَّ كيف نصل إلى هذه المتعةِ بذكاءٍ .
لو ملكت المرأةُ الدنيا ، وسيقتْ لها شهاداتُ العالمِ ، وحصلتْ على كلِّ وسامٍ وليس عندها زوجٌ فهي مسكينة .
الحياةُ الكاملةُ أن تنفق شبابك في الطموحِ ،ورجولتك في الكفاحِ ،وشيخوخَتَكَ في التأملِ .
لُمْ نفسك على التقصير ، ولا تَلْمْ أحداً ، فإن عندك من العيوبِ ما يملأُ الوقتَ إصلاحُه فاتركْ غيرَك .
أجملُ من القصوِر والدورِ كتابٌ يجلوُ الأفهام ، ويُسِرُّ القلوب ، ويؤنسُ النفسَ ، ويشرحُ الصدرَ، وينمي الفِكْرَ .
اسأل الله العَفْوَ والعافيةَ ، فإذا أعطيتهُما فقد حزت كلَّ خَيْرٍ ، ونجوت من كل شرٍّ ، فُزْتَ بكلَّ سعادةٍ .
رغيفٌ واحدٌ ، وسبعُ تمراتٍ ، وكوبُ ماء ، وحصيرٌ في غرفة مع مصحفٍ ، وقلْ على الدنيا السلامُ .
السعادة في التضحية وإنكارِ الذاتِ ، وبذلِ الندى وكفِّ الأذى ، والبعدِ عن الأنانيةِ والاستئثارِ .
الضحكُ المعتدلُ يشرحُ النفسَ ، ويقوي القلب ويُذْهِبُ المَلَلَ وينشطُ على العملِ ، ويجلو الخاطرَ .
العبادةُ هي السعادةُ ، والصلاح هو النجاحُ ، ومن لزِمَ الأذكارَ ، وأدمنَ الاستغفارَ وأكثرَ الافتقارَ فهو أحدُ الأبرار .(/145)
خيرُ الأصحابِ من تثِقُ به وترتاحُ ، وتفضي إليه بمتاعِبك ، ويشاركُكَ همومَك ولا يفشي سرَّك .
لا تتوقعْ سعادةً أكبر مما أنت فيه فتخسرَ ما بين يديك ، ولا تنتظرْ مصائب قادمةً فتستعجل الهمَّ والحَزَنَ .
لا تظن أنك تعطي كل شيء ، بل تعطي خيراً كثيراً ، أما أن تحوي كل موهبة وكل عطية فهذا بعيدٌ .
امرأةٌ حسناءُ تقيةٌ ، ودارٌ واسعةُ ، وكفافٌ من رزقٍ ، وجارٌ صالحٌ .. نِعمٌ جهلُها الكثيرُ .
فنُّ النسيانِ للمكروهِ نعمةٌ ، وتذكُّرُ النعمِ حَسَنَةٌ ، والغفلةُ عن عيوبِ الناسِ فضيلةٌ .
العفْوُ ألذُّ من الانتقامِ ، والعملُ أمتعُ من الفراغِ ، والقناعةُ أعظمُ من المالِ ، والصحة خَيْرٌ من الثروةِ .
الوحدةُ خَيْرٌ من جليسِ السوءِ ، والجليسُ الصالحُ خَيْرٌ من الوحدةِ ، والعزلةُ عبادةٌ ، والتفكرُ طاعةٌ .
العزلةُ مملكةُ الأفكار ، وكثرةُ الخلطة حُمْقٌ ، والوثوقُ بالناسِ سَفَهٌ ، واستعداؤُهم شُؤْمٌ.
سوءُ الخُلُقِ عذابٌ ،والحقدُ سُمٌّ ، والغيبةُ رذالةٌ ،وتتبعُ العثراتِ خِذْلانٌ .
شكرُ النعمِ يدفعُ النقمَ ، وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ ، والانتصارُ على النفسِ لذةُ العظماءِ .
خبزٌ جاف مع أمنٍ ألذُّ من العَسَلِ مع الخوفِ ، وخيمةُ مع سترٍ أحبٌّ من قَصْرٍ فيه فتنةٌ.
فرحةُ العلمِ دائمةٌ ، ومجدُه خالدٌ ، وذكرُه باقٍ ، وفرحةُ المالِ منصرمةٌ ، ومجدُه إلى الزوالٍ ، وذكرُه إلى نهايةٍ .
الفرحُ بالدنيا فرحُ الصبيانِ ، والفرحُ بالإيمانِ فَرَحُ الأبرارِ ،وخدمةُ المالِ ذلُّ ، والعملُ للهِ شَرَفٌ.
عذابُ الهمةِ عَذْبٌ ،وتعبُ الإنجازِ راحةٌ، وعَرَقُ العملِ مِسْكٌ ،والثناءُ الحَسَنُ أحسنُ طِيبٍ.
السعادةُ أن يكون مصحفُك أ نيسَك ، وعملُك هوايتك ، وبيتُك صومعتَك ، وكنزُك قناعتَك .
الفرحَ بالطعامِ والمالِ فرحٌ الأطفالِ ، والفَرَحُ بحسنِ الثناءِ فَرَحُ العظماءِ ، وعملُ البرِّ مجدٌ لا يفَنى .
صلاة الليل بهاءُ النهارِ ، وحبُّ الخيرِ للناسِ من طهارةِ الضميرِ ، وانتظارُ الفرجِ عبادةٌ.
في البلاءِ أربعةُ فنون : احتسابُ الأجرِ ، ومعايشةُ الصَّبْرِ ، وحُسْنُ الذِّكْرِ ، وتوقُّعُ اللطفِ.
الصلاةُ جماعة، وأداءُ الواجبِ ، وحبُّ المسلمينُ ، وترك الذنوبِ ، وأكلُ الحلالِ صلاحٌ الدنيا والآخرةِ .
لا تكنْ رأساً فإن الرأس كثيرُ الأوجاعِ ، ولا تحرصْ على الشهرةِ فإن لهل ضريبةً ، والكفافُ مع الخمولِ سعادةٌ .
علامةُ الحُمْقِ ضياعُ الوقتِ ،وتأخيرُ التوبةِ ، واستعداءُ الناسِ ، وعقوقُ الوالدين ، وإفشاءُ الأسرارِ .
يُعْرَفُ موتُ القلبِ بترْكِ الطاعةِ ، وإدمانِ الذنوب ، وعدمِ المبالاةِ بسوءِ الذكرِ ، والأمنِ من مكرِ اللهِ ، واحتقارِ الصالحين .
من لم يسعدْ في بيتِه لن يسعدَ في مكانٍ آخرَ ،ومن لم يحبَّه أهلُه لن يحبَّه أحدٌ ، ومن ضيَّعَ يومَه ضيَّعَ غدَه.
أربعة يجلبون السعادة : كتابٌ نافعٌ ، وابنٌ بارٌّ ، وزوجةٌ محبوبةٌ ، وجليسٌ الصالحٌ ، وفي اللهِ عِوضٌ عن الجميعِ .
إيمانُ وصحةُ وغنىً وحريةُ وأمنٌ وشبابٌ وعلم هي ملخصُ ما يسعى له العقلاءُ ، لكنها قلَّ أن تجتمعَ كلُّها .
اسعد الآنَ فليس عندك عهدٌ ببقائِك ، وليس لديك أمانٌ من روعةِ الزمانِ ، فلا تجعلِ الهمَّ نَقْداً والسرورَ دَيْناً.
أفضل ما في العالمِ إيمانٌ صادقٌ ،وخُلُقٌ مستقيمٌ ، و عَقْلٌ صحيحٌ وجِسْمٌ سليمٌ ، ورِزْقٌ هانِئٌ وما سوى ذاك شغلٌ .
نعمتان خفيَّتان: الصحةُ في الأبدانِ ، والأمنُ في الأوطانِ . نعمتان ظاهرتان: الثناءُ الحَسَنُ، والذريةُ الصالحةُ .
القلبُ المبتهجُ يقتلُ ميكروباتِ البغضاءِ ، والنفسُ الراضيةُ تطاردُ حشراتِ الكراهيةِ .
الأمنُ أمهدُ وطاءٍ ، والعافيةُ أسبغُ غطاءٍ ، والعلمُ ألذُّ غذاءٍ ، والحبُّ أنفعُ دواءٍ ، والسترُ أحسنُ كساءٍ .
السعيد لا يكون فاسقاً ولا مريضا ولا مديناً ولا غريباً ولا حزيناً ولا سجيناً ولا مكروهاً.
السعيد: انجلاءُ الغمراتِ ، وإزالةُ العداواتِ ، وعَمَلُ الصالحاتِ ، والانتصارُ على الشهواتِ.
أقلُ الطرقِ خطراً طريقُك إلى بيتِك ، وأكثر الأيامِ بركةً يوم تعملُ صالحاً، وأشأمُ الأزمانِ زمنٌ تسيء فيه لأحدٍ .
إن سبَّك بَشَرٌ فقد سبُّوا ربهم تعالى ، أوجدهم من العَدَمِ فشكّوا في وجودِه ، وأطعَمَهُم من جوعٍ فشكروا غيْرَهُ ، وآمَنَهُمْ من خوفٍ فحارَبُوه .
لا تحملِ الكرةَ الأرضيةَ على رأسِك ،ولا تظنَّ أنَّ الناس يهمهُّم أمرُنا إن زكاماً يصيبُ أحدكم ينسيهم موتي وموتِك .
السرورُ كفايةٌ ووطنٌ ، وسلامةٌ وسَكَنٌ ، وأمْنٌ من الفتنِ ، ونجاةٌ من المِحن ، وشكرٌ على المننِ ، وعبادةٌ طيلة الزمنِ .
(( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيلٍ ))، (( وصلِّ صلاة المودِّعٍ )) ، (( ولا تكلَّمْ بكلامٍ تعتذر مُنه )) ، (( وأجمعُ اليأس عما في أيدي الناسِ )) .(/146)
ازهد في الدنيا يحبُّك الله ، وازهدْ فيما عند الناسِ يحبُّك الناسُ ، واقنعْ بالقليلِ واعملْ بالتنزيلِ واستعدَّ للرحيلِ ، وخفِ الجليلَ .
لا عيش لممقوتٍ ، ولا راحة لمعادٍ ، ولا أمن لمذنبٍ ، ولا محبَّ لفاجرٍ ، ولا ثناءَ على كاذبٍ ، ولا ثقة بغادرٍ .
(( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كلُّه خَيْرٌ وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراءُ شكر فكان خيراً له ،وأن أصابته ضراءُ صَبَرَ فكان خيراً له )) .
الابتسامةُ مِفْتاحُ السعادةِ ، والحبُّ بابُها ، والسروُر حديقتُها ، والإيمانُ نورُها ، والأمنُ جدارُها .
البهجةُ : وجهٌ جميلٌ ، وروضٌ أخضرُ، وماءٌ باردٌ ، وكتابٌ مفيدٌ مع قلب يقدِّرُ النعمة ويتركُ الإثم ويحبُّ الخيرَ .
ينام المعافى على صخر كأنه على ريش حريرٍ ، ويأكلُ خبزَ الشعيرِ كالثريدِ ، ويسكنُ الكوخَ كأنه في إيوانِ كسرى.
البخيل يعيش فقيراً أو يموتُ غنياً خادماً لذريتِه ، حارساً لمالِه ، بغيضاً عند الناسِ ، بعيداً من اللهِ ، سيئ السمعةِ في العالمِ .
الأولاد أفضلُ من الثروةِ ، والصحةُ خيرٌ من الغِنَى ،والأمنُ أَحْسَنُ من السكنِ ، والتجربةُ أغلى من المالِ .
اجعل الفرح شكراً، والحزن صبراً، والصمت تفكراً، والنظر اعتباراً، والنطقِ ذِكْراً ، والحياء طاعةً ، والموت أمنيةً .
كُنْ مثل الطائرِ يأتيه رزقُه صباحَ مساءَ ،ولا يهتمُّ بغدٍ ولا يثقُ بأحدٍ ولا يؤذي أحداً، خفيف الظلِّ رفيقَ الحركةِ .
من أكثرَ مخالطةَ الناسِ أهانُوه ، ومن بخلَ عليهم مقتوه ، ومن حلمَ عليهم وقَّروه ، ومن أجادَ عليهم أحبوه ،ومن احتاجَ إليهم ابغضوه .
الفلك يدورُ ، والليالي حبالى ، والأيامُ دُوَلٌ ،ومن المحالِ دوامُ الحالِ ، والرحمنُ كلَّ يومٍ هو في شأنٍ .. فلماذا تحزنً ؟.
كيف تقفُ على أبوابِ السلاطينِ ونواصيهم في قبضةِ ربِّ العالمين؟! تسألُ المال من فقيرٍ ، وتطلب بخيلاً ، وتشكو إلى جريحٍ !! .
ابعثْ رسائل وقت السَّحرِ : مدادُها الدمعُ وقراطيسُها الخدودُ ، وبريدُها القبولُ ووجهتُها العرشُ : وانتظرِ الجوابَ .
إذا سجدت فأخبرْه بأمورك سراً فإنه يعلمُ السرَّ وأخفى ، ولا تُسمعْ من بجوارِك ؛ لأن للمحبةِ أسراراً والناسُ حاسدٌ وشافعٌ .
سبحان من جَعَلَ الذلَّ له عِزَّةً ، والافتقار إليه غنىً ، ومسألته شرفاً ،والخضوع له رِفْعَةً ، والتوكل عليه كفايةً .
إذا دارهمٌّ ببالِك وأصبح حالُك من الحزنِ حالكِاً ،وفجعت في أهلك ومالك ، فلا تيأسْ لعلَّ الله يحدثُ بعد ذلك أمراً .
لا تنس ? حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ? فإنها تطفئُ الحريقَ ، وينجو بها الغريقُ ، ويعرف بها الطريق ، وفيها العهد الوثيق .
طوبى لك يا طائر : ترِدُ النهر ، وتسكن الشجر ، وتأكل الثمر، ولا تتوقع الخطر ، ولا تمرُّ على سَقَر ، فأنت أسعد حالاً من البشرِ .
السرورُ لحظةٌ مستعارةٌ ، والحزنُ كفارةٌ ، والغضبُ شرارةٌ ، والفراغُ خسارةٌ ، والعبادةُ تجارةٌ .
أمسِ ماتَ ، واليومُ في السياقِ ، وغداً لم يولدْ ، وأنت ابنُ الساعةِ فاجعلْها طاعةً ، تَعُدْ لك بأربحِ بضاعةٍ .
نديمك القلمُ ، وغديرُك الحبرُ، وصاحبك الكتابُ، ومملكتك بيتُك، وكنزُكَ قوتُك ، فلا تأسفْ على ما فاتَ .
ربما ساءتْك أوائلُ الأمورِ وسرَّتك أواخرُها، كالسحابِ أوله بَرْقٌ ورعدٌ وآخره غيثٌ هنيءٌ
الاستغفارُ يفتح الأقفال، ويشرحُ البالّ ، ويُذْهِبُ الأدغال، وهو عُرْبونُ الرزقِ ودروازةُ التوفيقِ .
ستٌّ شافية كافية : دينٌ وعلمٌ وغنىً ومروءةٌ وعفوٌ وعافيةٌ .
من الذي يجيبُ المضطر إذا دعاهُ ، وينقذُ الغريق إذا ناداه، ويكشف الكرب عنا مَنْ؟ قال : يا اللهُ ؟ إنه اللهُ .
ابتعد عن الجدلِ العقيمِ ، والمجلسِ اللاغي ، والصاحبِ السفيِه، فإن الصاحبَ ساحبٌ ، والطبعَ لصٌ والعينَ سارقةٌ .
التحلِّي بحسنِ الاستماعِ ، وعدمِ مقاطعة المتحدثِ ، ولينِ الخطابِ ، ودماثةِ الخلقِ ، أوسمةٌ على صدورِ الأحرارِ .
عندك عينانِ وأذنانِ ويدانِ ورجلانِ ولسانٌ وإيمانٌ وقرآنٌ وأمانٌ .. فأين الشكرُ يا إنسانُ ?فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ? .
تمشي على قدميك وقد بُتِرَتْ أقدامٌ ، وتعتمدُ على ساقُيْك وقد قُطعتْ سيقان ، وتنام وغيرك شرّدَ الألمُ نومهً ، وتشبع وسواك جائعٌ .
سلمت من الصَّممِ والبُكْمِ والعمى ، ونجوت من البرص والجنون والجذام ، وعوفيت من السل والسرطان ، فهل شكرت الرحمن ؟!
مصيبتنا أننا نعجزُ عن حاضرنا و نشتغلُ بماضينا ، ونهملُ يومنا ونهتمُّ بغدِنا فأين العقلُ وأين الحكمةُ ؟!
نقدُ الناسِ لك معناه أنك فعلت ما يستحقُّ الذكر، وأنك فقتهُم علماً أو فَهْماً أو مالاً أو مَنْصِباً أو جاهاً.
تقمُّصُ شخصية الغيرِ ، والذوبانُ في الآخرين ، ومحاكاةُ الناسِ انتحارٌ وإزهاقٌ لمعالم الشخصيةِ .(/147)
? قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ?، ? وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ? ((لا تكونوا إمِّعةً )) ، ? صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ ?.
مع الدمعةِ بسمةٌ ، ومع التَّرحةِ فَرْحةٌ ، ومع البليةِ عطيةٌ ، ومع المحنةِ مِنْحةٌ ، سنة ثابتةٌ وقاعدةٌ مطردةٌ .
انظرْ هل ترى إلا مبتلًى ،وهل تشاهدُ إلا منكوباً ، في كل دارِ نائحةٌ ، وعلى كل خدٌّ دمعٌ ، وفي كل وادٍ بنو سَعْدٍ .
صوتٌ من شكرِ معروفِك أجملُ من تغريدِ الأطيارِ ، و نسيمِ الأسحارِ ،وحفيفِ الأشجارِ، وغناءِ الأوتارِ .
إذا شربت الماء الساخن قلت الحمدُ للهِ بكلفةٍ ، وإذا شربْت الماء البارد قال كل عضو فيك: الحمدُ للهِ .
أرخصُ سعادةٍ تُباعُ في سوقِ العقلاءِ تَرْكُ مالا يعني ، وأغلى سلعةٍ عند العالمِ أن تألفَ الناسَ ويألفوك .
إياك والهمَّ فإنه سُمٌّ ، والعجز فإنه موتٌ ، والكَسَلَ فإنه خيبةٌ ، واضطرابَ الرأيِ فإنه سوءٌ تدبيرٍ.
جارُ السوءِ شرٌّ من غربةِ الإنسانِ ، واصطناعُ المعروفِ أرفع من القصورِ الشاهقةِ ، والثناءُ الحَسَنُ هو المجدُ .
أحقُّ الناس بزيادة النعمِ أشكرُهم ، وأولاهم بالحبِّ من بذل نداه ومنعِ أذاه وأطلقِ محياه .
... السرور محتاجٌ إلى الأمنِ ، والمالُ محتاجٌ إلى صدقةِ ، والجاهُ محتاجٌ إلى الشفاعةِ ، والسيادة محتاجةٌ إلى التواضعِ .
... لا تُنال الراحةُ إلا بالتعبِ ، ولا تدركُ الدَّعةُ إلا بالنَّصبِ ،ولا يُحصلُ على الحبِّ إلا بالأدبِ .
... الأبناءُ أهمُّ من الثروةِ ، والخُلُقُ أجلُّ من المَنْصِبِ ، والهمةُ أعلى من الخِبْرَةِ ، والتقوى أسمى من المجدِ .
لا تطمعْ في كل ما تسمعُ ، ولا تركنْ لكل صديقٍ ، ولا تُفْشِ سرَّك إلى امرأةٍ ، ولا تذهبْ وراء كلِّ أمنيةٍ .
ما رأيتُ الراحة إلا مع الخلوةِ ، ولا الأمن إلا مع الطاعةِ ، ولا المحبةَ مع الوفاءِ ، ولا الثقة إلا مع الصِّدْقِ .
رُبَّ أكلةٍ تمنع أكلاتٍ , وكلمة تجلبُ عداواتٍ , وسيئةٍ تمنعُ الخيراتٍ , ونظرةٍ تُعْقِبَ حسراتٍ .
لا يكنْ حبُّك كَلفاً، ولا بغضُك سَرَفاً ، ولا حياتك تَرَفاً ، ولا تذكّرُك أَسَفاً ، ولا قصدك شرفاً.
كل امرئ في بيته أميرٌ لا يهيُنه أحدٌ ، ولا يحجبُه بَشَرٌ ، ولا يذلُّهُ جبّارٌ ولا يرده بخيلٌ .
أفضلُ الأيام ما زادك حِلْماً ، ومنحَك عِلْماً، ومنَعَك إثْماً ، وأعطاك فهْماً، ووهبَك عزْماً .
الحياة فرصةٌ لا نعرفُها إلا بعد أن نفقدها ، والعافيةُ تاجٌ على رؤوسِ الأصحاءِ لا يراها إلا المرضى .
متى يسعدُ منْ له ابنٌ عاقٌّ ، وزوجةُ مشاكسةٌ ، وجارٌ مؤذٍ ، وصاحبٌ ثقيلٌ ، ونفسٌ أمارةٌ ، وهوًى متّبَعٌ .
إن لرِّبك عليك حقاً ، ولنفسِك عليك حقاً ، ولعينِك عليك حقاً ، ولزوجِك عليك حقاً ، ولضيفِك عليك حقا ، فأعط كلَّ ذي حقٍّ حقههُ .
استمتعْ بالنظرِ إلى الصباحِ عند طلوعهِ فإن له جمالاً جلالاً إشراقاً يفتح لك الأمل والتفاؤل.
عليك بالبكورِ فإنه بركةٌ ، فأنجزْ فيه عَمَلَكَ من ذِكْرٍ أو تلاوةٍ أو حفظٍ أو مطالعةٍ أو تأليفٍ أو سَفْرٍ .
كنْ وسطاً ، وامشِ جانباً ، وارضِ خالقاً ، وارحمْ مخلوقاً ، وأكملْ فريضةً ، وتزود بنافلةِ تكنْ راشداً .
التوفيق : حسنُ الخاتمةِ، وسدادُ القولِ ، وصلاحُ العملِ ، والبعدُ عن الظلمِ، وقطيعةُ الرَّحِمِ.
ربَّ كلمةٍ سلبْت نعمةً ، وربَّ زلَّةٍ أ وجبتْ ذِلَّةً ، وكم من خلوةٍ حلوةٍ ، وصاحبُ العزلة فيها عِزٌّ له .
(( المسلم من سلم المسلمون من لسانِه ويدِه، والمؤمنُ من أمِنه الناسُ على دمائِهم وأموالهِم )) ، (( والمهاجرُ من هَجَرَ ما نهى اللهُ عنه)) .
خيرُ مالِك ما نَفَعَكَ ، وأجلُّ علمِك ما رَفَعَكَ ، وخيرُ البيوتِ ما وسِعَكَ، وخيرُ الأصحاب من نَصَحَكَ .
إذا لم يكن لك حاسدٌ فلا خَيْرَ فيك ، وإذا لم يكن لك صاحبٌ فلا خُلُقَ لك ، وإذا لم يكن لك دٌين فلا مبدأ لك .
سُرَّ نفسك بتذكرِ حسناتِك ، وأرحْ قلبك بالتوبةِ من سيئاتِك ، وطوقِ الأعناق بأياديك البيضاءِ .
السمنة غفلةٌ ، والبطنةٌ تذهب الفِطْنَةَ ، وكثرةُ النومِ إخفاقٌ ، وكثرة الضحكِ تُميتُ القلب ، والوسوسةُ عذابٌ .
الإمارةُ حُلْوَةُ الرضاعِ مرة الفطامِ ، وفَرْحَةُ الولايةِ يذهبُها حزنُ العزلِ ، والكرسيُّ دوّارٌ .
من لذائد الدنيا : السفرُ مع من تُحِبُّ ، والبعدُ عمن تبغضُ ، والسلامةُ من يؤذي ، وتذكرُ النجاح .
البرُِّ يستبعدُ الحرَّ ، والإحسانُ يقيد الإنسانَ ، الحلمُ يقهرُ الخَصْمَ ، والصبر يطفئ الجَمْرَ
الدنيا أهنأُ ما تكونُ حين تُهانُ ، والحاجةُ أرخصُ ما تكون حينما يُستْغنْىَ عنها .
إذا أهَّمك رزقُ غد فمن يكفلُ لك قدوم غٍد ، وإذا أحزنك ما حدث بالأمسِ فمن يعيدُ لك الأمسَ .
توفيقٌ قليلٌ خيرٌ من مالٍ كثيرٍ ، وعزلٌ في عزّةٍ خَيْرٌ من ولايةِ في ذِلَّةٍ ، وخمولٌ في طاعةٍ خَيْرٌ من شدةٍ في معصيةٍ .(/148)
القانعُ ملكٌ ، والمسرفُ أهوجُ ، والغضبانُ مجنونٌ ، والعجولُ طائشٌ ، والحاسدُ ظالمٌ .
ذِكْرُ اللهِ يرضي الرحمنَ ، ويسعدُ الإنسانَ ، ويخسئ الشيطان ، ويُذْهِبُ الأحزان ، ويملأ الميزانَ .
سعيدٌ من طال عمرُه وحسن عملُه ، وموفقٌ من كثُر مالُه فكثر برُّه ، ومباركٌ من زاد علمُه فزادتْ تقواه.
جزاءُ من اهتمَّ بالناسِ أن ينسى همومه ، وثوابُ من خَدَمَ مولاه أن يخدمه الناسُ ، وجائزةُ من ترك الدنيا أن يأتيَه رزقُه رَغَداً .
لا تستقلَّ شيئاً من النعم مع العافيةِ ، ولا تحتقرْ شيئاً من الذنِب مع عدمِ التوبةِ ، ولا تكثرْ طاعةً مع عدم الإخلاصِ .
الفرح بالدنيا فرحُ الأطفالِ ، والفرح بالثناءِ الحسنِ فرح الرجالِ ، والفرحُ بما عند الله فرحٌ الأولياءِ الأبرارِ .
الصدقُ طمأنينةٌ، والكذبٌ ريبةٌ، والحياءُ صيانةٌ ، والعلمٌ حُجَّةٌ، والبيانُ جمالٌ ، والصمتُ حكمةٌ .
حلاوةُ الظفرِ تمحو مرارة الصبر ، ولذةُ الانتصارِ تُذْهِبُ وعثاءِ المعاناةِ ، وإتقانٌ العملِ يزيلُ مشقته.
أطيبُ ما في الدنيا محبةُ اللهِ ، وأحسنُ ما في الجنةِ رؤيةُ اللهِ ، وأنفعُ الكتبِ كتابُ الله ، وأبرُّ الخلقِ رسولُ اللهِ ( .
السعيُد منِ اعتبر بأمسِه ، ونظر لنفسه ، وأعدَّ لرمسِه وراقبَ الله في جهرِه وهمسِه .
الحرصُ ذلٌّ والطمعُ مهانةٌ، والشُّحُّ خِسَّةُ ، والهيبةُ خيبةٌ ، والغفلةُ حجابٌ .
(( احفظِ الله يحفظْك ، احفظِ الله تجدْه أمامك ، تعرَّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ يعرفْك في الشدةِ ، إذا سألت فاسألِ الله ، وإذا استعنت فاستعنْ باللهِ )) .
اجعلْ زمان رخائِك عدةً لزمانِ بلائِك ، واجعلْ مالكَ صيانةً لحالِك ، واجعلْ عمرك طاعةً لرِّبكَ .
ربَّ لذةٍ أو جبتْ حسرةً ، وزلةً أعقب ذِلَّة ، ومعصيةٍ سلبتْ نعمةً ، وضحكةٍ جرَّتْ بكاءً.
النعمُ إذا شكرتْ قرّتْ ، وإذا كفرتْ فرَّتْ ، والدنيا إذا سرّتْ مرَّتْ ، وإذا برّتْ غرّتْ.
السلامة إحدى الغنيمتين ، وصحةُ الجسمِ قلةُ الطعامِ , وصحةُ الروحِ قلةُ الآثامِ , وصحة الوقتِ البعدُ عن المقْتِ .
دقيقةُ الألمِ يوم , ويومُ اللذةِ دقيقةٌ , وليلةُ السرورِ قصيرةٌ , ويومُ الهمِّ طويلٌ ثقيلٌ .
البؤسُ ذكَّرك النعيم , والجوع حبَّب إليك الطعام , والسجنُ ثمَّن لديك الحرية , والمرضُ شوّقك للعافيةِ .
عليك بثلاثة أطباء: الفرحِ والراحةِ والحِمْيةِ وإياك وثلاثة أعداءٍ : التشاؤمِ والوهمِ والقنوطِ .
السعادةُ هي أن تصل النفس إلى درجة كمالِها, والفوز أن تجد ثمرةَ أعمالها , والحظّ أن تخدمُه الدنيا بإقبالِها.
اجلسْ في السحرِ ، ومدَّ يديَكَ ، وأرسلْ عينيك وقلْ : وجئْنا ببضاعةٍ مزجاةٍ فأوفِ لنا الكيل يا جليلُ .
من النعم السلامةُ من الألمِ والسقمِ والهرمِ , ولا تشربْ حتى تظمأً , ولا تأكلْ حتى تجوعَ , ولا تنمْ حتى تتعب.
من تأنَّى حصل على ما تمنّى , ومن للخيرِ تعنَّى فبالفوِز تهنَّا , والعجلةُ عقمٌ , والأمانيُّ إفلاسٌ .
ارض عن اللهِ فيما فعله بك, ولا تتمنَّ زوال حالةٍ أقامك فيها, فهو أدرى بك منك وأرحمُ بك من أمِّك.
قضاءُ اللهِ كلُّه خَيْرٌ, حتى المعصيةُ بشرطِها من ندمٍ وتوبةٍ , وانكسارٍ واستغفارٍ , وإذهابِ الكبرٍ والعُجْبِ .
داومْ على الاستغفارِ فإن للهِ نفحاتٍ في الليلِ والنهارِ, فعسى أن تصيبك منها نفحةٌ تسعدُ بها إلى يومِ الدينِ .
طُوْبى لمن إذا أُنْعِم عليه شَكَرَ , وإذا ابتُلِي صَبَرَ, وإذا أذنب استغفر, وإذا غضِب حلمَ , وإذا حَكَمَ عَدَلَ.
من فوائد القراءةِ فتقُ اللسانِ , وتنميةُ العقلِ , وصفاءُ الخاطرِ , وإزالةُ الهمِّ , والاستفادةُ من التجاربِ ، واكتسابُ الفضائِل .
غذاءُ القلب في الإخلاصِ والتوبةِ والإنابةِ , والتوكلِ على اللهِ , والرغبةِ فيما عنده والرهبةِ من عذابهِ , وحبِه تعالى.
الزم (( يا ذا الجلال والإكرام )) وداومْ على (( يا حيُّ يا قيومُ برحمتِك استغيثُ )) لترى الفَرَج والفَرَحَ والسكينةَ .
إذا آذاك أحد فتذكرِ القضاءَ ، وفَضِّلِ العَفْوَ ، وأجرِ الحلم ، وثواب الصبرِ ، وأنه ظالمٌ وأنت مظلومٌ , فأنت أسعدُ حظاً .
القضاء نافذُ والأجلُ محتومٌ والرزقُ مقدَّر , فلماذا الحزنُ ؟ والمرضُ والفقرُ والمصيبةُ بأجرِها فلم الهمُّ ؟.
في الدنيا جنَّةٌ من لم يدخلْها لم يدخلْ جنة الآخرةِ, وهي ذكرُه سبحانه وطاعتُه وحبُّه والأنسُ به والشوقُ إليه.
رضي الله عنهم لأنهم أطاعوا أمره واجتُنبوا نهيه ورضوا عنه ؛ لأنه أعطاهم ما أمِلُوا ، وآمنهم مما خافُوا .
كيف يخزنُ من عندَه ربٌّ يقدرُ ويغفرُ ويسترُ ويرزقُ ويرىُ ويسمعُ ، وبيدِهِ مقاليدُ الأمورِ.
الرحمةُ واسعةٌ والبابُ مفتوحٌ ، والعفوُ ممنوحٌ ، وعطاؤُه يغدو ويروحُ ، والتوبةُ مقبولةٌ ، وحلمه كبيرٌ .
لا تحزْن لأن القضاء مفروغٌ منه ، والمقدور واقعٌ ، والأقلام جفتْ ، والصحف طُوِيَتْ والأجرُ حاصلٌ ، والذنب مغفورٌ .(/149)
أحسِن العمل وقصِّرِ الأمَلَ ، وانتظرِ الأجل ، وعش يومك ، وأقبلْ على شأنِك واعرفْ زمانَك واحفظْ لسانَك .
لا أَفْيَدَ من كتابٍ ، ولا أَوْعَظَ من قبرٍ ، ولا أَسْأَمَ من معصيةٍ ، ولا أَشْرَفَ من زهدٍ ، ولا أغْنى من قناعةٍ .
بقدر همتك وجدِّك ومثابرتِك يُكتبُ تاريخُك، والمجدُ لا يُعطى جزافاً وإنما يؤخذ بجدارةٍ ويُنالُ بتضحيةٍ .
هوّن الأمر يَهُنْ ، واجعلِ الهمَّ همَّ الآخرةِ فحسبُ ، وتهيأ للقاءِ اللهِ تعالى ، واتركِ الفضولَ من كل شيءٍ .
فضولُ المباحاتِ من المزعجاتِ كفضولِ الكلامِ والطعامِ والمنامِ والخلطةِ والضحكِ , وهي سببُ الغمِّ .
? لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ? فلا تذوبوا حسرةً ونَدماً, ولا تهلكوا بكاءً وأسفاً, ولا تنقطعوا عويلاً وتسخُّطاً.
? حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ? يكفيكم اللهُ فيسددكم ويرعاكم ويدفع عنكم ويحميكم فلا تخافون.
? إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ? يدفع عنهم الأعداء , يعافيهم من البلاءِ , ويشافيهم من الداءِ , يحفظُهم في البأساءِ والضراءِ .
?لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ? يرانا, يسمع كلامَنا, ينصرُنا على عدوِنا, ييسرُ لنا ما أهمَّنا, يكشفُ عنا ما أغمَّنا.
? أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ? أما جعلناه فسيحاً وسيعاً مبتهجاً مسروراً ساكناً مطمئناً فرِحاً معموراً ؟!
? وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ? فنحن نكفيك مكرهم, ونصدُّ عنْك كيدهم, ونردُّ عنك أذاهم فلا تضِقْ ذرْعاً.
?وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا? وأنتم الأعلون عقيدةٌ وشريعةٌ , والأعلون منهجاً وسيرةً , والأعلون سنداً ومبدأً, وأخلاقاً وسلوكاً.
? إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ? يعفو عن المذنبِ , يقبلُ التوبة, يقيلُ العثرة, يمحو الزلة, يستر الخطيئة, يتوبُ على التائب.
? وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ? فإن فرجهٌ قريب, ولطفهُ عاجلٌ , وتيسيرهُ حاصلٌ , وكرمُه واسع, وفضله عامٌ .
? وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ? يُشافي ويُعافي وَيُجتِبي ويختار, ويحفظُ ويتولى, ويسترُ ويغفرُ, ويحلمُ ويتكرمُ .
? فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً ? يحفظ الغائب, يرد الغريبَ , يهدي الضالَ , يعافي المبتلى , يشفي المريضَ , يكشفُ الكربِ .
?وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا? فوِّضوا الأمر إليه, وأعيدوا الشأن إليه, واشكوا الحال عليه, ارضوا بكفايته, اطمئنوا لرعايته .
? فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ? فيفتح الأقفال, ويكشف الكُرَبَ الثقال, ويزيل الليالي الطوال, ويشرح البالَ , ويصلح الحالَ .
? لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً? فيذهب غمّاً ويطرُد هَمّاً ويزيلُ حزناً ويسهل أمراً ويُقرِّبُ بعيداً.
? كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ? يكشفُ كرْباً ويغفرُ ذنباً ويعطي رِزْقاً ويشفي مريضاً ويعافي مبتلًى ، ويفكُّ مأسوراً ، ويجبرُ كسيراً .
? فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً? مع الفقرِ غنى, وبعد المرضِ عافيةٌ , وبعد الحزنِ سرورٌ , وبعد الضيق سَعَةٌ , وبعد الحبسِ انطلاقٌ , وبعد الجوعِ شبعٌ .
? سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً? سُيحلُّ القيدُ , وينقطعُ الحبلُ , ويُفتحُ البابُ , وينزل الغيث , ويصلُ الغائبُ , وتصلح الأحوالُ .
? فَصَبْرٌ جَمِيلٌ? فسوف يبدل الحالْ , وتهدأُ النفسُ , وينشرحُ الصدرُ, ويسهل الأمرُ, وتحل العقدُ, وتنفرجُ الأزمةُ .
? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ? ليصلح حالُك, ويشرح بالُك, ويحفظ مالُك , ويرعى عيالُك , ويكرم مآلُك, ويُحقَّقَ آمالُك.
?حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ? يكشف عنا الكروب, ويزيلُ عنا الخطوب, يغفرُ لنا الذنوب, يصلح لنا القلوب , يذهبْ عنا العيوبَ .
? إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً? هديناك واجتبيناك, وحفظناك ومكناك, ونصرناك وأكرمناك, ومن كل بلاء حسنٍ أبليناك.
? وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ? فلا ينالُك عدوٌّ , ولا يصل إليك طاغيةٌ , ولا يغلبك حاسدٌ , ولا يعلو عليك حاقدٌ , ولا يجتاحك جبارٌ .
?وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً? خلقك ورزقك , علّمك وفهّمك , هداك وسددك, أرشدك وأدبك, نصرك وحفظك, تولاك ورعاك.
? وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ? أعطى الخَلْقَ والرزق , والسمع والبصر , والهداية والعافية , والماء والهواء , والغذاء والدواء , والمسكن والكساء .
إذا سألت فاسألِ الله تجدِ العون والكفاية والرشد والسداد , واللطف والفرج , والنصر والتأييدَ .
على الله توكلْنا وبدينِه آمنا ولرسولِه اتبعنا ولقولِه استمعنا وبدعوتِه اجتمعنا, فلا تحزْن إنَّ الله معنا.
ولينصرنَّ اللهُ من ينصرُه , فيرفُع قدره ، ويعلي شأنه ، ويتولى أمره ، ويخذلُ عدوه ويكبتُ خصمه ويخزي من كاده.(/150)
(( لا حول ولا قوة إلا بالله)) لا إرادة ولا قدرة ولا تأييدَ ولا نصرَ ولا فرجَ ولا عونَ ولا كفايةَ ولا طاقةَ إلا باللهِ العظيمِ .
? أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ? يطالع كتابَ الكونِ ، ويقرأ دفتر الجمالِ , ويتمتعُ بمشاهدِ الحُسْنِ ويسرحُ طرفه في مهرجانِ الحياةِ .
? وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ ? يتكلمُ بالبيانِ المشرقِ , ينطقُ بالحديثِ الجذابُ , يتحدثُ بالكلماتِ الآسراتِ , يترجم عما في قلبِهِ.
? لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ? فيعظم علمُكم ويزيد فهمُكم ويبارك في رزقِكُمْ ، ويتحققُ نصرُكم ويكثرُ خيرُكم.
? وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ? عامةً وخاصةً , في الدينِ والدنيا, في الأهلِ والمالِ , في المواهبِ والجوارحِ , في الروحِ .
? وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ? أرفع شكايتي إليه , أعرضُ حالي عليه, أُحَسِّنُ ظني به , أتوكلُ عليه, أرضى بحكمِه, أطمئنُّ إلى كفايتِه.
?اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ? يرزقهم إذا افتقروا , يغيثهم إذا قحطُوا , يغفرُ لهم إذا استغفروا, يشفيهم إذا مرضُوا, يعافيهم إذا ابتُلوا .
?لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ? لم يغلقْ بابه , لم يسدلْ حجابه, لم تنْفَدْ خزائنُه , لم ينتهِ فضلُه, لم ينقطعْ حبلُه .
? أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ? يكفيه ما أهمَّه وأغمَّه , يحميه ممن قصده , يمنعه ممن كاد له , يحفظُه ممّن مكر به.
? فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ ? فعنده الخزائُن ، ولديه الكنوزُ ، وبيده الخيرُ , وهو الجوادُ المنانُ الفتاحُ العليمُ .
?وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ? يكشف كربه ويغفر ذنبه, ويذهب غيظه وينيرُ طريقه ويسددُ خطاه.
? اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ? كنتم أمواتاً فأحياكم , وضُلاَّلاً فهداكُم , وفقراءً فأغناكم , وجهلةً فعلَّمكم, ومستضعفين فنصركم.
كم مرةٍ سألت فأعطاك , كم مرةٍ طلبت فحباك , كم مرةٍ عثرت فأقالك , كم مرةٍ أعسرت فيسر عليك, كم مرةٍ دعوته فأجابَك.
الصلاةُ والسلامُ على المعصومِ تذهبُ الغمومُ ، وتزيلُ الهمومُ , وتشافي القلب المكلوم ، وتفتحُ العلوم ويحصل بها الفضلُ المقسومُ .
?ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ? ارفعوا إلى الله أكفَّكم , قدموا إليه حوائجكم , اسألوه مرادكم , اطلبوه رزقكم, اشكوا عليه حالكم .
? أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ? فيزيل كربه وبلواه ويُذْهِبُ ما أضناه , ويعطيه ما تمناه , ويحققُ مبتغاه.
تصدق بعَرْضِك على فقراءِ الأخلاقِ , واجعلْهم في حلِّ إن شتموك أو سبوك أو آذوك فعند اللهِ العِوَضُ .
إذا خاف رُبَّان السفينة نادى : يا اللهُ , إذا ضلَّ الحادي هتف : يا اللهُ , إذا اغتم السجين دعا : يا اللهُ , إذا ضاق المريضُ صاح : يا اللهُ .
? اللَّهُ الصَّمَدُ ? تصمدُ إليه الكائناتُ , تقصدُه المخلوقاتُ , تدعوه البرياتُ بشتى اللغاتِ ومختلف اللهجاتِ في سائر الحاجاتِ .
? ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا? ينيرُ لهم الطريقِ , يبين لهم المَحَجَّة , يوضحُ لهم الهداية , يحميهم من الضلالةِ , يعلمُهم من الجهالةِ.
رفقاًَ بالقواريرِ ولطفاً بالقلوبِ ، ورحمةً بالناسِ ، ورويداً بالمشاعرِ ، وإحساناً للغيرِ ، وتفضلاً على العالمِ .. أيها الناسُ .
اكتمِ الغيظ , وتغافلْ عن الزلةِ , وتغاض عن الإساءةِ , واعفُ عن الغلطةِ , وادفنِ المعائب تكنْ أحبَّ الناسِ إلى الناسِ .
بابٌ ومِفْتاحٌ , وغرفةٌ تدخلُها الرياحُ , وقلب مرتاحٌ , مع تقوى وصلاحٍ , وقد نلت النجاح .
فضول العيشِ أشغالٌ , والزائدُ عن الحاجة أثقالُ , وعفافٌ في كفافٍ خَيْرٌ من بَذْخٍ وإسرافٍ .
لا تحمل عقدة المؤامرةِ , ولا تفكْر في تربصِ الآخرينَّ , ولا تظن أن الناسَ مشغولون بك, فكلٌّ في فَلَكٍ يسبحون .
? فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ? فيرد كيدهم ويبطل مكرهمِ ، ويخذلُ جندهم ، ويفلُّ حدَّهم, ويمحقُ قوتهم , ويُذْهِبُ بأسهم ويشتتُ شملهم .
? فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ? فشفى غليلهم , وأبرد عليلهم , وأطفأ لهب صدورِهم , وأراحَ ضمائرَهم , وطهرَ سرائرَهم.
(( الكلمة الطيبة صدقةٌ )) لأنها تفتحُ النفسَ ، وتسعدُ القلب ، وتدملُ الجراح ، وتذهبُ الغيظ وتعلنُ السلام .
(( تبسمك في وجهِ أخيك صدقةٌ )) لأن الوجه عنوانُ الكتاب , وهو مرآةُ القلبِ ، ورائدُ الضميرِ وأولُ الفألَ .
? ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? بتركِ الانتقامِ ، ولطفِ الخطابِ ، ولينِ الجانبِ , والرفقِ في التعاملِ ونسيانِ الإساءةِ .
? مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى? ولكن لتسعد وتفرحَ روحُك ، وتسكنَ نفسُك ، وتدخل به جنةَ الفلاحِ ، وفردوس السعادةِ .
?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ? بل يسرٌ وسهولةٌ ، ومراعاةٌ للمشقةِ ، وبعدٌ عن الكلفةِ ، وسلامةٌ من التعبِ والإرهاقِ .(/151)
? وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ? فيسعدون بعد شقاءٍ ويرتاحون بعد عناءٍ ويأمنون بعد خوفٍ ، ويسرون بعد حُزْنٍ .
? قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ? فأرى النور أمامي ، وأحسّ الهدى بقلبي ، وأمسك الحبل بيدي ، وأنال النجاح في حياتي ، والفوز بعد مماتي .
? وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ? فتعبد ربك بحبٍ وتطيعه بودٍّ وتجاهد فيه بصدقٍ ؛ فيصبح العذابُ فيه عذاباً ، والعلقمُ في سبيلهِ شهْداً.
? لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ? فلا تكليف فوق الطاقةِ ، وإنما على حَسَبِ الجهدِ وعلى قدرِ الموهبةِ وعلى مقدارِ القوةِ .
? رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا? فأنا نهِمُ أحياناً ، ونغفلُ أوقاتاً ، ويصُيبنا الشرودُ ويعترينا الذهولُ فعفوك يا ربُّ .
? أَوْ أَخْطَأْنَا? فلسنا معصومين ولا من الذنب بسالمين ، ولكنَّا في فضلِك طامعون وفي رحمتك راغبون .
? رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً ? فنحن عبادٌ ضعفاءٌ وبشر مساكينُ ، أنت الذي علمتنا كيف ندعوكَ فأجبْنا كما دعوتنا .
? رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ? فنعجَزَ وتكلَّ قلوبُنا وتملَّ نفوسنا ، بل يسرْ علينا وقد فعلتَ ، وسهلْ علينا وقد أوجبتَ .
? وَاعْفُ عَنَّا ? فنحن أهل الخطأ والحيفِ ومنا تبدرُ الإساءةُ ، وفينا نَقْصٌ وتقصيرٌ ، وأنت جوادٌ كريمٌ رحمانٌ رحيمٌ .
? وَاغْفِرْ لَنَا ? فلا يغفرُ الذنوب إلا أنت ، ولا يسترُ العيوبَ إلا أنت ، ولا يحلمُ عن المقصر إلا أنت ، ولا يتفضلُ على المسيءِ إلا أنتَ .
? وَارْحَمْنَا ? فبرحمتك نسعدُ, وبرحمتِك تعيشُ آمالنا , وبرحمتك تُقْبَلُ أعمالُنا , وبرحمتك تصلح أحوالُنا.
(( بعثت بالحنيفة السمحة )) فلاعَنَتَ فيها ولا تنطّعَ ولا تكلّفَ ولا مشقةَ ولا غلوَّ , بل فطرةٌ وسنةٌ ويسرٌ واقتصادٌ .
(( إياكم والغلو )) بل الزموا السنة, اتباعٌ لا ابتداعٌ , وسهولةٌ لا مشادةٌ , وتوسطٌ لا تطرفٌ , واقتفاءٌ بلا زيادةٍ .
(( أمتي أمة مرحومة )) تولاها ربها, فرسولُها سيدُ الرسل ودينُها أحسنُ الأديانِ ، وهي أفضل الأممِ وشريعتُها أجملُ الشرائعِ .
(( ذاق طعم الإيمانِ من رضى باللهِ رباً ، وبالإسلامِ ديناً وبمحمدٍ رسولاً )) وهذه الثلاثة أركان الرضا وأصول الفلاحِ .
إياك والتسخط فإنه باب الحزنِ والهمِّ والغمِّ وشتاتُ القلبِ وكسفُ البالِ وسوءُ الحالِ وضياعُ العمرِ .
الرضا يكسب في القلب السكينة والدَّعَةَ ، والراحة والأمنَ ، والطمأنينة وطيبَ العيشِ والسرورَ والفَرَحَ .
الرضا يجعل القلبُ سليماً من الغشِ والدغلِ ، والغلِ والتسخطِ ، والاعتراضِ والتذمرِ ، والمللِ والضجرِ والتبرمِ .
من رضي عن الله ملأ قلبه نوراً وإيماناً ، ويقيناً وحباً وقناعةً ورضىً وغنىً وأمناً ، وإنابةً وإخباتاً .
أيها الفقير: صبرٌ جميل , فقد سلمتَ من تبعاتِ المالِ , وخدمةِ الثروةِ , وعناءِ الجَمْعِ ، ومشقةِ وحراسةِ المالِ وخدمتِه ، وطولِ الحسابِ عند اللهِ .
يا من فقدَ بصرهَ : أبشرْ بالجنة ثمناً لبصرِك ، واعلمْ أنك عُرِّضْتَ نوراً في قلبِك ، وسلمت من رؤيةِ المنكراتِ , ومشاهدةِ المزعجاتِ والملهياتِ .
يا أيها المريض: طهورٌ إن شاء اللهُ فقد هُذّبْتَ من الخطايا , ونُقِّيت من الذنوبِ , وصُقِل قلبكُ وانكسرتْ نفسُك , وذهب كِبْرُك وعَجْبَك .
لماذا تفكر في المفقودِ ولا تشكرُ على الموجودِ , وتنسى النعمة الحاضرة , وتتحسرُ على النعمةِ الغائبةِ , وتحسدُ الناس وتغفلُ عما لديك .
(( كن في الدنيا كأنك غريب)) قطعةُ خبزٍ , وجرعةُ ماء , وكساءٍ , وأيامٌ قليلةٌ , وليالٍ معدودةٌ , ثم ينتهي العالم , فإذا قبرُ أغنى الأغنياءِ وأفقرِ الفقراءِ سواء .
يدفن الملكُ بجانبِ الخادمِ , والرئيسُ بجوارِ الحارسِ , والشاعرُ المشهورُ مع الفقيرِ الخاملِ , والغنيُ مع المسكينِ والفقيرُ والكسيرُ , ولكنْ داخل القبرِ أعمالٌ مختلفةٌ ودرجاتٌ متباينةٌ .
إذا زارك يومٌ جديدٌ فقلْ له مرحباً بضيفٍ كريم , ثم أحسِنْ ضيافتَه بفريضةٍ تؤدَّى , وواجبٍ يُعْمَلُ وتوبةٍ تجدَّدُ, ولا تكدْرهُ بالآثامِ والهمومِ فإنه لن يعود.
إذا تذكرت الماضي فاذكر تاريخك المشرق لتفرح , وإذا ذكرت يومك فاذكرْ إنجازك تسعدْ , وإذا ذكرت الغد فاذكرْ أحلامك الجميلةَ لتتفاءلَ .
طولُ العمرِ ثروةٌ من التجاربِ , وجامعةٌ من المعارفِ , ومستودعٌ من المعلوماتِ , وكلما مرّ بك يومٌ تلقيت درساً في فنِّ الحياة , إن طول العمرِ بركةٌ لقومٍ يعقلون.
لابد من شيء من الخوفِ يذكرك الأمنَ , ويحثك على الدعاءِ , ويردعُك عن المخالفِة , ويحذّرك من خطرِ أعظم .
ولابد من شيء من المرضِ يذكرك العافيةَ , ويجتثُّ شجرة الكِبْرَ ودرجة العُجْبِ ليستيقظ قلبُك من رقدِة الغافلين .(/152)
الحياةُ قصيرةٌ فلا تقصِّرْها أكثر بالنكدِ , والصديقُ قليلٌ فلا تخسرْه باللومِ , والأعداءُ كثير فلا تزدْ عددهم بسوءِ الخُلُقِ .
كن كالنملةِ في المثابرةِ , فإنها تصعدُ الشجرةَ مائةٍ مرةٍ وتسقطُ ، ثم تعودُ صاعدةً حتى تصل , ولا تكلُّ ولا تملُّ .
وكن كالنحلةِ فإنها تأكلُ طيباً ، وتضعُ طيباً ، وإذا وقعتْ على عودٍ لم تكسِرْه ، وعلى زهرةٍ لا تخدشُها.
لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلبٌ , فكيف تدخل السكينُة قلباً فيه كلابُ الشهواتِ والشبهاتِ .
احذر مجالس الخصومات ففيها يباعُ الدينُ بثمنٍ بَخْسٍ , ويحرّجُ على المروءةِ , ويداسُ فيها العِرْضُ بأقدامِ الأنذالِ .
? وَسَابقوا ?, ليس إلا المسابقة فالزمنُ يمضي , والشمسُ تجري , والقمرُ يسير , والريحُ تهبُّ , فلا تقفْ ، فلن تنتظرك قافلةُ الحياةِ .
?وَسَارِعُوا? ثِبْ وَثْباً إلى العلياءِ فإن المجد مناهَيَهٌ , ولن يقدم النصرُ على أقدام مًن ذهبٍ ولكنْ مع دموعٍ ودماء وسهرٍ ونصبٍ وجوعٍ ومشقةٍ .
عَرَقُ العامل أزكى من مْسكِ القاعدِ , وزفراتُ الكادحِ أجملُ من أناشيدِ الكسولِ , ورغيفُ الجائع ِألذّ من خروفِ المترفِ .
الشتمُ الذي يوجه للناجحين من حسادِهم هي طلقاتُ مِدْفعِ الانتصارِ , وإعلاناتُ الفوزِ , ودعايةٌ مجانيةٌ للتفوقِ .
التفوقُ والمثابرةُ لا تعترفُ بالأنسابِ والألقابِ ومستوى الدخلِ والتعليمِ , بل من عنده همةٌ وثَّابةٌ , ونفسٌ متطلعة, وصبرٌ جميلٌ , أدركَ العلياءَ .
لا تتهيبِ المصاعب فإن الأسد يواجه القطيع من الجمالِ غَيْرَ هيابٍ , ولا تَشْكُ المتاعب فإن الحمارَ يحملُ الأثقالَ ولا يئنُّ , ولا تضجرْ من مطلبِك فإن الكلب يطاردُ فريسته ولو في النار .
لا تستقلَّ برأيك في الأمورِ بل شاورْ فإن رأي الاثنين أقوى من رأي الواحدِ , كالحبلِ كلما قُرن به حبل آخر قوي وأشتدَّ .
لا تحملْ كلَّ نقدٍ يوجّه إليك على أنه عداوةٌ , بل استفدْ منه بغضِ النظرِ عن مقصدِ صاحبِه فإنك إلى التقويم أحوجُ منك إلى المدحِ .
من عَرَفَ الناس استراحَ , فلا يطربْ لمدحهم ، ولا يجزعْ من ذمِّهم , لأنهم سريعو الرضا , سريعو الغضبِ , والهوى يُحرِكُهم.
لا تظنَّ العاهاتِ تمنعك من بلوغِ الغاياتِ , فكم من فاضلٍ حاز المجدَ وهو أعمى أو أصمَّ أو أشلَّ أو أعرجَ , فالمسألةُ مسألةُ هممٍ لا أجسامٍ .
عسى أن يكون منعَه لك سبحانهُ عطاءً وحجزك عن رغبتِك لطفاً , وتأخرك عن مرادك عنايةً , فإنه أبصرُ بك منك .
إذا زارتك شدةٌ فاعلمْ أنها سحابةُ صيفٍ عن قليلٍ تُقْشعُ , ولا يُخِفُك رعدُها ، ولا يرهبْك برقُها فربما كانت محملة بالغيثِ .
اخرجْ بأهلك في نزهةٍ عائلية كَّل أسبوعٍ فإنها تعرّفْك بأطفالِك أكثرَ وتجدد حياتك وتذهبُ عنك الملل .
من لم يسعد في بيته فلن يسعد في أي مكان , واعلم أن أنسب مكان لراحة النفس وهدوء البالِ ، والبعد عن التكلف هو بيتُك.
العلم والثقافةُ مجدُها باقٍ خاصةً لمن علّم الناسَ وألّفَ , أما مجدُ الشهرةٍ والمنصبٍ فظلٌّ زائل ، وطيفٌ زائفٌ .
الفكر إذا تُرك ذهب إلى خانةِ المآسي , فَجَرَّ الآلاَم والأحزانَ , فلا تتركْه يطِيشْ ولكن قيدْه فيما ينفع .
مما يشوش البالَ ويقسي القلبَ مخالطةُ الناسِ وسماعُ كلامهم اللاهي ، وطول مجالستهم , وما أحسنَ العزلةِ مع العبادةِ والعلمِ .
أشرف السبل سبيلكَ إلى المسجدِ , وآمنُ الطرقِ طريقُك إلى بيتِك , وأصعبُ المواقفِ وقوفك أمام السلطانِ , وأعظمُ الهيئاتِ سجودُك للديانِ .
سماعَ القرآنِ بصوتٍ حَسَنٍ, والذكرُ بقلبٍ حاضرٍ , والإنفاقُ من مالٍ حلالٍ , والوعظُ بلسانٍ فصيحٍ موائدُ للنفسِ وبساتينُ للقلبِ .
الأخلاق الجميلة والسجايا النبيلة, أجملُ من وسامةِ الوجوهِ ، وسوادِ العيونِ ، ورقةِ الخدودِ ؛ لأن جمال المعنى أجلُّ من جمالِ الشكلِ .
صنائعُ المعروفِ تقي مصارع السوءِ , وجدارُ العقلِ يمنعُ من مزالقِ الهوى , ومطارقُ التجاربِ أنفعُ من ألفِ واعظٍ .
إذا رأيت الألوف من البشرِ وقد أذهبُوا أعمارهم في الفنِّ واللهو واللعبِ والضياعَ فاحمدَ الله على ما عندك من خيرٍ , فرؤيةُ المبتلَى سرورٌ للمعافى .
إذا رأيت الكافر فاحمدِ اللهَ على الإسلامِ , وإذا رأيت الفاجرَ فاحمدِ الله على التقوى , وإذا رأيت الجاهلَ فاحمدِ الله على العلم , وإذا رأيت المبتلى فاحمدِ الله على العافيةِ .
خلقت الشمسُ لك فاغتسلْ بضيائها , وخلقتِ الرياحُ لك فاستمتعْ بهوائِها , وخلقتِ الأنهارُ لك فتلذذْ بمائها , وخلقتِ الثمارُ لك فاهنأْ بغذائها, واحمد من أعطى جل في علاه.
الأعمى يتمنى أن يشاهدَ العالمَ , والأصمُّ يتمنى سماعَ الأصواتِ , والمقعدُ يتمنى المشي خطواتٍ , والأبكمُ يتمنى أن يقول كلماتٍ , وأنت تشاهدُ وتسمع وتتكلمُ .(/153)
لا تظنَّ أن الحياة كملتْ لأحدٍ , من عنده بيتٌ ليس عنده سيارةٌ , ومن عنده زوجةٌ ليس عنده وظيفةٌ , ومن عنده شهيةٌ قد لا يجد الطعامَ , ومن عنده المأكولاتُ مُنِعَ من الأكلِ .
المسجدُ سوقٌ الآخرة , والكتابُ صديقُ العمرِ , والعملُ أنيسُ في القبر , والخَلَقُ الحسنُ تاجُ الشرفِ , والكرمُ أجملُ ثوبٍ .
إياك وكتاب الملاحِدةِ فإن فيها رجساً ينجسُ القلبَ , وسماً يقتلُ النفسَ , ولوثةً تعصفُ بالضميرِ ، وليس أصلح لك من الوحيِ ، يطهرُ روحَك ويشفى داءَكَ.
لا تتخذْ قراراً وأنت مغضَبٌ فتندم ؛ لأن الغضبان بفقدُ الصواب ، وتفوته الرويّة ، وينقصُه التأملُ .
الحزنُ لا يرد الغائبَ , والخوفُ لا يصلحُ للمستقبلُ , والقلقُ لا يحققُ النجاحَ , بل النفسُ السويةُ ، والقلبُ الراضي هما جناحا السعادةِ .
لا تطالبِ الناس باحترامِك حتى تحترمهم , ولا تَلُمَّهم على إخفاقٍ حصل لك , بل لُمَّ نفسك , وإن أردت أن يكرمَك الناسُ فأكرمْ نفسك .
على صاحبِ الكوخِ أن يرضى بكوخِه إذا علم أن القصورَ سوف تخربُ , وعلى لابس الثيابِ الممزقةِ أن يقنع بثيابِه إذا تيقن أن الحرير سوف يبلى .
من أعطى نفسَه كلما تطلبُ تشتَّتَ قلبُه , وضاع أمُره , وكثرُ همُّه ؛ لأنّه لا حدَّ لمطالبِ النفسِ فهي أمّارةٌ غرّارةٌ .
يا من فقد ابنه : لك قصرُ الحمد في الجنةِ , ويا من فاته نصيُبه من الدنيا : نصيبك في جناتِ عدنٍ تنتظرك .
الطائرُ لا يأتيه رزقُه في العشِ , والأسدُ لا تقدم له وجبتُه في العرين , والنملةُ لا تعطي طعامها في مسكنِها, ولكن كلهم يطلبون ويبحثون فاطلبْ كما طلبوا تجدْ ما وجدوا .
? يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ? يموتون قبلَ الموتِ , وينتظرون كلَّ مصيبةٍ , ويتوقعون كل كارثةٍ , ويخافون من كلِّ صوتٍ وخيالٍ وحركةٍِ ؛ لأن قلوبَهم هواءٌ ونفوسهم ممزقةٌ .
إذا أقامَك اللهُ في حالةٍ فلا تطلبْ غيرها لأنه عليمٌ بك , فإن أفقرَك فلا تقل ليته أغناني ، وإن أمرضَك فلا تقلْ ليته شفاني .
عسى تأخيرُك عن سفرٍ خيراً , وعسى حرمانُك زوجةٍ بركةً , وعسى ردك عن وظيفة مصلحةً , لأنه يعلمُ وأنت لا تعلمُ .
الصخرُ أقوى من الشجر , والحديدُ أقوى من الصخرِ , والنارُ أقوى من الحديدِ , والريح أقوى من النارِ , والإيمانُ أقوى من الريحِ المرسلةِ .
كلُّ مأساةٍ تصيبُك فهي درسٌ لا يُنْسَى , وكلُّ مصيبةٍ تصيبُك فهي محفورةُ في ذاكرتك, ولهذا هي النصوص الباقية في الذهنِ .
النجاحُ قطراتٌ من المعاناةِ والغصصِ والجراحاتِ والآهاتِ والمزعجاتِ , الإخفاقُ قطراتٌ من الخمولِ والكسلِ والعجزِ والمهانةِ والخَوَرِ .
الذي يحرص على الشهرةِ المؤقتةِ ، ولا يسعى للخلودِ بثناءِ حَسَنٍ ، وعلمٍ نافعٍ صالحٍ ، إنما هو رجلٌ بسيطٌ لا همةَ له .
(( يا بلال, أقمِ الصلاةَ , أرحْنا بها )) لأن الصلاة فيضٌ من السكينةِ , ونهرٌ من الأمنِ , وريحٌ طيبةٌ باردةٌ تهبُّ على النفسِ فتطفئَ نارَ الخوفِ والحزنِ .
إذا لم تَعْص رباً ؛ ولم تظلمْ أحداً ، فنم قرير العينِ , وهنيئاً لك فَقَدَ علا حظك وطاب سعيُك فليس لك عدوٌ .
هنيئاً لمن بات والناسُ يدعون له, وويلٌ لمن نامَ والناسُ يدعون عليه , وبُشْرَى لمنى أحبته القلوبُ , وخسارةً لمن لعنتْه الألسنُ .
إذا لم تجدْ عدلاً في محكمة الدنيا فارفعْ ملفَّك لمحكمةِ الآخرة فإن الشهود ملائكةٌ , والدعوى محفوظةُ , والقاضي أحكمُ الحاكمين.
? فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ? لولم يكن للذكر من فائدةٍ إلا هذه لكفى , ولو لمْ يكنْ له نفعٌ إلا أن يذكرك ربُّك لكفى بهِ نفْعاً , فيا له من مَجْدٍ وسؤددٍ وزُلْفى وشرفٍ .
بشرى لك. . فالطهورُ شطرُ الإيمان فهو يذهبُ الخطايا ويغسلُ السيئاتِ غسلاً ، ويطهرك لمقابلةِ ملكِ الملوكِ تعالى .
طُوْبَى لك فالصلاةُ كفارةٌ تذهبُ ما قبلها , وتمحو ما أمامها , وتصلح ما بعدَها , وتفك الأسر عن صاحبِها , فهي قرةُ العيون .
الرجل الذي يسعى دائماً للظفر باحترام الناس ولا يتعرضُ لنقدهم , كثيراً ما يعيشُ شقياً بائساً , والسعيُ وراء الظهورِ والشهرةِ عَدُوٌ للسعادةِ .
النظرياتُ والدروسُ في فنِّ السعادةِ لا تكفى , بل لابدَّ من حركةٍ وعملٍ وتصرفٍ كالمشي كل يوم ساعة أو السفرِ أو الذهابِ إلى المنتزهاتِ .
تتعرضُ البعوضةُ للأسدِ كثيراً وتحاولُ إيذاءه فلا يعيرُها اهتماماً ولا يلتفتُ إليها ، لأنه مشغولٌ بمقاصدِه عنها .
احذر المتشائم , فإنك تريهِ الزهرة فيريك شوكَها , وتعرضُ عليه الماءَ فيخرجُ لك منه القذى , وتمدحُ له الشمس فيشكو حرارتَها .
أتريدُ السعادة حقاً ؟! لا تبحثُ عنها بعيداً , إنها فيك ؛ في تفكيرِك المبدعِ , في خيالك الجميلِ , في إرادتِك المتفائلةِ , في قلبك المشرقِ بالخيرِ .
السعادةُ عِطْرٌ لا يستطيعُ أن ترشَّهُ على من حولَك دونَ أن تعلق به قطراتٌ منه.(/154)
مصيبُتنا أننا نخافُ من غيرِ اللهِ في اليومِ أكثر من مائةِ مرةٍ : نخاف أن نتأخر , نخافُ أن نخطئ , نخافُ أن نستعجلَ , نخافُ أن يغضبَ فلانٌ , نخافُ أن يشكَّ فلانٌ .
كثيرون من الناس يعتقدون أن كلَّ سرورٍ زائلٌ ولكنّهم يعتقدون أنَّ كلَّ حزنٍ دائمٌ , فهم يؤمنون بموتِ السرورِ ، ويكفرون بموتِ الحُزْنِ .
بعضُنا مِثْلِ السمكةِ العمياءِ تظنُّ وهي في البحرِ أنها في كأسٍ صغيرٍ , فنحن خلقنا في عالم الإيمانِ فأحطنا أنفسنا بجبالِ الكرهِ والخوفِ والعداوةِ والحزنِ .
إن الحياة كريمةٌ ، ولكن الهدية تحتاجُ لمن يستحقُّها, وإن الذين تضحكُ لهم الحياة وهم يبكون ، وتبتسمُ لهم وهم يكشرون لا يستحقون البقاءَ .
وضع صيادٌ حمامة في قفصٍ فأخذت تغني فقال الصيادُ : أهذا وقتُ الغناء ؟! فقالت : من ساعةٍ إلى ساعةٍ فَرَجٌ.
قيل لحكيمٍ : لماذا لا تذهبُ إلى السلطانِ فإنه يعطي أكياسَ الذهبِ ؟ قال : أخشى منه إذا غضب أن يقطع رأسي ويضعه في أحد تلك الأكياسِ ويقدمه هديةً لزوجتي !!.
لماذا تسمع نُباح الكلابِ ولا تنصتُ لغناءِ الحمامِ ؟! لماذا ترى من الليل سواده ، ولا تشاهدْ حسنَ القَمَرِ والنجومِ ؟! لماذا تشكو لَسْعَ النحلِ وتنسى حلاوة العَسَلِ ؟!.
تاب أبوك آدمُ من الذنبِ فاجتباه ربك واصطفاه وهداه , وأخرجَ من صلبِه أنبياءَ وشهداءَ وعلماءَ وأولياءَ , فصار أعلى بعد الذنبِ منه قبل أن يذنبَ .
ناح نوح والطوفان كالبركان فهتف : يا رحمانُ يا منانُ , فجاءه الغوثُ في لمحِ البصرِ فانتصر وظفرَ , أما من كفرَ فقد خسرَ واندحرَ .
أصبح يونس في قاع البحرِ في ظلماتٍ ثلاث فأرسلَ رسالة عاجلةُ فبها اعترافُ بالاقترافِ , واعتذرٌ عن التقصير , فجاء الغوث كالبرقِ لأن البرقية صادقةٌ .
غسل داود بدموعه ذنوبه فصار ثوبُ توبِته أبيض ؛ لأن القماشَ نُسِجَ في المحرابِ والخياطُ أمينٌ , وغُسِلَ الثوبُ في السَّحَرِ .
إذا اشتد عليك الأمرُ وضاقَ بك الكَرْبُ وجاءك اليأسُ ؛ فانتظرِ الفَرَجَ .
إذا أردت الله يفرجَ عنك ما أهمك فاقطعْ طمعَك في أي مخلوقٍ صغرَ أم كبر , ولا تعلّقْ على أحدٍ أملاً غَيْرَ اللهِ ، وأجمع اليأسَ في الناسِ كافةً .
نفسك كالسائل الذي يلوّن الإناء بلونه ، فإن كانت نفسُك راضيةً سعيدة رأيت السعادة والخيرَ والجمالَ ، وإن كانت ضيقةَ متشائمة رأيتَ الشقاءَ والشرَّ والقُبْحَ .
إذا أطعمت المعبودَ ، ورضيتَ بالموجودِ ، وسلوتَ عن المفقودِ ، فقد نلتَ المقصودَ وأدركتَ كلَّ مطلبٍ محمودٍ .
من عنده بستان في صدره من الإيمانِ والذكرِ ، ولديه حديقةٌ في ذهنِه من العلمِ والتجاربِ فلا يأسفْ على ما فاته من الدنيا .
إنّ من مؤخر السعادة حتى يعود ابنه الغائبُ , ويبني بيته ويجدُ وظيفة تناسبه، إنما هو مخدوع بالسرابِ ، مغرورٌ بأحلامِ اليقظةِ .
السعادةُ : هي عدمُ الاهتمامِ ، وهجرُ التوقعاتِ واطِّراحُ التخويفاتِ .
البسمة : هي السحرُ الحلالُ ، وهي عُربونُ المودةِ وإعلانُ الإخاءِ ، وهي رسالةٌ عاجلة تحملُ السلامَ والحبَّ ، وهي صَدَقَةٌ متقلبةٌ تدلُّ على أن صاحبَها راضٍ مطمئنٌّ ثابتٌ .
أنهاك عن الاضطرابِ والارتباكِ والفوضويةِ , وسببها تركُ النظامِ وإهمالُ الترتيبِ , والحُّل أن يكون للإنسانِ جدولٌ متزنٌ فيه واقعيّةٌ ومرانٌ .
إذا وقعت عليك مصيبةٌ أو شدةٌ فافرحْ بكل يومٍ يمرُّ ؛ لأنه يخففُ منها وينقصُ من عمرِها, لأن للشدة عمراً كعمرِ الإنسانِ لا تتعداه .
ينبغي أن يكون لك حدٌّ من المطالبِ الدنيوية تنتهي إليه , فمثلاً تطلبُ بيتاً تسكنه وعملاً يناسبك ، وسيارةً تحملُك , أما فتحُ شهيةِ الطمعِ على مصراعيها فهذا شقاءٌ .
?لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ? سُنّةٌ لا تتغيرُ لهذا الإنسان فهو في مجاهدةٍ ومشقةٍ ومعاناةٍ , فلابد أن يعترف بواقعِه ويتعاملَ مع حياتِه .
يظنُّ من يقطعُ يومَه كله في اللعبِ أو الصيدِ أو اللهو أنه سوف يسعدُ نفسه , وما علم أنه سوف يدفع هذا الثمنَ هماً متصلاً وكَدَراً دائماً ؛ لأنه أهمل الموازنة بين الواجباتِ والمسلياتِ .
تخلصْ من الفضولِ في حياتِك, حتى الأوراقُ الزائدةُ في جيبِك أو على مكتبك, لأن ما زاد عن الحاجةِ - في كل شيء - ما كان ضاراً .
كان الصحابة أسعدَ الناسِ لأنهم لم يكونوا يتعمقون في خطراتِ القلوبِ ، ودقائقِ السلوكِ ، ووساوسِ النفسِ , بل اهتموا بالأصولِ ، واشتغلوا بالمقاصدِ .
ينبغي أن تهتمَّ بالتركيزِ ، وحضورِ القلب عند أداء العبادات , فلا خَيْرَ في علم بلا فِقْهٍ , ولا صلاةٍ بلا خشوعٍ , ولا قراءةٍ بلا تَدَبُّرِ .
? وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ ? فالطّيباتُ من الأقوالِ والأعمالِ والآدابِ والأخلاقِ والزوجاتِ للأخيارِ الأبرارِ , لتتمَ السعادةُ بهذا اللقاءِ ، ويحصلَ الأُنْسُ والفلاحُ .(/155)
? وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ? يكظمونه في صدورِهم فلا تظهرُ آثارُه من السبِّ والشتمِ والأذى والعداوةِ , بل قهروا أنفسهم وتركوا الانتقامَ .
? وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ? وهم الذين أظهروا العَفْوَ والمغفرةَ وأعلنوا السماحَ وأعتقوا من آذاهم من طلبِ الثأرِ , فلم يكظمُوا فَحَسْبُ بل ظَهَرَ الحلمُ والصفحُ عليهم .
? وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ? وهم الذين عفوا عمن ظلمهم بل أحسنوا إليه وأعانوه بمالهم وجاهِهم وكرمِهم, فهو يسيءَ وهم يحسنون إليه, ولهذا أعلى المراتبِ وأجلُّ المقاماتِ .
حدد بالضبطِ الأمر الذي يسعدُك . سجلْ قائمة بأسعدِ حالاتك : هل تحدث بعد مقابلةِ شخص معين ؟ أو ذهابك إلى مكان محددٍ ؟ أو بعد أدائك عملاً بذاته ؟ إذا كنت تتبعُ روتيناً جيداً, ضعه في قائمتك. تجدْ بعد أسبوع أنك ملكت قائمةً واضحة بالأفكارِ التي تجعلُك سعيداً .
تعوَّدْ على عملِ الأشياءِ السارةِ : بعد تحديدِ الأمورِ التي تسعدُك أبعدْ كل الأمورِ الأخرى عن ذهنِك. أكدِ الأمور السعيدةَ , وانس الأمورَ التي لا تسعدُك . وليكن قرارك بمحاولةِ بلوغِ السعادةِ تجربةً سارةً في حدِّ ذاتِها .
ارض عن نفسِك وتقبَّلْها : من المهم جداً أن تنتهي إلى قرارٍ بالرضا عن نفسِك, والثقةِ في تصرفاتِك, وعدمِ الاهتمامِ بما يوجّه إليك من نقدٍ , طالما أنت ملتزم بالصراطِ المستقيمِ , فالسعادةُ تهربُ من حيثُ يدخلُ الشكُّ أو الشعورُ بالذنبِ .
اصنعِ المعروف واخدِم الآخرين : لا تبْق وحيداً معزولاً, فالعزلةُ مصدرُ تعاسةٍ , كلُّ الكآبةِ والتعاسةِ والتوترِ تختفي حينما تلتحمُ بأسرتِك والناسِ , وتقدمُ شيئاً من الخدمات. وقد وصف العمل أسبوعين في خدمة الآخرين علاجاً لحالات الاكتئاب.
أشغل نفسك دائماً : يجب أن تحاول – بوعي وإرادة – استخدم المزيدِ من إمكاناتِك . سوف تسعدُ أكثر إن شغلت نفسك بعملِ أشياء بديعةٍ , فالكسلُ ينمي الاكتئاب .
حاربِ النكد والكآبة : إذا أزعجك أمرٌ , قمْ بعمل جسماني تحبُّه تجدْ أن حالتك النفسية والذهنية قد تحسنت. ويمكنك أن تمارسَ مسلكاً كانت تسعدك ممارسته في الماضي, كأن تزاول رياضة معينة أو رحلةً مع أصدقاء .
... لا تبتئسْ على عمل لا تكملْه : يجب أن تعرف أن عمل الكبارِ لا ينتهي. من الناسِ من يشعرون أنهم لن يكونوا سعداء راضين عن أنفسِهم إلا إذا أنجزُوا كل أعمالهم. والشخصُ المسؤولُ يستطيع أن يؤدي القدرَ الممكن من عمله بلا تهاون, ويستمتع بالبهجة في الوقت نفسِه , مادام لم يقصرْ .
... لا تبالغْ في المنافسة والتحدي : تعلَّم ألا تقسو على نفسك, خاصة حينما تباري أحداً في عمل ما بدون أن تشترط لشعورك بالسعادة أن تفوزَ .
... لا تحبسْ مشاعرك : كبتُ المشاعرِ يسببُ التوتر, ويحولُ دون الشعورِ بالسعادةِ . لا تكتم مشاعرك. عبرْ عنها بأسلوبٍ مناسبٍ ينفثُ عن ضغوطِها في نفسِك.
لا تتحملْ وزر غيرك : كثيراً ما يشعرُ الناسُ بالابتئاسِ , والمسؤوليةِ , والذنبِ , بسبب اكتئابِ شخصٍ آخرَ , رغم أنهم برءاء مما هو فيه, تذكرْ أن كلَّ إنسان مسؤولٌ عن نفسه, وأن للتعاطف والتعاون حدوداً وأولوياتٍ . وأن الإنسان على نفسِه بصيرة ? وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ? .
... اتخذ قراراتِك فوراً : إن الشخص الذي يؤجل قراراتِه وقتاً طويلاً , فإنه يسلبُ من وقتِ سعادته ساعاتٍ , وأياماً , بل وشهوراً. تذكر إن إصدار القرارِ الآن لا يعني بالضرورةِ عدم التراجعِ عنه أو تعديله فيما بَعْدُ.
... اعرفْ قدر نفسِك : حينما تفكرُ في الإقدامِ على عملٍ تذكرِ الحكمة القائلة : (( رحم الله امرءاً عَرَفَ قدرَ نفسِه)) إذا بلغت الخمسين من عمرك, وأردت أن تمارس رياضة, فكر في المشي أو السباحة أو التنس – مثلاً – ولا تفكر في كرةِ القدم. وحاول تنمية مهاراتك باستمرار.
... تعلم كيف تعرف نفسك : أما الاندفاعُ في خضِمِّ الحياةِ دون إتاحة الفرصة لنفسك كي تقيِّم أوضاعك ومسؤولياتك في الحياة, فحماقة كبرى. فهؤلاء الذين لا يفهمون أنفسهم لن يعرفوا إمكاناتهم.
... اعتدل في حياتِك العملية : اعمل إن استطعت جزءاً من الوقت ، فقد كان الإغريق يؤمنون بأن الرجال لا يمكن أن يحتفظ بإنسانيته إذا حُرِمَ من الوقت الفراغ والاسترخاء
كن مستعداً لخوض مغامرات : الطريقة الوحيدة لحياة ممتعة هي اقتحامُ أخطارِها المحسوبة ، لن تتعلم ما لم تكن عازماً على مواجهة المخاطرِ ، قمْ مثلاًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًً بتعلم السباحِة بمواجهةِ خطرِ الغَرَقِ .
لا قفل إلا سوف يُفْتَحُ ، ولا قيد إلا سوف يُفَكٌّ، ولا بعيد إلا سوف يقربُ ، ولا غائب إلا سوف يصلُ.. ولكن بأجل مسمّى .(/156)
? اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ? فهما وَقودُ الحياةِ ، وزادُ السيرِ ، وباب الأملِ ، ومفتاحُ الفَرَجِ ، ومن لزم الصبرَ ، وحافظ على الصلاةِ ؛ فبشِّرْه بفجرٍ صادقٍ ، وفتحٍ مبينٍ ، ونصرٍ قريبٍ .
جُلد بلالٌ وضُرب عُذّبَ وسُحِب وطُرِدَ فأخذ يرددُ : أحَدٌ أَحَدٌ ، لأنّه حفظ ? قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ?، فلما دخل الجنة احتقر ما بذل ، واستقلَّ ما قدم لأن السّلعة أغلى من الثمن أضعافاً مضاعفة .
... ما هي الدنيا ؟ هل هي الثوبُ إن غاليت فيه خدمته وما خدمك ، أو زوجةٌ إن كانت جميلة تعذبُ قلبها بحبها ، أو مال كثرَ أصبحتَ له خازناً .. هذا سرورها فكيف خزنُها ؟
... كل العقلاء يسعون لجلبِ السعادةِ بالعلمِ أو بالمال أو بالجاهِ ، وأسعدُهم بها صاحبُ الإيمانِ لأن سعادته دائمةٌ على كل حالٍ حتى يلقى ربَّهُ.
من السعادة سلامةُ القلبِ من الأمراضِ العقدية كالشكِّ والسخطِ والاعتراضِ والريبةِ والشبهةِ والشهوةِ .
أعقلُ الناسِ أعذرُهم للناسِ ، فهو يحمل تصرفاتِهم وأقوالهَم على أحسنِ المحاملِ ، فهو الذي أراح واستراحَ .
... ? فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ ? اقنعْ بما عنك ، ارض بقسمِك ، استثمرْ ما عندك من موهبةٍ ، وظِّفْ طاقتك فيما ينفعُ واحمدِ الله على ما أولاك .
... لا يكن يومُك كلُّه قراءةً أو تفكراً أو تأليفاً أو حِفْظاً بل خذْ من كل عملٍ بطرفٍ ونوِّعْ فيه الأعمالَ فهذا أنشطُ للنفسِ .
الصلواتُ ترتبُ الأوقاتِ فجعلْ كل صلاة عملاً من الأعمالِ النافعةِ .
إن الخير للعبدِ فيما اختار له ربُّه ، فإنه أعلمُ به وأرحمْ به من أمه التي ولدته ، فما للعبد إلا أن يرضى بحكم ربه ، ويفوض الأمر إليه ويكتفي بكفاية ربه وخالقِه ومولاه.
ولعبدُ لضعفه ولعجزِه لا يدري ما وراء حجبِ الغيبِ ، فهو لا يرى إلا ظواهر الأمورِ أما الخوافي فعلمُها عند ربي، فكم من محنةٍ . صارت منحةً وكم من بليةٍ أصبحت عطيةً ، فالخيرُ كامنٌ في المكروهِ .
... أبونا آدم أكلَ من الشجرةِ وعَصَى ربَّه فأهبطَه إلى الأرضِ ، فظاهرِ المسألة أن آدم ترك الأحسنَ والأصوبَ ووقع عليه المكروه ، ولكن عاقبة أمره خيرٌ عظيمٌ وفضلٌ جسيم ، فإن الله تابَ عليه وهداه واجتباه وجعله نبياً وأخرج من صلبِه رُسُلاً وأنبياءَ وعلماءَ وشهداءَ وأولياء ومجاهدين وعابدين ومنفقين ، فسبحان الله كم بين قوله ? اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ? ، وبين قوله ? ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى? فإن حالة الأول سكنٌ وأكلٌ وشربٌ وهذا حال عامة الناس الذين لا همّ لهم ولا طموحات ، وأما حاله بعد الاجتباءِ والاصطفاء والنبوةِ والهدايةِ فحالٌ عظيمة ومنزلةٌ كريمة وشرفٌ باذخٌ .
... وهذا داودُ عليه السلام ارتكب الخطيئةَ فندم وبكى, فكانت في حقِّه نعمةٌ من أجلِّ النعم, فإنه عرف ربه معرفة العبدِ الطائعِ الذليل الخاشعِ المنكسرِ , وهذا مقصودُ العبودية فإن من أركانِ العبودية تمامُ الذلِّ للهِ عزَّ وجلَّ. وقد سئِل شيخ الإسلامِ ابنُ تيمية عن قوله ( : ((عجباً للمؤمنِ لا يقضي اللهُ له شيئاً إلا كان خيراً له)) هل يشمل هذا قضاء المعصيةِ على العبدِ ؟ , قال نعم ؛ بشرطِها من الندمِ والتوبةِ والاستغفارِ والانكسارِ.
فظاهرُ الأمرِ في تقديرِ المعصيةِ مكروهٌ على العبدِ ، وباطنُه محبوبٌ إذا اقترن بشرطِه .
وخيرة اللهِ وللرسولِ محمدٍ ( ظاهرةٌ باهرةٌ , فإن كلَّ مكروهٍ وقعَ له صارَ محبوباً مرغوباً , فإن تكذيب قومِه له ؛ ومحاربتِهم إياه كان سبباً في إقامةِ سوق الجهادِ ، ومناصرةِ اللهِ والتضحيةِ في سبيلِه , فكانت تلك الغزواتُ التي نصر اللهُ فيها رسوله , فتحاً عليه, واتخذ فيها من المؤمنين شهداء جعلهم من ورثةِ جنة النعيم, ولولا تلك المجابهة من الكفار لم يحصلْ هذا الخيرُ الكبير والفوزُ العظيمُ , ولما طُرِد ( من مكة كان ظاهرُ الأمرِ مكروهاً ولكن في باطنِه الخيرُ والفلاحُ والمنّةُ , فإنه بهذه الهجرةِ أقام ( دولة الإسلامِ ، ووجد أنصاراً ، وتميز أهلُ الإيمان من أهلِ الكفرِ , وعُرِفَ الصادق في إيمانِه وهجرته وجهادِه من الكاذبِ. ولما غُلب عليه الصلاة والسلام وأصحابُه في أحدٍ كان الأمرُ مكروهاً في ظاهرِه ، شديداً على النفوسِ ، لكن ظهر له من الخيرِ وحسنِ الاختيارِ ما يفوقُ الوصف, فقد ذهب من بعضِ النفوسِ العجبُ بانتصارِ يوم بدرٍ ، والثقةُ بالنفسِ ، والاعتمادُ عليها , واتخذ اللهُ من المسلمين شهداء أكرمهم بالقتلِ كحمزة سيدِ الشهداء , ومصعبِ سفيرِ الإسلام , وعبدِالله ابن عمروٍ والدِ جابر الذي كلمه اللهُ وغيرهم , وامتاز المنافقون بغزوةِ أحد ، وفضح أمرهم ، وكشفُ اللهُ أسرارهم وهتك أستارَهُمْ. . وقسْ على ذلك أحواله ( ، ومقاماته التي ظاهرُها المكروهُ ، وباطنُها الخيرُ لهُ وللمسلمين .(/157)
... ومن عَرَفَ حُسْنَ اختيارِ اللهِ لعبدِه هانتْ عليه المصائبُ ، وسهلتْ عليه المصاعبُ , وتوقعَ اللطفَ من اللهِ ، واستبشر بما حصل ، ثقةً بلطفِ اللهِ وكرمِه ، وحسنِ اختيارِه ، حينها يذهبُ حزنُه وضجرُه وضيقُ صدرِه , ويسلم الأمر لربه جلَّ في علاه ، فلا يتسخطُ ولا يعترضُ ، ولا يتذمّرُ ، بل يشكرُ ويصبرُ ، حتى تلوح له العواقبُ ، وتنقشعُ عنه سحبُ المصائبِ .
... نوحٌ عليه السلامُ يُؤذى ألفَ عام إلا خمسين عاماً في سبيلِ دعوتِهِ , فيصبرُ ويحتسبُ ويستمرُّ في نشرِ دعوتِه إلى التوحيدِ ليلاً ونهاراً , سراً وجهراً , حتى ينجيه ربُّه ويهلك عدوه بالطوفانِ .
... إبراهيمُ عليه السلامُ يُلقى في النارِ فيجعلُها الله عليه برْداً وسلاماً , ويحميه من النمرودِ ، وينجيهِ من كيدِ قومه وينصرُه عليهم ، ويجعلُ دينه خالداً في الأرضِ .
... موسى عليه السلام يتربصُ به فرعونُ الدوائر ، ويحيكُ له المكائد ، ويتفننُ في إيذائه ويطاردُه , فينصرُه اللهُ عليه ويعطيه العصا تلقفُ ما يأفكون , ويشقُ له البحرَ ويخرجُ منه بمعجزةٍ ، ويهلكُ اللهُ عدوَّه ويخزيه .
... عيسى عليه السلامُ يحاربُه بنو إسرائيل ، ويؤذونه في سمعته وأمِّه ورسالتِه , ويريدون قتله فيرفعُه اللهُ إليه وينصرُه نصراً مؤزراً ، ويبوءُ أعداؤه بالخسرانِ .
... رسولُنا محمد ( يؤذيه المشركون واليهودُ والنصارى أشدَّ الإيذاءِ , ويذوقُ صنوفَ البلاءِ ، من تكذيبٍ ومجابهةٍ وردٍ واستهزاءٍ وسخريةٍ وسبٍّ وشتمٍ واتهامِ بالجنونِ والكهانةِ والشعرِ والسحرِ والافتراءِ , ويُطردُ ويُحارَبُ ويُقتل أصحابُه ويُنكَّلُ بأتباعِه, ويُتهمُ في زوجتِه ، ويذوقُ أصناف النكباتِ ، ويهدد بالغاراتِ ، ويمر بأزماتٍ , ويجوع ويفتقرُ ، ويجرحُ ، وتكسر ثنيتُهُ ، ويشج رأسُه ويفقدُ عمه أبا طالب الذي ناصره , وتذهب زوجتُه خديجة التي واسته , ويُحْصَرُ في الشعب حتى يأكل هو وأصحابه أوراق الشجرِ , وتموتُ بناتُه في حياتِه وتسيلُ روحُ ابنِه إبراهيم بين يديهِ , ويُغلبُ في أحد , ويُمزَّقُ عمه حمزةُ , ويتعرض لعدة محاولات اغتيال , ويربطُ الحَجَرَ على بطنِه من الجوعِ ولا يجدُ أحياناً خبزَ الشعيرِ ولا رديءَ التمر , ويذوقُ الغصص ويتجرع كأس المعاناة , ويُزلزلُ مع أصحابِه زلزالاً شديداً وتبلغُ قلوبهُم الحناجر , وتعكس مقاصدُه أحياناً ، ويبتلى بتيه الجبابرةِ وصَلَفِ المتكبرين وسوءِ أدبِ الأعرابِ وعجبِ الأغنياء ، وحقدِ اليهودِ ، ومكرِ المنافقين ، وبُطْءِ استجابةِ الناسِ , ثم تكون العاقبةُ له ، والنصرُ حليفه ، والفوزُ رفيقه ، فيظهرُ اللهُ دينه ، وينصرُ عبده ، ويهزم الأحزاب وحده ، ويخذل أعداءه ويكبتهم ويخزيهم , واللهُ غالبٌ على أمرِه ولكن أكثر الناسِ لا يعلمون .
وهذا أبو بكر يتحملُ الشدائد ، ويستسهلُ الصعابَ في سبيل دينِه وينفقُ ماله ويبذلُ جاهه ، ويقدم الغالي والرخيصَ في سبيلِ اللهِ ، حتى يفوز بلقبِ الصديقِ .
وعمرُ بنُ الخطابِ يضرجُ بدمائِه في المحرابِ ، بعد حياةٍ ملؤها الجهادُ والبذلُ والتضحيةُ والزهدُ والتقشفُ وإقامةُ العدلِ بين الناسِ .
وعثمانُ بن عفانَ ذُبِحَ وهو يتلو القرآن , وذهبتْ روحُه ثمناً لمبادئِه ورسالتِه.
وعلي بن أبي طالبٍ يُغتالُ في المسجدِ ، بَعْدَ مواقف جليلةٍ ومقاماتٍ عظيمة من التضحيةِ والنصرِ والفداءِ والصدقِ .
... والحسينُ بن علي يرزقُه اللهٌ الشهادة ويُقْتَلُ بسيفِ الظلمِ والعدوانِ .
وسعيدُ بنُ حبيرٍ العالمُ الزاهدُ يقتله الحجاجُ فيبوءُ بإثمِهِ .
... وابنُ الزبيرِ يكرمُه اللهُ الشهادةِ في الحرِم على يدِ الحجاجِ بنِ يوسف الظالمِ .
... ويُحبس الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلَ في الحق ، ويُجلد فيصيرُ إمامَ أهلِ السنةِ والجماعةِ .
ويقتل الواثقُ الإمامَ أحمدَ بن نصرٍ الخزاعي الداعيةَ إلى السنةِ بقولِه كلمة الحقِّ .
وشيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ يسجن ويُمنعُ من أهلِه وأصحابِه وكتبِه , فيرفعُ اللهُ ذكرهُ في العالمين .
وقد جُلِدَ الإمامُ أبو حنيفة من قِبَل أبو جعفر المنصور .
وجُلد سعيدُ بن المسيب العالم الرباني , جلده أميرُ المدينةِ .
وضرب الإمام بن عبدُالله بن عونٍ العالمُ المحدثُ , ضربه بلا ل بن أبي برده.
ولو ذهبت أعدد من ابتلُىَ بعزل أو سجنٍ أو جلدٍ أو قتلٍ أو أذى لطالَ المقامَ ولكثرَ الكلامَ , وفيما ذكرت كفايةٌ .
وفي الختام ، تقبل تحياتي ، وهاك سلامي مقروناً بدعائي لك بالسعادة ...
سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله أنت أستغفرك زأتوب إليك .
***************************************
http://www.saaid.net/
الخاتمة(/158)
أنا وأنت ، هيَّا نقصد الغنيَّ الواحد الماجد ، الأحد الصمدَ الحيَّ القيومَ ، ذا الجلالِ والإكرامِ ، لننَّطِرح على عتبةِ ربوبيتِه ، ونلتجئ إلى بابِ وحدانيتِه ، نسأله ونُلحُّ في السؤالِ ، ونطلبُه وننتظرُ النَّوالَ ، فهو المعافي الشافي الكافي وهو الخالق الرزاقُ المحيي المميتُ .
? رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ? .
(( اللهم إنا نسألُك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة )).
(( اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه نبيُّك محمدٌ ( ، ونعوذُ بك من شرِّ ما استعاذك منه نبيُّك محمدٌ ( )) .
(( اللهم إنا نعوذُ بك من الهمِّ والحزِ ، ونعوذُ بك من العَجْزِ والكَسَلِ ، ونعوذُ بك من البخلِ والجُبْنِ ، ونعوذُ بك من غلَبَةِ الدينِ وقهْرِ الرجالِ )) .
سبحان ربك ربِّ العزةِ عما يصفون ، وسلامٌ على المرسلين ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين .
**********************************************
http://www.saaid.net/(/159)
لا تحسبوه شراً لكم
الحلقة الأولى
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه إن الله عز وجل، بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا، كتب النصر والغلبة لأهل الحق من أوليائه الصالحين والمصلحين ، وكتب المهانة والذلة على أعدائه من الكافرين والمنافقين ، وهذه سنة لا تتخلف إلا إذا تخلفت أسبابها ، حيث يديل الله سبحانه أعداءه الكفرة على عباده المؤمنين ، ويسلطهم عليهم ويظهرهم ، فتظهر من ذلك الشرور والمصائب كما هو الحاصل في واقعنا المعاصر حيث الاستضعاف والذلة لجل المسلمين ، والغلبة والقهر للكافرين ، وما كان لسنة الله سبحانه أن تتبدل ولا أن تتحول ، (( فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً )) [فاطر : 43] ولكن أسباب تحقيق سنة الله سبحانه في نصر عباده المؤمنين قد تخلفت ؛ فحقت علينا سنة الله سبحانه في التغيير : (( إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )) [الرعد : 11] .
وسنة الله سبحانه لا تحابي أحداً . ومع وضوح هذه السنة وجلائها من القرآن ، وبمقتضى العقل والحس ، إلا أننا نجد من هو في غفلة عنها وعن مقتضى أسمائه سبحانه وصفاته العلا ؛ حيث أدت هذه الغفلة عند بعضنا إلى شيء من اليأس والإحباط ، أو إلى شيء من العجلة والتسرع أمام ضغط الواقع ، وتسلط الأعداء ، وعند انتشار الظلم والفساد .
ولن يكون الكلام هنا عن تلك السنة ، وإنما سينصب الاهتمام على سنة عظيمة تنبثق عنها السنة السابقة ، والله سبحانه يبينها لنا من خلال أسمائه الحسنى وصفاته العلا ، حيث إن الجهل بها أو الغفلة عنها بعد معرفتها يسهم أيضاً في مزيد من اليأس والقنوط ، أو الجزع والتسخط ، أو الاندفاع والعجلة والتهور ، وهذه وقفات مع قوله تعالى : ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم )) [النور : 11] .
هذه الآية توجيه رباني في إحسان الظن بالله عز وجل ، والثقة بحكمته ورحمته ، وأنه (سبحانه) لا يريد بعباده المؤمنين إلا الخير (( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ )) [البقرة : 185] وهذا بدوره يبث الأمل في النفوس إزاء المصائب ، ويبث الأمل في الأمة بأن المستقبل لهذا الدين مهما تسلط أعداؤه عليه ، وكادوا له كيداً (( إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً )) [الطارق : 15 17] ، وهو ضروري كذلك لإدراك أن رحمة الله (عز وجل) سبقت غضبه في كل ما يقدره على عباده المؤمنين ( )كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )) [الأنعام : 54] .
وما أجمل ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حول هذا المعنى ، ومما ذكره : قد شهدت الفطر والعقول بأن للعالم ربّاً قادراً ، حليماً ، عليماً ، رحيماً ، كاملاً في ذاته وصفاته ، لا يكون إلا مريداً للخير لعباده ، مجرياً لهم على الشريعة والسنة الفاضلة العائدة باستصلاحهم ، الموافقة لما ركب في عقولهم من استحسان الحسن ، واستقباح القبيح [1] .
وسيأتي إن شاء الله في ثنايا البحث من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والمواقف العملية التي تظهر لنا منها ثمار هذه السنة الكريمة ، وبخاصة في واقعنا المعاصر المليء بالشبهات ،والشهوات ، والمتناقضات ، والمكائد ، والمؤامرات ما يزيد الموضوع بياناً .
أهمية الموضوع :
تتضح أهمية الموضوع في الأمور التالية :
أولاً : علاقة هذه السنة بالعقيدة قوة وضعفاً ؛ فكلما قوي الإيمان بالله سبحانه في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته : كلما قوي الفهم لهذه السنة ، وأثمرت في القلب ثمارها الطيبة . والإيمان بهذه السنة والاصطباغ بها هو مقتضى الرضا بالله ربّاً ومعبوداً ، ومقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلا ؛ حيث إن هذه السنة من ثمرات أسمائه سبحانه الحسنى ، التي منها : الحكيم ، والعليم ، والكريم ، واللطيف ، والبر الرحيم .. وغيرها من الأسماء والصفات التي يجب التعبد لله سبحانه بها . كما يظهر الارتباط بين هذه السنة وبين التوحيد في : أثرها على صدق التوكل على الله عز وجل ، وتفويض الأمور إليه ، واليقين والثقة بوعده ، وإحسان الظن به جل وعلا ، وأنه سبحانه لا يريد بعباده المؤمنين إلا الخير والإصلاح ، فمهما ظهر من الشرور والمصائب ، فله سبحانه الحكمة البالغة (( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ )) ( آل عمران : 66) وأما ارتباطها بالأصل الخامس من أصول الإيمان ألا وهو الإيمان باليوم الآخر فهذا واضح ؛ لأن اليقين باليوم الآخر ورجاء الأجر من الله عز وجل يقويان الارتباط بهذه السنة في أن الآخرة خير وأبقى ، مهما فات من هذه الدنيا .وأما علاقتها بالأصل السادس من أصول الإيمان وهو الإيمان بالقدر خيره وشره فهذا ظاهر لا يحتاج إلى تعليق .(/1)
ثانياً : ما نراه اليوم في واقعنا المعاصر من الضغوط الشديدة والحرب الشرسة من أعداء هذا الدين من اليهود والنصارى والمنافقين والمفسدين ، وما يكيدون به لهذا الدين وأهله من المكر والتشويه والابتلاء ؛ مما أدى ويؤدي إلى ظهور حالات اليأس والإحباط من تغير الحال ، أو الشعور بالهزيمة النفسية والهوان والاستكانة ، فكان لابد من التذكير بهذه السنة العظيمة التي تقوي اليقين بوعد الله سبحانه , والثقة بنصره ، والاطمئنان إلى قضائه وتدبيره ، وأنه سبحانه الحكيم العليم فيما يقضي ويقدر ، ولابد أن يأتي الخير بعد الشر عندما يأذن الله سبحانه في ذلك وفق علمه الشامل ، وحكمته البالغة ، وسننه التي لا تتبدل ولا تتحول .
ثالثاً : الجهل الحاصل عند بعض المسلمين بسنن الله سبحانه في التغيير ، أو التغافل عنها بعد معرفتها ، لا سيما وأن في فهم قوله تعالى : (( لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم )) [النور : 11] .
خير معين لتفهم سنن الله عز وجل الأخرى : كما في قوله تعالى : (( إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )) (الرعد : 11( ز
وفي هذه المعرفة فتح باب للمنهج الصحيح في الدعوة إلى الله سبحانه ، كما أن فيها وقاية من التخبط والاضطراب في المنهاج والاجتهادات ، كما أن في دراسة هذه السنة وربط الأحداث والوقائع بها أكبر ضمانة للعقل المسلم من أن يتأثر بالتصورات الجاهلية ، والتفسيرات المادية للتاريخ والأحداث التي سيطرت اليوم على كثير من عقول المسلمين المتأثرين بوسائل الإعلام المادية وبالثقافات التي لا تؤمن بالله ، ولا باليوم الآخر ، ولا بالقدر خيره وشره .
رابعاً : التنبيه إلى طلب الخِيَرة من الله سبحانه في كل الأمور، وتفويض الأمور إلى حسن تدبيره عز وجل واختياره ؛ لأنه سبحانه يعلم ولا نعلم ، ويقدر ولا نقدر ، وهو علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما سيكون ، ويعلم أين يكون الخير ، وأين يكمن الشر ؛ ولذلك جاء التوجيه إلى دعاء الاستخارة في الأمور كلها .
خامساً : كثرة المشاكل والمصائب في زماننا هذا ، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات ، التي أدت إلى ظهور كثير من الأمراض النفسية المعقدة : كالقلق ، والاكتئاب، والفصام .. وغيرها ، حتى أصبحت سمة لواقعنا المعاصر، ومعرفة الله سبحانه بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته التي تزرع في القلب الاطمئنان والرضا، وتفويض الأمور إليه سبحانه، وحسن الظن به عز وجل، وأن اختيار الله لعبده أحسن من اختيار العبد لنفسه ، ولو ظهر ما يكرهه العبد ويؤذيه : إن في تفهم قوله تعالى : ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم )) [النور : 11] أحسن علاج لهذه الأمراض وغيرها .
سادساً : إن في هذه السنة وفهمها طريقاً موصلاً إلى الفقه بقاعدة الشرع العظيمة ، التي بنيت عليها أحكام الشرع ؛ ألا وهي : اليسر ورفع الحرج والمشقة، وأن الله عز وجل لا يريد بعباده إلا اليسر والرحمة، سواء أكان في أحكامه الكونية القدرية، أو الدينية الشرعية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مفتاح دار السعادة : ص326 .
من ثمرات هذه السنة
إن لتَفَهّم هذه السنة الكريمة وتذكرها دائماً أثراً كبيراً في القلب ، يظهر جليّاً في المواقف ، وبالذات في مواقف الشدة والبلاء ؛ فكان لزاماً على المسلم ، وبخاصة الداعية المجاهد ، ألا يغفل عن هذه الثمرات المنبثقة من قوله تعالى : (( لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ )) ، وثمار الإيمان بهذه السنة واليقين بها كثيرة ،
أذكر منها ما يلي :
1- حقيق العبودية لله (عز وجل) بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا :
إن الله عز وجل لم يعرفنا على أسمائه وصفاته لنحفظها ونعدها فقط ، وإنما المقصود الأسنى من معرفة أسمائه عز وجل وصفاته : أن ندعوه بها ، وأن نتعبد له سبحانه بها ؛ قال الله تعالى : (( وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف : 180] إن في كل اسم من أسمائه سبحانه عبودية على العبد ، يجب أن تظهر آثارها في القلب ، وعلى الجوارح ، وفي المواقف .
فمن الأسماء الحسنى التي يتعبد لله عز وجل بها من خلال معرفة هذه السنة : الحكيم ، العليم، البر ، الرحيم ، الودود ، اللطيف .. وغيرها . فعندما يؤمن العبد المسلم بهذه الأسماء فإنها تثمر الإيمان بحكمة الله عز وجل في كل أحكامه الكونية والشرعية ، وتضفي على القلب الأنس ، وإحسان الظن بالله عز وجل ، والرضا بقضائه ، وأنه بر رحيم ، لا يريد بعباده إلا الخير والتيسير والرحمة ، وأن من لطفه سبحانه أن يأتي بالخير لعبده المؤمن من حيث يظن أنه شر ومكروه ، وهذا
من معاني اسمه سبحانه اللطيف .(/2)
يقول الشيخ السعدي رحمه الله : ( ومن معاني اللطيف : أنّه الذي يلطف بعبده ووليه ، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر ، ويعصمه من الشر من حيث لا يحتسب ، ويرقّيه إلى أعلى المراتب ، بأسباب لا تكون من العبد على بال ، حتى إنّه يذيقه المكاره ، ليوصله إلى المحاب الجليلة ، والمطالب النبيلة ) [1] .
إن اليقين بلطف الله تعالى ينفي الشعور باليأس والقنوط من مجيء فرج الله ونصره ، وينشيء مكانه الأمل والثقة بوعد الله ونصره ، كما أنه ينشيء في القلب الافتقار إلى الله عز وجل وتفويض الأمور إليه ، وسؤاله عز وجل دائماً حُسْنَ العاقبة والاختيار .
وبقيت كلمة أخيرة في هذه الثمرة أنصح بها نفسي وإخواني طلاب العلم ؛ وذلك بأن نحرص أشد الحرص ونحن ندْرس أو نُدَرّس أبواب التوحيد المختلفة على ألا نكتفي بالدراسة العلمية الذهنية المجردة فقط ، وإنما نسعى جاهدين في ربطها بأعمال القلوب ، وما تثمره فيها من أنواع العبوديات المختلفة التي يجب أن يظهر أثرها في المواقف والسلوك وجميع التصرفات ، والله المستعان .
2- الصبر على البلايا والمصائب وقوة الاحتمال :
وهذه الثمرة لها علاقة بما قبلها ؛ فعندما يعرف العبد ربه بأسمائه وصفاته ويتعبده بها ، فإنها تثمر في القلب ثباتاً ، ورباطة جأش، وصبراً أمام الابتلاءات والمصائب؛ فلا يضعف ولا يخور وهو يعلم أن ربه الرحيم الحكيم ، اللطيف الخبير، الودود الغفور : هو الذي قدرها عليه ، وأنه لم يقدرها ليعذبه ويشقيه، ولكن ليرحمه ويرده إليه .. عند ذلك يفوض أمره إلى ربه ، ويرضى بما يختار له مولاه سبحانه، ويعلم أنه هو الذي يمده بالقوة والعزيمة، والصبر وحسن العاقبة .
إن هذا الشعور يملأ القلب قوة وصبراً واحتمالاً أمام الشدائد ؛ لقوة الرجاء في الله عز وجل ، واليقين بفرجه ونصره ، واليقين بحسن العاقبة من الله عز وجل فيما أعده للصابرين ؛ قال تعالى : (( إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كَمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً )) [النساء : 104] .
وإن مما يقوي الصبر على الشدائد يقين العبد أن ما أصابه إما أن يكون تكفيراً لذنوبه ، أو سبباً لنعمة لا تنال إلا بذلك المكروه .
فإذا أيقن العبد المبتلى أن العاقبة الحميدة من النصر في الدنيا ، والجنة في الآخرة لا يوصل إليهما إلا على جسر التعب والمشقة : فإنه بذلك يقوى صبره ، واحتماله ، وبذله وتضحيته في سبيل الله عز وجل ، مع تفقد النفس من الذنوب ، وتنقية الصف من المنافقين ، فذلك من أسباب النصر .
3- سعادة القلب وطمأنينته وسكينته :
عندما يعلم العبد المؤمن أن كل ما يقضيه الله عز وجل هو عين الحكمة والرحمة ، والخير ، سواء في العاجل أو الآجل ، فإن هذه المعرفة تضفي على القلب شعوراً بالأنس والسعادة والطمأنينة والسكينة، مهما اشتدت المصائب، وتوالت المحن ؛ وبذلك يسلم صاحب هذا القلب من تلك الأمراض والوساوس التي تفتك بكثير من الناس الذين حرموا مثل هذه المعرفة العظيمة بربهم ، نعم سوف لا يخيم على نفسه ما يخيم على النفوس اليائسة ، من الشعور بالقلق والاكتئاب وانكساف البال ، تلك الأشياء التي تجر وراءها من مصائب الدنيا والدين ما لا يعلمه إلا الله عز وجل . وسوف يريحه هذا الشعور من الأفكار المتعبة التي تنشأ من كثرة الاختيارات والترددات، التي هي منشأ القلق والهم والغم.
إن التسخط وعدم الرضى بما قضاه الله عز وجل باب إلى الهم ، والغم ، والحزن ، وشتات القلب ، وسوء الحال ، والظن بالله ظن السوء ، ولا يدفع ذلك كله إلا معرفة الرب عز وجل بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلا ، والتعبد له سبحانه بها ، والعمل بمقتضاها ، والذي يولد في النفس الرضى بما يختاره الله عز وجل، وأنه أرحم بعبده من نفسه : (( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ )) [ آل عمران : 66] .
4- سلامة القلب :
عندما يمتلئ القلب بتوحيد الله عز وجل ومعرفته سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا ، ويمتلئ باليقين بوعده ، والثقة بحكمته ، وانتظار رحمته ؛ فإن كل ذلك يضفي على القلب صفاءً ونوراً وطهارة تُسل بها من القلب أمراض كثيرة ؛ فيصبح القلب بعدها سليماً صحيحاً ، وينعم به صاحبه في الدنيا والآخرة ؛ قال تعالى في وصف إمام الحنفاء عليه الصلاة والسلام : ((إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ )) [الصافات : 84] وقال تعالى حكاية لدعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ )) [الشعراء : 87 89] .
ومن أهم مظاهر سلامة القلب التي تحصل بهذه المعرفة ما يلي :
أ- السلامة من أمراض الحقد والحسد والشحناء :(/3)
وذلك لأن الذي يوقن بحكمة الله عز وجل ورحمته في كل ما يقضيه من أقضية كونية وشرعية : يعلم علم اليقين أن لله عز وجل الحكمة البالغة في إعطاء من يشاء ، ومنع من يشاء ، وإعزاز من يشاء ، وإذلال من يشاء . وهذا العلم لابد أن يثمر الرضى بما يقدره الله عز وجل ويقضيه على الناس ؛ وبذلك تزول الشحناء والأحقاد المتولدة عن الحسد المتولد أصلاً من معارضة أقدار الله عز وجل والتسخط لها .
ب- لسلامة من أمراض الخوف والطمع :
إن المؤمن الراضي بربه والموقن بحكمته وبره ولطفه لا تجده إلا قانعاً بما آتاه الله عز وجل ، مطمئناً إلى اختيار الله سبحانه له ؛ لأنه عز وجل أعلم بما يصلح للعبد من نفسه ، وهذه الثمرة تقضي على هذا الداء الخطير ( داء الطمع والحرص والتهالك على الدنيا وزينتها) ؛ لأن القلب الراضي المفوض أمره إلى الله (عز وجل) قد امتلأ غنى وقناعة ومحبة وتوكلاً على الله سبحانه ؛ فحري بقلب هذه صفته ألا يكون فيه محل لمحبة غير الله ، وهذه الثمرة يتولد عنها ثمار طيبة ، منها : عدم الأسى على ما فات ، وعدم الفرح بما هو آت ؛ قال تعالى : (( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَاًسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ )) [الحديد : 22 ، 23] ،
والعبد المؤمن لا يدري أين يكون الخير ، أهو في الفائت أم الآتي ؟ ولكن الله وحده هو الذي يعلم ، وهو علام الغيوب .
كما أنها تثمر أيضاً : الزهد في الدنيا ، والحذر منها ، فكم فرح بالدنيا أناس فكانت سبب هلاكهم وشقوتهم ؛ قال تعالى : (( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ )) [الشورى : 27] .
وكيف يسكن الخوف والهلع في قلب من اطمأن إلى حكم ربه، وأحسن الظن به، وفوض أموره إليه . إن الخوف والهلع سواءً أكان على الرزق أو الأجل لا يكونان إلا عند من لم يعرف ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أما لو عرف ربه عز وجل ، وأنه رحيم ودود، وأنّه حكيم عليم ، وأنه لطيف خبير .. معرفة حقيقية يتعبد لربه بها : فإن الاطمئنان والسكينة تعمران القلب ، وتنفيان كل دواعي الخوف والوجل من المخاليق الضعفاء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً فضلاً عن أن يملكوا شيئاً من ذلك لغيرهم . ويبقى صاحب هذا القلب مطمئناً إلى حسن اختيار الله له ، يستشرف رحمة ربه وخيره في كل ما يقضيه الله عليه ؛ ولو ظهر في هذا المقضي من الشر والألم ما ظهر ، فمن يدري ؟ ! فلعل في طيات المحنة منحة ونعمة .
ج- السلامة من أمراض الكبر والخيلاء :
إن القلب لا يصدق عليه أن يوصف بكونه سليماً صحيحاً حتى ينضم إلى ما ذكر سابقاً سلامته من أمراض الكبر والفخر والخيلاء ؛ فإن العبد المؤمن متى ما عرف ربه عز وجل وتعبد له بأسمائه وصفاته فإن المسكنة والمحبة لله عز وجل سوف تملأ القلب ؛ وينتج عن ذلك : التواضع للحق وإيثاره ، والتواضع للخلق ، وعدم غمهم وظلمهم ، بل لا ترى مَن هذه صفته إلا محبّاً للخير والإحسان للناس، ولا تراه إلا محقراً لنفسه، منشغلاً بعيوبها عن عيوب الناس ؛ لأنه يشهد حكمة الله عز وجل في ابتلائه لعبده بالخير والشر . ولأن أسباب الكبر والتعالي على الناس لا تخرج عن كونها اغتراراً بنعمة دينية أو دنيوية ، وأنه إذا أيقن العبد المؤمن أن هذه النعم إنما أعطاها الله لعبده ليبلوه أيشكر أم يكفر ؛ فإن الخوف على النفس من هذا الابتلاء سيشغله عن التعالي على الناس، أو الفخر عليهم ، وكيف يكون ذلك وهولا يدري أين يكمن الخير أو الشر ؟ ! ولعل هذه النعمة التي يفتخر بها فتنة له ومتاع إلى حين، أو أن الذي يفخر عليه ممن هو دونه يكون في خير ورحمة مفتوحة من الله عز وجل عليه ، والناس يحسبون أنه في ضيق وشر ! .
5- محاسبة النفوس والانتباه إلى خطر المعاصي وشؤمها على الفرد والمجتمع :
إن من ثمار هذه السنة الكريمة أن ينتبه العبد المؤمن إلى نفسه ويحاسبها على تفريطها وذنوبها وهذا بعض الخير الذي يجعله الله فيما يراه الناس شرّاً ومصيبة ؛ حيث إن المصائب والشرور المقدرة على العبد المؤمن غالباً ما تكون تكفيراً للذنوب ، سوإيقاظاً له من الغفلة ، ومجالاً لتطهير النفس من أدران المعاصي والسيئات .ومتى ما حصلت هذه الثمرة العظيمة في القلب فإن المصيبة والنقمة تصبح في حقيقة الأمر خيراً ونعمة لصاحبها ؛ وصدق الله العظيم : (( لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ )) .(/4)
أما إذا حصل العكس من ذلك والعياذ بالله وذلك بأن كانت المصيبة سبباً في مزيد من الغفلة أو التسخط على أقدار الله تعالى ؛ فإن المصيبة والحالة هذه لا تعتبر خيراً لمن وقعت عليه ، لكنها قد تكون خيراً لغيره عندما يحصل الاتعاظ والعبرة بحال من وقعت له المصيبة .
6- التعرف على سنن الله (عز وجل) في التغيير ، والسير على هداها :
إن إدراك معاني أسماء الله عز وجل وآثارها ومقتضياتها يفتح في قلب المؤمن منافذ عديدة على سننه عز وجل التي لا تتبدل ولا تتحول ، وبخاصة إدراك آثار حكمة الله (عز وجل) ورحمته ولطفه وإحسانه ، ولقد مرّ بنا كيف أن فقه قوله تعالى : (( لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ )) يطبع في القلب شعوراً برحمة الله عز وجل وخيره وبره ، وأن كل ما يقضيه عز وجل هو عين الخير والمصلحة والحكمة ، وهذا الشعور يؤدي بدوره إلى فتح القلب والفكر على سنن الله عز وجل التي تنبثق من هذه المعرفة ، وعندما تحصل هذه المعرفة لسنن الله عز وجل في التغيير : فإن الفكر البشري ينضبط ويستقيم ولا تتقاذفه الثقافات المادية ذات اليمين وذات الشمال ، وبذلك يسلم من التفسيرات المادية للأحداث ، والتي تربط كل المتغيرات بأسباب مادية بحتة ؛ كتلك التي تربط النصر والهزيمة بأسباب مادية ، أو تلك التي تفسر العقوبات الربانية كالزلازل والأعاصير بكونها ظواهر
فلكية بحتة ، متجاهلين قدر الله وحكمته .
كما أن هذه المعرفة تثمر أيضاً : معرفة الموازين المنضبطة الثابتة التي توزن بها الأمور والأحوال والأشياء ، وحُقّ لها أن تكون بهذه المثابة ؛ لأنها من عند الله عز وجل الحكيم ، العليم ، الرحيم ، الودود ، الذي يعلم ما كان وما سيكون ، والذي له الكمال المطلق ، وهو الغني الحميد . وهو سبحانه يقول الحق ، ويقصّ على عبيده رحمة منه وفضلاً جانباً من أسرار سنته وقدره ليأخذ الناس حذرهم وليعتبروا ويتعظوا ، وليدركوا الرحمة والخير والحكمة الكامنة وراء هذه السنن الربانية والموازين الإلهية ، والتي بدورها تؤدي إلى معرفة المنهج الصحيح للتغيير ، كما تؤدي إلى المنهج الصحيح لتقويم الأمور ووزنها بالميزان الحق .
ولقد مر بنا في الثمرات السابقة بعض السنن الربانية التي يهتدي إليها القلب العامر بمعرفة الله عز وجل وتوحيده ، ولكن نخص هنا بعض السنن بشيء من التفصيل ، وذلك فيما يلي :
أ- العاقبة للمتقين : إن وعد الله عز وجل لا يتخلف ، وكلمته لا تتبدل ،
ولقد قال وقوله الحق : (( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ )) [الصافات : 171- 173] هذا وعد الله سبحانه ،ولو تأخر وأبطأ على عباده فإن من وراء ذلك التأخير حكمة وخير .
ب- ويتعلق بهذه السنة سنة أخرى في معناها ، وهي قوله تعالى : (( وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً )) [النساء : 141] .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في معنى الآية : (قيل : بالحجة والبرهان، فإن حجتهم داحضة عند ربهم ، وقيل : هذا في الآخرة وأما في الدنيا فقد يتسلطون عليهم بالضرر لهم والأذى، وقيل : لا يجعل لهم عليهم سبيلاً مستقرة، بل وإن نصروا عليهم في وقت فإن الدائرة تكون عليهم ، ويستقر النصر لأتباع الرسول .
وقيل : بل الآية على ظاهرها وعمومها ، لا إشكال فيها بحمد الله؛ فإن الله سبحانه ضمن أن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً ، فحيث كانت لهم سبيلٌ ما عليهم فهم الذين جعلوها بتسببهم ترك بعض ما أقروا به، أو ارتكاب بعض ما نُهوا عنه؛ فهم جعلوا لهم السبيل عليهم بخروجهم عن طاعة الله ورسوله فيما أوجب تسلط عدوهم عليهم في هذه الثغرة التي أدخلوها ، كما أخلى الصحابة يوم أُحد الثغرة التي أمرهم رسول الله بلزومها وحفظها ؛ فوجد العدو منها طريقاً إليهم ، فدخلوا منها) [2] .
والحاصل مما سبق : أن معرفة السنة السابقة لا تفهم حق الفهم إلا بمعرفة الله عز وجل وتوحيده ؛ فإنه سبحانه لا يريد بعباده إلا الخير والرحمة ، ولو تسلط الأعداء في وقت ما فإن عاقبة هذا التسلط هي الخير والتمكين ؛ وذلك أن المؤمنين عندما يتسلط عليهم أعداؤهم وينالونهم بالأذى يدركون من واقع قوله تعالى : (( لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ )) أن ما أصابهم إنما هو بذنوبهم ؛ فيكون الخير في تسلط الأعداء هو تغيير ما بالنفوس من خلل ، وإحداث التوبة والاستغفار ، وترك ما أوجب حلول المصيبة ، وهذا خير في حد ذاته لم يكن ليظهر لو استمر النصر والتمكين مع وجود المعاصي ، وضعف الإيمان ؛ لأنه والحالة هذه يستمر الفساد بدون إصلاح .
وهذا هو معنى السنة الثابتة التي لا تتغير، ألا وهي قوله تعالى :
ج-) ( إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )) [الرعد : 11] .(/5)
ومثلها قوله تعالى : (( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )) [الأعراف : 96] . والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّاً .
د- قوله تعالى : (( وَلا يَحْسَبَنَّ الَذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ )) [آل عمران : 178] .
هذه الآية ترسم ميزاناً قويماً ثابتاً في أن إغداق النعم على العبد ليس علامة على كرامة الله له ومحبته إياه، ولا يدل على أنه في خير وسعادة ، بل الغالب أن وراء الإملاء والنعم شرّاً وعذاباً ، وفي هذا الميزان توجيه للناس إلى حقيقة الابتلاء بالخير والشر، وألا تكون موازينهم في السعادة والتعاسة هي النظر إلى كثرة النعم أو قلتها ؛ فكم كان الرخاء سبباً للعذاب دنياً وأخرى ، وكم من أناس صالحين حرموا في هذه الدنيا من نعمة المال والأولاد ، ولكنهم في خير وسعادة دنياً وأخرى . وهذه المعاني العظيمة لا يمكن إدراكها إلا في ضوء التوحيد وأنواره ، وصدق الله العظيم : ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم )) والآيات في هذا المعنى كثيرة جدّاً ، أذكر منها قوله تعالى : (( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )) [التوبة : 55] .
7- التؤدة والأناة وعدم الاستعجال :
وهذه هي الثمرة السابعة من ثمار قوله تعالى : (( لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ )) فإذا كان العبد لا يعلم أين يكون الخير والشر فيما يقضيه الله سبحانه إلا في ضوء ما أعلمه الله عز وجل عباده من السنن والثواب ، فإنه والحالة هذه لا ينبغي له أن يتعجل الأمور أو يحلل المواقف والأحداث قبل دراستها والبحث في جوانبها ،متجرداً في ذلك لله عز وجل ، مهتدياً بالموازين والسنن الثابتة التي ذكرها الله سبحانه في كتابه، وعلى لسان رسوله، وإذا وُفّق العبد إلى هذا الفضل :فإنه في الغالب يصدر عن الحق ، وينطق بالحق، وتنشأ عنده صفتا الحلم والأناة اللتان يحبهما الله عز وجل .. وكم رأينا من أناس تعجلوا أمورهم قبل أوانها فكانت نتيجتها وبالاً وشرّاً ، وكم سئم أناس من نعمة أنعم الله بها عليهم فتقالّوها وملّوها وأرادوا غيرها ، فلما جاءهم ما أرادوه وتعجلوه أصابهم منه ضررٌ ونكدٌ وندمٌ .
ومن صور الاستعجال التي يمكن معالجتها بهذه السنة : ما نراه من تعجل بعض الطيبين من الغيورين على هذا الدين في قطف ثمرة جهدهم ، وتعريض أنفسهم للابتلاء ، وتمنيهم لمواجهة الأعداء ... وينسون أو يغفلون عن قوله : (( لا تمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا )) [3] .
لأن المرء لا يدري ما تؤول إليه الحال عند مواجهة العدو ، ومشاهدة الأهوال . وقد يتمنى العبد حالة معينة ويستعجلها بتصرفه الجاهل بعواقب الأمور ، ولكن الله عز وجل برحمته يحول بينه وبين هذا الأمر لما يعلمه سبحانه من الشر والفتنة على عبده من هذا الأمر؛ فكم من أناس استعجلوا البلاء قبل أوانه ، فلما أصبحوا تحت وطأته : ضعفوا وانتكسوا والعياذ بالله فحريّ بالمسلم أن يسأل ربه الدلالة على ما فيه الخير والصلاح ، وعلى ما فيه مرضاته عز وجل ورحمته .
مما سبق يتبين لنا فضل التؤدة والأناة ، وأنها من ثمرة العلم بالله عز وجل وتوحيده وأسمائه وصفاته ، وأنه عز وجل يقدر الوقت المناسب لنصر أوليائه بعد أن يكونوا قد أخذوا بأسباب النصر وأعدوا عدته ، وأنه سبحانه هو العليم الحكيم والبر الرحيم بعباده ، فلا يؤخر عنهم شيئاً، ولا يقضي عليهم أمراً إلا وفيه الخير والرحمة ، ولكن العبد القاصر والجاهل بعواقب الأمور يستعجل أمر ربه الرحيم .
وصدق الله العظيم في وصفه للإنسان : (( خُلِقَ الإنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ )) [الأنبياء : 37] فطبيعته العجل والتسرع ، إلا مَن منّ الله عليه بتوحيده ومحبته والتسليم له ، مع فعله للأسباب الممكنة ، فإنه يسلم من الأفكار المتعبة ، والاندفاعات المتهورة ، لأنه يفقه قوله تعالى : ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم )) وصدق الرسول : ((التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة )) [4] .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير السعدي : ج5 ، ص279 .
(2) بدائع التفسير : ج2 ، ص85 .
(3) متفق عليه : رواه البخاري في الجهاد ، باب (156) ، ج6 ، ص181 ومسلم في الجهاد ، باب : كراهة تمني لقاء العدو ، م3 ، ص1362 .
(4) رواه : أبو داود في الأدب ، باب : في الرفق ، ج5 ، ص157 وهو في السلسلة الصحيحة للألباني ، رقم (1794) .(/6)
في هذا المبحث سأتعرض إن شاء الله تعالى لبعض المواقف من السيرة المطهرة وغيرها، والتي ظهرت فيها حكمة الله عز وجل ورحمته، وأن ما اختاره الله عز وجل لعباده خير مما اختاروه لأنفسهم .
من السيرة المطهرة :
الموقف الأول : غزوة بدر الكبرى :
وهي أشهر من أن تذكر ؛ فلقد كانت فرقاناً بين الحق والباطل ، ولكن المراد من الاستشهاد بها هنا :هو ما ظهر في هذه الغزوة العظيمة من الفرق بين ما أراده المسلمون قبل الغزوة ، وكراهيتهم للقاء عدوهم ، ورغبتهم في أن تكون في العير ، وبين ما اختاره الله لهم من أن تكون في النفير وفي ذات الشوكة ؛ يقول الله عز وجل : ((وَإذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُون )) [الأنفال : 7 ، 8] .
فأين الخير الذي علمه الله عز وجل وغاب عن المسلمين آنذاك فأرادوا غيره ؟ إن الجواب في الآية نفسها ؛
يعلق الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية فيقول : ( لقد أراد الله وله الفضل والمنة أن تكون ملحمة لا غنيمة ، وأن تكون موقعة بين الحق والباطل ؛ ليحق الحق ويثبته ، ويبطل الباطل ويزهقه ، وأراد أن يقطع دابر الكافرين ؛ فيُقتل منهم من يقتل ، ويُؤسر منهم من يؤسر ، وتذل كبرياؤهم ، وتخضد شوكتهم ، وتعلو راية الإسلام وتعلو معها كلمة الله ، ويمكّن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله ، وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض ، وتحطيم طاغوت الطواغيت ، وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق لا عن جزاف تعالى الله عن الجزاف وبالجهد والجهاد ، وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال ..
... وينظر الناظر اليوم ، وبعد اليوم ، ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها ، بين ما حسبته خيراً لها وما قدره الله لها من الخير .. ينظر فيرى الآماد المتطاولة ؛ ويعلم كم يخطئ الناس حين يتضررون مما يريده الله لهم ، مما قد يعرضهم لبعض الخطر ، أو يصيبهم بشيء من الأذى ، بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال ، ولا بخيال ! .
فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها ؟ لقد كانت تمضي لو كانت لهم غير ذات الشوكة قصة غنيمة ، قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها ! فأما بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة ، قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل ، قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح ، المزودين بكل زاد ، والحق في قلة من العدد وضعف في الزاد والراحلة ) [1] .
الموقف الثاني : غزوة أحد :
وهذه الغزوة أيضاً من أشهر غزوات الرسول ، ومن أشدها على المسلمين ؛ حيث استشهد سبعون صحابيّاً ، وشُجّ وجه النبي الكريم ، ومع ذلك كان فيها خير للمسلمين ورحمة ؛ يدل على ذلك قوله تعالى : (( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمََ المُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُون)) [آل عمران : 166 ، 167] .
ولقد أحسن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في ذكره لبعض الحِكَم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد ، أقتطف منها قوله :
1- فمنها : تعريفهم سوء عاقبة المعصية ، والفشل ، والتنازع ، وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك ؛ كما قال تعالى : ((وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ )) [آل عمران : 152] .
فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم وتنازعهم وفشلهم : كانوا بعد ذلك أشد حذراً ويقظة وتحرزاً من أسباب الخذلان .(/7)
2- ومنها : أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب ؛ فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت : دخل معهم في الإسلام ظاهراً من ليس معهم فيه باطناً ، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبّب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة ، وتكلموا بما كانوا يكتمونه ، وعاد تلويحهم تصريحاً، وانقسم الناس إلى كافر ، ومؤمن ، ومنافق ، انقساماً ظاهراً ، وعرف المؤمنون أن لهم عدواً في نفس دورهم ، وهم معهم لا يفارقونهم ، فاستعدوا لهم ، وتحرزوا منهم ؛ قال الله تعالى : (( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَلكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ )) [ال عمران : 179] .
أي : ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين ، حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق ، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه ، وهو سبحانه يريد أن يميزهم تمييزاً مشهوداً ، فيقع معلومه الذي هو غيب شهادةً .
3- ومنها : استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء ، وفيما يحبون وما يكرهون ، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقّاً ، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية .
4- ومنها : أنه سبحانه لو نصرهم دائماً ؛ لطغت نفوسهم ، وشمخت ، وارتفعت ؛ فلو بسط لهم النصر والظفر ، لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق ، فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء، والشدة والرخاء ، والقبض والبسط .
5- ومنها : أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً وركوناً إلى العاجلة ، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة ، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته : قيّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواءً لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه ، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه ، ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه .
6- ومنها : أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه ، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء تُراق دماؤهم في محبته ومرضاته ، ويؤثرون رضاه ومحابه على أنفسهم . ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو .
7- ومنها : أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم ،قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم ، ومن أعظمها بعد كفرهم : بغيهم، وطغيانهم ، ومبالغتهم في أذى أوليائه ، ومحاربتهم ، وقتالهم ، والتسلط عليهم ؛ فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم ، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم . وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله : (( وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ )) [آل عمران : 141] [2] .
مواقف من السلف :
1- الموقف الأول : محنة الإمام أحمد ابن حنبل ( رحمه الله تعالى ) :
وما أظن أحداً من المسلمين يجهل المحنة التي تعرض لها أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ؛ وذلك فيما يعرف بفتنة القول بخلق القرآن ، وقد تعرض هذا الإمام الجليل لمحنة وبلاء عظيم ؛ تلك المحنة كانت مؤذية له رحمه الله ، ومؤذية للمسلمين معه ، ولكن الله عز وجل ثبّته في هذه المحنة العظيمة ، وحمى به عقيدة أهل السنة من الانحراف أو الاندثار ، ولقد كانت هذه البليَّة لإمام
السنة خيراً له فيما بعد ؛ فما كان لينال هذا الخير لولا هذا الابتلاء وما من الله به عليه من الثبات والتضحية .
2- شيخ الإسلام ابن تيمية وسجنه :
وكذلك لا أظن أحداً من أهل العلم يجهل هذا الرجل العظيم ، وما ضحى به في سبيل الله عز وجل بعلمه وجهاده وصبره وما لاقى في ذلك من السجن والإبعاد، ولكن كان في ذلك الابتلاء خيرله ورفعة ، كما يقول ذلك هو عن نفسه عندما ورد المرسوم السلطاني بسجنه في قلعة دمشق : ( أنا كنت منتظراً ذلك ، وهذا فيه خير عظيم ) [3] .
وقال : ( لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة ) .
كما كان في الابتلاء الذي تعرض له خير للمسلمين في عصره وما تلاه من العصور ؛ وذلك بانتشار دعوته وعلمه ؛
يقول رحمه الله : ( ومن سنة الله : أنه إذا أراد إظهار دينه أقام من يعارضه ، فيحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) [4] .
احتراس وتنبيه :(/8)
وفي هذا المبحث أود التنبيه على قضية يُخشى أن تنشأ من خلال الحديث عن الرضا بقدر الله عز وجل وتفويض الأمور إليه ؛ ألا وهي الانحراف بهذا الأمر إلى المفهوم الخاطئ لمسألة الرضا والتسليم لقضاء الله عز وجل، والذي قد يؤدي إلى التواكل ، والعجز ، والرضا بالفساد ، والذلة ، والمهانة ، وترك الأخذ بالأسباب والدعوة والجهاد ؛ فنكون قد عالجنا مرضاً وانفتح علينا مرض آخر . من أجل ذلك سأخص هذا المبحث بالحديث عن هذه القضية ، وذلك احتراساً من الفهم الخاطئ الذي قد ينشأ لو لم يحصل هذا التنبيه ، فأقول وبالله التوفيق :
إن من القواعد المهمة لمطالعة حوادث الزمان : الفهم الصحيح لعقيدة القضاء والقدر ، والفهم الصحيح لمقتضى أسماء الله عز وجل الحسنى وصفاته العلا، والتوازن في هذا الفهم بين الغلو والجفاء ، وهذا والحمد لله هو سمة معتقد أهل السنة والجماعة في جميع أبواب العقيدة ، ومن ذلك : عقيدة القضاء والقدر ، وتوحيد الأسماء والصفات . ولقد انحرف عن هذه القواعد طرفان من الناس : فمنهم من أنكر الاستدلال بالقضاء والقدر على حوادث الزمان ، وتنقص المؤمنين به ، ومنهم من فهم القضاء والقدر على أنه تواكل وخمول وخنوع مُذل ، وكلا الموقفين منحرف ومجانب للصواب ؛ فالإيمان بقضاء الله عز وجل وبعلمه وتقديره للأمور قبل وقوعها ، ثم مشيئته ، وخلقه لها ، وأن له الحكمة البالغة في كل ما يقضيه ويقدره ، وأن من وراء ذلك رحمته، وإرادة الخير واليسر لعباده .. كل ذلك مما يجب الإيمان به في باب القضاء والقدر ، كما أنه مقتضى الإيمان بأسمائه سبحانه وصفاته ، ولكن هذا الإيمان بهذه القواعد والحقائق لا يعني ترك الأسباب، والرضا بالذلة والهوان وانتشار الفساد ، كلا ، بل إن الفهم الصحيح للقضاء والقدر يكمن في التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله ، والعمل بكل ما في الوسع والوقوف المطمئن عند حد الاستطاعة ؛ وهذا يعني فعل الأسباب التي سخرها الله سبحانه، ومدافعة أقدار الله عز وجل بأقداره ، ما دام أن هناك إمكاناً للمدافعة ؛ قال تعالى : (( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ )) [البقرة : 251] فإذا لم تُجدِ المدافعة، أو لم يكن ذلك في الإمكان : فالواجب : الصبر والاستسلام لقضاء الله عز وجل ، واليقين بأن من وراء ذلك خيراً ومصلحة ورحمة ، يجب أن يتجه الجهد إلى التماسها، وتسخيرها في مزيد من الخير والإصلاح ، وتغيير الأحوال، ومحاسبة النفوس ، وإزالة أسباب المصيبة ، وبذل الجهد في دفعها ؛ قال تعالى : (( إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )) [الرعد : 11] .
ويوضح هذا المعنى الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فيقول : ودفع القدر بالقدر نوعان :
أحدهما : دفع القدر الذي قد انعقدت أسبابه ولمّا يقع بأسباب أخرى من القدر تقابله ، فيمتنع وقوعه، كدفع العدو بقتاله ، ودفع الحر والبرد ونحوه .
الثاني : دفع القدر الذي قد وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله ، كدفع قدر المرض بقدر التداوي ، ودفع قدر الذنب بقدر التوبة ، ودفع قدر الإساءة بقدر الإحسان ، فهذا شأن العارفين وشأن الأقدار ، لا الاستسلام لها، وترك الحركة والحيلة ؛ فإنه عجز، والله تعالى يلوم على العجز. فإذا غُلب العبد ، وضاقت به الحيل ، ولم يبق مجال ؛ فهنالك الاستسلام للقدر ، والانطراح كالميت بين يدي الغاسل ، يقلبه كيف يشاء [5] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كلّ خير . احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا... الحديث)) [6] ،
ويشرح الإمام النووي الحديث ، فيقول : ( والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة ، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد ، وأسرع خروجاً إليه، وذهاباً في طلبه ، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة، والصوم، والأذكار، وسائر العبادات، وأنشط طلباً لها ، ومحافظة عليها ونحو ذلك .. وقوله صلى الله عليه وسلم : ( احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ) معناه : احرص على طاعة الله تعالى، والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك ، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة ، ولا عن طلب الإعانة ) [7].(/9)
ويتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن الفرق بين العجز والتوكل ، فيقول : ( والفرق بين التوكل والعجز : أن التوكل عمل القلب وعبوديته :اعتماداً على الله ، وثقة به ، والتجاءً إليه، وتفويضاً إليه، ورضاً بما يقضيه له؛ لعلمه بكفايته سبحانه، وحسن اختياره لعبده إذا فوض إليه مع قيامه بالأسباب المأمور بها ، واجتهاده في تحصيلها ؛ فقد كان رسول الله أعظم المتوكلين ، وكان يلبس لأَمَتَه ودرعه ، بل ظاهر يوم أحد بين درعين ، واختفى في الغار ثلاثاً ؛ فكان متوكلاً في السبب لا على السبب .
وأما العجز : فهو تعطيل الأمرين أو أحدهما : فإما أن يعطل السبب عجزاً منه، ويزعم أن ذلك توكل ! ولعمر الله إنه لعجز وتفريط ، وإما أن يقوم بالسبب ناظراً إليه، معتمداً عليه، غافلاً عن المسبّب ، معرضاً عنه، وإن خطر بباله لم يثبت معه ذلك الخاطر ، ولم يعلق قلبه به تعلقاً تاماً، بحيث يكون قلبه مع الله، وبدنه مع السبب . فهذا توكله عجز، وعجزه توكل) [8] .
ويقول الدكتور علي العلياني وفقه الله تعالى في حديثه عن أهل التصوف وانحرافهم في موضوع الجهاد في سبيل الله : إن من صفاتهم : (الرضا بما يقع عليهم من مصائب وذنوب، فلا يحاولون دفعها عن أنفسهم ، زعماً منهم أن دفعها ينافي الرضا بالقدر ، فلو وطئ الكفار رقابهم يرضون ويسلمون ؛ لأن الله أراد ذلك ! .. ويذكر الأستاذ محمود مهدي قصة ملخصها: أن الفرنسيين إبان استعمارهم لتونس كانوا يجدون معارضة شديدة من الناس ؛ فتفاهم الفرنسيون مع شيخ الصوفية على أن يدخلوا البلاد ؛ فلما أصبح الصباح قعد الشيخ مطرقاً رأسه وهو يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فلما سأله أتباعه عن الأمر الذي يقلقه قال لهم : لقد رأيت الخضر وسيدي أبا العباس الشاذلي وهما قابضان بحصان جنرال فرنسا ثم أوكلا الجنرال أمر تونس ، يا جماعة هذا أمر الله ، فما العمل ؟ فقالوا له : إذا كان سيدي أبو العباس راضياً ، ونحن نحارب في سبيله ، فلا داعي للحرب ! ثم دخل الجيش الفرنسي تونس بدون مقاومة) إلى أن يقول : ( إن عقيدة الصوفية المنحرفة في التوكل والرضا بالقدر : جعلت نفوسهم راضية مطمئنة ولو وطئ الكفار على رقابهم ؛ فإن التوكل عندهم عدم ممارسة الأسباب ، والرضا معناه أن ترضى بما يحصل لك ولو هو استيلاء الكفار على بلاد المسلمين ، وسبي ذراريهم . وإن أبديت مقاومة فأنت معارض للقدر ! وغير متوكل على الله ! فالذي يسافر في البراري الخالية بغير زاد ، هل يتصور منه أن يلبس لأَمَة الحرب ودروع القتال ؟ وليته إذ لم يفعل ذلك غمس نفسه في القتال حاسراً ! ! .. ولكن ما له ولفرقعة السلاح ، ولخرير الدماء ؛ وحلق الرقص وطقطقة المسابح كفيلة بإنزاله منزلة الصديقين على زعمه ، فأي انحراف هذا الذي أصاب الأمة الإسلامية ، وأي فرحة للكفار تحصل لهم أشد من فرحتهم بهذا ) [9] .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ظلال القرآن ، م3 ، ص1481 .
(2) زاد المعاد ، ج3 ، ص218-222 باختصار .
(3) العقود الدرية ، ص329 .
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية ، ج28 ، ص57 .
(5) مدارج السالكين ، ج1 ، ص20 .
(6) رواه مسلم : كتاب القدر ، ح2664 .
(7) شرح صحيح مسلم للنووي ، ج16 ، ص215 .
(8) الروح ، ص344 .
(9) أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية ، باختصار ، ص288 .(/10)
لا تدخلوا حتى يؤذن لكم
صالح بن عبدالله بن حميد
دار القاسم
الحمد لله، أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، ذو الأدب الجم، والخلق الرفيع، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله، لقد جعل الله البيوت سكناً يأوي إليها أهلها، تطمئن فيها نفوسهم، ويأمنون على حرماتهم، يستترون بها مما يؤذي الأعراض والنفوس، يتخففون فيها من أعباء الحرص والحذر.
وإن ذلك لا يتحقق على وجهه إلا حين تكون محترمة في حرمتها، لا يستباح حماها إلا بإذن أهلها. في الأوقات التي يريدون، وعلى الأحوال التي يشتهون: يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [النور:27-28].
إن اقتحام البيوت من غير استئذان؛ هتك لتلك الحرمات، وتطلع على العورات، وقد يفضي إلى ما يثير الفتن، أو يهيئ الفرص لغوايات تنشأ من نظرات عابرة.. تتبعها نظرات مريبة.. تنقلب إلى علاقات آثمة، واستطالات محرمة.
وفي الاستئذان وآدابه ما يدفع هاجس الريبة، والمقاصد السيئة.
أيها الإخوة المؤمنون، إن كل امرئ في بيته قد يكون على حالة خاصة، أو أحاديث سرية، أو شؤون بيتية، فيفجؤه داخل من غير إذن قريباً كان أو غريباً، وصاحب البيت مستغرق في حديثه، أو مطرق في تفكيره، فيزعجه هذا أو يخجله، فينكسر نظره حياءً، ويتغيظ سخطاً وتبرماً.
ولقد يقصِّر في أدب الاستئذان بعض الأجلاف ممن لا يهمه إلا قضاء حاجته، وتعجُّل مراده، بينما يكون دخوله محرجاً للمزور مثقلاً عليه.
وما كانت آداب الاستئذان وأحكامه إلا من أجل ألا يفرِّط الناس فيه أو في بعضه، معتمدين على اختلاف مراتبهم في الاحتشام والأنفة، أو معولين على أوهامهم في عدم المؤاخذة، أو رفع الكلفة.
تأملوا أيها المؤمنون قوله سبحانه: حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ [النور:27].
إنه استئذان في استئناس، يعبر عن اللطف الذي يجب أن يكون عليه الزائر أو الطارق مراعاةً لأحوال النفوس وتهيؤاتها، وإدراكاً لظروف الساكنين في بيوتاتهم وعوراتهم.
وهل يكون الأُنس والاستئناس إلا بانتفاء الوحشة والكراهية؟!
أدبٌ رفيع يتحلى به الراغب في الدخول لكي يطلب إذناً لا يكون معه استيحاش من رب المنزل، بل بشاشة وحسن استقبال.
ينبغي أن يكون الزائر والمزور متوافقين مستأنسين، فذلك عون على تأكيد روابط الأخوة الإسلامية.
ولقد بسطت السنة المطهرة هذا الأدب العالي، وازدان بسيرة السلف الصالح تطبيقاً وتبييناً.
فكان نبيكم محمد إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن، أو الأيسر، ويقول: { السلام عليكم، السلام عليكم } [رواه البخاري وأبوداود وصححه الالباني].
ووقف سعد بن عبادة مقابل الباب فأمره النبي أن يتباعد. وقال له: { وهل الاستئذان إلا من أجل النظر؟! } [رواه الطبراني].
وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: { اطلع رجل من جحرٍ في حُجَر النبي ومع النبي مدرى ـ أي: مشط ـ يحك به رأسه، فقال النبي: لو أعلم أنك تنظر؛ لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر } [متفق عليه].
والمستأذن ـ أيها الإخوة ـ يستأذن ثلاث مرات فإن أُذن له وإلا رجع. وقد قيل: إن أهل البيت بالأولى يستنصتون، وبالثانية يستصلحون، وبالثالثة يأذنون أو يردُّون، لكن قال أهل العلم: لا يزيد على ثلاثٍ إذا سُمع صوته وإلا زاد حتى يعلم أو يظن أنه سُمع.
ويقول في استئذانه: السلام عليكم، أأدخل؟. فقد استأذن رجل على النبي وهو في بيته { فقال: أألج؟ فقال النبي لخادمه: اخرج إلى هذا! فعلِّمه الاستئذان فقل له: قلْ: السلام عليكم، أأدخل؟ فسمعه الرجل، فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له النبي ، فدخل } [رواه أحمد وأبو داود].
وله أن يستأذن بنداءٍ أو قرع أو نحنحة أو نحو ذلك.
تقول زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: (كان عبد الله إذا دخل تنحنح وصوَّت).
ويقول الإمام أحمد: (يستحب أن يحرك نعله في استئذانه عند دخوله حتى إلى بيته؛ لئلا يدخل بغتة. وقال مرةً: إذا دخل يتنحنح).
ومن الأدب أن الطارق إذا سئل عن اسمه فليبينه، وليذكر ما يُعرف به. ولا يجيب بما فيه غموضٌ أو لبسٌ. يقول جابر رضي الله عنه: { أتيت إلى النبي في دين كان على أبي، فدققت الباب، فقال: من ذا؟، فقلت: أنا، فقال النبي: أنا أنا !!!، كأنه كرهها } [رواه البخاري ومسلم].(/1)
وإذا قرع الباب فليكن برفق ولين من غير إزعاج أو إيذاء ولا ازدياد في الإصرار، ولا يفتح الباب بنفسه، وإذا أذن له في الدخول فليتريث، ولا يستعجل في الدخول، ريثما يتمكن صاحب البيت من فسح الطريق وتمام التهيؤ، ولا يرم ببصره هنا وهناك، فما جعل الاستئذان إلا من أجل النظر.
والاستئذان حقٌّ على كل داخل من قريب و بعيد من الرجل والمرأة، ومن الأعمى والبصير.
عن عطاء بن يسار { أن رسول الله سأله رجل فقال: يا رسول الله، أستأذن على أمي؟ فقال: نعم، قال الرجل: إني معها في البيت؟ فقال رسول الله : استأذن عليها. فقال الرجل: إني خادمها. فقال له رسول الله : استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟، قال: لا. قال: فاستأذن عليها } [رواه مالك بإسناد جيد].
ويقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: إذا دخل أحدكم على والدته فليستأذن.
والأعمى يستأذن كالبصير، فلربما أدرك بسمعه ما لا يدركه البصير ببصره.
{ ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه، صُبَّ في أذنه الآنك يوم القيامة } [رواه البخاري] والآنك هو الرصاص المذاب.
أيها الإخوة في الله، وهناك أدب قرآني عظيم، لا يكاد يفقهه كثير من المسلمين. إنه قول الله عزَّ وجلَّ: وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28].
إن من حق صاحب البيت أن يقول بلا غضاضة للزائر والطارق: ارجع. فللناس أسرارهم وأعذارهم، وهم أدرى بظروفهم، فما كان الاستئذان في البيوت إلا من أجل هذا.
وعلى المستأذن أن يرجع من غير حرج، وحسبه أن ينال التزكية القرآنية.
قال بعض المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها. لقد طلبت أن أستأذن على بعض إخواني ليقول لي: ارجع، فأرجع وأنا مغتبط. لقوله تعالى: وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28]. ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره.
إن من الخير لك ولصاحبك أيها الطارق، أن يَعتذر عن استقبالك بدلاً من الإذن على كراهية ومضض، ولو أخذ الناس أنفسهم بهذا الأدب، وتعاملوا بهذا الوضوح؛ لاجتنبوا كثيراً من سوء الظن في أنفسهم وإخوانهم.
إن هذه التفاصيل الدقيقة في آداب الاستئذان تؤكد فيما تؤكد حرمة البيوت، ولزوم حفظ أهلها من حرج المفاجآت، وضيق المباغتات، والمحافظة على ستر العورات. عورات كثيرة تعني كل ما لا يُرغب الاطلاع عليه من أحوال البدن، وصنوف الطعام واللباس وسائر المتاع، بل حتى عورات المشاعر والحالات النفسية، حالات الخلاف الأسري، حالات البكاء والغضب والتوجع والأنين. كل ذلك مما لا يرغب الاطلاع عليه لا من الغريب ولا من القريب، إنها دقائق يحفظها ويسترها أدب الاستئذان. فهل يدرك هذا أبناء الإسلام؟!
اللهم فقهنا في ديننا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/2)
لا تطل في غير طائل 23/4/1426
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، لقد وقفنا مع فصول من سورة يوسف ولاتزال المواقف كثيرة، وكثرتها هذه مع ما اختصر في القرآن من حياته _عليه السلام_، فما كل شأنه أتت السورة بذكره وإنما هي وقفات مع معالم في حياته _عليه السلام_.
ومما يشير إلى هذا المعنى قول الله _تعالى_: "وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ" ذكره عقب إخباره _سبحانه_ بالتمكين ليوسف في الأرض بعد أن استخلصه الملك لنفسه وجعله على الخزائن.
وهنا طويت صفحةٌ بل صفحات فيما مضى وانتهت مراحل من قصة يوسف هذه القصة العجيبة، وهاهي الآن تبدأ مرحلة جديدة وصفحة جديدة يفصل بينهما بضع سنوات، "وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ" (يوسف:58) متى جاؤوا؟
الذي يقرأ الآيات المتتابعة بعد لقائه بالملك قد يتصور أنه فور دخوله وفور رئاسته دخلوا عليه، وليس كذلك.
بل قد مرت سنوات الرخاء السبع، ثم بدأت سنوات الشدة، وهنا جاء إخوة يوسف، ولهذا ناسب أن يجيء بقوله: "وجاء إخوة يوسف" بالواو وليس بالفاء التي تفيد التعقيب والترتيب.
وهذا مشعر بأن إخوة يوسف قد جاؤوا بعد بدء سنوات الشدة، وبدأ تأثيرها أيضاً، وربما مضت من سنوات الشدة سنة أو سنتان أو ثلاث فالله أعلم.
والشاهد من هذا هو أن القرآن يركز على المشاهد المؤثرة، يركز على الأحداث التي تكون فيها العبر العظيمة مع اختصار غيرها.
أما ما عدا ذلك فلا داعي للخوض في تفاصيله، وهذا ينبغي أن يكون منهجاً لنا؛ من حيث ترك طلب معرفة نحوه والتعمق فيه، فلو كان علمه مما تتوقف عليه مصالح العباد لنبأنا به اللطيف الخبير.
وأيضاً ينبغي أن نستفيد منه منهجاً في الكتابة، وبالأخص من يكتب تاريخاً أو يكتب قصة، فلا يأتي ويسرد كل شيء؛ ما فيه فائدة وما ليست فيه فائدة، وإنما ليركز على المواقف والقضايا المؤثرة في القضية أما ما عدا ذلك فلا داعي لتسويد الصفحات به.
ولعلك ترى واقع الكتابات المعاصرة وما في بعض الكتب بل الرسائل الجامعية من التضخيم ولو أنها اختصرت لوصلت إلى الربع وربما أقل والباقي كلام الحاجة إليه قليلة إن لم نقل لاحاجة إليه أصلاً.
وقد كان من هدي محمد _صلى الله عليه وسلم_ الإتيان بالكلم الجوامع، فكلمة واحدة يقولها – صلى الله عليه وسلم – تغني عن الكثير من الكلام وتصبح منهجاً للحياة، يأتيه رجل كما في حديث سفيان بن عبدالله ويقول له – يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا ً لا أسأل عنه أحداً بعدك وفي رواية غيرك فيقول:"قل آمنت بالله ثم استقم" اختصار جامع مانع يعرض به منهجاً للحياة يتضمن ركنين عظيمين عليهما مدار الأمر كله؛ الإيمان، ثم الاستقامة عليه، وهل هلك من هلك إلا بالزيغ أو الضلال بعد الهدى؟
والشاهد أنه _صلى الله عليه وسلم_ لم يتحدث معه حديثاً طويلاً مفصلاً، ولو عرض هذا السؤال على بعض من يعتنون بتشقيق الكلام وتفصيله لوضع فيه المجلدات، ثم اعتذر بأنه لم يوفي!
إخوة الإسلام هذا منهج آمل أن يفيد منه الباحثون والمؤلفون وأخص المؤرخين وهو منهج القرآن أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهله العاملين بهداه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته ومن اتبع هداهم بإحسان(/1)
لا تطلب إلا الفردوس
مفكرة الإسلام: ما زلنا أيها الحبيب في رحلتنا المباركة في جنة رب العالمين...
وكنا قد توقفنا عند مشهد جميل، وأنت تتنزه مع زوجتك من الحور العين على ضفاف الأنهار التي أجراها الله تحت قصورك بين أشجارك وثمارك، ثم ينتهي بك المطاف إلى قصر آخر.
تقول لك زوجتك: إنه لك أيضًا.
ثم خيمة من لؤلؤة مجوفة.
فتقول لك زوجتك: وهذه لك أيضًا، وهذا القصر وهذا البيت، فتتعجب، ثم يدور تساؤل في ذهنك: 'هل كل أهل الجنة لهم نفس هذه الأشياء أم أنهم درجات ويتفاوتون في العطايا من رب العالمين؟؟'
والإجابة على هذا السؤال سهلة وبسيطة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: [[ إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام ]]. صححه الألباني في صحيح الجامع.
وفي حديث آخر أنه يقال يوم القيامة لقارئ القرآن: [[ اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها ]]. صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
فالجنة بها درجات كثيرة........
المهم، لن أصف لك أهل كل درجة، وما أعده الله لهم من العطايا، ولكن يكفيك أن تعرف ما يأخذه أدنى أهل الجنة حتى تعرف باقي الدرجات.
قال صلى الله عليه وسلم: [[ سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب؟ وكيف؟ وقد نزل الناس منازلهم, وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلك مَلك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب, فيقول: لك ذلك ومثله, ومثله، ومثله، ومثله, فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: لك هذا و عشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت رب ]].
هل تخيلت أيها الحبيب؟؟!!
هذا هو أدناهم، فما بالنا بأعلى أهلها منزلة؟
دار هذا السؤال في رأس موسى عليه السلام؛ فسأله الله عز وجل؛ فأخبره ربه [[ قال-أي موسى عليه السلام-: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت, غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها, فلم تر عين, ولم تسمع أذن, ولم يخطر على قلب بشر ]]. رواه مسلم.
ومصداقه في كتاب الله عز وجل :] فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين[
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن درجات أهل الجنة, وعن أهل الغرف، وأهل الفردوس الأعلى.
فقال [[ إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري؛ لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ]]. رواه البخاري والمسلم.
الله أكبر .....
بشارة عظيمة من الله عز وجل للمسلمين بأن الفردوس ليس حكرًا على الأنبياء والمرسلين والصحابة، ولكن يمكن لكل مؤمن أن يدخلها إذا طبق هذين الشرطين؛ الإيمان بالله والتصديق بالرسل، ولكن ليس أي إيمان ولا إي تصديق.
أخي الحبيب:
على قدر الهموم تكون الهمم.
سؤال نسأله لأنفسنا في هذه اللحظة.
إذا كنت تستطيع أن تنال الفردوس الأعلى وترافق النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته طوال اليوم، وتكون بجوار عرش الرحمن، إذا كنت تستطيع ذلك؛ فلماذا ترضى بأقل منه؟
ألم تسمع كلام الإمام بن الجوزي رحمه الله: [ من علامة كمال العقل علو الهمة والراضي بالدون دنيء ]. صيد الخاطر.
ومعاذ الله أن يكون قصدنا أن أقل درجات الجنة دون، ولكن المقصود هنا الذي يوجد ما هو أعلى منه.
وسأسوق إليك الآن ميزة أخرى لكل أهل الجنة، ولكنها تكون لأهل الفردوس أشد تخصيصًا، فهي تحدث لهم كل يوم، ألا وهي رؤية وجه الله عز وجل، وتكون بعد أن يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: [[ إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار؛ نادى منادٍ، يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، وينجينا من النار؟ فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه،فوالله ما أعطاهم الله شيئًا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم]]. صححه الألباني في صحيح الجامع.
وهذه هي الزيادة فى قوله تعالى { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [26]} سورة يونس.
ألا تشتاق لرؤية الله عز وجل في الجنة؟
ألا تتمنى أن تراه كل يوم؟؟
فهذه خاصة لأهل الفردوس الأعلى، وأختم أيها الحبيب رحلتي معك في الجنة، بهذا الحديث الرائع عن آخر من يدخل الجنة، وبعدها لا يدخل أحد البتة؛ لتعلم ما سيحصل عليه من النعيم.(/1)
قال صلى الله عليه وسلم [[ إن أدنى أهل الجنة منزلًا رجل صرف الله وجهه عن النار قبل الجنة، ومثَّل له شجرة ذات ظل، فقال: أي رب، قدمني إلى هذه الشجرة فأكون في ظلها، فقال الله: هل عسيت أن تسألني غيره، قال: لا وعزتك، فقدمه الله إليها، ومثَّل له شجرة ذات ظل وثمر، فقال: أي رب، قدمني إلى هذه الشجرة؛ فأكون في ظلها وآكل من ثمرها فقال الله: هل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره، فيقول: لا وعزتك، فيقدمه الله إليها، فيمثِّل الله له شجرة أخرى ذات ظل وثمر وماء، فيقول: أي رب، قدمني إلى هذه الشجرة؛ فأكون في ظلها وآكل من ثمرها، وأشرب من مائها، فيقول الله له: هل عسيت إن فعلت أن تسألني غيره، فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، فيقدمه الله إليها؛ فيبرز له باب الجنة، فيقول: أي رب، قدمني إلى باب الجنة؛ فأكون تحت سجاف الجنة فأرى أهلها، فيقدمه الله إليها، فيرى الجنة وما فيها، فيقول: أي رب، أدخلني الجنة، فيدخل الجنة، فإذا دخل الجنة؛ قال: هذا لي، فيقول الله له: تمن فيتمنى ويذكره الله عز وجل، سل من كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني؛: قال الله هو لك وعشرة أمثاله، ثم يدخله الله الجنة، فيدخل عليه زوجتاه من الحور العين، فيقولان: الحمد لله الذي أحياك لنا وأحيانا لك، فيقول ما أُعطي أحد مثل ما أعطيت ]] رواه مسلم.
أخيرًا أيها الحبيب، موعدنا في المرة القادمة مع أهم الحلقات وخاتمة هذه الرحلة، وهو كيف تدخل الجنة؟
فتابعنا...........(/2)
لا تعجب إنه عالم الأقوياء!!
محمد العبدالكريم 29/5/1426
06/07/2005
كن عضواً في جمعية الأسود ولا تكن رأساً في قطيع النعاج.
قد تبدو ضعيفاً؛ لأنك قرّرت أن تكون كذلك فعشْ كما تريد، لكن لا بد أن تعلم أن بإمكانك أن تصبح قوياً، وأن تتخلى عن شعورك بالضعف.
تأمّل وردك اليومي في الصباح والمساء:"اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل و الجبن والهرم والبخل ... "(1)
إنه يؤكد لك أن القوّة مطلب وإلا فلا قيمة للحياة.
ومجيء تكراره في اليوم مرتين دليل على أن الجبن والخور والاستكانة والاستسلام والانهزامية والذلّ، وجميع المفردات في قاموس الضعف مرفوضة في حياة الأقوياء؛ فأنت كائن لم تُخلق لتكون مسلوب الإرادة بارد الهمّة.
تأمّل في البعوضة:إنها لا تبدو بالنسبة لك شيئاً مذكوراً؛ لكنها أقوى منك حين تبدو ضعيفاً عاجزاً، إنها تكافح ولا تكلّ أو تملّ في البحث عن منفذ في جسدك، فما بالك تسقط من أول جولة!
إن القوّة مصدر للثقة، والثقة لا تتواجد إلا في قلوب الأقوياء.
وعندما حارت ملكة سبأ في كتاب سليمان جاءها الجواب واثقاً: (قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) [النمل:33]
والشاهد قولهم : والأمر إليك فانظر ماذا تأمرين؟ فنحن على استعداد وثقة لفعل ما تشائين، والسبب أننا أولو قوّة وبأس شديد.
إن عليك ألاّ تتردّد في الانتساب "لعضوية نادي الأقوياء" ، فلديك عملاق ينام بين جنبيك؛ فابحث عنه حتى لا تموت، وأنت تعيش بين الأحياء!
لكن السؤال المهم في الموضوع :كيف نحدّد أشكال هذه القوّة؟
إن أشكال القوّة متنوعة وأبعادها مختلفة، ومن الصعب الحديث عنها جميعاً، ولكن أشير إلى أشهر هذه القوى إجمالاً وتفصيلاً :
فالمال قوّة، والأخلاق قوة تتعادل مع درجة الصائم القائم (2) ، النَسب والجاه والمنصب قوّة، والجمال قوّة، المنطق الجميل قوّة، وحضور البديهة قوّة، الحياء قوّة؛ لأن الحيي يمتنع بسبب حيائه عمّا لا يليق ...
الإخلاص قوّة جبارة وفي قصة يوسف كان وصف الله له بأنه من المخلصين إشارة عظيمة إلى مفعول الإخلاص في التخلّص من أعنف المواقف التي تمرّ بالإنسان (...كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (3).
التسبيح والاستغفار والتقوى وحسن التوكل ... قوى متعددة فهي سبيل إلى الفرج والرزق والعلاج ...دون الحاجة لوسائط بشرية تتقوى بها لتعينك على قضاء حوائجك، وبالتأكيد أنت لا تلجأ في حياتك للواسطة إلا لشعورك بالعجز عن تحقيق ما تريد. يقول تعالى عن يونسفي أثر قوّة التسبيح:(فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (4)
وفي قوّة التقوى والتوكل: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ...) (5)
وفي قوّة الاستغفار: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) (4) وفي حديث ابن عباس ( من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب) (6).
أما المعرفة والعلم فهما قوّة هائلة؛ فالمعرفة بدون أوصاف زائدة تعطيك طاقة لا تتقيد بحدود الزمان أو المكان، وتكسب صاحبها علواً ومنزلة وتمهّد الطريق أمامه للرفعة في الدنيا والآخرة (...يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (7)
أما المرأة فهي شيء مختلف! فهي متطرفة في القوة ومفرطة في الضعف، ووراء كل رجل عظيم امرأة، وأحياناً: لولاها لكان أعظم!
إنها عالم مؤلف من القوّة والضعف وشيء من التناقض، في جمالها تؤلم قلبك، وفي قبحها توجع رأسك، ولا تبدو مقبولة بغير التطرف، فقد تموت لو اعتدل مزاجها! تحتاجها ساعة، وتحتاجك كل لحظة، ربما تكرهك لكنها لا تطيق البعد عنك، فإن أحبّتك فأنت ملك لها، وعليك أن تستجيب لعشقها بالقوّة!!
إنها قوّة في الخير إذا استقامت، وقوّة في الشر إذا استسلمت! فتأمل!
من كل ما سبق أؤكد لك في نهاية المطاف:
إن الأقوياء هم السعداء، والضعفاء هم التعساء!
وإذا أردت القوّة الحقيقيّة فهي القوّة التي لا تحتاج لغيرها كي تتقوى بها.
1- الحديث رواه مسلم. كتاب الذكر والدعاء . باب التعوذ من العجز والكسل : 4 /2079، برقم ( 2706 ) .
2- فعن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم ) رواه أبو داود في سننه: 4/252 ، برقم ( 4798 ) .
3- من الآية رقم: (24) سورة يوسف.
4- الآيات رقم (143 ، 144) سورة الصافات.(/1)
5- من الآية رقم (2 ،3) سورة الطلاق.
6- الحديث أخرجه : الحاكم في المستدرك ، وقال عنه حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه : 4 /291 ، برقم ( 7677 ) ورواه البيهقي في السنن الكبرى : 6 /118 ، برقم ( 10290 ) .
7 - من الآية رقم (11) سورة المجادلة.(/2)
لا تعذليه
ابن زريق
لا تعذليه فإن العذل يولعه قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه
جاوزت في لومه حداً أضرّ به من حيث قدرت أن اللوم ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً عن عنفه فهو مضنى القلب موجعه
قد كان مضطلعاً بالخطب يحمله فضيّقت بخطوب البين أضلعه
يكفيه من لوعة التفنيد أن له من النوى كل يوم ما يروعه
ما آب من سفر إلا وأزعجه رأى إلى سفر بالعزم يجمعه
كأنما هو من حلّ ومرتحل موكل بفضاء الله يذرعه
إذا الزماع أراه في الرحيل غنى ولو إلى السند أضحى وهو يزمعه
تأبى المطامع إلا أن تجشّمه للرزق كداً وكم ممن يودعه
وما مجاهدة الإنسان توصله رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعه
والله قسّم بين الخلق رزقهمُ لم يخلق الله مخلوقاً يضيّعه
لكنهم ملئوا حرصاً فلست ترى مسترزقاً وسوى الغايات يقنعه
والسعي في الرزق والأرزاق قد قسمت بغي ألا أن بغي المرء يصرعه
والدهر يعطي الفتى ما ليس يطلبه يوماً ويمنعه من حيث يطمعه
استودع الله في بغداد لي قمراً بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفّع أني لا أفارقه وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبّث بي يوم الرحيل ضحى وأدمعي مستهلات وأدمعه
لا أكذب الله ثوب العذر منخرق عني بفرقته لكن أرقعه
أني أوسع عذري في جنايته بالبين عنه وقلبي لا يوسعه
أعطيت ملكاً فلم أحسن سياسته كذاك من لا يسوس الملك يخلعه
ومن غدا لابساً ثوب النعيم بلا شكر الإله فعنه الله ينزعه
اعتضت عن وجه خلّني بعد فرقته كأساً أجرع منها ما أجرَّعه
كم قائل لي ذنب البين قلت له الذنب والله ذنبي لست أدفعه
هلا أقمت فكان الرشد أجمعه لو أنني يوم بان الرشد اتبعه
إني لأقطع أيامي وأنفذها بحسرة منه في قلبي تقطعه
بمن إذا هجع النّوام بت له بلوعة منه ليلي لست أهجعه
لا يطمئن لجنبي مضجع وكذا لا يطمئن له مذ بنت مضجعه
ما كنت أحسب أن الدهر يفجعني به ولا أن بي الأيام تفجعه
حتى جرى الدهر فيما بيننا بيد عسراء تمنعني حظي وتمنعه
بالله يا منزل القصف الذي درست آثاره وعفت مذ غبت أربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا أم الليالي التي أمضته ترجعه
في ذمة الله من أصبحت منزله وجاد غيث على مغداك يمرعه
من عنده ليَ عهد لا يضيعه كما له عهد صدق لا أضيعه
ومن يصدّع قلبي ذكره وإذا جرى على قلبه ذكري يصدّعه
لأصبرنّ لدهر لا يمتعني به ولا بيَ في حال يمتعه
علماً بأن اصطباري معقب فرجاً وأضيق الأمر إن فكرت أوسعه
علّ الليالي التي أضنت بفرقتنا جسمي ستجمعني يوماً وتجمعه
وإن تنل أحداً منا منيَته فما الذي بقضاء الله يصنعه(/1)
لا تقل إنك حزين ... أثبت لك سعادتك !!!
بسم الله الرحمن الرحيم
.. كثيرا" مانصنف أنفسنا من الفئة الحزينه ..
.. إجاباتك على هذه الأسئلة سيتضح لديك معطيات ماتحمله من نعمة سعادة ..
.. السؤال الاول ..
- هل أنت فاقد لإحدى حواسك ؟
.. إذا إجابتك لا :
.. ماأسعدك ..
.. إذن أنت لست فاقداً لإحدى حواسك ..
.. إشكر الله تعالى ..
.. فأنت تستطيع أن ترى الطبيعة الخلابة ..
.. تستطيع أن ترى أهلك وأصدقائك ..
.. تستطيع أن تسمع تغريد الطيور ..
.. تستطيع أن تسمع الأصوات من حولك ..
.. تستطيع وتستطيع ..
.. ماذا تريد أكثر ..
.. أنت سعيد حتماً ..
.. لأنك ترى وتسمع وتشم وتتكلم ..
.. بالفعل أنت إنسان سعيد جداً ..
.. فغيرك لايستطعون الرؤية أوالسمع ..
.. الحمدلله على هذه النعمة ..
.. إذا إجابتك نعم :
.. لاتيأس أو تكتئب ..
.. فربما هذا إختبار من عند الله ..
.. لذلك يجب أن تكون صبور وتتخطى هذا الإمتحان ..
.. وأقول لك إنك سعيد ..
.. أتعلم لماذا لأنك الشخص الوحيد في هذا العالم بأسره ..
.. الذي يقدر أكبر تقدير لنعم الله ..
.. فهنيئاً لك هذا الشعور ..
.. وتذكر إن الإعاقة دافع وليس عائق ..
.. وفقك الله وعافاك ..
.. السؤال الثاني ..
.. هل أنت تعيش بأمان ؟
.. إذا إجابتك نعم :
.. أنت إنسان حتماً سعيد ولا تقل لي حزين فهذا محال ..
.. أنظر بلدك آمن ..
.. هل خرجت يوماً ورأيت قنبلة تفتك بإحدى البيوت ..
.. هل رأيت دبابة تتلاعب بأرضك ..
.. هل تسمع كل يوم صوت الطلقات ..
.. الحمدلله أنت في أمان وسلام ..
.. ولااظن إن شخصاً يعيش في وطنه آمن سالماً يشعر بالحزن ..
.. إسعد فوطنك حر ... أدام الله هذا الأمان ..
.. إذا إجابتك لا :
.. لاتحزن ثم لاتحزن بل قف هيا وكن قوياً ..
.. ساعد وطنك قاتل حارب ..
.. عليك أن تتحدى عدوك ..
.. ولاتحزن وتقل : لماذا وطني محتل ... لماذا...؟؟؟
.. لاتقل ذلك بل هيا إذهب بل أركض ولب نداء وطنك ..
.. وبالطبع أنت سعيد ..؟! أتعلم لماذا ..؟
.. لأنك تقاتل بساحة القتال ...
.. لأنك إن مت شهيداً فالجنة في إنتظارك ..
.. الجنة .. ماذا تريد أكثر لابد إن قلبك يطير شوقاً للقاءها ..
.. وتذكر دائماً إن الحزن ضعف والضعف لايفيد هيا وكن بطلاً ..
.. (( أعان الله فلسطيننا الغالية وعراقنا الحبيب )) ..
.. السؤال الثالث ..
.. هل تجد ماتأكله ؟
.. إذا إجابتك نعم :
.. لاتقل إنك حزين ..
.. فأنت تملك ماتسد به رمقك وجوعك ..
.. أتعلم إن هناك الآف من البشر تموت يوميا" ..
.. لأنهم لايملكون شيئاً يأكلونه..؟؟
.. إذن يجب عليك أن تشعر بالسعادة ..
.. فأنت حقاً سعيد ..
.. ولا تنسى أن تعين من يحتاج ..
.. أدام الله لك ولنا هذه النعمة والحمدلله ..
.. إذا إجابتك لا :
.. إذن أنت لاتملك مايسد جوعك ..
.. لا تحزن ..
.. إذهب واعمل لاتقل ليس لي عمل ..
.. يوجد فقط إبحث وتوكل على الله وسيرزقك الله من حيث لاتحتسب ..
.. وتذكر إن الله معك ولا عيب أن تطلب من الأيادي البيضاء المساعدة ..
.. ولكن قبلها تذكر إنك لم تجد وسيلة إلا هذه ..
.. أعانك الله ..
السؤال الرابع ..
.. هل إنت متعلم ..؟
.. إذا إجابتك نعم :
.. رائع .. إذن أنت تتذوق لذة التعليم ؟
.. وبما أنك تتعلم وفي مقدورك الذهاب إلى المدرسة ..
.. فأنت سعيد ..
.. لأنك حاربت الجهل ..
.. وسمحت لك الظروف أن ترتقي بنفسك وبمستوى ثقافتك ..
.. أتعلم أن أمنية أكثر من ألف طفل أن يتعلموا ..
.. لذلك يجب عليك أن تسعد فأنت متعلم ..
.. وغداً ستخدم وطنك ..
.. إذا إجابتك لا :
.. إذن أنت لست متعلم و بالطبع هناك أسباب أليس كذلك؟ ..
.. ربما المال أوالفقر ..
.. ربما أنت لاتملك وقتاً لتدرس كي تعين نفسك وأسرتك ..
.. أقول لك لاتكتئب وعليك أن تكون سعيداً ..
.. أتعلم لماذا؟ ..
.. لأنك تتعلم دروساً من الحياة ..
.. أتعلم أن هذه الدروس لاتدرس في المدارس ..
.. لأنها عظمية لايستطيع منهج كامل أن يعطي هذه الدروس حقها ..
.. وتذكر دائماً إن الذين يعانون يخرجون من الحياة أقوى ..
.. و نصحية مني :
.. أيها اقوي إذا أتحيت لك يوماً فرصة التعليم فلا تتردد وتعلم ..
.. السؤال الخامس ..
.. هل تمتلك أجهزة ووسائل حديثة ..
.. إذا إجابتك نعم :
.. إذن فأنت تملك سيارة أوحاسوب أوتلفاز وربما جميعها ..
.. حسناً أنت سعيد ..
.. لأنك تملك حاسوب تستطيع من خلاله أن تجمع المعلومات وتطّلع على الأمور التي تهمك ..
.. تملك تلفاز إذن تستطيع مشاهدة ماتحب من البرامج ..
.. تملك سيارة إذن أنت تستطيع أن تنتقل إلى أي مكان بكل سهولة ..
.. وغيرها من الأجهزة التي تجعل منك شخص يواكب تطور العصر وتستمع بالحياة ..
.. إذا إجابتك لا :
.. لاعليك صحيح إنك لاتملك هذه الآت الحديثة لكن ربما في هذا خير لك !!!
.. من يدري ... ربما أنت لا تملك مال لشراء ذلك ..
.. لا تكتئب ... فأنت على الأقل تملك بيتاً تعيش فيه حتى وبدون هذه الآت ..(/1)
.. إذن أنت سعيد لأنك من الاشخاص النادرين الذين يتمتعون بطعم الحياة الهادئة والبسيطة ..
.. السؤال السادس ..
.. هل لديك أهل وأصدقاء يحيطون بك ؟ ..
.. إذا إجابتك نعم :
.. أنت سعيد ولاتحاول أن تخدع نفسك وتقول إنك حزين ..
.. ماذا تريد لديك أب وأم وأصدقاء وأحباب غاليين عليك ..
.. كلهم يحيطون بك يحبونك ويراعونك ..
.. ماأسعدك ..
.. أتعلم أن سعادتك هذه تحسد عليها لأن الكثير من الناس فقدوا أحبائهم ..
.. لذلك أنت سعيد تملك أباً و أماً ..
.. فهناك الذي لايملكون قريب أوبعيد بقربهم ..
.. أطال الله عمر والديك وأحبائك و رعاهم ..
.. إذا إجابتك لا :
.. إذن لقد فقدت شخصاً غالي عليك أو أحد والديك ..
.. لاتحزن فأنت لست أول وآخر شخص يصيبك هذا ..
..وتذكر إن كل نفس ذائقة الموت ..
.. لا تحزن إذا كنت قد فقدت أحدهم فأنت على الاقل لم تفقد كل أهلك دفعة واحدة ..
.. أقدّر شعورك لكن هذه نهايتنا جميعاً هو الموت ..
.. ولوهربنا أوذهبنا يميناً أو يساراً فالموت هو نهاية الكائن البشري حقيقة لاجدال فيها ..
.. وأقول لك إنك سعيد لأن هناك من لايملكون أهلاً بتاتاً ..
.. إدعوا الله أن يجمعكم معهم في جنته ..(/2)
لا تكن متفرجاً ... ... ...
تميز عصرنا الحاضر بارتفاع أصوات المنافقين والمنافقات في أنحاء العالم الإسلامي , فأفردت لهم الصفحات , وتصدروا المنتديات , واحتفلت بهم التجمعات , وسيطروا على كثير من وسائل الإعلام كما يلاحظه القاصي والداني لِفُشُوِِّ الأمر وظهوره . وحال المنافقين ليس بجديد على أمة الإسلام ..
فهم أعداء ألداء لهذا الدين منذ بعثة محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، يكيدون ويدبرون ويخططون وينفذون , وقد وصفهم الله عز وجل في سبعة وثلاثين موضعاً من القرآن , وسميت سورة كاملة باسم " المنافقون " , وأفاضت السنة النبوية المطهرة في توضيح ذلك الأمر العظيم وجلائه .
وفي خِضَمِّ هذا السيل الجارف من أهل النفاق حَرِيٌّ بأهل الإسلام ممن يحملون رايته ويحترقون شوقاً لرفعته أن يسارعوا إلى فضح المنافقين وهتك أستارهم وكشف مخططاتهم وتتبع أرائهم وأفكارهم والتصدي لها والرد عليها وابتداء ذلك بتحصين أنفسهم وأبنائهم ونسائهم من شبههم ودعواتهم . وأعظم أمر يدخل الغيظ على قلوب المنافقين ويؤرق مضاجعهم نشر العلم الشرعي الذي يبدد نوره ظلاماً يتسللون في دُهْمَته ! أما الالتصاق بالدعاة والعلماء فهو خنجر مسموم في نحورهم ولهذا يسعون إلى مقولة متكررة فحواها أن من حمل راية رسول الله صلى الله عليه وسلم وميراثه متخلف متحجر بعيد عن الانفتاح والتطور ومجاراة الواقع . والنفاق أجيالٌ متوارثة فقد قالوا تلك المقالة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن درء خطرهم منعهم من تَسَيُّد المجالس وتسويد الصحف والمجلات قدر المستطاع ومما يعين على ذلك متابعة خططهم وطروحاتهم والرد عليها والرفع لأصحاب الاختصاص بمقالاتهم وكتاباتهم .
ومن أعد نصائح منفردة ورسائل خاصة فيها التخويف بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ذلك من دعوتهم إلى الرجوع إلى الدين ومفارقة أرض النفاق .
ولا يعجز مسلم من الدعاء عليهم ورفع يديه إلى الملك الجبار بأن يشغلهم في أنفسهم وأهليهم , ولا تزال بؤرة النفاق يرتفع شعارها المعروف : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون }
وفي هذه الفترة بالذات يجب على كل مسلم القيام بواجبه نحو رد كيد الأعداء ومجاهدة أهل الزيغ والضلال . وليتفقد كل فرد منا ذكراً كان أو أنثى .. أمجاهد هو أم قاعد ؟ , فليأتين زمان نبكي فيه على ترك الأمر بالمعروف والتصدي للمنافقين , ولا تبرأ الذمة بأن نقف متفرجين على أعمالهم ومخططاتهم ولا يحرك ذلك ساكناً في قلوبنا وأعمالنا !
والابتلاء بالمنافقين ليس بجديد فقد قال بعض السلف في زمانه : ( لو كان للمنافقين أذناب لما استطعنا السير في الشوارع والطرقات من كثرتها )
وفي أمة الإسلام اليوم أكثر من ذلك , { والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون }.
عبد الملك القاسم ... ...(/1)
لا تكن معول هدم
الشيخ يونس الزلاوي
عندما أقرأ للإمام الغزالي صاحب الإحياء وكذلك للإمام المقدسي عليهما سحائب الله من الرحمة أجد أنهما يتحدثان باستفاضة عن المهلكات ، وقد جعلوا لها بابا في كتبهم يطنبون في شرحها وتفصيلاتها وكيفية إهلاكها للفرد ، ومن ثم للمجتمع والأمة بأسرها .
وبالضد أيضا يتحدثان على أن الأخلاق الحميدة ( المنجيات ) هي سبب القوة والرقي للفرد ، والمجتمع .
والناظر يجد هناك رابطا قويا بين الفرد والمجتمع لأن الفرد ما هو إلا حلقة صغيرة في بناء المجتمع ، فإذا اخترق الفرد بالأخلاق السيئة كان ذلك سببا مباشرا في التأثر بالهدم الذي يحصل له وللمجتمع من بعده بل والأمة ، ومعلوم أن معاول الهدم التي تعقب أثار وخيمة وكثيرة على الفرد والمجتمع متعددة فمنها ما يهدم الجانب الدين ، ومنها ما يهدم الجانب الاجتماعي ، والاقتصادي ، والأمني ، والصحي وكل ذلك كسر لكيان الأسرة ، وفك لتلحم المجتمع ، وضعف لتماسك الأمة .
ولنا في القرآن والسنة أدلة على ذلك فقد تحدث الله عن قوم عاد الذين أصابتهم العجرفة والغرور بقوتهم وصحتهم قال تعالى : ( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ 65 إلى أن قال ....... أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 69 قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 70 قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ 71 فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ 72 ) .
وكذلك قوم ثمود الذين أحكموا سياجهم الأمني من البيوت الفارهة والقوة المحروسة ولكنهم عتو في الأرض الفساد بأخلاقهم السيئة فأدى ذلك إلى ضياعهم وإهلاكهم قال تعالى : ( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ 65 قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ 66 قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ 67 أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ 68 أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 69 قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 70 قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ 71 فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ 72 ).
وكذلك قوم شعيب الذين جعلوا أصل التعامل فيما بينهم الغش والتطفيف في الكيل والميزان ، وعدم إطاعة الرحمان فأهلكهم الله تعالى فقال ( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 85 وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ 86) .
وكما قلت لك أخي القارئ الكريم معاول الهدم التي تأتي على الفرد والأمة من جراء ارتكاب الأخلاق السيئة متعددة ولعلي أقف معك على بعضها حتى لا تكن معولا من معاول الهدم في مجتمعك وأمتك .
أولا : معاول هدم الدين :(/1)
إن معاول هدم الدين من خلال الأخلاق السيئة هو شرخ في رحم الأمة من خلال الفرد ، وتدمير للأمة وإضعافها من كل الجوانب الاعتقادية والأخلاقية ، ومحاربة لله ورسوله ، وتعدي على سماحة الإسلام ، وإظهار صورة قبيحة عنه ، وفتح مجال لأعداء الإسلام لأن ينالون من هذا الدين من خلال الانحراف السلوكي لأتباعه ، لا من خلال المنهج الحقيقي والذي يعبر عنها أديب الإسلام أبو الحسن الندوي بقوله بين الصورة والحقيقة ولعلي أتعرض لهذه المعاول بشي من التفصيل .
• المعول الأول : تشويه حقيقة الإسلام .
إن الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الذي ختم به الله الشرائع والملل ، واحتوى فيه جميع محاسن الشرائع المتضمنة جميع مصالح العباد في المعاش والمعاد ، فأكمل الله به دينه الذي ارتضاه لنفسه ، وختم العلم الذي أنزله من السماء على رسله ، فلذلك تضمنت جميع محاسن الشرائع المقدمة ، وزادت عليها أمورا عظيمة وأشياء كثيرة ، من العلوم النافعة والأعمال والأخلاق الصالحة ، التي خص بها هذه الأمة وفضلهم بها على من قبلهم من الأمم .
ولذلك أوجب الله على جميع من بلغته هذه الدعوة من جميع الأمم الانقياد إليها ولم يقبل من أحد منهم دينا سواها .
ولما كانت هذه الشريعة خاتمة الشرائع ربى عليها الحبيب صلى الله عليه وسلم أصحابه ، وجعلهم قائمين بالحق محافظين عليه منهجا ، وأخلاقا ، حتى دخل الناس في هذا الدين زرافات ووحدان ، يسمو بهم إلى أعالي الجنان ومراتب الإحسان .
فعم الدين وشرح الله به صدور العالمين ، فساد النور وقمع الظلام ، وسارت الأخلاق رسائل حية تشيع بنورها على البشرية ، الأخلاق والقيم الحقيقية .
وإذا انتشرت في ربوع ديار المسلمين وبينهم الأخلاق السيئة ، والسلوك الردئ وأصبح المسلمون يقدمونه على أنه هو حقيقة الإسلام ، وأصبح غيرهم ينظرون إلى هذه العادات السيئة على أنها هي الإسلام ، ويقولون إن الإسلام متمثل في سلوك أصحابه وأتباعه ، ويرون أتباعه يسرقون ويغشون ويخدعون ويشربون الخمر ويمارسون الزنا سرا وجهرا ، ويظلمون ويعتدون على حقوق الآخرين وكل هذا في ديار الإسلام ، وربما باسم الإسلام ، قال هذا هو الإسلام فيقدمون صورة مشوهة ومشبوهة عن الإسلام لغير المسلمين ويغطون عين الشمس بالغربال ، وهذا من أعظم الآثار التي تهدم الدين وتشوه حقيقة الإسلام .
• المعول الثاني : وهو تعريض دين الأمة للنقد
إن الأخلاق السيئة إذا انتشرت بين أتباع هذا الدين تعرضه لتجرئ الأعداء عليه ونقده ومحاولة هدمه والتطاول عليه ، والمتأمل في عالم اليوم يجد أن النقد ينصب في هذه الفترة على الإسلام ولا سيما في قضية الإرهاب والعنف ، ومنع الحريات ، وغير ذلك من الطعنات ، وكلما كانت الممارسات السيئة من المسلمين كلما انفتحت روزنة أخرى على الإسلام لطعن فيه وفي نزاهته وسماحته باسم أتباعه ومعتنقيه .
ومازال أعداء الإسلام يقتنصون الفرص التي يقومون فيها بقلب الحقيقة بالكلمة أو الصورة أو المقالة أو غيرها من وسائل الإعلام لهدم هذا الدين القويم ، فتعلم أيها المسلم كيف تحافظ على دينك الذي هو رأس مالك ولا تعرضه لسرقة فإن المال السائب يعلم السرقة .
• المعول الثالث : وهو تأخر الناس عن الدخول في الإسلام
اللهم لا تجعلنا فتنة للذين كفروا .... إن مما يصيب الأمة الإسلامية في دينها إذا انتشرت فيها مساوئ الأخلاق من الذين لا يطبقون الإسلام على أكمل وجه فيكونون دعاة للبعد عن الإسلام لا دعاة للناس لدخول في دين الإسلام ... ومن العجيب أن رجلا أوروبيا أسلم وهو في بلده الأوروبي على يدي أحد المخلصين لدينه والمتمسكين بأخلاقه ، فلما أراد هذا المسلم الجديد تعلم اللغة العربية ، والذهاب إلى إحدى الدول الإسلامية ، فلما ذهب وتعامل مع أهلها فرأى الغش والسرقة والكذب والعبث بحقوق الآخرين ، فقال الحمد لله الذي أسلمت قبل أن أرى المسلمين .
فإذا الأمة الإسلامية والفرد المسلم قد يكون قدوة صالحة يحبب الناس في هذا الدين ويشوقهم إلى معرفته إذا ما أخذ بتعاليمه وسماحته ، ومن الجانب الآخر قد يكون معولا لهدم هذا الدين إذا كان حاملا للأخلاق السيئة هو يدعي الإسلام .
• المعول الرابع : وهو ضعف الأمة
ضعف الأمة الإسلامية المراد به ضعف التمسك بالدين والانتماء إلى الإسلام ، ولاشك أن لهذا الضعف معاول تزيد من هوته وهي كثيرة وأعظمها كثرة الدعاة إلي أبواب جهنم إلى الفساد والمنكرات والمعاصي بالقول والعمل حتى صارت الأخلاق السيئة والرذيلة هي الأصل ، والأخلاق الحميدة والعفة هي الفرع فأصبح المنكر معروف والمعروف منكرا ، وهذا الضعف أدى إلى تكالب الأمم عليها وما حصل ويحصل كل يوم في العديد من ديار الإسلام ما هو إلا نتاج هذا الضعف الخلقي والانحطاط السلوكي ، وبمثل هذه المعاول تهدم الأمة في دينها وعقيدتها .(/2)
لا تنظر إلى صِغَرِ الذنب ولكن انظر مَن عصيت.....عبد الرحمن عبدالخالق ...
28-02-2004
كانت هذه الكلمة : (لا تنظر إلي صغر الذنب ، ولكن انظر من عصيت) ، من الكلمات التي نفعني الله بها . فإن النظر إلي تقسيم الذنوب إلي صغائر وكبائر مع جهل هذا التقسيم قد يؤدي إلى وقوع المسلم في أكبر الكبائر ، وهو يظن أنه لم يرتكب إلا الصغائر. وتفصيل هذا الأمر على النحو التالي :
الدين قسمان : خبر وأمر :
الدين الذي تعبدنا الله به قسمان : خبر وأمر .
فالخبر هو ما قصّه الله علينا من شأن الغيب الذي لا نراه ، ولا سبيل لنا إلي معرفته إلا بإخبار الله سبحانه وتعالى ، وأصول الغيب هي الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره من الله تعالى.
وأما الأمر فهو ما ندب الله العباد إليه من أن يعبدوه وحده لا شريك له ، وأن ينتهوا عما حرم عليهم ، وأن يقفوا عند حدوده .
الدين الذي لا يقبل الله من عباده غيره هو الإسلام :
والدين الذي لا يقبل الله من عباده غيره هو الإسلام ، ومعناه الاستسلام لله بتصديق خبره وتنفيذ أمره ، قال تعالى : (إنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الإسْلامُ) ]آل عمران:19[ ، وقال جل وعلا: (ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ)]آل عمران: 85[.
تكذيب الخبر كفر ، وردّ الأمر كفر :
ومن رد خبر الله - سبحانه وتعالى - وكذب بشيء من الغيب الذي قصه علينا فقد كفر ، وكذلك من رد أمر الله سبحانه وتعالى وأبى أن يطيعه استكباراً وعناداً فقد كفر. والمعصية الأولى التي عصى بها إبليس ربه كانت من النوع الثاني ، أعني أنها رد الأمر ، فإن الله قد أمر بالسجود لآدم ، فقال : (قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) ]الإسراء:61[ ، ولم يكن إبليس - لعنه الله - مكذباً بشيء من أخبار الله ، وإنما انحصرت معصيته في رد الأمر الإلهي كبراً وعلواً ، عندما ظن أن هذا الأمر يخالف الحكمة ، إذ زعم أن الفاضل لا يسجد للمفضول ، وقد رأى نفسه - وقد خُلق من النار - أفضل من آدم المخلوق من الطين ، وقياس إبليس قياس فاسد . ولما أصر إبليس على معصيته كان جزاؤه أنْ لعنه الله أبداً ، وطرده من رحمته سرمداً . فالمعصية إذا كانت إباءً ورداً للأمر الإلهي ، كانت كفراً من أجل ذلك . والمعصية الثانية التي عُصي بها الله سبحانه وتعالي وقعت من آدم - عليه السلام - ولما تكُن عناداً ، وإنما كانت ضعفاً ونسياناً كما قال تعالى : (ولَقَدْ عَهِدْنَا إلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)]طه:115[ ثم إن آدم لم يصر عليها ولم يحتجّ بها بل سارع إلى الفرار منها والاعتذار عنها قال تعالى : (ونَادَاهُمَا رَبّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشّجَرَةِ وأَقُل لّكُمَا إنّ الشّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوّ مّبِينٌ . قَالا رَبّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وإن لّمْ تَغْفِرْ لَنَا وتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الخَاسِرِينَ)]الأعراف:22-23[ .
فلما اعترف آدم وزوجته بالخطيئة وسارعا إلى التوبة والإنابة ، فإن الله سبحانه قبِل عذره ، وأقال عثرته . والناظر في معصية آدم يجد أن هذه المعصية قد كانت مخالفة للأمر الإلهي فقط ، فإن الأكل من شجرة في الجنة ليس إثماً في ذاته ، ولا فاحشة في ذاتها ، لولا أنه معصية الله الذي أمره ألا يأكل من هذه الشجرة .
العبودية هي طاعة الأمر :
والعبودية لله إنما هي في طاعة أمره أياً كان هذا الأمر - في صغير أو كبير - فيما يوافق معقول المأمور ، أو يخالف معقوله . فإن الرب الإله - سبحانه وتعالى - هو أعلم بما يأمر به وينهى عنه ، والعبد لا يكون عبداً على الحقيقة إلا إذا أطاع معبوده دون تردد أو توقف أو نظر أو سؤال لِمَ أمر بكذا ؟ ولِمَ نهى عن كذا ؟ ولو كان العبد لا يطيع إلا فيما عقَل وفهم لكانت طاعته لمعقوله ومفهومه وليس لخالقه وإلهه ومولاه ؛ فإن الإنسان يطيع عقله ، وقلبه في أشق الأمور على نفسه وبدنه بل قد يركب الصعب والذلول في تنفيذ ما يأمره به سلطان العقل ، أو سلطان القلب والهوى . ولو كانت طاعة الله تابعة لسلطان العقل والقلب والهوى لكان المعبود حقاً هو العقل والقلب والهوى ، وليس الله - سبحانه وتعالى - بل العبودية أن يطيع العبد ربه فيما يخالف سلطان عقله وقلبه وهواه . بل إن الدين قائم على مخالفة ما تهواه النفوس ، وما يخالف رأي الإنسان ومعقوله أحياناً وهذا هو معنى التعبد لله .
ولا يمنع أن يكون في الدين ما يوافق معقول الإنسان ونظره ، ولكن الله سبحانه وتعالى شاء أن يتعبد عباده بما يحكم به هو سبحانه وتعالى لا بما يرونه بأنفسهم أو يعقلونه بعقولهم ، أو تهواه أنفسهم .
إبراهيم - عليه السلام - المثال والقدوة والأسوة :(/1)
هذا نبي الله إبراهيم جعله الله إماماً للناس جميعاً ، وجعل النبوة في ذريته دون سائر البشر ، ولم يصل إبراهيم - عليه السلام - إلى ما وصل إليه إلا أنه أُمر بأوامر إلهية تخالف معقول البشر فنفذها إبراهيم عليه السلام على النحو الذي أمره الله بها تماماً ، وكان مما أمر به مما يخالف معقول البشر أن يلقي زوجته هاجر وابنها إسماعيل في أرض مقفرة موحشة لا إنس فيها ولا شيء وهي أرض مكة ، وليس معهم أحد على الإطلاق وليس لهم من الزاد إلا جراب تمر ، وقربة ماء . ثم كر عائداً وحده إلى بلاد الشام .
وهذا الأمر الإلهي لإبراهيم عليه السلام يخالف معقول البشر فإن أحداً لو فعل ذلك من عند نفسه لكان فعله جريمة وإثماً
وكذلك أمره الله - سبحانه وتعالى - بأن يقتل ابنه - بِكره - إسماعيل عليه السلام بعد أن شبّ وبلغ مبلغ الرجال فسارع إلى تنفيذ الأمر دون تلكؤ أو نظر ، أو تسويف ، ولو أن إنساناً عمد إلى أن يقتل ابنه دون أمر من الله لكان هذا جريمة وإثماً ، فقد روى الإمام البخاري رحمه الله بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أول ما اتخذ النساء المِنْطَق من قِبل أم إسماعيل ، اتخذت منطقاً لتُعَفّي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء فوضعهما هنالك ، ووضع عندها جراباً فيه تمر وسِقاء فيه ماء ، ثم قفى إبراهيم منطلقاً ، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مراراً ، وجعل لا يلتفت إليها فقالت: آلله أمرك بهذا ؟ قال: نعم ، قالت: إذن لا يضيّعنا ، ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال : "رَبّنَا إنّي أَسْكَنتُ مِن ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرّمِ" ]إبراهيم:37[ حتى بلغ "يَشْكُرُونَ" وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفِد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها فجعلت تنظر إليه يتلوى ، أو قال: يتلبّط ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً ، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً ، ففعلت ذلك سبع مرات) ، قال ابن عباس : قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فذلك سعى الناس بينهما) فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صَهْ - تريد نفسها - ثم سعت فسمعت أيضاً ، فقالت: قد أَسمعتَ إن كان عندك غواث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم فبحث بعَقِبِه - أو قال: بجناحه - حتى ظهر الماء فجعلت تُحوّضه وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف.. قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال : لو لم تغرف من زمزم - لكانت زمزماً عيناً مَعيناً) قال: ( فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافوا الضّيْعَة، فإن هذا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله ، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرْهُم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كُدَاء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء ، لعَهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جَرِياً أو جريين فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا ، قال: وأم إسماعيل عند الماء ، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت : نعم ، ولكن لا حَقّ لكم في الماء قالوا : نعم .(/2)
قال ابن عباس : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأُنْس) ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم ، وشب الغلام وتعلّم العربية منهم ، وأَنْفَسَهُم وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم ، وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تّرِكته فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا ، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بِشَرّ ، ونحن في ضيق وشدة ، فشكت إليه ، قال: فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام وقولي له يغيّر عَتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل كأنه آنَس شيئاً فقال : هل جاءكم أحد ؟ قالت : نعم ، جاءنا شيخ كذا وكذا فسألَنا عنك فأخبرته ، وسألني كيف عيشنا ، فأخبرته أَنّا في جهد وشدة ،قال فهل أوصاك بشيء ؟ قالت: نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول : غّيّرْ عتبة بابك ، قال: ذاك أبي ، وقد أمرني أن أفارقك ، الحَقي بأهلك ، فطلقها وتزوج منهم امرأة أخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده ، فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت : خرج يبتغي لنا ، قال : كيف أنتم ؟ وسألها ما طعامكم ؟ قالت : اللحم ، قال: فما شرابكم ؟ قالت : الماء ، قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ولم يكن لهم يومئذ حَبّ ، ولو كان لهم دعا لهم فيه) قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه . قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومُرِيهِ يثبّت عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد ؟ قالت: نعم ، أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته ، فسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أَنّا بخير ، قال: فأوصاك بشيء ؟ ، قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك ، قال: ذاك أبي وأنت العتبة ، أمرني أن أمسكك ، ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يَبْرِي نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم ، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ، ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً ، وأشار إلى أَكَمَة مرتفعة على ما حولها ، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يناوله الحجارة يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان : (رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّا إنّكَ أَنتَ السّمِيعُ العَلِيمُ)]البقرة:127[ قال : فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان : "رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّا إنّكَ أَنتَ السّمِيعُ العَلِيمُ"]البقرة:127[ .
الجانب التعبدي في الإسلام كبير جداً :
وإذا كانت الشريعة المنزلة على محمد -صلى الله عليه وسلم - في عمومها مما يوافق معقول أهل العقل والحجا والحكمة إلا أن الجانب التعبدي فيها كبير جداً .. فإن مواقيت الصلاة ، وأعداد الركعات ، وهيئات الصلاة ، وكون الزكاة في بعض الأموال وليست في جميعها ، وتقدير النصاب ، وصفة الصوم ، وأعمال الحج من طواف وسعي وتقبيل للحجر الأسود ، والوقوف بعرفة ، والمبيت بمزدلفة ، ورمي الجمار ، كل ذلك من الأمور التعبدية التي يراد منها ابتلاء طاعة العباد لربهم وخالقهم سبحانه وتعالى. كما أن الحدود والعقوبات الشرعية الشأن فيها التعبد لله سبحانه وتعالى بتنفيذ أمره والانتهاء عن نهيه جل وعلا .
وكذلك ما أباحه الله وما حرمه .. فإن الله أباح البيع وحرم الربا ، وقد يكسب البائع في بيعه ألفاً في المائة وقد يكون الربا المحرم درهماً في الألف ويبقى الربا حراماً والبيع حلالاً وقد أُمرت المرأة أن لا تَحُدّ على ميت أكثر من ثلاثة أيام ولو كان الميت أعز الناس لديها كابنها وأخيها وأبيها ، ولكنها يجب أن تحد على زوجها أربعة أشهر وعشراً .
ولا شك أن وراء كل أمر إلهي حكمة عليا قد يخبرنا الله بها ، وقد يهدينا إلى معرفتها ، وقد يخفيها عنا ، وفي كل ذلك يجب على المكلف أن يسمع ويطيع ، وأما إن علّق طاعته لله على فهمه ومعقوله ومعرفته لحكمة الآمِر فإنه لا يكون عابداً لله على الحقيقة ولو رد الأمر الإلهي ظاناً أنه مخالف للحكمة والعقل لكان كافراً وكان كفره ككفر إبليس الذي لم تكن جريمته إلا رد الأمر الإلهي كفراً وكبراً وعناداً .
كل رد للأمر الإلهي كبيرة مخرجة من الدين :
وهكذا فكل رد للأمر الإلهي - مهما كان هذا الأمر في صغير أو كبير في أمر معقول المعنى - عند المأمور - أو أمر غير معقول المعنى - هو كفر بالله وخروج من رحمته .
كبائر الذنوب وصغارها التي لا تخرج من الملة :(/3)
وأما الكبائر والصغائر التي لا تُخرج من ملة الإسلام فهي ما يرتكبه العبد من الذنوب مع اعتقاد أنها معصية ، وأنها إثم وذنب ، فالزنا والربا وأكل مال الناس بالباطل ، وشرب الخمر ، كل ذلك من الكبائر والعظائم ، ومن فعلها معتقداً أنه فعل إثماً كبيراً فإنه يبقى في مسمى الإيمان والإسلام ، ولا يخرج من الإسلام إلا إذا انتفى من قلبه الشعور بالإثم ، ورأى أنه لم يفعل ما يُعَاقَبُ عليه ، وكذلك الأمر في صغائر الذنوب كالغمزة الواحدة ، واللمزة والكذبة التي لا يجوز فيها ، فإن من ارتكبها مع اعتقاده بحرمتها بقي في دائرة العافية ومسمى الإيمان ، ومن ارتكبها مستحلاً لها نافياً عن نفسه الإثم فيما ارتكبه فهو خارج عن مسمى الإيمان كافر بالله -سبحانه وتعالى .
تعظيم أمر المعصية :
وكل عباد الله المخلصين من الأنبياء والمرسلين وأولياء الله الصالحين .. بل وملائكته المقربين كانوا يعظمون معصية الله في الصغير والكبير .. فإن النظر يجب أن يكون فيمن عصاه العبد لا فيما عصى فيه العبد .
لماذا كانت المعصية شيئاً عظيمًا ؟ :(/4)
المعصية في ذاتها شي عظيم ؛ لأنها مخالفة لأمر الرب الإله الذي لا إله إلا هو ، خالق السموات والأرض ، وخالق كل شيء ، وهو رب كل شيء ومليكه الذي خضع له كل شيء ، وذَلّ له كل شيء ، فهو القاهر فوق عباده ، وهو الحكيم الخبير الذي لا يغيب عنه من شئون عباده صغير ولا كبير .. فهو القائم على كل نفس بما كسبت ، والذي (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرّةٍ فِي السّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ) ]سبأ:3[ ، الذي تخافه الملائكة العظام وتكاد السموات أن يتفطرن من فوقهن فرقاً وخوفاً منه . والذي يمسك السموات والأرض أن تزولا ... والذي لا يحيط أحد من خلقه علماً به ، وهو يحيط علماً بكل مخلوقاته ، ولا يغيب عنه سبحانه خطرات نفوسهم ولا نزعات قلوبهم ، ولا وساوس صدورهم ، الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً ، والذي لا يقبل من أحد من مخلوقاته إلا الإذعان له ، والاستسلام لأمره . والذي يكرم من شاء من خلقه وعباده فلا يكون لإكرامه منتهى ولا لعطائه حد ، ويهين من شاء من خلقه ، فلا تكون لإهانته مثيل ، ويعذب من أراد من عبيده ، فلا يكون لعذابه نهاية ، ولا لعذابه شبيه (فَيَوْمَئِذٍ لاّ يُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ . ولا يُوثِقُ وثَاقَهُ أَحَدٌ)]الفجر:25-26[ ، وهو الرب الإله الذي جعل الخلق كله له ، فلا يخلق إلا هو ، ولا يستطيع غيره أن يخلق ذرة ، ولا بُرّة ، ولا ذباباً ، . والذي يملك نفع خلقه وضرهم فلا يملك غيره لأحد من خلقه لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء هو .. وهو الرب الإله خالق السموات والأرض الذي لا يكرثه ولا يتعبه خلق السموات والأرض ولا حفظهما في أماكنها ومداراتها . فمن ذا يستطيع أن يضع الشمس في مكانها غيره ، وأن يضع القمر في مكانه غيره ، والنجوم في مساراتها ، والمجرات في مجاريها .. ومن الذي أتقن كل ذلك ، قال تعالى : (إنّ اللّهَ يُمْسِكُ السّمَوَاتِ والأَرْضَ أَن تَزُولا ولَئِن زَالَتَا إنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) ]فاطر:41[. فهو مالك الملك كله ، ومدبر الكون كله لم يساعده أحد ولم يعاونه أحد في خلق الكون ، ولا حفظه ، بل هو الخالق لكل ما في الكون والحافظ له ، والمقيم له ، وهو الذي يفرط عِقد هذا الكون وقتما شاء ويبدل السموات والأرض وقتما يريد ، قال تعالى : (إذَا السّمَاءُ انفَطَرَتْ . وإذَا الكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ . وإذَا البِحَارُ فُجّرَتْ . وإذَا القُبُورُ بُعْثِرَتْ . عَلِمَتْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ وأَخّرَتْ) ]الانفطار:1-5[ . وقال تعالى : (إذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ . وإذَا النّجُومُ انكَدَرَتْ . وإذَا الجِبَالُ سُيّرَتْ . وإذَا العِشَارُ عُطّلَتْ . وإذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ . وإذَا البِحَارُ سُجّرَتْ . وإذَا النّفُوسُ زُوّجَتْ . وإذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ . بِأَيّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ . وإذَا الصّحُفُ نُشِرَتْ . وإذَا السّمَاءُ كُشِطَتْ . وإذَا الجَحِيمُ سُعّرَتْ . وإذَا الجَنّةُ أُزْلِفَتْ . عَلِمَتْ نَفْسٌ مّا أَحْضَرَتْ) ]التكوير:1-14[ وقال تعالى: (إذَا السّمَاءُ انشَقّتْ . وأَذِنَتْ لِرَبّهَا وحُقّتْ . وإذَا الأَرْضُ مُدّتْ . وأَلْقَتْ مَا فِيهَا وتَخَلّتْ . وأَذِنَتْ لِرَبّهَا وحُقّتْ . يَا أَيّهَا الإنسَانُ إنّكَ كَادِحٌ إلَى رَبّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) ]الانشقاق:1-6[ هذا الرب الإله سبحانه وتعالى الذي وصف نفسه في القرآن فقال : (إنّ رَبّكُمُ اللّهُ الَذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأَرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُغْشِي اللّيْلَ النّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشّمْسَ والْقَمَرَ والنّجُومَ مُسَخّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبّ العَالَمِينَ) ]الأعراف:54[. وقال جل وعلا : (اللّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ الحَيّ القَيّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ لّهُ مَا فِي السّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إلاّ بِإذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ومَا خَلْفَهُمْ ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مّنْ عِلْمِهِ إلاّ بِمَا شَاءَ وسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ والأَرْضَ ولا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وهُوَ العَلِيّ العَظِيمُ) ]البقرة:255[. وقال جل وعلا : (اللّهُ الَذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ مَا لَكُم مّن دُونِهِ مِن ولِيٍّ ولا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكّرُونَ . يُدَبّرُ الأَمْرَ مِنَ السّمَاءِ إلَى الأَرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ . ذَلِكَ عَالِمُ الغَيْبِ والشّهَادَةِ العَزِيزُ الرّحِيمُ . الّذِي أَحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ . ثُمّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مّن مّاءٍ مّهِينٍ . ثُمّ سَوّاهُ ونَفَخَ فِيهِ مِن رّوحِهِ وجَعَلَ لَكُمُ(/5)
السّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ) ]السجدة:4-9[ وقال جل وعلا : (اللّهُ الَذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأَرْضَ وأَنزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ وسَخّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وسَخّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ . وسَخّرَ لَكُمُ الشّمْسَ والْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وسَخّرَ لَكُمُ اللّيْلَ والنّهَارَ . وآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وإن تَعُدّوا نِعْمَتَ اللّهِ لا تُحْصُوهَا إنّ الإنسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ) ]إبراهيم:32-34[ ، وهكذا فإن معصية هذا الرب العظيم الكبير المتعالي أمر عظيم ، ومخالفته فيما أوجب على عباده أمر كبير جداً .
حق الله على عباده أكبر من كل ما يأمرهم به :
ثم إن مما يجعل من مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى أمراً عظيماً وإثماً كبيراً هو أن حق الله على عباده أكبر مما يأمرهم به ، فإن الله هو خالق الخلق ، ومدبر شئونهم ، والمتفضل عليهم بنعمة الوجود أولاً ، ثم ما من نعمة إلا وهي منه سبحانه وتعالى ، فهو وحده الرازق لكل عباده وهو ربهم الذي يكلؤهم ويرعاهم ، ويربيهم برحمته ، وليس لهم رب سواه ، ولا إله غيره . ولو أمر عباده بما أمر فإن هذا حقه على عباده فإنه خالقهم وربهم ، ومنشئهم من العدم ، ومع ذلك فلا يكلف سبحانه وتعلى نفساً إلا وسعها ولا يأمر عباده إلا بما ينفعهم ، وإذا أمرهم فإنه يأمرهم وهو غني عنهم ، غير فقير لعبادتهم ، وعبادة العباد له هي من جملة الفضل الذي يتفضل به عليهم ؛ لأنها سبب لزكاتهم وطهارتهم وسبب لنيل مرضاته ورحمته وجائزته وهكذا تصبح معصية العاصي أمراً عظيماً وإثماً كبيراً ؛ لأنه مخالف للرب الإله الذي أحسن وأكرم ، وخلق ورزق ، وتحنن على عبده .
المفهوم الشمولي لمعنى الذنب :
وإذا عرف العبد ربه على الحقيقة ، وأنه خالقه ورازقه ، ومتولي شئونه ، ومن بيده نفعه وضره ، ومن يعلم علانيته وسره ، وحياته ومماته ، وأن العبد لا يستغنى عنه طرفة عين ، علم أن حق الله على عباده أن يطيعوه فلا يعصوه ، وأن يشكروه ولا يكفروه ، وأن يذكروه ولا ينسوه ، وأن يتقوه حق تقاته ، وكل تقصير في هذه الحقوق تقصير ومعصية ، فالغفلة ولو للحظة واحدة عن ذكر الله إثم ، وعدم القيام بشكر نعمة واحدة من نعم الله التي لا تحصى إثم ، ومعصية أمر الله في الكبير والصغير إثم .
وقد أمر الله عباده أن يتقوه حق تقاته ، أي كما ينبغي له ؛ إذ هو سبحانه وتعالى أهل لأن يُتّقَى ، فهو الرب الإله القائم على كل نفس بما كسبت ، قال تعالى : (ومَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ ومَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ ولا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ومَا يَعْزُبُ عَن رّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرّةٍ فِي الأَرْضِ ولا فِي السّمَاءِ ولا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ ولا أَكْبَرَ إلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ) ]يونس:61[ . وقد علم الله سبحانه وتعالى أن عباده لا يطيقون أن يقوموا بحقه وتقواه كما ينبغي له سبحانه وتعالى ، ففرض عليهم من ذلك ما يستطيعون ، فقال جل وعلا : (فَاتّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) ]التغابن:16[ فمن غفل عن ذكر الله الواجب المستطاع فهو آثِم ، كما قال صلى الله عليه وسلم : (ما من قوم جلسوا مجلساً ثم قاموا منه ولم يذكروا الله فيه إلا كان هذا المجلس عليهم تِرَةً يوم القيامة) أي حسرة وندامة .. ولا حسرة إلا في ترك واجب . ومن قصر في شكر نعمة عرفها فهو آثم ولو كان في شربة ماء شربها ، ولم يحمد الله عليها ، قال تعالى : (ثُمّ لَتُسْأَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ) ]التكاثر:8[ ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -لأبي بكر وعمر لما خرجا من بيوتهم بسبب الجوع ثم أضافهم أنصاري فقدم لهم عذقاً من تمر ورطب فأكلوا وقدم لهم ماءاً بارداً فشربوا : (إن هذا من النعيم ولتسألن عنه يوم القيامة). ومن عصى في صغير أو كبير فهو تحت الحساب والمؤاخذة إلا أن يغفر الله ذنبه ، إذا عُلم هذا عُلم معنى الذنب الذي يُنسب إلى الأنبياء والرسل فإنه ليس كبيرة بحال ، وليس تعمداً لمعصية الله ، وإنما قد يكون اختياراً لخلاف الأَوْلَى ، أو انقطاعاً - لحظة - عن الذكر الدائم ، أو قعوداً - لحظة -عن الشكر الدائم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه لَيُغَانُ على قلبي وإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من مائة مرة) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل حتى تتفطّر قدماه ، فإذا سئل في ذلك قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً) فمن عرف حق الله على عباده ، وعرف أن حقه يعظم كلما عظمت نعمته على العبد وعلم أن حق الله سبحانه على عبده أن يذكره فلا ينساه ، ويشكره فلا يكفره ، وأن يطيعه فلا يعصاه ، وأن يخافه ويتقيه كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه ؛ علم العبد عند ذلك ماذا تعني المعصية والذنب ؟ .(/6)
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان *
</TD
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. وبعد:
فقد كثر في الآونة الأخيرة استنكار الغلو والتحذير منه، وهذا أمر قد حذر منه الشرع المطهر، ولكن الشأن في تحديد مفهوم الغلو - فإن بعض هؤلاء المنكرين له يقعون فيه عن قصد أو عن غير قصد ومن ذلك:
أولاً : أنهم وقعوا فيه في شأن المرأة حيث يزعمون أنهم يطالبون بحقوقها، مع أنهم يدفعون بها إلى قيامها بما لا يليق بها من أعمال لا تتناسب مع خلقتها أو مع حشمتها وعفافها حيث ينادون بأن تسند إليها أعمال الرجال التي لا تناسب مع خلقتها وطبيعتها، أو تسند إليها أعمال تقتضي تخليها عن الآداب الشرعية التي تحفظ لها كرامتها كالمناداة بسفرها بدون محرم، والمناداة بخلعها للحجاب، والمناداة باختلاطها بالرجال، وحرمانها من حقها وبالمناداة بإلغاء قوامة الرجل عليها - ما هذه النداءات.
وزج بها فيما يعود عليها بالوبال عاجلاً أو آجلاً، فهل يفكر هؤلاء فيما يقولون ويربأون بأنفسهم من هذا التناقض، أو هم يحسبون أن الناس لا يعقلون، ولا يدركون تناقضهم ويحاسبونهم على غلوهم وإفراطهم، إن الله رفع المرأة من ظلم الجاهلية لها ومن تسيبات الغرب العصرية.
ثانياً : غلوهم في التسامح - فهم دائماً ينادون بالتسامح والتيسير، ونقول لهم نعم: إن ديننا هو الشريعة السمحة، وقد رفع الله به الاصار والأغلال التي كانت على من قبلنا، لكن هؤلاء يريدون بالتسامح ترك الأوامر وارتكاب المناهي وعدم التمييز بين مسلم وكافر، وعدو لله وولي لله، وهذا غلو في التسامح وجنوح به إلى غير مفهومه الصحيح - ولأن التسامح معناه الأخذ بالرخص الشرعية عند الاحتياج إليها والاقتصار على حدود الرخصة، والأخذ بها وقت الحاجة بشروطها الشرعية مع عدم التوسع في مفهومها، وقد عرف الأصوليون الرخصة بأنها استباحة المحظور مع قيام سبب الحظر لمعارض راجح، بحيث إذا زال هذا العارض فإننا نرجع إلى العزيمة فمثلا قصر الصلاة خاص بالسفر وأكل الميتة خاص بحالة الضرورة، وإذا انتهى السفر انتهى القصر ولزم إتمام الصلاة، وإذا زالت الضرورة عاد تحريم الميتة، وهكذا في جميع الرخص، فلا يجوز انتهاك أحكام الشريعة بذريعة التسامح وعدم التشدد كما يقولون.
ثالثاً : غلوهم فيما يسمونه التشدد والتطرف ولا شك أن الله نهى عن الغلو في الدين، وكذلك النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك، ولكن المراد بالغلو في كلام الله وكلام رسوله هو الزيادة عن الحد المشروع - وهؤلاء عندهم أن من تمسك بالدين واقتصر على الحد المشروع فإنه متشدد، وهذا غلو في ضابط التشدد، والتشدد المنهي عنه لا يرجع في تفسيره إلى أذواق الناس واعتباراتهم وإنما يرجع فيه إلى الكتاب والسنة، وفهم ذلك منها على الوجه الصحيح الذي فهمه سلف هذه الأمة وديننا دين الوسط الذي لا غلو فيه ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط. قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} وتحديد الغلو والتساهل حكم شرعي لا يعرفه إلا أهل العلم والبصيرة، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}، وإذا تولىهذا الأمر من لا يحسنه خرج عن حده،
(وكل شيء خرج عن حده فإنه ينقلب إلى ضده) فشأن المرأة لما تولى القول به غير ذوي الاختصاص خرجوا به عن حده، وضروا المرأة من حيث يظنون أنهم ينفعونها وخرجوا بها عن طورها الذي حددها الله لها، والاعتدال يعتبره الغلاة تساهلاً، ويعتبره المتساهلون غلواً نتيجة لجهل هؤلاء وهؤلاء، أو لاتباع أهوائهم، وصار كل منهما يرمي الآخر بالسوء.
رابعاً : غلوهم في منع التكفير حتى في حق من حكم الله ورسوله بكفره ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام المجمع عليها كدعاء الأموات والاستغاثة بالقبوريين ومن سب الله أو رسوله أو دين الاسلام، وهذا العمل منهم محادة لله ولرسوله وتأييد للخروج من الدين، فالواجب على هؤلاء كف ألسنتهم وأقلامهم عن الكلام فيما لا يعرفون ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه وفق الله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
* عضو هيئة كبار العلماء
الجزيرة / الخميس 07 ,صفر 1426 العدد 11858(/1)
لا تهيِّئْ كفني
للشاعر: غازي عبد الرحمن القصيبي
لا تُهيِّئ كفني.. ما متُّ بعدُ! لم يزلْ في أضلعي برقٌ ورعدُ
أنا إسلامي.. أنا عزَّته أنا خيلُ الله نحو النصر تعدو
أنا تاريخي.. ألا تعرفهُ؟ خالدٌ ينبضُ في روحي وسعدُ
أنا صحرائي التي ما هُزِمتْ كلّما استشهدَ بندٌ ثار بندُ
قسماً ما قفز الخوف إلى قبضة الفارس.. ما اهتزَّ الفرندُ
ما دعانا الفتحُ إلا شمختْ هذه الصحراءُ، فالكثبان أُسْدُ
* * *
لا تهيِّئ كفني.. ما زال لي في صمودِ القِمم الشمّاءِ وعدُ
لا تغرّنّك منّي هدأتي لا يموتُ الثأرُ لكن يستعدُّ
لا يغرَّنّك نصلٌ موغلٌ في عروقي.. فأنا منه أحدُّ
لا يغرَّنّك عبدٌ مرجفٌ بانتهائي.. لا يُخيفُ الحُرَّ عبدُ
لا تهيّئْ كفني.. يا سيّدي لي مع الثأر مواثيقٌ وعَهدُ
أومأتْ لي عزّةٌ مجروحةٌ ودعتني من خيام الأسر هِندُ
وبدا لي مسجدٌ مكتئبٌ دنَّستهُ بوحولِ البَغي رُبْدُ
ذكرَ الإسراءَ فاهتزَّ أسى ولإسرائيلَ في المحرابِ جندُ
أيها المسجد يا مسرى الهُدى إنّ وعدَ الله حقٌّ لا يُصَدُّ
الصليبيون أمسِ ارتحلوا وغداً يمضي الصليبُ المستجدُّ
* * *
قلْ لمن طار به الوهمُ اتئدْ ! ليس للظامئ في الأوهام وردُ
أيَّ سلم ترتجي من رجل يدهُ بالخنجر الدامي تُمدُّ
أيَّ سلمٍ ترتجي من رجل ضجَّ في أعماقه الحقدُ الألدُّ
دير ياسين على راحته لعنةٌ تتبعهُ أيّانَ يغدو
سترى إذ تنجلي عنك الرؤى إنّه للحربِ لا السّلمِ يُعِدُّ
إنَّ ما ضُيّعَ في ساحِ الوغى في سوى ساحتها لا يُستردُّ(/1)
لا تيأس فالنصر قادم
دلائل القرآن والسنة والمبشرات فيهما تقطع بنصر الإسلام على أعدائه وهيمنته على الأرض، فالنصر للإسلام لأنه منهج رباني، وكثير من المبشرات لم تتحقق بعد، ويقيننا بصدقها يبشر بأن النصر قادم، وقد ركب أعداء الإسلام سبيل الأمم الهالكة وبذلوا من أسباب الهلاك ما يبشر بقرب هلاكهم فالسنن الربانية مضطردة ... وهذا ما سيعرض له درسنا .
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،،،
بشارات عظيمة لهذا الدين والمستقبل للإسلام، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ...] رواه أحمد في المسند وابنه عبد الله في زوائده . إنه حديث عظيم في وسط اليأس والإحباط الذي يشعر به الكثيرون اليوم من تكالب الأعداء وضعف المسلمين ولكن الله رحيم بعباده والفرج آت لاريب : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[5]إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[6] } [سورة الشرح] .
إننا نعيش في وقت استثنائي فعلاً يجب علينا أن نفقهه ونفهمه، ولو تأملت منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى الآن؛ لوجدت أن أكثر الوقت الذي عاشته هذه الأمة كان النصر لها وأن الوقت الذي كان المسلمون فيه في استضعاف- كمرحلة غزوة التتر، أو الحملات الصليبية، أو الوقت الحاضر الذي نعيش فيه- هو الأقل، وليس الأكثر في هذه الأمة، وإذا عرفنا النصوص الشرعية المتعلقة بأن القوة للمسلمين، وأن النصر لهم، وأن هذا هو الأصل؛ يجب أن نقتنع أن هذا هو الأصل، وأن ما نحن فيه الآن مرحلة استثنائية، عندما يشعر المسلم بهذا ويعتقد وضعه في الإنتاج لهذا الدين والعمل له؛ لأن أملاً ونوراً سيأتي ولابد.
ومن النصوص الشرعية الدالة على ذلك:
قول الله سبحانه وتعالى: { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ[8]هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[9] } [سورة الصف] .
إن وعد الله لا يتخلف، قال تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا...[55] } [سورة النور] .
لابد أن يرجع؛ لأن الله تعالى قال: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ[51] } [سورة غافر] .
والنصر للمسلمين ولابد منه؛ لأنهم المتقون، قال تعالى: { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[128] } [سورة الأعراف] .
والله عز وجل قد أهلك القرون من قبلنا من الكفار، وسيهلك هؤلاء ولابد: { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا[15]وَأَكِيدُ كَيْدًا[16]فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا[17] } [سورة الطارق] .
ويمكرون هؤلاء النصارى واليهود، وغيرهم اليوم من المجوس والهندوس: { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[30] } [سورة الأنفال] . هؤلاء ستباد قراهم ويزول ملكهم؛ لأن الله يقول: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا[8]فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا[9] } [سورة الطلاق] . كم مليون من الكفار قتل في الحرب العالمية الثانية خمسين مليون، وكم دمر من مدنهم، وكم سقط من دولهم كثير جدًا ما مضى زمن طويل عليها، والله قادر على تدميرها مرة أخرى، وإهلاك الملايين الكثيرة من هؤلاء الكفار، فقد أرانا الله عما قريب آيات بهم وسيرينا آيات بمشيئته سبحانه وتعالى.
هؤلاء ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله كما يحدث اليوم بوضوح شديد: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ[36] } [سورة الأنفال] .
وهذه البشائر النبوية تتوالى في أحاديثه الصحيحة صلى الله عليه وسلم:
يقسم على ذلك فيقول : [...وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ...] رواه البخاري.(/1)
وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن انتشار دينه في العالم فقال: [لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ] رواه أحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم : [ إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا...] رواه مسلم. ' زَوَى ' يعني : ضم وجمع، فإذا حدث أحد بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قارة استراليا وقارة أمريكا، فلا تكذبه؛ لأنه قال: : [ إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا]. أطلع عليها كلها صلى الله عليه وسلم، وأخبر بأن ملك أمته سيبلغ المشارق والمغارب وهذا لم يحدث بعد فلماذا لا نتعبد ربنا بالتصديق بوعده، ونتقرب إليه بالتصديق بوعده، وبوعد النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى .
وهو الذي بشرنا بفتح روما بعد فتح القسطنطينية، سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا- يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ-] رواه أحمد .
وهو الذي أخبرنا أنه سيكون بعده صلى الله عليه وسلم خلافة على منهاج النبوة ثم يكون ملك عاضاً ثم ملك جذرياً ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، وهذا لم يأت بعد .
ومن المبشرات العظيمة:أن الله لا يترك دينه بدون مجددين، وكلما خبا هذا الضوء وخفت؛ أعاده الله للوهج مرة أخرى بهؤلاء العظماء، الذين يحيون السنة، ويميتون البدعة، ويوقدون أنوار التوحيد ويطفئون نيران الشرك، قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا] رواه أبو داود. فيحيون ما اندرس ويرجعون الناس للعمل بالكتاب والسنة .
بل إن هناك طائفة منصورة لا يمكن أن يخلو منها الزمان قال صلى الله عليه وسلم : [ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ]رواه مسلم . فهذه الطائفة موجودة مستمرة وقد توجد في بعض الأرض دون بعض وفي بعض البلدان دون بعض ولكنها موجودة .
والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الأمة لا تخلو من الخير، قال صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ] رواه الترمذي، وأحمد.
قد يقول قائل: نحن الآن من أين لنا الفرج وقد طبق الأرض ظلم هؤلاء الكفرة وعم الفساد في البلاد والذل للعباد بما حصل من هذا الطغيان الذي نراه اليوم من أولئك الكفرة بأسلحتهم العظيمة وقدارتهم الاقتصادية الضخمة وأعدادهم الهائلة ؟
فنقول: إن الله على كل شيء قدير والله لا يخلف الميعاد، وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا بأن عيسى عليه السلام سينزل في آخر الزمان وقد قال الله : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ...[61] } [سورة الزخرف] . يعني: آية، فيكون قبل يوم القيامة نزول عيسى بن مريم ، والذي نفسي بيده يقول صلى الله عليه وسلم : [لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ] رواه البخاري ومسلم . ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، كل سكان الأرض مسلمون، فإذا قال لك إنسان: هل سيكون هناك سلام عالمي؟ فتقول : نعم، في عهد عيسى عليه السلام أما على أيدي هؤلاء الكفرة لا يوجد سلام .
فإذاً دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على أن النصر للإسلام، والمستقبل للمسلمين، وأن القوة ستأتي للمسلمين في النهاية، وأن الخلافة على منهاج السنة ستكون، وأن عيسى سينزل، والمهدي سيظهر، وأن اليهود سيهزمون، والنصارى سيهزمون وأن الإسلام سيطبق الأرض.. كل هذه حقائق لا يمكن الشك فيها .
ومن المبشرات: أن أعداءنا يرشحون هذا الدين للهيمنة والمفكرون منهم يظنونه فعلاً دين سيسيطر وهم يحسبون له ألف حساب، وأنهم يفكرون فعلاً بقلق شديد للمستقبل:
يقول بن غوريون اليهودي : إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العرب الإسلامي محمد جديد. طبعاً لن يخرج محمد جديد؛ لأن محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين لكن سيظهر مجددون وقادة.(/2)
وقال آخر: وجدنا أن الخطر الحقيقي علينا موجود في الإسلام وقدرته في التوسع والإخضاع وفي حيويته المدهشة .
وقال آخر: إن المسلم الذي نام نوم عميقاً مئات السنين قد استيقظ، وأخذ ينادي هذا أنا لم أمت أنا أعود للحياة لا لأكون أداة طيعة تسيرها العواصم الكبرى، ربما يعود اليوم الذي تصبح بلاد الفرنج مهددة بالمسلمين يهبطون إليها من السماء لغزو العالم مرة ثانية في الوقت المناسب، لست متنبئًا لكن الإمارات الدالة على هذا كثيرة، ولا تقوى الذرة ولا الصواريخ على وقفها .
وكذلك قال البرتغالي بلا زار: إن الخطر الحقيقي على حضارتنا هو الذي يمكن أن يحدثه المسلمون حينما يغيرون نظام العالم، فقال له أحدهم: لكن المسلمون مشغولون بخلافاتهم، و تنازعاتهم فأجابه أخشى أن يخرج منهم من يوجه خلافاتهم إلينا .
ويقول جب المستشرق: إن المسلمين لا ينقصهم إلا ظهور صلاح الدين من جديد .
ويقول أشعي: يكون من شيئا من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي من الإسلام لهذا الخوف أسباب، منها: أن الإسلام منذ ظهر في مكة لم يضعف عددياً - لفت نظره أن الإسلام أتباعه يزدادون باستمرار- . ثم قال : من أسباب الخوف أن هذا الدين من أركانه الجهاد .
إذاً أعداؤنا يعترفون بقوة ديننا، ويخشونه، ويحسبون له حسابًا، وعندهم دراسات كاملة تنبئهم بأن المسلمين سيأتون ولابد.
ومن المبشرات بأن المستقبل لنا والسفال لعدونا: إن هؤلاء الكفرة الذين يسيطرون الآن لا توجد مصيبة، ولا معصية، ولا كبيرة اقترفتها الأمم السابقة التي أهلكها الله إلا وقع فيها هؤلاء . والله عز وجل أهلك الأمم قبلنا؛ لأنهم أشركوا، وكفروا، وزنوا، وفعلوا الفواحش، وطففوا المكيال والميزان ...إلخ . { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ[25] } [سورة الزخرف] . هذه عادة الله في الأمم: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا[10] } [سورة محمد] . إذا لابد أن يقع على الجدد ما وقع على أسلافهم: { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ[43] } [سورة القمر] . إذا أهلكنا أولئك سنهلك هؤلاء . وحجارة قوم لوط، قال تعالى: { وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ[83] } [سورة هود] .
فإذًا: نتأمل الأقوام الذين أهلكهم الله: لماذا أهلكهم؟ ونقارن بهؤلاء الذين وجد اليوم من الكفار؛ لنستدل بإهلاك هؤلاء على إهلاك هؤلاء؛ لأنه إذا حصل السبب لابد من النتيجة فالله عز وجل أهلك الكفار من قديم لأنهم طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، ما فعله الجدد فعلوه:
اغتروا بأنفسهم: فعاد قالوا: من أشد منا قوة ، وهؤلاء قالوا: نحن أقوى من أي قوة في الأرض .
الله أهلك أقوامًا من قبل، قال فيهم: { أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ[165] } [سورة الشعراء] { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ [81] } [سورة الأعراف] واكتفى رجالهم برجالهم ونساؤهم بنسائهم، والآن الفاحشة وإتيان الذكران تنتشر بكثرة، حتى قننوا له القوانين، فإذا أهلك الله أولئك فسيهلك هؤلاء.
قوم شعيب أنكروا على نبيهم إنه يلزمهم في أشياء في الأموال { أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ [87] } [سورة هود] . نحن أحرار نتصرف في الأموال كما نشاء، وهؤلاء يورثون القطط والكلاب ويتركون أبنائهم . ويقولون حرية نفعل في أموالنا ما نشاء .
والله عز وجل قال عن بعض الأقدمين: { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ[128]وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ[129]وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ[130] } [سورة الشعراء] وهؤلاء يفعلون اليوم الشيء نفسه ويبطشون بجميع أنواع الأسلحة .
والله عز وجل قد أخبرنا عن قوم شعيب أنهم طففوا المكيال والميزان، وقال لهم نبيهم: { فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [85] } [سورة الأعراف] . وهؤلاء ينهبون ثروات الشعوب يأخذون الخامات بأبخس الأثمان ويعودون ويصنعونها ويبيعونها عليهم بأغلى الأثمان، ويدفنون النفايات في بلد هؤلاء الدول الفقيرة، ثم يضعون الهرمونات والكيماويات والأشياء الضارة في الأشياء اللي يسوقونها في العالم، تطفيف وبخس وإفساد في الأرض.
والله عز وجل قال للأقوام السابقين { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا [51] } [سورة الأعراف] .
{ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [60] } [سورة الأعراف]. وهؤلاء يصنعون اليورانيوم المخصب ليهلكوا الحرث والنسل، تفسد الزراعة، وتفسد الأجنة والأطفال، والناس تموت .(/3)
والله عز وجل قال عن بعض الأقدمين: { وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا...[86] } [سورة الأعراف] . وهؤلاء اليوم يفعلون الشيء نفسه.
وأولئك قوم لوط: { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ...[29] } [سورة الأعراف] . أماكن الاجتماعات يأتون فيها بالمنكر، وأهلكهم الله، وهؤلاء يفعلون اليوم المنكر على العلن وفي المجتمعات التي يجتمعون فيها ، بل عندهم نوادي للعراة .
فهؤلاء الآن أوتوا قوة وفرحوا بها، فبقي أن يحصل عليهم التسلسل التي حصل على أسلافهم: { حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[24] } [سورة يونس] . وقد يهلكهم الله بأن يسلط بعضها على بعض: { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [129] } [سورة الأنعام] . يسلط هذا الظالم على هذا الظالم، وقد يهلكم بعذاب من عنده، أو بأيدينا فتكون نهايتهم .
لنستعرض الآن ما وقع فيه هؤلاء القوم :
بعض المسلمين عندهم إحباط لأن الغرب قوي وسيطر وهيمن، فنقول: لنتأمل ما عند القوم من بعض المخازي والمعاصي والآثام والفواحش والكفريات حتى نعرف هل هم مستحقون لعذاب الله وهل عذاب الله قريب منهم أم لا؟ لأن هذا يبشرنا بأن الله سيهلكهم:
الدين عندهم: صليب يجتمعون حوله، وشعار يرتبطون به، ونزهة إلى الكنيسة، أما عقائد، منهج حياة؛ فلا يوجد، إنما شعارات وألحان وبخور، ويغطسون الأولاد في ماء وبركات القسيس، فالدين عندهم نشوة.
وأما ما يحدث لديهم من أنواع الفواحش فعجب:
استغلال الأطفال جنسياً من الصغر: فعل الفواحش معهم، تصوير الجنس مع الأطفال، والتجارة في ذلك.
الشذوذ الجنسي: في كل عشرة أمريكيين واحد لوطي أوسحاقية، الكنائس- خاصة في أمريكا- تقوم بتزويج الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، حتى أحبارهم ورهبانهم ما سلموا أربعين في المائة من رهبانهم يمارسون الشذوذ وثمانين في المئة منهم زناة كما قالت صحيفة الديلي ميل والديلي ميرور قريباً، واعترف الفاتيكان بوجود هذه الممارسات في أحبارهم ورهبانهم .
سبعون في المائة من الشعب الأمريكي يرون الشذوذ حقًا فرديًا لأي شخص، وما تورعوا حتى عن اتهام عيسى عليه السلام بهذه الفاحشة ونص أحد قساوستهم بإصدار كتاب أسماه المسيح شاذا جنسياً.
الفواحش مع الحيوانات: حتى الحيوانات والكلاب ما سلمت منهم: يمارسون الفواحش مع القردة والحمير والكلاب والخنازير. ويقولون إن ممارسة الجنس مع الأقارب شيء طبيعي، ما في قاذورة إلا ارتكبوها.
اللقطاء: أطفال بلا أسر، وأربعة من كل عشرة يعيشون رعبًا معرضون للقتل والسرقة والاغتصاب.
الجريمة: جريمة خطيرة ترتكب كل ثانيتين ونصف، حادث سرقة كل ثلاث ثوان، سطو كل عشر ثوان، جريمة عري كل سبعة عشر ثانية، سرقة سيارة كل سبعة وعشرين ثانية، اعتداء على أشخاص بدون أي سبب كل واحد وخمسين ثانية، اغتصاب كل سبع دقائق، جريمة قتل كل أربعة وعشرين دقيقة { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[112] } [سورة النحل] .
حضارة عري: خمسة وثلاثون في المائة من العوائل بأمريكا تمارس العري بالكامل داخل بيوتها، عندهم نوادي عراة، شواطئ عراة ، عري في الأفلام الجنسية، عري في الشوارع، عري في الأندية .
طفولة معذبة: يعذبهم في الدنيا، لما رأوا أن الأطفال يعذبون، صاروا يعلنون في التلفزيونات والمحطات رقم هاتف خاص إذا الطفل اضطهد يشتكي، أول اثنا عشر ساعة من فتح الخطوط من 30-50 ألف مكالمة أطفال يشتكون آبائهم، اعتداءات تشمل الضرب الجسمي والوحشي، وتعذيب بالآلات الحادة، وأطفال تطفئ السجائر في أجسامهم الرقيقة، وسجنهم في أماكن مظلمة، وربط الطفل في زاوية من البيت فترة ستة أشهر أو أكثر، إهمال صحي .
قتل النفس: حوادث الانتحار تشهد زيادة مستمرة خصوصاً عند المراهقين من سن عشرة إلى سن عشرين تضاعفت ثلاث مرات في الفترة الأخيرة عما كانت عليه بسبب الاكتئاب، الانهيار العصبي، الجنون . ولذلك تكثر في مؤلفاتهم حتى أدبهم وكتاب الصحف والكتب مفردات كثيرة في المقالات دائماً موجودة: اليأس، القلق، الأسى، الألم، الصدمة، الملل، العبث، التمرد، التمزق، المأساة، الشقاء، لا تكاد تخلو كتبهم من هذا .
لوثوا الطبيعة، وجعلوا الحياة جنساً، وحشيشاً، وجريمة: معدلات الاكتئاب عندهم أعداد عظيمة، ثم يريدون الهروب بالمخدرات، وبالخمور: 95 مليون مدمنين في أمريكا، والزيادة مستمرة .(/4)
850 ألف مصابين بالإيدز يزيد عددهم 140 ألف سنوياً هذا في أمريكا فقط، وفي دراسة عملت في جامعة واشنطن عام 1999م تبين أن أكثر من 15 مليون أمريكي يؤثر عليه الاكتئاب سنوياً، 10مليون منهم نساء . فتصور إذا ماذا جلب لهم هذا الواقع من العري والاختلاط هذا ما يريدون أن نصل إليه نحن من وراء تحرير المرأة .
تفكك أسري : من المعيشة الضنك انخفضت نسبة الأسر التي يعيش فيها الأب والأم معاً في الولايات المتحدة في الخمس سنوات الماضية فقط 25% .
نتيجة لانعدام الإيمان بالقضاء والقدر والقلق الدائم من الفقر والمصائب انتشرت عندهم شركات التأمين .
الربا والطبقية: الغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرًا والربا يعمل في الناس، والطبقية تحصل، و70 مليون فقير جائع في واحد من بلدانهم .
حماية الشذوذ بالقانون :لا تسمح قوانينهم بتعدد الزوجات لكن العلاقات الجنسية حدث ولا حرج في كل ما هب ودب . ويسمحون بهذه الحرية في الشواذ والزناة .
المخدرات: 70 ألف مليون دولار مبيعات الحشيش في أمريكا عام 1997م و7500 مليون دولار ميزانية الأجهزة المخصصة لمكافحة المخدرات والرعب ينتشر .
الاختلاط والاغتصاب : قضية تحرير المرأة عندهم والاختلاط نتيجتها أن 50% من المغتصبات من النساء أغتصبهن معارف وأقارب، يعني ما هو في الشوارع جرائم مفاجأة هذه 4% فقط من حالة اغتصاب، لكن الاختلاط وصديق وصديقة هذه هي النتيجة والعري يتبع إثارة الشهوات والغرائز ثم العنف في كل مكان .
سوء توزيع الثروات:10% من السكان يمتلكون 90% من الثروة وبعد ذلك يسيطرون على 40% من ثروات العالم مصارف ربوية تسيطر على حياة المواطن عندهم وتطوقه بالديون منذ بداية إنتاجه المسكين يشتغل طول عمره ليسدد الفوائد الربوية وتعيش الأسر الأمريكية تحت هاجس الخوف من عدم القدرة على تسديد فواتير البنوك .
تفاهة في الأهداف والغايات: مجتمع تفاهة وسخافة، ممكن ينهي حياته لأتفه الأسباب: أم بريطانية عمرها 34 سنة أقدمت على الانتحار لأنها عجزت عن وجود دواء يمنع تساقط شعرها ! واحد عمره 55 سنة لأن بينه وبين حماته مشكلة قضى على العائلة ومن بينهم حماته، ثم قتل نفسه ! واحد قذف طفله من الدور التاسع عشر لأن المحكمة قضت أن الطفل للأم .
إلف الفضيحة واعتيادها: الفضيحة صارت عندهم شيئًا عاديًا: ثلث طالبات الثانوية في بريطانيا يتزوجن وهن حاملات .
أميّة ثقافية عند معظمهم: زادت نسبة الجهل، و يعملون أسئلة للشعب عن بدهيات في الرياضيات في الفلك إلى آخره اكتشفوا أن هناك أمية في مستوى الثقافة عند قطاعات عريضة منهم يعني حتى مستوى التحصيل العلمي انحدر .
قضية النظافة الشخصية: أناس قذرون: واحد يلبس ثيابه على البول والبراز ويلبس ويمشي يعني يقضي حاجته ويلبس ثيابه ويمشي، حتى طريقة قضاء الحاجة لا يعرفونها .
هل هؤلأ يستحقون قيادة البشرية ؟
لا ننكر أن عندهم تطورًا وتقدمًا: عندهم إدارة واقتصاد، وآلات وتكنولوجيا، عندهم بعض المقومات الدنيوية التي لا زالت تمسك أنظمتهم من التلاشي، ولكنهم في الحقيقة أناس غضب الله عليهم،
فإذا عرفنا خلال هذا العرض أن البشارة هي: أن المستقبل لهذا الدين، وأن المسلمين هم الأجدر بقيادة البشرية، وأن عندنا نظامًا إسلاميًا ومنهجًا ربانيًا، وشريعة سماوية، وقرآنًا ناسخًا لكل ما قبله، ومهينًا عليه، وأن عندنا من قضاء الحاجة إلى أكبر شيء توحيد الله والإيمان به كله مفصل معلوم في هذا الدين العظيم؛ لكن النصر لا يأتي بدون بذل أسباب، فلابد أن نعلي شأن ديننا، وأن تعمل بجد في الدعوة إليه، ممكن أن تأتينا فتن.. ممكن أن يعم ظلم شديد.. ممكن أن يحدث من هؤلاء هيمنة عظيمة، لكن في النهاية سيأتي فجر النصر ولا بد، نسأل الله سبحانه أن يعجل نصر المسلمين، وأن يرزقنا العمل لدينه القويم، وأن يجعلنا من جنوده وحزبه المفلحين، وصلى الله على نبينا محمد.
من محاضرة:'لا تيأس فالنصر قادم' للشيخ/ محمد صالح المنجد(/5)
لا تيأس
نعيش اليوم ثلاثة مشاهد ، نستلهم منها درسا ، ونقطف منها عبرة ، ونغرس بها يقينا ، ونقوي بها عزما .
أما المشهد الأول : فإن عامر بن ربيعة رضي الله عنه ، أحد السابقين في الإسلام ، كان يستعد للهجرة إلى الحبشة ، فذهب ليقضي بعض حاجات أهله ، وترك زوجه تنهي بعضها ، فأقبل عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حتى وقف عليها وهو على شركه ، قالت : وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا . قالت : فقال : إنه الانطلاق يا أم عبدالله . قالت : فقلت : نعم والله ، لنخرجن في أرض الله ، آذيتمونا وقهرتمونا . حتى يجعل الله فرجا . قالت : فقال : صحبكم الله . ورأيت له رقة لم أكن أراها ، ثم انصرف . وقد أحزنه فيما أرى خروجنا . قالت : فجاء عامر بحاجته تلك ، فقلت له : يا أبا عبدالله لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا . قال : أطمعت في إسلامه ؟ قالت : قلت : نعم . قال : فلا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب . قالت : يأسا منه ، لما كان يرى من غلظته وقسوته عن الإسلام .
لقد يأس الصحابي السابق في إسلامه ، المهاجر فرارا بدينه ، من أن يفتنه قومه ، يأس من إسلام عمر ، فقد كان عمر شديد البطش بالمسلمين ، قاسيا غليظا . ولكن ما كان ميئوسا منه وقع ، وأسلم عمر ، بل سبق اليائس منه في المنزلة ، والمكانة ، وغدا ثالث رجل في دولة الإسلام ، وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم الفاروق ، وكان إسلامه عزا للإسلام وأهله .
والعجيب ايها الإخوة الأحبة أن أكثر المسلمين لا يعرفون عامرا ، وليس فيهم من لا يعرف عمرا رضي الله عنهما .
لقد من الله تعالى على عمر بما لم يمن به على اليائس من إسلام عمر ، وتفضل على الميئوس منه بفضل عميم لم ينله اليائس ذلكم أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .
المشهد الثاني : رسول الله صلى الله عليه وسلم قادم من الطائف ، مجروح فؤاده ، منهكة قواه ، شارد ذهنه ، يائسا من خير ثقيف ، فقد مكث بينهم عشرة أيام يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، فقالوا : اخرج من بلادنا . وأغروا به سفهاءهم ، فتبعوه يسبونه ويصيحون به ، ورموه بالحجارة في عراقيبه ، حتى اختضب نعلاه بالدماء ، فلما رجع من الطائف بحاله تلك كئيبا ، محزونا ، كسير القلب ، قد أجهد أيما إجهاد ، ونال منه التعب كل منال . يقول صلى الله عليه وسلم عن نفسه : فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب – أي قرن المنازل – المعروف اليوم بالسيل الكبير . فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل ، فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك ، وقد يعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم . فناداني ملك الجبال ، فسلم علي ، ثم قال : يا محمد ، ذلك ، فما شئت ، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين . أي : لفعلت .
فيا لروعة المشهد ، فما بين هلاك مكة عن بكرة أبيها إلا أن يشاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنها لحظة الانتقام ، شفاء الغل ، سحق الكافرين ، والممتع في المشهد أن الدليل ناصع البيان ، صحيح صريح ، لا تأويل فيه ، ولا احتمال ، بأمر ربه يهلكهم ، بإشارة منه يعلمون أن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير . وما هو بملوم ، من ذا يستطيع أن يلومه ؟ لقد كذبوه ، وآذوه ، وقتلوا أصحابه ، وفتنوهم في دينهم ، وعذبوهم ، واضطروهم للهجرة مرتين ، ولا يزالون حجر عثرة في طريق الدعوة ، ونشر دين الله تعالى . ثم إن الذي يأذن له رب السماوات والأرض ، فوالله لو انتقم لنفسه ، وانتصر لأتباعه فما هو بملوم . ولكنه اختار أروع ، وأفضل ، وأسمى من الانتقام ، وأجل وأعظم من حظ النفس ، وراحتها ، وهناها ، فقال للملك : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا .
إنها شيمة العظماء ، وتصرف الكرماء ، وقمة الإباء ، ولا يحتملها إلا الأنبياء ، وأتباعهم من أكابر العلماء ، وصفوة الأتقياء .
نهض صلى الله عليه وسلم من الوقوع في عذاب النفس نشطا قويا ، ناظرا بفراسة التقي إلى المستقبل ، إلى البناء ، إلى الإسلام دينا قيما ، راية باسقة في علوها ، جامعة بين دنو الأرض ، وارتفاع السماء .(/1)
أيها المسلمون : فلننتقل سويا على المشهد الثالث : لنرى الحبيب بأبي هو وأمي صلوات ربي وسلامه عليه ، لنراه وقد احتدم القتال حوله ، في أحد ، وبدء المشركون يطوقونه يريدون الفتك به ، ولم يكن معه إلا تسعة من أصحابه ، فالتحموا مع المشركين في قتال عنيف ، ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني ، والبطولة والبسالة والفداء . فإنه لما أفرد صلى الله عليه وسلم ورهقه المشركون ، قال : من يردهم عنا وله الجنة ؟ أو هو رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ، وهكذا ، حتى قتل سبعة من الأنصار ، فقال صلى الله عليه وسلم : ما أنصفنا أصحابنا . وبقي عليه الصلاة في القرشيين من أصحابه ، هما طلحة وسعد ، فكانت فرصة لا تعوض للمشركين في النيل منه ، وطمعوا في القضاء عليه ، فرماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة ، فوقع صلى الله عليه وسلم لشقه . وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى ، وكلمت شفته السفلى . وتقدم إليه عبدالله بن شهاب الزهري فشجه في جبهته ، وجاء فاؤس عنيد يقال له عبدالله بن قمئة ، فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة ، ظل صلى الله عليه وسلم يشكو منها أكثر من شهر . ثم ضرب وجنته ضربة أخرى عنيفة كالأولى ، حتى دخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته ، وقال : خذها وأنا ابن قمئة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يمسح الدم عن وجهه : أقمأك الله .
وفي الصحيحين : فجعل يسلت الدم عنه ويقول : كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم ، وكسروا رباعيته ، وهو يدعوهم إلى الله
. وعند الطبراني أنه قال : اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه رسوله .
فيا أيها المسلمون : هل ترون مقالته إلا حقا أبلج ، نعم كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم ، وكسروا رباعيته ، وهو يدعوهم إلى الله ، وما أشد غضب الله على من أدمى وجه رسوله . فإذا كنا بعد أربعة عشر قرنا وربع القرن نكاد نتميز من الغيظ على ابن قمئة وأصحابه ، فكيف يلام صاحب البلاء نفسه ؟ أو من قد حضر معه الواقعة ، وعاش معه ذلك المشهد رأي العين ؟ ولكن هي لحظة ، ما لبث أن استدركها صلى الله عليه وسلم ، كأنه يعاتب نفسه مع ما فيه من آلام وجراح ، وما يعلمه من الحق الذي معه ، والباطل الذي يتمسك به قومه . فمكث ساعة ثم قال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون .
وأنزل المولى تبارك وتعالى قوله : ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون .
إخوة الدين والعقيدة : من هذه المشاهد الثلاث ، نستلهم درسا مهما ، ما أحوجنا إليه في أيامنا هذه ، ولو عقل الدرس بعض القوم لما انتهكت أعراض المسلمين ، وسفكت دماؤهم ، وجروا إلى مواجهة يعلم الكل أنهم فيها هم الخاسرون .
نعم أيها الأحبة : إن أهم ما نقطف من ثمار هذه المشاهد أن لا نيأس ، لا نيأس من رحمة الله ، ولا من نصر الله ، ولا من هداية الله لأي كان .
فعمر أسلم ، وقد ظن عامر أن يسلم الحمار دونه ، وأمهل النبي صلى الله عليه وسلم قومه ، مع كل ما كان يواجهه من ظلم وعنت ، يرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا ، فأمهل أبا جهل ، وأمية ، والوليد بن المغيرة . ودعا لقومه بالهداية في أحد ، وهم الذين أدموا وجهه ، وكسروا رباعيته ، فقال : رب اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، كما في الشفاء للقاضي عياض . فهدى الله من شاء منهم ، وتاب عليهم ، فآمن به واتبعه ، أبناء أولئك الصناديد ، رؤوس الكفر وقادة حزب الشيطان ، نعم ، لقد آمن به واتبعه قائد فرسان المشركين في أحد خالد بن الوليد بن المغيرة ، بل صار سيفا من سيوف الله مسلولا على أهل الكفر والزيغ والعناد . وآمن به صفوان ابن أمية بن خلف ، وآمن به عكرمة بن أبي جهل ، وما كان بين تلك المشاهد إلا بضع سنين بين كل مشهد ومشهد .
أيها المسلمون : هل نستطيع صبر أنفسنا عن شهوة الانتقام ، والانتصار ، والعلو ؟ هل نستطيع كبح جماحها حتى مع وجود الدليل حتى لا تطغى ، أو تحيد أو تميل ؟ ولتنظر في عواقب الأمور ، وتسبر غورها قبل أن تقدم على أي فعل قد ينتج نصرا ، وقهرا ، وعزا في وقته ، ولكنه يزداد من ذلك كله في حال الصبر والتحمل ، والفأل !
ألسنا نميل غالبا إلى أن لا نعطي الدنية في ديننا ؟ وهذا حق ، ولكن قد يكون أحق من هذا الحق ما تثمره شجرة الصبر والتأني والحكمة .
إن اليأس من هداية الناس ، أو إصلاحهم محطم للعزائم ، موهن للهمم ، دافع من تملكه ذلك اليأس إلى قتل نفسه ، وقتل من يظن أنه لا يؤمنون ، وأنهم لا يهتدون . وفي الحديث : من قال هلك الناس فهو أهلكُهم ، أو أهلكَهم ... وكلا المعنيين صحيح .
ولهذا فإن من الواجب علينا أن نتواصى بالحق ، وأن نتواصى بالصبر ، مع الإيمان والعمل الصالح ، ولننظر بعين العطف على الضالين ، ولنغطهم بجناح اللطف والحرص على هدايتهم ، وردهم إلى الله ، ولنسأل الله الثبات على الحق .(/2)
وليعلم كل منا أنه ليس وصيا على الناس ، فقد قيل للحبيب صلى الله عليه وسلم : ليس لك من الأمر شيء . وقيل له : وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل . وقيل له : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين . إن عليك إلا البلاغ .
فما علينا إذا ؟ إن علينا أن ندعو ، وأن نجاهد في دعوتنا ، ونصبر عليها ، ونبذل قصارى الجهد في التبيان ، والدلالة ، والمحاورة ، والوعظ بالحسنى . ونسأل الله لكل ضال أن يهديه ، ويشرح صدره ، ويجنبه طريق الضلال ، وينقذه من النار .
فكما هدى الله عمر رضي الله عنه ، فغدى من تعرفون ، بعد أن كان قاسيا غليظا على المسلمين ، لقوا منه أشد ما يكون من البلاء والشدة ، فعسى أن يهدي فلانا العلماني ، أو فلانا المحارب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم .
وكما أخرج الله من أصلاب الصناديد المعاندين لدينه ، المحاربين له ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، فعسى أن يخرج من أصلاب من نظنهم أشبه القوم بهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا . ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة ، كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا .
أيها المسلمون : أخرج الإمام أحمد وغيره ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين ، فكان أحدهما يذنب ، والآخر مجتهد في العبادة ، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول : أقصر ، فوجده يوما على ذنب فقال له : أقصر ، فقال : خلني وربي ، أبعثت علي رقيبا ؟ فقال : والله لا يغفر الله لك ، أو لا يدخلك الله الجنة . فقبض أرواحهما ، فاجتمعا عند رب العالمين ، فقال لهذا المجتهد : أكنت بي عالما ؟ أو كنت على ما في يدي قادرا ؟ وقال للمذنب : اذهب فادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : اذهبوا به إلى النار " قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته .
وقف أيها الحبيب عند هذا الحديث ناظرا متأملا ، فقد غفر للمذنب ، وأدخل الجنة بعمل المتقي وصنعه ، وما فعل الناصح ما فعل إلا غيرة على محارم الله ، ونصحا لله ولدينه .
ألا فلنتق الله في أنفسنا ، وفي أبنائنا ، ولنعلمها ونعلمهم أن للغيرة على الدين والنصح لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ضوابط ، وقواعد وشروطا ، يجب أن تراعى حتى لا يضيع الجهد ، وتفشل المسيرة ، وقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم أغير من سعد ، والله أغير منهما ، ولكن في مسألة العرض والزنا لا بد من اتباع شرع الله لا العواطف والشيم المجردة منها .
فالحماس والعاطفة والغيرة والنصح والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد كل ذلك دين ، وواجب في الدين الاتباع ، والأخذ من مشكاة النبوة على فهم السلف وإلا كان من المتحمس الآمر الناهي المجاهد كان منه الزلل والزيغ ، وكان الإفساد قرين إزالة الفساد ، وهذا يحتاج إلى الأمل مع العمل ، والرجاء فيما عند الله تعالى ، وديننا دين عملي واقعي ، لا ييأس أبدا ، ففيه عن رسول الهدى أمر بأن لو قامت ، تأمل لو قامت الساعة وفي يد أحدنا فسيلة ، فإن استطاع أن يغرسها قبل أن تقوم فليغرسها . لا تسأل متى ستنبت ؟ متى ستثمر ؟ من يسقيها ؟ انتهى الوقت ، فقط افعل ، ودع أمر ما بقي إلى الله ، وإلى الله ترجع الأمور ، والله المستعان .(/3)
لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم
بقلم: عبد العزيز بن ناصر الجليل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
إن الله (عز وجل)، بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا، كتب النصر والغلبة لأهل الحق من أوليائه الصالحين والمصلحين، وكتب المهانة والذلة على أعدائه من الكافرين والمنافقين، وهذه سنة لا تتخلف إلا إذا تخلفت أسبابها، حيث يديل الله (سبحانه) أعداءه الكفرة على عباده المؤمنين، ويسلطهم عليهم ويظهرهم، فتظهر من ذلك الشرور والمصائب كما هو الحاصل في واقعنا المعاصر حيث الاستضعاف والذلة لجل المسلمين، والغلبة والقهر للكافرين، وما كان لسنة الله (سبحانه) أن تتبدل ولا أن تتحول، ((فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)) [فاطر: 43] ولكن أسباب تحقيق سنة الله (سبحانه) في نصر عباده المؤمنين قد تخلفت؛ فحقت علينا سنة الله (سبحانه) في التغيير ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) [الرعد: 11] وسنة الله (سبحانه) لا تحابي أحداً. ومع وضوح هذه السنة وجلائها من القرآن، وبمقتضى العقل والحس، إلا أننا نجد من هو في غفلة عنها وعن مقتضى أسمائه (سبحانه) وصفاته العلا؛ حيث أدت هذه الغفلة عند بعضنا إلى شيء من اليأس والإحباط، أو إلى شيء من العجلة والتسرع أمام ضغط الواقع، وتسلط الأعداء، وعند انتشار الظلم والفساد.
ولن يكون الكلام هنا عن تلك السنة، وإنما سينصب الاهتمام على سنة عظيمة تنبثق عنها السنة السابقة، والله (سبحانه) يبينها لنا من خلال أسمائه الحسنى وصفاته العلا، حيث إن الجهل بها أو الغفلة عنها بعد معرفتها يسهم أيضاً في مزيد من اليأس والقنوط، أو الجزع والتسخط، أو الاندفاع والعجلة والتهور، وهذه وقفات مع قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم)) [النور: 11].
هذه الآية توجيه رباني في إحسان الظن بالله (عز وجل)، والثقة بحكمته ورحمته، وأنه (سبحانه) لا يريد بعباده المؤمنين إلا الخير ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ)) [البقرة: 185] وهذا بدوره يبث الأمل في النفوس إزاء المصائب، ويبث الأمل في الأمة بأن المستقبل لهذا الدين مهما تسلط أعداؤه عليه، وكادوا له كيداً ((إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)) [الطارق: 15 17]، وهو ضروري كذلك لإدراك أن رحمة الله (عز وجل) سبقت غضبه في كل ما يقدره على عباده المؤمنين ((كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)) [الأنعام: 54] وما أجمل ما قاله الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) حول هذا المعنى، ومما ذكره: قد شهدت الفطر والعقول بأن للعالم ربّاً قادراً، حليماً، عليماً، رحيماً، كاملاً في ذاته وصفاته، لا يكون إلا مريداً للخير لعباده، مجرياً لهم على الشريعة والسنة الفاضلة العائدة باستصلاحهم، الموافقة لما ركب في عقولهم من استحسان الحسن، واستقباح القبيح (1).
وسيأتي ـ إن شاء الله ـ في ثنايا البحث من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والمواقف العملية التي تظهر لنا منها ثمار هذه السنة الكريمة، وبخاصة في واقعنا المعاصر المليء بالشبهات، والشهوات، والمتناقضات، والمكائد، والمؤامرات.. ما يزيد الموضوع بياناً.
أهمية الموضوع:
تتضح أهمية الموضوع في الأمور التالية:
أولاً: علاقة هذه السنة بالعقيدة قوة وضعفاً؛ فكلما قوي الإيمان بالله (سبحانه) في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته: كلما قوي الفهم لهذه السنة، وأثمرت في القلب ثمارها الطيبة. والإيمان بهذه السنة والاصطباغ بها هو مقتضى الرضا بالله ربّاً ومعبوداً، ومقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلا؛ حيث إن هذه السنة من ثمرات أسمائه (سبحانه) الحسنى، التي منها: الحكيم، والعليم، والكريم، واللطيف، والبر الرحيم.. وغيرها من الأسماء والصفات التي يجب التعبد لله (سبحانه) بها. كما يظهر الارتباط بين هذه السنة وبين التوحيد في: أثرها على صدق التوكل على الله (عز وجل)، وتفويض الأمور إليه، واليقين والثقة بوعده، وإحسان الظن به (جل وعلا)، وأنه (سبحانه) لا يريد بعباده المؤمنين إلا الخير والإصلاح، فمهما ظهر من الشرور والمصائب، فله (سبحانه) الحكمة البالغة((وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) [آل عمران: 66] وأما ارتباطها بالأصل الخامس من أصول الإيمان ـ ألا وهو الإيمان باليوم الآخر ـ فهذا واضح؛ لأن اليقين باليوم الآخر ورجاء الأجر من الله (عز وجل) يقويان الارتباط بهذه السنة في أن الآخرة خير وأبقى، مهما فات من هذه الدنيا. وأما علاقتها بالأصل السادس من أصول الإيمان ـ وهو الإيمان بالقدر خيره وشره ـ فهذا ظاهر لا يحتاج إلى تعليق.(/1)
ثانياً: ما نراه اليوم في واقعنا المعاصر من الضغوط الشديدة والحرب الشرسة من أعداء هذا الدين من اليهود والنصارى والمنافقين والمفسدين، وما يكيدون به لهذا الدين وأهله من المكر والتشويه والابتلاء؛ مما أدى ويؤدي إلى ظهور حالات اليأس والإحباط من تغير الحال، أو الشعور بالهزيمة النفسية والهوان والاستكانة، فكان لابد من التذكير بهذه السنة العظيمة التي تقوي اليقين بوعد الله (سبحانه)، والثقة بنصره، والاطمئنان إلى قضائه وتدبيره، وأنه (سبحانه) الحكيم العليم فيما يقضي ويقدر، ولابد أن يأتي الخير بعد الشر عندما يأذن الله (سبحانه) في ذلك وفق علمه الشامل، وحكمته البالغة، وسننه التي لا تتبدل ولا تتحول.
ثالثاً: الجهل الحاصل عند بعض المسلمين بسنن الله (سبحانه) في التغيير، أو التغافل عنها بعد معرفتها، لا سيما وأن في فهم قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم)) [النور: 11] خير معين لتفهم سنن الله (عز وجل) الأخرى: كما في قوله (تعالى): ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) [الرعد: 11] وفي هذه المعرفة فتح باب للمنهج الصحيح في الدعوة إلى الله (سبحانه)، كما أن فيها وقاية من التخبط والاضطراب في المنهاج والاجتهادات، كما أن في دراسة هذه السنة وربط الأحداث والوقائع بها أكبر ضمانة للعقل المسلم من أن يتأثر بالتصورات الجاهلية، والتفسيرات المادية للتاريخ والأحداث التي سيطرت اليوم على كثير من عقول المسلمين المتأثرين بوسائل الإعلام المادية وبالثقافات التي لا تؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، ولا بالقدر خيره وشره.
رابعاً: التنبيه إلى طلب الخِيَرة من الله (سبحانه) في كل الأمور، وتفويض الأمور إلى حسن تدبيره (عز وجل) واختياره؛ لأنه (سبحانه) يعلم ولا نعلم، ويقدر ولا نقدر، وهو علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما سيكون، ويعلم أين يكون الخير، وأين يكمن الشر؛ ولذلك جاء التوجيه إلى دعاء الاستخارة في الأمور كلها.
خامساً: كثرة المشاكل والمصائب في زماننا هذا، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، التي أدت إلى ظهور كثير من الأمراض النفسية المعقدة: كالقلق، والاكتئاب، والفصام.. وغيرها، حتى أصبحت سمة لواقعنا المعاصر، ومعرفة الله (سبحانه) بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته التي تزرع في القلب الاطمئنان والرضا، وتفويض الأمور إليه (سبحانه)، وحسن الظن به (عز وجل)، وأن اختيار الله لعبده أحسن من اختيار العبد لنفسه، ولو ظهر ما يكرهه العبد ويؤذيه: إن في تفهم قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم)) [النور: 11] أحسن علاج لهذه الأمراض وغيرها.
سادساً: إن في هذه السنة وفهمها طريقاً موصلاً إلى الفقه بقاعدة الشرع العظيمة، التي بنيت عليها أحكام الشرع؛ ألا وهي: اليسر ورفع الحرج والمشقة، وأن الله (عز وجل) لا يريد بعباده إلا اليسر والرحمة، سواء أكان في أحكامه الكونية القدرية، أو الدينية الشرعية.
من ثمرات هذه السنة:
إن لتَفَهّم هذه السنة الكريمة وتذكرها دائماً أثراً كبيراً في القلب، يظهر جليّاً في المواقف، وبالذات في مواقف الشدة والبلاء؛ فكان لزاماً على المسلم، وبخاصة الداعية المجاهد، ألا يغفل عن هذه الثمرات المنبثقة من قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ))، وثمار الإيمان بهذه السنة واليقين بها كثيرة، أذكر منها ما يلي:
1- تحقيق العبودية لله (عز وجل) بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا:
إن الله (عز وجل) لم يعرفنا على أسمائه وصفاته لنحفظها ونعدها فقط، وإنما المقصود الأسنى من معرفة أسمائه (عز وجل) وصفاته: أن ندعوه بها، وأن نتعبد له (سبحانه) بها؛ قال الله (تعالى): ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف: 180]
إن في كل اسم من أسمائه (سبحانه) عبودية على العبد، يجب أن تظهر آثارها في القلب، وعلى الجوارح، وفي المواقف.
فمن الأسماء الحسنى التي يتعبد لله (عز وجل) بها من خلال معرفة هذه السنة: الحكيم، العليم، البر، الرحيم، الودود، اللطيف.. وغيرها. فعندما يؤمن العبد المسلم بهذه الأسماء فإنها تثمر الإيمان بحكمة الله (عز وجل) في كل أحكامه الكونية والشرعية، وتضفي على القلب الأنس، وإحسان الظن بالله (عز وجل)، والرضا بقضائه، وأنه بر رحيم، لا يريد بعباده إلا الخير والتيسير والرحمة، وأن من لطفه (سبحانه) أن يأتي بالخير لعبده المؤمن من حيث يظن أنه شر ومكروه، وهذا من معاني اسمه سبحانه (اللطيف).
يقول الشيخ السعدي (رحمه الله): (ومن معاني اللطيف: أنّه الذي يلطف بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر من حيث لا يحتسب، ويرقّيه إلى أعلى المراتب، بأسباب لا تكون من العبد على بال، حتى إنّه يذيقه المكاره، ليوصله إلى المحاب الجليلة، والمطالب النبيلة)(2).(/2)
إن اليقين بلطف الله (تعالى) ينفي الشعور باليأس والقنوط من مجيء فرج الله ونصره، وينشيء مكانه الأمل والثقة بوعد الله ونصره، كما أنه ينشيء في القلب الافتقار إلى الله (عز وجل) وتفويض الأمور إليه، وسؤاله (عز وجل) دائماً حُسْنَ العاقبة والاختيار.
وبقيت كلمة أخيرة في هذه الثمرة أنصح بها نفسي وإخواني طلاب العلم؛ وذلك بأن نحرص أشد الحرص ـ ونحن ندْرس أو نُدَرّس أبواب التوحيد المختلفة ـ على ألا نكتفي بالدراسة العلمية الذهنية المجردة فقط، وإنما نسعى جاهدين في ربطها بأعمال القلوب، وما تثمره فيها من أنواع العبوديات المختلفة التي يجب أن يظهر أثرها في المواقف والسلوك وجميع التصرفات، والله المستعان.
2- الصبر على البلايا والمصائب وقوة الاحتمال:
وهذه الثمرة لها علاقة بما قبلها؛ فعندما يعرف العبد ربه بأسمائه وصفاته ويتعبده بها، فإنها تثمر في القلب ثباتاً، ورباطة جأش، وصبراً أمام الابتلاءات والمصائب؛ فلا يضعف ولايخور وهو يعلم أن ربه الرحيم الحكيم، اللطيف الخبير، الودود الغفور: هو الذي قدرها عليه، وأنه لم يقدرها ليعذبه ويشقيه، ولكن ليرحمه ويرده إليه.. عند ذلك يفوض أمره إلى ربه، ويرضى بما يختار له مولاه (سبحانه)، ويعلم أنه هو الذي يمده بالقوة والعزيمة، والصبر وحسن العاقبة. إن هذا الشعور يملأ القلب قوة وصبراً واحتمالاً أمام الشدائد؛ لقوة الرجاء في الله (عز وجل)، واليقين بفرجه ونصره، واليقين بحسن العاقبة من الله (عز وجل) فيما أعده للصابرين؛ قال (تعالى):((إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كَمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)) [النساء: 104].
وإن مما يقوي الصبر على الشدائد يقين العبد أن ما أصابه إما أن يكون تكفيراً لذنوبه، أو سبباً لنعمة لا تنال إلا بذلك المكروه.
فإذا أيقن العبد المبتلى أن العاقبة الحميدة من النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة لا يوصل إليهما إلا على جسر التعب والمشقة: فإنه بذلك يقوى صبره، واحتماله، وبذله وتضحيته في سبيل الله (عز وجل)، مع تفقد النفس من الذنوب، وتنقية الصف من المنافقين، فذلك من أسباب النصر.
3- سعادة القلب وطمأنينته وسكينته:
عندما يعلم العبد المؤمن أن كل ما يقضيه الله (عز وجل) هو عين الحكمة والرحمة، والخير، سواء في العاجل أو الآجل، فإن هذه المعرفة تضفي على القلب شعوراً بالأنس والسعادة والطمأنينة والسكينة، مهما اشتدت المصائب، وتوالت المحن؛ وبذلك يسلم صاحب هذا القلب من تلك الأمراض والوساوس التي تفتك بكثير من الناس الذين حرموا مثل هذه المعرفة العظيمة بربهم، نعم سوف لا يخيم على نفسه ما يخيم على النفوس اليائسة، من الشعور بالقلق والاكتئاب وانكساف البال، تلك الأشياء التي تجر وراءها من مصائب الدنيا والدين ما لا يعلمه إلا الله (عز وجل). وسوف يريحه هذا الشعور من الأفكار المتعبة التي تنشأ من كثرة الاختيارات والترددات، التي هي منشأ القلق والهم والغم.
إن التسخط وعدم الرضى بما قضاه الله (عز وجل) باب إلى الهم، والغم، والحزن، وشتات القلب، وسوء الحال، والظن بالله ظن السوء، ولا يدفع ذلك كله إلا معرفة الرب (عز وجل) بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، والتعبد له (سبحانه) بها، والعمل بمقتضاها، والذي يولد في النفس الرضى بما يختاره الله (عز وجل)، وأنه أرحم بعبده من نفسه ((وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) [ آل عمران: 66].
4- سلامة القلب:
عندما يمتلئ القلب بتوحيد الله (عز وجل) ومعرفته (سبحانه) بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، ويمتلئ باليقين بوعده، والثقة بحكمته، وانتظار رحمته؛ فإن كل ذلك يضفي على القلب صفاءً ونوراً وطهارة تُسل بها من القلب أمراض كثيرة؛ فيصبح القلب بعدها سليماً صحيحاً، وينعم به صاحبه في الدنيا والآخرة؛ قال (تعالى) في وصف إمام الحنفاء (عليه الصلاة والسلام): ((إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)) [الصافات: 84] وقال (تعالى) حكاية لدعاء إبراهيم (عليه الصلاة والسلام): ((وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)) [الشعراء: 87 89].
ومن أهم مظاهر سلامة القلب التي تحصل بهذه المعرفة ما يلي:
أ- السلامة من أمراض الحقد والحسد والشحناء:
وذلك لأن الذي يوقن بحكمة الله (عز وجل) ورحمته في كل ما يقضيه من أقضية كونية وشرعية: يعلم علم اليقين أن لله (عز وجل) الحكمة البالغة في إعطاء من يشاء، ومنع من يشاء، وإعزاز من يشاء، وإذلال من يشاء. وهذا العلم لابد أن يثمر الرضى بما يقدره الله (عز وجل) ويقضيه على الناس؛ وبذلك تزول الشحناء والأحقاد المتولدة عن الحسد المتولد أصلاً من معارضة أقدار الله (عز وجل) والتسخط لها.
ب- السلامة من أمراض الخوف والطمع:(/3)
إن المؤمن الراضي بربه والموقن بحكمته وبره ولطفه لا تجده إلا قانعاً بما آتاه الله (عز وجل)، مطمئناً إلى اختيار الله (سبحانه) له؛ لأنه (عز وجل) أعلم بما يصلح للعبد من نفسه، وهذه الثمرة تقضي على هذا الداء الخطير (داء الطمع والحرص والتهالك على الدنيا وزينتها)؛ لأن القلب الراضي المفوض أمره إلى الله (عز وجل) قد امتلأ غنى وقناعة ومحبة وتوكلاً على الله (سبحانه)؛ فحري بقلب هذه صفته ألا يكون فيه محل لمحبة غير الله، وهذه الثمرة يتولد عنها ثمار طيبة، منها: عدم الأسى على ما فات، وعدم الفرح بما هو آت؛ قال (تعالى): ((مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَاًسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)) [الحديد: 22،23]، والعبد المؤمن لا يدري أين يكون الخير، أهو في الفائت أم الآتي؟ ولكن الله وحده هو الذي يعلم، وهو علام الغيوب.
كما أنها تثمر أيضاً: الزهد في الدنيا، والحذر منها، فكم فرح بالدنيا أناس فكانت سبب هلاكهم وشقوتهم؛ قال (تعالى): ((وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)) [الشورى: 27].
وكيف يسكن الخوف والهلع في قلب من اطمأن إلى حكم ربه، وأحسن الظن به، وفوض أموره إليه. إن الخوف والهلع سواءً أكان على الرزق أو الأجل لا يكونان إلا عند من لم يعرف ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أما لو عرف ربه (عز وجل)، وأنه رحيم ودود، وأنّه حكيم عليم، وأنه لطيف خبير.. معرفة حقيقية يتعبد لربه بها: فإن الاطمئنان والسكينة تعمران القلب، وتنفيان كل دواعي الخوف والوجل من المخاليق الضعفاء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً فضلاً عن أن يملكوا شيئاً من ذلك لغيرهم. ويبقى صاحب هذا القلب مطمئناً إلى حسن اختيار الله له، يستشرف رحمة ربه وخيره في كل ما يقضيه الله عليه؛ ولو ظهر في هذا المقضي من الشر والألم ما ظهر، فمن يدري؟! فلعل في طيات المحنة منحة ونعمة.
ج- السلامة من أمراض الكبر والخيلاء:
إن القلب لا يصدق عليه أن يوصف بكونه سليماً صحيحاً حتى ينضم إلى ما ذكر سابقاً سلامته من أمراض الكبر والفخر والخيلاء؛ فإن العبد المؤمن متى ما عرف ربه (عز وجل) وتعبد له بأسمائه وصفاته فإن المسكنة والمحبة لله (عز وجل) سوف تملأ القلب؛ وينتج عن ذلك: التواضع للحق وإيثاره، والتواضع للخلق، وعدم غمطهم وظلمهم، بل لا ترى مَن هذه صفته إلا محبّاً للخير والإحسان للناس، ولا تراه إلا محقراً لنفسه، منشغلاً بعيوبها عن عيوب الناس؛ لأنه يشهد حكمة الله (عز وجل) في ابتلائه لعبده بالخير والشر. ولأن أسباب الكبر والتعالي على الناس لا تخرج عن كونها اغتراراً بنعمة دينية أو دنيوية، وأنه إذا أيقن العبد المؤمن أن هذه النعم إنما أعطاها الله لعبده ليبلوه أيشكر أم يكفر؛ فإن الخوف على النفس من هذا الابتلاء سيشغله عن التعالي على الناس، أو الفخر عليهم، وكيف يكون ذلك وهو لا يدري أين يكمن الخير أو الشر؟! ولعل هذه النعمة التي يفتخر بها فتنة له ومتاع إلى حين، أو أن الذي يفخر عليه ممن هو دونه يكون في خير ورحمة مفتوحة من الله (عز وجل) عليه، والناس يحسبون أنه في ضيق وشر!.
5- محاسبة النفوس والانتباه إلى خطر المعاصي وشؤمها على الفرد والمجتمع:
إن من ثمار هذه السنة الكريمة أن ينتبه العبد المؤمن إلى نفسه ويحاسبها على تفريطها وذنوبها. وهذا بعض الخير الذي يجعله الله فيما يراه الناس شرّاً ومصيبة؛ حيث إن المصائب والشرور المقدرة على العبد المؤمن غالباً ما تكون تكفيراً للذنوب، وإيقاظاً له من الغفلة، ومجالاً لتطهير النفس من أدران المعاصي والسيئات. ومتى ما حصلت هذه الثمرة العظيمة في القلب فإن المصيبة والنقمة تصبح في حقيقة الأمر خيراً ونعمة لصاحبها؛ وصدق الله العظيم: ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)).
أما إذا حصل العكس من ذلك ـ والعياذ بالله ـ وذلك بأن كانت المصيبة سبباً في مزيد من الغفلة أو التسخط على أقدار الله (تعالى)؛ فإن المصيبة والحالة هذه لا تعتبر خيراً لمن وقعت عليه، لكنها قد تكون خيراً لغيره عندما يحصل الاتعاظ والعبرة بحال من وقعت له المصيبة.
6- التعرف على سنن الله (عز وجل) في التغيير، والسير على هداها:(/4)
إن إدراك معاني أسماء الله (عز وجل) وآثارها ومقتضياتها يفتح في قلب المؤمن منافذ عديدة على سننه (عز وجل) التي لا تتبدل ولا تتحول، وبخاصة إدراك آثار حكمة الله (عز وجل) ورحمته ولطفه وإحسانه، ولقد مرّ بنا كيف أن فقه قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)) يطبع في القلب شعوراً برحمة الله (عز وجل) وخيره وبره، وأن كل ما يقضيه (عز وجل) هو عين الخير والمصلحة والحكمة، وهذا الشعور يؤدي بدوره إلى فتح القلب والفكر على سنن الله (عز وجل) التي تنبثق من هذه المعرفة، وعندما تحصل هذه المعرفة لسنن الله (عز وجل) في التغيير: فإن الفكر البشري ينضبط ويستقيم ولا تتقاذفه الثقافات المادية ذات اليمين وذات الشمال، وبذلك يسلم من التفسيرات المادية للأحداث، والتي تربط كل المتغيرات بأسباب مادية بحتة؛ كتلك التي تربط النصر والهزيمة بأسباب مادية، أو تلك التي تفسر العقوبات الربانية كالزلازل والأعاصير بكونها ظواهر فلكية بحتة، متجاهلين قدر الله وحكمته.
كما أن هذه المعرفة تثمر أيضاً: معرفة الموازين المنضبطة الثابتة التي توزن بها الأمور والأحوال والأشياء، وحُقّ لها أن تكون بهذه المثابة؛ لأنها من عند الله (عز وجل) الحكيم، العليم، الرحيم، الودود، الذي يعلم ما كان وما سيكون، والذي له الكمال المطلق، وهو الغني الحميد. وهو (سبحانه) يقول الحق، ويقصّ على عبيده ـ رحمة منه وفضلاً ـ جانباً من أسرار سنته وقدره ليأخذ الناس حذرهم وليعتبروا ويتعظوا، وليدركوا الرحمة والخير والحكمة الكامنة وراء هذه السنن الربانية والموازين الإلهية، والتي بدورها تؤدي إلى معرفة المنهج الصحيح للتغيير، كما تؤدي إلى المنهج الصحيح لتقويم الأمور ووزنها بالميزان الحق.
ولقد مر بنا في الثمرات السابقة بعض السنن الربانية التي يهتدي إليها القلب العامر بمعرفة الله (عز وجل) وتوحيده، ولكن نخص هنا بعض السنن بشيء من التفصيل، وذلك فيما يلي:
أ- العاقبة للمتقين: إن وعد الله (عز وجل) لا يتخلف، وكلمته لا تتبدل، ولقد قال ـ وقوله الحق ـ: ((وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ (171) إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ (172) وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ)) [الصافات: 171- 173] هذا وعد الله (سبحانه)، ولو تأخر وأبطأ على عباده فإن من وراء ذلك التأخير حكمة وخير.
ب- ويتعلق بهذه السنة سنة أخرى في معناها، وهي قوله (تعالى): ((وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)) [النساء: 141] يقول ابن القيم (رحمه الله تعالى) في معنى الآية: (قيل: بالحجة والبرهان، فإن حجتهم داحضة عند ربهم، وقيل: هذا في الآخرة وأما في الدنيا فقد يتسلطون عليهم بالضرر لهم والأذى، وقيل: لا يجعل لهم عليهم سبيلاً مستقرة، بل وإن نصروا عليهم في وقت فإن الدائرة تكون عليهم، ويستقر النصر لأتباع الرسول.
وقيل: بل الآية على ظاهرها وعمومها، لا إشكال فيها ـ بحمد الله ـ؛ فإن الله (سبحانه) ضمن أن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، فحيث كانت لهم سبيلٌ ما عليهم فهم الذين جعلوها بتسببهم ترك بعض ما أقروا به، أو ارتكاب بعض ما نُهوا عنه؛ فهم جعلوا لهم السبيل عليهم بخروجهم عن طاعة الله ورسوله فيما أوجب تسلط عدوهم عليهم في هذه الثغرة التي أدخلوها، كما أخلى الصحابة يوم أُحد الثغرة التي أمرهم رسول الله بلزومها وحفظها؛ فوجد العدو منها طريقاً إليهم، فدخلوا منها)(3).
والحاصل مما سبق: أن معرفة السنة السابقة لا تفهم حق الفهم إلا بمعرفة الله (عز وجل) وتوحيده؛ فإنه (سبحانه) لا يريد بعباده إلا الخير والرحمة، ولو تسلط الأعداء في وقت ما فإن عاقبة هذا التسلط هي الخير والتمكين؛ وذلك أن المؤمنين عندما يتسلط عليهم أعداؤهم وينالونهم بالأذى يدركون من واقع قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)) أن ما أصابهم إنما هو بذنوبهم؛ فيكون الخير في تسلط الأعداء هو تغيير ما بالنفوس من خلل، وإحداث التوبة والاستغفار، وترك ما أوجب حلول المصيبة، وهذا خير في حد ذاته لم يكن ليظهر لو استمر النصر والتمكين مع وجود المعاصي، وضعف الإيمان؛ لأنه ـ والحالة هذه ـ يستمر الفساد بدون إصلاح.
وهذا هو معنى السنة الثابتة التي لا تتغير، ألا وهي قوله (تعالى):
ج- ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) [الرعد: 11].
ومثلها قوله (تعالى): ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [الأعراف: 96]. والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّاً.(/5)
د- قوله (تعالى): ((وَلا يَحْسَبَنَّ الَذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ)) [آل عمران: 178].
هذه الآية ترسم ميزاناً قويماً ثابتاً في أن إغداق النعم على العبد ليس علامة على كرامة الله له ومحبته إياه، ولا يدل على أنه في خير وسعادة، بل الغالب أن وراء الإملاء والنعم شرّاً وعذاباً، وفي هذا الميزان توجيه للناس إلى حقيقة الابتلاء بالخير والشر، وألا تكون موازينهم في السعادة والتعاسة هي النظر إلى كثرة النعم أو قلتها؛ فكم كان الرخاء سبباً للعذاب ـ دنياً وأخرى ـ، وكم من أناس صالحين حرموا في هذه الدنيا من نعمة المال والأولاد، ولكنهم في خير وسعادة ـ دنياً وأخرى ـ. وهذه المعاني العظيمة لا يمكن إدراكها إلا في ضوء التوحيد وأنواره، وصدق الله العظيم: ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم)) والآيات في هذا المعنى كثيرة جدّاً، أذكر منها قوله (تعالى): ((فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)) [التوبة: 55].
7- التؤدة والأناة وعدم الاستعجال:
وهذه هي الثمرة السابعة من ثمار قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)) فإذا كان العبد لا يعلم أين يكون الخير والشر فيما يقضيه الله (سبحانه) إلا في ضوء ما أعلمه الله (عز وجل) عباده من السنن والثواب، فإنه ـ والحالة هذه ـ لا ينبغي له أن يتعجل الأمور أو يحلل المواقف والأحداث قبل دراستها والبحث في جوانبها، متجرداً في ذلك لله (عز وجل)، مهتدياً بالموازين والسنن الثابتة التي ذكرها الله (سبحانه) في كتابه، وعلى لسان رسوله، وإذا وُفّق العبد إلى هذا الفضل: فإنه في الغالب يصدر عن الحق، وينطق بالحق، وتنشأ عنده صفتا (الحلم) و(الأناة) اللتان يحبهما الله (عز وجل).. وكم رأينا من أناس تعجلوا أمورهم قبل أوانها فكانت نتيجتها وبالاً وشرّاً، وكم سئم أناس من نعمة أنعم الله بها عليهم فتقالّوها وملّوها وأرادوا غيرها، فلما جاءهم ما أرادوه وتعجلوه أصابهم منه ضررٌ ونكدٌ وندمٌ.
ومن صور الاستعجال التي يمكن معالجتها بهذه السنة: ما نراه من تعجل بعض الطيبين من الغيورين على هذا الدين في قطف ثمرة جهدهم، وتعريض أنفسهم للابتلاء، وتمنيهم لمواجهة الأعداء... وينسون أو يغفلون عن قوله: (لا تمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا)(4). لأن المرء لا يدري ما تؤول إليه الحال عند مواجهة العدو، ومشاهدة الأهوال. وقد يتمنى العبد حالة معينة ويستعجلها بتصرفه الجاهل بعواقب الأمور، ولكن الله (عز وجل) برحمته يحول بينه وبين هذا الأمر لما يعلمه (سبحانه) من الشر والفتنة على عبده من هذا الأمر؛ فكم من أناس استعجلوا البلاء قبل أوانه، فلما أصبحوا تحت وطأته: ضعفوا وانتكسوا ـ والعياذ بالله ـ فحريّ بالمسلم أن يسأل ربه الدلالة على ما فيه الخير والصلاح، وعلى ما فيه مرضاته (عز وجل) ورحمته.
مما سبق يتبين لنا فضل التؤدة والأناة، وأنها من ثمرة العلم بالله (عز وجل) وتوحيده وأسمائه وصفاته، وأنه (عز وجل) يقدر الوقت المناسب لنصر أوليائه بعد أن يكونوا قد أخذوا بأسباب النصر وأعدوا عدته، وأنه (سبحانه) هو العليم الحكيم والبر الرحيم بعباده، فلا يؤخر عنهم شيئاً، ولا يقضي عليهم أمراً إلا وفيه الخير والرحمة، ولكن العبد القاصر والجاهل بعواقب الأمور يستعجل أمر ربه الرحيم.
وصدق الله العظيم في وصفه للإنسان: ((خُلِقَ الإنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ)) [الأنبياء: 37] فطبيعته العجل والتسرع، إلا مَن منّ الله عليه بتوحيده ومحبته والتسليم له، مع فعله للأسباب الممكنة، فإنه يسلم من الأفكار المتعبة، والاندفاعات المتهورة، لأنه يفقه قوله (تعالى): ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم)) وصدق الرسول: (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة)(5).
في هذا المبحث سأتعرض ـ إن شاء الله (تعالى) ـ لبعض المواقف من السيرة المطهرة وغيرها، والتي ظهرت فيها حكمة الله (عز وجل) ورحمته، وأن ما اختاره الله (عز وجل) لعباده خير مما اختاروه لأنفسهم.
من السيرة المطهرة:(/6)
الموقف الأول: غزوة بدر الكبرى: وهي أشهر من أن تذكر؛ فلقد كانت فرقاناً بين الحق والباطل، ولكن المراد من الاستشهاد بها هنا: هو ما ظهر في هذه الغزوة العظيمة من الفرق بين ما أراده المسلمون قبل الغزوة، وكراهيتهم للقاء عدوهم، ورغبتهم في أن تكون في العير، وبين ما اختاره الله لهم من أن تكون في النفير وفي ذات الشوكة؛ يقول الله (عز وجل): ((وَإذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ)) [الأنفال: 7، 8].
فأين الخير الذي علمه الله (عز وجل) وغاب عن المسلمين آنذاك فأرادوا غيره؟ إن الجواب في الآية نفسها؛ يعلق الأستاذ سيد قطب (رحمه الله تعالى) على هذه الآية فيقول: (لقد أراد الله ـ وله الفضل والمنة ـ أن تكون ملحمة لا غنيمة، وأن تكون موقعة بين الحق والباطل؛ ليحق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه، وأراد أن يقطع دابر الكافرين؛ فيُقتل منهم من يقتل، ويُؤسر منهم من يؤسر، وتذل كبرياؤهم، وتخضد شوكتهم، وتعلو راية الإسلام وتعلو معها كلمة الله، ويمكّن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله، وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض، وتحطيم طاغوت الطواغيت، وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق لا عن جزاف ـ تعالى الله عن الجزاف ـ وبالجهد والجهاد، وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال..
... وينظر الناظر اليوم، وبعد اليوم، ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها، بين ما حسبته خيراً لها وما قدره الله لها من الخير.. ينظر فيرى الآماد المتطاولة؛ ويعلم كم يخطئ الناس حين يتضررون مما يريده الله لهم، مما قد يعرضهم لبعض الخطر، أو يصيبهم بشيء من الأذى، بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال، ولا بخيال!.
فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها؟ لقد كانت تمضي ـ لو كانت لهم غير ذات الشوكة ـ قصة غنيمة، قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها! فأما بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة، قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل، قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح، المزودين بكل زاد، والحق في قلة من العدد وضعف في الزاد والراحلة)(6).
الموقف الثاني: غزوة أحد: وهذه الغزوة أيضاً من أشهر غزوات الرسول، ومن أشدها على المسلمين؛ حيث استشهد سبعون صحابيّاً، وشُجّ وجه النبي الكريم، ومع ذلك كان فيها خير للمسلمين ورحمة؛ يدل على ذلك قوله (تعالى): ((وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمََ المُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)) [آل عمران:166،167].
ولقد أحسن الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) في ذكره لبعض الحِكَم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد، أقتطف منها قوله:
1- فمنها: تعريفهم سوء عاقبة المعصية، والفشل، والتنازع، وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك؛ كما قال (تعالى): ((وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ)) [آل عمران: 152].
فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم وتنازعهم وفشلهم: كانوا بعد ذلك أشد حذراً ويقظة وتحرزاً من أسباب الخذلان.(/7)
2- ومنها: أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب؛ فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت: دخل معهم في الإسلام ـ ظاهراً ـ من ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حكمة الله (عز وجل) أن سبّب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وعاد تلويحهم تصريحاً، وانقسم الناس إلى كافر، ومؤمن، ومنافق، انقساماً ظاهراً، وعرف المؤمنون أن لهم عدواً في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم، وتحرزوا منهم؛ قال الله (تعالى): ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَلكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ)) [ال عمران: 179]. أي: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين، حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه، وهو (سبحانه) يريد أن يميزهم تمييزاً مشهوداً، فيقع معلومه الذي هو غيب شهادةً.
3- ومنها: استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء، وفيما يحبون وما يكرهون، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقّاً، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية.
4- ومنها: أنه (سبحانه) لو نصرهم دائماً؛ لطغت نفوسهم، وشمخت، وارتفعت؛ فلو بسط لهم النصر والظفر، لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق، فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء، والشدة والرخاء، والقبض والبسط.
5- ومنها: أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً وركوناً إلى العاجلة، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته: قيّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواءً لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه، ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه.
6- ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، وهو (سبحانه) يحب أن يتخذ من عباده شهداء تُراق دماؤهم في محبته ومرضاته، ويؤثرون رضاه ومحابه على أنفسهم. ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو.
7- ومنها: أن الله (سبحانه) إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم: بغيهم، وطغيانهم، ومبالغتهم في أذى أوليائه، ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم؛ فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم. وقد ذكر (سبحانه وتعالى) ذلك في قوله: ((وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ)) [ال عمران: 141](7).
مواقف من السلف:
1- الموقف الأول: محنة الإمام أحمد ابن حنبل (رحمه الله تعالى):
وما أظن أحداً من المسلمين يجهل المحنة التي تعرض لها أبو عبد الله أحمد بن حنبل (رحمه الله تعالى)؛ وذلك فيما يعرف بفتنة القول بخلق القرآن، وقد تعرض هذا الإمام الجليل لمحنة وبلاء عظيم؛ تلك المحنة كانت مؤذية له (رحمه الله)، ومؤذية للمسلمين معه، ولكن الله (عز وجل) ثبّته في هذه المحنة العظيمة، وحمى به عقيدة أهل السنة من الانحراف أو الاندثار، ولقد كانت هذه البليَّة لإمام السنة خيراً له فيما بعد؛ فما كان لينال هذا الخير لولا هذا الابتلاء وما من الله به عليه من الثبات والتضحية.
2- شيخ الإسلام ابن تيمية وسجنه:
وكذلك لا أظن أحداً من أهل العلم يجهل هذا الرجل العظيم، وما ضحى به في سبيل الله (عز وجل) بعلمه وجهاده وصبره وما لاقى في ذلك من السجن والإبعاد، ولكن كان في ذلك الابتلاء خير له ورفعة، كما يقول ذلك هو عن نفسه عندما ورد المرسوم السلطاني بسجنه في قلعة دمشق: (أنا كنت منتظراً ذلك، وهذا فيه خير عظيم)(8).
وقال: (لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة).
كما كان في الابتلاء الذي تعرض له خير للمسلمين في عصره وما تلاه من العصور؛ وذلك بانتشار دعوته وعلمه؛ يقول (رحمه الله): (ومن سنة الله: أنه إذا أراد إظهار دينه أقام من يعارضه، فيحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق...)(9).
احتراس وتنبيه:(/8)
وفي هذا المبحث أود التنبيه على قضية يُخشى أن تنشأ من خلال الحديث عن الرضا بقدر الله (عز وجل) وتفويض الأمور إليه؛ ألا وهي الانحراف بهذا الأمر إلى المفهوم الخاطئ لمسألة الرضا والتسليم لقضاء الله (عز وجل)، والذي قد يؤدي إلى التواكل، والعجز، والرضا بالفساد، والذلة، والمهانة، وترك الأخذ بالأسباب والدعوة والجهاد؛ فنكون قد عالجنا مرضاً وانفتح علينا مرض آخر. من أجل ذلك سأخص هذا المبحث بالحديث عن هذه القضية، وذلك احتراساً من الفهم الخاطئ الذي قد ينشأ لو لم يحصل هذا التنبيه، فأقول وبالله التوفيق:
إن من القواعد المهمة لمطالعة حوادث الزمان: الفهم الصحيح لعقيدة القضاء والقدر، والفهم الصحيح لمقتضى أسماء الله (عز وجل) الحسنى وصفاته العلا، والتوازن في هذا الفهم بين الغلو والجفاء، وهذا (والحمد لله) هو سمة معتقد أهل السنة والجماعة في جميع أبواب العقيدة، ومن ذلك: عقيدة القضاء والقدر، وتوحيد الأسماء والصفات. ولقد انحرف عن هذه القواعد طرفان من الناس: فمنهم من أنكر الاستدلال بالقضاء والقدر على حوادث الزمان، وتنقص المؤمنين به، ومنهم من فهم القضاء والقدر على أنه تواكل وخمول وخنوع مُذل، وكلا الموقفين منحرف ومجانب للصواب؛ فالإيمان بقضاء الله (عز وجل) وبعلمه وتقديره للأمور قبل وقوعها، ثم مشيئته، وخلقه لها، وأن له الحكمة البالغة في كل ما يقضيه ويقدره، وأن من وراء ذلك رحمته، وإرادة الخير واليسر لعباده.. كل ذلك مما يجب الإيمان به في باب القضاء والقدر، كما أنه مقتضى الإيمان بأسمائه (سبحانه) وصفاته، ولكن هذا الإيمان بهذه القواعد والحقائق لا يعني ترك الأسباب، والرضا بالذلة والهوان وانتشار الفساد، كلا، بل إن الفهم الصحيح للقضاء والقدر يكمن في التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله، والعمل بكل ما في الوسع والوقوف المطمئن عند حد الاستطاعة؛ وهذا يعني فعل الأسباب التي سخرها الله (سبحانه)، ومدافعة أقدار الله (عز وجل) بأقداره، ما دام أن هناك إمكاناً للمدافعة؛ قال (تعالى): ((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ)) [البقرة: 251] فإذا لم تُجدِ المدافعة، أو لم يكن ذلك في الإمكان: فالواجب: الصبر والاستسلام لقضاء الله (عز وجل)، واليقين بأن من وراء ذلك خيراً ومصلحة ورحمة، يجب أن يتجه الجهد إلى التماسها، وتسخيرها في مزيد من الخير والإصلاح، وتغيير الأحوال، ومحاسبة النفوس، وإزالة أسباب المصيبة، وبذل الجهد في دفعها؛ قال (تعالى): ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) [الرعد: 11].
ويوضح هذا المعنى الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) فيقول:
(ودفع القدر بالقدر نوعان:
أحدهما: دفع القدر الذي قد انعقدت أسبابه ـ ولمّا يقع ـ بأسباب أخرى من القدر تقابله، فيمتنع وقوعه، كدفع العدو بقتاله، ودفع الحر والبرد ونحوه.
الثاني: دفع القدر الذي قد وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله، كدفع قدر المرض بقدر التداوي، ودفع قدر الذنب بقدر التوبة، ودفع قدر الإساءة بقدر الإحسان، فهذا شأن العارفين وشأن الأقدار، لا الاستسلام لها، وترك الحركة والحيلة؛ فإنه عجز، والله (تعالى) يلوم على العجز. فإذا غُلب العبد، وضاقت به الحيل، ولم يبق مجال؛ فهنالك الاستسلام للقدر، والانطراح كالميت بين يدي الغاسل، يقلبه كيف يشاء)(10).
وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلّ خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا.. الحديث)(11)، ويشرح الإمام النووي الحديث، فيقول: (والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد، وأسرع خروجاً إليه، وذهاباً في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله (تعالى)، وأرغب في الصلاة، والصوم، والأذكار، وسائر العبادات، وأنشط طلباً لها، ومحافظة عليها ونحو ذلك.. وقوله-صلى الله عليه وسلم- (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) معناه: احرص على طاعة الله (تعالى)، والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله (تعالى) على ذلك، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة)(12).
ويتحدث الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) عن الفرق بين العجز والتوكل، فيقول:(/9)
(والفرق بين التوكل والعجز: أن التوكل عمل القلب وعبوديته: اعتماداً على الله، وثقة به، والتجاءً إليه، وتفويضاً إليه، ورضاً بما يقضيه له؛ لعلمه بكفايته (سبحانه)، وحسن اختياره لعبده إذا فوض إليه مع قيامه بالأسباب المأمور بها، واجتهاده في تحصيلها؛ فقد كان رسول الله أعظم المتوكلين، وكان يلبس لأَمَتَه ودرعه، بل ظاهر يوم أحد بين درعين، واختفى في الغار ثلاثاً؛ فكان متوكلاً في السبب لا على السبب.
وأما العجز: فهو تعطيل الأمرين أو أحدهما: فإما أن يعطل السبب عجزاً منه، ويزعم أن ذلك توكل! ولعمر الله إنه لعجز وتفريط، وإما أن يقوم بالسبب ناظراً إليه، معتمداً عليه، غافلاً عن المسبّب، معرضاً عنه، وإن خطر بباله لم يثبت معه ذلك الخاطر، ولم يعلق قلبه به تعلقاً تاماً، بحيث يكون قلبه مع الله، وبدنه مع السبب. فهذا توكله عجز، وعجزه توكل)(13).
ويقول الدكتور علي العلياني (وفقه الله تعالى) في حديثه عن أهل التصوف وانحرافهم في موضوع الجهاد في سبيل الله: إن من صفاتهم:
(الرضا بما يقع عليهم من مصائب وذنوب، فلا يحاولون دفعها عن أنفسهم، زعماً منهم أن دفعها ينافي الرضا بالقدر، فلو وطئ الكفار رقابهم يرضون ويسلمون؛ لأن الله أراد ذلك!.. ويذكر الأستاذ محمود مهدي قصة ملخصها: أن الفرنسيين إبان استعمارهم لتونس كانوا يجدون معارضة شديدة من الناس؛ فتفاهم الفرنسيون مع شيخ الصوفية على أن يدخلوا البلاد؛ فلما أصبح الصباح قعد الشيخ مطرقاً رأسه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما سأله أتباعه عن الأمر الذي يقلقه قال لهم: لقد رأيت الخضر وسيدي أبا العباس الشاذلي وهما قابضان بحصان جنرال فرنسا ثم أوكلا الجنرال أمر تونس، يا جماعة هذا أمر الله، فما العمل؟ فقالوا له: إذا كان سيدي أبو العباس راضياً، ونحن نحارب في سبيله، فلا داعي للحرب! ثم دخل الجيش الفرنسي تونس بدون مقاومة) إلى أن يقول: (... إن عقيدة الصوفية المنحرفة في التوكل والرضا بالقدر: جعلت نفوسهم راضية مطمئنة ولو وطئ الكفار على رقابهم؛ فإن التوكل عندهم عدم ممارسة الأسباب، والرضا معناه أن ترضى بما يحصل لك ولو هو استيلاء الكفار على بلاد المسلمين، وسبي ذراريهم. وإن أبديت مقاومة فأنت معارض للقدر! وغير متوكل على الله! فالذي يسافر في البراري الخالية بغير زاد، هل يتصور منه أن يلبس لأَمَة الحرب ودروع القتال؟ وليته إذ لم يفعل ذلك غمس نفسه في القتال حاسراً!!.. ولكن ما له ولفرقعة السلاح، ولخرير الدماء؛ وحلق الرقص وطقطقة المسابح كفيلة بإنزاله منزلة الصديقين على زعمه، فأي انحراف هذا الذي أصاب الأمة الإسلامية، وأي فرحة للكفار تحصل لهم أشد من فرحتهم بهذا)(14).
الهوامش:
1- مفتاح دار السعادة: ص326.
2- تفسير السعدي: جـ5، ص279.
3- بدائع التفسير: جـ2، ص85.
4- متفق عليه: رواه البخاري في الجهاد، باب (156)، جـ6، ص181. ومسلم في الجهاد، باب: كراهة تمني لقاء العدو، م3، ص1362.
5- رواه: أبو داود في الأدب، باب: في الرفق، جـ5، ص157. وهو في السلسلة الصحيحة للألباني، رقم (1794).
6- في ظلال القرآن، م3، ص1481.
7- زاد المعاد، جـ3، ص218-222 باختصار.
8- العقود الدرية، ص329.
9- مجموع فتاوى ابن تيمية، جـ28، ص57.
10- مدارج السالكين، جـ1، ص20.
11- رواه مسلم: كتاب القدر، ح2664.
12- شرح صحيح مسلم للنووي، جـ16، ص215.
13- الروح، ص344.
14- أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية، باختصار، ص288.
المصدر : مجلة البيان(/10)
لا خلاصَ إلا بالإخلاص
د. محمد عمر دولة*
لعلّ من أهمّ الأسئلة التي ينبغي أن تتبادر إلى عقول المسلمين وقلوبهم في هذه الأيّام التي صار يهدّدنا فيها أعداؤنا في عقر ديارنا:"ما سبب انحطاط المسلمين؟ وما الذي أطمع فينا اليهود والصليبيّين؟"
إنه غياب الهمّ الرسالي في حياتنا، وضمور البُعد الدّعوي في إحساسنا، وضياع الإخلاص من كثيرٍ من أعمالنا، التي لا نستحضر حين نؤدّيها إلا الكسب المادّيَّ الهزيل، والرّبح الدنيويّ القليل! كما تراه في غالب الجامعات والمؤسّسات في العالم الإسلامي التي تخرّج الملايين في كلّ عام؛ ولكنها لا تربّي إلا العشرات من العلماء الدعاة الصالحين المجاهدين!
ولا ريب أنّ من توفيق أئمتنا في الدّين، ورسوخِ فِقْه علمائنا السابقين: أنهم وضعوا حديث (الأعمال بالنيّات) في حَبّات القلوب[1] وحَدَقات العيون، واعتنوا بفقهه، وتلمّسوا معانيه، حتى جعلوه في مطالع كتبهم كما صنع البخاري وغيره، واعتبروه أساساً لمناهجهم كما قال قائلهم في هذا الحديث: إنه"ثلث العلم"، ووجّه البيهقي ذلك بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه. فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها. ووجّهه ابن حجر بأنّ حديث (الأعمال بالنيّات) أحدُ القواعد الثلاث التي تُردّ إليها الأحكام عند الإمام أحمد وهي هذا الحديث و(من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ) و(الحلال بيّن والحرام بيّن)[2].
وقال ابن رسلان:
وقد اهتم علماء المسلمين بفقه الإخلاص؛ لأنه رأس الأمر وباب القبول وأساس الدّين، كما قال الله تعالى(وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدّين).[4] وترجم البخاري في كتاب العلم ترجمته البديعة: (باب العلم قبل القول والعمل لقول الله تعالى :(فاعلم أنه لا إله إلا الله)؛ فبدأ بالعلم)! قال ابن المنيّر:"أراد أنّ العلم شرطٌ في صحّة القول والعمل؛ فلا يعتبران إلا به، فهو متقدّمٌ عليهما؛ لأنه مصحّحٌ للنيّة المصحّحة للعمل".[5]
فمن المعالم التي لا بدّ من التفقه فيها من معاني الإخلاص أنه:
[1] ليس الاعتبار لكثرة الأعمال: فقد قال تعالى (وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ) والتنكير هنا يفيد التكثير (فجعلناه هباءً منثورا) وقال صلى الله عليه وسلم (إنّ المفلس من أمتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا. فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته. فإن فنيتْ حسناتُه قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم ثم طُرحتْ عليه, ثم طُرِح في النار) رواه مسلم. فلا بدّ من التقوى ليكون للأعمال ثمرة كما قال عز وجل(إنما يتقبّل الله من المتقين).
[2] ليست العبرة كذلك في عظمة هذه الأعمال من حيث هي، أو أنها كبيرةٌ في أعين الناس. فالجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام, وأعظم الأعمال أن يقاتل المرء في سبيل الله بنفسه وماله (يا أيها الذين آمنوا هل أدلُّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) ولكن إذا قاتل ليقال شجاع وليرى مكانه من الناس وليثبت أن له حميةً أو ولاءً لقبيلة أو غيرها ـ وليس في سبيل إعلاء كلمة الله ـ فإنه محرومٌ من الأجر ولو قُتل في الجهاد بل هو من الثلاثة الذين هم أوّل من تُسعَّر بهم النار. وقد روى الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه قال :(سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حميّةً ويقاتل رياءً أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
[3] نيّة التقرُّب إلى الله هي العمدة في قبول العمل صغيرا أو كبيرا كما قال الله عز وجل:(لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد (إنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرتَ عليها حتى ما تجعله في فيّ امرأتك) قال: فقلت أُخَلَّف بعد أصحابي؟ قال:(وإنك لن تُخلَّف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجةً ورفعةً.). فلم يمنع الأجر ما يُعلم ـ عادة ـ من حبّ الرجل إطعام زوجته ما دامت نية القُربى حاضرة. وقريب من هذا ما رواه البخاري من حديث يزيد بن الأخنس أنه وضع في المسجد صدقة فأخذها ولده معن فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(لك ما نويتَ يا يزيد ولك ما أخذتَ يا معن). وتأمَّلْ سؤال الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر)؟! وهذه لفتة جليلة إلى أنّ النيّة الصالحة ما ينبغي أن تغيب عن المسلم في كلّ أموره (وكلّ شيء فعلوه في الزبر وكلّ صغير وكبير مستطر)؛ ومن هنا أجاب النبي صلى الله على عليه وسلم معاذاً لما سأله (يا رسول الله وإنّا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك وهل يُكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.(/1)
[4] ومن أحسن الأدلّة على أنّ العمل القليل ينفع ويضرّ بحسب نية صاحبه ما رواه مالك والترمذي عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إنّ الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وإنّ الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه) وأصله في البخاري عن أبي هريرة مختصراً، ونحوه حديث أبي هريرة في الصحيحين (إنّ العبد يتكلم بالكلمة ما يتبيّن فيها يزل بها إلى النار أبعد ممّا بين المشرق والمغرب) قال النووي "ومعنى (يتبيّن) يفكّر أنّها خير أم لا"[6]
[5] قد لا يقدر المؤمن على أداء العمل، ولكنْ تكون نيّتُه منعقدةً على ذلك الفعل؛ فيُكتب له أجره وإن لم يفعله ـ منّةً من الله وكرما ـ لعلمه سبحانه بصدق نيّة العبد في القيام بالأمر. وقد قال جابر رضي الله عنه: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال:(إنّ بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض) قال النووي: وفي رواية (إلا شركوكم في الأجر). وفي البخاري:(حبسهم العذر).
[6] وما أروع حال البكّائين الذين لم يخرجوا من ديارهم ولم يلقوا عدوّهم ولم يركبوا ظهر فرس أو بعير، ومع ذلك نالوا رضوان الله والأجر الوفير(الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون).[7] وما شأن عثمان رضي الله عنه ببعيد حيث غاب عن بيعة الرضوان ليخاطب أهل مكة لمكانته وشرفه بينهم؛ فبايع عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال:(هذه عن عثمان)!
وأما علامات الإخلاص فكثيرةٌ، منها:
[1] أن لا يتعصب المرء لنفسه، وأن لا ينتصر ـ عند الزلل ـ لرأيه؛ كأنّ الحق حِكرٌ عليه، والصواب خاص به! فذلك من صفات الله تعالى (لبَّيْكَ وسَعْدَيك. والخير بين يديك. والشر ليس إليك). وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من إعجاب كلّ ذي رأي برأيه. وذكر أنّ النصيحة لا ينتفع بها من كانت هذه صفته. وقال جل جلاله :(وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم)، على حين مدح أولياءه بأنهم (إذا ذُكّروا بآيات ربهم لم يخِرُّوا عليها صُمًّا وعُميانا). ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم (أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان مُحقاً)[8].
ولا شكّ أن الإخلاص يقتضي البحث عن الحق والتزامه، ولو كان الحق في رأي المخالف كما قال الله تعالى:(ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).[9] ورحم الله حماد بن زيد حيث قال:"إذا خالفني شعبة تبعته؛ لأنه كان لا يرضى أن يسمع الحديث عشرين مرة وأنا أرضى أن أسمعه مرة"[10] وما أحسنَ ما علّقه البخاري من قول عمّار بن ياسر رضي الله عنه في باب إفشاء السلام من الإسلام (ثلاثٌ من جمعهنّ فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك, وبذل السلام للعالَم, والإنفاق من الإقتار). ورحم الله الحاكم محمد بن عبد الله بن البَيِّع صاحب [المستدرك] فقد بعث إليه الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري كتابا جمع فيه الأوهام التي وقعت للحاكم في [كتاب المدخل]؛ ففرح بها الحاكم لأنّ صاحبه نبّهه إلى الصواب وعرّفه بالحق _ و(الدين النصيحة) ـ فطفق الحاكم يُخبر بها الناس! وبعث إلى عبد الغني يشكره قال: فعلمتُ أنه رجل عاقل كما ذكر الذهبي في ترجمته من (سير أعلام النبلاء).
[2] أن لا يقصد المرء الشهرة بين الناس، ولا يرجو استماعهم إليه، أو يسعى إلى اجتماعهم عليه ـ وإن كان كل ذلك من (عاجل بشرى المؤمن) إذا أخلص ـ ولكنه فتنةٌ وهلاكٌ لمن لم يرد به وجه الله لأنّ الله (أغنى الشريكين عن الشرك) ولا يقبل إلا ما كان لوجهه خالصاً؛ فلا يصيب المرء من تعبه ونصبه خيرا كما جاء في الصوم (رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع العطش). ورحم الله أولئك الأخيار الذين كانوا (يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) ومع ذلك تجدهم حريصين على أن لا يعلم قرباتهم إلا ربّ العالمين .قال ابن قدامة المقدسي "لم يزل المخلصون خائفين من الرياء الخفيّ يجتهدون في مخادعة النفس والناس عن أعمالهم الصالحة ويحرصون على إخفائها أعظم مما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم, كل ذلك رجاء أن يخلص عملهم ليجازيهم الله تعالى في القيامة بإخلاصهم"[11] ومن هؤلاء الأبرار منصور بن المعتمر الذي"صام أربعين سنةً, وقام ليلها, وكان يبكي الليلَ كلَّه, فإذا أصبح كحل عينيه وبرق شفتيه ودهن رأسه. "![12](/2)
[3] أن لا يحب الثناء، بل يكرهه ولا يرضى بسماع المدح بل يفرّ منه، كما فرّ أويس القرني رضي الله عنه لئلا يُعرَف. وما أكثرَ ما يجتمع حُبّ الثناء بالتقصير في الأعمال كما قال تعالى (ويحبّون أن يُحْمَدوا بما لم يفعلوا)! ولله درّ من قال من أهل التفسير:"من أظهر الدعوى كُذِّب!" عند قول الله تعالى(وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مُصلحون ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون). ورحم الله العلامة ابن القيم حيث قال: "لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس".[13] فينبغي للمؤمن أن يراقب نفسه ويصحّح قصده لأنّ الرياء دقيق, وهو متلوِّن بأشكال الأعمال الصّالحة تدليسا وتلبيسا لا يظهر إلا بالمحاسبة والمراقبة. وما أحسنَ ما نبّه عليه العلامة ابن قدامة حيث قال :"هذه الشهوة الخفية يعجز عن الوقوف على غوائلها كبار العلماء, فضلا عن عامة العُبّاد وإنما يبتلى بها العلماء والعُبّاد المشمّرون عن ساق الجدّ لسلوك سبيل الآخرة, فإنهم لما قهروا أنفسهم جالدوها وفطموها عن الشهوات, وحملوها بالقهر على أصناف العبادات؛ عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة والواقعة على الجوارح, فاستراحت إلى التظاهر بالعلم والعمل, ووجدت مخلصا من شدة المجاهدة في لذة القبول عند الخلق ونظرهم إليه بعين الوقار والتعظيم. فأصابت النفس في ذلك لذة عظيمة؛ فاحتقرت فيها ترك المعاصي والشهوات, واستلانت خشونة المواظبة على العبادات؛ لإدْراكها في الباطن لذة اللّذّات وشهوة الشهوات. فهو يظن أنه مخلص لله عز وجل, وقد أُثبت في ديوان المنافقين. وهذه مكيدة عظيمة لا يسلم منها إلا المقرَّبون"[14].
[4] أن يصبر على الأذى ويتحمّل ـ في سبيل الله – العناء؛ رجاء أن ينال القبول والرّضا, وقد قال الشافعي: سمعت محمد بن الحسن يقول:"لا يُفلح في هذا الشأن إلا من أَقْرَحَ البُرُّ قلبه"[15] وقال الذهبي "لا يصبر على الخَلّ إلا دوده" وقال ابن معين لمّا رفسه الحافظ أبو نُعيم الفضل بن دُكين حين امتحنه في قلب الأسانيد: "والله لهذه الرفسة أحبّ إليّ من كل شيء"[16].شعارهم في ذلك قول الشاطبي:
وقد قيل:
وليت شعري هل يصبر أهل الدنيا أياماً لا يأكلون ولا يشربون يجرون من درسٍ إلى درسٍ ويحومون على الشيوخ. كما كان شأن البخاري حين أكل العشب في رحلته إلى شيخه آدم بن أبي إياس[18]. وذكر ابن أبي حاتم الرازي أنه كان مع صاحبٍ له يطلبون العلم من شيخٍ إلى شيخٍ فاشتريا سمكة لم يجدا وقتاً لشوائها؛ فأكلاها نيئة. وقال: لا يُستطاع العلم براحة الجسد![19]
بل إنّ المرائي لا يصبر على أدنى أذىً يصيبه كما قال تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرفٍ فإن أصابه خيرٌ اطمأن به وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين), بل لا يرضى أن يتجاهله الناس، ولا أن يعاملوه كعامّة المسلمين، وقد عَدَّ ابن قدامة هذا من الرّياء الخفي فهو "إذا رأى الناس أحبَّ أن يبدؤوه بالسلام. وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وينشطوا في قضاء حوائجه, ويسامحوه في المعاملة. ويوسعوا له المكان. فإن قصّر في ذلك مقصّر ثَقُل على قلبه, ووجد لذلك استبعادا في نفسه؛ ليتقاضى الاحترام على الطاعة التي أخفاها"[20]. وأما العبد الصالح فلا يهمُّه رضي الخلق أم سخطوا إذا أدّى حق الله ورسوله. بل هو متيقِّن بأنّ السفهاء لا يرضون بالمعروف أصلاً، ولا يَرَوْنَ لصاحب الخير فضلا. فلا يبالي بهم بل ينشد مع الزَّبيدي[21]:(/3)
[5] أن يكون طاهر القلب من الهوى, وبريئا من حُظوظ النفس, حريصا على مصاحبة الصادقين والتعاون معهم في كلّ خير, ورحم الله ابن القيم حيث قال: "الأفضل في كلّ وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال, والاشتغال بواجب ذلك ووظيفته ومقتضاه. وهؤلاء هم أهل التعبُّد المُطلق, والأصناف قبلَهم أهلُ التعبّد المقيَّد. فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلّق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقض وترك عبادته. فهو يعبد الله على وجه واحد, وصاحب التعبّد المطلق ليس له غرض في تعبُّد بعينه يؤثره على غيره. بل غرضه تتبع مرضات الله تعالى أين كانت. فمَدَارُ تعبُّدِه عليها, فهو لا يزال متنقّلا في منازل العبودية, كلما رُفعت له منزلة عمِل على سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى. فهذا دَأْبُه في السّير حتى ينتهي سيره. فإن رأيت العلماء رأيته معهم, وإن رأيت العبّاد رأيته معهم وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم, وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم, وإن رأيت المتصدّقين المحسنين رأيته معهم, وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم. فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملِكْه الرّسوم, ولم تقيّده القيود, ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذّتها وراحتها من العبادات بل هو على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه فهذا هو المتحقّق بـ (إياك نعبد وإياك نستعين) حقّا القائم بها صدقاً" وما أشبه كلام ابن القيم رحمه الله بحال الصّدّيق رضي الله عنه حيث رجا أن يدخل من جميع أبواب الجنة!
[6] أن يتخلّق بغنى النفس وصفاء السّريرة ومحبة الخير للمسلمين والبُعد عن الحسد والبغض: فهذه المعاملات عنوان السلامة من الهوى وأمراض القلوب وعِلل النفوس؛ ومن هنا جاء الثناء العظيم على الذين (يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا). وقد ذكر أبو منصور الثعالبي في (خاص الخاص) "أنّ علي بن محمد الفياض كتب إلى ابن أبي البغل وقد وُلِّي على الأهواز وصُرِف ابنُ أبي البغل به وهو أحسن وأبلغ وأظرف وأكرم ما كتب صارف إلى مصروفه: قد قُلِدْتُ العمل بناحيتك فهنَّاك الله بتجدُّد ولايتك. فأجابه ابن أبي البغل بما لا ُيدرى أيّهما أبلغ وأحسن:ما انتقلتْ عني نعمةٌ صارت إليك ولا غابت عني منزلةٌ طلعتْ عليك وإني لأجد صرفي بك ولايةً ثانيةً وصلةً من الوزير وافية؛ لما أرجوه بمكانك من العافية وحسن العاقبة"[22].
----------
[1] حَبّة القلب: ثمرته، وسُوَيْداؤه (لسان العرب لابن منظور 1/294).
[2] ذكر ذلك كله الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح
[3] مواهب الصمد في حلّ ألفاظ الزبد لأحمد الفشني ص 4.
[4] سورة البيّنة 5
[5] فتح الباري 1/216.
[6] رياض الصالحين . كتاب الأمور المنهي عنها. باب تحريم الغيبة والأمر بحفظ اللسان صلى الله عليه وسلم 520.
[7] التوبة 92.
[8] قال النووي حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح. والزعيم: الضامن.[رياض الصالحين باب حسن الخُلُق ص 278].
[9] المائدة 8.
[10] تذكرة الحفاظ للذهبي 1/194
[11] مختصر منهاج القاصدين ص 239
[12] تذكرة الحفاظ للذهبي – ترجمة منصور بن المعتمر
[13] في الفوائد ص 186
[14] مختصر منهاج القاصدين ص 229
[15] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي 1/ 105.
[16] المرجع السابق 1/136.
[17] مقدمة حرز الأماني ووجه التهاني (في القراءات السبع المتواترة).
[18] راجع ترجمة البخاري في هدي الساري لابن حجر
[19] وقد روى مسلم في صحيحه هذه الكلمة عن يحيى بن أبي كثير في أبواب مواقيت الصلاة.
[20] مختصر منهاج القاصدين ص 239
[21] في مقدمة تاج العروس بشرح جواهر القاموس.
[22] خاص الخاص ص 10.(/4)
لا عز لنا إلا بالإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى : (أذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ *الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) { الحج 39,40}
كلنا نعلم بما أهاننا به الكفرة الفجرة وما قاموا بفعله لإخواننا المسلمين فى لبنان , ولا ننسى مافعلوه و ما يفعلونه فى فلسطين المحتلة , إلا أن ما قاموا به فى قرية قنا على حدود لبنان أبشع ما قاموا به على الإطلاق , ومن الغريب -وهو لم يعد غريبا بالنسبة لنا - , و كل ما نسمعه شجب وإنكاروإدانة لإسرائيل .
إننا مسلمون , ولنعلم جميعا أن كلمة مسلم تعنى شريف, كريم, عزيز ,شجاع , ثائر لدينه ,داعى للسلام , فما فعله صلاح الدين الأيوبى عندما فتح الله عليه القدس لخير دليل على سماحة المسلمين , فقد دخل القدس دون إراقة قطرة دماء واحدة , بل ترك لليهود الحرية فى البقاء فى القدس أو الهجرة لأي بلد أخرى وأكرمهم وأعزهم رغم أنهم أوقح و أقبح من يمكن أن يعرفه أي إنسان ........ فقد كان حب الله ورسوله ونصرتهما يجريان في دم القائد المجاهد صلاح الدين وجنوده الأبطال .............. قال تعالى :( سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ) (الفتح 23)
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * ) { الأنفال 65 }
فلماذا خصص الله المؤمنين الصابرين ؟ " إن الفئة المؤمنة إنما تمتاز بأنها تعرف طريقها , وتفقه منهجها , وتدرك حقيقة وجودها وحقيقة غايتها . . إنها تفقه حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ; فتفقه أن الألوهية لا بد أن تنفرد وتستعلي , وأن العبودية يجب أن تكون لله وحده بلا شريك . وتفقه أنها هي - الأمة المسلمة - المهتدية بهدى الله , المنطلقة في الأرض بإذن الله لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ; وأنها هي المستخلفة عن الله في الأرض ; الممكنة فيها لا لتستعلي هي تستمع ; ولكن لتعلي كلمة الله وتجاهد في سبيل الله ; ولتعمر الأرض بالحق ; وتحكم بين الناس بالقسط ; وتقيم في الأرض بدين الله الذي يقوم على العدل بين الناس . . وكل ذلك فقه يسكب في قلوب العصبة المسلمة النور والثقة والقوة واليقين ; ويدفع بها إلى الجهاد في سبيل الله في قوة وفي طمأنينة للعاقبة تضاعف القوة . بينما أعداؤها - قوم لا يفقهون-. قلوبهم مغلقة , وبصائرهم مطموسة ; وقوتهم كليلة عاجزة مهما تكن متفوقة ظاهرة . إنها قوة منقطعة معزولة عن الأصل الكبير ! " (سيد قطب )
أما الآن فى عصرنا هذا تكاسلنا ..فغلبنا النعاس ..وأصبحنا نغط فى سبات عميق , الله أعلم متى سنفيق منه لكنه - عز وجل - قال ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) {الرعد 11}
فدعونا ننام هكذا حتى نجد الكفرة الفجرة فوق رؤوسنا : يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا ويقتلون رجالنا ........... فإن كنا نكره ذلك فلنبدأ فى تغيير أنفسنا ولنكون مسلمين شرفاء أعزاء لا يخافون فى الله لومة لائم , ولنوصل صوتنا الى اليهود ليعلموا أننا استيقظنا وعلمنا ديننا وثبتنا الله عليه ورضى عنا و سينصرنا بإذنه ولننذرهم ونحذرهم من غضبنا , ولا يكون بعد هذا النذير نذير , ولا بعد هذا التحذير تحذير .
قال تعالى ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) [البقرة : 261]
فلنقول لشعوب العالم جميعا أن المسلمين إخوة , وأنهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا , ولنقول لإخواننا فى فلسطين ولبنان والعراق وفى شتى بقاع الأرض : إنا معكم .. نشعر بما تشعرون..نتأثر بما تعانون..فلا تستكينوا لما يمكرون......... قال تعالى ( وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) [إبراهيم : 46](/1)
وإنا لنعلم أنه قد طال الإنتظار .. انتظار يوم يفرح المؤمنون بنصر الله .. قال تعالى : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) [البقرة : 214]
اللهم عليك بأعداء الدين , اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك , اللهم فرق جمعهم , وشتت شملهم , اللهم إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالى , اللهم إنك عفو تحب العفو فإعف عنا , اللهم إنا قد طال انتظارنا , ونفد صبرنا , فألهمنا الصبر أو أعطنا النصر ... وحسبنا الله ونعم الوكيل
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/2)
لا لتدريس (المنطق) !
02-9-2006
بقلم عبدالله بن محمد السهلي
"...ولعل من نافلة القول لدى المختصين أن أوربا لم تقم من كبوتها ولم تظهر نهضتها العلمية إلا بعد أن تخلصت من أغلال المنطق الأرسطي الذي يدعو الأستاذ ..."
اطلعت على مقالة ( تدريس المنطق ضرورة لمنهجة التفكير) للأستاذ يوسف أبا الخيل في جريدة الرياض صفحة حروف وأفكار عدد (13797) ، وقبل البدء بالتعقيب على مقالة الأستاذ يوسف أود أن أجمل أبرز الأفكار التي أوضحها الكاتب في مقالته حسب ترتيب السياق :
1- اختزال مناهج التفكير في المنطق وحده وأنه يعصم من الزلل في التفكير وأنه لابد منه لكل باحث !! .
2- ارجاع سبب تخلف المسلمين عن ركب المنطق إلى العلماء الذين قالوا (من تمنطق فقد تزندق) وأنه (من علوم الكفار)!
3- ثناء الكاتب على المنطق الأرسطي نسبة إلى المعلم الأول أرسطو وشرحه لأسلوبه في كونه منطق يعتمد على مقدمتين يبنى عليهما نتيجته وذكر المثال: كل إنسان فان, وبما أن سقراط إنسان فإن سقراط فان .
4- استشهاده بمقولة لابن رشد وكذلك أخرى لابن حزم في الثناء على المنطق ومنهجه .
5- توصية الكاتب بضرورة تدريس المنطق في مرحلتي الماجستير والدكتوراه لطلاب الشريعة وأصول الدين .
6- ثمة إشارات من الكاتب إلى تنقص خصوم المنطق والفلسفة وأنهم أعطوا وجهاً كالحاً للمنطق!! وأن تعثر المنطق في الثقافة العربية كونه من (علوم الكفار)! وبسبب قوة وسيطرة التيار البياني في نسخته التقليدية النصية!! يعني بذلك (مدرسة أهل الأثر) .
ولعلي ابتداءً أثني على الكاتب الأستاذ يوسف أبا الخيل في جودة ترتيب أفكاره وتسلسلها بغض النظر عن موافقتنا له أو مخالفتنا .
ثم لعلي أنطلق من فكرة أوردها أشاطره الرأي فيها وهي ذم المنطق من قبل علماء المسلمين أو بتعبير أكثر دقة نقد المنطق لا سيما المنطق الأرسطي . فقد سبق علماء الإسلام علماء أوربا بقرون في نقدهم للمنطق الأرسطي ولعل حامل الراية في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية فلقد ألف كتاب (نقض المنطق)، وكتاب (الرد على المنطقيين) وهو من أعظم الكتب في التراث الفكري الإسلامي بل التراث الإنساني كافة .
وأول قضية يحاول ابن تيمية أن ينفيها في رده على المنطق اليوناني هي الزعم بأن هذا المنطق لابد منه لكل باحث وعالم !! (خلافاً لما يدعو له أبا لخيل هنا) وابن تيمية لا يكتفي بإصدار الفتاوى بالتحريم كما فعل بعض العلماء . بل يكشف بطريقة منهجية فساد هذا المنطق ولعل من الأهمية أن نوضح المنطق الأرسطي وأن المدرسيين (المشائيين) من أتباع أرسطو كانوا ساخطين على التجربة وبعيدين عن مواجهة الطبيعة ومعالجة الواقع بل محاربين لها لأن الطريقة المنطقية - في زعمهم - تكفي في معرفة القواعد التي تخضع لها الأشياء !
ومن الطريف أن أرسطو كان يعتقد أن أسنان الرجل أكثر من أسنان المرأة!! و لو أنه كلف زوجته أن تفتح فمها لأدرك خطأ مقولته ! لكن ذلك خروج من القياس إلى التجربة وهو ما لا يروقه !
وطالما صرح ابن تيمية بأن المنطق اليوناني ( لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد!) ، ولقد لخص ابن تيمية رأيه في المنطق اليوناني بقوله : "فإذا كانت صناعتهم بين معلوم لا يحتاج إلى القياس المنطقي، وبين مالا يمكنهم أن يستعملوا فيه القياس المنطقي كان عديم الفائدة" .
وممن نقد المنطق الأرسطي وهو ليس من التيار البياني في نسخته التقليدية النصية !! بل ليس من المسلمين ! (فرانسيس بيكون ت 1626) و (جون ستيورات مل 72) و (جون لوك) .
يقول الدكتور الشيعي العراقي على الوردي: "وصل نقد المنطق على يد ابن تيمية إلى القمة ... إن العلوم الطبيعية في نظر ابن تيمية تجريبية أكثر مما هي قياسية" .
وهذه ما يقرره الدكتور مصطفى طبا طبائي وهو شيعي إيراني في كتابه القيم (المفكرون الإسلاميون في مواجهة المنطق اليوناني, ص138) ، يقول : "... ابن تيمية عاش قبل فرنسيس بيكون بثلاثمائة عام، وقبل جون لوك وقبل جورج بركلي بأربعة قرون وقد سبقهم جميعاً في نقد المنطق" .
وابن تيمية هنا يتضح فيه قول الدكتور عبدالرحمن الوكيل : "... أما ابن تيمية فكان بين معجب لم يعن ببحث مناحي العظمة الفكرية للإمام ابن تيمية، وبين حاقد موتور يحاول طمس هذه العظمة وتلك العبقرية" .
يقول ابن خلدون عن المنطق (وأظنه ليس من العلماء النصيين في النسخة التقليدية) كما يقول أبا الخيل!! . يقول ابن خلدون : "إن كثيراً من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم بدون صناعة المنطق" [المقدمة : ص49] .
وهذا الأمر مشاهد وأنظر على سبيل المثال دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي قامت على البراجماتية ، وعلماءها من أفلس الناس في جانب الفلسفة ومع ذلك تجد معظم المخترعين العلماء لا يعرفون عن المنطق شيئاً ولم يضيرهم ذلك ولم يعيقهم عن التقدم والصناعة !! .(/1)
إن المنهج التجريبي الذي يرفل الغرب في ثيابه اليوم في العلوم الطبيعية كان من نتاج الفكر الإسلامي يقول (بريفولت) في كتابه (بناء الإنسانية) : "إن روجر بيكون - واضع المنهج التجريبي - درس اللغة العربية والعلم العربي في مدرسة أكسفورد على خلفاء معلميه العرب، وليس لروجر بيكون ولا فرنسيس بيكون الذي جاء بعده . الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي فلم يكن روجر بيكون إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوربا المسيحية" .
ومن المنصفين الغربيين الذين شهدوا بهذا كذلك (برانتل) ، ولعل من نافلة القول لدى المختصين أن أوربا لم تقم من كبوتها ولم تظهر نهضتها العلمية إلا بعد أن تخلصت من أغلال المنطق الأرسطي الذي يدعو الأستاذ يوسف أبا الخيل جامعتنا إلى تبنيه وأنه سبيل التقدم لكن إلى أين ؟ إنه التقدم إلى الوراء !!
ففي الوقت الذي يدعوا العلماء والممنهجين إلى أهمية المنهج التجريبي - خصم المنطق - وتبنيه لاسيما في العلوم الطبيعية دون الإنسانية ؛ يأتي الأستاذ أبا الخيل ليخالف هذا الزخم العلمي الضخم من العلماء المسلمين وغير المسلمين !! النصيين وغير النصيين ليقول : لا . المنطق أهم شيء وهو سبيل الخروج والنهوض وأداة التفكير المثلى !! بل يقرر أنه عدم الأخذ به سبب للتخلف ويعنف على عبارة (من تمنطق تزندق) ويسخر بمن قال أنه من علوم الكفار !!
إن المنطق الأرسطي ليست أداة متحررة من الثقافة بل هو إرث إغريقي قائمٌ على تصورات ومبادئ اليونان الوثنية ، ولقد تُرجم في عهد المأمون وكان معظم المترجمين من غير المسلمين من اليعاقبة والنساطرة واليزيدية وغيرهم . ولهذا ولما سبق جاءت الفتوى بتحريمه، وأظن أن من الموضوعية !! يا أستاذ يوسف عدم محاكمة الأفكار والعبارات مبتوتةً عن سياقها الموضوعي والزماني (من تمنطق تزندق) .
الواقع أن القائلين بالتحريم كابن تيمية وابن الصلاح والنووي قد تابعوا في ذلك الإمام الشافعي فقد أخرج النووي في ذم الكلام أن بشراً المريسي دخل على الشافعي فقال له الشافعي : أخبرني عما تدعوا إليه؟ أكتاب ناطق وفريضة مفترضة وسنةٌ قائمة وجدت عن السلف البحث فيه والسؤال ؟ قال بشر : لا إلا أنني لا يسعني خلافه، فقال الشافعي : أقررت بنفسك على الخطأ، فأين أنت من الكلام في الفقه والأخبار . فلما خرج قال : لا يفلح" [السيوطي : صون المنطق ، 1/35] ، وقد روي مثل ذلك عن الإمامين أبي حنيفة ومالك [السابق ،1/64] .
أما لمز الأستاذ يوسف أبا الخيل في مقولة (علوم الكفار) وتنصيصه لى ذلك فإن كنت تقصد السخرية بهذا فلم يثبت عن المسلمين النهي عن الأخذ عن الكفار فيما هو من علوم الدنيا ومن النتاج البشري الذي لا يخالف العقيدة الإسلامية . وأهل السنة والجماعة من المسلمين من أشد الناس إنصافاً مع غيرهم وها هو عمرو بن العاص يثني على الروم : "إن فيهم لخصالاً أربعاً. إنهم لأحلم الناس عند فتنة وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة وأوشكهم كرةً بعد فرةٍ وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف وخامسةً حسنةً جميلةً وأمنعهم من ظلم الملوك" (صحيح مسلم, كتاب الفتن وأشراط الساعة) .
أما إن كان الأستاذ يوسف يعّرض بـ (علوم الكفار) باعتراضه على كلمة الكفار فأظنه يحفظ سورة {قل يا أيها الكافرون} !! .
أما ثناؤه ثم شرحه للأسلوب القائم عليه المنطق الأرسطي وأنه يتألف من مقدمتين (الكبرى والصغرى) ثم النتيجة، فلعلي أنقل ما قال الدكتور محمود الدسوقي في (منهج البحث في العلوم الإنسانية) ومجمل كلامه أن المنطق الأرسطي لا يكسب علماً جديداً بل يدور في دائرة مغلقة ذلك أنه يهتم بأسلوب التفكير ولا يهتم بموضوع ومحتوى التفكير . ثم ذكر أنه يمكن أن تكون المقدمتان صحيحتين : والنتيجة خطأ ومثال ذلك (مثال جدلي) مقدمة كبرى : الحرية حق لكل إنسان، مقدمة صغرى : المجرم إنسان، (مقدمتان صحيحتان) النتيجة الحرية حق للمجرم (نتيجة خطأ) .
وقد تكون المقدمتان خاطئتين والنتيجة صحيحة . مثال ذلك : (المقدمة الكبرى) : كل إنسان حصان، (المقدمة الصغرى) : كل حصان عاقل؛ النتيجة : كل إنسان عاقل (نتيجة صحيحة) .
أما استشهاد الكاتب بمقولات عن ابن رشد وابن حزم، فابن رشد يقول عنه المستشرق مونك : "إنه لم يكن مبتكراً وأنه لا يختلف لا في القليل ولا في الكثير عن غيره من الفلاسفة الذين تأثروا بمذهب الأفلاطونية الحديثة" .
ثم يقول مونك: "... نعم ابن رشد مجرد ناقل وشارح لأرسطو ومنطقه الذي يعد الآن منطق متخلف أصبح من الذكريات" (نصوص ومصطلحات فلسفية ص172) .
وحسبك أن مونك وقبله بيكون وبيكون الآخر وستيورات مل وجون لوك وغيرهم وهم الورثة الشرعيون للإرث الإغريقي قد لفظوه ورموا به عرض الحائط !(/2)
أما ابن حزم رحمه الله وهو من علماء الإسلام الكبار وحسبك من مؤلفاته : (الفصل في الملل والنحل) في العقائد و(المحلى) في الفقه . فقد كان يرى ضرورة تعلم المنطق بالرغم من عدم قبوله لقياس العلة وللقياس كمصدر ثانوي للتشريع في الإسلام ولكن ابن حزم كما يذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الصاعدي أن ابن حزم أعرض عنه وتركه في آخر حياته،،وقد سبقه في هذا الغزالي, فقد كان شديد الثقة بالمنطق وكتب كتاباً فيه سماه (القسطاس المستقيم) زعم فيه أنه تعلمه من الأنبياء، وإنما تعلمه من ابن سينا، وابن سينا تعلمه من كتب أرسطو، وإن كان الغزالي في آخر حياته رجع عن ذلك وبين عيب المنطق ولوازمه الفاسدة ونهى عنه، وحذر منه . [انظر : الرد على المنطقيين (14 - 15) لابن تيمية] ، و [المنقذ من الضلال للغزالي : 66-99] .
ثم بعد ذلك أود أن أوضح أن المنطق يدرس في مرحلة الدكتوراه في الأقسام الشرعية، ففي قسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك سعود على سبيل المثال هناك مقرر المنطق ولكن يدرس ويُنقد لا يدرس ليُمجد ! لا للشيء إلا أنه جاء من غير التيار البياني في نسخته التقليدية !! الذين نتشرف بالانتماء إليهم .
أخيراً : إنني إذ أشكر الأستاذ يوسف أبا الخيل على طرح مثل هذه الموضوعات النخبوية أرجو أن يتقبل النقد والتعقيب بصدر رحب ، لكن لتتذكر قول الأول : علمت شيئاً وغابت عنك أشياءُ .
إضاءة :
ماذا أحدِّثُ عن صنعاء يا أبتي! مليحةٌ عاشقاها السلُ والجربُ(/3)