وفى ضوء هذا نستطيع أن نفهم قوله بصدد الحديث عن الخَصْمين اللذين تسوَّرا المحراب على داود عليه السلام وشكا أحدهما الآخر إليه بأنه طلب منه نعجته الوحيدة التى لا يملك سواها كى يضمها إلى قطيعه المكوَّن من تسع وتسعين نعجة...إلخ، إذ تساءل قائلا: هل الأنبياء معصومون من الذنوب والخطايا كما يقول علماء المسلمين القدامى أو لا؟ ثم يجيب بأن هؤلاء العلماء يذكرون أن داود قد أحب امرأة قائدة العسكرى أوريا ورسم خطة للتخلص منه لكى يخلو له وجه الزوجه، إذ أمر بأن يوضع فى مكان مكشوف على خط المواجهة مع الأعداء حيث قُتِل، وعندئذ تزوج داود المرأة وأنجب منها سليمان، وإن أنكروا فى ذات الوقت أن يكون قد زنى بها إنكارا شديدا. ومن الواضح هنا أيضا أن أسد مع عدم عصمة الأنبياء.
وهو يرى أن قوله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: "ألم نشرح لك صدرك* ووضعنا عنك وِزْرك* الذى أنقض ظهرك* ...؟" يشير بكل وضوح إلى الأخطاء التى اقترفها عليه السلام قبل البعثة. ولكن أية أخطاء يا ترى تلك التى اقترفها النبى آنذاك؟ هنا يسكت أسد. ولست أوافقه على أن معنى "الوزر" فى الآيات الكريمة أخطاء ارتكبها الرسول فى الجاهلية، إذ لو كان الأمر كذلك فلماذا تُنْقِض هذه الأخطاء ظهره، وهو لم يكن مكلفا آنئذ ولا آخذه الله عليها فى أى موضع من القرآن ولا اتخذها أحد من قومه تُكَأَةً للنيل من سمعته أو للتشويش على أخلاقه ونبوته؟ علاوة على أن مَنَّ الله عليه بشرح صدره وطمأنته إياه بأنه ما من عُسْر إلا ومعه يُسْر إنما يشير بالأحرى إلى ضيق صدره عليه السلام بشىء من قبيل فتور الوحى عليه فى أول الدعوة أو معاندة المشركين له أو ما إلى ذلك. أى أن الوزر هنا وزر نفسى لا أخلاقى. أما إذا كان المقصود بشرح الصدر دلالته المادية بمعنى شقه واستخراج نصيب الشيطان منه وغسله بالثلج أثناء طفولته الأولى فى بادية بنى سعد كما جاء فى بعض الروايات، فإن ذلك ينسف ما قاله محمد أسد عن الرسول من أساسه، إذ معناه أنه عليه السلام قد أصبح محميا تماما من الوقوع فى الذنوب والآثام.
وعلى أية حال فإنه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون قد وقعت منه أخطاء مما يتحدث عنها الكاتب، وإلا لاتخذها المشركون حين جاءهم بالدين الجديد سلاحا من أسلحة الحرب النفسية التى شنوها عليه منذ اللحظة الأولى. ترى لو كانت هناك أخطاء من ذلك النوع أكانوا يتركونها ويتهمونه بما يعلمون هم قبل غيرهم أنه باطل، وهو أنه ساحر ومجنون وكذاب ويكتتب قصصه عن الأنبياء السابقين وأممهم من بعض الرقيق المكى من أهل الكتاب؟ أيعقل أن يكون فى يد إنسان عُمْلة سليمة فيلقى بها فى عُرْض الطريق ويتخذ بدلا منها نقودا زُيُوفا؟ ترى لو كان النبى عليه السلام قد زنى أو حتى قبَّل امرأة مجرد تقبيل أو شَرِب الخمر أو لَعِب المَيْسِر أو تابع قومه فى عبادة الأصنام أو التضحية لها أو عُرِف عنه الكذب مثلا، أكان قومه يسكتون عن ذلك؟ إن كل ما قالوه فى بشريته لا يتعدى إنكارهم عليه أنه كان يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق وأن له زوجا وذرية، إذ كانوا يريدونه مَلَكًا لا بشرا، وهذا كل ما هنالك، فهل يصح أن يقول مسلم فى الرسول ما لم يقله المشركون؟
ولْيلاحظ القارئ أننى قد تجنبت الخوض فى الجدال النظرى البحت حول عصمته صلى الله عليه وسلم وسلكتُ، بدلا من ذلك، المنهجَ التاريخى والنفسى واستنطقتُ النصوص ذاتها فلم يصادفنا، لا فيما وصلنا عن سيرته ولا فى الآيات التى تحدثتْ عنه أو إليه، أىٌّ من تلك الذنوب المزعومة. ثم هل كان من الممكن أن يصفه القرآن رغم ذلك بأنه "على خُلُقٍ عظيم" كما جاء فى الآية الخامسة من سورة "القلم"؟
كذلك لو كان داود عليه السلام قد صنع بأوريا هذا الذى ادُّعِىَ عليه أكان الله سبحانه تارِكَه دون مؤاخذة، وهو الذى عرَّض يونسَ عليه السلام لتلك التجربة المرعبة المؤلمة، تجربة ابتلاع الحوت له وبقائه فى بطنه أياما وليالى، لمجرد غضبه من قومه وإباقه إلى الفلك المشحون بسبب صلابة رقابهم ولجاجهم فى الكفر والطغيان؟ إن التآمر على قتل إنسان برىء طمعا فى زوجته الجميلة ليس بالأمر الهين الذى يمكن أن تُعَدِّىَ عنه السماء بمثل هذه البساطة، وإلا فالعفاء على الأخلاق بل على النبوة ذاتها! والمضحك فى الأمر أن من قبلوا من علماء المسلمين على داود هذه الدعوى السخيفة بل المجرمة كانوا حرصاء فى ذات الوقت على أن يبرئوه من تهمة الزنا، وكأن قتل الأبرياء بدم بارد وتخطيط مسبق ودون خالجة من ضمير ليس بشىء بجانب هذه التهمة!(/2)
إن القصة القرآنية تقول إن الأخ الغنى لم يأخذ من أخيه الفقير نعجته فعلا، بل كل ما فى الأمر أنه سأله ضمَّها إلى نعاجه. فهذا كل ما هنالك، وإذن فلو أن هذين الخصمين ملاكان أرسلهما الله إلى داود، كما جاء فى بعض كتب التفاسير، لينبهاه على سبيل التلميح إلى الجريمة التى ارتكبها، فأى جدوى من هذا التصرف ما دام قد سبق السيفُ العَذَل وتمت الجريمة ولم يعد من سبيل لتداركها؟ إن هذا عبث لا تليق نسبته إلى المولى عز وجل، الذى كان قادرا على أن ينبه نبيه فى هذه الحالة تنبيها مباشرا يمنع الجريمة قبل وقوعها بدلا من تركه يقترفها ثم عتابه له بعد فوات الأوان؟ ثم إذا كان الأنبياء يمكن أن يجترحوا جريمة القتل والتآمر على هذا النحو، فما الفرق بينهم إذن وبين عتاة المجرمين؟ إن الإنسان العادىّ لا ينحط إلى هذه الدركة، فكيف يَتَدَهْدَى إلى مثلها الأنبياء والمرسلون، الذين اصطفاهم الله على سائر خلقه وصنعهم على عينه وجعلهم من الأخيار أُولِى الأيدى والأبصار وزودهم بالحكمة والتقوى على أحسن حال؟ وفضلا عن ذلك فالقرآن نفسه يقول عن داود عليه السلام فى سورة "ص" ذاتها: "وإن له عندنا لَزُلْفَى وحُسْنَ مآب"، فكيف يمدحه الله سبحانه هذا المديح العظيم ويأتى بعضنا فيتهموه تلك التهمة الشنيعة جريا وراء اليهود الملاعين الذين لم يتركوا نبيا ولا رسولا إلا افترَوْا عليه أشنع ضروب البهتان فى كتبهم؟ أنكذِّب القرآن ونصدق العهد القديم؟ كذلك فالآية التى تلى قصة الخصمين تحضّه عليه السلام أن يحكم بين الناس بالحق ولا يتَّبع الهوى، وهو ما يرجِّح أن تكون القصة متعلقة بالتسرع فى الحكم لأحد المتخاصمين قبل الاستماع إلى الطرف الآخر، لا بمسألة أوريا وزوجته. ولو افترضنا بعد هذا كله أن لهذه القصة ظلا من الحقيقة، ولا إخال، فإن أقصى ما يمكن قوله هو أن داود ربما سمع مثلا بجمال زوجة قائده فحدثته نفسه قائلة: لماذا لم يُكْتَب له أن يرى تلك المرأة قبل أن يتزوجها أوريا فيتخذها هو لنفسه زوجة؟
أما يونس فأىُّ خطإٍ ارتكبه حين ضاق صدره بعد إذ رأى من قومه لَدَدًا فى الكفر وتماديا فى العناد والإنكار فتركهم ومضى على وجهه؟ إن هذه ليست سُبَّة أخلاقية، لا ولا هى تهاون فى تأدية الواجب. وكل ما يمكن التعليق به على تصرفه ذاك هو أن الله لم يأذن له بهجرة قومه، وإلا فإن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم قد ترك هو أيضا بلده إلى بلد آخر رجاء أن يكون حظ الدعوة فيه أحسن، لكنه مع ذلك لم يُقْدِم على هذه الخطوة إلا بعد إذن الله له.
ونأتى إلى وَكْزَة موسى، التى ينبغى ألا يفوتنا أنها كانت قبل النبوة وكانت مجرد وَكْزَة أراد بها عليه السلام أن يدفع العدوان أو ما ظنه عدوانا على ابن جلدته فى بلدٍ كان الاضطهاد والعسف يتناوشان بنى إسرائليل فيه لا لشىء إلا لضعفهم وهوانهم وقلة حيلتهم آنئذ، لكن كانت للأقدار مشيئة أخرى، إذ مات المصرى بسببها. وأغلب الظن أنها كانت "القشة التى قصمت ظهر البعير". أى أن أسباب الموت كانت مهيَّأة لطَىّ صفحة ذلك الرجل من الوجود، كأن يكون مصابا بأزمة قلبية مثلا أو تكون الوكزة قد أفقدته توازنه فسقط دماغه على أرض حجرية...إلخ، فجاء وَكْز موسى فى ذلك الوقت مصادفة واتفاقا ليكون هو العامل الظاهرى الذى أودى بحياته. ولنلاحظ أن موسى قد أنَّبه ضميره على الفور ولذَّعه تلذيعا، فأخذ يستغفر ربه ويبتهل إليه نادما أشد الندم رغم أنها ليست سقطة أخلاقية كما قلنا.
ورغم كل ما أبدأ فيه محمد أسد وأعاد فإنه هو نفسه، فى حديثه عن عبوس رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتاه ابن أم مكتوم يسأله فى بعض أمور دينه أثناء انشغاله بمحاولة إقناع بعض المشركين فى مكة لهدايتهم إلى الإسلام، يقول إن ما لا يزيد عن كونه مجرد هفوة تافهة من أى إنسان آخر فى مثل هذه المسألة المتعلقة بالمجاملات الاجتماعية يُعَدّ مع ذلك فى حق الأنبياء ذنبا عظيما يستوجب العتاب. ثم يمضى قائلا إن معاتبة القرآن للرسول على مسمع من الدنيا كلها على ذلك النحو إنما هو دليل على أنه تنزيل من رب العالمين وأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى. وهذا هو الذى أتفق فيه مع محمد أسد، وهو هو نفسه ما صاغه علماؤنا القدامى رضى الله عنهم عندما قالوا: "حسنات الأبرار سيئات المقربين".(/3)
هذا، وقد صدرت عن قلم الكاتب عبارة مهمة لا أدرى كيف لم يستصحبها دائما معه بدلا من هذا الإلحاح المستمر على فكرة الضعف البشرى الأخلاقى الذى لا يفلت منه الرسل والأنبياء وإمكان وقوعهم فى أى ذنب من الذنوب التى يقترفها البشر، ألا وهى قوله، بصدد التعليق على الآية التى تقول: "ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له. سُنَّةَ الله فى الذين خَلَوْا من قبل، وكان أمر الله قَدَرًا مقدورا"، إن الكلام هنا إنما يدور على الأنبياء الذين تتوافق فيهم جميعا، بما فيهم الرسول عليه السلام، رغائبهم الشخصية مع إسلامهم أنفسَهم إلى الله، وهو ذلك الانسجام الروحى والفطرى الذى يميز صفوة خلق الله وقدَرهم المقدور كما تقول خاتمة الآية. ترى أين كان ذلك الكلام الجميل من قبل؟ إن هذا هو أَحْجَى ما يقال عن أنبياء الله ورسله وأقربه إلى حديث القرآن المجيد عنهم، أما تصويرهم بصورة الضعفاء المهتزين الذين لا يتمالكون أنفسهم من الوقوع فى أى من الذنوب والآثام بمجرد تهيؤ الدواعى لذلك فلا ينسجم مع القرآن، الذى يرفع الرسل والأنبياء مكانا عَلِيًّا ويُثْنِى عليهم أجزل الثناء ويرى فيهم نموذجا فذا لا يُطال رغم بشريتهم التى يؤكدها فى ذات الوقت، بل ينسجم مع اتجاه العهد القديم، الذى ينسب إليهم الزنا والقتل والدياثة ومقارفة الفاحشة مع المحارم والكذب والغدر والتحايل على الله والجلافة فى مخاطبته والإغضاء عن عبادة الأوثان فى بيوتهم...إلى آخر ما سوَّد به اليهودُ الملاعينُ صفحاتِ كتبهم التى يزعمون أنها وحى إلهى، ملطخين بذلك الصورَ النبيلة لتلك الصفوة من عباد الله.
وقد رجعتُ، بعد الفراغ من كتابة ما تقدم، إلى "الفِصَل فى المِلَل والأهواء والنِّحَل" لابن حزم لأسترجع ما قالت الفرق الإسلامية فى هذا الموضوع، فوجدته يذكر أنهم اختلفوا فى ذلك: فقالت طائفة إن الرسل عليهم السلام يعصون الله فى جميع الكبائر والصغائر عمدا حاشا الكذب فى التبليغ، بل إن بعض هؤلاء قد جوَّزوا عليهم الكفر أيضا، كما جوَّزوا أن يكون فى أمة محمد عليه السلام من هو أفضل منه. وفى رأى ابن حزم أن هذا كله كفر وشرك وردة عن الإسلام. وهناك من جوَّزوا عليهم الصغائر فقط بالعمد، أما الكبائر فلا. أما الذى تدين به أمة الإسلام من سنة ومعتزلة وخوارج وشيعة ونجارية (كما قال العلامة الأندلسى) فهو أنه لا يَجُوز البتةَ أن يقع من نبىٍّ معصيةٌ أصلا لا كبيرة ولا صغيرة. وهذا رأيه هو أيضا، وإن قال إنه قد تقع من الأنبياء الهفوة عن غير قصد، كما قد يقع منهم قَصْدُ الشىء يريدون به وجه الله تعالى والتقرب منه فيوافق خلافَ مراده عز وجل، إلا أنه تعالى لا يقرّهم على شىء من هذين الوجهين أصلا بل ينبههم على ذلك ويبيّنه، وربما عاتبهم عليه. وهذا الذى ذهب إليه ابن حزم هو نفسه ما وصلتُ إليه من تحليل النصوص القرآنية تقريبا، ويسعدنى أن ينسجم رأيى مع رأى هذا العلامة العظيم، وإن كنت لا أستطيع أن أُقْدِم على تكفير محمد أسد فى مثل هذا خشية أن يكون مخطئا فى اجتهاده لا يبغى إهانة الأنبياء أو التطاول عليهم والتحقير من شأنهم عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، ولكنى فى ذات الوقت لا أهضم وقوعه فى هذا الخطإ الأبلق.(/4)
وفى النهاية أود أن أضيف أننا لا نجد هذا الرأى الغريب لأسد فى الأنبياء فى الكتب التى تُرْجِمَتْ له إلى العربية. لقد لمس مثلا بشريةَ الرسول عليه الصلاة والسلام فى موضعين من كتابه "الطريق إلى الإسلام"، وهذا ما قاله فى الموضع الأول: "ومع ذلك فإنه (أى الرسول عليه السلام) لم يدَّع يوما إلا أنه بشر، ولم ينسب المسلمون إليه الألوهية قط كما فعل الكثيرون من أتباع الأنبياء الآخرين بعد وفاة نبيهم. والحق أن القرآن نفسه يزخر بالأقوال التى تؤكد إنسانية محمد: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل. أفإن مات أو قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم؟". وكذلك فإن القرآن الكريم قد دلل على عجز النبى المطلق تجاه العزة الإلهية بقوله تعالى: "قل: لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله. ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء. إنْ أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون". ولا ريب فى أن من حوله لم يحبوه مثل هذا الحب إلا لأنه لم يكن سوى بشر فحسب، ولأنه عاش كما يعيش سائر الناس: يتمتع بملذات الوجود البشرى ويعانى آلامه". وهو تقريبا نفس ما نقرؤه فى الموضع الثانى حيث يقول إنه عليه السلام كان "كائنا بشريا مليئا بالرغبات والدوافع الإنسانية وبوعى حياته الخاصة، وفى الوقت عينه أداة طيعة لتلقى رسالته"[4]. والنصان، رغم حرصهما على إبراز بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يتطرقان إلى مسألة العصمة النبوية، بل لانلمح فى عباراتهما ما يوحى بأن المؤلف كان يرى أنه عليه السلام عرضة للوقوع فى الذنوب والآثام كأى شخص عادى. فهل هذا دليل على أن فكره قد تطور بعد ذلك إلى القول بأن الأنبياء يذنبون ويأثمون كغيرهم من البشر؟ أم هل كانت هذه الفكرة من صلب عقيدته أوانذاك لكنها، لسبب أو لآخر، لم تَشُقّ طريقها إلى الظهور فى ذلك الكتاب؟
الهوامش:
[1] الأنعام/ 112.
[2] ص 591/ هـ 15.
[3] ص 785/ هـ 2 .
[4] محمد أسد/ الطريق إلى الإسلام/ ترجمة عفيف البعلبكى/ دار العلم للملايين/ 1981م/ 297، 303.(/5)
فكر واشكر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وبعد :
المعنى : أن تذكر نعم الله عليك ، فإذا هي تغمرك من فوقك ومن تحتِ قدميك { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }
صحة في بدن ... أمن في وطن ... غذاء وكساء ... وهواء وماء ... لديك الدنيا وأنت ما تشعر
تملك الحياة وأنت لا تعلم { وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة }
لديك عينان ... ولسان وشفتان ، ويدان ورجلان { فبأي آلاء ربكما تكذبان }
هل هي مسألة سهله أن تمشي على قدميك ، وقد بترت أقدام ؟! وأن تعتمد على ساقيك ، وقد قُطعت سوقُ ؟!
أحقيقُ أن تنام ملء عينيك ، وقد أطار الألم نوم الكثير ... وأن تملأ معدتك من الطعام الشهي ، وأن تكرع من الماء البارد ، وهناك من عُكر عليه الطعام ، ونغص عليه الشرابُ بأمراضٍ وأسقامٍ ؟!
تفكر في سمعك وقد عوفيت من الصمم ، وتأمل في نظرك وقد سلمت من العمى ، وأنظر إلى جلدك وقد نجوت من البرص والجذام ، والمح عقلك وقد أنعم عليك بحضوره ولم تُفجع بالجنون والذهول .
أتريدُ في بصرك وحده كجبل أحُدٍ ذهباً ؟! أتحب بيع سمعك وزن ثهلان فضة ؟! هل تشتري قصور الزهراء بلسانك فتكون أبكم ؟!
هل تقايض بيديك مقابل عقود اللؤلؤ والياقوت لتكون أقطع ؟!
إنك في نِعم عميمة ، وأفضالٍ جسيمة ، ولكنك لا تدري ...
تعيش مهموماً مغموماً حزيناً كئيباً ، وعندك الخبز الدافئ ، والماء البارد ، والنوم الهانئ ، والعافية الوارفة ، تتفكر في المفقود ولا تشكر الموجود ، تنزعج من خسارةٍ مالية وعندك مفتاح السعادة ، وقناطير مقنطرة من الخير والمواهب والنعم والأشياء .
فكر واشكر ، { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } فكر في نفسك وأهلك ، وبيتك ، وعملك ، وعافيتك ، وأصدقائك ، والدنيا من حولك ، فلنتذكر نعم الله علينا وأن نقول الحمد لله والشكر عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته {يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها }.
جمعه لكم أخوكم /
أبو جراح(/1)
فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدَّا
د.عبد اللطيف بن عبد الله بن يوسف الوابل 3/2/1424
05/04/2003
إن الأحداث التي تمر بها أمتنا الإسلامية ومنطقة الخليج بوجه خاص لتوجب على كل مسلم أن يشارك بما يستطيع من قول الحق للدفاع عن دينه وأمته التي تتعرض لأخطر أزمة مرت عليها في تاريخها الحديث إن لم يكن في تاريخ الأمة على الإطلاق ، لقد علمنا الإسلام عقيدة القضاء والقدر وأنه لا يتحرك في الكون صغير ولا كبير إلا بإذن الله سبحانه وبأمره ( الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير ، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور ) فاللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك . لك الحمد في السراء والضراء . لك الحمد فأنت الحق ووعدك حق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق . لك الحمد فنحن عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك نواصينا بيدك ماضٍ فينا حكمك عدل فينا قضاؤك . لك الحمد أنت المتصرف وحدك في الكون فما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن ، اعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً ، اللهم فأجعل لنا من أمرنا رشداً وفرجاً ومخرجاً ، اللهم اهدنا الصراط المستقيم في جميع أقوالنا وأفعالنا وأحوالنا .
أيها الأخوة القراء في هذا المقال الذي هو بعنوان " فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدَّا" سيكون الحديث فيه عن أربع قضايا : -
________________________________________
أولاً : لمحة عن تسلسل الأحداث الجارية .
ثانياً : سنة الله سبحانه في الأمم المكذبة .
ثالثاً : مكر الله بالقوم المجرمين .
رابعاً : نصائح عامة للأمة .
________________________________________
أولاً : - لمحة عن تسلسل الأحداث الجارية :(/1)
هذه لمحة موجزة نبين فيها تسلسل الأحداث التي أحاطت بأمتنا اليوم فبعد قيام ما يسمى " الإنتفاضة الأولى " للمجاهدين في فلسطين وبداية مرحلة ( أطفال الحجارة ) حينما استيقظ المجاهدون في فلسطين وأعدوا ما استطاعوا من قوة لمواجهة الاحتلال الصهيوني أحست دولة الكفر والطغيان ، ودولة اليهود أن بقاءها أصبح معدوداً وأنها تمر بمرحلة خطيرة ولأن القوم قد تعلموا من تاريخهم أنه لا بد لهم من مسابقة الأحداث والتخطيط المنظم لتلافي الأخطار المحدقة بهم قبل وقوعها أوعلى الأقل تأخيرها ، ولأن اليهود يعلمون حقيقة عضب الله عليهم وأنهم لا قرار لهم بدون المكروتجييش الآخرين في صفهم كما ذكرالله عنهم ذلك بقوله : " ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " وكذلك فهم يعلمون أن بداية زوالهم سيكون مع بداية أول طلقة جهادية في فلسطين ، ومن ثم فقد تداعى القوم وبذلوا جهوداً حثيثة مع شركائهم وحلفائهم الأمريكيين وبعض الأوربيين ليجدوا مخرجاً من هذه الأزمة الخانقة وبعد تفكير طويل وتخطيط ماكر وجدوا أن الحل هو في ضرب الفسطينين بعضهم ببعض ليتم لهم خنق أنفاس المجاهدين ببني قومهم وليسلم اليهود من شرر المعركة وحتى يكون وقودها من الفلسطينين سواءً أكانوا من الحركات الجهادية أم من الحركة العلمانية ، وبدأ فصل جديد في القضية الفلسطينية إذ بدأ مشوار السلام الزائف وعقدت له المؤتمرات والتي من أهمها مؤتمر مدريد واستمر تخطيط القوم ومكرهم ووصلوا إلى مرحلة كادت أن تكون نهاية لمرحلة الجهاد الفلسطيني إذ استطاعوا بالتعاون مع حلفائهم وأنصارهم من المنافقين أن يحيطوا مِعْصَم المجاهدين بسوار من أهل الغدر والخيانة ، ولكن الله سبحانه كان لهم بالمرصاد فأبطل كيدهم كما قال سبحانه :" فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب " فقتِل رابين بأيدي اليهود واختل توازن منطقة الشرق الأوسط حيث تولى الحكم في تركيا في تلك الفترة حزب الرفاه فكان ذلك لصالح المسلمين وكان فيه تخفيف من الله ورحمةٌ وفَشِل وقتها مؤتمر شرم الشيخ الذي كان برعاية أمريكية وكان من المقرر فيه أن تجتمع المنطقة بكاملها لمحاربة الدعاة المصلحين واحباط كل محاولة لدعم المجاهدين في فلسطين وغيرها وهكذا أخي الحبيب فإن الله سبحانه ينصر عباده المؤمنين من حيث لا يشعرون . " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " . " كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين " . وجاءت حكومة نتنياهو (1) ذلك العدو الشرس الذي أسس وخطط مع فريقه المعروف باسم ( فريق بيبي الحديدي ) للتأكيد على أن الحوار مع العرب يجب أن يتم من مواقع القوة فقط ، الأمر الذي يتطلب الحفاظ على التفوق العسكري والاقتصادي الدائم لإسرائيل على العالم العربي ، بل وحتى الإسلامي ، واقترح نتنياهو التخلي عن العملية السلمية وعن اتفاقات أوسلو مع الفلسطينين وأقنع ذلك الفريق الماكر ساسة اليهود بأن العراق هو العدو اللدود المستقبلي لهم بما يملكه من إمكانات مالية وبشرية وفكرية فهو الجزء المتبقي من العالم العربي الذي يمكن من خلاله نشوء قوة للمسلمين تهدد أمن وسلامة اليهود في المنطقة ولذلك سعى هذا الفريق لإقناع إدارة كلينتون بذلك ولكنه فشل فانتقل إلى التخطيط لمرحلة ما بعد كلينتون ووجدوا بغيتهم في الرئيس بوش وفريقه العسكري الذي يحمل أفكار اليمين اليهودي الصهيوني ليصبح " ربيباً لليهود وابناً باراً لهم في تنفيذ مخططات غدرهم ومكرهم وتناغم الفريقان فريق بوش الأهوج مع فريق شارون الأحمق لتنفيذ أفكار المنظر نتنياهو . وفي ظل هذه التطوارت عادت جحافل المجاهدين بقوة لتبدأ مرحلة ما يسمى " الإنتفاضة الثانية " والتي قلبت معادلات الصهاينة حيث وجدوا أنفسهم مرة ثانية في شراك المجاهدين أولئك الذين لا يهابون الموت ودخل اليهود في سلسلة من الجرائم والهزائم السياسية والعسكرية والاقتصادية والأخلاقية وانهارت اسطورة التفوق العسكري الإسرائيلي لعدم قدرته على مواجهة- أطفال الحجارة - المجاهدين وحاملي البنادق الصابرين فهم دائماً يرددون : الله مولانا ولا مولى لكم . قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار فما أسرع اقبالهم على الجنات .
عند هذا المأزق وجد اليهود أن أقصر طريق للخروج من الأزمة هو افتعال أزمةٍ مجاورةٍ تستطيع من خلالها توريط بوش وإدارته لنجدة الصهاينة من المأزق فكانت العراق هي أفضل دولة مناسبة لذلك ليضرب الصهاينة عصفورين بحجر واحد .(/2)
وبعيداً عن الجدل حول من خطط ونفذ أحداث 11 سبتمبر وما هو دور الموساد وعملائه في المنظمات اليهودية في أمريكا وهل تم التخطيط والتنفيذ من طرف واحد أم أن التخطيط من طرفٍ استدرج الطرف الآخر للتنفيذ ليتم للعدو الماكر تطبيق استراتيجيته فإن الحقيقة التي يتفق عليها المسلمون هو أن ما حدث انتقامٌ من الله سبحانه واذلالٌ وكسر لدولة البغي والطغيان التي تجرأت حتى على الرحمن وظنت أنها لن تعجز الله هرباً . وكما قال سبحانه : " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً " وبعيداً كذلك عن الجدل الدائر حول أهداف الحملة الصليبية الجديدة على العالم الإسلامي وهل الهدف هو الإستيلاء على منابع النفط أم للسيطرة والهيمنة على العالم والتحكم في مراكز ثرواته أم حماية اسرائيل أم هذه الأهداف جميعاً فإن مما يتفق عليه العقلاء من المسلمين أنها حرب على الإسلام وأهله لمحاولة القضاء على ذلك العملاق الذي بدأ يترعرع ويخرج من حدود إمكانية السيطرة عليه فهم يعرفون أنه لا بقاء لهم مع قوة الإسلام وظهوره ، وهذا ما حمل أمريكا بإصرار شديد على المضي في المعركة مهما كلفتها حتى مع وقوف العالم كله في وجهها فهي قضية استراتيجية بالنسبة لها ولم تكن أفغانستان إلا مجرد استعراض للقوة والجبروت ولكنه أمر الله الغالب وقضاؤه النافذ لحكمة يعلمها فهو الحكيم الخبير . "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون"
________________________________________
ثانياً : - سنن الله سبحانه في الأمم المكذبة .
أيها الأخوة الفضلاء وإذا كانت الأحداث بهذا التخطيط الماكر وكنا نحن المسلمين المستهدفين من هذا التخطيط الذي لم نستعدّ َله ولم نأخذ له العدة فقد ابتلينا والله المستعان بداء التباطؤ وأن تكون أفعالنا وخططنا ردود أفعال وإلا فقد كان بالإمكان التخفيف من وقع المصيبة لو كنا على مستوى الأحداث و مع هذا فظننا بالله عظيم ويقيننا به سبحانه أنه يدافع عن أوليائه الصادقين ، وسنن الله سبحانه لا تتغير ولا تتبدل وهي ماضية في الآخرين كما كانت في الأولين . والقرآن حين يتحدث عن حال الأمم الماضية ومعاملتها لأنبياء الله ورسله وطغيانها وتكذيبها لهم وما حلَّ بهذه الأمم المكذبة من الهلاك والدمار إنما مقصوده تعزية المؤمنين وتثبيتهم ومواساتهم والتأكيد لهم بأن الله يدافع عنهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهو إنذار وتحذير وأخذٌ للعبرة من إهلاك الأمم السابقة الحذر من الوقوع في أسباب الهلاك . فعلى سبيل المثال فهذه عاد طغت وبغت وكذبت رسولها هود عليه السلام أولئك الذين وصف الله قوتهم بقوله : " ألم تر كيف فعل ربك بعاد . إرم ذات العماد . التي لم يخلق مثلها في البلاد " ولكنهم تجبروا وتكبروا وقالوا لنبيهم استهزاء واستهتاراً " من أشد منا قوة " فرد الله عليهم بقوله : " أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون . فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون ". وهذا فرعون يقول تجبراً وطغياناً " يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غير فأوقد لي يا هامان على الطين فأجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين . واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون . فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فأنظر كيف كان عاقبة الظالمين " ويصف لنا ربنا سبحانه حال هذا الطاغي المتجبر وإذلاله لموسى عليه السلام ولقومه وعدم مبالاته بهم وذلك بعد هزيمته السياسية في مقابلة حجج موسى عليه السلام : " فأرسل فرعون في المدائن حاشرين . إن هؤلاء لشرذمة قليلون . وإنهم لنا لغائظون . وإنا لجميع حاذرون ". فكانت النتيجة ما أخبرنا الله عن حالهم :" فأخرجناهم من جنات وعيون . وكنوز ومقام كريم . كذلك وأورثناها بني إسرائيل . فأتبعوهم مشرقين . فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون . قال كلا إن معي ربي سيهدين . فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم . وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين . ثم أغرقنا الآخرين ". وهكذا فإننا حين نستقرئ ما ذكره الله عن حال الأمم المكذبة نجد أن سنة الله ماضية فيهم بأنْ دمرهم تدميراً ولكنْ لكل أجل كتاب " ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون " " فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عداً " وكما قال سبحانه :" وكم قصمنا من قرية كانت ظالمةً وأنشأنا بعدها قوماً آخرين . فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون . لا تركضوا وأرجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون . قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين . فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين ".(/3)
وإذا تأملت أخي الكريم حال الولايات المتحدة الأمريكية وما هي عليه فإن سنن الله سبحانه تجمع على أنها تنتظر عقاباً الهياً مدمراً يمزقها تمزيقاً . فما بلغت أمة في الطغيان والجبروت والكذب والإفساد في الأرض والصدِّعن سبيل الله ومعاداة أولياء الله ومطاردتهم وتعذيبهم بأشدِّ الأسلحة فتكاً وتدميراً . أقول ما بلغت أمةٌ في ذلك ما بلغته أمريكا عليها من الله ما تستحق . وإليك عرض موجز لأسباب الهلاك التي يمكن أن نستقرأها من حال هذه الدولة الكافرة ( من أراد التفصيل فليعد للمقال الذي في مجلة البيان – العدد 179 – ص 84 – د سامي الدلال) .
1. الكفر والصد عن سبيل الله ومطاردةُ المجاهدين والدعاة والمصلحين والمؤسسات الخيرية والتضييق عليهم بالأساليب غير المباشرة سابقاً عن طريق عملائها أو بالأساليب المباشرة الآن بعناصر مخابراتها دون حياء أو خجل ، وفي الحديث : " من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب " فكيف وهي تعادي كل أولياء الله بل وتعادي الربَّ سبحانه استكباراً وعناداً . قال تعالى : " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد" " ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين" .
2. التأله : فقد أدعت أمريكا لنفسها من القدرات ما لا يليق إطلاقه إلا على الله تعالى ، فهي تتعامل مع الدول الأخرى ولسانُ حالها يقول : " أنا ربكم الأعلى " " أنا أفعل ما أشاء " " من أردتُ بقاءه أبقيته ومن أردت إهلاكه أهلكته " وكأنها هي المتصرفة في تدبير شؤون الكون . ولذلك قال بوش في خطابه للرئيس مشرف ( رئيس باكستان ) أمامك خياران : إما أن تدخل في حلف الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب وإما أن نعيد باكستان إلى العصر الحجري . ولهذا فهي تنتظر ما حل بفرعون وقومه : " ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون" .
3. الظلم : - لا يختلف اثنان على الحجم الهائل للظلم الذي أوقعته أمريكا على الدول والشعوب والأفراد فهي رائدة الظلم على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري فقد نهبت ثروات الأمم والشعوب وتسلطت على المنظمات الدولية ذات الطابع الدبلوماسي والاقتصادي كهيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والبنك الدولي ومن يخرج عن رأيها ترهبه بالقوة العسكرية وبالتجويع فهي الدولة الوحيدة التي استخدمت أشد الأسلحة فتكاً ( القنبلة الذرية ) في اليابان وهي الرائدة في تصنيع وتصدير الأسلحة الكيميائية والجرثومية وهكذا ولدت مع الظلم حيث مارس المستعمرون الأوائل حرب إبادة على السكان الأصليين من الهنود الحمر واستمر مسلسلها الإجرامي الدامي في فيتنام والصومال وأفغانستان وغيرها والآن على المسلمين في العراق . فقد ذكر أحد العسكرين الروس أن حجم ما صُبَّ على العراق من القنابل والصواريخ في الخمسة الأيام الأولى يعادل أربعة أضعاف حجم القنبلة التي ضَربت اليابان . أطنان من القنابل دون تمييز أو رحمة وبشكل مستمر ترعب به النساء والشيوخ والأطفال فلا أمن ولا نوم ولا أمان فويل لها من الرحمن ثم انظر أخي الحبيب إلى مطاردتها للدعاة والمجاهدين في فلسطين وكشمير والفلبين وأفغانستان والشيشان وفي كل مكان ترفع فيه راية الجهاد شتت شملهم وأرملت نساءهم ويتمت أطفالهم . كل ذلك ضدَّ الشعوب الإسلامية بغية القضاء على دينها وامتصاص ثرواتها والهيمنة على ممتلكاتها واستثماراتها والسيطرة على أراضيها فقد احتلت البر والبحر والجو . إنه ظلم عالمي تقوده أمريكا لم يشهد له العالم مثيلاً على مرِّقرونِه وتعاقب دهوره فهل بدأت نهايتها كما قال سبحانه : " وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون " " وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين " " فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد " .
4. البطر : وهو كفر النعمة ويكون بأحد أمرين إما بجحد المنعم بها وإما بعدم شكره واستخدامِها في غير ما خلقت لأجله . كصناعة الخمر من العنب وغيره وكالمتاجرة بالجنس وتصنيع أسلحة الدمار الشامل وذلك لإخضاع الأمم ظلماً وعدواناً وبطراًوغير ذلك . والمتأمل لأسلوب ومنهج حياة الأمريكيين يرى أن جميع هذه الطامات الكفرية موجودة فيهم ، كل بحسبه فهي الرائدة في جميع أنواع الكفر والفساد بدءاً من أفلام الجنس والخلاعة والرعب ونهايةً بالتباهي بالقوة وأسلحة الدمار الشامل ولسان حالهم يقول إنهم هم القوة العظمى فهي تجول في البحار والأجواء والبراري بحاملات الطائرات والمدمرات والصواريخ شرقاً وغرباً وهذا هو البطر بعينه والذي هو من أسباب اهلاك الله للأمم " وكأين من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين ".(/4)
5. الاستكبار والغرور : - إن الحرب العالمية الثالثة تقودها أمريكا وتسميها حرباً على الإرهاب وهي حرب على الإسلام وهذا من أعظم الاستكبار في الأرض فمن يحارب دين الله وأولياءه فقد استكبر وعتا عتواً كبيراً . لقد كانت في عتوها واستكبارها تستعرض قوتَها الهائلة في أفغانستان ، ذلك البلد الفقير الممزق فهل كان يحتاج كل هذا الطغيان وحجم القنابل بكل أنواعها دون رحمة ببني الإنسان وها هي اليوم تعود لتصب جام غضبها على المسلمين في العراق ذلك البلد المحاصر عشرات السنين فما ذنب شعب العراق فحسبنا الله ونعم الوكيل . قال تعالى : " وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً" . هذه بعض أسباب هلاكهم ولعله قريباً إن شاء الله وما ذلك على الله بعزيز فقد أهلك الله أمماً بذنب واحد فكيف إذا اجتمعت هذه الأسباب وغيرها . إنه والله الهلاك الأكيد " ولكنكم تستعجلون ". ونريد نصراً على طبق من ذهب دون جهاد أو تضحية .
________________________________________
ثالثاً : مكرالله بالقوم المجرمين .(/5)
إن من سنن الله سبحانه الواضحة الجلية أنه سبحانه يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد " . " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " وكذلك فإنه سبحانه يسلط الظالم على الظالم ثم ينتقم من الجميع وإذا كانت أمريكا قد غَرِقت في الكفر والفساد فإنها كذلك قد أسرفت في المكر والكيد فما من دولة إلا ولها فيها عيون وجواسيس ومفسدون كثر يثيرون النزاعات ويراقبون التحركات ويدفعون الرشاوى للكبار وللصغار ترغيباً وترهيباً ويوقعون بين مختلف الأحزاب والجماعات والدول ويدبرون المؤامرات ويشعلون نار الحروب . وفي السنوات الأخيرة كشفوا أقنعة مكرهم وأظهروا صدق عداوتهم للإسلام والمسلمين وعرَّوا مقولة بعض المخدوعين من المسلمين بأن أمريكا دولة صديقة ونسوا أن الله سبحانه قد قال عنهم وعن أمثالهم " لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون " . " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " . إن دينهم المصلحة ، فحيثما وُجِدتْ ركبوا لنيلها الصعابَ ولوكان في ذلك تدمير أمة بكاملها . لقد اتبعت هذه الدولة الكافرة سنن الأمم المتجبرة في المكروالكيد ، ولهذا سينالها بإذن الله وقريباً إن شاء الله ما نال الأمم الماكرة من قبلها . قال تعالى " وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعاً " وقال تعالى : " قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون " وقال سبحانه :" أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين . أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤف رحيم " . " وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " وقال تعالى : " فلما جاءهم نذير مازادهم إلا نفوراً . استكباراً في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً " . وإن من أعجب مكرالله بالأمم ما قصه الله علينا من قصة فرعون مع موسى عليه السلام وقد سبقت الإشارةُ إليها وكذلك ما قصه الله علينا من مكر الملأ من قوم ثمود مع صالح عليه السلام يوم تجبروا واستكبروا فقال تعالى عنهم : " وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون . قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون " روى ابن كثير رحمه الله عنده الآية عن عبد الرحمن بن أبي حاتم أنه قال : لما عقروا الناقة قال لهم صالح : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب " قالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة أيام ، فنحن نفرغ منه وأهله قبل ثلاث ، وكان لصالح عليه السلام مسجد في الحجر عند شعب هناك يصلي فيه ، فخرجوا إلى كهف ، أي غار هناك ليلاً فقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله ففرغنا منهم ، فبعث الله عليهم صخرة من الهضب حيالهم ، فخشوا أن تشدخهم فتبادروا ، فانطبقت عليهم الصخرة وهم في ذلك الغار ، فلا يدري قومهم أين هم ولا يدرون مافُعل بقومهم ، فعذب الله هؤلاء ههنا وهؤلاء ههنا ، وأنجى الله صالحاً ومن معه ثم قرأ : " ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون . فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون " . أي قوم يعلمون الحقائق ويتدبرون وقائع الله في أوليائه وأعدائه فيعتبرون بذلك " وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون " . وأمريكا اليوم تمكر بالمسلمين وتخادعهم وتدعي أنها تريد بهم الخير والديمقراطية وإخراجهم من ظلم قادتهم وحكامهم وهي كاذبة ماكرة في كل ذلك فهي التي صنعت كثيراً من هذه الأنظمة ودعمتها ولا زالت في ظلمها وطغيانها وهل النظام البعثي إلا صنيعة من هذه الصنائع وما ذلك إلا ليكون لها الأمر والنهي في بلاد المسلمين فتضرب هذه الدولة بتلك حسب مصالحها وترغب دولة وترهب أخرى وهكذا ولذلك فلعل من مكر الله بهذه الدولة الطاغية ( أمريكا ) أنها الآن جاءت لتصطلي بنار حزب البعث ويصطلي هو بنارها ولعل الله يرحم من بينهم من المسلمين المستضعفين ومع هذا فإن هدفهم الحقيقي من هذه الحملة ليس النظام البعثي وإنما خوفهم من ذلك العملاق الذي بدأ يستيقيظ ويَقُضُّ مضاجعَ الكفر والطغيان حتى في العراق فهناك إقبالٌ على الدعوة وعودةٌ إلى الله ولذلك فإن أمريكا ومن معها من دول الكفر يسابقون الأحداث ليُحكموا قبضتَهم على هذه الأمة المسلمة في عُقر ديارهم وليحيطوا بمصدر هدايتهم ونسي أولئك الكفرة المجرمون أن الله غالب على أمره وأن من يُغالبِ الله يُغلبْ وأنه المهزوم المدحور الهالك لا محالة . " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز " " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا(/6)
ويوم يقوم الأشهاد " " يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون . هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " ومن ثم فإن سنة الله الماضية في أهل المكروالتي ستطوى بإذن الله أمريكا وحلفائها المعتدين عاجلاً إن شاء الله غيرآجل ستكون في أمرين :-
أ- سرعة مجيئها . قال تعالى : " إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكراً إن رسلنا يكتبون ما تمكرون " وقال تعالى " قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بينانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون " وهنا تجد أنه عقب بالفاء والتي لا تراخي فيها وإنما تعني إلإسراع في العقوبة .
ب- شدة عذابها وتدميرها . قال تعالى : " سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون " ولذلك فإن مؤشرات مكر الله بهم بدأت تظهر ومنها على سبيل المثال :
1- وقوع الاختلاف والتفرق داخل المجتمع الأمريكي من جهة وبينهم وبين بني قومهم من الأروبيين من جهة أخرى ، إذ وصل الأمر إلى السباب والشتائم وقريباً بإذن الله سيزداد الخلاف فالحرب الباردة بين أمريكا وأوروبا متمثلة في قطبيها ألمانيا وفرنسا قد بدأت منذ سنوات وما إن تقع الفرقة ويحدث الاختلاف في داخل أمة إلا حل بها الهلاك والدمار وكان ذلك مؤذناً بالزوال .
2- تبين ظلمهم الواضح وبغيهم وعلوهم في الأرض وتسلط الملأ منهم وتجبرهم حتى على الإرادة الإلهية وهذا بلا شك مؤذن لهم بعذاب من الله كما قال سبحانه( )
وقال سبحانه أيضاً ( ) وفي الحديث :" إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته "
3. عزلتها الدولية ووقوف أكثر دول وشعوب العالم ضدها وبروز قوى مناهضة لها صراحة ولأول مرة في تاريخ مجلس الأمن تهدد دولة صديقة لأمريكا باستخدام حق الفيتو ضد المشروع الأمريكي وهي فرنسا . تلك الدولة التي انضمت مع ألمانيا العدوة القديمة ضد الصديقة التي حررتها منها . فسبحان من يدبر الأمر كما يشاء وهذا من مكر الله بأمريكا .
4. ازدياد الحمية الإسلامية في قلوب شعوب العالم الإسلامي وتقاربهم في الرأي ولجأهم إلى الله وعودتهم إلى الدين الحق وهذا من أسباب نصر الله لهذه الأمة وخذلان الكافرين والمنافقين .
5. ظهور انكساروذل أصحاب القلوب المريضة من الذين يسارعون في تولي الكافرين، وخوفهم الشديد من بطش أوليائهم من الكافرين والمكر بهم حتى أصبح بعض من كان بالأمس يسبح بحمد أمريكا يلعنها على الملأ ويتمنى زوالها بعد أن كان يدعوا إلى التبعية والذيلية لأمريكا بلد الحرية والمساواة !!
6. ما حصل في عدد من الدول الإسلامية من تقدم للأحزاب الإسلامية لا سيما في تركيا إذ انتصرت الحركة الإسلامية ووصلت إلى الحكم بأغلبية مطلقة وهذا لم يكن في حسابات أمريكا إذ إنها بذلك قد خسرت ولو على المدى الطويل أقوى حليف لها في المنطقة بعد إسرائيل ، إن لم يكن أهم منها استراتيجياً .
7. انهيار القاعدة الأخلاقية التي كانت تنادي بها أمريكا وتدَّعي أنها الزعيمة الأخلاقية للعالم فانطلاقاً من هذه القاعدة بنت صداقتها مع الآخرين وكسبت مودتها فقد كانت تزعم أنها بلد العدالة والحرية والأخلاق والمساواة وهذا ما دفع كثيراً من أصحاب العقول المتميزين في تخصصاتهم إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة وتفضيلها على غيرها من الدول لما تدَّعي من الحرية والمساواة بين أفراد شعوبها ولكنها اليوم فقدت ذلك وأصبحت زعيمة العنصرية حتى رماها بعض الساسة من الألمان بأنها نازية القرن الواحد والعشرين ، فقد أظهرت الأحداث أن ما تدعيه كذب وسراب خادع وأنها لا تمتلك من الأخلاق ما يمكنها من البقاء .
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... ...
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
8. ضعف تعاون المعارضة والشعب العراقي مع القوات الأمريكية المحتلة والتفاف الشعب العراقي للدفاع عن أرضه واعتبار الغزو الأمريكي استعماراً جديداً لإذلال شعب العراق أولاً والمسلمين ثانياً وهذا يعني فشلُ كثير من خُطط الحرب العسكرية وتعثُر استراتيجية الحرب ولذلك تجدهم دائماً يغيرون بين الحين والآخر في خطتهم ويغطون ذلك باستخدام قاموس الكذب والتضليل الإعلامي بل والإرهاب الإعلامي لإخفاء نتائج المعارك وخسائرهم التي حلت بهم . وقد يكون في تأخير عذابهم حكمة لله لا نعرفها :
1- ربما يسلم كثيرمنهم .
2- يقع الإبتلاء والقتال فيختار الله من الأمة الشهداء .
3- ان يهلك الله بهم أمة كافرة لا نعلم عنها وغير ذلك من الحكم التي قد لا تظهر لنا .
________________________________________
رابعاً : نصائح للأمة .(/7)
أيها الأخوة المسلمون : إن الأزمة التي تمر بها أمتنا الإسلامية هي من أخطر الأزمات في تاريخها لا من حيث طبيعة المعركة أو السلاح المستخدم المدمر الذي يملكه العدو ولا من حيث ضعف المسلمين وتشرذمهم وتسلط المنافقين ومكرهم مع الكافرين وهذه الأزمة هي أشبه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها " ومع هذا فلنعلم أنه بقدر ما في هذه الأزمة من الشدة والضيق فإن فيها خيراً كثيراً بل هي أول بشائر النصر والغلبة إن شاء الله فهي تبشر بولادة جديدة لهذه الأمة المسلمة ، ولادة ترفع فيها رايات الجهاد وتقال فيها كلمة الحق ويَضْعف فيها جانب الكفر والنفاق يقول تعالى : " كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرلكم والله يعلم وأنتم لا تعلمنون " ويقول تعالى " وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً " إن من يتأمل حال العالم الإسلامي ليرى العجب في إعراض كثير من أبنائه عن الله سبحانه على مستوى الشعوب والحكومات فقد أصبحت بعضُ بلاد المسلمين أشد فساداً من بلاد الكفر حيث أماكن الفساد ومحاربة الدعاة ونشر الرذيلة ومحاربة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ويكفيك أخي الكريم نموذجاً لهذه الحالة أن تراقب القنوات الفضائية الرسمية وغير الرسمية التي تبث من بلاد المسلمين وكيف أنها في معظمها تهدم القيم والأخلاق والدين لينشأ جيل لا يعرف من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه ولذلك فإني ألمس في هذه الأزمة خيراً كثيراً فلعلها أن تعيد الأمة إلى ربها وحتى تعرف شعوب العالم الإسلامي بل وحتى حكوماته أنه لا ملجأ من الله إلا إليه وأن النصر والتمكين منه وحده وأنه لا نجاة لهم من قوة وجبروت أمريكا وحلفائها الكافرين إلا بالاعتصام بالله فأين قوتهم المادية من قوة أمريكا الطاغية التي تملك من القنابل الهيدروجينية ما يمكنها من تدمير عشرة أضعاف الكرة الأرضية لوأذن لها الرحمن ولذلك فمنذ بداية الأزمة ونحن نرى ونسمع عودةً إلى الله سبحانه وإيقافاً لكثير من برامج ومؤتمرات السياحة الساذجة التي تقابل نعم الله بالجحود والنكران .نعم إن المصيبة إخوتي الكرام هي مصيبة الدين ، هي أن يعرض الناس عن ربهم . هي أن يتنكر المسلمون لدينهم أما أن يجوع المسلم أو يخاف أو يشرد أو يقتل وهو متمسك بدينه فلا شك أن ذلك من المصائب ولكنه لا يساوي شيئاً مع مصيبة الدين.
إن المرزا من يرز ا دينه ... ...
لا من يرزا ناقةً وفصالاً
إن من نعمة الله على هذه الأمة المسلمة أن يبتليها بالمصائب لتعود لدينها ولربها حتى لا يأخذها على حين غرة وغفلة فتموت على الجاهلية كما قال تعالى : " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد الله رب العالمين " وكما قال سبحانه : " ولوبسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض " ومن الخير كذلك أنه يبتلي عباده بالضراء كما يبتليهم بالسراء ليتم لهم العبودية الكاملة فيجمعوا بين الشكر والصبر ومع هذه الحكمة فلا بد للأمة على جميع المستويات أن تأخذ للأمر عدته وأن تفقه طبيعة المعركة وأنها حلقة في سلسلة متواصلة لحرب صليبية ضروس ضمن مخططٍ رهيبٍ في معركة طويلة بدأت في أفغانستان بل بدأت في تل أبيب و منهاتن " ومروراً الآن بالعراق وإنتهاءً بالقضاء على الإسلام وأهله زعموا !! ولكن هيهات " إن الباطل كان زهوقاً " " إن كيد الشيطان كان ضعيفا" " وما كيد الكافرين إلا في ضلال " .
لقد اجتمعت قوى الكفر في مجلس الأمن على إضعاف الإسلام والمسلمين ولكنهم اختلفوا في الأسلوب فمنهم من يرى استخدام نظرية الموت السريع للعراق وأهله ومنهم من يرى نظرية الموت البطيء ولأنها من بلاد المسلمين فلا مدافع عنها ومع ذلك فقد فرَّق الله أمرهم وشتت شملهم وتلك حكمة العليم الخبير . إن من واجب الأمة أن تبادر على جميع المستويات بالاستعداد لمواجهة العدو سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وإعلامياً وفكرياً ولا يعذر في ذلك أحد من المسلمين كلٌ حسب استطاعته فجنس الجهاد فرض عين على كل مسلم . ولعلي أسوق بعض النصائح إبراءً للذمة ونصرةً للأمة ومشاركةً في بيان الحق والدفاع عن الإسلام وأهله :
أولاً : - إلى علماء الأمة الربانيين ودعاتها المخلصين : -
أيها العلماء أيها الدعاة اتقوا الله في الأمة فأنتم بعد الله صمَّام أمانها ، أنتم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم والأمة إنما تنتصر حين تعود إلى الحق والهدى وأنتم أولى الناس ببيان ذلك للأمة ودعوتها إليه فإليكم هذه النصائح على سبيل الإشارة ومن باب تذكيركم عسى الله أن ينفع بها : -(/8)
1. بيان الحق وعدم كتمانه لا سيما في أوقات الأزمات التي تختلط فيها الأوراق وقد تضطرب فيها بعض المفاهيم الشرعية الأساسية ويصبح الحليم فيها حيران وتلتبس فيها الأفهام قال الله تعالى : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه " وقال تعالى : " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ".
2. التعاون على البر والتقوى والاعتصام بحبل الله جميعاً والبعد عن الإختلاف والتفرق وعصبية الجاهلية وحظوظ النفس والحذر من مرض الزعامة والمصالح الشخصية وتوظيف أزمة الأمة لهذه المصالح الدنيوية . ولذلك فإني أقول لكم أيها العلماء الفضلاء والدعاة المخلصون : ليبادر كلٌ منكم إلى طلب التعاون والتشاور دون أن ينتظر من يدعوه فمن بادر نال الأجر والثواب " ومن سنَّ سنةًّ حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً "
3. التشاور فيما نزل بالأمة من نوازل ليكون رأياً متحداً تجتمع عليه الأمة بعيداً عن الآراء الفردية التي كثيراً ما يعتريها الخلل والاستعجال .
4. المبادرة إلى الأخذ بزمام الأمور والمسارعة إلى بيان الموقف الشرعي من الأحداث قبل أن يتعجل متعجل أو يجهل جاهل فينفرط الزمام وتقع الفتنة فأنتم من تجتمع عليه الأمة فإذا بينتم البيان الشافي للأمة سمعت وأطاعت .
5. نشر العلم الشرعي وفقه الأزمات والتأكيد على المفاهيم الشرعية ومباديء الدين وأسسه بعيداً عن هزيمة المباديء أو التنازل عنها فإن في ذلك خطراً عظيماً فإذا زل العالم زلت بزلته الأتباع .
6. تثبيت الأمة ودعوتها إلى الصبر والتخفف من حياة الترف والتعود على الإبتلاء والإستعداد الكامل لمواجهة العدو .
7. القيام بواجب الأمربالمعروف والنهي عن المنكر وأن تكونوا في مقدمة الصفوف لإقامة هذا الواجب العظيم فلا يليق بعالم رباني أو داعية صادق أن يرى المنكرات تعم بلاد المسلمين ولا يبادر إلى المشاركة في الإنكار كما أمر الله .
8. مناصحة ومناشدة حكومات العالم الإسلامي ومخاطبتهم بقوة الحق ومطالبتهم بأن يكونوا على مستوى الأحداث وأن يتقوا الله في الأمة فلا يتركوها فريسة لسباع الكفر وأفاعي النفاق .
ثانياً : إلى حكومات العالم الإسلامي وقادته :
يا من ولاهم الله أمر هذه الأمة : اتقوا الله سبحانه واعلموا أن المصير إليه واحذروا من التقصير في حق الأمة وإضاعة حقها وتبديد ثروتها وتركها نهبة لذئاب الكفر والظلم وإليكم هذه النصائح :
1. احذروا من موالاة الكافرين أو مناصرتهم في بغيهم وعدوانهم فقد قال الله تعالى : " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون" وخذوا العبرة ممن سبقكم وظاهر المشركين على المسلمين كيف أنتقم الله منه فمات مشرداً مطروداً .
2. ثقوا بالله وبنصره واعلموا أن الملك بيد الله يؤتيه من يشاء وليس بيد أمريكا أوغيرها فلا تخشوها أوتخافوا سطوتها وسلاحها الفتاك فهي أضعف مما تتصورون والأمر هو لله وحده فإن صدقتم الله بالعودة إليه والتوبة وتحكيم شرعه والعدل في رعاياكم وترك ظلمهم وإعادة الحقوق إلى أهلها ورفع راية الجهاد فإن الله سبحانه سيصدقكم ويمكِّن لكم في الأرض قال تعالى : " فلوا صدقوا الله لكان خيراً لهم " وقال سبحانه :" قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " .
3. إعداد الأمة للجهاد في سبيل الله وتصحيح العلاقة مع شعوبكم وذلك بالاستعداد الصادق وفتح ميادين التدريب على الجهاد لشعوب الأمة المسلمة قبل أن يفلت الزمام من أيديكم وتتعدد الرايات وتقع الفتنة بين المسلمين وفي إعداد القوة للعدو أعظم الرعب لدول الكفر وما كوريا الشمالية منكم ببعيد قال تعالى : " وأعدوالهم مااستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوالله وعدوكم "
4. رفع الظلم والمعاناة عن شعوبكم وتحقيق المساواة والعدل بينهم في جميع أمورهم وإخراج من كان مظلوماً في السجون والإحسان إليهم واستثمار طاقتهم فإن الله يمكن للدولة العادلة ولوكانت كافرة ويهلك الدولة الظالمة ولوكانت مسلمة فالظلم من أشد أسباب هلاك الدول والشعوب وربَّ دعوة مظلوم سرت بليل كانت سبب هلاك أقوام بكاملها.
5. التوجيه الصادق للإعلام من قنوات وإذاعات وصحف ومجلات لتكون مناصرة للإسلام وأهله بعيدة عن عرض المنكر والفاحشة وكل ما يغضب الرحمن وألاَّ تكون ببغاء لنقل سياسات ولقاءات أهل الكفر والطغيان أهل الكذب والبهتان وأن تنطلق هذه الوسائل الإعلامية من ثوابت ديننا ومسلماته في نقل الخبر وتحليله بعيداً عن الهزيمة الإعلامية أو التباطؤ في اظهار حقيقة المعركة خشية من بطش دولة الكفر أمريكا فالإعلام له دور مهم في المعركة وبعد المعركة فالمعركة نصفان لسان وسنان .(/9)
6. احترام العلماء الربانيين والدعاة الصادقين وتمكينهم من قول الحق والتعاون معهم بصدق للخروج من هذه الأزمة بأقل الخسائر وأفضل النتائج " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب " صنفان من الناس إذا صلحوا صلحت الأمة العلماء والأمراء .
ثالثاً : إلى عموم الأمة :
أيها المسلمون يا من رضيتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ونبياً يا من تؤمنون بالله وتوقنون بنصره وبأن الدار الآخرة خير وأبقى . ابشروا فهاهي الجنة تزف إليكم " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " " وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً " هاهي رأس الكفر ورائدةُ الظلم قد ألقت إليكم بفلذات كبدها وبأحسن أسلحتهم تقنية بين أيديكم عسى الله أن يجعلها غنيمة للمسلمين تفاؤلاً بقوله تعالى :" وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطؤها وكان الله على كل شيء قديراً " لكن أخي الحبيب اعلم أن سنن الله في النصر والتمكين أيضاً لا تتبدل ولا تتغير " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " : إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " " إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور " . " ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز .الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ". وقال سبحانه : " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذهم الله بما كانوا يكسبون " أيها الأخوة المؤمنون إن نصر الله قريب لمن ينصر دين الله لكنه لا يقدم على صحن من ذهب أوباقة من زهور فهو يحتاج إلى تضحيات وجهاد مستمر وخروج عن مألوف حياة الترف قال تعالى : " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمايأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب " " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم " فإليك أخي المسلم أختي المسلمة هذه النصائح على وجه الإشارة لتكون لكم زاداً في هذه الأزمة الحالكة :
1. اليقين التام بأن ما يحدث هو بإرادة الله وقضائه وأنه وحده سبحانه هو المتصرف في هذا الكون ، فما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن فالأمر له وحده وهو العليم الحكيم فليكن يقينك صادقاً بذلك علماً وعملاً بتفرد الله سبحانه بالأمر بعيداً عن أسطورة أن النصر محقق لأمريكا أو لغيرها أوانها هي التي تتصرف في الكون واعلم أن الأمور بنهاياتها وليس ببداياتها فقد تنتصر أمريكا فترة من الزمن ثم يخرج الله قوماً مجاهدين صادقين يعذب الله جيوش الكفر بجهادهم قال تعالى :" فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار "
2. العودة الصادقة إلى الله سبحانه فما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة فلنلجأ إلى الله سبحانه ولننفض عنا غبار الذنوب والمعاصي ولنعمر مساجدنا ليلاً ونهاراً بالصلاة والدعاء والتضرع والتوبة وصدق اللجأ إلى الله سبحانه فإن الفرج مع الكرب وإن مع العسر يسراً فلا يليق بالمسلم الصادق أن يبادر إذا داهمته الأزمات إلى جمع الأرزاق وتخزينها وإن كان لا بأس من فعل الأسباب ولكن ينبغي أولاً المسارعة إلى بيوت الله والتضرع إلى الله ودعائه والتوبة الصادقة من جميع الذنوب " يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحاً " .
3. إقامة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بيتك وبين أفراد أسرتك وفي الحي وفي السوق والعمل وفي كل مكان بالضوابط الشرعية التي بينها أهل العلم الربانيين وأن تتعاون مع أهل الإصلاح في تحقيق ذلك فندعوا الناس إلى ترك الربا وأهله والبعد عن مزامير الشيطان وأماكن الفحش وظلم العمال وغير ذلك من أنواع الذنوب والمعاصي الخاصة والعامة .
4. التأخي والتكافل مع إخوانك المسلمين والبعد عن أسباب الاختلاف والتفرق ونبذ عصبية الجاهلية من وطنية وقطرية وإقليمية فالمسلمون أمة واحدة " إنما المؤمنون إخوة " " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى "
5. الالتفاف حول العلماء الربانيين والدعاة الصادقين والاستماع لهم والتعاون معهم لدفع الأخطار والفتن عن بلاد المسلمين .(/10)
6. الصبر والمصابرة وتعويد الأهل على الإبتلاء وتعليمهم بواجب الصبر والاحتساب في ذلك والبعد عن الاستعجال في المواقف أو الإنسياق إلى تفريط أو إفراط والإلتزام بالمنهج الشرعي عند وقوع الفتن وذلك بسؤال أهل العلم والفتوى الموثوق بدينهم وأمانتهم بما يجب فعله والمحافظة على أمن البلاد ووحدتها ومناصحة ولاة الأمر بالتمسك بالحق فإن الخير في الوحدة والائتلاف و الشر في الفرقة والإختلاف " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين " .
7. حفظ اللسان من الوقوع في أعراض المسلمين أو الاستهانة بإطلاق أحكام التكفير والتفسيق بدون دليل شرعي وحجة وبرهان فإن ذلك مزلة أقدام ومن كفر مسلماً فقدباء بالكفر أحدهما نسأل الله العافية ولا سيما في أوقات الفتن فإن الشيطان أحرص ما يكون على ذلك إذ النفوس متوترة فأغلق باب الشيطان ليبقى مدحوراً مثبوراً .
8. الابتعاد عن أن تكون معولاً لإيقاع الفتنة في بلاد المسلمين طلباً لمصلحة وهمية أودفعاً لمفسدة وهمية فإن من مصلحة العدو المتربص أن يرى الفتن في بلاد المسلمين قائمة وأن تشتعل الحرب بينهم فيقضي بعضهم على بعض ويستريح هو وهذا ما حدث في أفغانستان إذ دخل العدو بلادهم على ظهور أبناء البلاد ممن فرط في الأمانة .
9. الاستعداد للجهاد علماً وعملاً وإعداد النفس لذلك بالضوابط الشرعية المعتبرة بعيداً عن حياة الترف القاتل وأن تربي نفسك وأهل بيتك على ذلك ما استطعت .
10. مطالبة ولاة الأمر وعلماء الأمة بالتعاون لفتح باب الإعداد للجهاد بالوسائل المشروعة لتكون الأمة مستيقظة لمكر عدوها .
11. البعد عن الشائعات والتأكد من الأخبار قبل نقلها ونشرها والحذر من الإنحراف عن المنهج الشرعي عند التعامل مع الرؤى فهي كما أخبر صلى الله عليه وسلم من المبشرات ولكن تحديد وقوعها إن صدقت رؤيا الرائي هو من علم الغيب فقد يرى المؤمن الرؤيا فلا تقع إلا بعد سنين فالإستطراد في هذا الجانب قد يؤدي إلى الإفراط وربما إلى العجز وترك العمل والجهاد .
12. الدعاء المستمر في كل وقت وحين في جميع أوقات الصلوات ما أمكن وذلك بأن ينصر الله الإسلام والمسلمين ويذل الكفر والكافرين وأن ينجي المستضعفين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فهذا هو أدنى واجب تقوم به لدعم أخوانك واحذر من المخذلين والمثبطين واتق الله أن تخذل اخوانك في محنتهم فيتخلى الله عنك أحوج ما تكون إليه وفي الحديث " ما من أمرئ يخذل امرءاً مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته ، ومامن أحد ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه ، وينتهك فيه من حرمته ، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته " فأخواننا المسلمون في فلسطين وفي الشيشان وفي العراق وفي الفلبين وفي كشمير وفي أفغانستان وغيرها هم أحوج ما يكونون إلى الدعاء والدعم منك أخي المسلم بما تستطيع ومواساتهم بما أمكن فأحذر أن تخذلهم فيعافيهم الله ويبتليك وإني لأقول أخوتي الكرام إن من العار الا تشعر الأمة كلها بالخطر فتفزع إلى الدعاء واللجأ إلى الله فقم أخي الحبيب في ظلمة الليل وتحر أوقات الإجابة وارفع يديك صادقاً بالدعاء فلعل دعوةً مستجابة يرفع الله بها البلاء عن الأمة . وعلى الأئمة والخطباء أن يشعروا بواجبهم تجاه إخوانهم المسلمين فيقتدوا بسنة محمد صلى الله عليه وسلم في القنوت عند النوازل وهل أعظم من نازلة احتل فيها العدو بلاد المسلمين ظلماً وعدواناً ولكن المحروم من حرم خيراً لا مشقة فيه لا سيما أن دعاء المسلمين يرهب الأعداء ولذلك فمنعه هو موافقة لسياساتهم الداعية إلى عدم تفعيل معارضة شعبية إسلامية ضدهم .(/11)
13. اليقين بنصر الله سبحانه لهذه الأمة واحذر أن يرهبك ما عند العدو من أسلحة فتاكة فإن هذا من أهدافهم فهم إنما يستعرضون قوتهم لتخويف المسلمين وإلا فقد كان يكفيهم في حربهم على المسلمين الأفغان عُشر كميات القنابل والصواريخ أو أقل وكذلك في العراق لكنه الترهيب والتخويف فلا تقلق أخي الحبيب واعلم أن لله جنود السموات والأرض فلو شاء سبحانه لسلط عليهم أحد جنوده وهي الريح العقيم التي لا تبقى ولا تذر فقل لي بربك لوسلط عليهم ماذا تغني عنهم سفنهم وطائراتهم قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً " لكن ذلك النصر إنما يأتي للمؤمنين الصادقين . واسمع قول الله سبحانه : " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين . إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون " . وقوله تعالى " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون "وعليكم بسنة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما ذكر الله عنهم بقوله : " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فأخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل . فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوءٌ واتبعوا رضوان الله و الله ذو فضل عظيم .إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " فأكثر أخي الحبيب من قول : حسبنا الله ونعم الوكيل وعلمها أهل بيتك وجيرانك فهو كافي المؤمنين وحافظهم . ومهما كانت نتيجة الحرب سواءً اندحر الأمريكان أو سقط نظام البعث فاعلم أخي الكريم أن النصر في النهاية هو للمؤمنين " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " واعلم أن الشهادة في سبيل الله من أعظم الأعمال بل هي من أحب الأعمال إلى الله سبحانه فهي بذاتها نصر وكرامة " ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً " .
14. الارتباط المستمر بكتاب الله ، تلاوةً وتدبراً وتفكراً وتأملاً مع الوقوف الطويل عند آياته ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً فهو أعظم أنيس في الأزمات منه تشم رائحة الأمل والفرج والنصر والهداية لا سيما ما له علاقة بوعد الله ونصره للمؤمنين وسنته في المدافعة عن المؤمنين واهلاك الكافرين وكيف أنه وحده المتصرف في الكون . فآيات القرآن في الأزمات بلسمٌ شافي وداوء كافي لكل أمراض القلوب من الخوف والهزيمة النفسية والضعف والخور وشبهات الأعداء ففيه من التثبيت والتقوية للمؤمنين مالا يعلمه إلا الله . إقرأ سورة آل عمران وسورة الأنفال وسورة التوبة وسورة هود ويونس والرعد ويوسف وطه والأحزاب والفتح وغيرها من السور والآيات التي تربط على قلوب المؤمنين . اسمع مثلاً ما ذكره الله عن عذاب الكافرين واهلاكهم :" أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون . أو يأخذهم في تقلبهم فماهم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤف رحيم " . " فكلاً أخذنا بذنبه ، فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " . واسمع في تطمين الله للمؤمنين : " حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فننجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين " " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويسبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون . يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين . الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا واتقوا أجر عظيم " . " إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون " .
" ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً . وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطؤها وكان الله على كل شيء قديراً " وما يدريك فلعل أمريكا خرجت لتشتيت المسلمين وتقطيعهم أحزابا ودويلات فقد يمكر الله بها فتتمزق هي أشتاتاً وتكون هي وسلاحها غنيمة للمسلمين . واسمع قوله تعالى : " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون " إلى غير ذلك من الآيات التي تثبت على الإيمان وتزيد المؤمن صبراً ويقيناً .(/12)
15. إلى إخواننا المسلمين المستضعفين في العراق وهم يعيشون تحت وابل القنابل والصواريخ أوصيكم بتقوى الله سبحانه والعودة الصادقة إليه في التمسك بشرعة والثقة واليقين بنصره والكفر بكل طاغوت وأن تجعلوا نية جهادكم لإعلاء كلمة الله وليس شجاعة أو عصبية جاهلية فإن الشهادة في سبيل الله لا ينالها إلا من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا واصبروا وصابروا ولا تختلفوا وابشروا مادام قتالكم لإعلاء كلمة الله فقد تزينت لكم الجنان وطاب لكم السفر إلى الرحمن فإما النصر وإما الشهادة حيث الجنات التي عرضها السموات والأرض فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فلعل الجنة اشتاقت إلى الشهداء واختاركم الله لتكونوا أول زمرة في بلاد الرافدين فأثبتوا وجاهدوا الكفرة المعتدين حتى لوسقط النظام البعثي وقادته فأنتم المجاهدون الصادقون فالله الله أن يحتل الغزاة أرض الإسلام واعلموا أن أخوانكم المسلمين في كل مكان معكم بالدعاء والدعم واعلموا ان من مات منكم في سبيل الله أو أصيب فإن الله سيخلفه في أهله وأولاده وسيعوضه خيراً في الدنيا والآخرة . " فما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين " أعانكم الله وسددكم ونصركم وثبتكم وقهر عدوكم .
وختاماً فإن بشائر النصر كثيرة ومكر الله بالقوم ظاهر وما على الأمة إلا أن تعود إلى دينها بصدق وإخلاص وأن ترفع راية الجهاد في سبيل الله وأن تعتصم بحبل الله حتى يتحقق وعد الله بنصرهذه الأمة وتأييدها وإهلاك الظالمين المجرمين وما ذلك على الله بعزيز .
" ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم "
اللهم انصر الإسلام والمسلمين . وأذل الشرك والمشركين والمنافقين ودمر أعداءك أعداء الدين . اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزم جيوش الكفر الغازية . اللهم دمرهم تدميراً . اللهم أكفناهم بما شتت اللهم مزقهم تمزيقاً اللهم عليك بقوات أمريكا رأس الكفر والإلحاد وعليك بحلفائها .اللهم عليك ببوش وبلير وشارون رؤوس الكفر وأعوانهم وأشكالهم . اللهم اقذف الرعب في قلوبهم اللهم خالف بين قلوبهم اللهم اجعلهم وما يملكون غنيمة للإسلام والمسلمين اللهم انصر عبادك المجاهدين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها . اللهم انصرهم في فلسطين وفي العراق وفي الشيشان وفي الفلبين وفي كشمير وفي بلاد الأفغان والبلقان وفي كل أرض وبلد . اللهم أمِّن خائفهم واحمل حافيهم واطعم جائعهم واكس عاريهم وآوي يتيمهم وأرملتهم ومشردهم . وأيدهم بجنودك يا أرحم الراحمين . اللهم كن لإخواننا المسلمين في العراق عوناً ونصيراً . اللهم ثبت أقدامهم اللهم أنزل عليهم السكينة والطمأنينة . اللهم اكفهم شرقنابل وصواريخ المجرمين اللهم احقن دماءهم اللهم اخلفهم في أهليهم ونسائهم وأطفالهم بخير فأنت خير من يستخلف . اللهم احفظهم في دينهم وفي أعراضهم وفي أموالهم وأطفالهم وأرفع البلاء عنهم يا أرحم الراحمين . والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
________________________________________
1.- تزعم نتنياهو 1993 – 1996 منصب رئيس الليكود وتزعم المعارضة الصهيونية اليمينية التي سعت إلى الإطاحة برابين . وتحويل وجهة البلاد إلى " اليمين " على أساس سياسة العداء السافر للعرب.
- يتكون هذا الفريق من لِبَرْمان ، ليني بين دافيد ، مائير داغان .
- خطط هذا الفريق للوصول إلى إسرائيل الكبرى ( من النيل إلى الفرات ) .
- أصرَّ نتنياهو على أن تكون إسرائيل دولة لليهود فقط ومركزاً رئيسياً ليهود العالم ، ويرى عدم أحقية العرب في الأرض المحتلة من 1967 وحتى الجولان .
- تولى الرئاسة 1996 – وكان وراء فضيحة كلينتون .
استطاع من خلال عضو الفريق ديفيس التأثير على سياسة أمريكا فقد شغل فترة من الزمن عضواً في لجنة العلاقات العامة الأمريكية الإسرائيلية والتي لها تأثير كبير على السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوس(/13)
فلا تقعدوا معهم
عبدالملك القاسم
دار القاسم
(
الحمد لله مستحق الحمد وأهله، يجزي الصادقين بصدقهم من رحمته وفضله، ويجازي الكاذبين فيعاقبهم إن شاء بحكمته وعدله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في حكمه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعه في هديه، وسلم تسليماً.. أما بعد:
فقد سرت أمراض خبيثة في أمة الإسلام تحصد الحسنات وتجلب السيئات، يقوم بها مخلوق صغير هو من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة، إنه اللسان الذي به تظهر الرفعة والدنو والسقطة والعلو..
وفي بعض المجالس انصرف هذا اللسان إلى مورد خبيث ومزلق خطير محرم، ألا وهو السخرية والاستهزاء، ينبئك ذلك عن سوء طوية، وسواد قلب، وقله دين، قال تعالى: يأيها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ [الحجرات:11].
ومعنى السخرية: الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء.
وأشد أنواع الاستهزاء وأعظمها خطراً: الاستهزاء بالدين وأهله، ولخطورته وعظم أمره فقد أجمع العلماء على أن الاستهزاء بالله وبدينه وبرسوله كفر بواح، يخرج من الملة بالكلية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الاسهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر صاحبه بعد إيمانه.
ولقد تفنن في أنواع السخرية والاستهزاء، فهناك من يهزأ بالحجاب، وآخر يسخر بتنفيذ الأحكام الشرعية، ولمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر نصيب من ذلك.. كما أن سنة نبينا محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام أيضاً لها نصيب من مرضى القلوب، فظهر الاستهزاء باللحية وقصر الثوب وغيره.
في جواب اللجنة الدائمة للإفتاء على من قال لآخر: "يالحية" مستهزئاً: إن الاستهزاء باللحية منكر عظيم فإن قصد القائل بقوله: "يالحية"، السخرية فذلك كفر، وإن قصد التعريف فليس بكفر، ولا ينبغي أن يدعوه بذلك.
ولنعلم خطورة الاستهزاء على دين الرجل.. فلنستمع إلى ما يتلى في سورة التوبة قال تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ [التوبة:65-66].
وقد ورد في سبب نزولها أن رجلاً من المنافقين قال: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء. فرفع ذلك إلى الرسول فجاء إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته فقال يا رسول الله: إنما كنا نخوض ونلعب فقال: أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ إلى قوله مُجْرِمِينَ وإن رجليه لتنسفان الحجارة، وما يلتفت إليه رسول الله وهو متعلق بنسعة رسول الله .
وثابت من سيرة رسول الله أنه أرحم الناس بالناس، وأقبل الناس عذراً للناس، ومع ذلك كله لم يقبل عذرا لمستهزيء، ولم يلتفت لحجة ساخر ضاحك. ولعلك – أخي - لاحظت في الآية الكريمة أن الله شهد لهم بالإيمان قبل الاستهزاء فقال: قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ .
قال ابن الجوزي في زاد المسير: وهذا يدل على أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء.
وقال الشيخ السعدي - رحمه الله -: إن الاستهزاء بالله ورسوله كفر يخرج عن الدين، لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله وتعظيم دينه ورسله، والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل ومناقض له أشد المناقضة.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله -: ومن الناس ديدنه تتبع أهل العلم لقيهم أو لم يلقهم، مثل قول: المطاوعة كذا وكذا. فهذا يخشى أن يكون مرتداً، ولا ينقم عليهم إلا أنهم أهل الطاعة..
ولقد فضح الله تعالى موقف المستهزئين بالمؤمنين وبين مراتبهم في الدار الآخرة فقال تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة:212].
والبعض إذا قيل له هذا من باب الاستهزاء بالدين، قال: نحن لم نقصد الدين، ولم نقصد الرجل بذاته، بل نمرح ونمزح.. وما علم إلى أين يؤدي به هذا المرح وذاك المزاح؟
إنه خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة. هلاك ودمار في العاجلة. وعذاب مقيم في الآجلة.(/1)
قال الله تعالى: قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ، إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ، فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ، إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:108-111].
والسخرية والاستهزاء للشخص العادي نوع من أنواع الأذى والتعدي، فما بالك إذا كان من المؤمنين أو المؤمنات، والملتزمين والملتزمات. قال الله جل وعلا: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً [الأحزاب:58].
وهذا اللسان الصغير الذي خلقه الله عز وجل للطاعة والعبادة قد يودي بصاحبه إلى المهالك، خاصة إذا كان يطلق بدون تحفظ ولا تحرز، فتراه يغمز هذا، ويلمز ذاك.. ومن تأمل في حال البعض رأى أن هناك مجالس طويلة قامت على الضحك والنكت الساذجة، يقول رسول الله محذراً ومبيناً عظم الأمر وخطورته { إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه يهوي بها من أبعد من الثريا } [رواه أحمد].
واحذر أخي المسلم الجلوس في مجالس يعصى الله عز وجل فيها، فإنه تعالى يقول: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً [النساء:140]، وعليك الإنكار عليهم مع القدرة، أو القيام مع عدمها.
واجعل أمام عينيك هذه الآية: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:118] واحرص على حفظ لسانك ففي الحديث: {.. وهل يكب الناس على وجوههم - أو على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم } [رواه الترمذي]. طهر الله ألسنتنا، ونزه أسماعنا من كل ما يشين، والحمد لله رب العالمين.(/2)
فلسطين
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
يا فِلسْطين ! يا رُبى المَسْجِد الأقْـ
ـصى ! أطِلّي مِنَ الغُيوبِ ونَادي
كُنتِ بالأمْسِ في عالَمِ المشْـ
ـهَدِ فِيْنا غِنىً وزَهْوةَ شَادِ
ويْحَ نَفْسي ! فَكيْفَ غِبْتِ وراء الـ
أُفْقِ عَنَّا في ظلْمَةٍ وسَوادِ
يا فِلسِطينُ ! يا حَنينَ اللّيالي
يا رفَيَفَ المنى وشَوْقَ الفُؤادِ
كَمَ نَبيٍّ دَعَا إلى الله بالحـ
ـقِّ ونادَى إلى الهُدَى والرّشادِ
النبوّاتُ في ربُوعِكِ تَتْرا
وهي تَتْلُو آياً وصَفْوَ مَبَادِيِ
دعوةَ الله ! دَعْوةَ الحقِّ والإِسْـ
ـلام ! بُشْرَى الجُدودِ والأحْفادِ
بِنبيٍّ على الزّمَانِ مُطِلٍّ
خَاتمِ الأنْبِيَاءِ بالحقِّ بَادِ
***
*
***
فإذا مُكَّةٌ تَلأْلأُ بالنّو
رِ ، بِبُشْرَى ، بأحْمدٍ ، بالهادي
وإذا المسْجِدُ الحرام ضِياءٌ
بَيْن أنواره حَنينُ البَوادي
وحَنينُ الأقْصى وشَوْقُ اللّيالي
وحَنينُ الذُّرا وَخَفْقُ الوادي
وجَلالُ الإِسْراء يَجْمَع في الأقْـ
ـصى نُبوَّاتِهِ عَلَى ميعادِ
أَمَّهم أَحَمْدُ النَّبيُّ فألقَوْا
كُلُّهم نَحْوَهُ جَميلَ انْقيادِ
وبدا الدِّينُ واحِداً وتَوالَتْ
في خُشوعٍ كَتائبُ الرُّوَّادِ
وحُشُودُ الحجيج تأتي " رجالاً
وعلى كلِّ ضامِرٍ " وجَوادِ
جَمَع اللهُ بالنّبيِّ الرِّسَالا
تِ وزُهْرَ الدِّيارِ والأَنجَادِ
خُتِمت تِلكُمُ الرِّسَالاتُ بالحـ
ــقِّ ، بآيٍ مُفَصَّلاتٍ فِرادِ
بكتابٍ على الزّمانِ جَديدٍ
مُحْكَمٍ مُعْجِزٍ لسانَ الضادِ
***
*
***
يا فِلَسْطينُ ! يا رُؤى الشَوقِ ! يا إِطْ
ـلالَةً من غَدٍ وفيِّ الرِّيادِ
أنتِ حقُّ الإِسلام ! لؤلؤةُ الإيـ
ـمان ! دَعْوى التوحيد والإرشادِ
غاصبٌ مجرِمٌ ألمَّ على الدا
رِ وفينا مِنَ الهَوَانِ عَوادِ (1)
ويحَ نفسي ! تضيعُ مِنا وفينا
رَمَقٌ ؟! يا لِفتْنَةٍ ورُقادِ
فاصْبري ! فاصبري ! سَيطلعُ يومٌ
فيه عَزْمٌ مُصَدِّقُ الإِنجادِ
يَطْلُعُ النّصْرُ من عزائمِ صِدقٍ
ومَيَادينِ فارسٍ رَعّادِ
***
*
***
يا فلسطين ! يا رُبى المسجدِ الأقْـ
ـصى ! أطِلِّي مِنَ الغُيوبِ ونَادي
سَيُجيبُ النّداءَ أرْوعُ فَتّا
كٌ يُدَوّي تكبيرهُ في البوَادي
عَرَفَ الدّرْبَ للحَياةِ فنادى
وتَوالى صَداه في كلِّ نادِ
في زحوفٍ تَرْتَجُّ مِنَها الرَّوابي
وتعيدُ الأمجادَ للأَمْجَادِ
***
*
***
إنها أُمَّةٌ تواثَبُ في الميـ
ـدانِ صفّاً مُجَلْجِلَ الأبْعادِ
قدْ بَناها الرسولُ تمضي مع الدهْـ
ــرِ وتبقى غنيّة الإمدادِ
فارجِعي أُمّتي كما كُنْتِ صفّاً
شُدَّ بالحقِّ والهُدَى والرشادِ
***
*
***
كم نَظَمْتُ القَصيدَ فِيكِ غَنيّاً
مُلْهماً من هوىً ومن أَكبادِ
يا لَها مِنْ مَلاَحِمٍ في رُبَاها
زهوةُ المجْدِ آية الإِنْشادِ
الميادين في رُبَاكِ حديثٌ
مُلْهِمٌ لِلعُصُورِ والآبَادِ
***
*
***
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ألمَّ بِـ ، وألمَّ على ، وتعني الإقامة القصيرة(/1)
فلسطين... ذلك الجرح الغائر في جسد الأمة
بعد غياب دولة الإسلام، وتلاشي سلطان القرآن، وزوال الحكم بما أنزل اللّه، كثرت جروح الأمة، وسالت منها الدماء، وازدادت تقرحاتها التهاباً مع مرور الزمن لعدم وجود العلاج الشافي، علاج دولة الخلافة.
إن الجرح الفلسطيني هو أشد هذه الجروح إيلاماً في جسد الأمة، وأكثرها اتساعاً، وأعمقها غوراً، فبنو يهود - وهم قتلة الأنبياء - سلطوا على المسلمين في فلسطين من قبل الكفرة المستعمرين، وما انفكوا يسفكون الدماء، ويغتصبون الأرض التي باركها الله، يعيثون فيها فساداً، ويعبثون بحرماتها ومقدساتها، حتى غدا ذبح الناس، وهدم البيوت، وتشريد الآمنين، من الأعمال اليومية الروتينية التي يقوم بها إخوان القردة والخنازير، ضد المسلمين في أرض الإسراء والمعراج. وأصبح تطويق الناس، ومحاصرتهم بالأسيجة والجدران والمستوطنات والطرق الالتفافية والحواجز الثابتة والطيارة، من الأمور المألوفة التي يتلذذ بنو صهيون في إيقاعها على الناس الأبرياء في طول البلاد وعرضها. وصار ترويع الأهالي ومصادرة أراضيهم وقطع أرزاقهم وتجريف أشجارهم ومزروعاتهم من أبجديات الحياة اليومية للفلسطينيين المغلوبين على أمرهم. يحدث هذا كله في فلسطين، وما يسمى بالمجتمع الدولي لا يحرك ساكناً، ويسوده صمت رهيب، فلا يأبه بما يحدث، وبما يقع من جرائم ومآسي ومظالم وانتهاكات.
على أن رد فعل ما يسمى بالمجتمع الدولي هذا هو أمر طبيعي، لكونه يطغى عليه نظام ظلم عالمي تسيطر عليه أميركا - عدوة الشعوب - ومعها الدول الكبرى الأخرى التي تتخذ من الكفر والهيمنة والجبروت أساساً لسياستها، لذلك، فلا يتوقع من هذا الذي يسمونه بالمجتمع الدولي غير ذلك، والأصل أن لا يعول عليه المسلمون ولو للحظة واحدة، فلا يجوز أن نعقد عليه الآمال، لأنه يخضع لأنظمة الكفر ولإرادات الكفار، والله سبحانه وتعالى يقول: { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ } [آل عمران/28].
أما الذي يحز في النفوس وتنفطر منه القلوب فليس هو المجتمع الدولي وإنما هو موقف حكام البلاد العربية والإسلامية الذين يتواطأون مع الكيان اليهودي ضد أهل فلسطين وضد الشعوب الإسلامية، إنهم يتآمرون جهاراً نهاراً مع اليهود، ومع الأميركان، ومع الإنجليز، لتصفية القضية الفلسطينية. فهؤلاء الحكام الخونة لم يكتفوا بالسهر على حراسة أمن الدولة اليهودية، ومنع المجاهدين من مقاتلة يهود وحسب، بل وقاموا أيضاً بقمع كل حركة جهادية أو سياسية أو فكرية تسعى لاستئصال شأفة الوجود اليهودي من فلسطين. لقد ساهم هؤلاء الحكام العملاء في مساعدة الدولة اليهودية في الوقوف على قدميها، أولاً على أرض فلسطين، وساهموا ثانياً في تقويتها وتمكينها من إحكام قبضتها على أهل فلسطين، الذين أصبحوا في حكم الرهائن والأسرى بأيدي هذه الدولة الدخيلة المصطنعة.
ساهموا بذلك كله من خلال تمرير المؤامرات ومخططات الكفار، لتمكين دولة يهود من العيش والبقاء والتنفس على هذه الأرض المباركة، وبذلك وجدت (إسرائيل) وتمددت وتفرعنت على حساب المسلمين ومن خلال حكام المسلمين من دون أن يرفَّ لهم جفن أو من دون أدنى إحساس بالذنب أو بتحمل المسؤولية.(/1)
لم يهزهم صرخات الثكالى والمصابين والمقهورين، ولم يلقوا بالاً لهدير الاستغاثات وأمواج النداءات التي فاضت عن اليتامى والأرامل، فلقد بحّت الحناجر، وتلاشت الأصوات، وانخلعت القلوب من شدة الصراخ والعويل والأنين لهول ما وقع، لكنها لم تلق آذاناً صاغية، ولم تلامس شغاف القلوب التي فقدت كل إحساس. إن هؤلاء الحكام الضالين المضلين يملكون القدرة على النصرة، ولكنهم لا يفعلون لأنهم لا يملكون الإرادة عليها، فهم قد تحولوا إلى رقيق فقدوا حرياتهم منذ أن ولاهم الكافر المستعمر أمور الحكم وشؤون الرعية، لقد أصبح ديدنهم في الحكم التنقل من خيانة إلى خيانة، ومن مؤامرة إلى مؤامرة، فقد وافقوا على جميع المشاريع التصفوية التي عُرضت عليهم، والتزموا بتنفيذ جميع الأوامر المهينة التي صدرت إليهم منذ قيام الدولة اليهودية في العام 1948م وحتى هذه الساعة، وما زالوا يلهثون وراء أميركا وبريطانيا واليهود، ما زالوا ينتظرون ما ستنتجه هذه الدول من مبادرات ومشاريع لتطبيقها، ويخلفهم أبناؤهم فيكملوا مسيرة الانتظار، حتى أصبح حالهم جزءاً من حالة الانتظار، ثم ما هي النتيجة؟! النتيجة أن خمسين عاما ونيفٍ مرت على قيام ما يسمى بـ(إسرائيل) ولم تنفد أياً من هذه المشاريع. وهذا يعني أن هذه المشاريع لم يؤتَ بها للتنفيذ، وإنما أتي بها للمماطلة والتسويف من أجل تقوية الدولة اليهودية وإضعاف الدويلات المجاورة لها. والدليل على ذلك أن (إسرائيل) ما زالت تزداد قوة وثباتاً في مواقفها بينما تزداد الدول العربية والسلطة الفلسطينية هزالاً وتراجعاً عن الثوابت، وعن ما يسمى بالخطوط الحمراء، وما التنازل عن أكثر من ثمانين في المائة من مساحة فلسطين لليهود، والتخلي عن الخيار العسكري في التعامل مع الدولة اليهودية، إلا دليل ساطع على صحة ما ذُكر، بينما وفي الجهة الأخرى نجد أن (إسرائيل) ما زالت تتشبث بكل الأرض الفلسطينية، وما زالت تبني المستوطنات، وما زالت تتمسك بالخيار العسكري، وما زالت تماطل في تنفيذ الاتفاقات. وإزاء هذه المعادلة غير المتكافئة، انقلبت الموازين، ووصلت الحال بالحكومات العربية والسلطة الفلسطينية إلى حد المطالبة بما كان يطالب به اليهود من قبل وهو وقف إطلاق النار، واستئناف المفاوضات بينما يتلكأ اليهود في التنفيذ.
إن هذا الوضع السياسي المزري الذي آلت إليه أمور المسلمين، جعل حكام سبع وخمسين دولة مسجلة في ما يسمى بمنظمة المؤتمر الإسلامي، لا تملك إلا المناشدة والاستجداء، وإن هذا الوضع نفسه جعل الحكومات العربية تتنازل حتى عن مشروعها الخياني الذي قدمه ولي العهد السعودي، والذي يقضي بتقديم اعتراف عربي رسمي مجاني بـ(إسرائيل) من قبل جميع الدول العربية من غير مقابل.
تنازلت هذه الحكومات العربية عن هذا المشروع الخياني، لتتحول إلى مشروع خياني آخر أكثر خيانة منه، وهو ما يسمى بخارطة الطريق التي لا يوجد فيها شيء للعرب والفلسطينيين غير الوعود، وفيها كل شيء مفصل لضمان أمن اليهود.
وآخر ما وصلت إليه مهازل السياسة العربية والفلسطينية تشكيل حكومة فلسطينية جديدة برئاسة أحمد قريع، والمطلوب من هذه الحكومة إكمال ما أخفقت في إكماله حكومة أبي مازن من تآمر على المقاومة، وترتيب ما يسمى بالبيت الفلسطيني للالتفاف على الرأي العام الرافض للمشاريع الأميركية، والمجيء بشعارات جديدة، وأساليب عمل جديدة، تهدف إلى ترويض الناس بتقديم بعض التسهيلات التي يسمونها إنجازات، مقابل ضمان أمن اليهود، ورفع الضغوطات المختلفة التي يتعرضون لها داخلياً وخارجياً.
وفي ظل عدم قدرة السلطة الفلسطينية حتى الآن في ضمان أمن اليهود ضماناً تاماً ومائة بالمائة، نشأ فراغ سياسي داخل المجتمع اليهودي، وظهر عجزٌ على حكومة شارون ناتجٌ عن عدم قدرة هذه الحكومة على تحقيق ما وعدت اليهود بتحقيقه، من جلبٍ للأمن والسلام مع عدم التخلي عن المستوطنات، فانتعشت المعارضة اليهودية وتقدمت بدعم أوروبي واضح، لملء هذا الفراغ فكان أن ظهرت المبادرة السويسرية والتي رعتها بريطانيا وأوروبا من وراء ستار، وتكفلت سويسرا بدعمها مالياً والإعلان عنها في مطلع العام القادم في جنيف.
وبالرغم من أن هذه المبادرة التآمرية قد ضمنت لليهود إلغاء حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، إلا أن شارون هاجمها بشدة، ولم تعترف بها أميركا، زاعمةً أن خطة الطريق هي المبادرة الوحيدة التي قبلتها الأطراف، وفي ذلك إشارة إلى محاولة إبعاد أوروبا عن القضية الفلسطينية، وعن الشرق الأوسط برمته، لتتفرد هي بالمنطقة من دون منافس. وفي ظل انشغال أميركا بورطتها في العراق، وبسبب حمّى الانتخابات الأميركية التي بدأت في أميركا، والمزمع إجراؤها في العام القادم، فإن الجمود السياسي هو سيد الموقف لفترة زمنية ليست بالقصيرة .(/2)
وهكذا نجد أن الكفار المستعمرين، والمستوطنين في بلادنا من أمريكيين وأوروبيين ويهود، هم الذين يمسكون بخيوط هذه القضية المهمة من قضايا المسلمين، وهم الذين يتجاذبون بها ويتحكمون بمفاصلها، بينما يتقاعس حكام العرب والمسلمين عن القيام بواجبهم تجاه هذه القضية المحورية، فحكام مصر والسعودية وسورية مشتغلون في مكافحة ما يسمى بالإرهاب، ومنشغلون في تجميل صورهم الكالحة أمام الكونجرس الأميركي، بينما تنشغل السلطة الفلسطينية في البحث عن السبل الكفيلة المؤدية إلى خنق المقاومة، وإرضاء اليهود ما أمكنهم إلى ذلك سبيلا، وتشتغل هذه السلطة في ملهاة تشكيل الحكومة الفلسطينية " العتيدة ".
إن ارتماء حكام العرب والمسلمين وزعماء الفلسطينيين في أحضان أميركا وتقاعسهم عن نصرة أهل فلسطين، ليس له أي سبب سوى الابتعاد عن الإسلام عقيدة وشريعةً ونظام حياةٍ، ولن ينجح هؤلاء الحكام والزعماء الأذلاء الخونة في تحقيق أية إنجازات تُذكر لصالح الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، وما لم تعامل هذه القضية على أنها قضية إسلامية عَقَدية، فلن تملك أية شرذمة مأفونة أن تحل هذه القضية، ولن تحل أبداً إلا إذا حلت قضية المسلمين الأولى وهي قضية إعادة الخلافة، واستئناف الحياة الإسلامية، فدولة الخلافة هي فقط التي ستتمكن من حل القضية الفلسطينية حلاً إسلامياً صحيحاً، يقضي على دولة اليهود، ويستأصلها من الجذور، ويزيلها من الوجود.
وما ذلك على الله بعزيز ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون(/3)
فلسفة الصلاة
بديع الزمان النورسي
بتاريخ 19/1/1923 وجه الأستاذ ( سعيد النورسي ) بياناً الى مجلس الأمة التركي ، تضمن عشر مواد بين فيه أهمية الصلاة ، لأنه لاحظ بأسف بالغ أن معظم نواب مجلس الأمة آنذاك لا يؤدون الصلاة . واستهل الأستاذ النورسي بيانه بـ :
(يا أيها المبعوثون .. إنكم لمبعوثون ليوم عظيم )
ومما قاله الأستاذ النورسي :
" إن الأمة الإسلامية مع أن قسما منهم لا يؤدون الصلاة الا أنهم يتطلعون أن يكون رؤساؤهم صالحين أتقياء حتى لو كانوا هم فسقة ، بل أن أول ما يبادر أهل الولايات الشرقية مسؤوليهم هو سؤالهم عن صلاتهم ، فأن كانوا مقيمين لها ، فبها ونعمت ويثقون بهم ، والا فسيظل الموظف المسؤول موضع شك وارتياب رغم كونه مقتدراً في أداء واجباته " (1).
ويذكر الأستاذ النورسي حادثة شاهدها بأم عينه ليبين للنواب أهمية إقامة الصلاة ، فيقول :
" ولقد حدث في حينه اضطرابات في عشائر (بيت الشباب) فذهبت لا ستقصي أسبابها ، فقالوا : ان مسؤولنا القائمقام لا يقيم الصلاة ويشرب الخمر ، فكيف نطيع أوامر أمثال هؤلاء المارقين من الدين .. هذا علماً إن الذين قالوا هذا الكلام هم أنفسهم كانوا لا يؤدون الصلاة بل كانوا قطاع طرق !) (2)
أثر بيان الأستاذ النورسي هذا فيهم ، فأقبل ما يقارب ستين نائبا من النواب الى أداء الصلاة حتى أن مسجد بناية مجلس الأمة لم كافيا للمصلين فانتقلوا الى غرفة مجاورة أكبر منه .
و ما أن رأى (مصطفى كمال ) رئيس الدولة آنذاك هذا المشهد حتى أمتعض ، ولم يرضَ عن هذا البيان – وهو الذي كرر دعوة الأستاذ النورسي الى أنقرة مراراً لاستشهاره بعدائه للمحتلين الانكليز ولكون (أنقرة ) مركز حركة المقامة – فأستدعى (النورسي ) وجرت بينهما مشادة عنيفة ، وكان مما قاله (مصطفى كمال ) : لا ريب اننا بحاجة الى أستاذ قدير مثلك ، لقد دعوناك الى هنا للاستفادة من ارائك المهمة ، ولكن أول عمل قمت به لنا هو الحديث عن الصلاة ، لقد كان أول جهودك هنا هو بث الفرقة بين أهل هذا المجلس فأجابه ( النورسي ) مشيراً اليه بأصبعه في حدة :
- باشا .. باشا .. أن أعظم حقيقة تتجلى بعد الإيمان هي الصلاة ، وأن الذي لا يصلي خائن ، وحكم الخائن مردود (3) .
والنورسي تراه يؤدي الصلاة في أوقاتها في الحل والترحال . في يته … في الجبال … في الوديان … في المحاكم . وكان يقول :
( أن وقت كل صلاة ، كما أنه بداية انقلاب زمني عظيم ومهم ، فهو كذلك مرآة لتصرف الهي عظيم ، تعكس الآلاء الإلهية الكلية - كالمرآة – في ذات الوقت . لهذا فقد أمر – في تلك الأوقات – بالصلاة ) (4) .
(والصلاة في أول الوقت ، والنظر إلى الكعبة خيالا مندوب إليهما ، ليرى المصلي حول بيت الله صفوفا كالدوائر المتداخلة المتحدة المركز ، فكما أحاط الصف الأقرب بالبيت ، أحاط الأبعد بعالم الإسلام ، فيشتاق إلى الانسلاك في سلوكهم . وبعد الانسلاك يصير له إجماع تلك الجماعة العظمى وتواترهم حجة وبرهانا قطعياً على كل حكم ودعوى تتضمنها الصلاة .
مثلاً : إذا قال المصلي (الحمد لله ) كأنه يقول كل المؤمنين المأمومين في مسجد الأرض : نعم صدقت – حيث يقولون جميعا : الحمد لله ، مثله ، - فيتضاءل ويضمحل تكذيب الأوهام ووسوسة الشيطان . وكذا يستفيض كل من الحواس واللطائف حصة وذوقا وأيمانا ، ولا يعوقها لم ؟ وكيف ؟ ففي أول الوقت تنعقد الجماعة العظمى للمتقين ، ولاتفاق الصلوات الخمس في الأقوال والأركان لا يخل اختلاف المطالع بخيال المصلي .. ولينظر المصلي وهو في مكانه الى الكعبة ، وهي في مكانها لا يجذبها اليه ولا يذهب اليها ليتظاهر له الصفوف ، ولا يشتغل بها قصدا للضرر ، بل يكفي شعور تبعي . وما يدريك لعل القدر الذي لا يهمل شيئا من الأشياء يكتب بأشكال هذه الصفوف المباركة المنتظمة في حركاتها سطورا على صحائف عالم المثال الذي من شأنه حفظ ما فيه دائماً) (5)
ويروي تلميذه ( بايرام يوكسل ) ذكرياته عن النورسي في بيان اهتمام أستاذه بأوقات الصلاة : ( كان يهتم كثيرا بأوقات الصلاة .. وحريصاً عليها كل الحرص .. وأسوق هنا مثالاً :
خرجنا يوما من (إسبارطة ) الى ( أميرداغ ) ولم يبقَ إلا خمس دقائق للوصول الى ( أميرداغ ) واذا بوقت الصلاة قد حان ، فنظر الاستاذ الى ساعته فأقام بنا الصلاة . ولم يكن الأستاذ يبالي بالبرد القارس ولا بالمطر اذا ما حان وقت الصلاة . فكنا نؤديها في أوقاتها في الحل والترحال .
وكان ( النورسي ) يقول :(/1)
ان اكثر من مئة مليون شخص من كل أرجاء العالم الإسلامي يجتمعون في الجامع المعظم ويشكلون جماعة كبرى لأداء كل صلاة في وقتها ، فكل فرد من هذه الجماعة يدعو للجماعة كلها بقوله : ( أهدنا الصراط المستقيم ) فهذه الآية الكريمة تصبح بمثابة دعاء وشفيع لكل فرد من أفراد الجماعة . نفهم من هذا عظم الثواب غير المتناهي والأخروي الذي يناله الفرد المؤدي صلاته في أوقاتها ، فالذي لا يشترك اذن مع هذه الجماعة لا يحصل على حظه من ذلك الثواب . مثله في هذا : الجندي الذي لم يجلب قصعته لأخذ طعامه من المطبخ الرئيس فلا يستلم أرزاقه المخصصة ، أي ان الذي لا يؤدي الصلوات في أوقاتها كأنه لا يأخذ أرزاقه المعنوية من القدر الرئيس في المطبخ المعنوي للجماعة الكبرى ) (6) .
واهتمام النورسي بالصلاة يأتي من أن الصلاة عماد الدين ، ( وإنها دعوة صانع الأزل الى سرادق حضوره خمس دعوات في اليوم والليلة لمناجاته التي هي في حكم المعراج (7) .
وانها ( بذاتها راحة كبرى للروح والقلب والعقل معا . فضلا عن أنها ليست عملا مرهقا للجسم . وفوق ذلك فأن سائر أعمال المصلي الدنيوية المباحة ستكون له بمثابة عبادة لله ، وذلك بالنية الصالحة .. فيستطيع اذن أن يحول المصلي جميع رأس مال عمره الى الآخرة فيكسب عمرا خالدا بعمره الفاني ) (8) .
وكان (النورسي ) عندما يكلم زواره الأصدقاء ويأخذ معهم أطراف الحديث يبادرهم بالسؤال التالي :
- ( هل من مسجد في قريتكم ؟ وأي درس يدرس أئمة المساجد ؟ فإذا أجابه الزائر بأنه ليس لديهم مسجد ولا معلم يعلمهم كان يتألم كثيرا ويحزن . ويعجب من أمرهم كيف يعيشون في مكان ليس فيه مسجد ولا مرشد ) (9) . لان في المساجد : ( توحيد قلوب الموحدين وجمع ألسنتهم في أمثال صلاة العيد والجمعة والجماعة ، بحيث يقابل هذا الإنسان عظمة خطاب المعبود الأزلي بجميع أصوات القلوب وأدعيتها وأذكارها ، بتظاهر وتظافر في اتفاق وتساند وتجاوب في وسعة كأن هذه الارض تنطق بنفسها وتصلي بأقطارها وتمتثل بأطرافها أمر : (أقيموا الصلاة ) النازل بالعزة والعظمة من فوق السماوات السبع ) (10) .
وفي تجواله ونزهته في السهول والوديان والطرق كان يبين أهمية الصلاة للأشخاص الذي يقابلهم من عمال ومهندسين وأصحاب شركات وضباط وجنود ورعاة .
يذكر طلابه المقربين انه في أحد الأيام كانوا مع النورسي في ( فندق يلدز ) في (اسكي شهر) فجاءه عدد من عمال مصنع السكر .. فقال لهم :
( انكم اذا ما أديتم الصلاة فأن عملكم في المصنع سيتحول الى عبادة لكم ، لأنكم تقومون بعمل مبارك ألا وهو تأمين الاحتياجات الضرورية للناس ) (11) .
وفي ( بارلا ) و (إسبارطة ) و ( أمير داغ ) كان يقول للرعاة الذي يلتقي بهم في السهول الخضراء وهم يرعون حيواناتهم في مروج بين الجبال والوديان والسهول :
( أنكم اذا ما أديتم الصلاة في أوقاتها الخمسة خلال اليوم فان اليوم بكامله يصير بمثابة عبادة لكم لا نكم برعيكم هذا تقدمون خدمة كبيرة للبشرية ، فان انتفاع بني البشر من اصوافها ولحومها وحليبها والبانها هو بحكم عبادة لكم ، فلا تؤذوا إذن هذه الحيوانات البرية النافعة ) (12) .
وفي احد الايام قال للعاملين في مركز توزيع الكهرباء في ( اكريدر ) :
( أن لهذا الكهرباء فائدة عظيمة للأمة فاذا ما أديتم الفرائض فأن جميع أعمالكم تتحول الى عبادة وتجارة أخروية ) (13).
وقد قال يوماً الى بستاني في ( بارلا) :
( ان تركت الصلاة المفروضة ، فأن جميع ثمار سعيك وعملك في هذا البستان ستنحصر في نفقة دنيوية تافهة دون أن تجنى فائدتها وبركاتها . ولكن أن صرفت وقت راحتك بين فترات العمل في أداء الصلاة ، التي هي وسيلة لراحة الروح ، ولتنفس القلب ، يضاف عندئذ الى نفقتك الأخروية وزاد أخرتك – مع نفقتك الدنيوية المباركة – مع ما تجنيه من منبع عظيم لكنزين معنويين دائمين وهما :
الكنز الأول : ستأخذ حظك ونصيبك من ( تسبيحات ) كل ما هيأته – بنية خالصة – من أزهار وثمار ونباتات في بستانك.
الكنز الثاني : أن كل من يأكل من محاصيل بستانك – سواء أ كان حيواناً او أنسانا أو شارياً أو سارقاً – يكون بحكم ( صدقة جارية ) لك ، فيما اذا نظرت الى نفسك كأنك وكيل وموظف لتوزيع ماله سبحانه وتعالى على مخلوقاته . أي تتصرف باسم الرزاق الحقيقي وضمن مرضاته ) (14) .
وعن صلاة الاستاذ وتسبيحاته يحدثنا ( ملا حميد ) – الذي لازم النورسي في ( جبل أرك ) في جامع ( نورشين )في مدينة ( وان ) - :(/2)
( كنت أنشرح كثيرا عندما أصلي مقتديا بالاستاذ ، كان قيامه للصلاة يزيد الإنسان رهبة وخشوعا . وكان يرشدنا الى أن التسبيحات والاذكار عقب الصلاة انما هي بحكم نوى للصلاة وبذورها . وكان يسبح ويذكر الله بصوت رخيم حزين ، فعندما يقول ( سبحان الله .. سبحان الله ) كنا نسمعه يصدر على مهل من أعماق أعماق قلبه . انني شخصا لم أر مثل الاستاذ قط من يصلي ثم يسبح هذا الخشوع والحزن ، مع انني رأيت كثيرا من الشيوخ والعلماء ) (15)
لقد كان النورسي يهتم كثيرا بالتسبيحات والاذكار عقب الصلاة ، وكان يوصي طلابه وإخوانه الذين يظهرون تكاسلاً وفتوراً في قراءة الأذكار بعد الصلاة:
( أن تلك الأذكار الواردة عقب الصلاة هي سُنة نبوية مطهرة ، وطريقة محمدية شريفة ، وهي اوراد الولاية الاحمدية فأصبحت أهميتها – اذن – من هذه
الزاوية عظيمة ) (16) .
والنورسي واقتداءً بالرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم ) والداعين الى طريق الحق ، فأنه كان يقوم لصلاة التهجد كل ليلة . لأن صلاة التهجد ، هي الزاد والمنار في الطريق الشاق الطويل الذي يسلكه السالكون الى الله ، لكي يعصمه من وساوس شياطين الأنس والجن . ومن ضلالات الطريق . أنها لحظات انقطاع هذا الإنسان عن كل حول وقوة تربطه بهذه الدنيا الفانية وبأي محبوب فان .. أنها لحظات تعطي للقلب انساً وطمأنينة وراحة وتسكن الروح فيها . والتهجد في الليل ( يذكر بضرورته ضياء لليل القبر ، ولظلمات عالم البرزخ ، وينبه ويذكر بنعم غير متناهية للمنعم الحقيقي عبر هذه الانقلابات ، ويعلن أيضا مدى أهلية المنعم الحقيقي للحمد والثناء ) (17) .
يقول تلميذه وصديقه ( ملا حميد ) حول قيام النورسي لصلاة التهجد :
( كان الأستاذ) يقوم لصلاة التهجد كل ليلة ، وكنت أحيانا أراه وهو يصلي فلا
أستطيع النوم . وعندما كان يراني مستيقظا يقول لي : ما دمت مستيقظاً فتعال وشاركني في الدعاء . ولكنني كنت أجهل قراءة أي دعاء( المقصود: باللغة العربية) فكان يقول لي : سأدعو أنا وردد أنت بعدي : آمين . فأنا أدعو بدعاء سيدنا يونس عليه السلام . وبدعاء أويس القرني وأطرق باب رحمة الله بهما . وكنت أغفو أحيانا أثناء الدعاء فكان ينظر الي ويقول : لقد كنت أنا أيضا مثلك .. ولكنك ستتعود )(18)
ويحدثنا تلميذه ( بايرام يوكسل) ذكرياته حول أذكار النورسي في الليل فيقول : ( كان الأستاذ ينام قليلا ، ويأكل قليلا جدا بحيث لا يكفي لإشباع حاجة الإنسان الاعتيادي وكان يقول لنا : - النوم الفطري والطبيعي هو خمس ساعات في اليوم . وكان من عاداته - التي لم يتخل عنها طوال حياته المباركة - أن يقضي الليالي بالتسبيح والتهليل والدعاء والمناجاة والتهجد ، وكان على وضوء دائم ، وكان جيران الأستاذ في ( إسبارطة وبارلا واميرداغ ) يقولون لنا : حينما ننظر الى بيت الأستاذ في الليل نرى مصباحه الخافت مضاء ونسمع أنين أذكاره الحزين ودعاءه الرقيق ) (19) .
الهوامش
(1)المثنوي العربي النوري - ص 197- النورسي - تحقيق احسان قاسم الصالحي .
(2)المثنوي العربي النوري – ص 197.
(3)بديع الزمان سعيد النورسي ( حياته واثاره ) ص53- تأليف احسان الصالحي .
(4)الكلمات الصغيرة – النورسي ترجمة : احسان الصالحي .
(5)المثنوي العربي النوري – ص164- 165.
(6)ذكريات عن سعيد النورسي – 76- ترجمة اسيد الصالحي .
(7)أشارات الاعجاز – ص 65- النورسي .
(8)الكلمات الصغيرة – الكلمة الرابعة – النورسي
(9)ذكريات عن سعيد النورسي – ص 13.
(10)المثنوي العربي النوري – ص280.
(11)Tarihce –I Hayat – 406
(12)ذكريات عن سعيد النورسي – ص100.
(13)Tarihce-I Hayat 406
(14) الكلمات – الكلمة التاسعة - النورسي- ترجمة : احسان الصالحي .
(15)ذكريات عن سعيد النورسي – ص10.
(16)Kastamoni LahiKasi-68.
(17)الكلمات - الكلمة التاسعة - النورسي
(18)ذكريات عن سعيد النورسي
(19)ذكريات عن سعيد النورسي – ص11.(/3)
فلنذكر دائمًا الغاية الأساسية ولا تشغلنا الجزئيات
الأستاذ/ أنور الجندي
ما تزال الكلمة الأولى هي الكلمة الأخيرة : هذا وطن الإسلام الذي سرق منه واستولى عليه الاستعمار وحاصر دينه وعقيدته في مؤامرة ضخمة لتدميرهما وتحويل هذه الأمة إلى عبودية الأممية والخضوع للحضارة الغربية والانصهار في المجتمع العالمي المادي العلماني الذي مرق من العبودية لله تبارك وتعالى مفكرًا هذه الرابطة متحللاً منها داعيًا إلى نقضها في محاولة للخروج عن سنن الله تبارك وتعالى.
وبالرغم من مرور أكثر من مائة وخمسين عامًا على الوطن الإسلامي وهو محاصر في دائرة النفوذ الغربي بشكل أو بآخر، وبالرغم من جهاد الأبرار على طول هذا المدى في سبيل الحفاظ على البيضة وحماية الفكرة .. فإنه مهما بدا أنه حر في حركته فهو مقيد محاصر مصادرة ثرواته ومقدراته ، مغرّب شبابه ورجاله حيث تحتويه دعوات الماركسية والليبرالية والقومية والفرعونية في محاولة مستمينة لفصله عن عقيدته ولتحطيم وحدته الكبرى بعد أن أسقطت خلافته ليظل دائمًا ممزقًا مستدلاً .
ولقد عملت اليقظة الإسلامية دائبة على تحريره من قيوده وخطت في سبيل ذلك خطوات واسعة انتقالاً إلى الصحة) في سبيل الوصول إلى (النهضة) غير أن كثافة ردود الأفعال ومضاعفة النفوذ الغربي لعمليات التغريب والغزو الفكري فإنها ماتزال تعمل في محاولة مستميتة لتصهرنا في بوتقة الغرب .
يأتي هذا الخطر عن طريق التعليم والثقافة والصحافة مما يتطلب منا الإلحاح الدائم على تذكر الغاية الأساسية وهي حماية أمتنا من الخطر المسلط على منهجنا الأصيل .
إن تتابع محاولات الاحتواء التي تجري اليوم تحت أسماء مختلفة تحاول أن تصورنا في صورة الأمن الخادع ظنًا منا أننا قد امتلكنا إرادتنا فلا خوف من صهرنا في بوتقة الأممية العالمية أو القضاء على تميزنا وخصوصياتنا ، التي أعطانا إياها الإسلام منذ أربع عشر قرنًا ، والتي ما تزال هي أخطر مايجب الحفاظ عليه وحمايته والتضحية بكل شيء في سبيل الدفاع عن هذه الخصوصية وهذا التميز فهو عنوان إسلامنا الذي ندافع عنه بالأرواح وبالأجساد المتراصة .
إن مهمتنا الحقيقية هو (البناء على الأساس) لسنا نطالب بالعودة إلى الماضي أو إحياء التاريخ ولكنا ندعو إلى التماس أصول منهجنا الذي بني عليه كياننا منذ أربعة عشر قرنًا : هذا المنهج المرن الواسع الأطر القابل لمتغيرات العصور والبيئات دون أن يتهم بالجمود أو التطرف إن النفوذ الأجنبي بهذه الجريمة التي ارتكبها منذ مائة سنة حين حجب منهجنا الإسلامي وشريعتنا وهدم وحدتنا الكبرى قد خالف طريقنا وفتح أمامنا السبل المتفرقة المضطربة وقسم عقيدتنا ومزق وجهتنا بين مذاهب وايدلوجيات بشرية مضطربة وقع الغرب في منزلقها لأنه اختار أن يترك ميراثه السماوي جملة ، أما نحن المسلمون فقد وجدنا أنفسنا على الجادة إزاء رسالة خالدة وكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ومنهج أصيل جامع وتاريخ عريق تتمثل فيه تجربة المسلم في سبيل بناء المجتمع الرباني (وإن لم يصل بعد إلى تحقيقها على الوجه الصحيح) .
فإذا نحن طالبنا أن نزيل هذه المرحلة المظلمة من التبعية للغرب حين فرض علينا قانونه الوضعي ونظامه الربوي ومنهجه العلماني ارتفعت الأصوات تصفنا بالجمود والتخلف والرجعية ، وما نحن من ذلك كله في شيء ، ولكنا فور أن نصحح الخطأ ونزيل تبعية فرضت ولم نقبل بها يومًا واحدًا من أيام حياتنا الماضية وكنا نتطلع في كل صباح لأن نعود إلى المنابع ونلتمس أصالتنا ونلتمس طريقنا الأصيل عملاً بالآية الكريمة .
?وَأنَّ هَذَا صِرَاطِيْ مُسْتَقِيْمًا فَاتَّبِعُوْهُ وَلاَ تَتَّبِعُوْا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيْلِه ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ? سورة الأنعام آية153.
نحن نختلف عن أصحاب الولاء للتبعية الغربية في أننا نطالب بتصحيح المسيرة ، مستمدين ذلك من واقع حياتنا ، فهي ليست معارضة خلاف أو خصومة ، ولكنها مراجعة تلتمس الوصول إلى الجذور والمنابع والبناء عليها ، مراجعة تحرير من تبعية هدف غربي أو ولاء لهذا المنهج أو ذاك من مناهج البشرية التي أثبتت التجربة فساد تطبيقها وسقطت في بلادها التي أنشأتها، وهي مراجعة يطالبنا بها العالم كله اليوم بعد أن أصبح الإسلام هو الأمل الوحيد للبشرية لإخراجها من الظلمات إلى النور .
فها نحن نرى أعلام الغرب وعلماءه يعلنون موقفهم من الإسلام ويكشفون عن فساد تلك الايدلوجيات واضطرابها وعجزها عن العطاء وها هم رجال القانون الغربيون في عديد من المؤتمرات العالمية يعلنون أن الشريعة الإسلامية هي أمل البشرية ومطمع أهلها ، يقولون هذا بينما أهلها مازالوا غارقين في تبعية بغيضة للقانون الوضعي بكل سوءاته وآثامه وحرمانه للأمة الإسلامية من حماية حدود الله تبارك وتعالى وتطبيقها .(/1)
2- إننا في حاجة دائمة إلى وعي رسالتنا وأمتنا ومهمتنا التي سوف نسأل عنها بين يدي الله تبارك وتعالى ، وهي الذود عن أمانة الدعوة إيمانًا بأن هذه الأمة الإسلامية هي الأمة الخاتمة المصطفاة لحمل رسالة التوحيد إلى العالمين حتى يرث الله الأرض ومن عليها .
وأن جميع الرسالات التي سبقت كانت بمثابة تمهيد وإعداد لهذه الرسالة الخاتمة وأن (الصحوة) في الأمة تنبعث دائمًا من داخلها من منطلق تصحيح المسيرة وليس بعامل خارجي إلا أن يكون الوعي بالخطر الذي يحيط بها .
وقد صدقت مقولة شيخنا أبي الحسن الندوي حين يقول:
(إن الصحوة الإسلامية هي صفة الإسلام ويجب أن تتصل اتصالاً وثيقًا في حلقاتها لأنها الأمة المختارة والأخيرة والمبعوثة للإنسانية كلها) . وقد امتاز الإسلام بأنه يختلف عن الدعوات السابقة بأن له فترات إصلاحية فورية جذرية تدعو إلى العودة به إلى الأصل الأول.
حيث لم تخل مرحلة من وجود مصلح أو مجدد أو داعية للصحوة الإسلامية في هذا البلد أو ذاك على اختلاف المساحات والأرجاء فالصحف الإسلامية في الحقيقة من طبيعة الإسلام ويجب أن تتصل اتصالاً وثيقًا في حلقاتها فإنها الأمة المختارة أو الأمة المبعوثة للإنسانية جمعاء ومن هنا نفهم معنى (الأمانة) الكبرى التي يحملها المتصدرون للدعوة الإسلامية ومدى خطر المسؤولية الملقاة على عاتقهم وأهمية الدور الذي هم مكلفون به ، والذي يجب أن يصل بهم إلى اليقين الوثيق في صدق هذه الدعوة وانتصارها وضرورة بذل النفس والنفيس في سبيل تبليغها وحمايتها وتصحيح المفاهيم ويبدو ذلك واضحًا في حديث رسول الله.
يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف المغالين وتزييف المبطلين وتأويل الجاهلين:
فمهما ادلهمت الأحداث واستعلى الباطل وارتفع صوت الضلال وظن الناس أن الأمور كلها قد اسلمت نفسها إلى هذا الانحراف الذي تنطلق به عجلة الحضارة المعاصرة والدول التي تسوقها نظم السيطرة الربوية العالمية بكل ما تمثله من فساد خلقي وانحراف وإسراف واندفاع نحو الهاوية ، فإن نور الحق لابد وأن يسطع وأن ترتفع كلمة الحق ، ولابد أن تغلب وكل من يسير في غير اتجاه الحق فإنما يسير ضد تيار التاريخ والفطرة.
ومن سار ضد تيار الفطرة لابد أن يتحطم ويدمر ولقد استعلت الحضارة الغربية بالباطل وساقت العالم كله وراءها الآن ، وفرضت مفاهيمها وقيمها وبقي ضوء الإسلام ممتدًا وإن كان خافتًا لم ينطفئ أبدًا ، ولاتزال الضربات تتوالى على المسلمين في كل مكان : ضربات الاقتصاد والتحلل الاجتماعي وكلها تستهدف أن يستسلم المسلمون ويقبلون بالانصهار في هذا النظام المنهار المتعفن الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة.
ولكن بقي على المسلمين أن ينظروا إلى غد وأن يؤكدوا موقفهم المسؤول عن الأمانة التي حملهم إياها الحق تبارك وتعالى ولا يتراجعوا أو ينزعجوا أمام التضخم والاستعلاء واتساع منطلقات الباطل وظلمه وفساده وتعدد معسكراته ، وعليهم أن يثبتوا واثقين بالنصر من الله لهم وكل يوم لهم فتح قريب.
ويجب أن يعلم المسلم أن كل هذا الفساد إلى زوال وأن الله تبارك وتعالى يأتي الأرض ينقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحمه ومن هنا فيجب أن يكون المسلم مطمئنًا إلى اليقين في الله وأن يظل المسلم مقاتلاً لا يستسلم أمام أهواء الحضارة أو فساد التيارات الفكرية العصرية غير مستسلم لها ، يقيم شرعة الله في نفسه وبيته وآله والمسلم مهما ادلهمت الأحداث فهو واثق من فرج الله ولا يميل أبدا إلى سوء الظن ولا يتقبل صور التشاؤم أو ظلام الأحقاد مهما كان قائلها بارز الصيت أو مكتوبة في صحف لامعة أو شهيرة فذلك وما يريده العدو الذي يطمع في أن يصل المسلم إلى مرحلة الاستسلام واليأس وكيف ينفض المسلم يده من الأمر وهو يعلم مسؤوليته أمام الله تبارك وتعالى على هذه الأمانة القائمة في عنقه وذلك الوعيد الصادق الأكيد بالنصر مهما ادلهمت الأحداث ؛ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا انهم قد كذبوا أتاهم نصرنا . وباب السماء مفتوح ونصر الله قريب إن مسؤوليتنا أن نصمد في موقفنا مؤمنين بأننا على الحق مرابطين حتى ننتصر أو نستشهد.
إن الوعي بحقيقة المخطط المرسوم لاحتواء الإسلام والمسلمين يجعلنا قادرين على التماس الطريق الذي رسمه الحق تبارك وتعالى لنا للخروج من كل مأزق ، وعلى شبابنا المسلم أن يكون على وعي كامل بعدة حقائق أساسية:
أولاً : أن مجتمعنا القائم الآن يمكن أن يكون نقطة انطلاق إلى واقع إسلامي لأن قاعدته الأساسية ماتزال سليمة وصالحة إذا أحسن توجيهها نحو البناء على الأساس وفق مفهوم النظام الإسلامي ، غير أن هذا الواقع القائم الآن ينقصه الكثير ويتطلب تصحيح كثير من مفاهيمه وقيمه وتعديل مساره نحو الطريق الأصيل وأهم ما يتطلبه هو التعامل الاجتماعي من قاعدة (الحفاظ على الحلال وتجاوز الحرام) سواء في المعاملات التجارية أو في العلاقات بين الرجل والمرأة.(/2)
ذلك لأننا كمسلمين وقد تشكل مجتمعنا منذ أربعة عشر قرنًا على مفاهيم الإسلام نؤمن بالقاعدة الأخلاقية الثابتة أساسًا متينًا للبناء الاجتماعي والتعامل الاجتماعي محررًا من شبهة الربا في الاقتصاد وشبهة الإباحة في المجتمع .
وهذا التوجه هو الذي تنظمه الشريعة الإسلامية فتحفظ المسلم من الانحراف وتحمله على تجاوز الحرام سواء في تعامله الاقتصادي أو الاجتماعي . وهذا ما ينقص مجتمعنا اليوم الذي يندفع بقوة نحو البحث عن الموارد والكسب والتعامل التجاري دون أن نضبط تعامله إسلاميًا بتحريم الربا أو أخلاقيًا بتجاوز الحدود.
ومن هنا فنحن في أشد الحاجة إلى الدخول في مرحلة تصحيح الوجهة ، وذلك بإقامة معاملاتنا سواء في مجال التجارة أو ا
لزراعة أو الاقتصاد على أساس تحري الحلال وتجاوز الحرام وكذلك إقامة علاقاتنا الاجتماعية على أساس نفسه.
وفي هذا المنطلق نحن في حاجة إلى تحرير أساليب التسلية والترفيه (سواء منها المسرح أو التلفزيون أو غيرها) .
من القصص الماجن والروايات والأفلام والمسلسلات المنحرفة التي تجعل مآثم المجتمعات وكأنها حقائق مشروعة وذلك لحماية شباب الأمة من الوقوع في الخطأ أو الخطر.
ثانيًا : إن الأصول الإسلامية لمجتمعنا يجب أن تكون واضحة في حركة الفكر فلا نجد المناهج والأبحاث تقدم وجهة نظر الفكر الليبرالي أو الفكر الماركسي على أوسع نطاق دون أن تقدم وجهة النظر الإسلامية سواء في مجال القانون أو الاقتصاد أو التربية في محاولة لإعلاء التصور الغربي وحجب التصور الإسلامي في محاولة لإعلاء منهج مغلوط هو أن الإسلام لا صلة له بالمجتمعات من حيث توجيهها ورسم مناهج تحركها ومعاملاتها لإفساح المجال أمام القانون الوضعي وإعلاء مفاهيم العلمانية .
وهذا التصور في مجموعه لا يمثل حقيقة مجتمعنا القائم أساسًا على الشريعة والذي يطالب بتطبيقها في مختلف المجالات السياسية .(/3)
فلنكن منصفين
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث مع أصحابه في أمور الدنيا ويتذكر معهم أيام الجاهلية، كان نبينا يمزح ويضحك مع أهله وأحبابه ، لطيف المعشر بعيد عن الغلظة والجفاء قدوة في السماحة والصفاء .
مما سبق ومن خلال لقائي بأناس متعددي الأصناف والاتجاهات وجدت أن هناك أغلبية عظمى ينظرون إلى أصحاب الدين والاستقامة أنهم جفاة غلاظ في تعاملاتهم ، فلماذا هذه النظرة القاتمة ؟ ولماذا ترسخت في عقول البعض هذه الفكرة السوداوية ؟
وهل هي موجودة فعلا ؟
ولماذا هي موجودة ؟
أقول : إن من الظلم والبخس الشديد أن نشير إلى طائفة بعينها بأصابع الاتهام والنقد لأنهم السبب المباشر في هذا الموضوع ؟؟
ولم أبعد النجعة إن قلت : إن كلا الفريقين قد أبعد في الإتباع والإقتداء بالمنهج النبوي ، فالفريق الأول حاد في باب التعامل مع الآخر والفريق الآخر حاد في باب التعميم وتصحيح الخطأ .
فالفريق الأول (المستقيم ) يرى أن بعض الناس عصاة بعيدون عن الله فلا يستحقون الاحترام والتعامل الحسن
، ونسي أنه قد يوجد لهم من الحسنات ما يفوق عمله بمراحل، فكون الإنسان حليق للحيته أو مسبل لثوبه مثلا ، لايعني أنه ضال أ و فاسق ليس له حسنة واحدة ومن المشاهد أنك قد تجد في صلاة الفجر مثلا هذا الحليق أو المسبل في الصفوف الأولى وذلك مدعي الاستقامة في صفوف أخرى ، فإن الإنسان إذا أخطأ في جانب قد يصيب في آخر .
وأما الآخر : فإنه يرى واحدا من هذه النوعية يعامله بجدية مطلقة أو بجفاء وغلظة فإذا به في كل مجلس يقول : هؤلاء المتدينين غلاظ جفاة لا يعرفون حتى الابتسامة ، والسؤال هنا : هل رأى الجميع وأحصاهم عددا وخالطهم فردا فردا ؟ فالجواب: لا . طبعا ولكنه التعميم والنظرة القاتمة.
إذا: ما أجمل الهدي النبوي في شؤون حياتنا، ما أحوجنا إلى رسم لوحة جميلة لأخلاقنا وسلوكنا وكيفية التعامل مع الآخر.
......
إبراهيم بن علي السفياني
المدرس بمعهد تبوك العلمي(/1)
فليعلمن الله الذين صدقوا }
قال تعالى: { الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت].
ـــــــــ
ذكر ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات: «أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في سورة البقرة. وقوله تعالى: { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } استفهام إنكار، ومعناه أن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان، كما جاء في الحديث الصحيح: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء». وهذه الآية كقوله: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } ، ومثلها في سورة براءة، وقال في البقرة: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } ولهذا قال ههنا: { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان ممن هو كاذب في قوله ودعواه. والله سبحانه وتعالى يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن، لو كان كيف يكون، وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة، وبهذا يقول ابن عباس وغيره، في مثل قوله { إلا لنعلم } إلا لنرى، وذلك لأن الرؤية إنما تتعلق بالموجود، والعلم أعم من الرؤية فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود». أ.هـ.
أما سيد قطب فقد ذكر في ظلاله عند تفسيره لهذه الآيات: «وقد قلنا من قبل: إن السور التي صدرت بهذه الحروف تتضمن حديثاً عن القرآن، إما مباشرة بعد هذه الحروف، وإما في ثنايا السورة، كما هو الحال في هذه السورة... وبعد هذا الافتتاح يبدأ الحديث عن الإيمان، والفتنة التي يتعرض لها المؤمنون لتحقيق هذا الإيمان، وكشف الصادقين والكاذبين بالفتنة والابتلاء. { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } إنه الإيقاع الأول... يساق في سورة استفهام استنكاري لمفهوم الناس للإيمان وحسبانهم أنه كلمة تقال باللسان... إن الإيمان ليس كلمة تقال، إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهاد يحتاج إلى احتمال. فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا، وهم لا يتركون لهذه الدعوى، حتى يتعرضوا للفتنة، فيثبتوا عليها، ويخرجوا منها صافية عناصرهم، خالصة قلوبهم، كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به، وهذا هو أصل الكلمة اللغوي، وله دلالته، وظله، وإيحاؤه، وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب. هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت، وسنة جارية في ميزان الله سبحانه. { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } .
........ .
إن الإيمان أمانة الله في الأرض، لا يحملها إلا من هم لها أهل، وفيهم على حملها قدرة، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص، وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة، وعلى الأمن والسلامة... وإنها لأمانة الخلافة في الأرض، وقيادة الناس إلى طريق الله، وتحقيق كلمته في عالم الحياة. فهي أمانة كريمة، وهي أمانة ثقيلة، وهي من أمر الله، يضطلع بها الناس، ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء.(/1)
ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله، ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه... هناك فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه، وهو لا يملك عنهم دفعاً، وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم، وينادونه باسم الحب والقرابة، واتقاء الله في الرحم... وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين، تهتف لهم الدنيا وتصفق لهم الجماهير.. وهو مهمل منكر، لا يحس به أحد... ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً... وهنالك فتنة الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة... وهناك فتنة من نوع آخر قد نراها بارزة في هذه الأيام، فتنة أن يجد المؤمن أمماً ودولاً غارقة في الرذيلة، وهي مع ذلك راقية في مجتمعها... ويجدها غنية قوية، وهي مشاقة لله!... وهنالك الفتنة الكبرى:.. فتنة النفس والشهوة وجاذبية الأرض، وثقلة اللحم والدم... وصعوبة الاستقامة على طريق الإيمان، والاستواء على مرتقاه، مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس...
فإذا طال الأمد، وبَعُدَ نصر الله، كانت الفتنة أشد وأقسى، ولم يثبت إلا من عصم الله، وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان، ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى، أمانة السماء في الأرض ........ .
والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث... وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات، فلا يبقى صامداً إلا أصلبها عوداً، وأقواها طبيعة، وأشدها اتصالاً بالله، وثقة فيما عنده من الحسنيين: النصر أو الأجر، وهؤلاء هم الذين يسلَّمون الراية في النهاية، مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار.
وإنهم ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن...
فأما انتصار الإيمان والحق، في النهاية، فقد تكفل به وعد الله، وما يشك مؤمن في وعد الله، فإن أبطأ فلحكمة مقدرة، فيها الخير للإيمان وأهله، وليس أحد أغير على الإيمان وأهله من الله، وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة ويقع عليهم البلاء، أن يكونوا هم المختارين من الله، ليكونوا أمناء على حق الله، وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة فهو يختارهم للابتلاء... جاء في الصحيح: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء».
وأما الذين يفتنون المؤمنين، ويعملون السيئات، فما هم بمفلتين من عذاب الله ولا ناجين مهما انتفخ باطلهم وانتفش...»(/2)
فليكن كل منا على ثغر
بدأ هذا الدين العظيم غريباً في وقت عم بلاء الشرك كافة الأرض كما جاء في الحديث.. « إن الله نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم فمقتهم إلا قلائل من أهل الكتاب »
وفي وسط هذه الظلمة الظلماء والناس بين عابد وثن وبين معتقد بتثليث أو تثنية وبين ضال ملحد , ظهر النور في ربوع مكة مؤذنا ببزوغ فجر جديد , بمثابة نقطة التحول الجذرية في تاريخ الإنسانية – " فعلى كل مسلم أن يعي ذلك جيداً بأن الإسلام كان نقطة تحول للإنسانية نقلها من جهل وتخلف إلى سمو وحضارة خلقية وعملية لولاها ما تمتع الغرب بما يتمتع به الآن ولولا أن المسلمين فرطوا في دينهم لكانوا أصحاب الصدارة الآن وما تخلفهم الحالي إلا عقاب رباني على عدم تطبيقهم لدينهم وإطاعة أمر ربهم " - وكان من الطبيعي أن يحدث الصدام الحتمي بين قوى الباطل المتمثلة في صور الكفر في داخل الجزيرة وخارجها وبين هذا النور الجديد الذي جاء من عند الله ليفرض على الناس الطهر والتحضر والسمو بدلاً من الجهل والجهالة في العمل والخلق..
وإزاء هذا الصدام الشرس من قوى الشر التي تمثلت داخل مكة في شخصيات مشركي قريش , أما خارجها فتمثلت في قوى الكفر العظمى في هذا الوقت الفرس والروم , كان لزاماً على هذه الشرذمة المؤمنة القليلة أن تجابه قوى الشر , وأن تنشر ما معها من نور في وجه ما عند أعدائها من ظلمة مؤيدين في ذلك بنصر الله وتأييده , ثم بما يمن به على رسوله من حكمة وتوجيه للثلة المؤمنة , التي واجهت أعتى الإيذاءات وأشرس الابتلاءات بصدور عارية , واثقة بنصر ربها , حتى هان بلال على قومه وهانت عليه نفسه في الله وهو ثابت راسخ لا يقول إلا أحد أحد , وثبتت معه الثلة المؤمنة وعلى رأسهم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ,
والمتأمل لموقف الرسول وصحبه الكرام , يعلم جلياً بأن موقفهم كان فيه تحمل للمسئولية العظيمة الجسيمة التي وضعت على عواتقهم , من إقامة دولة الإسلام وإيصال هذه الأمانة العظيمة لمن بعدهم من الأجيال , فكانت الابتلاءات التي تقابلهم لا تقف أمامهم وإنما هي كالزبد الهش , كان إيمانهم ثابت كشم الجبال لا يتزعزع , مما يذكرنا بقول الله تعالى { فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض }
وليعلم كل مسلم على وجه الأرض الآن أن نفس الأمانة ملقاة على عاتقه , في زمن غربة الإسلام , وإلصاق التهم به وبأهله , واغتصاب حرم الإسلام وأهله , مما جعل المسئولية عظيمة في الرجوع بالأمة إلى مجدها , وفي إهداء الأمانة إلى أهلها , وما أهلها إلا أجيالنا القادمة , التي لو فرطنا في ديننا وعمنا الوهن ما وصل إليهم هذا الدين , أو على أحسن الظروف لو لم نتمسك ونقف لديننا ولربنا موقف المجاهد الصلب , لولا ذلك لوصل على أحسن الظروف الدين إلى أجيالنا القادمة مشوها مبتوراً خاصة من معاني العقيدة , والولاء والبراء , والجهاد .
ففي حالة عدم ثباتنا الآن إما أن يشوه الدين وإما أن ننتج أجيالاً بعيدة كل البعد عن دينها فضلاً عن أن تكون من غير أهله عياذاً بالله .
لذا فليعلم كل مسلم أنه اليوم على ثغر من ثغور الإسلام , ولا وقت لنضيعه ولا وقت لضعفنا وخمولنا , فليثب كل منا وليأخذ كتابه بقوة كما قال تعالى { خذوا ما آتيناكم بقوة } ليسع كل منا جاهداً على تطبيق الشرع على نفسه أولاً ولن يكون هذا بغير علم صحيح , وليسع إلى تطبيق الشرع على نفسه وأهله وتعليمهم إياه ,فعلم بلا تطبيق نفاق , والإعراض عن العلم والعمل كفر إعراض , لذا لنتعلم ونعمل , بلا كسل ولا ملل, ولنثن ركبنا عند العلماء , ولنكن أولياء أتقياء , رهبان الليل فرسان النهار, ليكن كل منا أنموذج فريد في العلم والعمل , وكذا الاجتهاد في تحصيل أسباب الحياة المادية , بل والتفوق في ذلك لندل الناس على أن ديننا ليس دين تخلف , وأن ما حدث من انهيار إنما كان لتكاسل المسلمين والعيب فيهم وليس في دينهم , ليصلح كل منا قلبه , وليصلح أيضا بدنه حتى إذا أذن مؤذن الجهاد كنا مستعدين نشطين بأبدان سليمة وقلوب نقية خالية من الوهن والتخمة, وليعمل كل منا على نشر الدين وإهدائه لكل من حوله , عن طريق الكتيب والشريط والزيارة في الله , والدعوة بالسلوك القويم والعمل والمظهر الصالح , والدلالة على الخير , حتى تكتمل الدوائر ويعم الخير .
ليكن كل منا صاحب قضية , وما قضيتنا جميعاً وهمنا المفترض إلا هذا الدين { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }
ليكن كل منا لواء للسنة مرفوع , وسراج منير يقتضي به كل زائغ أو أعمى غير بصير.
لننفض عنا غبار الجهل وغبار التعصب وليكن ديدننا قول ابن القيم رحمه الله
وتعر من ثوبين من يلبسهما يلق الردى بمذلة وهوان
ثوب من الجهل المركب فوقه ثوب التعصب بئست الثوبان
هيا لننهض ..... هيا لنعمل .....
فيلشمر كل منا ساعده وليمد يده لإخوانه فلن ينجح بدونهم .....
اللهم انصر الأمة وارفع الغمة وحكم شرعك في الأرض ......(/1)
اللهم انصر المجاهدين في كل بقعة من بقاع الأرض ...... اللهم انصرهم في فلسطين والشيشان...... وفي أفغانستان والعراق..... وكل بلد وأرض يحارب فيها الإسلام....
اللهم هيئ للأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويذل أهل المعصية ويؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر
إنك رب ذلك والقادر عليه
سأثأر لكن لرب ودين وأمضى إلى سنتي في يقين
فإما إلى النصر فوق الأنام وإما إلى الله في الخالدين
محمد أبو الهيثم(/2)
فلينظر الإنسان مما خلق ... ... ...
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
فإن الله تعالى خلق آدم عليه السلام من الأرض أي مما تحويه وذلك قوله: { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} … (طه:55) ، فخلقه من ترابها و هذا قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} … (آل عمران: من الآية59)، وفي ذلك آيات في القرآن كثيرة .
ثم جبلت تربتها بالماء فكانت طيناً وفي ذلك يقول رب العالمين : { هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون } الأنعام/2 .
وفي ذلك أيضاً آيات كثيرة أيضاً .
وكان الطين لازباً - أي : لاصقاً ، وقيل : لزجاً - وفي هذا يقول تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} … (الصافات: من الآية11) .
قال ابن منظور : ولَزِبَ الطينُ يَلْزُبُ لُزُوباً ، و لزُبَ : لَصِقَ وصَلُب َ، وفي حديث عليّ عليه السلام : دخَل بالبَلَّةِ حتى لَزَبَتْ أَي لَصقتْ ولزمت ْ. وطينٌ لازبٌ أَي لازقٌ . قال الله تعالى : من طِينٍ لازبٍ . " لسان العرب " 1/738 .
ثم صار هذا الطين اللازب منتناً فقال تعالى في ذلك : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} … (الحجر:26) .
قال الرازي :
الحَمَأُ : بفتحتين والحَمَأةُ بسكون الميم الطين الأسود . " مختار الصحاح " ص/64 .
وقال في " لسان العرب " 1/61 :
حمأ : الحَمْأَةُ ، والحَمَأُ : الطين الأَسود المُنتن ؛ وفي التنزيل : {مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ } ... (الحجر: من الآية 26).
وقال في " لسان العرب " ( 13 / 227 ) :
المَسْنون : المُنْتِن ، وقوله تعالى { مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} : قال أَبو عمرو : أَي متغير منتن؛ وقال أَبو الهيثم : سُنَّ الماءُ فهو مَسْنُون أَي : تغيَّر .
وحيث أن هذا الطين كان مخلوطاً بالرمل : فهذا هو الصلصال .
قال الرازي :
الصَّلْصالُ : الطين الحر خُلط بالرمل فصار يَتَصَلْصَلُ إذا جف ، فإذا طُبخ بالنار فهو الفخار. " مختار الصحاح " 1/154
وقال في " لسان العرب " ( 11 / 382 ) :
والصَّلْصالُ مِن الطِّين : ما لم يُجْعَل خَزَفاً ، سُمِّي به لَتَصَلْصُله ؛ وكلُّ ما جَفَّ من طين أَو فَخَّار فقد صَلَّ صَلِيلاً ، وطِينٌ صِلاَّل ومِصْلالٌ أَي يُصَوِّت كما يصوِّت الخَزَفُ الجديد .
ثم شبه الصلصال بالفخار وذلك قوله تعالى :{ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} … (الرحمن:14) .
وهذا كله يصدقه حديث أبي موسى الأشعري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب " . رواه الترمذي ( 2955 ) وأبو داود ( 4693 ) . والحديث : قال عنه الترمذي : حسن صحيح ، وصححه ابن حبان (14/29) والحاكم (2/288) والألباني في صحيح أبي داود 3926.
هذا خلق آدم عليه السلام : من الأرض - من ترابها - ، ثم جُبل بالماء فكان طيناً ثم صار طيناً أسود منتناً وكون ترابه من الأرض التي بعضها رمل لما جبل كان صلصالاً كالفخار .
ولذلك لما وصف الله خلق آدم في القرآن في كل مرة وصفه بأحد أطواره التي مرَّت بها طريقة خلقه وتكوينة طينته فلا تعارض في آيات القرآن .
ثم أصبح أبناء آدم بعد ذلك يتكاثرون وصار خلقهم من الماء وهو المني الذي يخرج من الرجال والنساء وهو معروف .
وهذا يبينه القرآن في قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } … (الفرقان:54) ، وقوله تعالى : { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ } … (السجدة:8) .
قال ابن القيم رحمه الله :
لما اقتضى كمال الرب تعالى جل جلاله وقدرته التامة وعلمه المحيط ومشيئته النافذة وحكمته البالغة تنويع خلقه من المواد المتباينة وإنشاءهم من الصور المختلفة والتباين العظيم بينهم في المواد والصور والصفات والهيئات والأشكال والطبائع والقوى اقتضت حكمته أن أخذ من الأرض قبضة من التراب ثم ألقى عليها الماء فصارت مثل الحمأ المسنون ثم أرسل عليها الريح فجففها حتى صارت صلصالا كالفخار ثم قدر لها الأعضاء والمنافذ والأوصال والرطوبات وصورها فأبدع في تصويرها وأظهرها في أحسن الأشكال وفصلها أحسن تفصيل مع اتصال أجزائها وهيأ كل جزء منها لما يراد منه وقدَّره لما خلق له عن أبلغ الوجوه ففصَّلها في توصيلها وأبدع في تصويرها وتشكيلها …
- ثم ذكر تناسل الخلق بالجماع وإنزال المني - . " التبيان في أقسام القرآن " ( ص 204 ) .
والله أعلم. ... ...(/1)
فمن ليد ترميك من حيث لا تدري؟
بقلم: الدكتور جابر قميحة
komeha@menanet.net
كان الشعر ديوان العرب» فقد حفظ تاريخهم, وأيامهم, وأحوالهم في السلم والحرب, ونقل لنا تضاريسهم العقلية والنفسية والروحية, لذلك كان -ومازال- أشهر وأثري جنس أدبي في حياتهم.
وكان الشعر من أقوي الأسلحة في الدفاع عن الإسلام, وكم دعا النبي صلي الله عليه وسلم لحسان بن ثابت وأثني عليه, ويُروي عنه قوله عن الشاعر الشهيد عبد الله بن رواحة «إن أخا لكم لا يقول الرفث هو عبد الله بن رواحة».
وكان عمر بن الخطاب يتمني لو كان شاعرًا حتي يرثي أخاه الشهيد زيد بن الخطاب كما رثي متمم بن نويرة أخاه مالكًا.
ومن أقواله في تقدير الشعر:
- ارووا من الشعر أعفه, ومن الحديث أحسنه...
- وكتب إلي أبي موسي الأشعري: مر من قًبلَك (عندك) بتعلم الشعر, فإنه يدل على معالي الأخلاق, وصواب الرأي, ومعرفة الأنساب.
- ومما قاله لابنه عبد الرحمن: ...واحفظ محاسن الشعر يحسن أدبك.. فمن لم يحفظ محاسن الشعر لم يؤدًّ حقًا, ولم يقترف أدبًا.
والشعراء يتفاوتون في مستوي أشعارهم, بل إن أشعار الشاعر الواحد تتفاوت في مستواها قوة وقدرة وتأثيرًا, تبعًا لمدي انفعال الشاعر بموضوعه, ومعايشته تجربته الشعورية وغير ذلك مما لا يتسع المقام لبسطه.
الشعر الخالد...
ومن الأشعار ما يخلد علي الزمان, فلا يبلَي, ولا يفقد قدرته وبريقه وتأثيره, فكأنه نظم اليوم, وهو الذي وُلد من ألف عام, أو يزيد, ويسير ويلهج به الناس مثلاً ساحرًا, وحكمة قوية الجذب والتأثير.
ومن هذا الشعر الخالد هذان البيتان للشاعر الشريف الرضًيًّ (359 - 406 هـ) يخاطب بهما الطاغية:
إذا أنت أفنيتَ العرانينَ والذُّرا
رمتٍك الليالي من يدً الخاملً الذكٍرً
وهبكَ اتقيتَ السهمَ من حيثُ يُتقي
فمن ليد ترميكَ من حيث لا تدري?
(والعرانين جمع عرٍنين: وهو أعلي الأنف. والذّرا جمع ذروة وهي القمة. ويقصد الشاعر بالعرانين والذرا: كرام الناس وأشرافهم وأعزتهم).
وخلاصة المعني: أيها الطاغية الجبار المفتري, إنك إذا قضيت علي معارضيك من أصحاب الإباء والشمم والشرف, انتقم الله منك بيد واحد من المغامير غير المشاهير. وقد تأخذ حذرك, وتحيط نفسك بقوة هائلة تمنعك وتحميك. ولكن قد تأتيك الضربة القاصمة من «ثغرة» لم تخطر لك علي بال, من يد ترميك من حيث لا تدري. ومن حيث لا تتوقع
سر الخلود...
وهما بيتان خالدان لا يبليان علي الزمن, وسر خلودهما:
1- أن ناظمهما شاعر نبيل شريف صادق الوجدان, ثري الفكر, موسوعي الثقافة من ذوي النخوة والشرف والمروءة والإباء وعزة النفس, لا تناقض أقواله أفعاله وأخلاقياته.
2- براعة التصوير والتعبير دون إسراف وإغراق.
3- تواتر «الحدث» وتكرُّره في كل العصور: فلا يخلو عهد من طاغية متجبر, يقضي علي كل من يقف في وجهه, مهما كان علمهم, ووضوح منهجهم, ونبل مقاصدهم. ثم تكون النهاية القاصمة الحاسمة للطاغية, التي قد تتحقق بيد مغمور لا يخطر علي بال, ولا مكانة له في المجتمع, ولا مكان له في التاريخ.
كلمة التاريخ..
ومضمون البيتين حُكم يمثل واقعًا مطردًا متكررًا علي مدار التاريخ كما أشرت آنفًا. والوقائع أكثر من أن تُحصي كشواهد علي اطراد هذه الوقائع, ونكتفي بالقليل منها:
ومن أشهرها ما حدث ليوليوس قيصر (120 ق. م - 44 ق. م) السياسي الروماني والقائد العسكري الفذ, وقد تولي القنصلية (وهي أعلي المناصب آنذاك) وكانت دورته القنصلية تنتهي في مارس 49 ق. م. ولكنه أصر علي ترشيح نفسه ثانية, فاعترض مجلس الشيوخ (السناتو) لمخالفة ذلك للقانون. فشرّدهم, وطاردهم, وأراد أن يثبت قدراته العسكرية, فسيطر علي روما, واكتسح اليونان, وشمال أفريقيا وإسبانيا. وأخذ يتطلع إلي أن ينصّب نفسه ملكًا, ولم ير فيه العالم «إلا طاغية من الطراز الإغريقي». ثم كانت نهايته «بيد طعنته من حيث لا يدري», نعم لم يخطر علي باله أن تكون نهايته بطعنة غادرة من «بروتس» الذي قرّبه إليه, وأخلص المحبة له. ويقال إنه لما اكتشف أن طاعنه هو صديقه «بروتس» قال قولته المشهورة «حتي أنت يا بروتس» فصارت مثلا يُضرب للصديق الذي يغدر بصديقه دون توقع (انظر الموسوعة العربية الميسرة ص 1411 - 1412).
مصرع أُمية وفرعون العرب
كان أمية بن خلف من زعماء كفار مكة, ولما أسلم عبده «بلال بن رباح» أذاقه كل ألوان العذاب, ومنها إلقاؤه معرًّي في صحراء مكة, ووضع الحجارة المحماة علي صدره, وإغراء الصبيان به, ولكنه تمسك بعقيدته, وهاجر مع المسلمين إلي المدينة.
ولما زحف جيش الكفار لقتال المسلمين في بدر كان أمية بن خلف يتولي -ومعه بضعة من الكفار- إطعام الجيش والإنفاق عليه. وبعد انتصار المسلمين رآه بلال -ولم يعرفه إلا هو- وكان معه ابنه فصرخ بلال: يا معشر الأنصار: أمية ابن خلف رأس الكفر لا نجوتُ إن نجا, فصرعه المسلمون هو وابنه. وبذلك رماه الله برجل «خامل الذكر» في نظر الكفار.(/1)
وبعد تحقيق النصر أمر النبي صلي الله عليه وسلم المسلمين بحفر قليب (حفرة كبيرة) لدفن جثث الكفار. وكان أمية شحيمًا لحيمًا فتورمت جثته ونتنت, وحاول المسلمون حمله لإلقائه في هذا القبر الجماعي, فوجدوا أعضاءه قد تفككت, وكأنما أراد الله سبحانه وتعالي أن يُري المسلمين فيه آية. ومن إنسانية النبي صلي الله عليه وسلم أنه أمر أن يبقي مكانه, ويُحجّر عليه (أي يبني علي جثمانه قبر من حجر حتي لا يكون طعامًا للوحوش).
أما فرعون الأمة فهو أبو جهل (عمرو بن هشام) فهو الذي قاد جيش الكفار إلي بدر. وكان هدف هذا الجيش هو تخليص أو حماية القافلة التجارية الضخمة العائدة من الشام, وعليها أبو سفيان, ولكن القافلة أفلتت من يد المسلمين. ومن ثم لم يعد أمام أبي جهل وجيشه مبرر لمواصلة السير والقتال, ولذلك نصحه بعض عقلاء الكفار بالعودة إذ لا مبرر للقتال. فرفض أبو جهل بصلافة وغرور... وهتف:
ما تنقمُ الحربُ العَوانُ مني
بازلُ عامين حديثى سني
لمثل هذا ولدتني أمي
- البازل: هو الجمل القوي – واعوان الشديدة العنيفة *
(أي أنني رجل حرب, تعجز أمامي الحرب الطاحنة, فأنا أملك قوة الشباب وفتوته). وأعلن أبو جهل في جيش العدوان «لابد أن نقيم ببدر ثلاثًا: نأكل اللحم, ونشرب الخمر, وتغنينا القيان (الجواري المغنيات) فيسمع بنا العرب, فيهابوننا أبد الدهر»... إنه نموذج للقائد الغبي الأحمق الطائش المفتري الذي أخذته العزة بالإثم فمضي في حماقته, ولم ينصت لصوت العقل.
وفي المقابل كانت القيادة الرشيدة البصيرة الهادية المتمثلة في شخص رسول الله -صلي الله عليه وسلم- الذي وقف في «العريشة» يدعو ربه بقلب خاشع.. ومما قال «اللهم نصرك الذي وعدتني... اللهم إن تهلك هذه العصابة (جماعة المسلمين) فلن تُعبد في الأرض».
ورمتٍه يد من حيث لا يدري
وصُرع أبو جهل, وقام بالدور الأكبر في صرعه طفلان أخوان هما: معاذ ومعوّذ ابنا عفراء, وبعدها استشهدا بأيدي الكفار. فوقف النبي صلي الله عليه وسلم أمام جسديهما وقال «يرحم الله ابني عفراء, فإنهما قد شَرًكا في قتل فرعون هذه الأمة» فقيل: يا رسول الله, ومن قتله معهما? قال: الملائكة, ودَافَّهُ ابن مسعود (أي أجهز عليه)».
وبذلك جاء مصرع فرعون العرب بيد طفلين «خاملي الذكٍر»... «... يدي رمته من حيث لا يدري»... لأنه أخذ عدته كاملة لقتال الرجال, ولم يعمل حسابًا لضربة طفلين صنعهما الإيمان.
إنجازات... إلي دمار
إن الطغاة -في العصر الحديث بخاصة- قد يقيمون من المشروعات والإنشاءات أضخمها, وقد يجهزون من الجيوش أوٍفاها عدة وعددًا. مفاخرين بهذه (النهضة) البنائية, متخذين منها ذريعة لتعطيل القوانين والهيمنة علي الشعوب, وحولهم «كتائب» المنافقين من حملة القماقم, وباعة الضمائر والأقلام. ولا يهتم هؤلاء الطغاة «ببناء المواطن» علي قيم العزة والكرامة والشجاعة والإباء والشمم, بل إنهم «يفرًّغون» المواطن من كل قيمة نبيلة, حتي يسهل التحكم فيه والهيمنة عليه.
وأذكر في هذه السياقة: شاعر القطرين: خليل مطران الذي رأي في هرم خوفو رمزًا لاستعباد الملك لشعبه علي عظمة البناء وضخامته, وهو بذلك يخالف وجهة الآخرين من الشعراء. يقول مطران في مطلع قصيدته عن خوفو
شادَ فأعلي, وبني فواطَّدا
لا للعلا, ولا له بل للعدَي
مستعبد أمتَه في يومه
مستعبد بنيه للعادي غدا
ويصرخ مطران صرخة احتجاج مشيرًا إلي من استعبدهم الملك لبناء هذا «آلقبر» فيقول:
أَكُلُّ هذي الأنفس الهَلٍكي غدًا
تبني لفان جَدَثًا مُخلَّدا?!!
* الجدث: هو القبر ويقصد الهرم الأكبر *
يا طواغيت العرب...
يا طواغيت العرب وفراعينها, هلا تأملتم هذه الكلمات الربانية:
- {...وخاب كل جبار عنيد } [إبراهيم: 15].
- {...وقد خاب من افترى } [طه: 61].
- {...وقد خاب من حمل ظلما} [طه: 111].
- {.... إنَّه لا يفلح الظالمون } [الأنعام: 21].
- {...وأغرقنا آل فرعون وكلّ كانوا ظالمين } [الأنفال: 54].
تأملوا -يا طواغيت العرب- هذه الكلمات العلوية لتروا أن الخيبة والهزيمة والضياع والهلاك مرتبطة دائمًا بالظلم والطغيان والجبروت والافتراء... ارتباط المسبّب بالسبب.
... فتأملوا... وتوبوا إلي الله توبة نصوحا.
يا طواغيت العرب وفراعينها: انزعوا من حياتكم المنطق الجاهلي:
* ما تنقم الحرب العوان مني.. لمثل هذا ولدتني أمي. *
وأخرجوا من حياتكم المنطق الفرعوني {أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى } [الزخرف: 51].
واخلعوا من حياتكم المنطق القاروني {... إنَّمّا أوتيته على علم عندى..} [القصص: 78].
وتذكروا... بل احفظوا عن ظهر قلب -أيها الطواغيت الفراعنة- بيتي الشريف الرضيًّ:
إذا أنت أفنيت العرانين والذرا
رمتك الليالي من يد الخامل الذكر
وهبك اتقيت السهم من حيث يُتَّقي
فمن ليد ترميك من حيث لا تدري?
وإلا فانتظروا الطوفان والدمار والهلا(/2)
فن الاستماع ... ... ...
أهمية الاستماع:
في حياتنا، ومنذ صغرنا نتعلم كيف نتصل مع الناس الآخرين بالوسائل المتعددة، الحديث والكتابة والقراءة، ويتم التركيز على هذه المهارات في المناهج المدرسية بكثافة، لكن بقية وسيلة اتصالية لم نعرها أي اهتمام مع أنها من أهم الوسائل الاتصالية، ألا وهي الاستماع.
لا بد لكل الإنسان أن يقضي معظم حياته في هذه الوسائل الاتصالية الأربعة، الحديث، الكتابة، القراءة، والاستماع، لأن ظروف الحياة هي التي تفرض هذا الشيء عليه.
والاستماع يعد أهم وسيلة اتصالية، فحتى تفهم الناس من حولك لا بد أن تستمع لهم، وتستمع بكل صدق، لا يكفي فقط أن تستمع وأنت تجهز الرد عليهم أو تحاول إدارة دفة الحديث، فهذا لا يسمى استماعاً على الإطلاق، في كتاب ستيفن كوفي العادات السبع لأكثر الناس إنتاجية، تحدث الكاتب عن أب يجد أن علاقته بابنه ليست على ما يرام، فقال لستيفن: لا أستطيع أن أفهم ابني، فهو لا يريد الاستماع إلي أبداً.
فرد ستيفن: دعني أرتب ما قلته للتو، أنت لا تفهم ابنك لأنه لا يريد الاستماع إليك؟
فرد عليه "هذا صحيح"
ستيفن: دعني أجرب مرة أخرى أنت لا تفهم ابنك لأنه -هو- لا يريد الاستماع إليك أنت؟
فرد عليه بصبر نافذ: هذا ما قلته.
ستيفن: أعتقد أنك كي تفهم شخصاً آخر فأنت بحاجة لأن تستمع له.
فقال الأب: أوه (تعبيراً عن صدمته) ثم جاءت فترة صمت طويلة، وقال مرة أخرى: أوه!
إن هذا الأب نموذج صغير للكثير من الناس، الذي يرددون في أنفسهم أو أمامنا: إنني لا أفهمه، إنه لا يستمع لي! والمفروظ أنك تستمع له لا أن يستمع لك!
إن عدم معرفتنا بأهمية مهارة الاستماع تؤدي بدورها لحدوث الكثير من سوء الفهم، الذي يؤدي بدوره إلى تضييع الأوقات والجهود والأموال والعلاقات التي كنا نتمنا ازدهارها، ولو للاحظت مثلاً المشاكل الزوجية، عادة ما تنشء من قصور في مهارة الاستماع خصوصاً عند الزوج، وإذا كان هذا القصور مشتركاً بين الزوجين تتأزم العلاقة بينهم كثيراً، لأنهم لا يحسنون الاستماع لبعضهم البعض، فلا يستطيعون فهم بعضهم البعض، الكل يريد الحديث لكي يفهم الطرف الآخر! لكن لا يريد أحدهم الاستماع!!
إن الاستماع ليست مهارة فحسب، بل هي وصفة أخلاقية يجب أن نتعلمها، إننا نستمع لغيرنا لا لأننا نريد مصلحة منهم لكن لكي نبني علاقات وطيدة معهم.
فن الاستماع:
تكلمنا في ما سبق عن أهمية الاستماع والإنصات، وفي هذا الجزء نتحدث عن الأسلوب العملي الذي علينا اتباعه في أثناء الاستماع للآخرين، ولنتذكر أننا إذا أردنا فهم الآخرين فعلينا أولاً أن نستمع لهم، ثم سيفهمونا هم إن تحدثنا إليهم بوعي حول ما يدور في أنفسهم.
1- استمع استمع استمع! نعم عليك أن تستمع وبإخلاص لمن يحدثك، تستمع له حتى تفهمه، لا أن تخدعه أو تلقط منه عثرات وزلات من بين ثنايا كلماته، استمع وأنت ترغب في فهمه.
2- لا تجهز الرد في نفسك وأنت تستمع له، ولا تستعجل ردك على من يحدثك، وتستطيع حتى تأجيل الرد لمدة معينة حتى تجمع أفكارك وتصيغها بشكل جيد، ومن الخطأ الاستعجال في الرد، لأنه يؤدي بدوره لسوء الفهم.
3- اتجه بجسمك كله لمن يتحدث لك، فإن لم يكن، فبوجهك على الأقل، لأن المتحدث يتضايق ويحس بأنك تهمله إن لم نتظر له أو تتجه له، وفي حادثة طريفة تؤكد هذا المعنى، كان طفل يحدث أباه المشغول في قراءة الجريدة، فذهب الطفل وأمسك رأس أبيه وأداره تجاهه وكلمه!!
4- بين للمتحدث أنك تستمع، أنا أقول بين لا تتظاهر! لأنك إن تظاهرت بأنك تستمع لمن يحدثك فسيكتشف ذلك إن آجلاً أو عاجلاً، بين له أنك تستمع لحديثه بأن تقول: نعم... صحيح أو تهمهم، أو تومئ برأسك، المهم بين له بالحركات والكلمات أنك تستمع له.
5- لا تقاطع أبداً، ولو طال الحديث لساعات! وهذه نصيحة مجربة كثيراً ولطالما حلت مشاكل بالاستماع فقط، لذلك لا تقاطع أبداً واستمع حتى النهاية، وهذه النصيحة مهمة بين الأزواج وبين الوالدين وأبنائهم وبين الإخوان وبين كل الناس.
6- بعد أن ينتهي المتكلم من حديثه لخص كلامه بقولك: أنت تقصد كذا وكذا.... صحيح؟ فإن أجاب بنعم فتحدث أنت، وإن أجاب بلا فاسأله أن يوضح أكثر، وهذا خير من أن تستعجل الرد فيحدث سوء تفاهم.
7- لا تفسر كلام المتحدث من وجهة نظرك أنت، بل حاول أن تتقمص شخصيته وأن تنظر إلى الأمور من منظوره هو لا أنت، وإن طبقت هذه النصيحة فستجد أنك سريع التفاهم مع الغير.
8- حاول أن تتوافق مع حالة المتحدث النفسية، فإن كان غاضباً فلا تطلب منه أن يهدئ من روعه، بل كن جاداً واستمع له بكل هدوء، وإن وجدت إنسان حزيناً فاسأله ما يحزنه ثم استمع له لأنه يريد الحديث لمن سيستمع له.
9- عندما يتكلم أحدنا عن مشكلة أو أحزان فإنه يعبر عن مشاعر لذلك عليك أن تلخص كلامه وتعكسها على شكل مشاعر يحس بها هو، آخذت مثالاً من كتاب ستيفن كوفي "العادات السبع لأكثر الناس إنتاجية"(/1)
الابن: أبي لقد اكتفيت! المدرسة لصغار العقول فقط
الأب: يبدو أنك محبط فعلاً
الابن: أنا كذلك بكل تأكيد
في هذا الحوار الصغير لم يغضب الأب، ولم يأنب ابنه ويتهمه بالكسل والتقصير، بل عكس شعور الابن فقط، وفي الكتاب تكملة للحور على هذا المنوال حتى وصل الابن إلى قناعة إلى أن الدراسة مهمة وإلى اتخاذ خطوات عملية لتحسين مستواه في الدراسة.
ملاحظة أخيرة: الاستماع متعب حقاً لكنه بالتأكيد خير من وجود خلاف وسوء تفاهم.
كاتب المقال: عبد الله المهيري
المصدر: عالم النور
...(/2)
فن الاستيعاب في حياة الداعية ...
على رأس قائمة ما يأخذه غالب الإسلاميين على الأنظمة السياسية: عدم استيعابها للآخر عموماً، وللإسلامي خصوصاً، إلا أن الطرائق الأخرى تطرح سؤالاً على الإسلاميين نصه: ما موقفكم من الآخر تصوراً وحكماً ومعاملة إنسانية؟ وعند تسلمكم الحكم كيف ستتعاملون مع المتردد، وغير المقتنع، والمنافق، والمخالف، بل المحارب؟
إن الواقع يؤكد ما يأخذه البعض على بعض العاملين للإسلام في الواقع المعاصر من عدم قدرتهم على تحقيق معنى الاستيعاب، وإن اعتنى به بعضهم، وأظهر تبنيه لمفهومه، إلا أن واقعه يقول بغير ذلك، ويتمثل ذلك في مواقف عدة منها:
أولاً : سوء التعامل مع غير المسلم بدءًا من الدعاء عليه، والحكم بخلوده في النار وشتمه، وإلحاق كل المعايب به.
ثانياً : رفض العصاة لأنهم ـ كما يزعمون ـ حطب جهنم، وسبب البلاء والوباء.
ثالثاً : رفض طرائق العمل الإسلامي الأخرى برغم إسلامية الجميع.
رابعاً : رفض من ابتعد وترك جماعته إلى جماعة أخرى أو انضم إلى قافلة "بدون" فيصفونه بالمتساقط، وهي كلمة قاسية من أصل سقط يسقط فهو ساقط حتى إنهم يعتبرونه شذَّ في النار، استناداً لقوله ص: "يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار" (رواه الترمذي: 3093).
والمستقرئ لسيرة الرسول ص يقف على فنون للاستيعاب منها:
1 ـ استيعابه لشاب رغب في الحصول على إذن بممارسة الفاحشة، فقد روى أبو أمامة ـ رضي الله عنه ـ أن فتى شاباً أتى النبي ص فقال: "يا رسول الله ائذن لي بالزنى، فأقبل القوم عليه فزجروه، قالوا: مه مه، فقال: أدنه، فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبون لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصّن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء" (رواه أحمد: 21185).
2 ـ استيعابه ص للناس وفق طباعهم وإفرازاتها، فقد روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: "إن أعرابياً بال في المسجد، فثار إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله ص: دعوه وأهريقوا على بوله ذنوباً من ماء، فإنما بُعثتُم مُيسّرين ولم تُبعثوا معسرين" (البخاري: 5663).
وفي رواية: "فقام إليَّ ـ بأبي وأمي ـ فلم يؤنب ولم يسب فقال: إن المسجد لا يُبال فيه وإنما بُني لذكر الله وللصلاة" (ابن ماجة 522).
3 ـ استيعابه للتابع المخطئ ممن يشفع له تاريخه الناصع، فعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: "بعثني النبي والزبير فقال: ائتوا روضة كذا وتجدون بها امرأة أعطاها حاطب كتاباً، فأتينا الروضة، فقلنا: الكتاب، قالت: لم يعطني، فقلنا: لتخرجن أو لأجردنك، فأخرجت الكتاب من حجزتها، فأرسل إلى حاطب فقال: لا تعجل والله ما كفرت ولا ازددت للإسلام إلا حباً، ولم يكن أحد من أصحابك إلا وله بمكة من يدفع الله به عن أهله وماله، ولم يكن لي أحد فأحببت أن أتخذ عندهم يداً، فصدقه النبي ص ، قال عمر: دعني أضرب عنقه قد نافق، فقال: ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ماشئتم" (البخاري 2851).
4 ـ استيعابه المنافق المظهر إسلامه، فعن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن عبد الله بن أبيّ بن سلول قال: "أتداعوا علينا، لئن رجعنا المدينة ليُخرجن الأعز منها الأذل، فقال عمر: ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث، فقال النبي ص : لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه" (البخاري: 3257).
5 ـ استيعابه لاختلاف أصحابه في فهم مراده، فعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال النبي ص : "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك، فذُكر ذلك للنبي فلم يعنف واحداً منهم" (البخاري: 3810).
6 ـ استيعاب الصحابة بعضهم لبعض عند تباين مواقفهم، فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: "كنا نغزو مع رسول الله في رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام، فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفاً فأفطر فإن ذلك حسن" (مسلم: 1883).
7 ـ توجيه الله عز وجل للداعي باستيعاب المدعو وإن كان على شاكلة فرعون برغم علم الله بموته على الكفر إلا أنه تعالى قال: اذهبا إلى" فرعون إنه طغى"(43) فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى"(44) (طه).(/1)
8 ـ استيعابه للتائبة وإن زنت، وذلك لما أرادت الغامدية أن تتطهر من إثمها فاعترفت للرسول ص مبدية رغبتها في إقامة الحد وأقيم عليها: "فيقبل خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله ص سبه إياها فقال: مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغُفِر له، ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت".
وفي رواية: "فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت، فقال: لقد تابت توبة لو قُسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم" (مسلم: 3208، 3209).
9 ـ استيعابه لغير المسلم، فقد صالح الرسول أهل نجران وكان من المصالحة كما يروي ابن عباس: "ألا تُهدم لهم بيعة، ولا يخرج لهم قس، ولا يُفتنوا عن دينهم" (أبو داود: 3644).
والأمثلة من النصوص الشرعية كثيرة جداً تؤكد كلها مبدأ استيعاب الآخر، ذلك أن المجتمع الإسلامي ككل مجتمعات الدنيا فيه التباين، فترى فيه المسلم الصالح المصلح، وفيه الفاسد وفيه غير المسلم، وفيه من أهل الفرق الضالة، وفيه المنافق المعلوم النفاق وغيره المتواري.
ولقد استوعب الرسول ص كل هؤلاء وهو في موقف قوة، فكيف بالبعض الذي لا يُحسن استيعاباً وهو الضعيف؟
ولا يعني ما سبق تمييع الثوابت، ذلك أن الكافر كافر تنطبق عليه الأحكام الواردة فيه، كما لا نوافق العصاة على معاصيهم، إلا أنَّا نسعى ـ في الوقت نفسه ـ جادين لإصلاح الفاسد، وتقريب البعيد، وتبليغ الرسالة للكافر وغيره، ونجادل ولكن بالتي هي أحسن كما أمر الرب سبحانه وتعالى، ونستمع إلى الرأي الآخر، ونتمثل قول أئمتنا: "كلامي صواب يحتمل الخطأ وكلام غيري خطأ يحتمل الصواب"، و"اختلاف الرأي لا يُفسد للود قضية"، بما أنه فيما يجوز الاختلاف فيه.
وكما قال الشيخ رشيد رضا: "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"، ونستوعب الآخر وإن تمادى في عصيانه امتثالاً لقوله تعالى: ولا تيأسوا من روح الله (يوسف: 87)، ولقوله: قالوا معذرة إلى" ربكم ولعلهم يتقون 164 (الأعراف).(/2)
فن التحفيز ... ...
من المؤكد أننا كبشر لسنا نشبه الآلات في شيء، لنا طبيعة خاصة، لا نعمل بضغط على زر، بل إن البشر ـ كل البشرـ ما هم إلا مجموعة من الأحاسيس والمشاعر، والعمل لابد أن يرتبط بتلك المشاعر. ولذا فحسن أداء العمل أو سوءه يرتبط بمشاعر العاملين نحو ذلك العمل، ولذا يدرك المدير الناجح كيفية التعامل مع الأفراد لإخراج أفضل ما لديهم نحو العمل المنوط بهم عن طريق التحفيز... فما هو المدلول لتلك الكلمة السحرية؟
التحفيز هو: عبارة عن مجموعة الدوافع التي تدفعنا لعمل شيء ما، إذن فأنت ـ كمديرـ لا تستطيع أن تحفز مرؤوسيك ولكنك تستطيع أن توجد لهم أو تذكرهم بالدوافع التي تدفعهم وتحفزهم على إتقان وسرعة العمل.
فما هي العوامل المهمة في التأثير على العامل؟
أولاً: شعور العامل أنه جزء لا يتجزأ من هذه المؤسسة. نجاحها نجاح له وفشلها فشل له، المؤسسة التي يعمل فيها جزء من وجوده وجزء من كيانه، فإذا استطاع المدير أن يوصل تلك المفاهيم إلى العاملين معه فسيكون قد وضع يده على أكبر حافز لهم، فهم لا يعملون لصالح المدير بل هم يعملون لصالح المؤسسة ككل والمدير فرد فيها.
ثانيا: اقتناع كل عامل في المؤسسة أنه عضو مهم في هذه المؤسسة. فمهما كان عمله صغيرًا فلا يوجد أبدًا عمل تافه، بل يوجد إنسان تافه يأبى أن يكون إنسانًا ذا قيمة، فإذا شعر العامل بأهميته بالنسبة للمؤسسة التي يعمل فيها سيكون ذلك دافعًا كبيرًا لتحسين أدائه في عمله، بل سيزيده إصرارًا على الابتكار في كيفية أدائه لذلك العمل، ولذا فالمدير الناجح هو الذي يشعر كل عامل معه مهما كان دوره بأنه أهم عضو في المؤسسة وأن عمله هو أهم الأعمال، وإذا تمكن هذا الشعور من العاملين ككل في المؤسسة فلن تعرف المدير من العامل، فكلهم في الغيرة على أداء العمل سواء، وكما كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين لا تعرف القائد منهم من الجندي.
ثالثا: وجود مساحة للاختيار. لابد للمدير الناجح أن يترك مساحة للاختيار للعاملين معه، فيطرح عليهم المشكلة، ويطرح ـ مثلاً ـ بدائل لحلها، ويستشير العاملين معه حتى إذا وقع اختيارهم على بديل من البدائل المطروحة عليهم تحملوا مسئوليتها مع المدير، وأصبح لدى كل واحد منهم الحافز القوي على إتمام نجاح ذلك العمل.
بعد أن علمنا العوامل التي تؤثر على التحفيز نستعرض معوقات التحفيز.
إذا بذل المدير جهده ـ أو اعتقد ذلك ـ ولم يجد نتيجة مباشرة فلم يجد هناك تغيير ولا زال شعور العاملين كما هو فلابد أن هناك معوقًا من معوقات التحفيز موجودًا، وينبغي البحث عنه وإزالته.
ومعوقات التحفيز هي:
1ـ الخوف أو الرهبة من المؤسسة.
2ـ عدم وضوح الأهداف لدى إدارة المؤسسة.
3ـ عدم المتابعة للعاملين فلا يعرف المحسن من المسيء.
4ـ قلة التدريب على العمل وقلة التوجيه لتصحيح الأخطاء.
5ـ عدم وجود قنوات اتصال بين المديرين والعاملين فيكون كل في واد.
6ـ الأخطاء الإدارية كتعدد القرارات وتضاربها.
7ـ تعدد القيادات وتضارب أوامرها.
8ـ كثرة التغيير في القيادات وخاصة إذا كان لكل منهم أسلوب في العمل يختلف عن سابقه.
العوامل التي تساعد على تحفيز العاملين:
أما إذا أردت التعرف على العوامل التي تساعد على تحفيز العاملين وكسب تعاونهم معك فاعمل على بناء الشعور بالاحترام والتقدير للعاملين بإطرائهم والثناء على ما أنجزوه من أعمال جيدة.
1ـ حاول أن تتحلى بالصبر، وأشعر العاملين أنك مهتم بهم.
2ـ أفسح المجال للعاملين أن يشاركوا في تحمل المسؤولية لتحسين العمل، واعمل على تدريبهم على ذلك.
3ـ حاول أن تشعر العاملين الهادئين والصاخبين، أو المنبسطين بالرضا على حد سواء.
4ـ أشرك العاملين معك في تصوراتك، واطلب منهم المزيد من الأفكار.
5ـ اعمل على تعليم الآخرين كيف ينجزوا الأشياء بأنفسهم، وشجعهم على ذلك.
6ـ اربط العلاوات بالإنجاز الجيد للعمل، وليس بالمعايير الوظيفية والأقدمية في العمل.
7ـ اسمح بل شجع المبادرات الجانبية.
8ـ شجع العاملين على حل مشاكلهم بأنفسهم.
9ـ قيِّم إنجازات العاملين، وبيِّن القِيَم التي أضافتها هذه الإنجازات للمؤسسة.
10ـ ذكِّرهم بفضل العمل الذي يقومون به.
11ـ ذكرهم بالتضحيات التي قام بها الآخرون في سبيل هذا العمل.
12ـ انزع الخوف من قلوبهم وصدورهم من آثار ذلك العمل عليهم إن كانت لها آثار سلبية.
13ـ اجعل لهم حصانة من الإشاعات والافتراءات.
14ـ كرر عليهم دائمًا وأبدًا بوجوب قرن العمل بالإخلاص.
15ـ حاول أن تجعل مجموعات العمل متناسبة في التوزيع والمهام.
16ـ حاول أن تتفاعل وتتواصل مع العاملين.
17ـ حاول أن توفر للعاملين ما يثير رغباتهم في أشياء كثيرة.
وهكذا....
ولك سيدي أن تعلم أن هناك ثلاث طرق لكي تنقل الحافز إلى العاملين:
الطريقة الأولى: التحفيز عن طريق الخوف:(/1)
بأن تذكر لهم الأخطار التي تحيط بالمؤسسة وأن الوقت يداهمنا، وعلينا أن نحاول التشبث بسفينة نوح قبل أن يأخذنا الطوفان، ومثل هذه الأقوال. وهذه طريقة تجدي في أول الأمر ثم لا تجد لها بريقًا بعد ذلك ولن تجدي ولن يكون من ورائها أي مردود إيجابي.
الطريقة الثانية:التحفيز عن طريق المكافآت والحوافز المادية:
وهذه الطريقة أيضًا تجدي في أول الأمر ولكنها لا تلبث إلا أن تخف حدتها ولا تجدي على المدى البعيد؛ لأن العمال إذا اعتادوا على ذلك فلن يتحركوا إلا إذا كان هناك حافز مادي ومن الممكن أن يعطوا العمل على قدر ذلك الحافز المادي فقط.
الطريقة الثالثة: مخاطبة العقل بالإقناع:
بإقناعهم أن تطور المؤسسة يعود عليهم جميعًا بالنفع ويساهم في بناء مستقبل أفضل لهم وهذه الطريقة مفيدة جدًا.
كيف تتعامل مع الطبيعة الإنسانية للعاملين ؟
قد تفعل الكثير من أجل العاملين لرفع معنوياتهم وتحفيزهم للعمل ولا تجد استجابة، ولذا فمن المفيد أن تتعرف على الطبيعة الإنسانية للعاملين لكي تستطيع تفهم نفسياتهم، ومن ثم الوصول إلى هدفك كمدير لرفع وتنمية مهاراتهم في أداء الأعمال الموكولة إليهم، هناك نظريتان أساسيتان في التعامل مع الأفراد وخاصة لأول مرة: الأولى: تسمى نظرية x ، والثانية: تسمى نظرية y.
الأولي نظرية متشائمة جدًا تفترض الخطأ في كل المحيطين إلى أن يثبت العكس، كمن يقول الإنسان متهم حتى تثبت براءته. والثانية تفترض التفاؤل الكبير وتفترض الصواب في كل المحيطين إلى أن يثبت العكس، كمن يقول المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته.
وتقوم فروض نظرية x على:
العمل شاق.. العامل كسول.. العامل لا يحب العمل.. العامل غير طموح.. العامل يتملص من المسئولية..العامل يحب الإشراف المباشر الذي يعفيه من المساءلة.. العامل لا يتحرك إلا بالمال..العامل مستعد لتقبل الرشوة بالمال حتى لو كان ضد مصلح المؤسسة..وبالتالي يكون المدير وفقًا لهذه النظرية:
ينفرد بالقرارات دون الرجوع إلى أحد.. يهيمن على سير العمل.. كل خطوة تتم في العمل تحت إشرافه.. لا يثق إلا بنفسه.. يسعى لتحقيق أهدافه بكل الوسائل.. لا يقبل كلمة نقد توجه إليه.
أما نظرية y تقوم على الفروض التالية:
الناس دائمًا تستمتع بالعمل.. العمل المحبب كاللعب لا إرهاق فيه ولا ملل.. تحقيق الإنجاز عامل مهم كالأجر تمامًا للعامل.. العمال ملتزمون بطبيعتهم.. العمال مبدعون إذا وجدوا الفرصة المناسبة.. وعليه فإن الإدارة تكون كالآتي:
القرارات بالتشاور.. يُشعر العاملين بالانتماء للعمل.. يساعد العاملين على التطور.. يشجع العمل الجماعي.
في النهاية الواضح أن الطريقة الثانية هي أفضل للعمل ولكن انتبه إلى محاذيرها وهي:
1ـ أن يسيء العمال استخدام السلطة الممنوحة لهم.
2ـ عدم وجود سياسات صارمة تجاه العمال.
3ـ أحيانًا لا يهتمون بسياسة المؤسسة ويسير كل واحد منهم بمفرده.
ولكي تنجح عوامل التحفيز التي تتخذها من الضروري أن تتعرف على الاحتياجات التي يحتاجها العاملون، فينبغي:
1ـ إعداد مكان عمل مريح لهم.
2ـ حاول أن تجعل سلامتهم من أولوياتك وأشعرهم بذلك.
3ـ تحرى إقامة العدل بينهم.
4ـ حاول أن تخص المحتاجين ماديًا منهم بالأعمال الإضافية لتتحسن رواتبهم.
5ـ حاول الاجتماع بهم على فترات لتستمع إليهم ويستمعوا إليك بعيدًا عن توترات العمل.
6ـ أشركهم في التشخيص واطلب منهم دائمًا الأفكار الجديدة.
7ـ استعمل دائما عبارات الشكر عند تحقيق الإنجاز.
8ـ استعمل أسلوب الجهر بالمدح والإسرار بالذم.
9ـ أعطهم دائمًا المثل والقدوة بسماحك لهم بانتقاد سياستك من أجل الوصول للأفضل.
10ـ ضع نصب عينيك دائما إيجاد بديل لك أو نائب ينوب عنك عن طريق إفساح المجال للجميع لاكتساب الخبرات.
المصدر: مفكرة الإسلام(/2)
فن التصفح والقراءة على الحاسب
إن القراءة على الانترنت تختلف عن القراءة على الورق .. والاختلاف يقع بشكل أساسي في الاتجاه النفسي والبصري للحصول على المعلومات من الصفحة .
فإن معنى كلمة "صفحة" تختلف بصورة كبيرة جداً على الانترنت .. فالصفحة - على الانترنت - ليست مقيدة بنفس الحجم أو الشكل الذي تجده في المطبوعات وبنفس العرض .
والقراءة على الحاسوب سيتغير أساليبها وطرقها تبعاً لتغير الحياة وتغير الحصول على المعلومات .. وستتوفر لنا أدوات أكثر تقدماً في البحث والتقصي .. وستحمل لنا سلبياتها وإيجابياتها . ...
- لا بد لك من معرفة التعامل مع المتصفحات .. أغلب المتصفحات الموجودة على الحاسوب :
المتصفح Internet Explorer الموجود ضمن بيئة ويندوز ..
أو المتصفح Firefox الذي لقي استحساناً كبيراً في هذه الأيام لسهولته وأمانه الكبير .
تعرف على شريط الأدوات في المتصفح والأوامر الموجودة فيه ..
وهذه أهم الأوامر التي تساعدك على القراءة الصحيحة من الحاسب :
* من قائمة " ملف " - > " حفظ باسم ... " :
وهذا الخيار يساعدنا على حفظ الصفحة كاملة على الجهاز ( لتصفحها بدون اتصال أو حفظها على قرص ) .
وسيظهر لنا خيارات أخرى لنوعية الحفظ أمام كلمة " حفظ كنوع " :
الخيار الأول : حفظ الصفحة كاملة مع الصور .
الخيار الثاني : حفظ الملف كأرشيف مع الصور .
الخيار الثالث : حفظ النص فقط دون الصور .
الخيار الرابع : حفظ الملف على شكل ملف نصي .
- طبعاً إذا أردت أن تعدل على الصفحة أو تصحح خطأ لتحفظها لك ولغيرك وتحفظها للزمن .. يمكن أن تحرر الصفحة ببرنامج الفرونت بيج الموجود ضمن الأوفيس :
* من قائمة " ملف " - > " تحرير بواسطة Microsoft Office FrontPage "
* من قائمة " ملف " - > " طباعة " :
هذا الخياريطبع الصفحة كاملة ..
ومع تطور المتصفحات ومواقع الويب فإن الصفحة المطبوعة ستظهر بشكل آخر أكثر تنسيقاً عما هو عليه في الشاشة ..
ويمكنك معاينة الصفحة قبل الطباعة حتى ترى الصفحة على شكلها الأصلي بعد الطباعة .
* من قائمة " تحرير " - > " بحث ( في هذه الصفحة ) " :
وهذا الخيار يساعدك على البحث عن كلمة معينة وهي مفيدة في سرعة القراءة أو الوصول لهدف او قسم معين من الصفحة .
* من قائمة " عرض " - > " حجم النص " :
هذا الخيار يمكنك من تكبير الخط أو تصغيره ..
* من قائمة " عرض " - > " ترميز "
إذا واجهتك مشكلة في الخطوط العربية ولم ترى إلا رموزاً غير مفهومة فما عليك إلا الضفغط على هذا الخيار ثم اختيار اللغة العربية ..
وهذه المشكلة تظهر غالياً في المواقع المصممة بلغة الـ html ..
+ + + + + + + + +
- استخدم خاصية المفضلة في المتصفح الذي تستخدمه لتتمكن من الرجوع إلى المواقع المفضلة بسرعة وسهولة .
- اعرف جيداً أن المواقع تختلف بيئتها أو صفحاته فيما بينها بسبب طريقة البرمجة أو التصميم المستخدمة في الموقع .. وفي الغالب الروابط الرئيسية متفق عليها بين المواقع .
- حاول أن تتقن شريط التمرير الرأسي لتتنقل بكل سهولة ويسر + استخدام عجلات الفأرة + استخدام عجلة التنقل فوق - أسفل ( وهي بين الزر الأيمن والأوسط لأغلب الفأرات ) .
- حاول أن تركز على هدفك من القراءة على الانترنت ولا يجرفك الانغمار في المعلومات وتتبع الوصلات ( الروابط ) .
ركز ودقق وحدد هدفك واستخدم الموارد والتقنيات المتاحة للوصول لمرادك .
- مع تطور التقنية نرى وسنرى أمور أكثر تفاعلاً لمساعدتنا على القراءة والتصفح بكل سهولة ويسر .
- الطباعة :
استخدمها في الصفحات المناسبة لك ... قد تكون من الذين لا يحبون القراءة المتعمقة من الشاشة لعدة صفحات .. فالطباعة خير حل لك .
أو تستخدم الطباعة للاحتفاظ بالمذكرات والبحوث التي تخشى ضياعها ..
ولا تهدر الحبر فيما لا فائدة منه .
- استفد من خدمة الـ rss بقدر المستطاع لأنه توفر عليك الوقت في تتبع أخبار المواقع .. وهي تنتشر يوماً بعد يوم في المواقع العربية .
هناك قارئ لهذه الخدمة وتجلب لك الأخبار بسرعة وسهولة فماعليك إلا الضغط على العنوان ليظهر لك نصه كاملاً .
+ + + + + + + + +
القراءة على الحاسوب والتصفح فن بذاته .. له أدواته وأساليبه فحاول أن تعمل عقلك لتكتشف الأكثر والأفضل ..
مع تمنياتي لكم بقراءة صحيحة سريعة مفيدة . ...(/1)
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ويعلم الله كما أسلف أخي وقدم فإني أنا الذي أشعر بالسعادة والغبطة والسرور وأنا بين أخوة لي في هذه البلدة وشكر الله لأهل >الأحساء< حسن استقبالهم وترحيبهم ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإياهم في جنات النعيم وأن يجعلنا أخوة متحابين هذه ليلة الأحد الموافق للحادي عشر من الشهر الثاني في العام السادس عشر بعد الأربعمائة والألف وفي هذا الجامع المبارك جامع الخالدية بـ >الأحساء< نلتقي وإياكم في موضوع كما ذكر المقدم شطره الأول بعنوان فن التعامل مع الزوجة و أسال الله عز وجل أن يعيننا وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه وأن شطر هذا الموضوع الثاني الذي هو بعنوان السحر الحلال وفن التعامل مع الزوجة لا شك أيها الأحبة أن الزواج كلمة يرقص القلب لها طربا وينشرح الصدر لها طلبا وهي نعمة من أعظم نعم الله عز وجل على عباده قال تعالى (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) وركنا هذا الزواج هما الزوج والزوجة جمع الله بين هذين القلبين الغريبين وجعل بينهما مودة ورحمة وطمأنينة وسكينة وراحة واستقرارا وأنسا وسعادة وجعل القوامة بيد الرجل فقال عز وجل (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) وحديثي الليلة إلى صاحب هذه المملكة الصغيرة نعم فالزوج ملك لهذه الأسرة الصغيرة فيا أيها الملك إن أردت السعادة لهذه المملكة الصغيرة وأردت الاستقرار والراحة النفسية فلا بد من تحقيق هذه القوامة بأركانها وشروطها وآدابها الشرعية.
معنى القوامة في أسمى مراتبها
أن يحفظ المرء أنثاه ويكفيها
وإن تَخَلَّى فهل تغني قوامته
هذا الذي يرخص الأنثى ويرديها
إذاً فلا بد أن تختار من عقلت
كفئا لتحفظ مرساها ومجريها
شكا بعض الإخوة حالهم مع أزواجهم فقائل يقول: أين السعادة والراحة النفسية فإنني لم أشعر بشيء من ذلك وقائل يقول: لم أعد أطيق تصرفاتها وحنقها، وقائل آخر: أزعجتني بكثرة خروجها وزياراتها وقائل آخر يقول أرهقتني بكثرة طلباتها ومصاريفها وقائل: تعبت من كثرة هجرها للفراش وتمنعها ، وقائل: لم أعد أري ذلك الجمال ولا التجمل إلا في المناسبات والأفراح وقائل يقول: لا تهتم بأولادها وتربيتهم ومتابعتهم ، وقائل: تعبت من إلحاحها بجلب خادمة أعتورها وأفتن بها ، وقائل : لا تهتم بي ولا ترعى خاطري ، وقائل: لم اسمع منها كلمة طيبة أو عبارة رقيقة وقائل : لم أعد أطيق فسأطلق ، وغير ذلك مما تسمعون و تقرءون وتشاهدون ، وكأن حال لسان كل واحد من أولئك يلقي باللوم كله على الزوجة المسكينة ويبرئ نفسه وأنا هنا أعرف أنني أوقعت نفسي في موقف حرج فهل أنتصر لبني جنسي من الرجال فتغضب عليّ النساء ، أو أنني أميل للجنس الآخر فيغضب عليّ الرجال وبعد جهد جهيد وتفكير عميق عرفت أنه لا نجاة لي إلا بالرجوع إلى المصدر الأصلي إلى الاعتصام بالكتاب والسنة إلى الله عز وجل الذي خلق الرجال والنساء وفضل كلا منهما بفضائل ومميزات فيكمل كل منهما الآخر فخرجت أن سبب تلك المشاكل كلها يتحملها الرجل والمرأة بحد سواء فكلٌ عليه تبعات وله مهمات فإن كنت تشكو أيها الرجل فإن المرأة تشكو أيضا فقائلة تقول: الصباح في وظيفته وفي الليل مع شلته ولا نراه إلا قليلا وقائلة: لا يسمح لي بزيارة أهلي والجلوس معهم ، وقائلة: لا ينظر إلى أولاده ولا يهتم بهم ولا بمطالبهم وقائلة : لا ينظر إلى أولاده ولا يهتم بهم ولا بمطالبهم وقائلة: يشتمني ويضربني ويسيء إليّ أمام أولادي ، وقائلة: آذاني برائحة الدخان وتركه للصلاة وقائلة: كثير النقد والملاحظات والسباب واللعان، قائلة : دائما يهددني بالطلاق والزواج من أخرى ، و قائلة تقول: أتجمل وأتزين ولم أسمع منه كلمة إعجاب أو غزل وقائلة تقول : يمنعني من الدروس والمحاضرات ولم يحضر لي شريطا أو كتابا فيه خير ، وقائلة : كثير السهر والجلوس أمام الأفلام و المباريات وقائلة: لا يشاورني ولا يجلس معي ويثور لأتفه الأسباب ، وقائلة: آذاني بكثرة جلساء السوء تدخين وغناء وشقاء ، وقائلة: لا يهتم بي وبطلباتي الخاصة ، حتى ولا بالمنزل وطلباته ، وقائلة: يسافر كثيرا وليس لنا نصيب ولو عمرة في السنة ، وأقول : الحياة الزوجية تعاون وتآلف وحب ووئام وإنَّ أمثل قاعدة للسعادة والراحة أن نفهم جيدا قول الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم : "كل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" وقول أبي ذر لزوجه إذا رأيتني غَضِبْتُ فَرَضِّنِي ، وإذا رأيتك غَضْبَى فإني رَضَّيْتُكِ وإلا لم نصطحب، وقول الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا(/1)
لنفهم المعنى من هذه الكلمات وعندها نعلم أن كل مشكلة سببها الزوجان وليس واحدا منهما ولذلك سيكون حديثي لكل منهما إن شاء الله تعالى أما الليلة فهو خاص بالأزواج وقد يقول الرجال: لماذا بدأت بنا ؟ فأقول لأمور ، لأن الرجال أكثر تحملا وتعقلا وصبرا ، وثانيا لقوامة الرجل على المرأة ولأنه السيد ولأنه الآمِر الناهي فلا أحد غيره يملك حق التصرف في مملكته هذه فهل يعقل الرجال هذا ؟ وسبب ثالث لأن الرجل لو عرف كيف يتعامل أي مع زوجه لعلم أن مفتاح السعادة بيده ، لو عرف الرجل كيف يتعامل مع زوجه لعلم أن مفتاح السعادة بيده ، كيف كان التعامل مع الزوجة فناً ؟ أقول نعم إن التعامل مع الزوجة فن ويجب علينا نحن معاشر الرجال أن نتعلم هذا الفن فليس الزواج مجرد متعة وشهوة وليس الزواج القيام بالبيت وتأسيسه وليس الزواج هو إنجاب الأولاد والبنات وليس الزواج هو مجرد إطعامهم الطعام أو إلباسهم الثياب فإن الكثير من الرجال قادر على ذلك والرزاق هو الله لا الزوج لكن الزواج حقوق شرعية وحسن تعاون ومسئولية فللمرأة حقوق وواجبات جاء بها الإسلام بالأدلة القرآنية والنصوص النبوية (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) لابد أن يعرفها الرجل جيدا ولا يفضُّ الخاتم إلا بحقه ، ومن أين نأخذ هذا الفن ؟ لا نأخذه عبر وسائل الإعلام ولا نأخذه من المجلات الهابطة وإنما نأخذه بالرجوع إلى سيرته صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشتان بين الأمرين ، لما لجأ كثير من الناس إلى مثل هذه المصادر رأينا الفرقة والخصام ورأينا كثرة الأخطار التي تهدد كيان هذه الأسرة وغفلنا في خِضَمِّ هذه الحياة وشهواتها أن نرجع حقيقة إلى سيرته صلى الله عليه وسلم نستقي منها الدروس والعبر في كل شأن من شئون حياتنا (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) ولذلك كيف كان يتعامل مع أزواجه صلى الله عليه وسلم ؟ لذلك أمر الله عز وجل نساء النبي أن يخبرن بكل ما يدور في بيته صلى الله عليه وسلم حتى ولو كانت هذه الأخبار أسرارا زوجية فقال عز وجل خطاب لنساء النبي (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) أمر من الله عز وجل فلنتخذ هذه الحياة دستورا ومنهجا للتعامل مع الأزواج ، أسباب اختيار الموضوع كثيرة منها ، بيان منهج الإسلام وشرعه في حسن معاشرة الزوجة وصحبتها وبيان كثير من حقوقها مما يجهله كثير من الناس وخاصة بعض الرجال أو أن بعضهم يتجاهلون هذه الحقوق ، ثانيا: تلك الصورة السيئة والمفهوم الخاطئ عند بعض الرجال عن أن المرأة يجب الحذر منها وأن تشد عليها الوطأة من أول ليلة يدخل بها الرجل ، وقد يتواصى بعض الشباب وبعض الرجال بمثل هذه الوصية وكما يقال في المثل العامي والعود على أول ركزة. فيتناقل الناس والرجال والشباب مثل هذه الأمثال ومثل هذه الوصايا ويحدث مالا تحمد عقباه ومن الخطأ أن نقول كما قال ذاك الشاعر:
رأيت الهم في الدنيا كثيرا
وأكثره يكون من النساء
فلا تأمن لأنثي قط يوما
ولو قالت نزلت من السماء
ولا نقول كما قال الآخر أيضا:
إن النساء شياطين خلقن لنا
نعوذ بالله من شر الشياطين
فهن أصل البليات التي ظهرت
بين البرية في الدنيا وفي الدين
لا نقول كما قال هذا ولا ذاك وإنما نقول كما قال ذلك الشاعر المنصف:
إن النساء رياحين خلقن لنا
وكلنا يشتهي شم الرياحين
ثالثا : شكوى كثير من النساء لسوء معاملة زوجها وقبح أخلاقه معها وقد يصل الأمر في بعض الأحايين إلى ضربها وحبسها وقد يتمنى البعض موتها كما قال أحدهم:
لقد كنت محتاجا إلى موت زوجتي
ولكن قرين السوء باق معمر
فيا ليتها صارت إلى القبر عاجلا
وعذبها فيه نكير ومنكر
وكقول الآخر يخاطب زوجه :
تنحى فاجلسي منى بعيدا
أراح الله منك العالمين
أغربالا إذا استودعت سرا
وكانونا على المتحدثين
حياتك ما علمت حياة سوء
وموتك قد يسر الصالحين(/2)
أقول: ليس هذا هو النهج النبوي في معاملة الزوجة وإنما كما سنعرض له بعد قليل ، ومن الأسباب أيضا الحياة الزوجية في بيته صلى الله عليه وسلم وآله وسلم نموذج رائع يذكر به الرجال للاتباع والتأسي هذه الأسباب الأربعة هي التي جعلتني أتحدث عن مثل هذا الموضوع وأبدأ الآن بعناصر فن التعامل مع الزوجة وأقول بدءا أول فن من الفنون التلطف والدلال ، التلطف مع الزوجة والدلال لها ومن صور الملاطفة والدلال نداء الزوجة بأحب الأسماء إليها أو بتصغير اسمها للتلميح أو ترخيمه يعني تسهيله و تليينه ، وهذا أيضا من حياته صلى الله عليه وسلم وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول لـ[عائشة] :" يا عائش ، يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام "والحديث متفق عليه وكان يقول لعائشة أيضا: يا حميراء والحميراء تصغير حمراء يراد بها البيضاء كما قال ذلك [ابن كثير] في النهاية وقال [الذهبي]: الحمراء في لسان أهل الحجاز البيضاء بحمرة وهذا نادر فيهم ، إذاً فقد كان صلى الله عليه وسلم يلاطف عائشة ويناديها بتلك الأسماء مصغرة مرخمة وأخرج [مسلم] من حديث عائشة في الصيام قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل إحدى نسائه وهو صائم ثم تضحك رضي الله تعالى عنها" أى تعني أنه كان يقبلها وأخرج [النسائي] في عشرة النساء أنها قالت أى عائشة: "أهوى النبي صلى الله عليه وسلم ليقبلني فقالت: إني صائمة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: وأنا صائم" وأيضا أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل صائما فيقبل ما شاء من وجهي" وفي حديث عائشة أيضا أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم ذكر كلمة معناها أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله" والحديث أخرجه النسائي و[الترمذي] و[أحمد] وفيه انقطاع، من خلال هذه الأحاديث يتبين لنا ملاحظة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأزواجه وحسن التعامل معها أي مع عائشة رضي الله تعالى عنها ومن صور المداعبة والملاطفة أيضا إطعام الطعام فقد أخرج [البخاري] و[مسلم] من حديث [سعد بن أبي وقاص] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم ذكر الحديث إلى قوله: "وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة التي ترفعها إلى فِي امرأتك" حتى اللقمة التي ترفعها بيدك إلى فم امرأتك هي صدقة ليست فقط كسباً للقلب وليست فقط حسن تعاون مع الزوجة بل هي صدقة تؤجر بها من الله عز وجل وذكر [النووي] في هذه الحديث قال: "إن وضع اللقمة في فِي الزوجة "ـ في فم الزوجة يعني ـ يقع غالبا في حال المداعبة ولشهوة النفس في ذلك مدخل ظاهر ومع ذلك إذا وجه القصد في تلك الحالة إلى ابتغاء الثواب حصل له بفضل الله ، قلت والقائل [الحافظ ابن حجر]: وجاء ما هو أصرح من ذلك وهو ما أخرجه مسلم عن [أبي ذر] فذكر حديثا فيه: "وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟ قال: نعم ، أرأيتم لو وضعها في حرام.." إلى آخر الحديث إذاً فمن صور المداعبة والملاطفة للزوجة إطعامها للطعام وكم لذلك من أثر نفسي على الزوجة وإني أسألك أيها الأخ أيها الرجل ماذا يكلفك مثل هذا التعامل ؟ لا شيء إلا حسن التأسي والاقتداء وطلب المثوبة وحسن التعاون وبناء النفس فالملاطفة والدلال والملاعبة مأمور أنت بها شرعا بما تفضي إليه من جمع القلوب والتآلف ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم [لجابر بن عبد الله]: "هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك" إذن فالمضاحكة والملاعبة والملاطفة والدلال للمرأة مطلوب منك شرعا.(/3)
أيضا من الفن التجاوز عن الأخطاء في الحياة الزوجية وغض البصر ، خاصة إذا كانت هذه الأخطاء في الأمور الدنيوية فأقول لا تنس أيها الأخ الحبيب أنك تتعامل مع بشر وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ولا تنس أنك تتعامل مع امرأة وكما قال صلى الله عليه وسلم: "قد خلقت من ضلع أعوج" لا تكن شديد الملاحظة لا تكن مرهف الحس فتجزع عند كل ملاحظة أو كل خطأ انظر لنفسك دائما فأنت أيضا تخطئ لا تنس أن المرأة كثيرة أعمالها في البيت ومع الأولاد والطعام والنظافة والملابس وغيرها ولا شك أن كثرة هذه الأعمال يحدث من خلالها كثير من الأخطاء لا تنس أن المرأة شديدة الغيرة سريعة التأثر احسب لهذه الأمور كلها حسابها واسمع لهذه الأمثلة عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها كما تحدث [أم سلمة] "أنها أتت بطعام في صحفة لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه ، من الذي جاء بالطعام ؟ أم سلمة، فجاءت عائشة متزرة الكساء ومعها فهر أي: حجر ناعم صلب ففلقت به الصحفة فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة وقال: كلوا ، يعنى أصحابه ، كلوا غارت أمكم غارت أمكم ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحفة عائشة فبعث بها إلى أم سلمة وأعطى صحفة أم سلمة لعائشة"، والحديث أخرجه البخاري والنسائي، واللفظ للنسائي فأقول انظر لحسن خلقه صلى الله عليه وسلم وإنصافه وحلمه وانظر لحسن تصرفه عليه الصلاة والسلام وحله لهذا الموقف بطريقة مقنعة معللا هذا الخطأ من عائشة رضي الله عنها بقوله: "غارت أمكم، غارت أمكم" فهو يقدر نفسية عائشة زوجه اعتذارا منه صلى الله عليه وسلم لعائشة هو لم يحمل عائشة نتيجة هذا الخطأ ونتيجة هذا العمل ولم يذمها صلى الله عليه وآله وسلم ولماذا ؟ لأن أم سلمة هي التي جاءت إلى بيت عائشة تقدم للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هذا الطعام ولذلك قَدَّرَ صلى الله عليه وآله وسلم هذا الموقف وتعامل معه بلطف وحكمة صلوات الله وسلامه عليه وقدر ما يجرى عادة بين الضرائر من الغيرة لمعرفته صلى الله عليه وسلم أنها مركبة في نفس المرأة لم يؤدب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عائشة وبين أنها غارت مع أنها كسرت الإناء ومع أنها تصرفت أيضا أمام أصحابه هذا التصرف ولكن (وإنك لعلى خلق عظيم) انظر للحكمة وانظر لحسن التعامل وتصور لو أن هذا الموقف حصل معك كيف سيكون حالك أيها الزوج ؟ بل ربما لو حصل هذا الموقف بينك وبين زوجك مثلا في المطبخ والرجال موجودون في المجلس ، كيف ستكون نفسيتك وكيف سيكون التصرف ؟ إذن فالعفو والصفح إذا قصرت الزوجة وشكرها والثناء عليها إن أحسنت كل ذلك من شيم الرجال ومن محاسن الأخلاق وبعض الأزواج قد يختلق المشاكل ويَنْفَخُ فيها وقد تنتهي هذه المشاكل بحقيقة مرة وهي الطلاق ، واسمع لهذا الموقف روي أن رجلا جاء إلى [عمر بن الخطاب] رضى الله تعالى عنه وأرضاه ليشكو سوء خلق زوجته فوقف على بابه ينتظر خروجه فسمع هذا الرجل امرأة عمر تستطيل عليه بلسانها وتخاصمه وعمر ساكت لا يرد عليها فانصرف الرجل راجعا وقال: إن كان هذا حال عمر مع شدته وصلابته وهو أمير المؤمنين فكيف حالي؟ وخرج عمر فرآه موليا عن بابه فناداه وقال: ما حاجتك أيها الرجل؟ فقال: يا أمير المؤمنين جئت أشكو إليك سوء خلق امرأتي واستطالتها عَلَيّ فسمعت زوجتك كذلك فرجعت وقلت: إذا كان هذا حال أمير المؤمنين مع زوجته فكيف حالي ؟ قال عمر ـ يا أخي اسمع لمواقفهم رضوان الله تعالى عليهم ـ يا أخي إني أحتملها لحقوق لها عليّ إنها لطباخة لطعامي، خبازة لخبزي، غسالة لثيابي، مرضعة لولدي وليس ذلك كله بواجب عليها ويسكن قلبي بها عن الحرام فأنا أحتملها لذلك ، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين وكذلك زوجتي قال عمر: فاحتملها يا أخي فإنما هي مدة يسيرة (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) هذه الآية تسلية لوعد قدري لكل زوج بُلِىَ بما يكره في زوجته بأن يجعل الله لمن صبر على بليته خيرا موعودا وجزاء موفورا وحظا قادما لا يعلمه إلا هو سبحانه ، هكذا كانت حياتهم الزوجية ذكر للحسنات وغض البصر عن الأخطاء والسيئات ويقال أن بدوية جلست تحادث زوجها وتطرق الحديث إلى المستقبل كعادة الأزواج فقالت : أنها ستجمع صوفا وتغزله وتبيعه وتشترى به بكرا، فقال زوجها إذا اشتر يتيه فسأكون أنا الذي سأركبه، قالت: لا، فألح زوجها فرفضت وأصرت ولم ترجع هي حتى غضب زوجها فطلقها الأصل لا يوجد هناك مشكلة القضية قضية أماني في المستقبل لو كان تقول: أنني سأعمل صوفا وأغزله ثم أبيعه ثم أشترى به بكرا فتخاصما على هذا البَكْر من يركبه الأول فحصل الطلاق هذا المثل يوضح حقيقة حال كثير من الطلاق الذي يحصل بين الرجل والمرأة لأسباب تافهة عندما يقف أهل الخير أو القضاة أو غيرهم على بعض أسباب الطلاق يجد أن أسباب الطلاق أسبابا تافهة لا تذكر وهكذا كثير من المشكلات وهمية تافهة تنتهي بنهاية للحياة الزوجية وللأسف ،(/4)
ويروى أن عائشة قالت مرة للنبي صلى الله عليه وسلم وقد غضبت عليه قالت له: "أنت الذي تزعم أنك نبي" فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتمل ذلك حلما وكرما وما أروع هذا التوجيه النبوي الذي يجعل البيت جنة فإذا غضب أحد الزوجين وجب على الآخر الحلم فحال الغضبان كحال السكران لا يدرى ما يقول وما يفعل.
يا ليت الرجل ويا ليت المرأة يسحب كل منها كلام الإساءة وجرح المشاعر والاستفزاز يا ليت أنهما يذكران الجانب الجميل المشرق في كل منهما ويغضان الطرف عن جانب الضعف البشري في كليهما.
أيضا من الفن التزين والتجمل والتطيب للزوجة أما الجمال والزينة للرجل فبحدودها الشرعية فلا إسبال ولا حلق للحية ولا وضع للمساحيق والأصباغ كما يفعل بعض شبابنا سُئِلَتْ عائشة: "بأي شيء كان يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك" والحديث أخرجه مسلم، ذكر بعض أهل العلم فائدة ونكتة علمية دقيقة قالوا: فَلَعَلَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ليستقبل زوجاته بالتقبيل وعند البخاري أن عائشة قالت: "كنت أُطَيِّبُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأطيب ما أجد حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته" وفي البخاري أيضا أن عائشة قالت: كنت أُرَجِّلُ رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني أسرح شعره "كنت أُرَجِّلُ رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض" وفي الصحيحين من حديث [أبي هريرة] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الفطرة: الختان ، والاستحداد ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظافر، وقص الشارب" والحديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب اللباس وفي البخاري أيضا من حديث [ابن عمر] أنه صلى الله عليه وسلم قال: "خالفوا المشركين ووفروا اللحى وأَحِفُّوا الشوارب" في هذه الأحاديث كلها وغيرها بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التجمل والتزين الشرعي الذي يحبه الله بخلاف ما عليه بعض الرجال اليوم من إفراط في قضية الزينة أو حتى من تفريط في قضية الزينة والتجمل للمرأة ومن مبالغة في التجمل وعجيب للمتناقضات التي يعيشها بعض الرجال فتجده يحلق لحيته للتجمل والزينة كما يقول ، ثم تشم منه رائحة كريهة عفنة وهي رائحة التدخين فأين أنت والتجمل أيها الأخ الحبيب ؟ أين أنت والتجمل الذي تريده يوم أن حلقت لحيتك وشربت الدخان ؟ وآخر وقع في تفريط عظيم وتقصير عجيب في قضية التجمل والزينة تبذل في اللباس وإهمال للشعر وترك للأظافر والشوارب والآباط وروائح كريهة والخير كل الخير في امتثال المنهج النبوي في التجمل والتزين والاهتمام بالمظهر وهو حق للمرأة هو حق شرعي للمرأة وسبب أكيد في كسب قلبها وحبها فالنفس جُبِلَتْ على حب الأفضل والأنظف والأجمل وتعال واسمع لحال السلف رضوان الله تعالى عليهم جميعا وكيف كانوا في هذا الباب، قال [ابن عباس]: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لى وما أحب أن أستطف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها عليَّ لأن الله تعالى يقول: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) وقد دخل على الخليفة عمر زوج أشعت أغبر ومعه امرأته وهي تقول: لا أنا ولا هذا لا تريده ، لا أنا ولا هذا ، ما هو السبب ؟ اسمع فعرف كراهية المرأة لزوجها فأرسل الزوج ليستحم ويأخذ من شعر رأسه ويقلم أظافره فلما حضر أمره أن يتقدم من زوجته فاستغربته ونفرت منه ثم عرفته فقبلت به ورجعت عن دعواها رجعت تراجعت إذن عن طلب الطلاق فقال عمر: وهكذا فاصنعوا لهن فوالله إنهن ليحببن أن تتزينوا لهن كما تحبون أن يتزين لكم ، وقال [يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي]: أتيت [محمد بن الحنفية] فخرج إلى في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية ، والغالية هي خليط الأطياب بل خليط أفضل الأطياب ، ولحيته تقطر من الغالية ، يقول يحيى فقلت له: ما هذا ؟ قال محمد : إن هذه الملحفة ألقتها على امرأتى ودهنتنى بالطيب وإنهن يشتهين منا ما نشتهيه منهن ، ذكر ذلك القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن إذن فالمرأة تريد منك كما تريد أنت منها في التجمل والتزين .(/5)
فن آخر القناعة والرضا بالزوجة وعدم الاستجابة لدعاة التبرج ودعاة الفتنة والسفور وذلك بالنظر إلى النساء ، وهذا حال كثير أو حال بعض الرجال النظر إلى النساء في الأفلام وفي التلفاز والمجلات وقد زيفتها الألوان والمكاييج وغير ذلك ونفخ الشيطان في بعض الرجال فقارن وصَوَّرَ زوجته العفيفة الطاهرة بتلك السافرات العاهرات وأطق ذلك الرجل لبصره العنان في تتبع هذه النساء (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون) ولا شك أن ذلك شر مستطير وأنه سبب أكيد في تدمير كيان الأسرة وهذا أمر ملموس ومشاهد وعلاج ذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حديث جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى امرأة فأتي امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها" أي: تدلك جلدا "فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه فقال: إن المرأة تُقْبِلُ في صورة شيطان وتُدْبِرُ في صورة شيطان فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه" صلى الله عليه وآله وسلم علاج لا نبحث عنه في المجلات الطبية والمجلات الأسرية إنما نبحث عنه في سنته النبوية صلى الله عليه وآله وسلم والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، والنفس دائما ترغب كل جديد خاصة عند الرجل النفس ترغب كل جديد وكما يقال كل ممنوع مرغوب ولو ملك أي الرجل لو ملك أجمل النساء ثم سمع بامرأة أخرى لتهافتت نفسه ولكزه شيطانه ولم أجد مثل القناعة والرضا حلا لذلك ولذلك نهى صلى الله وعليه وسلم الرجل أن يطلب عثرات زوجته فأخرج مسلم من حديث [جابر] قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا أن يتخونهم أو يلتمس عثراتهم" إنما على الزوج أن يغض الطرف وأن يقنع بما وهبه الله إياه ولينظر إلى من هو أسفل منه ليزداد قناعة ورضا وليشكر نعمة الله عز وجل عليه ثم إني أقول لك أيضا إن بليت بمثل هذه الأمور وبمثل حديث النفس هذا الجأ إلى الله عز وجل بالدعاء ولسان حالك يقول كما قال الحق عز وجل على لسان يوسف عليه السلام: (وإلا تصرف عنى كيدهن أصبُ إليهن وأكن من الجاهلين) إذن ادعُ الله عز وجل وألح عليه بالدعاء وأنت موقن بالإجابة لأن الله تكفل بها ليوسف فقال: (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم).
فن آخر من فن التعامل مع الزوجة الجلوس مع الزوجة والتحدث إليها والشكاية لها ومشاورتها فإنه كثيرا من الأزواج كثير الترحال ،كثير الخروج ، كثير الارتباطات ، بل سمعنا عن الكثير منهم أنه يخرج للبراري والاستراحات كل يوم وليلة ، بل سمعنا أن بعض الأزواج يسهر كل ليلة إلى ساعة متأخرة من الليل فأي حياة هذه وأين حق الزوجة وحق الأولاد والجلوس معهم ؟(/6)
وانظر مثال لهذا الفن للجلوس مع الزوجة والحديث معها حديث [أم زرع] الطويل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع لعائشة تحكيه عائشة تروي هذا الحديث الطويل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع لحكاية عائشة قال ابن حجر : وفيه ـ أي وفي هذا الحديث من الفوائد ـ حسن عشرة المرء أهله بالتأنيس والمحادثة في الأمور المباحة ما لم يفض ذلك إلى ما يمنع ، انتهي كلامه رحمه الله ، والشكاية للزوجة واستشارتها فهذا مما يشعرها أيضا بقيمتها وحبها استشر المرأة ولو لم تكن أيها الأخ الحبيب بحاجة إلى هذه المشورة فإنك تشعر هذه الزوجة بقيمتها وحبك لها ولن تعدم الرأي والمشورة أبداً إن شاء الله لن تعدم الرأي والمشورة وربما فتحت عليك برأي صائب كان السبب في سعادتك ومثال ذلك انظر للنبي ولحبيبنا صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي يا رسول الله كان يستشير حتى أزواجه ومن ذلك استشارته صلى الله عليه وسلم لأم سلمة في صلح الحديبية عندما أمر أصحابه بنحر الهدي وحلق الرأس فلم يفعلوا لأنه شق عليهم أن يرجعوا ولم يدخلوا مكة ، فدخل مهموما حزينا على أم سلمة في خيمتها فما كان منها إلا أن جاءت بالرأي الصائب : أخرج يا رسول الله فاحلق وانحر فحلق ونحر وإذا بأصحابه كلهم يقومون قومة رجل فيحلقوا وينحروا ، أيضا أنظر لاستشارته لـ[خديجة] رضي الله تعالى عنها في أمر الوحي ووقوفها معه وشدها من أزره رضوان الله تعالى عليها هكذا المرأة فإنها معينة لزوجها متى ؟ إذا أشعرها زوجها بقيمتها ولذلك أقول : العلاقة بين الزوجين تنمو وتتأصل كلها تجددت ودارت الأحاديث بينهما فالأحاديث وسيلة التعارف الذي يؤدي إلى التآلف وكما قال صلى الله عليه وسلم "فالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف" فالحذر من تعود الصمت الدائم بينهما فتتحول الحياة إلى روتين بغيض كأنها ثكنة عسكرية فيها أوامر من الزوج وطاعة من الزوجة خذي هاتى كلى اشربي قومي اقعدي تعالي اذهبي نامي استيقظي ماذا تريدين؟ متى تخرجين؟ أسطوانة مكرورة مكروهة تجعل الحياة الزوجية بغيضة باهتة باردة فأين الحب وأين اللطافة ؟ وأين المودة والرحمة وما بينهما ؟ أين الأحاديث الحسان منك أيها الرجل عن جمال عيونها وعذوبة ألفاظها ورقة ذوقها وحسن اختيارها للباسها وأين كلمات الشكر والثناء عند الطبخ والغسل والكنس ، وأين الحديث عن تربية الأولاد وصلاحهم ؟ وأين الحديث عن هموم المسلمين ومشاكلهم ، فيا أيها الرجل العاقل إن من فن التعامل مع الزوجة أن تخصص وقتا للجلوس معها تحدثها و تحدثك وتفضي إليك بما في نفسها بدل أن تكبت ذلك الحديث الذي في النفس اجعلها تفضفض تعطي بما يدور في نفسها بدل ذلك الكبت وسيتضح ذلك جليا على سلوكها وتصرفاتها ثم ينعكس ذلك على أولادها وأعمالها وأشغالها ثم ينعكس ذلك على تصرفاتها وسلوكها معك أنت كزوج ، أرأيت أيها الأخ الحبيب أنك تملك مفتاح السعادة وهذه المملكة الصغيرة بحسن تصرفاتك وأفعالك ، ومن فن التعامل أيضا مداراة المرأة وعدم التضييق عليها والاعتذار إليها ، فعن [أبي هريرة] قال صلى الله عليه وسلم: "واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته" لا تطلب المحال افهم جيدا نفسية المرأة وافهم جيدا خلقة المرأة "فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوجا فاستوصوا بالنساء خيرا" والحديث أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما ومعنى استوصوا؛ أي أوصيكم بهن خيرا فاقبلوا وصيتي فيهن واعملوا بها قاله [البيضاوي]، انتبه في الحديث إشارة إلى ترك المرأة على اعوجاجها في الأمور المباحة ، وألا يتركها على الاعوجاج إذا تعدت ما طبعت عليه من النقص كفعل المعاصي وترك الواجبات ، وأيضا في الحديث سياسة النساء بأخذ العفو منهن والصبر عليهن وعلى عوجهن فقال صلى الله عليه وسلم أيضا في الحديث الآخر: "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر" والحديث في صحيح مسلم ومعنى يفرك أي يبغض منها شيئا يفض به إلى تركها، وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم" انظر للتصوير أنظر للصورة الجميلة فإنما هن عوان عندكم والعوان أي هن كأسيرات عندك أيها الرجل أي المرأة كأسيرة عندك فهي أشبه بالأسير كسيرة القلب مهيضة الجناح فوجب على الرجل أن يجبر قلبها وأن يرفع من معنوياتها ويحسن إليها ويكرمها أما الاعتذار إليها عند الخطأ والاعتراف به فهو أدب جَم وخلق رفيع خاصة عند غضبها واسمع لهذه الأحاديث أرجعكم دائما إلى حياته صلى الله عليه وسلم حتى نتبين أيها الأحبة أن حياته صلى الله عليه وآله وسلم في كل شئون الحياة هي قدوة ونبراس ومرجع يجب أن نرجع إليه وأن ندرسه أي حياته صلى الله عليه وآله وسلم (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) روى النسائي في كتابه عِشْرَة النساء عن أنس قال: "كانت صفية مع رسول الله صلى(/7)
الله عليه وسلم في سفر وكان ذلك يومها فأبطأت في المسير" تأخرت في المسير عنهم "فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكى وتقول "ـ اسمع الذنب الذي وقع به النبي صلى الله عليه وسلم ـ "حملتني على بعير بطئ "فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم انظر التصرف ماذا فعل؟ قال والله أيش أسوى السيارة هذه وضعها وهذه خربانة ؟ لا، ما ناقش صلى الله عليه وسلم "وإنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بيديه عينيها ويسكتها فأبت إلا بكاء" يعني كأنها طورت فأبت إلا بكاء فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركها فقدمت فأتت عائشة" أي صفية ذهبت إلى عائشة فقالت: "يومي هذا لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أنت أرضيتيه عنى" فماذا فعلت عائشة ؟ انظر أيضا واسمعي أيتها المرأة أنت وإن كان هذا الحديث سيأتيك بمشيئة الله لكن انظري إلى عقل عائشة رضي الله تعالى عنها وانظري إلى تصرفها كيف تملكين أيتها المرأة مفتاح قلب الزوج ، أو اعلمي أيتها الأخت أنك ساحرة لقلب الرجل ولذلك قلت: إن موضوع الدرس القادم سيكون بعنوان السحر الحلال ، لأن المرأة تملك فعلا هذا السحر بما وهبها الله عز وجل من عذوبة ورقة ونعومة فماذا فعلت عائشة ، تقول: "فعمدت عائشة إلى خمارها وكانت صبغته بورس وزعفران فنضحته بشيء من ماء حتى تخرج رائحته ثم جاءت حتى قعدت عند رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: مالك هذا اليوم ليس لك ، فقالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث فرضي عن صفية" وانظر أيضا واسمع لمثال آخر في حياته صلى الله عليه وسلم، فعن [النعمان بن بشير] رضي الله تعالى عنهما قال جاء [أبو بكر] رضي الله عنه يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع عائشة وهي رافعة صوتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن له أي الرسول أذن لأبى بكر بالدخول فدخل فقال أي أبو بكر: يا ابنة أم رومان ؟ يعني كأنه يهددها أو يغضب عليها يا ابنة أم رومان ؟ وتناولها ، أترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أنظر لتصرف النبي صلى الله عليه وسلم قال:" فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينهما" يعنى كأنه جعلها خلفه يريد أن يخلصها من أبيها ، رضي الله تعالى عنه ، فلما خرج أبو بكر جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها يترضاها يقول لها: "ألا ترين أني قد حلت بين الرجل وبينك ؟ قال: ثم جاء أبو بكر فاستأذن عليه فوجده يضاحكها" رجعت العلاقة مرة أخرى بملاطفة النبي، بحسن مداراته لزوجه بالاعتذار منه صلى الله عليه وسلم انظر لقمة الأخلاق (وإنك لعلى خلق عظيم) صلوات الله وسلامه عليه" فرجع أبو بكر فوجد العلاقة قد رجعت ووجد النبي صلى الله عليه وسلم يضاحكها فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالدخول فقال أبو بكر: يا رسول الله أشركاني في سلمكما كما أشركتماني في حربكما "، وفي الحديث بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحلم والتواضع وحسن معاشرة زوجه فلم تدفعه مكانته أو قوامته للتكبر أو المكابرة عن الاعتذار ، وأن يكون هو البادئ بالإصلاح صلى الله عليه وسلم إذاً فأقول لك أيها الرجل عليك بكسر حاجز المعاندة والمكابرة وإنك إن فعلت هذا فإنك أنت بنفسك تعود زوجك على هذا العمل تعودها على هذا التصرف ، عودتها على هذا الأدب إذا أخطأت وكان الخطأ منك ذهبت إليها واعتذرت منها فإنها ستأخذ هذا التصرف فإن قصرت وإن أخطأت فستذهب هي وترجع إليك بالاعتذار ونذكر هنا مرة أخرى بقاعدة [أبي الدرداء] رضي الله تعالى عنه وأرضاه مع [أم الدرداء] بقوله: إذا رأيتني غضبت فرضني وإذا رأيتك غضبي رضيتك وإلا لم نصطحب ، تعامل بهذه القاعدة في بيتك.(/8)
ومن الفن أيضا إظهار المحبة والمودة للزوجة وذلك بالقول والفعل أما القول فقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث أم زرع الطويل قال لعائشة : "كنت لك كأبي زرع لأم زرع" والحديث عند البخاري أي في الوفاء والمحبة فقالت عائشة واسمع أيضا لحكمة عائشة واسمع لعقل هذه المرأة رضى الله عنها وأرضاها لما قال لها النبي: كنت لك كأبي زرع لأم زرع يعني في الوفاء والمحبة قالت عائشة بأبي وأمي لأنت خير لي من أبي زرع لأم زرع، وأما الفعل أي إظهار المحبة بالفعل فكثير في حياته صلى الله عليه وسلم ومن ذلك ففي صحيح مسلم في كتاب الحيض عن عائشة قالت: "كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فِيَّ" اسمع انظر للتصرف "فيضع فاه على موضع فِيَّ فيشرب، وأتعرق العَرْقَة وأنا حائض ثم أناوله النبي فيضع فاه على موضع فِيَّ" والعَرْق: العظم عليه بقية من اللحم وأتعرق أي آخذ عنه اللحم بأسناني ونحن ما نسميه بالعرمشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يضع فمه مكان فم عائشة رضى الله تعالى عنها في المأكل أو المشرب يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم وعائشة حائض وهنا نكتة أيضا أشار إليها بعض أهل العلم قالوا : لم يكن يفعل ذلك لشهوة صلى الله عليه وسلم وإنما إظهار المودة والمحبة لأن المرأة حائض وإنما إظهار المودة والمحبة ثم لا بأس أيضا من تقديم الزوجة عليك بالشرب والأكل قبلك كل ذلك إظهارا للمودة والمحبة ومن ذلك أيضا حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن" انظر للتصرف يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن وذكر ابن كثير في البداية والنهاية هذا الموقف الجميل [للمهدي] قال: حدث [الخيزران] زوجة المهدي في حياة المهدي فكتب إليها وهي بمكة كتب إليها يستوحش لها ويتشوق إليها بهذا الشعر ، قال المهدي:
نحن في غاية السرور ولكن
ليس إلا بكم يتم السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودي
أنكم غُيَّبُ ونحن حضور
فأجدوا في السير بل إن قدرتم
أن تطيروا مع الرياح فطيروا
تصور هذه الكلمات لما يقولها الرجل لزوجه كيف ستكون الزوجة ولذلك لما وصلت هذه الأبيات للخيزران أجابته أو أمرت كما يقول ابن كثير أجابته بهذه الأبيات:
قد أتانا الذي وصفت من
الشوق فكدنا وما قدرنا نطير
ليت أن الرياح كن يؤدين
إليكم ما قد يكن الضمير
لم أزل صبةً فإن كنت بعدي
في سرور فدام ذاك السرور
هذا من المواقف التي تبين كيف كان التعامل أيضا مع الأزواج وإظهار المحبة والشوق لها.(/9)
ومن الفن أيضا بل من أعظم وسائل السعادة للبيت المسلم تعاون الزوجين على العبادات والنوافل والأذكار ففي ذلك مرضاة لله وفي ذلك إحياء للبيت وطرد لروتين الحياة الممل فما أحلى أن ترى زوجين صالحين يتعاونا على طاعة الله فالدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة ومثال ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما عن أم المؤمنين [جويرية بنت الحارث] رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: مازلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته " والحديث عند مسلم في صحيحه وأخرجه أيضا [الإمام أحمد] في مسنده. الشاهد انظر لحرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إرشاد وتعليم زوجه وأسألكم بالله أيها الأحبة من منا وقف مع زوجه ساعات أو لحظات يعلمها ويذكرها في بعض الأذكار أو النوافل أو العبادات ؟ وأيضا أخرج البخاري في كتاب الوتر في صحيحه باب إيقاظ النبي صلى الله عليه وسلم أهله في الوتر اسمع للباب اسمع للترجمة، عن عائشة قالت "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى وأنا راقدة معترضة على فراشه فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت" وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت فإن أبت نضح في وجهها الماء ، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبي نضحت في وجهه الماء" والحديث أخرجه [أبو داود] وقال [الألباني] عنه: حسن صحيح وانظر قضية مبادلة إن قصرت الزوجة فإذا بالزوج يذكر ويعين وإن قصر الزوج فإذا بالزوجة تذكر وتعين فكل منهما مطالب بتذكير الآخر فنحن مطالبون بالتعاون التعاون بين الزوجين في العبادات والنوافل ، وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضى الله تعالى عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته وصليا ركعتين جميعا كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات" وأيضا الحديث أخرجه أبو داود في سننه وقال الألباني: صحيح، صلاة النافلة في البيت نغفل عنها كثيرا صلاة النافلة في البيت بعض الرجال يحرص كثيرا أن يصلى النافلة في المسجد مع أن السنة أن تصلى النوافل في البيت والسنن الرواتب في البيت ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "فإن أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة" لماذا ؟ ليذكر الأهل ويشجعهم بل ويربى أولاده وصغاره على هذه الأفعال وما أجمل البيت يوم أن تغيب الشمس ذلك اليوم وقد استعد الزوجان للجلوس لجلسة الإفطار معا ما أحلى هذه الجلسة وما أسعد هذين الزوجين في التعاون على مثل هذه العبادات ، وقل مثل ذلك في قراءة القرآن وفي حضور على الأقل ولو درس أسبوعي أو محاضرة ، القيام على الفقراء والمساكين في الحي وغيرها من الأعمال الصالحة والخيرة التي لو تعاون الزوجان على مثل هذه الأمور لكان ذلك عماد السعادة الزوجية وحلاوتها وروحها ومن جرب هذا وجد طعم هذه الحياة (من عمل صالحا من ذكر أو أنثي وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).(/10)
من الفن الممازحة والمرح مع الأهل ومن هذا ما أخرج النسائي أيضا في كتابة عشرة النساء من حديث عائشة رضى الله تعالى عنها قالت: "زارتنا سودة يوما" اسمع لهذا الموقف وهذه القصة الجميلة زارتنا سودة يوما تعنى أم المؤمنين "فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينهما" ضرتين "جلس النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينها إحدى رجليه في حجري والأخرى في حجرها ، فعملت لها حريرة أو قال خزيرة" والخزيرة أو الحريرة: لحم مع دقيق مع ماء يخلط في بعضه وهو نوع من أنواع الطعام، تقول عائشة: فعملت لها حريرة أو قال: خزيرة، فقلت: كلى أى لسودة ، فأبت فقلت: لتأكلي أو لألطخن وجهك فأبت" تقول عائشة: "فأخذت من القصعة شيئا فلطخت به وجهها، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجله من حجرها تستقيد منى" أي تأخذ حقها مني "فأخذت من القصعة شيئا فلطخت به وجهي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فإذا عمر يقول: يعني عند الباب يا عبد الله بن عمر يا عبد الله بن عمر فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما فاغسلا وجوهكما فلا أحسب عمر إلا داخلا" هذا موقف وانظر لحياته صلى الله عليه وسلم والممازحة بين الأزواج وأيضا أخرج النسائي في عشرة النساء من حديث عائشة رضى الله تعالى عنها و[ابن ماجة] أيضا في كتاب النكاح "أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهي جارية فقال لأصحابه: تقدموا ، ثم قال: تعالى أسابقك فسابقته فسبقته ، تقول : فَسَبَقْتُهُ على رجلي فلما كان بعد خرجت معه في سفر فقال لأصحابه: تقدموا" ما أشغله ما كان فيه صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال" تعالى أسابقك، ونسيت الذي كان وقد حملت اللحم فقلت: كيف أسابقك يا رسول الله وأنا على هذه الحال فقال: لتفعلن، فسابقته فسبقني فقال: هذه بتلك السبقة" (وإنك لعلى خلق عظيم) وأيضا أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء بيني وبينه تختلف أيدينا عليه فيبادرني حتى أقول: دع لي دع لي، قالت: وهما جُنُبَان" فالمزاح والمرح حتى أثناء الغسل من الجنابة فينبغي للزوج أن ينمي في نفسه صفات الفكاهة والمرح في بعض الأحايين مع زوجة لتقوية أواصر المحبة ، و[علي بن أبي طالب] يروى عنه رضي الله تعالى عنه أنه كان يمازح زوجه فدخل عليها في يوم من الأيام فوجد في فيها عود أراك فأراد أن يمازحها فنظر إلى عود الأراك يخاطبه بهذين البيتين الجميلين قال
قضيت يا عود الأراك بثغرها
أما خفت يا عود الأراك أراكا
لو كنت من أهل القتال قتلتك
ما فاز منى يا سواك سواكا
وهذا يبين حالهم التي كانوا عليها مع أزواجهم رضوان الله تعالى عليهم ، فلا بأس أن ينظم الزوج أوقاتا خاصة للعب والمرح مع الزوجة فهذه سنة فهي تضفي على الحياة الزوجية البهجة والسعادة وتقطع الروتين البغيض في الحياة الزوجية وصدق صلى الله عليه وسلم يوم أن قال لجابر كما أسلفنا "هلا أخذتها بكرا تلاعبها وتلاعبك".
أيضا من الفن في التعامل مع الزوجة إعانتها ومساعدتها إذا تعبت ، فالزوجة بشر تمرض وتتعب فعلى زوجها أن يراعي ذلك فيقوم بمساعدتها وقضاء حوائجها والقيام ببعض أعمال المنزل عنها فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقوم على خدمة أهله بنفسه يخصف نعله ويرقع ثوبه ويكنس الدار حتى إذا أذن المؤذن كأنه لا يعرفنا كما تقول عائشة إذاً فالتواضع والبساطة مع شريكة العمر من أسباب السعادة ، والمرأة في البيت ليست هَمَلاً أو متاعا بل هي إنسان كالرجل تشاركه وتشاطره الأفراح والأتراح فعلى الزوج أن يقف مع زوجه ويعينها واسمع لهذه المرأة وهي تمدح زوجها الوفي المخلص فقالت : زوجي لما عناني كاف ولما أسقمني شاف ، عرقه كالمسك ، ولا يمل طول العهد ، إذا غضبت لطف ، وإذا مرضت عطف ، أنيسي حين أفرد ، صفوح حين أحفد ، إذا دخل الدار دخل بساما ، وإن خرج خرج ضحاكا ما غضب عليَّ مرة ولا حقد ، يأكل ما وجد ويدرك ما قصد ، ويفي بما وعد ولا يأسي على ما فقد ، أديب أريب حسيب نسيب ، كسوب خجول لا كسول ولا ملول ، إذا طلبت منه أعطاني وإن سكتُّ عنه ابتداني ، وإذا رأى مني خيرا ذكر ذلك ونشر ، أو رأى تقصيرا ستر ذلك وغفر" فهنيئا لهذه المرأة بزوجها .(/11)
أيضا من الفن مراعاة شعورها ونفسيتها ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعلم إذا كنت عنى راضية " اسمع لكلامه صلى الله عليه وسلم "إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت على غضبي ، قالت : فقلت : من أين تعرف ذلك ؟ قال : أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين لا ورب محمد وإذا كنت غضبى قلت : لا ورب إبراهيم ، قالت : قلت : أجل والله يا رسول الله ، ما أهجر إلا اسمك " والحديث عند البخاري ومسلم في صحيحيهما وهذا الحديث يتبين لنا كيف كان صلى الله عليه وسلم بدقة ملاحظته ومراعاة شعور نفسية زوجه حتى عرف عنها هذا الأمر فإذا استقر الزوجان واستقر حال كل منهما عرف كل منهما ما يغضب الآخر وما يرضيه وأسباب كل ذلك فقد تمكنا بإذن الله من توطيد أسس العلاقة الزوجية والسير بها في الدروب الآمنة المفروشة بالورود والرياحين وأمكنهما أيضا تجنيب أسرتها مسالك العسر ومواضع الزلل والنكد ونلحظ في هذا الحديث دقة عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشاعر عائشة رضي الله تعالى عنها حتى صار يعلم رضاها وغضبها عند مجرد حلفها ، إذاً فمراعاة النفسيات أمر مهم لدوام المحبة ، والزوج الذكي يحرص على احترام نفسية زوجته فيغض الطرف ولا يكثر العتاب إلا في التجاوزات الشرعية فلابد أن يأخذ على يدها أما ما عداها فالكمال عزيز ، وبعض الخصال جبلة في المرأة يصعب تغييرها فاصبر ، واحتسب (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب). ومن الفن أيضا الحذر من شتمها أو ضربها والإساءة إليها قال الله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك الآيات لقوم يتفكرون) وقال سبحانه وتعالى آمراً الزوج بحسن عشرة زوجته فقال: (وعاشروهن بالمعروف) وكلمة العشرة هنا مشتقة من المعايشة والمخالطة والمعروف كلمة جامعة شاملة لكل خير وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجالا يضربون زوجاتهم ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : "وما أولئك من خياركم خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " وقال صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم" والحديث أخرجه أبو داود في سننه وأحمد في مسنده وهو صحيح كما في صحيح الجامع فإن احتجت لشيء من الضرب أو من تأديب المرأة فأقول: بحقه الشرعي فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح كما قال صلى الله عليه وآله وسلم والحديث عند الترمذي وعند النسائي وروى لـ[شريح] أنه قال:
رأيت رجالا يضربون نساءهم
فشلت يميني حين أضرب زينبا.
وزينب شمس والنساء كواكب
إذا طلعت لم تبق منهن كوكبا
ومن الفن أيضا التوسيع على الزوجة في المطعم والملبس والنفقة قال تعالى (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) وقال صلى الله عليه وسلم: "فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذ تموهن بكلمة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله" إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف"(/12)
والحديث أخرجه مسلم في صحيحه ، وقال صلى الله عليه وسلم: "كفي بالمرء إثما أن يضيع من يعول" وهو متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنك إن شاء الله لا تنفق نفقة إلا أجرت حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك" والحديث أيضا متفق عليه، فأقول: التوسيع عليها في بعض المباحات أمر مطلوب وانظر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان إذا هويت زوجه شيئا لا محذور فيه تابعها عليه أي وافقها، فعن عائشة زوج النبي أنها قالت: "دخل الحبشة المسجد يوما يلعبون فقال لي: يا حميراء أتحبين أن تنظري إليهم؟ فقالت: نعم، فقام بالباب وجئته فوضعت ذقني على عاتقه فأسندت وجهي إلى خده قالت: ومن قولهم يومئذ أبا القاسم طيبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك، فقلت: يا رسول الله لا تعجل فقال لي قال: حسبك فقلت: لا تعجل يا رسول الله، قالت: وما بي حب النظر إليهم ولكنى أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه" والحديث أخرجه أيضا النسائي في عشرة النساء وصححه الحافظ ابن حجر في الفتح وتابعه أيضا على تصحيحه الشيخ الألباني في آداب الزفاف، وأصل الحديث في الصحيحين، وأخرج النسائي أيضا في السنن الكبرى أنه قال صلى الله عليه وسلم: "أفضل دينار دينار ينفقه الرجل على عياله" إلى آخر الحديث وروى [ابن أبي الدنيا] في كتاب العيال أن [ابن عائشة] قال: حدثت أن أيوب كان يقول لأصحابه كثيرا: تعاهدوا أولادكم وأهليكم بالبر والمعروف ولا تدعوهم تطمع أبصارهم إلى أيدي الناس، قال وكان له زنبيل يغدو به إلى السوق في كل يوم فيشترى فيه الفواكه والحوائج لأهله وعياله هكذا كانوا في التوسيع على الزوجة والأولاد في المطعم والملبس والنفقة ، ومن الفن أيضا وهو آخرها عدم التساهل مع الزوجة فيما يغضب الله (لُعِنَ الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) والله عز وجل يقول: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) وبعض الرجال وللأسف تنازل عن هذه القوامة وضعف أمام إغراءات المرأة وأمثلة ذلك تبرج زوجته أو بناته في المناسبات والأفراح ولبس الملابس الضيقة والمفتوحة والبنطلونات وغير ذلك مما نسمعه ويتناقله الناس وأيضا من ذلك خروج نسائه إلى الأسواق بدون محرم فتخاطب البائع وتجادله وربما تكثرت بكلماتها وقد يحدث هذا والزوج الضعيف موجود وأيضا من ذلك إدخال الأجهزة والأفلام والمجلات وغير ذلك من وسائل الإعلام الهابطة لبيته بدون أن يحرك ساكنا أو أن يفعل تجاه ذلك شيئا وغير ذلك من المحرمات التي استهان بها كثير من الأزواج فغلبته نساؤه عليها وكل ذلك مما جعل حياته جحيما والدليل فمن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط الناس لا زوجته ولا أولاده ولا هو راضى حتى عن نفسه فهو في هم وغم وانتبهوا واسمع أيها الزوج واسمعي أيتها الزوجة لهذه الكلمة أقول: كل خلاف يجرى بين الزوجين كبر الخلاف أم صغر إنما هو بمعصية الله تعالى، وقال سبحانه وتعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) واسمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف كان يتعامل مع أزواجه ففي صحيح مسلم عن عائشة قالت "دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متسترة بقرام فيه صورة فتلون وجهه" لم يرض "فتلون وجهه ثم تناول الستر فهتكه ثم قال: إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله" فيا سبحان الله كم من صورة وكم من تمثال في بيوت المسلمين اليوم كم من صورة في بيوتنا أيها الأحبة؟ وقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة" كما في حديث [أبي طلحة] عند مسلم والبيت إن لم تدخله الملائكة دخلته الشياطين ثم نعرف بعد ذلك سبب كثرة المشاكل في كثير من البيوت لماذا؟ عشعش الشيطان في هذا البيت بسبب كثرة الصور وكثرة المشاكل وكثرة وسائل الإعلام والفساد في البيت ؛عشعش الشيطان فلم يكن هناك وجود للملائكة ولم يكن هناك تطهير لهذا البيت فلا شك حلت المصائب والهم والغم بين الزوجين، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول أيضا: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" إلى قوله "والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته" وقال أيضا صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من عبد يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" والحديث متفق عليه اسمع لهذا الحديث مخيف مرعب "ما من عبد يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" أليس من الغش إدخال وسائل الإعلام والأفلام والمجلات الهابطة أو حتى السماح بدخولها والله إن لم يكن من الغش فما ندري ما هو الغش، أليس من الغش عدم مراقبة الزواج للباس زوجه وبناته وأولاده عند الخروج(/13)
للمناسبات والأسواق إن لم يكن هذا من الغش فلا ندري والله ما هو الغش، وأيضا في الحديث السابق الذي ذكرناه عن صفية "أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إلى زينب فقال لها: إن صفية قد أعيا بها بعيرها فما عليك أن تعطيها بعيرك، قالت زينب: أتعمد إلى بعيري فتعطيه ليهودية "، كلمة منها فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم انظر عدم الرضا فيما يغضب الله عز وجل " فهاجرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشهر فلم يقرب بيتها، وعطرت زينب نفسها وعطرت بيتها وعمدت إلى السرير فأسندته إلى مؤخرة البيت وأيست أن يأتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين هي ذات يوم إذ بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بخياله فدخل البيت فوضع السرير موضعه فقالت زينب: يا رسول الله جاريتي فلانة قد طهرت من حيضتها اليوم هي لك فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها" وفي حديث أيضا أخرجه مسلم في صحيحه رواه [عبد الله بن مسعود] في حديث أيضا أخرجه مسلم في صحيحه رواه عبد الله بن مسعود في حديث الواشمة والمستوشمة واللعن لهما والمتنمصة والمتفلجة إلى آخر الحديث قال في آخر الحديث: فقالت المرأة: فإني أرى شيئا من هذا على امرأتك تقصد عبد الله بن مسعود الآن قال اذهبي فانظري قال: فدخلت على امرأة عبد الله فلم تر شيئا فجاءت إليه فقالت: لم أر شيئا، قال: أما لو كان ذلك لم أجامعها أي لم أصاحبها ولم نجتمع نحن وهي بل كنا نطلقها ونفارقها هكذا كانوا رضوان الله تعالى عليهم لم يكونوا يرضون عن فعل المرأة إن كان فعلها يغضب الله عز وجل (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى).
وأخيرا أقول خلاصة هذا الموضوع : اعلم أيها الأخ الحبيب يا أيها الرجل إني أخاطب فيك الرجولة والعقل والحكمة والتروي وحسن الخلق فإن السعادة مفتاحها بيدك فلا تضيعه فأنت القادر أن تجعل حياتك نعيما أو أن تجعلها جحيما متى؟ إذا علمت أن التعامل مع الزوجة فن، وأخيرا تنبيه للمرأة فأقول أيتها المرأة إني أعلم أنك ستحرصين على سماع هذا الموضوع وهو خاص بالرجل وكما أسلفنا كل ممنوع مرغوب وستعلمين كيف نخاطب الرجل بمثل هذه الكلمات فإذا حرصت وسمعت هذه الكلمات فإني أذكرك أيضا بأن لهذا الدرس بقية وجزء لا يتجزأ عنه فكما حرصت وسمعت هذا فاحرصي واسمعي بقيته حتى تتكامل سعادتك فإن السعادة لا تتحقق للبيت إلا بالتعاون وقيام كل من الزوجين بحقوقه تجاه الآخر وكما أن التعامل معك فن فإن التعامل مع زوجك فن آخر ستسمعينه بمشيئة الله في الدرس القادم بعنوان السحر الحلال، أسأل الله عز وجل أن ينفع بما قلنا الجميع وأن يجمع بين قلبي كل زوجين وأن يوفق بيوت المسلمين وأن يحفظ بيوتهم وأن يحفظ أحوال المسلمين مع أزواجهم اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام اللهم من على بيوت المسلمين بعيشة هنية راضية ترضيك يا حي يا قيوم وفق المسلمين لكل ما تحبه وترضاه اللهم من أراد بهم سوءا فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبير تدميرا عليه يا حي يا قيوم أنت ولي ذلك والقادر عليه سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .(/14)
فن المدائح النسوية
محمد إبراهيم الغباشي
مفكرة الإسلام : جلس الزوجان على مائدة الطعام؛ تلك المائدة التي كانت عامرة بما لذّ وطاب من أصناف المشهّيات, والتي قضت الزوجة نصف يومها في تحضيرها, والتي تسببت اليوم في عدة حوادث للزوجة, كجروح في أصابعها من جراء تقطيع اللحم, والتواء في ساقها اليسرى عند الوقوف على الكرسي لإحضار كيس الأرز من فوق دولاب الأطعمة, وأخيرًا ورم في جبهتها بسبب سقوط كومة البصل على رأسها.
الزوج منهمك في إحضار لقمة من هنا ولقمة من هناك, ومضْغ قطعة من الحمام المشوي, وأخْذ حفنة أرز على قطعة لحم, ثم يتبع ذلك كله ببعض البازلاء المطبوخة, والتي كان طعمها شهيًا كبقية الأطعمة الموجودة؛ فزوجته أستاذة في صنع البازلاء والحمام المشوي.. فقد تعلمت كل ذلك من بنات عمومتها..
كانت الزوجة في حسن استقبال زوجها؛ فقد قامت بشراء بعض الشموع الحمراء, والتي وضعتها مضاءة على مائدة الطعام, مع بعض الورود الحمراء والصفراء والبيضاء, وزينت بها بقية الغرفة لتظهر في مشهد رومانسي حالم, وحالة حب حقيقية بين الزوجين..
كما كانت الزوجة متهيئة متزينة لزوجها بأجمل زينة, لابسةً ثوبًا أزرق مطرزًا ببعض التطريزات الجذابة كان عندها منذ فترة العقد؛ لتجدّد به عهدها بتلك الفترة الحانية؛ وتعيد به ذكريات الحب والغرام والشوق والهيام..
وبعدما فرغ الزوجان من الطعام دار هذا الحوار بينهما:
- ما رأيك في الفستان يا حبيبي؟! هل تذكره؟!
- نعم.. أليس هذا فستان العقد.. لقد تكدّر لونه وتغيّر كثيرًا..
يتغير وجه الزوجة.. يا ليتني لم ألبسه.. كنت أريده أن يتذكر تلك الأيام الجميلة.. هكذا قالت الزوجة في نفسها..
- وما رأيك في الشموع والأزهار.. أليست رائعة؟!
- لا أدري لمَ تُجلسيننا في الظلام وهاهي الكهرباء متوفرة؟!
- وما رأيك في البازلاء يا حبيبي؟!
- ينقصها بعض الملح..
- وما رأيك في الحمام المشوي؟!
- لو كنتِ أكثرتِ من الأرز لكان شهيًا..
قامت الزوجة بعد أن أُحبطت, وبعدما ندمت أشد الندم, واستعوضت ربها في اليوم الذي قضته في المطبخ وتجهيز البيت لاستقبال الزوج, ودخلت لتنام لتستقبل يومًا جديدًا من التعب والإرهاق وهي تردد في نفسها: في فترة الخطوبة كان يمتدحني كثيرًا, وكنت أعتقد أنها مبالغات فأطلب منه أن يكف عن ذلك, أما الآن فأشتهي كلمة إطراء على فستان أو زينة أو حتى طبخة فلا أجد.. إلى الله المشتكى!!
ما رأيك عزيزي الزوج في هذا المشهد السابق؟!
أغلب الظن أن هذه الزوجة لن تقوم ببذل أي مجهود إضافي في البيت بعد الآن.. والسبب في ذلك أنها لم تسمع 'كلمة المدح'.
فالنفس البشرية مجبولة على حب الثناء من الناس, سواء كان الثناء بسبب أو بغير سبب.. بحق أو بغير حق؛وكان هذا الثناء حافزًا لها على مزيد من الإنتاج والعطاء.. هذه الصفة عامة في الرجل والمرأة, ولكنها عند المرأة أشد؛ فهي في حاجة دائمًا لأن تكون في عينيْ زوجها أجمل النساء وأفتنهن, وأن تكون أمهر النساء في شئون المنزل, وأنضجهن عقلاً وأميزهن تفكيرًا وثقافةً.. ولكن ليس ذلك كافيًا بالنسبة لها.. فأعظم من ذلك أن يمدحها الزوج على هذه الأمور وإن لم تكن فيها..
فلتمدحها على تنظيف المنزل وتجميله.. وعلى طبخها.. وعلى تنظيم مائدة الطعام.. وعلى ذوقها في اختيار الأزهار والشموع.. وعلى أناقتها واختيارها لألوان الملابس التي تلبسها... إلى غير ذلك مما تقوم به المرأة, بل واشكرها عليه.
قد يقول الزوج: هل أمدحها وأشكرها على ما يجب عليها أن تؤديه؟! أقول: نعم.. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من لم يشكر الناس لم يشكر الله]. فشكرك الناس على الخير الذي قدموه لك نوع من حمد الله تعالى, وزوجتك أولى الناس بالشكر؛ فهي تتعب لإرضائك أكثر مما يتعب شخص آخر؛ لذلك فهي أحق الناس بكلمة شكر أو مدح ترفع بها معنوياتها وتحفزها على طاعتك والقرب منك, بل ومطلوب أيضًا أن تمدحها وتشكرها أمام الناس, وهذا له أثر عظيم عليها.. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن زوجه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: [فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام]. فهاهو الرسول صلى الله عليه وسلم يمدحها أمام الناس في حال لم تكن حال نعمة أسدتها إليه, فما بالك لو فعلت؟!
كيف تمدح زوجتك؟!
1. امدح بالتفصيل:
المرأة بفطرتها تحب التفاصيل, وتحب إذا تحدثَتْ هي عن أمر أن تخبر بكل دقائقه الظاهرة والباطنة.. وإذا تحدثتْ عن حادثة بعينها رأيتها تصف لك الأشخاص كما لو كانوا حاضرين أمامك, بملابسهم التي كانوا يلبسونها, وتعبيرات وجوههم, وتعليقات كل منهم على الحادثة, وتجتهد في ذكر كل الكلمات التي وردت أثناء محادثتها مع شقيقتها أو صديقتها, ووصف الفستان الذي رأته في أحد المحلات حال رجوعها إلى المنزل بكل ما فيه من نوع القماش إلى نوع التفصيلة إلى درجة اللون... وغير ذلك, فكذلك فكن أنت إذا مدحت.. امدح فعلها بتفاصيله!!(/1)
فإذا طبخت لك طعامًا فامدحه عامة, ثم امدح ضبطها للملح فيه, وامدح النضج الكامل له, وامدح الخبز الساخن, وامدح تنظيم المائدة, وامدح مفرش المائدة... إلخ.
وإذا لبست ثوبًا فامدح الجسد الذي تزيده الثيابُ المتنوعةُ جمالاً على جمال, وامدح اختيار الألوان, وامدح التطريزات التي في الثوب, وامدح الرسوم التي عليه, وامدح التناسق في الهيئة والألوان... إلخ. وهكذا.
من عادة الرجال أنهم يعبرون عما بداخلهم من مشاعر بالأفعال لا بالأقوال؛ فإن كان معجبًا بالطعام أتى عليه إلى آخره, وإن أحب زوجته فإنه يعبر عن هذا الحب بالعلاقة الحميمة.. إلى غير ذلك, ولكن المرأة غير ذلك, وعلى الزواج أن ينظر ما الذي يناسب طبيعة المرأة ليفعله, فإن الكلمة الطيبة تأسرها, والمدح على ما تقوم به يرفع من روحها المعنوية ويُعلي همتها إلى السحاب لتفعل كل ما يطلبه منها الزوج.. فتعلم فن المدح.
2. امدح أمام الأقارب:
من أعظم الأمور عند المرأة أن تمدحها أمام أقاربها, خاصة أمام أبيها وأمها, كأن تقول – رغم أنك تعاني من سوء طعامها-: ابنتكم طباخة ممتازة. أو أن تقول – وأنت تذوق الأمرّين من سوء تدبيرها المنزلي-: فلانة منظمة كالساعة. أو قولك – وأنت تنام على جمر كثرة نومها-: إنها نشيطة كالفراشة. وتأكّد أنها - بمرور الوقت مادمت أنت مراعيًا لنفسيتها أمام أهلها – أنها ستُصلح من نفسها.
هذا على افتراض أنها لا تحسن فعل كل ذلك, فما بالك إن كانت من الماهرات في شئون المنزل وتنظيم البيت والطبخ وسلامة لسانها من القبائح وطاعتها لك ولله تعالى قبل كل ذلك!!
3. حكايات النساء [حوار الصُّم]:
أتت مريم إلى زوجها طارق لتحكي له مشكلة بينها وبين صديقاتها, وكيف أنها تحمل همًا عظيمًا بين ضلوعها بسبب هذه المشكلة, فسارع طارق يحلل لها ويؤصل لها القضية تأصيلاً اجتماعيًا ونفسيًا, ويخبرها بالطريقة التي ينبغي أن تتعامل بها عامة مع صديقاتها, فترد عليه مريم بأنهن اللائي أخطأن في حقها ويكثرن من لومها, على الرغم من أنها لا تحب أن تحزن إحداهن, إلا أن طارق قام مرة أخرى بتحليل الموقف وأخبرها بأن عليها أن تتقبل موقفهن دون تبرم وأن تعفو عنهن وتسامحهن, فترد عليه مريم: وكيف أسامحهن بعد كل ما فعلنه معي من إساءة, أنت لا تفهم النساء.. ثم انفض الأمر بعد ذلك, وكان من نتيجة ذلك أن تخاصم طارق ومريم.
إن المرأة في أغلب أحوالها عندما تحكي لزوجها أمرًا فإنها لا ترغب منه أن يعطيها تحليلاً للموقف, أو أن يجد لها حلاً للمشكلة, وإنما تريد إظهار التعاطف والاستماع والتفهم من زوجها والاحتواء لمشكلتها, ولكن الرجل يعتقد أنها تريد حلولاً, فيتفنن في تقديم الحلول, رغم أنها في الأغلب تتحدث إليه لتنفَّس عما بداخلها, والغريب أن المرأة تظل تتحدث في المشكلة ذاتها حتى ولو قدّم لها الزوج حلاً شافيًا كافيًا, أرأيت؟!! هي لا تريد حلولاً, هي فقط تريد منك بعض الاستماع ثم شيئًا من الإطراء.
لقد كان التصرف الأمثل من طارق في الحادثة السابقة أن يظل يستمع بإنصات واهتمام - ولا بأس بالاستفهام عن ببعض تفاصيل المشكلة ليثبت لها اهتمامه - حتى تنتهي زوجته من حديثها, ثم في النهاية يضمّها إلى صدره ويقول كلمة واحدة فقط: يا ليت لي صديقًا يحبني مثلما تحبين أنت صديقاتك.. هذه الضمة وهذه الكلمات كافية تمامًا لأن ترفع روح الزوجة المعنوية إلى أعلى عليين, أما تقديم الحل فهو ليس القضية التي تشغل بال المرأة, صحيح أنها قد تريد حلاً في بعض الأحيان, لكن – وللنصيحة – لا تعطِها الحل إلا حينما تطلبه هي.
أقول في النهاية أيها الأزواج.. تعلموا من علي بن أي طالب رضي الله عنه حينما وصف ثغر زوجته ومَدَحَه متغزلاً فقال:
قد فزت يا عود الأراك بثغرها أما خفت يا عود الأراك أراكَ؟!
لو كنتَ من أهل القتال قتلتكَ ما فاز مني يا سِواكُ سواكَ
أيها الرجال..
تعلموا فن..
'المدائح النسوية'.(/2)
فوا أحمداه! ووازينباه!
13-8-2005
بقلم إكرام الزيد
"...ثنّى الموتُ علينا فجائعه باختطافِ حجّة زمانه في مناظرة النصارى الداعية الكبير أحمد ديدات، وكذا الداعية الفاضلة زينب الغزالي ابنة أرض الكنانة، على الجميع من الله شآبيب الرحمة والمغفرة!
..."
قد كان يجدرَ بي نشر هذه المقالة مصاحبةً للحدثِ دون تأخرٍ وتلكؤ، لولا ذهول اعترى قلمي فألجمه، وقد نزلتْ بنا فاجعة موتِ الملكِ فهد بن عبد العزيز - رحمه الله - في غاشية غشتْ البلاد والعباد ما لبثتْ أن تقشّعتْ حتّى ثنّى الموتُ علينا فجائعه باختطافِ حجّة زمانه في مناظرة النصارى الداعية الكبير أحمد ديدات، وكذا الداعية الفاضلة زينب الغزالي ابنة أرض الكنانة، على الجميع من الله شآبيب الرحمة والمغفرة!
ولقد رأيتُ في نفسي انصرافاً عن الكتابة لم أعهده بها قبلاً، وكنتُ أرجو أن أجدَ ما أسدّ به حزني، وأكرم به الراحلَيْن غير مقالة أكتبها — فقد أفردتُ للمليك الراحل مقالته -، لكني قلّبتُ النظر فرأيتُ الإعلام قد أحجم عن تبيان عظم شأوهما، وتقاصر عن ذكر فضلهما، ورأيتُ أنّ المقالة هي أقلّ قليلٍ ينعاهما، ويذكر مآثرهما، ويترحم عليهما، ثمّ انتابتني حيرة عن أيّ العَلَمينِ أكتبُ إنْ كنتُ فاعلة؟..فوجدتهما كعيني رأسٍ لا فضلٍ لواحدةٍ على أخرى، لكني آثرتُ أن أبتدئ بالشيخ أحمد ديدات — جعل الله قبره روضة خضرة - ، وللرجال عليهنّ درجة!
ولأنيّ لا أعلم عن الراحل كثيراً من الأخبار — إلا ما اشتهر عنه — فإنّي سأكتفي بذكر بعض ما وقع في نفسي منه، لعلي أخرج بمن ينظر في ذلك الأثر فيدعو له، ويتّبع أثره مباركاً محموداً!
أما الشيخ أحمد ديدات — برّد الله مضجعه — فقد عرفتُه منذ خمسة عشر عاماً تقريباً (1411هـ)، إذ كان والدي — أمدَّ الله عمره في طاعته- يأتي في ذلك الحين بأشرطة فيديو مسجلة لمناظراته الشهيرة (هل الكتاب المقدس كلام الله؟) التي حضرها 3000 شخص، وكانت مع القس الأمريكي جيمي سواجارت —وقد هُتكَ ستره منذ بضع سنوات— فأتابع معه متابعة الذي يعرف بعض الكتاب ويجهل بعض، وكان لتعليقات والدي الكريم التي يلقيها معجباً ومكبّراً وقوعٌ في نفسي عظيم، جعلني أحرص على مزيدِ متابعة، ثمّ لما بلغتُ سنّ الرشد وبدأتُ أعي العلم، عدتُ لتيكَ المناظرة فشاهدتها ثانية، فرأيتُ بحراً من العلمِ زاخراً، وحجّةً في دحض مذهبهم لا تنقطع، وبياناً متدفقاً انتقى لفظه كما ينتقي بعضنا أطايب الثمر، عدا عن ابتسامةٍ هادئةٍ وأدبٍ جمّ وسعةِ بالٍ لا تليقُ إلا بحليمٍ، ومذ تلك الأيام وقعَ في نفسي الإجلال والمهابة لهذا الرجل الذي يشعّ وجهه بالبهاء، متزيناً بلحية بيضاء وقورة وابتسامة متواضعة تدخل القلب بلا استئذان، ومعتمراً طاقية بسيطة ما أنقصتْ من قدره وجلاله!
وأتذكر منذ سنواتٍ خلتْ حين سرت شائعةٌ بوفاته، فهملتْ عيناي حزناً حتى أتاني نبأ تكذيبها فاطمأنتْ نفسي، فالشيخ -وإن كان طريح الفراش منذ تسعة أعوام- لا ينقطع مدده، والرسائل تنهمر عليه من كلّ صوبٍ ممن يسلّم أو يتعلّم، وحسبهُ أنّه يصلُ العالمين بعينين ذابلتين طرح الله فيهما البركة، فلله عيناكَ يا أحمد ديدات، وستشهدان لكِ وأنا معهما من الشاهدين — وقد رأينا الصور- وكم كنتُ أرجو يوماً أنْ أرسلُ له رسالةً لا شيء فيها سوى السلام والدعاء وذكر المعروف، لكنّ قدر الله سابق!
ولربما سأل سائل،وكيف يتحدث بعينيه؟ فأقول بناء على ما قرأتهُ عنه منذ سنة أو تزيد، أنّ الشيخ مشلول الجسم كلّه لا يتحرك فيه سوى عينيه، وابنه عنده لا يفارقه، فإذا جاءت الرسالة قرأها على أبيه، فيقوم بالرد عليها، بحيث علّقت لوحة عند رأسه فيها حروف الهجاء، فيشير بعينيه والابن يشير بإصبعه إلى اللوحة، فالحرف الذي يريد الشيخ يشير له أن اكتبه فيكتبه، والحرف الذي لا يقصده يشير له أن تجاوزه فيتجاوزه إلى ما بعده، وهذا دأبه مع كلّ رسالة يجيب عنها حرفاً حرفاً لا يملّ ولا يكلّ من كثرة الرسائل (تصل إلى 500 رسالة في اليوم)، فسبحان الله كم بين جنبيه من همّة متوقدة!
ومن الآثار الحميدة التي أعرفُ للشيخ أحمد ديدات رحمه الله تعالى في بلدي، أنّ رجلاً يقال له مساعد الوعلان "وهو من آل وعلان المعروفين" كان على خير وتقى، واشتهر بالصلاح وحب للدعوة والدعاة، وكان يرجو أن يقوم بدعوة من يعرفهم من النصارى، لكن علمه كان قاصراً عن أساليب محاجتهم، حتى وقع على مناظرات الشيخ أحمد، وتأثر به تأثراً كبيراً، وتعلم ما يمكّنه من دعوة النصارى متحدثي الإنجليزية إلى الإسلام، فبدأ بالتطبيق والدعوة حتى تطور جهده إلى أن يؤسس مركزاً لدعوة الجاليات، فأسلم على يديه من النصارى كثير، خرج منهم داعية فليبيني ليفتح مركزاً إسلامياً في الفلبين، فأيّ أجرٍ يتتابع؟ ويا رحمة الله على التابع والمتبوع! (توفي مساعد الوعلان رحمه الله منذ عدة سنوات وكان في بداية الأربعينات من عمره، والقصة أخبرتني بها ابنة أخيه).(/1)
وحسبنا من الشيخ ديدات عليه رحمة الله تعالى، أنه قد خرج من نطاق دعوة محلية إلى دعوة عالمية، فملأ الدنيا وشغلَ الناس، وأسلمَ على يديهِ مئاتُ واحدهم خير له من حُمر النعم، وقد علمتُ من والدي أن أشرطة الفيديو — حينذاك — كانت تنتشر بين الناس كالنار في الهشيمِ - حتى ممن لم يكن عنده التوجّه الشرعي - افتخاراً واسترشاداً، والأمل في تلميذه النجيب "د. ذاكر نايك" كبير وموصول، الذي بدأ يلمع نجمه من بعد شيخه، سائراً على خطاه القويمة، وكذلك المركز الذي أسسه ليدرّب فيه المسلمين على فنون المناظرة والمحاجّة بالحكمة وبالتي هي أحسن، فالشيخ رحمه الله تعالى رغم انشغاله بالقوم، إلاّ أنّ لديه وعياً بمبدأ التوريث، لينقل العلم والخبرة كابراً عن كابر، فقدّس الله سرّه، ورزقنا كالأحامد —ابن حنبل، وابن تيمية، وابن ياسين، وابن ديدات- أحامداً وميامين، رجالٌ يموتون ويتركون وصايا مكتوبة بدم القلوب، وصية لكلّ أمٍ وأبٍ ومربٍ، بأن ينجبوا عشراتٍ كأولئك الأحامد، و ويربّوا مئات كالأحامد، ووصايا للمسلمين أجمع، تحثهم أن يمشوا حثيثاً لا وئيداً، قدوتهم الأولى في سيرهم هو الأحمد الأول .. محمد صلى الله عليه وسلم!
إذا طلّ منا سيدٌ قام سيد ... ... ... قؤول لأقوال الكرام فعول!
أمّا زينب الغزالي، فوا حرّ قلباه على فقدِ تلكَ الدرّة، وحسبنا منها علم وقرَ في نفوس أخواتنا من بناتِ مصر وما عداها، وحسبنا منها كتاب "أيّام من حياتي" الذي ضجّ به الأدب وتزينت به مكتبة التراجم والسير والتوثيق التاريخي، وحسبنا ما تبعه من جهودٍ دائبةٍ في الوعظِ والتعليمِ والتربيةِ تشع من جمعية السيدات المسلمات التي أسستها، ومن المساجد التي أنشأتها (خمسة عشر مسجداً)، وكذلك من كتبٍ متتابعةٍ كـ(نحو بعث جديد) و(مشكلات الشباب والفتيات) وكتاب (إلى ابنتي)، وكذلك (نظرات في كتاب الله) الذي احتفت به الأوساط العلمية في حينه!
وإن أعجب، فعجبٌ رأيها! فرغم خروجها للوعظ في المساجد إلاّ أنها كانت ترى أن المرأة لها مجالاتٌ عديدةٌ للدعوة لا تستلزم منها الخروج ومزاحمة الرجال بالمناكب، فلها أن تكتب، ولها أن تربي أبناءها، ولها أن تعلّم النساء من أمثالها، ولها زيارة المرضى في محيط جاراتها وأهلها، ولها صلة رحمها بالدعوة بالمقول والمفعول، فليستْ كل امرأة تصلح أن تكون متحدثة وخطيبة، وهذا الفكر الجميل عندها يمثل لبّ نهجها الذي تعتمد فيه على التأصيل الشرعي القائم على السنة النبوية، والفطرة القويمة.
وقد تهيأ للداعية الكبيرة هذا التفرغ التام للدعوة لعدم ارتباطها بأسرة وأطفال، فقد طُلّقت قسراً من زوجها حين أدخلت السجن ولم تكن قد أنجبتْ أطفالاً، ثمّ إن الله قد استردّ وديعته فمات زوجها وهي سجينة، فلما خرجت لم تتزوج من بعده، ونذرت نفسها لله، وفتحت بيتها ومكتبتها العامرة للناس أفواجاً، فكان لها ذلك الوهج، لكن لا يلزم لكلّ امرأة ذاك الوهج كلّه، فكلّ بحسب قدرته وتوفيقه، لا تفريط لمفضول على فاضل، فبيتها أولّ أساسياتها، تؤصل أركانه، وتحسن بنيانه، ثمّ تلتفتُ من بعدهِ للنساء من حولها، كلّ منهنّ تمدّ لَبِنَتَها الصالحة، لترسي القواعد، وتملك المعاقد، وتبني المجتمع!
كفى الزهر ما تندى به راحة الصبا ... ... ... وهل للندى بين السيول حسابُ؟
فحسبكِ نبلاً قالةُ الناس أنجبتْ ... ... ... وحسبكِ فخراً أن يصونكِ بابُ
ولم تخلقي إلا نعيماً لبائسٍ ... ... ... فمن ذا رأى أنّ النعيم عذابُ
وما عجبي أنّ النساء ترجّلت ... ... ... ولكنّ تأنيث الرجال، عُجابُ!
إنّ إسلامنا لا يلزمنا أن نكونَ كزينبَ في الخروجِ والولوج، لكنّه سيفخر بنا إنّ كنّا مثلها في البذل والعطاء والثبات، فيكفي أنّها صمدتْ رغم ما صبّوه عليها من العذابِ في ستٍ سنواتٍ عجاف حتّى توسط الملك فيصل رحمه الله لإخراجها، لتبتدئ دعوتها في الأوساط العربية والإسلامية، وإنّا لنتعلم من زينب سموّ الهدف والغاية، فهي قد خرجت من قضية تحرير "الأنثى" التي شغلونا بها — وما اشتكينا لهم-، إلى قضية تحرير الإنسانية من عبودية القومية والاشتراكية والتغريب، وإنّا لمنتصرون، وإن ماتَ العظماء الأحامد، وماتت زينب وعائشة، لأن سرهم يكمن في معتقدهم وفي قلوبهم .
لكن السؤال :
من يحمل الهم .. ومن يملك الهمة ؟! .(/2)
فوائد الإيمان وثمراته (10/10)
د. علي محمد الصلابي 15/7/1426
20/08/2005
إن من حكمة الله الربانية أن جعل قلوب عباده المؤمنين تحس وتتذوق وتشعر بثمرات الإيمان لتندفع نحو مرضاته والتوكل عليه سبحانه وتعالى.
فإن شجرة الإيمان إذا ثبتت وقويت أصولها وتفرعت فروعها، وزهت أغصانها، وأينعت أفنانها عادت على صاحبها وعلى غيره بكل خير عاجل وآجل في الدنيا والآخرة.
وثمار الإيمان وثمراته وفوائده كثير قد بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم.
فمن أعظم هذه الفوائد والثمار
أولاً :الاغتباط بولاية الله الخاصة التي هي أعظم ما تنافس فيه المتنافسون، وتسابق فيه المتسابقون، وأعظم ما حصل عليه المؤمنون
قال تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس:62] ثم وصفهم بقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس:63]
فكل مؤمن تقي، فهو لله ولي ولاية خاصة، من ثمراتها ما قاله الله عنه: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور...ِ)[البقرة: من الآية257] أي : يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة، ومن ظلمات الغفلة إلى نور اليقظة والذكر، وحاصل ذلك : أنه يخرجهم من ظلمات الشرور المتنوعة إلى ما يرفعها من أنوار الخير العاجل والآجل.
وإنما حازوا هذا العطاء الجزيل: بإيمانهم الصحيح، وتحقيقهم هذا الإيمان بالتقوى فإن التقوى من تمام الإيمان.
ثانياً :الفوز برضى الله ودار كرامته، قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:71-72] فنالوا رضا ربهم ورحمته، والفوز بهذه المساكن الطيبة: بإيمانهم الذي كمّلوا به أنفسهم، وكمّلوا غيرهم بقيامهم بطاعة الله وطاعة رسوله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاستولوا على أجل الوسائل، وأفضل الغايات وذلك فضل الله.
ثالثا :ومن ثمرات الإيمان : أن الله يدفع عن المؤمنين جميع المكاره، وينجّيهم من الشدائد كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا...) [الحج: من الآية38] أي: يدفع عنهم كل مكروه، يدفع عنهم شر شياطين الأنس وشياطين الجن، ويدفع عنهم الأعداء، ويدفع عنهم المكاره قبل نزولها، ويرفعها أو يخففها بعد نزولها.
ولما ذكر تعالى ما وقع فيه يونس – عليه السلام – وأنه (... فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء: من الآية87] قال:(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:88]. إذا وقعوا في الشدائد، كما نجّينا يونس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوة آخي يونس ما دعا بها مكروب إلا فرّج الله عنه كربته لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين". وقال تعالى:(... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً)[الطلاق: من الآية4].
فالمؤمن المتقي ييسر الله له أموره وييسره لليسرى، ويجنبه العسرى: ويسهل عليه الصعاب ويجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب. وشواهد هذا كثيرة من الكتاب والسنة (1).
رابعاً: ومنها: أن الإيمان والعمل الصالح – الذي هو فرعه – يثمر الحياة الطيبة في هذه الدار، وفى دار القرار قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97] وذلك أنه من خصائص الإيمان، أنه يثمر طمأنينة القلب وراحته، وقناعته بما رزق الله، وعدم تعلقه بغيره، وهذه هي الحياة الطيبة. فإن أصل الحياة الطيبة: راحة القلب وطمأنينته، وعدم تشويشه مما يتشوش منه الفاقد للإيمان الصحيح.
خامساً:ومنها: إن جميع الأعمال والأقوال إنما تصح وتكمل بحسب ما يقوم بقلب صاحبها من الإيمان والإخلاص،ولهذا يذكر الله هذا الشرط الذي هو أساس كل عمل، مثل قوله:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ...) [الأنبياء: من الآية94](/1)
أي لا يجحد سعيه ولا يضيع عمله، بل يُضاعف بحسب قوة إيمانه، وقال : (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء:19] والسعي للآخرة: هو العمل بكل ما يقرب إليها، ويدني منها، من الأعمال التي شرعها الله على لسان نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- فإذا تأسست على الإيمان، وانبنت عليه: كان السعي مشكوراً مقبولاً مضاعفاً، لا يضيع منه مثقال ذرة.
وأما إذا فقد العمل الإيمان، فلو استغرق العامل ليله ونهاره فإنه غير مقبول قال تعالى :
(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) [الفرقان:23] وذلك: لأنها أسست على غير الإيمان بالله ورسوله- الذي روحه: الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول- قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً) (الكهف:103-105) فهم لما فقدوا الإيمان، وأحلوا محله الكفر بالله وآياته – حبطت أعمالهم
قال تعالى: (...لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ...)[الزمر: من الآية65]
(... وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأنعام: من الآية88]
ولهذا كانت الردة عن الإيمان تحبط جميع الأعمال الصالحة، كما أن الدخول في الإسلام والإيمان يجُبُّ ما قبله من السيئات وإن عظمت. التوبة من الذنوب المنافية للإيمان، والقادحة فيه، والمنقصة له – تجُبُّ ما قبلها (2)
سادساً:ومن ثمرات الإيمان أن صاحب الإيمان يهديه الله إلى الصراط المستقيم، ويهديه إلى علم الحق، وإلى العمل به وإلى تلقي المحاب بالشكر، وتلقي المكاره والمصائب بالرضا والصبر قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ...)[يونس: من الآية9]
وقال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ...)[التغابن: من الآية11].
ذكر الشوكانى -رحمه الله- في تفسيره (هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم) (3)
ولو لم يكن من ثمرات الإيمان، إلا أنه يسلي صاحبه عن المصائب والمكاره التي تعترض كل أحد في كل وقت، ومصاحبة الإيمان واليقين أعظم مسل عنها، ومهون لها وذلك: لقوة إيمانه وقوة توكله، ولقوة رجائه بثواب ربه، وطمعه في فضله؛ فحلاوة الأجر تخفف مرارة الصبر قال تعالى: (... إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ...)[النساء: من الآية104]
سابعاً :ومن ثمرات الإيمان ولوازمه وفوائده وخيراته من الأعمال الصالحة ما ذكره الله بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) [مريم:96] أي بسبب إيمانهم وأعمال الإيمان، يحبهم الله ويجعل لهم المحبة في قلوب المؤمنين. ومن أحبه الله وأحبه المؤمنون من عباده حصلت له السعادة والفلاح والفوائد الكثيرة من محبة المؤمنين من الثناء والدعاء له حياً وميتاً، والاقتداء به وحصول الإمامة في الدين (4).
وهذه أيضاً من أجل ثمرات الإيمان: أن يجعل الله للمؤمنين الذين كمّلوا إيمانهم بالعلم والعمل – لسان صدق – ويجعلهم ائمة يهتدون بأمره كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24) فبالصبر واليقين – اللذين هما رأس الإيمان وكماله – نالوا الإمامة في الدين (5)
ثامناً :ومنها قوله تعالى:(...يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...)[المجادلة: من الآية11].
فهم أعلى الخلق درجة عند الله وعند عباده في الدنيا والآخرة.
وإنما نالوا هذه الرفعة بإيمانهم الصحيح وعملهم ويقينهم، والعلم واليقين من أصول الإيمان.
تاسعاً : ومن ثمرات الإيمان: حصول البشارة بكرامة الله والأمن التام من جميع الوجوه كما قال تعالى: (...وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(البقرة: من الآية223) فأطلقها ليعم الخير العاجل والآجل، وقيّدها في مثل قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ...) [البقرة: من الآية25] فلهم البشارة المطلقة والمقيدة،(/2)
ولهم الأمن المطلق في مثل قوله تعلى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82] ولهم الأمن المقيد في مثل قوله تعالى : (...فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الأنعام: من الآية48].
فنفى عنهم الخوف لما يستقبلونه، والحزن مما مضى عليهم، وبذلك يتم لهم الأمن.
فالمؤمن له الأمن التام في الدنيا والآخرة: أمن من سخط الله وعقابه، وأمن من جميع المكاره والشرور. وله البشارة الكاملة بكل خير، كما قال تعالى: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ...)[يونس: من الآية64]
ويوضح هذه البشارة قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت:30-32] وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد:28] فرتّب على الإيمان حصول الثواب المضاعف،وكمال النور الذي يمشي به العبد في حياته ، ويمشي به يوم القيامة (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الحديد:12] فالمؤمن من يمشى في الدنيا بنور علمه وإيمانه، وإذا أُطفئت الأنوار يوم القيامة: مشى بنوره على الصراط حتى يجوز به إلى دار الكرامة والنعيم، وكذلك رتب المغفرة على الإيمان، ومن غُفرت سيئاته سلم من العقاب، ونال أعظم الثواب (6))
عاشراً:ومن ثمرات الإيمان: حصول الفلاح – الذي هو: إدراك غاية الغايات، فإنه إدراك كل مطلوب، والسلامة من كل مرهوب، والهدى الذي هو أشرف الوسائل.
كما قال تعالى – بعد ذكره المؤمنين بما أُنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- وما أُنزل على من قبله، والإيمان بالغيب. وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: اللتين هما من أعظم آثار الإيمان – قال تعالى: (أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة:5] فهذا هو الهدى التام، والفلاح الكامل.
فلا سبيل إلى الهدى والفلاح – اللذين لا صلاح ولا سعادة إلا بهما – إلا بالإيمان التام بكل كتاب أنزله الله، وبكل رسول أرسله الله. فالهدى أجل الوسائل، والفلاح أكمل الغايات (7)
الحادي عشر : ومن ثمرات الإيمان: الانتفاع بالمواعظ والتذكير والآيات.
قال تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذريات:55) و قال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر:77] وهذا: لأن الإيمان يحمل صاحبه على التزام الحق واتباعه، علماً وعملاً، وكذلك معه الآلة العظيمة والاستعداد لتلقى المواعظ النافعة، والآيات الدالة على الحق، وليس عنده مانع يمنعه من قبول الحق، ولا من العمل به.
أيضاً: فالإيمان يوجب سلامة الفطرة، وحسن القصد، ومن كان كذلك: انتفع بالآيات.
ومن لم يكن كذلك: فلا يُستغرب عدم قبوله للحق واتباعه له. ولهذا يذكر الله- في سياق تمنع الكافرين من تصديق الرسول -صلى الله عليه وسلم - وقبول الحق الذي جاء به – السبب الذي أوجب لهم ذلك وهو: الكفر الذي في قلوبهم. يعني لأن الحق واضح وآياته بينة واضحة والكفر أعظم مانع يمنع من اتباعه، أي فلا تستغربوا هذه الحالة، فإنها لم تزل دأب كل كافر. (8)
الثاني عشر :ومنها أن الإيمان يقطع الشكوك التي تعرض لكثير من الناس فتضر بدينهم
قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا...) [الحجرات:15] أي: دفع الإيمان الصحيح الذي معهم الريب والشك الموجود، وإزاله بالكلية، وقاوم الشكوك التي تلقيها شياطين الإنس والجن، والنفوس الأمّارة بالسوء. فليس لهذه العلل المهلكة دواء إلا تحقيق الإيمان.
ولهذا ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يُقال: هذا، خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله) (9)
وفي رواية _ فليستعذ بالله ولينته)(10)
وبهذا بين صلى الله عليه وسلم الدواء النافع لهذا الداء المهلك. وهي ثلاثة أشياء(/3)
1- الانتهاء عن الوساوس الشيطانية 2- والاستعاذة من شرّ من ألقاها وشبّه بها؛ ليضل بها العباد 3- والاعتصام بعصمة الإيمان الصحيح الذي من اعتصم به كان من الآمنين.
وذلك: لأن الباطل يتضح بطلانه بأمور كثيرة أعظمها: العلم أنه منافٍ للحق، وكل ما نقص الحق فهو باطل (...فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ...) (يونس: من الآية32)
الثالث عشر :ومنها : أن الإيمان ملجَأ المؤمنين في كل ما يلم بهم: من سرور وحزن وخوف وأمن، وطاعة، ومعصية، وغير ذلك من الأمور التي لابد لكل أحد منها.
فيلجؤون إلى الإيمان عند الخوف فيطمئنون إليه فيزيدهم إيماناً وثباتاً، وقوة وشجاعة، ويضمحل الخوف الذي أصابهم كما قال تعالى عن خيار الخلق:(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ...)[آل عمران: 173-174]
لقد اضمحل الخوف من قلوب هؤلاء الأخيار، وخلفه قوة الإيمان وحلاوته، وقوة التوكل على الله، والثقة بوعده.
ويلجؤون إلى الإيمان عند الطاعة والتوفيق للأعمال الصالحة: فيعترفون بنعمة الله عليهم بها، وأن نعمته عليهم فيها أعظم من نعم العافية والرزق وكذلك يحرصون على تكميلها، وعمل كل سبب لقبولها، وعدم ردها أو نقصها. ويألون الذين تفضل عليهم بالتوفيق لها: أن يتم عليهم نعمته بقبولها، والذي تفضل عليهم بحصول أصلها: أن يتم لهم منها ما انتقصوه منها (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون:61] ويلجؤون إلى الإيمان إذا ابتلوا بشيء من المعاصي بالمبادرة إلى التوبة منها، وعمل ما يقدرون عليه من الحسنات – لجبر نقصها. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [لأعراف:201] فالمؤمنون في جميع تقلباتهم وتصرفاتهم – ملجؤهم إلى الإيمان ومفزعهم إلى تحقيقه، ودفع ما ينافيه ويضاده، وذلك من فضل الله عليهم ومنه (11).
وخوفاً من الإطالة نقتصر على هذه الثمرات العظيمة التي بينها المولى عز وجل، وبذلك نستيقن أن كتاب الله جاء تبياناً لكل شيء، وعرض قضية الإيمان من جوانبها المتعددة النافعة للناس، وبين وسائل زيادة الإيمان، ورغّبنا فيه بذكر فوائده وثماره بحكمة بالغة تليق بالحكيم العليم جل وعلا.
وبين المولى -عز وجل- في كتابه حقيقة الإيمان بأنه اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، ووضعنا على الصراط المستقيم، وسلمت عقول المسلمين وقلوبهم من أمراض التعطيل والتشبيه، والإفراط والتفريط، ووقع أهل البدع في الانحراف عن جادة الصواب، وطريق أهل الاستقامة؛ لأنهم ابتعدوا عن كتاب الله وسنة رسوله، وفهم الصحابة والتابعين بإحسان من علماء وفقهاء ومحدثين.
|1|2|3|4|5|6|7|8|9|10|
--------------------------------------------------------------------------------
1-التوضيح والبيان ص 67
2-هو الإمام محمد بن على الشوكانى ثم الصغانى القاضي محدث وفقيه وأصولي ومفسر واسم تفسيره فتح القدير توفى 1250 هـ : انظر : مناهج المفسرين ص ( 50 )
3-فتح القدير للشوكانى ( ج 5 / 231 )
4-التوضيح والبيان ص 76
5-التوضيح البيان ص
6-التوضيح والبيان ص 79
7-التوضيح والبيان ص 80
8-انظر: التوضيح والبيان ص 81
9-رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان ( ج1 / 119)
10-رواه مسلم ، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان( ج1 / 120 )
11-التوضيح والبيان ص (85)(/4)
فوائد الشدائد
رئيسي :تربية :
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد،،،
فإن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده المؤمنين ليظهر ما في نفوسهم من الخير، ويرفع درجاتهم عنده، ويكفر عنهم سيئاتهم، وهذه الشدائد التي تعتري المسلم والمسلمين هي خير لهم في الحقيقة: [عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ]رواه مسلم .
وعندما تنزل الشدائد بالمسلمين، فإن الله ينزل من المعونة على قدر البلاء؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ الْمَعُونَةَ تَأْتِي مِن الله عَلَى قَدْرِ الْمَؤُونَةِ وَإِنَّ الْصَّبْرَ يَأْتَي مِنْ الله عَلَى قَدْرِ الْبَلَاءِ] رواه الرافعي . وفي رواية: [ وَإِنَّ الْصَّبْرَ يَأْتَي مِنْ الله عَلَى قَدْرِ الْمُصِيبَةِ] رواه الحكيم الترمذي والبزار والبيهقي في الشعب . وتدور على المسلمين رحى الحروب، وكيد الأعداء، و يتجمع عليهم معسكر الشر، ويكون في ذلك شدة ومصائب تنزل، ولكن هذه الشدائد لا تخلو من فوائد ومن ذلك:
انتظار الفرج، وترقب انكشاف الغمة من الله تعالى: قال تعالى: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[5]إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[6] } [سورة الشرح] . وهذا الترقب والانتظار لابد أن يكون مصحوبًا من المسلمين ببذل الأسباب لكشف البلية، و أخذ ما يمكن أخذه لدفع المصيبة، و تخفيف آثارها، و لكن ينبغي ألا يغيب عن بال المسلمين أن انتظار الفرج عبادة عظيمة و باب أجر عظيم من الله.
وهذه الشدائد تدفع العباد للتعاون على البر و التقوى: فيظهر من صور الإيثار ما يظهر، ويظهر أنواع من بذل المعروف لم تكن معروفة، لكن الشدة التي تجمعهم في المصيبة تُقَرِّبُ بين نفوسهم، وتظهر روح الأخوة بينهم، بل تزيل كثيرًا من العداوات الشخصية التي كانت في نفوسهم، و تجعلهم متحدين أمام الخطر والعدو الذي نزل شره، و هكذا يتوحد المسلمون في المصيبة ما لا يتوحدون في غيرها، و يظهر من آثار البذل و التعاون و الإيثار ما لم يكن يظهر من ذي قبل ، و قد ظهر في المسلمين من الخير من حفر الخندق، وهذه القوة العجيبة التي عملوا بها يدفعهم في ذلك الإيمان و نصرة دين الإسلام، والدفاع عن حريم المسلمين، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فحفروا ذلك الخندق في أيام معدودات حفروه بالرغم من البرد القارس، والمساحة الطويلة التي شقوا فيها ذلك الخندق كيلومترات بعمق يفترض أن لا تعبره الخيل وتقفز من فوقه وعرض ، وهكذا كان ذلك الخندق بين الحرتين .
والشدائد تجعل الناس يتقاسمون فيما بينهم أموالهم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ– وهم قوم أتوا مسلمين من اليمن – إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ– أي فني زادهم وكان الواحد قد التصق بالرمل من القلة – أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ – كل المدخرات تخرج وتجمع – ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ] رواه البخاري ومسلم . وهكذا المواساة في الشدائد، والإيثار في أوقات المحنة .
في الشدائد يَفْزَع الناس إلى الله، و يؤوبوا إليه، و يتوبوا إليه، و يتضرعوا إليه: { فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا...[43] } [سورة الأنعام] .
و لذلك حكت لنا كتب التاريخ الإسلامي عند خروج النار بقرب المدينة في الحجاز- وهي من أشراط الساعة- ورأى الناس بِبُصْرَى الشام بعيدًا عن المدينة أعناق إبلهم على ضوء نار الحجاز ، وكانت تُحْرِقُ الحجارة وتذيبها، وحصل زلزال عظيم، وفزع الناس، ودخلوا كلهم الحرم والمسجد النبوي، واستغفروا وأنابوا إلى الله، ولهجت الألسن بالدعاء، وأمير المدينة أعتق جميع مماليكه، وخرج من جميع المظالم، ولم يزالوا مستغفرين حتى سكنت الزلزلة. والشاهد: كيف أن الناس فزعوا إلى ذكر الله و دعائه، و دخلوا الحرم، واجتمعوا فيه يلهجون إلى الله بلسان المضطر أن يذهب عنهم الضر .(/1)
وكذلك من الآثار العظيمة بالنسبة للشدائد: أنها تربي جيلًا قويًا، قادرًا على المواجهة بعد أن تُذْهِب جيلًا فيه الميوعة والانحلال والمهانة: فلما رفض بنو إسرائيل دخول الأرض المقدسة، وقالوا بكل و قاحة: { قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ[24]قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ[25]قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ[26] } [سورة المائدة] . و لذلك مكث بنو إسرائيل في صحراء التيه يخرجون من الصباح للبحث عن مخرج و منفذ فلا يأتي عليهم غروب الشمس إلا و يجدون أنفسهم في ذات المكان الذي بدؤوا منه البحث أربعين سنة يتيهون في الأرض، لا يجدون مسلكًا يخرجون منه، و لا يهتدون إلى طريق يخرجهم من ذلك التيه، وكان من الحكم في هذه الشدة التي نزلت بهم: أن يذهب ذلك الجيل يموت، الذي رفض دخول الأرض المقدسة، وتقاعس عن قتال الجبارين، ذلك الجيل الذي كان تربى في ظل فرعون على الذل والمهانة، والاستعباد، والطغيان، لم يكن يصلح للفتح العظيم؛ ولذلك فسدت فطرتهم، فشاء الله أن يبقى في هذه الصحراء ليموت فيها، ويخرج جيل جديد ، وأربعين سنة كفيلة بذهاب جيل ومجيء جيل آخر، قد تربى في شدة الصحراء، و هذه الظروف الصعبة؛ ليكون فيما بعد أهلاً لأن يدخل الأرض المقدسة، عاشوا في جو الخشونة، صلب عودهم، و جاءوا على غير النموذج الذي كان عليه آباؤهم، فكانوا أهلاً للفتح بأمر الله .
فمن فوائد الشدائد: إذا أنها تربي جيلًا جديدًا، جيل المحنة المؤهل للنصر؛ لأن الجيل الذي قبله أفسده الذل، والاستعباد، و لربما يكون في بعض البلدان، والأماكن، والأزمان، أفسدته الميوعة و الانحلال، والمعاصي والترف، فلا يكون أهلاً للنصر، فيبتلي الله المسلمين بالشدائد، قد تطول سنين لكي تذهب آثار الميوعة والانحلال، فيخرج بعد ذلك خلقًا آخر، أو يكون من بعده جيل آخر يكتب الله الفتح على أيديهم .
ومن فوائد الشدائد:التمحيص، وظهور الحقائق، وانكشاف البواطن: تمييز المسلم عن المنافق، والمنافق عن المسلم: { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ...[179] } [سورة آل عمران] .
جزى الله الشدائد كل خير و إن كانت تغصصني بريقي
وما شكري لها إلا لأني عرفت بها عدوي من صديقي
الشدائد تظهر المنافقين: من هم الذين يرتمون في أحضان الأعداء، من الذين يوالون أعداء الله، من الذين يتعاونون معهم ويشاركونهم، ويكونون معهم على باطلهم، من هم هؤلاء ؟
ينكشف المنافقون الذين كانوا يسترون عوراتهم بأمور واهية تنطلي على كثير من المسلمين، فالآن آن الأوان من الله لينكشف الباطل، وتسقط تلك الأوراق التي كانت تستر عورات المنافقين، فيظهرون على حقيقتهم، و تعرف الأمة من أين أتت، و من أين كانت مصيبتها.
ومن فوائد الشدائد التي حصلت في تاريخ المسلمين: أنها أبرزت طاقات، ومواهب وقدرات لم تكن ربما موجودة من قبل: لما غزا الصليبيون بلاد الشام ظهر في المسلمين من أذكياء الشباب من اخترع أبراجاً من المنجنيقات العظيمة، فيها أخلاطٌ من الزِّفت المشتعل، ومواد أخرى قد اخترعتها أيدي أولئك المسلمين، وابتكرتها عقولهم، يرمون بها الفرنجة، فكانت حريقًا عليهم ابْتُكِرت من قبل تلك العقول . وكانت بعض الوسائل تثير الدهشة و الإعجاب، ومن ذلك: أن مجاهدًا من المسلمين قور بطيخة خضراء، وادخل رأسه فيها، ثم غطس في الماء إلى أن اقترب من معسكر الصليبيين، فظنه بعضهم بطيخة عائمة في الماء، فلما نزل لأخذها خطفه الفدائي المسلم، و جره وأتى به أسيرًا، و تعددت مواكب أسرى الصليبيين في الشوارع في ذلك الوقت على نحو زاد من حماسة الناس، ورفع معنويات المقاتلين إلى السماء.
وهكذا تتكرر القضية في هذه الأيام على أرض فلسطين في أيام المحنة والقتل، ونزول الأمور العصيبة، والمذابح الكبيرة، وهدم الديار، ومحاربة الأرزاق، و تجريف الأشجار، لم يرحموا كبيرًا ولا صغيرًا ولا امرأة حاملًا ولا غير ذلك .
فظهر في المسلمين من عمل بعض أنواع من الصواريخ كصواريخ القسام وغيرها التي ابتكرتها أيدي المسلمين في فلسطين، و عملوا تلك من مواد بسيطة كما قالوا، مصنعة من مواد أولية بحيث تستطيع النساء في البيت أن تحضرها كما قال بعض المجاهدين في فلسطين ، و تجارب تقوم على أساس الدفع الذاتي، لم تكن هذه الصواريخ لتظهر على بساطتها إلا في أجواء المحنة و الشدائد .(/2)
وإن من فوائد الشدائد: أن تظهر العبادة مِن قِبَلْ المخلصين في وقت المحنة: قال صلى الله عليه وسلم: [الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ] رواه مسلم . ومعنى الهرج: الفتنة واختلاط أمور الناس، الفوضى العارمة، في الفتن يقوم أناس مع قلتهم يعبدون الله في ذلك الجو ولا ينسونه، يشتغلون بالعبادة، ويتفرغون لها بالرغم مما حولهم من الفتن هذا معنى الحديث.
وأيضًا تظهر في الشدائد: أحكام فقهية ما كانت لتبحث لولا هذه الشدائد: مسائل فقهية ما كانت لتخرج لولا هذه الشدائد، ومثال ذلك:'مسألة التترس' لو تترس عدو بمسلمين، وهاجم بلدًا مسلمًا، فإذا أراد المسلمون في البلد أن يدافعوا عن مدينتهم، ويرموا على الكفار ربما أصاب ذلك بعض المسلمين الذين أمسك بهم الكفار دروعًا بشرية، فما حكم رمي الكفار وسَيُقْتَل من المسلمين من الدروع البشرية ؟
مسألة عويصة ، قتل المسلم كبير عند الله، ولكن ترك الكفار يتقدمون مصيبة أعظم، و لذلك قال شيخ الإسلام بجرأة عظيمة عجيبة، حمله عليها علمه و فقهه العميق الواسع، وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترسوا بمن عندهم من أسرى المسلمين، وخِيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا، فإنهم يقاتلون، وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم، وهؤلاء المسلمون إذا قتلوا كانوا شهداء، ولا يترك الجهاد الواجب لأجل من يقتل شهيدًا، فإنّ المسلمين إذا قاتلوا الكفار فمن قتل من المسلمين يكون شهيدًا، ومن قُتل وهو في الباطن لا يستحق القتل لأجل مصلحة الإسلام كان شهيدًا .
وهكذا صلاة الطالب والمطلوب إذا كان يهرب والعدو يلحقونه كيف يصلي والمطاردة تستمر ساعات؟ وكذلك بالعكس إذا كان يطارد عدوًا العدو يهرب والمسلم لابد أن يمسك به والمطاردة قد تستمر ساعات؟ يصلي على حسب حاله، ولو إلى غير القبلة، ولو بغير سجود على الأرض، ولو بغير قيام عليها' صلاة الطالب والمطلوب' . وهكذا تظهر مرونة الفقه الإسلامي، وشريعة هذا الدين العظيم، واجتهاد علماء المسلمين، وفوائد الشدائد .
اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد والعناد، اللهم انشر رحمتك علينا،وأيد المسلمين بنصر من عندك، وانصر المجاهدين، واحم حوزة الدين؛ إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير والحمد لله رب العالمين.
من خطبة:'فوائد الشدائد' للشيخ/ محمد بن صالح المنجد(/3)
فوائد المرض
عبدالرحمن بن يحيى
دار الوطن
الحمد لله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، وبعد:
فإن الذي دعاني إلى كتابة هذه الرسالة هو النصح لله ولرسوله ولعامة المسلمين، وما رأيت من جهل الناس بفوائد المرض إلى درجة أني سمعت أناساً يقولون: ألا ترحمه يارب، ومنهم من يقول: إما ارحمه أو ريحه، مع أن الله يقول في بعض الآثار: ( كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟ )، وكذلك ما سمعت ورأيت من بعض المرضى الذين ابتلوا بأمراض مستعصية كالسرطان أو غيره من الأمراض التي لا يوجد لها علاج، فبلغ بهم اليأس مبلغاً عظيماً فتجد الواحد منهم قد ضعف صبره وكثر جزعه وعظم تسخطه وانفرد به الشيطان يوسوس له ويذكره بالمعاصي الماضية حتى يؤيسه من روح الله ويوقعه في القنوط، يقول الله: إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين ءامنوا [المجادلة:10]، مع أن المريض لا خوف عليه مادام موحداً ومحافظاً على الصلاة، حتى ولو لم يصل إلا لما مرض، فإن من تاب توبة صادقة قبل الغرغرة تاب الله عليه، ولو وقع في كبائر الذنوب، فإنه يرجى لكل من مات من الموحدين ولم يمت على الكفر، ففي الحديث: { "من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة"، فقال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق، قال: "وإن زنى وإن سرق" }، ويقول : { لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل } [رواه مسلم]، ويقول الله: { أنا عند ظن عبدي، فليظن بي ما يشاء }.
فعلى المؤمن أن يصبر على البلاء مهما اشتد فإن مع العسر يسراً، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، يقول أنس: { إن النبي دخل على شاب وهو في الموت، فقال: "كيف تجدك؟" قال: أرجو رحمة الله يا رسول الله، وأخاف ذنوبي، فقال: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف" }، فلا تسيء العمل وأنت صحيح بحجة هذا الحديث، فلعل الموت يأتيك بغتة. وعلى كل فالمؤمن يصبر ويرضى بقضاء الله، فإن عاش لم يحرم الأجر، وإن مات فإلى رحمة الله، يقول : { تحفة المؤمن الموت } [رواه الطبراني بسند جيد ].
فإذا تقرر هذا كله فأليكم فوائد المرض العظيمة وما يترتب عليه من مصالح ومنافع قلبية وبدنية، وقبل الشروع لابد من مقدمة قبل الدخول في المقصود.
إن الله لم يخلق شيئاً إلا وفيه نعمة أيضاً، إما على المبتلى أو على غير المبتلى، حتى إن ألم الكفار في نار جهنم نعمة، ولكنها في حق غيرهم من العباد، فمصائب قوم عند قوم فوائد، ولولا أن الله خلق العذاب والألم لما عرف المتنعمون قدر نعمته عليهم ولجهلت كثير من النعم، ومن هنا خلق سبحانه الأضداد لحكم كثيرة منها معرفة النعم، فلولا الليل لما عرف قدر النهار، ولولا المرض لما عرف قدر الصحة، وكذا الفقر والسماء والجنة، ففرح أهل الجنة إنما يتضاعف إذا تفكروا في آلام أهل النار، بل إن من نعيم أهل الجنة رؤية أهل النار وما هم فيه من العذاب، مع العلم أن كل بلاء يقدر العبد على دفعه، لا يؤمر بالصبر عليه، بل يؤمر بإزالته ففي الحديث: { ليس للمؤمن أن يذل نفسه، أن يحمل نفسه مالا يطيق }. وإنما المحمود الصبر على ألم ليس له حيلة في إزالته، كما أن من النعم نعمة تكون بلاءً على صاحبها، فإنه يبتلى بالنعماء والبأساء، وكم من بلاء يكون نعمة على صاحبه، فرب عبد تكون الخيرة له في الفقر والمرض، ولو صح بدنه وكثر ماله لبطر وبغى ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض [الشورى:27].
فكل نعمة سوى الإيمان وحسن الخلق قد تكون بلاء في حق بعض الناس، وتكون أضدادها نعماً في حقهم، فكما أن المعرفة كمال ونعمة، إلا أنها قد تكون في بعض الأحيان بلاء وفقدها نعمة مثل أجل العبد أو جهله بما يضمر له الناس، إذ لو رفع له الستر لطال غمه وحسده. وكم من نعمة يحرص عليها العبد فيها هلاكه، ولما كانت الآلام والأمراض أدوية للأرواح والأبدان وكانت كمالاً للإنسان، فإن فاطره وبارئه ما أمرضه إلا ليشفيه، وما ابتلاه إلا ليعافيه، وما أماته إلا ليحييه، وقد حجب سبحانه أعظم اللذات بأنواع المكاره وجعلها جسراً موصلاً إليها، ولهذا قال العقلاء قاطبة: إن النعيم لا يدرك بالنعيم، وإن الراحة لا تنال بالراحة، فهذه الآلام والمشاق من أعظم النعم، إذ هي أسباب النعم، فمثلاً نزول الأمطار والثلوج وهبوب الرياح وما يصاحبها من الآلام فإنها مغمورة جداً بالنسبة إلى المنافع والمصالح التي تصحبها، فمثلاً لو أن المرأة نظرت إلى آلام الحمل والولادة لما تزوجت، لكن لذة الأمومة والأولاد أضعاف أضعاف تلك الآلام، بل إنها إذا حرمت الأولاد لم تترك طبيباً إلا وذهبت إليه من أجل الحصول على الأبناء، إنه لا يوجد شر محض، وما نهى سبحانه عن الأعمال القبيحة إلا لأن مفسدتها راجحة على خيرها، وهكذا.. وقد قال الله عن الخمر: إثمها أكبر من نفعها، فلو نظر العبد كم يحصل له من المضار والمفاسد منها لما أقدم عليها.(/1)
فإذا تقرر هذا كله، فأليكم فوائد ومصالح ومنافع الأمراض والتي تزيد عن المائة فائدة نقتصر على بعض منها:
1ـ من فوائد المرض، أنه تهذيب للنفس، وتصفية لها من الشر الذي فيها: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير [الشورى:30]، فإذا أصيب العبد فلا يقل: من أين هذا، ول من أين أتيت؟ فما أصيب إلا بذنب، وفي هذا تبشير وتحذير إذا علمنا أن مصائب الدنيا عقوبات لذنوبنا، أخرج البخاري عن أبي هريرة أن النبي قال: { ما يصيب المؤمن من وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه }، وقال : { ولا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة }، فإذا كان للعبد ذنوب ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن أو المرض، وفي هذا بشارة فإن مرارة ساعة وهي الدنيا أفضل من احتمال مرارة الأبد، يقول بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس 0
2ـ ومن فوائد المرض: أن ما يعقبه من اللذة والمسرة في الآخرة أضعاف ما يحصل له من المرض، فإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة والعكس بالعكس، ولهذا قال : { الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر }، وقال أيضاً: { تحفة المؤمن الموت } [رواه ابن أبي الدنيا بسند حسن]، وإذا نزل بالعبد مرض أو مصيبة فحمد الله بني له بيت الحمد في جنة الخلد، فوق ما ينتظره من الثواب، أخرج الترمذي عن جابر مرفوعاً: { يود الناس يوم القيامة أن جلود كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء }.
3ـ ومن فوائد المرض: قرب الله من المريض، وهذا قرب خاص، يقول الله: { ابن آدم، عبدي فلان مرض فلم تعده، أما لو عدته لوجدتني عنده } [رواه مسلم عن أبي هريرة]، واثر: { أنا عند المنكسرة قلوبهم }.
4ـ ومن فوائد المرض: أنه يعرف به صبر العبد، فكما قيل: لولا الامتحان لما ظهر فضل الصبر، فإذا وجد الصبر وجد معه كل خير، وإذا فات فقد معه كل خير، فيمتحن الله صبر العبد وإيمانه به، فإما أن يخرج ذهباً أو خبثاً، كما قيل: سبكناه ونحسبه لجيناً فأبدى الكير عن خبث الحديد ( ومعنى اللجين الفضة )، والمقصود: أن حظه من المرض ما يحدث من الخير والشر، فعن أنس مرفوعاً: { إن عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط }، وفي رواية: { ومن جزع فله الجزع } [رواه الترمذي]، فإذا أحب الله عبداً أكثر غمه، وإذا أبغض عبداً وسع عليه دنياه وخصوصاً إذا ضيع دينه، فإذا صبر العبد إيماناً وثباتاً كتب في ديوان الصابرين، وإن أحدث له الرضا كتب في ديوان الراضين، وإن أحدث له الحمد والشكر كان جميع ما يقضي الله له من القضاء خيراً له، أخرج مسلم من حديث صهيب قال: قال رسول الله : { عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابه سراء فشكر الله فله أجر، وإن أصابته ضاء فصبر فله أجر، فكل قضاء الله للمسلم خير }، وفي رواية لأحمد { فالمؤمن يؤجر في كل أمره } فالمؤمن لابد وأن يرضى بقضاء الله وقدره في المصائب، اللهم اجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا أذنب استغفر، وإذا ابتلي صبر، ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشر حال، وكل واحدة من السراء والضراء في حقه تفضي إلى قبيح المآل ؛ إن أعطاه طغى وإن ابتلاه جزع وسخط.
5ـ ومن فوائد المرض وتمام نعمة الله على عبده، أن ينزل به من الضر والشدائد ما يلجئه إلى المخاوف حتى يلجئه إلى التوحيد، ويتعلق قلبه بربه فيدعوه مخلصاً له الدين، فسبحان مستخرج الدعاء بالبلاء، ومستخرج الشكر بالعطاء، يقول وهب بن منبه: ينزل البلاء ليستخرج به الدعاء وإذا أنعمنا على الإنسان ونئا بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض [فصلت:51]، فيحدث العبد من التضرع والتوكل وإخلاص الدعاء ما يزيد إيمانه ويقينه، ويحصل له من الإنابة وحلاوة الإيمان وذوق طعمه ما هو أعظم من زوال المرض، وما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله الدين الذين يصبرون على ما أصابهم فلا يذهبون إلى كاهن ولا ساحر ولا يدعون قبراً، أو صالحاً فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال، ولكل مؤمن نصيب، فإذا نزل بهم مرض أو فقر أنزلوه بالله وحده، فإذا سألوا سألوا الله وحده، وإذا استعانوا استعانوا بالله وحده، كما هو الحاصل مع نبي الله أيوب وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الرحمين [الأنبياء:83].
وتأمل عظيم بلاء أيوب فقد فقد ماله كله وأهله ومرض جسده كله حتى ما بقي إلا لسانه وقلبه، ومع عظيم هذا البلاء إلا أنه كان يمسي ويصبح وهو يحمد الله، ويمسي ويصبح وهو راض عن الله، لأنه يعلم أن الأمور كلها بيد الله، فلم يشتك ألمه وسقمه لأحد، ثم نادى ربه بكلمات صادقة إني مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين فكشف الله ضره وأثنى عليه، فقال: إنا وجدناه صابراً نعم العبد أنه أواب [ص:44]، وقد ورد في بعض الآثار: { يا ابن آدم، البلاء يجمع بيني وبينك، والعافية تجمع بينك وبين نفسك }.(/2)
6ـ ومن فوائد المرض: ظهور أنواع التعبد، فإن لله على القلوب أنواعاً من العبودية، كالخشية وتوابعها، وهذه العبوديات لها أسباب تهيجها، فكم من بلية كانت سبباً لاستقامة العبد وفراره إلى الله وبعده عن الغي، وكم من عبد لم يتوجه إلى الله إلا لما فقد صحته، فبدأ بعد ذلك يسأل عن دينه وبدأ يصلي، فكان هذا المرض في حقه نعمة ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة [الحج:11]، وذلك أن على العبد عبودية في الضراء كما أن عليه عبودية في السراء، وله عبودية فيما يكره، كما أن له عليه عبودية فيما يحب، وأكثر الناس من يعطي العبودية فيما يحب، والشأن في إعطاء العبودية في المكاره، وفيها تتفاوت مراتب العباد، وبحسبها تكون منازلهم عند الله، ومن كان من أهل الجنة فلا تزال هداياه من المكاره تأتيه حتى يخرج من الدنيا نقياً. يروى أنه لما أصيب عروة بن الزبير بالأكلة في رجله قال: ( اللهم كان لي بنون سبعة فأخذت واحداً وأبقيت ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت طرفاً وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت )، ثم نظر إلى رجله في الطست بعدما قطعت فقال: ( إن الله يعلم أني ما مشيت بك إلى معصية قط وأنا أعلم ).
7ـ ومن فوائد المرض: أن الله يخرج به من العبد الكبر والعجب والفخر، فلو دامت للعبد جميع أحواله لتجاوز وطغى ونسي المبدأ والمنتهى، ولكن الله سلط عليه الأمراض والأسقام والآفات وخروج الأذى منه والريح والبلغم، فيجوع كرهاً ويمرض كرهاً، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، أحياناً يريد أن يعرف الشيء فيجهله، ويريد أن يتذكر الشيء فينساه، وأحياناً يريد الشيء وفيه هلاكه، ويكره الشيء وفيه حياته، بل لا يأمن في أي لحظة من ليل أو نهار أن يسلبه الله ما أعطاه من سمعه وبصره، أو يختلس عقله، أو يسلب منه جميع ما يهواه من دنياه فلا يقدر على شيء من نفسه، ولا شيء من غيره،فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه؟ فكيف يليق به الكبر على الله وعلى خلقه وما أتى إلا من جهله؟
ومن هذه أحواله فمن أين له الكبر والبطر؟ ولكن كما قيل: من أكفر الناس بنعم الله افقير الذي أغناه الله، وهذه عادة الأخساء إذا رفع شمخ بأنفه، ومن هنا سلط الله على العبد الأمراض والآفات، فالمريض يكون مكسور القلب كائناً من كان، فلا بد أن يكسره المرض، فإذا كان مؤمناً وانكسر قلبه فالمريض حصل على هذه الفائدة وهي الانكسار والاتضاع في النفس وقرب الله منه، وهذه هي أعظم فائدة.
يقول الله: { أنا عند المنكسرة قلوبهم } وهذا هو السر في استجابة دعوة الثلاثة: المظلوم، والمسافر، والصائم، وذلك للكسرة التي في قلب كل واحد منهم، فإن غربة المسافر وكسرته مما يجده العبد في نفسه، وكذلك الصوم فإنه يكسر سورة النفس ويذلها، وكذا الأمر في المريض والمظلوم، فإذا أراد الله بعبد خيراً سقاه دواء من الابتلاء يستفرغ به من الأمراض المهلكة للعبد حتى إذا هذبه رد عليه عافيته، فهذه الأمراض حمية له، فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه.
8ـ ومن فوائد المرض: انتظار المريض لفرج، وأفضل العبادات انتظار الفرج، الأمر الذي يجعل العبد يتعلق قلبه بالله وحده، وهذا ملموس وملاحظ على أهل المرض أو المصائب، وخصوصاً إذا يئس المريض من الشفاء من جهة المخلوقين وحصل له الإياس منهم وتعلق قلبه بالله وحده، وقال: يا رب، ما بقي لهذا المرض إلا أنت، فإنه يحصل له الشفاء بإذن الله، وهو من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج، وقد ذكر أن رجلاً أخبره الأطباء بأن علاجه أصبح مستحيلاً، وأنه لا يوجد له علاج، وكان مريضاً بالسرطان، فألهمه الله الدعاء في الأسحار، فشفاه الله بعد حين، وهذا من لطائف أسرار اقتران الفرج بالشدة إذا تناهت وحصل الإياس من الخلق، عند ذلك يأتي الفرج، فإن العبد إذا يئس من الخلق وتعلق بالله جاءه الفرج، وهذه عبودية لا يمكن أن تحصل إلا بمثل هذه الشدة حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا [يوسف:110].(/3)
9ـ ومن فوائد المرض: أنه علامة على إرادة الله بصاحبه الخير، فعن أبي هريرة مرفوعاً: { من يرد الله به خيراً يصب منه } [رواه البخاري]، ومفهوم الحديث أن من لم يرد الله به خيراً لا يصيب منه، حتى يوافي ربه يوم القيامة، ففي مسند أحمد عن أبي هريرة قال: { مر برسول الله أعرابي أعجبه صحته وجلده، قال: فدعاه فقال له: متى أحسست بأم ملدم؟ قال: وما أم ملدم؟ قال: الحمى، قال: وأي شيء الحمى؟ قال: سخنة تكون بين الجلد والعظام، قال: ما بذلك لي عهد، وفي رواية: ما وجدت هذا قط، قال: فمتى أحسست بالصداع؟ قال: وأي شيء الصداع؟ قال: ضربات تكون في الصدغين والرأس، قال: مالي بذلك عهد، وفي رواية: ما وجدت هذا قط، قال: فلما قفا ـ أو ولى ـ الأعرابي قال: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل المار فلينظر إليه } [وإسناده حسن] فالكافر صحيح البدن مريض القلب، والمؤمن بالعكس.
10ـ ومن فوائد المرض: أن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة والتعرف على الله في الرخاء، فإنه يحفظ له عمله الصالح إذا حبسه المرض، وهذا كرم من الله وتفضل، هذا فوق تكفير السيئات، حتى ولو كان مغمى عليه، أو فاقداً لعقله، فإنه مادام في وثاق الله يكتب له عمله الصالح، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وبالتالي تقل معاصيه، وإن كان فاقداً للعقل لم تكتب عليه معصية ويكتب له عمله الصالح الذي كان يعمله في حال صحته، ففي مسند أحمد عن عبدالله بن عمرو عن النبي : { ما من أحد من الناس يصاب بالبلاء في جسده إلا أمر الله عز وجل الملائكة الذين يحفظونه، فقال: اكتبوا لعبدي كل يوم وليلة ما كان يعمل من خير ما كان في وثاقي }.
11ـ ومن فوائد المرض: أنه إذا كان للعبد منزلة في الجنة ولم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده، أخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : { إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها }، يقول سلام بن مطيع: اللهم إن كنت بلغت أحداً من عبادك الصالحين درجة ببلاء فبلغنيها بالعافية.
12ـ ومن فوائد المرض: أن يعرف العبد مقدار نعمة معافاته وصحته، فإنه إذا تربى في العافية لا يعلم ما يقاسيه المبتلى فلا يعرف مقدار النعمة، فإذا ابتلي العبد كان أكثر همه وأمانيه وآماله العودة إلى حالته الأولى، وأن يمتعه الله بعافيته، فلولا المرض لما عرف قدر الصحة، ولولا الليل لما عرف قدر النهار، ولولا هذه الأضداد لما عرفت كثير من النعم، فكل مريض يجد من هو أشد مرضاً فيحمد الله،وكل غني يجد من هو أغنى منه، وكل فقير يجد من هو أفقر منه، ثم كم نسبة صحة العبد إلى مرضه فوق ما فيه من الفوائد والمنافع التي يجهلها العبد وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم [البقرة:216]، ولهذا روي أن آدم لما نشر الله له ذريته رأى الغني والفقير وحسن الصورة، ورأى الصحيح على هئيته والمبتلى على هيئته، ورأى الأنبياء على هيئتهم مثل السرج، قال: يارب ألا سويت بين عبادك؟ قال: إني أحب أن أشكر، فإن العبد إذا رأى صاحب البلاء قال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك، فيعافيه الله من ذلك البلاء بشرط الحمد، والمبتلى إذا صبر حصل على أجر عظيم.
والغريب أن العبد إذا نظر في دنياه نظر إلى من هو فوقه، لكنه إذا نظر في دينه نظر إلى من هو أسفل منه، فتجده يقول: نحن أفضل من غيرنا، لكنه لا يقول ذلك في دنياه، ومن ذاق ألم الأمراض عرف بعد ذلك قيمة الصحة، وكم نسبة مرضه إلى نسبة صحته، روي أن الفضيل كانت له بنت صغيرة فمرض كفها فسألها يوماً: يا بنية، كيف حال كفك؟ فقالت: يا أبت بخير، والله لئن كان الله تعالى ابتلى مني قليلاً فلقد عافى الله مني كثيراً، ابتلى كفي وعافى سائر بدني، فله الحمد على ذلك.
13ـ ومن فوائد المرض: أنه إحسان ورحمة من الرب للعبد، فما خلقه ربه إلا ليرحمه لا ليعذبه ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وءامنتم [النساء:147]، وكما قيل:
وربما كان مكروه النفس إلى *** محبوبها سبب ما مثله سبب
ولكن أكثر النفوس جاهلة بالله وحكمته، ومع هذا فربها يرحمها لجهلها وعجزها ونقصها، وهذا ورد في بعض الآثار أن العبد إذا أصابته البلوى فيدعو ربه ويستبطئ الإجابة، ويقول الناس: ألا ترحمه يارب؟ فيقول الله: ( كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟ ). فمثلاً الوالد عندما يجبر ابنه على شرب الدواء المر وهو يبكي وأمه تقول: ألا ترحمه؟ مع أن فعل الوالد هو رحمة به، ولله المثل الأعلى، فلا يتهم العبد ربه بابتلائه وليعلم أنه إحسان إليه.
لعل عتبك محمود عواقبه *** وربما صحت الأجساد بالعلل(/4)
14ـ ومن فوائد المرض: أنه يكون سبباً لصحة كثير من الأمراض، فلولا تلك الآلام لما حصلت هذه العافية، وهذا شأن أكبر الأمراض، ألا وهو الحمى وهي المعروفة الآن بالملاريا، ففيها منافع للأبدان لا يعلمها إلا الله، حيث أنها تذيب الفضلات وتتسبب في إنضاج بعض المواد الفاسدة وإخراجها من البدن، ولا يمكن أن يصل إليه دواء غيرها، يقول بعض الفضلاء من الأطباء: إن كثيراً من الأمراض التي نستبشر فيها الحمى، كما يستبشر المريض بالعافية، فتكون الحمى فيه أنفع من شرب الدواء الكثير، فمن الأمراض التي تتسبب الحمى في علاجها مرض الرمد والفالج واللقوة ـ وهو داء يكون في الوجه يعوج منه الشدق ـ وزيادة على الصحة فهي من أفضل الأمراض في تكفير الذنوب، ففي مسلم عن جبران { أن رسول الله دخل على أم السائب، فقال: "مالك؟" فقالت: الحمى، لا بارك فيها، فقال: "لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد" }، وعند أحمد بسند صحيح: { حمى يوم كفارة سنة } [عن ابن عمرو] وفي الأدب للبخاري عن أبي هريرة: { ما من مرض يصيبني أحب إلى من الحمى } لأنها تدخل في كل الأعضاء والمفاصل وعددها 360 مفصلاً، وقيل إنها تؤثر في البدن تأثيراً لا يزول بالكلية إلا بعد سنة.
15ـ ومن فوائد الأمراض: تخويف العبد ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون [المؤمنون:76]، وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون [الزخرف:48]، فما ابتلاه الله إلا ليخوفه لعله أن يرجع إلى ربه، أخرج الإمام أبو داود عن عامر مرفوعاً: { إن المؤمن إذا أصابه سقم ثم أعفاه منه كان كفارة لما مضى من ذنوبه وموعظة له فيما يستقبل، وإن المنافق إذا مرض ثم أعفي كان كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلم يدر لم عقلوه ولم أرسلوه }.
16ـ ومن فوائد المرض: أن الله يستخرج به الشكر، فإن العبد إذا ابتلي بعد الصحة بالمرض وبعد القرب بالبعد اشتاقت نفسه إلى العافية، وبالتالي تتعرض إلى نفحات الله بالدعاء فإنه لا يرد القدر إلا الدعاء بل ينبغي له أن يتوسل إلى الله ولا يتجلد تجلد الجاهل فيقول: يكفي من سؤالي علمه بحالي !! فإن الله أمر العبد أن يسأله تكرماً وهو يغضب إذا لم تسأله، فإذا منح الله العبد العافية وردها عليه عرف قدر تلك النعمة ؛ فلهج بشكره شكر من عرف المرض وباشر وذاق آلامه لا شكر من عرف وصفه ولم يقاس ألمه، فكما يقال: أعرف الناس بالآفات أكثرهم آفات، فإذا نقله ربه من ضيق المرض والفقر والخوف إلى سعة الأمن والعافية والغنى فإنه يزداد سروره وشكره ومحبته لربه بحسب معرفته وبما كان فيه، وليس كحال من ولد في العافية والغنى فلا يشعر بغيره.
17ـ ومن فوائد المرض: معرفة العبد ذله وحاجته وفقره إلى الله، فأهل السموات والأرض محتاجون إليه سبحانه، فهم فقراء إليه وهو غني عنهم ولولا أن سلط على العبد هذه الأمراض لنسي نفسه، فجعله ربه يمرض ويحتاج ليكون تكرار أسباب الحاجة فيه سبب لخمود آثار الدعوى وهو ادعاء الربوبية، فلو تركه بلا فاقة لتجرأ وادعى، فإن النفس فيها مضاهاة للربوبية، ولهذا سلط الله عليه ذل العبودية وهي أربع: ذل الحاجة، وذل الطاعة، وذل المحبة ـ فالمحب ذليل لمن أحبه ـ وذل المعصية، وعلى كل فإذا مرض العبد أحس بفقره وفاقته إلى الله كائناً من كان 0
لعلك تقول: هذه الأخبار ددل على أن البلاء خير في الدنيا من النعيم، فهل نسأل الله البلاء؟ فٌول لك: لا وجه لذلك، بل إن الرسول قال دعائه لما أخرجه أهل الطائف: { إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي }، وروى أن العباس لما طلب من الرسول أن يعلمه دعاء فقال له: { سل الله العفو والعافية، فإنه ما أعطى أحد أفضل من العافية بعد اليقين }، وقال الحسن: الخير الذي لا شر فيه العافية مع الشكر، فكم من منعم عليه غير شاكر، وهذا أظهر من أن يحتاج إلى دليل، فينبغي أن نسأل الله تمام النعمة في الدنيا ودفع البلاء عنا، لكن إذا ابتلي العبد ببلاء فينبغي له الصبر والرضا بقضاء الله عليه.
أخيراً أختم هذه الرسالة بأن المرض نعمة وليس بنقمة، وأن في المرض لذائذ:
1ـ منها: لذة العطف الذي يحاط به المريض والحب الذي يغمره من أقاربه ومعارفه.
2ـ ومنها: اللذة الكبرى التي يجدها المريض ساعة اللجوء إلى الله، هندما يدعوه مخلصاً مضطراً.
3ـ ومنها: لذة الرضا عن الله عندما تمر لحظات الضيق على المريض وهو مقيد على السرير، ويبلغ به المرض أقصاه فيفيء لحطتها إلى الله كما حصل في نداء أيوب، فلا يحكم على المريض أو البائس بمظهره، فلعل وراء الجدار الخرب قصراً عامراً، ولعل وراء الباب الضخم كوخاً خرباً.
4ـ ومنها: لذة المساواة التامة، فهي سنة الحياة، فلا يفرق المرض بين غني أو فقير، فلو كان المرض سببه الفقر أو نقص الغذاء لكان المرض وقفاً على الفقراء، ولكان الأغنياء في منجى منه، لكنه لا يعرف حقيراً أو جليلاً، الناس سواء.
تمت هذه الرسالة ولله الحمد والمنة.(/5)
نسأل الله من عظيم لطفه وكرمه وستره الجميل في الدنيا والآخرة، ونعوذ به من زوال نعمته وتحول عافيته وفجأة نقمته وجميع سخطه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/6)
فوائد تعدد القراءات القرآنية
لم يلق كتاب في تاريخ الإنسانية ما لقيه القرآن الكريم من عناية واهتمام. ولا غرو في ذلك، فهو كتاب رب العالمين، الخالد إلى يوم الدين، وهو إلى الناس أجمعين. إنه كتاب البشرية جمعاء على مر العصور والدهور، واختلاف الأماكن والبقاع.
وكان للمسلمين شرف الاهتمام بهذا الكتاب والعناية به، تلاوة وحفظاً، وشرحاً وتفسيراً، وتعلماً وتعليماً. وكان الاهتمام بالقراءات القرآنية جانباً من الجوانب التي شدت انتباه العلماء، ودفعت بعضهم للانقطاع وتلقي تلك القراءات وجمعها، وتعليمها وتدوينها، حتى نشأ ما أطلق عليه (علم القراءات).
وقد بحث العلماء تحت هذا العلم العديد من المسائل المتعلقة بالقراءات القرآنية، كعددها، وأنواعها، وأهميتها العلمية، ونحن في مقالنا التالي نحاول الوقوف على أهم الفوائد التي ذكرها العلماء لتعدد القراءات القرآنية.
فمن تلك الفوائد التخفيف على هذه الأمة والتيسير عليها، يدل على هذا الأمر تواتر قراءة القرآن إلينا بأكثر من وجه؛ وتلقي الأمة ذلك بالقبول سلفًا وخلفًا من غير نكير. وقد نبه إلى هذه الفائدة أئمة هذا الشأن من أمثال ابن قتيبة، و ابن الجزري، وغيرهما.
ومن فوائد ذلك إظهار نهاية البلاغة، وكمال الإعجاز، وغاية الاختصار، وجمال الإيجاز. وبيان ذلك أن كل قراءة بمنزلة الآية، وتنوع اللفظ بكلمة واحدة تقوم مقام عدة آيات، فلو كان كل لفظٍ آية لكان في ذلك تطويلاً وخروجاً عن سَنَن البلاغة العربية ونهجها.
ثم إن تعدد القراءات القرآنية كان من الأدلة التي اعتمدها العلماء في بيان صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به، ووجه ذلك أنه على الرغم من تعدد القراءات وكثرتها، لم يتطرق إلى القرآن أي تضاد أو تناقض أو تخالف، بل كله يصدق بعضه بعضاً، ويؤيد أوله آخره، وآخره أوله، تصديقاً لقوله - تعالى -: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82).
وقالوا أيضاً: إن تعدد القراءات فيه دلالة على إعجاز هذا الكتاب، وأنه من عند رب العالمين، وبيانه أن كل قراءة من القراءات تحمل وجهاً من وجوه الإعجاز ليس في غيرها، وبعبارة أخرى، إن القرآن معجز إذا قُرئ بهذه القراءة مثلاً، ومعجز كذلك إذا قُرئ بقراءة ثانية وثالثة وهكذا، ومن هنا تعددت معجزاته بتعدد قراءاته.
ومن فوائد تعدد القراءات - علاوة على ما تقدم - سهولة حفظ القرآن الكريم، وتيسير نقله على هذه الأمة جيلاً بعد جيل، يدل على هذا المعنى، أن حفظ كلمة منه بأكثر من قراءة، يكون أسهل في تعلمه وتعليمه، وأوفق لطبيعة لسان العرب، الذي نزل القرآن على وفق أساليب لغتهم، وتعدد لهجاتهم.
ومن ذلك أيضًا إعظام أجور هذه الأمة، من جهة أنهم يبذلون أقصى جهدهم في تتبع معاني ألفاظه، واستنباط حِكَمِهِ وأحكامه، فضلاً على ما في تلاوته - بقراءاته المختلفة - من مزيد الثواب وجزيل الفضل، تحقيقاً وتصديقاً لما أخبر به الصادق المصدوق، بقوله: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وكان من فوائد تعدد القراءات، ظهور سر الله - تعالى - في توليه حفظ كتابه العزيز، وصيانة كلامه المنزَّل، بأوفى بيان وأوضح بلاغ، يرشد لهذا المعنى، أن الله - سبحانه - لم يُخلِ عصراً من العصور، من إمام حجة قائم على نقل كتابه وإيصاله إلى عباده، مع إتقان حروفه ورواياته، وبيان وجوهه وقراءاته، وفي ذلك تصديق لقوله - تعالى -: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).
وبعد: فهذه بعض فوائد تعدد القراءات القرآنية، عرضناها لك - أخي الكريم - بشيء من الإيجاز، لتعلم وتتبين أهمية معرفة وجوه القراءات، وخاصة لطالب العلم الشرعي. ونحن نسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد في الأمر كله، وأن يتقبل منا ومنك صالح الأعمال، إنه خير مسؤول، والحمد لله أولاً وأخراً.
14/12/2003
http://www.islamweb.net المصدر:(/1)
فوائد من سورة عبس ... ... ... ...
الفائدة الأولى:
إن دعوتنا صافية نقيه لا شوائب فيها ولا كدر إذ هي نور و بيان و موعظة و هدى و بشرى للمتقين وقد وصف الله كتابه المبين بالنور في قوله - جل وعلا - (قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين) و قوله (ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) و قوله (قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا) و قوله (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم) ووصف القرآن بأنه هدى والنبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه يهدي إلى صراط مستقيم فإذا جمعت بين النور الهداية استنارت لك هذه الفائدة أيما استنارة.
الفائدة الثانية:
أن الله - تعالى - عاتب أحب خلقه إليه و أفضلهم عنده وأخشاهم له واتقاهم بتشاغله عن هذا الأعمى ظنا منه أن هناك من هو أهم منه وانفع إذا ما دخلوا في الإسلام مع انه - عليه الصلاة والسلام - لم ينهره ولم يعنفه وإنما جاء العتاب حرصا على مشاعر ذلك الأعمى أن تجرح. فدل هذا على القاعدة المشهورة انه لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم ولا مصلحة متحققه لمصلحة متوهمة وانه ينبغي الإقبال على طالب العلم المفتقر إليه الحريص عليه أزيد من غيره
أخوة الإسلام: من هاتين الفائدتين دلالة عظيمة على إن الإسلام دين نور و هدى للناس يحرص على الناس اشد من حرصهم على أنفسهم وبهذا وصف رسول الهدى - صلى الله عليه و سلم - (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) - والموصوف هنا هو المعاتب هناك - فحرصه - عليه الصلاة والسلام - هو سبب المعاتبة وكم كان حرصه على هداية الناس سببا للمعاتبة من ربه قال - تعالى - (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) و قال جل شأنه(لعلك باخع نفسك الا يكونوا مؤمنين) أي مهلكها والبخع هو قتل النفس غما. قال - تعالى - (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات)
و بناء عليه أخي الكريم يا من يدعي إتباع نهج محمد - صلى الله عليه وسلم - و السير على هديه انظر إلى منهجه مع أعدائه - كيف كانت نفسه تذهب عليهم حسرة الا يؤمنوا - و الا يهتدوا - خشية عليهم من النار ثم انظر إلى أغيلمة يزعمون حب شريعة الله و الجهاد في سبيلها فإذا هم يزهقون أنفسهم و أنفسا معصومة حرم الله إزهاقها بغير حق ويخربون بيوتهم و يخرجون على أولياء أمور المسلمين والحجة أو قل والشبهة هي رفع راية الدين ونصرته والجهاد في سبيله
فإذا كان القرآن الكريم يعاتب الحريص أشد الحرص على الهداية على عبوس و تولي كيف بالقتل فكيف بالتخريب كيف بالإفساد
إن دين الإسلام لما كان نورا صافيا نقيا علم بالضرورة إن ليس فيه خبايا و لا خلايا ولا خديعة بل لن يكون فيه مكر و تخطيط ناهيك أن يكون هو يدعو إلى القتل بغير حق أو إلى التدمير
إن إدراكك أخي المسلم أن الإسلام نور يعطيك الثقة التامة واليقين الراسخ أن العمل للإسلام بيٌن أمام الكل إذ هو النور والمشعل الذي يقودهم للهداية وليس من الإسلام العمل في الظلام بل إن ولاية الله للمؤمنين تخرجهم من الظلمات إلى النور والعكس هو الصحيح
واعلم أخي الكريم أن دعوة الرسول - صلى الله علية وسلم - في مكة سرا لثلاث سنوات ليس فيه دليل على سرية الدعوة إلى الله و تكوين الخلايا و رسم المخططات ذلكم أن رسول الله - صلى الله عليه و سلم - جاء بالشهادتين فكان من المتحتم أن يبدأ بالقريب الموثوق به حتى يجد أعوانا و أتباعا إما في البلاد أو المجتمعات التي يصدح فيها بالأذان وتقام فيها الشعائر فكل من أسر دعوته فلا بد أن يكون ضامرا للفساد مريدا للإفساد وسند هذا نهيه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح عن منابذة أئمة الجور بالسيوف حيث قال (لا ما أقاموا فيكم الصلاة)
الفائدة الثالثة:
بيان العمى الحقيقي فإذا كان الذي قدم إليك أعمى البصر فنه قد جاء يريد أن يبصر الحق ويزداد منه وقد اعرض عنك أعمى القلب ظانا أنه استغنى و شتان بين أعمى البصر وأعمى البصيرة
الفائدة الرابعة:
بيان حاجة المعوق للعناية وهذا ما أشار إليه بعض المفسرين قال الزمخشري: كأنه يكون قد استحق عنده العبوس والإعراض لأنه أعمى و كان يجب أن يزيده عماه تعطفا و تلطفا وترحيبا
وقال ابن عطية: وذكر الله - تعالى - ابن مكتوم بصفة العمى ليظهر المعنى الذي شأن البشر احتقاره وبين أمره من مثل ضده من غنى الكافر
الفائدة الخامسة:
بيان عدل الإسلام فليس أهل الغنى والجاه بأحق من أهل الفقر والعاهات لاستماع الحق والاستئثار بالداعية وجهده و همه ووقته و منه قوله - تعالى - (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين) و قوله - تعالى - (إن أكرمكم عند الله اتقاكم)(/1)
فالدعوة الإسلامية جاءت لتنقذ الإنسان مهما كان هذا الإنسان وضيعا أو شريفا كريما أو حقيرا - الأمر لا يختلف - فالمراد إنقاذه من النار وهدايته لعبادة الواحد القهار وهذا هو الهدف الأسمى والحقيقية و تلك هي حقوق الإنسان في الإسلام حقه أن ينال سعادة الدنيا و ثواب الآخرة حقه أن تصل إليه الكلمة الباقية و أن تغرس في نفسه الشجرة الطيبة وان يتعرف إلى خالقه حق المعرفة بلا شوائب ولا عوائق
الشيخ عادل بن سالم الكلباني ... ... ...
... ... ...(/2)
فوائد من قصة إبراهيم عليه السلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ?[ آل عمران : 102] ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً?[ النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
من المحاور الأساسية للقرآن الكريم القصص المتضمن أخبار الأنبياء والرسل وأخبار أممهم ونهاية الكافرين المكذبين وعاقبة المؤمنين، ففي تلك القصص في القرآن الكريم عبرة وموعظة وذكرى وحكم ، وتسرية وتثبيت لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أنزل عليه القرآن ولأمته.
إننا إذا نظرنا في كتاب الله عز وجل وهو يتحدث عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحوادث حياتهم وأخبار دعوتهم، نلاحظ ملاحظة هامة مستمرة ومطردة هي أن الأنبياء بعثوا دائماً في بيئة مظلمة خانقة، معارضة لدعوتهم، ثائرة عليها ومقاومة لها، وبعثوا في ضعف شديد وفقر تام في مجال الأسباب المادية، فكل ما يعتز به الناس من مال وملك وشيع وأتباع وأنصار، وأسباب مادية أخرى كانت كلها في جانب أعدائهم، وفي كفتهم، وتحت تصرفهم، ولم يكن في جانب الأنبياء وكفتهم إلا الإيمان القوي الذي لا يرقى إليه شك أو ريب والإخلاص الكامل، والاعتماد على الله عز وجل والتضرع إليه وتحقيق العبودية له، والعمل الصالح ، والتقوى ، وحسن السيرة والأخلاق الفاضلة، مع الدعوة إلى الله والصبر على الأذى وكأن ذلك شيء مقصود ، لنأخذ منه الدرس والعبرة ، إن ما حكاه الله تعالى من قصص الأنبياء والرسل وأخبار دعوتهم وما لقيته من معارضات وحروب ومؤامرات ، وتألب الكفار عليها والحرب الشعواء التي كانت تتم دائماً بين ضعيف فقير أعزل، وبين جماعة قوية قاهرة ، تملك جميع الأسباب ، أو ملك مستبد طاغية، ثم النتيجة واحدة دائماً، وهو انتصار الدعوة النبوية وأصحابها على ضعفهم وفقرهم وقلة عددهم، وهلاك الأغنياء الأقوياء والملوك الجبابرة رغم قوتهم وبطشهم ، وخضوعهم لهذه الدعوة أو قبولهم لها.
إن هذا يعني أن علينا أن نوقن بقدرة الله وعظمته وأنه خالق الكون ومدبر أمره، المتصرف فيه كيف يشاء، ينصر أولياءه ورسله متى ما قاموا بواجبهم وصدقوا مع ربهم، وهذا وعدٌٌ وعد الله به عباده ، وقدرٌ كتبه عز وجل كما قال سبحانه: ? إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ?[غافر:51] وقال: ? كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ?[ المجادلة:21]، وقال: ? وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ?[الصافات:171-173].
وهذا النمط من القصص القرآني دعوة لنا إلى التوكل على الله تعالى، والاعتماد على تأييده ونصره، وإن اختلف الزمان والمكان، مع الاستمرار في الدعوة إلى الله وحسن السيرة والعمل الصالح، وإن اكفهرت الأجواء وتلبدت الغيوم، فإن معجزات النصر وعجائب القدرة الإلهية، تنهمر، فإذا ذكر الله في القرآن الكريم ما كرم به الرسل من النصر والفتح المبين ، وقبول الدعاء والغلبة على الأعداء، ذكر ما يشجع أتباعهم والحاملين دعوتهم على تلك التجربة، ولذلك لم تكن هذه القصص التي تكون محوراً واسعاً من القرآن قصص فكاهة وتسلية، أو مادة معلومات تاريخية جافة، وإنما هي موعظة وذكرى، وحث ودعوة وإرشاد وتوجيه، وتقوية وتشجيع كما قال تعالى: ? لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ?[يوسف:111]. وقال: ? وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ?[هود:120].(/1)
لقد كانت هذه سنة الله مع جميع أنبيائه ورسله، ولنأخذ مثالاً على ذلك نبي الله إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أبو الأنبياء الذي قال الله فيه: ? إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ?[النحل:120] ,قال: ? وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ?[الأنعام:83].
نبي الله إبراهيم عليه السلام له منزلة عظيمة عند المسلمين واليهود والنصارى فاسمه يذكر دائماً مقروناً بالإكرام والدعاء والإجلال، فهو من أولي العزم من الرسل، جاهد في سبيل الله والدعوة إلى عبادة الله وحده ومقاومة الشرك والمشركين ، معرضاً نفسه للهلاك مضحياً بكل شيء في سبيل الإيمان والتوحيد. كانت حياة نبي الله إبراهيم عليه السلام مليئة بالتضحية والتجرد له رب العالمين.
بُعث إبراهيم عليه السلام في بيئة مليئة بالشرك والضلال وكان الملوك في زمنه يشعرون بشدة حاجتهم إلى غفران الآلهة فشادوا لها الهياكل وأمدوها بالأثاث والطعام والنبيذ!؟ فلما رأى إبراهيم عليه السلام ضلال قومه عزم على دعوتهم وهدايتهم وتخليصهم من تلك الضلالات والأباطيل، ويقص الله علينا نبأه في كتابه فيقول سبحانه: ? وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ?[الأنبياء:51-56].
أراد نبي الله إبراهيم أن يحرر قومه من عبادة الأصنام، وما يلحق بذلك من الاعتقاد بالخرافات والأساطير، ليوصلهم إلى الحقيقة العظمى وهي عبادة الله وحده لا شريك له والتبرؤ من كل ما سواه فهو يبين لقومه هذه الحقائق ناصعة جلية كما في قوله لهم: "قال تعالى: ? قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ?[الشعراء:75-82].
هذا هو إيمان إبراهيم عليه السلام، إنه إيمان المستسلم لربه في كل جارحة من جوارحه، إنه الإيمان الذي ينزع من النفس همومها وأحزانها، ويسبغ عليها الطمأنينة والسعادة، إنه الإيمان الذي يخلص النفس من الاستسلام للخرافات والركون إلى الأوهام، فلا رازق إلا الله ولا شافي ولا محيي، ولا مميت، ولا غافر للذنب إلا الله رب العالمين.
لقد كانت دعوة نبي الله إبراهيم علي السلام ثورة على المادية المسرفة وعبادتها، وكأنه عليه السلام كان مأموراً بأن يستخف بتلك القوى ويحتقرها، ويحتقر العاكفين عليها والمقدسين لها لقد عاش طوال حياته عليه السلام ثائراً على ما حوله من الشرك والباطل حيث كان الاعتقاد السائد في زمنه أن الأصنام والآلهة مؤثرة مستقلة بذاتها، وكثر خضوعهم للأسباب وتقديسها والاعتماد عليها وغلوا في عبادة الأصنام والأوثان، فكانت دعوة نبي الله إبراهيم إلى التوحيد النقي الخالص، وتعريفاً بقدرة الله الواسعة المحيطة بكل شيء، وأنه يخلق الأشياء من عدم، وأنه يخلق الأسباب ويملكها، ويفضل الأسباب على المسببات، وينزع عن الأشياء خواصها وطبيعتها ويستخرج منها أضدادها، ويسخرها لما يشاء ومتى يشاء، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
ولنذكر نماذج من ذلك للعظة والعبرة والتذكير من قصة نبي الله إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.(/2)
- الحصول على الذرية والولد، هذا إنما يكون في فترة الشباب والكهولة في فترة الخصب والرواء لدى الرجل و المرأة بالذات أما إذا كبر سناً وبلغت سن اليأس فلا أمل في حمل ولا ولادة هكذا تقول السنن المعتادة التي تحكم الناس، لكن خالق تلك السنن يبطلها ويلغيها إذا شاء جل وعلا فها هي زوجة إبراهيم عليه السلام كانت عقيماً لا تلد وقد تقدم بها السن، اسمعوا إلى هذا الحوار كما في قوله تعالى: ? وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ?[هود:69-73].
- وحين اشتد الخصام والنزاع بين نبي الله إبراهيم عليه السلام وقومه بسبب دعوتهم إلى التوحيد قرر المجرمون أن يحرقوه بالنار ، فأشعلوا ناراً عظيمة استمروا زمناً في إشعالها وتأجيجها وقالوا: ? قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ?[الأنبياء: 68]، وكان إبراهيم يؤمن بأن النار خاضعة لإرادة الله تعالى ، ليس الإحراق ولها طبيعة دائمة لا تنفك عنها، إنما هي طبيعة مودعة فيها، إذا أراد الله أطلق لها العنان فتلتهم الأخضر واليابس وإن شاء حولها برداً وسلاماً ، فخاضها مؤمناً مطمئناً واثقاً وهكذا كان: ? قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ?[الأنبياء:69-70].
- واعتقد الناس أنه لا حياة إلا بالخصب والميرة والماء الغزير فكانوا يرتادون لأسرهم وأبنائهم، ويختارون لسكنهم ووطنهم أراضي مخصبة تكثر فيها المياه ويتوفر الخصب وتسهل التجارة والصناعات، فأراد الله من نبيه إبراهيم أن يثور على هذه العادة المتبعة والعرف الشائع والاعتماد على الأسباب وحدها، فاختار لأسرته الصغيرة المكونة من أم وابن ـ إسماعيل وأمه هاجرـ اختار لهم وادياً غير ذي زرع ، لا زراعة فيه ولا ماء ولا تجارة، منقطعاً عن العالم ومراكزه التجارية ومواضع الرخاء والثراء ودعا الله تعالى أن يوسع لهم الرزق ، ويعطف إليهم القلوب، ويجيء إليهم بالثمرات، من غير سبب وطريق معروف، فقال : ? رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ?[ إبراهيم:37].
وأجاب الله دعاءه فضمن لهم الرزق والأمن، وجعل بلدهم محطاً للخيرات والثمرات والبركات، : ?... أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ?[ القصص:57]، ? فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ?[قريش:3-4].
- تركهم في أرض لا أثر لها لماء يروي القلة ويبل الحلقوم ـ فإذا بماء يفور ويتدفق من تلك الرمال ويفيض من غير انقطاع ، يشربه الناس في سخاء، ويحملونه إلى بلدانهم.
- ويترك أهله في بلد قفر لا أنيس فيه، فإذا به يصبح مكاناً يؤمه الناس من كل صوب ، ويأتون إليه من كل فج عميق.
ألا ما أعظم قدرة الله وما أعظم رعايته وكرمه لأنبيائه ورسله وأتباعهم السائرين على نهجهم وطريقهم ، اللهم املأ قلوبنا بمعرفتك وحبك .. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
الخطبة الثانية:(/3)
التوكل على الله والاعتماد عليه وحده فرض من الفرائض ومعقد من معاقد الإيمان والدين، كثيراً ما نغفله وننساه ويشدنا الواقع المادي شداً، فننسى ربنا، وتهولنا القوى المادية وهيمنة الكافرين، فيدب إلى النفوس الهلع والخوف والاضطراب ثم الهزائم والاستسلام لأعدائنا. ولو توكلنا على الله حق التوكل وقمنا بما أوجبه الله علينا لكانت أحوالنا غير هذه الأحوال بلا ريب ، ولما للتوكل على الله من مكانة وأهمية نجد مساحات كبيرة في الكتاب والسنة تبين فضله وتثني على أهله قال الله عز وجل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه: ? وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ?[الأحزاب:22].
وقال: ? الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ?[ آل عمران:173-174].
وقال: ? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ?[الفرقان:58] وقال ?... وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ ?[ آل عمران: 160] وقال:?... وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ...?[الطلاق:3]، أي كافيه.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل".
وفي الصحيحين عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: "نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد منا أن نعيش التوكل سلوكاً لا كلاماً نتوكل على الله في ليلنا ونهارنا ونومنا ويقضتنا، انظروا إلى توجيهات الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - لأحد الصحابة وهو يوصيه بأذكار النوم ويلقنه ، كما في الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا فلان إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك ، ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فأنك إن مت من ليلتك مت على الفطرة ـ أي على الإيمان ـ وإن أصبحت أصبحت خيرا".
وعند أبي داؤود عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قال ـ يعني إذا خرج من بيته ـ بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، يقال له: هديت وكفيت، ووقيت، فتتنحى له الشياطين، فيقول له شيطان آخر كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي"(4)
- أيها المؤمنون علقوا قلوبكم بربكم وخالقكم وحذار حذار من الغفلة والنسيان ،
- خذوا بالأسباب المستطاعة التي أمرنا الله بها وأيقنوا أن الله هو الرزاق، وهو الناصر، وهو المهيمن ،
- واشغلوا قلوبكم بالإيمان وألسنتكم بذكر الواحد الديان ،
- ولا تتعلقوا بالمادة وتركنوا إلى الدنيا ، تطلعوا إلى ما عند الله ومن عند الله.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد
ـ صحيح البخاري ج3 باب: ?... إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ...?[ آل عمران:173] الحديث رقم: 4288
ـ صحيح البخاري ج3 باب: قوله: ?... ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا... ?[التوبة:40]الحديث رقم: 4386
وصحيح مسلم ج4 باب من فضائل أبي بكر الصديق، رضي الله عنه.الحديث رقم: 2381
ـ صحيح البخاري ج4 باب: ما يقول إذا نام.الحديث رقم:5954 و صحيح مسلم.ج4 باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع.
الحديث رقم: 2710
ـ سُنَنُ أبي دَاوُود، 2/ 746 ، حديث رقم: 5095، وصححه الألباني(/4)
فوضى السلاح وفوضى السلام طارق مصطفى حميدة*
يتردد منذ مدة في وسائل الإعلام، وعلى ألسنة عدد من المسئولين الفلسطينيين، عبارات من مثل: " الفلتان الأمني، وفوضى السلاح، وعسكرة الانتفاضة"، ويؤكد هؤلاء أنه لا بد من ضبط وكبح ولجم أولئك الفوضويين، ووقف مظاهر الفوضى والانفلات والعسكرة، وضرورة إعادة الانتفاضة إلى بعدها الجماهيري والسلمي، لضمان تأييد الرأي العام الدولي، ودعم الأصدقاء.
مصطلحات مضللة
مثل هذه المصطلحات ـ في رأيي ـ لا تخلو من تضليل، ومحاولة استغفال، من وجوه.
ذلك أن تعبير " العسكرة" في الأصل، يشير إلى ظاهرة يتحول فيها الكثير من الثوار والمناضلين، بل وغيرهم أيضا، من العائلات والجماعات وحتى اللصوص والمنحرفين، إلى حملة سلاح، يتجولون بأسلحتهم بين المدنيين، ويخوفون بها الآمنين، ويستخدمونها في غير مكانها الصحيح وهو مقاومة المحتل.وبهذا تتحول قطاعات شعبية متعددة إلى فتوات وأدوات للرعب والإزعاج، ومصدر خطر وقلق لأهاليهم وأبناء شعبهم.
عشية قدوم رجالات السلطة إلى الضفة والقطاع، بل وقبيل ذلك، جرى تداول وانتشار كبير وواسع للأسلحة، ونشط تجار السلاح، وصار بإمكان الكثيرين شراء السلاح واقتناؤه وحمله واستخدامه، كل ذلك والجانب الإسرائيلي يغض الطرف عما يجري، لا بل يبدو راضيا ًومسرورا ً وداعماً لهذه الظاهرة، حيث قام عدد من العملاء والمشبوهين بدور كبير في تجارة السلاح وترويجه على نطاق واسع، وبشكل شبه علني!!.
أهداف إسرائيلية
وقد أثار ذلك مخاوف بعض المراقبين الذين توقعوا أن يكون للإسرائيليين من وراء تعميم السلاح في الساحة الفلسطينية، عدة أغراض:أحدها أن يساهم ذلك في إذكاء نار الفتنة والاقتتال الداخلي، حيث إن كثيراً من حَمَلة السلاح فارغون فكرياً، وسائبون أخلاقياً، وغير ملتزمين وطنياً ولا دينياً، عدا عن تعدد الولاءات العائلية والشللية، والحضور البارز لعملاء الاحتلال.
ولم يستبعد المراقبون أن يكون نشر السلاح بهذا الأسلوب العلني يهدف إلى استدراج رجال المقاومة الصادقين، بغية اكتشافهم واعتقالهم، والقضاء عليهم، وقد يجري زرع هذه الأسلحة بأجهزة تنصت أو أجهزة تحدد مكان حاملها، أو يجري تفخيخها وبالتالي تصفية من يستخدمها.
وكان من أخطر المخاوف، وهو ما تحقق فعلاً، أن يكون ذلك السلاح ذريعة للإسرائيليين للقيام بحرب لا هوادة فيها ضد الفلسطينيين بحجة أنهم يقاتلون دولة وجيشاً، وقد لوحظ في بداية انتفاضة الأقصى الجارية، أن الكثيرين من أجهزة السلطة وحزبها والمقربين منها، إضافة إلى المشبوهين، هم الذين كانوا يطلقون النار من داخل الأحياء السكنية، ومن بين المتظاهرين، فيرد الصهاينة بقذائف الدبابات، وبالقصف من الطائرات، مما ألحق خسائر كبيرة وأدى إلى ضحايا كثيرة في الجانب الفلسطيني، وفيما بعد كان الاجتياح الكبير قبل أكثر من عامين.
إن كثيراً من الفلتان وفوضى استخدام السلاح، والعسكرة كانت ولا زالت تتم من رجالات السلطة والمقربين منها، فهم الذين كانوا يطلقون الرصاص في الأفراح والمناسبات، والمشاجرات المسلحة بين بعض الأجهزة، أو بعض الشلل، أو بعض المناطق كانت غالباً من طرفهم، ويكفي أن أحداث غزة الأخيرة، وما رافقها من أعمال خطف واقتحامات وحرائق وتظاهرات مسلحة، كانت جميعها من فعلهم.. والطريف أن عنوان هذه الأحداث كان محاربة الفساد، وانتهت بأن يعطي الرئيس عرفات لأحمد قريع المزيد من الصلاحيات الأمنية!!.
ماهو المطلوب؟
فهل المطلوب وقف الفلتان الأمني والعسكرة التي يقوم بها أزلام السلطة؟ وهل السلاح المطلوب ضبطه ووقف فوضى استخدامه هو سلاحهم؟. الظاهر أن المطلوب هو رأس المقاومة الحقيقية الصادقة بكافة أطيافها، والتي على رأسها المقاومة الإسلامية، فهل مارس هؤلاء العسكرة بالوصف السابق، وهل كان لهم دور في الفلتان الأمني، وهل اتسم استخدامهم للسلاح بالفوضى وعدم الانضباط؟؟
لقد كان السلاح القليل الذي يملكه هؤلاء لا يستخدم إلا في الأعمال الجهادية الموجهة ضد الاحتلال..علماً بأن السلطة قد شنت عليهم حرباً شعواء، فطاردتهم واعتقلتهم ونكلت بهم وصادرت أسلحتهم، وقد قبع الكثير من المجاهدين سنوات عديدة في سجون السلطة التي لم تفرج عنهم إلا مضطرة تحت الضغط الشعبي في بدايات الانتفاضة الحالية، عدا عن التنسيق الأمني مع الصهاينة والأمريكان الذي ما زال مستمراً كما صرح رأس السلطة، الذي أكد أنهم أحبطوا عشرات العمليات الجهادية بعد استشهاد الرنتيسي والياسين.(/1)
الفلتان والفوضى والعسكرة المطلوب وقفها وضبطها من قبل السلطة والأمريكان والصهاينة وبعض العربان، هي المقاومة المسلحة المشروعة الموجهة ضد الاحتلال ورداً على جرائمه، وليس الفلتان الحقيقي الذي يمارسونه هم لا غيرهم، خصوصاً وأن هناك توجهاً لدى عدد من قيادات السلطة يضيق بالعمليات الجهادية الموجهة ضد الاحتلال، لأنها في نظرهم تشوه صورة الفلسطيني وتجعله إرهابياً!!. والمفضل لدى هؤلاء أن يظل الفلسطيني يتلقى الضربات ويتعرض للمجازر، ليظل في نظر العالم هو الضحية، من أجل استجداء التعاطف الدولي.
بقي أن نقول: إن هناك فوضى حقيقية، سوى فوضى السلاح، يتولى كبرها أيضاً رموز السلطة وعدد من الساسة العرب، وهي فوضى السلام؛ ذلك أن اعتماد السلام خياراً استراتيجياً، وعدم التفكير في خيارات أخرى، والاستمرار في المفاوضات لأجل المفاوضات، وعدم وجود كوابح ولا ضوابط ولا خطوط حمراء، والتضحية بكل الثوابت والمقدسات، هي الفوضى بعينها.
هذه الفوضى، هي التي تحتاج إلى أن يكبح جماحها الشارع الفلسطيني، ومن ورائه الشارع العربي، وعدم الاكتفاء بالوقوف موقف المتفرج حيال مصير الأمة في حاضرها ومستقبلها.(/2)
فوضى الملابس وسط الشباب!!
( استطلاع) لقمان عطا المنان*
انتشرت ظاهرة الكثير من الملبوسات الغريبة في مجتمنا المسلم، لا سيما وسط الشباب؛ مثل الملابس الضيقة، ولبس البنطال عند غالب البنات دون حياء، أو ذوق حتى؛ وصارت عندهم أمرا عاديا، كما انتشرت على سطح هذا المجتمع ظاهرة ارتداء كثير من الأولاد فنائل، وأقمصة مستوردة مكتوبا عليها الكثير من كلمات الغرام، والحب، و...إلخ!!..
استطلعنا الكثيرين في هذا الأمر فماذا قالوا؟!:
* الوليد إبراهيم - معلم:
لبس الشباب (أولاد، وبنات) لهذه الملابس الخليعة التي لم يكن يعرفها مجتمعنا السوداني المسلم من قبل هو من باب الجهل بالدين، وقلة العلم، والفقه.. وهذا كله يرجع للتأثر بسموم الغرب التي يتلقاها المسلمون بأحضانهم ويعملون بها؛ لا سيما التهديد الغربي للمرأة الذي وصل منحدراً بالغاً في كل شيء في حياتها.. وكلها أشياء مخالفة لعقيدتها!!..
معلم: هذه الملابس دخيلة على مجتمعنا!!..
* محمد إبراهيم - أعمال حرة:
من المؤسف جداً أن نجد شبابنا من الجنسين اليوم يجعلون جل همهم الجري خلف أشياء لا تسمن ولا تغني من جوع؛ من مغريات الدنيا، والهوى من مثل اللبس الذي لا يشبه ديننا، وعقيدتنا؛ من فنائل، وقمصان مكتوب عليها كتابات تدعوا إلى الرزيلة، والزنا، والفسوق بين المرأة والرجل؛ فتجد هذا يرتدي فنلة عليها صورة فنان، أو ممثلة تحمل سيجارة (بنقو)، أو زجاجة(خمر)، أو ما إلى ذلك؛ وهذا أشبه بالمجتمع الأمريكي اليوم الذي نجد هذه الألبسة فيه إنما هي عبارة عن إعلان في الفنلة التي يرتديها الشابة أو الشاب لمناداة الطرف الآخر للذهاب من خلفه للزنا!!.. وهذه الصور السوداء من هذه الألبسة انطلقت بيننا وبين ظهرانينا اليوم!!.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!!..
* عبد القادر سليمان - مواطن:
مواطن: مثل هذه الألبسة والكتابة عليها هي بمثابة مناداة وإعلان للزنا!!..
كان الواجب على الدولة أن تمنع مثل هذه الملبوسات التي تجلب لنا من الخارج؛ فالدولة هي السبب الريئسي في هذه الفوضى العارمة.. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والإمام راع وهو مسوؤل عن رعيته).
* محمد أحمد عوض - طالب بجامعة الخرطوم:
كثيراً ما نرى أمامنا أولادا وبناتا يرتدون ألبسة مكتوبا عليها أشياء فارغة تدعوا للهوى والانحراف مثل (إلا حبيبتي)، (يا قلبي)، أو فنلة في شكل علم أمريكي، أو بريطاني، وغير ذلك.. وهذا كله نتيجة للموضة الوافدة إلينا؛ ويتلقفها بعض أبناء المسلمين بلهفة شديدة!!..
* مهند إدريس عمر - طبيب بيطري:
أكثر ما يؤلمني حقاً هو تلك الملبوسات التي يرتديها الشباب ناهيك عن البنات.. شيء محزن أن ترى الشاب في لبسة ضيقة جداً.. أذكر أنه ذات مرة وجدت شاباً وهو يلبس بنطالا ضيقا وعندما أراد أن يجلس لم يستطع الجلوس بسبب بنطاله الضيق!!.. أما موجة لبس البنات فهي صارت شيئا عاديا عند كثير من الأسراليوم!!..
* مها عبد الحميد كمال - طالبة بجامعة الخرطوم:
كل هذه الفوضى في الملابس التي نشاهدها أمامنا والتي تتطور يوماً بعد يوم نجد السبب الأساسي فيها يرجع إلى الجامعة التي تُبَثّ من خلالها سموم الموضة الغربية المستوردة، بل أصبح في الجامعة تنافس في هذه الألبسة بين الأولاد والبنات!!.. إنّ الغالب من الجامعات صارت مرتعاً للفوضى بين الشباب والشابات.. وإنا لله وإنا إليه راجعون!!..
* علي محمد عبد الله - رب أسرة:
هذه الملابس دخيلة على مجتمعنا الذي يتميز بالعادات والتقاليد السمحة الأقرب للدين الإسلامي، وصارت مسخاً مشوهاً للمجتمع..
* خالد محمد جمعة – موظف:
موظف: كثيراً من الأحيان لم نستطع أن نحدد الولد من البنت!!..
اللبس المخالف للشرع دائماً ما يمنح المرأة صورة سوداء، ويجلب عليها سخط الرب كلما ارتدت هذه الشاكلة من البنطالين، والألبسة الغريبة.. أما الشباب من الأولاد فكثيراً من الأحيان - وللأسف - تنظر إلى الشاب وأنت تعتقد بأنه بنت، ولكن سرعان ما تتفاجأ بأنه ولد؛ للبسه الضيق الذي يرتديه مع التسريحة الغريبة!!..
* الخير عبد الغني كرار - معلم:
حجاب المرأة شمعة تضيء لها الأرض والدروب، ووردة تعطرها؛ ونخشى أن تكون الضحية؛ فتشرب من كأس الأعداء المسموم؛ فيجب أن تدرس مكايدهم، وتحفظيها حقيقة.. ونحن نصطدم بمثل هذه الصور المخجلة من بعض الفتيات اللاتي نزع عنهن لباس الحياء؛ واستبدلنه بارتداء لبس البنطال، أوغيره من الألبسة التي تكشف جسدها للجميع!!.. وما ينطبق على البنات ينطبق أيضاً على بعض الأولاد، وما يرتدونه من ألبسة غريبة، حتى تتخيل وكأنك في دولة غربية!!..
* محي الدين علي خليفة - صاحب بوتيك:
أكثر الذين يرتادون المحل بالطبع هم فئة الشباب، خاصة البنات الذين لهم طلب خاص في اختيار ملابس الموضة وآخر صيحاتها!!..
* محمد أحمد علي طمبل - رب أسرة:(/1)
إن الشرع أعطى المرأة، وحدد لها لبساً خاصاً ليسترها من الرجال الأجانب عنها الذين حددهم الإسلام؛ وهذا اللباس هو أمانها، وحصنها المنيع من كل شر إذا التزمت، وتقيدت به.. أماالشباب فحدث ولا حرج؛ فحتى المشية صارت غريبة؛ ناهيك عن لبس الموضة، و(عفنها) الذي شغلهم!!..
* إبراهيم ميرغني - رب أسرة:
يا ابني! مثل هذه الظواهر المتفشية اليوم لم تحصل من قبل في تاريخنا.. زمان كانت توجد هذه الصور السوداء التي نشاهدها باستمرار من بنات وأولاد صغار وهم في الحقيقة يقلدون أمهاتهم وآباهم في كل شيء.. وهذا لا غرابة فيه.. ويا حليل الزمن الزاهر!!..
* أحمد عيسى - طالب بجامعة أم درمان الإسلامية:
لا أعلم حقيقة ما الذي يدعو إلى هذا السفور؟!.. ألم تزجر نداءاتُ الحق جل وتبارك في كتابه؟! ألم تعلم هذه الفتاة أن تجاوزها نصوص القرآن والسنة حول تحريم السفور خروج عن نصوص الشريعة، وعصيان للمولى جلّ وتبارك؟!.. ليتها تفقه، وليتها - تلك التي فعلت ما فعلت أمام ناظري - تقرأ كلماتي؛ وتخبرني بحق: هل تمتلك من الثقة في نفسها ما يغنيها عن هذا الصنيع الممجوج المرفوض؟!؛ ذلك أنه كلما ضعفت ثقة المرأة بنفسها زاد اهتمامها بمظهرها.. فلتعلم الفتاة أو البنت أن الجمال في نظرنا نحن الرجال والشباب يكون في جمال النفس؛ وهو ما نضني أنفسنا في الجد والبحث عنه حالما نفكر في شريكة الحياة؛ فالدين أولاً.. والجمال ثانياً!!.. أما الأولاد فنقول لهم عودوا إلى رشدكم فإن الأمة تنتظركم، وأنتم أملها الوحيد في الخلاص ممَّا تعانيه اليوم!!..
* عصام عبد اللطيف - طبيب:
حقيقة المجتمع صارت فيه ظواهر يشيب لها الرأس؛ هولاً؛ من تعرٍّ، وسفور، وخلاعة ما أنزل الله بها من سلطان.. وهذا يعود للجهل بأمور الدين.. وكلما ضعفت المرأة بالثقة في نفسها زاد هذا من ارتفاع مظهرها؛ وهو شيء ممجوج، ومرفوض جملة وتفصيلاً؛ لأنه مخالف للشرع، ولفطرة المرأة التي جبلت عليها.. ومن المؤسف أن هؤلاء يفعلن هذا الفعل الشنيع بزعم أنه مظهر من مظاهر الجمال؛ ولكن حقيقة الدين هو الجمال الأساسي!!.. فلتتذكر المرأة المسلمة أن جمالها حر طليق إلا من قيدين اثنين كلاهما أجمل من الآخر وهما: (العفاف، والشرف)!!.. وأرجو ألا تنسَي هذين القيدين إذا ما عنّ لك داعي الفتنة، وأغواء الشيطان، ولتعلمي أن أعظم لباس يجمل المرأة هو لباس العفاف، والسعادة.. ولتعلم البنت أن اللبس الشرعي يرفعها قدراً، ويزيدها جمالا.. أما الأولاد فإن هوى اللبس والموضة أيضاً يسيطر عليهم!!..
* أم حقين حامد – موظفة:
خير النساء من عفّت، وكفّت، ورضيت باليسير، وأكثرت التزيين لكن لم تظهره إلا لزوجها.. أما الشاب إذا كان طيباًً فإنه سيختار المرأة الطيبة؛ وبالتالي سيكون أولادهم طيبين (وما في زول يكضب على نفسه)!!..
* وداد نجم الدين عبد العزيز - معلمة أساس:
إن المرأة بطبيعتها تميل إلى حب التزين والتجمل، وهذا من أصل فطرتها وتكوينها.. وفي هذا العصر كثرت السهام الموجهة إلى صلاح المرأة المسلمة، وجمالها الباطن؛ لكي تعيش همّا جديدا في حياتها اسمه الموضة؛ فتضيع وقتا كبيرا وثمينا من أجل زينة الظاهر.. والشباب كذلك يشملهم هذا الأمر، ويُبَذِّرون في ذلك أموالا كثيرة لمواكبة آخر ما أحدثته دور الموضة.. وهكذا يراد لأبناء المسلمين أن يعيشوا مشغولين بتوافه الأمور؛ متناسين عظيمها.
* حسين بدر الدين - خطيب مسجد بالكلاكلة:
إذا كنت وردة جميلة، وتتشدقين، وتقتنعين بذلك فاعلمي أن الوردة التي يشمّها كثيرون تفقد عبيرها، ورونقها.. وقيسي ذلك على نفسك عندما تتبرجين!!.. واعلمي أن أحرص إنسان على حمايتك هو أنت!!.. فعليك بما جاء في كتاب الله من آيات كثر كلها تنهى عن التبرج؛ قال تعالى: (يدنين عليهن من جلابيبهن)؛ فلا تطفئي مصباح عقلك بعواصف هوى نفسك!!.. نعم أيتها المرأة! أين عقلك حينما تتجاوزين نداء الله؟!.. ألم تعلمي أن العقل وزير ناجح، والهوى وكيل فاضح؟!.. حاسبي نفسك عند كل هوى للنفس يجرفك إلى الهاوية.. وهنا قول مأثور يدعونا إلى محاسبة النفس: (على العاقل أن يكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها بمطعمه ومشربه)!!..
* خديجة أبوعبيدة - طالبة بجامعة القرءان الكريم:
للأسف الشديد إن بعض الوالدين يساهم في هذا اللبس الخليع؛ فمنذ الطفولة الباكرة عندما نكون بصحبتهم في السوق يقومون بشراء هذه الملبوسات الضيقة لنا!!..
* رباب عبد الوهاب - ربة أسرة:(/2)
على المسؤولين في تلك الجامعات، والوزارات، والمؤسسات، أن يتقوا الله في هؤلاء الشباب، والشابات الذين هم أمانة في أعناقهم وسيتعلقون بهم يوم القيامة.. وعليهم أن يوقفوا الاختلاط في الجامعات، والمعاهد العليا؛ فإنه والله جريمة كبيرة، وجريرة عظيمة.. وليس التعليم من الأسباب الشرعية التي تبيح المحظورات؛ فما من عرض ينتهك في هذه الجامعات والمعاهد، ولا حياء يخدش، ولاشاب أو شابة يفسد، ولا فاحشة ترتكب، ولا زواج عرفي غير شرعي يتم إلا وكان على المسؤولين عن ذلك، وأولياء الأمور كفل من وزر ذلك كله.
* عبد الهادي عمر السيد – عامل:
دائماً الأسرة السوية تكون معروفة من خلال مظهر وأدب أبنائها مع الناس، أما خلاف ذلك فإن الأسرة تكون تائهة في دروب التحلل، والتفكك، وما إلى ذلك؟!..
* نادية حسين علي - طالبة بجامعة إفريقيا العالمية:
كل هذه الظواهر التي نراها من لبس خليع وسط البنات اليوم في رأيي تعود لمشاهدة الفضائيات التي غزت العالم بكل ما هو فاحش وبذيء؛ وهو مخالف لديننا الإسلامي؛ فعلى البنات والأولاد أن يتقوا الله عز وجل قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون!!..
* عثمان عبد الودود - خطيب مسجد:
إن المتأمل في تاريخ الصدمات التي وجهها الغرب الكافر إلى كثير من ديار المسلمين يرى أن قضية السفور، ونزع الحجاب من أولويات القضايا التي يبذلون لها كل جهد، ويجعلونها أساسا في تحطيم كل مجتمع إسلامي؛ حتى قال بعضهم: (لا تستقيم لنا حالة الشرق ما لم يرفع الحجاب عن وجه المرأة، ويغطى به القرآن)؛ وبهذه الطريقة نجحوا في كثير من مخططاتهم، ووصلوا عن طريقها إلى كثير مما يصبون إليه، وهم لم ينتظروها ثمرة تقر بها أعينهم ما بين عشية وضحاها، ولكن خططوا لها على مدى سنين طوال.. إن من أعظم مقاصد هذا الدين إقامة مجتمع طاهر، الخلق سياجه، والعفة طابعه، والحشمة شعاره، والوقار دثاره، مجتمع لا تهاج فيه الشهوات، ولا تثار فيه عوامل الفتنة، تضيق فيه فرص الغواية، وتقطع فيه أسباب التهييج والإثارة.. ولقد خصت المؤمنات بتوجيهات في هذا ظاهرة، ووصايا جليلة؛ فعفة المؤمنة نابعة من دينها، ظاهرة في سلوكها؛ ومن هنا كانت التربية تفرض الانضباط في اللباس سترة واحتشاما، ورفضا للسيرة المتهتكة، والعبث الماجن؛ فشرع الحجاب ليحفظ هذه العفة، ويحافظ عليها، شرع ليصونها من أن تخدشها أبصار الذين في قلوبهم مرض، لا سيما بعض الشباب الذين هم الآخرون ينافسون البنات في هذه الملابس القبيحة، وتكاد لا تميزهم عنهن في بعض الأحيان!!..
* عوض عبد الماجد - صاحب محل للملابس الرجالية - السوق العربي:
الذين يتراوح عمرهم ما بين ثمانية عشر عاماً إلى سبعة وعشرين يتجاوبون مع أي لبس يحمل توقيع الموضة!!..
* عبد الرحيم آدم - رب أسرة:
لقد امتن الله على عباده بما جعل لهم من اللباس كما قال تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير)؛ فاللباس لستر العورات؛ وهي السوءات، ولباس التقوى هو الإيمان، وخشية الله.. إن هناك تلازما بين اللباس لستر العورات، وبين التقوى؛ كلاهما لباس؛ هذا يستر عورات القلب، ويزينه، وذاك يستر عورات الجسم، ويزينه؛ وهما متلازمان؛ فمن الشعور بالتقوى، والحياء ينبثق الشعور باستقباح عري الجسد؛ والحياء منه؛ ومن لا يستحي من الله، ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرى، ولا أن يدعو غيره إلى العري (العري من الحياء والتقوى، والعري من اللباس؛ وكشف السوأة).. فكان من شرعه وأمره سبحانه وتعالى أن تستر العورات، ولا يبدى منها إلا ما أباحه؛ ليبقى الحياء قائدا في الناس، وتبقى الأعراض في حصن حصين؛ دون عبث أو انتهاك؛ فشرع للرجال عورة تناسبهم، وشرع للنساء عورة تناسبهن، لا يجوز لأيٍّ من الطائفتين أن تتجاوز حدود ما أمر به الله، وإن أي تجاوز لذلك لهو الخطوة الأولى إلى ميادين اللاَّحياء.. إن ستر الجسد للذكر والأنثى ليس مجرد اصطلاح، وعادات، وعرف بيئي كما تزعم الأبواق المسلطة على حياء الناس، والنساء، وعفتهم؛ لتدمر إنسانيتهم؛ وإنما هي فطرة خلقها الله في الإنسان، ثم هي شريعة أنزلها الله للبشر، ومن هنا يستطيع المسلم الواعي أن يربط بين الحملة الضخمة الموجهة إلى حياء الرجال والنساء وأخلاقهم، والدعوة السافرة لهم إلى التكشف والانحلال باسم الزينة والحضارة والتطور من جهة، وبين الخطة اليهودية لتدمير إنسانيتهم، وجعلهم يتزينون بزي الحيوانية وهي زينة التكشف والعري من جهة أخرى.. لقد أمر الله سبحانه إماءه بالحجاب والستر؛ فقال تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما).. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب).
* يحيى محمد يوسف - طالب بجامعة وادي النيل:(/3)
هذه الظاهرة متطورة يوماً بعد يوم، بل مما يندى له جبين المسلم الغيور أن هناك الكثير من الملابس الضيقة الكاشفة لأجساد المرأة لها أسماء قبيحة وهي من قبيل الاستهتار مثل (كّية في الشريعة، أديني حقنة، الشريعة طرشقت، كاشف رقم، ما في كومة، و...الخ)!!.. والأولاد يتتبعون الموضة الغربية؛ حتى جعلتهم ملتهين بها؛ فهذا يرتدي فنلة بها رسومات عارية لأمرأة، وهذا يرتدي قميصا به صورة تسيء لدينه وهو لا يعلم شيئاً!!..
* الشفيع وداعة الله خضر - موظف بنك:
هذه الظاهرة خطيرة، وتهدد المجتمع إذا لم يكن هناك انضباط، وللأسف فإن السبب الرئيسي يعود للأسرة نفسها عندما تخرج البنت أو الولد بهذه الكيفية الشيطانية!!..
* محمد البلولة إسماعيل – سائق:
السبب الأساسي في هذه الظاهرة يرجع للوالدين الذين يجتهدان في توفير لقمة الطعام والشراب لأبنائهم سواء كانوا أولادا أو بناتا ولكنهم لا يقفون على مراقبتهم؛ لا سيما بناتهم، وما يرتدونه في الخروج من المنزل!!..
* أبوبكر محمد حمد - تاجر:
أبشع ما يكون عليه الإنسان أن يكون ديوثاً؛ يرضى لعرضه أن ينتهك، ولا يهمه أن تخرج بنته بأي لبس ترتديه.. وأن يخرج ابنه كذلك بزي ضيق، وتسريحة قبيحة.. وإنا لله وإنا إليه راجعون!!..
* هيثم نور الدين كمال - معهد شروني:
إن هذا الغطاء الذي يستر الوجه والبدن هو علامة للمسلمة المحتشمة التي تدين لله بالخضوع والطاعة: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله).. لقد باتت دُور الأزياء، وصيحات الموضة تنسج لنساء وشباب المسلمين كل ما يخدش الحياء، ويفضي إلى التهتلك من الملابس الضيقة، والعارية، والقصيرة، والمفتوحة، وأصبحت مجلات الأزياء، وغيرها توجه الفتاة المسلمة، والشاب المسلم بكل خبث إلى نوع ما يرتديانه من ملابس في صيف عام كذا، أو في شتاء عام كذا؛، حتى غدت البنت والولد أسيرين لآخر الموديلات، وأحدث التقليعات التي فيها تشبه بالكافرات، ومحبتهم، والإعجاب بهم؛ وهذا قادح في كمال عقيدة المسلم..
لحد الركبتين تشمرينا
بربك أي نهر تعبرينا؟
كأن الثوب ظل في صباح
يزيد تقلعا حينا فحينا
تظنين الرجال بلا شعور
لأنك ربما لا تشعرينا
قال صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا)، وقال: (لعن الله المرأة تلبس لبسة الرجل، والرجل يلبس لبسة المرأة)..
* حسن ابن عوف أحمد - طالب بجامعة القرآن الكريم:
لقد شاع في هذا الزمان بين أوساط كثير من بنات وأولاد المسلمين محاذير في لبسهم، جعلتهم ينحرفون عن مسارهم الصحيح؛ هاجرين تعاليم ربهم، مقبلين على أهوائهم وشهواتهم؛ فإن المرأة إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وزين لها الظهور أمام الرجال بمنظر لافت؛ مثل لبسها للملابس البنطالية الضيقة، وخدعها بأن تمشي بطريقة معينة، إلى غير ذلك مما يزينه لها الشيطان.. وإن الله تعالى أراد من المرأة أن تكون في عزة وصيان؛ فشرع لها الحجاب وأمرها به، لتكون في حمى منيع، وحصن حصين، ولئلا تكون حقا مشاعا تتقلب في الاستمتاع بها كل عين، وتتأمل في جمالها كل نفس؛ بل إنها جوهرة مصونة، ودرة مكنونة، محفوظة أن تعبث بها الأيادي، ومستورة أن ترسل إليها السهام المسمومة؛ هكذا هي حين تتمسك بأمر ربها، وتصون حجابها.. ولا يخفى عظيم ما يتركه الحجاب من أثر في المجتمعات؛ من طهر، وصيانة، وحفظ للأعراض، وطمأنينة للنفوس، ونهوض إلى الغايات الساميات.. ولقد أدرك إبليس وجنده خطر ذلك الحجاب عليهم، ووقوفه عائقا أمام مخططاتهم، وأهدافهم التي يصبون إليها؛ فسعوا جاهدين في نزعه، وإحلال السفور مكانه؛ متبعين بذلك طريقة قائدهم الأول إبليس في تزيين القول وتنميقه؛ فلا تراهم يدعون إلى السفور صراحة، ولا إلى الأغلال مواجهة، ولكن يدعون إليه باسم التقدم، والحضارة، وباسم الحرية الشخصية، وباسم المساواة بين الرجل، والمرأة؛ وهكذا يدقون على أوتار حساسة في النفوس الضعيفة؛ حتى تنساق إلى دعوتهم، وتبارك خطوتهم!!.. أما الأولاد فإن بعضهم يقع في شباك الموضة!!..
* الزين عبد المحسن - مؤذن مسجد:(/4)
إن هذا الموضوع مهم وحساس؛ فقد بات العري شيئا طبيعيا على التلفاز، بل وحتى في شوارعنا وجامعاتنا، وانتشر الفساد بين الشباب والشابات الذين يرتدون ألبسة معاً ما أنزل الله بها من سلطان؛ والسبب هو الأفلام الهابطة، والأغاني المصورة بهدف إسقاط شبابنا وشاباتنا في الرذيلة؛ فلا تكاد تخلو قناة عربية من أغنية ساقطة، أو فنانة أو راقصة شبه عارية.. بل ربما ارتدوا فنلة أو قميصا وعليه صورة هذا الفنان أوهذه الفنانة.. وللأسف ذلك متاح لكل أفراد الأسره، الصغير منهم قبل الكبير، والبنت قبل الولد، والأب قبل الابن.. أنا لا أبالغ؛ ولكن هذا للأسف حال الكثير من بيوت المسلمين، وفي نهاية يومنا نطلب من الله النصر؟! كيف سيجيء هذا النصر؟!.
* الأمين الزبير المهدي - خطيب مسجد:
المسلسلات، والإغاني المثيرة ساهمت بصورة كبيرة في هذه الموجة العارمة التي دخلت أغلب المنازل..
* علام حسنين - خريج علم نفس:
دعني فقط أن أخصص حديثي عن البنات؛ فهذه المشاهدات التي يندى لها الجبين أقلقت ضمائرنا حول بعض البنات والأولاد الذين فتحوا المجال لاستقبال نفثات الغرب المسمومة، ودعاويه العابثة بصفاء، ونقاوة، وصدق الرجل والمرأة وأخلاقهما!!.. وقعت على تلك المرأة المسكينة المخدوعة يوم أن لبست البنطال الضيق، أو أي شيء آخر يكشف جسدها للناس.. علاوة على زينتها الأخرى الفاضحة، ومشيتها المثيرة للاستهجان.. في الوقت الذي تناست فيه أن زينتها الحقيقية ليست في الألبسة السافرة، والمتعرية؛ بل في شرف المرأة حين تنبذ التبرج، والتبهرج بمثل هذا البنطال أمام الملأ في الأسواق، والجامعات، والشوارع، و...إلخ.. أهذه ابنة الإسلام؟!.. أهذه بنت حواء التي رضعت لبن العقيدة؟!..
الرأي الشرعي:
كان لا بد من سماع أهل الشرع في أمر هذا الموضوع.. الشيخ عبد الحي يوسف رئيس قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم يقول:
(الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف المرسلين, وبعد:
لا يجوز للمرأة لبس البنطلون والخروج به لما في ذلك من التشبه بالرجال وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم (المتشبهات من النساء بالرجال) رواه البخاري.. وقد جرى العرف بأنّ هذا اللباس خاص بالرجال, ثم إنّ البنطلون يصف بدن المرأة ويكون سبباً للافتتان بها وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصناف أهل النار: (نساء كاسيات عاريات) رواه مسلم.. قال أهل الحديث: (كاسيات عليهن ثياب لكنهن عاريات لكونها رقيقة أو قصيرة أو ضيقة تصف أجسادهن).. أما إذا كان البنطلون من قماش يختص به النساء ولبسته المرأة في البيت لزوجها فلا حرج إن شاء الله) اهـ.
* ختاماً:
هذه الفتوى التي تحرم تشبه المرأة بالرجل في لبسه؛ فإن هذا الفعل يعتبر أكثر شناعة، وأبشع قبحاً؛ فلا يليق بالمرأة المسلمة المميزة بزيها الشرعي أن تعرض نفسها بأزياء متجددة هي غاية في العري والسفالة، وهو تصف جسدها، وهو مجلبة للافتتان بها كلما خرجت به..
وإذا كان هذا الأمر للمرأة فكذلك هو الحال بالنسبة للرجل؛ فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المرأة تلبس لبسة الرجل، والرجل يلبس لبسة المرأة؛ فلا ينبغي له أن يتشبه بالمرأة بارتدائه زياً متشبهاً بها أياً كان نوعه..(/5)
في أدب الدعوة والحوار
فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي
وأحب أن أركز هنا على عدة نقاط في أدب الدعوة والحوار، لما لها من أهمية خاصة:
أولا: يجب مراعاة حق الأبوة والأمومة والرحم، فلا يجوز مواجهة الآباء والأمهات بخشونة، ولا الإخوة ولا الأخوات بغلظة، بدعوى أنهم عصاة أو مبتدعون أو منحرفون، فإن هذا لا يسقط حقهم في لين القول، وخاصة الأبوين.
وحسبنا أن الله قال في حقهما: ((وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به عِلْمٌ فلا تُطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً )) (لقمان: 15 ).
وليس هناك ذنب أعظم من الشرك، إلا المجاهدة لتحويل المؤمن إلى مشرك، ورغم صدور هذا من الوالدين، نهى الله عن طاعتهما فيه، وأمر بمصاحبتهما بالمعروف.
ومن قرأ حوار إبراهيم عليه السلام لأبيه في القرآن ـ في سورة مريم ـ رأى كيف يكون أدب الأبناء في دعوة الآباء، ولو كانوا مشركين.
فكيف إذا كان الأبوان مسلمين، وإن عصيا وخالفا، فإن لهما، مع حق الوالدية، حق الإسلام؟
ثانيا: مراعاة حق السن، فلا ينبغي إسقاط هذا الفارق، ومخاطبة الكبير مخاطبة الصغير، ومعاملة الشيوخ كما يعامل الشباب، بزعم أن الإسلام يسوي بين الناس جميعا، فهذا فهم مغلوط للمساواة التي يراد بها: المساواة في الكرامة الإنسانية، والحقوق العامة. وهذا لا ينافي أن هناك حقوقاً خاصة يجب أن ترعى، مثل حقوق: القرابة والزوجية والجوار وولاية الأمر وغيرها.
ومن أدب الإسلام هنا: أن يحترم الصغير الكبير،كما يجب أن يرحم الكبير الصغير، وفي الحديث النبوي: " ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا " أي يعرف له حقه. وأي شيء أشد من هذه البراءة "ليس منا " مهما تأولها من تأول؟ (رواه أحمد عن عبادة بن الصامت بإسناد حسن بلفظ: ليس من أمتي. والطبراني والحاكم ).
وفي الحديث الآخر: "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم …. " (رواه أبو داود عن أبي موسى بإسناد حسن، كما في التيسير للمناوي: 1/347 ).
ثالثا: مراعاة حق السابقة، فمن كان له فضل سبق في الدعوة إلى الله، وتعليم الناس الخير، أو كان له بلاء حسن في نصرة دين الله تعالى، فلا ينبغي جحود فضله، وإهالة التراب على سابقته، أو الطعن فيه، لفتوره بعد نشاط، أو ظهور ضعف منه بعد قوة، أو تفريط بعد استقامه، فإن رصيده من الخير وسابقته في الجهاد تشفع له.
ولا أقول هذا من عند نفسي، بل هو ما قرره النبي صلى الله عليه وسلم في شأن حاطب بن أبي بلتعة، حين زلت قدمه إلى ما يشبه الخيانة، حيث كتب إلى مشركي قريش في مكة، يخبرهم بما أعده النبي صلى الله عليه وسلم من عدد وعدة لفتح بلدهم، هذا مع شدة حرصه عليه الصلاة والسلام على سرية التحرك.. وهذا ما جعل عمر بن الخطاب يقول : دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقد نافق: فكان الجواب النبوي الكريم "ما يدريكم: لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم ".
إن سابقة الرجل وجهاده يوم بدر- يوم الفرقان - جعلت النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يقبل منه اعتذاره، ويقول لأصحابه عن أهل بدر عامة ما قال.
عايشوا جماهير الناس
وأنصح الشباب -خامساً - أن ينزلوا من سماء الأحلام والمثالية المجنحة إلى أرض الواقع، ليعايشوا الناس، الجماهير من المواطنين والحرفيين والفلاحين والعمال وغيرهم من الجاهدين والمجاهدين، في الأحشاء الدقاق من المدن الكبيرة، إلى الحارات والأزقة، في القرى الكادحة، وسيجدون هناك الفطرة السليمة، والقلوب الطيبة، والأجسام المكدودة من العمل.
أوصي الشباب أن ينزلوا إلى هؤلاء في مواقعهم، ليسهموا في تعليم الأميين حتى يقرأوا، وفي علاج المرضى حتى يصحوا، وفي تقوية المتعثرين حتى ينهضوا، وفي مساعدة المتبطلين حتى يعملوا، وفي معاونة المحتاجين حتى يكتفوا، وفي توعية المتخلفين حتى يتطوروا، وفي تذكير العصاة حتى يتوبوا، والأخذ بيد المنحرفين حتى يستقيموا، وكشف المنافقين حتى يختبئوا، ومطاردة المرتشين حتى يرتدعوا، وإنصاف المظلومين حتى ينتعشوا.
على الشباب أن ينشئوا لجاناً لمحو الأمية، وجمع الزكاة وتوزيعها، ولإصلاح ذات البين، ولمحاربة الأمراض المتوطنة، ولمعالجة الإدمان على التدخين أو المسكرات أو المخدرات، ولمقاومة العادات الضارة، ونشر العادات الصالحة بديلاً عنها.
وما أكثر الميادين التي تحتاج إلى جهود الشباب، وعزائم الشباب، وحماس الشباب!
يا شباب الإسلام، لا تتقوقعوا على أنفسكم، تاركين الشعب وهم آباؤكم وأمهاتكم وإخوانكم وأرحامكم. انزلوا إلى الشعب واختلطوا به، وعيشوا في همومه، وشاركوه متاعبه، اربتوا على أكتاف المهمومين، امسحوا دموع اليتامى، ابتسموا في وجوه البائسين، خففوا الحمل عن كواهل المتعبين، أغيثوا الملهوفين، اجبروا كسر المكسورين، داووا جراح القلوب الحزينة، بموقف عملي، أو بكلمة طيبة، أو ببسمة صادقة.(/1)
إن القيام بخدمة المجتمع، وتقديم العون له ـ وخصوصاً للفئات الضعيفة فيه ـ عبادة رفيعة القدر، لم يحسنها كثير من المسلمين اليوم، برغم ما ورد في الإسلام من تعاليم تدعو إلى فعل الخير، وتأمر به، وتجعله فريضة يومية على الإنسان المسلم.
ولقد بينت في كتابي " العبادة في الإسلام ": أن الإسلام قد فسح مجال العبادة ووسع دائرتها، بحيث شملت أعمالاً كثيرة لم يكن يخطر ببال الناس أن يجعلها الدين عبادة وقربة إلى الله.
إن كل عمل اجتماعي نافع يعده الإسلام عبادة من أفضل العبادات، ما دام قصد فاعله الخير، لا تصيد الثناء، واكتساب السمعة الزائفة عند الناس، كل عمل يمسح به الإنسان دمعة محزون، أو يخفف به كربة مكروب، أو يضمد به جراح منكوب، أو يسد به رمق محروم، أو يشد به أزر مظلوم، أو يقيل به عثرة مغلوب، أو يقضي به دين غارم مثقل، أو يأخذ بيد فقير متعفف ذي عيال، أو يهدي حائراً، أو يعلم جاهلاً، أو يؤوي غريباً، أو يدفع شراً عن مخلوق، أو أذى عن طريق، أو يسوق نفعاً إلى ذي كبد رطبة، فهو عبادة وقربة إلى الله إذا صحت فيه النية.
أعمال كثيرة من هذا النوع جعلها الإسلام من عبادة الرحمن، وشعب الإيمان، وموجبات المثوبة عند الله تعالى.
وإننا لنقرأ أحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، فنرى أنه لم يكتف بفرض هذه العبادة العامة على الإنسان من حيث هو إنسان فحسب، بل يشتد في طلبها، فيفرضها على كل ميسم من مياسمه، أو كل مفصل من مفاصله!
فيروي أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل سلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس : يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل في دابته، فيحمله أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة " (متفق عليه ).
ويروي ابن عباس نحو هذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "على كل ميسم من الإنسان صلاة كل يوم! فقال رجل من القوم: هذا من أشد ما أنبأتنا به! قال: أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صلاة، وحملك عن الضعيف صلاة، وإنحاؤك القذر من الطريق صلاة وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صلاة " (رواه ابن خزيمة في صحيحه ).
ونحو ذلك ما رواه بريدة عنه صلى الله عليه وسلم قال: "في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة. قالوا : فمن يطيق ذلك يا رسول الله؟ - ظنوها صدقة مالية- قال: النخامة في المسجد تدفنها، والشيء تنحية عن الطريق.. " (رواه أحمد وأبو داود وابن حزيمة وابن حبان ).
وقد وردت أحاديث عديدة تجعل تبسم المسلم في وجه أخيه صدقة، وإسماع الأصم، وهداية الأعمى، وإرشاد الحيران، ودلالة المستدل على حاجته، والسعي بشدة الساقين مع اللهفان المستغيث، والحمل بشدة مع الضعيف، وما يدور في هذا الفلك من الأعمال، عده رسول الله عبادة كريمة، وصدقة طيبة.
وبهذا يعيش المسلم في مجتمعه ينبوعاً يفيض بالخير والرحمة، ويتدفق بالنفع والبركة، يفعل الخير ويدعو إليه؛ ويبذل المعروف ويدل عليه، فهو مفتاح للخير، ومغلاق للشر، كما حثه النبي الكريم، كما في حديث ابن ماجه "طوبى لعبد جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر ".
يقول بعض المتحمسين:
ولكن هذه الأعمال الاجتماعية تعطل المشتغل بها عن نشر الدعوة إلى الإسلام، وتوعية الناس بحقيقته، وهذا أوجب ما يجب الاشتغال به.
وأقول لهؤلاء: إن العمل الاجتماعي هو لون من الدعوة، فهي دعوة للناس في مواقعهم، وهي دعوة مقترنة بالعمل.
فالدعوة ليست مجرد كلام يقال أو يكتب، بل الاهتمام بأمر الناس، وحل مشكلاتهم يقربهم من الفكرة، ورحم الله الإمام حسن البنا، فقد وعى ذلك كل الوعي، وأنشأ مع كل شعبة يفتحها قسماً للبر والخدمة الاجتماعية.
ثم إن المسلم مأمور بفعل الخير للناس، مثلما أمر بالركوع والسجود وعبادة الله تعالى. يقول القرآن: ((يأَيُّهَا الّذينَ آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون. وجاهدوا في الله حقّ جهاده هو اجتباكم.. )) (الحج: 77/78 ).
فهذه شعب ثلاث لرسالة المسلم في الحياة: شعبة تحدد علاقته بالله، وتتمثل في عبادة الله تعالى.. وشعبة تحدد علاقته بالمجتمع، وتتمثل في فعل الخير.. وشعبة تحدد علاقته بقوى الشر، وتتمثل في الجهاد في الله حق الجهاد..
فمن شغل نفسه بفعل الخير في المجتمع لم يشغل نفسه إلا بما أوجب الله عليه، ومن فعل ذلك فهو مأجور عند الله، محمود عند الناس.
ويقول بعض هؤلاء المتحمسين أيضاً:
إن جهود الداعين إلى الإسلام يجب أن تتركز في إقامة الدولة الإسلامية، التي تحكم بما أنزل الله، وتقيم الحياة كلها على أساس الإسلام ، تطبقه في الداخل، وتبلغه في الخارج.(/2)
وحين تقوم هذه الدولة، ستتولى هي كل ما ذكرت من حاجات المجتمع ومطالبه، ستوفر التعليم لكل جاهل، والعمل لكل عاطل، والضمان لكل عاجز، والكفاية لكل محتاج، والدواء لكل مريض، والإنصاف لكل مظلوم، والقوة لكل ضعيف... وعلينا أن نعمل لإيجاد هذه الدولة، ولا نضيع الوقت في ترقيعات جزئية، وإصلاحات جانبية، أشبه بالأقراص المسكنة للآلام، وليست بالأدوية التي تستأصل الأمراض من جذورها. ونقول لهؤلاء الإخوة:
إن إقامة الدولة المسلمة، التي تحكم بشريعة الله، وتجمع المسلمين على الإسلام ، وتوحدهم تحت رايته، فريضة على الأمة الإسلامية، يجب أن نسعى إليها، وعلى الدعاة إلى الإسلام أن يعملوا بكل ما يستطيعون للوصول إليها، متخذين أمثل المناهج، سالكين أفضل السبل، ليجمعوا الجهود المبعثرة، ويقنعوا العقول المرتابة، ويزيحوا العوائق الكثيرة، ويربوا الطلائع المنشودة، ويهيئوا الرأي العام المحلي والعالمي لتقبل فكرتهم وقيام دولتهم.
وهذا كله يفتقر إلى وقت طويل، وصبر جميل، حتى تتهيأ الأسباب، وتزول الموانع، وتتوافر الشروط، وتنضج الثمرة.
وإلى أن يتحقق هذا الأمل، ينبغي أن يشتغل الناس بما يقدرون عليه، ويتمكنون منه، من خدمة لأهليهم، وإصلاح لمجتمعاتهم، التي يحيون بين ظهرانيها، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. على أن في ذلك تربية للطلائع المرجوة، وصهراً لها، وامتحاناً لقدرتها على قيادة المجتمع والتأثير فيه.
ولا يجمل بمسلم يرى مريضاً يستطيع أن يقدم له العلاج عن طريق مستوصف شعبي، أو مستشفى خيري، فيرفض ذلك حتى تقوم الدولة الإسلامية، فتتولى هي علاج المرضى!
ولا يحسسن بمسلم يرى الفقراء والأرامل والعاجزين، وهو قادر على أن يعاونهم بإنشاء صندوق للزكاة، يأخذها من الأغنياء ليردها إلى الفقراء، فلا يفعل حتى تقوم الدولة المسلمة، فتقوم هي بهذا الدور، عن طريق تكافل اجتماعي شامل.
ولا يليق بمسلم يرى الناس من حوله يختصمون ويقتتلون، فيقف متفرجاً، ونار الخصومة تأكل أخضرهم ويابسهم، منتظراً قيام الدولة الإسلامية، لتصلح بين الناس بالقسط، وتقاتل الفئة التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله.
إنما الذي يليق بالمسلم أن يقاوم الشر ما أمكنه، ويفعل الخير ما استطاع، ولا يقف مكتوف اليدين، وفي قدرته أن يعمل مثقال ذرة من خير، والله تعالى يقول: ((فاتّقوا الله ما استطعتم )) (التغابن : 16 ). ولقد ضربت مثلا للدولة المسلمة المنشودة بأشجار الزيتون والنخيل تغرس في بستان، لا ينتظر أن تؤتي ثمارها إلا بعد سنين، فهل يقف صاحب البستان بلا عمل يعمله، ولا ثمرة يقطفها، حتى يثمر النخيل والزيتون؟ كلا، إنه يزرع من الخضروات والزروع ما هو أسرع نتاجاً وأقرب ثمرة، وبذلك يخصب أرضه، ويعمر وقته، ويشغل نفسه بما ينفعه وينفع من حوله، وفي الوقت ذاته يتعهد زيتونه ونخله بالرعاية حتى يأتي أوان حصاده بعد حين.
أحسنوا الظن بالمسلمين
وأنصح أبنائي الشباب ـ سادساً وأخيراً ـ أن يخلعوا منظارهم الأسود، عندما ينظرون إلى الناس، وأن يفترضوا الخير في عباد الله، ويقدموا حسن الظن، وأن يعلموا أن الأصل هو البراءة، وحمل حال أهل الإسلام على الخير.
ومما يساعد على هذا السلوك المتفائل نظرات ثلاث:
الأولى: أن يعاملوا الناس باعتبارهم بشراً على الأرض، وليسوا ملائكة أولي أجنحة، فهم لم يخلقوا من نور، وإنما خلقوا من حمأ مسنون، فإذا أخطأوا فكل بني آدم خطاء، وإذا أذنبوا فقد أذنب أبوهم الأول : ((ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً ))
(طه : 115 ).
فلا غرابة إذن أن يعثر الناس وينهضوا، وأن يخطئوا ويصيبوا، وعلينا أن نفتح لهم باب الأمل في عفو الله ومغفرته، بجوار تخويفهم من عقاب الله وبأسه، فالعالم كل العالم من لم يوئس عباد الله من روح الله، ولم يؤمنهم من مكر الله، وحسبنا هنا قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم (( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذّنوب جميعاً. إنّه هو الغفور الرّحيم )) (الزمر : 53 ). فانظر إلى إيناسه سبحانه لهم، حين ناداهم "يا عبادي " وأضافهم إلى ذاته المقدسة، تلطفاً بهم، وتقريباً لهم من ساحته، ثم كيف فتح باب المغفرة على مصراعيه لكل الذنوب، فإنها مهما عظمت فعفو الله أعظم منها.
الثانية: أننا أمرنا أن نحكم بالظاهر، وأن ندع إلى الله أمر السرائر، فمن شهد أن "لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله" حكمنا بإسلامه، في ظاهر الأمر، وتركنا سريرته إلى علاّم الغيوب، يحاسبه عليها يوم تظهر الخفايا، وتنكشف الخبايا، وفي الصحيح "أمرت أن أقاتل النّاس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها، وحسابهم على الله ".(/3)
ولهذا عامل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين ـ الذين يعلم نفاقهم الباطن ـ حسب ظواهر هم، وأجرى عليهم أحكام الإسلام ، وهم يكيدون له في الخفاء، ولما اقترح عليه بعض الناس أن يقتلهم ويستريح من شرهم ومكرهم، أجابهم بقوله: "أخشى أن يتحدّث الناس أن محمداً يقتل أصحابه! ".
الثالثة: أن كل من آمن بالله ورسوله، لا يخلو من خير في أعماقه، وإن انغمس ظاهره في المعاصي، وتورط في الكبائر. والمعاصي ـ وإن كبرت ـ تخدش الإيمان وتنقص منه، ولكنها لا تقتلعه أبداً من جذوره، ما لم يفعلها من يفعلها متحدياً لسلطان الله تعالى، أو مستحلاً لحرماته، ومستخفاً بأمره ونهيه.
وأسوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان أرفق النّاس بالعصاة، ولا تمنعه معصية أحدهم أن يفتح له قلبه، وينظر له نظرة الطبيب إلى المريض، وليس نظرة الشرطي إلى المجرم.
"جاء فتى من قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الزنى، فثار الصحابة وهموا به، لجرأته على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وقف منه موقفاً آخر: قال : ادنُه. . فدنا، فقال: أتحبّه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك! قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، ثم قال له مثل ذلك في ابنته وأخته وعمته وخالته.. في كل ذلك يقول: أتحبه لكذا؟ فيقول: لا والله، جعلني الله فداك، فيقول صلى الله عليه وسلم : ولا الناس يحبونه .. فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصن فرجه.. فلم يكن بعد ذلك يلتفت إلى شيء " (رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح، كما في مجمع الزوائد : 1/129 )، وإنما عامله صلى الله عليه وسلم بهذا الرفق، تحسيناً للظن به، وأن الخير كامن فيه، والشر طارئ عليه، فلم يزل يحاوره حتى اقتنع عقله، واطمأن قلبه إلى خبث الزنى وفحشه، وكسب مع ذلك دعاء النبي صلى الله عليه وسلم .
قد يقال: هذا رجل لم يقترف المعصية بعد، فهو أهل أن يعامل بالرفق والملاينة، بدل الفظاظة والمخاشنة.
فإليك هذا المثل، وهو تلك المرأة الغامدية التي زنت، وهي محصنة، وحملت من الزنى، وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليطهرها بإقامة الحد عليها، فما زالت به حتى أقام عليها الحد، ولمما بدرت من خالد بن الوليد جملة فيها سبها، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : "أتسبها يا خالد؟ والله لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين بيتاً من أهل المدينة لوسعتهم! وهل ترى أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل؟ " (رواه مسلم وغيره ).
قد يقال : هذه عصت، ولكنها تابت..
فإليك هذا المثل الأخر:
هذا الصحابي الذي ابتلي بالخمر وأدمنها، وأتي به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة شارباً، فيضرب ويعاقب، ثم يغلبه إدمانه أو شيطانه، فيعود إلى الشرب، ثم يؤتى به، فيضرب ويعاقب.. وهكذا عدة مرات، حتى قال بعض الصحابة يوماً، وقد جيء به شارباً: ما له لعنه الله؟ ما أكثر ما يؤتى به!
وهنا لم يسكت النبي صلى الله عليه وسلم على لعن هذا المسلم، رغم مقارفته لأم الخبائت، وظهور إصراره عليها وإدمانه لها، وقال للاعنه: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله.
وفي رواية: لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم!
فانظر رحمك الله وإيانا إلى هذا القلب الكبير كيف وسع هذا الإنسان وأحسن به الظن، رغم تلطخه بالإثم! وكيف لمح كوامن الخير في أعماقه، برغم ظواهر الشر على غلافه! فوصفه بأنه " يحب الله ورسوله " ولهذا نهى عن لعنه، لأن هذا يحدث فجوة بينه وبين إخوانه المؤمنين، فيبتعد عنهم، ويبتعدون عنه، وهنا يقترب منه الشيطان، وهذا من أسرار قوله "لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم " ولم يفصم عروة الأخوة بينه وبينهم، بسبب المعصية، وهي كبيرة تكررت، لأن أصل الإسلام يجمعهم به، ويجمعه بهم.
فليفقه هذه النظرة النبوية العميقة، وهذه التربية المحمدية العالية، أولئك الذين يسيئون الظن بجمهور الناس، ويسقطون عصاتهم من الحساب، وليتعلم من هذا الدرس المنزلقون إلى بدعة التكفير بالمعاصي، فلو فقهوا وتأملوا، لعلموا أن الذين يكفرونهم ليسوا مرتدين يجب أن يقتلوا، بل جاهلين بحقيقة الدين يجب أن يعلموا، أو متورطين في المعصية بتأثير صحبة السوء وبيئة السوء يجب أن ينقذوا، أو غافلين عن الآخرة بمشاغل الدنيا يجب أن ينبهوا ويذكروا، والذكرى تنفع المؤمنين.
إن لعن الناس ولو كانوا عصاة منحرفين، لا يصلحهم ولا يقربهم من الخير، بل هو أحرى أن يبعدهم عنه، وأولى من هذا الموقف السلبي أن تتقدم من أخيك العاصي، فتدعوه أو تدعو له، ولا تدعه فريسة للشيطان.. وقد قال الحكيم: بدل أن تلعن الظلام أضئ شمعة تنير الطريق!
هذا ما أردت أن أنصح به لأبنائي من شباب الإسلام المتوقد، الذين أكن في قلبي أعمق الحب لهم، وأعظم الاشفاق عليهم، ولا أقول إلا ما قال خطيب الأنبياء، شعيب عليه السلام: ((إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أُنيب )) (هود: 88 ).(/4)
** وفي ختام هذه المائدة لا يسعنا إلا أن نشكر المؤلف الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله على هذا البحث القيم والذي كان كتابا بعنوان: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف إصدار مؤسسة الرسالة ونشكر كل من أدلى بدلوه في هذه المائدة وسنعرض عليكم ما وصلنا من نقد وردود وإلى أن نجتمع على مائدة قادمة بإذن الله تقبلوا فائق تحيات أسرة شبكة الفرسان الإسلامية والسلام عليكم.(/5)
في أرض فلسطين
بقلم أبو الحسن الندوي
تحركت السيارات التي كانت تقل ضيوف المؤتمر الإسلامي المنعقد في القدس عام (1350هـ -1931م) ودخلت في الفضاء الواسع، وطلعت الشمس؛ وأرسلت خيوطها الذهبية، كأنها جداول نور نبعت من عين الشمس.
ولم يزل الشروق مصدر سرور وإلهام للشعراء، يجدون فيه الحياة للقلب والنشاط للفكر؛ والتقى جمال المكان بجمال الزمان. فأثار ذلك الشاعرية في الشاعر العظيم والفيلسوف الكبير الدكتور محمد إقبال، وبدأ يتمتع بهذا المنظر الخلاب، ويسخو بنظراته –التي يحتفظ بها الشعراء – في سبيل القلب، فكل نظرة تضيع في جمال الطبيعة ترجع إلى القلب بالربح العظيم، لأنها تشحن (بطاريته) بالنور الجديد، والقوة الجديدة.
هذا وقد تهيأ الجو، وتوفرت الأسباب لإمتاع الشاعر العظيم، وإثارة قريحته. فقد غطت الجوَّ سحائب ذات ألوان، واكتست جبال فلسطين بطيلسان جميل، زاهي اللون، وهبّ النسيم عليلاً بليلاً، وهفت أوراق النخيل مصقولة مغسولة بأمطار الليل، وأصبحت الرمال في نعومتها وصفائها حريراً.
ورأى الشاعر العظيم آثار نيران انطفأت قريباً، وأثافي(1) منثورة هنا وهناك، وبقايا من خيام وأخبية، ضربت في هذه الصحراء بالأمس القريب، تخبر بالقوافل التي أقامت ثم ظعنت.
وطاب المكان والزمان للشاعر، وسمع كأن منادياً من السماء يحثه على أن يلقي عصا التسيار، ويؤثر بإقامته(2).
حرّك هذا المنظر البديع في هذا المكان الرفيع، الذي أكرمه الله بجمال الطبيعة والرسالات السماوية، عواطفَ الشاعر وهاجت قريحته، وتحرك الحب الدفين؛ ومن شأن هذه المناظر أن تثير الدفائن وتظهر الكوامن، فيتذكر الإنسان أحبّ شيء إليه فيحن إليه، ويتمثله، ويتغنى به.
وقد حلَّ (الإسلام) وحلت الأمة الإسلامية في قلبه محل الحبيب الأثير، وسيطر حبه على مشاعره؛ فما كان من الشاعر إلا أن تذكر (حبيبه) وتغنى بجماله ومحاسنه، وركز آماله وأحلامه عليه، وقال بلسان الشاعر العربي البليغ:
ولمّا نزلنا منزلاً طلُّه الندى أنيقاً وبستاناً من النور حاليا
أجدَّ لنا طيبُ المكان وحُسْنُه مُنىً، فتمنينا، فكنت الأمانيا
وثارت فيه العواطف والخواطر، ورأى أن ركب الحياة بطيء لا يسايره في أفكاره الجديدة، وخواطره الوليدة، ورأى أن العالم عتيق شائب، وفكره (الإسلامي) جديد فتيّ، ورأى أن العالم قد تجددت فيه أصنام وأوثان، وبنيت هياكل جديدة يعبد فيها صنم (القومية) و(الوطنية) واللون، والجنس، والنفس، والشهوات، وقد تسربت هذه الوثنية إلى العالم الإسلامي والعربي، أفليس العالم في حاجة إلى ثورة إبراهيمية جديدة، إلى كاسر الأصنام، يدخل في هذا الهيكل فيجعل هذه الأصنام جُذاذاً؟
وسرّح طرفه في العالم الإسلامي، فوجد إفلاساً محزناً في العقل والعاطفة، رأى العالم العربي قد ضعف في إيمانه وعقيدته، وفي لوعته وعاطفته، ورأى العالم العجمي قد فقد العمق والسعة في التفكير، ورأى أن النظام المادي، والحكم الجائر المستبد ينتظر ثائراً جباراً جديداً، يغضب للحق، ويثور كالليث، ويمثل الحسين بن علي في حميته وفروسيته، ورجا العالم الإسلامي أن يطلع هذا الثائر من ناحية بلد عربي، ويفاجئ العالم بصراحته وشجاعته، وتطلّع العالم إلى الحجاز –معقل الإسلام وعرين الأسود- فما كان منه إسعاف وإنجاد، ولم تتجدد معركة كربلاء، على ضفاف دجلة والفرات، مع شدة حاجة الإنسانية إلى ذلك، ورغم شدة حنين العالم الإسلامي إلى بطله الجديد.
وهنا شعر محمد إقبال أن السبب في هذا التحول العظيم، هو ضعف العالم الإسلامي في العاطفة والحب، الذي هو مصدر الثورات والبطولات، فانطلق يشيد بفضل الحب وتأثيره، ويقول:
"لابد أن يعيش العقل والعلم والقلب في حضانة الحب، وإشرافه وتوجيهه.
ولابد أن تسند الدين وتغذيه عاطفة قوية، وحبٌّ منبعه القلب المؤمن الحنون.
فإذا تجرّد الدين عن العاطفة والحب، أصبح مجموعة من طقوس، وأوضاع، وأحكام لا حياة فيها ولا روح، ولا حماسة فيها ولا قوة.
هذا الحب الذي صنع المعجزات، هو الذي ظهر في صدق الخليل، وصبر الحسين، وهو الذي تجلّى في معركة بدر وحنين".
وهنا يُقبل الشاعر الكبير على "المسلم" الذي دائماً يستهين بقيمته، ويجهل مكانته وشخصيته، فيقول:
"إنك غاية وجود هذا الكون.
ولأجلك خلق الله هذا العالم، وأبرزه إلى الوجود.
وأنت البغية المنشودة، التي هام في سبيلها الهائمون، وحار في الوصول إليها الباحثون".
ثم يستعرض العالم الإسلامي –وقد عرف شرقه وغربه، وعربيّه، وعجميّه- فيُحزنه قِصر النظر، وقلة الذوق في رجال العلم والثقافة، وسقوط الهمة وقلة البضاعة(3) في رجال الدين.
ويرى أن المراكز العلمية والدينية –بمعناها الواسع- محرومة من عمق الفكر، وسلامة الذوق، والنشاط العقلي، والطموح الذي كان سمة هذه المراكز، التي تتزعم العالم الإسلامي، وتقود الأجيال البشرية. ويقول:(/1)
"إني هائم في شعري وراء الشعلة التي ملأت العالم أمس نوراً وحرارة، وقد قضيت حياتي في البحث عن تلك الأمجاد التي مضت، وأولئك الأبطال الذين رحلوا، وغابوا في غياهب الماضي.
إن شعري يوقظ العقول، ويهزّ النفوس ويربّي الآمال في الصدور، ولا عجب إذا كان شعري يملأ القلوب حماسة وإيماناً، وكان وقعه في النفس كبيراً وعميقاً، فقد سالت في شعري دموعي ودمائي، وفاضت فيه مهجتي، ودعائي أن لا يخفف الله من هذا الجوى، بل أسأل الله المزيد والجديد".
ثم يقبل في شعره على الله، ويذكر كيف أحاطت تجلياته بالوجود، وكيف صغر هذا الكون الواسع، وكأنه ذرّة حقيرة أو قطرة صغيرة، في جنب هذه السعة التي لا نهاية لها.
وكيف أشرق نوره على ذرة، فكانت شمساً بازغة.
وكيف تجلّى بالجلال، فكان في الأرض ملوك كبار ساقوا الأمم وحكموا العالم.
وكيف تجلّى بالجمال، فكان زهاد وعباد، زهدوا في متاع الدنيا ورفقوا بخلق الله.
ويقول:
"إن الحنين إليك، هو حادي الروح ورائد القلب، وهو الذي يُضفي على صلاتي، وعبادتي حياة روحانية، فإذا تجرّدت صلاتي من هذا الحنين، لم أر أنها تقرّبني إليك.
لقد وجد عندك العقل والعاطفة، ما يعوزهما وما يحتاجان إليه، فأصبح العقل –بعد توفيقك- يغيب أحياناً، ويهيم في البحث بعدما كان قد ركد، واقتصر على الدراسة والتفكير، ووثق بنفسه، وعرفت العاطفة الحضور والاضطراب".
ويناجي ربه ويقول:
"إن الشمس لم تستطع أن تنير هذا العالم المظلم، وقد آن أن تشرق الأرض بنور ربها، ويعيش العالم من جديد".
ويعترف أمام الله بأنه لم يكن سعيداً في دراساته العلمية، الطويلة الواسعة، وأنه قد اتضح له أخيراً أن المعلومات لا تعطي الثمرات، وليس كل من درس علم النخيل تمتع بالرّطب.
ويذكر الصراع بين العقل والعاطفة، والمصلحة والإيمان، ذلك الصراع الذي لم يزل، ولا يزال قائماً حامياً.
ويذكر معركة قامت، في فجر التاريخ الإسلامي، بين المادة والإيمان، حمل لواء المادة فيها أبو لهب وأضرابه، ورفع راية الإيمان فيها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولكل حلفاء، ولكل معسكر(4).
فلينظر العالم العربي إلى أي معسكر ينضم؟
إلى معسكر المادة والمعدة، أم إلى معسكر الإيمان والإخلاص؟
وإلى أي راية ينضوي؟
إلى الراية الجاهلية التي قاتل تحتها أبو جهل وأبو لهب، أم إلى الراية المحمدية التي التفّ حولها أبو بكر وعمر؟
الهوامش
(1) الأثافي: الحجارة التي توضع عليها القدور.
(2) الوصف للمكان والمنظر لإقبال، نقلناه إلى العربية في لفظنا.
(3) المراد منها البضاعة العلمية والدينية وما هم بصدده.
(4) من (بال جبريل) ديوان شعر لإقبال. قصيدة (ذوق وشوق).(/2)
في إشراقة أية كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ )
د. عبد الكريم بكار
يشكل انهيار العلاقات الاجتماعية إحدى أهم المشكلات التي تعاني منها المجتمعات الحديثة حيث نما الشعور بالفردية والتوحد، وحُكمت المصالح الخاصة في كثير من شئون الحياة، وقد أصاب أمة الإسلام شيء من ذلك، فاضمحلت ضوابط التربية الاجتماعية التي تشكل الحس الجماعي لدى الفرد المسلم مما أشاع الفوضى الفكرية والاجتماعية، وضخم مشاكل المسلمين الاقتصادية لأن عمليات التنمية لا تتم على ما ينبغي في مجتمع واهي الروابط مختلف الأفكار والمفاهيم.
ومن هنا شددت تعاليم الإسلام على ضرورة المحافظة على العلاقات الاجتماعية وإقامتها باستمرار على هدي الرسالة الخاتمة التي تعد استمراراً لدعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وتحقيقاً لذلك التواصل قصَّ الله - تعالى -علينا أخبار الأمم السابقة والعواقب الوخيمة التي انتهوا إليها حين شاعت فيهم الانحرافات والمخالفات دون أن يرفع أحد منهم رأساً أو يقول كلمة لأولئك الذين يستعجلون أيام الله لأنفسهم ولأممهم فقال - تعالى -: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة: 78-79].
فقد أجرم القوم مرتين: مرة حين وقعوا في الآثام، وأخرى حين تركوا المعاصي تشيع فيهم دون أن تسود فيهم روح التناهي عنها.
وقد جاء في الحديث ما يفسر تدرجهم نحو الحال التي استوجبت لهم اللعن، فقد روى ابن مسعود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: » إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا..) « [1] لقد طال العهد بصالحي بني إسرائيل فبدأت المناكر تزحف إلى حياتهم عن طريق أهل الأهواء والشهوات، وكان فيهم صالحون فقاموا ونهوا أصحاب المعاصي ووعظوهم ولكن هؤلاء تأصل فيهم المنكر وصار النزوع عنه أمراً عسيراً، وكان الأمر يتطلب من صالحيهم جلداً وصبراً ومفاصلة إلا أن درجة التوتر الحيوي عند أولئك الصالحين لم تكن كافية بحيث يشعرون بالتميز ويشكلون تياراً نشطاً يحاصر أولئك العصاة ويشعرهم بالشذوذ والإثم...
وكانت المرحلة التالية سيطرة شعور العجز والضعف على أولئك الصالحين مما جعلهم يخالطون أهل المعاصي ويرضون عن أعمالهم أو يظهر للناظر أنهم كذلك فضاعت معالم الحق وجاءت أجيال تالية فنشأت في الانحراف وشبت فيه وصار التفريق بين المعروف والمنكر أمراً غير متيسر لكل الناس.
وكانت العاقبة أن ضرب الله قلوبهم بعضهاً ببعض، وهذه العبارة في الحديث النبوي ترمز إلى حالة من الفوضى المصحوبة بالعذاب حيث فقدت تجمعاتهم الشروط الضرورية لبقائهم واستمرارهم المادي والمعنوي فكانت أيام الله في خاتمة المطاف جزاء ما فعلوا.
إن كل مجتمع مهما بلغ من الفضل والرقي لا يستغنى عن شريحة فيه تتمثل فيها المثل العليا لذلك المجتمع تحفظ عليه وجوده المعنوي المتمثل في عقيدته وأخلاقه وضوابط علاقاته وهؤلاء يمثلون الخيرية في ذلك المجتمع كما قال - عليه الصلاة والسلام -: »ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له في أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون...« [رواه مسلم].
إن هؤلاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر يملكون من التوهج في أرواحهم والحيوية في نفوسهم ما يجعل همَّ مجتمعهم همهم الأكبر، فيسعد بهم ذلك المجتمع إذ يحفظون عليه توازنه واستقامته وشروط استمراره، وكما لا يشترط لصحة المجتمع جسمياً وبيئياً أن يكون كل أفراده من الأطباء كذلك لا يشترط في المجتمع المسلم أن يكون كل أفراده من الدعاة الناصحين ولكن ينبغي أن تتوفر نسبة كافية في المجتمع مسموعة الصوت واضحة التأثير تملأ الفراغ الثقافي وتملك من الوسائل المؤثرة ما يسمح باستمرار وضوح جادة الحق والخير والصواب ويسمح باستمرار سنة المدافعة بين الحق والباطل على وجه مكافىء وهذا ما يشير إليه قوله عز اسمه: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104].(/1)
وقد جرت سنة الله في الابتلاء أن تلقى هذه الفئة الطيبة الخيرة المُحَارَبة دائماً وتلقى الأذية والعنت وما ذلك إلا لأنها تسير في الاتجاه المضاد لأهل الشهوات والأهواء الذين يمكن أن نسميهم بـ (المختزلة) حيث يكثفون هموم البشرية كلها في هم واحد هو همهم، ويتجاوزون رغبات الخلق ومصالحهم مهما عظمت إلى رغباتهم ومصالحهم هم، وعلى كل حال فإن الذي يظن أنه باستطاعته أن يسير في دروب الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - مقوماً للمعوج ومحارباً للأهواء والشهوات وناصراً للمظلوم ثم لا يلحقه شيء مما لحق بهم فهو واهم في ذلك وإلى هذا أشار لقمان وهو يعظ ابنه حين قال: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [لقمان: 17] فقد أشعر ابنه بما يلحقه من الأذية إذا هو قام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولكن نظراً للأخطار التي تهدد الأمة بخلوِّها من هذه الشريحة المباركة التي تعد قلبها النابض وبصيرتها النافذة فإن الله - تعالى -قرن محاربة هذه الفئة بالكفر به وقتل رسله حيث قال - جل وعلا -: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) [آل عمران: 21-22].
واليوم والأمة تسعى جاهدة إلى الخروج من نفق الظلمات نافضة عنها غبار الضعف والفرقة والتبعية والتخلف؛ تكثر المشاريع الحضارية المطروحة في البلاد الإسلامية من قبل أهل العلم والفكر، كما يكثر الضرب في الأرض لدراسة التجارب الحضارية الحديثة والمعاصرة للأمم الأخرى، والنتيجة الملموسة إلى هذه الساعة من وراء كل ذلك سلبية والسبب في ذلك - والله أعلم - أننا نأتي البيوت من غير أبوابها ذلك لأن التخلف المادي الذي يعاني منه المسلمون ليس هو المرض ولكنه من أعراض المرض، والمعالجة الصحيحة تكون بتفحص المرض وأسبابه وجذوره فإذا عالجنا المرض ذهبت كل أعراضه، أما المرض فهو كامن في الخلل الذي أصاب رؤية المسلمين للدنيا والآخرة، والخلل الذي أصاب أخلاقهم ومقاصدهم وعلاقاتهم ببعضهم بعضاً، مما ترتب عليه مفاسد جمة قعدت بالسواد الأعجم من المسلمين عن أن يكونوا لَبِنَاتٍ صالحة في أي بناء حضاري فذٍ متميزٍ، وغاب عنا روح الفريق حين التفت كلٌّ إلى مصلحته الخاصة ضارباً عرض الحائط بكل شيء وراءها.
ولا بد من وقفة متأنية عند هذه النقطة نظراً لخطورتها وكثرة المشكلات الناشئة عنها.
إن كثيراً من مجتمعات المسلمين اليوم لا يتوفر فيه ما يجعله صالحاً لإطلاق اسم (مجتمع) عليه لأن التفلت من الواجبات الشرعية والوقوع في المحظورات - والتي في مجملها تشكل الحس الجماعي عند المسلمين- يجعل صفة الفردية طاغية على هذه التجمعات وإن بدت حسب الظاهر في صورة مجتمعات منظمة متحدة..
إن المجتمع - كما يقول مالك بن نبي - الذي يعمل فيه كل فرد ما يحلو له ليس مجتمعاً ولكنه إما مجتمع في بداية تكونه وإما مجتمع بدأ حركة الانسحاب من التاريخ فهو بقية مجتمع.
واليهود حين أرادوا تدمير المجتمعات الغربية خططوا لتضخيم جانب الفردية على حساب الحس الجماعي حتى كثرت القضايا التي يعدها العرف هناك خصوصيات تخضع بمزاج الفرد ومصلحته، وكانت النتيجة التي انتهوا إليها تفكك تلك المجتمعات على نحو مخيف ذهب بأمن الحياة وروائها وسيعصف بكل الجهود العزيزة التي بذلت في بناء الحضارة الحديثة في يوم من الأيام.
وقد انتقلت هذه العدوى إلى بلاد المسلمين فصار كثير من المسلمين غير مستعد لقبول نصيحة من أحد بحجة أن ما يلاحظ عليه يعود إلى خصوصياته التي لا تقبل أي نوع من التدخل.
وهذا الصنف من الناس - وهو يمثل اليوم في المسلمين الأكثرية - على غير دراية بفلسفة هذا الدين في إقامة المجتمعات وإنشاء الحضارات مما يجعل رؤيتهم للحياة كثوب ضم سبعين رقعة مختلفة الأشكال والألوان.
وبإمكان المسلم من خلال نظرة سريعة في بعض النصوص أن يتعرف وجهة الشريعة في هذا، وإليك حديث السفينة الذي وضع النقاط على الحروف في هذه المسألة بصورة مدهشة، فقد روى النعمان بن بشير - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: »مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم.
فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا.
فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن اخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً « [رواه البخاري].(/2)
إن هذه السفينة تمثل المجتمع الإسلامي الذي توحدت عقائده وتوحد اتجاه سيره وتوحدت غاياته والمخاطر والتحديات التي تواجهه، وإن القائم في حدود الله - تعالى -هو تلك الفئة الصالحة الملتزمة بشرع الله الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر، وإن الواقعين فيها هم أولئك الذين ينتهكون حرمات الله من ترك الواجبات والوقوع في المحرمات، والحديث يقرر أن ما يتوهمه بعض الناس من خصوصياته ليس كذلك كما أن الذين احتلوا أسفل السفينة كانوا واهمين قي ظنهم أن لهم الحرية الكاملة في التصرف في أرض السفينة.
وذلك لأن تصرفهم فيها بخرقها يمس مصالح الذين فوقهم بل مصائرهم.
ولنضرب لما يتوهمه بعض الناس من خصوصياتهم مثلاً من حياتنا المعاشة حيث وقع في خلد كثير من الناس أن الصلاة عبادة بدنية تعبر عن صلة خاصة بين العبد وربه، وأن المقصر في أدائها لا يؤذي جاراً ولا ينتهك لمجتمعه حرمة، وبذا تكون الصلاة من المسائل الخاصة بالمرء، يؤديها كلما حلا له ذلك، ويتركها كلما عنَّ له ذلك، ومن ثَمَّ فإن مساءلة الناس له عنها يعد ضرباً من الفضول الذي ينفر منه ذوق الإنسان المعاصر ذي الإحساس المرهف والرسوم الاجتماعية الدقيقة.
ولكن الأمر في نظر الشريعة الغراء ليس كذلك إذ إن فقهاء الأمة مجمعون على أن الصلاة ليست من خصوصيات الإنسان التي يقف المجتمع المسلم تجاه تاركها صامتاً غير مبال ولا مؤاخذ، لذلك رأى بعض الفقهاء أن تاركها (كسلاً) مقراً بفرضيتها يقتل كفراً، وبعضهم قال يقتل حداً، وبعضهم ذهب إلى أنه يسجن إلى أن يصلي، وهم في هذا يصدرون عن فهم صحيح لطبيعة عمل هذا الدين في تسيير دفة الحياة الاجتماعية؛ لأن المعصية حين تشيع في الناس يستوجبون نزول العقوبة وذهاب الريح، ولا تشيع الفاحشة إلا حين يغض المجتمع الطرف عنها وطالما أجهض الجهد الإنساني الضخم في إعمار الأرض بسبب التقصير في جانب العبودية لله- تبارك وتعالى -وشواهد الماضي والحاضر ناطقة بذلك، وكيف لا والله - تعالى -يقول: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ) [الأنفال / 50].
وكيف لا والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول مجيباً لمن سأله: أنهلك وفينا الصالحون؟: » نعم إذا كثر الخبث « [أخرجه الشيخان].
نعم إن الأمن حين يضطرب حبله لا يضطرب على الطالحين وحدهم، وإن الأسعار حين تغلو لتفوق طاقة الناس لا ترتفع بالنسبة للطالحين فقط، وإن العدو حين يستبيح الحمى لا يستثنى أحداً وهكذا...
وإذا كان أصحاب الأهواء والشهوات لا يبصرون أكثر من مواقع أقدامهم ولا يعبأون بحاضر ولا مستقبل فإن على المجتمع أن يتحمل المسؤولية تجاه حاضره ومستقبله وآخرته.
(1) أخرجه الترمذي وحسنه.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:(/3)
في الإرادة والدعاء وما تريد أن تكون
(وآتاكم من كل ما سألتموه)
إبراهيم غرايبة 27/11/1425
08/01/2005
الدعاء إدراك واعٍ ومسبق لما يريده الإنسان، وهذا ما يجعله ممكن التحقق، وربما لأجل هذا فإنه مخّ العبادة، وكأنه تواصل مع الخالق يعيد به الإنسان تشكيل نفسه كما يريد، ولذلك يجب أن يكون الإنسان حذراً من نفسه، فهو مسؤول عن إرادته هذه، ورب دعوة توافق ساعة استجابة. إن الإرادة سر عظيم تفسر كل ما تحقق للأفراد والمجتمعات، وكأن تحقيق الإنجازات لا ينقصها إلا الإرادة.
الإنسان أخطر وأعقد بكثير مما يعرف عن نفسه، وعندما يكتشف في ذاته ما أُودع فيه من أسرار وطاقات، والحضارة الإنسانية قائمة على إدراك الإنسان لنفسه، وسعيه لأن يجعل من نفسه ما يريد أن يكون، ورؤيته لموارده في نفسه أولاً، وليس فيما تهبه الطبيعة من موارد، من هنا نشأ العلم والإبداع والفلسفة والشعر والرواية والتجارة والمقايضة والكتابة والمهارات الفنية واليدوية والمهن والسفر والإقامة والعمارة، ...
والإنسان في سؤاله عما يريد ويتمنى، وفي سعيه لتحقيق أهدافه ورغباته إنما يكاد يخاطب نفسه ويطلب منها ما يجب أن تكون، ولذلك فإن الخطوة الأولى لتحقيق ما نريد أو تجنب ما لا نريد تبدأ بتهيئة أنفسنا لذلك، أو هي تعني ذلك.
لقد خرج آدم من الجنة بإرادته ورغبته في الخلود، كان يعذبه المجهول وأراد أن يعرف أسرار ما بعد تناول الثمرة المحرمة، فكانت الحياة والحضارة والصراع والنجاح.
ويوسف عليه السلام سجن برغبته (قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن، وأكن من الجاهلين، فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن...)[يوسف:33-34]
(ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها)، (ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها)
فالسؤال ما ذا نريد، لا يعني فقط أن نبحث عن أهدافنا وآمالنا ونراجعها، أو نكتشفها، ولكنه أن نجعل من أنفسنا ما نريد أن تكون عليه، وأن نتوجه إلى أنفسنا فيما نريد، فالإنسان نفسه هو من يملك الإجابة ويقدر على تحقيقها.
فالتحدي والفعل في تحرير أنفسنا من رغباتها، والارتقاء بها لترغب فيما نريده لها، أو ما يجب أن تريده، وهذا هو السؤال.
وكأن الإنسان عندما هبط من الجنة إلى الأرض، ومعه السر العظيم "اسم الله وكلمته" ليعود بها إلى الجنة مرة أخرى، جعله البحث والكد يستعيد بنفسه حالة كان لا يرى بها ذلك السر عندما كان لا يجوع ولا يعرى، ولا يظمأ ولا يضحى، مثل تفكيك الأحجية، وتحليل الظاهرة، وإعادة تركيبها، لم تقنعه النهاية التي بدأ بها، فأراد أن يبدأ بالبداية ليصل إلى النهاية التي بدأ بها، وشأن الإنسان دائما مثل الطفل الذي يبحث ويفكر ويحلّل ويفكّك بلهفة وجرأة ومغامرة، إن الطفل أصدق صور الإنسان وأقربها إلى الفهم والصواب.
فالناس لا يفضلون بعضهم عند الله وفي الحياة أيضا إلا فيما يجعلون من أنفسهم، وسيلقون الله بلا شيء مما اكتسبوا سوى ما جعلوا أنفسهم عليه، ما أرادوا لأنفسهم أن تكون، وهم يحاسبون على ما أرادوا لأنفسهم أن تكون.
( قل كل يعمل على شاكلته) (ولكل وجهة هو موليها).
وفي الحديث النبوي عن الإعرابي المريض الذي عاده الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقال له: شفاء وطهور، فقال: بل هي حمى تفور على شيخ كبير لتورده القبور، فقال له الرسول: فهي إذن، فلو أرادها شفاء وطهوراً لكانت، لكنه أرادها حمّى فكانت كذلك، كأنك تصنع من الأشياء والأفكار والأحداث والقضايا ما تريده أنت، ماذا كان سيحدث لو سخّر أنشتاين ورفاقه بحوث الطاقة لأجل تحلية المياه وريّ الصحراء؟
أسأل نفسي كل يوم، وفي نهاية كل عام أراجع ما أنجزته، وما قصّرت في تحقيقه، ولا أزعم أني أملك إجابة كافية ومريحة لسؤالي الموجع والمحيّر، هل أسير في الاتجاه الصحيح الذي أريده بالفعل لنفسي؟ وبصراحة فإنني كلما نظرت في المرآة أجد أن ذلك الشخص الذي يظهر لي يشعرني أنني لم أفعل كثيراً مما وعدته بأدائه، وللأسف الشديد فإنني لا أستطيع تجاهله، ولا تغني عن رضاه كل مشاعر الرضا والثناء والتي يتبرع بها غيره.
والإنسان يدرب ملكاته الفكرية والروحية والعقلية، ويطورها تماماً كما يدرب جسمه وعضلاته، وبالطبع فإنه يمكن أن يصل في ذلك إلى مستوى متقدم، كما يصل العداؤون وأبطال الوثب والسباحة وكرة القدم، وإذا لم تطور الملكات والاستعدادات الروحية والعقلية فإنها تضمر كما يضمر الجسم وتترهل، ويمكن أن يوصل الإنسان نفسه إلى مرحلة من القدرة والفراسة على التحليل والمعرفة والاستماع للحكمة وفهمها.
في رواية الكيميائي لِـ(باولو كويلو) يرى الفتى موضوع الرواية حلماً، يرى أن اللصوص يهاجمون الواحة (الفيوم في مصر) بأعداد كبيرة.
يجد الفتى أن من واجبه أن يخبر شيخ الواحة ويحذّره من خطر يهدّد الواحة.(/1)
ويجد الشيوخ كلام الفتى غريباً، فالواحة لا يهاجمهما أحد، جميع الناس والأطراف تحترم الواحة، وتعتبرها مكاناً يأوي إليه الجميع، ويجب أن يبقى السلام سائداً فيها، ولم يحدث من قبل أن انتهكت هذه القاعدة.
يقول له الشيخ: إن حلمك يبدو غريباً، ولكن رجلاً جاء من قبل إلى مصر وقد فسر حلماً على نحو أنقذ الناس في مصر والأقطار المجاورة، وسنصدّق حلمك كما حدث للحلم القديم في مصر.
ويُصدّق حلم الفتى، وكان أهل الواحة ينتظرون المهاجمين كما وصفهم الفتى في حلمه.
ثم يغادر الفتى الواحة بتوجيه "الكيميائي" للفتى أن يرافقه حتى يوصله إلى الأهرام، ويخرجه من بين القوات والعصابات التي تحاصر الطرق، ويطلعه "الكيميائي" على حجر الفلاسفة الذي يملكه ويستطيع به أن يحول المعادن إلى ذهب، وإكسير الحياة، المشروب الذي يمكن من يتناول منه أن يعيش مئات السنين في حيوية وشباب، ويمضيان معا في اليوم التالي.
وفي الطريق تقبض عليهما الجماعات المقاتلة في الصحراء، ويأخذونهما إلى خيمة، ويسألونهما عن وجهتهما وماذا يريدان، فيقول الكيميائي: رفيقي هذا جاء من مكان بعيد ليزور الأهرام، وأنا أرافقه، ويفتشونهما فلا يجدون معهما شيئاً، ولكنهم يسألون الكيميائي عن أشياء يحملها معه، فيقول لهم: هذا حجر الفلاسفة يحوّل المعادن إلى ذهب، فتضج الخيمة بالضحك والقهقهة، ويترك الفرسان المقاتلون الرجلين البائسين والمعتوهين يمضيان في طريقهما.
ويسأل الفتى رفيقه باستنكار: كيف تخبرهم عن هذا السر العظيم؟ فيقول له باسماً: لتعرف أن الكنز لا يمكن أن يكون كذلك، إلا إذا اعتبرته كنزاً حتى لو حصلت عليها(/2)
في التاريخ .. فكرة ومنهاج
رئيسي :عقائد :الثلاثاء 14 شعبان 1425هـ - 28 سبتمبر 2004 م
صحوَة ليسَ بَعدَهَا سُبَات:
لو كان مقدرًا للعالم الإسلامي أن يموت.. لمات في خلال القرون الطويلة التي مرت به، وهو مكبل بالقيود وهو في حالة إعياء عن الحركة، بعد أن حمل عبء الحضارة الإنسانية طويلاً، وبعد أن تعب فاسترخى ونام، والاستعمار الغربي إذ ذاك فتى، فتهيأت له الفرصة، ودانت له معظم أطراف الأرض . وكان ثقله كله على صدر العالم الإسلامي النائم !
لو كان مقدراً للعالم الإسلامي أن يموت.. لمات في خلال فترة الاسترخاء والإعياء . وفي إبان فتوة الاستعمار وقوته ...ولكنه لم يمت ... بل انتفض حياً كالمارد الجبار، يحطم أغلاله وينقض أثقاله، ويتحدى الاستعمار الذي شاخ .
وحيثما مد الإنسان بصره؛ شعر بهذه الانتفاضة الحية، وشعر بالحركة والتوفر للنضال، حتى الشعوب التي ما تزال في أعقاب دور الاسترخاء.. حتى هذه الشعوب يدرك المتأمل في أحوالها أن الحياة تدب في أوصالها ويرى خلال الرماد وميض نار، توشك أن يكون لها ضرام .
ما الذي احتفظ لهذه الشعوب بحيويتها الكامنة بعد قرون طويلة من النوم والاسترخاء ومن الضعف والخمود، ومن الضغط والقسر، ومن الاحتلال البغيض الذي بذل جهده لتقطيع أوصالها وإخماد أنفاسها .
إنه عقيدتها القوية العميقة، هذه العقيدة التي لم يستطع الاستعمار قتلها على الرغم من جهود الاستعمار الفكري والروحي، والاجتماعي والسياسي... هذه العقيدة التي تدعو معتنقيها إلى الاستعلاء؛ لأن العزة لله، ولرسوله، وللمؤمنين . كما تدعوهم إلى المقاومة والكفاح لتحقيق هذا الاستعلاء، وعدم الخضوع للقاهرين، أياً كانت قوتهم المادية؛ لأن القوة المادية وحدها لا تخيف المؤمنين بالله، جبار السماوات والأرض، القاهر فوق عباده أجمعين .
هذه العقيدة الحية هي التي حفظت لهذه الشعوب قوتها الكامنة، وبعثتها بعثاً جديداً . والذي يراجع جميع النهضات و الانبعاثات التي قامت في هذه الرقعة لمقاومة الاستعمار يجدها تستند أصلاً إلى هذه العقيدة .
هذه حقيقة كبيرة تستحق الالتفات لكي ندرك قيمة هذه العقيدة في كفاحنا، ولكي ندرك أن الاستعمار لم يكن عابثاً، وهو يحاول تحطيم هذه العقيدة، وتحطيم دعاتها في كل أنحاء العالم الإسلامي . فالاستعمار كان يدرك خطر هذه العقيدة على وجوده، وما قدره الاستعمار كان حقاً، وقد وجده حقاً، والصيحات تأخذه من كل جانب، وأصحاب العقيدة في الله القهار يقودون الصفوف المكافحة ضد الاستعمار .
وإن يوم الخلاص لقريب . وإن الفجر ليبعث خيوطه . وإن النور سيتشقق به الأفق . ولن ينام هذا العالم الإسلامي بعد صحوته، ولن يموت هذا العالم الإسلامي بعد بعثه . ولو كان مقدراً له الموت لمات . ولن تموت العقيدة الحية التي قادته في كفاحه؛ لأنها من روح الله، والله حي لا يموت .
التجديد مهمة الإسلام:
مهمة الإسلام دائماً أن يدفع بالحياة إلى التجدد، وأن يدفع بالطاقات البشرية إلى الانطلاق والارتفاع . إن الإسلام لا ينكر أن في البشرية ضعفاً . ولكنه يدرك كذلك أن في البشرية قوة ويدرك أن مهمته هي تغليب القوة على الضعف، ومحاولة رفع البشرية وتطويرها وترقيتها . لا تبرير ضعفها أو تزيينه .
الإسلاَم حركة إبدَاعِيَّة شامِلَة:
يصعب أن نفهم أي جانب منفرد من جوانب الإسلام المتعددة، ما لم نفهم طبيعة الإسلام، كوحدة متكاملة ..ليس الإسلام شعائر تؤدى فحسب، وليس الإسلام دعوة أخلاقية فحسب، كذلك ليس الإسلام مجرد نظام للحكم، أو نظام للاقتصاد، أو نظام للعلاقات الدولية .. إن هذه كلها جوانب منفردة من جوانب الإسلام المتعددة، ولكنها ليست هي كل الإسلام .
إن الإسلام حركة إبداعية خالقة، تستهدف إنشاء حياة إنسانية غير معهودة قبل الإسلام، وغير معهودة في سائر النظم الأخرى التي سبقت الإسلام، أو لحقته .. تلك الحركة الإبداعية تنشأ عن تصور معين للحياة بكل قيمها وكل ارتباطاتها، تصور جاء به الإسلام ابتداء، وهي حركة تبدأ في أعماق الضمير ثم تحقق نفسها في عالم الواقع، ولا يتم تمامها إلا حين تتحقق في عالم الواقع . وفي طبيعة النفس البشرية استعداد لتحقيقه، حين تستجيب لدعوته، وحين تتأثر به تأثراً إيجابياً لا يكتفي بالمشاعر، أو الشعائر .
وحين تستقر العقيدة الإسلامية في الضمير البشري استقراراً حقيقياً، فإنه يستحيل أن تظل مجرد شعور وجداني في أعماق الضمير . إنها لا بد أن تندفع لتحقيق ذاتها في عالم الواقع، ولتتمثل حركة إيجابية تبدع الحياة كلها، وما ينشأ عنها من ألوان وأطياف وتعمير .(/1)
ورجال الصدر الأول – رضوان الله عليهم – عندما تلقوا القرآن تلقياً حقيقياً؛ شعروا أن كيانهم النفسي كله يتزلزل ليعاد تركيبه من جديد، وفق ذلك التصور الجديد الذي جاءهم به الإسلام، وأن الكيان القديم الذي بني في الجاهلية، وفق تصورات معينة للحياة، ووفق واقع معين للحياة، لا يمكن أن يرقع ترقيعاً بالتصور الإسلامي الجديد، بل لا بد من زلزلةٍ وتصدعٍ كاملين في الكيان القديم، ليعاد إنشاؤه وفق هندسة جديدة، ووفق تصميم جديد ..{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ...[21]}[سورة الحشر].
ولقد تصدع ما هو أقوى من الجبل، تصدع كيان النفس البشرية التي مسها هذا القرآن مساً حقيقياً، ليعاد تركيبها على نسق غير مسبوق .
محال إذن حين تتم العقيدة الإسلامية في قلب أن تظل قابعة سلبية في هذا القلب، أو أن تتحول إلى عبادات وشعائر، ثم تنتهي هناك، إنها لا بد أن تنطلق محاولة إبداع الحياة كلها وفق التصور الإسلامي للحياة، وفي الطريق تأخذ العبادات والشعائر؛ لأنها القاعدة التي تقوم عليها الصلة بين القلب البشري وخالقه، هذه الصلة التي يستمد منها العون والتصميم والاندفاع.
وقد يكون طريق الإبداع للحياة الجديدة هو تطويرها ولكنه لن يكون ترقيعها، وفرق بين أن يكون لديك تصميم معين للبناء تنفذه شيئاً فشيئاً، وأن ترقع بناء قائماً على تصميم آخر، إن هذا الترقيع لن يحقق لك في النهاية بناء جديداً ! .
إن الإسلام يرسم صورة معينة للحياة البشرية، صورة متكاملة، يحدد فيها النموذج البشري الذي يريد تكوينه، والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي تربط هذا المجتمع، ونظام الحكم والعلاقات الدولية التي تنظم الحياة العامة .
هذه الصورة المعينة التي يرسمها الإسلام للحياة لا يمكن تحقيقها بمجرد قراءة القرآن تجويداً وترتيلاً، ولا بمجرد تسبيح الله بكرة وأصيلا، إنما هي تتحقق بترجمة المدلولات القرآنية إلى واقع عملي في حياة البشر، وبترجمة التسبيح إلى حركة وجدانية تتحول إلى حركة منظورة في عالم الواقع، وبترجمة المشاعر إلى صور تعبيرية ليس الهدف فيها هو مجرد التعبير، ولكن ما وراءه من حركة وتطوير.
وهذا المعنى كان مستقراً استقراراً تلقائياً في نفوس رجال الصدر الأول – رضوان الله عليهم – ومن ثم أمكنهم أن يغيروا واقع الحياة في فترة تشبه الأحلام.. روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:' كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن' .
والرجل يقول:'حتى يعرف معانيهن' والمعرفة شيء غير مجرد الفهم .. المعرفة إدراك كامل، وانفعال بهذا الإدراك يتم في أعماق النفس، ثم:'العمل بهن' .
بهذا الإدراك الكامل لوظيفة القرآن أمكن إنشاء حياة جديدة كاملة لم يعرفها العرب قبل الإسلام، وبمثل هذا الإدراك الكامل يمكن أن يحقق الإسلام ذاته في عالم النفس، وفي عالم الواقع في كل زمان ومكان .
ولا يمكن تقسيم الإسلام إلى أجزاء، وفصل جزء منه عن الآخر، لا في طبيعة الإسلام، ولا في آثاره في النفس البشرية، أو في واقع الحياة . فليس الإسلام تفسير آية أو حديث في جانب، ثم دعوة إلى الجهاد في جانب، ثم عرض طرف من السيرة في جانب، ثم أدب مستقل في جانب، ثم نظام حكم محلي ودولي في جانب .. كلا.. إن الإسلام تصور كامل للحياة، ومنهاج كامل للحياة.
هذا التصور الكامل لطبيعة الإسلام هو الذي نحب أن يستقر في أخلاد المسلمين، وفي المقدمة دعاة الإسلام في هذا العصر؛ لأنه التصور الذي استقر في أخلاد الصدر الأول، فأبدع الحياة الإسلامية الجديدة، فكانت بدعاً في عالم الحياة كلها وما تزال .
في التاريخ .. فكرة ومنهَاج:
التاريخ ليس هو الحوادث، إنما هو تفسير هذه الحوادث، واهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع بين شتاتها، وتجعل منها وحدة واحدة متماسكة الحلقات، متفاعلة الجزئيات، ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان .
ولكي يفهم الإنسان الحادثة ويفسرها، ويربطها بما قبلها وما تلاها، ينبغي أن يكون لديه الاستعداد لإدراك مقومات النفس البشرية جميعها: روحية وفكرية وحيوية، ومقومات الحياة البشرية جميعها: معنوية ومادية . وأن يفتح روحه وفكره وحسه للحادثة، ويستجيب لوقوعها في مداركه، ولا يرفض شيئاً من استجاباته لها إلا بعد تحرج وتمحيص ونقد .
ومتى استقام البحث على ذلك المنهج الذي أسلفنا، وبرزت تلك المقومات الأساسية لطبيعة الدعوة، وطبيعة الرسول، وطبيعة البيئة التي استقبلت الدعوة واستقبلت الرسول، وطبيعة المجتمع الإنساني الذي كان يعاصر مولد الإسلام، وطبيعة العقائد والأفكار التي كانت تسوده يوم ذاك .(/2)
متى برزت تلك المقومات الأساسية؛ سهل تتبع نشاطها وتفاعلها وصيرورتها، وأمكن تصوير وتصور خطوات الدعوة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه الخطوات التي تسير متأثرة في هذا الجيل: أن نعرف كيف اختار الرسول رجاله، ومن أية طينة كان هؤلاء الرجال؟ وكيف صاغ الرسول رجاله؟ وكيف أعدهم للمهمة العظمى؟ وكيف بنى الرسول نظامه، وعلى أي الأسس قام هذا النظام الجديد؟ وماذا كان في طبيعتها، وفي ظروفها، وفي رجالها، وبيوتها وعشائرها، وفي علاقاتها الاجتماعية، وملابساتها الاقتصادية، والجغرافية والحيوية .. من استعداد لتلبية هذا الحدث، أو معارضته؟
إلى آخر هذه المباحث التي تصور المرحلة الأولى من مراحل حياة الإسلام، أو من تاريخ الإسلام والتي تصح تسميتها باسم:'الإسلام على عهد الرسول' .
ثم تجيء المرحلة الثانية، مرحلة:'المد الإسلامي' وذلك عندما انساح الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها . عندما فاض ذلك الفيض الانفجاري العجيب الذي لم يعرف له العالم نظيراً في سرعته وفي قوته . لا من ناحية الفتح العسكري وحده، ولكن من ناحية التأثير الروحي، والفكري، والاجتماعي أيضاً: أي من الناحية الإنسانية الشاملة التي شهدت تحولاً كاملاً في خط سير التاريخ على مولد هذا الدين الجديد، وانتشاره ذلك الانتشار العجيب ! .
ويمكن تتبع أعمال الهدم والبناء التي قام بها الإسلام في تلك الرقعة الفسيحة التي امتد إليها، وتفاعله مع الأفكار والعقائد التي كانت سائرة فيها، ومع النظم الاجتماعية التي كانت تظللها، ومع الظروف الاقتصادية، والمخلفات التاريخية، والملابسات الإنسانية، في أخصب بقاع الأرض وأكثرها حضارة في ذلك الزمان .
ثم يجيء دور 'انحسار المد الإسلامي'، وعلى ضوء دراسة المراحل التاريخية السالفة يمكن أن نتبين أسباب هذا الانحسار، وعوامله الداخلية والخارجية جميعاً . كم من هذه العوامل من طبيعة العقيدة الإسلامية، والنظام الإسلامي؟ ثم هل كان هذا الانحسار شاملاً أم جزئياً ؟ وسطحياً أم عميقاً ؟ وما أثر هذا الانحسار في خط سير التاريخ، وفي تكييفه أحوال البشر، وفي قواعد التفكير والسلوك، وفي العلاقات الدولية والإنسانية ؟ وما وزن الأفكار والنظم والعقائد التي استحدثتها الإنسانية بالقياس إلى نظائرها في الإسلام ؟ وماذا كسبت البشرية، وماذا خسرت من وراء انحسار المد الإسلامي وظهور هذا المد الأوربي الذي ما تزال تظلنا بقاياه .
ومن ثم يصبح الحديث ' عن العالم الإسلامي اليوم ' طبيعياً وفي أوانه، وقائماً على أسسه الواضحة الصريحة وليس حديثاً تمليه العاطفة أو التعصب من هذا الجانب أو ذاك ويصبح التاريخ الإنساني في – ضوء منهجنا الخاص – مسلسل الحلقات متشابك الأواصر، ويتحدد دور الإسلام في هذا التاريخ في الماضي وفي الحاضر وتتبين خطوطه في المستقبل على ضوء الماضي والحاضر .
ومن ثم فالحقيقة تحتم علينا أن نعيد كتابة التاريخ الإسلامي من زاوية رؤية أكمل، وأدق، وأعمق، فنحن – الأمة الإسلامية – إنما ننظر الآن إلى أنفسنا وإلى سوانا بعدسة صنعتها أيد أجنبية عنا، أجنبية عن عقيدتنا وتاريخنا، أجنبية عن مشاعرنا وإدراكنا، أجنبية عن فهمنا للأمور وإحساسنا بالحياة وتقديرنا للأشياء ..
ثم هي بعد ذلك كله – مغرضة – في الغالب – تبغي لنا الشر لا الخير . لأن مطامحها ومطامعها ومصالحها الخاصة وأهدافها القومية .. كلها تدفع بها دفعاً لأن تبغي لنا الشر، لأن خيرنا لا يتفق مع أطماعها، ولأن مصالحنا تعطل مصالحها .
وحتى على فرض تجرد هذه الأيدي التي تكتب لنا تاريخنا من الغرض والهوى، فإن أخطاء المنهج الذي تتبعه كفيلة بأن تشوه الحقائق التاريخية في غير صالحنا .. وصالحنا في أن نرى حقيقة دورنا في تاريخ البشرية، وأن نعرف مكاننا في خط سير التاريخ، وأن نتبين قيمتنا في العالم الإنساني.
وليست فائدة هذا فائدة نظرية فكرية مجردة، بل إنها أكبر من ذلك وأشمل، فعلى ضوئها يمكن أن نحدد موقفنا الحاضر، ودورنا المقبل، وأن نسير في أداء هذا الدور على هدى ومعرفة بالظروف والعوامل العالمية المحيطة بنا، وبمقدار الطاقة التي نواجه بها هذه الظروف والعوامل .
ونحن ندرس في مدارسنا ومعاهدنا على وجه الخصوص تاريخاً إسلامياً مشوهاً، وتاريخاً أوربياً مضخماً، لا عن مجرد خطأ غير مقصود، ولكن عن نية مبيتة من الاستعمار الغربي الذي يهمه أن لا نجد في تاريخنا ما نعتز به، وأن نرى أوروبا على العكس هي صاحبة الدور الأول في التاريخ الإنساني، فإذا يئسنا من ماضينا، واستعرضنا دورنا في حياة البشرية، وامتلأت نفوسنا مع ذلك إعجاباً بالدور الذي قامت به أوروبا، وإكباراً للرجل الأبي؛ سهل قيادنا على الاستعمار، وتطامنت كبرياؤنا القومية، وذلت رقابنا للمستعمرين .. وتحت تأثير هذه العوامل كتب التاريخ الذي ندرسه في مدارسنا ومعاهدنا بوجه خاص .(/3)
وإعادة كتابة التاريخ الإسلامي على النهج والنسق الذي وصفناه هو وحده الكفيل بأن يكشف هذه الأباطيل وأن يثبت حقيقة الدور الذي أداه الإسلام، والدور الذي أدته الحضارة الأوروبية بعدما يصور طبيعة هذا الدين، وطبيعة النظام الذي ينبثق منه، ومدى ما منح البشرية من الخير والتقدم، وضخامة الدور الذي أداه لبني الإنسان .
وبعد فإنه ينبغي أن يقال: إن دراسة من هذا الطراز لن يكون من برنامجها تناول الحوادث التاريخية بالتسلسل الحرفي والتفصيل الوافي، فوظيفتها الأساسية أشبه شيء بوظيفة الخط البياني يشير ولا يحصي، ويرشد ولا يستقصي . وبعبارة أخرى: إن وظيفة دراسة من هذا النوع هي محاولة إيجاد عقلية تاريخية معينة، وصورة تاريخية خاصة، تفيد الذين يتناولون الحوادث التاريخية بالتفصيل، والشخصيات التاريخية بالتحليل .
وما من شك أن استقرار هذا النهج في حقل الدراسات التاريخية سيعين على وضوح خصائص الشخصية الإسلامية، والدور الإسلامي في حياة البشرية، الأمر الذي من شأنه أن تحلل الشخصيات الإسلامية بل الشخصيات الإنسانية في سياق صحيح .
إن قيمة هذا النوع من الدراسة أن يقيم النهج، ويشرع السنن، ويرسم الطريق، فإذا نجح في أداء مهمته كان ذلك توفيقاً أي توفيق .
طَريق وحيْد:
يوماً بعد يوم يتبين أن هنالك طريقاً معيناً للشعوب الإسلامية كلها في هذه الأرض، يمكن أن يؤدي بها إلى العزة القومية، وإلى العدالة الاجتماعية، إلى التخلص من عقابيل الاستعمار والطغيان والفساد .. طريقاً وحيداً لا ثاني له، ولا شك فيه، ولا مناص منه .. طريق الإسلام، وطريق التكتل على أساسه .
إن أحداث العالم وملابسات الظروف وموقف الشعوب الإسلامية .. كلها تشير إلى هذه الطريق الوحيد الذي لا تمليه عاطفة دينية، ولا تحتمه نزعة وجدانية .. إنما تمليه الحقائق والوقائع، ويمليه الموقف الدولي، ويمليه حب البقاء، وتلتقي عليه العاطفة والمصلحة، ويتصل فيه الماضي بالحاضر، وتشير إليه خطوات الزمن، ومقتضيات الحياة .
لقد أكلنا الاستعمار الغربي فرادى، ومزقنا قطعاً ومزقاً يسهل ازدرادها، وأرث بيننا الأحقاد والمناقشات لحسابه لا لحسابنا، وجعل في كل بلد إسلامي طابوراً خامساً، ممن ترتبط مصالحهم بمصالحه، وممن يرون أنفسهم أقرب إلى هذا الاستعمار منهم إلى شعوبهم وأوطانهم، وأقام أوضاعاً معينة، في كل بلد إسلامي تسمح له بالتدخل وتملي له في البقاء، وتضمن له أنصاراً وأذناباً في كل مكان . فإلي أين نتجه لنكافح الاستعمار وأذنابه وأوضاعه .
إنه ليس الطريق أن ننضم إلى كتلة الغرب، أو كتلة الشرق.. كلتاهما لنا عدو، وكلتاهما كارثة على البشرية، وعلى الروح الإنسانية .. هذه وتلك بلاء ونقمة – على الشعوب الإسلامية، الاستعمار بلاء واقع يجب كفاحه . والشيوعية بلاء واقع كذلك على ملايين المسلمين الواقعين في براثنه . والوطن الإسلامي كله وحدة، ومن اعتدى على مسلم واحد، فقد اعتدى على المسلمين أجمعين .
إنه ليس الطريق أن نلقي بأنفسنا إلى التهلكة هنا أو هناك، فلقد حارب الاستعمار الغربي كل مقوم حقيقي من مقومات الإسلام، وإن تظاهر بالإبقاء على المظاهر المموهة التي لا تقاومه ولا تكافحه.
إن طريقنا واضح، طريقنا الوحيد أن نمضي في تكتل إسلامي، هو وحده الذي يضمن لنا البقاء ويضمن لنا الكرامة، ويضمن لنا الخلاص من الاستعمار، وأذنابه، وأوضاعه.
وطريقنا إذن أن نرفض كل ارتباط إلى عجلة الاستعمار – تحت أي اسم وأي عنوان- .. إنه طريق وحيد، طريق الكرامة، وطريق المصلحة .. وطريق الدنيا، وطريق الآخرة .. إنه الطريق إلى الله في السماء، وإلى الخير في الأرض .. وإلى النصر والعزة والاستعلاء .. إنه هو الطريق .
من رسالة:'في التاريخ .. فكرة ومنهاج' للأستاذ/ سيد قطب رحمه الله(/4)
في الحاجة إلى فقه استئناف حياة إسلامية قويمة
(ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)
بقلم :أحمد الأنصاري الخزرجي بوعشرين باحث مغربي في قضايا الفكر الإسلامي و رئيس جمعية منبر الحوار 20/5/1424
20/07/2003
تمهيد:
كثيرا ما تصيب "الحيرة" عقول الدعاة والعاملين في الحقل التغييري و الدعوي الإسلامي، أمام حالات مجتمعية"حركية" تعترض مسيرتهم الدعوية والتغييرية،وقد ينتج عن هذه "الحيرة" افتراق أو تذبذب في "المسير " الناتج عن اختلاف أو اضطراب في "التقدير"وكل ذلك مرده في نظرنا إلى الآليات المصوبة لهذا التقدير أو ذاك للخيار المتبع و الموقف المتخذ من هذه الحالة المجتمعية "الحركية" أو تلك.
لقد تضاربت الأجوبة عن سؤال " كيف نستأنف الحياة الإسلامية القويمة؟ " بعد ما حلت بالأمة الإسلامية نازلة كبرى و"فريدة "(كما سنرى لاحقا) متمثلة في عملية التغييب القسري للإسلام من ساحة التوجيه و التأطير والتحكيم والتربية في الحياة العامة بمختلف أوجهها، ولقد كان لحلول هذه النازلة الكبرى وقع، إذ لم يعد الأمر متعلقا بالأسئلة ذات الصلة بنوازل شخصية فردية اضطرارية واستثنائية بل تعدى ذلك إلى مرتبة النوازل المجتمعية المعقدة التي يصبح الاضطرار فيها هو الأصل ، بينما ما ينبغي أن يكون من الوجهة الشرعية هو الاستثناء"(كما سنرى لاحقا) . حيال هذا تقدمت محاولات إجابات من لدن كل من استشعر جسامة هذه النازلة ومدى تأثيرها على مجريات الأحداث وعلى البنيات الثقافية والتربوية والتشريعية والسياسية والعقدية للأمة الإسلامية جمعاء وهذه الإجابات اتخذت طابعا عمليا فراحت إما ترفض كل ما ترتب عن هذا الوضع من محدثات مجتمعية ليس لها أصل في تراثنا الفقهي ملتمسة بعض الفتاوى الجاهزة لبعض فقهاء السلف رضي الله عنهم و إما تقبل به معتبرة إياه مساراً طبيعياً لابد أن نقبله و إما في أحسن الأحوال خاضت في بحره بزاد معرفي وفقهي قليل لا يعينها في الإمساك بتلابيب الإشكال والنازلة حتى تتمكن منه (1)فكانت النتيجة أن لم تستأنف الحياة إسلامياً بل ظل يولد لنا الواقع المتحول إشكاليات وإشكاليات ظلت معها الأمة في موقع المتفرج أو في أحسن الأحوال في موقع المنفعل مع مجريات الأحداث لا موجهة لها في اتجاه أن يتم استئناف شهودها الحضاري ،ولأن النازلة كبرى و"فريدة" كما قلنا ولأن دعاة الإسلام وحركاته المخلصة تريد أن تستأنف الإسلام بالإسلام ،فان سؤال الاستئناف هو سؤال في التقعيد الفقهي للجواب العملي الذي ينبغي أن يقدم ، بكلمة فان الحاجة ملحة إلى فقه يقعد للعملية و يستند إليه في تقديم الإجابات على كل النوازل التي تعترض المسيرة التغييرية الدعوية الإسلامية نحو إعادة الحياة الإسلامية القويمة إلى الوجود كما يرضاها الله سبحانه وتعالى. ولهذا الغرض نتقدم بهذه الورقة استكمالا لمشوار قد بدأه آخرون (2).
(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا)
و الله الموفق وهو يهدي السبيل.
ستتطرق هذه الورقة للمحاور التالية:
المحور الأول:محاولة في فهم نازلتنا الكبرى.
المحور الثاني:في خصائص فقه الاستئناف.
المحور الثالث:في منابع فقه الاستئناف.
خلاصة عامة.
المحور الأول: محاولة في فهم نازلتنا الكبرى ( لقد كان في قصصهم عبرة)
تذكير تاريخي موجز:
إن التذكير بالسياق التاريخي جزء أساسي من محاولة الفهم التي نروم،ولئن كان التذكير هو في جانبه المنهجي المتركز على المنعطفات الكبرى التي عرفها مسار أمتنا ويمكن إيجازها كالتالي :(/1)
بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت الخلافة الراشدة وتميزت بأنها كانت وفية لمجتمع النبوة في ركائزها وسماتها ،بالشكل الذي يمكن اعتباره أول نموذج بشري لانبوي أخلص للنموذج النبوي(3) لا من حيث تحكيم شريعة الله أو من حيث البيعة الطوعية والتي هي تحصيل حاصل مبدأ الشورى أو يقظة المجتمع وحيويته والتحامه بالدولة الخادمة أو من حيث سيادة العدل الإسلامي أو من حيث كفالة الحقوق الأساسية لكل من هو تحت لواء الدولة الإسلامية أو من حيث درجة التدين العالية السائدة في المجتمع عموما… فكانت بحق نموذجا راشدا ومخلصا للنموذج الأصلي في قيمه وثوابته ، ثم يأتي المنعطف الأول الذي ستعرفه الأمة الإسلامية والمتمثل في صعود الأمويين إلى سدة الحكم وتخليهم عن ثابت البيعة الطوعية وتحويله إلى ثابت الحكم الوراثي وكان بحق تحولا نوعيا سيحدث أول انشقاق في المنظومة المجتمعية بين المجتمع ونخبته العالمة و الدولة السلطانية كما اصطلح على وصف أحكامها عند بعض الفقهاء وليبدأ مسلسل التناقص في درجات الإخلاص للنموذج الأصلي النبوي أو النموذج القياسي الراشدي فيكون التحول الثاني هو التخلي عن مبدأ العدل وتجليات ذلك من قمع لبعض العلماء(4) والبذخ والترف(5)، ولقد ظلت مسيرة التدين رغم ما حدث على مستوى المجتمع سائرة في مستواها المعهود من التزام بالدين عقيدة ومنهجا وسلوكا والفضل طبعا يعود إلى دور العلماء الريادي والدعوي والتربوي والتعليمي الذين حموا الرصيد الثقافي والتربوي والعقدي والعلمي واستمر عطاؤهم العلمي ولذلك لا غرابة في أن يكون عصر الاستبداد الأموي والعباسي عصر الأئمة المجتهدين بامتياز ذلك أن الشرخ الذي أحدث على مستوى العلاقة بين الدولة والأمة جعل الأمة وطليعتها الحية من العلماء المخلصين تنعزل عن الوسط السلطوي كشكل من أشكال الإنكار(6)وتنصرف بذلك إلى أولويات أخرى متمثلة في ضمان استمرارية وحماية للرصيد العلمي اعتبارا منها لمالات هذه الأولويات بالنسبة للأجيال القادمة من الأمة،ولنترك شيخ المؤرخين يصف لنا هذه التحولات التي طرأت من خلافة راشدة إلى ملك متغلب ننقلها بتصرف:"فلما استحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر على الصلاة إذ هي من أمور الدين وارتضاه الناس للخلافة وهي حمل الكافة على أحكام الشريعة ولم يجر للملك ذكر لما أنه مظنة للباطل ونحلة يومئذ لأهل الكفر وأعداء الدين فقام بذلك أبو بكر ما شاء الله متبعا سنن صاحبه وقاتل أهل الردة حتى اجتمع العرب على الإسلام ثم عهد إلى عمر فاقتفى أثره وقاتل الأمم فغلبهم وأذن للعرب ما بأيديهم من الدنيا والملك فغلبوهم عليه وانتزعوه منهم ثم صارت إلى عثمان بن عفان ثم إلى علي رضي الله عنهما والكل متبرئون من الملك منكبون عن طرقه وأكد ذلك لديهم ما كانوا عليه من غضاضة الإسلام وبداوة العرب فقد كانوا أبعد الأمم عن أحوال الدنيا وترفها لا من حيث دينهم الذي يدعوهم إلى الزهد في النعيم ولا من حيث بداوتهم ومواطنهم وما كانوا عليه من خشونة العيش وشظفه الذي ألفوه …"(7)(/2)
ثم بعد أن يعضد ذلك بأمثلة من حياة بعض الصحابة، يسترسل في موضع آخر في الحديث عن بداية الانحراف عن النموذج الراشدي قائلا :"فلما تدرجت البداوة والغضاضة إلى نهايتها وجاءت طبيعة الملك التي هي مقتضى العصبية كما قلناه وحصل التغلب والقهر كان حكم ذلك الملك عندهم حكم ذلك الرفه والاستكثار من الأموال فلم يصرفوا ذلك التغلب في باطل ولا خرجوا به عن مقاصد الديانة ومذاهب الحق…" فأول انحراف كان على مستوى التخلي عن مبدأ الشورى وتحصيل حاصله إلغاء البيعة الطوعية وحصول التغلب رغم عدم خروجه في البداية عن مقاصد الديانة ومذاهب الحق على حد تعبير ابن خلدون،ولكن سيكون إعلانا عن بدايات التراجعات عن تمثل النموذج الأصلي يقول ابن خلدون في موضع آخر من مقدمته مسترسلا مسلسل"انقلاب الخلافة إلى الملك"على حد تعبيره قائلا:"فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق ولم يظهر التغير إلا في الوازع الذي كان دينا ثم انقلب عصبية وسيفا وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصدر الأول من خلفاء بني العباس إلى الرشيد وبعض ولده ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها وصار الأمر ملكا بحتا وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها واستعملت في أغراضها من القهر والتقلب في الشهوات والملاذ وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك ولمن جاء بعد الرشيد من بني العباس واسم الخلافة باقيا فيهم لبقاء عصبية العرب والخلافة والملك في الطورين ملتبس بعضهما ببعض ثم ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم وبقي الأمر ملكا بحتا كما كان الشأن في ملوك العجم بالمشرق يدينون بطاعة الخليفة تبركا والملك بجميع ألقابه ومناحيه لهم وليس للخليفة منه شيء وكذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة مع العبيديين ومغراوة وبني يفرن أيضا مع خلفاء بني أمية بالأندلس العبيديين بالقيروان فقد تبين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولا ثم التبست معانيهما واختلطت ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة والله مقدر الليل والنهار وهو الواحد القهار"(8).
هكذا بدت سلسلة التراجعات من خلافة راشدة تلتزم بالإسلام تنصيبا وسياسة عادلة إلى ملك ملتبس بالخلافة ملتزم بالإسلام سياسة دون تنصيب فكان بداية للانحراف نحو الملك البحت حيث "ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها" على حد تعبير ابن خلدون.
خصائص هذه المرحلة:
ويمكن تسجيل خصائص هذه المرحلة بخلاصة في التالي :
1-تحكيم لشريعة الإسلام في شتى مناحي الحياة.
2-وحدة الأمة السياسية(الخلافة ثم الدولة السلطانية )، والثقافية والتشريعية والتربوية(المرجعية الإسلامية العليا).
3-استمرار دور العلماء الريادي في التوجيه والدعوة والإفتاء والاجتهاد والتعليم…
4-تفاحش الظلم والاستبداد.
5-التخلي نهائيا على ثابت الشورى وتحصيل حاصله البيعة الطوعية.
6-نسبة كبيرة من مستوى تدين المجتمع عقيدة ومنهجا وسلوكا بفضل جهود العلماء.
بحلول الدولة العثمانية وملابسات التحولات الداخلية التي عرفتها (صعود الكمالية)،سنكون أمام منعطف أكثر ضخامة وأوسع جسامة من منعطف صعود الأمويين ومن تبعهم ،وهو الانقلاب الذي حصل على مستوى المرجعية العليا للمجتمع والدولة بحيث سيحدث أول تحول نوعي لم يسجل بالبت بهذا الحجم بالتخلي عن تحكيم الشريعة وسيترتب عنه بعد فترة الاستعمار ضرب وحدة الأمة بمخطط سايكس بيكو(9)وليتوج بزرع الكيان الصهيوني في قلب جسم الأمة الإسلامية، لنكون أمام نازلة كبرى "جديدة وفريدة" في معالمها الأساسية والتي نجملها في التالي:
1-إلغاء الدين من الحياة العامة كموجه وكمشرع وكمرجعية عليا للأمة.
2-حلول وسريان المشاريع العلمانية في شتى مناحي الحياة العامة التشريعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية...
3- حلول الدولة القطرية التجزيئية بدل الدولة الإسلامية الموحدة للأقطار.
4-سريان الاستبداد وانفراد قلة بالقرارات المصيرية للشعوب العربية والإسلامية دون إشراك هذه الأخيرة في بلورة الاختيارات الكبرى لها.
5-تراجع خطير لمستوى التدين عند المجتمع حتى انتفى معه منطق الواجب سواء في العبادات (الصلاة،الزكاة…) أو في المعاملات(الربا،الفساد الأخلاقي…).
6-تبعية ذيلية في الاقتصاد كما في السياسة كما في القانون كما في الثقافة للغرب المهيمن.
7-احتلال فلسطين وزرع كيان صهيوني دخيل في قلب جسم الأمة الإسلامية.
8-تشكل نخبة من المفكرين والمثقفين والسياسيين من النسيج الاجتماعي للأمة المنسلخين عن هوية الأمة دراية تواصلية مع تراثها العظيم ومرجعيتها الإسلامية ،والمتشربين للفكرة الغربية المتمثلة في العلمانية كضرورة تاريخية لتحقيق النهضة.(/3)
9-ظهور دعاة وحركات من ذات النسيج الاجتماعي للأمة متشبثة بالهوية الإسلامية الأصيلة تصارع هذا المد الجارف من المشاريع التغريبية السارية المفعول في الحياة العامة داعية إلى استعادة النموذج الإسلامي الراشدي والى ربط الأوصال الحضارية التي تقطعت قسراً بتاريخ وذاكرة وقيم الأمة الإسلامية.
ولأن هذه النازلة كبيرة وفريدة بما أفرزته من نتائج وتحولات نوعية في مسار الأمة الإسلامية،ولأن حجم ما وقع قد تم تمثله عمليا وسرى مشاريعا ومخططات مجسدة واقعا،ولأن ذلك لم يحصل بشكل اختياري طوعي من طرف شعوب الأمة الإسلامية نتيجة الاستعمار من جهة ونتيجة استفراد- قلة متغربة أو لها مصلحة خاصة في بقائها في سدة سريان القرار- بالحسم في هذه الاختيارات الكبرى والمصيرية التي أحدثت انقلابا كليا في المرجعية كما في السلوك كما في المنهج كما في التمزق والتجزيء، فلقد كان حقا أن نسم ما حدث بالنازلة الاضطرارية التي حلت بالأمة الإسلامية جمعاء ، إذ لم يعد لضرورة حفظ الدين كأعلى مرتبة من الضرورات التي جاءت الشريعة الإسلامية لتحميها وتحفظها، إلا القليل من الوجود (شعائر تعبدية ،ووجود تشريعي ضئيل في مجال مدونة الأحوال الشخصية التي لم تسلم هي الأخرى من إرادة الإلغاء…).
وإذن إذا كان من مهمات رئيسية تاريخية لاستدراك هذا العطل التاريخي الكبير واستئناف الحياة الإسلامية القويمة فهي في نظرنا كالتالي :
1-العمل على حفظ ما تبقى من الدين بمعنى الدفاع على آخر حصون دين الإسلام.
*سياسيا وتشريعيا:من خلال الحفاظ على ما تبقى مما قد نعتبره على الرغم مما قد وقع مكسبا للأمة الإسلامية.
*مجتمعيا وشعبيا:من خلال وقف مسلسل التراجعات الحاصلة على مستوى تدين المجتمع وذلك بالحث الدعوي والتبليغي على الواجبات المعلومة من الدين بالضرورة صلاة وزكاة وصوما وتجنبا للمنكرات الأخلاقية وبالوقوف ضد كل مشاريع التفسيق المراد بها شعوب الأمة تعبئة ضدها وتنبيها من خطورتها…
2-العمل على استكمال ما تبقى من حفظ الدين بمعنى السعي نحو استئناف الحياة الإسلامية التي يعلو فيها دين الله وشريعته،وهذا يتطلب :
*سياسيا:تصحيح العلاقة بين الدولة والمجتمع في اتجاه أن تستعاد سلطة المجتمع والأمة لتعود الدولة للأمة معبرة عن اختياراتها ومرجعيتها.
*تشريعيا:تحكيم شريعة الله وإعلاؤها بحيث تعود هي المرجعية العليا في التشريع وفي التحكيم في شتى مناحي الحياة.
*مجتمعيا: تنمية تدين المجتمع عقيدة ومنهجا وسلوكا.
3- العمل على استعادة وحدة الأمة الإسلامية السياسية من جديد.
إنها مهمات تاريخية دونها عمل دؤوب وجهد مستمر واعمال للنظر فيما قد تعترضه مسيرة هذا العمل وهذه العملية الاستئنافية مع تقديم إجابات من هدي الشرع لأسئلة النوازل التي قد تعترض طريق الاستئناف وإنجاز هذه المهمات .وتلك هي مهمة ما أسميناه بفقه الاستئناف،فما هي خصائصه؟ و ماهي منابعه؟
المحور الثاني: فقه الاستئناف في التعريف و الخصائص. (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)
أولا في التعريف:
انطلاقا مما بسطناه في معالم أساسية لنازلة الأمة الكبرى التي حلت بها يمكن استجلاء التعريف التالي لما نعنيه بفقه الاستئناف :
فقه الاستئناف هو الفقه الذي يهتم بتقديم الإجابات العملية للنوازل المجتمعية الحركية، ونقصد بها الحالات ذات الطابع الجماعي الحركي التي تعترض العاملين في الحقل الدعوي التغييري الإسلامي، في مسيرتهم نحو استئناف الحياة الإسلامية القويمة، التي يكون فيها الإسلام وشريعته هما المرجعية العليا في تأطير الحياة العامة، تشريعيا، وثقافيا، وتدينا، وتربية، وتعليما، واقتصاديا، وسياسيا،واجتماعيا،وأسرويا وفرديا… بخلاف مثلا "فقه العبادات ،تكاد تتحكم فيه النصوص المباشرة تحكما صارما ،بحكم جمود طبيعته ومحدودية العوارض التي يمكن أن تعتري "الحالة العبادية الجزئية"وتؤثر على بعض أحكامها"(10)،ففقه الاستئناف هو بهذا المعنى فقه للفتاوى الجماعية ذو طبيعة ميدانية، وعموما" فقه الفتاوى وهو الذي تتجلى فيه الصياغة بوضوح أكثر"كما يقول عبد المجيد النجار "لم يلق من العناية ما لقيه الفقه التقريري المجرد، فظلت الفتاوى تنحو منحى الفردية في موضوعاتها،فتعالج النوازل الشخصية ،أكثر مما تعالج الأوضاع الاجتماعية العامة…"(11).
ثانيا في الخصائص:
انطلاقا مما بسطناه في معالم أساسية لنازلة الأمة الكبرى التي حلت بها ومن التعريف الذي بسطنا يمكن استجلاء بعض الخصائص العامة لفقه الاستئناف وهي :
الخاصية الأولى:الاضطرار والاستثناء (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) سورة البقرة.(/4)
فهو فقه أساسا يرتكز على مبدأ الضرورة كما قيدت للمضطر "أن يكون( غير باغ ولا عاد) وفسر هذا بأن يكون غير باغ للذة طالب لها،ولا عاد حد الضرورة متجاوز في التشبع.من هذا القيد أخذ الفقهاء مبدأ آخر هو:"الضرورة تقدر بقدرها"فالإنسان وان خضع لداعي الضرورة لا ينبغي أن يستسلم لها،ويلقي إليها بزمام نفسه،بل يجب أن يظل مشدودا إلى أصل الحلال باحثا عنه،حتى لايستمرىء الحرام أو يستسهله بدافع الضرورة"د.القرضاوي كتاب الحلال والحرام الطبعة السابعة ص38.
فالحالة حالة إكراه كما بينا من قبل والإكراه يترتب عنه الاضطرار والاضطرار حالة استثنائية ،ولأن النوازل التي تولدت من سريان هذه النازلة الكبرى وتداعياتها العملية عديدة ومعقدة تعقد شبكة الواقع الذي تولدت عنه ،فإنها مختلفة في "الطبيعة" على ما اعترض فقهاؤنا السلف من نوازل ذات طابع جماعي ولنجري بعض المقارنات في بعض الفتاوى الخاصة بالسياسة الشرعية وذات الطابع المجتمعي عند بعض فقهائنا السلف على سبيل الإيضاح:
#
لقد تحدث فقهاؤنا مثلا عن فريضة الجهاد وشرطوا عينيتها بأن"ينزل العدو بساحة الإسلام فهوحينئذ فرض عين "(12)، والحال أننا أمام نازلة لم ينزل العدو بساحة الإسلام بعساكره وجيوشه (ماعدا الاستثناء الواضح طبعا الخاص باحتلال فلسطين و المطابق للحالة التي تحدث عنها فقهاؤنا) ولكن نزل بمشاريعه ومخططاته وشركاته المتعددة الجنسيات ووكلائه، وقد ينزل بعساكره تحت غطاء الحماية الدولية أو محاربة الإرهاب كما حصل في حرب الخليج وكما حصل في العراق وفي أفغانستان.
#
تحدث فقهاؤنا عن ولاية المتغلب أو إمارة الاستيلاء وأجازوها شريطة إنفاذها لشرع الله وحمايتها لبيضة الإسلام(13)،والحال أننا أمام نازلة يحضر فيها التغلب (حكم وراثي أو عسكري أو رئاسة وراثية) وفيها العدول عن شرع الله إلى شرع وضعي ذو مرجعية عليا غير الإسلام وفيها التجزئة حيث لا وحدة سياسية(خلافة) ولا حماية لبيضة الإسلام.
#
تحدث فقهاؤنا عن التمكن كشرط ضروري لإنجاح عملية الخروج على الحاكم الظالم وقد قرنت في الغالب بالعدد عند البعض من الفقهاء(14)، والحال أننا أمام صور للتمكن تتجاوز ذلك الشرط العددي إلى الشرط التأثيري في الأحداث و في القرارات وفي القدرة على تعبئة الشعوب. والنوازل عديدة لا حصر لها كالتمكين للعلمانية في البلاد، أو ظهور تنظيمات تدعو إليها، أو إشكاليات الديمقراطية ، حقوق الإنسان، تعددية المشاريع المجتمعية، بإيجابياتها وسلبياتها…
خلاصة ما نريد توضيحه أن ثمة فارق في الطبيعة بين نوازل عصرنا ونوازل أمتنا في عصر وحدتها وسيادة شريعة الإسلام فيها ، فإذا كانت هذه الأخيرة شكلت استثناء في صيرورة الأمة الإسلامية لم تؤثر في مسارها وبنيتها السياسية والثقافية ولم تجزأ وحدتها ولم تلغ شريعتها(في الغالب الأعم)،فان الحالة التي نعيش وان اعتبرناها استثناء بمقياس ما ينبغي أن يكون شرعا فلقد أضحت هي الأصل واقعا وعملا، ذلك أنها نتيجة انقطاع مسار الأمة، ونتيجة تمزيق وحدتها ونتيجة إلغاء سيادة شريعتها، وعناصر الوحدة والعطاء وسيادة الشريعة هي التعبير العملي عن وجود الأمة بالفعل وان كنا نقر إنها لازالت موجودة بالحق (أمة العقيدة).
الخاصية الثانية :التجاوز والاستئناف(فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه).
وهي مبنية على خاصية الاضطرار والاستثناء ، فهذه الحالة الاضطرارية تحدث ضررا كبيرا وعاماً مرده إلى عدم حفظ الدين وهي أعلى مرتبة من الضرورات التي جاءت الشريعة لتحفظها "ونعني بالدين في هذا المقام ثلاثة معان:
#
الأول:الدين بمعنى الوحي الإلهي الذي ينزل على الرسل.
#
الثاني:الدين بمعنى الإيمان بالله وبالرسل وباليوم الآخر.
#
الثالث:الدين بمعنى الأحكام الشرعية التي تحكم ظواهر الناس.
إن الدين بمعنى الوحي ضروري لهداية العقول إلى الحق والخير،و إن الدين بمعنى الإيمان بالله ضروري لحياة الإنسان الفردية لإيجاد النفس المطمئنة المستقرة بعيدة عن الجزع والاضطراب والقلق فضلا عن الانهيار العصبي أو التخلص من الحياة بالانتحار،وضروري لحياة الجماعة لأنه يضمن تنفيذ التشريع بدقة، ويقضي على كل الأمراض التي تفسد علاقات المجتمع.و إن الدين بمعنى الأحكام المشروعة ضروري لتوفير قواعد العدل،والمساواة بين الناس،وحفظهم من مز الق الأهواء والشهوات…
"ولذا قال ابن القيم:"حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية فوق حاجتهم إلى كل شيء ،ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها،لأن أكثر الناس يعيشون بغير طب""(15)
وإذن مهمة هذا الفقه ليست تكمن فقط في تقديم إجابات عملية على النوازل الاضطرارية المجتمعية الحركية بل هو مطالب بأن يستشرف من داخل هذه الإجابات العملية إجابات لتجاوز هذه الحالة الاضطرارية العامة كي يكون فعلا فقها استئنافيا وحتى لا يسقط في دوامة التبريرات اللامتناهية.
الخاصية الثالثة :لحظية أحكامه ومواقفه(/5)
فهو إجابة على نوازل اضطرارية مجتمعية حركية والتي هي من تداعيات النازلة الكبرى التي حلت بالأمة الإسلامية وإذن أحكامه بمثابة فتاوى لحظية مرتبطة بنازلة حركية معينة وبمدى سريان هذه النازلة، بمعنى أنها تصبح غير صالحة بمجرد تجاوز النازلة الاضطرارية التي من أجلها حلت الفتوى والحكم ، ولعل ذلك من طبيعة الفتاوى ولهذا نجد تشديد أحمد بن حنبل على أن لا تدون فتاواه وثبت أن للشافعي دورين في الاجتهاد الأول في العراق والثاني في مصر حيث أخذ يرجع عن بعض آرائه(16).
الخاصية الرابعة: الشمولية
فهو يأخذ بعين الاعتبار كل حيثيات النازلة المراد تقديم إجابة شرعية عنها ويربطها بالنازلة الكبرى وخيوط التأثير عليها وإذن فهو شمولي من حيث استجماعه كل معطيات نازلة معينة وربطها بالنازلة الكبرى ومعطياتها وخيوط تأثيرها.
المحور الثالث:في منابع فقه الاستئناف :(يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام و إخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل) ، (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) ، (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).سورة الأحزاب.
انطلاقا من الخصائص التي ذكرنا يمكن أن نخلص إلى أن هذا الفقه هو:
*
فقه للنوازل المجتمعية الحركية الاضطرارية ذات الطابع الاستثنائي قياسا لما ينبغي أن يكون عليه الواقع شرعا.فهو بهذا المعنى فقه للموازنات والترجيحات على اعتبار أن في لحظة الاضطرار قد تتعارض المصالح والمفاسد مما يوجب القيام بترجيحات وموازنات .
*
فقه للتجاوز والاستئناف فهو إذن فقه تغييري ذو طابع ديناميكي.
على هذا الأساس فإننا نقدر أن منابعه الأساسية هي كالتالي :
1-فقه الترجيحات والموازنات.
وموضوعاته تحدث عنها علماء أصول الفقه وبوبوا لها بابا تحت عنوان التعارض والترجيح.
يقول ابن القيم بصدد هذا الباب:"إذا تأملت شرائع دين الله التي وضعها بين عباده وجدتها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة، أو الراجحة،وان تزاحمت قدم أهمها،وأجلها،وان فات أدناها،كما لا تخرج عن تعطيل المفاسد الخالصة والراجحة بحسب الإمكان.وان تزاحمت عطل أعظمها فسادا بتحمل أدناها،وعلى هذا وضع أحكم الحاكمين شرائع دينه دالة عليه شاهدة له بكمال علمه،وحكمته،ولطفه بعباده،و إحسانه إليهم ،وهذه الجملة لا يستريب فيها من له ذوق من الشريعة،وار تضاع من ثديها وورود من صفو حوضها"(17).
ويقول ابن تيمية بخصوص نفس المسألة:"الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها،وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان،ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين حتى يقدم عند التزاحم خير الخيرين ويدفع شر الشرين"(18).
ولقد فصل د.يوسف حامد العالم في هذا الأمر في كتابه"المقاصد العامة للشريعة الإسلامية "في حديثه عن ميزان تفاوت المصالح ننقل كلامه بتصرف حيث اعتبر أن"هذا الميزان له ثلاث جوانب :
#
الأول:النظر في المصلحة من حيث ذاتها وقيمتها وترتيبها.
#
الثاني:النظر إليها من حيث مقدار شمولها وخصوصها.
#
الثالث:النظر إليها من حيث تأكد حصولها.
…أما باعتبار الجانب الأول فإننا إذا نظرنا في اختلاف قيم المصالح من حيث ذاتها،وجدنا أن كليات الشرع المعتبرة شرعا متدرجة حسب الأهمية في خمس مراتب:حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال…ثم أن رعاية كل من الكليات يكون بوسائل متدرجة حسب الأهمية في ثلاث مراتب وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات …أما إذا كانت المصلحتان المتعارضتان متعلقتين بكلي واحد…ففي هذه الحالة إلى المجتهد أن ينتقل إلى الجانب الثاني للميزان وهو جانب النظر إليها من حيث مقدار شمولها ويقدم أعم المصلحتين شمولا على أضيقهما وأخصهما…ومع النظر إلى جانب الشمول ،فلابد من النظر إلى الجانب الثالث وهو النظر في مدى توقع حصولها في الخارج…"(19).
2-عن الضوابط الموجهة لعملية الترجيحات والموازنات:
أخذا بعين الاعتبار للمهمات التاريخية الموكولة لفقه الاستئناف و لضوابط المصلحة من أن المصلحة مصدرها هدى الشرع،وليس هوى النفس أو العقل المجرد… وأن المصلحة والمفسدة في الشريعة الإسلامية ليست محدودة بالدنيا وحدها،بل باعتبار الدنيا والآخرة مكانا وزمانا لجني ثمار الأعمال…و أن المصلحة الشرعية كما لا تحد في الدنيا فإنها لا تنحصر أيضا في اللذة المادية و أن مصلحة الدين أساس للمصالح الأخرى ومقدمة عليه(20)وتأسيسا على الميزان أو المعيار العام الذي تبنى على أساسه الموازنات فإننا نقدر أن نجاح عملية الموازنات في ما يعرض على هذا الفقه من نوازل مجتمعية حركية مرهون بالضوابط الموجهة التالية:
أ-تقدير المصلحة أو المفسدة وفق الضوابط المشار إليها من قبل وارتكازا على خصائصها من حيث الانضباط لمصدريتها من الشرع ومن حيث عدم محدوديتها الدنيوية ومن عدم انحصارها في اللذة المادية ومن حيث اعتبار مصلحة الدين من أساسيات المصالح ومقدماتها.(/6)
ب-الانضباط لميزان تفاوت المصالح من حيث قيمتها وترتيبها(ضرورية:الدين،النفس…،حاجية، تحسينة) ومن حيث شمولها(عامة،خاصة،كلية،جزئية)ومن حيث توقع حصولها في الخارج،ونفس الميزان يراعى في تفاوت المفاسد فيقدم الأدنى فسادا ويؤخر الأعظم فسادا،و كذلك حين التعارض بين المفاسد والمصالح فيتم تقديم درء المفسدة العظيمة على جلب مصلحة أدنى أو يتم تأخير دفع مفسدة أدنى من أجل مصلحة عظيمة.
ج-اعتبار مآلات الترجيح والموازنة :وهذا الضابط مرتبط بخاصية التجاوز والاستئناف التي خصصنا بها هذا الفقه فهذا الفقه هو فقه للمآلات يؤسس للإجابات العملية للنوازل الحركية التي تعير اعتبارا هاما لمآلاتها ،يقول الشاطبي بهذا الصدد:"إن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظرة إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعا لمصلحة فيه تستجلب ،أو لمفسدة تدرأ،ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه،وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو لمصلحة تندفع به ،ولكن له مآل على خلاف ذلك.فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية،فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة ،تساوي المصلحة، أو تزيد عليها،فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية،وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد،فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية ،وهو مجال للاجتهاد صعب المورد"(21).
رأينا مع الشاطبي أن صوابية الإجابات الترجيحية مرهونة باعتبار مآلاتها فالإجابة اللحظية بدون استحضار وقعها في المآل قد تكون مشروعا لمصلحة تستجلب أو لمفسدة تدرأ أما باعتبار وقعها في المآل قد تفضي إلى خلاف المصلحة التي قدرت لها أن تستجلب أو المفسدة التي قدرت لها أن تدرأ، لذلك فاعتبار مآلات الإجابات للنوازل المجتمعية الحركية في تحقيق تقدم في عملية تجاوز الحالة الاضطرارية الاستثنائية شرط أساسي في صوابيتها،ومنه أن يتم الترجيح على ضوء المهمات التاريخية المنوطة بهذا الفقه من حيث:
أ- حفظ ما تبقى من الدين من جهة
ب- السعي العملي نحو استكمال ما تبقى من حفظ الدين كما بينا سابقا.
3-استقراء السيرة النبوية
لأن السيرة النبوية هي النموذج التنزيلي لأحكام الإسلام ومواقفه في "ملاحقته وتصحيحه"لواقع الناس بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي الكريم ،فهي تشكل بالنسبة لهذا الفقه منبعا أساسيا لصياغة الأحكام والمواقف على النوازل المجتمعية الحركية التي تعترض مسيرة الاستئناف الإسلامي ،كما اعترضت رسول الله صلى الله عليه وسلم نوازل في مسيرة"إرساء الحياة الإسلامية" وتحري خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منهج تغييره من حيث القواعد الحركية العامة التي حكمت مسيرة التغيير والإرساء بهدي من الوحي الكريم، هو جزء من اتباع هدي النبوة وهي من الدين (فكما الاتباع واجب في العبادات والأخلاق والمعاملات الفردية فكذلك الشأن في منهجية عملية التصحيح الجماعية التي مارسها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الواقع الاجتماعي) .
*ميزات لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في التصحيح والتغيير:
لذا فان استقراء سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقودنا إلى استخلاص ذاك الخط العام الذي حكم المسيرة النبوية في إرساء الدين في الحياة العامة ، هذا الخط العام نقدر أن ميزاته الأساسية هي كالتالي:
أ-المرحلية والتدرج ومنه نستلهم ربط كل مرحلة بوسيلتها الرئيسية ووسائلها الثانوية المناسبة .
ب-الموازنات الحكيمة والتي هي من هدي الوحي الكريم في إصدار المواقف والأحكام ومنها نستلهم قاعدة الترجيح بين المصالح والمفاسد.
*نموذج في قراءة السيرة النبوية :
على ضوء هذه الميزات الأساسية وفي استقراء عام لمحطات السيرة النبوية نرى في تقديرنا أنه يمكن النظر إليها بالقراءة التالية:
**بحسب مراحلها:أنها تنقسم إلى مرحلتين كبريتين بالنظر إلى موازين قوة التأثير في الأحداث بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر،هذه المراحل هي:
أ-مرحلة الاستضعاف وميزاتها الأساسية البدايات الأولى للعملية الدعوية التصحيحية الكبرى من حيث موازين قوة التأثير في الأحداث من جهة معسكر الإيمان التي كانت لازالت مرجوحة ،وقد دامت إلى غاية الهجرة إلى المدينة .
ب-مرحلة التمكن وتبتدأ من الهجرة إلى المدينة إلى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وميزاتها الأساسية تحول موازين قوة التأثير في الأحداث لصالح معسكر الإيمان.
وتقسيم هذه المراحل يمكن هذا الفقه من استجلاء سمات كل مرحلة من حيث وسيلتها الجهادية الرئيسية الراجحة في تلك المرحلة في عملية الإرساء.(/7)
وكذلك من حيث الأدوات والوسائل الجهادية الثانوية المقوية لهذه الوسيلة الرئيسية،ولكل مرحلة من هاتين المرحلتين الرئيسيتين تقسيمات مرحلية بحسب درجة استقواء الوسيلة الرئيسية بالأدوات الجهادية الثانوية (وهذه المسألة مرتبطة بالمراكمة المستمرة للعمل والموازنات الحكيمة على ضوء ماروكم من عمل).
ففي مرحلة الاستضعاف كانت الوسيلة الجهادية الرئيسية هي الجهاد بالكلمة إلا أنها عرفت بدايات تأثيرها محدود على الأقربين في مرحلة اتسمت بالسرية في الدعوة والاجتماعات وكانت الأدوات الجهادية المقوية لها التنظيم والسرية (الاجتماع في دار الأرقم بن أبي الأرقم)، التركيز على بعض الناس(اختيار الطليعة المجاهدة)تربية ودعوة وبناء عقديا ومنهجا وسلوكا…ثم في مرحلة تقوت هذه الأداة فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة وساكنتها من قريش والى حجاجها من القبائل المجاورة يدعو جهارا إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام ويصدع بكلمة الحق كما أمر وكانت الأدوات المساعدة له والمسندة لدعوته الصادعة ،طلب الجوار ،التنظيم ،توسيع مجال الدعوة للقبائل المجاورة ،بيعة العقبة الأولى والثانية…وكان الهدف من هذه المرحلة واضحا تأسيس قاعدة ارتكاز صلبة من العصبة المؤمنة وتنضيج شروط التمكن للمؤمنين ولا يخفى على أحد أن بناء هذه القاعدة/نواة الأمة ،لم يكن فقط بالارتكاز على العمل الأرقمي أو التحتي دون تحمل المسؤولية في الصدع بالحق في الواقع وتأدية ضريبة ذلك (التعذيب والتنكيل والمقاطعة والإشاعة…) ،بل كانت هناك علاقة جدلية بين العمل في حقل الدعوة العلنية وقولة الحق ومعارضة المشركين وتسفيه آلهتهم وبين العمل التحتي الأرقمي البنائي،وهذه العلاقة الجدلية هي التي أسست لقاعدة الارتكاز /نواة الأمة ثم الأمة التي ستبني دولتها في المدينة.
**بحسب موازناتها الحكيمة في إصدار الأحكام والمواقف:
بعملية استقرائية لمواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم الحركية أي التي اعترضته في مسيرته الارسائية للحياة الإسلامية ،قد تتضح لنا الموازنات الحكيمة التي كانت وراء اتخاذ هذا الموقف الحركي أو ذاك لمصلحة الدعوة ولمصلحة إكمال مسيرة الإرساء،يتضح هذا من خلال محطات السيرة النبوية والتي يلزمها قراءة متأنية في سياقها الحركي وفي سياق مآلات مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم الحركية
ويمكن أن نسرد في هذا المقام أمثلة:
*
العمل قانونا لجوار رغم أنه قانون جاهلي ،فهو يخدم مصلحة الحفاظ على نواة الدعوة.
*
تبنيه صلى الله عليه وسلم لحلف الفضول رغم أنه حلف كان في الجاهلية قبل البعثة لأنه مناصر للمظلوم.
*
طلبه الهجرة إلى الحبشة رغم أن قومها يدينون بالنصرانية ،لأن ذلك فيه جلب مصلحة لاستمرار نواة الدعوة.
*
تشديده على الصبر في مكة فترة الاستضعاف رغم مالحق الصحابة من أذى وتعذيب لأنه فيه انضباط لمتطلبات المرحلة وسنن التغيير وتفادي لأي رد انفعالي يربك العملية التغييرية وان بدت في تلك اللحظة في غير مصلحة الدعوة، نظرا للعلاقة الجدلية الحاصلة بين ضريبة الصدع الدعوي وبين التوسع والانتشار وتصليب عود القاعدة المؤمنة.
*
خروجه للطائف ،بحثا عن قاعدة جديدة من خارج الديار المكية.
*
معاهداته مع بعض القبائل العربية المشركة لتحييدها من دائرة التدافع الحاصلة بين المسلمين وقريش.
*
التعهد بنصرة يهود المدينة حين الاعتداء عليهم وبعدم غدرهم للمسلمين من خلال وضعه لصحيفة المدينة وذاك تعبير عن أن دولة الإسلام هي دولة مدنية .
*
قبوله بصيغة صلح الحديبية رغم مافيه ظاهريا كما قد يبدو من" تنازلات" لم ترق بعض الصحابة ،وفي ذلك مصلحة ضمان حرية الدعوة في هدوء واستقرار في أرجاء الجزيرة العربية دون إرباكات ولا صد ولا معيق.
بكلمة إن المواقف النبوية الحركية وهي من هدي الوحي الكريم تحتاج إلى تأمل عميق واستجلاء مبسوط لموازناتها الحكيمة في حالها ومالها التي أفضت إليها وهي باليقين مفضية إلى مصلحة معتبرة ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله وتقريره هو من الشرع وإذن هو مفض لا محالة إلى مصلحة على اعتبار أن "كل ما طلبه الشارع أو خير فيه ما كان إلا لمصلحة حقيقية فيه"(22).
4-استعمال آلية التقريب والتغليب:(/8)
فالوصول إلى تقدير سليم للمصالح والمفاسد والموازنة بينهما وفق الضوابط التي ذكرنا من قبل ،عملية تقديرية اجتهادية نسبية، فنسبة غالبة من تحقق بلوغ المصلحة هو أقرب إلى المصلحة التي ينبغي جلبها ،ونسبة غالبة من تحقق درء المفسدة هو أقرب إلى تحقق المصلحة وكذلك نسبة ضئيلة من تحقق بلوغ المصلحة هو أقرب إلى درأ المفسدة وبذلك يكون فقه الاستئناف هو فقه موازنة بين جميع الاحتمالات الممكنة المفضية إلى تحقق جلب مصلحة أو إلى دفع مفسدة في النازلة الحركية المقصود إصدار حكم وموقف اتجاهها واختيار الاحتمال الأقرب للتحقق جلبا لمصلحة عظيمة أو درءا لمفسدة عظيمة ،إن استعمال هذه الآلية التقديرية لهو كفيل بأن يمتلك هذا الفقه قوة حاسمة بعد التقدير والترجيح -تقدير المصالح والمفاسد وفق الضوابط التي أشرنا إليها سابقا وتأسيسا على خصائص المصلحة المذكورة سابقا -ترجيح وموازنة بين مصالح ومفاسد بعضها وبعض أو بينهما في حال التعارض وفق الضوابط الموجهة للترجيح كما ذكرنا سابقا ثم الحسم في الترجيح الغالب والأقرب لمصلحة راجحة تستجلب أو لمفسدة راجحة تدرأ،ولذلك لا غرابة في أن يعرف ابن عقيل السياسة الشرعية (وهي المجال الأوسع لموازنات فقهائنا السلف) قائلا:"السياسة كل فعل يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وان لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي"(23).
5-رصيد الفتاوى الفقهية لعصر الأئمة المجتهدين:
وخصوصا في مجال السياسة الشرعية لاقترانه بنوازل جماعية شبيهة من حيث حجمها(لامن حيث طبيعتها) بالتي قد تعترض هذا الفقه في العصر الحالي،ذلك أن استحضار هذا الرصيد ضروري في الوقوف على بعض التقاطعات في النوازل وكيف عالجها فقهاؤنا موازنة وترجيحا.
خلاصة عامة:
وبعد لقد حاولنا أن نجلي بعض المعالم الأساسية لهذا الفقه، مساهمة منا متواضعة لوضع لبنات رصينة يعتمد عليها في تذليل صعاب عملية استئناف حياة إسلامية قويمة كما يرضاها الله سبحانه وتعالى، ولهذا الغرض اعتمدنا منهجية لعرض هذه المعالم، منهجية تقضي باستصدار يخص فهم نازلة أمتنا الكبرى التي على أساسها تبنى مشروعية هذا الفقه مركزين فيها على تبيان المنعطفات الكبرى التي ساهمت في تشكيلها بدءا بمنعطف التخلي عن مبدأ الشورى وتغييب إرادة الأمة في التقرير والتقويم والتنفيذ مع الصعود الأموي ومرورا بمسلسل التراجعات عن نموذج الخلافة الراشدة في إقرار العدل وانتهاء بالمنعطف الأكثر وقعا على بنيات الأمة السياسية والثقافية والمرجعية وهو بروز كيان الدويلة القطرية التجزيئية بمعالمها الكبرى المتمثلة في تغييب الشريعة في الحكم كما في سائر مناحي الحياة العامة والتخلي عن المرجعية الإسلامية العليا موجها و مؤطرا ومرجعا في سائر مناحي الحياة مع استمرار عملية التغييب القسري لأرادة الأمة في بلورة الاختيارات المجتمعية الكبرى وفي ممارسات سلطتها وضرب وحدة الأمة في العمق الشيء الذي مهد لغرس كيان صهيوني غاصب في فلسطين السليبة بتواطؤ أعداء الأمة ،لنعرج إلى الحديث عن مشروعية فقه الاستئناف كفقه يسترشد به الدعاة والعاملين في الحقل الدعوي الإسلامي التغييري ،ويجيب عن النوازل الحركية التي تعترضهم في مسيرتهم الاستئنافية الإسلامية، مع استشراف آفاق تجاوز هذه الحالة الاكراهية العامة التي تعيشها أمتنا، ولهذا حاولنا أن نجلي معالمه بالحديث عن خصائصه ومنابعه ،مع استحضار ما راكمه علماؤنا وفقهاؤنا وأصوليونا في باب المصالح والمفاسد والترجيح بينهم ،وما تحمله لنا السيرة النبوية العطرة من دروس حركية في التغيير و التصحيح المجتمعيين.
ينبغي في الأخير أن ننبه إلى أن حديثنا عن فقه الاستئناف و مجالات اشتغاله هو تأكيد على أمرين أساسين في نظرنا:
أولها أننا نميز بين هذا الفقه ومجالات اشتغاله(النوازل الحركية التي تعترض الدعاة في مسيرتهم نحو استئناف الحياة الإسلامية القويمة) و باقي أنواع الفقه (العبادات والمعاملات…) ومجالات اشتغالها، وبالتالي لا ينبغي أن يقع خلط بينهما لأن لكل مجالات اشتغاله،
ثانيها في حديثنا عن السيرة النبوية و تقسيمنا لمراحلها، نميز بين حركة الرسول صلى الله عليه وسلم التي كانت حركة إرسائية لدعائم الدين والحياة الإسلامية (عقيدة ، عبادات، معاملات، أخلاق…)، وحركة الدعاة والعاملين في الحقل الدعوي والتغييري الإسلامي، والتي هي حركة استئنافية للدين وللحياة الإسلامية القويمة بما يعني ذلك من مهمات ملقاة على عاتقها متمثلة في حفظ ماتبقى من الدين في كافة مجالاته (العقيدة ، العبادات ، المعاملات ، الأخلاق…)، والسعي العملي نحو استكمال ما تبقى من حفظ الدين في كافة مجالاته، كما ذكرنا سابقا.(/9)
وأخيرا، إن تحقيق النهضة المطلوبة والاستئناف القويم لمسيرة شهادة الأمة على الناس جميعا تبتدأ من استئناف الحياة الإسلامية القويمة كما يرضاها الله سبحانه وتعالى،ومقدمة هذه العملية هو استرشاد الدعاة وحركات الإحياء الإسلامي بفقه يجيب عن النوازل المجتمعية الحركية التي تعترض عملية الاستئناف المرجو ويتجاوز الإجابة اللحظية (الفتوى) إلى استشراف مآلاتها في تجاوز هذه الحالة الاكراهية الاضطرارية المجتمعية التي تعيش أمتنا بغياب الإسلام عن ساحة الفعل والتوجيه والتقرير والتشريع لحياتنا العامة.
والله الموفق وهو يهدي السبيل.
الإحالات:
(1)-إشارة إلى بعض التجارب التي إما رفضت الواقع جملة وتفصيلا معتبرة إياه باطلا وملتمسة هذا الرفض من فتاوى بعض فقهائنا السلف ،واما قبلت هذا الواقع جملة وتفصيلا والتمست بعض التبريرات والمصوغات الفقهية .
(2)- إشارة و إشادة بمجهودات اجتهادية قدمت تعالج نفس الإشكال من قريب أو بعيد ونذكر على سبيل المثال لا الحصر:"السياسة الشرعية"و"من فقه الدولة في الإسلام"و"أولويات الحركة الإسلامية"للدكتور يوسف القرضاوي،"فقه التدين فهما وتنزيلا"للدكتور عبد المجيد النجار،فقه الحركة لجمال سلطان،"المنهج الحركي في السيرة النبوية" لمنير الغضبان،"في نظريات التغيير"لمنير شفيق…
(3)-للمزيد من التفصيل يرجى الرجوع لمقالنا بجريدة التجديد "تأملات نقدية في الفكر السياسي للحركة الإسلامية" المنشور في أعداد 99-101-103-105.
(4)-و(5) و (6)انظر "الإسلام بين العلماء والحكام"لعبد العزيز بدري دار الكتب العلمية بيروت-لبنان،"تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد وتاريخ المذاهب الفقهية"للإمام محمد أبو زهرة دار الفكر العربي.واليك مقتطف على سبيل المثال لا الحصر لكتاب سفيان بن سعيد المنذر الثوري لهارون الرشيد ومن خلاله يتبين نموذج للحالة التي عاشتها الأمة بعد الخلافة الراشدة:"يا هارون هجمت على بيت المسلمين بغير رضاهم،هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم،والعاملون عليها في ارض الله تعالى ،والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل أم رضي بذلك حملة القران أهل العلم والأرامل والأيتام…"والرواية بكاملها في مرجع "الإسلام بين العلماء والحكام"لعبد العزيز بدري ص 96-97.
(7)-و(8) -مقدمة بن خلدون الجزء الأول دار الجيل بيروت من ص 223-230.
(9)-للمزيد من التفصيل حول "اتفاقية سايكس بيكو والحالة العثمانية آنذاك" يرجى الرجوع على سبيل المثال لا الحصر إلى العدد88-89من مجلة المنطلق 1992،وخصوصا مقال"اتفاقية سايكس بيكو ،وعد بلفور في ضوء استراتيجية التجزئة" ل د.محمد مراد،ص29.
(10)-فقه الحركة الأصول والمقدمات لجمال سلطان الطبعة الأولى 1992 ص-15 مركز الدراسات الإسلامية برمنجهام-بريطانيا.
(11)-في فقه التدين فهما وتنزيلا الجزء الثاني كتاب الأمة الطبعة الأولى للدكتورعبد المجيد النجار ص-68
(12)-وهو ما سماه بعض الفقهاء بجهاد الدفع .
(13)انظر الماوردي في الأحكام السلطانية في حديثه عن إمارة الاستيلاء أو- رأي الإمام أحمد بن حنبل في إمامة المتغلب …أو الشافعي في اشتراطه للمتغلب أن يكون قرشيا… تاريخ المذاهب الإسلامية(مرجع سابق) للإمام أبو زهرة.
(14)-للمزيد من التفصيل في هذه المسألة انظر مقالات ذ.محمد المرواني "السلطة في الفكر السياسي الإسلامي " في جريدة النبأ المغربية لسنتي 1997-1998.
(15)-"المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" د.يوسف حامد العالم ص217-225 -226.الطبعة الأولى 1412ه-1991 م المعهد العالمي للفكر الإسلامي .
(16)انظر الإمام أحمد بن حنبل والإمام الشافعي في: "تاريخ المذاهب الإسلامية"مرجع سابق للإمام أبو- زهرة.
(17)-مفتاح السعادة الجزء 2/22 نقلا عن "المقاصد العامة للشريعة الإسلامية مرجع سابق لد.يوسف حامد العالم.ص 188.
(18)-منهاج السنة النبوية (6/118) نقلا عن"منهج التلقي والاستدلال بين أهل السنة والمبتدعة" لأحمد بن عبد الرحمن الصويان الطبعة الأولى 1419ه-1999م.ص58.
(19)-"المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" د.يوسف حامد العالم ص189-191.
(20)-"المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" د.يوسف حامد العالم ص140--147.
(21)-الشاطبي-الموافقات:4/127-28 نقلا عن عبد المجيد النجار "في فقه التدين فهما وتنزيلا" مرجع سابق ص-82.
(22)- "تاريخ المذاهب الإسلامية " للإمام أبو زهرة مرجع سابق ص-299.
(23)- علم أصول الفقه عبد الوهاب خلاف مرجع سابق ص-86(/10)
في الحياة الزوجية .. من هو صاحب القرار؟
ميرفت سعيد 19/3/1426
28/04/2005
إذا كنا نتكلم عن "مؤسسة اجتماعية" أي الأسرة مبنية على شراكة زوجية، فكيف ينتظر أحد الشركاء أن تنمو هذه الشركة إذا لم يكن كل واحد منهما على بينّة لكل الأمور الطارئة في الحياة ؟ ومن الأمور التي يجب أن يتصارح بها الزوجان: الوضع الاقتصادي، المشكلات الطارئة في الأسرة، الهموم الخاصة بكل من الطرفين وغيرها من الأمور التي تعزز صفاء العلاقة وتمتّن الشراكة.
فالمشاورة مطلوبة من قبل الشريكين، الزوجة من زوجها والزوج من زوجته ولن تنقص قيمة أحد منهما أو كرامته أو رجوليته كما يظن البعض إن هو أخذ بمشورة الآخر. ويجب أن نبين أن المشورة لا تعني الأمر ولا تعني الفرض، يعني إذا تم التشاور بين الزوجين ثم قرر الزوج خلاقاً لما أشارت إليه الزوجة فإن ذلك لا يعني شماتة أو نقص بثقة الآخر ولا يصح لها أن تغضب، ويمكنها طلب توضيح ذلك فقط دون ممارسة الضغط النفسي أوالمعاتبة.
استشارة المرأة حق شرعي
وقد ثبت من هديه صلى الله عليه وسلّم أنّه استشار أم سلمة رضي الله تعالى عنها، وقد كانت راجحة العقل نافذة البصر ففي الجامع الصحيح للإمام البخاري برقم (1566) من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه في قصة الحديبية وفيها: قال فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه :" قوموا فانحروا ثم احلقوا "، قال فو الله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة رضي الله عنها فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرج لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحَرَ بُدْنَك وتدعو حالِقَك فيحلِقَك، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً" .
وقد أوضح الحسن البصري ما يؤخذ من هذه الواقعة ، من شرعية استشارة النساء ، فقال : إنْ كان رسول الله لفي غنى عن مشورة أم سلمة ، ولكنه أحب أن يقتدي الناس في ذلك ، وأن لا يشعر الرجل بأي معرّة في مشاورة النساء .
طرح مفهوم الندِّية
وعلينا أن نضع نصب أعيننا أن الزوج ليس ندًا أو عدواً أو منافساً يجب أن نواجهه ونتحداه، وأن الحياة الزوجية ليست معركة علينا أن نخوض غمارها وننتصر فيها. ولابد لنا أن نقف عند نقطة هامة وجوهرية ونعي أنه ليس المهم من بيده سلطة اتخاذ القرار بقدر ما هو مهم أن يكون القرار المتخذ والمعمول به قراراً سليماً وفي صالح الحياة الزوجية.
في إطار هذه المفاهيم قام العديد من الباحثين الاجتماعيين بدراسات حول الأدوار الزوجية ولعلَ أبرزها دراسة: "الشراكة في الأسرة العربية" التي قامت بها اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة. تناولت هذه الدراسة 3 بلدان عربية وهي: لبنان، العراق، اليمن. تكونت عينة البحث من : 602 من الأسر اللبنانية، و500 أسرة يمنية من مدينة صنعاء، إضافة إلى 600 أسرة عراقية. وتم طرح استبيان على هذه العينة تضمّن 34 سؤالا ذات أجوبة محددة للزوج والزوجة من ضمنها أسئلة تتعلق بالأعمال والمهام المنزلية، وتربية الأولاد، والمساعدة في الأعمال المنزلية، كيفية اتخاذ القرارات بين الزوجين واحترام خصوصيات الزوج والزوجة، الأنشطة المشتركة بين الزوجين وطرق حلّ المشكلات الزوجية. وتركز البحث الميداني على العلاقة بين المستوى العلمي والاقتصادي للزوج والزوجة وأثر ذلك على الشراكة بينهما ولا سيما فيما يتعلق باتخاذ القرار داخل الأسرة وفي شتى المجالات.
وكانت أبرز النتائج المشتركة لهذه الدراسة على صعيد البلدان الثلاث أنه كلما ارتفع المستوى العلمي للزوجين ومستوى الدخل ارتفعت الشراكة بينهما. ومن النتائج المشتركة أيضاً أن الأعمال المنزلية غالباً ما تكون على عاتق الزوجة. ويتشارك الأزواج باتخاذ القرار الموحد في الأمور التالية: الإنفاق، الإنجاب، الذهاب إلى الطبيب، سياسة تربية الأولاد. بينما تتحمل غالب النساء مسؤولية تربية الأولاد. كما يوجد تفاوت بين البلدان من حيث تفرّد المرأة باتخاذ القرارات المالية الخاصة بها. وفيما يتعلق بطرق حلّ النزاعات بين الزوجين اعتبر الحوار وأسلوب المناقشة كمعدّل وسطي لأجوبة العينة. كما يوجد حالات نزاعات زوجية قائمة على مشكلة التنافس والتحدي بين الزوجين.
صراع الأدوار بين الزوجين
وحول من يتخذ القرار في المنزل، وهو ما يسمّى في علم الاجتماع "صراع الأدوار بين الزوجين". .وسننتقل للحديث عن: من هو أكثر عرضة لمشكلة "صراع الأدوار"؟ وما هي الإرشادات الوقائية لتفادي هذه المشكلة الزوجية؟ وما هي الإرشادات العلاجية لمثل هذه الحالات؟؟
أولاً: التصنيفات الاجتماعية للحالات الأكثر عرضة لـ"صراع الأدوار".
إن أكثر الأزواج عرضة للتنازع على سلطة أخذ القرار في الحياة الزوجية هم:(/1)
-الزوجة المتسلطة والزوج المتسلط في منزل واحد حيث لا يمكن لأحدهما أن يتنازل عن رأيه.
-اختلاف البيئة الأسرية بين الزوجين أي أن تكون الزوجة من بيئة أسرية تربت على التشاور والاحترام المتبادل بين الزوجين بينما يكون الرجل من بيئة أسرية تربى فيها على أن الرجل وحده الآمر والناهي (والعكس صحيح).
-التفاوت الطبقي والثقافي بين الزوجين: عندما تكون الزوجة أغنى من الرجل أو من طبقة اجتماعية أعلى والعكس صحيح.
-عدم الانسجام الفكري وعدم النضج العاطفي والعقلي المتبادل بين الزوجين.
-النقص المعرفي في الحقوق والواجبات الشرعية بين الرجل والمرأة.
-فقدان الثقة المتبادلة بين الزوجين (الثقة هنا فيما يتعلق بالقدرة على اتخاذ القرارات السليمة).
-إصابة أحد الزوجين بأمراض نفسية واضطرابات سلوكية (مثال البارانويا، العدوانية، النرجسية).
بعد الانتهاء من ذكر هذه التصنيفات لابد لنا من التحدث عن كيفية الوقاية من الوقوع في مشكلة صراع الأدوار، وكيف يتخذ الزوجان القرار في حياتهما الأسرية؟
إرشادات مهمة قبل اتخاذ القرار
في الحديث عن الإرشادات الوقائية التي يجب أن نسترشد بها لتفادي النزاع الزوجي حول اتخاذ القرار، لا بد لنا أن نتوقف لتفسير لماذا يختلف الزوجان عند اتخاذ القرار وكيف نتعامل معه؟
1-وجهات النظر: ينظر الرجل والمرأة إلى أمور الحياة ومجرياتها من نقاط أفضلية متغايرة إذ كل منهما ينظر إلى نفس الموضوع بصورة مختلفة. وعادة ما يكون الاختلاف في وجهات النظر لكثير من الأمور نظراً لاختلاف تكوين الشخصية والخبرة الحياتية عند كل من الزوجين. لذلك على كل منهما أن يسعى لفهم وجهة نظر الآخر واحترامها وتقبلها. ومن الأمور التي تختلف وجهات نظر الزوجين فيها، هي:
- أولويات الإنفاق: يختلف الرجل عن المرأة في تحديد أولويات الانفاق في المنزل. لذلك يستحسن منذ البداية تحديد هذه الأولويات بين الزوجين والاتفاق عليها، مثال : إعداد ميزانية العائلة، إعداد خطة لطرق الإدخار..
- تربية الأبناء: يختلف الزوجان في أسلوب تربية الأبناء. وعادة ما تكون المسؤولية مشتركة بين الزوجين في تربية الأبناء بنسب متفاوتة. فقد تكون وظيفة الأم أكبر من وظيفة الأب في مرحلة معينة أو في ظروف خاصة وقد تكون وظيفة الأب أكبر من وظيفة الأم في مراحل معينة أو في ظروف خاصة، والمهم أن يتفق الزوجان على سياسة تربوية موحدة يعتمدونها في تربية الأبناء تفادياً لنشوء خلافات زوجية حول هذا الموضوع.
2-أسلوب المحادثة بين الرجل والمرأة: يتكلم الرجل بلغة مختلفة عن لغة المرأة أي أن طريقة تعبير الرجل عن ما يريده وما يفكر فيه مختلف عن طريقة تعبير المرأة. عادة ما يكون الرجل دقيق في اختيار عباراته وواضح. كما يعبرّ عن احتياجاته ومطالبه بطريقة مباشرة ومحددة. بينما نرى المرأة تتكلم بلغة المشاعر قبل توضيح المعلومات التي تريدها (أي تعبّر عن مشاعرها بالدرجة الأولى قبل الخوض بالمسألة المطروحة بين الزوجين)، وعادة ما تستعمل المرأة أساليب خاصة في الكلام مثل صيغة التفضيل أو صيغة المبالغة وأسلوب المجاز والاستعارة. وهذه الاختلافات في أسلوب المحادثة تخلق مشاكل زوجية نتيجة سوء فهم مقصد الطرف الآخر لعدم تفهّم أسلوب المحادثة المتغاير بين كل من الزوج والزوجة.
هي اتساع أفق .. هو أسلوب تركيزي
يختلف الرجل عن المرأة في اتخاذ القرارات لاختلاف أسلوب التفكير. فإن أسلوب تفكير الرجل في الحياة هو أسلوب تركيزي أما أسلوب المرأة هو التعميم وسعة الأفق. فالمرأة بسبب سعة الأفق في التفكير لا تتمكن من التركيز على أمر واحد بل تنظر إلى الاحتمالات الأخرى التي تكون لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بذلك الأمر.
فعلى الرجل أنه عندما يطرح قضية للتشاور عليه أن يصبر ويتفهم حاجة زوجته في جمع المعلومات والتكلم عن الاختيارات والبدائل والخوض في تفاصيل الموضوع . كذا على الزوجة ألا تغضب إن رأت زوجها يستغرق في التفكير بمفرده فهذه مرحلة من مراحل تفكيره ريثما ينتهي منها سيعود ليشاورك حتى تتخذا القرار النهائي معاً .
وفي نهاية الأمر علينا أن نؤكد أن الاختلافات في اتخاذ القرارت خلال السنوات الخمس الأولى من الحياة الزوجية طبيعية ينتج عنها التعارف الحقيقي بين الشريكين والوصول بالنهاية إلى الانسجام الفكري والعاطفي(/2)
في الخطاب الإعلامي للعمل الإسلامي
إبراهيم غرايبة 17/8/1424
13/10/2003
يبدو من نافلة القول الحديث عن أهمية الإعلام، وقد تقدمت وسائل الإعلام ومؤسساته وبخاصة في مجال الإعلام الفضائي وشبكات الإنترنت، حيث أمكن تغطية الكرة الأرضية بالرسائل الإعلامية وإيصالها إلى أي شخص في أي مكان بالصوت والصورة، وإمكانية التحاور وتبادل الرأي مع المعلومات والحصول على معظم المعلومات على قدم المساواة تقريباً بين جميع الناس.
وتحتاج الأمة والدعوة الإسلامية اليوم إلى منظومة عمل إعلامي تفعل هذه المؤسسات وتجعلها في سياق النهضة والإصلاح، وليست أداة هدم وإفساد، والعمل على ربط العمل الإعلامي بالدعوة الإسلامية ليكون صاحب رسالة مبنية على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والتأثير في الناس على نحو يفعّل الموارد والإمكانات المتاحة، ويحشد كل الطاقات للبناء والتنمية.
وحتى يكون الإعلام في موضعه الصحيح في شبكة النهضة والإصلاح فإنه مطلوب منه:
1- الشمول:
شمول في الرسائل والوسائل، وشمول في المستقبلِين، فالعمل الإعلامي منظومة متكاملة تستوفي صيغاً وشرائح ووسائل كثيرة...
أ- صحافة عامة وسيارة: صحف ومجلات يومية وأسبوعية.
ب- مجلات وأبحاث ودراسات علمية محكمة.
جـ- مجلات عامة بين السيارة والمحكمة شهرية غالباً.
د- مجلات وقصص أطفال.
هـ- كتب عامة ومتخصصة.
و- أفلام ومسلسلات سينمائية وتلفزيونية.
ز- مسرحيات.
ح ـ ندوات ومؤتمرات.
ط- فرق فنية وفولكلورية.
ي- فنون جميلة، تشكيلية، أو غيرها..
وشمول في المعالجة والاهتمام والتغطية، اقتصاد، سياسة، ثقافة، تنمية، سكان..
2- النسبية:
أ- نسبية الخطأ والصواب، وذلك يعني أن ثمة ما هو أكثر صواباً وخطأً وكمالاً، وجواز تعدد الصواب، واختلاف مراتب الخطأ، ويقتضي ذلك بالضرورة إفساح المجال للآراء ووجهات النظر المخلفة مهما تباينت.
ب- نسبية الأداء والإنجاز والكمال، ويقتضي ذلك بالضرورة البحث المستمر عن الأكثر صواباً وكمالاً، والسعي الدائم للاقتراب من الصواب والأفضل، باعتباره هدفاً مثالياً يصعب؛ بل يستحيل الوصول إليه، لكنه يظل هاجساً يدفع إلى التطوير والحوار والمراجعة.
3- التراكم والاستيعاب والإبداع:
الإحاطة ببرامج وأعمال إعلامية أخرى وسابقة، ورصدها ومتابعتها، وإخراج عملنا الإعلامي وفق ما يطور المشروع الإعلامي كله، ويسد النقص، ويحقق الاحتياجات، ويميزه عن غيره.
4- التكامل والتنسيق:
أ- تحديد إنجازات المؤسسات الأخرى ودورها ومهماتها، ووضع العمل الإعلامي في سياق العمل وفي مواقع تمنع التكرار والازدواجية، أو حدوث فراغ وتقصير.
5- التخصص:
أ - السعي في استيفاء التخصصات والاحتياجات.
ب- توزيع الأدوار والأعباء وفق الاستعدادات والتخصصات.
6- اعتبار التغير المستمر في المعلومات والأحداث والتقنيات ويقتضي ذلك بالضرورة الإحاطة الدقيقة والشاملة بمجالاته ومهنه، والتعليم المستمر وإعادة التأهيل وفق المتغيرات المستمرة.
7- التفكير المستقبلي الدائم في الأحداث والتغيرات والاحتياجات لاستيعاب التغيرات والتكيف معها، ومواجهة حالة الرمال المتحركة التي تشمل السياسة والتقنية والحضارة والمجتمعات، وحالة التطور المستمر المذهل في مدخلات حياة الناس واقتصادهم وتعليمهم، أو ما يطلق عليه عصر المعلومات أو حضارة المعلومات.
8- الاهتمام بالآخر: فكراً، ومؤسسات، وبرامج ومواقف. واستحداث التعامل المستمر معه ترجمةً أو تنسيقاً أو استيعاباً أو مواجهة..
9- المرحلية:
أ- تحديد المراحل وفهمها واستيعاب علاقاتها المتدرجة والمتداخلة.
ب- التعامل مع المرحلة بما يلائمها، وتحديد أولوياتها واحتياجاتها.
10- الموازنة:
أ- بين الطموح والممكن.
ب- ما يجب تغييره أو تحقيقه، وما يمكن تغييره أو تحقيقه.
11- السعي في اكتساب أصدقاء ومؤيدين، أو تحييد الناس وتجنب استعدائهم على أقل تقدير، بما في ذلك الغرب رسمياً وشعبياً.
13- المعالجة التفصيلية للقضايا والموضوعات والابتعاد عن التعميم، أو التأييد أو المعارضة المطلقة.
14- تجنب الاتهام والشتم والتعرض بالتجريح للحكومات أو المؤسسات أو الأشخاص، لا يمنع ذلك من الانتقاد والمعارضة في إطار التحليل والدراسة.
15- الاعتماد قدر الإمكان على حشد الأدلة والمعلومات والبيانات من جميع المصادر، المحايدة منه خاصة.
16- ثمة موضوعات وقضايا تزداد أهميتها لدرجة أنها أصبحت موضع اهتمام العالم كله، وقد تحكم في المستقبل العلاقات الدولية -وربما الحروب- كقضايا البيئة، والسكان، والتوطين، والثقافات، والتنمية البشرية . ولتلاحظ مثلاً مؤتمرات القمة العالمية: ريو (92) قمة الأرض، فيينا (93) حقوق الإنسان، القاهرة (94) السكان والتنمية، كوبنهاجن (95) التنمية الاجتماعية، اسطنبول (96) التوطين والإسكان(/1)
في الخُلُق الإسلامي
شعر: المقنّع الكندي
يُعاتُبني في الدِّينِ قومي iiوإنّما
أَسُدُّ به ما قد أخلّوا وضَيّعوا
وفي جَفْنةٍ ما يُغْلَقُ البابُ دونها
وفي فَرسٍ نَهْدٍ عَتيقٍ iiجَعَلْتُه
وإنَّ الذي بيني وبين بني iiأبي
فإنْ أكلوا لَحمي وَفَرتُ لحومَهمْ
وإنْ ضيّعوا غيبيْ حفظتُ غُيوبَهم
وإن زجروا طيراً بنحسٍ تَمرُّ iiبي
وليسوا إلى نصري سِراعاً وإنْ هُمُ
ولا أَحملُ الحِقدَ القديم iiعليهمُ
لهمْ جُلُّ مالي إن تتابعَ لي iiغِنىً
وإنّي لَعبدُ الضيفِ ما دام iiنازلاً ... دُيونيَ في أشياءَ تُكسبُهم iiحَمْدا
ثغورَ حُقوقٍ ما أطاقوا لها iiسَدَّا
مُكلَلةٍ لحْماً مُدَقَّقَةٍ ثَرْدا
حِجاباً لبَيتي ثُمَّ أخدَمْتُه عَبْدا
وبينَ بني عَمّي لَمُختلِفٌ iiجدا
وإنْ هَدموا مَجدي بَنيتُ لهمْ iiمَجدا
وإنْ هُمْ هَوَوا غَيّي هَويتُ لهم رُشدا
زَجَرتُ لهم طيراً تمرُّ بهم iiسَعْدا
دعوني إلى نصرٍ أتيتُهُمُ iiشَدّا
وليسَ رئيسُ القومِ من يَحملُ iiالحِقدا
وإن قلّ مالي لم أُكلّفهُمُ iiرِفدا
وما شيمةٌ لي غيرَها تُشبهُ iiالعَبْدا(/1)
في الذكرى الثالثة لسقوط بغداد: أدبيات هزيمة
الزحف الأميركي الظالم على ارض الرافدين وما تبعه من أحداث يأتي من باب التوجه المدروس للإدارة المحافظة التي تستخف تصريحات زعمائها بعقول البشر، فلماذا لم يهاجموا الكونغو لإحداث تغيير في النظام السياسي؟ ولماذا لم يحرروا فلسطين المحتلة التي قضمت أرضها بفعل السرطان الاستيطاني والتي تتعرض لأسفل احتلال عرفه تاريخ البشرية؟ إذا كانوا يتشدقون بتحرير العراق، إذن المشروع الغربي في العراق يرمي إلى إذلال الإنسان العراقي والعربي وكسر إرادته وتحطيم عنفوانه والاستيلاء على خيراته وتكسير أي طموح عربي لبناء قوة يُحسب لها واختراق العمق العربي وتفتيته وجعل الكيان الصهيوني صاحب الخيوط المنسوجة لتدمير العراق ينام ليلاً طويلاً.
يُخطئ من يعتبر أن بغداد سقطت في التاسع من نيسان (ابريل) عام 2003! ألمْ تكن الدبابات الأميركيه تخترق أجواء ظلام العراق في العزيزيه في العام 1991 التي لا تبعد عن بغداد سوى بضعة كيلومترات؟ ألم تسبح قطاعات الجيش الأميركي في بحر الصحراء الجنوبية مارة من أطراف البصرة مروراً بالناصرية والسماوة في الفترة نفسها؟ ما هو الدافع الذي جعل الولايات المتحدة توقف زحفها نحو بغداد لإسقاط النظام هناك؟ ألمْ تكن الطائرات الاميركيه تجوب سماء العراق من زاخو شمالاً حتى الزبير جنوباً؟ لقد كان عراق العرب محتلاً، فالجو مستباح والماء مستباح والصحراء مستباحة، لكن وجود صدام حسين في السلطة كان يخدم الحركة الامبرياليه في ذلك الوقت بدليل ترك الجنوب العراقي لعصي النظام خلال انطلاق الثورة في الجنوب وعدم إسناد الحركات الشيعية التي أدركت في وقت متأخر أن الغطاء الغربي قد كشف فأصبحت تحت ظل الغضب السلطوي.
كنت أدرك أن العنصر العربي مهزوز ومهزوم وأن بنيان العزة عند كل إنسان عربي متصدع من القمة حتى ما دون الأسفل، فهذا المجتمع الذي اصبح يعيش على الهزيمة ويموت على حب الحياة، اصبح للأسف من دون إحساس. لم أتخيل أن أرى (دبابات) برامز وبرادلي تتحرك فوق جسر الجمهورية وأقول لنفسي، وقع الأميركيون في الفخ، الآن سيسقط الجسر، نعم سينفجر بروح العزة العربية وستغرق المياه كل الجنوب العراقي، لست من توقع وحده. فهناك كثيرون مثلي، ترقبوا سقوط برامز في دجلة، لكن برامز وبرادلي تعلمت الشموخ من نخل الجنوب وهي في طريقها إلى عصر المجد العربي في قلب الدولة العباسية، كانت عيني تُؤكد الحقيقة لأنني اعرف المكان جيداً وها هي برادلي تصوب حممها باتجاه فندق المنصور - ميليا وتستدير لتلقي بقذائفها البركانية على وزارة الدفاع في مبناها القديم، كان هناك صيادو الصور وفي أيديهم الكاميرات من النوافذ وكل واحد منهم يتلهف لالتقاط صورة نادرة عله يحصل على وسام شرف من الدرجة الأولى من مؤسسته، كان المغول ومعهم هولاكو يحرقون كل شيء، حتى الماء أُشعلت في قلب دجلة، لم تكن نكبة فلسطين ولا نكستها اقل وقعاً من مشاهدة الهزيمة العربية تتسارع في شوارع الرشيد.
لقد أربك مراسل قناة «فوكس» الجميع، فقد كان بالمرصاد ليحصد الكم الأكبر من صور العار العربي حتى يرسلها إلى فضائيات العالم كله، نعم لقد صرخت الهزيمة ألماً في تحديها نموذج الإذلال العربي، فقد كانت هزيمة مدوية سجلها التاريخ في كل صفحاته فلم نعرف قيمة الحرية إلا عندما وصل الاحتلال الى أبواب بغداد الثمانية!
هناك أصوات الآن تتعالى هنا وهناك عن طبيعة الإنجازات التي تمت بعد إسقاط النظام العراقي، نحن نقول ان على شرفاء الشعب العراقي إسكات هذه الأبواق التي قتلت الروح وحرقت كل أوراق التاريخ العراقي ووصلت الوقاحة بهؤلاء إلى الاعتداء على جغرافيا العراق، فها هم يتكلمون عن الشمال والوسط والجنوب ولا ادري اذا كان العراق هو وحده الدولة التي يتألف نسيجها الاجتماعي من شيعة وسنّة وغيرها، فعلى سبيل المثال في البحرين شيعة وسنّة وفي الكويت كذلك وغيرهما من الدول ولا أحد يعطي الموضوع أي اهتمام، فلماذا تتعالى أصوات الطائفية في العراق هذه الأيام ومن يغذيها؟ أمضيت في العراق خمس سنوات لم تكن خلالها قضية شيعي وسني وكردي تطفو على السطح ولم اسمع بها إلا بعدما وطأت أقدام الأميركيين ارض الرافدين.
الذكرى الثالثة لسقوط العمق والتاريخ والجغرافيا العربية تذكرني بكلمه للرئيس بوش حين قال من على ظهر حاملة طائرات أميركية في الأول من أيار (مايو) عام 2003، لقد انتهت الحرب والنصر تحقق وسقط الطاغية (صدام حسين) ولكن ما هي الاستراتيجية التي تسميها سيدي الرئيس إستراتيجية النصر في العراق؟ فلا الحرب انتهت ولا النصر تحقق والطاغية يصارع القضاة وأتباعه يقاتلون في كل العراق ويكفي خداعاً لنفسك ولشعبك، قل للجموع الغفيرة التي تملأ قلب الحياة الأميركية منددة بالحرب وداعية الى وقفها، قل لهم حقيقة ما يجري وأخبرهم أن أعداء أميركا أكثر من الحصى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/1)
الحياة ـ نزار نزال(/2)
في الطريق إلى وعي المستقبل
جمال سلطان 2/8/1425
16/09/2004
جمعتني بهم جلسة ود وحوار فكري لا يخلو من مجاملة كما لم يخل من صرامة، هم بعض الشباب الإسلامي لهم تصور سياسي للدور المستقبلي للحركة الإسلاميّة في عالم اليوم، الحوار في مبتدئه ومنتهاه كان متمحورًا حول قضية الخلافة، حيث تشغل هذه القضية المساحة الأوسع من هموم وخيالات هذا الفريق من الشباب، شاركتهم الشوق النفسي والفكري للخلافة وأيام عزّها وعزّ الإسلام والمسلمين ومجدهم، ولكني طرحت عليهم بعضًا من التساؤلات المستجدة حول المسألة، فما هي صيغة الخلافة الإسلاميّة التي يبحثون عنها في عالم اليوم؟ وما هي الطريقة الشرعيّة والعمليّة لتنصيب الخليفة؟ وكيف نجمع الدول والإمارات والممالك على قلب رجل واحد؟ ثم هل الخلافة ستصبح رجلاً واحدًا أم مؤسسة؟ وكيف يمكن أن ندير الخلاف السياسي أو المعارضة السياسيّة داخل دولة الخلافة؟ وما هي الضمانات المؤسسيّة التي تحمي استقلاليّة القضاء وكذلك المؤسسات الرقابيّة كالبرلمانات بصيغتها المعاصرة وهي التي تمثل ـ أساسًا ـ رقابة الأمة على السلطة التنفيذيّة، بحيث نضمن محاصرة الفساد وضمان الحقوق والإدارة الصالحة؟ ثم كيف نحقق تداول السلطة في دولة الخلافة بصورة آمنة وسلمية؟ ثم ما هي الصيغة العصريّة لأهل الحل والعقد؟ ومن يختارهم؟ ثم ما هو الدور السياسي لدولة الخلافة في العلاقات الدولية اليوم؟ وأسئلة كثيرة من هذه الشاكلة لم أعد أذكرها، وقد لاحظت أنّ أصحاب الجلسة لا تكتمل في أذهانهم صورة واضحة عن هذه التساؤلات، بل إنّهم خلال الجلسة انقسموا إلى ثلاثة أقسام تقريبًا في تنوع وجهات النظر في الجواب على التساؤلات، ورغم تقديري لإخلاصهم الشديد لذكرى الخلافة وحماسهم لعودة المجد السياسيّ للأمة المسلمة، إلا أني خرجت من الحوار بانطباع حزين على تشوش صورة المستقبل وغياب "ميناء الوصول" كما قلت في المقدمة السابقة.
على الجانب المقابل لما سبق كان الأمر مذهلاً لي عندما أطلعني بعض الأصدقاء على جدل وخلاف إسلامي / إسلامي حول قضيّة ما يسمى "فقه الواقع" وهو تعبير لطيف قصد منه أصحابه التعبير عن أهميّة رصد الواقع المعاصر ودراسته ومتابعة تطوراته لكي يمكن التعامل معه بكفاءة وفاعليّة، وهو خطاب بديهي، وإذا ذكر في جلسة أو محاضرة فإنّ السامع لا يتوقّف أمامه كثيرًا ولا قليلاً لأنّه تحصيل حاصل، بيد أنّ الأمر عند الإسلاميّين لم يكن كذلك بل كان "مقصلة فكريّة" كُتبت فيها مقالات، وظهرت فيها أشرطة تسجيل، ودُوّنت فيها كتب بكاملها معظمها لكي ينفي هذا "الابتداع" الجديد المسمى "فقه الواقع"، والتحذير من هذه الفتنة التي ستحول الشباب من قراءة كتاب الله، وسنّة نبيّه الكريم إلى قراءة الصحف والاستماع إلى الإذاعات. لم أكن أصدق هذا الذي عُرض عليّ ثم تابعته بذهول بعد ذلك لمراقبة الخريطة الفكريّة للحالة الإسلاميّة، وأيقنت وقتها أنّ "الفراغ" والترف الفكريّ، والدعويّ، وغياب الإحساس بالمسؤوليّة، وفقدان أي صورة للمستقبل فضلاً عن العمل له هو المسؤول الأساس عن هذا الجدل العقيم والعجيب.(/1)
وفي مشروعات العمل الإسلامي لاحظت أن الإسلاميين يميلون عادة إلى "المُطْلقات" في تصوّر العمل، فكل سلوك دعوي أو سياسي أو جهادي فهو منتظم عند هذا الفريق أو خصومه في " تصوّرات ذهنيّة مُطْلقة " ومعزولة عن الواقع، ولا تمثّل خصوصيّة الزمان والمكان أية قيمة في معادلات الرؤية، فعلى سبيل المثال إذا طرحت قضية المشاركة في العمل السياسيّ والبرلمان مثلاً، في البلاد التي تجيز هذا النوع من النشاط السياسيّ تجد هناك من يحرم المشاركة في البرلمانات والانتخابات والأحزاب والعمل السياسيّ، وإذا سألت عن هذه الحرمة في أي بلد أو واقع أو بيئة أو زمان لا تجد أية إجابة، هي باطل بإطلاق وحرام بشكل عام، ثم هي بلا قيمة أو طائل أو معنى، ورغم أن هذه المعاني الأخيرة متصلة بدراسة الواقع السياسي للمنطقة التي تحكم عليها إلا أن شيئًا من هذه الدراسات والتأملات غير مطروح بالمرة، وتعجب أن دولاً كبيرة مثل بريطانيا أو الولايات المتحدة أو غيرها إذا أرادت أن تتخذ موقفًا سياسيًا أو إنسانيًا أو غير ذلك، تشكل لجانًا لدراسة الحالة، وتلجأ لمراكز أبحاث متخصّصة وضخمة، وتبعث مبعوثين لاستطلاع واستكمال جوانب أخرى، هذا بالإضافة إلى مؤسساتها الرسميّة المعنيّة مباشرة بالموضوع وغير ذلك من الجهود، ثم تتخذ موقفها بعد ذلك على ضوء هذا الجهد العلميّ والتحليليّ والواقعيّ، بينما نحن هنا نستطيع أن نصدر "الفتوى" التي تخصّ واقع المسلمين في منطقة ما من أفريقيا أو آسيا دون أن يدري مَنْ أصدرها حتى مكان وجود هؤلاء البشر على الخريطة الجغرافيّة أصلاً ! ومثال آخر على هذه الحالة فيمن ينزع إلى مشروعيّة الدفاع بالسلاح في قضايا الأمة، ومن يمنع من ذلك، فالذي يبيح والذي يمنع كلاهما يعطي لك قواعد مطلقة يستوي فيها الواقع في فلسطين المحتلة بالواقع في القاهرة مثلاً، أو تستوي فيها (جروزني) بالدار البيضاء، دون أن تكون هناك أية خصوصيّات شرعيّة وواقعيّة وتاريخيّة وسياسيّة تميّز الحكم الشرعيّ المناسب هنا أو هناك، أبدًا، فالحكم واحد ومطلق، وقد وصل الحال ببعضهم إلى تحريم الجهاد في فلسطين المحتلة؛ لأنه لم ينتصب من خلال إمام مطاع !
التشتت في صورة المستقبل ومسارات العمل لدى الإسلاميين لا يتوقف عند التصورات النظريّة أو القواعد والمنهج، وإنما السلوك السياسيّ والدعويّ أيضًا فيه العجائب، فالواحد منا يندهش من خصوبة أحاديث الإسلاميين عن الاستعمار أو الاستكبار الأمريكيّ والمخططات الغربيّة ضد الإسلام والعالم الإسلامي ونهب ثروات الشعوب، ونحو ذلك من خطاب شائع في أدبياتنا، ثم تُفاجَأ ببعض أصحاب هذا الخطاب وهم يمتطون ظهور الدبابات الأمريكيّة وهي تغزو أوطانهم وبلاد المسلمين، مثلما حدث في أفغانستان، ومثلما حدث في العراق، ويبيح له ضميره الدينيّ أو الإنسانيّ أن يكون جزءًا من " جيش الغزو " أو شريكًا في "حكومة الاحتلال"، والأمر لا تتوقف كارثيّته عند من يقومون بهذه الأخطاء التاريخيّة فقط، وإنما الذي يوجع قلبك أن يسكت عن ذلك حلفاؤهم وإخوانهم في العالم كله، ويتحرجون من انتقاد هذا السلوك علانية؛ لأن روح الحزبيّة البغيضة أصبحت أعلى من المبادئ التي نتربّى عليها، ونربّ أن أقول: وأهم من مصالح الأمة ذاتها وأمنها القوميّ. ي عليها الأجيال، ومصالح الحزب أو الجماعة تصبح أهم من الموقف الأخلاقي، وأخشى
على نفس الوتيرة السابقة هناك المعاناة الكبيرة التي عانتها الحركات الإسلاميّة من الحكومات العسكريّة وبطشها وجبروتها وغياب الحريات في النظم التي تخضع لها وشيوع انتهاكات حقوق الإنسان على نطاق واسع وبشع، ومن ثم كان من أدبيّات الحركة الإسلاميّة انتقاد النظم العسكريّة، والمطالبة بالحريّة والحكومات الدستورية ونحو ذلك، ولكنّك تُفاجَأ بعد ذلك بقطاعات من الحركة الإسلاميّة في مفاصل تاريخيّة معينة تتحالف مع النظم العسكريّة الفاسدة، وتدعمها وتؤيدها وتبارك انقلابها على الحرية وعلى كرامة الشعوب، بل تعجب أن يعلن بعض الحركات الإسلامية دعمه للعسكر وآلة البطش والجبروت التي يعملونها في رقاب الناس وكرامتهم، أقول: تعلن بعض الحركات الإسلاميّة عن دعمهم في ذلك ضد خصومهم من الإسلاميين الآخرين، مباركين التنكيل بالشباب الإسلاميّ، ومباركين خطوات العسكر في حرمان الإسلاميين " الآخرين " من أي دور سياسيّ أو دعوي، وهذه المأساة عشتها أنا بنفسي من خلال حوارات قمت بها مع قيادات إسلاميّة وسمعت منهم بنفسي ما يقشعرّ منه البدن، كما أن المواقف العلنيّة هي أشهر من أن نذكر للقارئ أسماء أصحابها، خاصة ونحن نتحدث عن " الفكرة " وعن المستقبل، ولا نقصد أبدًا هذا الطرف أو ذاك بالنقد، فكلنا في الهمّ سواء.(/2)
تجارب أخرى للعمل السياسيّ والدعويّ الإسلاميّ بدأت بالعمل الدعويّ والتربويّ والتثقيفيّ ثم تحوّلت ـ حسب الريح والحالة النفسيّة ـ إلى المزاج العنيف، ثم تأسست لها مناهج تبيح قتال الحكومات وتصفها بأنها " طائفة ممتنعة عن الشرائع " ثم سالت الدماء، ووقعت المعارك، وتمزقت أسر، وضاعت أعمار أجيال خلف السجون، ودخل العمل الإسلاميّ في محنة كبيرة وليل طويل، ثم بعد ذلك عاد أصحاب التجربة إلى التأكيد على أن مشروعهم الحقيقيّ هو الدعوة والتربية والتثقيف، وأن أفكار العنف والغلوّ والقتال ونحو ذلك كانت خطأ واندفاعًا غير مؤسس على علم حقيقيّ، ثم ظهرت كتابات جديدة اعتبرها البعض تزيدًا في المراجعة؛ لأنها تمثل دفاعًا عن الأحزاب الحاكمة بدون أي مسوّغ شرعيّ ولا سياسيّ، والمراجعة في حد ذاتها شيء طيب، وأمانة من أصحابها مع أنفسهم وواقعهم، ولكنّ الشاهد أن هذه التجربة التي امتدت قرابة العشرين عامًا، خلّفت آلاف القتلى وآلاف الجرحى، وعشرات آلاف المغيبين في ظلمات السجون والمعتقلات، ودمار اجتماعيّ وأخلاقيّ واسع النطاق، ثم عدنا بعد كل هذه التضحيات والكوارث لنبدأ من نقطة الصفر، ومع الأسف حتى مع البدايات الجديدة يصعب أن تجد أي معلم يدلك على رؤية المستقبل الجديد، وإن كنت أرجو من الله تعالى أن يوفق هؤلاء الإخوة في تدارك هذا الأمر، والتأمل في المستقبل بنفس القدر الذي بذلوه في مراجعة الماضي.
أيضًا يمكننا أن نرصد تجربة الهجرة التي قام بها بعض الشباب الإسلامي قسرًا، حيث كانت موجات اللّجوء إلى الغرب، وأصبح هناك وجود كبير ومهم للشباب الإسلاميّ، وكان من الممكن أن يتحول هذا الوجود إلى بوابة أو جسر إنسانيّ وسياسيّ ودعويّ رائع بين القوى الفاعلة في المجتمع الغربيّ وبين طموح الإحياء الإسلامي في العالم الإسلامي، خاصة وأن المجتمع الغربيّ معقد ومركب وفيه بالفعل تيارات متناقضة وكثير منها متعاطف أو مستعد إنسانيًا وأخلاقيًا للتعاطف مع قضايا العرب والمسلمين، ولكن الذي حدث هو أن من خرجوا إلى " الأجواء المفتوحة " في الغرب تعاملوا هناك بعقليّة التنظيمات السريّة في العالم العربي، حتى الخطاب الإعلامي هناك كان أشبه بالمنشورات السريّة في العالم العربيّ وخطابها المتشنج والسطحيّ والفج، كما أن هناك نماذج رأت أن دورها يمكن أن يكون " سينمائيًا " من خلال هوس الفضائيّات، وهوس الإعلام الغربيّ بكل ما هو غريب ومثير بين الإسلاميين، وهؤلاء أساؤوا كثيرًا إلى الحالة الإسلاميّة، وأهدروا طاقات ضخمة كان بالإمكان استثمارها لصالح العالم الإسلاميّ وقضاياه وفي القلب منها الطموحات المشروعة للحركات الإسلاميّة، ضاع كل ذلك هباء؛ لأن صورة المستقبل لم تكن حاضرة أبدًا، والعمل للمستقبل بالتالي لم يكن حاضرًا في ضمير وهمة هؤلاء، وتحوّلت الأمور إلى شغل وقت والبحث عن حضور إعلاميّ مؤقت، ومزّيف.
عندما شرعت في كتابة هذه الملاحظات وضعت إلى جواري ورقة فيها الكثير من النقاط، ولو رحت أستقصيها لطال الكلام بما لا يناسب ولا نحتاج إليه، ولذلك حسبي ما قدمت من إشارات، أعلم أنها قد تسبّب ضيقًا لبعض إخواني، أو غضبًا لدى آخرين، وأنا لا يحزنني أبدًا ردّات الفعل الغاضبة، فكلنا بشر، ولكن يحزنني أكثر أن تضيع الفكرة في ثورات الغضب، وتغيب الفائدة من خبرات تاريخنا المعاصر، فكل أملي أن تصل هذه الكلمات إلى هؤلاء الذين يغلب عقلهم على عاطفتهم، وأولئك الذين يبحثون بجد وأمانة وإحساسٍ عالٍ بالمسؤوليّة عن مستقبل أكثر رشدًا وفاعليّة وإثمارًا للعمل الإسلام(/3)
في العقيدة والحركة
أ. د. عماد الدين خليل 26/2/1427
26/03/2006
منذ اللحظة التي تم فيها أول لقاء بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين الوحي
الأمين، حين أُمر بأن ( يقرأ ) .. حدث لقاء آخر يوازيه، وسيُقدّر له أن يلعب دوره الخطير على مدى تاريخ الإسلام والبشرية .. لقاء بين العقيدة والحركة.
إن الآيات الأولى من سورة (العلق) هي البداية التي تحمل دلالتها في هذا الاتجاه (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) (1) .. إن القراءة هنا، بالنسبة لرجل أميّ كمحمد عليه السلام، لا تعني أبداً متابعة كلمات مرسومة على صفحات الأشياء، وإنما متابعة المعاني والقيم المحفورة على صفحات الكون والعالم، حيث كل الأسهم والمؤشرات تقول بوجود الله وتؤكد وحدانيته، وحاكميته المتفردة، وهيمنته، وكلمته التي لا رادّ لها ..
إنها ـ بمعنى من المعاني ـ طلب التحرك باتجاه هذه الدلائل، للوصول الأكثر عمقاً وإدراكاً إلى الله .. وإن تكوين الإنسان المسلم، بدءاً من رسول الله نفسه، وانتهاء بآخر رجل سيُقدّر له أن ينتمي إلى هذا الدين، لا يتحقق إلاّ باجتياز هذه البوابة الكبيرة .. ولقد استغرقت عملية الاجتياز للتحقق بالقناعات العميقة الراسخة، ثلاثة عشر عاماً هي مدى العصر المكي
كلّه، حين كان القرآن، والرسول الكريم عليه السلام، يبنيان الإنسان المسلم تمهيداً للدور الذي سيليه ..
ومع هذا الأمر الإلهي للرسول -عليه السلام- بالحركة صوب الكون والعالم، طلب منه بعد قليل أن يتحرك صوب الإنسان لكي يدعوه (يا أيها المدثر، قمْ فأنذر، وربك فكبر)(2).. وكانت الظروف التاريخية (المرحلية) تقتضي أن تتم هذه الحركة بأكبر قدر من السرّية
والكتمان .. ولما أن تمّ بناء القاعدة الصلبة التي ستأخذ على عاتقها مهمة مدّ الدعوة إلى أوسع مساحة ممكنة، جاء الأمر الإلهي الثالث إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن (يتحرك) علانية إلى الناس كافة بدءاً بعشيرته الأقربين (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ... ) (3)
(وأنذر عشيرتك الأقربين) (4) فكان ذلك الاجتماع الحاشد الذي دعا إليه الرسول -عليه السلام- وأعلن فيه ـ لأول مرة ـ أبعاد دعوته ..
في دعوات القرآن الثلاث لرسوله الأمين -عليه السلام- عبر سنيّ الدعوة الأولى، يتبيّن هذا الارتباط الوثيق بين العقيدة والحركة .. وحتى الصيغ التعبيرية والمفردات اللغوية التي اعتمدت لتوصيل التعاليم القرآنية إلى الرسول -عليه السلام- كانت مشحونة بهذا المعنى الخطير : (اقرأ ..) (قم فأنذر ..) (فاصدع بما تؤمر ..) فليست الحركة فحسب ـ إذن ـ ولكنها الحركة الواعية بالقراءة، المخططة باتخاذ الحيطة في السنين الأولى، العنيفة الحاسمة المستقيمة بدعوة الناس كافة إلى الحقيقة الكبرى التي قُدّّر لها أن تقلب الإنسان والعالم وهي (شهادة لا إله إلاّ الله..).
ثم كانت هجرة الرسول -عليه السلام- وأصحابه -رضي الله عنهم- إلى المدينة، حركة باتجاه آخر .. اتجاه تكوين الدولة الإسلامية بالتشريع العقديّ، بعد أن تم اجتياز مرحلة بناء الإنسان المسلم بالتصوّر العقديّ وقناعاته المتوغلة في الأعماق .. وهكذا يستمر التدفق الحركي للعقيدة الإسلامية منذ لحظات الانبثاق الأولى .. ونحن نعرف جميعاً كيف كانت سنيّ العصر المدني العشر حركة دؤوبة من أجل ترسيخ الكيان الجديد، والدفاع عن مقدراته، وضرب كل القوى التي تشكل خطراً عليه .. حتى والرسول -عليه السلام- يعاني من الحمى القاسية في مرضه الأخير الذي أدى به إلى الوفاة .. نجده عليه السلام يمدّ بصره البعيد، إلى ما وراء الحدود، ويعدّ العدة لجيش جديد يتوغل في عمق الأرض العربية في الشمال؛ لكي يضرب عدداً من المواقع المتعاونة مع العدو البيزنطي ..
وجاء الراشدون -رضي الله عنهم- لكي يواصلوا الطريق، استناداً إلى القاعدة التي سهر الرسول وأصحابه على تكوينها، وينتقلوا بالحركة الإسلامية إلى مرحلة جديدة، كان القرآن الكريم قد أكدها منذ العصر المكي، وكان الرسول -عليه السلام- قد رسم ـ عملياً ـ مؤشراتها الأولى في عدد من الوقائع والأحداث، تلك هي المرحلة العالمية ..
لقد حوّل الراشدون -رضي الله عنهم- إستراتيجية (الجهاد) صوب الأهداف المركزية(/1)
التي بدأ الرسول -عليه السلام- التحرك نحوها في أعقاب صلح الحديبية، بالكلمة حيناً والسلاح حيناً آخر، والتي جاءت (الردّة) بمثابة عائق وقتي عن مواصلة التحرك في سبيلها .. ذلك هو السعي من أجل تنفيذ عالمية الإسلام، وإسقاط كافة النظم الباغية، وإزاحة كافة الطواغيت من مراكز السلطة، وإلغاء كافة التشريعات الوضعية التي صمّمها ونفذها حفنة من المتألهّين في الأرض، وتحقيق البديل الوحيد لذلك كلّه: ألاّ تكون فتنة للناس، وأن يكون الدين، والمنهج والتشريع لله .. أي أن يتحرّر الناس من كافة الضغوط والمؤثرات التي يمارسها الطواغيت في العالم، وأن يسود الأرض تشريع عادل واحد، لا تحيّز فيه أو ميل لطبقة أو جماعة أو فئة أو أمة .. ذلك هو شرع الله ..
وعبر طريق الجهاد القاسي الطويل، ومنذ لحظات الفجر الأولى، كانت العقيدة بالنسبة للإنسان المسلم والجماعة المسلمة بمثابة الدافع والهدف .. فهي تحرّكهم من الداخل بعطائها الدائم، ومطالبها المستمرة، وهي تناديهم من الخارج لكي يتحركوا إلى الأهداف الكبيرة التي جاء هذا الدين لكي يجعل العالم يتحقّق بها، فيكون عالماً جديراً بالإنسان الذي كرمه الله ..
ترى .. كم من الحركات التاريخية عبر قرون الإسلام الأولى، لم تتمخض عن العقيدة الإسلامية وتنبثق عنها؟ نعم .. لقد ابتعد بعضها ـ بهذا القدر أو ذاك ـ عن روح العقيدة ومسلّماتها ورؤيتها، لكنه ظل في تياره الأشمل والأرحب مرتبطاً بها، مستمداً قدرته على الفعل والامتداد والديمومة من دفعها وقدرتها على الفعل والإنجاز .. وحتى تلك الحركات القليلة التي شذّت ـ بالكلية ـ عن أي قدر من التوافق والانسجام والتناغم، إن هي- في نهاية التحليل-
إلاّ ردّ فعل لهذا الاتجاه أو ذاك .. لموقف عقديّ أملي عليها-لسبب ما- اتخاذ موقفها هي الأخرى .. وما أكثر الأسباب ..!!
إن مساحات واسعة من تاريخنا ـ إذن ـ لا يمكن ـ بحال ـ رؤيتها وتحليلها إلاّ على ضوء هذه العلاقة المتبادلة بين العقيدة والحركة .. وإذا كان عصر الرسالة يمثل ـ ولا ريب ـ انطباقاً باهراً بين القطبين، فلأنه عصر النبوة، حين قاد الرسول -عليه السلام- أخطر حركة في التاريخ من أجل التحقق بالعقيدة الجديدة، وعلى كل المستويات، ابتداءً من أصغر التجارب والممارسات اليومية، وانتهاء بتغيير خرائط العلاقات والقيم والأشياء على مدى العالم كلّه.
________________________________________
(1) سورة القلم آية 1 ـ 5.
(2) سورة المدثر آية 1 ـ 3.
(3) سورة الحجر آية 94.
(4) سورة الشعراء آية 214.(/2)
في العولمة ملاحظات ضروريّة
أ. د. عماد الدين خليل 18/12/1425
29/01/2005
ابتداءً يجب التأكيد على أن (العولمة) بصفة عامة، تنطوي على طبقتين: التقنيات والخلفيّات الرُّؤيويّة أو الفكريّة.
فأما التقنيات فهي معطيات محايدة لا تشكّل أيّ تقاطع مع قيم التصوّر الإسلامي وثوابته العقديّة أو التشريعيّة أو السلوكيّة، إلاّ أن توظيفها في حمل الخلفيات الرّؤيويّة والفكريّة، وإرغام الآخر على قبولها والتسليم بها والانخراط في نسيجها هو الذي يتقاطع، وبكل
تأكيد...
ذلك أن العولمة بوضعها الراهن تستهدف اختراق العالم وفرض النموذج الغربي والمصلحة الغربية، المتمركزيْن في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانسحاب المركزية الأوربية إلى الساحة الأمريكية.
أما النموذج الغربي الذي تُسخّر له العولمة الثقافية والسياسية، فهو نموذج ماديّ علمانيّ يتقاطع ـ ابتداء ـ مع المنظور الإسلامي للكون والإنسان والحياة، ولوظيفة الإنسان في الأرض. وأما المصلحة الغربية التي تُسخّر لها العولمة الاقتصادية والاستراتيجية والعسكرية والسياسية، فهي تستهدف تفكيك الدول، وابتزاز الأمم والشعوب، وتسمين "العجل الذهبي" الأمريكي.
ها هنا في السياقين الثقافي والاقتصادي، بآلياته العسكرية والسياسية، يكون التقاطع، ليس فقط مع العقيدة الإسلامية، وإنما مع عالم الإسلام الذي يتعرض الآن، لواحدة من أبشع عمليات التفكيك والتدمير والابتزاز في تاريخ البشرية.
إن العولمة، لو أتيح لها أن تتحقق في عالم تحكمه قطبيات شتى، لكان الحال غير الحال، ولربما استطاع عالم الإسلام أن يجد ممّرات ممكنة للتوظيف والإفادة من ظاهرة اختزال الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة، يُمارس فيها التناقل السريع المدهش على كل المستويات.
ولكن الذي يحدث هو أن النظام العالمي الجديد ذا القطبية الأُحاديّة، يقود بالضرورة إلى تحويل الظاهرة إلى أداة ناجزة لخدمة القطب الأُحادي الأمريكي، وجعل ضِرع العالم يدرّ في فمه؛ لكي يزيده غنى وتحكّماً وجبروتاً، بينما العالم الثالث -وليس عالم الإسلام وحده- يئن من الجوع والتخلّف والابتزاز، ويخضع لواحدة من أبشع عمليات إفراغ الأمم والشعوب والدول من حيثيّاتها وخصوصيّاتها، بل من الحدود الدنيا لمصالحها كذلك!
ومخطئ من يقول: "بامكان قبول الإسلام للعولمة وتسليمه بمقولاتها"، ذلك أنها -بوضعها الراهن- الذي تُوَظّف فيه لرؤية ومصلحة النظام الدولي الجديد القائم على القطبية الأُحاديّة، والذي تتحكم فيه - عبر المَدَيات الزمنية الراهنة على الأقل - الولايات المتحدة الأمريكية.
هذه العولمة تريد أن تختزل العالم، تضغطه، تسحبه، بعد إعادة صياغته، ليكون ساحة طيّعة لمطالب الرؤية الثقافية والمصلحية للولايات المتحدة الأمريكية، وهذا واضح تماماً فيما يحدث على الأرض (في الميدان كما يقولون)، فلا يتطلب جدلاً أو نقاشاً لتأكيد حضوره.
أما الإسلام فهو نظام عالمي .. شريعة أُمميّة .. تمضي لخطابها التحريري إلى الإنسان في العالم كلّه: تحرّره من كل صيغ الاستلاب والصنميّة، وتمنحه حرية الاعتقاد دونما قسر أو إكراه .. هذا إلى أنها لا تصادر خصوصيات الشعوب وثقافاتها، بل تمنحها الفرصة للتحقق والعطاء.
إن حضارة الإسلام هي حضارة ( الوحدة والتنوع)، وقد قدّم التاريخ الإسلامي في نسيج فعالياته الحضارية نموذجاً حيوياً على التناغم بين هذين القطبين اللذين ارتطما وتناقضا في العديد من الحضارات الأخرى، ووجدا في الإطار الإسلامي فرصتهما للتلاؤم والانسجام.
فالحضارة الإسلاميّة هي - من ناحية - حضارة الوحدة التي تنبثق عن قاسم مشترك أعظم من الأسس والثوابت والخطوط العريضة بغض النظر عن موقع الفعالية في الزمن والمكان، وعن نمطها وتخّصصها. وهي - من ناحية أخرى- حضارة الوحدات المتنوعة بين بيئة ثقافية وأخرى في إطار عالم الإسلام نفسه، بحكم التراكمات التاريخية التي تنتج خصوصيات معينة لكل بيئة تجعلها تتغاير وتتنوع فيما بينها في حشود من الممارسات والمفردات.
إنها جدليّة التوافق بين الخاص والعام، تلك التي أكّدها القرآن الكريم في الآية ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ...)، وهو يتحدث عما يمكن تسميته بالأمميّة الإسلاميّة التي تعترف بالتمايز بين الجماعات والشعوب والأمم، ولكنها تسعى لأن تجمعها في الوقت نفسه على صعيد الإنسانية. وهي محاولة تختلف في أساسها عن الأممية الشيوعية التي سعت ـ ابتداء ـ وبحكم قوانين التنظير الصارمة، إلى إلغاء التنوع ومصادرته، وإلى تحقيق وحدة قسريّة، ما لبِثت أنْ تأكّد زَيْفُها وعدم القدرة على تنفيذها تاريخياً بمجرد إلقاء نظرة على خارطة الاتحاد السوفياتي ( المنحلّ ) حتى قبل حركة(/1)
(البريسترويكا)، والرفض المتصاعد الذي جُوبهت به الأمميّة الشيوعيّة من قبل حشود الأقوام والشعوب التي تنتمي إلى بيئات ثقافية متنوعة، ومقارنة هذا بما شهده التاريخ الإسلامي من تبلور كيانات ثقافية إقليمية متغايرة في إطار وحدة الثقافة الإسلامية وأهدافها المشتركة، يتبين مدى مصداقية المعالجة الإسلامية لهذه الثنائية.
إن ما فعله الاتحاد السوفياتي في فرض أُمَميّته على الشعوب التي خضعت لمقولاته الماركسية، تفعله أمريكا اليوم، مع تغاير زاوية الرؤية .. ولكن المغزى هو نفسه .. والسؤال هو: هل بمقدور هذه الحالة (الاستثنائية) القائمة على الاحتواء القسريّ أن تدوم؟
على أية حال، فإن البنيان التحتيّ للعولمة الراهنة يقوم على الماديّة، ورفْض الغيب، والتنكر لمعطيات الوحي، وإقامة جدار عازل بين السماء والأرض، بينما في الإسلام يلتقي الوحي بالوجود، والله سبحانه بالإنسان، والروحي بالمادي، ويصير التعامل مع الكتلة، وتنميتها وتطويرها، مُهِماً وضرورياً كالصلاة والصيام.
إن عالمية الإسلام، كما يرى العديد من مفكري الغرب أنفسهم (مارسيل بوازار
وروم لاندو ورجاء جاردوي وموريس بوكاي وغيرهم) هي الجواب الوحيد لإعادة التوازن إلى الإنسان والعالم .. وربما إعادة بناء العولمة نفسها، بما يجعلها في خدمة البشرية على امتدادها، وليس حكراً على الإمبراطورية الأمريكية المتجبّرة وحدها.
إن المشكلة " كونيّة " كما يقول جارودي في (وعود الإسلام)، ولابدّ للجواب أن يكون كونياً.
أما تقنّيات العولمة فأمرها يختلف، وبخاصة في مجالي المعلوماتيّة والإعلاميّة، حيث الانفجار الأسطوري في آليات التواصل السريع وتناقل المعلومات، ورفع الخطاب الإعلامي إلى ملايين الناس عبر اللحظة الواحدة.
ونحن نشهد دقيقة بدقيقة، من خلال الزائر اليومي المتربّع في دورنا ومؤسساتنا ودوائرنا ومنتدياتنا ومقاهينا، ما يمكن للفضائيات والإنترنت أن يفعلاه.
إنهما يفعلان الكثير، ويقدمان الكثير، وهذا ـ بحدّ ذاته ـ يمثل تحدّياً لكلّ المعنيّين بالهمّ الإسلامي: وهو أن يُحسنوا التوظيف، وأن يبذلوا قُصارى جهدهم لتغطية ساعات
أكثر من الزمن التلفازي، لكي يطردوا بعملتهم الجيدة، العملات الرديئة التي تغطي معظم القنوات، والتي تنفث سرطانها المسموم، على كل المستويات وفي كل دار، وتدمّر بدقائق معدودات، ما يمكن أن يبنيه الجهد التربويّ في أشهر وسنوات.
نعم .. مرة أخرى .. فليس أمامنا خيار، وإن لم نُحسن التوظيف، خسرنا ما تبقّى من قيمنا وثوابتنا .. وبالعكس، فإن إدارة الصراع الثقافي بشكل جيد، وفي المساحة الواسعة المتاحة لنا- يمكن أن يحقّق الكثير.(/2)
في العيد ملل..فما الخلل؟
رئيسي :الرقائق :الاثنين 25 رمضان1425هـ - 8 نوفمبر 2004 م
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد،،،
وداعاً رمضان.. وداعاً شهر الخيرات والبركات..عزم على الرحيل وبعد أيام ستحل علينا فرحة العيد، عبادة من العبادات يعيش فرحته الصغير والكبير .. الذكر والأنثى .. الغني والفقير .. لكن في خضم الأجواء والمتغيرات التي طرأت على الأمة المسلمة غابت بعض مظاهر هذه الشعيرة، وفقد بعض المسلمين لذتها وفرحتها؛ بل يمر على البعض كطيف من خيال، هم فاتر .. وحسٌّ بليد .. وشعور بارد .. لا يعرف من العيد إلا الصلاة تحية بلا حرارة .. وابتسامة بلا روح .. بل ترى البعض متذمراً يتمنى ألا يكون عيداً، وفي البعض الآخر ترى انحرافاً وضعفاً وفتوراً، ومن الناس من هو على خير وبر وإحسان وفرحة وسرور وتكبير وشكر لله على ما هدى للصيام والقيام، وآخر حزين الحال كاسف البال على التقصير والتفريط، والخير في الأمة مازال ولا يزال، فأبشروا وأملوا، والفأل الفأل، والله يحب الفأل .
وإنه من منطلق الإيمان بمبدأ الإصلاح والسعي إلى الارتقاء إلى ما هو أفضل وأكمل، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ... أهدي هذه الكلمات، فأقول:
إن العيد شعيرة إسلامية تتجلى فيه مظاهر العبودية لله، وتظهر فيه معان اجتماعية، وإنسانية، ونفسية، فالجميع يلبي نداء صلاة العيد، والجميع: أيدٍ تتصافح، وقلوب تتآلف، أرواح تتفادى، ورؤوس تتعانق..تتألق على شفاههم الابتسامة الصادقة وتلهج ألسنتهم بالكلمة الطيبة والتهنئة العطرة , ود وصفاء، وأخوة ووفاء، لقاءات تغمرها حرارة الشوق، واللقاء والمحبة والنقاء .
إن هذا العيد جاء ناشراً فينا الإخاء
نازعاً أشجار حقد مصلحاً مهدي الصفاء
إن كثيراً من الناس يظن أن العيد قضية اجتماعية وعادة من عادات الأمم لا يتعدى اهتمام الإسلام به في غير قضية الصلاة، بل جهلوا أو تجاهلوا قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَتَعْلَمُ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً] رواه أحمد .
وأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 'كان له جبة يلبسها للعيدين والجمعة'رواه ابن خزيمة. وغير ذلك من السنن والمباحات .
و العجب كل العجب والمصيبة العظمى أن يأتي من بني قومنا، ومن يتكلم بلغتنا، فيكون داعياً بقلمه ولسانه وفيه بحجج واهية، وأساليب ملتوية إلى مواكبة حضارة الكفر، وتقليد المجتمعات الكافرة المخالفة لشرع الله..
وقد عرفتم الداء فها هي الأسباب .. وفي العيد ملل .. فما الخلل ..؟
1- اعتباره عادة من العادات الاجتماعية عند البعض .
2- التقصير في السنن والشعائر الواردة فيه .
3- السهر ليلة العيد، وعكوف البعض على القنوات الفضائية مما يؤدي إلى النوم في النهار، والسهر في الليل أيام العيد، فلا تكاد تعرف وقتاً مناسباً يُزار فيه الناس, فكان سبباً تذرّع به البعض في عدم التزاور، والبعض ذهب لآخرين فوجدهم نائمين فكلّ وملّ، وتضيع فرحة العيد .
4- الترف والإفراط في الترفيه طوال العام حيث كان في السابق للعيد نعل وثوب جديدان يُدخلان على المرء فرحة العيد .
5- التفكك الأسري المتمثل في قطيعة الأرحام، ويتبعه قطيعة الجيران .
6- الحساسية الزائدة عند البعض في التعامل مع الآخرين مما أدى إلى عدم التزاور بين الناس خشية بعض الإحراجات ومعرفة أمورهم الخاصة والعامة .
7- كثرة الأعياد البدعية حيث أصبح البعض كل وقت وكل شهر في عيد، فزاحمت البدع السنن، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص من أوزارهم شيئاً .
8- ضعف دور الأئمة و الخطباء في التذكير في هذا الجانب .
9- ضعف الإيمان يبلّد الجنان وينتج عنه ما يلي:
أ _ تعود المعصية بلا شعور بألمها وقد يتلذذ بها .
ب _ لا فرق بين رمضان و غيره من الشهور في نظر البعض .
ج _ فقد الإحساس بكون العيد شعيرة ذات معان اختص بها المسلمون .
10- ضعف المؤسسات الدعوية في المشاركة في هذه الشعيرة بما يناسبها كمكاتب الدعوة والمندوبيات، وغيرها، وغيابها في بعض الأماكن .
11- الفهم الخاطئ لمعنى العيد .
12- كثرة الأشغال والأعمال، وتغير مجرى الحياة عما كانت عليه .(/1)
13- الفخر والمباهاة، والتكلف والاهتمام بالمظهر مما أدى إلى عدم التزاور بين الناس لعدم قدرة البعض مثلاً على لبس الغالي، وتزيين البيت بكل جديد، وإعداد الولائم والموائد، فأصبحت الحياة عند كثير من الأفراد والمجتمعات حياة مظهرية في كل جزء من حياتهم حتى سيطرت على حياتهم سيطرة تامة، فجرّت المظهرية المصائب والويلات على الناس .. ديون متراكمة .. وضياع للأوقات .. وإهمال للأولويات تفكير وحيرة وإشغال للذهن .. انحراف وفتور وتنازلات في دين الله .. فخر ومباهاة وتحاسد، وعجب وزحام، وصخب وحياة متعبة ومعقدة .. إسراف وبذخ وترف وتميع ..كبر وغرور وحب تعال على الآخرين .. فرقة وقطيعة للأقارب والجيران وخاصة النساء .. مشاكل أسرية وفقد للأصحاب، بل وصل الأمر بالبعض إلى الطلاق لأجل قطعة من الثياب، أو اختلاف رأي بين الزوجين في أمر مظهري، هم وغم .. تشبه بالكفار والفساق .. تشبه للرجال بالنساء، والنساء بالرجال.
وكثير من الناس غلّب جانب المظهرية والمباهاة ولفت الأنظار على حسن أداء الوسيلة وجودتها بل على كثير من الأولويات ، فأين العقول .. أيعقل أن نتحرى النقوش ونهمل تربية النفوس، فتحنا الأبواب والصدور وهيئنا الولائم لأصحاب المناصب والألقاب وللأثرياء والأغنياء، وأوصدناها في وجوه الضعفة والفقراء .
إخوتي وأحبتي: ما أجمل الحياة البسيطة، والسهلة اليسيرة.. ما أجمل الحياة بدون تكلف ولا مظهرية زائدة جوفاء.. ما أجمل الحياة بدون ذلك الركام الهائل الذي تجره المظهرية على الأفراد والمجتمعات.
ومن أسباب ضعف فرحة العيد ومظاهره:
14- ترك بعض العادات والتقاليد الطيبة في العيد غير المخالفة للشرع .
15-عدم وجود مصارف مباحة لطاقات الشباب والأطفال أيام العيد .
16- التقاطع والتدابر والحسد ولّد ضعفاً في الأخوة والمحبة، وتفاقم الجفاء ومن ثم انعكس ذلك على تلك الشعيرة .
17- ضعف دور الإعلام فيما يقدمه للناس والله المستعان .
18- أصبحت الروابط في بعض المجتمعات مادية و مصلحية بحتة، خالية من المودة والأخوة الحقة، بل أصبح شغلهم الشاغل السعي وراء المال حتى في أول يوم من أيام العيد حيث إننا نجد كثيراً من المتاجر مفتوحة على خلاف سنوات مضت لا تكاد تجدها مفتوحة، بل إن الناس كانوا قديماً يدّخرون الخبز وكثيراً من المأكولات لأيام العيد .
19-عدم المبالاة بالآخرين، ومشاركة الناس في أفراحهم .
20-السفر للخارج للنزهة، أو هروباً من اللقاءات الأسرية، أو نتيجة لضعف فرحة العيد في بلده .
21- كثرة الملاهي المحرمة- وإن كان يتتخللها فرح لكن يعقبه ضيق وحسرة وكدر- .
22- عدم التجديد في نمط العيد .
23- عدم توجيه بعض الآباء للأسرة والأبناء .
24- اعتقاد البعض بأنه قد امتنع عن بعض المحرمات في رمضان فيعوّض عن ما فات أو بمعنى آخر يمتع نفسه بعد أن منعها من كثير من الأشياء ويوجد التبريرات لنفسه - بأن الأيام أيام عيد وفرح فلا تشدد على الناس- وحاله:{...كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا...[92]}[سورة النحل].
معشر الأخوة و البنين عرفتم الداء والأسباب، وإليكم الدواء .. وقد تقدم الخلل .. فما العمل؟
1- التربية الإيمانية الصادقة: مضمونة ثابتة أكيدة، لكنها طويلة شاقة تحتاج إلى جهود متظافرة ومن ذلك:
أ- إرجاع الناس إلى دين الله، وتعليق القلوب بالله.
ب-السعي إلى تصفية القلوب، وتزكيتها، وصدق الله:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا[9]وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[10]}[سورة الشمس]. وصدق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث يَقُولُ: [أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ] رواه البخاري ومسلم .
2- استشعار أن العيد عبادة وقربة إلى الله كغيره من العبادات .
3- إدخال الفرح والسرور على الأطفال، وإشعارهم بعظم أيام العيد .
4- تقوية أواصر المحبة بين الناس والألفة باستخدام كل وسيلة مشروعة ومباحة .
5- الاجتماعات العائلية والأسرية والزيارات فيما بينهم، واصطحاب الأولاد في ذلك؛ لأجل ربطهم بأقاربهم، والتعرف عليهم.
6- إحياء الشعائر والسنن الواردة في العيد:
أ_ إخراج زكاة الفطر وتكليف الأبناء بتوزيعها على المحتاجين .
ب_ التكبير من غروب شمس آخر ليلة من رمضان حتى دخول الإمام، ويكون في البيوت، والمساجد، والطرق، والأسواق.
والتكبير من أظهر شعائر العيد:{...وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[185]}[سورة البقرة]. لتكبروا الله على هدايته وتوفيقه للصيام والقيام، لنستشعر قيمة الهدى الذي يسره الله فكّفت القلوب والجوارح عن المعاصي والذنوب .
فمن صحت له التقوى ابتداء صح له الشكر انتهاء، لكن البعض قصر، فلم ينل التقوى ولم يبذل الشكر، لنشكر الله على نعمة العبادة والطاعة يوم أن حرمها البعض من الناس.(/2)
ج- أكل تمرات وتراً قبل الخروج إلى صلاة العيد لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري .
د - الخروج إلى المصلى مشياً ورد عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ:' مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى الْعِيدِ مَاشِيًا' رواه الترمذي .
هـ- الذهاب من طريق والعودة من آخر لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري .
و - خروج الأبناء والنساء للصلاة حتى الحيّض ليشهدن الخير ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى .
ز- الاغتسال يوم العيد وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على الاستحباب .
ح- السواك ورد عن عثمان رضي الله عنه أنه قال:'إن من السنة السواك يوم العيد كهيئته في يوم الجمعة' [مصنف عبدالرزاق 3/319] ولعموم أدلة السواك .
تنبيه: إذا وافق يوم العيد يوم الجمعة فإذا صلى العيد سقطت عنه الجمعة، ويصليها ظهراً، وهو الأصح، ورجحه الشيخان ابن باز وابن العثيمين رحمهما الله .
خطأ: تخصيص يوم العيد بعد الصلاة بزيارة الأموات واعتقاد فضيلة ذلك وكل ما ورد في تخصيص يوم أو وقت معين في زيارة الأموات فهو غير صحيح بل بدعة .
فائدة: إذا دخل الإنسان مصلى العيد، فلا يصلي تحية المسجد؛ لأنه ليس بمسجد، ورجحه الشيخ ابن باز رحمه الله.
7- السعي في إزالة الحزبية والطبقية بين أفراد المجتمع المسلم، وإشاعة الأخوة الإيمانية:{... وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...[13]}[سورة الحجرات]. للتعارف لا للتفاخر ، للتقارب لا للتنابذ ، للتآلف لا للتنابز.
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يختلف نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
8- تفقد أحوال الفقراء والمساكين وزيارتهم وسد حاجتهم؛ لكي يشاركوا الناس بثوب العيد وحلوى العيد .
9- التجديد، وإيجاد البديل لكل رذيل، وكل يفكر حسب استطاعته ومحيطه .
10- التواصل والتزاور بين الأقارب والجيران .
11- سعي وسائل الإعلام بما هو مشروع وصالح .
12- ترتيب إجازة العيدين بين موظفي الدولة حتى يستمتع الجميع بمشاركة أهليهم وذويهم في هذه المناسبة .
13- التفرغ النسبي أيام العيد للزيارات واللقاءات .
14- التواضع خلق يجب الاهتمام به، فمن تواضع لله رفعه، فاحرص على أن تبدأ الناس بتهنئتهم، ولا تنتظر أن يهنئوك كما يفعل البعض، فالزيارة والاتصال الهاتفي، ورسائل الجوال وسائل لتبادل التهاني والتهنئة واردة عن كثير من السلف رحمهم الله، وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ:' كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اِلْتَقَوْا يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك '.
15- توجيه الخطباء والوعاظ والأئمة .
16- الهدايا بين الجميع، وتقديمها للأطفال خاصة [تَهَادَوا تَحَابُّوا] رواه البيهقي والطبراني وأبو يعلى . ووضع هدايا مجهزة بكل مفيد، وتقديمها للزائرين .
17- الجود و السخاء بدون إسراف ولا تبذير .
18- يحسن السعي إلى إقامة وليمة متواضعة في كل حي في يوم من أيام العيد يتعاون الجميع في إقامتها، ويدعى إليها أهل الحي، والجاليات المسلمة، وتقديم النافع والمفيد من كتاب وشريط ومجلة هادفة، ويلحظ أن هذه الفكرة بدأت في ازدياد فلنتفاعل جميعاً في حضورها ونجاحها ومساعدة القائمين عليها وخاصة أصحاب الكلمة والتقدير في الأحياء .
19- إقامة أمسيات أدبية، و لقاءات على مستوى الأحياء والأسر وغيرها .
20- إقامة لقاء للأطفال تتخلله برامج هادفة، وألعاب ترفيهية على مستوى الأسرة والعائلة والحي، بل على مستوى المدينة حيث إن بعض الآباء يتعب في البحث عن أماكن الترفيه المفيدة والنافعة، أو أقل الأحوال خالية من المحرمات .
21- إقامة لقاءات نسائية هادفة تتخللها برامج مفيدة ونافعة على مستوى الأسرة والعائلة، وهذه اللقاءات يقوم عليها بعض الأفراد من العائلة أو الحي، بحيث يحدد الزمان والمكان، ويشترك الجميع في تحصيل المبلغ المالي لإقامتها، ويكون الإعداد لها وإبلاغ الناس مسبقاً.
22-إقامة المخيمات الدعوية المفيدة ذات البرامج المشوقة والمنوعة .
23-زيارة المرضى في المستشفيات والأيتام في دور الملاحظة والتربية، ورعاية الأيتام، وتقديم الهدايا لهم، وإدخال السرور عليهم.
24- ذهاب البعض لأداء العمرة لمن لم يتسن له الذهاب في رمضان، وذلك بعد مشاركة الأهل في اليوم الأول، أو الثاني من أيام العيد، ومما لا ينبغي - استحساناً لا شرعاً- الذهاب في اليوم الأول، وعدم مشاركتهم .
25- زيارة العلماء والدعاة والقضاة وطلبة العلم، ومعايدتهم والاستفادة منهم مع مراعاة أوقات زيارتهم حفظاً لأوقاتهم ومراعاة لأعمالهم .(/3)
26- فرصة لذوي الجاه والمكانة والكلمة المسموعة للسعي في الإصلاح بين الناس وفرصة للمتهاجرين للتواصل قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ] رواه البخاري. وقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ] رواه البخاري .
إننا نريد مجتمعاً تسوده الشفقة والرحمة، نريد من المتهاجرين صفحة جديدة، ونسياناً لذلك الركام الهائل من الأخطاء والمشكلات والانتصار للنفس، نريد تجافياً عن الزلات، وإقالة للعثرات، ومن كانت حاله كذلك؛ فلن يعدم الأجر الكثير والذكر الجميل، لا يكن للشيطان نصيب منا في قطيعة الأرحام، والتناحر بين الجيران، ونقص الإيمان، فيفرح ويغضب الرب، فلا نكن لعبة للشيطان من الإنس والجان يا أهل العقل والإيمان .
فهيا معشر المسلمين إلى التلاحم والصفاء، وهجر القطيعة.. هلموا إلى سلامة الصدر، وطهارة القلب، فإنها من أفضل الأخلاق، وأدعاها إلى ثبات الود، ودوام العهد على الوفاء سلامة في العواقب وزيادة في المناقب ..
فأين المتهاجرون إذا أراد الناس الإصلاح بينهم، أو أراد واحد منهم الإصلاح كان الطرف الآخر رافضاً كل المحاولات، راداً كل الأطراف حتى أصحاب العلم والفضل وكبار السن، يظن أن الصلح هزيمة ومذلة، ونسي قول رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [...مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا] رواه مسلم. وقول الله :{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ...[40]}[سورة الشورى]. فالأجر الأجر رحمك الله. ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ] رواه البخاري ومسلم. و قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا] رواه مسلم. وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ] رواه أبوداود وأحمد. فكيف بالمتهاجرين سنوات، وربما يفرقهم الموت وهم متهاجرون، فكيف الجواب عمّاحرم الله يوم العرض على الله .
يا أهل الإيمان والقرآن: هل يُعقل أن نرى أباً وابنه، أو أخاً وأخاه متهاجرين السنين، لولا أن الأعين تراه والواقع يحكيه لما صدّقناه وقبلناه، يتحاكمون إلى القضاء السنين بل الطامة كل الطامة أن يكون ذلك على سبب يسير، وأمر حقير من متاع الدنيا، فتذهب أُخوة الدين، ولُحمة الرحم والنسب، فتصغي وترعى الآذان لكلام نساء وأطفال وواشون، ثم يشعلها الشيطان فتكون حطاماً وناراً.. ومن المستفيد؟
إنه الشيطان وحزب الشيطان.. فأين العقول، وطهارة القلوب، وسلامة الصدور؟ أين الإيمان والقرآن؟
فيم التقاطع والإيمان يجمعنا قم نغسل القلب مما فيه من وضر
ياأيها الناس : لماذا النصر حليف الشيطان في كثير من المشكلات، والصلح قليل؟ ماالسبب وماالأمر؟!
وعلى المصلحين أن يبذلوا مافي وسعهم، وألا يملوا وييأسوا، والصلح يحتاج إلى وقت ومال ونفَس طويل، وتحايل وذكاء بل إن الكذب جائز في الصلح، ومن أكثر قرع الباب ولج، والدعاء الدعاء، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً:{ إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا...[35]}[سورة النساء]. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ] قَالُوا: بَلَى قَالَ: [إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ] رواه الترمذي وأبوداود وأحمد.
تعالوا بنا نطوي الحديث الذي جرى ولاسمع الواشي بذاك ولادرى
لقد طال شرح القيل والقال بيننا وحتى كأنّ العهد لم يتغيرا
تعالوا بنا حتى نعود إلى الرضا وماطال ذاك الشرح إلا ليقصرا
من اليوم تاريخ المحبة بيننا عفا الله عن ذاك العتاب الذي جرى(/4)
وكل عام وأنتم بخير.. وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.. ولاتنسوا صيام الستة من شوال، ولنتعاون جميعاً على الصيام فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ] رواه مسلم. فلا تحرموا أنفسكم الأجر، واعلموا أن ما يسميه بعض العوام بعيد الأبرار، أو يوم الأبرار وهو اليوم الثامن من شوال لمن صام الست متتابعات، فهذه تسمية ليس عليها دليل، ومن المحدثات في الدين، ولا يشترط في صيامها التتابع، والأفضل البدار مادامت النفس متعودة على الصيام .
لنرفع الأصوات بالتكبير.. ولنلبس من الثياب كل جديد.. ولنرسل التهاني لكل قريب وعزيز وجار وحبيب.. لنظهر الأفراح ولنترك الأتراح.. لنغدو في الصباح معلنين الصفاء لتتآلف الأرواح .
في الأنفس الصفح في المهجة الشرح البذل والنفح في ليلة العيد
عيد سعيد في الكون بهجته يهنئ به رفيق العلا والكمالات
أعاده الله بالإقبال مبتسماً وكل عام وأنتم بالمسرات
والصلاة والسلام على الرسول، وآله، وصحبه أُولي النهى والعقول .
من رسالة:'في العيد ملل..فما الخلل؟' فهد بن يحي العماري(/5)
في المشروع الحضاري الإسلامي
أ. د. عماد الدين خليل 29/5/1427
25/06/2006
بسبب مما يعانيه المصطلح من غموض وتفسيرات شتى، يمضي بعضها لكي يتعامل مع مفردات الواقع دون منهج، ويمضي بعضها الآخر لكي يتشبث بالحلم المعلّق في السماء دون أي قدر من الممارسة الواقعية للتحقق بمفرداته في نسيج الحياة الإسلامية .. وبين هذه وتلك يتأرجح الإنسان المسلم بين الإحساس بالإحباط الذي يقود إلى حافات اليأس والاستسلام، وبين الهروب إلى الأماني والأحلام التي لا تكاد تصنع شيئاً ذا قيمة تاريخية أو حضارية.
بسبب من هذا كله يتحتم علينا جميعاً أن نتريث قليلاً لمراجعة حساباتنا والوصول إلى قدر من الثوابت .. من الجزر المشتركة .. من لغة واضحة محدّدة للتعبير عن مطالب المشروع.
لا ريب أن ثمة محاولات تنظيرية قيمة طُرحت في هذا السياق، ومحاولات تطبيقية أخرى شقت طريقها في واقع الحياة الإسلامية.. ومع ذلك فإن علينا أن نمارس المزيد من الصقل والكشف والتحديد وترتيب الأولويات لكي تكون بمثابة برنامج عمل يجعل المشروع حقيقة واضحة المعالم وأمراً واقعاً، قد يبدأ بخطوة واحدة، ولكنها الخطوة التي تقود إلى قطع رحلة الألف ميل بمشيئة الله ..
وفيما يلي بعض المرئيات الأولية بصدد صياغة المشروع والتعامل معه:
أولاً: مستوى الخطاب
إن المشروع الحضاري يستهدف مستوى حضارياً على وجه التحديد، فهو من ثَمّ ليس محاولة روحية أو شعائرية أو سلوكية أو تربوية أو علمية أو فكرية أو ثقافية أو سياسية أو دعوية أو حركية صرفة وإنما هو هذا كله.
قد تغذي حلقات كهذه بنية المشروع أو تزيده قدرة على التحقق هنا وهناك، ولكنها إذا عملت بمعزل عن بعضها البعض فإنها قد لا تأتي بشيء ( كما حدث عبر القرن ونصف القرن الأخير).
إن المخاطب هنا هو "الأمة" الإسلامية ـ والمشروع يعني إعادة صياغة أمة
بكاملها ـ تعديل وقفتها الجانحة، وبث روح الإبداع والحركة في مواتها لكي تمضي على الطريق الصحيح .. "الصراط" الذي أراده لها كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وممارسات الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
المخاطب هو الأمة التي يُراد لها التحقق بمقاصد الشريعة .. والشهادة على الناس والتاريخ .. وتحويل حياتها إلى تعبير أكثر مقاربة لما يريده الله ورسوله عليه أفضل الصلاة والسلام. وهي ـ بالضرورة ـ مهمة شمولية تنطوي على بعد حضاري، بل إن المشروع الإسلامي منذ لحظات تأسيسه الأولى زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشروع حضاري يستهدف الخروج بالناس من الظلمات إلى النور، وابتعاثهم من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده .. ويضع بين أيديهم، بمبادئ الاستخلاف والتسخير والاستعمار، وتحفيز آليات العمل العقلية والحسية والروحية: مفاتيح الإبداع والقوة والفاعلية الحضارية في نهاية الأمر.
على ذلك فإن المشروع الحضاري يتوجه صوب فضاء واسع هو فضاء الأمة الإسلامية على امتدادها في الزمن والمكان .. في التاريخ والجغرافيا .. ويضع نصب عينيه أنه ليس مجرد سعي مرحلي أو حركة متموضعة في بيئة محددة أو لحظة زمنية (وإن كان يبدأ منها) .. وإنما هو نشاط موصول لتحقيق هدف قد يستغرق أجيالاً بكاملها .. لاسيما إذا تذكرنا أن إصلاح حالة خاطئة شديدة التعقيد، أكثر استعصاءً بما لا يُقاس من التأسيس ابتداءً.
إننا هنا إزاء ركام القرون الطوال.. وفي الوقت نفسه إزاء الفراغ المفاجئ، والانكسارات الدرامية التي شهدتها عبر نصف القرن الأخير جلّ المذاهب والمحاولات الوضعية أو الدينية المنحرفة في الساحة الإسلامية وخارجها على السواء.
لكن كيف يتأتى تحويل مطالب المشروع من مستوياته التنظيرية إلى واقع الحياة اليومية الإسلامية لكي ينسج خيوطها بمقاصد شريعة الله ومفرداتها؟
لمّا كان الخطاب يحمل رؤية حضارية فسيكون كل جهد مبذول في الساحة الإسلامية بمثابة رافد سيصب مهما دقّ وضؤل، في المجرى الكبير الذي يمكن أن يتأكد حضوره واتساعه يوماً بعد يوم بقدر ما يصب فيه من جهود، وطاقات، ومحاولات .. شرط أن تتمحور هذه كلها عند هدف واضح محدد هو: أن تستعيد هذه الأمة هويتها الحضارية الضائعة ..
الفعل قائم منذ زمن بعيد قد يمتد لأكثر من قرنين، لكن توظيفه في سياق خطاب حضاري يستهدف مشروعاً يخرج بالأمة من تخلّفها ومعاناتها، ويكسر حلقة السوء المفرغة .. هو المطلوب ..
وهذا هو المطلوب: تجاوز بعثرة الطاقات والخبرات والمعطيات وارتطامها ونفي بعضها البعض الآخر، إلى برنامج عمل يستهدف لمّها وإضافة بعضها إلى بعض وتحقيق أقصى حالات الوفاق بين مفرداتها، وتوجيهها لكي تصب في البؤرة الواحدة أو المجرى الواحد الذي يمضي لتحقيق مطالب المشروع الحضاري، وبالتالي فإن الأولوية التي تفرضها المعادلة تقتضي جهداً مركباً ذا طبقتين:(/1)
أولاهما: رسم خارطة عمل قديرة على احتواء كل نشاط إسلامي على مدى عالم الإسلام كلّه، والتنسيق بين مفرداته وجعلها تمضي صوب البؤرة الواحدة.
وثانيهما: تحفيز إرادة العمل والعطاء والإبداع على كل المستويات لإنضاج المزيد من الثمار وإغناء المشروع على مستوى الكم والنوع على السواء.
بمعنى أن أي جهد روحي أو تربوي أو سياسي أو دعوي أو حركي .. أي إضافة علمية أو فكرية أو ثقافية.. أي بحث ينجز أو كتاب يؤلف .. أي مؤسسة تقوم، وأي تجربة أو خبرة تستمد مقوماتها من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- يمكن أن تقود جميعها
إلى المطلوب، شرط توفر قيادة فكرية ذات نمط عالٍ من الكفاءة والمرونة والتحرّر من وقر الماضي .. تأخذ على عاتقها مهمة تجميع الطاقات والتنسيق بينها للتحقق بأقصى حالات الوفاق في المعطيات الإسلامية على مدى جغرافية الإسلام.
قد يكون هذا مطلباً صعباً قبالة تحديات التمزّق الفكري والسياسي، وضغوط العزلة والقطيعة، بل الخصومة والعداء التي تحكم علاقات الإسلاميين في العالم.
والجواب يكمن هنا بالذات: إن المشروع البديل بصفته خطاباً حضارياً يهم الأمة كلها، لن يكون بأكثر من حركة في الفراغ ما لم تُحرث الأرض جيداً، وتُنقّى من الدغل والأعشاب الضارة، وتهيأ للزرع الجديد الذي يمكن بما أُتيح له من شروط أن يستوي على سوقه لكي يعجب الزراع.
وعلى ذلك فإن المشروع يقتضي جهداً مزدوجاً ـ ها هنا أيضاً ـ يقوم أولهما على الهدم والنفي ويمضي ثانيهما للبناء والتأكيد.
ثانياً: مطالب اللحظة التاريخية
إن مشروعاً حضارياً يُصاغ في القرن الحادي والعشرين هو غيره في قرن مضى، وأن المعادلة الصعبة تكمن ها هنا: التحقق بالشخصية الإسلامية في مستواها الحضاري قبالة شبكة معقدة من المتغيرات والتأثيرات وعوامل الشد والتحديات؛ وأيضاً قبالة سيل لا ينقطع من المعطيات المتجددة المزدحمة التي تتطلب جواباً "فقهياً" يحفظ على هذه الشخصية ملامحها المتفردة ويعينها على الإخلاص لثوابتها "الشرعية".
إننا عبر لحظتنا التاريخية الراهنة، مدعوون ـ مثلاً ـ لتقديم جواب محدد إزاء جل المفردات القادمة من حضارة الغرب المتفوقة، والتي اقتحمت علينا حياتنا وخبراتنا حتى أبعد نقطة فيها. بمعنى أن صياغة المشروع الإسلامي يتطلب جهداً مزدوجاً ها هنا أيضاً: بناء المعطيات الإسلامية ابتداءً، وقبول أو رفض أو انتقاء مفردات الآخر في ضوء معايير شرعية مرنة وصارمة في الوقت نفسه.
إننا مرغمون على أن ندخل حواراً مع حضارة الآخر. والهروب من المواجهة سيقودنا إلى العزلة والضمور .. كما أن قبول مفردات الآخر سيفقدنا خصائصنا، ولابد من تجاوز الحدّين المذكورين باتجاه صيغة عمل تسعى إلى أكبر قدر من توظيف المعطى الغربي المناسب لمشروعنا الحضاري.
إن أسلمة المعرفة ـ مثلاً ـ هي واحدة من هذه المحاولات: التعامل مع العلم الغربي، أو جوانب منه، بصيغة تضعه في نهاية الأمر في مكانه المناسب من خارطة المنظور الإسلامي للحقائق والنواميس والأشياء.
والاستجابة لمطالب اللحظة التاريخية ضرورية على مستوى آخر، فإن جغرافية عالم الإسلام في أخريات القرن العشرين وبدايات القرن الذي يليه ليست سواء ـ وظروفها التاريخية ليست سواء هي الأخرى ـ والتاريخ كما هو معروف لا يُقاس بالمسطرة والبركال، ولابد إذن من البحث عن مشروع ذي مفاصل مرنة ومتغيرات شتى، تقوم على ثوابت مشتركة .. نعم وبكل تأكيد، ولكنها تقر بالتغاير الذي يسمح لكل بيئة إسلامية أن تختار أسلوب العمل المناسب الذي يخدم قضية النهوض الحضاري، وينسج خيوط المشروع البديل.
فهنالك بيئات قد تصلح للنشاط العلمي أو الفكري ـ أو الثقافي عموماً ـ ولكنها لا تتقبل النشاط التربوي أو الدعوي أو الحركي أو السياسي .. وبيئات أخرى قد تكون مهيئة للعمل المؤسسي وتتأبى على أي نشاط يخرج عن هذا النطاق .. وهكذا.
فإذا استطعنا أن نتقبل هذه الحقيقة التي قد تبدو للوهلة الأولى نقيضة لوحدة المشروع، وأن نحوّلها إلى أداة بناء وإغناء، بمفردات متغايرة تتحرك باتجاه هدف واحد، ووفق
ثوابت موحدة، كنا قد وظفنا ضرورات الاختلاف للتحقق بوحدة (موزاييكية) متناسقة تنطوي في الوقت نفسه على تنوّعها الذي يصعب تجاوزه أو القفز عليه، وتعطيه الفرصة للتحقق في إطار الإسلام، تماماً كما حدث عبر تاريخنا الإسلامي الذي شهد أممية مرنة استطاعت الجماعات والأقوام والشعوب خلالها أن تعبّر عن نفسها وأن تتحقق ذاتياً على المستوى الثقافي، ولكنها ظلت ـ في الوقت نفسه ـ إلا في حالات استثنائية ـ مخلصة في ممارساتها إلى حد كبير، لوحدة الهدف والمصير.
ثالثاً: الأنا والآخر(/2)
إننا لا نستطيع أن نقنع الآخر بمشروعنا ما لم نحوّل هذا المشروع من مستوياته التنظيرية إلى واقع نعيشه نحن، ونقتنع بجدواه وضرورته. بمعنى أن علينا لمديات زمنية قد تطول كثيراً ألاّ نتحدث عن تقديم مشروعنا للغربي الحائر قبالة انهيار مذاهبه الشمولية ونظمه وأنساقه الفكرية وفلسفاته وأديانه المحرفة.
إن محاولة كهذه أشبه بقفزة في الفضاء، ولابد أولاً من أن نتقدم بهذا المشروع لذوات أنفسنا قبل أن نتحدث عن مآزق الآخر وحاجته إلى البديل.
إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يتوجه بخطابه إلى حكام العالم قبل أن يقيم دولة الإسلام، ويمكّن لعقيدتها وشريعتها في الأرض .. ومن ثم فإن رسائله إلى الأباطرة والملوك والأمراء ما كان يمكن أن تمضي إلى هدفها في العصر المكي، إذ لم يكن المشروع الإسلامي قد حقق فرصته التاريخية، بصيغة دولة ذات شريعة تملك القدرة على دعوة الشعوب والحكام خارج جزيرة العرب.
إن عدداً من المتحدثين عن المشروع الحضاري يخلطون الأوراق ويتخيلون وهم يتحدثون عن المشروع أن مهمتهم تقديم مشروعهم هذا ناجزاً للآخرين .. وينسون أنهم هم أنفسهم
لا يعرفون الكثير من مطالب المشروع؛ فضلاً عن كونه لم يدخل مرحلة التنفيذ الشامل بعد ـ وأنه ـ بدلاً من ذلك يتحتم استدعاء كل الطاقات الإسلامية، في شتى مستوياتها، لجعل معطياتها تصب، وفق تصميم مرن مرسوم بعناية، في الهدف المرتجى من أجل البدء بنسج المشروع الذي ينتظره المسلمون أنفسهم، والذي يمثل بالنسبة إليهم، الفرصة أو الخيار الوحيد لأن يجدوا ذاتهم على خارطة العالم.
باختصار .. فإننا لا نستطيع ان نقنع الآخر بمصداقيتنا الحضارية، بل أن نفلت من فلك جاذبيته القاهرة، ما لم نضع لأنفسنا النسق الحضاري الذي يستمد مقوماته من الأسس الإسلامية ويستجيب لمطالب اللحظة التاريخية.
هذه هي مهمتنا الآن، ولربما لفترة زمنية قد تمتد عشرات السنين قبل أن نفكر بتقديم رؤيتنا للآخر الذي تعزله عنا آلاف الجدران، وليس أقلها ثقلاً غياب المشروع نفسه من ساحات الجغرافية والتاريخ، إن تأكيد الذات كان دائماً البداية الصحيحة للحوار مع الآخر.
رابعاً: تأشيرات على منهج العمل
الملاحظات أو المرئيات السابقة كلها قد لا تعني شيئاً على الإطلاق ما لم تتحدد أمام المسلم المعاصر خطط العمل والفرص الواقعية لتحويل مفردات المشروع إلى خبرة متحققة في الزمن والمكان .. إلى حياة تنبض وتنمو وتواصل تجذّرها في الأرض وامتدادها في الآفاق.
إنها عملية نسيج من نوع فريد تسهم في حبك خيوطه أقطاب شتى: الفرد، الجماعة، الشعب، المؤسسة، الدولة، النشاط المعرفي، الفكر والثقافة، فإذا استطاع النسّاجون توظيف هذه الأقطاب جميعاً، أو الجوانب القابلة للأسلمة منها، وهي بالتأكيد كبيرة المساحة غزيرة العطاء، إذا استطاعوا لمّ الجهود المبعثرة وتوجيه الأشعة المنبعثة من هنا وهناك، صوب البؤرة الواحدة، لخدمة المشروع الواحد، فإنهم يكونون قد وضعوا خطواتهم على الطريق الصحيح.
كل صيغ العمل الشعائري، أو التعبدي، أو التربوي، أو الدعوي، أو الحركي، أو السياسي أو الجهادي، أو الفكري، أو الثقافي، أو المعرفي، أو الاجتماعي.. إذا أحسن التعامل معها، وتمّ قبولها بصفتها مفردات صالحة لتغذية المشروع، يمكن أن تعين على الهدف، وأن تسهم في النسيج الشامل.
إن التغاير ها هنا أيضاً يتحتم ألاّ يكون سلاحاً نشهره ضد أنفسنا، بل فرصة جيدة للتوظيف وفق أنساق تكاملية تجعل التعبدي والتربوي والاجتماعي والدعوي والسياسي والجهادي والفكري والمعرفي .. الخ .. تلتقي على صعيد واحد مع تغاير زاوية الرؤية والفعل والانطلاق.
والآن فإن بمقدور المرء في ضوء الملاحظات السابقة أن يضع يديه على منظومة من الممارسات "العملية" التي يمكن أن تعين على نسج الخيوط الأولى في مشروع النهوض أو البديل الحضاري .. ولنتذكر دائماً أنه ليس بديلاً لحضارة الآخر، بغض النظر عن مساوئها وتناقضاتها، وإنمّا لتخلّفنا نحن وحاجتنا الملحة إلى المشروع الذي يضعنا في المكان المناسب من خارطة العالم.
إن الجهد المطلوب ـ وبإيجاز شديد ـ يكمن في المعادلة التالية:
"اختراق الحياة شبه الإسلامية بمفردات إسلامية " وهذا ما حدث ـ بالفعل ـ منذ عقود عديدة، بل ربما منذ اللحظات المبكرة للصدمة الاستعمارية في منتصف القرن الماضي. لكن الجهد ـ في معظم الأحيان ـ كان مرتجلاً مجزوءاً لا يملك منهج عمل محدد ولا بوصلة توجيه تعرف كيف تحدد الهدف وفق مطالب اللحظة التاريخية، ولا يملك كذلك رؤية شمولية تلّم المفردات في أنساق محكمة لكي تكون أكثر قدرة على الفاعلية.
والبداية الصحيحة للاختراق هي بالضرورة بداية فكرية تنطوي على جهد مركب: يمضي أحدهما باتجاه الإصلاح والتقويم وإعادة تعديل الوقفة التاريخية الجانحة، ويسعى الآخر إلى إبداع أو تصميم صيغ جديدة تستجيب للمتغيرات، وتتعامل معها بأقصى درجات المرونة والوعي ..(/3)
وسيكون ما يصطلح عليه بعبارة "إعادة فتح باب الاجتهاد" حلقة أساسية في هذا الجهد، بل هي جوهره وحجر الزاوية فيه إذا أردنا الدقة، وما لم يتحقق هذا وفق شروطه المحددة، فإن أي محاولة لإصلاح منهج الفكر لن تأتي بنتيجة.. إن قدرة قياداتنا الإسلامية وهي تنسج الخيوط الأولى لمشروعها الحضاري، هي أن تكون قيادات مجتهدة قديرة على تحكيم "الفقه" في مواجهة المعطيات المتجددة والمتغيرات المزدحمة في الزمن والمكان.
والمشروع والحالة هذه، يتطلب فقهاء مفكرين أو مفكرين متفقهين؛ إذ لا يكفي أن يكون هناك مفكرون لا يملكون آليات الاجتهاد، ولا مجتهدون لا يملكون خبرات العصر المعرفية.
الخندق العميق الذي حفرته قرون الانفصام النكد يجب أن يُردم، والبداية الحقيقية للنهوض لن تكون ما لم يتم اللقاء ثانية بين القطبين.
وبموازاة الجهد الفكري يتحتم ممارسة وتنفيذ شبكة من الأنشطة العملية على مستوى الأفراد والجماعات والمؤسسات والنظم والحكومات، وكلما ازدادت مفردات هذه الأنشطة في النوع والكم أتيح للنسيج أن يزداد مساحة وتجذّراً.
ها هنا أيضاً كان العديد من الحلقات الإسلامية قد بدأ يعمل منذ زمن بعيد، لكنهم في معظم الأحيان ما كانوا يصلون إلى الهدف الذي وضعوه نصب أعينهم، الأمر الذي قاد بعضهم إلى الكف عن العمل، وساق الآخرين إلى حافات اليأس والإحباط، ومضت فئة ثالثة تضرب على غير هدى.
وما كان يعوزهم ـ ببساطة ـ سوى اثنتين:
أولاهما: أن يعطوا لأنشطتهم العملية بطانات فكرية مرسومة بعناية في ضوء الثوابت الشرعية من جهة، ومطالب اللحظة التاريخية وتحدّياتها من جهة أخرى، أي أن يبدؤوا من إصلاح المنهج الفكري، ثم يمضوا في تنفيذ مطالبه على أرض الواقع، وهذا ما لم يتحقق بالشكل المطلوب.
أما ثانيتهما: فهي أن يعملوا مع الحلقات الأخرى على مدى جغرافية عالم الإسلام بمنطق التنسيق والتعاضد والتعاون والتكامل، وهي أمور بدهية طالما أكد عليها كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك فقد أدير لها الظهر، ليس هذا فحسب بل ترك المجال لبدائلها السلبية، كالارتجال والجهد الانفرادي والعزلة والنفي والاصطراع أن تحل محلها .. إن تاريخنا المعاصر هو ـ باختصار ـ تاريخ تفتيت للقوى وهدر للطاقات ما شهدته أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات.
ولحسن الحظ فإن مهندسي المشروع النهضوي أخذوا يدركون، منذ أكثر من عقدين من الزمن، المطالب المشار إليها جيداً، ويدركون معها عوامل التعويق التي وضعت الأمة أو الجماعة في الحلقة المفرغة، فإذا استطاعوا أن يجعلوا هذه الرؤية بقطبيها الفكري والعملي واضحة تماماً قبالة الوعي الإسلامي المعاصر، متحققة بأكبر قدر من الكفاءة في نسيج الحياة اليومية، فإنهم يكونون قد بدأوا البداية الصحيحة التي لابد وأن تصل بهم إلى الهدف المرتجى.
خطوة خطوة وحلقة حلقة، قد يستغرق قطعها أو تنفيذها زمناً طويلاً، لكنها لن تكون ـ بأي حال ـ قفزة في الفضاء، أو دعوة فضفاضة لا تقود إلى شيء .. "بطيء لكنه مؤكد المفعول" كما يقول المثل الإنكليزي.
والسؤال الآن: هو أن الأمة الإسلامية ليست ـ دائماً ـ في حالة تقبل لهذا الجهد الثنائي في أحد جانبيه أو كليهما معاً: الفكر والعمل، بل قد تكون مهيأة ابتداء لوضع العوائق
أمام المحاولة وإحباطها، وهذا صحيح .. وصحيح كذلك أن الحياة الإسلامية على امتدادها في الجغرافيا، وعلى استعدادها الطبيعي لقبول الخبرات الأصيلة وطرد المزيف والدخيل، تنطوي دائماً على مفاصل أو مساحات تسمح بشكل أو آخر في تنفيذ هذه الحلقة أو تلك من حلقات المشروع، ويبقى على القيادات الفكرية أن تكتشف حجم الفرصة المتاحة هنا أو هناك، لتوسيع مساحة النسيج وإحكام حبكه، وهي مهمة ليست هينة، كما أنها ـ مرة أخرى ـ تتطلب أقصى قدر من التنسيق والشمولية وتجاوز الارتجال أو بعثرة الطاقات.
قد يكون من بين الفرص المتاحة: التعاون مع قيادات الطرف الآخر، أو وضعه أمام الأمر الواقع وإرغامه على القبول.. أو العمل بمعزل عنه في الهامش المتاح، وهو بالتأكيد هامش واسع يسمح كما هو ملاحظ عبر العقود الأخيرة، بتنفيذ العديد من المحاولات على المستويين الفكري والعملي.
وعلى الرغم من أن بعض هذه المحاولات تعرّض للوأد بسبب عدم قدرة مهندسيها على الاستمرار حيناً، واستحالة تجاوز العوائق حيناً آخر، وقيام الطرف المضادّ بإحباط المحاولة حيناً ثالثاً .. إلاّ أن حلقات عديدة أخرى مضت تشق طريقها وتزداد تجذّراً وعطاء .. وهي بمجموعها ـ إذا أحسن توظيفها ـ تعين على نسج خيوط المشروع وتأكيده.
علينا دائماً أن نفكر بإعداد البدائل المناسبة لكي تحل محل خبرات لم تعد صالحة لمطالب الزمن أو المكان .. وخبرات أخرى تعرضت للحصار والمصادرة والوأد لهذا السبب أو ذاك.(/4)
بدائل تكون جاهزة تماماً للنزول إلى الميدان وملء الفراغ الذي قد تترتب عليه انكسارات واقعية ونفسية، كانت السبب في كثير من الأحيان للتداعيات التي شهدتها الجماعات الإسلامية عبر القرن الأخير.
إن بمقدور المرء أن يتذكر ـ في ختام هذه التأشيرات ـ نقاط الارتكاز التي يمكن الوقوف عليها لتنفيذ بعض حلقات المشروع، والتي أخذت عبر العقدين الأخيرين بوجه الخصوص تتلقى ـ فعلاً ـ روافد العطاء فتزداد بفضل الله تدفقاً، ولكن، مرة ثالثة ورابعة، تبقى الحاجة قائمة إلى اعتماد الصيغ التي تجعل هذه الروافد تتجمع إلى بعضها لكي تصب في الهدف الواحد .. الذي هو في نهاية الأمر هدف حضاري.
هناك ـ على سبيل المثال ـ الأداء الفكري (على مستوى الدورية، الكتاب، العمل الموسوعي، المدرسة، الجامعة، المعهد، الندوة، الملتقى، المؤتمر ..).
الأداء العلمي (على مستوى البحث، الدراسة، الكشف والاختراع ..). الأداء الاجتماعي (على مستوى المنظمة الخيرية، المؤسسات الخدمية أو المالية أو الاقتصادية ..).
الأداء الإعلامي (على مستوى الصحيفة، المسرح، السينما، الإذاعة، التلفاز، الفيديو، الكاسيت ..).
هناك أيضاً الأداء التربوي أو الدعوي أو السياسي بحلقاته وآلياته كافة. هناك ـ فضلاً عن هذا كله ـ إمكان توظيف الفرص والإمكانات التي وضعها هذا الدين بين يدي المنتمين إليه فيما لم يضعه دين أو مذهب آخر في الأرض: ( المسجد .. المنبر .. الحج .. الزكاة .. الصدقات .. الأوقاف .. الخ ). وهي جميعاً ـ إذا أُحسن التعامل معها لتحفيز عطائها ولو في حدوده المتاحة ـ وليست القصوى، فإن بمقدورها أن تفعل الأفاعيل، وأن تعين على نسج حلقات المشروع النهضوي، شرط أن تتهيأ قيادات كفؤة تعرف كيف توظف الفرص جميعاً بأكبر قدر من التناغم والانسجام بين مقاصد الشريعة ومطالب اللحظة التاريخية .. قيادات يصير فيها الفقيه مفكراً والمفكر فقيهاً، وتتلقى الحياة الإسلامية الضائعة على أيديها ما يعينها على المضيّ إلى هدفها بأكبر قدر ممكن من ضمانات المسير.(/5)
في تأويل لفظ النص والتأويل '
08-7-2005
بقلم علي التمني
"...وفي تقديري ومن خلال قراءتي للواقع الفكري العلماني أن أهل الزيغ والضلال يسعون بهذا اللفظ كما عند نصر أبي زيد وأركون وغيرهما من الماديين الدهريين أن يقدموا القرآن على أنه نص تاريخي ( أي مادي بشري صنعه الإنسان عبر التاريخ )..."
كثر في الآونة الأخيرة استخدام مصطلح (النص والتأويل)، عند فئة من أصحاب العقول الذين لا يؤمنون بغير المحسوس والمشاهد، ويرفضون الإيمان بالقضايا الغيبية الثابتة في القرآن الكريم، وهذه العقول الزائغة لها أن تقول ما شاءت، فليس بعد الشك في الله تعالى وقرآنه كفر ضلال .
ولكن في تقديري أنه لا ينبغي التوسع في إطلاق (النص) على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من قبل أهل الإسلام، لأن هذا الإطلاق قد يؤدي إلى مشابهتها بالنصوص البشرية، فيصلح — حينئذٍ — أن يكون المنهج في تفسير القرآن والسنة هو ذات المنهج في فهم النصوص البشرية، وهنا يكون التلبيس .
وأما مصطلح (التأويل) فقد ذهب أهل الشك والزيغ إلى استعماله، ليثبتوا نظريتهم التي تقول: إن القرآن الكريم نص تاريخي، أي نتاج ظروف تاريخية بشرية محددة، وهو ما يعني رفض الإيمان بأن القرآن الكريم وحي من عند، والمقصود بـ(التاريخي) في هذا السياق عند أصحاب المذهب المادي الدهري (الإلحادي)، يعني نتاج التفاعل الإنساني مع مجمل الظروف السائدة، ومن هذا التفاعل تحقق كل شيء : العقائد والأفكار والسلوك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ونحوه . ومن جانب آخر فالتأويل أعلى درجة من التفسير، وهو عند علماء الإسلام أمرٌ خاصٌّ بالله تعالى قال الله تعالى: [ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ] (53) الأعراف، وعند ابن كثير: (هل ينظرون إلا تأويله) أي: ما وعدوا به من النكال والجنة والنار، قاله مجاهد وغير واحد، وقال مالك: ثوابه، وقال الربيع : لا يزال يجيء من تأويله أمر حتى يتم يوم الحساب حتى يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيتم تأويله يومئذ، وقوله: (يوم يأتي تأويله) أي: يوم القيامة، قاله ابن عباس" انتهى . ويوم القيامة من علم الله تعالى ولذا عبر بهذا اللفظ: (تأويله) ، والله أعلم .
وقال الحق العليم سبحانه: [ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الْأَلْبَابِ ] ( 7 ) آل عمران، وهذه الآية صريحة في اختصاص الله تعالى بتأويله، ولذا كان الوقف على لفظ الجلالة في قوله تعالى [ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ ]، لازماً، ولذا نجد علماء الإسلام لم يستخدموا هذا اللفظ - التأويل - بل استعملوا لفظ التفسير .
وفي تقديري ومن خلال قراءتي للواقع الفكري العلماني أن أهل الزيغ والضلال يسعون بهذا اللفظ - كما عند نصر أبي زيد وأركون وغيرهما من الماديين الدهريين - أنْ يجعلوا القرآن نص تاريخي (أي مادي بشري صنعه الإنسان عبر التاريخ)، ومن ثم فهم يسعون إلى إقناع الناس وخاصة المسلمين أن القرآن يمكن تأويله أي رده إلى أوله أو مبدئه باعتباره نصا تاريخيا بشريا، وما كان بشريا تاريخيا في طبيعته فيمكن فهمه وفهم مصدره ومبدئه ومكوناته من قبل العقل البشري، في زعمهم الباطل، وقد ألفوا ونشروا الكتب في هذا الباب ومضمونها ما توهموه وزينته لهم عقولهم القاصرة الكليلة من أنه من المتحقق تأويل القرآن وليس مجرد تفسيره، وأنه يمكن تفكيك كل جهد بشري - وهم يرون ويعتقدون بشرية القرآن - وتأويله أي التعرف والتعريف بمنطلقاته وظروف تكونه أو تكوينه، وهذا من أعظم الزيغ والضلال، لأن تأويل القرآن لا يكون إلا لله تعالى وحده .
ولقد جاء هؤلاء بالمضحكات المبكيات حين حاول الماركسيون منهم تأويل القرآن والسنة وفق نظرتهم المادية الجدلية ووفق المنظور الاقتصادي الذي يرون أنه المحرك لكل شيء .
وفي الوجهة الثانية يقف (البنيويون) ومعهم (السيميائيون) وكل أطراف الفرقة (الألسنية) و(الأنثروبولوجية) محاولين تفكيك القرآن الكريم و (تأويله) وفق المناهج التفكيكية، مع إعمال النظرة البنيوية وموت المؤلف .
وقد فشل هؤلاء فشلا ذريعاً، وهم يعلمون أنههم فاشلون لكنهم يتوسلون بهذا النفاق إلى الغرب وجامعاته التي يهمها أنْ ينبري بعض من يحملون اسم (محمد أو عبدالله أو حامد أو حسن أو غير ذلك) لهدم قدسية القرآن والسنة في عقل وفؤاد المسلم خاص ، والغربي الذي يبحث عن الحق، الذي يشعر بالظمأ إلى الإيمان الذي لا وجود له في غير القرآن والسنة، أي الإسلام(/1)
في حَديقَةِ الأُزْبَكِيّة
كنت أمس عند الأستاذ الزيات فدخل علينا شاب في نحو الثامنة عشرة عراقي، فسلم وقعد صامتاً لا ينبس، وجعل ينظر إليّ كأن في فيه كلاماً يريد أن يقوله، ولكنه لا يحب أن يظهرني عليه، فهو يتبرّم بمجلسي، ويرقب قيامي، فلما طال منه ذلك، قال له الأستاذ: "تفضل!". فقال متردداً: "كنت أريد أن أقص عليكم قصتي... علّها... تكتب في الرسالة... ولكن... سأجيء في وقت آخر". وألقى عليّ نظرة لا أقول من نار، ولكن من حروف وكلمات تقول: "لولا هذا الرجل!".
فقال الأستاذ معرّفاً بي: "إنه فلان، وهو من أسرة الرسالة فقصّ القصة أمامه، لعله إذا سمعها منك كتبها هو". فلما عرفني أشرق وجهه واطمأن وانطلق يقول:
*********
وصلت مصر للدراسة في مدارسها في أكتوبر الماضي وكانت تلك أول مرة أقدم فيها القاهرة، وأرى فيها الدنيا، أمضيت عمري قبلها في قرية لا تعرف إلا الجد، ولا تقبل غير الحرث والدرس، ما فيها إلا الحلقة والحقل، ما فيها سينما ولا ملهى، ولا تلقى في طرقها امرأة سافرة، ولا تصادف في حقولها فتاة، لم أخرج منها إلا مرة واحدة وأنا صغير زرت فيها النجف مع لِدَات لي فرأيتها مدينة عظيمة فيها كل ما يبهج ويهيج، وسعدت فيها أياماً، ثم عدنا إلى القرية، وإلى حلقة الشيخ، فقرأنا عليه كتب الدين والنحو والصرف والبلاغة، ثم أقبلنا على الأدب، نعبّ الشعر الغزل، كما يعبّ من النبع العذب الصافي الظمآن، ونحفظه في صورنا كما يحفظ الشحيح الموسر ماله في صندوقه، فيكون لقلوبنا الفتية المشتعلة بالعاطفة حطباً يابساً يزيدها اشتعالاً، ولكنه يكون لقرائحنا مدداً، ولألسنتنا ثقافاً، ولنفوسنا صقالاً، وكانت لنا صبوات يحركها سواد المرأة وهي تخطر في سوق القرية بعباءتها السوداء السابغة، وظلها من خلف زجاج النافذة، وصوتها من وراء الباب، لا نرى منها أكثر من ذلك، فكان يثير سواكن هذه القلوب التي ما عرفت طريق الإثم... وإن لم تخل القرية من آثمين (من الشباب) ومن آثمات.
قلت: فما فائدة الحجاب.
قال: إن الخير المطلق ليس من طبيعة هذه الدنيا، والعبرة بالغالب، فالحجاب خير فيه شر قليل، ولكن السفور شر قد يكون في خير قليل، وما الإثم في العاطفة يفيض بها القلوب، أو الشهوة تضطرم بنارها الأعصاب، ولكن الإثم في عمل الجوارح.
وعاد إلى قصته، فقال:
وكنت قد سمعت عن القاهرة أنها، لا تؤاخذوني، أنها كباريس، بلد لذة وانطلاق، وأنها عالم فيه من كل شيء، فيه العلم والجهل، والغنى والفقر، والتقى والفجور، والعفاف والفسوق، يصنع كل فيها ما يريد، لا يسأل أحد أحداً ماذا يصنع؟ ولا يقول له: دع ذا، فإنه حرام. وكفّ عن ذا فإنه عيب، وإن… إني لأستحي والله أن أتكلم.
قلنا له: قل يا أخي، إنك تقول الصدق ابتغاء الإصلاح، ولا حياء في الإصلاح.
فتردد قليلا، وغض بصره، ثم قال:
وأن النساء في مصر، أستغفر الله، ما هذا أعني، أعني أن في مصر نساء كثيرات... الحاصل أن الصورة التي كانت لمصر في مخايلنا لم تكن صورة الأزهر بحلقاته، ولا الجامعة بأبهائها، ولا الجمعيات الإسلامية، ولا النوادي الأدبية، كلا. بل صورة (البلاج) ومشاهده. والسفور والاختلاط، وأن الصوت الذي يصل إلى قريتنا عالياً ليس صوت الرسالة والثقافة والكتاب، فإنه صوت خافت فينا، ولكن صوت الإثنين وأخبار المسامرات، منها تكوّنت للقاهرة هذه الصورة، فتخيلناها فتاة عابثة مستهترة، لا شيخاً وقوراً صالحاً.
وأنا أقول لكم الحق، فأرجو أن يتسع لسماعه صدركم، ولا يضيق به حلمكم.
ولما تقرر سفري إلى مصر، أرقت ليالي بطولها، لا أستطيع الرقاد من فرط الانفعال، ثم سافرت وكلما نقصت من الطريق مرحلة زاد شوقي مراحل، وكلما اقتربت منها ابتعدت عن الصبر، ولست أطيل عليكم، فقد دخلتها ليلاً، فنزلت في فندق في العتبة الخضراء بلديّ، كانوا دلوني عليه قبل أن أسافر، اسمه (فندق البرلمان)، فنمت نوماً متقطعاً تتخلله ثائرات الأحلام، يؤرقني ما أرقب من لذائذ هذه الجنة التي دخلتها بعد طول تشوقي إليها فأنهض ساعة، ثم يسحقني السهر والسفر فأهجع أخرى، حتى طلع الصباح.(/1)
ونزلت الساعة العاشرة، فمشيت خطوات، فوجدت في وجهي حديقة الأزبكية، وكنت قد قرأت في (النظرات) للمنفلوطي رحمه الله، أن الأزبكية، ولا مؤاخذة، هي المكان الذي تميل إليه نفس كل شاب، لأنه أوسخ معابد الشيطان، السوق الذي تباع فيه اللذائذ، فاقتربت منها وقلبي يرجِفُ كأني مقبل على جريمة قتل، وهل الزنا إلا أخو القتل؟ وتمثّل لي ماضيّ وأخلاقي، وطلعة الشيخ، فارتددت وتلفت أنظر هل رآني من أحد -لا تضحكوا أرجوكم فإني أصف لكم ما وقع لي، ومرّ رجال، خيل إليّ أن واحداً منهم يحدّق فيّ، ويحدّ النظر إليّ ويتبسّم فشعرت أن دمي كله قد صعد إلى رأسي، وأن أذنيّ قد صارتا جمرتين ملتهبتين، وتصبب العرق من جبيني، لما وقع في نفسي من أن الرجل يعرفني، ويعلم ما أسعى إليه، فأسرعت في مشيتي حتى بهت الناس إليّ بإسراعي، فجعلوا ينظرون إليّ متعجبين من عجلتي، وكلما رأيت ذلك منهم ازددت عجلة، كأني الجواد الأصيل يقرع بالمقاريع ليقف، وكلما أحسّ وقعها طار طرياً، حتى إذا ابتعدت وقفت، ووجدت راحة الخلاص من الإثم، كما يجد الغريق راحة الوصول إلى الهواء، ومشيت لا أعرف لي وجهة، فعاد الشيطان يوسوس إليّ، فثارت الرغبة في نفسي كرة أخرى، وندمت على أن أضعت هذه الفرصة التي انتظرتها دهراً مديداً، وفكرت فيها مسهداً ليالي طوالاً، وقطعت من أجلها قفراً وقطعت بحراً، ومشيت من مشرق الشمس إلى مغربها، فعدت وجعلت أدور حول سور الحديقة، وقلبي يكاد يمزّق بوجيبه جدار صدري، وكان اليوم يوم أحد، فرأيت غوانيها من خلال السور قاعدات باديات المفاتن أو مضطجعات أو منبطحات على الكلأ ساحرات بالمقل النواعس، وبالسوق والأفخاذ، فكدت أجنّ، ولا تنسوا أني لا أزال أعتقد أن الحديقة هي (أزبكية المنفلوطي).
وشددنا أشداقنا كيلا يفلت الضحك منا، ومضى في قصته.
قال: ورأيت على مقعد شاباً وفتاة، وهما يتناجيان، وعلى وجهيهما من ظلال الحديث، مثل ما يكون على وجه البحيرة الساكنة من شعاع القمر، وقد تدانى الرأسان، والتفّت الأيادي بالمناكب، وتعارضت الساقان، وأحاطهما بجناحيه إبليس الهوى، فجن جنوني، ودفعتني موجة الانفعال التي ماجت في نفسي، فأقدمت حتى إذا ضعفت الموجة وماتت، كما تموت أمواج البحر وسط اللجّة، ألفيتني عند الباب، فوقفت لا أدري ماذا أعمل، كأني قد أقمت على عمود في رحبة القرية والناس كلهم ينظرون إليّ يقولون: هذا الذي دخل الأزبكية التي لم يعرف (المنفلوطي) من تحديدها إلا أنها فوق الغبراء وتحت السماء، وتمنيت من الخجل أن أغوص في الأرض وأحسست أن الدنيا تدور من حولي، ولم ينقذني إلا رجل دخل فتوسط الباب الدوار، فدفع (قرش تعريفة) فأداره له البواب حتى صار في الحديقة، فصنعت صنيعه وأنا لا أعقل ما أصنع.
جُلْت في الحديقة فوجدت نساء من كل لون وجنس، ولكني كنت كمن ألقي في الماء قبل أن يتعلم السباحة، فلم أدر كيف السبيل إليهن، وحاولت أن أتذكر ما قرأت في القصص وماذا يعمل أبطالها في مثل هذا الموقف، وما حفظت من أشعار الغزل، فلم يخطر على بالي إلا أبيات (سألت الله أن يجمعني بسلمى) فقد كانت حالي كحال هذا الشاعر، أرقب أن تجيء إحداهن فتأخذني هي بيدي وتجرّني إليها، ولكني لم أر غرفاً ولا مخادع، ثم وجدت بناءً في الحديقة فعلمت أن المخادع والغرفات فيه، وبقيت إلى المساء، أدور لا أفكر في طعام، ولا أشكو التعب، حتى إذا قيل اخرجوا ستغلق الحديقة، خرجت وما أظن أن على ظهر الأرض إنساناً أخيب مني.
وجعلت أعود إليها كل يوم، فلما كان بعد ثلاثة أيام، وكنت قاعداً على مقعد وأمامي امرأة قصيرة الثوب، عارية الساق قد رفعت رجلاً على رجل، فأبدت ما أحسست به كالبارود في أعصابي، وجعلت أنظر إليها، علّها تلقي بصرها عليّ، فأغمزها بعيني -وقد فكرت في ذلك الليلة البارحة كلها، ورأيته هو الطريق إليها، بعد ما أعياني الوصول، وجربته أمام المرآة حتى حَسِبْتُني أتقنته- والتفتت إليّ فغمزت بعيني، فإذا بها تشمخ بأنفها، وتقوم فتمضي وعلى وجهها مثل أمارات الاشمئزاز... وسمعت ضحكاً من ورائي فتلفت مذعوراً، فإذا أنا بشاب على رأسه كمّة بيضاء يلبس (قفطاناً) يبدو عليه أنه فلاح، تلوح عليه سيمياء الفقر، ورأى ذعري فقال: "ازّيك". قلت: "كلّش زين" ففهم أني غريب، وأني عراقي، فقال: "عجبتك؟" فاستحييت أن أجيب. فقال الخبيث: "ليه؟ انت مكسوف؟ ما تتكسفشي! تعال أودّيك لواحدة أحلى منها".(/2)
إنكم لا تستطيعون أن تتصوروا ماذا صنعت بي هذه الكلمة وأنا الذي عاش عمره يشتهي أن يشم ريح امرأة من مسافة فرسخ وتشجعت فقلت له بصوت مخنوق: "شْلونْ؟". قال: "شلون يعني إيه؟ تعال معايا. تعال" وأخذ بيدي وأخرجني من الحديقة، وقال: "تحب ناخد تاكسي ولا نركب الترام؟" وكنت نافذ الصبر، مجنون الرغبة، فقلت: "تاكسي". ولو كانت طيّارة لركبت إلى ما يأخذني إليه طيارة. ولم أسأله إلى أين، حتى نزلنا من السيارة، فسألت السائق: "كم تريد"؟ قال: "ثلاثين قرشاً" فارتعدت لحظة ولكني لم أبال، ونقدته الأجرة ونظرت فإذا الذي بقي في جيبي اثنان وعشرون قرشاً، وسائر فلوسي عند الفندقي. نفقة الشهر كلها خمسة عشر جنيهاً.
قال الشاب: "ايدك على جنيه بأه". قلت: "جنيه؟" قال: "أمّال؟ دي بنت تمانطاشر، زيّ الأمَر". فنظرت هنا وهناك أبغي مهرباً ولا أعرف الطريق. فقال: "ما لكشي مزاج ولا إيه؟". فقلت: "في وقت ثاني". قال الخبيث: "على خاطرك. هات تعبتي بأه!" فأعطيته خمسة قروش، ولم يحب أن يفلتني قبل أن ينتف ريشي فعاد يحدثني حديث الرجس، وقال لي إن عنده بنات أخر، ولكن لكل ثمن، فبنت مصرية سمراء كأن عينيها عينا غزال شارد، وبنت شامية من صفتها كذا، وبنت عراقية من بلادنا من نعتها كذا، وبنت رومية كأن جسمها العاج المشرب بعصير الورد، وكأن شعرها أسلاك الذهب، تسقي من فمها خمراً، ومن مقلتها سحراً ورآني أرتجف من الانفعال، ورأى وجهي شاحباً فقال: هي بنت بيت "مش من دول" لا تأخذ فلوساً، لأن أباها من كبار أصحاب المصارف، ولكن للبواب جنيهان ليغضّ النظر، وله هو جنيه، واثنان لوصيفتها لتكتم الأمر وتحفظ الباب.
وسحرني الملعون. فقلت: "لا بد لي من الذهاب إلى الفندق لآتي بالفلوس" قال: "هيا بنا".
وتسلم الجنيهات الخمسة، وأدخلني عمارة فخمة في شارع الملكة نازلي، فأصعدني إلى الطبقة السابعة، وأشار إلى باب فقال: إنها هنا ولكنه لا يستطيع أن يدخل معي، فهو ينتظرني عند البواب، ونزل بـ"المصعد" الذي صعدنا به، وأقدمت مضطرباً فقرعت الباب بيد ترتجف، ففتحه لي خادم أسود مسن، ووقف ينظر ما أقول له، ووقفت مبهوتاً فقال: "ايه؟ عاوز مين؟" فسكتّ. قال: "الله! انت عاوز مين؟" قلت: "سنيّة"، وكان هذا هو الاسم الذي خطر على لساني. قال: "سنيّة؟! دي شركة" وأغلق الباب في وجهي، ولم أجد المصعد فنزلت على الدرج، من الطبقة السابعة، فلما بلغت الباب لم أجد الشاب ولا البواب.(/3)
في ذكرى الهجرة
أما بعد ، فيا أيها الإخوة المؤمنون ، ويا أيها المحتفلون بذكرى هجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
أقول في البداية : ما الذي يعنيه الاحتفال بذكرى من الذكريات الجميلة العظيمة الرائعة كذكرى الهجرة على سبيل المثال ؟ الذي يعنيه الاحتفال في رأيي هو أمران : الأول أُسميه استحضاراً ، والثاني أُسميه اعتباراً . نستحضر ونعتبر . أما الاستحضار فأن تعيش هذه الذكرى بحوادثها وكيف وقعت من خلال الاطّلاع عليها ، ومن خلال قراءتها ومن خلال معرفتها ، ومن خلال البحث عن تفاصيلها عبر كتبٍ رصدتها ، وعبر مؤلفات سجلتها ، وعبر مجلدات ضمت بين دفتيها تلك الأحداث التي تشكل بمجموعها هذا الأمر الذي نحتفل بذكراه . وسؤالي عند الاستحضار لبني قومي ولإخواني : هل استحضرنا هذه الذكرى من خلال الاطلاع على هذا الحدث العظيم الكريم الشريف ؟ هل فكر واحد منا في أن يأخذ كتاباً في السيرة ليقرأ حوادث الهجرة النبوية وكيف تمت ، ولعلك يا أخي الكريم ومن أجل أن أريحك أقول لك : لو أنك أخذت أكثر الكتب توسعاً في هذا الشأن لما رأيت أكثر من أربعين إلى خمسين صفحة تتحدث عن الهجرة ، وإنك إن سألتني عن الوقت الذي تستلزمه قراءة هذه الخمسين صفحة ، علماً أني لا أدعوك إلى قراءة الهجرة من كتاب موسع ، لكنني أذكر الاحتمال الأبعد ، فلو أنك رجعت إلى أكثر الكتب توسعاً في الحديث عن الهجرة ، وبالتالي لن تستغرق في قراءة هذه الصفحات أكثر من ساعتين ؟ قل لي بربك : هل فَرَّغت ساعتين في يوم عطَّلنا فيه ، لم يذهب الموظف فيه إلى مكان عمله ، أو بالأحرى إن ذهب فأمامه الليل ، هل فرغت ساعتين من وقتك للاطلاع على هذه الذكرى التي تقول أنت بملء فيك : إنك تنتمي إليها وإلى بطلها وإلى صاحبها وإلى من سطَّر حوادثها ، إلى النبي محمد عليه وآله الصلاة والسلام . الاستحضار يعني التعرف ، الاستحضار يعني الاطلاع ، الاستحضار يعني أن تكون على علم بما حدث ، لا على علم تفصيلي ، ولكن لا أقل من أن تطلع على مُجمَل هذا الحدث الكبير من خلال كتاب مضيق ، مختصر ، تقرأ فيه الهجرة النبوية الشريفة عبر أربع أو خمس صفحات ، فهل فعلت هذا يا أخي ؟ ثقوا يا إخوتي ، والمنبر من أجل التناصح والتواصل ، ثقوا أنني استيقظت اليوم باكراً وأمسكت بيدي كتابين في السيرة النبوية وقرأت وقائع الهجرة من الكتابين وقد كان الكتابان يحويان وقائع الهجرة في عشرين صفحة فما استغرق الأمر معي أكثر من ساعة وأنا أقرأ وقائع هذه الهجرة قلت بيني وبين نفسي : ماذا سأقول للناس وأحدثهم عن الهجرة ؟ أجبت نفسي وقلت : عليَّ أن أدعو الناس من أجل أن يقرؤوا الهجرة ، فهنالك فارق بين نقل وبين قراءة وتمعن ، لأنك إذ تقرأ هذه الذكرى أو الحدث ، فإن لم تفهم من المرة الأولى فستعيده ثانية وثالثة وهكذا دوليك . اقرؤوا سيرة نبيكم ، واسمحوا لي أن أقول : إياكم وإياي أن نعتمد على تلفاز أو على إذاعة في تلقي العلم ، فالكتاب هو المصدر الذي تتلقى منه العلم ، لأنك تقرأ مرة ومرتين وتعيد الأمر مرة ومرتين وثلاث مرات ، وقد قلت على هذا المنبر : التلفاز ليس مصدراً للمعلومات فيجب أن لا نعتمد عليه لأنه يُكَسِّلنا ، يبعث فينا كسلاً ، إذ نمكث أمام هذا الجهاز ساعة أو ساعتين وتكون الحصيلة في عالم الفائدة لا تتجاوز ما يمكن أن تحصله بقراءة سطرين في مدة لا تتجاوز خمس دقائق . أريد أمة قارئة .(/1)
بالأمس سُئلت من قبل رجل ينتسب لدولة أجنبية ، قال لي : ما نسبة الأمية في بلادكم ؟ أنا لا أعرف هذه النسبة ، وإذ بأحد الجالسين قال : إن نسبة الأمية في سوريا تتجاوز 40 % ، حتى الذين لا يُحسبون من الأميين أعتقد أنهم بهجرهم للقراءة النافعة أضحوا أميين ، لأن عدم الأمية يستلزم متابعة وقراءة مستمرة ، ولا يقولن أحد بأن قراءته ضعيفة ، وأنه خرج من المدرسة في الصف الرابع أو الخامس ، لأننا أمة الإسلام مطالبون بأن نتعلم ونحن الذين نقول للناس إن الإسلام من البداية كان داعياً إلى القراءة فالآية الأولى من القرآن الكريم ( اقرأ ) وربنا عز وجل قال : ? وقل رب زدني علماً ? طه : 114 وربنا عز وجل قال : ? قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ? نحن نقول للناس هذا الكلام ونحن الذين نقول أيضاً حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في الطبراني : " إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله فلا بورك لي في شمس ذلك اليوم " هكذا نقول للناس ولكن حالنا لا يسعف قالنا ، ولكن وضعنا لا يسعف ادّعاءنا ، فالادعاء عريض والواقع مريض . لا تنتظرن يوم الجمعة من أجل أن تسمع الخطيب يحدثك عن الهجرة ، بل عليك أن تبادر وأن تُحضِّر لِما يمكن أن يقوله الخطيب حتى تكون متلقياً جيداً . نحن نقول لطلابنا : حضروا الدرس القادم حتى يكون التلقي قوياً من قبل المدرس . ويفرح المدرس إذا ما أتى الطلاب وقد حضروا الدرس الذي سيُعطى لهم فلماذا لا نطبق هذا على الأقل في المناسبات ، ونحن على شبه يقين أن خطيبنا سيتحدث عن الهجرة فلماذا لا نحضر عن الهجرة ، حتى إذا ما تلقينا قاطعنا بين كلامه وبين ما قرأنا فسألنا عن علم ولم نسأل عن جهل ، حتى إذا قال الخطيب مثلاً قصة لم نقرأها في كتابنا الذي قرأنا فيه قصة الهجرة سألنا الخطيب عن مصدر القصة التي جاء بها ، والسؤال مشروع ، لكننا في هذا الميدان أصبحنا هامدين جامدين لا حراك لنا ، ثم بعد ذلك نقول : ما أعظم ذكرى الهجرة !(/2)
اسمحوا لي أن أقول : إن كلمة الهجرة تعني انتقالاً إيجابياً . أنا لا أريد أن أحدثكم عن دروس هذا الحدث وإنما أَكِل الأمر إليكم ، لكنني أعلق بخواطر سجلتها من أجل أن تكون موضوع لقائي معكم : نحن نتحدث عن الهجرة ، أَوَليست الهجرة تعني انتقالاً إيجابياً ، عندما تقول : اليوم هو الثاني من محرم لسنة ست وعشرين وأربعمائة وألف ثم تقول بعد ذلك من الهجرة ، فلو سألك إنسان قائلاً : أنت تؤرخ وتتحدث عن الهجرة ، فما الهجرة ؟ هل ستقول له : انتظر حتى نسمع برنامجاً من التفاز ؟ هل ستقول له انتظر حتى يأتي يوم الجمعة ويحدثنا الخطيب ؟ أنت مسلم مسؤول عن مصطلحاتك التي تسجلها بيدك والتي تحض الناس ، أنت تطالب الحكومة ونحن معك في أن تعتمد التأريخ الهجري ، وتقول هذا تاريخنا ، إذا كان الأمر كذلك ، فلو أن الدولة قالت لك : ماذا تعني الهجرة ؟ ما المقصود بالهجرة من حيث الاستحضار ؟ أعتقد أنك ستقف واجماً هامداً ، ثم إن تحدثت عن الاعتبار وقفت جامداً هامداً ، لأن هناك علاقة بين الاعتبار والاستحضار ، ما لم تستحضره لن تعتبر به ، إذا كان الأمر مجهولاً بالنسبة لك ، كيف يكون هذا الأمر اللامعروف عندك موطن ومحل ومرجع وموئل اعتبار ، ومَجْمَع دروس ومَكْمَن عظة ، كيف يمكن أن يكون الأمر كذلك وأنت تسجل في يومك أو تنظر في روزنامتك تقول : للهجرة ، الرسول عليه وآله الصلاة والسلام قال كما جاء في صحيح الإمام مسلم : " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية " والجهاد أوسع من القتال ، والقتال بعض القتال ، " ولكن جهاد ونية " فعليك أن تجاهد أي أن تنتقل من وضع سيء كنت فيه ? والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ? العنكبوت : 69 عليك أن تنتقل من وضع سيء إلى وضع حسن ، من جهل إلى علم ، هذه بعض إسقاطات الهجرة ، أن تتحول من وضع سيء إلى وضع حسن ، فيما يخص العلم ، فيما يخص العدل ، فيما يخص الطاعة لله عز وجل ، فيما يخص الأخوة ، فيما يخص بر الوالدين ، فيما يخص الابتعاد عن المعاصي ، فيما يخص تربية الأبناء ، فيما يخص العبودية لله ، فيما يخص كل القيم التي جاء بها الإسلام ، فالهجرة من عِبَرها أن تنتقل من وضع سيء كنت فيه إلى وضع حسن ، ومن وضع حسن إلى وضع أحسن ، وهكذا وما للترقي انتهاء ، ورسولنا عليه وآله الصلاة والسلام يقول : " من استوى يوماه فهو مغبون " كما جاء في سنن الترمذي ، إذا كان يومك ولو كان جيداً كأمسك الذي كان جيداً فأنت مغبون ، عليك أن تجعل يومك أفضل من أمسك ، وأن تجعل غدك أفضل من يومك وهكذا في ترقٍّ مستمر ، وما للترقي انتهاء ، لأن نبينا يقول عن ذاته : " " إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله فلا بورك لي في شمس ذلك اليوم " إذاً فمن أنت حتى يأتي عليك يوم لا تزداد فيه علماً يقربك إلى الله ، والنبي يقول عن نفسه الشريفة الرضية صلى الله عليه وآله وسلم : " فلا بورك لي في شمس ذلك اليوم " فماذا تقول أنت عن نفسك وأنت تمرر أياماً بل أسابيع بل شهوراً بل سنين ، هلا جلست بينك وبين نفسك لتحدث نفسك عما كنت عليه عام ستة عشر وأربعمائة وألف على سبيل المثال ، أي قبل عشر سنين ، وما الذي حدث لك من تطور إيجابي يقربك إلى الله ، هلا قمت بهذه العملية ، بهذه الموازنة ، أعتقد أن أغلبنا مقصر في توجهه لذاته من حيث جديته في البحث عن تطوراته الإيجابية في خط عبوديته لله ، وفي خط عمله النافع وعمله الصالح ، فالأيام بالنسبة لنا تمر ونقول ما أسرع الأيام . نعم ، إن من لا يعمل فسيستعجل الأيام وسيقول عن الأيام إنها سريعة ، أما الذي يعمل فسيرى الأيام مباركة وواسعة وفضفاضة ، عندما تمرر عشر سنوات من غير إنتاج فلن تشعر بهذه الأيام ، ولن تشعر بهذه السنين ، وستقول لأولادك ولأحفادك كلمة خجولة ، فيها شميم من الخذلان : سبحان الله ! تمر الأيام ولا نشعر . هل قال مثل هذه الكلمة رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام وأصحابه ؟ لم يقولوا مثل هذه الكلمة ، لأنهم كانوا ينتجون ، ومن أنتج لم يشعر بسرعة الأيام ، أما الذي تكاسل واثاقل إلى الأرض فسيقول كلمة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب : سبحان الله ! ما أسرع الأيام .
في ذكرى الهجرة أدعو نفسي وإياكم إلى هجرة إيجابية من وَهَدات الجهل إلى رَبوات العلم ، أدعو نفسي وإياكم إلى هجرة إيجابية من كل رذيلة إلى كل فضيلة مقابلة ، من الكذب إلى الصدق ، من العصيان إلى الطاعة ، من الاستهتار إلى الجد ، من التسيب إلى الالتزام ، من الضياع إلى اللقاء مع الله عز وجل .(/3)
وأخيراً : وأنا أقرأ قصة الهجرة مررت على أول خطبة خطبها سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قدم المدينة في منازل سالم بن عوف ، قلت في نفسي وأنا أقرأ هذه الخطبة : لا إله إلا الله ، سبحان الله ! ما كان أقل كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وما كان أعظم أفعاله عليه وآله الصلاة والسلام . لو خطب الواحد منا خطبة بعدد كلمات خطبة النبي ، لا أقول كخطبة النبي فلا يمكن لواحد منا أن يقول خطبة كخطبة النبي ، فبين خطبنا وخطب النبي مسافات واسعة شاسعة لا يمكن أن تقدر بأميال ولا بمسافات . قلت في نفسي لو أن الواحد منا خطب بعدد كلمات النبي لتذمر الحاضرون وقال بعضهم : نريد أن نستفيد ، ولكنهم إذ يقولون ذلك يقولون من غير تفكير ، يقولون هذا لمجرد أنهم تعودوا على ذلك لا أكثر ولا أقل . رجعت إلى كتاب فيه خطب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فما وجدت خطبة تفوق صفحة ، لكننا أمة ابتلينا بكثرة الكلام وقلة العمل ، بكثرة الجدل ، بالحديث فيما بيننا ، بالاطلاع على الأخبار من ألف إذاعة والنتيجة لا شيء ، المهم أننا نريد أن نطلع على استقالة رئيس الدولة الفلانية في أمريكا الجنوبية ، ثم بعد ذلك آتي إليك لأحدثك عن استقالة هذا الرئيس حتى تعطينا وسام الثقافة ، فأنا مثقف ، أما أن ألتقيك لأحدثك عن الهجرة وتفاصيلها فهذا شيء لا تطاله الثقافة اليوم للأسف الشديد ، ولا يمكن أن أسمى من خلال ذلك مثقفاً ، أضعنا أنفسنا وعقولنا ، وأهدرنا سُعيراتنا وحُرَيراتنا فيما لا طائل تحته ، فيما لا فائدة منه ، ونحن يوم القيامة كما ستحدثنا خطبة نبوية شريفة : حمد الله وأثنى عليه ، ليتني كنت يا رسول الله يومها معك ، فأفوز فوزاً عظيماً ، حمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أما بعد ، أيها الناس : فقدموا لأنفسكم ، تعلمنُّ والله ليُصعقن أحدكم – أي ليموتن – ليصعقن أحدكم ثم ليَدَعن غنمه ليس لها لا راع – الموت يأتيك من غير أن يستأذنك – ثم ليقولن له ربه ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه : ألم يأتك رسولي فبلغك ، ألم أعطك مالاً وأفضلت عليك ، فما قدمت لنفسك ، ألم يأتك رسولي فبلغك ، وفي رواية وآتيتك مالاً وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك ، فلينظرن يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً ، لأنه مع ربه ، ولينظرن قُدَّامه فلا يرى غير جهنم ، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ، ومن لم يجد فبكلمة طيبة - أين الكلام الطيب بيننا – فإنها تجزى الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، والسلام عليكم ورحمة الله " هذه خطبة رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام . أيها الإخوة كتبتها بخط إلى حد ما كبير ، ويمكن أن يسميه بعضهم صغيراً فكانت في خمسة أسطر ، هذا كلام رسول الله ، هذه خطبة رسول الله ، فأين نحن يا إخوتي ؟!
آمل أن تكون مثل هذه الخطبة عِظةً كبيرة بالنسبة لنا حتى نحفظ كلامنا إلا فيما ينفعنا ، وحتى نحفظ ألسنتنا إلا فيما يعود علينا بالخير ، فاللهم إنا نسألك أن تكتبنا من المهاجرين بجهاد ، بنياتهم ، بقولهم : ? ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ? آل عمران : 8 نعم من يسأل أنت ، ونعم النصير إلهنا ، أقول هذا القول وأستغفر الله .(/4)
في ذكرى سقوط الخلافة...درس وعَبرة
ضَجَّتْ عليكِ مآذنٌ ومنابرٌ *** وبَكتْ عليكِ ممالكٌ ونَواحِ
الهندُ والهةٌ ومصرُ حزينة ٌ *** تَبْكي عليكِ بمَدمَعٍ سَحّاحِ
والشّامُ تسْألُ والعِراقُ وفَارسٌ *** أَمَحَا من الأرضِ الخلافةَ ماحِ؟
بمثل تلك الأبيات خرجت حروف أبيات أحمد شوقي تبكي صرح الخلافة الذي انهدم.
في يوم لم تشهد الأمة بعد وفاة رسولها صلى الله عليه وسلم يومًا مثله.
ففي السابع والعشرين من شهر رجب لسنة 1342 هـ، الموافق للثالث من مارس لسنة 1924م, وقعت أكبر جريمة في حق المسلمين، حيث تمكنت الدول الأوروبية بقيادة بريطانيا بواسطة عميلها "مصطفى كمال أتاتوك" من إلغاء دولة الخلافة العثمانية الإسلامية، ولم تخرج الجيوش البريطانية المحتلة لمضيق البوسفور وإستانبول العاصمة إلا بعد أن اطمأنت من إسقاط دولة الخلافة، وإقامة الجُمهورية العلمانية على أنقاضها، وإخراج الخليفة من البلاد.
ـ وبسقوطها سقطت مفاهيم الدولة المبنية على المبادئ والقيم الرفيعة والأخلاقيات، وحلَّت محلها المفاهيم المبنية على المصالح والأهواء والماديات.
ـ سقطت دولة الخلافة وبسقوطها سقطت آخر دولة خلافة للمسلمين، لم يتبق للأمة الإسلامية منذ ذلك التاريخ دولة حقيقية تمثلهم، ولم يعودوا يحيون في جماعة إسلامية يقودها خليفة مبايع شرعًا على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ـ سقطت دولة الخلافة وبسقوطها سقط ظل دار الإسلام من على الأرض، الذي كان يظل كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
مقدمة لابد منها
الدولة العثمانية 699 ـ 1343 هـ. العثمانيون من شعب التركي، وأصلهم من بلاد التركستان، نزحوا أمام اكتساح جنكيز خان لدولة خوارزم الإسلامية، بزعامة سليمان الذي غرق أثناء عبوره نهر الفرات سنة 628 هـ فتزعم القبيلة ابنه أرطغرل الذي ساعد علاء الدين السلجوقي في حرب البيزنطيين فأقطعه وقبيلته قطعة من الأرض في محاذاة بلاد الروم غربي دولة سلاجقة الروم. وهذه الحادثة حادثة جليلة تدل على ما في أخلاقهم من الشهامة والبطولة. ويعتبر عثمان بن أرطغرل هو المؤسس الأول للدولة العثمانية، وبه سميت، عندما استقل بإمارته سنة 699 هـ وأخذت هذه الإمارة على عاتقها حماية العالم الإسلامي، وتولت قيادة الجهاد، وأصبحت المتنفس الوحيد للجهاد ،فجاءها كل راغب فيه.
وفي عام 923 هـ انتقلت الخلافة الشرعية لسليم الأول بعد تنازل المتوكل على الله آخر خليفة عباسي في القاهرة… وبهذه العاطفة الإسلامية المتأججة في نفوسهم ممتزجة بالروح العسكرية المتأصلة في كيانهم، حملوا راية الإسلام، وأقاموا أكبر دولة إسلامية عرفها التاريخ في قرونه المتأخرة… وبقيت الحارس الأمين للعالم الإسلامي أربعة قرون، وأطلقوا على دولتهم اسم (بلاد الإسلام) وعلى حاكمها اسم (سلطان) وكان أعز ألقابه إليه (الغازي) أي:المجاهد.
وحكموا بالعدل وعملوا بالشرع الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى لتكوين هذه الدولة… ووسعوا رقعة بلاد الإسلام شرقاً وغرباً واندحرت الأطماع الصليبية أمامهم وحقق الله على أيديهم هزيمة قادة الكفر والتآمر على بلاد المسلمين وارتجفت أوروبا خوفاً وفزعاً من بعض قادتهم أولئك الذين كانت الروح الإسلامية عندهم عالية . . وكانت روح الانضباط التي يتحلى بها الجندي عاملاً من عوامل انتصاراتهم وهي التي شجعت محمد الثاني على القيام بفتوحاته.
وكانت غيرتهم على الإسلام شديدة وكثر حماسهم له، لقد بدءوا حياتهم الإسلامية بروح طيبة وساعدتهم الحيوية التي لا تنضب؛ إذ إنهم شعب شاب جديد لم تفتنه مباهج الحياة المادية والثراء، ولم ينغمس في مفاسد الحضارات المضمحلة التي كانت سائدة في البلاد التي فتحوها، ولكنهم استفادوا منها فأخذوا ما أفادهم، وكانت عندهم القدرة على التحكم والفتح والانتصار وقد أتقنوا نظام الحكم وخاصة في عصر الفاتح، إذ كان هناك نظام وضع لاختيار المرشحين لتولي أمور الدولة بالانتقاء والاختيار والتدريب والثقافة، كما كانوا يشدد ون في اختيار من تؤهله صفاته العقلية والحسية ومواهبه الأخرى المناسبة لشغل الوظائف، وكان السلطان رأس الحكم ومركزه وقوته الدافعة وأداة توحيده وتسييره، وهو الذي يصدر الأوامر المهمة والتي لها صبغة دينية، وكان يحرص على كسب رضاء الله وعلى احترام الشرع الإسلامي المطهر.
فكان العثمانيون يحبون سلاطينهم مخلصين لهم متعلقين بهم فلم يفكروا لمدة سبعة قرون في تحويل السلطة من آل عثمان إلى غيرهم. ولكن الأمور لم تستمر على المنهج نفسه والأسلوب الذي اتبعوه منذ بزوغ نجمهم في صفحات التاريخ المضيء فقد بدأ الوهن والضعف يزحف إلى كيانهم.
لماذا الحديث عن هذه الذكرى
لم تكن ذكرى سقوط الخلافة في يوم من الأيام ذكرى دينية بالمعنى الشرعي، وإن كانت تتعلق بأعظم واجبات الدين ألا وهو وجوب إقامة الدولة الإسلامية لتطبيق الشرع، ولا هي ذكرى احتفالية يرجى من ورائها أن نتجرع كأس الألم والحسرة.(/1)
ولكنها ذكرى أردت من الحديث عنها.
أولاً: إشاعتها بين السواد الأعظم من المسلمين. وتعريف المسلمين بأهمية هذا الواجب الذي وصفه القلقشندي: بـ"حظيرة الإسلام، ومحيط دائرته، ومربع رعاياه، ومرتع سائمته، والتي بها يحفظ الدين ويُحمى، وبها تُصان بيضة الإسلام، وتسكن الدهماء، وتقام الحدود فتمنع المحارم عن الانتهاك، وتُحفظ الفروج فَتُصان الأنساب عن الاختلاط، وتُحصن الثغور فلا تطرق، ويُذاد عن الحُرَمِ فلا تُقرع".
تلك المعاني التي افتُقدت فعلاً هذه الأيام واختفت بسقوط دولة الخلافة.
ثانيًا: إثارة نوازع الوحدة بين الشعوب المسلمة مع اختلاف مشاربها وأقطارها، ومع اختلاف أحزابها وتجمعاتها.
ثالثًا: تحريك الغافلين من أجل العمل لهذا الدين، واستعادة مجده.
رابعًا: ربط الأجيال الجديدة بماضيها التليد، وأن الحديث عن مجد هذه الأمة لا يرتبط فقط بعصر الصحابة وما تبعه. بل لنا في العصر الحديث أيضًا ماض يفتخر به.
خامسًا: إثارة الغبار عن تاريخ نُسي أو نُسِّي، ودعوة لنشر هذا التاريخ وتدريسه للتلاميذ في المدارس، و طلبة العلم في المساجد، وهو تاريخ السلاطين العثمانيين الذين أقاموا دولة عاشت أكثر من ستة قرون، وامتدت رقعتها الجغرافية إلى آسيا وأوروبا وإفريقيا، وكانت جيوشها أكثر جيوش العالم عددًا وأحسنها تدريبًا وتسليحًا وتنظيمًا، فقد عبرت جيوش هذه الدولة الفتية البحر من الأناضول إلى جنوبي شرق ووسط أوروبا، وفتحت بلاد اليونان، وبلغاريا، ورومانيا، ويوغسلافيا، والمجر، ورودس، وكريت، وقبرص، وألبانيا حتى بلغت مشارف فيينا ـ عاصمة النمسا ـ وجنوبي إيطاليا؛ فكانت أول دولة إسلامية تصل إلى هذا العمق في الأرض الأوروبية.
سادسًا: توعية المسلمين بطبيعة المرحلة، ومحاولة تسليحهم بالثقافة الإسلامية، والفقه السياسي المتشبع بالنظرة الشرعية للأمور، لا ترهات الديمقراطية، والحرية...
سابعًا: الاستفادة من الماضي، واستهلام السنن الإلهية في النصر والتمكين، واستخلاص الدروس والعبر مما قد يفيد في استشراف المستقبل بالتخطيط المتزن، تحقيقًا لوعد الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
الدروس والعبر
1ـ إن التمكين في الأرض لأي طائفة كانت أو فئة إنما هو هبة من الله تعالى ونعمة، وضع الله له شروطًا ومقدمات لا يقوم إلا بها، فإذا استوفت أمة من الأمم الشروط والمقدمات، استحقت التمكين والغلبة والظهور، ويظل بقاؤها واستمرارها على هذا التمكين مرهونًا بهذه الأسباب ذاتها، فإذا فقدت شيئًا منها، أو أخلت بها فقدت عوامل البقاء، وانحدرت إلى هاوية الذل والهوان والضعف. وهذا مع حدث مع بني عثمان، فلما دب فيهم الضعف والهوان والبعد عن منهج الله وصار الظلم والبذخ عادة سلاطينهم نزع الله ما في أيديهم.
2ـ التخطيط والتدبير . فقد قابل المسلمون سقوط الخلافة بردات فعل عاطفية، في حين دبر الأعداء وخطط لإسقاطها عشرات السنين حتى تمكنوا منها.
3ـ تفسير الأمور و الأحداث التي تطال الأمة، تفسيرًا شرعيًا بعيدًا عن خزعبلات العلمانيين والمتشدقين؛ فالحروب والوقائع والأحداث التي تمر بالأمة، كلها صور من صور الصراع بين الحق والباطل، بين الإسلام والكفر، بين الهدى والضلال، وقراءة التاريخ تريك ذلك رأي العين.
4ـ أن قوة المسلمين في توحدهم وتماسكهم، ولذلك سعت الدول الأوروبية وحرصت على تفكيك وحدة المسلمين.
5 ـ أن الخلافة هي الإطار السياسي الشامل الذي يجمع كلمة المسلمين ويوحدهم ويضمن لهم القوة والتماسك ويعمل على إقامة الدنيا، وحراسة الدين.
6ـ الاهتمام بالتربية، والإعداد الإيماني قبل الخوض في مقارعة الباطل، ذلك أن الاهتمام بالجانب المادي وحده قد يؤدي إلى نصر سريع لكنه يحتاج بعد ذلك إلى نوع آخر من الإعداد يستطيع الوقوف أمام المغريات، ولا يتأتى هذا إلا بتربية عميقة.
7ـ صفاء المعتقد، والتصورات وفق مذهب أهل السنة والجماعة، والأخذ على يد المبتدعة والفرق الضال، فلقد اكتفى العثمانيون بالإسلام بمفهومه العام وغطوا الطرف عن الفرق الباطنية التي كان لها أكبر الأثر في سقوط الخلافة في النهاية.
8 ـ العزة والنصر والسؤدد كلها في الإسلام، وهذا من أعظم الدروس المستفادة من سقوط الخلافة.(/2)
فبعد أكثر من ثماني قرون قطعت تركيا صلتها بالعالم الإسلامي، وألغت الخلافة الإسلامية، واختارت لها دستورًا مدنيًا بدلاً من الدستور العثماني المستمدة أحكامه من الشريعة الإسلامية، وألغت وزارتي الأوقاف والمحاكم الشرعية، وحوّلت المدارس الدينية إلى مدنية، وأعلنت أنها دولة علمانية، وأغلقت كثيرًا من المساجد.، وصدر قانون يحكم بالإعدام على من يتآمر لعودة الخلافة.
وها هو "أتاتورك" ـ أول رئيس تركي ومن ألغيت على يده الخلافة ـ يجوب تركيا لابسًا القبعة الإفرنجية،وشرع قانونًا لنزع حجاب المرأة المسلمة، وكان نزع الحجاب يتم بالإرهاب والإهانة في الطرقات، فكانت الشرطة إذا رأت امرأة متحجبة تقوم بنزع حجابها فورًا وبالقوة.
وألغى التعامل باللغة العربية، وألغى العيدين، وجعل عطلة الأسبوع يوم الأحد، وعطلت الصلوات بمسجد أيا صوفيا، وأُسكت المؤذنون، وتحول المسجد إلى متحف وبيت أوثان، حتى الآيات التي كانت على جدرانه أمر بطمسها.
في سنة 1926م ألغى الزواج الشرعي، وجعله مدنياً فقط، وأصدر قانوناً يمنع تعدد الزوجات، واستبدل التقويم الهجري بالتقويم الميلادي.
ولكن رغم كل هذا ـ والذي يحلم كثير من علمانيينا بتحقيق نصفه ويعدونا بالتقدم إن سرنا على نهجهم ـ ها هي تركيا (العلمانية) ما زالت حتى يومنا هذا غير مرغوب فيها أوروبيًا،وترزح تحت نير الفقر والضعف ولم تلحق بركب التقدم، ففقدت الدولة مجدها القديم ولم تستطع تحقيق مجد جديد.
فحريًا بالمسلمين جميعًا على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم وأحزابهم، أن يقفوا عند هذه الذكرى، ويتأملوا فيها، لتصبح عودة الخلافة مطلبًا جماهيريًا، ولتكن الصحوة الإسلامية أول من يطالب بعودتها، ثم يشارك كل فرد ولو بنصيب قليل في هذا الفضل العظيم، لإبراء ذمته أمام الله.
بقلم: أحمد محمد عمرو
Ahmedamr2001@hotmail.com(/3)
في رثاء كلبة بوش
الشاعر السعودي:
عبد الرحمن صالح العشماوي
مواساة شعرية بعد أن أعلن المكتب الصحافي في البيت الأبيض وفاة كلبة الرئيس الأمريكي الراحلة "سبوت بنت ميلي" والتي ترجع أصولها إلى إنجلترا!.
نعزيك في الكلبة الرَّاحلة
نعزيك في كلبةٍ ودَّعت
نعزيك فيها وقد فارقت
برحمتكم؟! أينَ؟ لا تعذلوا
لقد فارقت داركم، لم iiتعد
فقدتم عزيزاً iiبفقدانها
نعزِّيك في حُسْنِ iiهندامها
نعزِّيك في لون iiأنيابها
وفي أذنيها وفي iiذيلها
نعزِّيك في مربض iiدافيءٍ
نعزِّيك في جنبها، لم iiتعد
تُعزيك أشلاء iiأطفالنا
تُعزيك أم رأت iiابنها
تُعزِّيك غزة لم تنشغل
يُعزِّيك طفل العراق iiالذي
يُعزِّيك ماء الفرات iiالذي
رأى القاذفات التي iiأرسلت
رأى الطائرات التي iiأسرفت
رأى الناقلات التي لم iiتزل
تُلاحقُ ناقلة iiناقلَهْ
نعزِّيك فيمن فُجعتم iiبها
فراق "سُبوت" iiلأحبابها
فكم زفرة بعدها صُعَّدت
كريمة أصلٍ iiفأخوالها
و"ميلي"هي الأم جاءت iiبها
وأمَّا أبوها iiوأعمامها
ولا ضير فالأم أولى iiبمن
نعزِّيك فاصبر على iiفقدها
فإن العزاء لكم واجب
أتأذن بعد العزاء iiالذي
أتأذن لي بالسؤال iiالذي
سؤال المساكين في iiعالمٍ
أيمكن أن يجدوا iiلفتة
عزاءُ تُسَرُّ به العائلَهْ
وغابت عن الأعين الذاهلَهْ
حياة، برحمتكم iiحافلَهْ
سؤالاً، ولا تعذلوا سائلَهْ
هنالك خارجة iiداخلَهْ
فكفكف دموع الأسى iiالهاطلَهْ
وفي شعر"قَصَّتها" iiالمائلَهْ
وفرشاة" أسنانها iiالناحلَهْ
وضحكة أشداقها iiالهائلَهْ
إذا ربضت ساعة iiالقائلَهْ
تحك به أرجل iiالطاولَهْ
وجدران أوطاننا الفاصلَهْ
قتيلاً، ودوحتها iiذابلَهْ
بأخلاق غاصبها iiالسافلَهْ
تشَّرد في أرضه القاحلَهْ
رأى قسوة الضربة iiالقاتلَهْ
إلى الناس غازاتها iiالسائلَهْ
غدوًّا، رواحًا إلى iiالحاملَهْ
تُلاحقُ ناقلة iiناقلَهْ
ببرقية بُعثت عاجلَة
وكانت بنعمائكم iiرافلَهْ
فراق تجلَّت به iiالنازلَهْ
وكم دمعة بعدها iiهاملَهْ
سُلالة إنجلترا iiالباسلَهْ
لتصبح مشغولة iiشاغلَهْ
فيُنمَونَ للأسر الخاملهْ
تكون بآبائها iiجاهلَهْ
فدنيا الورى كلها iiزائلَهْ
وإن العزاء لنا نافلَهْ
نظرنا به نظرة عادلَهْ؟
تردده الأنفس iiالجافلَهْ؟
تداعت أساطيله iiالصائلَهْ:
من العطف كالكلبة iiالراحلَهْ؟(/1)
في رحاب آية ولا تلبسوا الحق بالباطل } ... ... ...
قال - تعالى -: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} (البقرة: 42).
الآية وردت في سياق خطاب بني إسرائيل، وهي عطف على قوله - تعالى -: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} (البقرة: 40) وجاءت الآية انتقالاً من غرض التحذير من الضلال، في قوله - تعالى -: {ولا تكونوا أول كافر به} (البقرة: 41) إلى غرض التحذير من الإضلال، في قوله - تعالى -: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق).
واللَّبس في اللغة، بفتح اللام: الخلط؛ وهو من الفعل (لَبَسَ) بفتح الباء؛ يقال: لَبَست عليه الأمر ألبسه: إذا خلطت حقه بباطله، وواضحه بمشكله، ومنه قوله - تعالى -: {وللبسنا عليهم ما يلبسون} (الأنعام: 9) ويقال: في الأمر لُبسة، بضم اللام، أي: اشتباه.
واللِّبس، بكسر اللام، من الفعل (لَبِسَ) بكسر الباء: هو لبس الثوب ونحوه.
والحق: الأمر الثابت؛ من حَقَّ، إذا ثبت ووجب، وهو ما تعترف به سائر النفوس، بقطع النظر عن شهواتها.
والباطل: ضد الحق، وهو الأمر الزائل الضائع؛ يقال: بطل بُطلا وبطلانًا، إذا ذهب ضياعًا وخسرًا، وذهب ماله بُطلاً، أي: هدرًا.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قوله: {ولا تلبسوا الحق بالباطل} أي: لا تخلطوا الصدق بالكذب؛ وعن أبي العالية قال: {ولا تلبسوا الحق بالباطل} لا تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد الله في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فتأويل الآية إذًا: ولا تخلطوا على الناس - أيها الأحبار من أهل الكتاب - في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما جاء به من عند ربه، وتزعموا أنه مبعوث إلى بعض أجناس الأمم دون بعض، أو تنافقوا في أمره، وقد علمتم أنه مبعوث إلى الناس كافة، بما فيهم أنتم، فتخلطوا بذلك الصدق بالكذب، والحق بالباطل، وتكتموا ما تجدونه في كتابكم من نعته وصفته، وتعرفون أن من عهدي الذي أخذت عليكم في كتابكم الإيمان به وبما جاء به والتصديق به؛ فالمراد إذًا: النهي عن كتم حجج الله، التي أوجب عليهم تبليغها، وأَخَذَ عليهم بيانها.
وعلى هذا، فلَبْسُ الحق بالباطل ترويج الباطل وإظهاره في صورة الحق، وهذا اللَّبْس هو المبتدأ في التضليل، وإليه الانتهاء في الإضلال؛ فإن أكثر أنواع الضلال الذي أدخل في الإسلام هو من قبيل لبس الحق بالباطل، وفي بعض تاريخ الإسلام خير شاهد على ذلك.
وقوله - تعالى -: {وتكتموا الحق} عطف على قوله - سبحانه -: {ولا تلبسوا} والمعنى: النهي عن الخلط بين الحق والباطل مقرونًا بكتمان الحق؛ ولك أيضًا أن تجعله منصوبًا بأن المضمرة بعد الواو، والتقدير (وأن تكتموا الحق) والمعنى عليه: لا تخلطوا الحق بالباطل، حال كونكم كاتمين للحق؛ وعلى كلا التوجيهين فالمقصود من الخطاب القرآني النهي عن الخلط بين الحق والباطل، إذ لكل واحد منهما مجاله ووجهته، فلا مجال للقصد إليهما، ولا مجال للخلط بينهما، ولم يبق إلا الفصام بينهما؛ والنهي أيضًا عن كتمان الحق، لما فيه من التضليل والتحريف وطمس الحقيقة التي جاء الإسلام بها للناس كافة.
وتفاديًا لما وقع فيه اليهود من الخلط والكتمان، قال أهل العلم: إن التأويل - الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره - لآيات القرآن الكريم لا يصح إلا إذا دلَّ عليه دليل قوي، أما إذا وقع التأويل لما يُظن أو يُتوهم أنه دليل فهو تأويل باطل، لا يُعرَّج إليه، ولا يصح التعويل عليه؛ إذ هو في حقيقته نوع من التحريف والتضليل، ناهيك عما إذا وقع التأويل من غير دليل أصلاً، فهو آكد في الحرمة، وأوجب للمنع، إذ هو من باب اللعب والهزء بآيات القرآن، ولا يخفى ما فيه.
فمن أمثلة التأويل بدليل - وهو التأويل المشروع - قوله - تعالى -: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} (النحل: 1) ففسر العلماء الفعل (أتى) وهو فعل ماض، يدل على وقوع الأمر وحدوثه، فسروه بـ (سيأتي) واستدلوا لذلك بما جاء في سياق الآية نفسها، وهو قوله - سبحانه - بعدُ: {فلا تستعجلوه} فالنهي عن طلب استعجال الأمر بعدُ، دليل على عدم وقوع ما أُخبر عنه قبلُ.
ومن أمثلة التأويل بغير دليل - وهو التأويل المذموم - ما ادعاه بعضهم، من جواز نكاح الرجل تسع نسوة، مستدلاً على ذلك، بقوله - تعالى -: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} وهذا لا دليل عليه من نص أو وضع لكلام العرب، بل هو أمر ساقط، لا تقوم له قائمة تدل عليه.(/1)
وقوله - تعالى -: {وأنتم تعلمون} جملة حالية، فيه دليل على أن كفرهم كان كفر عناد لا كفر جهل، وذلك أغلظ للذنب وأوجب للعقوبة؛ ثم إن التقييد بالعلم في الآية، لا يفيد جواز اللَّبْس والكتمان مع الجهل؛ لأن الجاهل مطالب بالتعلم، ومنهي عن البقاء على جهله، إذ الواجب على الإنسان أن لا يُقْدِم على شيء حتى يعلم بحكمه، خاصة إذا كان ذاك الشيء من أمور الدين، فإن التكلم فيها والتصدي لها إنما أذن الله به لمن كان أهلاً ومؤهلاً لذلك، أما الجاهل فليس له من الأمر شيء، وليس له من سبيل إلى ذلك.
نسأل الله أن يلهمنا الرشد في الأمر، والصواب في القول، والإخلاص في القصد، وصلى الله على نبينا، وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين. ... ...(/2)
في رحاب آية أتأمرون الناس بالبر )
قال - سبحانه -: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} (البقرة: 44)
وردت هذه الآية في سياق تذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم، وبيان ما كان من أمرهم؛ والغرض من الآية - والله أعلم - بيان حال اليهود، ومن كان على شاكلتهم، وسار على سَنَنِهم، على كمال خسارهم، ومبلغ سوء حالهم، الذي وصلوا إليه؛ إذ صاروا يقومون بالوعظ والتعليم، كما يقوم الصانع بصناعته، والتاجر بتجارته، والعامل بعمله، لا يقصدون إلا إيفاء وظائفهم الدينية حقها، ليستحقوا بذلك ما يُعَوَّضون عليه من مراتب ورواتب؛ فهم لا ينظرون إلى حال أنفسهم تجاه تلك الأوامر التي يأمرون بها الناس.
والمراد بـ {الناس} في الآية، العامة من أمة اليهود؛ والمعنى: كيف تأمرون أتباعكم وعامتكم بالبر وتنسون أنفسكم؟ ففيه تنديد بحال أحبارهم، أو تعريض بأنهم يعلمون أن ما جاء به رسول الإسلام هو الحق، فهم يأمرون أتباعهم بالمواعظ، ولا يطلبون نجاة أنفسهم. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في معنى الآية: أتنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة، والعهدة من التوراة، وتتركون أنفسكم، وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي.
و{البر} بكسر الباء: الخير في الأعمال في أمور الدنيا وأمور الآخرة؛ ومن المأثور قولهم: البر ثلاثة، بر في عبادة الله، وبر في مراعاة الأقارب، وبر في معاملة الأجانب.
ثم إن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر، لا بسبب الأمر بالبر؛ ولهذا ذم الله - تعالى -في كتابه قومًا كانوا يأمرون بأعمال البر، ولا يعملون بها، ووبَّخهم به توبيخًا يتلى إلى يوم الناس هذا؛ إذ إن الأمر بالمعروف واجب على العالِم، والأولى بالعالِم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب - عليه السلام - لقومه: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود: 88) فكلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر، على أصح قولي العلماء من السلف والخلف.
و (النسيان) في قوله - جل وعلا -: {وتنسون أنفسكم} هو الترك، أي: تتركون أنفسكم بإلزامها ما أمرتم به غيركم؛ والنسيان (بكسر النون) يكون بمعنى الترك، وهو المراد هنا، ومثله قوله - تعالى -: {نسوا الله فنسيهم} (التوبة: 67) وقوله أيضًا: {فلما نسوا ما ذكروا به} (الأنعام: 44) وما أشبه ذلك من الآيات؛ ويكون خلاف الذكر والحفظ.
وقوله - سبحانه -: {أفلا تعقلون} استفهام عن انتفاء تعقُّلهم، وهو استفهام على سبيل الإنكار والتوبيخ، نزلوا منزلة من انتفى تعقله، فأنكر عليهم ذلك، إذ إن من يستمر به التغفل عن نفسه، وإهمال التفكر في صلاحها، مع مصاحبة شيئين يذكِّرانه، قارب أن يكون منفيًا عنه التعقل، وكون هذا الأمر أمرًا قبيحًا لا يشك فيه عاقل.
والمقصود الأهم من هذا الخطاب القرآني تنبيه المؤمنين عامة، والدعاة منهم خاصة، على ضرورة التوافق والالتزام بين القول والعمل، لا أن يكون قولهم في واد وفعلهم في واد آخر؛ فإن خير العلم ما صدَّقه العمل، والاقتداء بالأفعال أبلغ من الإقتداء بالأقوال؛ وإن مَن أَمَرَ بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة؛ وفي الحديث الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - (كان خلقه القرآن) أي: إن سلوكه صلى الله عليه وأفعاله كانت على وَفْقِ ما جاء به القرآن وأمر به؛ إذ إن العمل ثمرة العلم، ولا خير بعلم من غير عمل.
وأخيرًا: نختم قولنا حول هذه الآية، بقول إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص لثلاث آيات، قوله - تعالى -: {أتأمرون الناس بالبر} وقوله: {لِمَ تقولون ما لا تفعلون} (الصف: 2) وقوله: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود: 88) نسأل الله أن يجعلنا من الذين يفعلون ما يؤمرون {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} (هود: 88) وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
24/01/2005
http://www.islamweb.net المصدر:(/1)
في رحاب آية إنما التوبة على الله } ... ... ...
في القرآن الكريم نقرأ في موضوع التوبة آيات عدة، من ذلك قوله تعالى: { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب } (النساء:17) ومنها قوله سبحانه: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا } (الزمر:53) ومنها قوله عز من قائل: { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات } (الشورى:25) وقوله جلَّ علاه: { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } (التوبة:104) .
قال أهل العلم: واتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين، لقوله تعالى: { وتوبوا إلى الله جميعًا أيُّه المؤمنون لعلكم تفلحون } (النور:31) .
وأمر التوبة في الإسلام أمر عظيم، فهي نعمة جليلة أنعم الله بها على عباده، إذ منحهم فرصة لمراجعة الحساب، وتدارك ما فات، والأوبة إلى ما فيه نجاتهم من المهلكات .
والآيات التي صدرنا بها مقالنا - وموضوعها التوبة - هي وجهتنا في هذا المقال، فنقول:
في قوله تعالى: { إنما التوبة على الله } تأكيد ووعد من الله تعالى بقبول التوبة من عباده، الذين أسرفوا على أنفسهم بالذنوب والمعاصي، كبيرها وصغيرها، حتى جُعلت كالحق على الله سبحانه، ولا شيء عليه واجب إلا ما أوجبه جل وعلا على نفسه .
ثم إن الجهالة الواردة في الآية { يعملون السوء بجهالة } تطلق على سوء المعاملة، وعلى الإقدام على العمل دون رويِّة؛ يقال: أتاه بجهالة، بمعنى أنه فَعَلَ فِعْل الجهال به، لا أنه كان جاهلاً؛ بدليل أنه لو عمل أحد معصية وهو غير عالم بأنها معصية لم يكن آثمًا، ولا يجب عليه إلا أن يتعلم ذلك ويتجنبه .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة } قال: من عمل السوء فهو جاهل، من جهالته عمل السوء .
ومعنى قوله تعالى: { من قريب } أن يبادر المذنب والعاصي إلى التوبة بعد فعل المعصية، من غير أن يتمادى في غيه ومعصيته؛ وهو بمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ) رواه الترمذي .
أما قوله عز شأنه في الآية التالية: { وليست التوبة للذين يعملون السيئات } (النساء:18) فهو تنبيه منه سبحانه على نفي قبول نوع من التوبة، وهي التي تكون عند حضور الموت واليأس من الحياة { حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } (النساء:18) إذ المطلوب من العبد حال توبته أن يقرن العمل بالقول، ولا يكفيه في ذلك أن يقول ما لا يفعل، أو يفعل ما لا يقول؛ فإعلان التوبة ليس مجرد كلمات تقال، وألفاظ تردد فحسب، بل لا بد أن يصدق ذلك عمل وفعل، وإلا لم تكن توبة نصوحًا، فإذا وقع اليأس من الحياة ذهبت فائدة التوبة، إذ لم يبق معها مجال للعمل .
وقد وردت أحاديث عدة تؤكد هذا المعنى وتوضحه، من ذلك ما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) رواه أحمد و الترمذي .
وإذا كانت التوبة في آية النساء الأولى { إنما التوبة على الله } عامة لكل من عمل ذنبًا، فإن الآية الثانية { حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } قد خصصت هذا العموم حال حضور الموت وعند النزاع، إذ لا تجدي التوبة حينئذ .
على أن ما قد يشكل في هذا السياق ما جاء في سورة النساء نفسها، وهو قوله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } (النساء:48) فظاهر الآية أن الله سبحانه يغفر الذنوب جميعًا إلا الشرك فإنه لا يغفره، وهذا الإطلاق في الآية مقيد في حال مات العبد وهو مشرك بالله، فإن مغفرة الله لا تناله من قريب ولا من بعيد، لكن إن تاب العبد من إشراكه قبل موته، فإن الله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات .
قال ابن كثير رحمه الله: أخبر تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به؛ أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، ويغفر ما دون ذلك، أي من الذنوب لمن يشاء، أي من عباده. وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة، من ذلك ما رواه الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( إن الله يقول: يا عبدي ما عبدتني ورجوتني، فإني غافر لك على ما كان منك، يا عبدي إنك إن لقيتني بقُراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي، لقيتك بقرابها مغفرة ) ولهذا كان الإيمان أشرف أنواع التوبة .
وبعد: فقد أجمع المسلمون كلهم، على أن التوبة من الكفر، والإقرار بالإيمان، تستوجب المغفرة من الله؛ وأن الموت على الكفر مطلقًا لا يُغفر بلا شك، وأجمعوا كذلك على أن المذنب إذا تاب يغفر ذنبه، إذا استجمع شروط التوبة المقبولة؛ أما إذا مات المذنب على ذنبه - غير الشرك بالله - من غير أن يتب، فآية النساء وغيرها من الأدلة، تدل على أن أمره متروك لمشيئة الله سبحانه، إن شاء عفى عنه برحمته وعفوه، وإن شاء عذبه بعدله وقسطه، والله أعلم .
الشبكة الاسلامية ... ... ...(/1)
في رحاب آية فإني قريب أجيب الداع إذا دعان } ... ... ... دعوة القرآن إلى الدعاء والحث عليه وردت في مواضع عديدة من كتاب الله، نختار منها قوله - تعالى -: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} (البقرة: 186) وقوله - سبحانه -: {ادعوا ربكم تضرعًا وخفية} (الأعراف: 55) وقوله - جلا وعلا -: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} (غافر: 60) وغير ذلك من الآيات الداعية إلى الدعاء.
والدعاء من جهة اللغة يطلق على سؤال العبد من الله حاجته، ويطلق من جهة الشرع على معان عدة، منها العبادة، وعلى هذا فُسر قوله - تعالى -: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} أي: اعبدوني وأخلصوا لي العبادة دون من تعبدون من دوني؛ وعن ثابت، قال: قلت لأنس - رضي الله عنه -: يا أبا حمزة أبلغك أن الدعاء نصف العبادة؟ قال: لا، بل هو العبادة كلها.
وإذا كان الدعاء هو العبادة كما جاء في الحديث، فإن العبادة أيضًا هي الدعاء، إذ لا تخلو عبادة من الدعاء، ولكن ما نريد إدارة الحديث حوله هنا، هو أهمية الدعاء بمعناه الأصلي واللغوي، ونقصد بذلك توجه العباد إلى الله - تعالى -طلبًا لقضاء الحاجات وكشف الكربات، وهو أمر يكاد يغفل عنه كثير من المسلمين، مع ندب الشرع إليه، وشدة احتياجهم إليه.
فمن فضل الله- تبارك وتعالى - وكرمه أن ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة؛ ففي الحديث: (يقول الله - تعالى -: {أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني} [رواه مسلم]. وفي حديث آخر: {إن الله - تعالى -ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيراً فيردهما خائبتين} [رواه أحمد].
ويلاحظ أن طلب الدعاء في الخطاب القرآني جاء مقرونًا ومرتبًا عليه الإجابة؛ فالعلاقة بينهما علاقة السبب بالمسبَّب، والشرط بالمشروط، والعلة بالمعلول، فليس على العبد إلا الالتجاء إلى الله - بعد الأخذ بالأسباب - وطلب العون منه في كل عسر ويسر، وفي المنشط والمكره، ووقت الفرج ووقت الكرب؛ ففي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث؛ إما أن يعجل له دعوته، وإما إن يدخر له، وإما إن يكف عنه من السوء بمثلها. قالوا: إذن نكثر؟ قال: الله أكثر) [رواه أحمد].
وعن أبى هريرة – رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي) [رواه البخاري ومسلم].
قال السدي في تفسير قوله - تعالى -: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع} ليس من عبد مؤمن يدعو الله إلا استجاب له، فإن كان الذي يدعو به هو له رزق في الدنيا أعطاه الله، وإن لم يكن له رزقًا في الدنيا ذخره له إلى يوم القيامة، ودفع عنه به مكروها.
ولسائل أن يسأل: فما لنا ندعو فلا يُستجاب لنا؟ وفي الجواب على هذا نختار ما أجاب به القرطبي عن هذا الإشكال، إذ قال - رحمه الله -: الجواب أن يُعْلَم أن قوله الحق في الآيتين {أُجيب} و{أستجب} لا يقتضي الاستجابة مطلقًا لكل داع على التفصيل، ولا بكل مطلوب على التفصيل، فقد قال ربنا - تبارك وتعالى - في آية أخرى: {ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين} (الأعراف: 55) وكل مصر على كبيرة عالمًا بها أو جاهلاً فهو معتد، وقد أخبر أنه لا يحب المعتدين، فكيف يُستجاب له؛ وأنواع الاعتداء كثيرة.
ويمكن أن يقال أيضًا: إن إجابته - سبحانه - متعلقة بإرادته، فيجيب لمن يشاء من عباده، ويُعْرِض عمن يشاء، لحكمة يريدها الله، يؤيد هذا قوله - تعالى -: {فيكشف ما تدعون إليه إن شاء} (الأنعام: 41) والقرآن يفسر بعضه بعضًا.
إذا تبين هذا كان من اللازم القول: يمنع من إجابة الدعاء موانع لا بد من مراعاتها والتحفظ منها؛ وهي على العموم فعل كل ما لا يرضي الله - سبحانه -، كأكل الحرام وما كان في معناه، وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر (...الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب} وهذا استفهام على جهة الاستبعاد من قبول دعاء من كانت هذه صفته؛ فإن إجابة الدعاء لا بد لها من شروط في الداعي، وفي الدعاء، وفي الشيء المدعو به. فمن شرط الداعي أن يكون عالماً أنه لا قادر على قضاء حاجته إلا الله، وأن يدعو بنية صادقة وقلب حاضر، فإن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه، وأن يكون مجتنبا لأكل الحرام، وألا يمل من الدعاء. وغير ذلك من الشروط التي فصل العلماء القول فيها.(/1)
والذي نخرج به مما تقدم، أن أمر الدعاء في حياة المسلم لا ينبغي أن يُقَلِّل من شأنه، ولا أن يحرم المسلم نفسه من هذا الخير الذي أكرمه الله به، والمسلم حريص على الخير، أولم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (واحرص على ما ينفعك) وتأمل في قوله - عليه الصلاة والسلام -: (احرص) ليتبين لك قيمة هذا الهدي النبوي. ولا شك فإن النفع كل النفع في الدعاء، وخاصة إذا استوفى أسبابه؛ ولعل فيما خُتمت فيه آية البقرة: {لعلهم يرشدون} ما يؤكد هذا المعنى؛ كما أنَّ فيما خُتمت به آية غافر: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} ما يشد من أزر هذا المعنى، والله أعلم.
اللهم وفقنا لكل خير، وافتح لنا أبواب الدعاء إليك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. ...(/2)
في رحاب آية لا نسألك رزقًا )
خطاب القرآن خطاب صدق وعدل، وإخباره إخبار حق وفصل، إذ هو الجد ليس بالهزل {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} (فصلت: 42) {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} (النساء: 82).
وحديثنا - في مقالنا هذا - يدور حول آية مفتاحية من آيات الكتاب الكريم، وهي قوله - جل وعلا -: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقًا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى} (طه: 132).
والآية وإن جاءت خطابًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا إنها خطاب لأمته من بعده؛ تأمر الأهل خاصة، وولاة الأمور عامة، بأمر مَنْ كان تحت ولايتهم وعهدهم بالصلاة، إقامة لها ومحافظة عليها.
والشريعة طافحة بالأدلة الحاثة على الصلاة إقامة وحفظًا، إذ هي عمود الدين ودعامته، فبإقامتها إقامة الدين، وبالإعراض عنها فلا قائمة له.
غير أن الأمر المهم في الآية توجيه الخطاب إلى أولياء الأمور بتعهد أبنائهم ومن كان تحت رعايتهم، بإقامة الصلاة والمحافظة عليها، تهيئة لهم إليها، وتعويدًا عليها، وفي الحديث الصحيح: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر) رواه أبو داود.
وروي أن عمر - رضي الله عنه - كان إذا استيقظ من الليل أيقظ أهله، وقرأ قوله - تعالى -: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها}.
ولما كانت النفوس ميَّالة إلى طلب الراحة، ومتثاقلة عن أداء ما كُلِّفت به، جاء الأمر الإلهي بالاصطبار على تحمل أداء الصلاة {واصطبر عليها} والضمير يعود إلى الصلاة، والمعنى: تزود بالصبر للقيام بما كُلِّفت به؛ من أداء للصلاة، وأمرٍ لأهلك بها، ولا تتثاقل عما كُلِّفت به؛ والاصطبار فيه معنى الانحباس لأمر مهم، وذي شأن، ومستمر.
وحيث إن الخطاب القرآني قد يُتبادر منه أن طلب العبادة والتوجه إليها يكون عائقًا أو مانعًا من تحصيل الرزق، أبان الخطاب أن أمر الرزق موكول إلى رب العباد ومدبر الأرزاق، فقال: {لا نسألك رزقًا نحن نرزقك} أي: لا نسألك أن ترزق نفسك وإياهم، وتشتغل عن الصلاة بسبب الرزق، بل نحن نتكفل برزقك وإياهم، وقريب من هذا المعنى قوله - تعالى -: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} (الذاريات: 56-58).
وإياك - أخي الكريم - أن تفهم من هذا الخطاب القرآني التقاعد عن طلب الرزق، وترك الأسباب، طلبًا لتحصيل أسباب الحياة؛ فليس ذلك بمراد وهو فهم قاصر لهذه الآية؛ ويكفيك في هذا المقام قوله - تعالى -: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} (الملك: 15) والآيات المقررة لهذا المعنى ليست قليلة، فلا يلتبس الأمر عليك؛ فالمحظور إنما الانشغال بأسباب الرزق عن عبادة الله - سبحانه -، وخاصة الصلاة، إذ هي أكثر العبادات تكررًا في حياة المسلم، فإذا قام الإنسان بالأسباب المتاحة فقد حصل المطلوب، أما إن انشغل بالأسباب، وشُغل بتحصيل الرزق، وترك أو قصَّر فيما كُلِّفه من واجبات فقد وقع فيما هو محظور وممنوع.
وإذ تقرر هذا، كان معنى الآية: إذا أقمت الصلاة - في نفسك وأهلك - وعملت بأسباب الرزق الميسرة دون تكلف، أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما قال - تعالى -: {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا * ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق: 2-3).
وعلى هذا، فلا عذر اليوم لمن قصَّر في إقام الصلاة في نفسه وأهله، بدعوى طلب الرزق، وتعدد مطالب الحياة، بحيث تجد أحدهم يلهث صباح مساء لتأمين مطالب الحياة، غافلاً أو متغافلا عن شؤون أبنائه، ثم تكون النتيجة لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، ولات ساعة مندم.
ونختم بما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول الله - تعالى -: (يا ابن آدم تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسدُّ فقرك، وإن لم تفعل، ملأت صدرك شغلاً، ولم أسدَّ فقرك) رواه الترمذي و ابن ماجه وغيرهما. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: سمعت نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، يقول: (من جعل الهموم همًا واحداً، همَّ المعاد، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبالِ الله في أي أوديتها هلك) رواه ابن ماجه، وروي أيضًا عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: (من كانت الدنيا همَّه فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) رواه الترمذي و أحمد وغيرهما. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين، آمين.
04/04/2005
http://www.islamweb.net المصدر:(/1)
في رحاب آية واستعينوا بالصبر والصلاة }
بعد أن توجَّه الخطاب القرآني إلى بني إسرائيل - والعلماء منهم خاصة - بالترهيب والإنكار والتوبيخ على ما كان منهم؛ انتقل إلى أسلوب الترغيب والتحفيز، فجاء الأمر بالاستعانة بالصبر، إذ به ملاك الهدى والسداد؛ وجاء الأمر بالاستعانة بالصلاة، إذ بها الفلاح والرشاد.
وبيان ذلك: أن مما يصد الناس عن اتباع الدين القويم إلفهم بأحوالهم القديمة، وضعف النفوس عن تحمل مفارقتها، فإذا تخلَّقوا بأخلاق الصبر سهل عليهم اتباع الحق، ومفارقة ما أَلْفَوْه من عادات جاهلية، وأعراف لا يقرها الشرع الحنيف.
ومن هنا جاء الأمر لبني إسرائيل بالاستعانة بالصبر على الوفاء بما عاهدوا الله عليه في طاعته واتباع أمره، وترك ما يميلون إليه من الرياسة وحب الدنيا، ومن ثم التسليم لأمر الله، واتباع رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وحسبك بمزية الصبر أن الله جعلها سببًا من أسباب الفوز، قال - تعالى -: {والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} قال الغزالي - رحمه الله -: ذكر الله الصبر في القرآن في نيِّف وسبعين موضعًا، وأضاف أكثر الخيرات والدرجات إلى الصبر، وجعلها ثمرة له، قال - سبحانه -: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا} (السجدة: 24) وقال - تعالى -: {وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا} (الأعراف: 137) وقال أيضًا: {إن الله مع الصابرين} (البقرة: 153) والآيات كثيرة في هذا المعنى.
وأنت - قارئي الكريم - إذا تأملت وأمعنت النظر، وجدت أن أصل التدين والإيمان راجع إلى الصبر؛ فإن فيه مخالفة النفس هواها ومألوفها في التصديق بما هو مغيب عن الحس الذي اعتادته، وفيه طاعة خالق لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار؛ فإذا صار الصبر خُلُقًا لصاحبه، هان عليه كل شيء لأجل الخضوع للحق والتسليم للبرهان. وبهذا يظهر وجه الأمر بالاستعانة على الإيمان وما يتفرع عنه بالصبر، فإنه خُلُق يفتح أبواب النفوس لقبول الحق والخضوع له.
أما طلب الاستعانة بالصلاة، فهي فضلاً عن كونها شكرًا للمنعم وخضوعًا لأمره، فإن فيها صبراً من جهات عدة؛ إذ فيها مخالفة حال المرء المعتادة، ولزومه حالة في وقت معين، وفيها تجلية الأحزان وكشف الكربات؛ وقد صح في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه (كان إذا حَزَبه أمر صلى) رواه أبو داود و أحمد، أَي: إذا نزل به أمر مُهِمّ، أَو أَصابَه غمّ وهمٌّ واشتد عليه بادر إلى الصلاة؛ وقوله - عليه الصلاة والسلام -: (أرحنا بها يا بلال) رواه أبو داود و أحمد، وهذا أمر يلمسه من تحرَّاه وقصده من المصلين، ويكفيك في ذلك قوله - تعالى -: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} ففي الصلاة أكبر العون على الثبات في الأمر، والعزيمة في الرشد.
ثم إن الآية التي بين يديك، نظير قوله - تعالى -مخاطبًا نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته من بعده: {فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى} (طه: 130) فأَمَرَ - سبحانه - نبيه في نوائبه كافة بالفزع إلى الصبر والصلاة، إذ بهما العون والثبات وكشف الهموم والكربات.
والضمير في قوله - تعالى -: {وإنها لكبيرة} راجع - على أرجح الأقوال - إلى جميع المأمورات والوصايا السابقة التي خوطب بها بني إسرائيل.
والمراد (بالكبيرة) هنا الصعبة التي تشق على النفوس؛ وإطلاق (الكِبَرُ)على الأمر الصعب والشاق أمر معهود في كلام العرب؛ لأن المشقة من لوازم الأمر الكبير، قال - تعالى -: {وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله} (البقرة: 143) وقال - سبحانه -: {وإن كان كَبُرَ عليك إعراضهم} (الأنعام: 35).
وقوله - تعالى -: {إلا على الخاشعين} الخاشع هنا هو من ذلل نفسه وضبط شهوتها بضوابط الشرع الحنيف، فتصبح النفس حينئذ مطاوعة لأمر الله، راغبة في أمره وراهبة من نهيه، وهذا الوصف في الآية يشبه ما جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه) رواه الترمذي و أحمد؛ والمعنى على ما تقدم: أن الاستعانة بالصبر والصلاة ليس بالأمر اليسير على الأنفس، بل هو خاص بالنفوس الخاضعة لطاعته - سبحانه -، والمصدقة بوعده، والخائفة من وعيده.
على إن الآية وإن كانت خطابًا في سياق إنذار بني إسرائيل وتهديدهم، بيد أن خطابها ليس خاصًا بهم وحدهم فحسب، وإنما هي عامة لهم ولغيرهم، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقول أهل العلم، يُنبئك بهذا قوله - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} (البقرة: 153) وعلى هذا فإننا اليوم - نحن المسلمين - أولى الناس بوعي هذا الخطاب القرآني، والعمل به، خاصة بعد ما آل أمر الأمة إلى ما لا يخفى. نسأل الله التوفيق والعون والفرج والخاتمة بالحسنى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(/1)
30/11/2004
http://www.islamweb.net المصدر:(/2)
في رحاب آية والله فضل بعضكم على بعض في الرزق }
أخبر - سبحانه - في هذه الآية، وفي غيرها من الآيات، عن سُنَّة أقام الله عليها الحياة، وفطرةٍ فطر الناس عليها؛ سُنَّة ماضية بمضاء الحياة، لا تتبدل ولا تتغير؛ إنها سُنَّة التفاضل والتفاوت في الرزق، وأسباب الحياة الأخرى المادية والمعنوية.
وإذا كانت آيات أُخر قد أخبرت وأثبتت أن الرزق بيد الله - سبحانه - ومن الله، فإن هذه الآية قد جاءت لتقرر أمرًا آخر، إنه أمر التفاوت والتفاضل بين العباد، لأمر يريده الله، قد يكو ن ابتلاء واختبارًا وقد يكون غير ذلك؛ فقد تجد أعقل الناس وأجودهم رأيًا وحكمة مقتَّرًا عليه في الرزق، وبالمقابل تجد أجهل الناس وأقلهم تدبيرًا موسعًا عليه في الرزق؛ وكلا الرجلين قد حصل له ما حصل قهرًا عليه، فالمقتَّر عليه لا يدري أسباب التقتير في رزقه، والموسَّع عليه لا يدري أسباب التيسير، ذلك لأن الأسباب كثيرة ومترابطة ومتوغِّلة في الخفاء، حتى يُظن أن أسباب الأمرين مفقودة وما هي كذلك، ولكنها غير محاط بها.
كتب عمر - رضي الله عنه - رسالة إلى أبي موسى الأشعري، يقول له فيها: واقنع برزقك من الدنيا، فإن الرحمن فضَّل بعض عباده على بعض في الرزق، بلاء يبتلي به كلاً، فيبتلي من بسط له، كيف شكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله، رواه ابن أبي حاتم.
قال الشوكاني عند تفسير هذه الآية: " فجعلكم متفاوتين فيه - أي الرزق - فوسَّع على بعض عباده، حتى جعل له من الرزق ما يكفي ألوفًا مؤلَّفة من بني آدم، وضيَّقه على بعض عباده حتى صار لا يجد القوت إلا بسؤال الناس والتكفف لهم، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقلها والاطلاع على حقيقة أسبابها؛ وكما جعل التفاوت بين عباده في المال، جعله بينهم في العقل والعلم والفهم، وقوة البدن وضعفه، والحسن والقبح، والصحة والسقم، وغير ذلك من الأحوال".
وعلى هذا فمعنى الآية: أن الله - سبحانه - لا غيره - بيده رزق عباده، وإليه يرجع الأمر في تفضيل بعض العباد على بعض، ولا يسع العبد إلا الإقرار بذلك، والتسليم لما قدره الله لعباده، من غير أن يعني ذلك عدم السعي وطلب الرزق والأخذ بالأسباب، فهذا غير مراد من الآية ولا يُفهم منها، ناهيك عن أن هذا الفهم يصادم نصوصًا أُخر تدعوا العباد إلى طلب أسباب الرزق، وتحثهم على السعي في تحصيله، قال - تعالى -: {فإذا قُضيتِ الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} (الجمعة: 10) وفي الحديث: (اعملوا فكل ميسر لما خُلق له) متفق عليه، والنصوص في هذا المعنى كثيرة.
على أنه من المفيد هنا التنبيه إلى أن التفاضل الذي أقامه - سبحانه - بين عباده ليس محصورًا ومقصورًا على التفاضل المادي، من مال ومنافع فحسب، بل هو أشمل من ذلك وأعم، إذ يدخل فيه التفاضل في العلم والعقل، والقوة والضعف، وغير ذلك مما هو مشاهد في حياة الناس؛ وإذا كان الأمر كذلك، فإن الموقف الرشيد والسديد من هذه السُّنَّة الكونية القناعة بما قسم الله ورزق، مع الأخذ بالأسباب لتحصيل كل ما هو مطلوب ومباح شرعًا، فالأمر منظور إليه من طرفين، طرف الرضى والقبول والاستسلام لأمر الله وقضائه، وطرف العمل والسعي المطلوب شرعًا؛ أما الاستسلام السلبي الذي يشل حركة الإنسان، ويدفع به إلى القعود والتراكن والخنوع، فليس هو الموقف الصحيح والرشيد، بل هو موقف قاصر وناظر إلى طرف واحد من أطراف المعادلة، غافل عن نظر آخر لا بد من اعتباره والسعي على وَفْقِه، فشتان بين الموقفين.
ثم إن هذه الآية على صلة وارتباط بآية أخرى في سورة النساء، وهي قوله - تعالى -: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} (النساء: 32) وسبب نزول هذه الآية - فيما رويَ - أن أمَّ سلمة - رضي الله عنها -، قالت: يا رسول الله، تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث! فنزلت: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} رواه الترمذي.
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: نهى الله - سبحانه - أن يتمنى الرجل مال فلان وأهله، وأَمَر عباده المؤمنين أن يسألوه من فضله.
وقال الطبري في معنى الآية: ولا تتمنوا - أيها الرجال والنساء - الذي فضل الله به بعضكم على بعض من منازل الفضل ودرجات الخير، وليرضَ أحدكم بما قسم الله له من نصيب، ولكن سلوا الله من فضله.
واعلم - أيها القارئ الكريم - أنه بسبب جهل بعض الناس بهذه السُّنَّة الكونية، دخل عليهم من الحسد والبلاء ما لا يحيط به قول ولا وصف، ولو قَنَع الناس بهذه السُّنَّة واستحضروها في تعاملهم ومعاملاتهم لكان أمر الحياة أمرًا آخر؛ أمَا وقد أعرض البعض عن فطرة خالقهم، ولم يسلموا ويستسلموا لِمَا أقامهم عليه، فقد عاشوا معيشة ضنكًا، وخسروا الدنيا قبل الآخرة. نسأل الله الكريم أن يرزقنا القناعة والرشاد والسداد في الأمر كله، والحمد لله رب العالمين.
الإثنين:07/03/2005
http://www.islamweb.net المصدر:(/1)
في رحاب آية ولا تكونوا أول كافر به}
في سياق تذكير القرآن بني إسرائيل بفضل الله وما أسبغه عليهم من نِعَم ظاهرة وباطنة، والذي بدأ الخطاب بقول الله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} (البقرة:40) إلى أن قال: {وأمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به} (البقرة:41) نتوقف مع هذه الآية الأخيرة، لنستشف ما تحمله من دلالات ومعان:
الخطاب في الآية كما هو ظاهر لليهود من أهل الكتاب، وقوله تعالى: {بما أنزلت} المقصود بالمنَزَّل هنا القرآن الكريم، أي: آمنوا بما جاء في القرآن من الأحكام والمبشرِّات بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وظهور الإسلام على غيره من الأديان، كما جاء ذلك في كتبكم التوراة والإنجيل.
وقوله تعالى: {ولا تكونوا أول كافر به} عطف على قوله سبحانه: {وآمنوا بما أنزلت} وهو ارتقاء في الدعوة، واستجلاب للقلوب. وجاء الضمير في قوله تعالى: {ولا تكونوا} بصيغة الجمع، بينما جاء قوله: {كافر} بصيغة الإفراد، وحقه أن يكون جمعًا، ليناسب الضمير قبله؛ قالوا: إنما جاء به مفردًا، ولم يقل: (كافرين) حتى يطابق ما قبله؛ لأنه وصف لموصوف محذوف مفرد اللفظ، متعدد المعنى، تقديره: فريق، وعلى هذا فالمعنى: ولا تكونوا أول فريق يكفر بالقرآن وما جاء به.
ثم إنه سبحانه قال: {أول كافر به} مع أنه قد سبقهم إلى الكفر به كفار قريش؛ ووجَّه المفسرون ذلك بأن المراد: أول كافر به من أهل الكتاب، لأنهم العارفون بما يجب للأنبياء، وما يلزم من التصديق بما جاؤوا به؛ وعلى هذا فالضمير في قوله: {به} عائد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي: لا تكونوا أول كافر بهذا النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع كونكم قد وجدتموه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل، مبشَّرًا به في الكتب المنزلة عليكم.
على أنه يمكن إرجاع الضمير أيضًا إلى القرآن، وعليه يكون المعنى: لا تكونوا أول كافر بالقرآن، ومعلوم أن مما جاء في القرآن، إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وصدق رسالته؛ واختار ابن جرير الطبري أن الضمير في قوله: {به} عائد على القرآن، الذي تقدم ذكره في قوله: {بما أنزلت} وكلا القولين صحيح، لأنهما متلازمان؛ إذ الإيمان بالقرآن يستلزم الإيمان برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، والإيمان برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، يستلزم الإيمان بالقرآن.
يرشد لهذا المعنى قول الحسن والسدي والربيع بن أنس: من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن كفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقد كفر بالقرآن.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ولا تكونوا أول كافر به، وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم.
على أن التقيد في الآية بـ {أول} لا مفهوم له؛ إذ ليس المقصود من الآية النهي عن الكفر أولاً فحسب، بل المقصود النهي عن ذلك دائمًا وعلى كل حال، وخُصَّ الأول بالذكر لأن التقدم والسبق إليه أغلظ وأشنع، فكان الأول والأخر في الحكم سواء؛ فقوله جلَّ ثناؤه: {أول كافر به} يعني أول من كفر به من بني إسرائيل، لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير، لم يؤمنوا بما جاء القرآن به.
وفي تقرير هذا المعنى يقول أبو العالية: ولا تكونوا أول من كفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، يعني من جنسكم أهل الكتاب، بعد سماعكم بمبعثه.
إذا عُلِمَ هذا، نقول: إن قوله تعالى: {ولا تكونوا أول كافر به} يحتمل وجوهًا من المعاني، إليك بيانها:
الأول: أن النهي عن الكفر بالقرآن وما جاء به، هو تأكيد لطلب الإيمان به؛ إذ الإيمان والكفر نقيضان لا يجتمعان، إذا انتفى أحدهما ثبت الآخر، فكان النهي عن أن يكونوا أول الكافرين، يستلزم أن يكونوا أول المؤمنين، وعلى هذا فالمقصود من النهي توبيخهم على تأخرهم في اتباع دعوة الإسلام.
الثاني: أن يكون المقصود التعريض بالمشركين، وبيان أنهم أشد كفرًا من اليهود، والمعنى على هذا: لا تكونوا أيها اليهود أشد كفرًا من المشركين الذين كانوا سابقين في الكفر بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -.
الثالث: أن يكون المراد من {أول} المبادرة والمسارعة إلى الإيمان، كقوله تعالى: {فأنا أول العابدين} (الزخرف: 81) أي: أول المسارعين والمبادرين للالتزام بشرع الله، ونبذ ما سواه من الشرائع البشرية والوضعية.
الرابع: أن يكون {أول} كناية عن القدوة في الأمر، والمعنى عليه: لا تكونوا كافرين بهذا القرآن، فتكونوا قدوة لمن جاء بعدكم، وبئس القدوة تلك.(/1)
وكما ترى - قارئي الكريم - فإن الآية تحتمل هذه المعاني كلها ولا تأباها؛ على أن الآية وإن كانت خطابًا لليهود في عهد الرسالة، بيد أنها تفيد خطاب الناس كافة، زمانًا ومكانًا؛ إذ هي دعوة للناس أجمعين للإيمان بهذا الدين، والتزام أحكامه أمرًا ونهيًا، وترك ما سواه من الأديان السماوية المنسوخة والمحرفة، ونبذ الشرائع الوضعية التي استحدثها الناس، فضلوا بها وأضلوا عن سواء السبيل. والله يرشدني وإياك إلى صواب القول، وحُسْن القصد، والحمد لله رب العالمين.
الإثنين:04/10/2004
http://www.islamweb.net المصدر:(/2)
في رحاب آية ولا تلبسوا الحق بالباطل
قال - تعالى -: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} (البقرة: 42)
الآية وردت في سياق خطاب بني إسرائيل، وهي عطف على قوله - تعالى -: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم }(البقرة :40) وجاءت الآية انتقالاً من غرض التحذير من الضلال، في قوله - تعالى -: {ولا تكونوا أول كافر به} (البقرة: 41) إلى غرض التحذير من الإضلال، في قوله - تعالى -: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق).
واللَّبس في اللغة، بفتح اللام: الخلط؛ وهو من الفعل (لَبَسَ) بفتح الباء؛ يقال: لَبَست عليه الأمر ألبسه: إذا خلطت حقه بباطله، وواضحه بمشكله، ومنه قوله - تعالى -: {وللبسنا عليهم ما يلبسون}(الأنعام: 9) ويقال: في الأمر لُبسة، بضم اللام، أي: اشتباه.
واللِّبس، بكسر اللام، من الفعل (لَبِسَ) بكسر الباء: هو لبس الثوب ونحوه.
والحق: الأمر الثابت؛ من حَقَّ، إذا ثبت ووجب، وهو ما تعترف به سائر النفوس، بقطع النظر عن شهواتها.
والباطل: ضد الحق، وهو الأمر الزائل الضائع؛ يقال: بطل بُطلا وبطلانًا، إذا ذهب ضياعًا وخسرًا، وذهب ماله بُطلاً، أي: هدرًا.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قوله: {ولا تلبسوا الحق بالباطل} أي: لا تخلطوا الصدق بالكذب؛ وعن أبي العالية قال: {ولا تلبسوا الحق بالباطل} لا تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد الله في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فتأويل الآية إذًا: ولا تخلطوا على الناس - أيها الأحبار من أهل الكتاب - في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما جاء به من عند ربه، وتزعموا أنه مبعوث إلى بعض أجناس الأمم دون بعض، أو تنافقوا في أمره، وقد علمتم أنه مبعوث إلى الناس كافة، بما فيهم أنتم، فتخلطوا بذلك الصدق بالكذب، والحق بالباطل، وتكتموا ما تجدونه في كتابكم من نعته وصفته، وتعرفون أن من عهدي الذي أخذت عليكم في كتابكم الإيمان به وبما جاء به والتصديق به؛ فالمراد إذًا: النهي عن كتم حجج الله، التي أوجب عليهم تبليغها، وأَخَذَ عليهم بيانها.
وعلى هذا، فلَبْسُ الحق بالباطل ترويج الباطل وإظهاره في صورة الحق، وهذا اللَّبْس هو المبتدأ في التضليل، وإليه الانتهاء في الإضلال؛ فإن أكثر أنواع الضلال الذي أدخل في الإسلام هو من قبيل لبس الحق بالباطل، وفي بعض تاريخ الإسلام خير شاهد على ذلك.
وقوله - تعالى -: {وتكتموا الحق} عطف على قوله - سبحانه -: {ولا تلبسوا} والمعنى: النهي عن الخلط بين الحق والباطل مقرونًا بكتمان الحق؛ ولك أيضًا أن تجعله منصوبًا بأن المضمرة بعد الواو، والتقدير (وأن تكتموا الحق) والمعنى عليه: لا تخلطوا الحق بالباطل، حال كونكم كاتمين للحق؛ وعلى كلا التوجيهين فالمقصود من الخطاب القرآني النهي عن الخلط بين الحق والباطل، إذ لكل واحد منهما مجاله ووجهته، فلا مجال للقصد إليهما، ولا مجال للخلط بينهما، ولم يبق إلا الفصام بينهما؛ والنهي أيضًا عن كتمان الحق، لما فيه من التضليل والتحريف وطمس الحقيقة التي جاء الإسلام بها للناس كافة.
وتفاديًا لما وقع فيه اليهود من الخلط والكتمان، قال أهل العلم: إن التأويل - الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره - لآيات القرآن الكريم لا يصح إلا إذا دلَّ عليه دليل قوي، أما إذا وقع التأويل لما يُظن أو يُتوهم أنه دليل فهو تأويل باطل، لا يُعرَّج إليه، ولا يصح التعويل عليه؛ إذ هو في حقيقته نوع من التحريف والتضليل، ناهيك عما إذا وقع التأويل من غير دليل أصلاً، فهو آكد في الحرمة، وأوجب للمنع، إذ هو من باب اللعب والهزء بآيات القرآن، ولا يخفى ما فيه.
فمن أمثلة التأويل بدليل - وهو التأويل المشروع - قوله - تعالى -: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} (النحل: 1) ففسر العلماء الفعل (أتى) وهو فعل ماض، يدل على وقوع الأمر وحدوثه، فسروه بـ (سيأتي) واستدلوا لذلك بما جاء في سياق الآية نفسها، وهو قوله - سبحانه - بعدُ: {فلا تستعجلوه} فالنهي عن طلب استعجال الأمر بعدُ، دليل على عدم وقوع ما أُخبر عنه قبلُ.
ومن أمثلة التأويل بغير دليل - وهو التأويل المذموم - ما ادعاه بعضهم، من جواز نكاح الرجل تسع نسوة، مستدلاً على ذلك، بقوله - تعالى -: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} وهذا لا دليل عليه من نص أو وضع لكلام العرب، بل هو أمر ساقط، لا تقوم له قائمة تدل عليه.(/1)
وقوله - تعالى -: {وأنتم تعلمون} جملة حالية، فيه دليل على أن كفرهم كان كفر عناد لا كفر جهل، وذلك أغلظ للذنب وأوجب للعقوبة؛ ثم إن التقييد بالعلم في الآية، لا يفيد جواز اللَّبْس والكتمان مع الجهل؛ لأن الجاهل مطالب بالتعلم، ومنهي عن البقاء على جهله، إذ الواجب على الإنسان أن لا يُقْدِم على شيء حتى يعلم بحكمه، خاصة إذا كان ذاك الشيء من أمور الدين، فإن التكلم فيها والتصدي لها إنما أذن الله به لمن كان أهلاً ومؤهلاً لذلك، أما الجاهل فليس له من الأمر شيء، وليس له من سبيل إلى ذلك.
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، والصواب في أمرنا، والإخلاص في قصدنا، وصلى الله على نبينا، وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين..
http://islamroad.jeeran.com المصدر:(/2)
في رحاب قوله تعالى اقرأ وربك الأكرم}
الآيات الخمس الأُوَل من سورة (العلق) أول ما نزل من القرآن، في قول أكثر المفسرين، نزل بها جبريل الأمين على النبي خاتم المرسلين، عليه الصلاة وأتم التسليم، وهو قائم في غار حراء يتعبد.
ومع أن هذا النص القرآني الكريم قد صِيغَ بعبارات وجيزة، وكلمات بليغة، غير أنه تضمن من الحقائق والمعاني الكثير، وهو ما نحاول بسط القول فيه في هذه السطور:
روى البخاري في "صحيحه" عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا الصادقة، فجاءه المَلَك، فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم} (العلق: 1-3).
وافتتاح السورة بكلمة { اقرأ } إيذان بأنه - صلى الله عليه وسلم - سيكون قارئًا، ومن ثَمَّ هو خطاب لأمته من بعده لتقوم بهذا الأمر الذي هو مفتاح كل خير.
ويُلْحظ في الآيات الكريمة تكرار لفظ {اقرأ} مرتين، ولهذا التكرار وظيفته في الخطاب القرآن، وهو يدل هنا على أمرين اثنين، يفيدهما السياق الذي وردت فيه الآيات:
الأول: ارتباط القراءة والأمر بها بنعمة الخلق والإيجاد؛ وهذا مستفاد من قوله - سبحانه -: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق}.
والثاني: ارتباط القراءة بنعمة الإمداد والإكرام، وهذا مستفاد من قوله - تعالى -: {اقرأ وربك الأكرم}.
والمعنى وَفق هذا الارتباط المشار إليه: أن الذي خلق الإنسان يأمره بالقراءة؛ لأنها حق الخالق، إذ بها يُعرف؛ وإن ممارسة هذه القراءة هي صورة من صور الشكر للخالق، لأنها قراءة لاسمه، وباسمه، ومع اسمه {اقرأ باسم ربك الذي خلق} إذ إن غاية القراءة معرفة الله - تعالى -، ووسيلتها النظر والتحري في آياته - سبحانه - المقروءة والمنشورة.
ثم إن (الواو) في قوله - سبحانه -: {اقرأ وربك الأكرم} أقرب ما تكون إلى معنى المعية، ذلك أن القارئ باسم الله لا يقرأ وحيدًا دون مساعدة، ومعونة ربانية، وإنما يقرأ بعين وعون من الله - سبحانه - {اقرأ وربك الأكرم} فهو معك يُعينك، يهديك، يصنعك {ولتصنع على عيني}(طه: 39) وكرمه - سبحانه - من رحمته، وهذه الرحمة تتجلى في نعمة التعليم بعد الخلق، وهكذا تتلازم صفتا العلم والرحمة منذ بداية الوحي القرآني إلى منتهاه.
وإذا كان المعنى الأصلي للقراءة الجمع، فهي إذن قراءة جامعة لكل الخير والبر والإحسان والعرف والمعروف والصدق والحق والهدى والنور والرشاد في القرآن.
ثم إن الأمر بالقراءة جاء عامًا في الموضعين من السورة الكريمة، دون تحديد لطبيعة المقروء، وقد ذهب المفسرون إلى حصر المفعول بالقرآن، على معنى: اقرأ ما أُنزل عليك من القرآن؛ وإذا صح لنا الأخذ بعموم اللفظ، جاز لنا القول: إن الأمر بالقراءة يفيد قراءة كتاب الله المسطور (القرآن) وكتاب الله المنشور (الأكوان).
واعلم - أخي الكريم - أن للعلماء توجيهات وآراء في معنى الباء الواردة في قوله - تعالى -: {باسم ربك} نمسك عن الخوض فيها، إذ ليس المقام مقامها.
ويحسن القول هنا: إن الأمر بالقراءة ابتداء يجب اعتباره أهم وأكبر مفصل من مفاصل التاريخ البشري، ولهذا دلالته في تاريخ الأمم والشعوب، كما لا يخفاك.
وأنت عليم أن القراءة في كتاب الله المسطور، لا تنفصل في وجودها وأهميتها عن الكتابة، التي احتوتها آيات أُخر من كتاب الله المجيد، وهي قوله - تعالى -: {ن والقلم وما يسطرون} (القلم: 1) فإذا كانت آيات سورة العلق فيها دعوة للقراءة، وحث عليها، لكشف آيات الله في الآفاق والأنفس، فإن آية سورة القلم فيها بيان وتعظيم لوسيلة القراءة وما به تكون، وكلاهما معًا طريق لمعرفة الخالق - سبحانه وتعالى -.
وختامًا: فإننا أمة قد نسيت أو تناست القراءة منذ زمن، وقد طال هذا النسيان، ونسيانها أو تناسيها مرض مزمن معقد حار الأطباء - على اختلاف اختصاصاتهم - في تشخيصه، فكيف في إيجاد العلاج له؟ فهل إلى خروج من سبيل؟!
03/07/2005
http://www.islamweb.net المصدر:(/1)
في رحاب قوله تعالى إنما التوبة على الله }
في القرآن الكريم نقرأ في موضوع التوبة آيات عدة، من ذلك قوله - تعالى -: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} (النساء: 17) ومنها قوله - سبحانه -: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا} (الزمر: 53) ومنها قوله عز من قائل: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات} (الشورى: 25) وقوله جلَّ علاه: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} (التوبة: 104).
قال أهل العلم: واتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين، لقوله - تعالى -: {وتوبوا إلى الله جميعًا أيُّه المؤمنون لعلكم تفلحون} (النور: 31).
وأمر التوبة في الإسلام أمر عظيم، فهي نعمة جليلة أنعم الله بها على عباده، إذ منحهم فرصة لمراجعة الحساب، وتدارك ما فات، والأوبة إلى ما فيه نجاتهم من المهلكات.
والآيات التي صدرنا بها مقالنا - وموضوعها التوبة - هي وجهتنا في هذا المقال، فنقول:
في قوله - تعالى -: {إنما التوبة على الله} تأكيد ووعد من الله - تعالى -بقبول التوبة من عباده، الذين أسرفوا على أنفسهم بالذنوب والمعاصي، كبيرها وصغيرها، حتى جُعلت كالحق على الله - سبحانه -، ولا شيء عليه واجب إلا ما أوجبه - جل وعلا - على نفسه.
ثم إن الجهالة الواردة في الآية {يعملون السوء بجهالة} تطلق على سوء المعاملة، وعلى الإقدام على العمل دون رويِّة؛ يقال: أتاه بجهالة، بمعنى أنه فَعَلَ فِعْل الجهال به، لا أنه كان جاهلاً؛ بدليل أنه لو عمل أحد معصية وهو غير عالم بأنها معصية لم يكن آثمًا، ولا يجب عليه إلا أن يتعلم ذلك ويتجنبه.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة} قال: من عمل السوء فهو جاهل، من جهالته عمل السوء.
ومعنى قوله - تعالى -: {من قريب} أن يبادر المذنب والعاصي إلى التوبة بعد فعل المعصية، من غير أن يتمادى في غيه ومعصيته؛ وهو بمعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) رواه الترمذي.
أما قوله عز شأنه في الآية التالية: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات} (النساء: 18) فهو تنبيه منه - سبحانه - على نفي قبول نوع من التوبة، وهي التي تكون عند حضور الموت واليأس من الحياة {حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} (النساء: 18) إذ المطلوب من العبد حال توبته أن يقرن العمل بالقول، ولا يكفيه في ذلك أن يقول ما لا يفعل، أو يفعل ما لا يقول؛ فإعلان التوبة ليس مجرد كلمات تقال، وألفاظ تردد فحسب، بل لا بد أن يصدق ذلك عمل وفعل، وإلا لم تكن توبة نصوحًا، فإذا وقع اليأس من الحياة ذهبت فائدة التوبة، إذ لم يبق معها مجال للعمل.
وقد وردت أحاديث عدة تؤكد هذا المعنى وتوضحه، من ذلك ما جاء عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إن الله- تبارك وتعالى -يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) رواه أحمد و الترمذي.
وإذا كانت التوبة في آية النساء الأولى {إنما التوبة على الله} عامة لكل من عمل ذنبًا، فإن الآية الثانية {حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} قد خصصت هذا العموم حال حضور الموت وعند النزاع، إذ لا تجدي التوبة حينئذ.
على أن ما قد يشكل في هذا السياق ما جاء في سورة النساء نفسها، وهو قوله - تعالى -: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48) فظاهر الآية أن الله - سبحانه - يغفر الذنوب جميعًا إلا الشرك فإنه لا يغفره، وهذا الإطلاق في الآية مقيد في حال مات العبد وهو مشرك بالله، فإن مغفرة الله لا تناله من قريب ولا من بعيد، لكن إن تاب العبد من إشراكه قبل موته، فإن الله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات.
قال ابن كثير - رحمه الله -: أخبر - تعالى - أنه لا يغفر أن يشرك به؛ أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، ويغفر ما دون ذلك، أي من الذنوب لمن يشاء، أي من عباده. وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة، من ذلك ما رواه الإمام أحمد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إن الله يقول: يا عبدي ما عبدتني ورجوتني، فإني غافر لك على ما كان منك، يا عبدي إنك إن لقيتني بقُراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي، لقيتك بقرابها مغفرة) ولهذا كان الإيمان أشرف أنواع التوبة.
وبعد: فقد أجمع المسلمون كلهم، على أن التوبة من الكفر، والإقرار بالإيمان، تستوجب المغفرة من الله؛ وأن الموت على الكفر مطلقًا لا يُغفر بلا شك، وأجمعوا كذلك على أن المذنب إذا تاب يغفر ذنبه، إذا استجمع شروط التوبة المقبولة؛ أما إذا مات المذنب على ذنبه - غير الشرك بالله - من غير أن يتب، فآية النساء وغيرها من الأدلة، تدل على أن أمره متروك لمشيئة الله - سبحانه -، إن شاء عفى عنه برحمته وعفوه، وإن شاء عذبه بعدله وقسطه، والله أعلم.
15/05/2005(/1)
http://www.islamweb.net المصدر:(/2)
في رحاب ليلة القدر
في جامع بني أمية الكبير بدمشق، مساء الثلاثاء 26/رمضان/1425هـ،9/11/2004م.
الدكتور الشيخ علاء الدين زعتري
www.alzatari.org
543232 94 00963
الحمد لله الذي هدى إلى الإحسان، وجعل كتابه دليلاً لأهل الإيمان، والصلاة والسلام على مَن زانه ربه بالقرآن، وحباه بليلة القدر في رمضان، وعلى آله سادة الأزمان، وصحبه
نجوم الأكوان، وعلى مَن تبعهم من أهل الحق والإتقان، وبعد:
فسلام من الله عليكم ورحمة من لدنه وبركات.
يقام هذا الاحتفال الكبير المبارك بليلةِ القدرِ التي أشرقت منها هويةُ هذه الأمة وأينعت حضارتُها،
لذا كانت ليلةً عظيمةَ الشأنِ رفيعةَ الشرفِ، والشريف والعظيم يرفع قَدْر مَن يلوذ به ويكون معه.
أيها المؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها: إن للمناسبات الكريمة والأحداث العظيمة آثاراً بعيدة المدى؛ تسمو بالناس بقَدْر ما لها من قوة دافعة، وبقَدْرِ ما يقتربون منها، ويعرفون قَدْرَها.
وإنّ اللياليَ والأيام لَتكتسِب مِيزتها من الحدث الذي يقع فيها؛
وإننا في ليلةٍ مباركةٍ عظيمٌ نفعُها، كثيرٌ خيرُها؛ تُعَلِّمُنَا حركةَ الحياة، وتُرْشِدنا إلى وسائل الإحياء.
فرمضان زمان، وليلة القدر وعاء حوى رسالة، واستقبل أمانة، أدَّاها رسول الله e؛ ومطلوب منَّا متابعة هذه الأمانة؛ حفظاً وتبليغاً،
هذه الأمانة هي القرآن، قال تعالى:
]وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ[([1])
أي: شرف ومكانة، وعز وكرامة؛ لك يا محمد ـ اللهم صل وسلم عليه ـ ولقومك من بعدك.
وسوف تُسألون أيها العرب عن أمانة القرآن، وسوف تُسألون عن حمل رسالة الإسلام، ففي ذلك قَدْركم، قال تعالى:
]لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابَاً فِيهِ ذِكْرُكُمْ[([2])
أي: فيه عزكم ومجدكم، فيه شرفكم وكرامتكم ومكانتكم بين الأمم.
فلنأخذِ القرآنَ بقوة؛ قوةِ الفهم والعقل، قوة الخُلُقِ والعمل.
والمطلوب من المسلمين أن يتعاملوا مع ليلة القدر بما فيها من معانٍ سامية، وقيمٍ راقية.
• فالقدر يعني فيما يعني: الموازنةَ والتقدير، والنية والتخطيط، لتحقيق الآمال والمقاصد، والوصول إلى المرامي والأهداف؛فماذا تريد أيها المؤمن من ربك؛ لنفسك وأسرتك ومجتمعك، لوطنك وأمتك،
فالبدءُ بالأعمال يمر عبر النية والتخطيط، وتقديرُ الأمورِ منوطٌ بمقاصدها، والعاقبة للمتقين.
وبعد النية والموازنة ومباشرة العمل وأدائه تأتي مرحلة المحاسبة والمراجعة، لوضع التقدير الصحيح.
• فليلة القدر تعني فيما تعني: إعطاءَ الدرجةِ والعلامةِ والتقدير؛ لأعمالك وأقوالك، وتصرفاتك وسلوكك؛ على أساسٍ من القرآن والسنة؛
لترى نتيجة عملك: أمن الناجحين الفائزين، أم من الخائبين الخاسرين؟!!.
فيا لسعادةِ مَن كانت نتيجةُ عمله نجاحاً وتشريفاً،
ومراجعةُ أمورِ دنياه تقدماً وازدهاراً،
وتقديرُه الروحي رقياً وفلاحاً.
• وبعد الموازنة والتقدير يأتي دور التشريف والوقار والتعظيم، والعزة والتمكين والتكريم؛
بعلوّ الدرجة ورفعة المنزلة عند الله؛
وذلك بمقدار ما تحمل في فكرك وعقلك وقلبك؛
فتَشَرَّف أخي المؤمن بالقرآن حملاً، وارفع قَدْرَك به عملاً.
• وإلى أولئك الذين فاتتهم هذه الحركة الانسيابية من الموازنة والتخطيط، والتقدير بالتشريف؛
فليلة القدر لا تفوتهم؛ إذ هي ليلة العزم والتأكيد:
فمَن عاش ليلة القدر بخشوع وصفاء، وطهر ونقاء؛ متوكلاً على خالق الأرض والسماء؛
فتح الله عليه، وألهمه رشده؛ وكانت ليلةُ قَدْره يومَ تعظيمِ ربه، وتوقيرِ دينه.
ألا وليُعلم أن ليلة القدر ليست ظاهرةً كونيةً تلمع، ولا شبحاً غامضاً في أرجاء السماء يُلمح، ولا رؤيةَ ملاكٍ في الفضاء يسبح.
ليلة القدر ليست مجرد نوراً في الظلام يسطع، ولا كنزاً مالياً بالصدفة يُدْفَع.
ليلة القدر ليست كوكباً درياً في سماء الكون يوقد، ولا صورةً جميلة في مخيلة الذهن تظهر.
فهذه وأمثالها أوهام في فهم العبادة، وانحرافات في وعي الدين، وذلك حين يكون التطلع إلى شكل العبادة بعيداً عن مضمونها، وحين يكون النظر إلى السطحيات لا إلى العمق والهدف، وعندها يُجَمَّد الدين عن الواقع ويُعزل، ويتحوّل إلى مجرد طقوسٍ وعاداتٍ وتقاليد.
ليست ليلة القدر كذلك؛ بل هي ليلة حصاد جهود أعمال أديتها على مدار العام؛ عبر سنوات عمرك، وأشهرِ سنتك وعامك، وأيام شهرك؛ لا للحظات أو سويعات، بل بأوقات مستديمات،
نعم، ليست ليلة القدر عبادةَ ساعاتٍ أو أيام، بل يكون ذلك دأبك على الدوام.
ويتحقق المراد: عندما يتحول كلُ مسلم إلى قرآنٍ بالحق ناطق، ولخير البشرية فاعل، ولنفع الخلق ساعٍ؛ بتلاوة القرآن حق تلاوته؛
ففعل: (تلا) لا يعني (قرأ) فقط، بل أصل معناه اللغوي: (تبع)، قال تعالى:
]وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا[([3])
أي: تبعها،
وأنتم يا أهل القرآن، ويا مَن أوتيتم الكتاب: اتَّبِعوا ما فيه واعملوا بأحكامه، وتخلقوا بأخلاقه، قال تعالى:(/1)
]الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكَتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ، أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ[([4])
وكان e خُلُقه القرآن.
أيها الأخوة والأحبة: بالقرآن أضاءت الأرض بنور السماء، وسمت الأمة وارتفعت بخير النداء؛ مستخدمة العلم وسيلة للرقي والتقدم، وأداة للرفعة والتمدن؛ إذ كان أول توجيه في القرآن:
]اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ[([5])
ومنها انطلقت الحضارة الإسلامية الإنسانية وانتشرت.
فيا قارئ القرآن لا تقرأ وَرَقَهْ، بل اقرأ وارقى، وفي الحديث: "يُقَال لصاحبِ القرآن يوم القيامة اقرأ وارْقَ ورتِّل كما كنت تُرَتِّل في الدنيا؛ فإن منزلتَك عند آخر آية تقرؤها "([6]) ، هكذا شأن مَن عرف قَدْر قرآنِ ربه، وقرأ القرآن في ليلةِ قَدْرِه.
ليلة القدر ]سَلاَمٌ هِيَ[([7]) بين الناس، وطمأنينة هي بذكر الله في القلوب، وصفاء هي في النفوس.
ليلة القَدْر لحظةُ ]مَطْلَعِ الْفَجْرِ[([8]) نوراً يشع من قلبك الذاكر لله على جوارحك، وينتقل قيماً وأخلاقاً إلى سلوكك وأعمالك.
فمَطْلَع الفجر مولد النهار بضيائه بعد ليل مظلم مدلهم، مولد السعادة بعد الشقاء، مولد الطاقة بعد المعصية، مولد القرب إلى الله بعد الجفاء، مولد العهد بينك وبين ربك على الثبات والاستقامة.
وما أحوج الأمة اليوم لطلوع فجر نصرها الكامل، وبزوغ نهار عدلها المشرق، وزوال الغيوم عن شمس حضارتها، وفي الحديث: "إن الله لَيَرْفَعُ بهذا الكتاب أقواماً ـ اللهم ارفعنا بالقرآن وانفعنا ـ ويَضَعُ به آخرين"([9]).
فَأَقْبِلُوا ـ عباد الله ـ على القرآنِ بصدورٍ منشرحة، وقلوبٍ منفتحة، وعقولٍ واعية، ونفوسٍ مطمئنة؛ ليُعتمد القرآن ركيزة للعلوم، وأساساً للمعارف والفهوم، ومنطلقاً للدراسات والأبحاث، ومُحَدِّدَاً للقيم والمفاهيم، ومفتاحاً للانتصارات؛ باستخدام أسلوب الإحياء والتطوير، والانبعاث والتحديث.
فليس هناك أرقى من نهضةٍ؛ تقومُ على العلم.
ولا أبقى على حضارةٍ؛ تكون الحكمةُ رائدها.
ولا أخلدَ من أمةٍ تقومُ على الصلةِ الربانية والطهارةِ النفسية.
وكل هذا مبثوث موجود في كتاب ربك.
فالقرآن الكريم نورُ العلم الذي خرجت به الأمة من ظلمات الجهل وترهات الجاهلية.
وهو الهدى نحو الرقي الإنساني بعد حيرة الضلالات السابقة واللاحقة.
وبكلمة جامعة: القرآنُ حركةُ إحياءٍ وانبعاث؛ ونهضةٍ وعُمْران؛ يُصْلِحُ الزمانَ والمكانَ والإنسانَ؛ لطي صفحات الخمول والموات، وتذويب التحجر والجمود، وتجاوز المحاكاة والتقليد؛ للوصول إلى حركة الفعل والإبداع، وتجدد الجهاد والاجتهاد والتلازم بينهما، وللوصول إلى خير المواكبة والتحديث، ونعمةِ الواقعية والتطوير، قال تعالى:
]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وِلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ[([10]).
ففي الإحياء حياة لكل شؤون الناس، وتنمية اقتصادية واجتماعية على أوسع مجال.
ففي إحياء ليلة القدر حياة للإنسان الفرد؛
طوبى لِمَن أحيا ليلة القدر ببذل الخير وفعل المعروف؛ برفع مستوى معيشةٍ لفرد.
وطوبى لِمَن خفف آلام أسرة، ونقلها من حالة فاقة وضيق، إلى ساحة كفافٍ وَسَعَةٍ، بتحقيق الكفاية الحياتية لها.
في مثل هذا إحياءُ ليلةِ قَدْرِك، وبمثل هذا تشريفٌ لمنزلتك، فهذه الأعمال وأشباهُها هي الرافعة لشأنك، والمشرِّفة لِقَدْرك؛ عند الله وعند خلقه.
ونلمح في الإحياء نورَ تنميةٍ في المجال الاقتصادي الخاص والعام؛ بتحويله من مشروعِ إنفاقٍ خِدْمي صِِرْفٍ؛ إلى مشروعٍ تنموي مثمرٍ منتج، وفي هذا عملية إحياءٍ، وحسنُ تقديرٍ؛ متوافقٌ مع ليلة القدر.
في الإحياء للحياة: تنمية للواقع المادي بما يُحَسِّنْه، وللأعمال بما يجعلها مُتْقَنَة، وللفنون بما يُجَمِّلُها؛ مع ربط كل ذلك بالخالق المكوِّن، بالرحيم الرحمن، بِمَن عَلَّم الإنسانَ القرآن؛ متجاوزين التعلق بالشكل والمظهر، واصلين إلى الحقيقة والجوهر؛
فالعلوم مرتبطة بالله العليم، والعمل مرتبط بالله الرقيب، والحكمة مرتبطة بالله الحكيم، والصنعة والصناعة مرتبطة بالله الخبير، والزراعة مرتبطة بالله المحيي، والتجارة مرتبطة بالله الحسيب، والطب مرتبط بالله الشافي، والهندسة مرتبطة بالله المبدع، والقضاء مرتبط بالله العادل، والمحاماة مرتبطة بالله الحق، وهكذا في كل شؤون الحياة.
فهنيئاً لكم أيها السالكون سبل إحياء الإنسان، هنيئاً لكم أيها العاملون في سبيل التنمية؛ وقد اتخذتم سبل التحديث من مفاهيم القرآن، واستخدمتم أدوات التطوير من نتاج حضارة الإسلام؛ بعيداً عن التقليد والمحاكاة للآخر، ليس نبذاً أو تنكراً، بل تأصيلاً وتحققاً.
فلسطين والعراق:
أيها المؤمنون في كل مكان: يحتفل المسلمون بليلة القدر وشعبنا في فلسطين الحبيبة، وفي العراق الجريح؛ يعيش حالة تُدمِي القلب، وتَعصِر الفؤاد.
فمع لحظات الغروب يفطرون على صوت المدافع، لكنها المدافع القاتلة والقنابل المتفجرة.(/2)
ويصومون مع هدير الطائرات ودوي الدبابات وأزيز الرشاشات؛ تخترق أجسامهم، وتدمِّر أحلامهم، وتخطف بالموت مواليدهم وأطفالهم.
ولهم علينا حق؛ فإن لم نتمكن اللحظةَ واليومَ من أداء كامل هذا الحق هواناً وضعفاً؛ فلا أقل من المحافظة على هذا الحق وصيانته، وتوريثه لأجيالنا وأبنائنا عزة وقوة؛
فالقدس أمانة، ووحدة الأمة والشعب أمانة، ووحدة المسار والمصير أمانة، ومأمورون من الله بأداء الأمانة.
تذكروا عباد الله: أنه في الوقت الذي تمتلأ فيه مساجد المسلمين في شتى بقاع العالم بالعُبَّاد والداعين، الراكعين الساجدين في ليلة القدر المباركة؛ فإن هناك مسجداً أسيراً؛
الأقصى وراء القضبان صامد، وخلف الأسوار ثابت، يرنو بعين حزينة، نحو أمة ضعيفة عن نصرته، كليلة عن تأييد حق شعبه.
المسلمون وتهمة الإرهاب:
أيها المسلمون: يأتي احتفالنا اليوم وسط ظروف عالمية تحتم العمل الدؤوب بمسئولياتنا؛ كلٌّ في موقعه على أكمل وجه، وأعلى درجة من الإحكام والتقدير، إذا أردنا أن نحيا ليلة القدر بمعناها؛ للحفاظ على خصوصياتنا الدينية والثقافية والاجتماعية.
فلقد اُتخذت بعضُ الأحداثِ ذريعةً للإيحاء للعالم بوجود صلة بين أمتنا المسلمة، وبين القتل والتدمير والإبادة والتطرف، وقاموس التهم جاهز.
وحُوِّلَت أنظارُ المؤسساتِ الدوليةِ الكبرى إلى أعمال عنف فردية أو جماعية، وتناست بل تعامت عن أعمال العنف المنظَّم؛ الذي يُجرِّف الأرض، ويُهدِّم الحجر، ويُحرِّق الشجر، ويقتلع الإنسان من جذوره، ويغتال شعباً أعزل بأكمله.
وماذا يُسمى احتلالُ أرض الغير، وامتهانُ كرامة الإنسان، وإذلالُ الشعوب؛ إن لم يكن إرهابَ دولة؟!!!.
الدعاء:
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، وأدم اللهم نعمة الاستقرار في بلادنا، ونعمة التقدم والازدهار في ربوعنا.
اللهم إنك عفو تُحب العفو فاعفو عنا، واقض حوائجنا فيما يرضيك عنا.
وصلى الله وسلم على نبيه الأمين، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الغر الميامين، والحمد لله رب العالمين.
([1]) سورة الزخرف، [43/44].
([2]) سورة الأنبياء، [21/10].
([3]) سورة الشمس، [91/2].
([4]) سورة البقرة، [2/121].
([5]) سورة العلق، [96/1].
([6]) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمرو.
([7]) سورة القدر، [97/5].
([8]) سورة القدر، [97/5].
([9]) رواه مسلم.
([10]) سورة الأنفال، [8/24].(/3)
في رحاب ليلة القدر
في جامع بني أمية الكبير بدمشق، مساء الثلاثاء 26/رمضان/1425هـ،9/11/2004م.
الدكتور الشيخ علاء الدين زعتري
www.alzatari.org
543232 94 00963
الحمد لله الذي هدى إلى الإحسان، وجعل كتابه دليلاً لأهل الإيمان، والصلاة والسلام على مَن زانه ربه بالقرآن، وحباه بليلة القدر في رمضان، وعلى آله سادة الأزمان، وصحبه
نجوم الأكوان، وعلى مَن تبعهم من أهل الحق والإتقان، وبعد:
فسلام من الله عليكم ورحمة من لدنه وبركات.
يقام هذا الاحتفال الكبير المبارك بليلةِ القدرِ التي أشرقت منها هويةُ هذه الأمة وأينعت حضارتُها،
لذا كانت ليلةً عظيمةَ الشأنِ رفيعةَ الشرفِ، والشريف والعظيم يرفع قَدْر مَن يلوذ به ويكون معه.
أيها المؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها: إن للمناسبات الكريمة والأحداث العظيمة آثاراً بعيدة المدى؛ تسمو بالناس بقَدْر ما لها من قوة دافعة، وبقَدْرِ ما يقتربون منها، ويعرفون قَدْرَها.
وإنّ اللياليَ والأيام لَتكتسِب مِيزتها من الحدث الذي يقع فيها؛
وإننا في ليلةٍ مباركةٍ عظيمٌ نفعُها، كثيرٌ خيرُها؛ تُعَلِّمُنَا حركةَ الحياة، وتُرْشِدنا إلى وسائل الإحياء.
فرمضان زمان، وليلة القدر وعاء حوى رسالة، واستقبل أمانة، أدَّاها رسول الله e؛ ومطلوب منَّا متابعة هذه الأمانة؛ حفظاً وتبليغاً،
هذه الأمانة هي القرآن، قال تعالى:
]وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ[([1])
أي: شرف ومكانة، وعز وكرامة؛ لك يا محمد ـ اللهم صل وسلم عليه ـ ولقومك من بعدك.
وسوف تُسألون أيها العرب عن أمانة القرآن، وسوف تُسألون عن حمل رسالة الإسلام، ففي ذلك قَدْركم، قال تعالى:
]لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابَاً فِيهِ ذِكْرُكُمْ[([2])
أي: فيه عزكم ومجدكم، فيه شرفكم وكرامتكم ومكانتكم بين الأمم.
فلنأخذِ القرآنَ بقوة؛ قوةِ الفهم والعقل، قوة الخُلُقِ والعمل.
والمطلوب من المسلمين أن يتعاملوا مع ليلة القدر بما فيها من معانٍ سامية، وقيمٍ راقية.
• فالقدر يعني فيما يعني: الموازنةَ والتقدير، والنية والتخطيط، لتحقيق الآمال والمقاصد، والوصول إلى المرامي والأهداف؛فماذا تريد أيها المؤمن من ربك؛ لنفسك وأسرتك ومجتمعك، لوطنك وأمتك،
فالبدءُ بالأعمال يمر عبر النية والتخطيط، وتقديرُ الأمورِ منوطٌ بمقاصدها، والعاقبة للمتقين.
وبعد النية والموازنة ومباشرة العمل وأدائه تأتي مرحلة المحاسبة والمراجعة، لوضع التقدير الصحيح.
• فليلة القدر تعني فيما تعني: إعطاءَ الدرجةِ والعلامةِ والتقدير؛ لأعمالك وأقوالك، وتصرفاتك وسلوكك؛ على أساسٍ من القرآن والسنة؛
لترى نتيجة عملك: أمن الناجحين الفائزين، أم من الخائبين الخاسرين؟!!.
فيا لسعادةِ مَن كانت نتيجةُ عمله نجاحاً وتشريفاً،
ومراجعةُ أمورِ دنياه تقدماً وازدهاراً،
وتقديرُه الروحي رقياً وفلاحاً.
• وبعد الموازنة والتقدير يأتي دور التشريف والوقار والتعظيم، والعزة والتمكين والتكريم؛
بعلوّ الدرجة ورفعة المنزلة عند الله؛
وذلك بمقدار ما تحمل في فكرك وعقلك وقلبك؛
فتَشَرَّف أخي المؤمن بالقرآن حملاً، وارفع قَدْرَك به عملاً.
• وإلى أولئك الذين فاتتهم هذه الحركة الانسيابية من الموازنة والتخطيط، والتقدير بالتشريف؛
فليلة القدر لا تفوتهم؛ إذ هي ليلة العزم والتأكيد:
فمَن عاش ليلة القدر بخشوع وصفاء، وطهر ونقاء؛ متوكلاً على خالق الأرض والسماء؛
فتح الله عليه، وألهمه رشده؛ وكانت ليلةُ قَدْره يومَ تعظيمِ ربه، وتوقيرِ دينه.
ألا وليُعلم أن ليلة القدر ليست ظاهرةً كونيةً تلمع، ولا شبحاً غامضاً في أرجاء السماء يُلمح، ولا رؤيةَ ملاكٍ في الفضاء يسبح.
ليلة القدر ليست مجرد نوراً في الظلام يسطع، ولا كنزاً مالياً بالصدفة يُدْفَع.
ليلة القدر ليست كوكباً درياً في سماء الكون يوقد، ولا صورةً جميلة في مخيلة الذهن تظهر.
فهذه وأمثالها أوهام في فهم العبادة، وانحرافات في وعي الدين، وذلك حين يكون التطلع إلى شكل العبادة بعيداً عن مضمونها، وحين يكون النظر إلى السطحيات لا إلى العمق والهدف، وعندها يُجَمَّد الدين عن الواقع ويُعزل، ويتحوّل إلى مجرد طقوسٍ وعاداتٍ وتقاليد.
ليست ليلة القدر كذلك؛ بل هي ليلة حصاد جهود أعمال أديتها على مدار العام؛ عبر سنوات عمرك، وأشهرِ سنتك وعامك، وأيام شهرك؛ لا للحظات أو سويعات، بل بأوقات مستديمات،
نعم، ليست ليلة القدر عبادةَ ساعاتٍ أو أيام، بل يكون ذلك دأبك على الدوام.
ويتحقق المراد: عندما يتحول كلُ مسلم إلى قرآنٍ بالحق ناطق، ولخير البشرية فاعل، ولنفع الخلق ساعٍ؛ بتلاوة القرآن حق تلاوته؛
ففعل: (تلا) لا يعني (قرأ) فقط، بل أصل معناه اللغوي: (تبع)، قال تعالى:
]وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا[([3])
أي: تبعها،
وأنتم يا أهل القرآن، ويا مَن أوتيتم الكتاب: اتَّبِعوا ما فيه واعملوا بأحكامه، وتخلقوا بأخلاقه، قال تعالى:(/1)
]الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكَتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ، أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ[([4])
وكان e خُلُقه القرآن.
أيها الأخوة والأحبة: بالقرآن أضاءت الأرض بنور السماء، وسمت الأمة وارتفعت بخير النداء؛ مستخدمة العلم وسيلة للرقي والتقدم، وأداة للرفعة والتمدن؛ إذ كان أول توجيه في القرآن:
]اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ[([5])
ومنها انطلقت الحضارة الإسلامية الإنسانية وانتشرت.
فيا قارئ القرآن لا تقرأ وَرَقَهْ، بل اقرأ وارقى، وفي الحديث: "يُقَال لصاحبِ القرآن يوم القيامة اقرأ وارْقَ ورتِّل كما كنت تُرَتِّل في الدنيا؛ فإن منزلتَك عند آخر آية تقرؤها "([6]) ، هكذا شأن مَن عرف قَدْر قرآنِ ربه، وقرأ القرآن في ليلةِ قَدْرِه.
ليلة القدر ]سَلاَمٌ هِيَ[([7]) بين الناس، وطمأنينة هي بذكر الله في القلوب، وصفاء هي في النفوس.
ليلة القَدْر لحظةُ ]مَطْلَعِ الْفَجْرِ[([8]) نوراً يشع من قلبك الذاكر لله على جوارحك، وينتقل قيماً وأخلاقاً إلى سلوكك وأعمالك.
فمَطْلَع الفجر مولد النهار بضيائه بعد ليل مظلم مدلهم، مولد السعادة بعد الشقاء، مولد الطاقة بعد المعصية، مولد القرب إلى الله بعد الجفاء، مولد العهد بينك وبين ربك على الثبات والاستقامة.
وما أحوج الأمة اليوم لطلوع فجر نصرها الكامل، وبزوغ نهار عدلها المشرق، وزوال الغيوم عن شمس حضارتها، وفي الحديث: "إن الله لَيَرْفَعُ بهذا الكتاب أقواماً ـ اللهم ارفعنا بالقرآن وانفعنا ـ ويَضَعُ به آخرين"([9]).
فَأَقْبِلُوا ـ عباد الله ـ على القرآنِ بصدورٍ منشرحة، وقلوبٍ منفتحة، وعقولٍ واعية، ونفوسٍ مطمئنة؛ ليُعتمد القرآن ركيزة للعلوم، وأساساً للمعارف والفهوم، ومنطلقاً للدراسات والأبحاث، ومُحَدِّدَاً للقيم والمفاهيم، ومفتاحاً للانتصارات؛ باستخدام أسلوب الإحياء والتطوير، والانبعاث والتحديث.
فليس هناك أرقى من نهضةٍ؛ تقومُ على العلم.
ولا أبقى على حضارةٍ؛ تكون الحكمةُ رائدها.
ولا أخلدَ من أمةٍ تقومُ على الصلةِ الربانية والطهارةِ النفسية.
وكل هذا مبثوث موجود في كتاب ربك.
فالقرآن الكريم نورُ العلم الذي خرجت به الأمة من ظلمات الجهل وترهات الجاهلية.
وهو الهدى نحو الرقي الإنساني بعد حيرة الضلالات السابقة واللاحقة.
وبكلمة جامعة: القرآنُ حركةُ إحياءٍ وانبعاث؛ ونهضةٍ وعُمْران؛ يُصْلِحُ الزمانَ والمكانَ والإنسانَ؛ لطي صفحات الخمول والموات، وتذويب التحجر والجمود، وتجاوز المحاكاة والتقليد؛ للوصول إلى حركة الفعل والإبداع، وتجدد الجهاد والاجتهاد والتلازم بينهما، وللوصول إلى خير المواكبة والتحديث، ونعمةِ الواقعية والتطوير، قال تعالى:
]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وِلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ[([10]).
ففي الإحياء حياة لكل شؤون الناس، وتنمية اقتصادية واجتماعية على أوسع مجال.
ففي إحياء ليلة القدر حياة للإنسان الفرد؛
طوبى لِمَن أحيا ليلة القدر ببذل الخير وفعل المعروف؛ برفع مستوى معيشةٍ لفرد.
وطوبى لِمَن خفف آلام أسرة، ونقلها من حالة فاقة وضيق، إلى ساحة كفافٍ وَسَعَةٍ، بتحقيق الكفاية الحياتية لها.
في مثل هذا إحياءُ ليلةِ قَدْرِك، وبمثل هذا تشريفٌ لمنزلتك، فهذه الأعمال وأشباهُها هي الرافعة لشأنك، والمشرِّفة لِقَدْرك؛ عند الله وعند خلقه.
ونلمح في الإحياء نورَ تنميةٍ في المجال الاقتصادي الخاص والعام؛ بتحويله من مشروعِ إنفاقٍ خِدْمي صِِرْفٍ؛ إلى مشروعٍ تنموي مثمرٍ منتج، وفي هذا عملية إحياءٍ، وحسنُ تقديرٍ؛ متوافقٌ مع ليلة القدر.
في الإحياء للحياة: تنمية للواقع المادي بما يُحَسِّنْه، وللأعمال بما يجعلها مُتْقَنَة، وللفنون بما يُجَمِّلُها؛ مع ربط كل ذلك بالخالق المكوِّن، بالرحيم الرحمن، بِمَن عَلَّم الإنسانَ القرآن؛ متجاوزين التعلق بالشكل والمظهر، واصلين إلى الحقيقة والجوهر؛
فالعلوم مرتبطة بالله العليم، والعمل مرتبط بالله الرقيب، والحكمة مرتبطة بالله الحكيم، والصنعة والصناعة مرتبطة بالله الخبير، والزراعة مرتبطة بالله المحيي، والتجارة مرتبطة بالله الحسيب، والطب مرتبط بالله الشافي، والهندسة مرتبطة بالله المبدع، والقضاء مرتبط بالله العادل، والمحاماة مرتبطة بالله الحق، وهكذا في كل شؤون الحياة.
فهنيئاً لكم أيها السالكون سبل إحياء الإنسان، هنيئاً لكم أيها العاملون في سبيل التنمية؛ وقد اتخذتم سبل التحديث من مفاهيم القرآن، واستخدمتم أدوات التطوير من نتاج حضارة الإسلام؛ بعيداً عن التقليد والمحاكاة للآخر، ليس نبذاً أو تنكراً، بل تأصيلاً وتحققاً.
فلسطين والعراق:
أيها المؤمنون في كل مكان: يحتفل المسلمون بليلة القدر وشعبنا في فلسطين الحبيبة، وفي العراق الجريح؛ يعيش حالة تُدمِي القلب، وتَعصِر الفؤاد.
فمع لحظات الغروب يفطرون على صوت المدافع، لكنها المدافع القاتلة والقنابل المتفجرة.(/2)
ويصومون مع هدير الطائرات ودوي الدبابات وأزيز الرشاشات؛ تخترق أجسامهم، وتدمِّر أحلامهم، وتخطف بالموت مواليدهم وأطفالهم.
ولهم علينا حق؛ فإن لم نتمكن اللحظةَ واليومَ من أداء كامل هذا الحق هواناً وضعفاً؛ فلا أقل من المحافظة على هذا الحق وصيانته، وتوريثه لأجيالنا وأبنائنا عزة وقوة؛
فالقدس أمانة، ووحدة الأمة والشعب أمانة، ووحدة المسار والمصير أمانة، ومأمورون من الله بأداء الأمانة.
تذكروا عباد الله: أنه في الوقت الذي تمتلأ فيه مساجد المسلمين في شتى بقاع العالم بالعُبَّاد والداعين، الراكعين الساجدين في ليلة القدر المباركة؛ فإن هناك مسجداً أسيراً؛
الأقصى وراء القضبان صامد، وخلف الأسوار ثابت، يرنو بعين حزينة، نحو أمة ضعيفة عن نصرته، كليلة عن تأييد حق شعبه.
المسلمون وتهمة الإرهاب:
أيها المسلمون: يأتي احتفالنا اليوم وسط ظروف عالمية تحتم العمل الدؤوب بمسئولياتنا؛ كلٌّ في موقعه على أكمل وجه، وأعلى درجة من الإحكام والتقدير، إذا أردنا أن نحيا ليلة القدر بمعناها؛ للحفاظ على خصوصياتنا الدينية والثقافية والاجتماعية.
فلقد اُتخذت بعضُ الأحداثِ ذريعةً للإيحاء للعالم بوجود صلة بين أمتنا المسلمة، وبين القتل والتدمير والإبادة والتطرف، وقاموس التهم جاهز.
وحُوِّلَت أنظارُ المؤسساتِ الدوليةِ الكبرى إلى أعمال عنف فردية أو جماعية، وتناست بل تعامت عن أعمال العنف المنظَّم؛ الذي يُجرِّف الأرض، ويُهدِّم الحجر، ويُحرِّق الشجر، ويقتلع الإنسان من جذوره، ويغتال شعباً أعزل بأكمله.
وماذا يُسمى احتلالُ أرض الغير، وامتهانُ كرامة الإنسان، وإذلالُ الشعوب؛ إن لم يكن إرهابَ دولة؟!!!.
الدعاء:
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، وأدم اللهم نعمة الاستقرار في بلادنا، ونعمة التقدم والازدهار في ربوعنا.
اللهم إنك عفو تُحب العفو فاعفو عنا، واقض حوائجنا فيما يرضيك عنا.
وصلى الله وسلم على نبيه الأمين، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الغر الميامين، والحمد لله رب العالمين.
([1]) سورة الزخرف، [43/44].
([2]) سورة الأنبياء، [21/10].
([3]) سورة الشمس، [91/2].
([4]) سورة البقرة، [2/121].
([5]) سورة العلق، [96/1].
([6]) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمرو.
([7]) سورة القدر، [97/5].
([8]) سورة القدر، [97/5].
([9]) رواه مسلم.
([10]) سورة الأنفال، [8/24].(/3)
(2)
في سبيل إعادة كتابة تاريخ الإسلام
تتعالى الصيحات في الوقت الحاضر بالدعوة إلى إعادة كتابة تاريخ الإسلام بعد أن تبين للعلماء والباحثين أن الصورة الموجودة الآن في أيدي شبابنا وطلبة مدارسنا وجامعاتنا والتي صنعت في ظل الاستعمار وتشكلت أولاً في هذه البلاد التي سيطر عليها ليست بالصورة المثلى، ذلك أن هذه الصورة نبتت أساساً في ظل الاحتلال بعد أن انفصلت عن الدولة الأم: الدولة العثمانية. وعن الطابع الأساسي الذي أريد لها هو أن تكون كتابات محلية خالصة: لا تستهدف كتابة تاريخ الإسلام نفسه ولكن كتابة تاريخ الأوطان، ومن ثم انحازت هذه الكتابات للأمة أو القطر أو البلد وأعلت من شأن وجوده الخاص، وتاريخه القديم، واستوحت أشد الصفحات بعداً عن الأصالة وعن الرؤيا الصحيحة، فأعلى شأن الفرعونية والفينيقية والبابلية والآشورية والبربرية والزنجية وغيرها. فإذا عرض أمر الإسلام فإنما يعرض على هون وفي أسلوب يوحي بأن الأمم أو الأقطار كانت أكبر منه وأنها حين دخل عليها أقامته وسيطرت عليه، وعَدّته بعض الكتابات استعماراً أشبه بالاستعمار الفارسي والروماني.
ويرجع ذلك كله إلى أن النظرة الأساسية التي قامت عليها كتابة التاريخ نظرة استعمارية ووافدة، وحين فتحت الأفاق لدراسة تاريخ الإسلام، درس على أنه تاريخ الدولة أو الإمبراطورية التي قامت ثم تمزقت إلى دول. وحين عرض لم يعرض إلا من خلال خلافات بعض الملوك والأمراء والحكام وصراعاتهم الخاصة.
وكان التركيز شديداً على الخلاف الأول بين الصحابة (عثمان وعلي ومعاوية). في محاولة لتفسيره تفسيراً مادياً خطيراً بأنه صراع على الحكم.
وغلبت على دراسة التاريخ مذاهب الاستشراق وهي مذاهب غربية أصلاً قامت في ظل تاريخ أوربي وغربي له تحدياته وظروفه، مثل الصراع بين الكنيسة والعلماء، وبين الأمراء والشعب، وصراع المذاهب الكاثوليكية والبروتستانتية وذلك القتال الرهيب بين الملوك والدول والأمم.
هذا المذهب في تفسير التاريخ الذي كان مطبقاً في الغرب حاول المستشرقون نقله إلى أفق التاريخ الإسلامي رغبة في محاكمة هذا التاريخ إليه، فكان خطراً وفاسداً ومضطرباً؛ لأنه ليس متسقاً معه وليس منبعثاً من وجوده ومذاهب التاريخ والأدب والنقد وغيرها جميعاً لا يمكن أن تنقل من بيئة إلى أخرى، وإنما هي تنبع من بيئتها لأنها جزء من الثقافة الذاتية الخاصة القائمة على العقائد والتراث والعادات والطوابع العميقة للأمم.
ولكن الاستعمار ومن ورائه التغريب والغزو الثقافي فرض هذا المنهج من تفسير التاريخ على التاريخ الإسلامي فمزقه إرباً وأحاله أركاماً، فهو أولاً يدرسه مجزءاً واقعة واقعة، أو أنه يرجح رواية توافق الهوى أو أنه لا يفهم تيار التاريخ الإسلامي نفسه، هذا التيار الذي لا يفهمه إلا من يعرف منطلقه الأساسي كما رسمه القرآن الكريم وصورة الإسلام في أصوله وقيمه.
وقد استهدت هذه الدراسات بالطابع الوطني الخالص، الذي حجب عنها الصورة الكاملة للتاريخ بأبعادها حيث عجزت هذه الصورة أو تعمدت إلا تشير إلى أن هذا الوطن وهذه الدولة، ليست إلا جزءاً من الوطن الإسلامي ومن الدولة الإسلامية أساساً وأن الروابط بين الجزء والكل لا يمكن أن تنفصم؛ لأنها روابط عقدية ولغة وشريعة وتاريخ طويل وأمة وسطى جامعة لا يستطيع جزء منها أن ينفصل أو ينغلق مهما حاول ذلك أو حاوله له الاستعمار.
وفضلاً عن هذا فإن هذه النظرة الوطنية الضيقة التي جهلت مكانها كجزء من الكل، لم تتوقف عند هذا الحد، بل أنها أعلنت استعلاءها بخصائصها التاريخية القديمة أو طبيعتها الخاصة، ثم ذهبت إلى أبعد من ذلك حين أعلنت الحرب والخصومة على الأجزاء المجاورة لها وإقامة سد عالٍ بينها وبينه؛ وذلك بهدف ألا تتصل الأجزاء مرة أخرى ولا تلتقي.
ولقد استمر هذا الاتجاه طويلاً، ثم جاءت بعد ذلك الدعوات القومية والدعوة العربية بالذات فكان لها أيضاً محاذيرها في كتابة التاريخ. فقد أخذ العرب يفصلون تاريخهم عن تاريخ الأمة الإسلامية، ويفصلون جغرافيتهم عن جغرافية العالم الإسلامي، وبدا كأنما العرب أمة قائمة بنفسها فكان لها تاريخها الخاص في الجاهلية ولم يكن الإسلام إلا نبتاً من النبات، وما تزال الأمة العربية هي الأمة العربية التي لم يغير فيها الإسلام شيئاً، ثم يجئ بعد ذلك الاستعلاء بدور العرب في الفتح والتوسع والحضارة.
وكل هذا أيضاً من آثار السيطرة الاستعمارية على التاريخ الإسلامي؛ في محاولة تمزيقه إلى تاريخ دول وأمم وإلى صبغ هذه التجزئة بالتعصب والاستعلاء العنصري.
ولذلك فقد كان من أخطر ما واجه التاريخ الإسلامي، هذه المجموعة من أتباع المستشرقين وحملة ألوية الفكر الغربي ودعاة التغريب الذين سيطروا على مجال التربية والتعليم، والذين مازالوا منبثين في عديد من الجامعات ومعاهد الإرساليات، حيث نجد الشباب المسلم يعرف عن نابليون أكثر من خالد بن الوليد وطارق بن زياد.(/1)
هؤلاء الذين يريدون تفسير تاريخنا الإسلامي في الإطار المحلي أو الإقليمي أو القومي أو الوطني؛ في سبيل إعلاء دعوة العنصرية أو العرق، مع أن الإسلام جاء ليقضي على استعلاء العنصرية والعرقية ويدعو إلى إقامة مجتمع الإخاء الإنساني العالمي.
كذلك فإن الدعوة إلى ربط التاريخ الحديث بالتاريخ القديم السابق للإسلام جاهلياً أو فرعونياً أو فينيقياً، إنما هو دعوة إلى أمر مستحيل؛ حيث سيطر الإسلام على الساحة الفكرية والاجتماعية والروحية والنفسية وللبشرية بعد أربعة عشر قرناً وقطع الصلة بينهم وبين الماضي قطعاً لا سبيل إلى إعادته، وقد أكد علماء كثيرون غربيون أيضاً نظرية "الانقطاع الحضاري ولا استمرارية التاريخ" في هذه المنطقة، والحاجز الضخم الذي أقامه الإسلام بين الأمم وبين ما كان لها من تاريخ ودين وعقيدة وفكر من قبل.
ذلك أن ظهور الإسلام –وهو كذلك في تقدير الباحثين الغربيين المنصفين- هو علامة بارزة على بدء تاريخ العصر الحديث حتى بالنسبة لعوالم الغرب نفسه، وأن كل ما سبق الإسلام من حركات التاريخ إنما كانت تمهيداً له، فالإسلام هو الذي حمل إلى البشرية لأول مرة "الأخوة البشرية" ووحدة الجنس الإنساني ووحدة الدين ووحدة الفكر بديلاً عن الوثنية في الفكر والعبودية في المجتمع، فهو الذي حرر الفرد في الجماعة وحرر النفس من عبادة غير الله وحرر العقل بالنظر إلى الكون؛ فدفعه إلى إنشاء المنهج العلمي التجريبي قاعدة الحضارة القائمة ولم يكن يعرف منه قبل الإسلام شئ ما.
كذلك الخطر الذي نواجهه في دراسة التاريخ: وهو تاريخ إسلامي أم تاريخ عربي أم تاريخ إسلامي عربي، وفي تسمية الحضارة هل هي إسلامية أم عربية، والفتوحات هل هي إسلامية أم عربية، والعلماء والمفكرون هل هم عرب أم فرس أم ترك.
كل هذه محاولات للتزييف وإثارة الشبهات وصرف الشباب المثقف عن الحقيقة التي هي معروفة ومقررة من أن الإسلام هو الذي أعطى العرب هذه الوحدة وهذه المكانة وهو الذي دفعهم في الأرض وأن هذه الحضارة وذلك الفتح وهذا العلم كله إنما جاء من الإسلام ولولا الإسلام ما استطاع العرب أن يقتحموا الآفاق أو يقيموا حضارة ما.
ونحن نعرف أن التراث الفكري الذي كان موجوداً قبل الإسلام سواء تراث بابل الغنوصي أو تراث فارس الوثني أو تراث اليونان المادي، إنما كان عبارة عن محاولات من البشر لتبرير رغبات الإنسان ومطامعه وأهوائه دون أن تكون قائمة على توحيد أو عدالة أو رحمة، وأن تراث الأديان نفسه كان قبل ذلك كله هو الضوء الوحيد الذي عرفته البشرية في طريقها، وأن هذا التراث قد حاولت التفسيرات الزائفة والدعوات المضللة أن تبدده وتمزقه وتخرجه عن مضمونه، حتى جاء الإسلام فألقى إلى البشرية تلك الحصيلة الضخمة البارة من العلم والفهم والإيمان والضياء؛ لإخراجهم من الظلمات إلى النور، وأن هذه الحصيلة وحدها هي التي فتحت الآفاق إلى النهضة والحضارة التي شملت أغلب أجزاء العالم إذ ذاك –هذا وإن كانت الحضارة الإسلامية قد استصفت إليها كل عصارات الفكر القديم وما وجدته صالحاً وصهرته في بوتقتها- ولم تترك إلا الزائف الفاسد.
ومن هنا فالحضارة إسلامية حقاً، وهؤلاء العلماء ليسوا غرباً وليسوا فُرساً وليسوا أتراكاً، وإنما هم مسلمون كونت عقلياتهم فكرة التوحيد وملأت نفوسهم كلمة القرآن وعمرت أرواحهم دعوة الله إلى النظر في السماوات والأرض، فكل ما أنتجوا إنما جاء من محيط القرآن والإسلام وليس من محيط بلادهم أو تراثهم، ذاك أن الإسلام إنما أعاد صياغة عقليات وقلوب ونفوس أربابه وأصحابه خلقاً جديداً فشكلهم على نمط جديد هو روح الإسلام، ومن قلب هذا الروح كان نتاجهم، ومن هنا فإن هذا التكوين النفسي والعقلي هو بمثابة الجنس والأخوة الإسلاميين.
إن منهج تفسير الإسلام للتاريخ هو المنطلق الوحيد للنظر في التاريخ الإسلامي العربي وإعادة كتابته من جديد، فإن التاريخ المكتوب الآن واقع تحت تأثير النظرة الاستشراقية التي تغض من شأن الإسلام لحساب خلفياتها الاستعمارية، أو النظرة القاصرة التي تستمد قدرتها من العقلية الغربية المسيحية التي لم تستوعب الفارق البعيد بين العقائد والأخلاق والقيم والتي تنطلق من مصدر واحد هو أن الإسلام دين عبادي لاهوتي محض، وهي نظرية المسيحية، أو نظرة الفكر الغربي المسيحي التي لا تعترف بأن الإسلام إنما هو نظام اجتماعي ومنهج حياة أصلاً وأن الدين بمعنى العبادة واللاهوت جزء منه.(/2)
فالغربي ينطلق من قاعدة أن الدين لله وأن المجتمع بكل شرائحه الاجتماعية والاقتصادية السياسية يخضع لنظريات بشرية وأيدلوجيات يصنعها الفلاسفة وليس كذلك الإسلام: الإسلام الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ليكون منهج حياة لهذه الأمة التي شرقت وغربت ووصلت إلى حدود نهر اللوار في فرنسا وإلى أسوار فينا في قلب أوربا والتي يشمل ضياؤها ذلك المدى الممتد من الصين إلى غرب أوربا، ومن هنا تبدأ القاعدة التي تقوم على التفسير الإسلامي للتاريخ.
فهل آمن دعاة إعادة كتابة التاريخ بهذه القاعدة الأصولية، أن عليهم أن يعلنوا ذلك صراحة وأن يلتزموا ذلك في كتابة أبحاثهم على أن يختار لهذا العمل كل من آمن بالإسلام وعاش له وامتلأت نفسه إيماناً بصدقه وبقدرته على تغيير حياة المسلمين ودعوتهم إلى القوة والعزة من جديد؛ ذلك لأن التفسير الإسلامي للتاريخ يؤمن بأن هزيمة المسلمين في السنوات الماضية وتقلبهم بين الغزو والنكسة والنكبة واقتطاع فلسطين وبيت المقدس، كل هذا إنما جاء ثمرة (التحول) الخطير الذي دفعهم إلى نفض أيديهم من مناهج مجتمعهم ونظام حياتهم الأصيل القرآني المصدر الرباني الأساسي، إلى التماس مناهج الأمم، هذه المناهج البشرية سواء منها الغربية أو الماركسية وأن هذا التفريط في منهجهم هو الذي ألقى إليهم هذه الهزائم والنكبات وأنه لا خلاص لهم مما هم فيه من هزيمة وتخلف إلا بالعودة مرة أخرى إلى التماس منهجهم الأصيل والاستمداد من النبع الأول: القرآن الكريم.
وأن هذه الظاهرة قد تكررت خلال تاريخهم مرات ومرات، فهم كلما نفضوا أيديهم من منهج القرآن ضربهم الله بالذل حتى يعودوا إليه (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً).
ذلك تفسير حركة التاريخ الإسلامي بين النصر والهزيمة.
كذلك فإن هناك ملحظاً أساسياً لابد من تقديره هو أن هناك فرقاً بعيداً وبوناً شاسعاً بين "المنهج" وبين "الواقع": بين المنهج الرباني الذي جاء به الإسلام والذي لا يتخلف ولا يتعثر والذي يحمل في تضاعيفه أسباب النصر والقوة ووسائل الهزيمة والتخلف.
وبين الواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون والذي هو التاريخ الإسلامي ولا يمكن أن يكون التاريخ الإسلامي حجة على المنهج أو مثاراً لتوجيه الشبهة إليه، بل على العكس من ذلك: أن المنهج هو الحجة لأنه هو عنصر الثبات وهو القوة التي يستمد منها المسلمون أسباب حياتهم وطريق عيشهم. فالمسلمون حين ينحرفون عنها تقع الأزمة وتبدأ عوامل الهزيمة.
وتاريخ الإسلام فيه النصر وفيه الهزيمة وكلاهما يرد إلى تطبيق المنهج أو التخلف عنه.
وفي تاريخ الإسلام الذي يعرض الآن ويقدم لأبنائنا زيف كثير لأنه يحاول أن يعلي شيئاً كثيراً من الروايات الباطلة في سبيل إثارة جو من الخصومة والخلاف بين الفرق المختلفة أو الأحزاب والدول، وذلك مما فرضه الاستعمار والاستشراق حتى يحتقر المسلمون تاريخهم وتضعف مكانته في نفوسهم.
وكذلك فإن هناك ازوراراً كبيراً عن المواقف الحاسمة والبطولات الضخمة، وذلك حتى لا ينبهر المسلمون بعظمة أجدادهم، ولا يعرفون حقيقة الدور الذي قاموا به في بناء الحضارة.
وكذلك فإن هناك ازوراراً كبيراً عن المواقف الحاسمة الاجتماعي آثاراً في التاريخ ولكن ليس لأحدهما أن يفترض أنه وحده العامل المؤثر؛ وإنما هي في مجموعها عوامل ذات أثر بدرجات متفاوتة، وهناك عامل آخر له أهميته ولا ينفصل أبداً في دراسة تاريخ الإسلام هو عامل العقيدة والوحي والنبوة، وإرادة الله العليا التي تتحرك من داخلها إرادة الإنسان والتي تفرض وجودها على حركة الكون كله.
وبعد فإننا نتطلع إلى إعادة كتابة تاريخ الإسلام بحرص كبير ونأمل من الغيورين أن يكونوا عوناً لأمتهم لتخرج من دائرة سيطرة الاستشراق والتغريب والغزو الثقافي.
(2)
إن المحاولة التي جرت منذ وقت بعيد في سبيل تفسير الإسلام (حركته ودعوته) تفسيراً مادياً صرفاً لا ريب تعجز أشد العجز عن أن تقول الكلمة الفاصلة؛ لأنها تعجز عن أن تستوفي الأبعاد المختلفة، والجوانب المتعددة، حين تضع بينها وبين الحقيقة حجاباً، هذه الحقيقة الممثلة في العوامل النفسية والمعنوية والروحية والفكرية وهي عوامل أشد أثراً وأبعد عمقاً وأكثر أهمية من الجانب المادي الواحد الذي هو أحد جوانب التفسير لا محالة ولكنه ليس واحدها وليس أكبر أهمية.
إن التفسير المادي أو الاقتصادي للتاريخ الإسلامي إنما يحاول أن يواجه البحر بإناء من ماء، أو الجنة الفيحاء بفسيلة من حطب.
لقد حاولت كتابات كثيرة في السنوات الأخيرة أن تتمثل الإسلام وكأنه ثورة الفقراء ضد الأغنياء فحسب، والحق أن الإسلام ليس ثورة موقوتة ولكنه حركة شاملة من حيث الزمن ومن حيث المضامين لتغير أشياء كثيرة: تغيير المجتمع وتغيير النفس وتغيير الأخلاق وتغيير الاقتصاد.(/3)
ومن هنا فإن الإسلام ليس هو التفسير الاقتصادي وليس محمد صلى الله عليه وسلم هو المصلح الاجتماعي أو رسول الحرية، وليس يكفي حين يذكر أن تورد شطر الآية الكريمة (قل إنما أنا بشر) فهذا تزييف؛ فإن الآية تقول (قل إنما أنا بشر يُوحَى إليّ أنَّما إلهكم إلهٌ واحِد).
لقد جاءت كتابات التفسير الاقتصادي ثم المادة متباينة حذرة في (على هامش السيرة وفي الفتنة الكبرى) ثم اتسعت بعد ذلك في (محمد رسول الحرية)، ونمت شبهاتها حتى لقد حرص الكثيرون على أن يربطوا بين هذه الآثار على ما بينها من فروق في الزمن واختلاف في المصادر والموارد، في إدعاء كاذب بأن مثل هذه الكتابات قد حاولت أن تعتمد على الوقائع لا على الخوارق، وقد ظن أصحابها أن المعجزات يمكن أن تسلك فيما يوصف في الغرب بأنه أساطير، ولا ريب أن لرسول الله معجزات غير القرآن، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يجد الطريق سهلاً إلى رسالته ولم يجد العرب مستعدين للنهضة فنهض بهم -كما يردد البعض- ومن هنا فإنه في نظرهم لم يكن في حاجة إلى معجزات أو خوارق.
ولا ريب أن هذا الادعاء باطل وأن وقائع حياة رسول الله بعد بعثته إلى هجرته خلال ثلاثة عشر عاماً تكشف في وضوح مدى المعاناة والظلم والاضطهاد في عشرات الصور والمواقف، مِما يدهش معه أي باحث كيف واجهت قريشاً والعرب دعوة التوحيد وقاومتها.
ومن هنا نعجب من قول أحدهم حين قال: "ومحمد بهذا ليس في حاجة إلى خارقة تعينه على إقناع الناس بما يقول؛ لأنه بما يقول إنما يستجيب لآمال الناس وأحلامهم".
ولقد تردد هذا القول قديماً في (النثر الفني) وفي بعض كتابات (الشعر الجاهلي) وغيره، وهو من زيف المستشرقين الذين يهدفون به إلى التقليل من عظمة الرسالة الإسلامية.
ولقد واجه العلامة فريد وجدي مثل هذه الشبهة حين قال: "إن قريشاً وهي أرقى القبائل لغة وفهماً ومكانة لم تقبل دعوة النبي إلا رجالاً ونساءً لا يزيد عددهم على بضع عشرات. ولو كانت قريش أقرب العرب إلى الحضارة لقبلت دعوة محمد بصدر رحب وأحلتها المكان اللائق بها ونهضت تحت قيادته لجمع كلمة القبائل وإبطال دينهم.
"إن اتباع النبي الأولين اضطهدوا اضطهاداً شديداً حتى هاجروا إلى بلاد الحبشة، وأن الجاهلين كانوا يهزءون بالدعوة للدين وبالداعي إليه، وأن النبي لبث على هذا الحال من الاضطهاد ثلاث عشرة سنة، ولما أنست قريش من النبي الهجرة قررت قتله وأرصدت له، ولما علم أهل مكة بأفلاته اقتفوا أثره، كل هذا ينطق بلسان فصيح أن قريشاً وهي مظنة النجابة والفهم من العرب في ذلك العهد لم تكن (وقد استعدت للملك بعد تطورات عديدة) فإن المجتمع الذي يقاتل الداعي للتجديد والنهوض بهذا النفور ويصبر عليه ثلاثة وعشرين سنة لا يزداد بعدها إلا عناداً وتشدداً لا يمكن أن يوصف بأنه مجتمع كان مستعداً للنهوض وأنه سرعان ما نهض مع النبي صلى الله عليه وسلم ..
كذلك فإن قريشاً لم ترفض الإسلام لأنه يقضي على نفوذها الاقتصادي وحده، ولكنها كانت تعلم أنه قضاء على كيانها الفكري والاجتماعي والديني جميعاً.
ومن هناك كان خطأ القائلين بالتفسير الاقتصادي، ذلك أن الأديان السماوية إنما تغير المجتمع كلية ومن الأساس، وهي حين تقصد أول ما تقصد فإنما تبني النفس الإنسانية وتشكلها تشكيلاً جديداً فيه صمود وصبر وقدرة على مواجهة الاضطهاد واحتمال البلاء وتهيئها لعمل كبير توهب فيه الأرواح والنفوس ويجل عن المعاني المادية.
ومن هناك كانت دهشة المستشرقين وغيرهم لعظمة الفتح الإسلامي الذي صنعه هؤلاء الذين بناهم محمد في خلال ثلاثة عشر عاماً في مكة وغير بهم الدنيا كلها وليس جزيرة العرب وحدها، لقد نظروا إلى هذا الفتح الذي تم في خلال بضع وسبعين سنة على أنه معجزة لم تفسر: نعم كانت تعرف قريشاً أن معارضة محمد لهم لن تفقدهم نفوذهم الاقتصادي ولكنها ستلغي كيانهم إلغاءً كاملاً بكل فكره وماضيه ومواقفه الاجتماعية والأدبية.
إنه تغيير جذري ليس الاقتصاد إلا جانب منه، تغيير في نظام الموءودة وزواج الأخت في العلاقة بين الأهل وفي القضاء (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا: اعدلوا هو أقرب للتقوى)، كان القوي إذا أذنب تركوه وإذا أذنب الضعيف أقاموا عليه الحد، الله تبارك وتعالى هو المشرع، تجريد الفرد من سلطانه ومن الخضوع لمقاييس الهوى، مقاييس جديدة ربانية لكل الأمور.
موقف جديد بالنسبة للقيم الكبرى: الحرب والعلم والكرم، فهي ليست موجهة للظهور أو الاستعلاء أو الجاه؛ ولكنها موجهة لله وحده، شعار لا إله إلا الله يغير المجتمع كله ويغير النفس الإنسانية على مختلف المستويات الدينية والاجتماعية والفكرية والنفسية والأخلاقية، ليست حركة طبقة ضد طبقة، ولا ثورة الفقراء على الأغنياء؛ فقد اشتركت فيها الطبقات واشترك فيها الأغنياء والفقراء، وخرج الأغنياء عن مالهم، وخرج الأبناء عن آباءهم وأنكروا ترفهم وفجورهم.
ويبدو ذلك واضحاً في لقاء المشركين للنبي:(/4)
إن كنتَ تريد ملكاً ملكناك علينا. وإن كنتَ تريد مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً. وتكون إجابة الرسول هي منطلق تفسير الإسلام: (والله يا عم: لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه: ما تركته).
ولم يكن موقف الرسول موقف المزايدة أو الموائمة أو الالتقاء في منتصف الطريق؛ بل كان حاسماً وكان رفضه لقيم المجتمع القديمة صريحة، أما ما أقره الإسلام من قيم الجاهلية، فكان من أنقاها، وتلك هي بقايا دين إبراهيم مِما لا يتعارض مع التوحيد.
وكان أبرز ما في دعوة الإسلام بناء الرجال على الصمود والصبر والجلد وعزلهم عن مجتمع الجاهلية بمختلف ألوان فجوره، حيث أجرى الإسلام تغييرهم من أعلى الرأس إلى أخمص القدم (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
كانت دعوة الإسلام مفاصلة بين الله وحده وبين الأهل والولد ومتاع الحياة كله، ولذلك فإن عدد الداخلين فيها كان قليلاً، وكانت المحن تتوالى لتصفية هذا القليل ودحر صلابة عوده.
كان الإسلام يستهدف بناء إنسان في سبيل فكره، ليس له في الدنيا نهمة ولا مطمع إلا أن يقدم روحه خالصة لله.
ومن هنا تعجز مقاييس التفسير المادي للتاريخ أو التفسير الاقتصادي للتاريخ أن تحيط بذلك كله وأن تعرف الفرق بين هذه القيم المعنوية التي لا تقاس بالمقاييس المحسوسة.
وإذا كانت هذه القيم المعنوية لا تقاس؛ لأنها ليست مادية محسوسة، فإنها تستطيع أن تكشف عن نفسها بآثارها، إن آثارها التي أنتجتها والتي يقف أمامها أصحاب المنهج المادي واجمين عاجزين هو الدليل عليها.
"ليس من المنهج العلمي الحق أن ينكر وجود القيم المعنوية أو الروحية أو النفسية لمجرد أنه لا يمكن أن يلمسها أو يراها، كما تلمس أو ترى الأشياء المادية فإن الأثر الذي تحدثه ينهض دليلاً محسوساً على وجودها".
إن المقاييس المادية والاقتصادية لتعجز أن تفسير كيف يبكي العائدون من الغزوات لأنهم لم يستشهدوا، ولا الذين لقوا لآبائهم في صفوف الكفار فقتلوهم، ولا الذين هاجروا وتركوا أموالهم وأولادهم واستأنفوا حياتهم في المدينة بدينار اقترضوه، ولا يستطيعون أن يفسروا كيف تنكسف الشمس يوم موت إبراهيم بن النبي، ثم يقف النبي فيعلن أن الشمس لا تنكسف لموت أحد، أو أن يقف النبي في حجة الوداع فيقول أنه يلغي كل الربا ويضعه، وأول ربا يضعه تحت قدميه هو ربا عمه العباس بن عبد المطلب"، أو يقول "والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها"، أو أن توضع الحجارة المحماة على صدر بلال فلا يزيده ذلك إلا أن يقول: أحد أحد.
كل هذا يعجز عن تفسيره المذهب المادي والمذهب الاقتصادي.
لقد كانت دعوة الإسلام شاملة تعجز عنها تفسيرات مذاهب الماديين، ويصدق في هذا نموذجان من القول:
أما أحدهما فقول فيليب حتي:
"لم يسجل التاريخ أن رجلاً واحداً سوى النبي محمد كان صاحب رسالة، وباني أمة ومؤسس دولة، هذه الثلاثة التي قام بها محمد كانت في نشأتها وحدة متلاحمة لا يمكن أن تنفصم الواحدة منها عن الأخرى، وكانت إلى حد ما متوافقة يشد بعضها أزر بعض، وكان الدين من بينها على مدى التاريخ القوة الواحدة، وكان أبقاها زمناً حتى إذا رحت تعد الناس في العالم اليوم وجدت أن السابع أو الثامن منهم يدعو نفسه مسلماً".
أما النص الثاني فهو قول: الأستاذ تريتون في كتابه "الإسلام عقيدته وعبادته":
"إذا صح في العقول أن التفسير المادي يمكن أن يكون صالحاً في تعليل بعض الظواهر التاريخية الكبرى وبيان أسباب قيام الدول وسقوطها، فإن هذا التفسير المادي يفشل فشلاً ذريعاً حين يرغب في أن يعلل وحدة العرب وغلبتهم على غيرهم وقيام حضارتهم واتساع رقعتهم وثبات أقدامهم. فلم يبق أمام المؤرخين إلا أن ينظروا في العلة الصحيحة لهذه الظاهرة فيرى أنها تقع في هذا الشيء الجديد: ألا وهو الإسلام" ..
ويقول ولفرد كانتول سميث في موقف الأمم المختلفة من تفسير التاريخ:
"الرجل الهندي لا يأبه للتاريخ ولا يحس بوجوده؛ فالهندي مشغول بعالم الروح ومن ثم فكل شيء في عالم الفناء المحدود لا قيمة له عنده ولا زون، أما المسيحي فيعيش بشخصية مزدوجة أو في عالمين منفصلين لا يربط بينهما رباط والمثل الأعلى عنده غير قابل للتطبيق والواقع البشري المطبق في الأرض منقطع عن المثل الأعلى.
أما الماركسي فهو قوي الإيمان بحتمية التاريخ، بمعنى أن كل خطوة تؤدي إلى الخطوة التالية، فهو لا يؤمن إلا بهذا العالم المحسوس، بل لا يؤمن إلا بالمذهب الماركسي وكل ما عداه باطل، والماركسي يتبع عجلة التاريخ ولكنه لا يوجهها.(/5)
أما المسلم فإنه يحس بالتاريخ إحساساً جاداً، إنه يؤمن بتحقيق ملكوت الله في الأرض، يؤمن بأن الله قد وضع نظاماً واقعياً عملياً يسير البشر في الأرض على مقتضاه، ويحاولون دائماً أن يصوغوا واقع الأرض في إطاره. ومن ثم فهو يعيش كل عمل فردي أو جماعي، وكل شعور فردي أو جماعي بمقدار قربه أو بعده من واقع الأرض لأنه قابل للتحقيق" ..
(3)
خطأ التفسير المادي لحياة الرسول
هناك محاولة مستمرة منذ أربعين عاماً تحاول أن تفسر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام وتاريخ الإسلام تفسيراً اقتصادياً أو مادياً، وهي ترمي من ذلك إلى أن تجعل من حياة الرسول بطولة عربية أو بطولة إقليمية أو بطولة أمة أو عبقرية أو دعوة إلى الحرية.
بدأت هذه المحاولات بكتابات عن حياة الرسول مجردة من المعجزات، محاولة أن تفسر جوانب الوحي وما يتصل بكثير نواميس الكون وقوانينه تفسيراً مجازياً أو منامياً، أو غير ذلك، ثم اتسع نطاق هذه المحاولات فوصفت حياة الرسول بأنها بطولة أو زعامة، ولا ريب أن الهدف من نفي النبوة هو مقدمة لنفي الألوهية.
وأن الهدف من نفي النبوة هو إنكار الوحي وبالتالي إنكار رسالة السماء جملة ومن هنا جاءت المحاولات المتعددة لوصف البطولة الإنسانية ووضع مقوماتها على نحو مختلف كل الاختلاف عن النبوة التي يختار الله تبارك وتعالى من يشاء لها من عباده ويعده في الأصلاب والأرحام جيلاً من بعد جيل.
1- فإذا تقررت في نظر الناس قوانين معينة للبطولة الفردية البشرية أمكن الطعن في النبوة؛ لأن هذه القوانين لا تتفق مع تقديرات الله التي تعلو على القوانين وتأخذ طابع المعجزات.
فالبطل في النظرية المادية، لابد أن يصدر عن أسرة موسرة، وعن ثقافة عالية، وعن أبوة حكيمة، أما بيئات الفقراء والأيتام والأميين فهي لا تصلح لإخراج البطل.
بينما تنقض النبوة هذه النظرية المادية نقضاً كاملاً وتكشف عن كذبها وتضليلها وتكشف عن قدرة الله في إغناء النبي بعد فقره وتعليمه وهدايته بعد أمية وإيوائه بعد يُتم، وفي هذا معنى المعجزة الإلهية التي تنكرها نظرية البطولة الغربية الوافدة.
2- والإسلام يقرر المعجزة، وهي الأمر الخارق الذي يحصل على يد نبي مرسل؛ تأكيداً لصدق نبوته، وليس في المعجزات منافاة للعلم المادي؛ وإنما هناك قصور من أجهزة العقل والإدراك عن معرفة الأسباب التي انعقدت لها المعجزة، فضلاً عن إيمان المسلم بأن الله تبارك وتعالى هو صانع السنن والنواميس والقوانين وهو وحده القادر على خرقها على النحو الذي كشفت عنه الكثير من المواقف مع الأنبياء، كالولادة لهم بعد سن الكبر للرجال واليأس للزوجة، والولادة من غير أب كما حدث للسيد المسيح عيسى بن مريم، وكتجريد النار من خاصية الحريق كما حدث لسيدنا إبراهيم، أو تجريد الخنجر من خاصية الذبح كما حدث لسيدنا إسماعيل، وهكذا، وتعرف المعجزة في علم المصطلحات الإسلامية بأنها حقيقة تخالف القواعد العامة وتعارض المجرى العادي للحوادث، وسببها فوق إدراك البشر، وهي حقيقة تتحدى كل مَن يرتاب فيها.
وفي مقدمة المعجزات معجزة القرآن فهي معجزة قائمة أبد الدهر، تمتاز عن معجزات الرسل والأنبياء بأنها باقية، ومعجزة القرآن إنما تمثل في مطابقته الدائمة لحقائق الماضي والحاضر والمستقبل، وصدق تحدياته للبش في عجزهم عن معارضته، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وفي الآيات التي أثبتتها ما تزال قائمة، تعجز الملوك والدول والأمم عن مواجهتها. وما تزال قائمة، تعجز الملوك والدول والأمم عن مواجهتها.
3- من ناحية أخرى فإن النبوة ضرورة أساسية للحياة البشرية وبناء الإنسان الفكرى والاجتماعي؛ فهي التي تحسم عشرات القضايا المصيرية التي تبقي بلا جواب عندما تقوم الريبة والشك في حقيقة الوحي.
إن الوحي هو الذي يضع النقاط على الحروف في تلك الشبهات التي تثير عوامل القلق والتمزق والصراع النفسي الذي يواجه الآن مجموعة الأمم التي ألحدت وفصلت ما بينها وبين نور الله.
4- إن عجز العقل عن فهم الغيبيات وما يتصل بها يكشف عن ضرورة الوحي والنبوة، فالعقل غير كاف وحده وغير قادر وحده.
"والوحي يعاضد العقل ويؤكد حكمه ويجعله موثوقاً فيما يصل العقل إلى معرفته فيكونا دليلين على مدلول واحد يرشد العقل ويهديه فيما لا يستقل بمعرفته مثل المعاد ويكشف عن وجود الأشياء التي لا يدرك العقل كنهها ومنهجها".
وقد التقى الوحي والعقل في القرآن لأول مرة في الفكر الإنساني والإسلام وأهله يؤمنون بأن المعرفة الإنسانية ليست قاصرة على معطيات الحس، وعلى حد تعبير الشيخ محمد عبده وقد نقلناه عنه "قد يعرص الدين شيئاً يتجاوز حدود الفهم، ولكن لا يعرض شيئاً يتجاوز حدود الإدراك مطلقاً".
5- ولقد امتدت النظرية الوافدة في البطولة والوحي والنبوة إلى القول بأن القرآن انطباع في نفس محمد صلى الله عليه وسلم.(/6)
وهو ليس كذلك أبداً؛ فهناك فارق واضح وعميق بين كلام النبي محمد ونظم القرآن الكريم يعرفه أهل البيان واللغة ويعرفون أبعاده ومداه.
وليس صحيحاً أن القرآن فيض من العقل الباطن في محاولة دعوة الإشادة بعبقرية محمد وألمعيته وصفاء نفسه، ولا ريب أن لمحمد كل صفات السمو النفسي، ولكنه وصفه بالنبي نسبة إلى الوحي الإلهي هي أكبر معطياته.
ومثل هذا القول إنما يرمي إلى محاولة خادعة لقطع الصلة بين المسلمين والقرآن؛ فإنه إن كان كلام محمد كان من عمل البشر.
وبذلك يفقد معناه الأسمى وجلاله الأعظم ويفقد "ثباته" الذي يعطيه تلك القدرة الضخمة على أن يكون الأساس الذي يرتبط به كل فكر والقاعدة التي يمتد عليها كل بناء والإطار الذي تجري فيه كل حركة، وهناك أدلة كثيرة تدحض هذه الدعوة، وأبسطها "أن محمداً كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فمن الذي أطلعه على أن ما في القرآن مصدق لما في التوراة" "وكان علمه بشئون قومه لا يزيد على علم غيره" فمن الذي أطلعه على تاريخ الأمم وقصص الأولين.
(وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطِلون).
6- ولقد جلى الباحثون المسلمون ظاهرة الوحي: وأكدوا "أنها ليست ظاهرة نفسية داخلية تنبعث من كيانه صلى الله عليه وسلم؛ وإنما هي حقيقة خارجية عن ذاته استقبلها من خارج كيانه، كما ينطق بذلك حديث بدء الوحي ومشاهد أخرى"(1).
"وإنما رأى محترفو الغزو الفكري في (ظاهرة الوحي): المنبع الأول للحقائق الدينية والكليات الاعتقادية ورأوا أنهم إذا استطاعوا تكدير صفاء هذا المعين الأول أمكنهم تكدير صفاء كل ما يتفرع منه واقتحام أسباب الدس والتشويش عليه.
"من أجل هذا زعم بعضهم أن الوحي في حياته صلى الله عليه وسلم إنما كان نوعاً من الإلهام الخفي، وزعم آخرون أن ذلك كان إشراقاً روحياً معيناً وأصرت جماعة أخرى على أنه كان يصاب بالصرع".
"والعجيب الرائع حقاً في حياته صلى الله عليه وسلم أن أمر الوحي له قام على أسس وحقائق تصفع هذه الأوهام صفعات تلقيها في متاهات الحمق والجنون".
7- ولقد تواجه الفلسفات الغربية حقيقة النبوة وظاهرة الوحي فتصفها بأنها وصاية على الإنسان الذي بلغ رشده وأصبح في غير حاجة إلى وصاية ما.
وذلك قوة من الزيف المسرف في إحسان الظن بالبشرية.
فهل استطاعت البشرة حقاً بعد هذا الزمن الطويل الذي قطعته(2) أن تكون راشدة، الواقع الذي تثبته وثائع التاريخ وأحداث الزمن أن البشرية ما زالت عاجزة عن حماية نفسها من المطامع والأهواء والحروب والمذابح والمظالم، بل لعلها قد بلغت بفضل تقدم العلم قدراً أكبر فهي التي تمضي في تهديد الأمم الضعيفة بقوى الذرة والتكنولوجيا، ولم يستطع تقدمها العلمي أن يرد إليها شيئاً من الإيمان أو العدل أو السماحة أو الارتفاع فوق الأهواء. ولذلك فهي لازالت في حاجة إلى رعاية رسالات السماء وفد أشد الحاجة إلى الوحي والنبوة، لقد تقدم الإنسان في مضمار السباق العلمي، ولكنه عجز عن فهم نفسه وحماية كيانه من المطامع وما تزال أهواؤه تحول بينه وبين توجيه هذه المعطيات لخير الإنسان.
ومن الحق أن يقال أن الإنسان لم يزل بعد عاجزاً عن أن يكون أميناً على نفسه أو جنسه ولن يستطيع ذلك إلا إذا آمن بالوحي والنبوة.
8- في ضوء هذا كله ننظر إلى تلك المحاولات التي جرت في تزييف سيرة الرسول:
أولاً: بإضافة الأساطير القديمة في (هامش السيرة).
ثانياً: بإنكار أن الإسراء كان بالروح والجسد في (حياة محمد).
ثالثاً: إنكار النبوة والوحي في (محمد رسول الحرية).
رابعاً: وصف النبي بالعبقرية دون الرسالة في (عبقرية محمد).
ولا ريب أن أبلغ أخطاء وصف النبوة بالعبقرية إنما هو في تعميم هذه الصفة على شخصيات أخرى لم تنفرد بالنبوة مما تجعلها تبدو كأنها محاولة إلى فرض مفهوم البشرية على الرسول الذي تفرد بالعصمة والوحي وامتاز بهما عن سائر صحابته.
ولا ريب أن العبقريات وقعت تحت سلطان الفكر الغربي الذي تشكل الكاتب في أحضانه ثم نفذ منه إلى دراسة الإسلام دون أن يقدر مدى الفارق الدقيق والعميق بين ذاتية الإسلام في مفاهيمه ومناهجه والعوامل التي شكلت أهله، ولم يلتفت أيضاً إلى تميز النبوة الوافر، فالنبي في (عبقرية محمد) إنسان له مواهب وملكات منفصلة تماماً عَن وحي السماء. وحين تجري مقارنته بنابليون أو غيره لا يلتفت تماماً إلى اختلاف النوع وانعدام الصلة حتى ليبدو إغفال الوحي إغفالاً كاملاً في دراسته. ولم يرد إعجاب المسلمين بالرسول وحبهم له دون حدود إلى الإسلام نفسه وإنما رده إلى شخصية الرسول.
__________
(1) راجع كتاب "قصة السيرة" للدكتور محمد سعيد البوطي.
(2) بتصرف من بحث للأستاذ محمد المجذوب.(/7)
يقول غازي التوبة في دراسته عن العبقريات: "فلو اقتص دخول المسلمين على إعجابهم بشخص الرسول وحبهم له وافتنانهم به لانتهت الدعوة الإسلامية بوفاة الرسول عليه الصلاة والسلام أو بعد فاته ريثما يزول سحر الافتتان، ولكن الدعوة الإسلامية استمرت قروناً طويلة؛ وما ذلك إلا لملاءمة الإسلام للفطرة البشرية التي انجذبت إليه في زمن الرسول ثم استمر الانجذاب في الأزمان التالية".
9- وغاية القول أن اعتماد كتابنا العرب والمسلمين في النظرة إلى النبوة والبطولة في ضوء تفاسير غربية إنما يحجب عنهم شيئاً كثيراً من الحق.
ذلك أن الغربيين عن طريق مفاهيم عقائدهم وفكرهم لا يفرقون بين الألوهية والنبوة، بينما نحن نفرق بينها تماماً.
كذلك فهو يرى أن الكتب المقدسة كتبها الرسل، ونحن نؤمن بأن الكتاب المنزل هو وحي من الله وليس من عمل النبي.
كذلك فهم يعيشون في إطار مفهوم الوثنية اليونانية القائمة على عبادة البطولة ورفع الفرد إلى مصاف الآلهة وأنصاف الآلهة. بينما يقصر المسلمون العظمة كلها والعبودية كلها لله سبحانه وتعالى.
كذلك فهم يجسدون البطولة في تماثيل، بينما لا يؤمن الإسلام بتجسيد البطولة ويركز مفهوم تقديرها في توجيه العمل البطولي نفسه خالصاً لله.
وقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قبل من أن الشمس كسفت لموت ابنه، واتخذ عمر من الهجرة مبدأ للتاريخ الإسلامي ولم يجعله شبيهاً بالأديان الأخرى حين اتخذوا مولد أنبيائهم.
10- أن أخطر ما استُدرج إليه الكتاب المسلمون والعرب من التبعية للمناهج الغربية في تقدير البطولة أو تفسيرها ذلك الاتجاه نحو الوراثة والطبائع الفردية، بينما يقوم منهج تفسير البطولة الإسلامي على تقدير الأثر الخطير الذي تُحدثه التربية والعقيدة في توجيه الإنسان وتحويله من حال إلى حال، ومن هنا يبدو خطأ الاعتماد على رأي لونبروزوا ومدرسته في تكوين البطل أو العبقري، ومن التعسف البالغ رد عظمة أبي بكر وعمر إلى ملكاتهم دون تقدير أثر الإسلام في تغيير النفوس وإعادة تشكيلها مرة أخرى.
لا ريب أن العقيدة الإسلامية هي التي حولت هذه الشخصيات وأعادت صياغتها من جديد في ضوء التوحيد وأخرجتها من شخصيتها القديمة وأن أي مقارنة بين حياة عمر قبل الإسلام وبعده تكشف عن ذلك بوضوح، كذلك يبدو هذا في نماذج أقل بطولة: يظهر ذلك في تحول الخنساء مثلاً.
ومن الحق أن يقال أن هذا الزيف في فرض منهج أو مذهب في تفسير النبوة على أنها بطولة أو عبقرية أو دعوة إلى حرية؛ إنما هو من أعمال الأيدلوجية التلمودية التي تهدف إلى تدمير قيم الوحي ورسالات السماء.
أنور الجندي(/8)
(3)
في سبيل إعادة كتابة تاريخ الإسلام
تتعالى الصيحات في الوقت الحاضر بالدعوة إلى إعادة كتابة تاريخ الإسلام بعد أن تبين للعلماء والباحثين أن الصورة الموجودة الآن في أيدي شبابنا وطلبة مدارسنا وجامعاتنا والتي صنعت في ظل الاستعمار وتشكلت أولاً في هذه البلاد التي سيطر عليها ليست بالصورة المثلى، ذلك أن هذه الصورة نبتت أساساً في ظل الاحتلال بعد أن انفصلت عن الدولة الأم: الدولة العثمانية. وعن الطابع الأساسي الذي أريد لها هو أن تكون كتابات محلية خالصة: لا تستهدف كتابة تاريخ الإسلام نفسه ولكن كتابة تاريخ الأوطان، ومن ثم انحازت هذه الكتابات للأمة أو القطر أو البلد وأعلت من شأن وجوده الخاص، وتاريخه القديم، واستوحت أشد الصفحات بعداً عن الأصالة وعن الرؤيا الصحيحة، فأعلى شأن الفرعونية والفينيقية والبابلية والآشورية والبربرية والزنجية وغيرها. فإذا عرض أمر الإسلام فإنما يعرض على هون وفي أسلوب يوحي بأن الأمم أو الأقطار كانت أكبر منه وأنها حين دخل عليها أقامته وسيطرت عليه، وعَدّته بعض الكتابات استعماراً أشبه بالاستعمار الفارسي والروماني.
ويرجع ذلك كله إلى أن النظرة الأساسية التي قامت عليها كتابة التاريخ نظرة استعمارية ووافدة، وحين فتحت الأفاق لدراسة تاريخ الإسلام، درس على أنه تاريخ الدولة أو الإمبراطورية التي قامت ثم تمزقت إلى دول. وحين عرض لم يعرض إلا من خلال خلافات بعض الملوك والأمراء والحكام وصراعاتهم الخاصة.
وكان التركيز شديداً على الخلاف الأول بين الصحابة (عثمان وعلي ومعاوية). في محاولة لتفسيره تفسيراً مادياً خطيراً بأنه صراع على الحكم.
وغلبت على دراسة التاريخ مذاهب الاستشراق وهي مذاهب غربية أصلاً قامت في ظل تاريخ أوربي وغربي له تحدياته وظروفه، مثل الصراع بين الكنيسة والعلماء، وبين الأمراء والشعب، وصراع المذاهب الكاثوليكية والبروتستانتية وذلك القتال الرهيب بين الملوك والدول والأمم.
هذا المذهب في تفسير التاريخ الذي كان مطبقاً في الغرب حاول المستشرقون نقله إلى أفق التاريخ الإسلامي رغبة في محاكمة هذا التاريخ إليه، فكان خطراً وفاسداً ومضطرباً؛ لأنه ليس متسقاً معه وليس منبعثاً من وجوده ومذاهب التاريخ والأدب والنقد وغيرها جميعاً لا يمكن أن تنقل من بيئة إلى أخرى، وإنما هي تنبع من بيئتها لأنها جزء من الثقافة الذاتية الخاصة القائمة على العقائد والتراث والعادات والطوابع العميقة للأمم.
ولكن الاستعمار ومن ورائه التغريب والغزو الثقافي فرض هذا المنهج من تفسير التاريخ على التاريخ الإسلامي فمزقه إرباً وأحاله أركاماً، فهو أولاً يدرسه مجزءاً واقعة واقعة، أو أنه يرجح رواية توافق الهوى أو أنه لا يفهم تيار التاريخ الإسلامي نفسه، هذا التيار الذي لا يفهمه إلا من يعرف منطلقه الأساسي كما رسمه القرآن الكريم وصورة الإسلام في أصوله وقيمه.
وقد استهدت هذه الدراسات بالطابع الوطني الخالص، الذي حجب عنها الصورة الكاملة للتاريخ بأبعادها حيث عجزت هذه الصورة أو تعمدت إلا تشير إلى أن هذا الوطن وهذه الدولة، ليست إلا جزءاً من الوطن الإسلامي ومن الدولة الإسلامية أساساً وأن الروابط بين الجزء والكل لا يمكن أن تنفصم؛ لأنها روابط عقدية ولغة وشريعة وتاريخ طويل وأمة وسطى جامعة لا يستطيع جزء منها أن ينفصل أو ينغلق مهما حاول ذلك أو حاوله له الاستعمار.
وفضلاً عن هذا فإن هذه النظرة الوطنية الضيقة التي جهلت مكانها كجزء من الكل، لم تتوقف عند هذا الحد، بل أنها أعلنت استعلاءها بخصائصها التاريخية القديمة أو طبيعتها الخاصة، ثم ذهبت إلى أبعد من ذلك حين أعلنت الحرب والخصومة على الأجزاء المجاورة لها وإقامة سد عالٍ بينها وبينه؛ وذلك بهدف ألا تتصل الأجزاء مرة أخرى ولا تلتقي.
ولقد استمر هذا الاتجاه طويلاً، ثم جاءت بعد ذلك الدعوات القومية والدعوة العربية بالذات فكان لها أيضاً محاذيرها في كتابة التاريخ. فقد أخذ العرب يفصلون تاريخهم عن تاريخ الأمة الإسلامية، ويفصلون جغرافيتهم عن جغرافية العالم الإسلامي، وبدا كأنما العرب أمة قائمة بنفسها فكان لها تاريخها الخاص في الجاهلية ولم يكن الإسلام إلا نبتاً من النبات، وما تزال الأمة العربية هي الأمة العربية التي لم يغير فيها الإسلام شيئاً، ثم يجئ بعد ذلك الاستعلاء بدور العرب في الفتح والتوسع والحضارة.
وكل هذا أيضاً من آثار السيطرة الاستعمارية على التاريخ الإسلامي؛ في محاولة تمزيقه إلى تاريخ دول وأمم وإلى صبغ هذه التجزئة بالتعصب والاستعلاء العنصري.
ولذلك فقد كان من أخطر ما واجه التاريخ الإسلامي، هذه المجموعة من أتباع المستشرقين وحملة ألوية الفكر الغربي ودعاة التغريب الذين سيطروا على مجال التربية والتعليم، والذين مازالوا منبثين في عديد من الجامعات ومعاهد الإرساليات، حيث نجد الشباب المسلم يعرف عن نابليون أكثر من خالد بن الوليد وطارق بن زياد.(/1)
هؤلاء الذين يريدون تفسير تاريخنا الإسلامي في الإطار المحلي أو الإقليمي أو القومي أو الوطني؛ في سبيل إعلاء دعوة العنصرية أو العرق، مع أن الإسلام جاء ليقضي على استعلاء العنصرية والعرقية ويدعو إلى إقامة مجتمع الإخاء الإنساني العالمي.
كذلك فإن الدعوة إلى ربط التاريخ الحديث بالتاريخ القديم السابق للإسلام جاهلياً أو فرعونياً أو فينيقياً، إنما هو دعوة إلى أمر مستحيل؛ حيث سيطر الإسلام على الساحة الفكرية والاجتماعية والروحية والنفسية وللبشرية بعد أربعة عشر قرناً وقطع الصلة بينهم وبين الماضي قطعاً لا سبيل إلى إعادته، وقد أكد علماء كثيرون غربيون أيضاً نظرية "الانقطاع الحضاري ولا استمرارية التاريخ" في هذه المنطقة، والحاجز الضخم الذي أقامه الإسلام بين الأمم وبين ما كان لها من تاريخ ودين وعقيدة وفكر من قبل.
ذلك أن ظهور الإسلام –وهو كذلك في تقدير الباحثين الغربيين المنصفين- هو علامة بارزة على بدء تاريخ العصر الحديث حتى بالنسبة لعوالم الغرب نفسه، وأن كل ما سبق الإسلام من حركات التاريخ إنما كانت تمهيداً له، فالإسلام هو الذي حمل إلى البشرية لأول مرة "الأخوة البشرية" ووحدة الجنس الإنساني ووحدة الدين ووحدة الفكر بديلاً عن الوثنية في الفكر والعبودية في المجتمع، فهو الذي حرر الفرد في الجماعة وحرر النفس من عبادة غير الله وحرر العقل بالنظر إلى الكون؛ فدفعه إلى إنشاء المنهج العلمي التجريبي قاعدة الحضارة القائمة ولم يكن يعرف منه قبل الإسلام شئ ما.
كذلك الخطر الذي نواجهه في دراسة التاريخ: وهو تاريخ إسلامي أم تاريخ عربي أم تاريخ إسلامي عربي، وفي تسمية الحضارة هل هي إسلامية أم عربية، والفتوحات هل هي إسلامية أم عربية، والعلماء والمفكرون هل هم عرب أم فرس أم ترك.
كل هذه محاولات للتزييف وإثارة الشبهات وصرف الشباب المثقف عن الحقيقة التي هي معروفة ومقررة من أن الإسلام هو الذي أعطى العرب هذه الوحدة وهذه المكانة وهو الذي دفعهم في الأرض وأن هذه الحضارة وذلك الفتح وهذا العلم كله إنما جاء من الإسلام ولولا الإسلام ما استطاع العرب أن يقتحموا الآفاق أو يقيموا حضارة ما.
ونحن نعرف أن التراث الفكري الذي كان موجوداً قبل الإسلام سواء تراث بابل الغنوصي أو تراث فارس الوثني أو تراث اليونان المادي، إنما كان عبارة عن محاولات من البشر لتبرير رغبات الإنسان ومطامعه وأهوائه دون أن تكون قائمة على توحيد أو عدالة أو رحمة، وأن تراث الأديان نفسه كان قبل ذلك كله هو الضوء الوحيد الذي عرفته البشرية في طريقها، وأن هذا التراث قد حاولت التفسيرات الزائفة والدعوات المضللة أن تبدده وتمزقه وتخرجه عن مضمونه، حتى جاء الإسلام فألقى إلى البشرية تلك الحصيلة الضخمة البارة من العلم والفهم والإيمان والضياء؛ لإخراجهم من الظلمات إلى النور، وأن هذه الحصيلة وحدها هي التي فتحت الآفاق إلى النهضة والحضارة التي شملت أغلب أجزاء العالم إذ ذاك –هذا وإن كانت الحضارة الإسلامية قد استصفت إليها كل عصارات الفكر القديم وما وجدته صالحاً وصهرته في بوتقتها- ولم تترك إلا الزائف الفاسد.
ومن هنا فالحضارة إسلامية حقاً، وهؤلاء العلماء ليسوا غرباً وليسوا فُرساً وليسوا أتراكاً، وإنما هم مسلمون كونت عقلياتهم فكرة التوحيد وملأت نفوسهم كلمة القرآن وعمرت أرواحهم دعوة الله إلى النظر في السماوات والأرض، فكل ما أنتجوا إنما جاء من محيط القرآن والإسلام وليس من محيط بلادهم أو تراثهم، ذاك أن الإسلام إنما أعاد صياغة عقليات وقلوب ونفوس أربابه وأصحابه خلقاً جديداً فشكلهم على نمط جديد هو روح الإسلام، ومن قلب هذا الروح كان نتاجهم، ومن هنا فإن هذا التكوين النفسي والعقلي هو بمثابة الجنس والأخوة الإسلاميين.
إن منهج تفسير الإسلام للتاريخ هو المنطلق الوحيد للنظر في التاريخ الإسلامي العربي وإعادة كتابته من جديد، فإن التاريخ المكتوب الآن واقع تحت تأثير النظرة الاستشراقية التي تغض من شأن الإسلام لحساب خلفياتها الاستعمارية، أو النظرة القاصرة التي تستمد قدرتها من العقلية الغربية المسيحية التي لم تستوعب الفارق البعيد بين العقائد والأخلاق والقيم والتي تنطلق من مصدر واحد هو أن الإسلام دين عبادي لاهوتي محض، وهي نظرية المسيحية، أو نظرة الفكر الغربي المسيحي التي لا تعترف بأن الإسلام إنما هو نظام اجتماعي ومنهج حياة أصلاً وأن الدين بمعنى العبادة واللاهوت جزء منه.(/2)
فالغربي ينطلق من قاعدة أن الدين لله وأن المجتمع بكل شرائحه الاجتماعية والاقتصادية السياسية يخضع لنظريات بشرية وأيدلوجيات يصنعها الفلاسفة وليس كذلك الإسلام: الإسلام الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ليكون منهج حياة لهذه الأمة التي شرقت وغربت ووصلت إلى حدود نهر اللوار في فرنسا وإلى أسوار فينا في قلب أوربا والتي يشمل ضياؤها ذلك المدى الممتد من الصين إلى غرب أوربا، ومن هنا تبدأ القاعدة التي تقوم على التفسير الإسلامي للتاريخ.
فهل آمن دعاة إعادة كتابة التاريخ بهذه القاعدة الأصولية، أن عليهم أن يعلنوا ذلك صراحة وأن يلتزموا ذلك في كتابة أبحاثهم على أن يختار لهذا العمل كل من آمن بالإسلام وعاش له وامتلأت نفسه إيماناً بصدقه وبقدرته على تغيير حياة المسلمين ودعوتهم إلى القوة والعزة من جديد؛ ذلك لأن التفسير الإسلامي للتاريخ يؤمن بأن هزيمة المسلمين في السنوات الماضية وتقلبهم بين الغزو والنكسة والنكبة واقتطاع فلسطين وبيت المقدس، كل هذا إنما جاء ثمرة (التحول) الخطير الذي دفعهم إلى نفض أيديهم من مناهج مجتمعهم ونظام حياتهم الأصيل القرآني المصدر الرباني الأساسي، إلى التماس مناهج الأمم، هذه المناهج البشرية سواء منها الغربية أو الماركسية وأن هذا التفريط في منهجهم هو الذي ألقى إليهم هذه الهزائم والنكبات وأنه لا خلاص لهم مما هم فيه من هزيمة وتخلف إلا بالعودة مرة أخرى إلى التماس منهجهم الأصيل والاستمداد من النبع الأول: القرآن الكريم.
وأن هذه الظاهرة قد تكررت خلال تاريخهم مرات ومرات، فهم كلما نفضوا أيديهم من منهج القرآن ضربهم الله بالذل حتى يعودوا إليه (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً).
ذلك تفسير حركة التاريخ الإسلامي بين النصر والهزيمة.
كذلك فإن هناك ملحظاً أساسياً لابد من تقديره هو أن هناك فرقاً بعيداً وبوناً شاسعاً بين "المنهج" وبين "الواقع": بين المنهج الرباني الذي جاء به الإسلام والذي لا يتخلف ولا يتعثر والذي يحمل في تضاعيفه أسباب النصر والقوة ووسائل الهزيمة والتخلف.
وبين الواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون والذي هو التاريخ الإسلامي ولا يمكن أن يكون التاريخ الإسلامي حجة على المنهج أو مثاراً لتوجيه الشبهة إليه، بل على العكس من ذلك: أن المنهج هو الحجة لأنه هو عنصر الثبات وهو القوة التي يستمد منها المسلمون أسباب حياتهم وطريق عيشهم. فالمسلمون حين ينحرفون عنها تقع الأزمة وتبدأ عوامل الهزيمة.
وتاريخ الإسلام فيه النصر وفيه الهزيمة وكلاهما يرد إلى تطبيق المنهج أو التخلف عنه.
وفي تاريخ الإسلام الذي يعرض الآن ويقدم لأبنائنا زيف كثير لأنه يحاول أن يعلي شيئاً كثيراً من الروايات الباطلة في سبيل إثارة جو من الخصومة والخلاف بين الفرق المختلفة أو الأحزاب والدول، وذلك مما فرضه الاستعمار والاستشراق حتى يحتقر المسلمون تاريخهم وتضعف مكانته في نفوسهم.
وكذلك فإن هناك ازوراراً كبيراً عن المواقف الحاسمة والبطولات الضخمة، وذلك حتى لا ينبهر المسلمون بعظمة أجدادهم، ولا يعرفون حقيقة الدور الذي قاموا به في بناء الحضارة.
وكذلك فإن هناك ازوراراً كبيراً عن المواقف الحاسمة الاجتماعي آثاراً في التاريخ ولكن ليس لأحدهما أن يفترض أنه وحده العامل المؤثر؛ وإنما هي في مجموعها عوامل ذات أثر بدرجات متفاوتة، وهناك عامل آخر له أهميته ولا ينفصل أبداً في دراسة تاريخ الإسلام هو عامل العقيدة والوحي والنبوة، وإرادة الله العليا التي تتحرك من داخلها إرادة الإنسان والتي تفرض وجودها على حركة الكون كله.
وبعد فإننا نتطلع إلى إعادة كتابة تاريخ الإسلام بحرص كبير ونأمل من الغيورين أن يكونوا عوناً لأمتهم لتخرج من دائرة سيطرة الاستشراق والتغريب والغزو الثقافي.
(2)
إن المحاولة التي جرت منذ وقت بعيد في سبيل تفسير الإسلام (حركته ودعوته) تفسيراً مادياً صرفاً لا ريب تعجز أشد العجز عن أن تقول الكلمة الفاصلة؛ لأنها تعجز عن أن تستوفي الأبعاد المختلفة، والجوانب المتعددة، حين تضع بينها وبين الحقيقة حجاباً، هذه الحقيقة الممثلة في العوامل النفسية والمعنوية والروحية والفكرية وهي عوامل أشد أثراً وأبعد عمقاً وأكثر أهمية من الجانب المادي الواحد الذي هو أحد جوانب التفسير لا محالة ولكنه ليس واحدها وليس أكبر أهمية.
إن التفسير المادي أو الاقتصادي للتاريخ الإسلامي إنما يحاول أن يواجه البحر بإناء من ماء، أو الجنة الفيحاء بفسيلة من حطب.
لقد حاولت كتابات كثيرة في السنوات الأخيرة أن تتمثل الإسلام وكأنه ثورة الفقراء ضد الأغنياء فحسب، والحق أن الإسلام ليس ثورة موقوتة ولكنه حركة شاملة من حيث الزمن ومن حيث المضامين لتغير أشياء كثيرة: تغيير المجتمع وتغيير النفس وتغيير الأخلاق وتغيير الاقتصاد.(/3)
ومن هنا فإن الإسلام ليس هو التفسير الاقتصادي وليس محمد صلى الله عليه وسلم هو المصلح الاجتماعي أو رسول الحرية، وليس يكفي حين يذكر أن تورد شطر الآية الكريمة (قل إنما أنا بشر) فهذا تزييف؛ فإن الآية تقول (قل إنما أنا بشر يُوحَى إليّ أنَّما إلهكم إلهٌ واحِد).
لقد جاءت كتابات التفسير الاقتصادي ثم المادة متباينة حذرة في (على هامش السيرة وفي الفتنة الكبرى) ثم اتسعت بعد ذلك في (محمد رسول الحرية)، ونمت شبهاتها حتى لقد حرص الكثيرون على أن يربطوا بين هذه الآثار على ما بينها من فروق في الزمن واختلاف في المصادر والموارد، في إدعاء كاذب بأن مثل هذه الكتابات قد حاولت أن تعتمد على الوقائع لا على الخوارق، وقد ظن أصحابها أن المعجزات يمكن أن تسلك فيما يوصف في الغرب بأنه أساطير، ولا ريب أن لرسول الله معجزات غير القرآن، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يجد الطريق سهلاً إلى رسالته ولم يجد العرب مستعدين للنهضة فنهض بهم -كما يردد البعض- ومن هنا فإنه في نظرهم لم يكن في حاجة إلى معجزات أو خوارق.
ولا ريب أن هذا الادعاء باطل وأن وقائع حياة رسول الله بعد بعثته إلى هجرته خلال ثلاثة عشر عاماً تكشف في وضوح مدى المعاناة والظلم والاضطهاد في عشرات الصور والمواقف، مِما يدهش معه أي باحث كيف واجهت قريشاً والعرب دعوة التوحيد وقاومتها.
ومن هنا نعجب من قول أحدهم حين قال: "ومحمد بهذا ليس في حاجة إلى خارقة تعينه على إقناع الناس بما يقول؛ لأنه بما يقول إنما يستجيب لآمال الناس وأحلامهم".
ولقد تردد هذا القول قديماً في (النثر الفني) وفي بعض كتابات (الشعر الجاهلي) وغيره، وهو من زيف المستشرقين الذين يهدفون به إلى التقليل من عظمة الرسالة الإسلامية.
ولقد واجه العلامة فريد وجدي مثل هذه الشبهة حين قال: "إن قريشاً وهي أرقى القبائل لغة وفهماً ومكانة لم تقبل دعوة النبي إلا رجالاً ونساءً لا يزيد عددهم على بضع عشرات. ولو كانت قريش أقرب العرب إلى الحضارة لقبلت دعوة محمد بصدر رحب وأحلتها المكان اللائق بها ونهضت تحت قيادته لجمع كلمة القبائل وإبطال دينهم.
"إن اتباع النبي الأولين اضطهدوا اضطهاداً شديداً حتى هاجروا إلى بلاد الحبشة، وأن الجاهلين كانوا يهزءون بالدعوة للدين وبالداعي إليه، وأن النبي لبث على هذا الحال من الاضطهاد ثلاث عشرة سنة، ولما أنست قريش من النبي الهجرة قررت قتله وأرصدت له، ولما علم أهل مكة بأفلاته اقتفوا أثره، كل هذا ينطق بلسان فصيح أن قريشاً وهي مظنة النجابة والفهم من العرب في ذلك العهد لم تكن (وقد استعدت للملك بعد تطورات عديدة) فإن المجتمع الذي يقاتل الداعي للتجديد والنهوض بهذا النفور ويصبر عليه ثلاثة وعشرين سنة لا يزداد بعدها إلا عناداً وتشدداً لا يمكن أن يوصف بأنه مجتمع كان مستعداً للنهوض وأنه سرعان ما نهض مع النبي صلى الله عليه وسلم ..
كذلك فإن قريشاً لم ترفض الإسلام لأنه يقضي على نفوذها الاقتصادي وحده، ولكنها كانت تعلم أنه قضاء على كيانها الفكري والاجتماعي والديني جميعاً.
ومن هناك كان خطأ القائلين بالتفسير الاقتصادي، ذلك أن الأديان السماوية إنما تغير المجتمع كلية ومن الأساس، وهي حين تقصد أول ما تقصد فإنما تبني النفس الإنسانية وتشكلها تشكيلاً جديداً فيه صمود وصبر وقدرة على مواجهة الاضطهاد واحتمال البلاء وتهيئها لعمل كبير توهب فيه الأرواح والنفوس ويجل عن المعاني المادية.
ومن هناك كانت دهشة المستشرقين وغيرهم لعظمة الفتح الإسلامي الذي صنعه هؤلاء الذين بناهم محمد في خلال ثلاثة عشر عاماً في مكة وغير بهم الدنيا كلها وليس جزيرة العرب وحدها، لقد نظروا إلى هذا الفتح الذي تم في خلال بضع وسبعين سنة على أنه معجزة لم تفسر: نعم كانت تعرف قريشاً أن معارضة محمد لهم لن تفقدهم نفوذهم الاقتصادي ولكنها ستلغي كيانهم إلغاءً كاملاً بكل فكره وماضيه ومواقفه الاجتماعية والأدبية.
إنه تغيير جذري ليس الاقتصاد إلا جانب منه، تغيير في نظام الموءودة وزواج الأخت في العلاقة بين الأهل وفي القضاء (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا: اعدلوا هو أقرب للتقوى)، كان القوي إذا أذنب تركوه وإذا أذنب الضعيف أقاموا عليه الحد، الله تبارك وتعالى هو المشرع، تجريد الفرد من سلطانه ومن الخضوع لمقاييس الهوى، مقاييس جديدة ربانية لكل الأمور.
موقف جديد بالنسبة للقيم الكبرى: الحرب والعلم والكرم، فهي ليست موجهة للظهور أو الاستعلاء أو الجاه؛ ولكنها موجهة لله وحده، شعار لا إله إلا الله يغير المجتمع كله ويغير النفس الإنسانية على مختلف المستويات الدينية والاجتماعية والفكرية والنفسية والأخلاقية، ليست حركة طبقة ضد طبقة، ولا ثورة الفقراء على الأغنياء؛ فقد اشتركت فيها الطبقات واشترك فيها الأغنياء والفقراء، وخرج الأغنياء عن مالهم، وخرج الأبناء عن آباءهم وأنكروا ترفهم وفجورهم.
ويبدو ذلك واضحاً في لقاء المشركين للنبي:(/4)
إن كنتَ تريد ملكاً ملكناك علينا. وإن كنتَ تريد مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً. وتكون إجابة الرسول هي منطلق تفسير الإسلام: (والله يا عم: لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه: ما تركته).
ولم يكن موقف الرسول موقف المزايدة أو الموائمة أو الالتقاء في منتصف الطريق؛ بل كان حاسماً وكان رفضه لقيم المجتمع القديمة صريحة، أما ما أقره الإسلام من قيم الجاهلية، فكان من أنقاها، وتلك هي بقايا دين إبراهيم مِما لا يتعارض مع التوحيد.
وكان أبرز ما في دعوة الإسلام بناء الرجال على الصمود والصبر والجلد وعزلهم عن مجتمع الجاهلية بمختلف ألوان فجوره، حيث أجرى الإسلام تغييرهم من أعلى الرأس إلى أخمص القدم (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
كانت دعوة الإسلام مفاصلة بين الله وحده وبين الأهل والولد ومتاع الحياة كله، ولذلك فإن عدد الداخلين فيها كان قليلاً، وكانت المحن تتوالى لتصفية هذا القليل ودحر صلابة عوده.
كان الإسلام يستهدف بناء إنسان في سبيل فكره، ليس له في الدنيا نهمة ولا مطمع إلا أن يقدم روحه خالصة لله.
ومن هنا تعجز مقاييس التفسير المادي للتاريخ أو التفسير الاقتصادي للتاريخ أن تحيط بذلك كله وأن تعرف الفرق بين هذه القيم المعنوية التي لا تقاس بالمقاييس المحسوسة.
وإذا كانت هذه القيم المعنوية لا تقاس؛ لأنها ليست مادية محسوسة، فإنها تستطيع أن تكشف عن نفسها بآثارها، إن آثارها التي أنتجتها والتي يقف أمامها أصحاب المنهج المادي واجمين عاجزين هو الدليل عليها.
"ليس من المنهج العلمي الحق أن ينكر وجود القيم المعنوية أو الروحية أو النفسية لمجرد أنه لا يمكن أن يلمسها أو يراها، كما تلمس أو ترى الأشياء المادية فإن الأثر الذي تحدثه ينهض دليلاً محسوساً على وجودها".
إن المقاييس المادية والاقتصادية لتعجز أن تفسير كيف يبكي العائدون من الغزوات لأنهم لم يستشهدوا، ولا الذين لقوا لآبائهم في صفوف الكفار فقتلوهم، ولا الذين هاجروا وتركوا أموالهم وأولادهم واستأنفوا حياتهم في المدينة بدينار اقترضوه، ولا يستطيعون أن يفسروا كيف تنكسف الشمس يوم موت إبراهيم بن النبي، ثم يقف النبي فيعلن أن الشمس لا تنكسف لموت أحد، أو أن يقف النبي في حجة الوداع فيقول أنه يلغي كل الربا ويضعه، وأول ربا يضعه تحت قدميه هو ربا عمه العباس بن عبد المطلب"، أو يقول "والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها"، أو أن توضع الحجارة المحماة على صدر بلال فلا يزيده ذلك إلا أن يقول: أحد أحد.
كل هذا يعجز عن تفسيره المذهب المادي والمذهب الاقتصادي.
لقد كانت دعوة الإسلام شاملة تعجز عنها تفسيرات مذاهب الماديين، ويصدق في هذا نموذجان من القول:
أما أحدهما فقول فيليب حتي:
"لم يسجل التاريخ أن رجلاً واحداً سوى النبي محمد كان صاحب رسالة، وباني أمة ومؤسس دولة، هذه الثلاثة التي قام بها محمد كانت في نشأتها وحدة متلاحمة لا يمكن أن تنفصم الواحدة منها عن الأخرى، وكانت إلى حد ما متوافقة يشد بعضها أزر بعض، وكان الدين من بينها على مدى التاريخ القوة الواحدة، وكان أبقاها زمناً حتى إذا رحت تعد الناس في العالم اليوم وجدت أن السابع أو الثامن منهم يدعو نفسه مسلماً".
أما النص الثاني فهو قول: الأستاذ تريتون في كتابه "الإسلام عقيدته وعبادته":
"إذا صح في العقول أن التفسير المادي يمكن أن يكون صالحاً في تعليل بعض الظواهر التاريخية الكبرى وبيان أسباب قيام الدول وسقوطها، فإن هذا التفسير المادي يفشل فشلاً ذريعاً حين يرغب في أن يعلل وحدة العرب وغلبتهم على غيرهم وقيام حضارتهم واتساع رقعتهم وثبات أقدامهم. فلم يبق أمام المؤرخين إلا أن ينظروا في العلة الصحيحة لهذه الظاهرة فيرى أنها تقع في هذا الشيء الجديد: ألا وهو الإسلام" ..
ويقول ولفرد كانتول سميث في موقف الأمم المختلفة من تفسير التاريخ:
"الرجل الهندي لا يأبه للتاريخ ولا يحس بوجوده؛ فالهندي مشغول بعالم الروح ومن ثم فكل شيء في عالم الفناء المحدود لا قيمة له عنده ولا زون، أما المسيحي فيعيش بشخصية مزدوجة أو في عالمين منفصلين لا يربط بينهما رباط والمثل الأعلى عنده غير قابل للتطبيق والواقع البشري المطبق في الأرض منقطع عن المثل الأعلى.
أما الماركسي فهو قوي الإيمان بحتمية التاريخ، بمعنى أن كل خطوة تؤدي إلى الخطوة التالية، فهو لا يؤمن إلا بهذا العالم المحسوس، بل لا يؤمن إلا بالمذهب الماركسي وكل ما عداه باطل، والماركسي يتبع عجلة التاريخ ولكنه لا يوجهها.(/5)
أما المسلم فإنه يحس بالتاريخ إحساساً جاداً، إنه يؤمن بتحقيق ملكوت الله في الأرض، يؤمن بأن الله قد وضع نظاماً واقعياً عملياً يسير البشر في الأرض على مقتضاه، ويحاولون دائماً أن يصوغوا واقع الأرض في إطاره. ومن ثم فهو يعيش كل عمل فردي أو جماعي، وكل شعور فردي أو جماعي بمقدار قربه أو بعده من واقع الأرض لأنه قابل للتحقيق" ..
(3)
خطأ التفسير المادي لحياة الرسول
هناك محاولة مستمرة منذ أربعين عاماً تحاول أن تفسر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام وتاريخ الإسلام تفسيراً اقتصادياً أو مادياً، وهي ترمي من ذلك إلى أن تجعل من حياة الرسول بطولة عربية أو بطولة إقليمية أو بطولة أمة أو عبقرية أو دعوة إلى الحرية.
بدأت هذه المحاولات بكتابات عن حياة الرسول مجردة من المعجزات، محاولة أن تفسر جوانب الوحي وما يتصل بكثير نواميس الكون وقوانينه تفسيراً مجازياً أو منامياً، أو غير ذلك، ثم اتسع نطاق هذه المحاولات فوصفت حياة الرسول بأنها بطولة أو زعامة، ولا ريب أن الهدف من نفي النبوة هو مقدمة لنفي الألوهية.
وأن الهدف من نفي النبوة هو إنكار الوحي وبالتالي إنكار رسالة السماء جملة ومن هنا جاءت المحاولات المتعددة لوصف البطولة الإنسانية ووضع مقوماتها على نحو مختلف كل الاختلاف عن النبوة التي يختار الله تبارك وتعالى من يشاء لها من عباده ويعده في الأصلاب والأرحام جيلاً من بعد جيل.
1- فإذا تقررت في نظر الناس قوانين معينة للبطولة الفردية البشرية أمكن الطعن في النبوة؛ لأن هذه القوانين لا تتفق مع تقديرات الله التي تعلو على القوانين وتأخذ طابع المعجزات.
فالبطل في النظرية المادية، لابد أن يصدر عن أسرة موسرة، وعن ثقافة عالية، وعن أبوة حكيمة، أما بيئات الفقراء والأيتام والأميين فهي لا تصلح لإخراج البطل.
بينما تنقض النبوة هذه النظرية المادية نقضاً كاملاً وتكشف عن كذبها وتضليلها وتكشف عن قدرة الله في إغناء النبي بعد فقره وتعليمه وهدايته بعد أمية وإيوائه بعد يُتم، وفي هذا معنى المعجزة الإلهية التي تنكرها نظرية البطولة الغربية الوافدة.
2- والإسلام يقرر المعجزة، وهي الأمر الخارق الذي يحصل على يد نبي مرسل؛ تأكيداً لصدق نبوته، وليس في المعجزات منافاة للعلم المادي؛ وإنما هناك قصور من أجهزة العقل والإدراك عن معرفة الأسباب التي انعقدت لها المعجزة، فضلاً عن إيمان المسلم بأن الله تبارك وتعالى هو صانع السنن والنواميس والقوانين وهو وحده القادر على خرقها على النحو الذي كشفت عنه الكثير من المواقف مع الأنبياء، كالولادة لهم بعد سن الكبر للرجال واليأس للزوجة، والولادة من غير أب كما حدث للسيد المسيح عيسى بن مريم، وكتجريد النار من خاصية الحريق كما حدث لسيدنا إبراهيم، أو تجريد الخنجر من خاصية الذبح كما حدث لسيدنا إسماعيل، وهكذا، وتعرف المعجزة في علم المصطلحات الإسلامية بأنها حقيقة تخالف القواعد العامة وتعارض المجرى العادي للحوادث، وسببها فوق إدراك البشر، وهي حقيقة تتحدى كل مَن يرتاب فيها.
وفي مقدمة المعجزات معجزة القرآن فهي معجزة قائمة أبد الدهر، تمتاز عن معجزات الرسل والأنبياء بأنها باقية، ومعجزة القرآن إنما تمثل في مطابقته الدائمة لحقائق الماضي والحاضر والمستقبل، وصدق تحدياته للبش في عجزهم عن معارضته، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وفي الآيات التي أثبتتها ما تزال قائمة، تعجز الملوك والدول والأمم عن مواجهتها. وما تزال قائمة، تعجز الملوك والدول والأمم عن مواجهتها.
3- من ناحية أخرى فإن النبوة ضرورة أساسية للحياة البشرية وبناء الإنسان الفكرى والاجتماعي؛ فهي التي تحسم عشرات القضايا المصيرية التي تبقي بلا جواب عندما تقوم الريبة والشك في حقيقة الوحي.
إن الوحي هو الذي يضع النقاط على الحروف في تلك الشبهات التي تثير عوامل القلق والتمزق والصراع النفسي الذي يواجه الآن مجموعة الأمم التي ألحدت وفصلت ما بينها وبين نور الله.
4- إن عجز العقل عن فهم الغيبيات وما يتصل بها يكشف عن ضرورة الوحي والنبوة، فالعقل غير كاف وحده وغير قادر وحده.
"والوحي يعاضد العقل ويؤكد حكمه ويجعله موثوقاً فيما يصل العقل إلى معرفته فيكونا دليلين على مدلول واحد يرشد العقل ويهديه فيما لا يستقل بمعرفته مثل المعاد ويكشف عن وجود الأشياء التي لا يدرك العقل كنهها ومنهجها".
وقد التقى الوحي والعقل في القرآن لأول مرة في الفكر الإنساني والإسلام وأهله يؤمنون بأن المعرفة الإنسانية ليست قاصرة على معطيات الحس، وعلى حد تعبير الشيخ محمد عبده وقد نقلناه عنه "قد يعرص الدين شيئاً يتجاوز حدود الفهم، ولكن لا يعرض شيئاً يتجاوز حدود الإدراك مطلقاً".
5- ولقد امتدت النظرية الوافدة في البطولة والوحي والنبوة إلى القول بأن القرآن انطباع في نفس محمد صلى الله عليه وسلم.(/6)
وهو ليس كذلك أبداً؛ فهناك فارق واضح وعميق بين كلام النبي محمد ونظم القرآن الكريم يعرفه أهل البيان واللغة ويعرفون أبعاده ومداه.
وليس صحيحاً أن القرآن فيض من العقل الباطن في محاولة دعوة الإشادة بعبقرية محمد وألمعيته وصفاء نفسه، ولا ريب أن لمحمد كل صفات السمو النفسي، ولكنه وصفه بالنبي نسبة إلى الوحي الإلهي هي أكبر معطياته.
ومثل هذا القول إنما يرمي إلى محاولة خادعة لقطع الصلة بين المسلمين والقرآن؛ فإنه إن كان كلام محمد كان من عمل البشر.
وبذلك يفقد معناه الأسمى وجلاله الأعظم ويفقد "ثباته" الذي يعطيه تلك القدرة الضخمة على أن يكون الأساس الذي يرتبط به كل فكر والقاعدة التي يمتد عليها كل بناء والإطار الذي تجري فيه كل حركة، وهناك أدلة كثيرة تدحض هذه الدعوة، وأبسطها "أن محمداً كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فمن الذي أطلعه على أن ما في القرآن مصدق لما في التوراة" "وكان علمه بشئون قومه لا يزيد على علم غيره" فمن الذي أطلعه على تاريخ الأمم وقصص الأولين.
(وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطِلون).
6- ولقد جلى الباحثون المسلمون ظاهرة الوحي: وأكدوا "أنها ليست ظاهرة نفسية داخلية تنبعث من كيانه صلى الله عليه وسلم؛ وإنما هي حقيقة خارجية عن ذاته استقبلها من خارج كيانه، كما ينطق بذلك حديث بدء الوحي ومشاهد أخرى"(1).
"وإنما رأى محترفو الغزو الفكري في (ظاهرة الوحي): المنبع الأول للحقائق الدينية والكليات الاعتقادية ورأوا أنهم إذا استطاعوا تكدير صفاء هذا المعين الأول أمكنهم تكدير صفاء كل ما يتفرع منه واقتحام أسباب الدس والتشويش عليه.
"من أجل هذا زعم بعضهم أن الوحي في حياته صلى الله عليه وسلم إنما كان نوعاً من الإلهام الخفي، وزعم آخرون أن ذلك كان إشراقاً روحياً معيناً وأصرت جماعة أخرى على أنه كان يصاب بالصرع".
"والعجيب الرائع حقاً في حياته صلى الله عليه وسلم أن أمر الوحي له قام على أسس وحقائق تصفع هذه الأوهام صفعات تلقيها في متاهات الحمق والجنون".
7- ولقد تواجه الفلسفات الغربية حقيقة النبوة وظاهرة الوحي فتصفها بأنها وصاية على الإنسان الذي بلغ رشده وأصبح في غير حاجة إلى وصاية ما.
وذلك قوة من الزيف المسرف في إحسان الظن بالبشرية.
فهل استطاعت البشرة حقاً بعد هذا الزمن الطويل الذي قطعته(2) أن تكون راشدة، الواقع الذي تثبته وثائع التاريخ وأحداث الزمن أن البشرية ما زالت عاجزة عن حماية نفسها من المطامع والأهواء والحروب والمذابح والمظالم، بل لعلها قد بلغت بفضل تقدم العلم قدراً أكبر فهي التي تمضي في تهديد الأمم الضعيفة بقوى الذرة والتكنولوجيا، ولم يستطع تقدمها العلمي أن يرد إليها شيئاً من الإيمان أو العدل أو السماحة أو الارتفاع فوق الأهواء. ولذلك فهي لازالت في حاجة إلى رعاية رسالات السماء وفد أشد الحاجة إلى الوحي والنبوة، لقد تقدم الإنسان في مضمار السباق العلمي، ولكنه عجز عن فهم نفسه وحماية كيانه من المطامع وما تزال أهواؤه تحول بينه وبين توجيه هذه المعطيات لخير الإنسان.
ومن الحق أن يقال أن الإنسان لم يزل بعد عاجزاً عن أن يكون أميناً على نفسه أو جنسه ولن يستطيع ذلك إلا إذا آمن بالوحي والنبوة.
8- في ضوء هذا كله ننظر إلى تلك المحاولات التي جرت في تزييف سيرة الرسول:
أولاً: بإضافة الأساطير القديمة في (هامش السيرة).
ثانياً: بإنكار أن الإسراء كان بالروح والجسد في (حياة محمد).
ثالثاً: إنكار النبوة والوحي في (محمد رسول الحرية).
رابعاً: وصف النبي بالعبقرية دون الرسالة في (عبقرية محمد).
ولا ريب أن أبلغ أخطاء وصف النبوة بالعبقرية إنما هو في تعميم هذه الصفة على شخصيات أخرى لم تنفرد بالنبوة مما تجعلها تبدو كأنها محاولة إلى فرض مفهوم البشرية على الرسول الذي تفرد بالعصمة والوحي وامتاز بهما عن سائر صحابته.
ولا ريب أن العبقريات وقعت تحت سلطان الفكر الغربي الذي تشكل الكاتب في أحضانه ثم نفذ منه إلى دراسة الإسلام دون أن يقدر مدى الفارق الدقيق والعميق بين ذاتية الإسلام في مفاهيمه ومناهجه والعوامل التي شكلت أهله، ولم يلتفت أيضاً إلى تميز النبوة الوافر، فالنبي في (عبقرية محمد) إنسان له مواهب وملكات منفصلة تماماً عَن وحي السماء. وحين تجري مقارنته بنابليون أو غيره لا يلتفت تماماً إلى اختلاف النوع وانعدام الصلة حتى ليبدو إغفال الوحي إغفالاً كاملاً في دراسته. ولم يرد إعجاب المسلمين بالرسول وحبهم له دون حدود إلى الإسلام نفسه وإنما رده إلى شخصية الرسول.
__________
(1) راجع كتاب "قصة السيرة" للدكتور محمد سعيد البوطي.
(2) بتصرف من بحث للأستاذ محمد المجذوب.(/7)
يقول غازي التوبة في دراسته عن العبقريات: "فلو اقتص دخول المسلمين على إعجابهم بشخص الرسول وحبهم له وافتنانهم به لانتهت الدعوة الإسلامية بوفاة الرسول عليه الصلاة والسلام أو بعد فاته ريثما يزول سحر الافتتان، ولكن الدعوة الإسلامية استمرت قروناً طويلة؛ وما ذلك إلا لملاءمة الإسلام للفطرة البشرية التي انجذبت إليه في زمن الرسول ثم استمر الانجذاب في الأزمان التالية".
9- وغاية القول أن اعتماد كتابنا العرب والمسلمين في النظرة إلى النبوة والبطولة في ضوء تفاسير غربية إنما يحجب عنهم شيئاً كثيراً من الحق.
ذلك أن الغربيين عن طريق مفاهيم عقائدهم وفكرهم لا يفرقون بين الألوهية والنبوة، بينما نحن نفرق بينها تماماً.
كذلك فهو يرى أن الكتب المقدسة كتبها الرسل، ونحن نؤمن بأن الكتاب المنزل هو وحي من الله وليس من عمل النبي.
كذلك فهم يعيشون في إطار مفهوم الوثنية اليونانية القائمة على عبادة البطولة ورفع الفرد إلى مصاف الآلهة وأنصاف الآلهة. بينما يقصر المسلمون العظمة كلها والعبودية كلها لله سبحانه وتعالى.
كذلك فهم يجسدون البطولة في تماثيل، بينما لا يؤمن الإسلام بتجسيد البطولة ويركز مفهوم تقديرها في توجيه العمل البطولي نفسه خالصاً لله.
وقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قبل من أن الشمس كسفت لموت ابنه، واتخذ عمر من الهجرة مبدأ للتاريخ الإسلامي ولم يجعله شبيهاً بالأديان الأخرى حين اتخذوا مولد أنبيائهم.
10- أن أخطر ما استُدرج إليه الكتاب المسلمون والعرب من التبعية للمناهج الغربية في تقدير البطولة أو تفسيرها ذلك الاتجاه نحو الوراثة والطبائع الفردية، بينما يقوم منهج تفسير البطولة الإسلامي على تقدير الأثر الخطير الذي تُحدثه التربية والعقيدة في توجيه الإنسان وتحويله من حال إلى حال، ومن هنا يبدو خطأ الاعتماد على رأي لونبروزوا ومدرسته في تكوين البطل أو العبقري، ومن التعسف البالغ رد عظمة أبي بكر وعمر إلى ملكاتهم دون تقدير أثر الإسلام في تغيير النفوس وإعادة تشكيلها مرة أخرى.
لا ريب أن العقيدة الإسلامية هي التي حولت هذه الشخصيات وأعادت صياغتها من جديد في ضوء التوحيد وأخرجتها من شخصيتها القديمة وأن أي مقارنة بين حياة عمر قبل الإسلام وبعده تكشف عن ذلك بوضوح، كذلك يبدو هذا في نماذج أقل بطولة: يظهر ذلك في تحول الخنساء مثلاً.
ومن الحق أن يقال أن هذا الزيف في فرض منهج أو مذهب في تفسير النبوة على أنها بطولة أو عبقرية أو دعوة إلى حرية؛ إنما هو من أعمال الأيدلوجية التلمودية التي تهدف إلى تدمير قيم الوحي ورسالات السماء.
أنور الجندي(/8)
في سبيل الله
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
... ...
...
يكثر بعض الناس هذه الأَيام نسبة ما يبذلون من مال أو جهد أَو قتال أَو كلمة إِلى أَنه في سبيل الله . وعسى أن يكون الجميع إن شاء الله صادقين . وقد كثر استعمال كلمة " شهيد " على كل قتيل ، حتى لو كان ملحداً أو من أهل الكتاب ، أو منتسباً إلى الإسلام انتساباً لا ترافقه إقامة الشعائر ولا ذكر الله ولا علم بدين الله . وكثرة استخدام هذه المصطلحات " الإيمانية " توحي أحياناً باختلاط الصورة والتصوُّر والمفهوم لدى بعض القائلين .
ومع استمرار هذه الشبهة أو الخلل ، اتسع التساهل والتراخي حتى أصبح يقول بعض المسلمين " ... في سبيل الوطن " ، " أقاتل في سبيل الوطن " ، " أبذل في سبيل العائلة " ، " أضحي في سبيل القومية " ، وغير ذلك من التعبيرات المشابهة التي تستخدم كلمة " في سبيل " مع أي خاطرة تبدو لصاحبها .
وربما اختلطت في بعض الأذهان معاني بعض الأحاديث الشريفة مع أحاديث أخرى ، تستعمل هذه " في سبيل الله ... " ولا تستعمل تلك " .. في سبيل الله ... " .
ففي الحديث الشريف عن سعيد بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من قُتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد ومن قُتل دون دينه فهو شهيد ، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد ) [ رواه أحمد ] (1)
والحديث صحيح . وهنالك حديث آخر عن أبي موسى الأشعري . قال جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله : رأيتُ الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حميّة ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله ؟ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) [ رواه أحمد والشيخان ] (2)
وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من غزا في سبيل الله وهو لا ينوي في غزاته إلا عقالاً فله ما نوى ) [ رواه أحمد والنسائي والحاكم ] (3)
والأحاديث الشريفة كثيرة حول معنى في " سبيل الله " ، والآيات الكريمة آيات بينات تفصّل معنى في " سبيل الله " كذلك أدقَّ تفصيل حتى ، لا تترك مجالاً لمرتاب أَو سائل . لا نستطيع هنا أن نورد ذلك كله ، ولكننا نأخذ قبسات فحسب . ولا نستطيع أن نعرض الصورة كلها كما يعرضها منهاج الله ، ولكننا نأخذ جانباً منها .
من الأحاديث السابقة يتضح أن النيّة شرط رئيس في معنى" في سبيل الله " فلابد أن تكون النية خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى واعية لذلك ، حذرة من أن تنحرف فتضلَّ ، يقظةً لتدفع أي فتنة أَو ضلال .
وإخلاص النيّة لله سبحانه وتعالى يقتضي أن يكون المسلم واعياً لما هو مقبل عليه ، مدركاً أن عمله خاضع لمنهاج الله وأحكامه ، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة رضي الله عنها : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) [ رواه أحمد ومسلم ](4)
وهذا شرط آخر لمعنى " في سبيل الله " ذلك أن يكون العمل خاضعاً لأحكام منهاج الله .
فإذا كان بعض المسلمين جاهلين لأَحكام منهاج الله ، فإِنهم يُقبلون على أعمال تدفعهم إليها العاطفة ، ويحسبون أن قصدهم " نبيل " ويريدون " الخير " ، ويطلقون من التعبيرات ما يخفون به جهلهم أو انحرافهم ، ويحسبون بعد ذلك أنهم على شيء ، فإذا عملهم باطل مردود عليهم ما دام غير خاضع لأحكام منهاج الله .
من هذا كله ، ومن الآيات والأحاديث حين نتدبرها كلها نجد أن المعنى الرئيس لكلمة " في سبيل الله " هو منهج ودرب ممتد من الدنيا إلى الآخرة . ولا يصحّ استخدام كلمة " سبيل " أو " في سبيل " إلا لتدلّ على هذا الدرب الممتد والنهج المتماسك ، ليرتبط العمل الواحد مع ما قبله ، ومع ما بعده ، ارتباط نيّة وارتباط درب وهدف . وانظر إلى هذه الآية الكريمة :
( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) [ يوسف : 108 ]
نعم ! هذه سبيلي ... " أدعو إلى الله .. " ، " .. على بصيرة .. " ، " وسبحان الله ... " " وما أنا من المشركين " كل واحدة من هذه القواعد ضرورة لتحقيق معنى في " سبيل الله " ، حتى تتضح صورة الدرب الممتد والنهج المترابط . ويأتي التعبير " ... أنا ومن اتبعني " ليقرر شرطاً آخر : وهو أنه درب لا يختلف عليه المؤمنون ، ويمضون عليه في سبيل الله ، لا في سبيل شيء آخر ، أمة واحدة تتبع ما أُنْزِل من عند الله وما بلَّغهم إِياه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في إنابة وخضوع وخشوع . إنه درب حق ونهج حق ، ينطلق من نقطة واحدة على صراط مستقيم إلى غاية محدَّدة هي الدار الآخرة . فكيف يختلف المؤمنون الصادقون ، والمنطلق واحد ، والدرب واحد ، والغاية واحدة ؟ ! إنه في سبيل الله ! فكيف يختلف المؤمنون الصادقون إِلا إذا اختلفت النيّة واضطربت ، أو اختلف العلم بمنهاج الله واضطرب ، أو تاهت الأهداف وتشعبَّت !(/1)
ونلاحظ دقّة التعبيرات الربّانية في آيات الله البيّنات وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تدبّرْ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالاً فله ما نوى ) . سار على الدرب بنية فاسدة ذهبت بالأجر من عند الله ، سار على الدرب مع المؤمنين ، على درب في سبيل الله ، حتى لا يظنّ أحد إلا أنه استكمل شروط " في سبيل الله " كلها . ولا ننسى قصة الرجل في غزوة خيبر الذي قاتل مع المسلمين حتى ظنّوا به كل الخير ، فأعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه من أهل النار . ولما وجدوه بعد ذلك ، رأَوا أنه قتل نفسه غير متحمل الأَلم .
هذا وجه من وجوه الفتنة أو الانحراف ، ومثل على دقة التعبيرات في الآيات والأَحاديث . ولنتدبر الحديثين الأوليين السابقين ( من قتل دون ماله فهو شهيد .. ) ، ( .. من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) . لقد جاء التعبير في الحديث الأول : ( من قتل دون ماله ) ، ولم يقل : ( من قتل في سبيل ماله ، ذلك لأن التعبير : من قتل دون ماله ، يتضمن أموراً معلومة بالضرورة ، فكلمة " من " هنا لا تعني أي إنسان . إنها لا تعني الكافر الملحد ولا المشرك . إنها تعني من قتل دون ماله وهو مؤمن ... ) فالحديث يدور حول عمل المؤمنين الذين توافرت فيهم شروط الإيمان من صدق النيّة وصدق العلم بمنهاج الله . فالمؤمن حين يكون ماضياً في سبيل الله ، ماضياً على الدرب الممتد ، يحمل النيّة الخالصة ، متوجهاً إِلى الهدف الأسمى إلى الجنة ، إِلى الدار الآخرة ، إلى رضوان الله ، فإنه يلقى على دربه قضايا متعدّدة قد يضطر إلى أن يقاتل دونها وهو على الدرب الممتد . فقد يقاتل دون ماله كما جاء في الحديث الشريف ، وليس في سبيل ماله . وقد يقاتل دون أرضه ، أو دون أهله ، أو دون وطنه ، وهو على الدرب الممتد يحمل النيّة ماضياً إلى الهدف الأسمى . فهو لا يقاتل إذن " في سبيل أرضه " ، ولكن يقاتل " دون أرضه " ، ذلك لأن في سبيل أرضه تعني أن أرضه هي الهدف الأكبر والأسمى ، الهدف الذي لا هدف بعده . وهذا لا يُقرّه التصور الإيماني . ولو استعرضنا الآيات والأحاديث التي جاءت فيها كلمة " في سبيل الله " ، لوجدنا أنها تحمل دائماً النيّة الخالصة والدرب الممتد والهدف الأكبر والأسمى الذي لا هدف بعده ، وهو رضاء الله والجنة . من هنا ندرك عظمة التعبيرات في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة حيث جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قُتل دون ماله ... ) .
لا ننكر أن هذه التعبيرات والمعاني اختلطت في أذهان الكثيرين في واقعنا اليوم ، وبخاصة فيما يتعلق بالأمور المثيرة للعواطف الحبيبة إلى النفوس ، كالوطن مثلاً ، وأمثاله . فقد أصبحت كلمة " الوطن " تتردد على الألسنة وترتفع شيئاً فشيئاً إلى درجة من التقديس ، ثم إلى درجة من العبادة .
فنجد من يقول مثلاً : قاتل في سبيل الوطن أو قُتِل في سبيل الوطن ، يموت في سبيل الوطن ، يَحيْا في سبيل الوطن . فقد كانت المغالاة هنا في استخدام كلمة " في سبيل الوطن " مجانبة دقة التعبير . وعسى أن لا تكون هذه المغالاة أو عدم دقة التعبير مظهراً لاضطراب التصوّر .
وترتفع المغالاة إلى درجة أعلى عند شوقي ، حتى يجانب الحق والتصور السليم حين يقول :
وطني لو شُغِلْتُ بالخلد عنه نازعتني إِليه في الخلد نفسي
وندعو لشوقي بالمغفرة والرحمة ، ولأمثاله ممّن مضوا إلى ربهم الله الذي لا إله إلا هو . ونعتقد أنهم الآن مشغولون بما هم فيه من وراء البرزخ ، لا تنازعهم نفوسهم إلى ديارهم ولا إلى شيء من الدنيا ، ولكنها تجأر إلى الله تسأله الرحمة والمغفرة .
ثم يرتفع تقديس " الوطن " عند خير الدين الزركلي إلى درجة العبادة حين يقول :
لو مَثّلوا لي مُوْطني وَثَناً لهمْمتُ أعْبُد ذلك الوثَنا
ولقد ألِفَ بعضهم مثل هذه التعبيرات ، حتى أخذوا يبحثون عن مسوّغات فنية أو فكرية ، حين تثير في نفوسهم الحميّة لهذا الأمر من أمور الدنيا أو ذاك ، أو حين يروق لهم ما يسمونه بالجمال الفنّي ، ليطغى على ما تقدّمه التعبيرات من انحراف فكري .
ولقد استُغلّت قضية الجمال الفنّي لتسوّغ الخروج عن الأدب والأخلاق ، والانحراف إلى وحول الجنس وشهوة الجسد ووصف المفاتن . ويدور الخلاف حول قبول ذلك أو رفضه . ويمضي الانحراف ليمتّدَّ وينتشر لا يعوق الخلافُ انتشاره وامتداده .
الأدب الملتزم بالإسلام ، أدب المؤمن ، يحرص على طهارة اللفظة والتعبير ودقتهما ، كما يحرص على طهارة المعنى ، ليخرج الجمال الفني الصادق من جمال اللفظة وطهارتها ، وجمال المعنى وطهارته ، ليصوغ هذا كله جمال الصورة والحركة .
والمؤمن الذي يتلقى الأدب يهتزّ ويطرب لهذا اللون من الجمال الفنيّ ، وينفر من الانحراف في اللفظة والمعنى مهما حمل من زخرف يهيج الحمية الجاهلية ، أو يلهب نوازع الشهوة .(/2)
إِن حقيقة التصور الإيماني هو الذي يجعل الولاء الأول لله ينبع منه كل ولاء في الدنيا ، والذي يجعل العهد الأول مع الله ينبع منه كل عهد في الحياة الدنيا ، والذي يجعل الحب الأكبر لله ولرسوله يَنبع منه كل حبٍّ في الحياة الدنيا ، إن هذا التصوّر الإيماني هو الذي يضبط اللفظة والتعبير والمعنى ، ويهب ذلك كله وضاءة الطهارة وإشراقة الفكر ودقة التعبير ، فتجيء الموهبة لتصوغ منه ذلك الجمال الفني المؤثر .
من أجل ذلك كان من قواعد الإيمان والتوحيد أن يكون الله ورسوله أحبَّ إلى المؤمن مما سواهما ، وأن يظهر هذا الحب الأكبر في الكلمة والتعبير في ميدان الأدب وفي ميدان الحياة العامة ، وأن يظهر في القصيدة وسائر أبواب الأدب ، وأن يظهر كذلك في المسعى والسلوك ، وفي الموقف والرأي .
إِن أشياء كثيرة مادية تثير عواطفنا ، وشعارات تلهب مشاعرنا ، ورجالاًُ ينالون حبنا ، ولكنّ المؤمن يستطيع أن يميز بين الحق والباطل ، وأن يظل حبه لله ولرسوله هو الحب الأكبر في جميع حالاته :
( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشدُّ حباً لله ولو يرى الذي ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب ) [ البقرة : 165 ]
وتتوالى الآيات والأحاديث لتؤكد هذه القاعدة الرئيسة من قواعد الإيمان والتوحيد ، وتغرسها في نفوس المؤمنين لتظل كلمتهم ورأيهم ، وسعيهم وموقفهم ، أقرب للتقوى وأقرب لدين الله وشرعه .
نخلص من ذلك إلى أن كلمة " في سبيل الله " كلمة محدّدة المعنى والدلالة ، ترتفع لتأخذ مكانتها العالية الأمينة في الفكر والعاطفة والممارسة . وهي تمثّل نهجاً ممتداً ودرباً ماضياً تدل عليه كلمة " في سبيل الله " ثم تمثل الهدف الأكبر والأسمى الذي لا يعلوه هدف ولا يأتي بعده هدف . إنه نهاية الدرب ، الذي يدل عليه اسم الجلالة ـ الله ـ في التعبير " في سبيل الله " ، وأن كل هدف أدنى من الهدف الأكبر والأسمى والغاية النهائية لا تصحّ معه كلمة " في سبيل " وإِنما كلمات أُخرى مثل : من قُتِل دون ماله ، أو دون وطنه ، أو دون عرضه . ويكون في هذه المواقف كلها ماضياً على الدرب نفسه إلى الهدف الأكبر والأسمى . وتصبح كلمة " في سبيل الله " تضبط لنا الفكر والتصوّر ، والشعور والعاطفة ، والسلوك والموقف ، والكلمة والرأي .
وقد يتهاون بعض المسلمين ، حين لا تنضبط كلماتهم ، فيستخدمون في أدبهم نثراً أو شعراً كلمات من أهل الكتاب لا تتفق مع التصوّر الإيماني . مثل كلمة " الصليب " يستخدمونها في مواقف القبول والاستحسان .
نسأل الله أن يهدينا جميعاً سبيل الرشاد في نيّتنا وألفاظنا وسعينا ، وفي أدبنا وجهادنا ، إنه نعم المولى ونعم النصير .
إن بلوغ الجنّة يقتضي المضي على هذا الدرب ، على هذا الصراط المستقيم دون الخروج منه أو الانحراف عنه :
( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرَّق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) [الأنعام : 153 ]
" في سبيل الله " صراط مستقيم ، ومسيرة مباركة تحمل مسؤوليات وتكاليف ربّانية تنطلق كلها من الإيمان والتوحيد ومن منهاج الله ، لتمثل أهدافاً ثابتة على الدرب ومراحل معيّنة مترابطة ، كلُّ هدف يوصل للذي يليه ويمضي معه ، لتمضي الأهداف كلها معاً ولتقود إلى الهدف الأكبر والأسمى . إن بلوغ الجنّة يحتاج إلى مسيرة جادة فيها جُهد وبذلٌ وجهاد ، وفيها صبر و مصابرة . ولكن هذا يحتاج إلى الإرادة والعزيمة من اللحظة الأولى ، إرادة وعزيمة نابعتين من خشية الله .
" فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل . ألا إنّ سلعة الله غالية ألا إنّ سلعة الله الجنّة ) [ رواه الترمذي والحاكم في المستدرك ] (5)
" في سبيل الله " مسيرة لا يصح فيها التوقف والقعود . وكيف يبلغ الجنّة من قعد عن التكاليف إلا برحمة من الله . ولا يصحّ فيها الانحراف ، فإنه فتنة وضلال وهلاك . والتوقُف يَفْصِل الأهداف والمراحل ويعطّلها ويعطل المسيرة ، والانحراف خروج عن المسيرة كلها ، عن الأهداف والمراحل والهدف الأكبر والأسمى . ولا يصح السير دون زاد ، فكل رحلة لها زادها ، وكل مسافر يتزوّد ، وزاد المسيرة على درب " في سبيل الله " : الإيمان والتوحيد ، وتدبَّر منهاج الله ، ووعيُ الواقع ودراسته من خلال منهاج الله ، فهذا هو الزاد الرئيس ، وعليه يقوم أيُّ زاد آخر ، ولا يصلح الزاد الآخر دونه في هذه المسيرة .
" في سبيل الله " تكاليف ربّانية متّصلة لا ينفصل بعضها عن بعض ، يمضي بها المؤمن على صراط مستقيم ليوفي بالعهد ويؤدّي الأمانة التي حملها ماضياً من هدف إلى هدف إلى الهدف الأكبر والأسمى ـ الجنّة ورضوان الله والدار الآخرة ـ ، على بصيرة ونور .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/3)
(1) أحمد : الفتح الرباني : 14/34 . صحيح الجامع الصغير وزيادته:( ط : 3 ) حديث رقم : ( 6445 ) .
(2) أحمد : الفتح الرباني : 14/20 . صحيح الجامع الصغير وزيادته : ( ط : 3 ) حديث رقم ( 6293 ) .
(3) صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم ( 6277 ) .
(4) صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم ( 6398 )
(5) الترمذي : 38/18/2450 ، صحيح الجامع الصغير وزيادته : ( رقم : 62222 ) .
...(/4)
في ظل آية ...
موقع لجنة الطبوعات ... ...
قال تعالى :? قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ? ... [الاسراء:110ـ111]
يقول تعالى لعباده: ? ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ ? أي: أيهما شئتم. ? أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ? أي: ليس له اسم غير حسن، أي: حتى ينهى عن دعائه به، أي: اسم دعوتموه به، حصل به المقصود، والذي ينبغي أن يدعى في كل مطلوب، مما يناسب ذلك الاسم.
? وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ ? أي: قراءتك ? وَلَا تُخَافِتْ بِهَا ? فإن في كل من الأمرين محذورًا. أما الجهر، فإن المشركين المكذبين به إذا سمعوه سبوه، وسبوا من جاء به.
وأما المخافتة، فإنه لا يحصل المقصود لمن أراد استماعه مع الإخفاء ? وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ ? أي: بين الجهر والإخفات ? سَبِيلًا ? أي: تتوسط فيما بينهما.
? وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ? له الكمال والثناء والحمد والمجد من جميع الوجوه، المنزه عن كل آفة ونقص.
? الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ? بل الملك كله لله الواحد القهار، فالعالم العلوي والسفلي، كلهم مملوكون لله، ليس لأحد من الملك شيء.
? وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ? أي: لا يتولى أحدًا من خلقه ليتعزز به ويعاونه، فإنه الغني الحميد، الذي لا يحتاج إلى أحد من المخلوقات، في الأرض ولا في السماوات، ولكنه يتخذ أولياء إحسانًا منه إليهم ورحمة بهم ? الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ?
? وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ? أي: عظمه وأجله بالإخبار بأوصافه العظيمة، وبالثناء عليه، بأسمائه الحسنى، وبتجميده بأفعاله المقدسة، وبتعظيمه وإجلاله بعبادته وحده لا شريك له.
كانت هذه وقفة من تيسير الكريم الرحمن ، وهو تفسير للشيخ ابن سعدي .(/1)
في ظلال آيات كريمات ... ... ...
قال سبحانه وتعالى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [سورة الأنعام: 102-103].
قال سبحانه:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} أي المألوه المعبود، الذي يستحق نهاية الذل له . ونهاية الحب . الرب: الذي ربى جميع الخلق بالنعم و؟؟ عنهم النقم .
{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ } أي: إذا استقر وثبت، أنه الله الذي لا إله إلا هو فاصرفوا له جميع أنواع العبادة وأخلصوها لله سبحانه . واقصدوا بها وجهه . فإن هذا هو المقصود من الخلق الذين خلقوا لأجله { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} … (الذريات:56) .
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي: جميع الأشياء تحت وكالة الله وتدبيره، خلقاً وتدبيراً وتصريفاً .
ومن المعلوم أن الأمر المتصرف فيه يكون استقامته، وتمامه، وكمال انتظامه .
بحسب حال الوكيل عليه . ووكالته تعالى على الأشياء . ليست من جنس وكالة الخلق فإن وكالتهم، وكالة نيابة . والوكيل فيها تابع لموكله .
وأما الباري تبارك وتعالى . فوكالته من نفسه لنفسه، متضمنة لكمال العلم وحسن التدبير والإحسان فيه . والعدل . فلا يمكن أحداً أن يستدرك على الله ولا يرى في خلقه خللاً ولا فطوراً ولا في تدبيره، نقصاً وعيباً .
ومن وكالته: أنه تعالى . توكل ببيان دينه . وحفظه عن المذيلات والمغيرات وأنه تولى حفظ المؤمنين وعصمهم عمَّا يذيل إيمانهم ودينهم .
{ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } لعظمته وجلاله وكماله . أي: لا تحيط به الأبصار . وإن كانت تراه في الآخرة، وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم . فنفي الإدراك لا ينفي الرؤية بل تثبتها بالمفهوم . فإنه إذا نفى الإدراك الذي هو أخص أوصاف الرؤية . دلَّ على أن الرؤية ثابتة .
فإن لو أراد نفي الرؤية لقال:" لا تراه الأبصار" ونحو ذلك فعلم أنه ليس في الآية حجة لمذهب المعطلة الذين ينفقون رؤية ربهم في الآخرة . بل فيها ما يدل على نقيض قولهم . {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} أي هو الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن . وسمعه بجميع الأصوات الظاهرة والخفية، وبصره بجميع المبصرات صغارها وكبارها ولهذ قال {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الذي لطف علمه وخبرته ودق حتى أدرك السرائر والخفايا، والخبايا، والبواطن .
ومن لطفه أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه ويوصلها إليه بالطرق التي يشعر فيها العبد، ولا يسعى فيها ويوصله إلى السعادة الأبدية والفلاح السرمدي من حيث لا يحتسب حتى إنه يقدر عليه الأمور التي يكرهها العبد، ويتألم منها ويدعو الله أن يزيلها لعلمه أن دينه أصلح وأن كماله متوقف عليها فسبحان اللطيف لما يشاء، الرحيم بالمؤمنين .
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ... ...(/1)
في ظلال أية ... ... ... ...
(وقضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) سورة الإسراء.
هذه الآية الكريمة تدلنا على مقام الأبوين وأن الأمر بالإحسان إليهما جاء مقروناً بالدعوة إلى التوحيد.وقوله - تعالى - قضى بمعنى أن الأمر انتهى ولا قدرة للعبد على محاربة هذا الأمر فقضاء الله - تعالى -لا يمكن لأحد أن يعترض عليه. وجاء بكلمة الربّ التي تدل على التربية والرعاية وهذا أنسب لسياق الآية وللبر بالوالدين الذين يربّون أبناءهم ويرعونهم. والإحسان هو أن أتنازل عن حقي إكراماً لحق غيري وهذا بحق الأبوين أولى لأنه مهما أحسنّا إليهما لا يمكن أن نوفّيهما حقهما علينا أبدا. وفي الآية خمسة أوامر (بالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر، قل لهما قولاً كريما، اخفض لهما جناح الذل، قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) ونهيان لصالح الأبوين (لا تقل لهما أف، ولا تنهرههما) وقوله - تعالى -(إما يبلغنّ عندك الكبر) كلمة عندك تعني أنه أمر إلهي بإلزام الإبن باستيعاب أبويه طوال حياتهم وخاصة عند الكبر لا أن نتخلى عنهم ونضعهم في ملاجئ ودور الرعاية كما يفعل البعض هداهم الله. أما كلمة أف فهي ليست كلمة وإنما حركة تفعل وتقال للدلالة على الإعتراض على طلب الأبوين فإذا كانت حركة الأعضاء يحاسب الله - تعالى -عليها يوم القيامة ويثيب عليها دخول إما الجنة وإما النار فما بالنا بمن يفعل أكثر من هذه الحركة ويقول أكثر من أف وقد قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: " لو وجد القرآن أدنى من كلمة أف لقالها". وقوله - تعالى -(قل لهما قولاً كريما) بمعنى أن الله - تعالى -يأمر الإنسان أن يحافظ على كرامة أبويه الذين أمر - تعالى -بالإحسان والبرّ إليهما ولا أقلّ من القول الكريم لهما. ثم قوله - تعالى -(واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) نحن نعلم أن الطائر لما يفرد جناحيه يرتفع في السماء وعندما يضمهما ينخفض والله - تعالى -أمرنا عندما قال (واخفض) أن نكون في حالة نزول كالطائر أمام أبوينا بمعنى أن نكون أمامهما مذلولين من الرحمة التي وضعها الله - تعالى -في قلوب البشر. ومن دلائل وجود الرحمة كون الإنسان ذليلاً أمام أبويه. وعندما استأذن أحد الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخروج إلى الجهاد سأله ألك أم قال نعم قال إلزمها فإن الجنة عند قدميها. فالجنّة التي هي أعلى ما يتمناه المرء موجودة عند أدنى ما يكون في الأم وهو قدميها. ويأمرنا الله - تعالى -بالدعاء لهما (رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) وفيها إشارة أن تربية الأبوين لأبنائهم كافية لأن تدخلهم الجنة. ثم نلاحظ أن في أول الآية ذكر - تعالى - حال الكِبر (إما يبلغن عندك الكِبر) وفي آخر الآية ذكر الصِغر (كما ربياني صغيرا) وهذا ليشمل جميع المراحل من الصغر إلى الكِبر. اللهم أعنّا أن تكون بارّين بوالدينا، رب اغفر لي ولوالديّ رب ارحمهما كما ربياني صغيرا. ... ...(/1)
في ظلال الكعبة
محمد المجذوب
سعيدٌ أنا في ظلالِ iiالحرَمْ
أحسُّ بجسميَ فوق iiالأثيرِ
فلا عجبٌ أن يموتَ iiالبيانُ
.. أكادُ أرى (هاجَراً) iiوالصغيرَ
فتَجري هناك وتَعدو iiهنا
تفتش عن جرعةٍ تنقذُ
وقد أوشك اليأسُ iiيجتاحُها
ولكنَّ ربَّك لم iiيَنسَها
فذلك جبريلُ يَحبو iiالثَّرى
يمسُّ بقادِمتيهِ iiالترابَ
وها هي ذي زمزمُ لا iiتزال
* * *
.. وألمح ثَمَّ أبا iiالأنبياء
يُقيم قواعدَ هذا iiالبناءِ
ويؤمرُ إذ ينتهي أن iiيُذيعَ
فيهتفُ في الناس: هذا iiالمُقامُ
فتنداحُ صيحتُه في السهولِ
ويأتيه سعياً وفوق iiالمُتُون
* * *
.. وأُبصرُ "أبرهةً" في iiالجيوش
يُطاوِلُ بالكبرياءِ النجومَ
يسير إلى مكةٍ iiمُنذِراً
وييأس "شيبةُ" مِنْ iiحَولِه
دعوا البيت وانجوا بأنعامِكمْ
سيَحميه منهم غداً iiمثلَما
.. وفرَّ عن البيتِ حُرَّاسُه
وحاوَل ذو الفيلِ iiتسييرَه
على أنه كلما iiردَّه
وجاء القضاءُ iiبأجنادِهِ
فراحتْ تَصُبُّ iiمناقيرُها
وما هي إلا الهنيهاتُ iiحتى
* * *
وتمضي المشاهد حتى iiأرى
يناديـ: إلى الله يا iiضائعون
وعن كَثَبٍ ندوة iiالمشركينَ
وترمي بِلالاً iiوإخوانَه
يريدون منهم ولو iiلفظةً
فلا يسمعون من iiالمؤمنينَ
كأني بآذانهم iiكلما
وألسُنهمْ كلما iiرُوْوِدَتْ
وتهتفـ: "بل أَحَدٌ iiأحد"
* * *
.. وينطلق الرُّوح في مَدِّهِ
فأشهدُ عودَة خيرِ الأنامِ
وق_ــد ذلَّ_ـل اللهُ أع_ـداءَهُ
يقول لهم: ما تظنونَ iiبي؟..
ألست الجوادَ الذي لا يَزال
أخٌ فوقَ ما قد عَهِدنا iiالإخاءَ
فيرسلُها بُشرياتٍ iiسرتْ
ألا فاذهبوا.. أنتم iiالطُّلقاءُ
.. ويُومي لرمزِ الضلالِ iiالذي
فتَهوي الطواغيتُ من iiفوقهِ
كذلك يعلو بناءُ iiالأباطيلِ
ويُزجي بلالٌ نشيدَ السماءِ
ولكنَّ "عتَّابَ(1)" iiوالحائرينَ
أعبدُ أميةَ نسلُ iiالسوادِ
ولا ريبَ أن امرءاً iiآثرَ
ويَهمسُ وابنيْ هشامٍ وحربٍ(1)
وقد حسِبوا أنه قد ثَوى
ولكنهم فوجئوا iiبالنبيِّ
يُنَبِّئهم بالذي iiغَيَّبتْ
فلا يستطيعونَ رداً iiوقد
* * *
.. ووافى "فَضالةُ" مستخفياً
يُمنِّي "مَناةَ" بألاّ يعودَ
وأطمعَه أنْ رأى iiالمصطفى
فأحكمَ قبضتَه في iiالحُسامِ
وهمَّ ولكنْ سرتْ iiرِعدةٌ
ولما أتمَّ الرسولُ iiالصلاةَ
وأدناه يسألهـ: ما iiبهِ؟
فمدَّ إلى صدره iiراحةً
وعاد (فَضالةُ) في iiغَمرةٍ
وليس أحبُّ إلى iiقلبهِ
ففي لحظةٍ طَهُرت iiروحُه
ويعبرُ بامرأةٍ iiطالما
فتهتفُـ: هيّا إلى iiشأنِنا
تَنَحَّيْ فبالحقِّ ثاب iiالنُّهى
ولن ينكأ الإثمُ جرحاً iiأُمِرَّتْ
ولن يقربَ الغيُّ صدراً iiأضاء
* * *
.. وأمضي وأمضي، ولولا الأذانُ
فليت مواكبَها لم iiتَكُفَّ
ولكن حبيبٌ نداءُ الصلاةِ ... فلا تسألوني بماذا؟ iiولمْ؟
وقد شفَّ بل خفَّ حتى انعدَم
ويعيا بوصف رُؤايَ iiالقلم
يُروّعُه الظمأُ iiالمحتدِم
وفي سمعِها صرخاتُ iiالألم
الوليدَ وتطفئ بعض iiالضَّرَم
فتُسلمُ ذا ثديها iiللعَدَم
وأدركَها بجزيلِ iiالنِّعَم
برِيَّ النفوس وبُرء iiالسَّقَم
فيدفُقُ بالعذب حتى يَطِم
إلى اليوم والغدِ وِردَ iiالأمم
* * *
وبينَ يديه فتاه iiالعَلَم
وقد خطَّطَ الرسمَ باري iiالنَّسَمْ
على الكونِ بشرى الذي قد iiأتَم
الذي شاء ربُّكمُ أن يُؤَم
وخلفَ البحارِ وفوقَ الأكَم
أُولو الحظِّ من كل فجٍّ iiويَم
* * *
ومن تحته الفيلُ طَوداً iiأشم
ويحسب في قبضتيهِ iiالسُّدُم
بَنيَّتَها بالبلاءِ iiالأعَم
ومَن حَولَه فينادي: iiهَلُم
فبيتُ المهيمنِ لا يُقتَحَم
حماه على الدَّهر منذُ القِدَم
سوى واحدٍ عينُه لم iiتَنَم
إلى مكةٍ فأبى iiوانهزم
إلى غيرِها خفَّ، لا بل iiهجم
من الطيرِ كالقسطلِ iiالمُدلَهِم
على الظالمين رجومَ iiالنِّقَم
استحال الغُزاةُ كعصفٍ iiهُضِم
* * *
إمامَ النبيينَ يمحو iiالظُّلَم
ومن يَتَّبِعْ هَديَه لم iiيُضَم
تَحُوك لِحَربِ الحبيبِ iiالتُّهَم
من القارعاتِ بسيلٍ عَرِم
تسجِّل نصراً لحزب iiالصَّنَم
سوى ما يضاعفُ تلك iiالحُمَم!
دعاها الطغاةُ اعتراها الصَّمَم
على الكفرِ أفضى إليها iiالبَكَم
فتُصغي البِطاحُ وتهفو iiالقِمَم
* * *
إلى عالمٍ قبله لم iiيُرَم
إلى ها هنا في ليوثِ iiالأجَم
فليس لهم دونه مُعتصَم
فيَضرَعُ كلُّهم في ندم:
يُقابل زلاتِنا iiبالكرم!
وفاءُ وبِرّاً بحق iiالرَّحِم
بسمعِ الزمانِ كأشهى iiالنَّغَم:
ولا تجزعوا.. لستُ iiبالمنتقم
على البيت منذُ "لُحَيٍّ" iiجَثَم
منكَّسةً بعد ذاك iiالعِظَم
حتى إذا الحقُّ جاءَ iiانهدَم
بأعلاه عَذباً يَهُزُّ iiالأصم
يَرَون بذاك انتهاكَ iiالحُرم
علا البيتَ!.. يا لَلبلاءِ iiالعَمم!
الحِمامَ على هذهِ لم iiيُلم!
حديثاً يَفيضُ بمثلِ iiاللَّمَم
بأعماقِهم حيث لا مُقتَحَم
يُميط اللثامَ عن iiالمُكتتَم
صدورُهم من رهيب iiالكَلِم
دَرَوا أنه الحقُّ من iiربهم
* * *
ويُخفي وراء الرداء iiالخَذِم
إذا لم يخضِّبه من خيرِ دم!
نَجيَّ الإلهِ لَدَى iiالمُلتَزَم
وراحَ يُراقبُهُ من iiأمَم(/1)
به تتلاشى لديها الهِمَم
تطلعَ في وجههِ iiوابتسم
فلم يبدأ الرد حتى وَجَم
بلمستها كم شَقاءٍ حَسَم
من الوَجدِ فوق مجالِ الحُلُم
من المصطفى بعدَ مُحيي الرّمَم!
فليس لها في سوى الله iiهَمّْ
غَزَتْ قلبَه قبلَها iiفانهزم
ويهتفُ: يأبى الهدى iiوالشَّمَمْ
وبالنور ليلُ الضلالِ iiانحسَم
يدا أحمدٍ فوقَه iiفالتأم
جوانحَه حبُّ خيرِ iiالأمم
* * *
توالتْ رؤاي فلم تَنفصِم
وأحلامَها البيضَ لم iiتنصرم
ولا سيما في ظلالِ iiالحَرَم(/2)
في ظلال النبوة والرسالة
1
في غار حراء: ولما تقاربت سنه صلى الله عليه وسلم الأربعين، وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه، حبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السويق والماء ويذهب إلى غار حراء في جبل النور على مبعدة نحو ميلين من مكة - وهو غار لطيف طوله أربع أذرع، وعرضة ذراع وثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديد ومعه أهله قريباً منه، فيقيم فيه شهر رمضان، يطعم من جاءه من المساكين، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون، وفيما وراءها من قدرة مبدعة وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة، وتصوراتها الواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح، ولا منهج محدد، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه. وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفاً من تدبير اللَّه له وليعده لما ينتظره من الأمر العظيم. ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى... لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة.(/1)
وهكذا دبر اللَّه لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى، وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ... دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهراً من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن اللَّه. جبريل ينزل بالوحي: ولما تكامل له أربعون سنة - وهي رأس الكمال، وقيل: ولها تبعث الرسل - بدأت آثار النبوة تتلوح وتتلمع له من وراء آفاق الحياة، وتلك الآثار هي الرؤيا، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، حتى مضت على ذلك ستة أشهر - ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة - فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته صلى الله عليه وسلم بحراء شاء اللَّه أن يفيض من رحمته على أهل الأرض، فأكرمه بالنبوة، وأنزل إليه جبريل بآيات من القرآن. وبعد النظر والتأمل في القرائن والدلائل يمكن لنا أن نحدد ذلك اليوم بأنه كان يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلاً، ويوافق 10 أغسطس سنة 610م، وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك بالضبط أربعين سنة قمرية، وستة أشهر، و 12 يوماً، وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر و12 يوماً. ولنستمع إلى عائشة الصديقة رضي اللَّه تعالى عنها تروي لنا قصة هذه الوقعة التي كانت شعلة من نور اللاهوت أخذت تفتح دياجير ظلمات الكفر والضلال حتى غيرت مجرى الحياة، وعدلت خط التاريخ، قالت عائشة رضي اللَّه عنها: أول ما بدىء به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الوحي هي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ فقلت ما أنا بقارىء، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق: 1-3]. فرجع بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة ما لي وأخبرها الخبر، لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة كلا، واللَّه ما يخزيك اللَّه أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرءاً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء اللَّه أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي - فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزله اللَّه على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي. وروى الطبري وابن هشام ما يفيد أنه خرج من غار حراء بعد ما فوجيء بالوحي ثم رجع وأتم جواره، وبعد ذلك رجع إلى مكة، ورواية الطبري تلقي ضوءاً على سبب خروجه وهذا نصها: "قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد ذكر مجيء الوحي ولم يكن من خلق اللَّه أبغض علي من شاعر أو مجنون كنت لا أطيق ان انظر إليهما قال: قلت إن الابعد يعني نفسه شاعر أو مجنون إلا تحدث بها عني قريش أبداً لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها، فلأستريحن قال: فخرجت أريد ذلك، حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول يا محمد أنت رسول اللَّه، وأنا جبريل، قال: فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول يا محمد أنت رسول اللَّه وأنا جبريل، قال: فوقفت أنظر إليه، وشغلني ذلك عما أردت، فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي، ولا أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مقامي، ثم انصرف عني وانصرفت راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها (ملتصقاً بها مائلاً إليها) فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فواللَّه لقد بعثت في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي، ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا ابن عم، واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ثم قامت فانطلقت إلى ورقة(/2)
وأخبرته. فقال: قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت، فرجعت خديجة وأخبرته بقول ورقة، فلما قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف إلى مكة لقيه ورقة وقال بعد ان سمع فيه خبره والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى". فترة الوحي: أما مدة فترة الوحي فروى ابن سعد عن ابن عباس ما يفيد أنها كانت أياماً وهذا الذي يترجح بل يتعين بعد إدارة النظر في جميع الجوانب. وأما ما اشتهر من أنها دامت طيلة ثلاث سنين أو سنتين ونصف فلا يصح بحال، وليس هذا موضع التفصيل في رده. وقد بقي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أيام الفترة كئيباً محزوناً تعتريه الحيرة والدهشة، فقد روى البخاري في كتاب التعبير ما نصه "وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزناً عدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول اللَّه حقاً، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك". جبريل ينزل بالوحي مرة ثانية: قال ابن حجر: وكان ذلك (أي انقطاع الوحي أياماً)، ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوف إلى العود، فلما تقلصت ظلال الحيرة، وثبتت أعلام الحقيقة، وعرف صلى الله عليه وسلم معرفة اليقين أنه أضحى نبياً للَّه الكبير المتعال، وأن ما جاءه سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء وصار تشوفه وارتقابه لمجيء الوحي سبباً في ثباته واحتماله عندما يعود، جاءه جبريل للمرة الثانية. روى البخاري عن جابر بن عبد اللَّه أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، (قال): "فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجشثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت زملوني زملوني، فزملوني، فأنزل اللَّه تعالى: "يأيها المدثر" إلى قوله: "فاهجر"، ثم حمى الوحي وتتابع". استطراد في بيان أقسام الوحي: قبل أن نأخذ في تفصيل حياة الرسالة والنبوة، نرى أن نتعرف أقسام الوحي الذي هو مصدر الرسالة ومدد الدعوة. قال ابن القيم - وهو يذكر مراتب الوحي إحداها الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم . الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا للَّه، وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصي اللَّه، فإن ما عند اللَّه لا ينال إلا بطاعته. الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجلاً فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً. الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه فيلتبس به الملك، حتى أن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، وحتى أن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها. الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء اللَّه أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما ذكر اللَّه ذلك في سورة النجم. السادسة: ما أوحاه اللَّه إليه، وهو فوق السماوات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها. السابعة: كلام اللَّه له منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم اللَّه موسى بن عمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعاً بنص القرآن. وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء. وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة وهي تكليم اللَّه له كفاحاً من غير حجاب، وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف. انتهى مع تلخيص يسير في بيان المرتبة الأولى والثامنة. أمر القيام بالدعوة إلى اللَّه، وموادها: تلقى النبي صلى الله عليه وسلم أوامر عديدة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1 - 7] أوامر بسيطة ساذجة في الظاهر، بعيدة المدى والغاية، قوية الأثر والفعل في الحقيقة ونفس الأمر. فغاية القيام بالإنذار أن لا يترك أحداً ممن يخالف مرضاة اللَّه في عالم الوجود إلا وينذره بعواقبه الوخيمة حتى تقع رجفة وزلزال في قلبه وروعه. وغاية تكبير الرب أن لا يترك لأحد كبرياء في الأرض إلا وتكسر شوكتها، وتقلب ظهراً لبطن، حتى لا يبقى في الأرض إلا كبرياء اللَّه تعالى. وغاية تطهير الثياب وهجران الرجز أن يبلغ في تطهير الظاهر والباطن وفي تزكية النفس من جميع الشوائب والألواث إلى حد(/3)
وكمال يمكن لنفس بشرية تحت ظلال رحمة اللَّه الوارفة وحفظه وكلئه وهدايته ونوره، حتى يكون أعلى مثل في المجتمع البشري، تجتذب إليه القلوب السليمة، وتحس بهيبته وفخامته القلوب الزائغة، حتى ترتكز إليه الدنيا بأسرها وفاقاً أو خلافاً. وغاية عدم الاستكثار بالمنة أن لا يعد فعالاته وجهوده فخيمة عظيمة، بل لا يزال يجتهد في عمل بعد عمل، ويبذل الكثير من الجهد والتضحية والفناء، ثم ينسى كل ذلك، بل يفنى في الشعور باللَّه بحيث لا يحس ولا يشعر بما بذل وقدم. وفي الآية الأخيرة إشارة إلى ما سيلقاه من أذى المعاندين من المخالفة والاستهزاء والسخرية إلى الجد والاجتهاد في قتله وقتل أصحابه، وإبادة كل من التف حوله من المؤمنين، يأمر اللَّه تعالى أن يصبر على كل من ذلك بقوة وجلادة، لا لينال حظاً من حظوظ نفسه، بل لمجرد مرضاة ربه. اللَّه أكبر ما أبسط هذه الأوامر في صورتها الظاهرة، وما أروعها في إيقاعاتها الهادئة الخلابة، ولكن ما أكبرها وأفخمها وأشدها في العمل، وما أعظمها إثارة لعاصفة هوجاء تحضر جوانب العالم كله، وتتركها يتلاحم بعضها في بعض. والآيات نفسها تشتمل على مواد الدعوة والتبليغ، فالإنذار نفسه يقتضي أن هناك أعمالاً لها عاقبة سوآى يلقاها أصحابها، ونظراً لما يعرفه كل أحد أن الدنيا لا يجازي فيها بكل ما يعمل الناس، بل ربما لا يمكن المجازاة بجميع الأعمال. فالإنذار يقتضي يوماً للمجازاة غير أيام الدنيا، وهو الذي يسمى بيوم القيامة ويوم الجزاء والدين، وهذا يستلزم حياة أخرى غير الحياة التي نعيشها في الدنيا. وسائر الآيات تطلب من العباد التوحيد الصريح، وتفويض الأمور كلها إلى اللَّه تعالى، وترك مرضاة النفس، ومرضاة العباد إلى مرضاة اللَّه تعالى. فإذن تتلخص هذه المواد في: أ - التوحيد. ب - الإيمان بيوم الآخرة. ج - القيام بتزكية النفس بأن تتناهى عن المنكرات والفواحش التي تفضي إلى سوء العاقبة، وبأن تقوم باكتساب الفضائل والكمالات وأعمال الخير. د - تفويض الأمور كلها إلى اللَّه تعالى. هـ - وكل ذلك بعد الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتحت قيادته النبيلة وتوجيهاته الرشيدة. ثم إن مطلع الآيات تضمنت النداء العلوي - في صوت الكبير المتعال - بانتداب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الجلل، وانتزاعه من النوم، والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} ... كأنه قيل: إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً، أما أنت الذي تحمل هذا العبء الكبير فما لك والنوم؟ وما لك والراحة؟ وما لك والفراش الدافيء؟ والعيش الهادىء؟ والمتاع المريح قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك، قم للجهد والنصب، والكد والتعب، قم فقد مضى وقت النوم والراحة، وما عاد منذ اليوم إلا السهر المتواصل، والجهاد الطويل الشاق، قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد. إنها لكلمة عظيمة رهيبة تنزعه من دفء الفراش في البيت الهادىء والحضن الدافىء لتدفع به في الخضم، بين الزعازع والأنواء، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء. وقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فظل قائماً بعدها أكثر من عشرين عاماً لم يسترح ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله. قام وظل قائماً على دعوة اللَّه يحمل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به، عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها، عبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى، عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاماً لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد، منذ أن سمع النداء العلوي الجليل، وتلقى منه التكليف الرهيب جزاه اللَّه عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء. وليست الأوراق الآتية إلاَّ صورة مصغرة بسيطة من هذا الجهاد الطويل الشاق الذي قام به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خلال هذا الأمد. أدوار الدعوة ومراحلها: يمكن أن نقسم عهد الدعوة المحمدية - على صاحبها الصلاة والسلام والتحية - إلى دورين يمتاز أحدهما عن الآخر تمام الامتياز وهما الدور المكي، ثلاث عشرة سنة تقريباً. الدور المدني، عشر سنوات كاملة. ثم يشتمل كل من الدورين على مراحل لكل منها خصائص تمتاز بها عن غيرها، ويظهر ذلك جلياً بعد النظر الدقيق في الظروف التي مرت بها الدعوة خلال الدورين. ويمكن تقسيم الدور المكي إلى ثلاث مراحل: مرحلة الدعوة السرية، ثلاث سنين. مرحلة إعلان الدعوة في أهل مكة، من بداية السنة الرابعة من النبوة إلى أواخر السنة العاشرة. مرحلة الدعوة خارج مكة، وفشوها فيهم، من أواخر السنة العاشرة من النبوة إلى هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. أما مراحل الدور المدني فسيجيء تفصيلها في موضعه. المرحلة الأولى جهاد الدعوة ثلاث سنوات من الدعوة السرية: معلوم أن مكة كانت مركز دين العرب، وكان بها سدنة الكعبة، والقوام على الأوثان والأصنام(/4)
المقدسة عند سائر العرب، فالوصول إلى المقصود من الإصلاح فيها يزداد عسراً وشدةً عما لو كان بعيداً عنها، فالأمر يحتاج إلى عزيمة لا تزلزلها المصائب والكوارث، لذا كان من الحكمة أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرية، لئلا يفاجأ أهل مكة بما يهيجهم. الرعيل الأول: وكان من الطبيعي أن يعرض الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام أولاً على ألصق الناس به وآل بيته، وأصدقائه، فدعاهم إلى الإسلام، ودعا إليه كل من توسم فيه خيراً ممن يعرفهم ويعرفونه، يعرفهم بحب الحق والخير ويعرفونه بتحري الصدق والصلاح، فأجابه من هؤلاء - الذين لم تخالجهم ريبة قط في عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم وجلالة نفسه وصدق خبره - جمع عرفوا في التاريخ الإسلامي بالسابقين الأولين، وفي مقدمتهم زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، ومولاه زيد ابن ثابت بن شرحبيل الكلبي، وابن عمه علي بن أبي طالب - وكان صبياً يعيش في كفالة الرسول - وصديقه الحميم أبو بكر الصديق. أسلم هؤلاء في أول يوم من أيام الدعوة. ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام، وكان رجلاً مألفاً محبباً سهلاً، ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه، لعلمه وتجارته، وحسن مجالسته، فجعل يدعو من يثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه عثمان بن عفان الأموي، والزبير بن العوام الأسدي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص الزهريان، وطلحة بن عبيد اللَّه التيمي، فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس هم الرعيل الأول وطليعة الإسلام. ومن أوائل المسلمين بلال بن رباح الحبشي، ثم تلاهم أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح من بني الحارث بن فهر وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم ابن أبي الأرقم المخزوميان، وعثمان بن مظعون وأخواه قدامة وعبد اللَّه، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد العدوي، وامرأته فاطمة بنت الخطاب العدوية أخت عمر بن الخطاب، وخباب بن الأرت وعبد اللَّه بن مسعود الهذلي وخلق سواهم، وأولئك هم السابقون الأولون، وهم من جميع بطون قريش وعدهم ابن هشام أكثر من أربعين نفراً، وفي ذكر بعضهم في السابقين الأولين نظر. قال ابن إسحاق ثم دخل الناس في الإسلام أرسالاً من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة، وتحدث به. أسلم هؤلاء سراً، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتمع بهم ويرشدهم إلى الدين متخفياً لأن الدعوة كانت لا تزال فردية وسرية، وكان الوحي قد تتابع وحمى نزوله بعد نزول أوائل المدثر، وكانت الآيات وقطع السور التي تنزل في هذا الزمان آيات قصيرة، ذات فواصل رائعة منيعة، وإيقاعات هادئة خلابة تتناسق مع ذلك الجو الهامس الرقيق، تشتمل على تحسين تزكية النفوس، وتقبيح تلويثها برغائم الدنيا، تصف الجنة والنار كأنهما رأي عين، تسير بالمؤمنين في جو آخر غير الذي فيه المجتمع البشري آنذاك. الصلاة: وكان في أوائل ما نزل الأمر بالصلاة، قال مقاتل بن سليمان: فرض اللَّه أول الإسلام الصلاة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، لقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر: 55] وقال ابن حجر: كان صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء يصلي قطعاً، وكذلك أصحابه، ولكن اختلف هل فرض شيء قبل الصلوات الخمس من الصلوات أم لا؟ فقيل إن الفرض كانت صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها. انتهى. وروى الحارث بن أسامة من طريق ابن لهيعة موصولاً عن زيد بن حارثة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحى إليه أتاه جبريل، فعلمه الوضوء، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه. وقد روى ابن ماجه بمعناه. وروي نحوه عن البراء بن عازب وابن عباس وفي حديث ابن عباس وكان ذلك من أول الفريضة. وقد ذكر ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا إذا حضرت الصلاة ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، وقد رأى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم وعلياً يصليان مرة، فكلمهما في ذلك، ولما عرف جلية الأمر أمرهما بالثبات. الخبر يبلغ إلى قريش إجمالاً: يبدو بعد النظر في نواح شتى من الوقائع أن الدعوة - في هذه المرحلة - وإن كانت سرية وفردية لكن بلغت أنباءها إلى قريش، بيد أنها لم تكترث بها. قال الشيخ محمد الغزالي: "وترامتهذه الأنباء إلى قريش فلم تعرها اهتماماً، ولعلها حسبت محمداً أحد أولئك الديانين، الذي يتكلمون في الألوهية وحقوقها، كما صنع أمية بن أبي الصلت وقس بن ساعدة، وعمرو بن نفيل وأشباههم، إلا أنها توجست خيفة من ذيوع خبره وامتداد أثره، وأخذت ترقب على الأيام مصيره ودعوته". مرت ثلاث سنين والدعوة لم تزل سرية وفردية، وخلال هذه الفترة تكونت جماعة من المؤمنين تقوم على الأخوة والتعاون، وتبليغ الرسالة وتمكينها من مقامها ثم تنزل الوحي يكلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمعالنته قومه، ومجابهة باطلهم ومهاجمة أصنامهم. المرحَلة الثانية الدعوة(/5)
جهاراً أول أمر بإظهار الدعوة: أول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] والسورة التي وقعت فيها الآية - وهي سورة الشعراء - ذكرت فيها أولاً قصة موسى عليه السلام من بداية نبوته إلى هجرته مع بني إسرائيل، ونجاتهم من فرعون وقومه، وإغراق آل فرعون معه، وقد اشتملت هذه القصة على جميع المراحل التي مر بها موسى عليه السلام خلال دعوة فرعون وقومه إلى اللَّه. مع العلم أن هذا التفصيل إنما جيء به حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوة قومه إلى اللَّه، ليكون أمامه وأمام أصحابه نموذجاً لما سيلقونه من التكذيب والاضطهاد حينما يجهرون بالدعوة، وليكونوا على بصيرة من أمرهم منذ بداية دعوتهم. ومن ناحية أخرى تشتمل هذه السورة على ذكر مآل المكذبين للرسل، من قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة - علاوة على ما ذكر من أمر فرعون وقومه - ليعلم الذين سيقومون بالتكذيب بما يؤول إليه أمرهم وبما سيلقون من مؤاخذة اللَّه إن استمروا على التكذيب، وليعرف المؤمنون أن حسن العاقبة لهم لا للمكذبين. الدعوة في الأقربين: وأول ما فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية أنه دعا بني هاشم فحضروا، ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا خمسة وأربعين رجلاً. فبادره أبو لهب وقال: وهؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصُّباة. واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحداً جاء على بني أبيه بشر مما جئت به، فسكت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ولم يتكلم في ذلك المجلس. ثم دعاهم ثانية وقال: الحمد للَّه أحمده، وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه. وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له. ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله واللَّه الذي لا إله إلا هو، إني رسول اللَّه إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، واللَّه لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً. فقال أبو طالب ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقاً لحديثك. وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت به، فواللَّه لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب. فقال أبو لهب هذه واللَّه السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم، فقال أبو طالب واللَّه لنمنعه ما بقينا. على جبل الصفا: وبعد ما تأكد النبي صلى الله عليه وسلم من تعهد أبي طالب بحمايته، وهو يبلغ عن ربه، قام يوماً على الصفا فصرخ: يا صباحاه، فاجتمع إليه بطون قريش، فدعاهم إلى التوحيد والإيمان برسالته وباليوم الآخر. وقد روى البخاري طرفاً من هذه القصة عن ابن عباس، قال: لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي يا بني فهر...! يا بني عدي لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]. وروى مسلم طرفاً آخر من هذه القصة عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه. قال: لما نزلت هذه الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} دعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعم وخص. فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني واللَّه لا أملك لكم من اللَّه شيئاً، إلا أن لكم رحماً سأبلها ببلالها. هذه الصيحة العالية هي غاية البلاغ، فقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلات بينه وبينهم. وأن عصبية القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتي من عند اللَّه. الصدع بالحق وردود فعل المشركين: ولم يزل هذا الصوت يرتج دويه في أرجاء مكة حتى نزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعكر على خرافات الشرك وترهاته، ويذكر حقائق الأصنام وما لها من قيمة في الحقيقة، يضرب بعجزها الأمثال، ويبين بالبينات أن من عبدها وجعلها وسيلة بينه وبين اللَّه فهو في ضلال مبين. انفجرت مكة بمشاعر الغضب وماجت بالغرابة والاستنكار حين سمعت صوتاً يجهر بتضليل المشركين وعباد الأصنام، كأنه صاعقة قصفت السحاب فرعدت وبرقت وزلزلت الجو الهادىء، وقامت قريش تستعد لحسم هذه الثورة التي(/6)
اندلعت بغتة، ويخشى أن تأتي على تقاليدها وموروثاتها. قامت لأنها عرفت أن معنى الإيمان بنفي الألوهية عما سوى اللَّه، ومعنى الإيمان بالرسالة وباليوم الآخر هو الانقياد التام والتفويض المطلق، بحيث لا يبقى لهم خيار في أنفسهم وأموالهم فضلاً عن غيرهم، ومعنى ذلك انتفاء سيادتهم وكبريائهم على العرب، التي كانت بالصبغة الدينية، وامتناعهم عن تنفيذ مرضاتهم أمام مرضاة اللَّه ورسوله، وامتناعهم عن المظالم التي كانوا يفترونها على الأوساط السافلة، وعن السيئات التي كانوا يجترحونها صباح مساء، عرفوا هذا المعنى فكانت نفوسهم تأبى عن قبول هذا الوضع المخزي لا لكرامة وخير {بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة: 5]. عرفوا كل ذلك جيداً، ولكن ماذا سيفعلون أمام رجل صادق أمين، أعلى مثل للقيم البشرية ولمكارم الأخلاق، لم يعرفوا له نظيراً ولا مثيلاً خلال فترة طويلة من تاريخ الآباء والأقوام؟ ماذا سيفعلون؟ تحيروا في ذلك، وحق لهم أن يتحيروا. وبعد إدارة فكرتهم لم يجدوا سبيلاً إلا أن يأتوا إلى عمه أبي طالب، فيطلبوا منه أن يكف ابن أخيه عما هو فيه، ورأوا لإلباس طلبهم لباس الجد والحقيقة أن يقولوا: إن الدعوة إلى ترك آلهتهم، والقول بعدم نفعها وقدرتها سبة قبيحة وإهانة شديدة لها، وفيه تسفيه وتضليل لآبائهم الذين كانوا على هذا الدين، وجدوا هذا السبيل فتسارعوا إلى سلوكها. وفد قريش إلى أبي طالب: قال ابن إسحاق مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاً، وردهم رداً جميلاً فانصرفوا عنه ومضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يظهر دين اللَّه ويدعو إليه. المجلس الاستشاري لكف الحجاج عن استماع الدعوة: وخلال هذه الأيام أهم قريشاً أمر آخر، وذلك أن الجهر بالدعوة لم يمض عليه إلا أشهر معدودة حتى قرب موسم الحج، وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدم عليهم، فرأت أنه لا بد من كلمة يقولونها للعرب في شأن محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون لدعوته أثر في نفوس العرب، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة يتداولون في تلك الكلمة، فقال لهم الوليد أجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً، قالوا: فأنت فقل، قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول كاهن. قال: لا واللَّه ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول مجنون قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته، قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول ساحر، قال ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم، قالوا: فما نقول؟ قال: واللَّه إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك. وتفيد بعض الروايات أن الوليد لما رد عليهم كل ما عرضوا له، قالوا: أرنا رأيك الذي لا غضاضة فيه، فقال لهم أمهلوني حتى أفكر في ذلك، فظل الوليد يفكر ويفكر حتى أبدى لهم رأيه الذي ذكر آنفاً. وفي الوليد أنزل اللَّه تعالى ست عشرة آية من سور المدثر وفي خلالها صور كيفية تفكيره، فقال: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 18-25]. وبعد أن اتفق المجلس على هذا القرار أخذوا في تنفيذه فجلسوا بسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره. والذي تولى كبر ذلك هو أبو لهب، فقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتبع الناس إذا وافى الموسم في منازلهم وفي عكاظ ومجنة وذي المجاز، يدعوهم إلى اللَّه، وأبو لهب وراءه يقول لا تطيعوه فإنه صابىء كذاب. وأدى ذلك إلى أن صدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها. أساليب شتى لمجابهة الدعوة: ولما رأت قريش أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يصرفه عن دعوته هذا ولا ذاك، فكروا مرة أخرى واختاروا لقمع هذه الدعوة أساليب تتلخص فيما يأتي: السخرية والتحقير، والاستهزاء والتكذيب والتضحيك، قصدوا بها تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية، فرموا النبي صلى الله عليه وسلم بتهم هازلة، وشتائم سفيهة، فكانوا(/7)
ينادونه بالجنون {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] ويصمونه بالسحر والكذب {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص: 4] وكانوا يشيعونه ويستقبلونه بنظرات متلهمة ناقمة، وعواطف منفعلة هائجة {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51] وكان إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابه استهزأوا بهم وقال {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] وكانوا كما قص اللَّه علينا {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 29- 33]. تشويه تعاليمه وإثارة الشبهات، وبث الدعايات الكاذبة، ونشر الإيرادات الواهية حول هذه التعاليم، وحول ذاته وشخصيته، والإكثار من كل ذلك بحيث لا يبقى للعامة مجال في تدبر دعوته، فكانوا يقولون عن القرآن {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الفرقان: 5] {إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4] وكانوا يقولون: {إنما يعلمه بشر} [النحل: 16] وكانوا يقولون عن الرسول صلى الله عليه وسلم : {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] وفي القرآن نماذج كثيرة للردود على إيراداتهم بعد نقلها أو من غير نقلها. معارضة القرآن بأساطير الأولين، وإشغال الناس بها عنه. فقد ذكروا أن النضربن الحارث قال مرة لقريش يا معشر قريش واللَّه لقد نزل بكم أمر ما أوتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم ساحر، لا واللَّه ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، قلتم كاهن، لا واللَّه ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم شاعر، لا واللَّه ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر وسمعنا أوصافه كلها هزجه ورجزه، وقلتم مجنون، لا واللَّه ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش فانظروا في شأنكم، فإنه واللَّه لقد نزل بكم أمر عظيم. ثم ذهب النضر إلى الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم وأسفنديار، فكان إذا جلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مجلساً للتذكير باللَّه والتحذير من نقمته خلفه النضر، ويقول واللَّه ما محمد بأحسن حديثاً مني، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وأسفنديار، ثم يقول بماذا محمد أحسن حديثاً مني. وتفيد رواية ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قينات، فكان لا يسمع برجل مال إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا سلط عليه واحدة منها تطعمه وتسقيه وتغني له حتى لا يبقى له ميل إلى الإسلام وفيه نزل قوله تعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل اللَّه. مساومات حاولوا بها أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق بأن يترك المشركون بعض ما هم عليه، ويترك النبي صلى الله عليه وسلم بعض ما هو عليه {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] فهناك رواية رواها ابن جرير والطبراني تفيد أن المشركين عرضوا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم عاماً ويعبدون ربه عاماً، ورواية أخرى لعبد بن حميد تفيد أنهم قالوا: لو قبلت آلهتنا نعبد إلهك. وروى ابن إسحاق بسنده، قال: اعترض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - وهو يطوف بالكعبة - الأسود، المطلب بن أسد بن عبد العزى والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل السهمي - وكانوا ذوي أسنان في قومهم - فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه، فأنزل اللَّه تعالى فيهم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}... السورة كلها. وحسم اللَّه مفاوضتهم المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة. ولعل اختلاف الروايات لأجل أنهم حاولوا هذه المساومة مرة بعد أخرى. الاضطهادات: أعمل المشركون الأساليب التي ذكرناها شيئاً فشيئاً لكف الدعوة بعد ظهورها في بداية السنة الرابعة من النبوة، ومضت على ذلك أسابيع وشهور وهم مقتصرون على هذه الأساليب، لا يتجاوزونها إلى طريق الاضطهاد والتعذيب، ولكنهم لما(/8)
رأوا أن هذه الأساليب لا تجدي لهم نفعاً في كف الدعوة الإسلامية اجتمعوا مرة أخرى وكونوا منهم لجنة أعضاؤها خمسة وعشرون رجلاً من سادات قريش، رئيسها أبو لهب عم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وبعد التشاور والتفكر اتخذت هذه اللجنة قراراً حاسماً ضد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وضد أصحابه. فقررت أن لا تألو جهداً في محاربة الإسلام، وإيذاء رسوله، وتعذيب الداخلين فيه، والتعرض لهم بألوان من النكال والإيلام. اتخذوا هذا القرار وصمموا على تنفيذه. أما بالنسبة إلى المسلمين - ولا سيما المستضعفين منهم - فكان ذلك سهلاً جداً. وأما بالنسبة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فإنه كان رجلاً شهماً وقوراً ذا شخصية فذة تتعاظمه نفوس الأعداء والأصدقاء بحيث لا يقابل مثلها إلا بالإجلال والتشريف، ولا يجترىء على اقتراف الدنايا والرذائل ضده إلا أرذال الناس وسفهاؤهم، ومع ذلك كان في منعة أبي طالب، وأبو طالب من رجال مكة المعدودين كان معظماً في أصله، معظماً بين الناس، فما يجسر أحد على إخفار ذمته واستباحة بيضته، إن هذا الوضع أقلق قريشاً وأقامهم وأقعدهم، ولكن إلام هذا الصبر الطويل أمام دعوة تتشوف إلى القضاء على زعامتهم الدينية، وصدارتهم الدنيوية. وبدأوا الاعتداءات ضد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى رأسهم أبو لهب، فقد اتخذ موقفه هذا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول قبل أن تهم قريش بذلك. وقد أسلفنا ما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم في مجلس بني هاشم، وما فعل على الصفا، وقد ورد في بعض الروايات أنه - حينما كان على الصفا - أخذ حجراً ليضرب به النبي صلى الله عليه وسلم . وكان أبو لهب قد زوج ولديه عتبة وعتيبة بنتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رقية وأم كلثوم قبل البعثة، فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما بعنف وشدة حتى طلقاهما. ولما مات عبد اللَّه - الابن الثاني لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - استبشر أبو لهب، وهرول إلى رفقائه يبشرهم بأن محمداً صار أبتر. وقد أسلفنا أن أبا لهب كان يجول خلف النبي صلى الله عليه وسلم في موسم الحج والأسواق لتكذيبه، قد روى طارق بن عبد اللَّه المحاربي ما يفيد أنه كان لا يقتصر على التكذيب بل كان يضربه بالحجر حتى يدمي عقباه. وكانت امرأة أبي لهب - أم جميل أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان - لا تقل عن زوجها في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانت تحمل الشوك وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى بابه ليلاً، وكانت امرأة سليطة تبسط فيه لسانها، وتطيل عليه الافتراء والدس، وتؤجج نار الفتنة، وتثير حرباً شعواء على النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك وصفها القرآن بحمالة الحطب. ولما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها فهر أي بمقدار ملء الكف من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ اللَّه ببصرها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني، واللَّه لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما واللَّه إني لشاعرة. ثم قالت: مذمماً عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا ثم انصرفت، فقال أبو بكر يا رسول اللَّه أما تراها رأتك؟ فقال: ما رأتني، لقد أخذ اللَّه ببصرها عني. وروى أبو بكر البزار هذه القصة. وفيها أنها لما وقفت على أبي بكر قالت: أبا بكر هجانا صاحبك، فقال أبو بكر لا ورب هذه البنية، ما ينطق بالشعر ولا يتفوّه به، فقالت: إنك لمصدق. كان أبو لهب يفعل كل ذلك وهو عم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وجاره كان بيته ملصقاً ببيته كما كان غيره من جيران رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يؤذونه وهو في بيته. قال ابن إسحاق كان النفر الذين يؤذون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيته أبا لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلي - وكانوا جيرانه - لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص فكان أحدهم يطرح عليه صلى الله عليه وسلم حجراً ليستتر به منهم إذا صلى، فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود فيقف به على بابه، ثم يقول يا بني عبد مناف أي جوار هذا؟ ثم يلقيه في الطريق. وازداد عقبة بن أبي معيط في شقاوته وخبثه، فقد روى البخاري عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال بعضهم لبعض أيكم يجيء بسلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد. فانبعث أشقى القوم (وهو عقبة بن أبي معيط) فجاء به فنظر، حتى إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضع على ظهرهبين كتفيه، وأنا أنظر لا أغني شيئاً لو كانت لي منعة، قال: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض (أي يتمايل بعضهم على بعض مرحاً وبطراً) ورسول(/9)
اللَّه صلى الله عليه وسلم ساجد، لا يرفع رأسه حتى جاءته فاطمة، فطرحته عن ظهره، فرفع رأسه، ثم قال: اللهم عليك بقريش ثلاث مرات، فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم، وقال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمى اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط - وعد السابع فلم يحفظه - فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عدّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب، قليب بدر. وكان أمية بن خلف إذا رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه. وفيه نزل: {ويل لكل همزة لمزة} قال ابن هشام: الهمزة: الذي يشتم الرجل علانية، ويكسر عينيه، ويغمز به، واللمزة: الذي يعيب الناس سراً ويؤذيهم. أما أخوه أبي بن خلف فكان هو وعقبة بن أبي معيط متصافيين. وجلس عقبة مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فلما بلغ ذلك أبياً أنبه وعاتبه وطلب منه أن يتفل في وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ففعل. وأبى بن خلف نفسه فت عظماً رميماً ثم نفخه في الريح نحو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وكان الأخنس بن شريق الثقفي ممن ينال من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وقد وصفه القرآن بتسع صفات تدل على ما كان عليه، وهي في قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 10-13]. وكان أبو جهل يجيء أحياناً إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسمع منه القرآن ثم يذهب عنه فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدب ولا يخشى ويؤذي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالقول، ويصد عن سبيل اللَّه، ثم يذهب مختالاً بما يفعل، فخوراً بما ارتكب من الشر، كأنما فعل شيئاً يذكر، وفيه نزل: {فلا صدَّق ولا صلى}...الخ وكان يمنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة منذ أول يوم رآه يصلي في الحرم، ومرة مر به وهو يصلي عند المقام فقال: يا محمد ألن أنهك عن هذا، وتوعده فأغلظ له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وانتهره. فقال: يا محمد بأي شيءٍ تهددني؟ أما واللَّه إني لأكثر هذا الوادي نادياً. فأنزل فليدع ناديه وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بخناقه وهزه وهو يقول له: {أولى لك فأولى * ثم أولى لك فأولى} فقال عدو اللَّه أتوعدني يا محمد؟ واللَّه لا تستطيع أنت ولا ربك شيئاً، وإني لأعز من مشى بين جبليها. ولم يكن أبو جهل ليفيق من غباوته بعد هذا الانتهار، بل ازداد شقاوة فيما بعد. أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم فقال: واللات والعزى، لئن رأيته لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهؤلاء أجنحة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً. كانت هذه الاعتداءات بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع ما لشخصيته الفذة من وقار وجلال في نفوس العامة والخاصة، ومع ما له من منعة أبي طالب أعظم رجل محترم في مكة، أما بالنسبة إلى المسلمين - ولا سيما الضعفاء منهم - فإن الإجراءات كانت أقسى من ذلك وأمر، ففي نفس الوقت قامت كل قبيلة تعذب من دان منها بالإسلام أنواعاً من التعذيب، ومن لم يكن له قبيلة فأجرت عليهم الأوباش والسادات ألواناً من الاضطهاد يفزع من ذكرها قلب الحليم. كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال والجاه، وإن كان ضعيفاً ضربه وأغرى به. وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من أوراق النخيل ثم يدخنه من تحته. ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه أجاعته وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشاً فتخشف جلده تخشف الحية. وكان بلال مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلاً، ثم يسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، حتى كان يظهر أثر الحبل في عنقه، وكان أمية يشده شداً ثم يضربه بالعصا، وكان يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول لا واللَّه لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى فيقول وهو في ذلك أحد، أحد، حتى مر به أبو بكر يوماً وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلام أسود، وقيل بسبع أواق أو بخمس من الفضة وأعتقه. وكان عمار بن ياسر رضي اللَّه عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه، فكان المشركون - وعلى رأسهم أبو جهل - يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها. ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فقال: صبراً آل ياسر فإن موعدكم(/10)
الجنة، فمات ياسر في العذاب، وطعن أبو جهل سمية - أم عمار - في قبلها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة، وبوضع الصخر أحمر على صدره أخرى، وبالتغريق أخرى. وقالوا: لا نتركك حتى تسب محمداً، أو تقول في اللات والعزى خيراً فوافقهم على ذلك مكرهاً، وجاء باكياً معتذراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فأنزل اللَّه {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]. وكان أبو فكيهة - واسمه أفلح - مولى لبني عبد الدار، فكانوا يشدون برجله الحبل، ثم يجرونه على الأرض. وكان خباب بن الأرت مولى لأم أنمار بنت سباع الخزاعية، فكان المشركون يذيقونه أنواعاً من التنكيل، يأخذون بشعر رأسه فيجذبونه جذباً، يلوون عنقه تلوية عنيفة وأضجعوه مرات عديدة على فحام ملتهبة، ثم وضعوا عليه حجراً حتى لا يستطيع أن يقوم. وكانت زنيرة والنهدية وابنتها وأم عبيس إماء أسلمن، وكان المشركون يسومونهن من العذاب أمثال ما ذكرنا. وأسلمت جارية لبني مؤمل - وهم حي من بني عدي - فكان عمر بن الخطاب - وهو يومئذ مشرك - يضربها، حتى إذا مل قال: إني لم أترك إلا ملالة. وابتاع أبو بكر هذه الجواري فأعتقهن، كما أعتق بلالاً وعامر بن فهيرة. وكان المشركون يلفون بعض الصحابة في إهاب الإبل والبقر، ثم يلقونه في حر الرمضاء، ويلبسون بعضاً آخر درعاً من الحديد ثم يلقونه على صخرة ملتهبة. وقائمة المعذبين في اللَّه طويلة ومؤلمة جداً، فما من أحد علموا بإسلامه إلا تصدوا له وآذوه. دار الأرقم: كان من الحكمة تلقاء هذه الاضطهادات أن يمنع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المسلمين عن إعلان إسلامهم قولاً أو فعلاً، وأن لا يجتمع بهم إلا سراً، لأنه إذا اجتمع بهم علناً فلا شك أن المشركين يحولون بينه وبين ما يريد من تزكية المسلمين وتعليمهم الكتاب والحكمة، وربما يفضي ذلك إلى مصادمة الفريقين، بل وقع ذلك فعلاً في السنة الرابعة من النبوة، وذلك أن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانوا يجتمعون في الشعاب، فيصلون فيها سراً، فرآهم نفر من كفار قريش، فسبوهم وقاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً فسال دمه، وكان أول دم هريق في الإسلام. ومعلوم أن المصادمة لو تعددت وطالت لأفضت إلى تدمير المسلمين وإبادتهم فكان من الحكمة الاختفاء، فكان عامة الصحابة يخفون إسلامهم وعبادتهم ودعوتهم واجتماعهم، أما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكان يجهر بالدعوة والعبادة بين ظهراني المشركين، لا يصرفه عن ذلك شيء، ولكن كان يجتمع مع المسلمين سراً؛ نظراً لصالحهم وصالح الإسلام، وكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا. وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم، فكان اتخذها مركزاً لدعوته، ولاجتماعه بالمسلمين من السنة الخامسة من النبوة. الهجرة الأولى إلى الحبشة: كانت بداية الاضطهادات في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة، بدأت ضعيفة ثم لم تزل يوماً فيوماً وشهراً فشهراً حتى اشتدت وتفاقمت في أواسط السنة الخامسة، حتى نبا بهم المقام في مكة، وأوعزتهم أن يفكروا في حيلة تنجيهم من هذا العذاب الأليم، وفي هذه الساعة الضنكة الحالكة نزلت سورة الكهف ردوداً على أسئلة أدلى بها المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنها اشتملت على ثلاث قصص، فيها إشارات بليغة من اللَّه تعالى إلى عباده المؤمنين، فقصة أصحاب الكهف ترشد إلى الهجرة من مراكز الكفر والعدوان حين مخافة الفتنة على الدين، متوكلاً على اللَّه {وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف: 16]. وقصة الخضر وموسى تفيد أن الظروف لا تجري ولا تنتج حسب الظاهر دائماً. بل ربما يكون الأمر على عكس كامل بالنسبة إلى الظاهر، ففيها إشارة لطيفة إلى أن الحرب القائمة ضد المسلمين ستنعكس تماماً، وسيصادر هؤلاء الطغاة المشركون - إن لم يؤمنوا - أمام هؤلاء الضعفاء المدحورين من المسلمين. وقصة ذي القرنين تفيد أن الأرض للَّه يورثها من عباده من يشاء. وأن الفلاح إنما هو في سبيل الإيمان دون الكفر، وأن اللَّه لا يزال يبعث من عباده - بين آونة وأخرى من يقوم بإنجاء الضعفاء من يأجوج ذلك الزمان ومأجوجه. وأن الأحق بإرث الأرض إنما هو عباد اللَّه الصالحون ثم نزلت سورة الزمر تشير إلى الهجرة، وتعلن بأن أرض اللَّه ليست ضيقة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد علم أن أصحمة النجاشي ملك الحبشة ملك عادل. لا يظلم عنده أحد، فأمر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فراراً بدينهم من الفتن. وفي(/11)
رجب سنة خمس من النبوة هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة،كان مكوناً من اثني عشر رجلاً وأربع نسوة، رئيسهم عثمان بن عفان، ومعه السيدة رقية بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهما إنهما أول بيت هاجر في سبيل اللَّه بعد إبراهيم ولوط عليهما السلام. كان رحيل هؤلاء تسلالاً في ظلمة الليل - حتى لا تفطن لهم قريش - خرجوا إلى البحر يمموا ميناء شعيبة، وقيضت لهم الأقدار سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة، وفطنت لهم قريش، فخرجت في آثارهم، لكن لما بلغت إلى الشاطىء كانوا قد انطلقوا آمنين، وأقام المسلمون في الحبشة في أحسن جوار. وفي رمضان من نفس السنة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرم، وهناك جمع كبير من قريش، كان فيه ساداتها وكبراؤها، فقام فيهم، وأخذ يتلو سورة النجم بغتة، إن أولئك الكفار لم يكونوا سمعوا كلام اللَّه قبل ذلك، لأن أسلوبهم المتواصل كان هو العمل بما تواصى به بعضهم بعضاً، من قولهم {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة، وقرع آذانهم كلام إلهي رائع خلاب - لا يحيط بروعته وجلالته البيان - تفانوا عما هم فيه، وبقي كل واحد مصغياً إليه، لا يخطر بباله شيء سواه. حتى إذا تلا في خواتيم هذه السورة قوارع تطير لها القلوب، ثم قرأ {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] ثم سجد. لم يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجداً. وفي الحقيقة كانت روعة الحق قد صدعت العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين، فما تمالكوا أن يخروا للَّه ساجدين. وسقط في أيديهم لما أحسوا أن جلال كلام اللَّه لوى زمامهم، فارتكبوا عين ما كانوا يبذلون قصارى جهده في محوه وإفنائه، وقد توالى عليهم اللوم والعتاب من كل جانب، ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين، وعند ذلك كذبوا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم بكلمة تقدير، وأنه قال عنها: "تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى" جاءوا بهذا الإفك المبين، ليعتذروا عن سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس يستغرب هذا من قوم كانوا يؤلفون الكذب، ويطيلون الدس والافتراء. بلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة، ولكن في صورة تختلف تماماً عن صورته الحقيقية، بلغهم أن قريشاً أسلمت، فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار، وعرفوا جلية الأمر رجع منهم من رجع إلى الحبشة، ولم يدخل في مكة من سائرهم أحد إلا مستخفياً، أو في جوار رجل من قريش. ثم اشتد عليهم وعلى المسلمين البلاء والعذاب من قريش، وسطت بهم عشائرهم، فقد كان صعباً على قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الجوار، ولم ير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بداً من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى، وكانت هذه الهجرة الثانية أشق من سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، بيد أن المسلمين كانوا أسرع، ويسر اللَّه لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا. وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلاً إن كان فيهم عمار، فإنه يشك فيه، وثمان عشرة أو تسع عشرة امرأة. وبالأول جزم العلامة محمد سليمان المنصور فوري. مكيدة قريش بمهاجري الحبشة: عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمناً لأنفسهم ودينهم. فاختاروا رجلين جلدين لبيبين، وهما عمرو بن العاص، وعبد اللَّه بن أبي ربيعة - قبل أن يسلما - وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته، وبعد أن ساق الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، وزوداهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم، حضرا إلى النجاشي، وقدما له الهدايا كما كلماه، فقالا له أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، لم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه. وقالت البطارقة: صدقاً أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم. ولكن رأى النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية، وسماع أطرافها جميعاً. فأرسل إلى المسلمين، ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائناً ما كان. فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟ قال جعفر بن أبي طالب - وكان هو المتكلم عن المسلمين -: أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث اللَّه إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى اللَّه لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من(/12)
الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد اللَّه وحده، لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين اللَّه، فعبدنا اللَّه وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة اللَّه تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن اللَّه من شيء؟ فقال له جعفر: نعم! فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ فقرأ عليه صدراً من {كهيعص} فبكى واللَّه النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا واللَّه لا أسلمهم إليكما ولا يكادون - يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه - فخرجا، وقال عمرو بن العاص لعبد اللَّه بن ربيعة واللَّه لآتينهم غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم. فقال له عبد اللَّه بن ربيعة لا تفعل، فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا، ولكن أصر عمرو على رأيه. فلما كان الغد قال للنجاشي أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح، ففزعوا، ولكن أجمعوا على الصدق، كائناً ما كان، فلما دخلوا عليه، وسألهم، قال له جعفر نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم هو عبد اللَّه ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فأخذ النجاشي عوداً من الأرض، ثم قال: واللَّه ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته، فقال: وإن نخرتم واللَّه. ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي - والشيوم الآمنون بلسان الحبشة - من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبراً من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم - والدبر الجبل بلسان الحبشة. ثم قال لحاشيته: ردّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فواللَّه ما أخذ اللَّه مني الرشوة حين رد علي ملكي، فأخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه. قالت أم سلمة التي تروي هذه القصة فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار. هذه رواية ابن إسحاق، وذكر غيره أن وفادة عمرو بن العاص إلى النجاشي كانت بعد بدر، وجمع بعضهم بأن الوفادة كانت مرتين لكن الأسئلة والأجوبة التي ذكروا أنها دارت بين النجاشي وجعفر في الوفادة الثانية هي نفس الأسئلة والأجوبة التي ذكرها ابن إسحاق تقريباً، ثم إن تلك الأسئلة يدل فحواها أنها كانت في أول مرافعة قدمت إلى النجاشي. أخفقت حيلة المشركين، وفشلت مكيدتهم، وعرفوا أنهم لا يشيعون ضغينتهم إلا في حدود سلطانهم، ونشأت فيهم من أجل ذلك فكرة رهيبة. رأوا أن التفصي عن هذه "الداهية" لا يمكن إلا بكف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن دعوته تماماً، وإلا فبإعدامه، ولكن كيف السبيل إلى ذلك وأبو طالب يحوطه ويحول بينه وبينهم؟ رأوا أن يواجهوا أبا طالب في هذا الصدد. قريش تهدِّد أبا طالب: جاءت سادات قريش إلى أبي طالب فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا. وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه، وإنا واللَّه لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين. عظم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، فبعث إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال له يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله، وأنه ضعُف عن نصرته، فقال: يا عم واللَّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر - حتى يظهره اللَّه أو أهلك فيه - ما تركته، ثم استعبر وبكى، وقام، فلما ولى ناداه أبو طالب فلما أقبل قال له اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فواللَّه لا أسلمك لشيء أبداً. وأنشد: واللَّه لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وأبشر وقر بذاك منك عيونا قريش بين يدي أبي طالب مرة أخرى: ولما رأت قريش أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ماض في عمله عرفت أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأنه مجمع لفراقهم وعداوتهم في ذلك، فذهبوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة وقالوا له يا أبا طالب إن هذا الفتى أنهد فتى في قريش وأجمله،(/13)
فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل، فقال: واللَّه لبئس ما تسومونني أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه. هذا واللَّه ما لا يكونأبداً. فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف واللَّه يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تركه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً، فقال: واللَّه ما أنصفتموني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك. لا تذكر المصادر التاريخية زمن هاتين الوفادتين لكن يبدو بعد التأمل في القرائن والشواهد أنهما كانتا في أواسط السنة السادسة من النبوة، وأن الفصل بين الوفادتين لم يكن إلا يسيراً. فكرة الطغاة في إعدام النبي صلى الله عليه وسلم : وبعد فشل قريش وخيبتهم في الوفادتين عادوا إلى ضراوتهم وتنكيلهم بأشد مما كان قبل ذلك، وخلال هذه الأيام نشأت في طغاتهم فكرة إعدامه صلى الله عليه وسلم بطريق أخرى، وكانت هذه الفكرة وتلك الضراوة هي التي سببت في تقوية الإسلام ببطلين جليلين من أبطال مكة، وهما حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهما. فمن تلك الضراوة أن عتيبة بن أبي لهب أتى يوماً إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أكفر بـ: {النجم إذا هوى} و {بالذي دنا فتدلى} ثم تسلط عليه بالأذى، وشق قميصه، وتفل في وجهه صلى الله عليه وسلم ، إلا أن البزاق لميقع عليه، وحينئذ دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك، وقد استجيب دعاؤه صلى الله عليه وسلم ، فقد خرج عتيبة مرة في نفر من قريش، حتى نزلوا في مكان من الشام يقال له الزرقاء، فطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول يا ويل أخي هو واللَّه آكلي كما دعا محمد عليّ، قتلني وهو بمكة، وأنا بالشام فعدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ برأسه فذبحه. ومنها ما ذكر أن عقبة بن أبي معيط وطىء على رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان. ومما يدل على أن طغاتهم كانوا يريدون قتله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن إسحاق في حديث طويل، قال: قال أبو جهل يا معشر قريش إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد اللَّه لأجلس له بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليضع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا: واللَّه لا نسلمك لشيء أبداً، فامض لما تريد. فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجراً كما وصف، ثم جلس لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، فقام يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه، مرعوباً قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا له ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا واللَّه ما رأيت مثل هامته، ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهم بي أن يأكلني. قال ابن إسحاق فذكر لي أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه. وبعد ذلك فعل أبو جهل برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما أدى إلى إسلام حمزة رضي اللَّه عنه وسيأتي. أما طغاة قريش فلم تزل فكرة الإعدام تنضج في قلوبهم، روى ابن إسحاق عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر، فذكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينا هم كذلك إذ طلع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها.فوقف ثم قال: أتسمعون يا مشعر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد، ويقول انصرف يا أبا القاسم، فواللَّه ما كنت جهولاً. فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به، فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكر دونه، وهو يبكي ويقول أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللَّه؟ ثم انصرفوا عنه، قال ابن عمرو فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً نالوا منه قط. انتهى ملخصاً. وفي رواية البخاري عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله(/14)
عليه وسلم . قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً. فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللَّه؟. وفي حديث أسماء فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا، وعليه غدائر أربع، فخرج وهو يقول أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللَّه؟ فلهوا عنه وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا لا نمس شيئاً من غدائره إلا رجع معنا. إسلام حمزة رضي اللَّه عنه: خلال هذا الجو الملبد بسحائب الظلم والطغيان أضاء برق نور للمقهورين طريقهم ألا وهو إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه، أسلم في أواخر السنة السادسة من النبوة، والأغلب أنه أسلم في شهر ذي الحجة. وسبب إسلامه أن أبا جهل مر برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوماً عند الصفا فآذاه ونال منه، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ساكت لا يكلمه، ثم ضربه أبو جهل بحجر في رأسه فشجه حتى نزف منه الدم، ثم انصرف عنه إلى نادي قريش عند الكعبة، فجلس معهم، وكانت مولاة لعبد اللَّه بن جدعان في مسكن لها على الصفا ترى ذلك، وأقبل حمزة من القنص متوشحاً قوسه، فأخبرته المولاة بما رأت من أبي جهل، فغضب حمزة - وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة - فخرج يسعى. لم يقف لأحد، معداً لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلما دخل المسجد قام على رأسه وقال له يا مصفر استه، تشتم ابن أخي وأنا على دينه؟ ثم ضربه بالقوس فشجه شجة منكرة، فثار رجال من بني مخزوم - حي أبي جهل - وثار بنو هاشم - حي حمزة - فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني سببت ابن أخيه سباً قبيحاً. وكان إسلام حمزة أول الأمر أنفة رجل أبى أن يهان مولاه. ثم شرح اللَّه صدره، فاستمسك بالعروة الوثقى، واعتز به المسلمون أيما اعتزاز. إسلام عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: وخلال هذا الجو الملبد بسحائب الظلم والطغيان أضاء برق آخر أشد بريقاً وإضاءة من الأول، ألا وهو إسلام عمر بن الخطاب، أسلم في ذي الحجة سنة ست من النبوة. بعد ثلاثة أيام من إسلام حمزة رضي اللَّه عنه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا اللَّه تعالى لإسلامه. فقد أخرج الترمذي عن ابن عمر، وصححه، وأخرج الطبراني عن ابن مسعود وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام فكان أحبهما إلى اللَّه عمر رضي اللَّه عنه. وبعد إدارة النظر في جميع الروايات التي رويت في إسلامه يبدو أن نزول الإسلام في قلبه كان تدريجاً، ولكن قبل أن نسوق خلاصتها نرى أن نشير إلى ما كان يتمتع به رضي اللَّه عنه من العواطف والمشاعر. كان رضي اللَّه عنه معروفاً بحدة الطبع وقوة الشكيمة، وطالما لقي المسلمون منه ألوان الأذى، والظاهر أنه كانت تصطرع في نفسه مشاعر متناقضة، احترامه للتقاليد التي سنها الآباء والأجداد، واسترساله مع شهوات السكر واللهو التي ألفها، ثم إعجابه بصلابة المسلمين واحتمالهم البلاء في سبيل عقيدتهم، ثم الشكوك التي كانت تساوره - كأي عاقل - في أن ما يدعو إليه الإسلام قد يكون أجل وأزكى من غيره، ولهذا ما إن يثور حتى يخور. وخلاصة الروايات مع الجمع بينها - في إسلامه رضي اللَّه عنه أنه التجأ ليلة إلى المبيت خارج بيته، فجاء إلى الحرم، ودخل في ستر الكعبة، والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يصلي وقد استفتح سورة "الحاقة" فجعل عمر يستمع إلى القرآن ويعجب من تأليفه، قال: فقلت أي في نفسي هذا واللَّه شاعر كما قالت قريش، قال: فقرأ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 40-41] قال: قلت: كاهن. قال: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 42-43] إلى آخر السورة. قال فوقع الإسلام في قلبي. كان هذا أول وقوع نواة الإسلام في قلبه، لكن كانت قشرة النزعات الجاهلية، والعصبية التقليدية، والتعاظم بدين الآباء غالبة على مخ الحقيقة التي كانت يتهمس بها قلبه، فبقي مجداً في عمله ضد الإسلام غير مكترث بالشعور الذي يكمن وراء هذه القشرة. وكان من حدة طبعه وفرط عداوته لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه خرج يوماً متوشحاً سيفه يريد القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقيه نعيم بن عبد اللَّه النحام العدوي، أو رجل من بني زهرة، أو رجل من بني مخزوم فقال: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمداً. قال: كيف تأمن من بني هاشم ومن بني زهرة وقد قتلت محمداً؟ فقال له عمر ما أراك إلا قد صبوت وتركت دينك الذي كنت عليه، قال أفلا أدلك على العجب يا عمر إن أختك وختنك قد صبوا وتركا دينك الذي أنت عليه، فمشى عمر دامراً حتى أتاهما، وعندهما خباب بن الأرت، معه صحيفة فيه {طه} يقرئهما إياها - وكان يختلف إليهما ويقرئهما القرآن -(/15)
فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت، وسترت فاطمة - أخت عمر - الصحيفة، وكان قد سمع عمر حين دنا من البيت قراءة خباب إليهما، فلما دخل عليهما قال: ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟ فقالا ما عدا حديثاً تحدثناه بيننا. قال: فلعلكما قد صبوتما. فقال له ختنه يا عمر أرأيت إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأً شديداً. فجاءت أخته فرفعته عن زوجها فنفحها نفحة بيده، فدمى وجهها - وفي رواية ابن إسحاق أنه ضربها فشجها - فقالت، وهي غضبى يا عمر إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمداً رسول اللَّه. فلما يئس عمر، ورأى ما بأخته من الدم ندم واستحى، وقال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه، فقالت أخته إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون، فقم فاعتسل، فقام فاغتسل، ثم أخذ الكتاب، فقرأ {بسم اللَّه الرحمن الرحيم} فقال: أسماء طيبة طاهرة. ثم قرأ {طه} حتى انتهى إلى قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] فقال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه؟ دلوني على محمد. فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت، فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة الرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس (اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام) ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الدار التي في أصل الصفا. فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم انطلق حتى أتى الدار. فضرب الباب، فقام رجل ينظر من خلل الباب فرآه متوشحاً السيف، فأخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . واستجمع القوم، فقال لهم حمزة ما لكم؟ قالوا: عمر، فقال: وعمر افتحوا له الباب، فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له، وإن كان جاء يريد شراً قتلناه بسيفه، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم داخل يوحى إليه فخرج إلى عمر حتى لقيه فيالحجرة، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف، ثم جذبهُ جذبةً فقال: أما أنت منتهياً يا عمر حتى ينزل اللَّه بك من الخزي والنكال ما نزل بالوليد بن المغيرة؟ اللهم هذا عمر بن الخطاب، اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب، فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأنك رسول اللَّه. وأسلم فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد. كان عمر رضي اللَّه عنه ذا شكيمة لا يرام، وقد أثار إسلامه ضجة بين المشركين بالذلة، والهوان، وكسا المسلمين عزة وشرفاً وسروراً. روى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال: لما أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عداوة، قال: قلت أبو جهل، فأتيت حتى ضربت عليه بابه فخرج إلي، وقال: أهلاً وسهلاً، ما جاء بك؟ قال: جئت لأخبرك أني قد آمنت باللَّه وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به قال: فضرب الباب في وجهي. وقال: قبحك اللَّه، وقبح ما جئت به. وذكر ابن الجوزي أن عمر رضي اللَّه عنه قال: كان الرجل إذا أسلم تعلق به الرجال يضربونه ويضربهم، فجئت أي حين أسلمت إلى خالي وهو العاصي بن هاشم فأعلمته فدخل البيت. قال: وذهبت إلى رجل من كبراء قريش، لعله أبو جهل، فأعلمته فدخل البيت. وذكر ابن هشام وكذا ابن الجوزي مختصراً. أنه لما أسلم أتى إلى جميل بن معمر الجمحي - وكان أنقل قريش لحديث - فأخبره أنه أسلم، فنادى جميل بأعلى صوته أن ابن الخطاب قد صبأ فقال عمر - وهو خلفه - كذب، ولكني قد أسلمت، فثاروا إليه فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم، وطلح أي أعيا عمر، فقعد، وقاموا على رأسه، وهو يقول افعلوا ما بدا لكم، فأحلف باللَّه أن لو كنا ثلاث مائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا. وبعد ذلك زحف المشركون إلى بيته يريدون قتله. روى البخاري عن عبد اللَّه بن عمر قال: بينما هو - أي عمر - في الدار خائفاً إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو، وعليه حلة سبرة وقميص مكفوف بحرير، وهو من بني سهم وهم حلفاؤنا في الجاهلية، فقال له ما لك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلوني أن أسلمت، قال لا سبيل إليك - بعد أن قالها أمنت - فخرج العاص، فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فقال أين تريدون؟ فقالوا: هذا ابن الخطاب الذي قد صبأ، قال: لا سبيل إليه، فكر الناس وفي لفظ، في رواية ابن إسحاق واللَّه لكأنما كانوا ثوباً كشط عنه. هذا بالنسبة إلى المشركين، أما بالنسبة إلى المسلمين فروى مجاهد عن ابن عباس قال: سألت عمر بن الخطاب، لأي شيء سميت الفاروق؟ قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام - ثم قص عليه قصة إسلامه وقال في آخره - قلت - أي حين أسلمت - يا رسول اللَّه ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: بلى والذي نفسي بيده، إنكم على الحق وإن متم وإن حييتم، قال: قلت ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن، فأخرجاه في صفين، حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، قال: فنظرت إلي قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الفاروق(/16)
يومئذ. وكان ابن مسعود رضي اللَّه عنه يقول ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر. وعن صهيب بن سنان الرومي رضي اللَّه عنه، قال: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حِلقاً، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به. وعن عبد اللَّه بن مسعود قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر. ممثل قريش بين يدي الرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : وبعد إسلام هذين البطلين الجليلين - حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهما - أخذت السحائب تتقشع، وأفاق المشركون عن سكرهم في إدلاء العذاب والنكال إلى المسلمين، وحاولوا مساومة مع النبي صلى الله عليه وسلم بإغداق كل ما يمكن أن يكون مطلوباً له؛ ليكفوه عن دعوته. ولم يكن يدري هؤلاء المساكين أن كل ما تطلع عليه الشمس لا يساوي جناح بعوضة أمام دعوته، فخابوا وفشلوا فيما أرادوا. قال ابن إسحاق حدثني يزيد، زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيداً، قال يوماً، وهو في نادي قريش، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد؟ فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي اللَّه عنه ورأوا أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يكثرون ويزيدون، فقالوا: بلى، يا أبا الوليد قم إليه، فكلمه، فقام إليه عتبة، حتى جلس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قل يا أبا الوليد أسمع، قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا كيْ تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه - أو كما قال له - حتى إذا فرغ عتبة ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: أفعل، فقال: {بسم اللَّه الرحمن الرحيم حم * تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 1 - 5] ثم مضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض نحلف باللَّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً واللَّه ما سمعت مثله قط، واللَّه ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فواللَّه ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك واللَّه يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم. وفي رواية أخرى أن عتبة استمع حتى جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] فقام مذعوراً، فوضع يده على فم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، يقول أنشدك اللَّه والرحم وذلك مخافة أن يقع النذير، وقام إلى القوم فقال ما قال. أبو طالب يجمع بني هاشم وبني عبد المطلب: تغيّرت مجرى الظروف وتبدلت الأوضاع والأحوال، ولكن أبا طالب لم يزل يتوجس من المشركين خيفة على ابن أخيه، إنه كان ينظر في الحوادث الماضية - إن المشركين هددوه بالمنازلة، ثم حاولوا مساومة ابن أخيه بعمارة بن الوليد ليقتلوه، إن أبا جهل ذهب إلى ابن أخيه بحجر يرضخه، إن عقبة بن أبي معيط خنق ابن أخيه بردائه وكاد يقتله، إن ابن الخطاب كان قد خرج بالسيف ليقضي على ابن أخيه - كان أبو طالب يتدبر في هذه الحوادث ويشم منها رائحة شر يرجف له فؤاده، وتأكد عنده أن المشركين عازمون على إخفار ذمته، عازمون على قتل ابن أخيه، وما يغني حمزة أو عمر أو(/17)
غيرهما إن انقض أحد من المشركين على ابن أخيه بغتة. تأكد ذلك عند أبي طالب، ولم يكن إلا حقاً، فإنهم كانوا قد أجمعوا على أن يقتلوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علانية، وإلى هذا الإجماع إشارة في قوله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف: 79] فماذا يفعل أبو طالب إذن. إنه لما رأى تألب قريش على ابن أخيه قام في أهل بيته من بني هاشم وبني المطلب ولدى عبد مناف، ودعاهم إلى ما هو عليه من منع ابن أخيه والقيام دونه، فأجابوه إلى ذلك مسلمهم وكافرهم، حمية للجوار العربي، إلا ما كان من أخيه أبي لهب، فإنه فارقهم، وكان مع قريش
في ظلال النبوة والرسالة2 ...
السيرةالنبويةالسيرةالنبويةالمقاطعة العامة وقعت أربع حوادث ضخمة - بالنسبة إلى المشركين - خلال أربعة أسابيع، أو في أقل مدة، منها أسلم حمزة، ثم أسلم عمر، ثم رفض محمد صلى الله عليه وسلم مساومتهم، ثم تواثق بنو المطلب، وبنو هاشم كلهم مسلمهم وكافرهم على حياطة محمد صلى الله عليه وسلم ومنعه، حار المشركون، وحقت لهم الحيرة، إنهم عرفوا أنهم لو قاموا بقتل محمد صلى الله عليه وسلم يسيل وادي مكة دونه بدمائهم، بل ربما يفضي إلى استئصالهم. عرفوا ذلك فانحرفوا إلى ظلم آخر دون القتل، لكن أشد مضاضة عما فعلوا بعد.(/18)
ميثاق الظلم والعدوان: اجتمعوا في خيف بني كنانة من وادي المحصب فتحالفوا على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم حتى يسلموا إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق "أن لا يقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل" قال ابن القيم يقال: كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، ويقال: نضر بن الحارث، والصحيح أنه بغيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فشلت يده. تم هذا الميثاق، وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم - إلا أبا لهب - وحبسوا في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة. ثلاثة أعوام في شعب أبي طالب: واشتد الحصار، وقطعت عنهم الميرة والمادة، فلم يكن المشركون يتركون طعاماً يدخل مكة ولا بيعاً إلا بادروه فاشتروه، حتى بلغهم الجهد، والتجأوا إلى أكل الأوراق والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سراً، وكانوا لا يخرجون من الشعب لاشتراء الحوائج إلا في الأشهر الحرم، وكانوا يشترون من العير التي ترد مكة من خارجها، ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى لا يستطيعوا الاشتراء. وكان حكيم بن حزام ربما يحمل قمحاً إلى عمته خديجة رضي اللَّه عنها وقد تعرض له مرة أبو جهل فتعلق به ليمنعه، فتدخل بينهما أبو البختري، ومكّنه من حمل القمح إلى عمته. وكان أبو طالب يخاف على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم يأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يضطجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد اغتياله، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأمره أن يأتي بعض فرشهم. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمون يخرجون في أيام الموسم، فيلقون الناس، ويدعونهم إلى الإسلام، وقد أسلفنا ما كان يأتي به أبو لهب. نقض صحيفة الميثاق: مرت ثلاثة أعوام كاملة والأمر على ذلك، وفي المحرم سنة عشر من النبوة حدث نقض الصحيفة وفك الميثاق، وذلك أن قريشاً كانوا بين راض بهذا الميثاق وكاره له، فسعى في نقض الصحيفة من كان كارهاً لها. وكان القائم بذلك هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي - وكان يصل بني هاشم في الشعب مستخفياً بالليل بالطعام - فإنه ذهب إلى زهير بن أبي أمية المخزومي، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب وقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام، وتشرب الشراب، وأخوالك بحيث تعلم؟ فقال: ويحك، فما أصنع وأنا رجل واحد؟ أما واللَّه لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، قال: قد وجدت رجلاً، قال: فمن هو؟ قال: أنا. قال له زهير ابغنا رجلاً ثالثاً. فذهب إلى المطعم بن عدي، فذكره أرحام بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف، ولامه على موافقته لقريش على هذا الظلم، فقال المطعم ويحك، ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانياً، قال من هو؟ قال: أنا قال: ابغنا ثالثاً. قال قد فعلت. قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رابعاً. فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحواً مما قال للمطعم، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا معك، قال: ابغنا خامساً. فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم ثم سمى له القوم، فاجتمعوا عند الحجون، وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة، وقال زهير أنا أبدأكم فأكون أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير عليه حلة، فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يباع ولا يبتاع منهم؟ واللَّه لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل وكان في ناحية المسجد كذبت، واللَّه لا تشق. فقال زمعة بن الأسود أنت واللَّه أكذب. ما رضينا كتابتها حيث كتبت. قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به. قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى اللَّه منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك. فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، تُشوور فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، إنما جاءهم لأن اللَّه كان قد أطلع رسوله على أمر الصحيفة، وأنه أرسل عليها الأرضة، فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذكر اللَّه عز وجل فأخبر بذلك عمه فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا، فإن كان كاذباً خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقاً رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، قالوا: قد أنصفت. وبعد أن دار الكلام(/19)
بين القوم وبين أبي جهل، قام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلته إلا "باسمك اللهم".وما كان فيها من اسم اللَّه فإنها لم تأكله. ثم نقض الصحيفة، وخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب وقد رأى المشركون آية عظيمة من آيات نبوته، ولكنهم كما أخبر اللَّه عنهم {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] أعرضوا عن هذه الآية وازدادوا كفراً إلى كفرهم. آخر وفد قريش إلى أبي طالب خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الشعب، وجعل يعمل على شاكلته وقريش وإن كانوا قد تركوا القطيعة، لكنهم لم يزالوا عاملين على شاكلتهم من الضغط على المسلمين، والصد عن سبيل اللَّه، أما أبو طالب فهو لم يزل يحوط ابن أخيه، لكنه كان قد جاوز الثمانين من سنه، وكانت الآلام والحوادث الضخمة المتوالية منذ سنوات لا سيما حصار الشعب - قد وهنت وضعفت مفاصله، وكسرت صلبه، فلم يمض على خروجه من الشعب إلا أشهر معدودات، وإذا هو يلاحقه المرض ويلح به - وحينئذ خاف المشركون سوء سمعتهم في العرب إن أتوا بعد وفاته بمنكر على ابن أخيه، فحاولوا مرة أخرى أن يفاوضوا النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه، ويعطوا بعض ما لم يرضوا إعطاءه قبل ذلك، فقاموا بوفادة هي آخر وفادتهم إلى أبي طالب. قال ابن إسحاق وغيره لما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشاً ثقله، قالت قريش بعضها لبعض إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب، فليأخذ على ابن أخيه، وليعطه منا، واللَّه ما نأمن أن يبتزونا أمرنا، وفي لفظ فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون إليه شيء فتعيرنا به العرب، يقولون تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه. مشوا إلى أبي طالب فكلموه، وهم أشراف قومه عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم - وهم خمس وعشرون تقريباً - فقالوا: يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه، فخذ له منا، وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا، وندعه ودينه، فبعث إليه أبو طالب، فجاءه فقال: يا ابن أخي، هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك، ليعطوك، وليأخذوا منك ثم أخبره بالذي قالوا له وعرضوا عليه من عدم تعرض كل فريق للآخر، فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم، وفي لفظ أنه قال مخاطباً لأبي طالب أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية، وفي لفظ آخر، قال: يا عم، أفلا تدعوهم إلى ما هو خير لهم؟ قال: وإلى ما تدعوهم؟ قال: أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم، ولفظ رواية ابن إسحاق كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فلما قال هذه المقالة، توقفوا وتحيروا ولم يعرفوا كيف يرفضون هذه الكلمة الواحدة النافعة إلى هذه الغاية والحد. ثم قال أبو جهل ما هي؟ وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها، قال: تقولون لا إله إلا اللَّه، وتخلعون ما تعبدون من دونه، فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن أمرك لعجب. ثم قال بعضهم لبعض إنه واللَّه ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم، حتى يحكم اللَّه بينكم وبينه. ثم تفرقوا. وفي هؤلاء نزل قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ} [ص: 1- 7]. عام الحزن وفاة أبي طالب: ألح المرض بأبي طالب، فلم يلبث أن وافته المنية، وكانت وفاته في رجب سنة عشر من النبوة، بعد الخروج من الشعب بستة أشهر. وقيل: توفي في شهر رمضان قبل وفاة خديجة رضي اللَّه عنها بثلاثة أيام. وفي الصحيح عن المسيب أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال: أي عم، قل لا إله إلا اللَّه، كلمة أحاج لك بها عند اللَّه، فقال أبو جهل وعبد اللَّه بن أبي أمية يا أبا طالب، ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ(/20)
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] ونزلت {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]. ولا حاجة إلى بيان ما كان عليه أبو طالب من الحياطة والمنع، فقد كان الحصن الذي تحتمي به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء، ولكنه بقي على ملة الأشياخ من أجداده، فلم يفلح كل الفلاح. ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب، قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار. وعن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم - وذكر عنده عمه - فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار تبلغ كعبيه. خديجة إلى رحمة اللَّه: وبعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين أو بثلاثة أيام - على اختلاف القولين - توفيت أم المؤمنين خديجة الكبرى رضي اللَّه عنها، كانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشرة من النبوة، ولها خمس وستون سنة، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في الخمسين من عمره. إن خديجة كانت من نعم اللَّه الجليلة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، بقيت معه ربع قرن تحن عليه ساعة قلقه، وتؤازره في أحرج أوقاته، وتعينه على إبلاغ رسالته، وتشاركه في مغارم الجهاد المر، وتواسيه بنفسها ومالها، يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني اللَّه ولدها، وحرم ولد غيرها". وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول اللَّه هذه خديجة، قد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب. تراكم الأحزان: وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيام معدودة، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه. فقد كانوا تجرأوا عليه، وكاشفوه بالنكال والأذى بعد موت أبي طالب، فازداد غماً على غم حتى يئس منهم، وخرج إلى الطائف، رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يؤووه وينصروه على قومه، فلم ير من يؤوي ولم ير ناصراً، وآذوه مع ذلك أشد الأذى ونالوا منه ما لم ينله قومه. وكما اشتدت وطأة أهل مكة على النبي صلى الله عليه وسلم ، اشتدت على أصحابه حتى التجأ رفيقه أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه إلى الهجرة عن مكة فخرج حتى بلغ برك الغماد، يريد الحبشة، فأرجعه ابن الدغنة في جواره. قال ابن إسحاق لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً، ودخل بيته، والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول لها لا تبكي يا بنية، فإن اللَّه مانع أباك. قال: ويقول بين ذلك ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب. ولأجل توالي مثل هذه الآلام في هذا العام سماه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام الحزن، وبهذا اللقب صار معروفاً في التاريخ. الزواج بسودة رضي اللَّه عنها: وفي شوال من هذه السنة سنة 10 من النبوة، تزوج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة، كانت ممن أسلم قديماً، وهاجرت الهجرة الثانية إلى الحبشة وكان زوجها السكران بن عمرو وكان قد أسلم وهاجر معها، فمات بأرض الحبشة، أو بعد الرجوع إلى مكة، فلما حلت خطبها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتزوجها، وكانت أول امرأة تزوجها بعد وفاة خديجة، وبعد عدة أعوام وهبت نوبتها لعائشة. عوامل الصبر والثبات وهنا يقف الحليم حيراناً، ويتساءل عقلاء الرجال فيما بينهم ما هي الأسباب والعوامل التي بلغت بالمسلمين إلى هذه الغاية القصوى، والحد المعجز من الثبات؟ كيف صبروا على هذه الاضطهادات التي تقشعر لسماعها الجلود، وترجف لها الأفئدة؟ ونظراً إلى هذا الذي يتخالج القلوب نرى أن نشير إلى بعض هذه العوامل والأسباب إشارة عابرة بسيطة: إن السبب الرئيسي في ذلك أولاً وبالذات هو الإيمان باللَّه وحده ومعرفته حق المعرفة، فالإيمان الجازم إذا خالطت بشاشته القلوب يزن الجبال ولا يطيش، وإن صاحب هذا الإيمان المحكم وهذا اليقين الجازم يرى متاعب الدنيا مهما كثرت وكبرت وتفاقمت واشتدت - يراها في جنب إيمانه - طحالب عائمة فوق سيل جارف جاء ليكسر السدود المنيعة والقلاع الحصينة، فلا يبالي بشيء من تلك المتاعب أمام ما يجده من حلاوة إيمانه وطراوة إذعانه وبشاشة يقينه {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17]. ويتفرع من هذا السبب الوحيد(/21)
أسباب أخرى تقوي هذا الثبات والمصابرة وهي: قيادة تهوى إليها الأفئدة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو القائد الأعلى للأمة الإسلامية بل وللبشرية جمعاء، يتمتع من جمال الخلق وكمال النفس، ومكارم الأخلاق، والشيم النبيلة والشمائل الكريمة، بما تتجاذب إليه القلوب، وتتفانى دونه النفوس، وكانت أنصبته من الكمال الذي يعشق لم يرزق بمثلها بشر. وكان على أعلى قمة من الشرف والنبل والخير والفضل. وكان من العفة والأمانة والصدق، ومن جميع سبل الخير على ما لم يتمار ولم يشك فيه أعداؤه فضلاً عن محبيه ورفقائه، لا تصدر منه كلمة إلا ويستيقنون صدقها اجتمع ثلاثة نفر من قريش كان قد استمع كل واحد منهم إلى القرآن سراً عن صاحبيه ثم انكشف سرهم، فسأل أحدهم أبا جهل وكان من أولئك الثلاثة ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا: لنا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ واللَّه لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه. وكان أبو جهل يقول يا محمد إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل اللَّه: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]. وغمزه الكفار يوماً ثلاث مرات، فقال في الثالثة: يا معشر قريش، جئتكم بالذبح، فأخذتهم تلك الكلمة حتى إن أشدهم عداوة يرفؤه بأحسن ما يجد عنده. ولما ألقوا عليه سلا جذور وهو ساجد دعا عليهم، فذهب عنهم الضحك وساورهم الهم والقلق، وأيقنوا أنهم هالكون. ودعا على عتيبة بن أبي لهب فلم يزل على يقين من لقاء ما دعا به عليه حتى إنه حين رأى الأسد قال: قتلني واللَّه محمد وهو بمكة. وكان أُبي بن خلف يوعده بالقتل. فقال: بل أنا أقتلك إن شاء اللَّه، فلما طعن أبياً في عنقه يوم أحد وكان خدشاً غير كبير، كان أبي يقول إنه قد كان قال لي بمكة أنا أقتلك. فواللَّه لو بصق عليّ لقتلني وسيأتي. وقال سعد بن معاذ وهو بمكة لأمية بن خلف لقد سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول إنهم - أي المسلمين - قاتلوك، ففزع فزعاً شديداً، وعهد أن لا يخرج عن مكة، ولما ألجأه أبو جهل للخروج يوم بدر اشترى أجود بعير بمكة ليمكنه من الفرار، وقالت له امرأته يا أبا صفوان، وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: لا واللَّه ما أريد أن أجوز معهم إلا قريباً. هكذا كان حال أعدائه صلى الله عليه وسلم ، أما أصحابه ورفقاؤه فقد حل منهم محل الروح والنفس، وشغل منهم مكان القلب والعين، فكان الحب الصادق يندفع إليه اندفاع الماء إلى الحدور، وكانت النفوس تنجذب إليه انجذاب الحديد إلى المغناطيس. فصورته هيولي كل جسم ومغناطيس أفئدة الرجال وكان من أثر هذا الحب والتفاني أنهم كانوا يرضون أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر أو يشاك شوكة. وطىء أبو بكر بن أبي قحافة يوماً بمكة، وضرب ضرباً شديداً، دنا منه عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول ما فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت: واللَّه لا علم لي بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد اللَّه، قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد اللَّه، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبت، قالت: نعم فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دنفاً، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: واللَّه إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجوا أن ينتقم اللَّه لك منهم، قال: فما فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح، فقال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم. قال: فإن للَّه علي أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجت ا به يتكىء عليهما حتى أدخلتاه على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وسننقل نوادر الحب والتفاني في مواقع شتى من هذه المقالة، ولا سيما ما وقع في يوم أحد، وما وقع من خبيب وأمثاله. الشعور بالمسؤولية: فكان الصحابة يشعرون شعوراً تاماً ما على كواهل البشر من المسؤولية الفخمة الضخمة، وأن هذه المسؤولية لا يمكن عنها الحياد والانحراف بحال، فالعواقب التي تترتب على الفرار عن تحملها أشد ضخامة وأكبر ضرراً عما هم فيه من الاضطهاد. وأن الخسارة التي تلحقهم - وتلحق البشرية جمعاء - بعد هذا الفرار لا يقاس بحال(/22)
على المتاعب التي كانوا يواجهونها نتيجة هذا التحمل. الإيمان بالآخرة: وهو مما يقوي هذا الشعور الشعور بالمسؤولية فقد كانوا على يقين جازم من أنهم يقومون لرب العالمين، يحاسبون بأعمالهم دقها وجلها، صغيرها، وكبيرها، فإما إلى النعيم المقيم، وإما إلى عذاب خالد فيسوء الجحيم، فكانوا يقضون حياتهم بين الخوف والرجاء، يرجون رحمة ربهم ويخافون عذابه، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] وكانوا يعرفون أن الدنيا بعذابها ونعيمها لا تساوي جناح بعوضة في جنب الآخرة، وكانت هذه المعرفة القوية تهون لهم متاعب الدنيا ومشاقها ومرارتها، حتى لم يكونوا يكترثون لها ويلقون إليها بالاً. القرآن: وفي هذه الفترات العصيبة الرهيبة الحالكة كانت تنزل السور والآيات تقيم الحجج والبراهين على مبادىء الإسلام - التي كانت الدعوة تدور حولها - بأساليب منيعة خلابة، وترشد المسلمين إلى أسس قدر اللَّه أن يتكون عليها أعظم وأروع مجتمع بشري في العالم - وهو المجتمع الإسلامي - وتثير مشاعر المسلمين ونوازعهم على الصبر والتجلد، تضرب لذلك الأمثال، وتبين لهم ما فيه من الحكم: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1- 3]. كما كانت تلك الآيات ترد على إيرادات الكفار والمعاندين رداً مفحماً، ولا تبقي لهم حيلة، ثم تحذرهم مرة عن عواقب وخيمة - إن أصروا على غيهم وعنادهم - في جلاء ووضوح، مستدلاً بأيام اللَّه، والشواهد التاريخية التي تدل على سنة اللَّه في أوليائه وأعدائه، وتلطفهم مرة وتؤدي حق التفهيم والإرشاد والتوجيه حتى ينصرفوا عما هم فيه من الضلال المبين. وكان القرآن يسير بالمسلمين في عالم آخر، ويبصرهم من مشاهد الكون، وجمال الربوبية، وكمال الألوهية، وآثار الرحمة والرأفة، وتجليات الرضوان ما يحنون إليه حيناً لا يقوم له أي عقبة. وكانت في طي هذه الآيات خطابات للمسلمين فيها يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، وتصور لهم صورة أعدائهم من الكفرة الطغاة الظالمين يحاكمون ويصادرون ثم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر. البشارات بالنجاح: ومع هذا كله كان المسلمون يعرفون منذ أول يوم لاقوا فيه الشدة والاضطهاد، بل ومن قبله أن الدخول في الإسلام ليس معناه جر المصائب والحتوف. بل إن الدعوة الإسلامية تهدف منذ أول يومها إلى القضاء على الجاهلية الجهلاء ونظامها الغاشم، وأن من أهدافها الأساسية بسط النفوذ على الأرض، والسيطرة على الموقف السياسي في العالم لتقود الأمة الإنسانية والجمعية البشرية إلى مرضاة اللَّه، وتخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة اللَّه. وكان القرآن ينزل بهذه البشارات مرة بالتصريح وأخرى بالكناية، ففي تلك الفترات القاصمة التي ضيقت الأرض على المسلمين، وكادت تخنقهم، وتقضي على حياتهم كانت تنزل الآيات بما جرت بين الأنبياء السابقين وبين أقوامهم الذين قاموا بتكذيبهم والكفر بهم، وكانت تشتمل هذه الآيات على ذكر الأحوال التي تطابق تماماً أحوال مسلمي مكة وكفارها، ثم تذكر هذه الآيات بما تمخضت عنه تلك الأحوال من إهلاك الكفرة والظالمين وإيراث عباد اللَّه الأرض والديار. فكانت في هذه القصص إشارات واضحة إلى فشل أهل مكة في المستقبل، ونجاح المسلمين مع نجاح الدعوة الإسلامية. وفي هذه الفترات نزلت آيات تصرح ببشارة غلبة المؤمنين قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات: 171-177] وقال: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] وقال: {جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنْ الأَحْزَابِ} [ص: 11]، ونزلت في الذين هاجروا إلى الحبشة: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41]. وسألوه عن قصة يوسف فأنزل اللَّه في طيها: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7](/23)
أي فأهل مكة السائلون يلاقون ما لاقى إخوانه من الفشل، ويستسلمون كاستسلامهم، وقال وهو يذكر الرسل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 13-14]، وحينما كانت الحرب مشتعلة بين الفرس والرومان. وكان الكفار يحبون غلبة الفرس بصفتهم مشركين، والمسلمون يحبون غلبة الرومان بصفتهم مؤمنين باللَّه والرسل والوحي والكتب واليوم الآخر وكانت الغلبة للفرس، أنزل اللَّه بشارة غلبة الروم في بضع سنين، ولكنه لم يقتصر على هذه البشارة الواحدة، بل صرح ببشارة أخرى وهي نصر اللَّه للمؤمنين حيث قال: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 4-5]. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نفسه يقوم بمثل هذه البشارات بين آونة وأخرى، فكان إذا وافى الموسم، وقام بين الناس في عكاظ ومجنة وذي المجاز، لتبليغ الرسالة لم يكن يبشرهم بالجنة فحسب، بل يقول لهم بكل صراحة، يا أيها الناس قولوا لا إله إلا اللَّه تفلحوا، وتملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم، فإذا متم كنتم ملوكاً في الجنة. وقد أسلفنا ما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عتبة بن ربيعة حين أراد مساومته على رغائب الدنيا، وما فهمه ورجاه عتبة من ظهور أمره عليه الصلاة والسلام. وكذلك ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم آخر وفد جاء إلى أبي طالب، فقد صرح لهم أنهم يطلب منهم كلمة واحدة يعطونها تدين لهم العرب ويملكون العجم. قال خباب بن الأرت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة، وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت ألا تدعو اللَّه، فقعد، وهو محمر وجهه فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن اللَّه هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا اللَّه - زاد بيان الراوي - والذئب على غنمه، وفي رواية ولكنكم تستعجلون. ولم تكن هذه البشارات مخفية مستورة، بل كانت فاشية مكشوفة، يعلمها الكفرة، كما كان يعلمها المسلمون، حتى كان الأسود بن المطلب وجلساؤه إذا رأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تغامزوا بهم، وقالوا: قد جاءكم ملوك الأرض سيغلبون على ملوك كسرى وقيصر، ثم يصفرون ويصفقون. وأمام هذه البشارات بالمستقبل المجيد المستنير في الدنيا مع ما فيه من الرجاء الصالح الكبير البالغ إلى النهاية في الفوز بالجنة كان الصحابة يرون أن الاضطهادات التي تتوالى عليهم من كل جانب، والمصائب التي تحيط بهم من كل الأرجاء ليست إلا سحابة صيف عن قليل تقشع. هذا ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يغذي أرواحهم برغائب الإيمان، ويزكي نفوسهم بتعليم الحكمة والقرآن، ويربيهم تربية دقيقة عميقة، يحدو بنفوسهم إلى منازل سمو الروح ونقاء القلب، ونظافة الخلق، والتحرر من سلطان الماديات، والمقاومة للشهوات، والنزوع إلى رب الأرض والسماوات، ويذكي جمرة قلوبهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويأخذهم بالصبر على الأذى والصفح الجميل وقهر النفس. فازدادوا رسوخاً في الدين، وعزوفاً عن الشهوات، وتفانياً في سبيل المرضاة، وحنيناً إلى الجنة، وحرصاً على العلم، وفقهاً في الدين، ومحاسبة للنفس، وقهراً للنزعات، وغلبة على العواطف، وتسيطراً على الثائرات والهائجات وتقيداً بالصبر والهدوء والوقار. ...(/24)
في علم الاستغراب
: قراءة في كتاب (مقدمات الاستتباع) (2/2)
د. بدران بن الحسن 14/8/1426
18/09/2005
في الحلقة الأولى من هذا المقال تناولنا أهم المحاور التي ركّز عليها كتاب (مقدمات الاستتباع) من خلال التصدير والمقدمة، وفي هذه الحلقة نتناول أهم النقاط الواردة في بقية الفصول.
ففي الفصل الأول من الكتاب تناول الكاتب مظاهر نشوء النظام الغربي مركزاً على كيفية اشتغال القوانين الجديدة التي تحكمت في الحملات التبشيرية والمهام التي كُلّفت بها لغزو ما سُمّيَ بالشرق وتشويه صورته، ثم أبرز كيف انخرطت الدول الغربية، لحل مسائلها السياسية الداخلية، في الحملات التوسّعيّة ما قبل الاستعمارية فيما وراء البحار، ثم كيف أسهمت في إضعاف الإمبراطورية العثمانية -التي كانت تشكل تحدّياً سافراً للغرب آنذاك- وترسيخ الانشقاقات الطائفية والعرقية والقبلية والإقليمية بين الجماعات المتعايشة في ظلها.
وفي خمس نقاط يتناول النشوء والنماء الذي سار عليه النظام الغربي؛
ففي النقطة الأولى يتناول عملية التداخل بين السلطة الدينية للكنيسة مع الغزوات التجارية (المركنتيلية)؛ إذ ستتبلور (أيديولوجيا) تجعل من الربح قاعدة لـ"التقدم"، ومن المبادلة الحرة أداة أكثر فعّالية وضمانة لـ"الحضارة"، وذلك حين تحوّلت التجارة عند التجار وأصحاب المصارف إلى "فضيلة"، والمال إلى "صنم" بوصفهما شرطين أساسيين لضمان "النجاح" في الحياة العملية. (ص 28).
وفي مسار تشريع اللاهوت للناسوت "المركنتيلي" اضطرت كل الكنائس أن تتكيّف مع التنمية الخارجية للروح التجارية أو التشجيع لها، ثم الأخذ بالعقلية الصناعية... لقد أوجدت الرأسمالية روحها الخاصة، ووضعت الكنائس أمام ضرورة الاندماج بالقانون الطبيعي (للدولة-الأمة) (ص35–36).
وفي النقطتين الثانية والثالثة: تناول الصراع الذي حدث بين الكنائس على الشرق ودخول البروتستانت (protestant) حلبة المنافسة لما كان للمراسلين الكاثوليك من نشاط مكثف، وفي خِضَمّ هذا الصراع كان نشر "الإيمان المسيحي" يجري من خلال ثلاث قنوات: الصحافة والإرساليات ثم الطباعة لكونها وسيلة فعّالة لنشر الأفكار. (ص45).
أما النقطة الرابعة فيتناول فيها اشتداد الهيمنة الأوروبية على الشرق الأوسط في مختلف المجالات في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، بخاصة في عهد محمد علي باشا إثر الشروع في "التنظيمات" الإصلاحية عام 1839م.
وقد قدم المؤلف في هذا السياق حشداً من المعلومات عن الإرساليات الغربية وعن أنشطتها المتشعبة والفعالة بين أهل الشرق، مبيناً ارتباطاتها المباشرة بإستراتيجيات الدول الغربية.
وأما في النقطة الخامسة فقد تطرق الباحث إلى النتائج الضارة التي سبّبتها الإرساليات الأجنبية بمختلف أنشطتها سواء للمسلمين أو للمسيحيين الشرقيين أو غيرهم؛ إذ في إطار التوسع الاستعماري وترسيخ دعائم السيطرة الأوروبية في وعي الأهالي، خاصة باحتواء الأقليات الدينية والمذهبية والإثنية، ثم استقطابها، ثم عزلها وجعلها معادية لقيمها ومحيطها الديني الثقافي والحضاري.
وكانت أهم هذه النتائج الضارة تتمثل في: تأصيل الطائفية، وتفاقم الصراع بين الجماعات، وغرس المشروعين الانفصاليين الماروني، واليهودي.
فمن أجل تأصيل الطائفية، أنشأ النظام الغربي قاعدة للطائفية بزرعه لفكرة "الدولة – الأمة" (nation-state) المجسّد للطائفية نظاماً اجتماعياً، وقد رُبِطت هذه الدولة عمودياً بدول المركز وبعجلتها الاقتصادية، وقام بتلغيم القواسم المشتركة، ووسّع هوة الفوارق الاجتماعية، وأثار النزعات الطائفية بين الجماعات الدينية والمذهبية والعرقية.
أما فيما يخص تفاقم الصراع بين الجماعات، فهو على ضربين: صراع بين الجماعات الدينية والمذهبية والعرقية، وصراع من مستوى آخر، وهو صراع النخبة المستغربة مع الأغلبية الشعبية.
لقد لاحظنا سابقاً ضمن إستراتيجية التغلغل التبشيري، أن كل القوى الاستعمارية حاولت أن تدعم بطريقة منفردة أو مشتركة، جماعة على حساب جماعة أو جماعات أخرى، متعايشة سابقاً في ظل الخلافة العثمانية، من أجل مد هيمنتها وتكريسها على الخلافة العثمانية وتفكيكها، ثم الوصول إلى اصطناع دويلات مبنية على قواعد عرقية وطائفية وقبلية وإقليمية وجهورية. لكن المشروعين الذين استأثرا أكثر من غيرهما باهتمام القنصليات الأجنبية، في القرن التاسع عشر، هما إنشاء كيانين لليهود الأوروبيين والآخر للمسيحيين المحليين، وبالتحديد الموارنة، ليكونا بمنزلة حصنين متقدّمين للمركزية الغربية في الشرق الأوسط، ومنطلقين للمرافعة عن "العالم الحر".
وفي الفصل الثاني المُعنون "من السيطرة على الطبيعة إلى السيطرة على البشر" قام الكاتب بتحليل الكيفية التي تمّت بها بلورة مفاهيم المركزية العرقية الغربية، وكيف تضافرت هذه المفاهيم مع حملات التبشير باسم "العقل" و"العقلانية" أو "الموضوعية العلمية".(/1)
ولإبراز المعايير والقيم والعادات الذهنية التي تسكن الخطاب التاريخي المتعالي للنظام الغربي الصاعد، قام الباحث بمقاربة تلمس المقدمات والعناصر الإجرائية المنظمة و "المعقلنة" التي مكنت هذا النظام من تدعيم أسس الاستشراق، كعنصر مكتمل لهيمنته، وتبيان كيفية المحاججات "العقلانية" التي سمحت له بفرض ثقافته على الشعوب المهمشة وخاصة بعد "عصر الأنوار".
هذه المقاربة تناولها في عناصر أربعة: مصادر الخطاب الكوني في منعطف القرنين السادس عشر والسابع عشر، والعرقية المركزية الكامنة في الخطاب الكوني، والحروب بوصفها صمّام أمان "للدولة-الأمة"، ثم استغلال أسطورة "الإنسان المتوحش الطيب".
فالمثقفون في أوروبا في بداية عصر النهضة انكبوا على استنطاق أنفسهم حول الأسباب التي تم إنشاؤها عن طريق الملاحظة الحسية من أجل توسّع الحد الأقصى من فضاء السيطرة على الطبيعة. ومع توسّع التجارة، وظهور علم (الأنثروبولوجيا)، وُلدت شبكة مؤسّسية من المعارف السياسية و(الأيديولوجية)، فمكيافيلي عندما اكتشف التاريخ الروماني بحث فيه عن القوانين الأبدية لسيطرة البشر بعضهم على بعض، في كتابه "الأمير"، وظهرت نظرته في العصر التالي مع مذهب "المصلحة العليا للدولة" التي ما كان لها أن تقوم لولا تبرير وسائل السيطرة الوحشية...، فمكيافيلي بمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" الذي كان خلاصة كتابه أسس للغزو الاستعماري وأخلاقه النفعية.
أما (هوبز) فقد دفع بهذا المفهوم إلى الحد الأقصى، واعتبر الحرية ليس شيئاً غير غياب كل ما يحول دون الحركة، كما أعلن أن على الدولة أن تضع الكنيسة والدين في خدمتها، ثم (كوندورسيه)، و(ديكارت) الذي قدم حججاً (للإيديولوجية) الكاثوليكية وشجّعها على تكييف لاهوتها مع التقدم والارتقاء الثقافي العقلاني بوجه كوني.
ومع (هيجل) كشف الخطاب الكوني للغرب عن عرقيته المركزية الكامنة، ذلك أن هيجل لكي يدعم خطابه ويتفادى تحديد نفسه فقط بخطاب كوني متعارف عليه في عصره لجأ إلى التاريخ اليوناني الذي يعده المنطلق العام للتاريخ الإنساني برمته، وهو في أطروحته ينطلق من شقين: في الشق الأول يشيد بالتاريخ الغربي مرجعاً واحداً جديراً بالاعتبار. أما الشق الثاني فيحط من شأن تاريخ الحضارات المسماة بالشرقية ويعدها مرحلة زائلة.
فالجدلية الفكرية عند (هيجل) لا تتجاوز حدود الغرب، وكل فكر خارج هذه الحدود موسوم بالظلامية والاستبداد وانعدام الحرية والتاريخ.
هذه التعميمات تحوّلت إلى بداهات تعزز خطاب المركزية الغربية عن طريق "العلوم الإنسانية"، في إطار التطوّرية الداروينية- السبنسرية، والوضعية الأوغيست-كونتية، والمادية التاريخية (ص 77-80).
ضمن هذا المنظور العام ستغدو كل المسوغات العقلانية ناجزة لشن الحملات والحروب على هذه الأمم الموسومة ب"غير المتحضرة" وقد أصبحت، لاحقاً، حقاً قانونياً ومطلباً حيوياً "للدولة-الأمة "الغربية.
ولإنقاذ المجتمع المدني الغربي من الركود والموت يقترح (هيجل) سلسلة من العلاجات تنطوي على القيام بالحرب والاستعمار. فالحرب لها الفضل في إعادة بناء التجانس الوطني تجاه التهديد المقبل من الخارج، والاستعمار سيسمح للدور الغنية بالتخلص من غير المرغوب فيهم.
أما أسطورة "الإنسان المتوحش الطيب" الموروثة عن العصور الوسطى وعصر النهضة فقد رسخت في الأذهان على شكل استيهامات غرائبية حتى بات الاستعمار يُعدّ عملاً إنسانياً يسوّغ غزو الشعوب "الوحشية" و "الكسولة"، أي: العاجزة عن الإنتاج واستغلال الثروات الطبيعية. الأمر الذي يثير شهوة التوسع والهيمنة عند الغزاة.
أما الفصل الثالث فقد تناول فيها الاستشراق و(أيديولوجية) الهيمنة: فلكي تضفي الدوائر الاستعمارية على (أيديولوجيتها) التوسعية صبغة قانونية وعقلانية كان عليها أن تقدم علومها في مجال الإنسان بصفة علوم حيادية عالمية شبيهة بالعلوم الطبيعية... ولم تتردّد "العلوم الإنسانية" في توظيف أسطورة الإنسان المتوحش" بما يخدم مصالح دولها. والقصد ليس تجريده من مزاياه الفكرية فحسب، إنما هو تأسيس خطاب علمي مخصص للآخرين يبرز للمركزية العرقية الغربية زعزعة ثقة الشعوب الشرقية بذاتها وبمعاييرها وتدمير مجتمعاتها وعوامل الاستمرارية عندها، ولعل هذا ما جعل العلماء -على الرغم من اختلاف مشاربهم (الأيديولوجية)- يجمعون على إسقاط أحكام معيارية مسبقة الصنع على الشرق وإلصاق كل النعوت السلبية به: من قبيل الاستبداد، والتأخر، والكسل، واللاعقلانية، واللاتاريخية.
من أجل "البحث عن آدم جديد" للأوروبي الأبيض والمتفوق والعنصري، عمل الاستشراق على خطين: الوعي اللغوي بمنظار أوروبا ومقاييسها، والميل إلى التجزئة والتفريع وإعادة التجزئة لمباحثه دون أن يغير من رأيه حول الشرق.(/2)
أما الحتمية العرقية التي نهجها علماء اللسانيات والسلالات فقد أدّت إلى جعل العرق صنماً محركاً للتاريخ على يد (شارك كونت)، و(فيكتور دوليل)، و(غوبينو) الذي يرى أن العرق الأبيض يظهر فيه بوضوح الجمال والذكاء والقوة، ويمتلك عنصرين أساسيين لكل حضارة هما: دين وتاريخ، فضلاً عن اجتماعيته المتحضرة، وتفاوته وتوسّعه عن طريق الغزو (ص 95).
أما (أرنست رينان) فيرى أن العرق السامي يُعدّ شكلاً منحطاً ذا تركيب أدنى من الطبيعة الإنسانية بالمعنى الأخلاقي والبيولوجي (ص 96)، يستثنى اليهود بإدراجهم في دائرة المركزية العرقية الغربية بدعوى أن العرق "الإسرائيلي" قدم للعالم أكبر الخدمات العظيمة (ص 97).
والخط نفسه سار عليه (كوفييه)، و(سانت فانسان)، و(كاتروفاج)، و(دوبلاج) في فرنسا و(توما أرنولد)، و(كنوكس) و(داروين) و(سبنسر) في بريطانيا ثم في الولايات المتحدة على يد (ميرتون)، و(جيرون)، و(نوت) من دعاة الأشكال المتطرفة للنظرية العنصرية المعادية للسود، وبلغ الخطاب العرقي العنصري على يد علماء الأناسة الألمان ابتداء من القرن التاسع عشر حداً متطرفاً مع مبدأ تفوّق العرق الجرماني.
وتحت قيادة هذا الخطاب "العلمي" المسيطر والمؤسس في القرن التاسع عشر تحالفت الدولة الممركزة الدستورية، والعلم، والجيش، والصناعة والكنيسة لتوزيع الأدوار وتقاسم المهمات ضمن إستراتيجية منظمة، تراوحت مهماتها حسب الظروف، بين مطاردة السكان المحليين وتهميشهم وبين تسخيرهم وتصفيتهم. كل ذلك باسم الحضارة والحرية وحقوق الإنسان، وتقدم الإنسانية.
هذا التقدم: (الاستعمار والتحضير) نظر له كل فلاسفة أوروبا من (أوغست كونت)، و(هيجل)، إلى المدرسة الماركسية التي لم تفلت من الأسطورة الخاصة بالتقدم الأحادي والحتمي للإنسانية، ولم ينقطعا معرفياً ولا إيديولوجياً مع ثوابتهما الداعية إلى رسالة حضارية في الشرق، وفي الحقيقة ما قامت به الماركسية في أدبياتها حول الشرق كان امتداداً للمدرسة الاستشراقية (الليبرالية).
وخلاصة الكلام حول الاستشراق و(أيديولوجية) الهيمنة التي أنتجتها أن ما يريده المنظرون والمستشرقون هو وضع شعوب الشرق أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الرضوخ النهائي لمنطق الغرب، وإما أنها ستظل تعتبر، من قبل الخارج، محكومة بعدم قدرتها على مواجهة الحياة.
وأما في الفصل الأخير فقد تناول المؤلف "حملة بونابرت على مصر" التي هي نموذج تطبيقي للأدوات والترميزات والتصوّرات الغرائبية التي يحملها الغرب نحو الشرق.
إذ الحملة على مصر -حسب رأي الكاتب- لم تكن ثمرة مشروع عرضي هدفه محاولة بث التفرقة العرقية بين المماليك والمصريين من جهة، وبين العرب والعثمانيين من جهة ثانية باسم الإسلام، ثم تعميق الشقاق والصراع الاجتماعي ما بين الأديان والمذاهب باسم تقديم حلول علمانية زمنية مستمدة من مبادئ عصر الأنوار، للأقليات الدينية والمذهبية.
استخدم نابليون مجموعات من النخب المحلية لضمان سريان أوامره، وعمل على تأييد المارونيين، واستعطف اليهود ودعاهم إلى النهوض لتحقيق مطالبهم واستغلال الفرصة للعودة إلى أرض الميعاد.
ورغم أن احتلال بونابرت لمصر باء بالفشل على الصعيد العسكري، إلا أن آثاره لا تزال حتى اليوم تسيطر على منظوراتنا الثقافية والسياسية، ولقد انقسمت غالبية النخب المحلية المحدثة إزاء هذه الحملة إلى اتجاهين:
الأول: رأى فيها منعطفاً حاسماً في تشكل تاريخهم الحديث، لكونها كانت مبعثاً على "النهضة العربية" بفعل آليات المثاقفة مع الآخر الغربي.
أما الثاني: فيتمثل في التوفيق ما بين العلوم الحديثة المستجلبة والتراث العربي الإسلامي، وذلك بتطويعه للنموذج الغربي.
ولا يزال الصراع يدور بشكل سحالي دون نقاط مضيئة حول الأسس المشتركة لتحقيق النهضة.
في الخاتمة يناقش الباحث فكرة تجاوز الغرب لمقولاته المعرفية، غير أن الباحث -وأظنه محقاً في ذلك- يرى ألاّ نستعجل ونعمم الحكم على غالبية (الأنثروبولوجيين) والمؤرخين والمستشرقين بأنهم قد قطعوا، من حيث المضمون، مع مركزية النظام الغربي لكونهم انتقدوه أو انتقدوا مظاهره.
ذلك لأن عملية القطيعة تستدعي إعادة نظر جذرية في العديد من المسلمات الغرائبية والاستيهامية الثاوية في النظام المعرفي الغربي المؤسسي، ولا يكفي أن تطلق صفة القطيعة حتى يسلم آلياً بكل أشكال التطبيقات المعرفية، وما تتضمنه من إسقاطات ماسخة على شعوب الشرق وثقافاته.
إن أي ترويج اعتباطي لمفهوم القطيعة -دون قيام نوع من علاقة المحاورة المتفاعلة بين الغربي والطرف الآخر- يُعدّ إضافة أيديولوجية إلى جملة ما هو سائد.
وفي الختام:(/3)
هذا وإن الكتاب مليء بالأفكار يحتاج إليه كل مثقف يريد لنفسه أن يتفاعل إيجابياً مع الغرب المهيمن بخيله ورجله وأفكاره وإنتاجه، ذلك أنه يبحث في الجذور المعرفية التي أسست للخطاب الغربي المستعلي، ويقوم بالحفر في عمق مدلولات الخطاب ليبرزها، ويناقش "حقلاً معرفياً" يحتاج إلى ارتياد الكثير من ذوي البصائر وأولي الألباب، حتى يؤسس التعامل مع الغرب على علم، وتُختصر الكثير من المعارك الوهمية، وتُقتصد الجهود، والله أعلم.
قراءات في علم الاستغراب (1/2)
قراءة في كتاب (مقدمات الاستتباع(
د. بدران بن الحسن 30/7/1426
04/09/2005
لماذا علم الاستغراب؟
من المسائل الشائكة في عالم أفكارنا كيفية التعرف على الغرب ومعرفة أنساقه الفكرية وتجربته الحضارية وخصائصه التي تميزه عن غيره من الكيانات الحضارية. ولذلك تواجهنا مجموعة من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات علمية دقيقة تساهم في فهم الغرب وتوفير آليات منهجية للتعامل معه.
وهنا يُثار تساؤل عن كيفية ضبط العلاقة مع الغرب؛ إذ إن الإشعاع العالمي الشامل الذي تتمتع به ثقافة الغرب، هو الذي جعلنا في موقف ينبغي أن نحدد الصلة به، وخاصة أن ما يفيض علينا وعلى غيرنا من الأمم والشعوب من إنجازاته الحضارية ومن فوضاه الحالية جعل منه مشكلة عالمية، ينبغي أن نحللها وأن نتفهمها في صلاتها بالعالم كله وبالعالم الإسلامي بوجه خاص.
وهنا يأتي ما يمكن أن نسميه علم الاستغراب كما ذهب إلى ذلك الأستاذ حسن حنفي وغيره من المهتمين بالتأسيس لعلم يقوم على دراسة الغرب. وهذا لا يجعل العالم الإسلامي تابعًا في حلوله للغرب -كما يعتقد كثير من التغريبيين أو غيرهم من دعاة الأصالة الإسلامية- وإنما يتطلب منا أن نعرف التجارب الحضارية المختلفة لنتحقق من مدى نسبيتها ومدى قابليتها للنقل والاستفادة.
فإذا ما أدرك العالم الإسلامي أن الظاهرة الحضارية الغربية مسألة نسبية، فسيكون من السهل عليه أن يعرف أوجه النقص فيها، كما سيعرف عظمتها الحقيقية، وبهذا تصبح الصلات مع العالم الغربي أكثر خصوبة، ويسمح ذلك للنخبة المسلمة أن تمتلك نموذجها الخاص، تنسج عليه فكرها ونشاطها. فالأمر يتعلق بكيفية تنظيم العلاقة، وعدم الوقوع في الاضطراب كلما تعلق الأمر بالغرب.
فالعالم الإسلامي منذ بداية الجهود التجديدية الحديثة يضطرب، كلما تعلق الأمر بالغرب، غير أنه لم يعد بذلك البريق الذي كان عليه منذ قرن تقريباً، ولم يعد له ما كان يتمتع به من تأثير ساحر، وجاذبية ظفر بها على عهد أتاتورك مثلاً، فالعالم الغربي صار حافلاً بالفوضى، ولم يعد المسلم الباحث عن تنظيم نفسه وإعادة بناء حضارته الإسلامية يجد في الغرب نموذجًا يحتذيه، بقدر ما يجد فيه نتائج تجربة هائلة ذات قيمة لا تقدر، على الرغم مما تحتوي من أخطاء.
فالغرب تجربة حضارية تُعدّ درسًا خطيرًا ومهماً لفهم مصائر الشعوب والحضارات، فهي تجربة مفيدة لإعادة دراسة حركة البناء الحضاري، وحركة التاريخ، ولبناء الفكر الإسلامي على أسسه الأصيلة، وتحقيق الوعي السنني، الذي ينسجم مع البعد الكوني لحركة التاريخ، ذلك البعد الذي يسبغ على حركة انتقال الحضارة قانونًا أزليًا أشار إليه القرآن في قوله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس)[آل عمران:140].
فالتأمل في هذه التجربة التي صادفت أعظم ما تصادفه عبقرية الإنسان من نجاح، وأخطر ما باءت به من إخفاق، وإدراك الأحداث من الوجهين كليهما، ضرورة ملحة للعالم الإسلامي في وقفته الحالية؛ إذ هو يحاول أن يفهم مشكلاته فهمًا واقعيًا، وأن يقوّم أسباب نهضته كما يقوّم أسباب فوضاه تقويمًا موضوعيًا.
وحتى تُنظّم هذه العلاقات، ويُستفاد من هذه التجربة البشرية، ويُدرك مغزى التاريخ، لا بد من فهم هذا الغرب في عمقه، وتحديد خصائصه، ومعرفة ما يتميز به من إيجابيات وسلبيات، حتى لا تكون معرفتنا به سطحية مبتسرة، وأفكارنا عنه عامة، وغير نابعة من اطلاع متأمل، وبالتالي يكون وعينا به مشوهًا أو جزئيًا.
ولقد أضاع المسلمون كثيراً من الوقت منبهرين بما حققه الغرب، دون أن يتأملوا ويدركوا سر حركة التاريخ في الغرب، فنرى كثيراً من الباحثين والمفكرين المسلمين بمختلف انتماءاتهم يجهلون حقيقة الحياة الغربية والحضارة الغربية بالرغم من أنهم يعرفونها نظرياً، كما أنهم ما زالوا يجهلون تاريخ حضارتها. وإنه بدون معرفة حركة تاريخ هذه الحضارة والمنطق الداخلي الذي يحكمها، فإننا لم ندرك سر قوتها ولا مكامن ضعفها، ولم نعرف كيف تكوّنت، وكيف أنها في طريق التحلّل والزوال لِما اشتملت عليه من ألوان التناقض، وضروب التعارض مع القوانين الإنسانية.(/4)
وإذا كانت المائة سنة الأخيرة قد تميزت بتقريب المسافات، واتجاه البشرية نحو التوحّد، في مصيرها، وفي علاقاتها، فإن المثقف المسلم نفسه ملزم بأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الإنسانية الرحبة، ويرتقي إلى إطار الحضور العالمي، وعيًا وإنجازًا، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي؛ إذ لا يمكن أن نطرح مشاكلنا في زمن العولمة والكونية، دون أن نأخذ في الاعتبار كل المعطيات السياسية والجغرافية والإستراتيجية.
وتحديد الصلة بالغرب وبغيره من الكيانات الحضارية، يعطينا تحديدين مهمين في إنجاز مشروعنا التجديدي:
التحديد الأول: هو التحديد السلبي، وذلك من خلال إدراك نسبية الظواهر الغربية، ومعرفة أوجه النقص فيها وأوجه العظمة الحقيقية.
أما التحديد الثاني: فهو التحديد الإيجابي، من خلال تحديد ما يمكن أن نساهم به في ترشيد الحضارة الإنسانية وهدايتها.
وهذا في حد ذاته ينضج ثقافتنا ويعطيها توجهًا عالميًا، فمن المفيد قطعًا أن ننظر إلى حركة التاريخ والواقع من زاوية عالمية لنكتسب بذلك وعياً عالمياً، فإذا أدركنا مشكلاتنا في هذا المستوى، فإننا سندرك -لا محالة- حقيقة الدور الذي يُناط بنا في حضارة القرن الحادي والعشرين.
ما هو منظور علم الاستغراب؟
إن مسألة تحديد النسق أو المنظور الذي من خلاله نتناول القضايا ومناقشة المشكلات المختلفة من الأهمية بمكان. ذلك أن تحديد المنظور يمكّن الباحث أو الدارس من الإحاطة بالمسألة، وامتلاك القدرة على إدراك مختلف أبعادها، وكذلك إمكانية صياغة حلول متناسقة قائمة على منهج واضح.
وبعبارة أخرى فإن منظور رؤية الأشياء هو الذي يحدد المنهج المقتضي للاتباع وتناول تفاصيل المسائل. وفي هذا السياق فإن النظر إلى مسألة ما من منظور فقهي –مثلاً- يؤدي إلى اعتماد منهج يختلف بالضرورة عن المنهج الذي يعتمد على منظور كلامي أو ثقافي أو حضاري أو سياسي.
وتحديد المنظور الذي من خلاله نعالج المسائل يسهل مهمتين للدارس؛ من حيث الاتساق في صياغة المنهج المراد اتباعه لعلاج المسألة موضوع البحث، ومن حيث القدرة على نقد مدى علمية المنهج المتبع في حل قضية ما ومدى اتساقه مع نفسه واتساقه مع الحقيقة الخارجية.
ويمكن القول: إنه بتحديدنا للمنظور، وبالتالي تحديدنا للمنهج المنبني عليه يمكن معرفة مدى شمولية ودقة واستيعاب هذا المنظور أو ذاك لمختلف الأبعاد، ومدى قدرة المنهج المنبني عليه على علاج المشكلات المختلفة للقضية أو الظاهرة أو المسألة موضوع البحث والدراسة.
والكتاب الذي بين أيدينا يُعدّ حلقة مهمة في بناء منظور ومنهجية للتعامل مع الآخر الغربي، ذلك أنه يبحث في جذور الغرب الثقافية والمعرفية التي شكّلت -ولا تزال- تعامُلَه مع غيره، كما يظهر الكتاب الاستعدادات الثقافية التي مكنت الغرب من أن يبلور، بوساطتها صورة عن ذاته، ويشكل صورة مشوهة للآخر لتأكيد ذاته، والتمركز المستعلي على غيره. ويتناول مصادر خطاب السيطرة على البشر بعد السيطرة على الطبيعة، ثم الاستشراق، وأيديولوجية الهيمنة.
محتوى الكتاب
يقع الكتاب في (160) صفحة من القطع المتوسط، متضمناً تصديراً للدكتور طه جابر العلواني، ومقدمة وأربعة فصول وخاتمة.
في التصدير أشار الدكتور العلواني إلى أن عنوان الكتاب "الاستتباع" يستدعي إلى الذاكرة مجموعة من المفاهيم والمصطلحات سادت في أوساط مثقفي الأمة منذ منتصف القرن الماضي، مثل: الاستعمار، والاستشراق، والاستغراب، والاستكبار، ... النظام العالمي الجديد والإرهاب، والأصولية، والظلامية ونحوها.
والكتاب يستدعي هذه المفاهيم لأنه يعالج "حقلاً معرفياً" واسعاً يتصل بكل هذه المفاهيم. وهذا الكتاب يتناول الغرب بتحليل بنائه وأطره المنهجية، ومسلماته المعرفية (الإبستمولوجية) وفلسفته ونظرياته وقواعده المعرفية، وينقّب عن كيفية تحول الغرب إلى المركزية في رؤيته لذاته وتهميشه للآخرين، بل واستتباعهم.
ويشير إلى الطريقة التي تناول بها العقل المسلم ظاهرة الاستشراق، وأنها كانت دون مستوى الإحاطة بالظاهرة، وانعدام الاهتمام بتحليل البنى المعرفية والأطر المنهجية للاستشراق بوصفه حقلاً معرفياً نشأ في إطار العلم الغربي وفلسفته ونظرياته وأسسه المعرفية، وكان موضوعه الآخر غير الغربي، مستمراً في الشرق المسلم، وأن هذا الحقل المعرفي قد أسس لنفسه علوماً لبناء شبكات في الشرق المسلم، وأن هذا الحقل المعرفي قد أسس لنفسه علوماً لبناء شبكات المفاهيم الجديدة والمنظومات المعرفية المؤطرة في فلسفته (التصدير، 10).
في المقدمة يشير المؤلف إلى عدة أفكار مهمة في سياق معالجته للموضوع، أهمها:(/5)
- التناول الاجتزائي للاستشراق: فيرى الباحث أن الكتابات حول الاستشراق ونتائجه منذ عقدين من الزمن ونيف، وقع معظمها ضحية منظورات اجتزائية لم تضع الاستشراق ضمن النسق المعرفي المؤسسي العام للحضارة الغربية، فهو ليس ظاهرة موازية للنسق المعرفي المؤسسي الغربي المهيمن ولا منقطعة عنه أو عرضية فيه، إنما على العكس استمدت جذورها من هذا النسق بكل مكوناته المعرفية والمذهبية، نسجت خيوطها في كنفه، وتشكّل جزءاً أساسياً في إنشاء نموذج (الدولة-الأمة) في الغرب.
- طرق الاستعمار في بسط الهيمنة: إذ لم يلجأ الاستعمار -في فرض هيمنته ونمط إنتاجه وإملاء شروطه، بوصفها حقيقة وحيدة لازدهار الحضارة- دائماً إلى سياسة النهب الخالص وسياسة المدفع السافرة، إنما اعتمد على أساليب أخرى أيضاً في مرحلة ما قبل الاستعمار المباشر، وذلك عن طريق الاتفاقيات التجارية والعسكرية والعلمية مع حكام دول الأطراف وتكوين أنصار وزبائن مفتونين بمبادئه وقيمه ومؤسساته في المجتمعات المحلية، والتسلل إلى الضمائر وتطويعها وتسخيرها لصالحه.
- عقدة التفوق الغربي التي تحكم الغرب؛ إذ لكي يستأثر بزمام المبادرة في معالجة التاريخ العالمي يرفض الاعتراف بالقيم والرموز الخاصة بالثقافات المغايرة، أو بفكرة تاريخ متعدد، ويلجأ إلى تقطيع مجتمعات الأطراف إلى شرائح وكيانات قبلية وطائفية، أو عرقية وإقليمية، ويحوّل تواريخ الشعوب إلى أصفار على هامش الحضارة، لا قيمة لها إلا بقدر اندماجها في دائرة السوق المتمم لحاجات إنتاجية المركز الأوروبي.
- الجذور الأيديولوجية والمعرفية للغرب: فالجذور الأيديولوجية للغرب ونظريته المعرفية تأسست ابتداءً من عصر النهضة، ومشروع الغرب يتجه نحو تطوير قيم أخلاقية جديدة متحررة شيئا فشيئاً من الدين لصالح نظرية جديدة عن المعرفة، ممثلة في أولوية المعرفة الموضوعية المستمدة من مجالي التجريب والرياضيات.
- ذهنية الصراع والسيطرة على الطبيعة والإنسان التي تحكم الغرب في تعامله مع الشرق، ضمن تراتبية تنطوي على إقامة فوارق جوهرية ثابتة بينه وبين سكان الشرق، وجعل نفسه وصياً وحيداً في تقرير مصائرهم تحت شعار تحرير الوثنيين والكفار "الوحوش" أو "الهمج" من "الظلامية" و"العبودية".
بمقتضى هذه الاستراتيجية راح الغرب يُساوي نفسه مع التاريخ، وله وحده الاستحواذ على مواقع النجاح، ولو على حساب ثقافات وتواريخ الشعوب الأخرى ومحوها.
- نشأة (الأنثروبولوجيا) الغربية: فالغرب أنشأ هذا العلم لدراسة إنسان ما وراء البحار بمناهج جديدة تهدف إلى عزله عن كل الظروف الاجتماعية التاريخية، ونكران ما يمثله من قيم ثقافية مغايرة. وحسب منظور (الأنثروبولوجيا) الغربية لم يعد ثمة شيء عقلاني، بالمعنى الحرفي سوى النظرية (الأنثروبولوجيا) "الإنسانية" عن ثقافة الشعوب التي اصطلح على تسميتها "بالبدائية" أو "الوحشية"، ولم يعد هناك من ثقافة سوى ثقافتهم من وجهة نظرهم هذه.
وإذا تم الاعتراف بعظمة حضارات (الغير) فبمقدار استجابتها لمصالح وترميزات المركزية الغربية. (ص 19 – 21).
- (إيديولوجيا) الفتح، والتسويغ لخطاب السيطرة: إن الخطاب المسيطر والمؤسس في القرن التاسع عشر، تحالف تحت قيادته الدولة المركزية الدستورية والعلم، والجيش والصناعة والكنيسة حاملة رسالة التبشير، لتوزيع المهام وتقاسم النفوذ ضمن إستراتيجية منظمة روّج لها رواد (أيديولوجيا) الفتح أمثال مونتسكيو وهيجيل وماركس ووايتفوغل..(/6)
في غرفة الإنتظار أوقات مهدرة
عبدالحكيم بن علي السويد
دار الوطن
الحمد لله رب العالمين، خلق الأولين والآخرين، القائل في كتابه الكريم: ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأمول والأنفس والثمرات وبشر الصابرين [البقرة:155]. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
الأخ المبارك لعلك وأنت تقلب صفحات هذه المطوية تشحذ تفكيرك وتركز على ما سأعرضه عليك بين ثنايا سطورها، فلن تعدم الفائدة - إن شاء الله - وقد تجد بغيتك فيها، أو تكون ممن أمضى وقته في قراءة نافعة، وهي من أنسب ما يقوم به الشخص في مثل هذه الحالة التي أنت بها الآن.
أخي إن مما يجب عليك أن تعلمه أن الله خلق كل شيء لحكم جليلة، وهذه الحكم قد تكون ظاهرة حينا وقد تغيب أحيانا، قال تعالى: الله خالق كل شيئ [الرعد:16]، وقال تعالى: إن ربك حكيم عليم [الأنعام:132]. فقد خلق سبحانه الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملا، وخلق الصحة والمرض لينظر هل يكون من الشاكرين لنعمه أو من الصابرين على ابتلائه، فالحياة تدور كلها على الابتلاء والامتحان، والفائز الحقيقي هو من يجتازها وقد أرضى الله بتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه، لا بما يرضي نفسه وهواه وشيطانه، واعلم أن من ابتلاء الله لك أن تأتي إلى هذا المكان الذي لا يأتيه غالبا إلا أحد اثنين، إما شخص يريد أن يكشف على نفسه للتأكد من سلامة جسده من العلل والأسقام، والتي لا يخلو منها أكثر الناس، أو شخص أصيب بمرض معين يريد الخلاص منه بأسرع ما يمكن، وقد أقض مضجعه وسبب لصاحبه من الهم والغم الشيء الكثير، فيأتي يريد العلاج - بإذن الله تعالى - ولا شك أن ذلك من فعل الأسباب التي أباح لنا الشارع فعلها، وقد أمرنا رسول الله بالتداوي، والذي أحب أن أذكرك به هو أن هذا المرض الذي حل بك هو من عند الله سبحانه وتعالى، قد كتبه وقدره عليك قبل أن تخلق، فلا تتسخط وارض بما قدر عليك، فإنك لا تعلم أين يكون لك الخير. فقد يكون من ثمار ما أصابك هو تكفير سيئاتك وذنوبك التي عملتها وأنت صحيح معافى في هذه الدنيا، أو لرفع درجاتك في الجنة، قال رسول الله : { ولا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة }. وعند مسلم من حديث صهيب قال: قال رسول الله : { عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابه سراء فشكر الله فله أجر، وإن أصابته ضراء فصبر فله أجر، فكل قضاء الله للمسلم خير }.
أخى الكريم، إن مما يجب عليك معرفته والإيمان به أنه لا يمكن أن يزول ما بك من مرض إلا بإذن الله تعالى، فإذا أراد الله لك الشفاء يسر لك أسبابه، ومنها مجيئك إلى الطبيب الذي يصف لك الدواء المناسب، إذا فالشافي هو الله وحده، قال تعالى: و إذا مرضت فهو يشفين [الشعراء:80]، وإن ما يفعله كثير من الناس بتعلقهم بالمخلوقين وحدهم في رفع المرض، لهو خلل كبير في عقيدة من يفعل ذلك، يحتاج من المريض معالجته قبل معالجة المرض الحسي الذي يسعى لعلاجه، ولهذا يجب على المسلم أن يحرص أن يكون الدواء مباحا، ومن طريق مباح، فلا يلجأ إلى الحرام مهما بلغت الأسباب، كأن يذهب إلى عراف أو ساحر أو غير ذلك مما يجعل الشخص المريض يعالج شيئا يسيرا حل به - وقد يكون خيرا له في آخرته - وفي مقابل ذلك يخسر أهم ما يملك وهو إيمانه بالله، وهذا ما يقع فيه بعض الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأحب أخي المبارك أن أبين لك بعضا من فوائد المرض التي ذكرها العلماء، حتى تستشعرها وتحتسب ما أصابك عند الله عز وجل، ومنها:
- أن يعرف العبد مقدار نعمة معافاته وصحته ومن ثم لا يغفل عن شكرها.
- أنه يعرف به صبر العبد.
- قرب الله من المريض.
- أن يعرف العبد مقدار نعم الله عليه في بقية أعضاءه التي لم تمرض.
- تهذيب للنفس وتصفية لها من الشر.
- انتظار المريض الفرج، وأفضل العبادات انتظار الفرج.
- تخويف العبد.
- أن الله يستخرج به الشكر.
- أنه علامة على إرادة الله بصاحبه الخير.
- أن ما يعقبه من اللذة والمسرة في الاخرة أضعاف ما يحصل له من المرض.
- وأخيرا أنه إذا كان للعبد منزلة في الجنة ولم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده. أخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله : { إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها }.(/1)
ولعلك تسمح لي في هذه العجالة أن أسألك عن شيء مهم للغاية مادمت في فسحة من الأجل، وقد يغيب عن الذهن لاسيما مع ظروف الحياة ومشاكل العصر التي لا تزداد إلا كثرة وتعقيدا، وهو ما يتعلق بعضو في جسدك، وهو أغلى ما تملك، أخي، ماذا عن قلبك هل سبق وأن كشفت عليه؟ هذه المضغة التي إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، أليس إذا أردنا أن نعرف هل العين تؤدي وظيفتها نختبرها بالرؤية، والأذن نختبرها بالسمع، فكذلك القلب نختبره بمقدار تعلقه بالله، فإن كان كذلك فهو سليم، وإلا فهو مصاب بمرض "الغفلة". واعلم - سددك الله - أن تركيز الشيطان منصب على القلب، فهو لا يمل في إرسال جنوده واحدا تلو الآخر حتى يوقع المؤمن في هذا المرض المقيت، وبعد ذلك لا تسأل عما يجري من وساوس وأوهام وقلق لا تنفك عن صاحبها إلا بالرجوع إلى واحة "ذكر الله"، فتنقلب الهموم والأحزان إلى راحة واطمئنان، قال تعالى: ألا بذكرالله تطمئن القلوب [الرعد:28]. ومما يجعل هذا المرض "الغفلة" يستفحل في قلب المؤمن، أنه خفي عن الأعين، غير محسوس في الظاهر، فلذلك يغفل عنه، وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه؟ لأن دواءه مخالفة الهوى، وإن وجد الصبر لم يجد طبيبا حاذقا يعالجه.
وقد قال ابن القيم رحمه الله: "خراب القلب من الأمن والغفلة، وعمارته من الخشية والذكر" ا هـ.
فإذا عرفت أن قلبك حي بذكر الله ومراقبته في جميع الأحوال، فاحمد الله وأسأله الثبات على هذه النعمة ولا تنس شكرها، فبالشكر تدوم النعم، وأما إن كان غافلا فاعلم أنه مريض يحتاج إلى علاج سريع وعملي لا يقوم بها إلا أنت، فالعلاج بيدك وحدك، قال تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم [الرعد:11]. ومن عجب أن ترى الإنسان إذا علم أن به مرضا معينا قلق وزاد همه، وحرص على علاجه بأسرع وقت، لاسيما إذا كان مرضه خطيرا، ولا يحرك هذا الشخص ساكنا، بل وينام قرير العين إذا علم أنه مبتلى بالغفلة، قال تعالى: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا [الكهف:28]، وهذا المرض هو الذي يجب على الإنسان أن يفطن له ويبدأ بعلاجه قبل أي مرض آخر، حتى وإن كان مرض السرطان؟ لأن مريض السرطان إن كان مؤمنا بالله مستقيما على طاعته، ثم مات على ذلك، فهو على خير لإيمانه بالله وصبره على قدره الذي كتبه الله عليه، فيجزيه أحسن الجزاء، يقول تعالى: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان [الرحمن:60].
أما مريض "الغفلة" فهو على خطر كبير في الآخرة ولو كان في الدنيا منعما، وأذكر لك أخي الكريم بعض الآيات التي تبين فداحة الوقوع في هذا المرض، فتأملها يا رعاك الله، قالى تعالى: ولقذ ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لايفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولائك كالأنعام بل هم أضل أولائك هم الغافلون [الأعراف:179].
فالله سبحانه خلق لجهنم كثيرا من الجن والإنس وشبههم بالحيوانات مع العلم أن لهم قلوبا وأعينا وآذانا ولكنها صرفت في غير مرضاة الله، لذلك سماهم الله في آخر الآية بالغافلين. إن أكثر الناس مصاب "بالغفلة" وهي أعظم داء، وقال تعالى: إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون، أولائك مأواهم النار بما كانوا يكسبون [يونس:7-8]، تفيد هذه الآية، أن من أسباب دخول النار أن يغفل العبد في الدنيا عن آيات ربه الكونية والشرعية، وما أكثرهم، نسأل الله أن لا نكون منهم. وقال تعالى في وصف الكفار: يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون [الروم:7]، فمن غفل عن آخرته فقد تشبه بالكفار، ومن تشبه بقوم حشر معهم، وقال تعالى: اقترب للناس حسابهم وهم فى غفلة معرضون [الأنبياء:1]، فبين الرب تباركت أسماؤه أن الغفلة تجعل العبد في إعراض وصدود عن حكمة خلقه وإيجاده ثم حسابه. وقال تعالى على لسان الكفار: ياويلنا قد كنا في غفلة عن هذا بل كنا ظالمين [الأنبياء:97]. تبين هذه الآية العظيمة أن الإنسان الغافل ظالم لنفسه بشهادته عليها.
قال ابن القيم رحمه الله: "الغفلة تتولد عن المعصية كما يتولد الزرع عن الماء والحرارة عن النار، وجلاءه بالذكر، وإن القلب ليمرض كما يمرض البدن وشفاؤه بالتوبة والحمية، ويصدأ كما تصدأ المرآة، وجلاءه بالذكر، ويعرى كما يعرى الجسم، وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة". اهـ.
وقد أنشد عمران بن حطان:
حتى متى تسقى النفوس بكأسها *** ريب المنون وأنت لاه ترتع؟
أفقد رضيت بأن تعلل بالمنى *** وإذا المنية كل يوم تدفع
أحلام نوم أو كظل زائل *** إن اللبيب بمثلها لا يخدع
فتزودن ليوم فقرك دائبا *** واجمع لنفسك لا لغيرك تجمع(/2)
وختاما أخي المبارك، اعلم أن الله تعالى إذا أراد بعبده خيرا بصره بعيوب نفسه، فمن كانت له بصيرة، لم تخف عليه عيوبه، وإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الناس جاهلون بعيوبهم، يرى أحدهم القذى في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عينه.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعجل لنا ولك بالشفاء التام من جميع الأمراض الحسية والمعنوية، وأن يجعل قلوبنا يقظة بذكره.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/3)
في كل الأحوال (1/2)
أ.د. عبد الكريم بكار 5/9/1424
30/10/2003
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن إنجازاتنا وعطاءاتنا تخضع لثلاثة عوامل أساسية، هي:
1- ما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا من خصائص عقلية ونفسية وجسمية.
2- البيئة التي نعيش فيها بما تشتمل عليه من مفاهيم وأعراف وتقاليد وبنى تحتية ومرافق عامة...
3- الجهود الشخصية والخاصة التي نبذلها في تثقيف عقولنا، وتزكية نفوسنا وصقل مهاراتنا، واستثمار الفرص المتاحة لنا.
ولا يخفى أن بين هذه العوامل الثلاثة علاقة جدلية مستمرة، فالذكاء المتفوق والقدرات الذهنية الممتازة تساعد المرء على أن يستفيد على أحسن وجه من المعطيات التي توفرها البيئة، كما أنها تجعله يدرك بسرعة حدود إمكاناته الحقيقية وطبيعة التحديات التي يلاقيها والطريقة المثلى لمواجهتها والتصرف حيالها.
البيئة الجيدة تجعل عمل الناس أسهل، وتوفر لهم الظروف التي تساعدهم على التفوق والارتقاء وهكذا..
والذي نستفيده من هذا هو أن التفوق في الجهد أو البيئة أو الموروث الجيني، سوف يخفف من أضرار القصور في الجانبين الآخرين. وأن أي قصور في أي جانب أو عامل من هذه الثلاثة سيؤثر سلباً في أداء العاملين الآخرين، وأعتقد أن التكامل والتفاعل بين ما ذكرنا يشكّل مظهراً من مظاهر ابتلاء الله –جل وعلا- لنا في هذه الحياة؛ حيث إن إمكانات الارتقاء والتقدم ستظل موجودة مهما كان الموروث الجيني سلبياً وضعيفاً، أو كانت البيئة صعبة وغير مواتية؛ وذلك من خلال تنمية الإمكانات الشخصية وبرمجة الوقت وتحديد الأهداف واكتساب المهارات، وقبل ذلك كله العبودية الحقة لله –تعالى- والاستعانة به، والتأهل لتوفيقه وفيوضاته غير المحدودة.
ولو أننا تأملنا في سير أولئك الذين صاغوا أمجاد هذه الأمة، وشيّدوا صرح حضارتها لوجدنا صدق ما نقول.
وأحب هنا أن أبلور المفهومات الثلاث الآتية:
أولاً: ما دامت المحصلات النهائية لكل جهودنا الدعوية والإصلاحية والتعليمية خاضعة لموروثاتنا عن الآباء والأجداد، وخاضعة للبيئة التي نعيش فيها وللجهد اليومي الذي نبذله، وما دامت كل هذه الأمور لا تكون أبداً حدِّية وكاملة؛ فإن المتوقع آنذاك أن تكون النتائج التي نحصل عليها مشوبة دائماً بالنقص والقصور، وستظل دائماً أقل مما نريد؛ فأنت لا تستطيع أن تصل إلى حلول كاملة في وسط غير كامل، وستظل هناك فجوة بين طموحاتنا وبين ما يتحقق على الأرض. هذا يعني أيضاً أننا سنظل نشكو ونشكو، وكأن الوعي البشري اخترع الشكوى من سوء الأحوال، ليتخذ منها محرضاً على التقدم.
وإذا تتبعنا هذه السلسلة من الإحالات والاستنتاجات فسنصل إلى الاعتقاد بأنه لن يكون في هذه الدنيا لأي أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات أو فرد من الأفراد – نصر حاسم ونهائي- لا يقبل الجدل ولا الشك والنقد. ولهذا فإن الذين يحلمون بانتصارات نقية وتامة سيظلون يصابون بصدمات الإحباط وخيبات الآمال!.
ثانياً: إذا كان الأمر على هذه الصورة؛ فهذا يعني أننا لن نصل أبداً إلى اليوم الذي نعتقد فيه أننا قد حصلنا على البيئة المثلى للعمل والإنجاز، ولا على الأدوات التي نحتاجها لتحقيق أقصى الطموحات، وسنظل نشعر بوجود درجة من المجازفة والمخاطرة عند اتخاذ أي قرار حاسم في أي اتجاه. وهذا يجعلنا نبلور مفهوماً جوهرياً، هو:" اعمل ما هو ممكن الآن، ولا تنتظر تحسن الظروف".
وهذا المفهوم يقوم على مسلّمتين هما:
1- هناك دائماً إمكانية لعمل شيء جيد لأنفسنا وديننا والناس من حولنا.
2- مهما تحسنت الظروف؛ فإنه سيظل هناك من يمكنه أن يظن أن الظرف المطلوب توفره من أجل الإنجاز لم يتهيأ بعد.
ثالثاً: هناك مسلمون كثيرون مصابون بفقر شديد في الخيال، فهم خاضعون لمقولات مستعجلة أطلقها أعلام ومشاهير لم تنضج رؤيتهم لفيزياء التقدم ولا لطبيعة العلاقات التي تحكم قوى التحدي والاستجابة، ومن ثم فإنهم قد صاروا أشبه بمن وضع القيد بنفسه في رجليه في أجواء عاصفة وخطرة!.
إن الخيال نعمة كبرى من الله –جل وعلا-، وقد كان نابليون يقول: "إن مؤسساتنا مصابة بمحدودية الخيال، ولولا الخيال لكان الإنسان بهيمة". ويكفيني هنا لفت النظر إلى مسألة تتجلى فيها محدودية الخيال وعقمه الشديد:
من الواضح أن جمهرة غير قليلة من أبناء الجماعات والدعوات الإسلامية يعتقدون أن تطورات مذهلة سوف تطرأ على الحياة الإسلامية إذا قامت الدولة (الحلم) التي تسيّر شؤون الناس، ولهذا فإنهم عطلوا الكثير من الجهود، وأضاعوا الكثير من الفرص، وعلّقوا توازن أعداد هائلة من الناس على تحقيق ما يتطلّعون إليه!؛ بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى ما هو أسوأ، وهو الاعتقاد بأنهم لا يستطيعون إنجاز أي شيء ذي قيمة إلا في ظل دولة إسلامية راشدة. وتلك الدولة ينبغي أن تكون من الطراز العمري، فإذا كانت من مستوى الحكومات الأموية أو العباسية، فربما كانت لا تستحق أقل من الثورة!.(/1)
هؤلاء الناس يتخيلون أن الحكومة الراشدة التي يحلمون بها سوف تكون على درجة عالية من الإخلاص والخلق والعلم وحسن التدبير والحنكة في تحفيز الجماهير على الكدح والعطاء، وعلى درجة عالية من الخبرة في حل المشكلات الداخلية ومواجهة التحديات الخارجية، مع أنهم لا يقولون لنا: أين ستكتسب (الدولة الحلم) هذه الخبرات الخطيرة؟ وفي أي بيئة ستتكون لدى أعمدتها هذه الصفات والأخلاق والمهارات الفذة والعجيبة؟ وهم ما فتئوا يشكون من سوء الأحوال وتدهور الزمان!.
في ظل هذه الدولة سوف يحدث ما يشبه الزلزال في النفوس والمجتمعات والعلاقات والتوجهات السائدة: في ظل تلك الدولة العجيبة سوف ينشط الكسول ويتعلم الجاهل، ويبذل الشحيح، ويقلع بذيء اللسان عن التفوه بالألفاظ القبيحة، ويكفّ مدمنو المخدرات والمكيفات عن تناولها، وسوف يحاول المدرس غير الكفء صقل مهاراته وإثراء ثقافته... كما أن العلمانيين والليبراليين وأصحاب المصالح المضادة سوف يسلمون لتلك الدولة (المعجزة) بالنزاهة والكفاءة معاً، ولذا فإنهم سوف يسلمون لها القيادة. والدول المناوئة في الخارج سترى أنه لا فائدة ترتجى من وراء مقارعة تلك الدولة؛ ولذا فإنها سوف تتجاهلها أو تهادنها...
وهكذا ستحدث تغيرات كونية هائلة لم تحدث في أي مرحلة من مراحل التاريخ! وحتى يحدث كل ذلك؛ فإن مما لا شك فيه أن طينة تلك الدولة ينبغي أن تكون خاصة، ولا مثيل لها ما دامت ستحقق إنجازات عديمة المثيل!.
وأنا أجزم أن تلك الجمهرة من الحالمين ستنقسم تجاه أفضل دولة إسلامية يمكن أن تقوم في أي مكان من الأرض إلى أقسام عدة: قسم يعمل معها بكفاءة وإخلاص؛ وهذا القسم قليل في أي زمان وأي مكان. وقسم يتمتع بالكفاءة؛ لكن ينقصه الإخلاص والاستقامة. وقسم ثالث يخلص؛ لكنه لانعدام خبرته لا يعرف كيف يخدم الدولة والأمة. أما القسم الرابع؛ فهو قسم منتفع وصولي، ليس من هؤلاء ولا أولئك. والقسم الخامس قسم معارض يرى أن الدولة التي سعى إلى إقامتها قد خانت رسالتها، وانحرفت عن مبادئها؛ فهو منهمك في ردها إلى المسار الصحيح.
أما القسم الأخير؛ فهو القسم الثائر الذي صارت أمنيته التخلص من تلك الدولة بأي وسيلة من الوسائل، ولو كانت استخدام الصنف وإشعال الحرب الأهلية!!.
هذه الأقسام لم نأت بها من نسج الخيال؛ بل هي مما عرفناه من سنن الله –جل وعلا- في الخلق، ومما فهمناه من طبائع الأشياء، وما وجدناه ونجده عند قراءة أي ثورة من الثورات التي تمكنت من الوصول إلى الحكم في بلاد إسلامية أو غير إسلامية.
ولعلي في المقال القادم أشرح شيئاً مما يمكن القيام به "في كل الأحوال"، ومن الله تعالى الحول والطول.
في كل الأحوال 2/2
أ.د. عبد الكريم بكار 21/9/1424
15/11/2003
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد ذكرت في المقال السابق أن موروثاتنا النفسية والجسمية... عن الآباء والأجداد وجهودنا الشخصية بالإضافة إلى البيئة التي نعيش فيها تشكل المؤثرات الجوهرية في كل عطاءاتنا وإنجازاتنا، وذكرت أنه مهما ساءت الظروف، وتعقدت الأوضاع، فستظل هناك إمكانية لعمل شيء ما، ومقال اليوم سيكون حول ذلك الشيء.
من المهم أن نعتقد في البداية أن أي جهد يبذله الواحد منا على صعيد إصلاح أحواله الشخصية والارتقاء بذاته، يصب بصورة من الصور في مصلحة أمته، حيث لا يمكن أن نبني أمة صالحة من أشخاص فاسدين، ولا مجتمعاً قوياً من أفراد ضعفاء، وإذا أردت أن تعرف موقع العالم الإسلامي على خارطة القوى العالمية، وأن تعرف مدى تأثيره الحالي في تحديد وجهة العالم؛ فانظر إلى أوضاع كل دولة من دوله على انفراد، فالموج لا يكون أبداً إلا من جنس مائه.
نحن اليوم في حاجة ماسة إلى أن نبلور ونرسخ ثقافة (الإنجاز المتجاوز) والتي تعني -فيما تعنيه- ألا يُؤخَّر شيء يمكن عمله الآن من أجل انتظار شيء سيحدث في المستقبل، وتعني كذلك تعزيز روح المبادرة الفردية لدى الإنسان المسلم وتعزيز روح الإيجابية، والتعامل مع المعطيات الجديدة بعقل وقلب مفتوحين؛ حيث إن معظم المسلمين ما زالوا يرزحون تحت وطأة موروثات عصور الانحطاط والتي يأتي في طليعتها الكسل والفوضى والتواكل والخوف من الجديد والتقليد والتبعية والتفكير الذري ومحدودية الطموحات والمجاراة الاجتماعية والمثالية الزائدة.
والآن اسمحوا لي أن أتحدث عن ثلاث قضايا أتصور أنها ذات أهمية قصوى بين القضايا الكثيرة التي يمكن القيام بها في جميع الأحوال:
1) المجاهدة من أجل تغيير سلم القيم.(/2)
هناك قيم عالمية مشتركة تهتم بها كل الثقافات وكل الحضارات، مثل: الصدق، والأمانة، والإحسان، والوفاء، وإغاثة الملهوف، والإتقان والتسامح، والعفو، والجدية، والدقة، والتملك، والرفاهية، والنظافة، والاقتصاد في بذل الجهد.. ويتعامل الناس مع هذه القيم في كل زمان ومكان على أنها مفردات في نسق عام، وهي في تواليها أشبه بدرجات السُلَّم، وتتم التضحية بالقيم الدنيا عند التعارض من أجل الاستمساك بالقيم العليا، فإذا كانت قيمة الصدق -مثلاً- لدى إنسان أعلى من قيمة المال؛ فإنه يلزم الصدق، ولو كان الكذب يجلب له المال الوفير، وحين تكون قيمة الخوف من الله -تعالى- لدى المسلم أعلى من قيمة الخوف من الناس؛ فإنه لا يبالي بغضب الناس إذا كانوا لا يرضون إلا بإغضاب الله، وحين يحلّ النعاس بأحدنا وتكون قيمة النوم عنده أعلى من قيمة تنظيف أسنانه؛ فإنه سينام دون أن ينظفها، وإذا كانت قيمة تنظيف الأسنان أعلى؛ فإنه سيقاوم النعاس إلى أن ينتهي من تنظيفها وهكذا...
المجاهدة في سبيل تغير سُلَّم القيم ينبغي أن تستهدف تحقيق أمرين أساسيين:
1- العبودية الحقة لله –تعالى- والالتزام بأمره في المنشط والمكره.
2- الفاعلية العالية في الإنجاز مع المثابرة على العمل الشاق بغية بلوغ الأهداف المرسومة.
وإن التغير في عاداتنا وسلوكاتنا هو الطريق لتحقيق هذا وذاك، ولو أن المسلم أخذ على عاتقه أن يتخلص من عادة سيئة كل ستة أشهر لتحل محلها عادة حسنة؛ فإنه يكون قد التزم بإجراء تعديلات مستمرة في سُلَّمه القيمي بما يحقق العبودية والفاعلية، ومع أن هذا الأمر ليس بالسهل؛ فإنه بالاستعانة بالله -تعالى- والعزيمة التي لا تلين يمكن إنجاز الكثير الكثير. وهذا التحدي سيظل ماثلاً أمام كل مسلم في كل الظروف وإلى أن يلقى ربه.
2) المشروع الشخصي:
علينا أن نقول إن وعينا مفتون بالإنجازات الكبيرة والانتصارات العظمى، مما زهّدنا في الاهتمام بالأمور الصغيرة والتفاصيل الدقيقة، مع أنه من غير الممكن التعامل مع القضايا الكبرى من غير تفتيتها وتنويع المداخل والطرق لحلها، فكرة المشروع الشخصي ما زالت غريبة عن المجتمعات الإسلامية ولدى معظم الناس، مع أنه قد يكون هو السبيل الأكثر يسراً والأقل تكلفة والأكثر نجاعة والأقل مخاطرة في إنقاذ الأمة من الحالة الحرجة التي صارت إليها في ظل قصور الداخل وضغوطات الخارج.
المشروع الشخصي يعني التزام المرء بإنجاز شيء يكرس له حياته أو جزءًا كبيرًا منها، وهو من أجل إتقانه وأدائه على أفضل وجه مستعد للتنازل عن بعض الرغبات وتفويت بعض المصالح وذوق طعم العناء.
المشروع الشخصي رؤية تتكون من الهدف والطاقة والإمكانية والبعد الزمني، ولا قيمة لتلك الرؤية إذا لم يتم تجسيدها في خطة عملية ومنطقية واضحة ودقيقة، من خلال مشروعنا الشخصي نعثر على الدور الأمثل الذي يمكن أن نؤديه في هذه الحياة، كما أننا نجيب من خلاله عملياً عن الأسئلة التي لا يتم التقدم الحقيقي من غير الجواب عنها.
وأهم تلك الأسئلة سؤالان ضاغطان؛ هما:
1- ما الشيء الذي نستطيع أن نفعله الآن لكننا لا نفعله؟
2- ما العمل الذي إن أديناه بطريقة جديدة تكون نتائجه أفضل؟
ومن المهم أن تكون الأهداف التي ننجزها من خلال ذلك المشروع متصلة بالهدف النهائي الذي على كل مسلم أن يسعى إلى بلوغه، وهو الفوز برضوان الله –تعالى-.
سوف تتقدم أمة الإسلام تقدماً باهراً إذا تمكن 5 % من أبنائها من تقديم نماذج راقية في العلم والتربية والأخلاق والسلوك والعلاقات الاجتماعية والإنتاج والإبداع، فالذي يغير معالم الحياة ليس الأفكار والحكم والمقولات - وإن كانت تشكل الأساس لأي ازدهار-؛ وإنما النماذج الراقية التي يتفاعل معها الناس، ويتخذون منها قدوات يقتدون بها.
الأمم الفقيرة ليست تلك التي لا تملك الكثير من الرجال، ولكنها الأمم التي يتلفت أبناؤها يمنة ويسرة، فلا يرون إلا رجالاً من الطراز الثالث أو الرابع، فيحدث ما يشبه الفتنة الثقافية والضياع السلوكي.
من الصعب أن يكون المرء نموذجاً في أمور كثيرة، لكن من الميسور أن يكون عادياً أو فوق العادي قليلاً في جل شؤونه، ويقدم نموذجاً رفيعاً في شأن أو اثنين أو ثلاثة.
إذا نظرنا في سير صفوة الصفوة من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم- لوجدنا أنهم من خلال براعة كل واحد وتفوقه في بعض الأمور تمكنوا من كتابة تاريخ صدر الإسلام، وتأسيس المرجعية الرمزية والشعورية والأخلاقية لأمة الإسلام بطولها وعرضها: هذا يقدم نموذجاً في العدل، وهذا في الأخلاق والتجرد، وهذا في الصدق والأمانة، وهذا في الثبات على المبدأ، وهذا في النبوغ العلمي والفقهي، وهذا في الحنكة العسكرية، وهذا في الكرم والجود، وهذا في البر بوالديه وأرحامه، وهذا في الحياء وللطف والطيبة... وهكذا تم رسم ملامح أفضل مراحل حضارة الإسلام وملامح أكرم الأجيال.(/3)
جمال فكرة المشروع الحضاري الشخصي أنه لا يحتاج إلى كثير مال وأحياناً لا يحتاج إلى أي مال. وهو ليس ذا مقاييس صارمة ومعالم محددة، ولذا فإن معظم الناس يستطيعون أن يهتموا بأمر من الأمور يصبحون من خلاله مناراً ومرجعية لغيرهم؛ ومن الذي يمنع المرء أن يقدم نموذجاً في التبكير إلى صلاة الجماعة أو خدمة والديه أو الحرص على الوقت أو التصبر والتحلم وسعة الصدر ...؟
من خلال المشروع الحضاري يحقق المرء لدينه وجماعته ودنياه الكثير من المكاسب، وهو في كل ذلك الكاسب الأول . لكننا نحتاج إلى شيء من البصيرة وشيء من التخطيط وكثير من الهمة والاهتمام وروح المثابرة.
3-المشاركة في الخدمة العامة:
يتجلى الكثير من عظمة الأمم وخيريتها في تمتعها بأعداد كبيرة من المهتمين بالشأن العام والناهضين للقضايا التي لا تدخل في مسؤولية أي جهة من الجهات. وإن في إمكان أي مسلم مهما كانت ظروفه وأوضاعه، ومهما كانت قدراته وإمكاناته أن يسهم في تحسين الحياة العامة وإشاعة الخير محاصرة الشر في البلد الذي يعيش فيه. وسيكون من الخطأ الظن أن الإحسان يقتصر على بذل شيء من المال للفقراء. لا ريب أن هناك مشكلات كثيرة لا يحلها إلا المال؛ لكن أيضاً هناك مشكلات كثيرة جداً لا تحتاج في حلها إلى أي مال. وقد كان عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – يخرج إلى السوق مع غلام له، ثم يعود دون أن يشتري أي شيء، وكان غلامه يستغرب، ويتساءل : لماذا كان ذلك ؟! وكان ابن عمر يجيبه أنه خرج من أجل السلام على الناس.
في المسلمين مظلومون يحتاجون إلى مناصرة، وفيهم جهلة يحتاجون إلى تعليم ومنحرفون يحتاجون إلى إرشاد، ومهمومون يحتاجون إلى مواساة... ولو أن كل مسلم بذل ساعة في الأسبوع في التعاون مع مؤسسة خيرية أو في عمل تطوعي عام لتغير وجه الحياة في عالمنا الإسلامي.
نحن أمة تتحدث كثيراً عن حب الخير وعمل الخير، لكن الأرقام والإحصاءات والنتائج الملموسة تدل على أننا في الأعمال التطوعية والأنشطة اللاربحية في مؤخرة الأمم. ويكفي القول: إن القطاع الثالث والذي يشمل الأعمال الخيرية واللاربحية في (إسرائيل) يستوعب 11% من القوة العاملة هناك؛ على حين أنه في أقطارنا الإسلامية لا يستوعب ولا واحداً في المئة!.
من خلال حبّات الرمل تتشكل صحارى شاسعة، ومن خلال قطرات الماء تتشكل بحار ومحيطات، ومن خلال الأعمال الصغيرة والمبادرات الفردية يتشكل مستقبل أمة إذا امتلكنا ما يكفي من العزيمة والوعي. والله ولي التوفيق(/4)
في كنف البلاء
يوسف الحجيلان 25/12/1423
26/02/2003
مع كل مذبحة تجد ولا جواب سوى العويل
مع كل جرح في جوانح أمتي أبداً يسيل
مع كل تقتيل وتشريد لشعب أو قبيل
يأتي يسائلني صديق من بلادي ما السبيل ؟
ما يبرق أمل وينفك ألم ويندمل جرح من جروحنا -أو يكاد يندمل- إلا وتثعب جراحات وتصاب مقاتل وتقطع أوصال وتداس قيم وتذل هام وتوأد همم .
في وضعية عجزت أو تعجز ريشة رسام محترف تشكيل وجه خيالي لحكاية من تعيس حكايات البائسين يشبه وجه الأمة ويحاكي بؤسها .
صار الرقم ضخماً حتى مللنا -أو قل عجزنا- معه عن مجرد السرد التأريخي لجراحنا .
فصار النائح يكتفي بالجديد الباقي عن التليد البالي من غوائل القدر على أمة الإسلام، وكأن فسيح الأرض ضاق ورحبها قصر وشعابها وسهولها وحزنها، عجز أن يستوعب، فلم يبق إلا أرض الإسلام محط رحل البلاء وملاعب الشقاء ومتحف الأشلاء وواحة الدماء ودار المأتم والعزاء .
اللهم لا أسألك رد القضاء ولا أعترض .
فيا أرض القادسية !
أهي لعنة دم الحسين لا يزال يبوء بوزرها المسحوقون على أرضك ؟
أهو جرم ابن زياد في القرن الأول يبوء به طفل القرن الخامس عشر ؟
أهي ليالي كربلاء المشؤومة يقتص لها غيارى واشنطن ؟
ما انفكت الرزايا والإحن، والبلاءات والمحن تترى على أرض السواد كلما تقشع غمام انعقدت سحب، وكلما هدأت ريح هب عاصف، وكلما تنفس صبح ادلهمّ ليل .
في غمرة واقع مرير وسواد حالك وأيام نحسات سيطرت فيها النظرة التشاؤمية إلى حد نسينا أو تناسينا أعراس القرن الثاني، وأفراح القرن الثالث وأساطير المجد وأيام السؤدد على تلك البقعة من خارطة الأرض المكلومة .
بغداد هل نسينا صليل سيوف القادسية وأيام القعقاع وسعد وعمرو بن معدي كرب ؟
بغداد ألم يتبختر أبو جعفر المنصور سلطاناً دوخ جبابرة الأرض وساداتها ؟
بغداد ألم يتحدَّ الرشيد السحاب والأرض خاتماً في أصبعه يجبى إليه خراجها، وتساق إليه بنات ملوكها بضائع تباع في سوق النخاسة ؟
بغداد ألم يرتعد أنف المعتصم ويزأر في سبعين ألف ليث كاسر، فيدكدك عمورية ويذل الصرب ويستبيح بيضة أوروبا ؟
نعم إنها الأرض التي استهل عليها صلاح الدين صارخاً .
يستقل إليها بوش غازيا في سخرية واضحة للمثلات .
وتلك الأيام نداولها بين الناس .
أما آن لصوت العرب أن يزأر ؟
أما آن لعزة الإسلام أن تثأر ؟
أما آن للحمية الإسلامية والنخوة العربية أن تختط لنفسها مكاناً في هذا العالم ما عاد لنا بارقة أمل في حلكة ليل المأساة ؟
وما عاد لصوتنا ولا رجع صدى، وسط الصراخ والعويل والتفجير والتدمير .
غضبات وتوعدات ومؤتمرات وتهديدات وإمكانية تحريك للجيوش من أجل الماء المتدفق من الفرات أو الوزاني أو اليرموك ولا بأس .
لكن لا مجال للتفكير مجرد التفكير بعقد مؤتمر يؤتي أكله سلفاً مذكرة احتجاج أو رسالة شجب واستنكار .
يوم أن تتدفق دماؤنا شلالات تكفي لتعويض النقص في المياه فتسقي شجرة الحقد التي ضربت في أرض العرب، فأصلها ثابت في كل ذرة من ذرات التكوين العضوي لنا، وفرعها سامق في السماء يغطي كل بارقة أمل، ويحجب كل شعاع شمس أو خيوط ضوء قمر، ويمنع كل نسمة هواء يمكن أن تحيي الحلم بمستقبل أقل سوءاً من واقع فاق تخيلات أكثر المتشائمين تشاؤماً حتى أعجزت بشاعته قريحة المعري وأقلام كتاب القصص البائس .
في خليط بلايا متجانس أنتج واقعاً : ما استهل فيه مولود إلا وكان مرشحاً ليصير في يوم من الأيام لغماً موقوتاً وقطعة بلاء، وما قطع فيه حبل سرة إلا ورشح ليكون حبل مشنقة، وما أنَّت فيه والدة إلا ورشح أنينها صراخ نوائح وأنات معذبين، ثلاث أثافي من البلاء يمكن أن يطال نيرها كل من كانت له يد في هذا الواقع البشع الرهيب، لأمة مكلومة طالما كانت وكانت وكانت ...
ثم صارت في تحول درامي ربما لم يبق واقعه من ماضيه إلا حدود ما يبقى من جينات وراثية، تجعل من الممكن أن يكون مولود بغداد اليوم يمت إلى مولود بغداد الأمس بصلة .
فيا غارة الله غذي السير مسرعة ... ...
لحل عقدتنا يا غارة الله
انتفض "ماوسيتنج" فبنى لأمة الصين مجداً وأعاد سؤددا .
وثار "غاندي" فطرد الغزاة وأعاد هيبة تاج محل ودلهي .
وما زال الدلاي لا ما ينسج خيوط علم التبت .
وصبر "مانديلا" وصابر حتى سوَّ الأسود وأذلَّ الأبيض .
وحتى الكوريون الشماليون وهم اللاشيء في التأريخ مرغوا أنف الأمريكان، وأذلوا البنتاغون وداسوا هيئة الأمم .
وفي وطني توأد عظمة عمر المختار وعز الدين القسام وابن باديس والعشرات العشرات غيرهم .
ونبقى عبيد عقدة الحروف الثلاثة [س ل م] .
وغيرنا أحرار عزة الحروف الثلاثة [ح ر ب](/1)
في لجج البحر
للشيخ الأديب : علي الطنطاوي رحمه الله تعالى
مات علي الطنطاوي.
وليس عجبا أن يموت، والموت غاية كل حي، ولكن العجيب أن يرجع بعدما مات، ليصف للقراء الموت الذي رآه.
وكان ذلك من شهرين، وكان على سيف البحر في بيروت، وكان البحر هائجا غضبان، يرمي بأمواج كأنها الكثبان، وقد فرّ منه الناس، فليس في الشطوط كلها، على طولها وامتدادها - من سان سيمون إلى الأوزاعي - إلا نفر قليل.
ولم يكن يعرف من السباحة إلا درسا واحدا، كان قد تلقاه من أكثر من ثلث قرن، على معلم لم يسبح أبدا، هو أن يقف حيث لا يصل الماء إلى الصدر، ثم يحاول أن ينبطح، ويسيب قدميه، ويخبط بيديه، ويبقى على ذلك مقدار ما يبتلع من ماء البحر - وهو كشربة الملح الإنجليزي - ما يملأ معدته وأنفه.. ثم يخرج.
وكان مع شاب تونسي من علماء جامع الزيتونة، ولا يمتاز في السباحة عنه إلا بأنه أجهل فيها منه، حتى هذا الدرس لم يحضره لأنه لم يكن ولد، فلما كبر لم يستطع أن يأخذ مصله، لأن ذلك " المعلم " كان قد مات.
وتركا " الحمام " حيث النساء العاريات، ثم أخذت أسبح السباحة التي أعرفها: أرفع رجليّ، وأحرك يديّ، فإذا تعبت خرجت أستمتع بالشمس والهواء، وكنت ممتلئا بالصحة، أكاد أتوثب من النشاط توثبا، وكان الموت بعيدا عن فكري، والموت أبدا أبعد شيء في أفكارنا عنا، وإن كان أقرب شيء في حقيقته منا، نتناساه وهو عن أيماننا وشمائلنا، نشيع الجنائز ونمشي معها ونحن في غفلة عنها، نتكلم كلام الدنيا، ونرى مواكب الموت تمر بنا كل يوم، فلا نفكر ولا نعتبر، ولا نقدّر أننا سنموت كما ماتوا، ومات من كان أصح منا صحة، وكان أشد منا قوة وأكبر سلطانا، وأكثر أعوانا، فما دفعت عنه الموت لما جاءه صحته ولا قوته، ولا حماه منه سلطانه ولا أعوانه، نعرف بعقولنا أن الموت كأس سيشرب منها كل حي، ولكننا ننسى هذه الحقيقة بشعورنا وعواطفنا، وتحجبها عنها شواغل يومنا، وتوافه دنيانا، يقول كل واحد منا بلسانه: إن الموت حق وإنه مقدّر على كل حي، ويقول بفعله: لن أموت، لقد كتب الموت على كل نفس إلا نفسي، فلا يزال في العمر فسحة لي دائما، ولن يأتي أجلي أبدا.
وعاودت الدخول في الماء، وأطلت البقاء فيه، وما أحسست وأنا أتزحزح شبرا فشبرا، أني جاوزت هذه البركة، وبلغت موضعا من البحر عميقا، علمت بعد أن فيه تيارا يتحاماه السباحون القادرون، فكيف بمن لم يكن يتقن من السباحة إلا فن الرسوب.
* * *
وحاولت الوقوف فإذا أنا لا أجد الأرض الصلبة من تحتي، وحاولت أن أرفع رأسي فأنظر، فإذا أن لا أجد الهواء ولا أبصر شيئا، وأحسست أن الماء المالح قد تدفق على فمي، وأنفي، فأنا لا أملك إلا أن أبلعه وأنشقه، وبدأت أحس آلاما لا تصوّر ولا توصف، ليست في الرأس، وليست في عضو من الأعضاء وحده، ولكنها في كل ذرة من جسدي، وروحي، وشعرت كأن قد ألقيت على صخرة ضخمة، وأن أعصابي تجذب من تحتها وتقلع، كما تجذب خيوط الحرير مما خالطها من الشوك، وصار كل همي من دنياي أن أجد نسمة واحدة من الهواء فلا أجدها، فقلت: هذا هو الموت، هذا هو الموت الذي أفر من الكلام فيه والحديث عنه، والذي أراه بعيدا عني، لم يحن حينه، ولم يدن موعده، لذلك كنت أؤجل التوبة من يوم إلى يوم، أقول إذا بلغت من الشباب تبت، فلما بلغتها قلت: أتوب في الأربعين، فلما جاوزتها قلت: أنتظر حتى أتم بناء الدار، فلما أتممتها قلت: أتوب وأتفرغ إلى الله، إذا بلغت سن التقاعد، كأني أخذت على مَلَك الموت عهدا، ألا يطرق بابي حتى أبلغ سن التقاعد، فها هو ذا قد جاء على غير ميعاد.
* * *
وكان أول ما خطر على بالي، أني كنت أتمنى ميتة سهلة سريعة تكون على الإيمان، وأن هذه الأمنية تلازمني من أزمان، فخشيت أن أكون قد سعيت إلى هذه الميتة فأكون - والعياذ بالله - منتحرا، ورحت أفكر فيما صنعته من لدن دخلت الماء، فإذا أنا لا أذكر من ذلك شيئا، وإذا أنا أشعر أنه غدا بعيدا عني كأنه قد كان من سنة، لا من دقائق معدودات، وصغرت الدنيا في عيني، كأني أراها من طيارة قد علت في طباق الجو، ومن كان على سفر، يسرع ليلحق القطار، هل يرى من الشوارع التي يجتازها شيئا؟ هل يغريه منها جمال ساحر، أو فن طريف؟ إنه يحس بها غريبة عنه، وأنها ليست له، يغدو منظرها في عينه كصورة زائفة فكيف ينظر إلى هذه الدنيا من أيقن الموت ؟
لقد أمحت - والله - صورة الدنيا كلها من أمامي. ومالي وللدنيا، ولم يبقى لي فيها إلا لحظات معدودات، أنا أتجرع فيها ثمالة كأس الآلام؟ لم يبقى لي منها ما يغريني بها، حتى الأهل والولد شغلت بنفسي عنهم، فلا تصدقوا ما تقرؤونه في القصص من أن المشرف على الغرق، يفكر في أحبائه أو في أعماله، أو في أدبه وعلمه ومقالاته وأشعاره، أو يهمه ما يقال فيه من بعده ربما كان ذلك من غير المسلم، أما المسلم فلا يرى في تلك الساعة إلا ما هو قادم عليه.
* * *(/1)
وازدحمت عليّ الخواطر فيما أفعله، فحاولت التشهد والتوبة أولا، فلم أستطع النطق بشيء مما كان في فمني من الماء، وازدادت علي الآلام ولكنها لم تقطع خواطري، وكان ذهني في نشاط عجيب ما أحسست مثله عمري كله، وكنت بين خوف من الموت ورغبة فيه: أرغب فيه أرجو أن تكون هذه الميتة على الإيمان، وأخاف لأنه ليس لدي ما أقدم به على الله، وقد فاجأني الموت، كما يفاجئ التلميذ المهمل، الذي لا يزال يؤجل المطالعة والحفظ، ويقول: الامتحان بعيد، وتمضي الأيام، حتى إذا رآه صار أمامه قطع أصابعه ندما، وأذهب نفسه حسرة، وما نفعه ذلك شيئا.
هذا هو امتحان يسير، أسوأ ما فيه أن تذهب بالسقوط فيه سنة من عمره سدى، فكيف بالامتحان الأعظم، الذي ما بعده إلا النعيم الأبدي في الجنة، أو الشقاء الطويل في النار، الامتحان الذي ليس فيه " إكمال " و لا تعاد له دورة، و لا يجبر فيه " كسر " درجة، و لا تنفع فيه شفاعة شافع، و لا وساطة ذي جاه أو مال، و رأيت موقف الحساب رأي العين، و قد شغلت كل أمري نفسه، و الناس يدعون ليأخذوا نتائج الامتحان، فمن أخذ كتابه بيمينه، و حمل إلى الجنة فهذا هو الفائز، و من أخذ كتابه بشماله و سيق إلى النار فهذا هو الخاسر، و هذا هو الخسران المبين.
وعرضت عملي، فلم أجد لي عملاً من أعمال الصالحين، فلا أنا من أهل المراقبة الذين لا يغفلون عن الله طرفة عين، و لا أنا من المبتعدين الذين يقومون الليالي الطوال و الناس نيام، و يناجون ربهم في الأسحار، و ما أنا من المتقين الذين يتجنبون المحرمات، ما أنا إلا واحد من الغافلين المذنبين، أي والله فبم أقدم على الله؟
* * *
ونظرت فإذا كل ما ربحته من عمري لحظات، لحظات كنت أحس فيها حلاوة الإيمان، و أخلص فيها التوجه إلى الله تقابلها عشرات من السنين كنت سابحاً فيها في بحار الغفلة، تائهاً في بيداء الغرور، أحسب من جهلي، أن الأيام ستمتد بي، لم أدر أن العمر ساعات محدودة، و أن ذلك هو رأس مالي كله، فإن أضعته لم يبق لي من بعده شيء.
و ذكرت حديثاً كنت حفظته في صباي ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، و صحتك قبل سقمك، و فراغك قبل شغلك، و غناك قبل فقرك، و حياتك قبل موتك)).
و ندمت لأنني لم أكن وضعته في صدر مجلسي، و اتخذته منهجاً لحياتي، و لكني لم أعرف - مع الأسف - معناه، و لم أدرك حقيقته، إلا عندما انتهت حياتي.
و فكرت فيما كنت أكابد من ألم الطاعة، فإذا الألم قد ذهب و بقي الثواب، و نظرت فيما استمتعت به من لذة المعصية، فإذا هو قد ذهب و بقي الحساب، فندمت على كل لحظة لم أجعلها في طاعة.
* * *
ونظرت فإذا المقاييس كاملة تتبدى ساعة الموت، وإذا كل ما كنت أحبه و أنازع عليه، قد صار عدماً! و إذا أنا لم آخذ معي شيئاً، بنيت داراً فما حملت معي منها حجراً، و اقتنيت مالاً فما كان لي منه، إلا ما ظننت من قبل أني خسرته، و هو ما أخرجته لله، و كتبت آلفاً من المقالات في عشرات من السنين، و كان لي من القراء و المستمعين ملايين و ملايين، فما نفعني كلمة قلتها لوجه الله، و أين هي؟ لقد تركني هؤلاء المعجبون - كما يقولون - بأدبي و بياني أموت الآن و حدي، ما جاء واحد منهم ليأخذ بيدي، و ما أقبل واحد منهم يدفع الموت عني!
و عرفت لذائذ الحياة كلها، فما الذي بقي في يدي و أنا أموت غرقاً من لذائذ، و ما الذي استبدلته بالعمل الصالح الذي لا أرجو النجاة الآن إلا به؟
لقد كان إبليس يشغلني عن الخشوع في الصلاة بالتفكير في " البنطال " أن يفسد كيه السجود، و يخوفني أن تذهب صحتي، بقطع المنام لصلاة الفجر أو صيام أيام الحر من آب، و أن أخسر حسن رأي الناس في إن جهرت بقولة الحق، أو أن ينالني من ذلك أذى في جسدي أو في رزقي!
فوجدتني الآن أخسر الناس، إذ بعت الباقي، بهذا الوهم الزائل، كزنوج إفريقية الذين يعطون كنوز بلادهم وخيراتها، ليأخذوا خرزات لماعة، أو ساعة طنانة، أو هينة من هينات الحضارة.
أما العاقل فيبذل ما لديه من متاع، ويعلم أن الذي يعطيه اليوم، هو الذي يبقى له غدا، وأن الذي يحتفظ به ويخفيه يخسره ويخرج من يده، ويكون مستعدا للسفر في كل لحظة.. وأما الأحمق فيتمسك بخيمته ومتاعه القليل ويقول: أنا باق هنا، هذه هي داري، وهذا متاعي، وما الدار الآخرة إلا أكاذيب جرائد، وأساطير محررين، وأن أكون أحمق فأبيع عاجلا حاضرا، بآجل موهوم، ويرى الناس يطيرون كل يوم فلا يفكر ويظن أنه وحده هو الباقي، حتى يجيء دوره، فيحمل قسرا لا يملك دفعا ولا منعا، ويخسر ما كان له في الجزيرة، ولا يلقى في أمريكا إلا جحيم الفقر والحاجة إلى الناس.
وغلبني ألم الموت، ولم يعد في طوقي أن أفكر، فترجعت إلى الله وتصورت كرمه وعفوه، وكان يغلب عليّ الأمل وحب الحياة، فأضرب بيدي ورجلي وأرفع يميني أشير بها، ثم يدركني اليأس فأسلم أمري إلى الله، ولم أكن أتمنى بعد المغفرة، إلا شيئا واحدا، هو أن يخفف الله عني بتعجيل موتي، أخشى أن يطول بي هذا الألم فوق ما طال.
* * *(/2)
وقد خيّل إليّ أني بقيت على ذلك ساعات، ولكن تبين لي من بعد، أني لم ألبث أكثر من دقيقتين، في دقيقتين أحسست هذه الآلام، ومرت في ذهني هذه الخواطر.
وهذا من العجائب التي أودعها الله النفس البشرية، فأنت ترى حلما تعيش فيه عشرين سنة بأحداثها، ولا تكون قد نمت أكثر من خمس دقائق.
ثم لما خارت قواي، وأوشكت أن أغوص فلا أطفوا أبدا، خيّل إليّ أني أسمع أصواتا تناديني، وأحسست بيدي تمس شيئا صلبا، أدركت أنه طرف من زورق، ففرحت فرحة ما فرحت قط مثلها، وشعرت أني أرفع إلى الزورق، ثم غبت عن نفسي وهم يمسكون برجلي لأخرج بعض ما في جوفي من ماء البحر.
* * *
لقد خرجت بنفس جديدة، واتعظت موعظة أرجو أن تدوم لي، وعرفت قيمة الحياة، وحقيقة الموت، ونحن لا نعرف من الموت إلا ظاهره دون حقيقته، نراه عدما، ونندب القريب والحبيب إن وضعناه في حفرة باردة، وخلفناه وحيدا، تأكله الدود، وليس حبيبك الذي أودعته الحفرة، ولكن جسده، والجسد ثوب يخلع بالموت، كما تخلع الحية ثوبها، فهل يبكي أحد على ثوب خلع!؟
وما الموت إلا انتقال إلى حياة أرحب وأوسع، إلى النعيم الدائم أو الشقاء الطويل، ولو كان الموت فناء لكان نعمة.
ولو أنا إذا متنا تركنا ***لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسـ ***ـأل بعدها عن كل شيء
فإذا كان الموت سفرة لابد منها، فالعاقل من تهيأ لها، وأعد لها الزاد والراحلة، وذكرها دائما كي لا ينساها، ونظر في كل شيء، فإن كان مما يستطيع أن يحمله فيها حرص عليه، وإن كان مجبرا على تركه وراءه زهد فيه وانصرف عنه.
* * *
وبعد..
فلا يهنئني أحد بالسلامة، بل ليدع لنفسه ولي بحسن الخاتمة، فإني أخاف والله ألا أجد ميتة أكون فيها حاضر القلب مع الله، مستشعرا التوبة، متصورا الدار الآخر، كما كانت هذه المرة.(/3)
في لجج البحر
الشيخ علي الطنطاوي يرثي نفسه
هذه المقالة المؤثرة نشرها الشيخ علي الطنطاوي قبل أكثر من نصف قرن بعد أن مر بحالة غرق كاد أن يفقد حياته لولا عناية الله.. وننشرها هنا بالصفحة باعتبارها وثيقة فيها كل الاعتبار والعظة مع دعواتنا الصادقة بالرحمة والمغفرة للشيخ الراحل علي الطنطاوي.
--------------------------------------------------------------------------------
مات علي الطنطاوي.
وليس عجبا أن يموت، والموت غاية كل حي، ولكن العجيب أن يرجع بعدما مات، ليصف للقرء الموت الذي رآه .
وكان ذلك من شهرين، وكان على سيف البحر في بيروت، وكان البحر هائجا غضبان، يرمي بأمواج كأنها الكثبان، وقد فرّ منه الناس، فليس في الشطوط كلها، على طولها وامتدادها (من سان سيمون إلى الأوزاعي) إلا نفر قليل.
ولم يكن يعرف من السباحة إلا درسا واحدا، كان قد تلقاه من أكثر من ثلث قرن، على معلم لم يسبح أبدا، هو أن يقف حيث لا يصل الماء إلى الصدر، ثم يحاول أن ينبطح، ويسيب قدميه، ويخبط بيديه، ويبقى على ذلك مقدار ما يبتلع من ماء البحر (وهو كشربة الملح الإنجليزي) ما يملأ معدته وأنفه.. ثم يخرج. وكان مع شاب تونسي من علماء جامع الزيتونة، ولا يمتاز في السباحة عنه إلا بأنه أجهل فيها منه، حتى هذا الدرس لم يحضره لأنه لم يكن ولد، فلما كبر لم يستطع أن يأخذ مصله، لأن ذلك (المعلم) كان قد مات.
وتركا (الحمام) حيث النساء العاريات، ثم أخذت أسبح السباحة التي أعرفها: أرفع رجليّ، وأحرك يديّ، فإذا تعبت خرجت أستمتع بالشمس والهواء، وكنت ممتلئا بالصحة، أكاد أتوثب من النشاط توثبا، وكان الموت بعيدا عن فكري، والموت أبدا أبعد شيء في أفكارنا عنا، وإن كان أقرب شيء في حقيقته منا، نتناساه وهو عن أيماننا وشمائلنا، نشيع الجنائز ونمشي معها ونحن في غفلة عنها، نتكلم كلام الدنيا، ونرى مواكب الموت تمر بنا كل يوم، فلا نفكر ولا نعتبر، ولا نقدّر أننا سنموت كما ماتوا، ومات من كان أصح منا صحة، وكان أشد منا قوة وأكبر سلطانا، وأكثر أعوانا، فما دفعت عنه الموت لما جاءه صحته ولا قوته، ولا حماه منه سلطانه ولا أعوانه، نعرف بعقولنا أن الموت كأس سيشرب منها كل حي، ولكننا ننسى هذه الحقيقة بشعورنا وعواطفنا، وتحجبها عنها شواغل يومنا، وتوافه دنيانا، يقول كل واحد منا بلسانه: إن الموت حق وإنه مقدّر على كل حي، ويقول بفعله: لن أموت، لقد كتب الموت على كل نفس إلا نفسي، فلا يزال في العمر فسحة لي دائما، ولن يأتي أجلي أبدا.
وعاودت الدخول في الماء، وأطلت البقاء فيه، وما أحسست وأنا أتزحزح شبرا فشبرا، أني جاوزت هذه البركة، وبلغت موضعا من البحر عميقا، علمت بعد أن فيه تيارا يتحاماه السباحون القادرون، فكيف بمن لم يكن يتقن من السباحة إلا فن الرسوب.
* * * * * * * * * *
وحاولت الوقوف فإذا أنا لا أجد الأرض الصلبة من تحتي، وحاولت أن أرفع رأسي فأنظر، فإذا أن لا أجد الهواء ولا أبصر شيئا، وأحسست أن الماء المالح قد تدفق على فمي، وأنفي، فأنا لا أملك إلا أن أبلعه وأنشقه، وبدأت أحس آلاما لا تصوّر ولا توصف، ليست في الرأس، وليست في عضو من الأعضاء وحده، ولكنها في كل ذرة من جسدي، وروحي، وشعرت كأن قد ألقيت على صخرة ضخمة، وأن أعصابي تجذب من تحتها وتقلع، كما تجذب خيوط الحرير مما خالطها من الشوك، وصار كل همي من دنياي أن أجد نسمة واحدة من الهواء فلا أجدها، فقلت: هذا هو الموت، هذا هو الموت الذي أفر من الكلام فيه والحديث عنه، والذي أراه بعيدا عني، لم يحن حينه، ولم يدن موعده، لذلك كنت أؤجل التوبة من يوم إلى يوم، أقول إذا بلغت من الشباب تبت، فلما بلغتها قلت: أتوب في الأربعين، فلما جاوزتها قلت: أنتظر حتى أتم بناء الدار، فلما أتممتها قلت: أتوب وأتفرغ إلى الله، إذا بلغت سن التقاعد، كأني أخذت على مَلَك الموت عهدا، ألا يطرق بابي حتى أبلغ سن التقاعد، فها هو ذا قد جاء على غير ميعاد.
* * * * * * * * * *
وكان أول ما خطر على بالي، أني كنت أتمنى ميتة سهلة سريعة تكون على الإيمان، وأن هذه الأمنية تلازمني من أزمان، فخشيت أن أكون قد سعيت إلى هذه الميتة فأكون (والعياذ بالله) منتحرا، ورحت أفكر فيما صنعته من لدن دخلت الماء، فإذا أنا لا أذكر من ذلك شيئا، وإذا أنا أشعر أنه غدا بعيدا عني كأنه قد كان من سنة، لا من دقائق معدودات، وصغرت الدنيا في عيني، كأني أراها من طيارة قد علت في طباق الجو، ومن كان على سفر، يسرع ليلحق القطار، هل يرى من الشوارع التي يجتازها شيئا؟ هل يغريه منها جمال ساحر، أو فن طريف؟ إنه يحس بها غريبة عنه، وأنها ليست له، يغدو منظرها في عينه كصورة زائفة فكيف ينظر إلى هذه الدنيا من أيقن الموت ؟(/1)
لقد أمحت (والله) صورة الدنيا كلها من أمامي. ومالي وللدنيا، ولم يبقى لي فيها إلا لحظات معدودات، أنا أتجرع فيها ثمالة كأس الآلام؟ لم يبقى لي منها ما يغريني بها، حتى الأهل والولد شغلت بنفسي عنهم، فلا تصدقوا ما تقرؤونه في القصص من أن المشرف على الغرق، يفكر في أحبائه أو في أعماله، أو في أدبه وعلمه ومقالاته وأشعاره، أو يهمه ما يقال فيه من بعده ربما كان ذلك من غير المسلم، أما المسلم فلا يرى في تلك الساعة إلا ما هو قادم عليه.
* * * * * * * * * *
وازدحمت عليّ الخواطر فيما أفعله، فحاولت التشهد والتوبة أولا، فلم أستطع النطق بشيء مما كان في فمني من الماء، وازدادت علي الآلام ولكنها لم تقطع خواطري، وكان ذهني في نشاط عجيب ما أحسست مثله عمري كله، وكنت بين خوف من الموت ورغبة فيه: أرغب فيه أرجو أن تكون هذه الميتة على الإيمان، وأخاف لأنه ليس لدي ما أقدم به على الله، وقد فاجأني الموت، كما يفاجئ التلميذ المهمل، الذي لا يزال يؤجل المطالعة والحفظ، ويقول: الامتحان بعيد، وتمضي الأيام، حتى إذا رآه صار أمامه قطع أصابعه ندما، وأذهب نفسه حسرة، وما نفعه ذلك شيئا.
هذا هو امتحان يسير، أسوأ ما فيه أن تذهب بالسقوط فيه سنة من عمره سدى، فكيف بالامتحان الأعظم، الذي ما بعده إلا النعيم الأبدي في الجنة، أو الشقاء الطويل في النار، الامتحان الذي ليس فيه (إكمال) و لا تعاد له دورة، و لا يجبر فيه (كسر) درجة، و لا تنفع فيه شفاعة شافع، و لا وساطة ذي جاه أو مال، و رأيت موقف الحساب رأي العين، و قد شغلت كل أمري نفسه، و الناس يدعون ليأخذوا نتائج الامتحان، فمن أخذ كتابه بيمينه، و حمل إلى الجنة فهذا هو الفائز، و من أخذ كتابه بشماله و سيق إلى النار فهذا هو الخاسر، و هذا هو الخسران المبين.
و عرضت عملي، فلم أجد لي عملاً من أعمال الصالحين، فلا أنا من أهل المراقبة الذين لا يغفلون عن الله طرفة عين، و لا أنا من المبتعدين الذين يقومون الليالي الطوال و الناس نيام، و يناجون ربهم في الأسحار، و ما أنا من المتقين الذين يتجنبون المحرمات، ما أنا إلا واحد من الغافلين المذنبين، أي والله فبم أقدم على الله؟
* * * * * * * * * *
و نظرت فإذا كل ما ربحته من عمري لحظات، لحظات كنت أحس فيها حلاوة الإيمان، و أخلص فيها التوجه إلى الله تقابلها عشرات من السنين كنت سابحاً فيها في بحار الغفلة، تائهاً في بيداء الغرور، أحسب من جهلي، أن الأيام ستمتد بي، لم أدر أن العمر ساعات محدودة، و أن ذلك هو رأس مالي كله، فإن أضعته لم يبق لي من بعده شيء.
و ذكرت حديثاً كنت حفظته في صباي ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، و صحتك قبل سقمك، و فراغك قبل شغلك، و غناك قبل فقرك، و حياتك قبل موتك)). و ندمت لأنني لم أكن وضعته في صدر مجلسي، و اتخذته منهجاً لحياتي، و لكني لم أعرف (مع الأسف) معناه، و لم أدرك حقيقته، إلا عندما انتهت حياتي.
و فكرت فيما كنت أكابد من ألم الطاعة، فإذا الألم قد ذهب و بقي الثواب، و نظرت فيما استمتعت به من لذة المعصية، فإذا هو قد ذهب و بقي الحساب، فندمت على كل لحظة لم أجعلها في طاعة.
* * * * * * * * * *
و نظرت فإذا المقاييس كاملة تتبدى ساعة الموت، و إذا كل ما كنت أحبه و أنازع عليه، قد صار عدماً! و إذا أنا لم آخذ معي شيئاً، بنيت داراً فما حملت معي منها حجراً، و اقتنيت مالاً فما كان لي منه، إلا ما ظننت من قبل أني خسرته، و هو ما أخرجته لله، و كتبت آلفاً من المقالات في عشرات من السنين، و كان لي من القراء و المستمعين ملايين و ملايين، فما نفعني كلمة قلتها لوجه الله، و أين هي؟ لقد تركني هؤلاء المعجبون (كما يقولون) بأدبي و بياني أموت الآن و حدي، ما جاء واحد منهم ليأخذ بيدي، و ما أقبل واحد منهم يدفع الموت عني!
و عرفت لذائذ الحياة كلها، فما الذي بقي في يدي و أنا أموت غرقاً من لذائذ، و ما الذي استبدلته بالعمل الصالح الذي لا أرجو النجاة الآن إلا به؟
لقد كان إبليس يشغلني عن الخشوع في الصلاة بالتفكير في ((البنطال)) أن يفسد كيه السجود، و يخوفني أن تذهب صحتي، بقطع المنام لصلاة الفجر أو صيام أيام الحر من آب، و أن أخسر حسن رأي الناس في إن جهرت بقولة الحق، أو أن ينالني من ذلك أذى في جسدي أو في رزقي!
فوجدتني الآن أخسر الناس، إذ بعت الباقي، بهذا الوهم الزائل، كزنوج إفريقية الذين يعطون كنوز بلادهم وخيراتها، ليأخذوا خرزات لماعة، أو ساعة طنانة، أو هينة من هينات الحضارة.(/2)
أما العاقل فيبذل ما لديه من متاع، ويعلم أن الذي يعطيه اليوم، هو الذي يبقى له غدا، وأن الذي يحتفظ به ويخفيه يخسره ويخرج من يده، ويكون مستعدا للسفر في كل لحظة.. وأما الأحمق فيتمسك بخيمته ومتاعه القليل ويقول: أنا باق هنا، هذه هي داري، وهذا متاعي، وما الدار الآخرة إلا أكاذيب جرائد، وأساطير محررين، وأن أكون أحمق فأبيع عاجلا حاضرا، بآجل موهوم، ويرى الناس يطيرون كل يوم فلا يفكر ويظن أنه وحده هو الباقي، حتى يجيء دوره، فيحمل قسرا لا يملك دفعا ولا منعا، ويخسر ما كان له في الجزيرة، ولا يلقى في أمريكا إلا جحيم الفقر والحاجة إلى الناس.
وغلبني ألم الموت، ولم يعد في طوقي أن أفكر، فترجعت إلى الله وتصورت كرمه وعفوه، وكان يغلب عليّ الأمل وحب الحياة، فأضرب بيدي ورجلي وأرفع يميني أشير بها، ثم يدركني اليأس فأسلم أمري إلى الله، ولم أكن أتمنى بعد المغفرة، إلا شيئا واحدا، هو أن يخفف الله عني بتعجيل موتي، أخشى أن يطول بي هذا الألم فوق ما طال.
* * * * * * * * * *
وقد خيّل إليّ أني بقيت على ذلك ساعات، ولكن تبين لي من بعد، أني لم ألبث أكثر من دقيقتين، في دقيقتين أحسست هذه الآلام، ومرت في ذهني هذه الخواطر.
وهذا من العجائب التي أودعها الله النفس البشرية، فأنت ترى حلما تعيش فيه عشرين سنة بأحداثها، ولا تكون قد نمت أكثر من خمس دقائق.
ثم لما خارت قواي، وأوشكت أن أغوص فلا أطفوا أبدا، خيّل إليّ أني أسمع أصواتا تناديني، وأحسست بيدي تمس شيئا صلبا، أدركت أنه طرف من زورق، ففرحت فرحة ما فرحت قط مثلها، وشعرت أني أرفع إلى الزورق، ثم غبت عن نفسي وهم يمسكون برجلي لأخرج بعض ما في جوفي من ماء البحر.
* * * * * * * * * *
لقد خرجت بنفس جديدة، واتعظت موعظة أرجو أن تدوم لي، وعرفت قيمة الحياة، وحقيقة الموت، ونحن لا نعرف من الموت إلا ظاهره دون حقيقته، نراه عدما، ونندب القريب والحبيب إن وضعناه في حفرة باردة، وخلفناه وحيدا، تأكله الدود، وليس حبيبك الذي أودعته الحفرة، ولكن جسده، والجسد ثوب يخلع بالموت، كما تخلع الحية ثوبها، فهل يبكي أحد على ثوب خلع!؟
وما الموت إلا انتقال إلى حياة أرحب وأوسع، إلى النعيم الدائم أو الشقاء الطويل، ولو كان الموت فناء لكان نعمة.
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شيء
فإذا كان الموت سفرة لابد منها، فالعاقل من تهيأ لها، وأعد لها الزاد والراحلة، وذكرها دائما كي لا ينساها، ونظر في كل شيء، فإن كان مما يستطيع أن يحمله فيها حرص عليه، وإن كان مجبرا على تركه وراءه زهد فيه وانصرف عنه.
* * * * * * * * * *
وبعد.. فلا يهنئني أحد بالسلامة، بل ليدع لنفسه ولي بحسن الخاتمة، فإني أخاف والله ألا أجد ميتة أكون فيها حاضر القلب مع الله، مستشعرا التوبة، متصورا الدار الآخر، كما كانت هذه المرة.(/3)
في مدينة الرسول
"صلى الله عليه وسلم"
شعر:د. محمد إقبال
ترجمة: أبو الحسن الندوي
لقد عاش الدكتور محمد إقبال شاعر الإسلام وفيلسوف العصر –مدة حياته- في حب النبي صلى الله عليه وسلم، والأشواق إلى مدينته، وتغنى بهما في شعره الخالد، وقد طفح الكأس في آخر حياته، فكان كلما ذكرت المدينة فاضت عينه وانهمرت الدموع.
ولم يقدر له الحج، وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم بجسمه الضعيف، الذي كان من زمان يعاني الأمراض والأسقام،
ولكنه رحل إلى الحجاز بخياله القوي، وشعره الخصب العذب، وقلبه الولوع الحنون، وحلق في أجواء الحجاز، وتحدث إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بما شاء قلبه وحبه، وإخلاصه ووفاؤه(1)، وتحدث إليه عن نفسه، وعن عصره، وعن أمته، وعن مجتمعه.
الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بما شاء قلبه وحبه، وإخلاصه ووفاؤه(1)، وتحدث إليه عن نفسه، وعن عصره، وعن أمته، وعن مجتمعه.
وقد فاضت في هذا الحديث قريحة الشاعر، وانفجرت المعاني، والحقائق التي كان الشاعر يغالبها ويمسك بزمامها، وينتظر فرصة إطلاقها، وقد رأى أن فرصتها قد حانت، وهذا أوانها ومكانها، فخاطب نفسه بقول الشاعر:
حمامة جرعى دومة الجندل، اسجعي ... ... فأنت بمرأى من سعاد iiومسمع
فكان شعره في النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه من أبلغ أشعاره وأقواها، وكان حشاشة نفسه، وعصارة علمه وتجاربه، وكان تصويراً لعصره، وتقريراً عن أمته، وتعبيراً عن عواطفه.
لقد قال محمد إقبال هذه الأبيات، وهو يتخيل أنه مسافر إلى مكة والمدينة –شرَّفهما الله- يهوي به العيس، ويسير به الركب على رمال وعساء، يتخيل، بشدة شوقه وحبه، أنها أنعم من الحرير وأن كل ذرة من ذراتها قلب يخفق، فيطلب من السائق أن يمشي رويداً ويرفق بهذه القلوب الخفاقة.
ويحدو الحادي بما لا يفهمه، فتثور أشجانه، وتترنح أعطافه، وتهيج شاعريته، وتنطلق قيثارته بشعر رقيق بليغ.
ثم يسعد بالمثول بين يدي الرسول، فيصلي ويسلم عليه بما يفتح الله به عليه.
وينتهز الفرصة، فيحدثه عن نفسه، وبلاده، والفترة التي يعيش فيها، وعن أمته، وعن الأزمات، والمشكلات التي تعانيها، وما فعل بها الزمان وطوارق الحدثان، وما فعلت بها هذه الحضارة الغربية، والفلسفات المادية، وما فعلت برسالتها والأمانة التي حملتها، وأين هي من ماضيها وخصائصها، يرثي لها تارة ويبكي ويشكرها مرة ويعاتب، ويشكو غربته في وطنه ووحدته في مجتمعه، وضيعة رسالته في أمته.
وقد سمى هذه المجموعة بـ (هدية الحجاز)، كأنها هدية حملها من الحجاز لأصدقائه وتلاميذه، ولا شك أنها هدية مباركة للعالم الإسلامي، ونفحة فائحة من نفحات الحجاز.
يقوم الشاعر بهذه الرحلة الحبيبة، وقد أربى على الستين ووهنت قواه، في سن يفضل فيها الناس الراحة والإقامة، فما باله يسافر وهو شيخ، وقد أضعفه المرض والشيب؟ والسفر إلى الحجاز شاق مضن، وقد نصحه الأطباء، والأحبة بالراحة والهدوء، ولكنه يعصيهم ويطيع أمر الحب، يلبي منادي الشوق ويقول:
(لقد توجهت إلى المدينة رغم شيبي وكبر سني، أغني وأنشد الأبيات في سرور وحنين، ولا عجب فإن الطائر يطير في الصحراء طول نهاره، فإذا أدبر النهار، وأقبل الليل رفرف بجناحيه، وقصد وكره ليأوي إليه، ويبيت فيه).
كأنه يقول:
- لماذا تعجبون إذا قصدت المدينة –وهي وكر طائر الروح ومأرز(2) المؤمن- في أصيل حياتي، وفي سن أشرفت فيها شمس الحياة على الغروب، أما رأيتم الطائر إذا جن الليل أسرع إلى وكره.
بدأ محمد إقبال سفره، وهو شيخ مريض، وسارت به الناقة بين مكة والمدينة سيراً حثيثاً، وقد قال لها:
(رويدك يا حبيبتي! فإن راكبك لاغب، ومريض، وكبير السن، فمشت في نشوة وطرب ولم تبال، كأن الصحراء حرير تحت أرجلها).
يسير الشاعر في هذا الركب الحجازي الذي يحدو بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
ويريد الشاعر أن يسجد سجدة على هذه الرمضاء، يدوم أثرها في جبهته طول حياته، ويقترح ذلك على أصحابه وزملائه.
ويملكه الشوق، فيحدو، وينشد أبياتاً من شعر العراقي(3) والجامي(4) فيتساءل الناس: من هذا الأعجمي الذي يغني ويحدو بلغة لا نفهمها، ولكنها نغمة تشجي القلوب، وتملؤها إيماناً وحناناً، حتى يذهل الرجل في هذه الصحراء عن الغذاء والماء؟!
ويلذ الشاعر بكل ما يعتريه في الطريق ولا يستبطئ الوصول، بل يقترح على سائقه أن يأخذ طريقاً أطول، حتى يعيش في هذه الأشواق، وفي هذا الحنين مدة أوسع، وتشتد لوعة الفراق، لأنها زاد العشاق ونزهة المشتاق.
وهكذا يطوي محمد إقبال هذه المسافة في سرور وحنين، حتى يصل إلى المدينة، فيقول لزميله:
- تعال يا صديقي! نبك سروراً ونتحدث ساعة، ونرسل النفس على سجيتها فإن لنا شأناً مع هذا الحبيب، الذي أسعدنا به الحظ، بعد طول فراق وشدة اشتياق.
ويقبل على نفسه، فيتعجب كيف اختص، من بين أقرانه، بهذه السعادة، ثم يقول:(/1)
(لا عجب فإن المحبين المتيمين أكرم هنا من الحكماء المتفلسفين، يا سعادة الجد، ويا حسن الطالع!! لقد سمح لصعلوك مملوك، أن يدخل على السلاطين والملوك).
ولا يلبث محمد إقبال –وهو في هذا الفيض من السرور والسعادة- أن يذكر أمته المسلمة، والشعب المسلم الهندي،يذكر آلامهما وآمالهما، فيذكر كل ذلك في بلاغة الشاعر، وحقيقة الرائد، وما أجملهما إذا التقتا. يقول:
(إن هذا المسلم البائس، الذي لا تزال فيه بقية من شمم وإباء، وأنفة الملوك وعزة الآباء، لقد فقد مع الأيام، يا رسول الله! لوعة القلب وإكسير الحب، إن قلبه حزين منكسر ولكنه لا يعرف سر ذلك).
(بماذا أحدثك يا رسول الله؟ عن آلامه ورزيئته؟
حسبك أنه هوى من قمة عالية، إنه هبط من تلك العلياء التي وصلت به إليها، وكلما ارتفع المكان الذي يسقط منه الإنسان كان ألمه شديداً، وكانت الصدمة عظيمة، فلطف الله بهذه الأمة المنكوبة، الهاوية من قمة المجد العالية).
(إنه لا يزال الزمان يعاديه، ولا يزال ركبه تائهاً في الصحراء، بعيداً عن غايته ومنزله، حسبك من هذه الأمة، وما يسود فيها من الفوضى والاضطراب، إنها تعيش من غير إمام).
(إن غمده فارغ ككيسه، فهو أعزل فقير، وإن الكتاب، الذي فتح به العالم، وضعه في بيته الخرب، على طاق تراكمت عليه الأتربة، ونسج عليه العنكبوت).
(إنه أصبح، بطول عهده بالمغامرات والبطولات، لا يفهم لغة المغامرين، وإهابة الشجعان المجاهدين، وقد ألف نغمة المغنين، وعاش بين الزفرات والأنين).
وإن عينه فقدت النور، وإن قلبه حرم السرور، إن رزيئته أنه يعيش ولا يعرف لذة الوصال والحضور).
ثم يذكر الفرق بين ماضية العظيم، الذي كان فيه موضع رعاية وعناية واحتفاء، وحاضره القاسي الكالح، وكيف صعب عليه أن يتقشف، ويعتمد على نفسه، ويكدح في الحياة.
وما أبلغ قوله:
(إنه طائر مدلل، كنت تطعمه بيدك، وقد ربيته بالفواكه، فشق عليه البحث عن رزقه وقوته في الصحراء).
ويتذكر محمد إقبال فتنة اللادينية التي توجهت إلى العالم الإسلامي، ويعرف محمد إقبال –وهو من كبار علماء الفلسفة والسياسة وعلم الاقتصاد- أن سببها النظر المادي البحت، خواء الروح، وبرودة القلب، وباعثها هو الحياة المترفة الباذخة التي يعيشها كثير من الناس.
ويعتقد أنه لا سبيل إلى محاربة هذه اللادينية، والفلسفة الاقتصادية المادية إلا الحياة التي تقوم على الحب والزهد، والحياة التي كان يعيشها أبو بكر الصديق، المحب الزاهد، فيتمنى للمسلمين هذه الحياة المثالية التي يسيطر عليها الحب والزهد: وإذا وجدت هذه الحياة اضطر الناس إلى تقديرها وإجلالها.
إنه لا يعلل انحطاط المسلمين بالفقر، والضعف في المادة، بل يعلله بانطفاء تلك الشعلة التي التهبت في صدورهم، ويقول:
(إن أولئك الفقراء –المسلمين الأولين- لما عرفوا كيف يقومون أمام ربهم في صف واحد، استطاعوا أن يمسكوا بتلابيب الملوك، ولما انطفأت هذه الجذوة في صدورهم انطووا على نفوسهم، وأووا إلى الزوايا والتكايا).
إنه يستعرض تاريخ المسلمين، فيرى فيه ما يخجل كل مسلم، يرى فيه ما لا يتفق مع الرسالة المحمدية وتعاليمها ومثلها العليا، ويرى فيه من شرك وعبادة لغير الله، وخضوع للجبابرة والطغاة ما يتندى له الجبين حياء.
يذكر (إقبال) ذلك كله ويطرق رأسه حياء وخجلاً، ويقول في صراحة واعتراف، وبلاغة وإيجاز:
(إن جملة القول، ما كنا جديرين بك يا رسول الله).
ويلقي نظرة على العالم الإسلامي، وقد جال في أنحائه، وعرف مراكزه، فيشكو ضعفه وفقره المعنوي، ويقول في إجمال:
"إن المراكز الروحية (الرباطات والزوايا) أصبحت فقيرة، لا تملك غذاء القلب، ولا تحمل رسالة الحب.
والمراكز العلمية (المدارس بمعناها الواسع) طغى عليها التقليد، فهي تردد ما تلقنته في الماضي، في غير إبداع وابتكار؛ وهي كثور الطاحون يدور في دائرة واحدة.
أما أندية الشعر والأدب، فقد خرجت منها كئيباً حزيناً، فليس في نغماتها وأفكارها ما يبعث الروح، ويثير الطموح؛ إنه شعر بارد، يخرج من قلب بارد، وأدب ميت يصدر عن أديب ميت".
ويقول:
"قد ضربت في مشارق الأرض ومغاربها، فوجدت المدن تغص بالمسلمين الذين يفرقون من الموت، أما المسلم الذي يفرق منه الموت، فلم أرَ له عيناً ولا أثراً".
ويذكر السر في ضعف المسلمين، وتشتت أهوائهم وخمودهم، فيقول:
"لقد شقّ عليَّ ما أراه من سوء حال المسلمين يوماً، وشكوت إلى ربي، فقيل: ألا تعرف أن هؤلاء يحملون القلوب، ولا يعرفون المحبوب؟! يعني أنهم يملكون مادة الحب، ولكنهم لا يعرفون من يشغلونها به، ويوجهونها إليه.
فقلوبهم تائهة، وعقولهم مضطربة، وجهدهم ضائع وعملهم ضعيف، وحياتهم لا لذة فيها ولا سرور".
وهي حياة من رُزق القلب وحُرم الحب، أو حياة من عرف الحب، وجهل المحبوب؛ إنها، لا شك، حياة عذاب وشقاء، وحياة حَيرة وضلال.(/2)
ولكنه رغم ذلك كلّه غير يائس من المسلمين، وغير قانط من رحمة الله؛ بل ينتقد رجال الدين في يأسهم من المسلمين، وقطعهم الرجاء من نهضتهم، وتعليقهم الأمل بغيرهم، ويقول في عتاب وتألم:
"إن أحوالهم وأحاديثهم تنم على أنهم يائسون من جميع أسباب الخير، وأنهم متشائمون، ينظرون إلى المسلمين، وإلى الحياة بمنظار أسود.
ويقول:
"إن المسلم، وإن كان قد تجرد عن أبهة الملك والسلطان، ولكن ضميره وتفكيره، لا يزالان ضميرَ الملوك وتفكيرهم، وإنه إن قدر له أن يعود إلى مركزه، كان جماله جلالاً، وكانت له سطوة لا تطاق".
وهنا يقبل محمد إقبال إلى نفسه، فتحكي حكايتها، ويشكو ما يعانيه من أهل عصره ومجتمعه.
يقول:
"إني أستحق العطف والعناية، فإني في صراع عنيف، وحرب دامية، مع عصري المادي".
ولا شك أن إقبال قضى حياته في صراع مع العصر الحاضر، وقد كفر بالحضارة الغربية والفلسفة المادية، وتحداهما وانتقدهما، وزيفهما في شجاعة وعلى بصيرة وخبرة.
وقد كان مربي جيل جديد،مؤمن بالله، واثق بنفسه، معتد بشخصيته وشخصية الإسلام، كافر بالأسس المادية والتفكير المادي، الذي قامت عليه الحضارة الغربية، وحق له أن يقول:
"لقد أذنت في الحرم، كما أذن بالأمس جلال الدين الرومي، فقد تعلمت منه أسرار الروح والحب، لقد كان ثائراً على فتن عصره، وكنت ثائراً على فتن عصري".
ويذكر تمرده على العلوم الغربية، وتفلته من شباكها، واحتفاظه بعقيدته، وإيمانه وخصائصه، ويقول بحق وجدارة:
"كنت كطائر يقع على شبكة، فيقرض الحبال، ويأخذ الحب، ويطير بسلام".
وكذلك كان، فقد ظفر بلب العلوم الغربية ولبابها، ورمى بقشورها، وخرج من حبائلها سالماً.
ثم يقول في افتخار واعتزاز:
"يعلم الله! أني رحلتُ في أعماق هذه العلوم، واكتويت بنارها، من غير أن أرزأ في عقيدتي، وخلقي وصلتي بك، وقد جلست في نارها بشجاعة، وخرجت منها بسلامة، كما كان شأن إبراهيم –عليه السلام- مع نار نمروده".
وهنا يتذكر الشاعر حياته التي قضاها في أوروبا، بين الكتب الجافة، والفلسفة الدقيقة، والعلم الواسع، والجمال الفاتن، والمظاهر الخلابة؛ فيقول:
"لقد بقيت هذه المدة ذاهلاً عن نفسي، جاهلاً لشخصيتي؛ حتى لما وقع بصري عليّ لم أعرف نفسي".
ويقول:
"لقد اقتطفت من علوم الغرب شيئاً كثيراً، وتناولت من خمر حانته كأساً دهاقاً، يا له من صداع اشتريته! لقد عشت بين علمائه وفلاسفته، وبين غيده الحسان، يا لها من فترة مظلمة قضيتها من حياتي! حرمت فيها لذة الحب ونعيم القلب.
إن دروس الحكماء قد صدعت رأسي، وكدرت بالي؛ ذلك لأني نشأت في حضانة الحب والإيمان، فلا يناسبني ولا يملأ فراغ نفسي إلا العاطفة والحنان".
وهنا يقبل الشاعر إلى الطبقة التي تمثل العلم والدين، فينتقد فيها الجفاف، واتساع العلم وتضخمه على حساب العاطفة والحب ولوعة القلب، فيقول:
"إن العالم الديني لا يحمل هماً، إن عينه بصيرة، ولكنها جافة لا تدمع، لقد زهدت في صحبته لأنه علم ولا همّ، وأرض مقدسة ولا زمزم".
لقد شبهه محمد إقبال بالحجاز، لأنه يحمل علماً كثيراً، وعقلاً كبيراً، ولكنه مع الأسف رمال جافة، وجبال جرداء ليس فيها زمزم؛ ومكة ببيتها وزمزمها، ليست برمالها وبطحائها وجبالها فحسب.
فما أفقر العالم الديني الذي يحمل علماً جماً، ولساناً بلغياً، وعقلاً مستنيراً، ولا يحمل دمعة في عينه، ولا لوعة في قلبه، إنه أخذ من الأرض المقدسة خشونتها وصلابتها، ولم يأخذ منها رطوبتها ونداها.
ثم يحكي عن نفسه، ويقول:
"إنني لم أبع نفسي وضميري لأحد، ولم أستعن بأحد في حل مشكلاتي، ذلك لأني اتكلت على غير الله مرة واحدة، فسقطت عن مقامي، وعوقبت بالهوان مئتي مرة".
ويندفع يشكو عصره ومجتمعه في حزن وألم، فيقول:
"إني أحترق بنار شوقي وحبي، وأستغرب أني خلقت في عصر لا يعرف الإخلاص، ولا يعرف سوى المادة والأغراض؛ في عصر لم يعرف لوعة القلب، ولم يذق الحب. أنا غريب في الشرق والغرب، أعيش وحدي، وأغني وحدي، وقد أتحدث إلى نفسي وأخفف من أشجاني وآلامي".
ويقول:
"إن إخواني لم يعملوا بما قلت لهم، إنهم لم يجنوا الرطب من نخل شعري، إليك أشكو يا سيد الأمم! من أناس لا ينظرون إليّ إلا كشاعر أو متغزل.
لقد أمرتني يا رسول الله! أن أبلغ إليهم رسالة الحياة والخلود، وأنشدهم بما ينفخ فيهم النشاط والروح، ولكن هؤلاء القساة يقترحون عليّ أن أنوح على الأموات في الشعر، وأنظم تاريخ الوفاة، فأين هذا مما أمرتني به".
ويشكو، في توجع وحزن عميق، زهد أبناء عصره في العلم الذي كان يحمله، والرسالة التي يقوم بها في شعره، ويقول:
"عرضت قلبي عسى أن يستأسره أحد، فلم أر فيه راغباً ولا له طالباً، وأبحت ثروتي، وما يحويه صدري فلم أر لها مقدراً؛ فليعمر حبك قلبي، وليشغل حديثك لساني، فإني لا أجد في العالم من هو أشد وحدة وأعظم غربة مني".(/3)
ويختم قصيدته بأبيات يوجهها إلى المرحوم الملك عبد العزيز بن سعود –باعتباره ملك الحجاز في عهده- وهو خطاب موجه إلى جميع ملوك العرب، وزعمائهم، وعظمائهم يحذره من الاستعانة بالأجانب، والدول الأوروبية، ويدعوه إلى الاعتماد على الله، ثم على ما عنده.
يقول:
"اضرب خيمتك حيث شئت في الصحراء، ولتكن خيمتك قائمة على عمدك وأطنابك؛ ولا تنس أن استعارة الأطناب من الأجانب حرام".
(1) ليس هذا الحديث من الاستغاثة في شيء، إنما هو أسلوب من أساليب الشعر والحب، استعمله شعراء إيران والهند قديماً وحديثاً.
(2) المأزِر: الملجأ.
(3) شاعر فارسي، له قصائد وأبيات سائرة في الآفاق في مدح النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) شاعر فارسي، له قصائد وأبيات سائرة في الآفاق في مدح النبي صلى الله عليه وسلم(/4)
في معاملة الناس .. اين انت من السلوك القويم؟
د . فتحي عامر
الناس يختلفون فيما بينهم اختلافات لا يحصيها العد .. فمن الناس من تجده شهما يهب إلي نجدتك إذا دعت الحاجة , ومنهم من لا يحرك ساكنا إذا لجأت إليه , بل يدير لك ظهره .. ومن الناس من يتصف برحابة الصدر في تعاملاته .. ومنهم من هو ضيق الصدر .. متحفز دائما للعراك والشجار مع القريب والبعيد علي حد سواء .. ومن الناس من يقابلك بابتسامة ووجه بشوش , ومنهم من يقابلك بتكشيرة ووجه متجهم .. ومن الناس من إذا أسديت إليه معروفا شكر لك وكان لمعروفك ذاكرا , ومنهم من لاتخرج من فمه كلمة شكر ..
ومن الناس الراشدون ومنهم الحمقي . ومن الناس العالمون ومنهم الجهلة , ومنهم لا إلي هؤلاء ولا إلي هؤلاء .. أي بين بين ..
وغير تلك التصنيفات كثير كثير .. ونحن نجابه هؤلاء وأولئك في حياتنا اليومية ونتعامل معهم .. نتعامل مع من نحب أن نتعامل معهم , ونتعامل ـ كارهين مضطرين ـ مع من لا نحب أن نتعامل معهم .
هذه هي الدنيا .. وعلي الواحد منا أن يتخذ له خطا في التعامل مع الناس .. حسب ما هم عليه .. ولكن دون أن نفقد صفاتنا نحن لنجاريهم فيما هم عليه .. اللهم إلا لنداريهم ( داراه : لاينه ولاطفه ليتقيه ) رأس العقل بعد الايمان بالله مداراة الناس ( حديث شريف )..
لا ينبغي أن نفقد صفاتنا الحلوة لأن الناس لا يفهمونها أو لا يقدرونها حق قدرها , لأننا حين نتمسك بما لدينا من حسن الأخلاق فإننا نتبع رضوان الله ونسير علي هداه ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ( فصلت 34 ـ 35) أي نصبر علي مضايقات الناس لنا أو جهلهم علينا بالقول أو بالاشارة أو بالتصرفات السخيفة التي تدل علي قلة الذوق .. وما يلقاها , الضمير يعود علي الجنة ..
ومن ناحية أخري علينا أن نخالط الناس بخلق حسن .. فلا نزدري أحد وإن كان أقل منا في السلم الاجتماعي .. بل نعاملهم من منطلق الأخوة الإنسانية إنما المؤمنون اخوة ( الحجرات 10)..
وإذا رزقنا الله مالا أو منصبا فلا ينبغي أن نتكبر علي الناس , أو ننظر إليهم نظرة فوقية .. هذا ما لا يرضاه الله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ( حديث شريف ) وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يحقرن أحد أحدا من المسلمين , فإن صغير المسلمين عند الله كبير ]
كما ينبغي علي المرء أن يبتعد عن الغش والتدليس ( والتدليس هو الخداع والغدر في التعامل ) أو النصب والاحتيال علي الناس , فهذا بكل تأكيد ليس من خلق المسلم , ولا يزكيه عند الله , بل سيدفع ثمنه غاليا يوم القيامة وإن صلي وصام وحج ..
كذلك يتعين علي المؤمن ألا يقتطع حق أي إنسان , بل يعطيه له كاملا غير منقوص حرصا علي مصيره في الآخرة من إقتطع حق إمريء بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة قيل يا رسول الله وإن كان شيئا يسيرا؟ قال وإن كان قضيبا من أراك ( حديث شريف ) والأراك هو الخشب الذي يتخذ منه السواك ..[ لأن اقتطاع حق أي إنسان ظلم لا يقبله الله تعالي إنما السبيل علي الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ( الشوري 42)]
كذلك ينبغي علي المؤمن أن يكون عونا لأخيه من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ( حديث شريف )[ ومن يسر علي مسلم يسر الله عليه في الدنيا والآخرة , ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة , والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ( حديث شريف )..]
والإنسان لا ينبغي أن يفعل بغيره مالا يرضي أن يفعله الغير به لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه ( حديث شريف )..
حسن الخلق وتقوي الله في التعامل مع الآخرين يدخل الناس الجنة .(/1)
في مواجهة الفراغ الفكري والنفسي في الشباب
إن من أكبر المهام التي يفرضها علينا "التحدي الذي تواجهه الأمة الإسلامية": تحدي الصهيونية والاستعمار والماركسية: ممثلاً في التغريب والغزو الثقافي والشعوبية: هو بناء ذاتية المثقف المسلم العربي.
إن أي ثقافة أو قراءة أو إطلاع دون هوية ومعرفة للهدف ودون إيمان برسالة الإيمان والحب لهذه الأمة والذود عنها وافتداء عقائدها ووجودها، لا قيمة لها، بل إنها سوف تكون مصدراً من مصادر الشقاء لأنها سوف تدفع صاحبها ليجري مع كل ريح، وسوف يعجز عن تحديد موقفه من أهواء المذاهب وتيارات النظريات وزخارف التعابير المنمقة الكاذبة نحن مطالبون أولاً بأن نعرف ركائز فكرنا وعقيدتنا، فإذا عرفناها آمنا بها واعتنقناها وملأنا بها كياننا الروحي والنفسي والعقلي، واستطعنا في ضوئها أن نواجه كل ما يقدم إلينا من هذا الشتات الكثير المختلط، إن الخطر الذي اجتاح بعض من غلبوا على أمرهم فانحازوا إلى هذا الفكر أو ذاك إنما كان مصدره "منطقة الفراغ" التي دفعت الرياح الهوج لتملأها ولو أنهم كانوا قد عملوا على ملأها بالحق والخير والإيمان والنور المستمد من العقيدة الصافية والفكر الأصيل لما استطاعت الأهواء أن تجتاحهم، لقد برقت يف عيونهم كلمات خادعة لفرويد ونيتشه وماركس وسارتر، ولو تعمقوها لوجدوها سماً زعافاً. إن المثقف المسلم الأصيل، المؤمن بأمته وعقيدته لا تخدعه الأسماء اللامعة ولا المطبوعات الفاخرة ولا الكلمات البراقة وإنما يعرف الرجال بالحق فمن عرف الحق عرف أهله ومن ثم فإن هذه الركائز قد تكون قادرة على إلقاء الضوء الكاشف أمام النفوس المستشرفة للضوء والعقول المتطلعة إلى النور.
إن أمتنا ليست في حاجة إلى أن تعتنق مذهباً ما من هذه المذاهب المطروحة أمام الفكر، أو نظام مجلوب من خارج دائرة ثقافتها. وهل يجوز لأمة لها هذا التاريخ العريق والدور الأصيل في بناء حضارة الإنسانية أن تحتوي، أو تصهر في أتون فكر الأمم، أو أن تستبعد لنظريات الفكر البشري وعندها الفكر الرباني الخالص الأصيل المستمد من وحي السماء. إن أبرز طوابع أمتنا هي الأصالة والاحتفاظ بالكيان الخالص والذاتية التي لا تنصهر ولا تذوب في فكر الأمم، ولأمتنا المنهج الأصيل الذي يحقق لها إذا أخذت به أسعد ما تتطلع إليه الأمم من نظم الاجتماع والفكر استمداداً من التوحيد الخالص والالتقاء بالفطرة والتجاوب مع الطابع الإنساني، إن نظرة فكرنا الإسلامي العربي نظرة رحبة عميقة واسعة الآفاق والأبعاد جامعة بين الروح والمادة والعقل والقلب، والدنيا والآخرة في إطار الالتزام الأخلاقي والمسئولية الفردية والإيمان بالبعث والجزاء. هذا الفهم الجامع الكامل الرحب من شأنه أن يثرى آفاق حياتنا في مواجهة التحدي الاستعماري الخطير الذي يلتمس الآن أصول فكرنا لتزييفه واحتوائه من خلال مؤسسات ظاهرة هي التبشر والاستشراق ومن خلال قوى خفية تتمثل في بروتوكولات صهيون وما تدبره في خفاء عن طريق الفكر والصحافة والثقافة وبواسطة مذاهب فلسفية تدور حول النفس والأخلاق والاجتماع ومقارنات الأديان وذلك في سبيل تحقيق هدفها الخطير المعلن وهو السيطرة على العالم بعد القضاء على كل قيمه ومثله وأخلاقياته.
ومن هنا فإن هذا التحدي يجب أن يكون قائماً في نفس كل منا وعقله، لا يغيب عنا لحظة ولا تجدنا ننظر في أمر من هذا الخطر الذي ترمي إليه كل القوى الطامعة في بلادنا والتي ترى أن خير وسيلة لاحتوائنا هو استقطاب فكرنا، حيث أننا أمة لا يمكن أن تخضع إلا إذا أزيلت رواسيها: القرآن والإسلام واللغة العربية. لقد تنبهنا لهذا الخطر منذ وقت طويل وبقى أن نحول هذا الفهم إلى إرادة حية تصد هذا الكيد وتحمي هذا الميراث وتحمل تلك التبعة وتزود عن هذه الأمانة بكل مرتخص وغال، ذلك أن أي إنسان منا ما هو إلا ابن هذه الأمة وهذا الفكر وهي بنوة عريقة ونسب كريم فقد حمل آبائنا أشرف رسالة وأعظم دعوة وكانوا من المجاهدين في سبيل هذا الحق، قادة للهدى والنور والخير في كل أرض وعصر ومن حقهم علينا أن نسير على طريقهم في النضال وأن نحمي هذه الأمانة ونذود عنها وأن نظل قادرين على حمل اللواء، وأن نقدم الإسلام إلى الأمم الحائرة التي تعيش اليوم في قلق وتمزق نتيجة غلبة النزعة المادية عليها.
ومن أجل تحقيق هذا كله أردت أن أضع بين أيديكم هذه المجموعة من الحقائق الفكرية والثقافية كأساس لبناء نظرة صحيحة إلى الحياة.
(أولاً): إن التدين جزء من الطبيعة البشرية ولا يستطيع الإنسان أن يعيش بغير دين وقد عجزت الأيديولوجيات والمذاهب الحديثة أن تقدم له بديلاً عن الدين يرضي روحه ويسعد حياته.
لقد حررت الأديان الإنسان من عبودية المجتمع وعبودية الفرد ليتجه إلى الله وحده ولكن هذه الأيديولوجيات أعادت الإنسان إلى سجن المجتمع – لقد تضاءل الإنسان ليصبح مجرد نملة اجتماعية في مجتمع النمل.(/1)
لقد علمت الأديان أنه ليس حشرة اجتماعية ولكنه إنسان ذو كرامة. فاستطاعت أن تمنح معتنقيها هداية لا تستطيع أن تجاريها فيها الأيديولوجيات التي فصلت الإنسان من عبادة قوى الطبيعة إلى عبادة قوى المال والمادة.
(ثانياً): إن الإنسان ليست له أزمة ولا قضية حادة في ظل مفهوم الإسلام ذلك أن الإسلام نظر إلى الإنسان نم خلال طبيعته الجامعة بين الروح والجسم والعقل القلب. نظر إليه بوصفه كياناً متكاملاً وبذلك أقر رغباته المادية كلها وأباحها له دون أن يقيدها إلا بضوابط معينة قصد بها حماية الإنسان نفسه من الانهيار والتدمير وحتى يكون قادراً على أداء رسالته في الحياة ومواجهة مختلف التحديات دون أن يضعف أو ينهار.
(ثالثاً): ألغى الإسلام الفكرة الوثنية القديمة (التي تتجدد عن طريق الأيديولوجيات) القائلة بأن هناك صراعاً بين الجسم والروح، وأعلن أن الجسم والروح متكاملان وبذلك عارض مفهوم الرهبانية ومفهوم الإباحية معاً ودعا إلى التوازن وإلى إعلاء الرغبات حتى تتحقق القدرة على تنفيذها على النحو الطبيعي السليم.
لقد وضع الإسلام ضوابط من ثلاث عناصر:
الاعتدال – الحلال – العفة.
ولذلك فقد عجزت أزمة الجنس أن تمد لها مجالاً في محيط الإسلام لأنها لم توجد أصلاً. وفي الغرب (وفي الفكر الغربي الوافد الذي نراه في المسرحيات والسينما ونقرأه في الكتب والروايات) نجد مجتمعاً آخر، يختلف اختلافاً أساسياً عن مجتمعنا. لقد كانت أوروبا تعيش في ظلال القسر الشديد ثم انطلقت إلى الإطلاق الشديد وبذلك كانت مضطربة في الأولى لأنها خالفت الفطرة، ممزقة في الأخرى لأنها جاوزت الطبيعة.
أما الإسلام فقد قبل مبدأ الفطرة القائم على التوازن. أعلن وجود الرغبات من مال وطعام وجنس ولكنه وضعها في إطارها الصحيح ولم يجعل الطعام قضية تفوق القضايا أو تسيطر عليها ولم يجعل الجنس قضية القضايا كما نرى فيما ينقل إلينا ولكنه جعل الحياة متكاملة في عناصرها متوائمة في رغباتها وحدودها بعيدة عن الزهادة والسرف والرهبانية والتحلل والإطلاق والكبت وجعل للحياة أفاقاً أوسع من المادة وأعلى من الرغبات جعل هناك الأشواق الروحية والنفسية والعقلية إلى الثقافة والعلم والعبادة. فالإسلام لا يرفض الرغبات الحسية ولكنه يضعها في إطار واضح. فيجعل تحقيقها عن الطريق الطبيعي بالزواج في حالة القدرة أو التسامي والإعلاء بها بعد في حالة عدم الاقتدار. وذلك: دون أن تفقد هذه الرغبات حقها المعترف به في حالة الاستطاعة.
رابعاً: كذب الإسلام ودحض الافتراض القائل بأن الدين يصرف الإنسان عن النضال والعمل وأعلن أن الدين يدفع إلى القوة والتقدم والكشف والعمران جميعاً إيماناً بدعوة الله للإنسان إلى العمل واستخلافه في الأرض.
ولا ريب أن دعوة الإسلام إلى امتلاك الإرادة الخاصة ورفض القيود ومقاومة الغزو كانت مصدر كل النضالات الوطنية التي انطلقت في العالم الإسلامي منذ جاءت موجة الاحتلال الأجنبي إلى الآن.
خامساً: أعلن الإسلام عن قيام الإرادة الحرة لكل مسلم وكل إنسان.
فكل إنسان مريد وقادر على العمل والتعبير، وقد هدي إلى الطريقين: طريق الخير وطريق الشر وعليه أن يختار أحدهما وفطرته تهديه ودين الله المبلغ له عن طريق الرسل والكتب ترشده.
هذه الإرادة لها تبعتها: هي المسئولية والحساب والجزاء الأخروي. فلا إرادة بلا مسئولية ولا مسئولية بلا جزاء.
أما الذين يقولون بالجبرية والصدفة وبأن الحياة مطلقة وأن من حق الإنسان أن يأخذ منها ما يشاء قبل أن يدركه الموت فذلك ليس مفهومنا، وهو في ذاته مفهوم باطل بحكم العقل والقياس وأن ترتيب البث والجزاء بعد الموت ليس أمراً مستحيلاً ولا متناقضاً مع العقل والفطرة، ذلك لأن للإنسان رسالة في الحياة، هو مطالب بأن يقوم بها على الوجه الصحيح، في سبيل إقامة مجتمع يرضى عنه الله تبارك وتعالى، فله في ذلك أجر الإحسان وجزاء الخطأ فإقرار البعث مطابق للفطرة ولا يشكل تناقضاً عقلياً بل إن إنكار البعث هو الذي يشكل التناقض، ويصور هذه الحياة، على أنها مسرحية هزيلة أو لعبة أو لهواً وهي ليست كذلك بالقطع، الإنسان له رسالة وهو محاسب عليها (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون).
سادساً: قرر الإسلام أن هناك قاسم مشترك أعظم على مختلف القيم والتصرفات: والأخلاق مقررات جاء بها الدين من عبد الله وهي ثابتة ثبات الفطرة الإنسانية نفسها، لا تتغير بتغير الزمان والمكان.
(فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله).
وقاعدة الأخلاق الأساسية في الإسلام هي أن الحق واحد والخير واحد وانهما لا يختلفان ولا يتعددان وكذلك الشر والباطل.
والأخلاق هي تمييز بين الحق والباطل والخير والشر، وسيظل الخير هو الخير والشر هو الشر على اختلاف الأزمنة والبيئات ولن يتحول يوماً إلى ضده.(/2)
ولقد دعانا الإسلام إلى أخلاقية الحياة وأقام الالتزام الأخلاقي في كل الأعمال والتصرفات وجعله جزءاً من الدين فالدين في الإسلام جامع بين العقيدة والشريعة والأخلاق وهي لا تنفصل ولا تتجزأ.
أقول هذا لنكون في يقظة إزاء المذاهب التي تقول بأن الأخلاق نسبية، لا، ليست الأخلاق ولكنها التقاليد. أن الأخلاق من عند الله والتقاليد من صنع المجتمع نفسه. فالتقاليد متغيرة نعم، أما الأخلاق فلا ولقد يظن دعاة الفكر المادي أن الأخلاق كالدين نبعت من الأرض ولم تنزل من السماء ولذلك فهم يرونها متغيرة أما نحن: المسلمون فنفرق بين الأخلاق والتقاليد ونرى أن الأخلاق ثابتة كثبات القيم الأساسية وأن التقاليد متغيرة ويجب أن تتغير مع اختلاف العصور والهيئات.
والقاعدة أن هناك ثوابت وهناك متغيرات: والتطور والتغير والتحول إنما يشمل المتغيرات أما الثوابت فشأنها شأن الأفلاك والمدارات التي تتحرك فيها الكواكب فهي ثابتة. ذلك في الإسلام أفلاك ثابتة وقيم لا يمكن أن تتغير ولكن ما في داخلها يتغير ويتحرك.
وتلك ميزة الإسلام:
سابعاً: هناك منهجان مختلفان: منهج للعلوم ومنهج للإنسانيات: منهج العلوم يستمد قوته من المادة ويتحرك في فلكها ولكنه لا يصلح للتطبيق على الإنسان: ولا يستطيع مقايسة الأخلاق والنفس والمجتمع. إن المفاهيم التي ترتبط بالإنسان في مشاعره وعواطفه يصعب إخضاعها لقوانين الظواهر الطبيعية. ذلك لأنها تتعرض لظروف مختلفة تتعلق بأعماق النفس ولا تخضع للتجربة.
ثامناً: لا تصدقوا الفكر الذي تقدمه الروايات والأفلام السينمائية والمسرحيات ولا تعتبروه مسلمات. ذلك لأنه لا يصدر عن حقائق وإنما عن أهواء وخيال.
الواقع هو المجتمع الذي نعيش فيه بما قامت عليه أعمدته من مقومات رسمها الدين الذي هدى البشرية إلى الحق، ثم جاءت العلوم مفسرة له: أما ذاك عالم الخيال والوهم:
إن الإسلام قد قدم لنا كل المفاهيم والقيم والتفسيرات لمختلف قضايا المجتمع والإنسان والأخلاق والنفس على نحو كريم، فيه السماحة واليسر، وفيه قبول الاضطرار والمغفرة عند الإساءة. والتوبة من الذنب، إطارات واسعة فسيحة وقيم أساسية: ثم بعد ذلك قدرة على الحركة دون تزمت أو ضيق فإذا جاءت اليوم الرواية الخيالية والمسرحية وأفلام السينما لتقدم لنا مفاهيم أخرى مخالفة للفطرة أو مضادة للحق فما أحرانا أن نعرف وجه الحق وأين هو ولا نتحول تحت تأثير البريق الخاطف أو الضوء الساطع، أو التقاء هذه المفاهيم مع أهواءنا ورغباتنا، لا نتحول إلى اعتناق مفاهيم ليست من الأصالة في شيء ولنعرف تماماً أن الرواية والمسرحية والقصة السينمائية ليست إلا ملهاة وتسلية أريد بها إزجاء الفراغ وإدخال شيء من الترويح على الناس ولكنها لا تكون أبداً نظماً ولا عقائد ولا قوانين مقررة نحاول أن نطبقها في المجتمع فننقل أحكام عالم الخيال إلى عالم الواقع والعكس هو الصحيح.
فهي لن تزيد عن أن تكون مخدراً يريد به أصحابه نقل الناس ساعات من واقعهم إلى عالم غريب خيالي ثم إذا هم عادوا وجدوا الواقع قائماً بقوته واستمراره لا مفر من التسليم له والاعتراف به والتجاوب معه.
ولنكن قادرين على الفهم الواسع العميق للفارق البعيد بين حقائق الأمور كما جاءت بها رسالات السماء وبين نظريات الفكر البشري التي وضعها الإنسان وفق هواه وفي سبيل تحقيق رغبائه متجاوزاً ما يراد له من الخير إلى ما يريد هو من الشر، لنفرق دائماً بين الواقع القائم في عالم الحياة والوجود، ومكاننا منه ومسئوليتنا إزاءه وبين هذا العالم الوهمي الخرافي الذي صنعه الإنسان ليدخل على بعض النفوس تسلية أو ملهاة ولا نخلط أبداً بين العالمين: عالم الواقع وعالم الوهم والخيال.
نحن نعي أننا ملتزمون أمام الله بمسئولية الفرد إزاء المجتمع، الفرد الذي يملك إرادة التصرف والذي يتحرك في الحياة بين قوى الخير والشر فيختار ما يشاء ويتحمل مسئوليته: مسئولية الجزاء والعقاب والثواب في عالم آخر بعد أن نموت ونبعث. فإذا جاء عالم الوهم والخيال من خلال الرواية أو القصة أو المسرحية ليشكك في ذلك ويقدم لنا صوراً زاهية براقة من معطيات الجنس أو الطعام أو الترف فذلك كله خداع وتضليل، ولذلك نحن نرفضه ونبتسم ونسخر منه، لأننا نعلم أنه يريد أن يخرجنا من أرض الواقع التي يجب أن عيشها دائماً، ويخرجنا من أصالة مفاهيمنا حين يريد أن يصور لنا الحياة وكأنها متعة طيبة من خلال أصواء وترف وذهب وحرير، كل هذا هو عالم الوهم الذي يخذل من يصدقه، لأنه لا يلبث بعد أن ينتهي من قراءته أو مشاهدته أن يجد نفسه في عالم الواقع القائم المستمر، بل ويجد الحسرة تملأ النفس على حد تعبير القصص القديمة: نظر نظرة أعقبتها ألف حسرة.
فماذا يجد بعد: ما هو رد الفعل: إنه ذلك الإحساس بالتمزق والحرمان إذا ما اندمج في الخيال وظن أنه الواقع.(/3)
لنقبل إذن عالمنا الواقع الحي على حقيقته ولا نسرف في خداع أنفسنا بالخيال والوهم لبضع لحظات مع أغنية لا تصور إلا أكاذيب الشعراء أو مسرحية أو فيلماً لا يصور إلا أوهام الذين يريدون تدمير النفس الإنسانية، لنحاول أن نعيش واقعنا فإذا لم يكن ما نريد فلنرد ما يكون، فإن علينا أن نعمل ونتقدم ونضيف ونجدد ونكافح حتى نحقق الحياة الطيبة التي نرجوها.
تاسعاً: في مجال النظرة إلى الأمور يجب أن نفرق بين أمرين هامين:
هناك أمور مشتركة بين الأمم هي العلوم فالعلم عالمي عام.
وهناك أمور خاصة مطبوعة في كل أمة بطابعها: هي الأخلاق والأدب والفن. لكل أمة مزاجها وذوقها وتقاليدها وعقيدتها.
ويمكن أن تلتقي الأمم في العلوم وفي المعارف العامة أما ما سوى ذلك فيؤخذ بحذر شديد.
وقد حرص الإسلام على أن يحفظ شخصية أهله ولذلك دعاهم إلى معارضة التقليد وإنكار التبعية وكفل لهم منهجه الرصين المحكم القادر على ملاقاة كل بيئة وعصر – وكفل لهم كل ما يحتاجونه في مجال الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية.
ولم يمنع الإسلام الانفتاح والالتقاء بالثقافات المختلفة ولكن على قاعدة أساسية واضحة: هو أن لا تحجب الشخصية الأصلية ولا الملامح العامة ولا تهدم قيمة من القيم الأساسية.
وقد دعا الإسلام إلى إعلان التمييز بين المسلمين وغيرهم في العادات والأخلاق وأسلوب العيش والحياة. وأعلن أن التقليد فقدان للشخصية وأن التبعية عبودية للفكر والعقل.
عاشراً: الإسلام ليس ديناً فحسب ولكنه نظام مجتمع والدين جزء منه.
والإسلام منهج حياة وليس نظرية، وهو منهج متكامل لا يقبل التجزئة ولا يقر النظرة الانشطارية التي ترى رؤية أهل التخصص الحديث فليس علم النفس وحدة أو علم الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد هو وحدة كل شيء، ولكن هذه العلوم والمفاهيم قاصرة بذاتها ولا تصلح إلا حين تتكامل في إطارها لخدمة الإنسان نفسه فلا تقوم نظرية في واحدة منها على نقيض حقيقة في الأخرى، هذا التكامل هو الذي يحول دن التمزق حين يعلي قوم العقل أو يعلي قوم الوجدان. أما نحن فنوازن بين العقل والوجدان والروح والمادة والدنيا والآخرة فلا نفقد الطمأنينة النفسية والسكينة الروحية والثقة العقلية.
كذلك فإن منهج المعرفة الإسلامي يقوم على الترابط بين القيم ويتخذ من الوحي هادياً للعقل ومن الفطرة سبيلاً إلى العلم، هذا المنهج الذي يقوم على التحرر من الهوى والتعصب. ويتجاوز الرغبة الخاصة إلى الغاية الكبرى.
حادي عشر: قرر الإسلام أن الإيمان بالله قوة دافعة تعطي الأمل وتحول دون اليأس وتبعث الثقة المتجددة في النفس الإنسانية، وتحرص على المعاودة في حالة الإخفاق وليس الإيمان مضاداً للمعرفة ولكنه ضوءها الكاشف فالإسلام لا يقف بالإنسان عند مفهوم المعرفة القائم على الحس والتجربة بل يضيف إليه علماً آخر جاء به الوحي وسجله القرآن وفيه تفصيل عالم الغيب وعالم الآخرة وقد جعل الإسلام الإيمان بالغيب شرطاً أساسياً من شروط المعرفة.
ثاني عشر: إن من أخطر ما يطرح في أفق مجتمعنا: القول بأن كل إنسان حر، ومعنى الحرية هنا أنه يرفض التجربة التي قدمتها له الأجيال السابقة وذلك عين الضعف والقصور والعجز، فالشخصية القوية الرحبة تكون قادرة على مناقشة وجهة النظر الأخرى، ولو كانت خاطئة، والنظر في تجارب الذين مضوا على الطريق، إما أن يحجب الإنسان نفسه عن ذلك فإنه سوف يتقوقع في أضيق الحدود وسوف يعجز عن اقتحام الحياة وتحقيق النجاح.
علينا أن نواجه خبرات الناس وتجاربهم ومعنا ضوئنا الكاشف ومقاييسنا الأصلية. بل علينا أن نطالب الأجيال التي سبقتنا بتجربتها، وعلينا أن نكون منصفين فنأخذ خير ما فيها، ثم نحاول أن لا نقع فيما وقعوا فيه من أخطاء. تلم هي ضرورة الالتقاء بين الأجيال، وحتمية الحلقات المتتابعة ببين الأمم، ليس بين الأجيال صراع كما يقولون، بل بينها لقاء وتكامل.(/4)
لقد استشرى هذا الخطر: خطر رفض تجربة الأجيال السابقة، والنظر إليها في شيء كثير من الانتقاض أو الزهد فيها وذلك من شأنه أن يفوت خيراً كبيراً، ولقد تعالت صيحات تقول: إن على الأبناء أن يشقوا طريقهم دون توجيه من أحد وأن عليهم أن يستعلوا على تجربة الأجيال التي سبقتهم وكيف يستعلي من لا يملك شيئاً. كيف يستعلي من يجهل. وكيف يرى نم ينظر في الظلام، إننا دائماً في حاجة إلى أمرين وكل الأمم الناهضة تتشبث بهما: منهج أصيل هو ضوء كاشف نعرض عليه كل شيء ولا نقبل إلا ما يقره. وتجربة للذين سبقوا على الطريق وبنوا قبلا حتى نعرف موضع اللبنة التي سيقدر لنا أن نضعها، إن هؤلاء الذين يعلنون تلك الصيحة ليسوا لنا بناصحين ولا أمناء، إنهم يريدون تحطيم الرابطة الأصلية بين الأجيال وإيجاد الصراع بينها، ونحن جميعاً نعرف بروتوكولات صهيون وما نصت عليه في هذا الشأن: إنها تريد تدمير هذه الأمة الصامدة في وجه الغزو الفكري والاستعمار والصهيونية. إنهم يطمعون في إخراج أجيال مدمرة ممزقة نفسياً متحللة من كل القيم والضوابط فهم يدفعون الأجيال إلى التمرد على القيم الأساسية للمجتمعات، وعلى الآباء وعلى المربين وعلى الأساتذة (صحيح أن بعض الآباء والمربين والأساتذة ليسوا مستوى المثل الأعلى) ولكن: ليس الطريق هو إزاحتهم ورفضهم وإنما الطريق هو الوصول إلى التجارب وفحصها: والأخذ بالنافع وأمن عثار الضار منها، إن الشباب وهو يحمل أمانة الغد لابد أن يبني على الأساس وأن يتحرر من أخطاء السابقين وأن يستمد التجربة والمثل الأعلى والأسوة من المنهاج وهو القرآن والنموذج الكامل وهو محمد صلى الله عليه وسلم قدوة الأجيال والعالم.
ثالث عشر: إن الإسلام يدعونا إلى المجاهدة والمذاهب النفسية الحديثة تدعونا إلى الانطلاق فأيهما الخير من أجل بناء الشخصية الإسلامية القادرة على مواجهة أخطار المجتمع وصناعة الحياة والدفاع عن القيم والمقدسات.
إن المجاهدة بمعنى معارضة الأهواء والمطامع والكظم بمعنى تأجيل الرغبة ليس هو الكبت الذي صور فرويد أخطاره وبالغ في التخويف منها. تلك المخاطر الوهمية التي أذاعها فرويد عن الكبت تختلف تماماً، ذلك أن الكبت إنما يستمد معناه ومدلوله من إنكار الرغبات أساساً وتحريمها عقيدة وعدم الاعتراف بها واحتقارها: كاحتقار الجنس أو المال أو الطعام بينما الإسلام يقرها جميعاً وينكر تحريمها: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة): إن الإسلام لا يحتقر الرغبات وإنما يعترف بها (نفسية وحسية) اعترافاً كاملاً دون إنكار لها وإن كان يدعو إلى الاعتدال في استعمالها أو تأجيل ممارستها حتى تتحقق القدرة التي تضعها في إطارها المشروع والصحيح. فتأخير ممارستها ليس كبتاً وإنما هو إعلاء.
إن خطر الكبت الذي تفترض الفرويدية أنه يؤدي إلى العصاب لا يتحقق إلا نتيجة الإنكار والرفض والاحتقار للرغبات، أما الاعتراف بها مع التأجيل فذلك مما لا يتعارض مع الطبيعة البشرية وهو ما ترضاه وتحتمله، ولقد هللت طويلاً دعوات التربية الحديثة بأن توجيه الأطفال وعقابهم يؤدي إلى كذا وكذا من الأمراض ثم أثبتت التجارب التي أجريت على الطبيعة وبالإحصاء الدقيق أن ذلك محض وهم، وإن النفس الإنسانية قابلة للتوجيه والتحذير والعقوبة دون أن يحدث ذلك عندها شياً البتة مما يسمى بمركبات النقص أو غيره.
ونحن نؤمن أن صانع النفس البشرية (جلا وعلا) أقدر على فهمها وآمن عليها من الأخطار وهو الحامي لها من أولئك الفلاسفة الماديين، وأن ما رسمه لها من أساليب تحذير وضوابط ومناهج ترغيب وترهيب إنما هو دوائها الحق وأنه متقبل منها وليس بشاق عليها ولا خطر فيه وليس له ضرر ما على النحو الذي تهول به الفلسفات المادية والوثنية.
وإن كنا نريد أن نعرف الخلفيات فلنذكر أن الهدف هو تفكيك عروة الشباب منذ الطفولة وبناء أجيال متحللة مدمرة ورفع يد الآباء عن التوجيه وخلق جو من الكراهية في محيط الأسرة حتى يفقد الشباب تلك الثمرة الخصبة "تجربة الجيل" وثمرة العبرة من كفاح الآباء وذلك في طريق هدف بروتوكولات صهيون الصريح: الذي يقول: "يجب تدمير المجتمعات الإنسانية قبل السيطرة عليها".
رابع عشر: أعطى الإسلام البشرية: التفسير الجامع (الرباني المصدر الإنساني الهدف) لا ريب أنه صدق التفاسير، لقد أهمل التفسير المادي جوانب المعنويات والقوى الذاتية والدين والأخلاق وهي جميعها بعيدة الأثر في مقدرات التاريخ وحركة المجتمعات وسيظل الدين بمفهومه الإسلامي الواسع الجامع عنصراً هاماً من عناصر تشكيل الذاتية الفردية والاجتماعية.
وأن القائلين بأن الدين ليس مصدراً من مصادر التوجيه أو ليس عاملاً من عوامل بناء الحضارات وحركة التاريخ إنما يتجاهلون شطراً هاماً من طبائع النفوس وخصائص الأشياء.(/5)
خامس عشر: ما يزال الإسلام والإسلام وحده هو المنهج القادر على إعطاء النفس العربية والإسلامية، بل النفس الإنسانية ريها وسكينتها، وقوتها وحيويتها. إن الخطأ هو اعتناق عقائد المجتمعات التي تشكلت على نحو خاص، والخطأ هو أن تأخذ الأمور من نهاياتها فهذه الحضارات قد شاخت وبان عوارها وفسدت ولم تعد تنفع أهلها، وحاول أصابها تعديل مناهجها مرة بعد مرة، ومع ذلك فلم تحقق لهم ما يطمعون فيه، إن ما يطمعون فيه لا يوجد لأنهم يقيسون بمقياس واحد: مقياس جزئي، هو مقياس العقل والعلم والمادة بينما يقيس الإسلام بمقياس متكامل:عقل وقلب وعلم ووحي وروح ومادة.
إن حضارة الإسلام لا تقوم على العلم وحده ولكن على العلم في إطار العقيدة.
سادس عشر: إن تخلف المسلمين في العصر الحديث قضية مستقلة، عن منهج الإسلام ذاته، فمنهج الإسلام حين طبق أمام تلك الحضارة الباذخة وحين غفل عنه المسلمون وتجاوزونه وقعوا في هوة التخلف فالعيب ليس عيب المنهج، لأن المنهج رباني وقد سجلت تجربته بصماتها على التاريخ. إن القيم الإسلامية في تقدميتها ونصاعتها ليست مسئولة عن التخلف، وإنما جاء التخلف نتيجة تجاوزها وإهمالها، يقول ولفرد كانتول سميث: "إنه دين استطاع أن يوحي إلى المتديئين به شعوراً بالعزة كالشعور الذي يخامر المسلم من غير تكلف ولا اصطناع".
ولقد يرى البعض أن تخلف المسلمين ليس له إلا سبب واحد: هو سقوط العزيمة، سقوط الإرادة: الغفلة عن الأخطار المحدقة من كل جانب (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم): (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم).
إن ظواهر التخلف ظهرت في اليوم الذي بدأ فيه المسلمون يميلون إلى الحلول السهلة، ويسترخون، ويتجاهلون الخطر المحدق. ويبتعدون عن حياة اليقظة التامة والمرابطة الدائمة في الثغور، والانحراف عن مبادئ القرآن. هذه أمة الرباط إلى يوم القيامة كما حدث الصادق المصدوق، لقد فقد المسلمون التحدي فسقطت العزيمة: غفلوا عن المجاهدة، فقدوا روح الصلاة والإيمان واكتفوا بالمظاهر، عن ذلك دارت الدائرة عليهم، يقول أرنولد تويئبي: إن الغرب وضع الحبل في رقبة العالم الإسلامي منذ القرن الخامس عشر وكان يتهيب أن يشده، ثم بدا له المسلمين في نوم عميق فشد حلبه وسيطر عليهم.
سابع عشر: إن دخائل كثيرة دخلت على المسلمين وأفسدت حياتهم وأعلت من شأن المتعة والترف وأبعدتهم عن الاخشيشان والقدرة على الصمود، وفرغت حياتهم من فريضة الجهاد وتخلفوا عن مفهومهم الأصيل: احرص على الموت توهب لك الطريق، وغفلوا عن بذل النفس رخيصة في سبيل الحق، وتقهقروا إلى الحرص والخوف والجبن والذلة بما أعجزهم عن مواجهة الموت في ميادين المقاومة. وقبلوا بالحياة ذليلة، ولو علموا أنهم سيموتون في نفس اللحظة التي ينتهي فيها الأجل لما حرصوا ولا جزعوا. واليوم حين تعود فريضة الجهاد إلى حياتهم يبدأون عصراً جديداً.
ثامن عشر: أقر الإسلام حرية الفكر والعقيدة: "لا إكراه في الدين" ودعا إلى المطالبة بالبرهان والدليل ونهى عن تحكيم الهوى وفتح باب الاجتهاد ودعا إلى عدم الانخداع بالأوهام والاغترار بالظنون وأنكر القول بغير دليل وقرر عدم كتمان العلم وأطلق حرية البحث ودعا إلى التحرر من التبعية والتقليد وأقر مبدأ الأصالة.
وفرق بين العقائد والمعارف. وجعل العقائد خاصة وجعل المعارف عامة وفرق بين الأساس والعارض وفرق بين المعارف الجوهرية والمعارف غير الجوهرية (من لغو القول وإزجاء الفراغ) ودعا إلى الأخذ من كل علم بأحسنه كما دعا إلى التحري عن الحق وأفهم أهله بأن من كرامة العلم الربط بين العقيدة والعمل بها ورفض مبدأ العلم لذاته وقرر أن العلم يعترف بالحق إذا تبين وأن يغير العالم رأيه إذا جاء الدليل وإنما يطلب العلم من أجل العمل بع وأقام الإسلام الفطرة ودعا إلى نقاءها وشدد بالنهي عن إفسادها بالتعاليم الضارة. ودعا إلى التحري عن الحق وطالب أهله بأن من كرامة العلم أن نعترف بالحق إذا تبين وأن نرجع إلى الحق إذا جاء الدليل ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم هديت فيه لرشدك أنه تعود إلى الحق فإن الحق قديم وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.(/6)
في مواجهة الفراغ الفكري والنفسي في الشباب
إن من أكبر المهام التي يفرضها علينا "التحدي الذي تواجهه الأمة الإسلامية": تحدي الصهيونية والاستعمار والماركسية: ممثلاً في التغريب والغزو الثقافي والشعوبية: هو بناء ذاتية المثقف المسلم العربي.
إن أي ثقافة أو قراءة أو إطلاع دون هوية ومعرفة للهدف ودون إيمان برسالة الإيمان والحب لهذه الأمة والذود عنها وافتداء عقائدها ووجودها، لا قيمة لها، بل إنها سوف تكون مصدراً من مصادر الشقاء لأنها سوف تدفع صاحبها ليجري مع كل ريح، وسوف يعجز عن تحديد موقفه من أهواء المذاهب وتيارات النظريات وزخارف التعابير المنمقة الكاذبة نحن مطالبون أولاً بأن نعرف ركائز فكرنا وعقيدتنا، فإذا عرفناها آمنا بها واعتنقناها وملأنا بها كياننا الروحي والنفسي والعقلي، واستطعنا في ضوئها أن نواجه كل ما يقدم إلينا من هذا الشتات الكثير المختلط، إن الخطر الذي اجتاح بعض من غلبوا على أمرهم فانحازوا إلى هذا الفكر أو ذاك إنما كان مصدره "منطقة الفراغ" التي دفعت الرياح الهوج لتملأها ولو أنهم كانوا قد عملوا على ملأها بالحق والخير والإيمان والنور المستمد من العقيدة الصافية والفكر الأصيل لما استطاعت الأهواء أن تجتاحهم، لقد برقت يف عيونهم كلمات خادعة لفرويد ونيتشه وماركس وسارتر، ولو تعمقوها لوجدوها سماً زعافاً. إن المثقف المسلم الأصيل، المؤمن بأمته وعقيدته لا تخدعه الأسماء اللامعة ولا المطبوعات الفاخرة ولا الكلمات البراقة وإنما يعرف الرجال بالحق فمن عرف الحق عرف أهله ومن ثم فإن هذه الركائز قد تكون قادرة على إلقاء الضوء الكاشف أمام النفوس المستشرفة للضوء والعقول المتطلعة إلى النور.
إن أمتنا ليست في حاجة إلى أن تعتنق مذهباً ما من هذه المذاهب المطروحة أمام الفكر، أو نظام مجلوب من خارج دائرة ثقافتها. وهل يجوز لأمة لها هذا التاريخ العريق والدور الأصيل في بناء حضارة الإنسانية أن تحتوي، أو تصهر في أتون فكر الأمم، أو أن تستبعد لنظريات الفكر البشري وعندها الفكر الرباني الخالص الأصيل المستمد من وحي السماء. إن أبرز طوابع أمتنا هي الأصالة والاحتفاظ بالكيان الخالص والذاتية التي لا تنصهر ولا تذوب في فكر الأمم، ولأمتنا المنهج الأصيل الذي يحقق لها إذا أخذت به أسعد ما تتطلع إليه الأمم من نظم الاجتماع والفكر استمداداً من التوحيد الخالص والالتقاء بالفطرة والتجاوب مع الطابع الإنساني، إن نظرة فكرنا الإسلامي العربي نظرة رحبة عميقة واسعة الآفاق والأبعاد جامعة بين الروح والمادة والعقل والقلب، والدنيا والآخرة في إطار الالتزام الأخلاقي والمسئولية الفردية والإيمان بالبعث والجزاء. هذا الفهم الجامع الكامل الرحب من شأنه أن يثرى آفاق حياتنا في مواجهة التحدي الاستعماري الخطير الذي يلتمس الآن أصول فكرنا لتزييفه واحتوائه من خلال مؤسسات ظاهرة هي التبشر والاستشراق ومن خلال قوى خفية تتمثل في بروتوكولات صهيون وما تدبره في خفاء عن طريق الفكر والصحافة والثقافة وبواسطة مذاهب فلسفية تدور حول النفس والأخلاق والاجتماع ومقارنات الأديان وذلك في سبيل تحقيق هدفها الخطير المعلن وهو السيطرة على العالم بعد القضاء على كل قيمه ومثله وأخلاقياته.
ومن هنا فإن هذا التحدي يجب أن يكون قائماً في نفس كل منا وعقله، لا يغيب عنا لحظة ولا تجدنا ننظر في أمر من هذا الخطر الذي ترمي إليه كل القوى الطامعة في بلادنا والتي ترى أن خير وسيلة لاحتوائنا هو استقطاب فكرنا، حيث أننا أمة لا يمكن أن تخضع إلا إذا أزيلت رواسيها: القرآن والإسلام واللغة العربية. لقد تنبهنا لهذا الخطر منذ وقت طويل وبقى أن نحول هذا الفهم إلى إرادة حية تصد هذا الكيد وتحمي هذا الميراث وتحمل تلك التبعة وتزود عن هذه الأمانة بكل مرتخص وغال، ذلك أن أي إنسان منا ما هو إلا ابن هذه الأمة وهذا الفكر وهي بنوة عريقة ونسب كريم فقد حمل آبائنا أشرف رسالة وأعظم دعوة وكانوا من المجاهدين في سبيل هذا الحق، قادة للهدى والنور والخير في كل أرض وعصر ومن حقهم علينا أن نسير على طريقهم في النضال وأن نحمي هذه الأمانة ونذود عنها وأن نظل قادرين على حمل اللواء، وأن نقدم الإسلام إلى الأمم الحائرة التي تعيش اليوم في قلق وتمزق نتيجة غلبة النزعة المادية عليها.
ومن أجل تحقيق هذا كله أردت أن أضع بين أيديكم هذه المجموعة من الحقائق الفكرية والثقافية كأساس لبناء نظرة صحيحة إلى الحياة.
(أولاً): إن التدين جزء من الطبيعة البشرية ولا يستطيع الإنسان أن يعيش بغير دين وقد عجزت الأيديولوجيات والمذاهب الحديثة أن تقدم له بديلاً عن الدين يرضي روحه ويسعد حياته.
لقد حررت الأديان الإنسان من عبودية المجتمع وعبودية الفرد ليتجه إلى الله وحده ولكن هذه الأيديولوجيات أعادت الإنسان إلى سجن المجتمع – لقد تضاءل الإنسان ليصبح مجرد نملة اجتماعية في مجتمع النمل.(/1)
لقد علمت الأديان أنه ليس حشرة اجتماعية ولكنه إنسان ذو كرامة. فاستطاعت أن تمنح معتنقيها هداية لا تستطيع أن تجاريها فيها الأيديولوجيات التي فصلت الإنسان من عبادة قوى الطبيعة إلى عبادة قوى المال والمادة.
(ثانياً): إن الإنسان ليست له أزمة ولا قضية حادة في ظل مفهوم الإسلام ذلك أن الإسلام نظر إلى الإنسان نم خلال طبيعته الجامعة بين الروح والجسم والعقل القلب. نظر إليه بوصفه كياناً متكاملاً وبذلك أقر رغباته المادية كلها وأباحها له دون أن يقيدها إلا بضوابط معينة قصد بها حماية الإنسان نفسه من الانهيار والتدمير وحتى يكون قادراً على أداء رسالته في الحياة ومواجهة مختلف التحديات دون أن يضعف أو ينهار.
(ثالثاً): ألغى الإسلام الفكرة الوثنية القديمة (التي تتجدد عن طريق الأيديولوجيات) القائلة بأن هناك صراعاً بين الجسم والروح، وأعلن أن الجسم والروح متكاملان وبذلك عارض مفهوم الرهبانية ومفهوم الإباحية معاً ودعا إلى التوازن وإلى إعلاء الرغبات حتى تتحقق القدرة على تنفيذها على النحو الطبيعي السليم.
لقد وضع الإسلام ضوابط من ثلاث عناصر:
الاعتدال – الحلال – العفة.
ولذلك فقد عجزت أزمة الجنس أن تمد لها مجالاً في محيط الإسلام لأنها لم توجد أصلاً. وفي الغرب (وفي الفكر الغربي الوافد الذي نراه في المسرحيات والسينما ونقرأه في الكتب والروايات) نجد مجتمعاً آخر، يختلف اختلافاً أساسياً عن مجتمعنا. لقد كانت أوروبا تعيش في ظلال القسر الشديد ثم انطلقت إلى الإطلاق الشديد وبذلك كانت مضطربة في الأولى لأنها خالفت الفطرة، ممزقة في الأخرى لأنها جاوزت الطبيعة.
أما الإسلام فقد قبل مبدأ الفطرة القائم على التوازن. أعلن وجود الرغبات من مال وطعام وجنس ولكنه وضعها في إطارها الصحيح ولم يجعل الطعام قضية تفوق القضايا أو تسيطر عليها ولم يجعل الجنس قضية القضايا كما نرى فيما ينقل إلينا ولكنه جعل الحياة متكاملة في عناصرها متوائمة في رغباتها وحدودها بعيدة عن الزهادة والسرف والرهبانية والتحلل والإطلاق والكبت وجعل للحياة أفاقاً أوسع من المادة وأعلى من الرغبات جعل هناك الأشواق الروحية والنفسية والعقلية إلى الثقافة والعلم والعبادة. فالإسلام لا يرفض الرغبات الحسية ولكنه يضعها في إطار واضح. فيجعل تحقيقها عن الطريق الطبيعي بالزواج في حالة القدرة أو التسامي والإعلاء بها بعد في حالة عدم الاقتدار. وذلك: دون أن تفقد هذه الرغبات حقها المعترف به في حالة الاستطاعة.
رابعاً: كذب الإسلام ودحض الافتراض القائل بأن الدين يصرف الإنسان عن النضال والعمل وأعلن أن الدين يدفع إلى القوة والتقدم والكشف والعمران جميعاً إيماناً بدعوة الله للإنسان إلى العمل واستخلافه في الأرض.
ولا ريب أن دعوة الإسلام إلى امتلاك الإرادة الخاصة ورفض القيود ومقاومة الغزو كانت مصدر كل النضالات الوطنية التي انطلقت في العالم الإسلامي منذ جاءت موجة الاحتلال الأجنبي إلى الآن.
خامساً: أعلن الإسلام عن قيام الإرادة الحرة لكل مسلم وكل إنسان.
فكل إنسان مريد وقادر على العمل والتعبير، وقد هدي إلى الطريقين: طريق الخير وطريق الشر وعليه أن يختار أحدهما وفطرته تهديه ودين الله المبلغ له عن طريق الرسل والكتب ترشده.
هذه الإرادة لها تبعتها: هي المسئولية والحساب والجزاء الأخروي. فلا إرادة بلا مسئولية ولا مسئولية بلا جزاء.
أما الذين يقولون بالجبرية والصدفة وبأن الحياة مطلقة وأن من حق الإنسان أن يأخذ منها ما يشاء قبل أن يدركه الموت فذلك ليس مفهومنا، وهو في ذاته مفهوم باطل بحكم العقل والقياس وأن ترتيب البث والجزاء بعد الموت ليس أمراً مستحيلاً ولا متناقضاً مع العقل والفطرة، ذلك لأن للإنسان رسالة في الحياة، هو مطالب بأن يقوم بها على الوجه الصحيح، في سبيل إقامة مجتمع يرضى عنه الله تبارك وتعالى، فله في ذلك أجر الإحسان وجزاء الخطأ فإقرار البعث مطابق للفطرة ولا يشكل تناقضاً عقلياً بل إن إنكار البعث هو الذي يشكل التناقض، ويصور هذه الحياة، على أنها مسرحية هزيلة أو لعبة أو لهواً وهي ليست كذلك بالقطع، الإنسان له رسالة وهو محاسب عليها (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون).
سادساً: قرر الإسلام أن هناك قاسم مشترك أعظم على مختلف القيم والتصرفات: والأخلاق مقررات جاء بها الدين من عبد الله وهي ثابتة ثبات الفطرة الإنسانية نفسها، لا تتغير بتغير الزمان والمكان.
(فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله).
وقاعدة الأخلاق الأساسية في الإسلام هي أن الحق واحد والخير واحد وانهما لا يختلفان ولا يتعددان وكذلك الشر والباطل.
والأخلاق هي تمييز بين الحق والباطل والخير والشر، وسيظل الخير هو الخير والشر هو الشر على اختلاف الأزمنة والبيئات ولن يتحول يوماً إلى ضده.(/2)
ولقد دعانا الإسلام إلى أخلاقية الحياة وأقام الالتزام الأخلاقي في كل الأعمال والتصرفات وجعله جزءاً من الدين فالدين في الإسلام جامع بين العقيدة والشريعة والأخلاق وهي لا تنفصل ولا تتجزأ.
أقول هذا لنكون في يقظة إزاء المذاهب التي تقول بأن الأخلاق نسبية، لا، ليست الأخلاق ولكنها التقاليد. أن الأخلاق من عند الله والتقاليد من صنع المجتمع نفسه. فالتقاليد متغيرة نعم، أما الأخلاق فلا ولقد يظن دعاة الفكر المادي أن الأخلاق كالدين نبعت من الأرض ولم تنزل من السماء ولذلك فهم يرونها متغيرة أما نحن: المسلمون فنفرق بين الأخلاق والتقاليد ونرى أن الأخلاق ثابتة كثبات القيم الأساسية وأن التقاليد متغيرة ويجب أن تتغير مع اختلاف العصور والهيئات.
والقاعدة أن هناك ثوابت وهناك متغيرات: والتطور والتغير والتحول إنما يشمل المتغيرات أما الثوابت فشأنها شأن الأفلاك والمدارات التي تتحرك فيها الكواكب فهي ثابتة. ذلك في الإسلام أفلاك ثابتة وقيم لا يمكن أن تتغير ولكن ما في داخلها يتغير ويتحرك.
وتلك ميزة الإسلام:
سابعاً: هناك منهجان مختلفان: منهج للعلوم ومنهج للإنسانيات: منهج العلوم يستمد قوته من المادة ويتحرك في فلكها ولكنه لا يصلح للتطبيق على الإنسان: ولا يستطيع مقايسة الأخلاق والنفس والمجتمع. إن المفاهيم التي ترتبط بالإنسان في مشاعره وعواطفه يصعب إخضاعها لقوانين الظواهر الطبيعية. ذلك لأنها تتعرض لظروف مختلفة تتعلق بأعماق النفس ولا تخضع للتجربة.
ثامناً: لا تصدقوا الفكر الذي تقدمه الروايات والأفلام السينمائية والمسرحيات ولا تعتبروه مسلمات. ذلك لأنه لا يصدر عن حقائق وإنما عن أهواء وخيال.
الواقع هو المجتمع الذي نعيش فيه بما قامت عليه أعمدته من مقومات رسمها الدين الذي هدى البشرية إلى الحق، ثم جاءت العلوم مفسرة له: أما ذاك عالم الخيال والوهم:
إن الإسلام قد قدم لنا كل المفاهيم والقيم والتفسيرات لمختلف قضايا المجتمع والإنسان والأخلاق والنفس على نحو كريم، فيه السماحة واليسر، وفيه قبول الاضطرار والمغفرة عند الإساءة. والتوبة من الذنب، إطارات واسعة فسيحة وقيم أساسية: ثم بعد ذلك قدرة على الحركة دون تزمت أو ضيق فإذا جاءت اليوم الرواية الخيالية والمسرحية وأفلام السينما لتقدم لنا مفاهيم أخرى مخالفة للفطرة أو مضادة للحق فما أحرانا أن نعرف وجه الحق وأين هو ولا نتحول تحت تأثير البريق الخاطف أو الضوء الساطع، أو التقاء هذه المفاهيم مع أهواءنا ورغباتنا، لا نتحول إلى اعتناق مفاهيم ليست من الأصالة في شيء ولنعرف تماماً أن الرواية والمسرحية والقصة السينمائية ليست إلا ملهاة وتسلية أريد بها إزجاء الفراغ وإدخال شيء من الترويح على الناس ولكنها لا تكون أبداً نظماً ولا عقائد ولا قوانين مقررة نحاول أن نطبقها في المجتمع فننقل أحكام عالم الخيال إلى عالم الواقع والعكس هو الصحيح.
فهي لن تزيد عن أن تكون مخدراً يريد به أصحابه نقل الناس ساعات من واقعهم إلى عالم غريب خيالي ثم إذا هم عادوا وجدوا الواقع قائماً بقوته واستمراره لا مفر من التسليم له والاعتراف به والتجاوب معه.
ولنكن قادرين على الفهم الواسع العميق للفارق البعيد بين حقائق الأمور كما جاءت بها رسالات السماء وبين نظريات الفكر البشري التي وضعها الإنسان وفق هواه وفي سبيل تحقيق رغبائه متجاوزاً ما يراد له من الخير إلى ما يريد هو من الشر، لنفرق دائماً بين الواقع القائم في عالم الحياة والوجود، ومكاننا منه ومسئوليتنا إزاءه وبين هذا العالم الوهمي الخرافي الذي صنعه الإنسان ليدخل على بعض النفوس تسلية أو ملهاة ولا نخلط أبداً بين العالمين: عالم الواقع وعالم الوهم والخيال.
نحن نعي أننا ملتزمون أمام الله بمسئولية الفرد إزاء المجتمع، الفرد الذي يملك إرادة التصرف والذي يتحرك في الحياة بين قوى الخير والشر فيختار ما يشاء ويتحمل مسئوليته: مسئولية الجزاء والعقاب والثواب في عالم آخر بعد أن نموت ونبعث. فإذا جاء عالم الوهم والخيال من خلال الرواية أو القصة أو المسرحية ليشكك في ذلك ويقدم لنا صوراً زاهية براقة من معطيات الجنس أو الطعام أو الترف فذلك كله خداع وتضليل، ولذلك نحن نرفضه ونبتسم ونسخر منه، لأننا نعلم أنه يريد أن يخرجنا من أرض الواقع التي يجب أن عيشها دائماً، ويخرجنا من أصالة مفاهيمنا حين يريد أن يصور لنا الحياة وكأنها متعة طيبة من خلال أصواء وترف وذهب وحرير، كل هذا هو عالم الوهم الذي يخذل من يصدقه، لأنه لا يلبث بعد أن ينتهي من قراءته أو مشاهدته أن يجد نفسه في عالم الواقع القائم المستمر، بل ويجد الحسرة تملأ النفس على حد تعبير القصص القديمة: نظر نظرة أعقبتها ألف حسرة.
فماذا يجد بعد: ما هو رد الفعل: إنه ذلك الإحساس بالتمزق والحرمان إذا ما اندمج في الخيال وظن أنه الواقع.(/3)
لنقبل إذن عالمنا الواقع الحي على حقيقته ولا نسرف في خداع أنفسنا بالخيال والوهم لبضع لحظات مع أغنية لا تصور إلا أكاذيب الشعراء أو مسرحية أو فيلماً لا يصور إلا أوهام الذين يريدون تدمير النفس الإنسانية، لنحاول أن نعيش واقعنا فإذا لم يكن ما نريد فلنرد ما يكون، فإن علينا أن نعمل ونتقدم ونضيف ونجدد ونكافح حتى نحقق الحياة الطيبة التي نرجوها.
تاسعاً: في مجال النظرة إلى الأمور يجب أن نفرق بين أمرين هامين:
هناك أمور مشتركة بين الأمم هي العلوم فالعلم عالمي عام.
وهناك أمور خاصة مطبوعة في كل أمة بطابعها: هي الأخلاق والأدب والفن. لكل أمة مزاجها وذوقها وتقاليدها وعقيدتها.
ويمكن أن تلتقي الأمم في العلوم وفي المعارف العامة أما ما سوى ذلك فيؤخذ بحذر شديد.
وقد حرص الإسلام على أن يحفظ شخصية أهله ولذلك دعاهم إلى معارضة التقليد وإنكار التبعية وكفل لهم منهجه الرصين المحكم القادر على ملاقاة كل بيئة وعصر – وكفل لهم كل ما يحتاجونه في مجال الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية.
ولم يمنع الإسلام الانفتاح والالتقاء بالثقافات المختلفة ولكن على قاعدة أساسية واضحة: هو أن لا تحجب الشخصية الأصلية ولا الملامح العامة ولا تهدم قيمة من القيم الأساسية.
وقد دعا الإسلام إلى إعلان التمييز بين المسلمين وغيرهم في العادات والأخلاق وأسلوب العيش والحياة. وأعلن أن التقليد فقدان للشخصية وأن التبعية عبودية للفكر والعقل.
عاشراً: الإسلام ليس ديناً فحسب ولكنه نظام مجتمع والدين جزء منه.
والإسلام منهج حياة وليس نظرية، وهو منهج متكامل لا يقبل التجزئة ولا يقر النظرة الانشطارية التي ترى رؤية أهل التخصص الحديث فليس علم النفس وحدة أو علم الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد هو وحدة كل شيء، ولكن هذه العلوم والمفاهيم قاصرة بذاتها ولا تصلح إلا حين تتكامل في إطارها لخدمة الإنسان نفسه فلا تقوم نظرية في واحدة منها على نقيض حقيقة في الأخرى، هذا التكامل هو الذي يحول دن التمزق حين يعلي قوم العقل أو يعلي قوم الوجدان. أما نحن فنوازن بين العقل والوجدان والروح والمادة والدنيا والآخرة فلا نفقد الطمأنينة النفسية والسكينة الروحية والثقة العقلية.
كذلك فإن منهج المعرفة الإسلامي يقوم على الترابط بين القيم ويتخذ من الوحي هادياً للعقل ومن الفطرة سبيلاً إلى العلم، هذا المنهج الذي يقوم على التحرر من الهوى والتعصب. ويتجاوز الرغبة الخاصة إلى الغاية الكبرى.
حادي عشر: قرر الإسلام أن الإيمان بالله قوة دافعة تعطي الأمل وتحول دون اليأس وتبعث الثقة المتجددة في النفس الإنسانية، وتحرص على المعاودة في حالة الإخفاق وليس الإيمان مضاداً للمعرفة ولكنه ضوءها الكاشف فالإسلام لا يقف بالإنسان عند مفهوم المعرفة القائم على الحس والتجربة بل يضيف إليه علماً آخر جاء به الوحي وسجله القرآن وفيه تفصيل عالم الغيب وعالم الآخرة وقد جعل الإسلام الإيمان بالغيب شرطاً أساسياً من شروط المعرفة.
ثاني عشر: إن من أخطر ما يطرح في أفق مجتمعنا: القول بأن كل إنسان حر، ومعنى الحرية هنا أنه يرفض التجربة التي قدمتها له الأجيال السابقة وذلك عين الضعف والقصور والعجز، فالشخصية القوية الرحبة تكون قادرة على مناقشة وجهة النظر الأخرى، ولو كانت خاطئة، والنظر في تجارب الذين مضوا على الطريق، إما أن يحجب الإنسان نفسه عن ذلك فإنه سوف يتقوقع في أضيق الحدود وسوف يعجز عن اقتحام الحياة وتحقيق النجاح.
علينا أن نواجه خبرات الناس وتجاربهم ومعنا ضوئنا الكاشف ومقاييسنا الأصلية. بل علينا أن نطالب الأجيال التي سبقتنا بتجربتها، وعلينا أن نكون منصفين فنأخذ خير ما فيها، ثم نحاول أن لا نقع فيما وقعوا فيه من أخطاء. تلم هي ضرورة الالتقاء بين الأجيال، وحتمية الحلقات المتتابعة ببين الأمم، ليس بين الأجيال صراع كما يقولون، بل بينها لقاء وتكامل.(/4)
لقد استشرى هذا الخطر: خطر رفض تجربة الأجيال السابقة، والنظر إليها في شيء كثير من الانتقاض أو الزهد فيها وذلك من شأنه أن يفوت خيراً كبيراً، ولقد تعالت صيحات تقول: إن على الأبناء أن يشقوا طريقهم دون توجيه من أحد وأن عليهم أن يستعلوا على تجربة الأجيال التي سبقتهم وكيف يستعلي من لا يملك شيئاً. كيف يستعلي من يجهل. وكيف يرى نم ينظر في الظلام، إننا دائماً في حاجة إلى أمرين وكل الأمم الناهضة تتشبث بهما: منهج أصيل هو ضوء كاشف نعرض عليه كل شيء ولا نقبل إلا ما يقره. وتجربة للذين سبقوا على الطريق وبنوا قبلا حتى نعرف موضع اللبنة التي سيقدر لنا أن نضعها، إن هؤلاء الذين يعلنون تلك الصيحة ليسوا لنا بناصحين ولا أمناء، إنهم يريدون تحطيم الرابطة الأصلية بين الأجيال وإيجاد الصراع بينها، ونحن جميعاً نعرف بروتوكولات صهيون وما نصت عليه في هذا الشأن: إنها تريد تدمير هذه الأمة الصامدة في وجه الغزو الفكري والاستعمار والصهيونية. إنهم يطمعون في إخراج أجيال مدمرة ممزقة نفسياً متحللة من كل القيم والضوابط فهم يدفعون الأجيال إلى التمرد على القيم الأساسية للمجتمعات، وعلى الآباء وعلى المربين وعلى الأساتذة (صحيح أن بعض الآباء والمربين والأساتذة ليسوا مستوى المثل الأعلى) ولكن: ليس الطريق هو إزاحتهم ورفضهم وإنما الطريق هو الوصول إلى التجارب وفحصها: والأخذ بالنافع وأمن عثار الضار منها، إن الشباب وهو يحمل أمانة الغد لابد أن يبني على الأساس وأن يتحرر من أخطاء السابقين وأن يستمد التجربة والمثل الأعلى والأسوة من المنهاج وهو القرآن والنموذج الكامل وهو محمد صلى الله عليه وسلم قدوة الأجيال والعالم.
ثالث عشر: إن الإسلام يدعونا إلى المجاهدة والمذاهب النفسية الحديثة تدعونا إلى الانطلاق فأيهما الخير من أجل بناء الشخصية الإسلامية القادرة على مواجهة أخطار المجتمع وصناعة الحياة والدفاع عن القيم والمقدسات.
إن المجاهدة بمعنى معارضة الأهواء والمطامع والكظم بمعنى تأجيل الرغبة ليس هو الكبت الذي صور فرويد أخطاره وبالغ في التخويف منها. تلك المخاطر الوهمية التي أذاعها فرويد عن الكبت تختلف تماماً، ذلك أن الكبت إنما يستمد معناه ومدلوله من إنكار الرغبات أساساً وتحريمها عقيدة وعدم الاعتراف بها واحتقارها: كاحتقار الجنس أو المال أو الطعام بينما الإسلام يقرها جميعاً وينكر تحريمها: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة): إن الإسلام لا يحتقر الرغبات وإنما يعترف بها (نفسية وحسية) اعترافاً كاملاً دون إنكار لها وإن كان يدعو إلى الاعتدال في استعمالها أو تأجيل ممارستها حتى تتحقق القدرة التي تضعها في إطارها المشروع والصحيح. فتأخير ممارستها ليس كبتاً وإنما هو إعلاء.
إن خطر الكبت الذي تفترض الفرويدية أنه يؤدي إلى العصاب لا يتحقق إلا نتيجة الإنكار والرفض والاحتقار للرغبات، أما الاعتراف بها مع التأجيل فذلك مما لا يتعارض مع الطبيعة البشرية وهو ما ترضاه وتحتمله، ولقد هللت طويلاً دعوات التربية الحديثة بأن توجيه الأطفال وعقابهم يؤدي إلى كذا وكذا من الأمراض ثم أثبتت التجارب التي أجريت على الطبيعة وبالإحصاء الدقيق أن ذلك محض وهم، وإن النفس الإنسانية قابلة للتوجيه والتحذير والعقوبة دون أن يحدث ذلك عندها شياً البتة مما يسمى بمركبات النقص أو غيره.
ونحن نؤمن أن صانع النفس البشرية (جلا وعلا) أقدر على فهمها وآمن عليها من الأخطار وهو الحامي لها من أولئك الفلاسفة الماديين، وأن ما رسمه لها من أساليب تحذير وضوابط ومناهج ترغيب وترهيب إنما هو دوائها الحق وأنه متقبل منها وليس بشاق عليها ولا خطر فيه وليس له ضرر ما على النحو الذي تهول به الفلسفات المادية والوثنية.
وإن كنا نريد أن نعرف الخلفيات فلنذكر أن الهدف هو تفكيك عروة الشباب منذ الطفولة وبناء أجيال متحللة مدمرة ورفع يد الآباء عن التوجيه وخلق جو من الكراهية في محيط الأسرة حتى يفقد الشباب تلك الثمرة الخصبة "تجربة الجيل" وثمرة العبرة من كفاح الآباء وذلك في طريق هدف بروتوكولات صهيون الصريح: الذي يقول: "يجب تدمير المجتمعات الإنسانية قبل السيطرة عليها".
رابع عشر: أعطى الإسلام البشرية: التفسير الجامع (الرباني المصدر الإنساني الهدف) لا ريب أنه صدق التفاسير، لقد أهمل التفسير المادي جوانب المعنويات والقوى الذاتية والدين والأخلاق وهي جميعها بعيدة الأثر في مقدرات التاريخ وحركة المجتمعات وسيظل الدين بمفهومه الإسلامي الواسع الجامع عنصراً هاماً من عناصر تشكيل الذاتية الفردية والاجتماعية.
وأن القائلين بأن الدين ليس مصدراً من مصادر التوجيه أو ليس عاملاً من عوامل بناء الحضارات وحركة التاريخ إنما يتجاهلون شطراً هاماً من طبائع النفوس وخصائص الأشياء.(/5)
خامس عشر: ما يزال الإسلام والإسلام وحده هو المنهج القادر على إعطاء النفس العربية والإسلامية، بل النفس الإنسانية ريها وسكينتها، وقوتها وحيويتها. إن الخطأ هو اعتناق عقائد المجتمعات التي تشكلت على نحو خاص، والخطأ هو أن تأخذ الأمور من نهاياتها فهذه الحضارات قد شاخت وبان عوارها وفسدت ولم تعد تنفع أهلها، وحاول أصابها تعديل مناهجها مرة بعد مرة، ومع ذلك فلم تحقق لهم ما يطمعون فيه، إن ما يطمعون فيه لا يوجد لأنهم يقيسون بمقياس واحد: مقياس جزئي، هو مقياس العقل والعلم والمادة بينما يقيس الإسلام بمقياس متكامل:عقل وقلب وعلم ووحي وروح ومادة.
إن حضارة الإسلام لا تقوم على العلم وحده ولكن على العلم في إطار العقيدة.
سادس عشر: إن تخلف المسلمين في العصر الحديث قضية مستقلة، عن منهج الإسلام ذاته، فمنهج الإسلام حين طبق أمام تلك الحضارة الباذخة وحين غفل عنه المسلمون وتجاوزونه وقعوا في هوة التخلف فالعيب ليس عيب المنهج، لأن المنهج رباني وقد سجلت تجربته بصماتها على التاريخ. إن القيم الإسلامية في تقدميتها ونصاعتها ليست مسئولة عن التخلف، وإنما جاء التخلف نتيجة تجاوزها وإهمالها، يقول ولفرد كانتول سميث: "إنه دين استطاع أن يوحي إلى المتديئين به شعوراً بالعزة كالشعور الذي يخامر المسلم من غير تكلف ولا اصطناع".
ولقد يرى البعض أن تخلف المسلمين ليس له إلا سبب واحد: هو سقوط العزيمة، سقوط الإرادة: الغفلة عن الأخطار المحدقة من كل جانب (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم): (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم).
إن ظواهر التخلف ظهرت في اليوم الذي بدأ فيه المسلمون يميلون إلى الحلول السهلة، ويسترخون، ويتجاهلون الخطر المحدق. ويبتعدون عن حياة اليقظة التامة والمرابطة الدائمة في الثغور، والانحراف عن مبادئ القرآن. هذه أمة الرباط إلى يوم القيامة كما حدث الصادق المصدوق، لقد فقد المسلمون التحدي فسقطت العزيمة: غفلوا عن المجاهدة، فقدوا روح الصلاة والإيمان واكتفوا بالمظاهر، عن ذلك دارت الدائرة عليهم، يقول أرنولد تويئبي: إن الغرب وضع الحبل في رقبة العالم الإسلامي منذ القرن الخامس عشر وكان يتهيب أن يشده، ثم بدا له المسلمين في نوم عميق فشد حلبه وسيطر عليهم.
سابع عشر: إن دخائل كثيرة دخلت على المسلمين وأفسدت حياتهم وأعلت من شأن المتعة والترف وأبعدتهم عن الاخشيشان والقدرة على الصمود، وفرغت حياتهم من فريضة الجهاد وتخلفوا عن مفهومهم الأصيل: احرص على الموت توهب لك الطريق، وغفلوا عن بذل النفس رخيصة في سبيل الحق، وتقهقروا إلى الحرص والخوف والجبن والذلة بما أعجزهم عن مواجهة الموت في ميادين المقاومة. وقبلوا بالحياة ذليلة، ولو علموا أنهم سيموتون في نفس اللحظة التي ينتهي فيها الأجل لما حرصوا ولا جزعوا. واليوم حين تعود فريضة الجهاد إلى حياتهم يبدأون عصراً جديداً.
ثامن عشر: أقر الإسلام حرية الفكر والعقيدة: "لا إكراه في الدين" ودعا إلى المطالبة بالبرهان والدليل ونهى عن تحكيم الهوى وفتح باب الاجتهاد ودعا إلى عدم الانخداع بالأوهام والاغترار بالظنون وأنكر القول بغير دليل وقرر عدم كتمان العلم وأطلق حرية البحث ودعا إلى التحرر من التبعية والتقليد وأقر مبدأ الأصالة.
وفرق بين العقائد والمعارف. وجعل العقائد خاصة وجعل المعارف عامة وفرق بين الأساس والعارض وفرق بين المعارف الجوهرية والمعارف غير الجوهرية (من لغو القول وإزجاء الفراغ) ودعا إلى الأخذ من كل علم بأحسنه كما دعا إلى التحري عن الحق وأفهم أهله بأن من كرامة العلم الربط بين العقيدة والعمل بها ورفض مبدأ العلم لذاته وقرر أن العلم يعترف بالحق إذا تبين وأن يغير العالم رأيه إذا جاء الدليل وإنما يطلب العلم من أجل العمل بع وأقام الإسلام الفطرة ودعا إلى نقاءها وشدد بالنهي عن إفسادها بالتعاليم الضارة. ودعا إلى التحري عن الحق وطالب أهله بأن من كرامة العلم أن نعترف بالحق إذا تبين وأن نرجع إلى الحق إذا جاء الدليل ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم هديت فيه لرشدك أنه تعود إلى الحق فإن الحق قديم وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.(/6)
في مواجهة النسبية التاريخية
أي إسلام نريد ؟
يتساءلون عن : أي إسلام نريد ؟ كأنما الإسلام لا يزال مجهول النسب بعد أكثر من أربعة عشر قرنا من ظهوره ، أو بسبب مرور أربعة عشر قرنا !! والغريب أن هؤلاء المتسائلين عندما يطرحون ما يطرحون لا يقبلون تشكيكا : عن أي حضارة ؟ وأي حقوق إنسان ؟ وأي حرية ؟ وأي ديموقراطية ؟ وأي ليبرالية ؟ وأي اشتراكية ؟ وأي علمانية ؟ وأي علموية ؟ وأي حداثة يريدون لنا ؟؟
وإذا كان هذا السؤال يأتي من جهات مشبوهة نعرفها في النسبية التاريخية والتطورية فلاشك عندنا أنه أخذ يتسلل من جهات غير تلك ، هي موضع الثقة والتقدير والاحترام ، وهذا ما جعل القضية أكثر خطورة ، وجعل التصدي لها أكثر لزوما
ومن الجهة الثانية – التي نؤكد مرة أخرى أنها موضع الثقة والتقدير والاحترام - ما ذكره الرئيس محمد خاتمي - في كتابه " الإسلام والعالم " نشر مكتبة الشروق بالقاهرة ط 3 عام 2002 – في سياق نقده العقل نقدا جذريا
نقد العقل بمحاصرته في دائرة النسبية ثم ذهب يُؤمَن مخرجا للدين ، فهو وإن كان قد أقر : ( اعتقاد الكثيرين من الفلاسفة بأن عقل الإنسان يتحلى بجملة من الثوابت ومن الاقتناعات المطلقة ) إلا أنه ما لبث أن عاد إلى الاعتراف ( بأن العقل " مبتلى بأنه محدود ) ص 27 وهذا صحيح
وهو في سياق هذا النقد يستمسك بالدين باعتباره : ( توأم الإنسان وأقدم الموجودات البشرية )، ( وحياة الإنسان من غير دين ومن دون التسليم لأمر سام ومتعال لا معنى لها ) ويقرر أن ( وجود القداسة والسمو إنما هو وجود للإطلاق ولانعدام الشروط والقيود . ) 0ص 24 ولكنه ما يلبث أن يعود به إلى دائرة النسبية : لأن الإنسان ( موجود في الزمان والمكان والاجتماع وبالتالي فإن معرفته ووعيه نسبيان وقابلان للخطأ ) ص 25 ثم يضع لمسة شيعية على الموضوع : ( إن نسبية معتقداتنا تكون أعظم جدية في زمان غياب المعصوم ) ص 25
وفي تقديره أنه من أجل هذه النسبية كانت الخلافات بين أتباع الديانات ، بل بين مذاهب الدين الواحد ، بل بين فئات المذهب الواحد ، هذه الخلافات تدل على استحالة أن يدعي أحد الإحاطة بالحقيقة كاملة ( ولنضرب الإسلام مثلا : فأي إسلام نريد ونحن نتحدث عن الإسلام ؟ أإسلام أبي ذر أم إسلام ابن سينا أم إسلام الغزالي أم إسلام محيي الدين بن عربي ؟ أإسلام الأشاعرة ؟ أإسلام المتصوفة ؟ أإسلام الظاهرية ؟ أي إسلام ؟ ) ثم يقول ( بلى إنها كلها شواهد لا يعتريها الشك على نسبية معرفة الإنسان حتى عن الدين ) ص 26 إلخ
ثم يصرح بأن ( دين كل شخص إنما هو تجربة ذاتية تتحقق إثر الاتصال الوجودي بالمبدأ . .. إن وسيلتنا المشتركة هي فهمنا الناتج عن قوانا العقلية المشتركة ، فنحن نفهم الدين كما نفهم الطبيعة وعلى أساس فهمنا نكون العلاقة مع الآخرين ، و لكن ومهما كان فهمنا ثابت البنيان فإن أسسه نسبية وعرضة للتغير . ) 32ص ..
وربما لم يهتم الرئيس بأن يوضح أن النسبية تعني إنكار حقائق الأشياء ، وقصر الاعتراف بها بالنسبة لمن يعتقد بها ، فأنت تقول : القمر جميل فهذا لا يعني أن للقمر جمالا غير ما تعتقد أنت به ، ومن حقك أن تعتقد ما تشاء ، فهذه رؤيتك الخاصة ، وليس من حقك أن تلزم غيرك بها ، فأنت لا تملك الحقيقة ، كما أنه ليس من حق غيرك أن ينكرها عليك فتلك رؤيته الخاصة وهو لا يملك الحقيقة أيضا ، فأين هي الحقيقة إذن : المسألة نسبية . جفت الأقلام وطويت الصحف .
فهل انتهت سفينة الرئيس إلى الرسو على جزيرة النسبية ؟
من الواضح أن الرئيس لم يفعل ذلك إلا للتخلص ممن ينقلون القداسة والإطلاق والسمو التي هي من صفات جوهر الدين وحقيقته إلى تصوراتهم النسبية والمحدودة ، ويحاولون فرض تصورهم الناقص على الواقع ، وفي رأيي أن الرئيس خاض إلى هذا الهدف النبيل مخاضا صعبا يثير المشكلات أمام جوهر الدين نفسه ، بينما كان الطريق أمامه ممهدا للرد على هؤلاء بما درج عليه الفكر الإسلامي من ردود متفق عليها وما وضعه من حدود تقليدية
إن الرئيس واجه هؤلاء بأن قذف في وجوههم أسئلة تثير الريبة لا فيما تجمدوا عليه فحسب ولكن في قضية الدين المشتركة عموما
إنه يسائلهم بقوله : أي إسلام نريد إلخ
يقول فخامة الرئيس ( تتلخص خدمة الدين في عصرنا بالتمييز بشجاعة بين جوهر الدين كشأن مقدس ومتسام وبين تصورات الإنسان عنه والتي هي أمر محدود ونسبي ويدركها التغير ) ص 35 ، ويحاول السيد الرئيس أن ينهي المشكلة بقوله ( إن التصور الديني الموثوق به مثله مثل أي تصور علمي ومنطقي رهن بتمسكه بمصادر الفكر الديني وبالقرآن الكريم بخاصة فيما يعنينا نحن المسلمين ، ومنوط أيضا بالإحاطة بالأساليب المدروسة لاكتساب المعرفة والاستفادة بها ) ص 36(/1)
واستلهاما لما قاله نضيف إلى ما تقدم في حل المشكلة وجوب التوقف عند الحلقة الأولى " إسلام محمد " صلى الله عليه وسلم ، لا في دحرجتها ككرة الثلج عبر حلقات لا تنتهي ، وبالنسبة للحلقة الأولى : يأتي الحل من إسلام محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة فيما تركه لنا من سعة الأفق ، ثم فيما تركه من مبادئ واضحة ، أو مبادئ استخلصها العلماء من تراثه واتفقوا عليها : حول المحكم والمتشابه ، والقطعي والظني ، والاجتهاد ممن يملك أدوات الاجتهاد ، وأجران للمصيب وأجر واحد للمخطئ ، وتأثيم المسارعة إلى المراء والفتنة والتكفير ، والتفرقة بين التكفير والتبديع ، والتفرقة بين كفر الملة وكفر النعمة ، وفيما هو مقرر من التمييز بين العلم الضروري والنظري ، والتفرقة بين الفهم والتصور ، والتمييز بين العقل النظري والعقل العلمي والعقل العملي ، والأصول والفروع ، وغير ذلك من المبادئ التي لا نتعرض لحصرها الآن ،
ولكن السلاح الذي وضعه الرئيس في يد النسبيين مازال قائما : إذ المعضلة التي يطرحونها هي هنا : كيف يمكن هذا التمييز دون الوقوع في فخ النسبية الارتيابية التي تم طرحها ؟
بهذا فتح الباب لتوارد الأسئلة مرة أخرى ، فإن لبعضهم أن يقول : ولكن ( مصادر الفكر الإسلامي والقرآن الكريم ) تدخل ثم تخرج من عقل المتصورين لها ، فالشأن فيه كشأن : إسلام أبي ذر أو ابن سينا مثلا : يمر بنفس الطريق ، أي يأتيك بعد أن يمر بعقلك أنت ، هكذا في سلسلة غير متناهية ؟
معنى هذا أن المشكلة لا تزال قائمة بدليل ما ذكره الرئيس بعد ذلك بقوله ( وبعد اجتياز هذه المراحل تبقى المعرفة التي نكتسبها تعبيرا عن تصورنا للدين ) ص 36
لم نبتعد كثيرا إذن عن ورطة النسبية التي طرحها الرئيس بقوة أكثر من طرح الحل لها
أما وقد اختار الرئيس الطريق الصعب دون التعرض لكثير من نتائجه المحذورة –على الأقل فيما حصلنا عليه من كتبه - فقد وجب علينا أن نتعرض هنا لوقف التداعيات التي ترتبت – دون قصد – على منهجه الذي انتهى – دون قصد أيضا – إلى طرح القضية كلها في هاوية النسبية
والمخرج من ذلك يكون : أولا بالحد من فلسفة النسبية فلسفيا ، والحد من سلطة العقل الشاك وسحب القضية منه ونقلها إلى ساحة العقل العملي .وثانيا : بالتعرض المباشر لأكثر الاتجاهات النسبية المعاصرة انتشارا على الساحة الإسلامية
أولا :
إن كل مطلع منصف على ما كتبه زعماء الفلسفة النسبية يجدهم يعترفون من خلال فلسفتهم النسبية بوجود المطلق ، إذ لابد فيها من التسليم بنقيضها ، أو عدم إنكاره على الأقل ، وإلا لم يعد النسبي نسبيا ، وانقلبت الفلسفة النسبية نفسها إلى فلسفة مطلقة أو انقلب النسبي نفسه إلى مطلق ، ، وهذا بإجمال ما ذهب إليه بعض فلاسفة النسبية مثل الفيلسوف الإنجليزي هاملتون ( 1788-1856) ومنسل ( 1820-1871 ) وهربرت سبنسر 0( 1820 – 1903 )
كذلك فإن كل مطلع منصف على ما وجهته الفلسفة إلى العقل من نقد فيما يسمى نظرية المعرفة سواء من ناحية ماهيته أو إمكاناته ووسائله لا بد أن يعترف - دون أن يقع في النسبية المطلقة أو النسبية بأنواعها المختلفة - بأن العقل البشري محدود وأقصى ما يصل إليه من ذلك ما ذهب إليه عمانويل كانت في نقد العقل الخالص من عجز العقل عن معرفة الشيء في ذاته مع الإقرار بوجوده ، انتقالا منه إلى التعامل معه بمنطق العقل العملي
وخلاصة القول أنه لابد من افتراض وجود شيء ثابت يكمن خلف شتى الأعراض المتغيرة دون أن يكون من الضروري لعقولنا أن تقدر على تحديده . فقوانين الفكر التي تحظر علينا تكوين تصور عن " الوجود المطلق " هي بعينها التي توجب علينا التسليم بوجوده .
وكان يمكن للرئيس أن يصل إلى هذه النقطة ثم ينطلق إلى الكشف عن قواعد الدين من هذا السبيل ، فقد قررها من قبله بعض كبار الأئمة كالإمام الشاطبي ، والغزالي ، والجويني ، وابن الوزير، وبعض علماء الكلام .
ومن جهة أخرى فقد انتهت فلسفة الشك إلى أنه لا يمكن لها بحكم الضرورة العملية أن تجعل الفيلسوف اللاأدري يتوقف عن العمل ، وإذن فهي تنتهي إلى الإيمان التسليمي بحكم الضرورة العملية
كذلك فإن الفلسفة العقلية اليقينية مهما انسجمت واستقرت تنتهي بنا - بحكم الضرورة العملية – إلى ممارسة التفكير على أساس الثقة بالعقل ، دون أن نضع هذه الثقة على غير القاعدة الإيمانية التسليمية
كذلك فإن الفلسفة التجريبية وهي تقوم على إنكار ما لم يثبت بالتجربة تتنازل عن هذا الشرط – شرط التجربة – في العلم بالمبادئ الأولى اللازمة لتدعيم الاستدلالات العلمية : كمبدأ القوة والزمان والمكان والحركة إذ هي كما يقول برتراند رسل ( غير قابلة للبرهان بأي معنى مألوف ) " ولكنها تأخذ بها بحكم الضرورة العملية
والضرورة العملية هي التي أخذت بيد كثير من الفلاسفة إلى الإيمان : مثل بسكال ، وباركلي وديفيد هيوم وشلر ووليم جيمس ، على اختلاف اتجاهاتهم وعقائدهم ومشاربهم(/2)
وليس المقصود بالضرورة العملية الجبر المطلق ولكنها كما يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي " الإلجاء الذي لا يخرج الملجأ من أن يكون على العمل قادرا وباختياره متعلقا " وهو الوضع الذي يهجر فيه المرء ما يسمى العقل النظري إلى ما يسمى العقل العملي الذي عرفه القاضي عبد الجبار بأنه ( قوة التصرف في الموضوعات واستنباط الصناعات وتمييز المصالح من المفاسد لانتظام المعاش وأمر المعاد )
ومن طبيعة هذا العقل العملي التي تختلف جوهريا مع العقل النظري أنه – أي العقل العملي - يجد فيه المرء نفسه مخيرا بين قرارين لا ثالث لهما : أن يفعل هذا أو ذاك ، وليس أمامه ألا يفعل ، فإذا قلت لابنك ذاكر ، فإنه ليس أمامه ،إلا أن يفعل أحد أمرين لا ثالث لهما : أن يقوم بفعل المذاكرة أو يقوم بفعل اللامذاكرة ، وعلى كل منهما تترتب الآثار وكما يقول وليم جيمس : إن عدم اتخاذ قرار بالعمل في هذا الوضع هو قرار بعدم العمل ، هنا لا يوجد مجال الوسط الذي ينشا عن موقف الشك والتوقف والذي ينتسب بطبيعته إلى ترف العقل النظري
إنه لا مفر من التسليم الإيماني عند ما يجد الإنسان نفسه أمام المبدأ الأول : العقل عند العقليين ، و العمل عند اللاأدريين ، والتجربة عند العلميين ، وإذن فالله أكبر، وهو الأول والآخر ، هنا تكون أولوية التسليم ، بحكم القاعدة العملية المقررة عند الجميع
إن العقيدة الدينية هي من المسائل العملية الملحة التي لا يمكن الانتظار في شأنها وهي : مسائل القضاء ، والعلاقات الشخصية ، والاجتماعية ، وكذلك الأمر في العقيدة الدينية إذا بدأنا النظر إليها عمليا من حادثة الموت وهو حادث متيقن .
وكما يقول باسكال ت 1662 إن الإنسان إن كان لا يستطيع أن يتأكد من صحة معتقداته –أي نظريا – فإنه ( لا يستطيع الاستسلام للشك ، إن عليه أن يتصرف بحزم في المسائل العملية ، بل حتى في المسائل الحميمة كالخلود الإنساني ) ( فلنذكر الملحد بالموت وبالأبدية : ماذا لديه من القول عنهما : أنه لا يبالي ؟ أليس منتهى الحماقة ونحن نعنى أكبر العناية بصغائر الأمور ألا نثير اهتمامنا بالمسألة الكبرى التي يتوقف عليها النعيم الأبدي أو الشقاء الأبدي ؟ ) … إنه لا بد من الاختيار ، والملحد هنا غبي عمليا لأن اختياره ( استهداف للجهة الأشد خطرا من حيث إنه استهداف للعذاب الأبدي )
والخطأ المنهجي الذي ارتكبه الفكر الإسلامي منذ التحم بالفلسفة اليونانية والهيلينية هو أنه نقل العقيدة من بيئتها العملية إلى بيئة العقل النظري الذي انتحر في خطوته الأخيرة مع فلسفة الشك.
والسؤال هنا : إذا كان الأمر كذلك فكيف كانت بداية المنهج الإسلامي – على يد أستاذه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في طرحه للعقيدة وما بني عليها ؟
نقول : لقد بدأ طرح المسألة عمليا في بداية الرسالة ، وذلك في طرح " الإنذار " يا أيها المدثر قم فأنذر" ( مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل جاء قومه فقال يا قوم إني رأيت الجيش بعيني ، إني أنا النذير العريان . فصدقته طائفة فنجا ونجوا على مهلهم ، وكذبته طائفة فصبحهم الجيش فاجتاحهم ) ( يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار ) وكذلك الأمر في رسالات الأنبياء السابقين ، جميعا من قبل ، وفي قصص الأنبياء عندما ربط القرآن بين إنذارين : أحدهما عن الآخرة ، والآخر عن حادث دنيوي : في حادث الطوفان في قوم نوح ، و حادث الناقة في ثمود قوم صالح وفيما حدث لعاد قوم هود بعد إنذار ، وغيرهم ، ليكون الإنذار الدنيوي نموذجا منهجيا للإنذار الأخروي من حيث استبعاد العقل النظري واستدعاء العقل العملي بحكم الضرورة العملية : وجوهره انتفاء موقف اللاقرار
هذا المنطق العملي تمثل في قول علي رضي الله عنه لمن كان يشاغبه في أمر الآخرة ( إن كان الأمر كما قلتَ تخلصنا جميعا ، وإن كان كما قلتُ هلكتَ ونجوتُ ) وفي قول أبي العلاء المعري ( زعم المنجم والطبيب كليهما لا تحشر الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما )
وهو المنطق العملي الذي تمثل في أقوال كثيرين من أهل السنة والمعتزلة لا يتسع المقام لسردها وإن لم يلتفت إليها علم الكلام كثيرا ، لغلبة منطق العقل النظري ، الذي استورد من الفلسفة اليونانية لسوء الحظ
ولا يعني هذا الإنذار إسقاط دافع التبشير ، ولكنه يعني أن التبشير يمكن التخلص منه ببساطة : إذ يقول لك المبشر – بتشديد الشين وفتحها - إليك عني لا أريد جنتك ، بخلاف الإنذار إذ لا يملك المنذر – بفتح الذال - أن يقول : إليك عني لا أريد جهنمك
ولا يعني الإنذار أيضا أنه يفتقر إلى " اليقين " إذ هو يملك يقينا عمليا هو يقين النجاة ، مختلفا عن يقين العقل النظري التائه الذي ما إن يصل إلى يقينه حتى ينقلب على نفسه .
ولا يعني الإنذار استبعاد وسائل اليقين الأخرى ولكنها تأتي مشروطة به ، وتأتي تالية له : نفسيا وخلقيا وفكريا وعقليا وقلبيا و علميا إلخ(/3)
كذلك لا يعني الإنذار أن يتم التسليم له تلقائيا بدون شروط ، ولكنه يعني أن تكون شروطه من بيئتة أي بيئة العقل العملي ، وإلا انتكست القضية مرة أخرى ، وأهمها أربعة : أولها : في طبيعة الإنذار ، بمعنى انه إذا تكاثرت الإنذارات كان للأكبر منها أن يلغي ما تحته ، والإنذار بجهنم هو الأكبر مطلقا . الثاني : في مصدر الإنذار ، بمعنى أنه إذا جاءك الإنذار الكبير من منذر صغير سقط هذا الإنذار مهما يكن أمره لأنه لا يملكه ولو افتراضا ، وهنا يكون المصدر الأكبر هو الله تعالى . الثالث : في مورد الإنذار ، وهو يعني أن يكون الإنذار موجها لمن يستطيع الاستجابة ، وهنا يأتي شرط " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " . الرابع : في حامل الإنذار ، وهو يعني أن يكون حامل الإنذار " مثلا أعلى " في تطبيق محتواه ، وهنا يأتي شخصية الرسول القدوة . بهذا تتم الشروط العملية للتسليم لمصدر الإنذار
هذه التسليمية ترجع بالإنسان إلى الانسجام مع الكون إذ هي الصفة الجوهرية للمخلوقات من أدناها إلى أعلاها .
فهي من ناحية أولى تتلقى الأمر : " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" 82 يس وهي من ناحية أخرى تستجيب بالسجود . ( ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة ) 49 النحل
هذا التسليم يتعامل كونيا مع درجات الوعي المختلفة للمخلوقات ، وهي درجات تتصاعد : من درجة الانقياد المحض ، إلى الإحساس ، النزوع ، الوجدان ، الذاكرة ، الذكاء ، التعلم ، الإرادة ، الهدى ( سل الله الهدى والسداد ، واذكر بالهدى هدايتك الطريق ، واذكر بالسداد تسديدك السهم ) رواه الإمام مسلم في صحيحه
: إنها جميعا ليست إلا درجات لهذا الوعي المتصاعد ، ولكل مخلوق درجة من الوعي تناسب وظيفته كما أرادها الله ، وهو في حدود هذا الوجود الوظيفي يكون طائعا – أو ينبغي أن يكون طائعا ، حتى الكائنات التي تتمتع في مرحلة ما بالاختيار فإنها في اختيارها هذا - كالإنسان - خاضعة للخالق . إن التسليمية إذن طبيعة أولى في المخلوق أولا ، وبالتالي فهي طبيعة أولى في الإنسان : . فإذا لم يختر الإنسان من يسلم وجهه إليه الذي هو الله الخالق بوعي صادق وقع في التسليم لغير الله ، ولكن الإنسان في جميع الأحوال لا ينكر - أو بتعبير أدق لا يمكنه أن ينكر - على الخالق أنه المُسلَم له بحق .
و" الإسلام " يعني أن يكون المسلم مسلما نفسه لله في كل ما يأخذ ويدع ، وما يسكن فيه أو يتحرك ، وما يكبر عليه أو يصغر ، وما يحيا له أو يموت
ومن هنا كان جوهر الشعور الديني هو الخضوع والتسليم ، ولذا عرف جيتة التقوى بأنها التسليم فقال : ( إن في طهارة أرواحنا تجيش رغبة قوية حارة في أن نسلم أنفسنا مختارين طائعين يحدونا الحمد والشكر لموجود غير معلوم أعلى واطهر ، مفسرين لأنفسنا عن هذا الطريق : الأزليًَ الأبديًَ الذي لا اسم له ) اشبنجلر لعبد الرحمن بدوي ص 220 ، مع التحفظ على بعض كلماته .
ثانيا :
هنا نجد دعاة النسبية يسلمون ، لكنهم بدلا من أن يسلموا للأكبر الذي هو " الله " سبحانه وتعالى ، أسلموها للذات إن كانوا من فلاسفة النسبية الذاتية ( الفلسفة الوجودية ) ، أو للزمن إن كانوا من فلاسفة النسبية التطورية أو التاريخية. وهم في ذلك ليسوا إلا ورثة السوفسطائية القديمة اليونانية التي تعرض لها علماؤنا في تراثهم من قبل وأزهقوها نظريا وعمليا … تلقف الإلحاد المعاصر بقايا من فتاتها ورشوا عليها بعض المقبلات العصرية تحت مفهوم النسبية التطورية ، والنسبية التاريخية ، وكلاهما يجتمع في إطار استبدال الزمن بالألوهية
(1) : وهنا يظهر لنا فارق جوهري - آخر - بين الفكر الإسلامي ، والعلماني : بخصوص الزمن ، في نظريات التطور حيث جعلت الزمن العنصر الفاعل في الوجود ، كما تعتمد عليه النظريات المادية قديما وحديثا ، ونظريات التطور الحديثة على وجه الخصوص .( وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر )24 الجاثية . وإنما الزمن في النظرة الإسلامية لا يساوي في عملية الإيجاد اكثر من صفر ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) 83 يس … . إن الأسباب الزمنية غير منكورة ، ولكنها في النظرة الإسلامية مجعولات بإرادة الله المطلقة ، وهي إنما جعلت هذا الجعل لغايات التيسير للإنسان ، والرحمة به ، وتمكينه من التعامل مع مفردات الوجود .
إننا نعني هنا نظريات تقديس التطور بعامة ، وتطور الأنواع بخاصة ، تلك التي نجدها - بعد التأمل - تجعل الوقت هو الفاعل ،وهو الخالق ، وهو الإله .
إن هذه النظرية تقوم على جملة من العناصر ، تعتمد اعتمادا أساسيا على فاعلية الزمن الذي يقدرونه - تجهيلا وإلغازا - بمئات الملايين من السنين ، كأنهم يملكون خزانة الوقت ينفقون منها على الطبيعة ، كيف يشاءون لا لشيء إلا لصرف الأنظار عن عنصر مشيئة الخالق وعنايته .(/4)
عندما قدم لابلاس في عام 1799 نظريته عن تطور النظام الشمسي من السديم ؛ سأله نابليون عن مكان الخالق في هذه النظرية أجاب في خيلاء ( يا صاحب الجلالة لست بحاجة إلى تلك الفرضية ) - أنظر تكوين العقل الحديث لهرمان راندال ج2 ص 145 ؛ - طبعا ولكنه في حاجة إلى الإنفاق- على نظريته - من خزانة الوقت - من جيبه الخاص !! بمليارات السنين مجانا !!
وهكذا جرى الأمر في نظرية التطور عند داروين وتابعيه . صحيح أن داروين كتب في عام 1873 يقول : ( إن استحالة تصور هذا الكون العظيم .. قائما على مجرد المصادفة هي أقوى البراهين على وجود الله ) أنظر عقائد المفكرين في القرن العشرين للعقاد ص 56 ، ولكنه تطور من هذا الموقف الذي صرح به في كتابه " أصل الأنواع " إلي موقف آخر صرح به أيضا بعد ذلك عند ظهور كتابه " أصل الإنسان " عندما أبدى أسفه لاستعمال كلمة "الخلق "مجاراة للرأي العام ، مصرحا بأن الحياة لغز ، وأنه لا مكان فيه للعناية الإلهية – أنظر تاريخ الفلسفة الحديثة ليوسف كرم ص 341 .
وفي رأينا أنه بمقدار ما سيطرت هذه النظرية على الفكر الحديث بما فيها من تأليه للوقت في شأن الوجود والقيم والمعرفة ذاتها ….بمقدار ما فيها من تهافت وتداع …إذ مبلغ العلم فيها - مع كل ما فيها مما يسمى أدلة من علم التشريح المقارن ، وعلم التقسيم ، وعلم الحفريات ، وعلم الأجنة الخ - لا يعني أكثر من الكشف عما بين الأنواع من الترتيب والمشابهة …
والترتيب والمشابهة بين الأنواع لا يعني بالضرورة خروج النوع من سابقه - كما هي أصل الدعوى في النظرية - إلا كما يعني وجود مجموعة مرتبة متشابهة من أطباق المائدة أنه قد خرج بعضها من بعض عن طريق التطور في وعاء من الوقت موهوم .
وبالرغم مما هو موجه للنظرية من نقد صارم في الأوساط العلمية والدينية معا فإنها أصبحت بانطباقها مع شهوة الإلحاد في العصر الحديث - سواء أراده دارون شخصيا أولم يرده - سلاحا في يد الدهرية العصرية ، وإعلاء شأن الزمن إلي مستوي مطاردة الاعتقاد بوجود الله ، بينما هو في حقيقة الأمر - وفي صلب العقيدة الإسلامية - محض تدبير من تدبير الله ، ونعمة من نعمه سبحانه وتعالى
إن تأليه الزمن في هذه النظرية وأشباهها لا يتم تحت دوافع علمية أو عقلانية بقدر ما أنه يتم بدوافع كراهية محضة للاعتقاد بوجود إله مريد عليم رقيب حسيب .
يقول الدكتور يوسف عز الدين عيسى : (لا يمكن أن نتصور بأي حال من الأحوال أن جهازا دقيقا معقدا أشد التعقيد ، متناسقا أشد التناسق - كالمخ مثلا قد تكون من تلقاء نفسه نتيجة المصادفة العمياء .. ) ثم يقول : ( إن تشابه الحيوانات في الإطار الأساسي لتكوينها يدل على وجود أسلوب واحد للخلق يبدعه خالق واحد ..تماما كما يقرأ الإنسان بعض صفحات من كتاب أحد مشاهير الكتاب فيستدل عليه من أسلوبه ) مجلة عالم الفكر العدد الرابع من المجلد الثالث . ويقول الأستاذ وحيد خان ( إن كشوف المستقبل - عن التطور - إنما تتعلق بأسلوب الله في الخلق ولا تفسر لنا ماهية الخالق )
إنه الله الذي لا إله إلا هو الغني الذي لا يحتاج في الخلق إلى زمن ولا إلى مادة ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) 82 يس ، وإنما كان خلقه للسماوات والأرض في ستة أيام لكي يضعها في إطار الأسباب والمسببات ، لحاجتنا نحن إلى هذا الإطار في التعامل مع هذا الكون: رحمة بنا وعناية .
(2) : كذلك يظهر لنا فارق جوهري - آخر - بين الفكر الإسلامي ، والعلماني : بخصوص الزمن ، فيما يسمي عصريا بالنظرة التاريخية ؛ وبعبارة أوضح " النظرة النسبية للواقعة التاريخية " ، والمقصود بها عندهم أن الواقعة التاريخية تنسب إلى الزمن الذي وقعت فيه - لا بالمعنى الزمني البحت - ولكن بمعنى أن حكمها ومغزاها وشرعيتها ودلالتها التوجيهية والتقييمية تنحصر فيها ، ولا تتعداها إلى الوقائع المماثلة في أوقات أخرى أو أماكن أخرى
يقول الدكتور عزيز العظمة : ( كان القرن التاسع عشر هو الوقت الذي خضع فيه الفكر الديني نفسه { !! } إلى منطق إنساني أخضع النص { يقصد النص الديني } لطبائع التاريخ والمجتمع ) ، ويقول : ( إن العلمانية تتمثل في نفي الأسباب الخارجة على الظواهر الطبيعية والتاريخية ) !! ومن الواضح أن الأسباب الخارجة هي الوحي ، ويقول : ( إن النص ليس هو الذي يفرض المعاني على التاريخ … وهو - أي النص - هو المذعن للتاريخ في واقع الأمر ) كتابه " العلمانية من منظور مختلف ص 33- 38 ، وهذه هي خطورة النظرة النسبية في ثوبها التاريخي(/5)
وبناء على هذه النظرة النسبية التاريخية العلمانية الانحصارية للوقت يتم خنق ما في الوقت بمجرد انحساره ، ومن هنا يأتي تفسيرهم التحنيطي للشريعة الإسلامية في كل ما جاءت به - ولو اتفق عشوائيا مع بعض احتياجات العصر - عن تحريم الربا ، و حد الزنا ، وحد السرقة ، وشرب الخمر ، وتعدد الزوجات ، ووضع المرأة في الأسرة ، والعبادات في الحج والصوم والصلاة ………والجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومناسك الحج ، وغير ذلك بغير استثناء ، لأن جميع ذلك - من وجهة النظر العلمانية للوقت والتاريخ – مرتبط بالوقت الذي شيع إلى قبره باسم التاريخ .
هم قد جعلوا الوقت قبرا انفراديا لكل عصر من عصور التاريخ تدفن فيه أحداثه ولا تمتد حية بقيمها وتشريعها إلى مستقبل الشعوب .
ومن الغريب أنهم يسمحون لبعض المبادئ أن تظل خالدة على مدي العصور - كمبدأ النسبية نفسه ، ومبدأ التطور ، ومبدأ التقدم - ولكنهم يفعلون ذلك بطريقة انتقائية ذرائعية ، ولا يسمحون بشيء من ذلك إلا بعد أن يفرغوا تماما من إجهاض كل ما هو إسلامي خاص بالإسلام.
وهم يتبعون في ذلك مخططا تبشيريا يدعو إلى تلقين أتباعهم أن ما في الإسلام من أمور صحيحة - كاحترام العقل - ليست جديدة ، وأن ما فيه من أمور جديدة ليس صحيحا ، أو تخطاه الزمن . وهم يتظاهرون باحترام التراث ، لكن بشرط ألا يخرج من تابوته . والغريب أنهم لا يتورعون عن أن يستخرجوا من هذا التابوت ما يمكنهم تزييفه لصالح دعاواهم ، ففي التراث قاعدة أصولية فقهية تقطع عليهم الطريق تقول :( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ) فما بالهم - بشيء من خفة اليد - لا يتلاعبون في ترتيب بعض ألفاظها ثم يطلقونها في خدمة النسبية العندية السوفسطائية التي يروجون لها في أسواقهم ؟ أي لتصبح العبارة ( العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ ) ؟ وتصبح العبارة المفتراة بعد ذلك - وهي في أصلها الصحيح أصل من أصول الشريعة - حربا على الشريعة ونسخا لها بحكم توالي الأزمان وتطور العصور في طريق التقدم !! ..
وهذا يتعارض تعارضا أساسيا مع قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) 3 المائدة ومع قوله تعالى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا )143 البقرة . ومع قوله صلى الله عليه وسلم ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ) رواه البخاري وغيره . ومع كونه صلي الله عليه وسلم خاتم المرسلين ، وكون القرآن مضمون الحفظ على مر الأيام .
وهذا هو الذي جعل علماء الأصول يستخلصون الأصل الصحيح ( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ) . مستشهدين - أيضا - بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه مر على شاة ميتة فقال : هلا أخذتم إهابها فدبغتموه ، فانتفعتم به ؟ فقالوا : إنها ميتة ، فقال : إنما حرم لحمها ، وفي رواية أنه قال أيما إهاب دبغ فقد طهر ) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد . فكان الحكم حيا عاما ممتدا إلى يوم القيامة ، وإن كان قد ورد في حادثة خاصة ، والنسبيون المعاصرون أشبه بمن يربط فلسفته بجثة تلك الشاة لا يتعداها !!
ولم يكن غريبا أن نرى دعاة النسبية التاريخية ما يزالون يقبعون في قبر هذه الشاة ، ففي كتاب باللغة الانجليزية تقل صفحاته عن المائة والعشرين – أنظر مقال الأستاذ الدكتورعزام التميمي مدير معهد الفكر الإسلامي السياسي بلندن ، في جريدة الشعب الألكترونية بتاريخ 19\7\ 2003 - قدم المؤلفان البارونة كارولاين كوكس وزميلها جون ماركس تشخيصاً للحالة الاسلامية المعاصرة مشفوعاً بوصفة شافية وافية لمن يتمنون غياب الإسلام والمسلمين تماماً من الساحات الأوروبية. عنوان الكتاب " الإسلام والإسلاموية: هل ينسجم الإسلام الأيديولوجي مع الديمقراطية الليبرالية ؟ " والمؤلفة تقرع نواقيس الخطر علي مسامع صناع القرار في بريطانيا ـ بأن المسلمين الذين يصرون علي أن القرآن غير قابل للتبديل والتحريف ويتمسكون بالشريعة الإسلامية ـ التي تري أنها تتناقض بشكل سافر مع منهج الحياة الليبرالي ـ ينبغي ألا تتاح لهم الفرصة للعيش في بريطانيا
من المفارقات العجيبة – كما يقول الأستاذ عزام التميمي - أن صدور الكتاب تزامن مع صدور كتاب آخر حول سيرة حياة كبير أساقفة كانتربري (رأس الكنيسة الأنجليكانية)، نقل عنه فيه التصريح بأن النصاري غيروا كثيراً في دينهم عبر التاريخ ، فالجحيم الأخروي لم يعد ناراً تحرق وإنما هو نوع من الألم النفسي ، والربا لم يعد محرماً، والطلاق لم يعد ممنوعاً، ولذا فما المانع في أن يصبح اللواط مباحاً هو الآخر؟ . ومن عجائب الصدف أنه بعد صدور الكتاب بأيام تفجرت داخل الكنيسة الأنجليكانية أزمة لم تنته تداعياتها بعد بسبب تعيين أحد القساوسة كبيراً للأساقفة في كنيسة مدينة ريدينغ بالرغم من تصريحه بأنه لواطي.(/6)
وهكذا - وفي ظلام إنكار حقائق الأشياء - تمسي النسبية التاريخية دعوة صريحة إلى التحريف ، وتصبح الكنيسة هي القدوة ، وبدلا من أن يكون دين الصدق فضيلة ، ودعوة شريفة يصبح – في عصر انقلاب المنكر معروفا والمعروف منكرا – تهديدا لأتباعه بالطرد من لندن أولا ثم من يثرب أخيرا ، وهو هدية ثمينة لمن لا يزالون يتساءلون : أي إسلام نريد ؟ إذ يقدم لهم نوعا جديدا منه يمكن تسميته " الإسلام الإنجيليكاني " ! ولبعضهم أن يفرحوا به إذ يرضي عنهم مهبط الوحي الجديد لهم : البارونة الشهيرة كوكس ، وعنوانها لمن يرغب : مجلس اللوردات البريطاني ، لندن .
إن المسلم يظل صامدا أمام هذه الدعاوى التي انفضحت في مرصد التحريف ، لأنه إنما يتلقى الشريعة من باب العقيدة في الله ، وفي الوحي ، وفي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعموم رسالته وخاتميتها ، وكل ما جاء فيها جملة وتفصيلا . وهو بذلك يتلقى هذه الشريعة باعتبارها المنهج الذي يريده الله للإنسان ، لا المنهج الذي يريده الإنسان لنفسه ؛ المنهج الذي يريده الله للإنسان ما بقي القرآن والوحي عموما ، وما بقي الإنسان إنسانا على وجه هذه الأرض . وهو باق رغم أنف البارونة كوكس ، ورغم أنف شنشنات نظريات التطور التي تعرضنا لها أعلاه. يقول الأستاذ عبد القادر عودة ( لم تولد الشريعة طفلة مع الجماعة الإسلامية ، ثم سايرت تطورها ، ونمت بنموها ، وإنما ولدت شابة مكتملة ، ونزلت من عند الله شريعة كاملة شاملة جامعة مانعة ، لا ترى فيها عوجا ، ولا تشهد فيها نقصا … وقد جاءت الشريعة كاملة ، لا نقص فيها ، جامعة تحكم كل حالة ، مانعة لا تخرج عن حكمها حالة ) أنظر التشريع الجنائي ج 1 ص 15-16
إنه - أي المسلم - لا مفر له من أن ينظر إلى الشريعة باعتبارها خطة الصانع في تشغيل المصنوع ، وأن أي خروج على هذه الخطة - في أي وقت - يعني تدمير المصنوع ، كما يعني الخروج به عن أهدافه التي من أجلها صنعه الصانع .
إنه – أي المسلم ولا نعني غيره – ينظر إلى أية شريعة أخرى وقتية باعتبارها تدخلا جاهلا ممن لا يعلم . متطفلا ممن لا يملك . قهريا ممن لا يحكم نفسه . تحريفيا ممن ينظَِرون للكذب ، وثنيا ممن ينصبون لأنفسهم أربابا من دون الله .
إن الاتجاه الإسلامي هذا يعني أن الإنسانية كلها ملزمة بالشرائع والمبادئ والأحكام ، التي تقررت في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم . وأن هذه المبادئ والشرائع والأحكام لم تكن تحدث عرضا لفترة من فترات التاريخ الإنساني ، وإنما كانت تحدث كمنطقة كمال واستقطاب وإلزام ، وكمقياس يقاس عليه غيرها من عصور التاريخ ، ولتوظيفها في قيادة تاريخ الإنسانية .
وعلى هذا الأساس نرى كثيرا من مشاكل الفكر الإسلامي رؤية إسلامية : نري مشكلة الفلسفة الإسلامية ؛ وأنها لم تكن تطورا تقدميا بالنسبة لعصر سبق ، وإنما كانت ابتداعا يستقيم أولا يستقيم مع عصر القيادة ؛ عصر النبوة .
ونرى مشكلة النسخ في الشريعة ، وأنه - أي النسخ - ليس له دور بعد انتهاء التشريع مع الوحي - كما يريده ملاحدة التشريع الداعين إلى نوع جديد من نسخ أحكام الشريعة باسم المعاصرة والحداثة والنسبية التاريخية …الخ
ونرى المشكلة المصطنعة حول حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بمحاولة عزله عن استمرارية القرآن الكريم ..نرى أنه - أي الحديث - ليس محصورا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم كما يدعي ملاحدة العصر الحديث ، وإنما يصبح له دوره في عصره ، وله منصبه في القيادة والقدوة بعد عصره صلى الله عليه وسلم .
إننا نرى هذا العصر النبوي عصرا قياديا يرتفع فوق النمو التاريخي ليكون هدفا ومثالا لهذا النمو على مر العصور والأزمان .
ثالثا :
وهذا لا يعني إنكار قيمة التاريخ أو الزمن في الفكر الإسلامي ، إننا عندما نتحدث عن قيمة الزمن نعرف أنه من أهم شروط الحضارة في أي نظام . وإنه إذا كانت الحضارة كما يقولون معادلة مركبة من : الإنسان والأرض والزمن ، فإنه من وجهة النظر الإسلامية لابد من وقفة إزاء هذه القضية - قضية الزمن - ليظهر لنا فيها أهميتها في الإسلام ، وليظهر لنا … الفروق الجوهرية بين نظرة الإسلام إلى الزمن ونظرة الحضارة المعاصرة إليه ، لكي نعرف مواقع أقدامنا ، ولكي لا ننزلق إلى مشروع حضاري ليس لنا فيه نصيب ، أو غاية
إن الإسلام وهو يعلي من قيمة الزمن - خلافا لحاضر المسلمين - فإنه يفعل ذلك من باب النعمة الإلهية التي تأتي من صانع الزمن ، والمسئولية الملقاة على عاتق المنعم عليهم . وهو في نفس الوقت يضع هذه النعمة في إطار محدد ، ولا يعطيها قيمة ذاتية لكي تنقلب إلي ضلال عن الله . وهو فوق ذلك يسلبه أية قيمة في موازين القدرة الإلهية .(/7)
إن هذا يعني أن ذاتية الحضارة الإسلامية تختلف اختلافا جذريا عن ذاتيات الحضارة المعاصرة : ومن أهم صور هذا الاختلاف ما هو في النظرة إلى معنى الزمن وإلى معنى الدين ومعنى القيم ومعنى الأخلاق ومعنى الصدق ومعنى الشريعة . إنه اختلاف في نوع الحضارة راجع إلى " روحها " الخاصة على الجانبين ، وهو اختلاف لا يصادر علينا ثوابتنا ..أو قطعية أحكامنا النابعة تحديدا من كلمة الله .
وجماع القول أن النسبية ليست مطلقة ، وأن الوحي يمدنا بعلامات تقربنا من المطلق ، وأن الضرورة العملية هي نقطة الانطلاق ، وأن الزمن من مخلوقات الله ونعمه ، وأن ثوابت الشريعة لا تخضع للنسبية عدا ما يكون من مقررات الثوابت نفسها ، وليذهب النسبيون إلى الكنيسة الإنجليكانية في مدينة ريدينغ ، أو إلى : البارونة كوكس في مجلس اللوردات أي إلى الجحيم .
والله أعلم(/8)
في مواطئ أقدام الحجيج
سامي بن عبد العزيز الماجد 1/12/1426
01/01/2006
ها هي قوافلُ الحجيج ما زالت تفد إلى البيت العتيق، تسعى إليه وتحفِد من كلِّ فجٍّ عميق، قد سال بجموعها البرُ والبحرُ، حتى ضاقت بهم فِجاجُ مكَّةَ، وامتلأتْ بهم جنباتُها.
أتتْ تلك الأفواجُ المتقاطرة يحدوها الحنينُ، تَرِفُّ شوقاً لبيت الله العتيق، يحمل شوقَها جؤارٌ بالتلبية ... (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك)، فتسكُبُه أعينٌ تفيضُ من الدمع عند رؤيته.
إنه بيتُ اللهِ الحرامُ، ملتقى الرسالات ومهبط الوحي، أوَّلُ بيتٍ وُضِعَ للناس، إنَّه البيتُ الأوحد...تتملاّه النواظرُ فلا يزيدُها النظر إلاّ شوقاً إليه ومهابةً وتعظيماً له، فها هم حُجّاجُه لا يقضون منه وَطَراً إلاَّ ويثوبون إليه زماناً بعد زمان، في مشهدٍ عظيم يتكررُ كلَّ عامٍ، ومن لم يَثُبْ إليه فلا يلبثُ أنْ يعاوِدَهُ الشوقُ والحنين إليه، فسبحانَ مَنْ شَرَّفَهُ وأعظَمَ حُرمتَه، وقذف في قلوب عبادِه مهابتَه، وجعله مهوى للأفئدة.
لله ما أعجبَ مشهدَ هذه القوافل المتزاحمة وهي تتقاطرُ من آفاقٍ شتَّى، بأجناسٍ شتى وألسنةٍ مختلفةٍ، تستقصِرُ بُعدَ الشُّقَّةِ، وتستروحُ ما تلاقي في ذلك من مشقَّة.
ويشاء الله بحكمته البالغة أن يكون الحج إلى وادٍ غيرِ ذي زرعٍ لا يصلح مصطافاً ولا متربَّعاً، حتى يكونَ القصدُ خالصاً للبيت العتيق.
أَمَا إنَّها دعوةُ أبينا إبراهيمَ الطيبةُ المباركةُ، (ربنا إني أسكنتُ مِنْ ذُريَّتي بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ عند بيتِك المحرَّمِ ربنا ليُقيموا الصلاة فاجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)، فتستجاب الدعوة، وتقر عين الداعي (وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)، (وأذِّنْ في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍّ عميق).
وما يزال وعدُ الله يتحقق مُنذُ عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله، وما تزال أفئدةٌ من الناس تهوي إلى البيت الحرام، وترفُّ إلى رؤيته والطواف به، الغنيُّ القادر الذي يجد الظهرَ يركبُه، والفقيرُ المعدِمُ الذي لا يَجِدُ إلا قدميه، كلُّهم يُلبّي دعوةَ الله التي أذَّنَ بها إبراهيمُ مُنذُ آلافِ السنين، فلم تعدَمْ لها مجيباً.
إنه لحقيقٌ بكل من ولّى وجهَهُ شطرَ البيت الحرام كل يوم وليلة خمس مرات، حتى أشْرب في قلبه محبَّته، حقيقٌ به أن يستخبرَ خبرَه، ويستقرئَ تاريخَه؛ ويستشعر ما في مواطئ قدميه من الآيات والذكريات، ليتعرَّفَ وجوه الحكمةِ فيما يحتفُّ به من شعائر ومشاعر، وليستروحَ ما جرى فيه من مواقفَ الصدق والتضحية، ومشاهد الابتلاء والصبر؛ ليستجليَ عِبَرَها، ويقتفي أثرها، ويتروّى من معينها، فإنَّ الجهل بذلك التاريخِ المجيد، والمرور عليه بلا اعتبار، لا يليقُ إلا بمن محَلَ قلبُه من محبَّةِ بلدِ اللهِ الحرام فهو يؤدي طقوساً مجردة وشعائرَ بلا مشاعر.
فما شأن بناءِ هذا البيت، وما أوَّلُ عَهْدِ الناس به وحجِّهم إليه؟!!.
إنَّ لذلك قِصَّةً هي غايةٌ في العبرة والآية، قصة لم يزوِّقْها الخيال، ولم يشبها وهم ولا خالطها كذب،... قصةٌ أصلُها في القرآنِ وتفصيلُها في السنة الصحيحة، ذلك فيما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (جاء إبراهيم بزوجه هاجرَ وابنِها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضَعَهما عند البيت، عند دَوْحةٍ فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكةَ يومئذٍ أحدٌ، وليس بها ماءٌ، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جِراباً فيه تمرٌ، وسقاءً فيه ماء، ثم قَفَى إبراهيمُ منطلِقاً، فتبعتُه أمُّ إسماعيل، فقالت: يا إبراهيمُ! أينَ تذهبُ وتتركُنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنسٌ ولا شيء؟. فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟. قال: نعم. فقالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه، فقال: ربِّ إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غيرِ ذي زرع عند بيتك المحرم...حتى بلغ يشكرون).
إنَّ هذا الصنيعَ من أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ليكاد أن يكون ـ عند أول وهلة ـ ضرباً من المجازفةً وإلقاءً لأهله في المهْلَكَة لولا أنَّ ذلك كان بوحي من الله يقيناً، وليس عن اجتهاد منه في تحقيق التوكل.
ومن الفقه الدقيق للمسألة: أن نفرق بين التسليم لأمر الله إذا جاء صريحاً في واقعة معينة مقتضياً ترك الأسباب تفويضاً بالأمر إلى الآمر، وبين الاجتهاد في تحقيق مفهوم التوكل الشرعي في قضايا كثيرة تتطلب بذل الأسباب.(/1)
وإذنْ فليس في هذا أدنى حجةٍ للمتواكلين الذين يسوغون تفريطهم في الأخذ بالأسباب بدعوى التوكل على الله احتجاجاً بمثل هذه الأحاديث؛ لأن نبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يشأ أن يترك أهلَه في ذلك المكان القفر الممحل، إلا لأن الله أمره بذلك أمراً صريحاً يوجب عليه الامتثال فوراً.
وهذا فهم خاطئ لمعنى التوكل الشرعي لا تسعفه دلالة سياق هذه القصة، ولا غيرها، ولكنه توكل مدخول تُنتجه القراءة الخاطئة والأفهام القاصرة التي تأخذ من النصوص الشرعية بعضاً وتتعامى عن بعض، وحين تأخذ حكماً شرعياً عاماً من واقعة عين خاصةٍ يعدها المحققون استثناءً من القاعدة الشرعية الكلية التي توجب مع التوكل بذلَ الأسباب.
وهذا التوكل الفاسد المدخول قد ردّه الله على أقوامٍ من أهل اليمن كانوا يحجُّون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون. فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى قولَه: (وتزودوا، فإن خير الزاد التقوى).
إنَّ حقيقةَ التوكل لا تتم في صورتها الشرعية الصحيحة حتى يأخذَ المرءُ بالأسباب المذلَّلَةِ له، وليعلم أنه ليس في ذلك منافاةٌ للثقةِ بالله والاعتمادِ عليه مالم يقع في القلب اعتمادٌ عليها وركونٌ إليها.
وأين هؤلاء من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي هي تفسير صحيح لأوامر الله تعالى ونواهيه، فلم يكن توكله صلى الله عليه وسلم على ربه ـ وهو خير المتوكلين وأصدقهم ـ بالذي يُعفيه عن بذل الأسباب: فقد ظاهر بين درعين يوم أُحُد، واستأجر دليلاً هادياً خريتاً مشركاً ليدله طريق الهجرة، وكان يدخر لأهله قوت سنة، وحمل الأزواد في غزواته وحجه وعمرته.
وأُمُّ إسماعيل لم تفهم للتوكل معنى غيرَ هذا، فيقينها بأنَّ اللهَ لا يُضيِّعها، لم يمنعها من الاجتهاد في فعل الأسباب، فقد (جعلتْ تُرضِعُ ابنها، وتشربُ من ذلك الماء، حتى إذا نَفِدَ ما في السِّقاء عَطشتْ وعَطِشَ ابنُها، وجعلتْ تنظر إليه يتلوى، فانطلقت كراهيةَ أن تنظرَ إليه، فوجدت الصفا أقربَ جبلٍ في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلتِ الوادي تنظر هل ترى أحداً، فلم ترَ أحداً، فهبَطَتْ من الصَّفا حتى إذا بلغتِ الوادي رفعتْ طرفَ دِرعِها، ثم سعتْ سعيَ الإنسانِ المجهودِ حتى جاوزتِ الوادي، ثم أتت المروةَ فقامت عليها ونظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس –رضي الله عنهما-: قال صلى الله عليه وسلم: فذلك سعيُ الناسِ بينهما.
فلما أشرفتْ على المروة سمعت صوتاً، فقالت: صَهْ، وما تريد إلا نفسها، ثم تسمَّعتْ فسمعتْ الصوت أيضاً، فقالت: قد أسمعتَ إنْ كان عندك غَواثٌ. فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم، فبحث بعَقِبِهِ، أو قال بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوِّضُه، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدَما تغرِف. يقول صلى الله عليه وسلم: يرحَمُ اللهُ أُمَّ إسماعيل، لو تركتْ زمزمَ، أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزمُ عيناً معيناً).
إنَّ أمَّ إسماعيل التي سعتْ في طلب الماء والغَواث حتى جهدتْ هي نفسُها التي قالت ـ يوم تركها إبراهيمُ عليه السلام طواعيةً لأمر الله ـ : إذن لا يضيعنا الله !!.
قال: (فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها المَلك: لا تخافوا الضيعة؛ فإن ها هنا بيتُ الله يبني هذا الغلامُ وأبوه، وإنَّ الله لا يضيِّعُ أهلَه، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيولُ فتأخذُ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرَّتْ بهم رُفقةٌ من جُرْهُم مقبلين من طريق كَدَاء، فنزلوا في أسفلِ مكة، فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا: إنّ هذا الطائرَ ليدور على ماء، لعهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماءٌ، فأرسلوا رسولين، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا وأمُّ إسماعيل عند الماء. فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزلَ عندَكِ؟ فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم).
إلى أن قال: (.... ثم لبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيلُ يبري نبلاً له تحت دَوحةٍ قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه فصَنَعَا كما يصنَعُ الوالد بالولد والولدُ بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل! إنَّ الله أمرني بأمرٍ. فقال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني. قال: وأعينُك. قال: فإنَّ الله أمرني أن أبنيَ ها هنا بيتاً، وأشار إلى أَكَمَةٍ مرتفعةٍ على ما حولها، قال صلى الله عليه وسلم: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيلُ يأتي بالحجارة وإبراهيمُ يبني، حتى إذا ارتفع البناءُ جاء بهذا الحجرَ ـ يعني حجرَ المَقامِ ـ فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيلُ يُناولُه الحجارةَ، وهما يقولان: ربنا تقبَّلْ منا إنك أنت السميع العليم. قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حولَ البيت، وهما يقولان: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم).ا.هـ الحديث.
ثم شرع الله لنبيه إبراهيمَ الحجَّ، وأمَرَه أن يؤذِّن به في الناس.(/2)
ثم وطِئتْ عَقِبَه أفضلُ ذُرِّيتِه من الرسل والأنبياء، فسارتْ مسيرَه وأحيتْ سنَّته، يتوافدون على البيت يحُجُّونه، حتى خُتموا بأفضلهم وأشرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت مكةُ أطهرَ بقعةٍ يطؤها أطهرُ الخلق، وأصبحتْ مَجْمَعَ الرسلِ، كما التوحيدُ مُلتقى الرسالات.
عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بوادي الأزرق، فقال: (أيُّ وادٍ هذا؟. فقالوا: هذا وادي الأزرق. فقال: كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطاً من الثنيةِ وله جُؤارٌ إلى اللهِ بالتلبية. ثم أتى على ثنية هَرْشَى ـ وهي موضع قريب من الجحفة ـ فقال: أيُّ ثَنيِّةٍ هذه؟. قالوا: ثنيَّةُ هَرْشَى. قال: كأني أنظرُ إلى يونسَ بنِ مَتَّى عليه السلام على ناقةٍ حمراءَ جَعْدَةٍ ـ أي مكتنزةُ اللحم ـ عليه جُبَّةٌ من صوفٍ، خِطامُ ناقتِه خُلْبَةٌ ـ يعني من ليف ـ وهو يلبي). أخرجه مسلم
إنه لينبغي لكلِّ حاجٍّ أنْ يستروحَ هذه الذِّكريات العطرة الزاكية، وأنْ يتملاها خيالُه كأنما هي حيَّةٌ أمامه، يكاد يلمحُها كلّما تقلبَ بين المشاعر، وأفاض من مشعر إلى مشعر، وأن ينتحي بعيداً عن لغط الحجيج وجدالهم وفسوقهم إلى مناجاة ربه، والانطراح بين يديه والإلحاح في الدعاء؛ فذلك أدنى وأدعى أنْ تتغشاه السكينةِ، والوقار، والتخشُّع، والإخبات إلى الله، والصبر في المسير إليه.
فها هي مشاعر مكة وبطحاؤها شاهدة بالعبر والآيات، مليئة بقصص البطولات والتضحيات من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم والرسل من قبله، فليستذكرها الحاج وليستشعرها، عسى أن تهيجه إلى تحري الاقتداء بالحبيب صلى الله عليه وسلم في كل مقام وفي كل موطن، فلا جرم أن الذي يحقق هذا التدبرَ والتأملَ، ويتحرَّى الاقتداءَ في كل موطن، لن يجدَ في وقته متّسعاً للرفثِ والفسوقِ والجدال.
وإني لأدعو الحاج حين يفتر لسانه عن الذكر أو التلبية أو تلاوة القرآن، أن يجعل استرواحه في تقليب النظر في معين السيرة العطرة المطهرة، وبخاصة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم كان مقيماً بين ظهراني مشركي مكة، ويوم أتى بجحافل الإسلام تزف شوقاً إلى مكة مرةً فاتحين، ومرةً حاجين.
على أنَّ شعائر الحج ـ وإن أتى بها الحاج ـ سَتَظَلُّ طقوساً مجرَّدةً لا تُفيضُ على الوجدان بشيء، ولا تَصِلُ إلى سُلوكِ الجوارحِ برابطةٍ مالم يأتِ الحاجُّ بمقاصدها، ويحقِّقْ معانيها، ويستشعرْ حِكَمَها.
شعائرُ الحج ومشاعره رموزٌ وإشاراتٌ تُوحي بمعانٍ عظيمة وتُفضي إلى مقاصدَ كبرى، يجلوها الخشوعُ والتذللُ والتدبُّر وتعظيمُ شعائرِ الله وحرماتِه. (ذلك ومن يعظِّم حرمات الله فهو خير له عند ربِّه)، (ذلك ومن يعظِّم شعائرَ الله فإنَّها من تقوى القلوب)،وما يريد اللهُ من حجاج بيته بهذه الشعائر إلا تقواه سبحانه: (لن ينالَ الله لحومُها ولا دماؤها ولكن ينالُه التقوى منكم).
فالقصد القصد ـ أيها الحاج ـ والسكينة السكينة، واعرف الغاية وأنت تؤدي الوسيلة، وحقق المقصد وأنت تتقلد العبادة.
والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .(/3)
في نقابة الصحفيين قالوا عن أنور الجندي
مراسل القاهرة
تلامذة أنورالجندي في حفل تأبينه بنقابة الصحفيين المصرية = مؤلفاته تجعل منه اكبر كاتب اسلامي في القرون الثلاثة الأخيرة
= كان عملاقا في الفكر متواضعا في السلوك زاهدا في زخارف الحياة
= نبه للخطر الصهيوني واعتبر الحل الاسلامي هو طريق النهضة
________________
نظمت نقابة الصحفيين المصرية مساء الأربعاء الماضي حفلاً لتأبين المفكر الإسلامي الكبير / أنور الجندي الذي وافته المنية وهو راقد علي هيئة الصلاة في مستشفي الجيزة الدولي مساء الاثنين 14/11/1422هـ الموافق 28 من يناير عام 2002م عن عمر يناهز الخامسة والثمانين عاماً بعد رحلةعطاء وجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله والرد علي المستشرقين والمستغربين الذين يحاولون النيل من الإسلام . ودفن – يرحمه الله – في مدافن العائلة عند الكيلو 45 طريق مصر – الفيوم الصحراوي.
وقد شارك في حفل التأبين عدد من تلامذة الأستاذ / أنور الجندي الذين تربوا علي قلمه الإسلامي الذي لا يعرف في الحق لومة لائم ، والذين طالبوا بتأسيس مكتبة إسلامية باسمه تجمع مؤلفاته وكتبه وتحفيظها للأجيال القادمة، كما طالبوا بتأسيس جمعية بأسم محبي أنور الجندي من تلامذته ومريديه.
وفي كلمته اكد الدكتور / عبد الحليم عويس أستاذ التاريخ الإسلامي أن الله عز وجل أكرم الأمة الإسلامية بمولد ثلاثة من الأعلام الإسلاميين عام 1917 وهو نفس العام الذي صدر فيه وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود ، وهم الأستاذ المرحوم أنور الجندي والشيخ محمد الغزالي والأستاذ محمد عبد الله السمان وبقي علي قيد الحياة الأستاذ / محمد السمان .
وأشار د/ عويس بان كل واحد من هؤلاء الثلاثة كان أمة وحده .
وأوضح أن أنور الجندي عاش في أحلك الفترات التي واجهت الأمة ، ووجد نفسه غريبا مثل بديع الزمان النورسي في تركيا ، وعبد الحميد بن باديس في الجزائر ، حيث واجه الغارة الشعواء التي شنها المستشرقون والمستغربون علي الإسلام في جميع المجالات ، فلم يكن أنور الجندي في دفاعه عن الإسلام أديباً أومؤرخاً أو فيلسوفاً أو فقيها - بالمعني الضيق - بل كان كل ذلك ، كان شمولياً وموسوعياً .
وأشار د/ عبد الحليم عويس إلي أن الاستاذ / أنور الجندي -مثله مثل سيد قطب والغزالي وهيكل والعقاد - قد تحول فكرياً للدفاع عن الإسلام عندما أبصر حقيقة هذا الدين .. فسيد قطب بدأ أديباً ثم أصبح قائداً من قيادات الحركة الإسلامية ، ود/ هيكل كان مجرد أديبا ، وعندما أبصر الحق أمتعنا بمؤلفاته الإسلامية ، والعقاد كان أديباً أيضاً ثم عندما أبصر الحق آمن بالإسلام عقيدة وفكراً ورؤية ، وهكذا كان أنور الجندي فارساً في مدرسة إسلامية كانت مهمتها أن تواجه تلك الحملة الشرسة التي شنها المستغربون من أبناء بلدتنا علي الإسلام من أمثال محمد أحمد خلف الله الذي وصف القصص القرآني بأنه ملفق - تعالي الله عما يقولون علوا كبيرا - وأمثال طه حسين الذي ألف كتابه ( في الشعر الجاهلي ) مشككاً في القصص القرآني أيضاً .
فوجئ (الجندي) بأن اليهود يقيمون دولة للتوراه في فلسطين في فترة الثلاثينيات ، وفي مصر يقوم عدد من أبنائها المستغربين بخيانة الإسلام في جامعة القاهرة من أمثال طه حسين ومحمد خلف الله .
وأضاف د/ عويس بأن الأستاذ الجندي مثل موسوعة فكرية ولكنه رحل ولم يبق من العلماء الموسوعيين إلا الدكتور محمد رجب البيومي – رئيس تحرير مجلة الأزهر .
وأشار عويس إلي أن وجود مؤلفات وأراء وكتابات للأستاذ أنور الجندي تخالف ما عهدناه عنه هي من نتاج بواكير حياته الفكرية ، فكل إنسان يرى حضارة متقدمة ينبهر بها ثم يعود الي هويته مرة أخري عندما يبصر الحق .
وقد كتب الكثير من المفكرين المسلمين المخلصين يمتدحون أشتراكية الإسلام ولكن سرعان ما غيروا آرائهم وأعلنوا أن الإسلام مستقل بذاته ، ولا يحتاج إلي تدعيم من الخارج .
وحول قضية الهجوم الشديد للأستاذ الجندي علي طه حسين بسبب كتابه ( في الشعر الجاهلي ) يؤكد الدكتور / عبد الحليم عويس بأن بعض الباحثين يظنون أن ( الجندي ) بالغ فيها . ولكنه أشار إلي أن هناك مفكراً مصرياً يعمل أستاذاً في الجامعة الأمريكية بالقاهرة وهو الدكتور / جلال أحمد أمين – ابن الأستاذ أحمد أمين – والذي لم يعلن أنه يدافع عن الإسلام بل قال إنه يدافع عن الحق ، وذلك من خلال كتابين صغيرين له هما : كتاب (العولمة) وكتاب (التنوير الزائف) حيث سخر من هجوم المستغربين والعلمانيين علي الإسلام بزعم أنه يعادي العلم ، فرد علي هؤلاء قائلاً لهم إن الهندوك يعبدون البقر في الهند ، وفي نفس الوقت يصنعون الطائرات والصواريخ والذرة ، ولم نسمع أن هندياً قال إن عبادة البقر ضد العلم .. !! بينما الدين الإسلامي هو دين العلم وبدأ نزول القرآن بـ (اقرأ) فالتنوير أكذوبة تهدف إلي النيل من الإسلام .(/1)
وأشار د/ عويس بأن د/ جلال أمين تناول قضية طه حسين من خلال مقارنة بينه وبين رجل آخر معاصر له ، وهو محمد أحمد الغمراوي الذي درس في جامعات أوروبا في وقت ظهور طه حسين علي الساحة الفكرية . ولكن الغمراوي تعامل بولاء مع الإسلام بينما كان طه حسين أنهزامياً .
وأكد عويس بأن طه حسين تاب في آخر أيامه ولكنه كان عاجزاً عن إعلان توبته ، والتنكر لكل ما كتبه حيث منعه أناس من خارج بيته ومن داخله - يعني زوجته - واستدل د/ عويس علي توبة ( طه حسين ) بعدة أدلة منها ماذكرته مجلة (العربي) الكويتية في تحقيق لها عن ( حج طه حسين ) وذكرت أنه بكي وقبل الحجر الأسود لمدة ربع الساعة فمنع الناس من الطواف وذكر من شهد هذا الموقف أن طه حسين كان يردد عبارات التوبة بأنه أخطأ في حق دينه ، وكان طه حسين يقوم بتقبيل تراب مكة وهو في طريقه إلي الحج .
وأضاف (عويس) بأن العلمانيين يتعمدون إخفاء هذه الصفحة من حياة طه حسين .
وذكر د/ عبد الحليم عويس واقعة أخري تؤكد توبة طه حسين وهذه الواقعة يشهد عليها اثنان من تلامذة طه حسين علي قيد الحياة الآن وهما : د/ محمد عبد المنعم خفاجي (85 سنة ) والدكتور / علي علي صبح عميد كلية اللغة العربية بالأزهر بالقاهرة حيث ذكر أنهما ذهبا إلي ( طه حسين ) وهو محمول علي الأيدي بعد جلسة مجمع اللغة العربية في آواخر حياته وقالا له : بحق الله : أكتبت (في الشعر الجاهلي) عن علم أم كتبته للدنيا والشهرة ؟! فأجاب طه حسين : ( بل كتبته للدنيا والشهرة ) ..!!
واستحلفهما أن يكتبا هذه الشهادة ، ويوقعا عليها ليظهرا توبة طه حسين للعالمين . فطه حسين أساء وأخطأ ولكنه تاب ورجع.
ووصف د/ عبد الحليم عويس الأستاذ أنور الجندي بأنه كان كتلة ثقافية ، تدل الباحث علي المصادر والينابيع في كل المجالات : الأدب – الفلسفة – التاريخ – الاجتماع ..
وأضاف بأن (الجندي) كان يكرر بعض الأشياء في مؤلفاته بهدف لفت النظر إليها لأهميتها ، ولوضع أرضية قوية للباحث والقارئ يستطيع أن يستهدفها .
وحول حماسة الشديد في الدفاع عن الإسلام ، أكد عويس بأن الاستاذ أنورالجندي كان يحرص علي حضور جميع المؤتمرات الإسلامية في المشرق والمغرب ليعلي كلمة الحق في الجزائر وأندونيسيا وفي المغرب وفي ماليزيا.
وحول حجم ما كتب من مؤلفات ، يؤكد عويس أنها أكثر من
(300) كتاب تجعل أنور الجندي أكبر الكتاب المسلمين خلال القرون الثلاثة الأخيرة ، من حيث حجم الإنتاج الفكري . ووصف عويس الأستاذ أنور الجندي بأنه ( ابن حزم الثاني ) .
وحول تواضعه يذكر الدكتور عويس أن (الجندي) رفض أن يعمل مستشاراً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لأنه لا يرغب في المناصب بل في خدمة الدين الإسلامي .
فقيد الحركة الاسلامية :
أما الشيخ حسن عاشور – الناشر الاسلامي المعروف ووثيق الصلة بالفقيد - فيؤكد أن أنور الجندي حتي أيامه الأخيرة كان رائداً للصحافة الإسلامية ، وظل أكثر من ستين عاماً يسخر قلمه لخدمة دعوته وصيانة عقيدته وتصدي لتجار الشعارات من المستغربين ، فأصدر أكثر من مائتي كتاب ، بعضها يؤرخ للحركة الإسلامية ، وبعضها يتصدي للمفاهيم الخاطئة ، ويرد عليها ، وبعضها الآخر يواجه به المستشرقين الحاقدين .
وأضاف الشيخ / حسن عاشور بأن أنور الجندي له أيضاً أكثر من ثمانين بحثاً القاها بنفسه في المؤتمرات الدولية . فكان يدعو إلي أسلمة العلوم والمناهج والقوانين .
واعتبر عاشور أ/ أنور الجندي فقيد الحركة الإسلامية بحق ، وقد كانت أكثر فترات حياته ثراءً هي فترة أعتقاله في الطور بالواحات .
وعاتب الشيخ حسن عاشور الصحافة القومية في مصر التي تجاهلت الفقيد بعد رحيله ؛ برغم رحلة عطائه الطويلة ، مؤكداً أن قيادات الحركة الإسلامية من مختلف بلدان العالم كانت تطلب مقابلة أنور الجندي بالأسم عندما كانوايقومون بزيارة مصر .
شهادة كريمته الوحيدة :
أما كريمته وابنته الوحيدة الأستاذة / فايزة أنور الجندي فقد أكدت أن والدها كان يصاب بالغيبوبة دائماً أثناء مرضه ولا يوقظه إلا الأذان حيث يتوضأ ويصلي .
وأضافت بان العاملين في مستشفي الجيزة الدولي أكدوا أنهم سمعوا الاستاذ / أنور الجندي يردد قبل صعود روحه : السلام عليك يا رسول .. أنا أنور الجندي افتح لي أنا قادم إليك من أعماق الصعيد ، ثم نام علي جنبه الأيمن ، واضعاً يده اليمني علي اليسري كهيئة الصلاة ، وأكد الطبيب المعالج أنه توفي وهو يصلي ، ولم يعلموا بالوفاة إلا بعد توقف جهاز القلب .(/2)
وأضافت كريمته الأستاذة فايزة أنور الجندي أن مواعيد طعام والدها هي مواعيد الصلاة ، وكان يصلي صلاة التهجد يومياً حتي الفجر ، وكان حريصاً على الوضوء دائماً ، وكان يردد الحديث النبوي الشريف ( الوضوء سلاح المؤمن ) وكان أنور الجندي يعتكف يوم الجمعة في المسجد من الصباح وحتي الصلاة وكان له مسجد صغير المساحة محبب لنفسه هو مسجد التوحيد . وأشارت إلي أنه عاش بيد واحدة والأخري عاجزة وجميع أفراد أسرته الصغيرة لم تعرف ذلك الا بعد سنوات . وكان لا يخاصم أحداً بصفة شخصية ، بل كان الخلاف خلافاً فكرياً.
وأكدت أن والدها ترك مكتبة عظيمة ومؤلفات بلغت 350 كتاباً و10 موسوعات بينما ذكرت المنظمة الإسلامية للعلوم والثقافة أنها 5 موسوعات فقط0
عملاق الفكر متواضع في الحياة :
أما الأستاذ / محمود مهدي – رئيس لجنة الإعلام بالمجلس الأعلي للشؤون الإسلامية ، والكاتب الصحفي بجريدة الأهرام – فيؤكد أن علاقته بالأستاذ / أنور الجندي بدأت في مطلع الستينيات في منزل المجاهد (أحمد حسين) رئيس حزب مصر الفتاة حيث كان (لجندي) من تلامذته.
وأضاف بأن أنور الجندي كان موسوعة فكرية متحركة في السياسة والتاريخ والصحافة والفقه وبرغم ذلك كان آية في التواضع .
وأشار إلي أنه تعرف علي (الجندي) عن قرب في الداخل والخارج ، فكان عملاقاً في مؤتمرات فكرية كثيرة في طول الدنيا وعرضها . والتقي به في الجزائر مع د/ عبد الحليم عويس فكان شعلة في النشاط .
كما رافقه في المؤتمر الأول للإعلام الإسلامي في أندونيسيا وطالب الأستاذ / محمود مهدي طلاب الدراسات العليا بأن يجعلوا مؤلفات الجندي مادة لرسائل الماجستير والدكتوراه
وأكد أن المجلس الأعلي للشئون الإسلامية بالقاهرة قام بترشيح الأستاذ أنور الجندي لنيل جائزة الدولة التقديرية أو لنيل جائزة الملك فيصل العالمية ، ولكنه كان يرفض أن يحصل علي أي جائزة من شدة تواضعه .
وأوضح الأستاذ / عبد المنعم سليم جبارة – رئيس تحرير مجلة لواء الإسلام بالقاهرة – أن أنور الجندي ترك من خلال مؤلفاته وكتبه المعالم والمفاهيم الصحيحة في زمن اختلطت فيه المفاهيم ، وبرزت فيه الحملات المعادية للإسلام ، فكان الجندي قائدا علي ساحة الفكر دفاعاً عن الإسلام.
وأضاف بأن ( أنور الجندي ) رحل بجسده ولكنه باق بعلمه وفكره وتلامذته .
أما الدكتور / عصام العريان – أمين عام نقابة الأطباء المصرية – فيؤكد أنه كان يسكن بالقرب من الأستاذ ( أنور الجندي ) بمنطقة الطالبية بالجيزة ، وفي أول مرة شاهده سأله : هل أنت الأستاذ أنور الجندي ؟ فقال له : نعم ، وتعجب عصام العريان وقتها حيث كان (الجندي) يرتدي رداء بسيطاً من شدة تواضعه .
وأضاف العريان بأن الملايين من أبناء العالم الإسلامي انتفعوا بعلم وفكر ( أنور الجندي ) الذي صحح المفاهيم والأفكار للشباب المسلم في كل مكان وأشار إلي أن (الجندي) عاش في فترة هي من أصعب فترات الأمة ، وانتقل إلي جوار ربه في فترة صعبة نحن أحوج ما نكون إلي من يكمل هذه المسيرة ويبني علي ماأسسه (أنور الجندي) فبعد صحوة إسلامية علي مدي 25 سنة يتعرض الإسلام الآن لحملة ضارية في العالم كله بدعوي محاربة الإرهاب بينما هدفها الحقيقي محاربة الإسلام الذي اعتبرته أمريكا الخطر الجديد الذي يهدد حضارة الغرب المادية.
وأضاف العريان بأن أنور الجندي وقف حياته كلها لكشف زيف ما أنتجته الحضارة الغربية ، وما غرسته من سموم في جسد البشرية ، وما تهدف إليه من إبعاد الأمة عن دينها ، وعن عقيدتها ، فحارب أنور الجندي علي كل الجبهات ، وكان رجلاً موسوعياً ، وهو ما يحتاج إلي كتيبة تكمل هذا الجهد .
أما الأستاذ/ صلاح عبد المقصود – أمين عام مساعد نقابة الصحفيين – فيؤكد أن الشيخ يوسف القرضاوي وصف الأستاذ أنور الجندي بأنه راهب في العلم انكفأ علي مراجعه فأخرج هذه الدرر التي واجه بها المستشرقين والمستغربين .
وأضاف عبد المقصود بأن الشيخ القرضاوي ذكر له أيضاً أن تليفزيون قطر أراد إجراء حوار مع أنور الجندي في منزله فوجدوه لا يصلح للتصوير فالإضاءة والديكور لا تصلح بسبب تواضع منزل الأستاذ أنور الجندي ، وبعد اللقاء قدموا له مظروفاً به مكافاة ، ولكنه رفض وقال لم نتفق علي هذا ..
وأشار صلاح عبد المقصود إلي أن أنور الجندي تحدث عن فلسطين في شهادته علي العصر ( في كتابه : شهادتي علي العصر ) حيث أكد ان الخطر الصهيوني يدعو إلي دولة كبري من النيل إلي الفرات ، ويسعي إلي بناء هيكل سليمان مكان المسجدالأقصي ، وطالب الجندي بمواجهة الخطر الصهيوني واعتبر أن تحرير المسجد الأقصي سيبقي في رقاب المسلمين حتي يوم القيامة .
وذكر صلاح عبد المقصود أن الشباب الذين كلفوا بالتجهيز لإحتفالية تأبين أنور الجندي وجدوا قائمة بمؤلفاته عام 1956 بلغت 28 مؤلفاً ، وكان عمره حينها 39 عاماً.(/3)
وأشار صلاح عبد المقصود إلي أن الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي صرح بأنه لم يعلم بوفاة أنور الجندي إلا بعدها بأيام ، فقد تجاهلته الصحف القومية والقنوات التليفزيونية ، ولو كان لاعب كرة أو فنانا لتحدث الإعلام عنه صباح مساء .
مفاجآت عن أنور الجندي :
أما الأستاذ / محمود سيد أحمد – زوج ابنته فايزة – فقد فجر العديد من المفاجأت عندما ذكر أن الأستاذ أنور الجندي رفض في حياته الحصول علي عدة جوائز كبري ، منها جائزة الملك فيصل العالمية عام 1996 لأنه لا يريد المال بل يريد خدمة الإسلام ، كما رفض رغبة جامعةالرباط بالمغرب بإهدائه الدكتوراه الفخرية علي كتابه ( أعلام المغرب العربي ) ، كما اعتذر كذلك لإحدي الجامعات الهندية التي أرادت اهداءه الدكتوراه الفخرية أعترافاً بفضله علي علماء المسلمين في كل مكان .
وذكر زوج ابنته ان أ / أنور الجندي رفض رغبة جامعة روتردام العربية في هولندا ( وهي جامعة استشراقية ) بإطلاق أسمه علي إحدي القاعات بها ، فرد (الجندي) عليهم : لقد حاول المستشرقون قبل ذلك شراء هذاالقلم فلم يستطيعوا ولن أمكنهم منه اليوم .
كما رفض العمل في جامعات كثيرة بعروض مغرية حتي لا يكون قلمه تابعاً لأحد .
وأضاف الأستاذ / محمود سيد أحمد – زوج ابنته – أن إحدي المجلات الإسلامية كان أ / أنور الجندي يكتب بها كتبت إليه رسالة علي صفحاتها ترجوه أن يرسل إليهم عنوانه ليرسلوا إليه المكافآت الخاصة به ، ولكن أنور الجندي رفض أن يرسل عنوانه للمجلة ، لأنه رفض الدنيا دفاعاً عن عقيدته وأمته.
وأضاف زوج أبنته بان الأستاذ أنور الجندي كان يرفض التوقيع علي جلسات المجلس الأعلي للشؤون الإسلامية حتي لا يأخذ بدل انتقال مقابل ذلك .. فهو لا يريد المال أو الشهرة بل يريد خدمة دينه وعقيدته .
أما الأستاذ / مؤمن الهباء – رئيس التحرير الأسبق لجريدة النور الإسلامية المصرية – فيؤكد ان كتاب أنور الجندي عن طه حسين غير نظرته تماماً لطه حسين مرة واحدة ، برغم أن وسائل الإعلام في الستينيات وأوائل السبعينيات صورت طه حسين علي أنه النموذج الأعلي للفكر والأدب .
وأضاف بأن أنور الجندي أعطاه وأعطي أبناء جيله شحنة من الوعي الذاتي بهويته وبدينه وبمجتمعه .
وأشار إلي أن تعرض لصدمة شديدة عندما رأي أنور الجندي العملاق بعينه، فقد كان متواضعاًويعيش حياة الفقراء برغم قدرته علي أن يعيش في قصر من القصور . ولكنه كان ورعاً وزاهداً في الدنيا.
ويؤكد الدكتور / سليمان الخطيب – أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة المنيا – أن الأستاذ أنور الجندي أفاده كثيراً في رسالتي الماجستير والدكتوراه عن ( فلسفة الحضارة عن مالك بن نبي ) وأضاف بأن قسم الفلسفة الإسلامية بالكلية سيفتح أبوابه لأي طالب دراسات عليا يريد أن يدرس فكر منهج الأستاذ / أنور الجندي .
وتؤكد الدكتورة / الهام محمد شاهين – أستاذة الفلسفة بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر بالقاهرة بنات – أن الأستاذ أنور الجندي ساعدها شخصياً في رسالتها للدكتوراه حول ( العلمانية في مصر وأشهر معاركها ) .
وأضافت بانه كان موسوعة بحق ، حيث كشف مخطط الغرب في المنطقة فلم يكن هدفه استعمار الأرض فقط ، ولكن استعمار الفكر والهوية والثقافة الإسلامية . وحذر الجندي من دعوة المستغربين إلي استخدام اللهجات العامية محل العربية مما يهدد بتمزيق الأمة العربية والإسلامية .
وأضافت بأن أنور الجندي فضح دعوة قاسم أمين إلي تحرير المرأة ، فأوضح أن ذلك لم يكن بهدف المشاركة في التنمية ولكن بهدف تحويل المرأة سلعة رخيصة تبيع جسدها للأخرين . كما حذر الجندي من أن تغييب الشريعة الإسلامية في أرضنا سيجعلنا فريسة سهلة لأعدائنا .
وأضافت د/ الهام أن أنور الجندي فضح مخططات المستغربين لتحديث التعليم حيث أعلن أن ذلك هدفه إفراغ التعليم من المبادئ الإسلامية.
كما قام الجندي بفضح دور الصهيونية في إسقاط الخلافة الإسلامية في تركيا .
وأشارت د/ إلهام إلي أن (الجندي) لم يكن يحذر فقط بل كان يحذر ثم يصف العلاج وهو التمسك بالقرآن والسنة وبالشريعة الإسلامية.
========================
أنور الجندي في سطور
1- ولد أنور الجندي في مدينة ديروط بمحافظة أسيوط بصعيد مصر عام 1917.
2- تخرج من المدرسة التجارية العليا ( كلية التجارة حالياً) عام 1932 ثم درس اللغة الإنجليزية في الجامعة الأمريكية .
3- أول كتاباته كانت عام 1932 في (البلاغ وأبوللو) وكان عمره ( 15 ) عاماً .
4- مؤلفاته : بلغت 350 كتاباً و10 موسوعات ومن اهمها : معلمة الإسلام (50 جزءاً) والمناهج (10 أجزاء) وفي دائرة الضوء (50 جزءاً) وكتاب ( اخرجوا من بلادنا ) ضد الاحتلال الإنجليزي في عام 1946 وهو من (4) أجزاء واعتقل بسببه لمده (14) شهراً .
5- سيرته الذاتية سطرها في كتابه ( شهادتي علي العصر ) وقد نشرته دار المنارة في السعودية .(/4)
6- كان مريضاً بالكلي ( الكلية اليسري) ثم اشتد عليه المرض ودخل مستشفي الجيزة الدولي وتوفي بعد 24 ساعة فقط.
7- توفي يوم الإثنين 14/11/1422هـ الموافق 28/1/2002م ودفن في مقابر الأسرة عند الكيلو 45 بطريق مصر – الفيوم الصحراوي.
8- محطات في حياته :
أ- عام 1940 قرأ كتاب ( وجهة الإسلام ) لمجموعة من المستشرقين ، فكان ذلك سبباً في تغيير حياته الفكرية ليخصصها للدفاع عن الإسلام ، ولم يعرف طريقه ذلكإلي بعد رحلة بحث وجهاد علي مدي ثلاثين عاماً بدأها بالأدب ثم اتجه إلي مواجهة الاستشراق والتغريب.
ب- التقي بالأستاذ حسن البنا عام 1946 وبدأ الكتابة في صحف الإخوان فيوقتها.
جـ- اعتقل عاماً كاملاً قبيل ثورة 1952 .
د- بدأ يكتب في مجلة ( منبر الإسلام ) عام 1963 ليواجه التغريب والاستشراق .
هـ- ذكر (الجندي) في كتابه (شهادتي علي العصر) : أنه قرأ 2 مليون بطاقة بدار الكتب وراجع فهارس المجلات الكبري كالهلال والمقتطف والمشرق والمنار والرسالة والثقافة والأهرام علي مدي عشرين عاماً وبقية الصحف والمجلات والدوريات خلال هذا القرن .(/5)
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حر المصيبة وحزنها
***
يقول ابن القيم - رحمه الله - في كتابه زاد المعاد
***
قال تعالى : { وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } . وفي ( المسند ) عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من أَحَدٍ تصيبُه مصِيبَةٌ فيقولُ : إنَّا لله وإنَّا إليه رَاجِعُونَ ، اللهم أجرنِي في مُصيبَتى وأخلفْ لي خيراً منهَا ، إلا أجاَرَه الله في مصِيبَتِهِ ، وأخلفَ لهُ خَيراً منها ) .
وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب ، وأنفعه له في عاجلته وآجلته ، فأنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته .
أحدهما : أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة ، وقد جعله عند العبد عارية ، فإذا أخذه منه ، فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير ، وأيضا فإنه محفوف بِعَدَمينِ : عدم قبله ، وعدم بعده ، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير ، وأيضا فإنه ليس الذي أوجده من عدمه، حتى يكون ملكه حقيقةً، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده ، ولا يبقى عليه وجوده ، فليس له فيه تأثير ، ولا ملك حقيقي ، وأيضا فإنه متصرف فيه بالأمر تصرف العبد المأمور المنهي ، لا تصرف الملاك ، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي .
والثاني : أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره ، ويجيء ربه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولاعشيرة ، ولكن بالحسنات والسيئات ، فإذا كانت هذه بداية العبد وما خُوِّله ونهايته ، فكيف يفرح بموجود ، أو يأسى على مفقود ، ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء ، ومن علاجه أن يعلم علم اليقين أنَّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه . قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ في الأَرْضِ وَلاَ في أَنْفُسِكُمْ إلاَّ في كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } .
ومن علاجه أن ينظر إلى ما أُصيبَ به ، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله ، أو أفضل منه ، وادَّخر له إن صبرَ ورضِىَ ما هو أعظمُ من فوات تِلك المصيبةِ بأضعافٍ مُضاعفة ، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي .
ومن عِلاجه أن يُطفئَ نارَ مصيبته ببرد التأسِّى بأهل المصائب ، وليعلم أنه في كل وادٍ بنو سعد ، ولينظر يَمْنةً ، فهل يرى إلا مِحنةً ؟ ثم ليعطف يَسْرةً ، فهل يرى إلا حسرةً ؟ ، وأنه لو فتَّش العالَم لم ير فيهم إلا مبتلىً ، إما بفوات محبوب ، أو حصول مكروه ، وأنَّ شرورَ الدنيا أحلامُ نوم أو كظلٍّ زائلٍ ، إن أضحكتْ قليلاً ، أبكتْ كثيراً ، وإن سَرَّتْ يوماً ، ساءتْ دهراً ، وإن مَتَّعتْ قليلاً ، منعت طويلاً ، وما ملأت داراً خيرةً إلا ملأتها عَبْرة ، ولا سرَّته بيومِ سرور إلا خبأتْ له يومَ شرور . قال ابن مسعود رضى الله عنه : لكل فرحةٍ تَرْحة ، وما مُلِىءَ بيتٌ فرحاً إلا مُلِىءَ تَرحاً .
وقال ابن سيرين : ما كان ضحكٌ قَطٌ إلا كان من بعده بُكاء .
وقالت هند بنت النُّعمان : لقد رأيتُنا ونحن مِن أعزِّ الناس وأشدِّهم مُلكاً ، ثم لم تَغِبِ الشمسُ حتى رأيتُنا ونحن أقلُّ الناس ، وأنه حقٌ على الله ألا يملأ داراً خَيْرة إلا ملأها عَبرة .
وسألها رجلٌ أن تُحَدِّثه عن أمرها ، فقالت : أصبحنا ذا صباح ، وما في العرب أحدٌ إلا يرجونا ، ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمُنا .
وبكت أختها حُرقَةُ بنت النُّعمان يوماً ، وهى في عِزِّها ، فقيل لها : ما يُبكيكِ ، لعل أحداً آذاك ؟ قالت : لا ، ولكن رأيتُ غَضارة في أهلى ، وقلَّما امتلأت دارٌ سروراً إلا امتلأت حُزناً .
قال إسحاق بنُ طلحة : دخلتُ عليها يوماً ، فقلتُ لها : كيف رأيتِ عبراتِ الملوك ؟ فقالت : ما نحنُ فيه اليومَ خيرٌ مما كنا فيه الأمس ، إنَّا نجِدُ في الكتب أنه ليس مِن أهل بيت يعيشون في خيْرة إلا سيُعقَبون بعدها عَبرة ، وأنَّ الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بَطَن لهم بيوم يكرهونه ، ثم قالت :
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
فَأُفٍّ لِدُنْيَا لاَ يَدُومُ نَعِيمُهَا تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ الجزع لا يردها ، بل يُضاعفها ، وهو في الحقيقة من تزايد المرض .
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ فوت ثواب الصبر والتسليم ، وهو الصلاةُ والرحمة والهداية التي ضمِنَها الله على الصبر والاسترجاع ، أعظمُ مِن المصيبة في الحقيقة .(/1)
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ الجَزَعَ يُشمت عدوه ، ويسوء صديقه ، ويُغضب ربه ، ويَسرُّ شيطانه ، ويُحبط أجره ، ويُضعف نفسه ، وإذا صبرَ واحتسب أنضى شيطانه ، وردَّه خاسئاً ، وأرضى ربه ، وسرَّ صديقه ، وساء عدوه ، وحمل عن إخوانه ، وعزَّاهم هو قبل أن يُعَزُّوه ، فهذا هو الثباتُ والكمال الأعظم ، لا لطمُ الخدودِ ، وشقُّ الجيوب ، والدعاءُ بالوَيْل والثُّبور ، والسخَطُ على المقدور .
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ ما يُعقبه الصبرُ والاحتساب من اللَّذة والمسرَّة أضعافُ ما كان يحصُل له ببقاء ما أُصيبَ به لو بقى عليه ، ويكفيه من ذلك بيتُ الحمد الذي يُبنى له في الجنَّة على حمده لربه واسترجاعه ، فلينظرْ : أىُّ المصيبتين أعظمُ ؟ مصيبةُ العاجلة ، أو مصيبةُ فواتِ بيتِ الحمد في جنَّة الخلد ؟
وفى الترمذى مرفوعاً : ( يَوَدُّ ناسٌ يَوْمَ القيامة أنَّ جُلُودَهُم كانت تُقْرَضُ بالمقارِيض في الدُّنيا لما يَرَوْنَ من ثوابِ أهلِ البلاءِ ) .
وقال بعضُ السَّلَف : لولا مصائبُ الدنيا لورَدْنا القيامة مفاليس .
ومِن عِلاجها : أن يُرَوِّح قلبه برَوْح رجاء الخَلَفِ من الله ، فإنه من كُلِّ شىء عِوَض إلا الله ، فما مِنه عِوَضٌ كما قيل :
مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ وَمَا مِنَ اللهِ إنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ
ومن عِلاجها : أن يعلم أنَّ حظه من المصيبة ما تُحدثه له ، فمن رضى ، فله الرِّضى ، ومن سخِط ، فله السَّخَط ، فحظُّك منها ما أحدثته لك ، فاختر خيرَ الحظوظ أو شرَّها ، فإن أحدثت له سخطاً وكفراً ، كُتِب في ديوان الهالكين ، وإن أحدثت له جزعاً وتفريطاً في ترك واجب ، أو في فعل مُحَرَّم ، كُتِبَ في ديوان المفرِّطين ، وإن أحدثتْ له شكايةً وعدم صبرٍ ، كُتِبَ في ديوان المغبونين ، وإن أحدثتْ له اعتراضاً على الله ، وقدحاً في حكمته ، فقد قرع باب الزندقة أو ولَجه ، وإن أحدثت له صبراً وثباتاً لله ، كُتِبَ في ديوان الصابرين ، وإن أحدثت له الرِّضى عن الله ، كُتِبَ في ديوان الراضين ، وإن أحدثت له الحمدَ والشكرَ ، كُتِبَ في ديوان الشاكرين ، وكان تحتَ لواء الحمد مع الحمَّادين ، وإن أحدثت له محبةً واشتياقاً إلى لقاء ربه ، كُتِبَ في ديوان المُحبِّين المخلصين .
وفى ( مسند الإمام أحمد ) والترمذىِّ ، من حديثِ محمود بن لبيد يرفعه : ( إنَّ اللهَ إذا أحبَّ قوماً ابتلاهُم ، فمَن رَضِىَ فَلَهُ الرِّضى ، ومَن سَخِط فَلَهُ السُّخْطُ ) . زاد أحمد : ( ومَن جَزِع فَلَهُ الجَزَعُ ) .
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنه وإن بلغ في الجَزَع غايتَه ، فآخِرُ أمره إلى صبر الاضطرار ، وهو غيرُ محمود ولا مُثاب ، قال بعض الحكماء : العاقلُ يفعل في أوَّل يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام ، ومَن لم يصبْر صَبْرَ الكِرَام ، سلا سُلُوَّ البهائم
وفى ( الصحيح ) مرفوعاً : ( الصَّبْرُ عند الصَّدْمَةِ الأُولى ) .
وقال الأشعث بن قيس : إنك إن صبرتَ إيماناً واحتساباً ، وإلا سَلَوْتَ سُلُوَّ البهائِم .
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ أنفع الأدوية له موافقةُ ربه وإلهه فيما أحبَّه ورضيه له ، وأن خاصيَّة المحبة وسِرَّها موافقةُ المحبوب ، فمَن ادَّعى محبة محبوب ، ثم سَخِطَ مَا يُحِبُّه ، وأحبَّ ما يُسخطه ، فقد شهد على نفسه بكذبه ، وتَمقَّتَ إلى محبوبه .
وقال أبو الدرداء : إنَّ الله إذا قضى قضاءً ، أحب أن يُرضَى به .
وكان عِمران بن حصين يقول في عِلَّته : أحَبُّهُ إلىَّ أحَبُّهُ إليه ، وكذلك قال أبو العالية .
وهذا دواءٌ وعِلاجٌ لا يَعمل إلا مع المُحبِّين ، ولا يُمكن كُلّ أحد أن يتعالج به .
ومِن عِلاجها : أن يُوازِن بين أعظم اللَّذتين والتمتعين ، وأدْوَمِهما : لذَّةِ تمتعه بما أُصيب به ، ولَذَّةِ تمتُّعه بثواب الله له ، فإن ظهر له الرجحان ، فآثر الراجِحَ ، فليحمدِ الله على توفيقه ، وإن آثر المرجوحَ مِن كل وجه ، فليعلم أنَّ مصيبتَه في عقله وقلبه ودينه أعظمُ مِن مصيبته التي أُصيب بها في دنياه
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ الذي ابتلاه بها أحكمُ الحاكمين ، وأرحمُ الراحمين ، وأنه سبحانه لم يُرسل إليه البلاءَ ليُهلكه به ، ولا ليُعذبه به ، ولا ليَجْتاحَه ، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه ، وليسمع تضرُّعه وابتهالَه ، وليراه طريحاً ببابه ، لائذاً بجنابه ، مكسورَ القلب بين يديه ، رافعاً قصصَ الشكوى إليه .
قال الشيخ عبد القادر : يا بُنَىَّ ؛ إنَّ المصيبةَ ما جاءت لِتُهلِكَكَ ، وإنَّما جاءت لتمتحِنَ صبرك وإيمانَك ، يا بُنَىَّ ؛ القَدَرُ سَبُعٌ ، والسَّبُعُ لا يأكل الميتةَ .
والمقصود : أنَّ المصيبة كِيرُ العبدِ الذي يُسبَك به حاصله ، فإما أن يخرج ذهباً أحمر ، وإما أن يخرج خَبَثاً كله ، كما قيل :
سَبَكْنَاه ونَحْسِبُهُ لُجَيْناً فأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ(/2)
فإن لم ينفعه هذا الكِيرُ في الدنيا ، فبيْنَ يديه الكِيرُ الأعظم ، فإذا علم العبد أنَّ إدخاله كِيرَ الدنيا ومَسبكَها خيرٌ له من ذلك الكِير والمسبك ، وأنه لا بد من أحد الكِيرَين ، فليعلم قدرَ نعمة الله عليه في الكِير العاجل .
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنه لولا مِحَنُ الدنيا ومصائبُها ، لأصاب العبدَ مِن أدْواء الكِبْرِ والعُجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سببُ هلاكه عاجلاً وآجلاً ، فمن رحمةِ أرحم الراحمين أن يتفقَّده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب ، تكون حِمية له من هذه الأدواء ، وحِفظاً لصحة عُبوديتهِ ، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه ، فسبحانَ مَن يرحمُ ببلائه ، ويبتلى بنعمائه كما قيل :
قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بِالْبَلْوَى وَإنْ عَظُمَتْ وَيَبْتَلِى اللهُ بعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ
فلولا أنه سبحانه يداوى عباده بأدوية المحن والابتلاء ، لطَغَوا ، وبَغَوْا ، وعَتَوْا ، واللهُ سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرِغُ به من الأدواء المهلكة ، حتى إذا هذَّبه ونقَّاه وصفَّاه ، أهَّلَه لأشرفِ مراتب الدنيا ، وهى عبوديتُه ، وأرفع ثواب الآخرة ، وهو رؤيتُه وقُربه ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ مرارةَ الدنيا هي بعينها حلاوةُ الآخرة ، يَقلِبُها الله سبحانه كذلك ، وحلاوة الدنيا بعينها مرارةُ الآخرة ، ولأَنْ ينتقل مِن مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خيرٌ له من عكس ذلك . فإن خَفِىَ عليك هذا ، فانظر إلى قول الصادق المصدوق : ( حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكَارهِ ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ )
وفى هذا المقام تفاوتت عقولُ الخلائق ، وظهرت حقائقُ الرجال ، فأكثرُهم آثرَ الحلاوةَ المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول ، ولم يحتمل مرارةَ ساعةٍ لِحلاوة الأبد ، ولا ذُلَّ ساعةٍ لِعزِّ الأبد ، ولا مِحنةَ ساعةٍ لعافيةِ الأبد ، فإنَّ الحاضر عنده شهادةٌ ، والمنتظر غيبٌ ، والإيمان ضعيفٌ ، وسلطانُ الشهوة حاكم ، فتوَلَّد من ذلك إيثارُ العاجلة ، ورفضُ الآخرة ، وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأُمور ، وأوائلها ومبادئها ، وأما النظر الثاقب الذي يَخرِق حُجُب العاجلة ، ويُجاوزه إلى العواقب والغايات ، فله شأنٌ آخرُ .
فادع نفسك إلى ما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم ، والسعادة الأبدية ، والفوز الأكبر ، وما أعدَّ لأهل البطالة والإضاعة من الخزى والعقاب والحسرات الدائمة ، ثم اخترْ أىُّ القسمَيْن أليقُ بك ، وكُلٌ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ، وكُلُّ أحد يصبُو إلى ما يُناسبه ، وما هو الأَوْلَى به ، ولا تستطِلْ هذا العلاج ، فشدةُ الحاجة إليه من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه ، وبالله التوفيق .
فصل : في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج الكرب والهم والغم والحزن
***
أخرجا في ( الصحيحين ) من حديث ابن عباس ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكَرْب : ( لا إلهَ إلا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ ، لا إلهَ إلا اللهُ ربُّ العرشِ العَظِيمُ ، لا إلهَ إلا اللهُ رَبُّ السَّمَواتِ السَّبْع ، ورَبُّ الأرْض رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمُ ) .
وفى ( جامع الترمذىِّ ) عن أنس ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، ( كان إذا حَزَبَهُ أمرٌ ، قال : ( يا حَىُّ يا قَيُّومُ برحمتِكَ أستغيثُ ) .
وفيه عن أبى هُريرة : ( أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم ، كان إذا أهمَّهُ الأَمْرُ ، رفع طرفه إلى السماء فقال : ( سُبْحَانَ الله العظيمِ ) ، وإذا اجتهد في الدعاء قال : ( يا حَىُّ يا قَيُّومُ ) .
وفى ( سنن أبى داود ) ، عن أبى بكر الصِّدِّيق ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( دَعَواتُ المكروبِ : اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرجُو ، فَلا تَكِلْنِى إلى نَفْسى طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وأصْلِحْ لى شَأنى كُلَّهُ ، لا إله إلا أنْتَ ) . وفيها أيضاً عن أسماء بنت عُمَيس قالت : قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أُعلِّمُكِ كلماتٍ تقوليهِنَّ عِنْدَ الكَرْبِ أو في الكَرْبِ :
( اللهُ رَبِّى لا أُشْرِكُ به شيئاً ) . وفى رواية أنها تُقال سبعَ مرات .
وفى ( مسند الإمام أحمد ) عن ابن مسعود ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم قال : ( ما أصابَ عبداً هَمٌ ولا حُزْنٌ فقال : اللَّهُمَّ إنِّى عَبْدُكَ ، ابنُ عَبْدِكَ ، ابنُ أمتِكَ ، ناصِيَتى بيَدِكَ ، مَاضٍ في حُكْمُكَ ، عَدْلٌْ في قضاؤكَ ، اسألُكَ بكل اسْمٍ هُوَ لكَ سَمَّيْتَ به نَفْسَكَ ، أو أنزلْتَه في كِتَابِكَ ، أو عَلَّمْتَهُ أحداً من خَلْقِك ، أو استأثَرْتَ به في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ : أن تَجْعَل القُرْآنَ العظيم رَبيعَ قَلْبِى ، ونُورَ صَدْرى ، وجِلاءَ حُزنى ، وذَهَابَ هَمِّى ، إلا أذْهَبَ اللهُ حُزْنَه وهَمَّهُ ، وأبْدَلَهُ مكانَهُ فرحاً ) .(/3)
وفى ( الترمذىِّ ) عن سعد بن أبى وَقَّاص ، قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ( دعوةُ ذى النُّون إذْ دَعَا رَبَّهُ وهو في بَطْنِ الحُوتِ : { لاَ إلهَ إلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ لَمْ يَدْعُ بها رجلٌ مسلمٌ في شىءٍ قَطُّ إلا اسْتُجِيبَ له } . وفى رواية : ( إنِّى لأعلمُ كِلْمَةً لا يقولُهَا مكْروبٌ إلا فرَّج الله عنه : كَلِمَةَ أخى يُونُس ) .
وفى ( سنن أبى داود ) عن أبى سعيد الخدرى قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يُقالُ له : أبو أُمَامة فقال : ( يا أبا أُمامة ؛ ما لى أرَاكَ في المسجدِ في غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاةِ ) ؟ فقال : هُمومٌ لَزِمَتْنى وديونٌ يا رسولَ الله فقال : ( ألا أُعَلِّمُكَ كلاماً إذا أنت قُلْتَهُ أذهبَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ هَمَّكَ وقَضَى دَيْنَكَ ) ؟ قال : قلتُ : بلى يا رسول الله قال : ( قُلْ إذا أصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ : اللَّهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ من الهَمِّ والحَزَنِ وأعوذُ بِكَ من العَجْزِ والكَسَلِ وأعوذُ بِكَ من الجُبْنِ والبُخْلِ وأعُوذُ بِكَ من غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَال ) قال : ففعلتُ ذلك فأذهب الله عَزَّ وجَلَّ هَمِّى وقَضى عنى دَيْنِى .
وفى ( سنن أبى داود ) عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَن لَزِمَ الاستغفارَ جَعَلَ اللهُ لَهُ من كلِّ هَمٍّ فَرَجاً ومِن كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجاً ورزَقَهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِب ) وفى ( المسند ) : أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا حَزَبَه أمرٌ فَزِعَ إلى الصَّلاة وقد قال تعالى : { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالْصَّلاَة }
وفى ( السنن ) : ( عَلَيْكُم بالجِهَادِ ، فإنَّه بابٌ مِن أبوابِ الجَنَّةِ ، يدفعُ اللهُ به عن النُّفُوسِ الهَمَّ والغَمَّ ) .
ويُذكر عن ابن عباس ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم : ( مَن كَثُرَتْ هُمُومُهُ وغُمُومُهُ ، فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ : لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ ) . وثبت في ( الصحيحين ) : أنها كَنزٌ من كنوز الجَنَّة .
وفى ( الترمذى ) : أنها بابٌ من أبواب الجَنَّة .
هذه الأدوية تتضمَّن خمسةَ عشرَ نوعاً من الدواء ، فإن لم تقو على إذهاب داءِ الهَمِّ والغَمِّ والحزن ، فهو داءٌ قد استحكم ، وتمكنت أسبابه ، ويحتاج إلى استفراغ كُلِّى . .
الأول : توحيد الرُّبوبية .
الثانى : توحيد الإلهية .
الثالث : التوحيد العلمى الاعتقادى .
الرابع : تنزيه الرَّب تعالى عن أن يظلم عبده ، أو يأخذه بلا سبب من العبد يُوجب ذلك .
الخامس : اعتراف العبد بأنه هو الظالم .
السادس : التوسُّل إلى الرَّب تعالى بأحبِّ الأشياء ، وهو أسماؤه وصفاته ، ومن أجمعها لمعانى الأسماء والصفات : الحىُّ القَيُّوم .
السابع : الاستعانة به وحده .
الثامن : إقرار العبد له بالرجاء .
التاسع : تحقيقُ التوكلِ عليه ، والتفويضِ إليه ، والاعترافُ له بأنَّ ناصيتَه في يده ، يُصرِّفُه كيف يشاء ، وأنه ماضٍ فيه حُكمُه ، عدلٌ فيه قضاؤه .
العاشر : أن يَرتَعَ قلبُه في رياض القرآن ، ويجعلَه لقلبه كالربيع للحيوان ، وأن يَسْتَضِىءَ به في ظُلُماتِ الشُّبهات والشَّهوات ، وأن يَتسلَّى به عن كل فائت ، ويَتعزَّى به عن كل مصيبة ، ويَستشفِىَ به من أدواء صدره ، فيكونُ جِلاءَ حُزْنِه ، وشفاءَ همِّه وغَمِّه .
الحادى عشر : الاستغفار .
الثانى عشر : التوبة .
الثالث عشر : الجهاد .
الرابع عشر : الصلاة .
الخامس عشر : البراءة من الحَوْل والقُوَّة وتفويضُهما إلى مَن هُما بيدِه(/4)
في وداع الجبل البطل
الشيخ/ عمر أحمد سيف رحمه الله
شعر : محمد الصادق المغلس المراني
صنعاء في 25/10/1426هـ - 27/11/2005م
مَاذَا عَسَى تَنْظمُ الأَشْعارُ والشُّعَرَاء في فقْدِ شيخِ المعالي شيخِنَا عُمَرَا
في فقدِنا رجُلاً لا كالرّجالِ فتًى في فقْدِنَا عَلمًا كالنًّجْمِ مُشْتَهِرَا
عَمَّ الذُّهُولُ مِن البلْوى وقد عَظُمَتْ والقولُ أعيَى عن التعبَيرِ وانْحَسَرَا
غير الدّموعِ وآهاتِ الجُموعِ وَمَا بين الضُّلٌوعِ لدى المفُجوعِ مُسَتَتِرَا
لكنَّ لي أمَلاً في القولِ مُتّصلاً فالقولُ في عُمَرٍ كالفرْضِ إنْ حَضَرَا
أعْظِمْ بهِ جَبَلاً لاَ يَنْثَني جَلَدًا أعْظمْ بِهِ بَطَلاً يَسْتَنْزِلُ الظَّفَرَا
أََكْرِمْ بِهِ أسَداً لا يَنْحَني أَبدًا أَكرْمْ بِهِ بَشَرًا لا يَخْتَشِيَ بَشَرَا
قَوَّالُ حَقٍّ مَعَ التقْوَى بِلاَ فَرَقٍ في جِسْمِهِ واسْمِهِ الفارُوقُ قد ظَهَرَا
كَمْ أَنْكَرَ المنُكَرَ اْلَمحرُوسَ في دَرَقِ حتىّ تَمَزَّقَ بالإِنْكَارِ وانْدثَرَا
وأنْقَذَ اليمنَ الميمونَ مِنْ غَرَق حتّى تَفَوَّقَ بالإِسلامِ وانتَصرَا
إن الذُّنوبَ لتغتالُ الشعوبَ وكَمْ مِن أُمةٍ هَلكتْ حتى غَدَتْ خبَرَا
تَبْكيكَ جامعةُ الإيمانِ إِنَّ لهَا في ذِهْنكم نظَرًا يَسْتلْفِتُ النَّظَرَا
إنّ المعاهِدَ لاَ تَنْسَى دِفَاعَكمو كُلُّ تَخَاذَلَ عنها مَاَعَدَا عمرَا
تَبكي المنَاصِبُ لمّا كنتَ تجعلُها في خِدْمِة الدينِ لا في خدْمةِ الأُمَرَا
تَبكي القبابُ التي جاهْدتَها زَمَنًا ليتَ التَّأَثُّرَ ما أبْقَى لها أثَرَا
تبكي حَمَاسُ وقد مَلَّكْتَها سَكَنًا واستأْجَرَ الشَيخُ بعد المِلْكِ مُؤْتَجِرَا
يبكي البكاءُ الذي قد كنت تُرسِلُهُ في خَلْوةِ الذكْرِ أو تَسخُو بِهِ سَحَرَا
كان الجهادُ مَع الأَفْغانِ نُزْهتَكُمْ ثم ارْتَحلْتَ إلى البُشْنَاق مُعْتَجِرَا
والوصْفُ يُدْنِيْ مِن الفِرْدَوسِ مَجلِسَكم حتى كأنَّكَ بالمشْتاقِ كاَدَ يَرَى
والصّدْعُ بالشرْعِ لمَّا لم يجِدْ وَزَرًا بينَ الجمَاعات ألفَى مِثْلَكم وَزَرَا
والموقفُ الحقُّ في الدّستورِ موقِفُكُم لا مَنْ تَشدَّق بالأَعْذَارِ واعْتَذرَا
والقولُ في نِسْوَةِ التَّجنيدِ قولُكمو لا مَنْ تَعَلَّقَ بالتْبرِيرِ واسْتَتَرَا
والصوتُ يدعو للاستشهادِ صَوتُكمو كأنّهُ قَدَرٌ في النَاسِ قد هَدَرَا
عِفْتَ التحزُّبَ لِلأحَزَابِ لَسْتَ تَرى دَرْبَ الأُخُوَّةِ إِصَلاَحًا ومُؤْتَمَرَا
كَمْ ذا تُهاجِمُ أمريكا وشيعتَها ولا تُحاذِرُ من إِرهِابها الخَطَرَا
يا حَافِظَاَ لكتابِ اللهِ تنطِقُهُ حتى غدا الحَشْدُ بالتّرتيلِ قد أُسِرَا
وصاحِبَ اللّفْظِ كالصّارُوخِ تُطْلقُهُ حتى تُفَتِّتَ منْ تَأْثِيرهِ الحْجَرَا
في صَوتِكَ الرّعدُ يُزجِي الناسَ كُلهُم من كان مُرْتَعدًا أَوْ كَاَنَ مُنْبَهِرَا
والنصُّ كالبرْقِ في تفهيمِ سَامِعِهِ لا يُومِضُ البرقُ حتى يجْذِبَ النّظَرَا
هذا كلاَمي على ما كنتُ أحَسَبُهُ ولا أُزَكيِّ عَلى رَبِّ الورَى بَشَرَا
صلىَّ عليك إِلهُ العَرْشِ ما حَمَلَتْ آيَاتُ رَبِّكَ فَي طَيّاتها عِبَرَا
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.(/1)
في وداع شهر القرآن
محمد أبو مليح ـ إسلام أون لاين
ها قد جاء رمضان، وها هو قد أوشك على الرحيل، جاء كضيف خفيف الظل لا يصبر على الجلوس كثيرا ويأبى إلا الذهاب، وبالطبع اختلف الناس حياله، فرمضان كالسوق عندما تنفض يكون الناس فيها بين رابح وخاسر؛ فيفرح الرابحون ويحزن الخاسرون، ولكن الأهم من الربح في رمضان الاستفادة من هذا الربح والمحافظة عليه فيما بعد رمضان، وإلا استوى الرابحون والخاسرون.
ولا بد للرابحين العاملين خلال شهر رمضان والذين أتعبوا أنفسهم وأجهدوا أبدانهم في الصيام والقيام.. أن يستفيدوا من هذا الجهد وهذه الأعمال؛ فالمؤمن كيس فطن، وفي رمضان من العبر والعظات والدروس النافعات ما يكفي المسلم للتزود منها على مدار العام، بل وعلى مدار الحياة كلها.
وهذا ما كان عليه مدار الحديث في خطب الجمعة (25 من رمضان 1426هـ = 28– 10-2005م) في عدد من البلدان الإسلامية.
رمضان ووحدة الأمة
ويرشدنا الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد في خطبته من المسجد الحرام من مكة المكرمة إلى أن على الأمة الإسلامية أن تقف وهي تودع شهر رمضان مع نفسها وقفة محاسبة؛ لتصلح من حالها، وتختم الشهر بخطوات صحيحة وحقيقية لإصلاح وضعها؛ فالأمة الإسلامية الآن تعاني من تفكك وتشرذم وانحلال ليس بعده انحلال، حتى إن من يرى حالها يحسب أنها لا تملك من أمر نفسها شيئًا، وأنها لا حول لها ولا طول، وإن كان الأمر خلاف ذلك تماما؛ فهي تملك الحول والطول، بل وإن ما يحيكه لها أعداؤها من مكر وخديعة لن ينال منها إن هي اتقت وصبرت {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. ومن النفحات الرمضانية نستمد العلاج لما يحل بالأمة من أدواء؛ ففي رمضان نزل القرآن الذي من عمل به فلن يضل أبدا، فهو دستور الأمة، والذي وضعه هو خالقها ورازقها ومدبر أمورها {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا} وما أبلغ القرآن، فقال: "شفاء" وهو النتيجة النهائية التي ليس معها احتمال، فلم يقل: "دواء"؛ لأن الدواء قد يشفي وقد لا يشفي.
ولا بد للأمة المسلمة أن تعرف ما لديها من إمكانات وميزات؛ فدين الإسلام دين عالمي، وعلى الأمة أن تسعى للمحافظة على ذلك.
والخطاب القرآني صالح لكل زمان ومكان، فهو {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ}.
وهو خطاب لا يفرق بين جنس وجنس، ولا بين قوم وقوم، ولا ديار وديار.
ولذا فعلينا كما كنا حريصين على قراءة القرآن في رمضان.. أن نأخذ منه العبرة والعزة، وقرآننا يحضنا على الوحدة على العمل للدين.
شهر القرآن وحقوق الإنسان
وفي خطبته بمسجد القوات المسلحة بالنزهة بالقاهرة ينوه الشيخ إسماعيل الدفتار على أن أكثر ما ميز رمضان عن غيره من الشهور نزول القرآن؛ فهو الميزة الفارقة والشرف الذي ليس بعده من شرف.
ويرى أن القرآن الكريم كما يحضنا على الوحدة فهو يؤكد على ضرورة احترام البشرية جمعاء، فيقول سبحانه: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا{. ويؤكد على أن اختلاف الناس إلى قبائل وشعوب إنما للتعارف، ومن ثم التماسك والوحدة كذلك }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ{. فكما نحرص على أن نكون متكاتفين متحدين، فعلينا كذلك ألا نغفل حق الآخرين.
ومن أول الحقوق وأولاها المحافظة والحفظ على الحق في الحياة؛ فديننا ليس دين إرهاب ولا هضم للحقوق، وربنا سبحانه يحذرنا من الاعتداء على الآخرين دون حق فيقول سبحانه: }مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا{، ويقول رسولنا الكريم: "لو أن أهل السماوات وأهل الأرض اجتمعوا على قتل امرئ بغير حق لأكبهم الله في النار يوم القيامة". ولذا فعلى المسلمين وهم يودعون شهر القرآن أن يعلموا أنهم خير أمة أخرجت للناس، وأن يعملوا بما في القرآن.
محاسبة النفس قبل الوداع(/1)
ويؤكد إمام مسجد مولاي محمد بليبيا على أن رمضان شهر الخيرات والبركات؛ ففيه الصلاة والصيام والزكاة والقرآن، كما أن فيه من الانتصارات والنجاحات ما ليس في سواه، كما أنه شهر الرحمة والمودة وصلة الأرحام، وعلى المؤمن أن يحاسب نفسه قبل ذهاب هذه الخيرات؛ حتى يعلم أين هو من تلك النفحات، حتى إذا كان قد قصر فليسارع بالتوبة النصوح التي وعد الله بأنها تمحو السيئات، وليعمل على استدراك ما أمكن من الثواب، وقد بقيت في الشهر ليلتين من الليالي التي ننتظر فيها ليلة الغفران، وهي ليلة القدر.
وعلينا أن نعلم أن رمضان إما أنه سيكون شاهدا لنا أو شاهدا علينا؛ فلنستعد لذلك ونعمل له بمحاسبة النفس واستدراك ما يمكن فيه الاستدراك. أما إذا وجدنا أنفسنا من الفائزين فعلينا أن نحافظ على هذا الفوز من الضياع، ولا نأمن مكر الله فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.(/2)
فيالعولمة ملاحظات ضروريّة
أ. د. عماد الدين خليل 18/12/1425
29/01/2005
ابتداءً يجب التأكيد على أن (العولمة) بصفة عامة، تنطوي على طبقتين: التقنيات والخلفيّات الرُّؤيويّة أو الفكريّة.
فأما التقنيات فهي معطيات محايدة لا تشكّل أيّ تقاطع مع قيم التصوّر الإسلامي وثوابته العقديّة أو التشريعيّة أو السلوكيّة، إلاّ أن توظيفها في حمل الخلفيات الرّؤيويّة والفكريّة، وإرغام الآخر على قبولها والتسليم بها والانخراط في نسيجها هو الذي يتقاطع، وبكل
تأكيد...
ذلك أن العولمة بوضعها الراهن تستهدف اختراق العالم وفرض النموذج الغربي والمصلحة الغربية، المتمركزيْن في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانسحاب المركزية الأوربية إلى الساحة الأمريكية.
أما النموذج الغربي الذي تُسخّر له العولمة الثقافية والسياسية، فهو نموذج ماديّ علمانيّ يتقاطع ـ ابتداء ـ مع المنظور الإسلامي للكون والإنسان والحياة، ولوظيفة الإنسان في الأرض. وأما المصلحة الغربية التي تُسخّر لها العولمة الاقتصادية والاستراتيجية والعسكرية والسياسية، فهي تستهدف تفكيك الدول، وابتزاز الأمم والشعوب، وتسمين "العجل الذهبي" الأمريكي.
ها هنا في السياقين الثقافي والاقتصادي، بآلياته العسكرية والسياسية، يكون التقاطع، ليس فقط مع العقيدة الإسلامية، وإنما مع عالم الإسلام الذي يتعرض الآن، لواحدة من أبشع عمليات التفكيك والتدمير والابتزاز في تاريخ البشرية.
إن العولمة، لو أتيح لها أن تتحقق في عالم تحكمه قطبيات شتى، لكان الحال غير الحال، ولربما استطاع عالم الإسلام أن يجد ممّرات ممكنة للتوظيف والإفادة من ظاهرة اختزال الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة، يُمارس فيها التناقل السريع المدهش على كل المستويات.
ولكن الذي يحدث هو أن النظام العالمي الجديد ذا القطبية الأُحاديّة، يقود بالضرورة إلى تحويل الظاهرة إلى أداة ناجزة لخدمة القطب الأُحادي الأمريكي، وجعل ضِرع العالم يدرّ في فمه؛ لكي يزيده غنى وتحكّماً وجبروتاً، بينما العالم الثالث -وليس عالم الإسلام وحده- يئن من الجوع والتخلّف والابتزاز، ويخضع لواحدة من أبشع عمليات إفراغ الأمم والشعوب والدول من حيثيّاتها وخصوصيّاتها، بل من الحدود الدنيا لمصالحها كذلك!
ومخطئ من يقول: "بامكان قبول الإسلام للعولمة وتسليمه بمقولاتها"، ذلك أنها -بوضعها الراهن- الذي تُوَظّف فيه لرؤية ومصلحة النظام الدولي الجديد القائم على القطبية الأُحاديّة، والذي تتحكم فيه - عبر المَدَيات الزمنية الراهنة على الأقل - الولايات المتحدة الأمريكية.
هذه العولمة تريد أن تختزل العالم، تضغطه، تسحبه، بعد إعادة صياغته، ليكون ساحة طيّعة لمطالب الرؤية الثقافية والمصلحية للولايات المتحدة الأمريكية، وهذا واضح تماماً فيما يحدث على الأرض (في الميدان كما يقولون)، فلا يتطلب جدلاً أو نقاشاً لتأكيد حضوره.
أما الإسلام فهو نظام عالمي .. شريعة أُمميّة .. تمضي لخطابها التحريري إلى الإنسان في العالم كلّه: تحرّره من كل صيغ الاستلاب والصنميّة، وتمنحه حرية الاعتقاد دونما قسر أو إكراه .. هذا إلى أنها لا تصادر خصوصيات الشعوب وثقافاتها، بل تمنحها الفرصة للتحقق والعطاء.
إن حضارة الإسلام هي حضارة ( الوحدة والتنوع)، وقد قدّم التاريخ الإسلامي في نسيج فعالياته الحضارية نموذجاً حيوياً على التناغم بين هذين القطبين اللذين ارتطما وتناقضا في العديد من الحضارات الأخرى، ووجدا في الإطار الإسلامي فرصتهما للتلاؤم والانسجام.
فالحضارة الإسلاميّة هي - من ناحية - حضارة الوحدة التي تنبثق عن قاسم مشترك أعظم من الأسس والثوابت والخطوط العريضة بغض النظر عن موقع الفعالية في الزمن والمكان، وعن نمطها وتخّصصها. وهي - من ناحية أخرى- حضارة الوحدات المتنوعة بين بيئة ثقافية وأخرى في إطار عالم الإسلام نفسه، بحكم التراكمات التاريخية التي تنتج خصوصيات معينة لكل بيئة تجعلها تتغاير وتتنوع فيما بينها في حشود من الممارسات والمفردات.
إنها جدليّة التوافق بين الخاص والعام، تلك التي أكّدها القرآن الكريم في الآية ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ...)، وهو يتحدث عما يمكن تسميته بالأمميّة الإسلاميّة التي تعترف بالتمايز بين الجماعات والشعوب والأمم، ولكنها تسعى لأن تجمعها في الوقت نفسه على صعيد الإنسانية. وهي محاولة تختلف في أساسها عن الأممية الشيوعية التي سعت ـ ابتداء ـ وبحكم قوانين التنظير الصارمة، إلى إلغاء التنوع ومصادرته، وإلى تحقيق وحدة قسريّة، ما لبِثت أنْ تأكّد زَيْفُها وعدم القدرة على تنفيذها تاريخياً بمجرد إلقاء نظرة على خارطة الاتحاد السوفياتي ( المنحلّ ) حتى قبل حركة(/1)
(البريسترويكا)، والرفض المتصاعد الذي جُوبهت به الأمميّة الشيوعيّة من قبل حشود الأقوام والشعوب التي تنتمي إلى بيئات ثقافية متنوعة، ومقارنة هذا بما شهده التاريخ الإسلامي من تبلور كيانات ثقافية إقليمية متغايرة في إطار وحدة الثقافة الإسلامية وأهدافها المشتركة، يتبين مدى مصداقية المعالجة الإسلامية لهذه الثنائية.
إن ما فعله الاتحاد السوفياتي في فرض أُمَميّته على الشعوب التي خضعت لمقولاته الماركسية، تفعله أمريكا اليوم، مع تغاير زاوية الرؤية .. ولكن المغزى هو نفسه .. والسؤال هو: هل بمقدور هذه الحالة (الاستثنائية) القائمة على الاحتواء القسريّ أن تدوم؟
على أية حال، فإن البنيان التحتيّ للعولمة الراهنة يقوم على الماديّة، ورفْض الغيب، والتنكر لمعطيات الوحي، وإقامة جدار عازل بين السماء والأرض، بينما في الإسلام يلتقي الوحي بالوجود، والله سبحانه بالإنسان، والروحي بالمادي، ويصير التعامل مع الكتلة، وتنميتها وتطويرها، مُهِماً وضرورياً كالصلاة والصيام.
إن عالمية الإسلام، كما يرى العديد من مفكري الغرب أنفسهم (مارسيل بوازار
وروم لاندو ورجاء جاردوي وموريس بوكاي وغيرهم) هي الجواب الوحيد لإعادة التوازن إلى الإنسان والعالم .. وربما إعادة بناء العولمة نفسها، بما يجعلها في خدمة البشرية على امتدادها، وليس حكراً على الإمبراطورية الأمريكية المتجبّرة وحدها.
إن المشكلة " كونيّة " كما يقول جارودي في (وعود الإسلام)، ولابدّ للجواب أن يكون كونياً.
أما تقنّيات العولمة فأمرها يختلف، وبخاصة في مجالي المعلوماتيّة والإعلاميّة، حيث الانفجار الأسطوري في آليات التواصل السريع وتناقل المعلومات، ورفع الخطاب الإعلامي إلى ملايين الناس عبر اللحظة الواحدة.
ونحن نشهد دقيقة بدقيقة، من خلال الزائر اليومي المتربّع في دورنا ومؤسساتنا ودوائرنا ومنتدياتنا ومقاهينا، ما يمكن للفضائيات والإنترنت أن يفعلاه.
إنهما يفعلان الكثير، ويقدمان الكثير، وهذا ـ بحدّ ذاته ـ يمثل تحدّياً لكلّ المعنيّين بالهمّ الإسلامي: وهو أن يُحسنوا التوظيف، وأن يبذلوا قُصارى جهدهم لتغطية ساعات
أكثر من الزمن التلفازي، لكي يطردوا بعملتهم الجيدة، العملات الرديئة التي تغطي معظم القنوات، والتي تنفث سرطانها المسموم، على كل المستويات وفي كل دار، وتدمّر بدقائق معدودات، ما يمكن أن يبنيه الجهد التربويّ في أشهر وسنوات.
نعم .. مرة أخرى .. فليس أمامنا خيار، وإن لم نُحسن التوظيف، خسرنا ما تبقّى من قيمنا وثوابتنا .. وبالعكس، فإن إدارة الصراع الثقافي بشكل جيد، وفي المساحة الواسعة المتاحة لنا- يمكن أن يحقّق الكثير.(/2)
{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً}
ـ إن مسألة قوامة الرجل على المرأة في بيته من المسائل الهامة جدًا في العلاقة الزوجية، وقد أكثر فيها الناس الحديث، وعابها من لا يحسن فهم صحيح الدين بسلوكياته الخاطئة، أو من يعشقون تقليد الغرب في كل شيء، سواء كان معقول المعنى أو غير ذلك.
ـ والفصل في هذه المسألة أعني القوامة هو ما قرره الشرع أولاً، ولأن فيها مصلحة الأسرة ثانيًا، وذلك أن توحيد القيادة ضروري لأمن السفينة، وفي سفينة البيت لا بد من قيادة تحتمل المسئولية، وتحفظ النظام من أن ينفلت، وليس في هذا شذوذ عن القاعدة الإسلامية العامة في عالم الرجل أيضًا.
ـ فأي الزوجين كان المنطق كفيلاً بأن يسلمه القيادة؟
المرأة المشبوهة بالعواطف والانفعال بحكم وظيفتها الأولى في رعاية الأطفال، وتعطير جو البيت بالجمال والبهاء، أم الرجل الذي كلفه الإسلام بالإنفاق على الأسرة وحمايتها.
ـ لقد جعل الإسلام القوامة تحقيقًا لنظامه المطرد الثابت في أن تكون في كل عمل قيادة وقوامة، وقد اختاره لأنه بحكم خلقته وتجاربه أصلح الاثنين لهذه الوظيفة.
ـ ووجود قيم أو قائد في مؤسسة ما، لا يلغي وجود ولا شخصية ولا حقوق الشركاء فيها، والعاملين في وظائفها، فقد حدد الإسلام في مواضع أخرى صفة قوامة الرجل وما يصاحبها من عطف ورعاية، وصيانة وحماية، وتكاليف في نفسه وماله، وآداب في سلوكه مع زوجته وعياله.
* صورة متكاملة:
إن الصورة المتكاملة للعلاقات الزوجية صورة حميمة يمثل فيها الزوج السكن والمودة والرحمة والملجأ للزوجة، كذلك الزوجة تمثل للزوج السكن والعون والمودة والرحمة، وإلى جانب ذلك يعطي الإسلام اهتمامًا عظيمًا للأبناء، فالأسرة المسلمة مؤسسة قائمة على هذه الأركان الثلاثة، وقوامة الرجل تعني أولاً: أنه هو المسئول عن نجاح هذه الأسرة وعن سعادتها وعن رعاية الطرفين الآخرين، أي الزوجة والأبناء.
وهذه القيادة ليست قيادة عسكرية، تأمر وتنهى دون مشاركة من أفراد الأسرة، وإنما هي قيادة قائمة على الشورى والتفاهم والرضا، وفضلاً عن ذلك فإن الحياة الأسرية في الإسلام ليست حياة الفوضى، وإنما تنضبط بقواعد وقيم وأخلاقيات جاء بها القرآن الكريم، وجسدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملاته وعلاقاته.
وفي إطار هذا كله نستطيع أن نفهم معنى القوامة، ونميز بينها وبين الاستبداد الفردي الموجود لدى بعض الأزواج.
ـ إذن فالقوامة تكليف من الله تعالى للرجل ليحسن رعاية الأسرة، وليست تسلطًا، ولكنها مسئولية تتكامل بها أنشودة الأسرة التي تجب أن تعيش في سعادة، ما يرضى الله عنها، وتشارك في قيام مجتمع معافى من أمراض التحلل والضياع.
ـ هذا وقد يقتفي بعض الرجال دور الحاكم المستبد على رعية مستسلمة 'رغمًا عنها' وأصبحنا نرى ونعرف في بيوتنا تجارب فيها من التسلط والعنف والتعذيب ما يشبه أحيانًا وربما يفوق ما نراه في حياتنا السياسية.
ـ والقوامة الناجحة هي كالإدارة الناجحة، وهي شيء آخر غير السيطرة، فالإدارة تتطلب مهارة وحنكة وحزمًا وحكمة، أما السيطرة فلا تتطلب شيئًا إلا الشدة والعنف وهو ما دخل في شيء إلا شانه.
والظن بأن الخشونة في القول أو التصرف، أو الضبط العسكري هو القوامة أو الرجولة فهو ظن خاطئ تمامًا.
ـ والذي يبدو أن الصورة السائدة في المجتمعات اليوم، لا تتفق مع التعاليم الصحيحة للدين الحنيف ولا مع سلوك الرعيل الأول، والصورة الصحيحة إنما هي صورة متكافئة وحيوية، تقوم على الفهم الصحيح والاحترام المتبادل لدور كل من الجنسين وتكامل هذا الدور بحيث يشترك الاثنان في كثير من الواجبات والاهتمامات واتخاذ القرارات الهامة في حياتنا.
* الذكر والأنثى:
قد خلق الله الناس ذكرًا وأنثى ... زوجين على أساس القاعدة الكلية في بناء هذا الكون، وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل، وهي وظائف ضخمة وخطيرة، وليست هينة ولا يسيرة، بحيث تؤدى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى!
فكان عدلاً كذلك أن ينوط بالشطر الثاني ـ الرجل ـ توفير الحاجات الضرورية والحماية كذلك للأنثى.
وكان عدلاً كذلك أن يمنع الرجل من الخصائص في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينه على أداء وظائفه هذه كما منحها للمرأة.
ـ وصحيح أن هناك فروقًا جسدية بين الجنسين إلا أن هذه الفروق لا تقلل من الأمور المشتركة بينهما كالنواحي الفكرية والمعرفية والعواطف والإبداع والإيمان والخطاب الشرعي وكل ما يميز من الجنسين البشري عمومًا.
ـ وكون الرجل أجدر بالقيادة ليس معناه أنه أفضل، فتفضيل الرجال على النساء بمحض الذكورة تعصب لا معنى له ولا سند، وكذلك رد الفعل بإبراز أفضلية المرأة أمر مضحك، وهو جزء من منظومة الصراع والتحدي والمنافسة، وهي معايير وأجواء كفيلة بتدمير أية أسرة.(/1)
ـ وأيضًا عندما نقول: إن الرجل هو الأصلح من المرأة لكي تكون القوامة بيده، فليس معنى ذلك أننا ندعو إلى إهمال دور المرأة في البيت أو إغفال رأيها، بل ينبغي أن يحترم ذلك ما لم يخالف الشرع.
* الخلاصة:
ـ فنطاق القوامة إذن محصور في مصلحة البيت، والاستقامة على أمر الله، وحقوق الزوج، أما ما وراء ذلك فليس للرجل حق التدخل فيه، كمصلحة الزوجة المالية، وغيره، وليس على المرأة طاعة زوجها إلا في حدود ما أحله الله، فإن أمرها بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وما لم تخل المرأة بحق الله تعالى، أو بحق زوجها، فليس عليها إلا سبيل التكريم والاحترام.
* خطر مميت:
ـ وقد يظن قوم أن في تنازل الرجل عن قوامته لزوجته إسعاد لها، وهذا ظن خاطئ، ذلك لأن المرأة بفطرتها تحب أن تأوي إلى ركن تلجأ إليه، حتى وإن تحدثت بعض النساء أمام صويحباتها بفخر أن زوجها يطيعها، ولا يعصي لها أمرًا، مما يوحي بضعف قوامته عليها، فإنها في داخل نفسها تشعر بضعف وخلل في بنية الأسرة.
ـ وعلى العكس منها، تلك المرأة التي تظهر الشكوى من زوجها ذي الشخصية القوية، والقوامة التامة، فإنها وإن باحت بذلك، تشعر براحة توائم فطرتها، وسعادة تناسب ما جبلت عليه.
ـ وأرى من أجل استقرار الحياة الزوجية أن تطالب المرأة زوجها بالقيام بقوامته على الأسرة كما تطالبه بالنفقة.
* ومما لا شك فيه أن انهيار قوامة الرجل داخل البيت، وتحويل الدفة إلى المرأة، له عيوب كثيرة لعل من أهمها:
1ـ تسلط المرأة على الرجل، حتى يصبح القرار بيدها.
2ـ سوء تربية الأولاد.
3ـ انتشار المعاصي والمنكرات، وأخطرها التبرج.
4ـ فقدان القدوة داخل البيت، وتتربى البنات الصغار على قوة الشخصية، والأولاد الصغار على الجبن والخوف وضعف الشخصية.
* هذا وفي بعض الحالات تكون النساء أعقل وأحكم وأجدر على إدارة شئون الأسرة والأولاد من بعض الرجال الذين فقدوا مقومات القوامة، وإن حدث هذا فبسبب سوء الاختيار وعدم التكافؤ. وهذا على خلاف القاعدة والشاذ لا حكم له.(/2)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ
رئيسي :المنهج :الأحد 21 ذي القعدة 1425هـ - 2 يناير 2005 م
يقول عز وجل:{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[112]وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ[113]}[سورة هود].
قضية الاستمرار في الامتثال لأمر الله في المنشط والمكره من القضايا الجوهرية في التصور الإسلامي، ومن القضايا الجوهرية كذلك في بنية التشريع وأدبياته، وليس أدل على ذلك من وصية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية وفي غيرها بـ [الاستقامة]، التي هي:'المداومة على فعل ما ينبغي فعله، وترك ما ينبغي تركه'.
وقد قام عليه الصلاة والسلام بإسداء النصح بلزومها لمن سأله عن قول فصل يصلح به جماع أمره، فعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ قَالَ: [قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ]رواه مسلم .
ولنا مع هذه الآيات المباركة الوقفات التالية:
1- إن في قوله جل وعلا:{ وَلا تَطْغَوْا }، وقوله:{وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} إشارة واضحة إلى ما يعترض سبيل الاستقامة من ملابسات السرّاء والضرّاء، وقد أخبرنا ربنا أن من طبيعة البسط والتمكن استدعاءَ البغي والطغيان، حيث قال سبحانه:{ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ...[27]}[سورة الشورى].
والبغي هو مجاوزة الحد، وهو يتجسد في صور متعددة:
فبغي القوة: البطش بالضعفاء. وبغي الجاه والنفوذ: الظلم وأكل الحقوق. وبغي العلم: اعتماد العالم على ما لديه من شهرة ومكانة؛ مما يدفعه إلى القول بغير دليل، ورد أقوال المخالفين من غير حجة ولا برهان. وطغيان المال: التبذير والإسراف والتوسع الزائد في المتع والمرفهات .
والعارض الثاني للاستقامة على خلاف الأول: حيث تدفع الطموحات، والتطلعات المصلحية، والضعف، والظروف الصعبة إلى مصانعة الظالمين ومداهنتهم وإشعارهم بالرضا عما هم فيه، والاستفادة من قوتهم وما لديهم من متاع في تحسين الأحوال وتحقيق المكاسب ... مع أن طبيعة الاستقامة والالتزام في هذه الحال تقتضي المناصحة، والهجر، والضغط الأدبي، والتحذير من التمادي في ذلك، وهذا كله منافٍ للركون؛ لكن الشيطان يبرهن دائماً على أنه يملك خبرات مميزة في تزيين الباطل والتلبيس على الخلق، فهو ينسيهم أحكاماً ومواعظ وأدبيات ومواقف وتجارب، ويدفع بهم بعيداً عن كل ذلك !
2- إن الاستقامة في التحليل النهائي ليست سوى تمحور المسلم حول مبادئه ومعتقداته، مهما كلف ذلك من عنت ومشقة، ومهما ضيع من فرص ومكاسب .
وينبغي أن يكون واضحاً: أن المرء إذا أراد أن يعيش وفق مبادئه، ورغب إلى جانب ذلك أن يحقق مصالحه إلى الحد الأقصى، فإنه بذلك يحاول الجمع بين نقيضين، وسيجد أنه لا بد في بعض المواطن من التضحية بأحدهما حتى يستقيم أمر الآخر .
إن تحقيق المصلحة على حساب المبدأ يُعدّ انتصاراً لشهوة، أو مصلحة آنيّة، أما الانتصار للمبدأ على حساب المصلحة، فإنه بمثابة [التربع] على قمة من الشعور بالسعادة والرضا، والنصر والحكمة، والانسجام والثقة بالنفس، وقد أثبتت المبادئ أنها قادرة على أن تكرر الانتصار المرة تلو المرة، كما أثبت الجري خلف الشهوات دون قيد ولا رادع أنه يحقق نوعاً من المتع والمكاسب الآنيّة، لكنه لا يفتأ أن يرتد على صاحبه بالتدمير الذاتي، حيث ينمو الظاهر على حساب فساد الباطن، ويتألّف الشكل على حساب ضمور المضمون !
إن المبدأ أشبه شيء بـ [النظارة] إذا وضعناها على أعيننا، فإن كل شيء يتلّون بلونها، فصاحب المبدأ له طريقته الخاصة في الرؤية والإدراك والتقويم:
إنه حين يرى الناس يتسابقون على الاستحواذ على منصب؛ يستغرب من ذلك، ويترفّع؛ لأن مبدأه يقول له شيئاً آخر غير ما تقوله الغرائز للآخرين.
وإذا رأى الناس يخبطون في المال الحرام؛ تقززت نفسه؛ لأنه يعلم ضخامة العقوبة التي تنتظر أولئك.
وإذا أصيب بمصيبة؛ فإنه يتجلد ويصبر؛ لأنه يرجو المثوبة عليها من الله تعالى.
إذا قلّبنا النظر في اهتمامات الناس ومناشطهم اليومية، فإن من السهل الوقوف على المحور الذي يعلقون عليه توازنهم العام، وهناك تشاهد:
من همّه الأكبر النجاح في عمله والمحافظة على سمعته فيه.. كما تشاهد من يتمحور حول المتعة، فهو يبحث عنها في كل نادٍ وواد.
ومن يتمحور حول المال، فهو يجوب العالم بحثاً عنه.. ومن يبحث عن السيطرة والنفوذ، فهو مستعد لأن يفعل أي شيء في سبيل التمكن والتحكم.(/1)
وتجد ثلة قليلة بين هذا الطوفان من البشر استهدفت أن تحيا لله، وأن تبحث عن رضوانه، ومن ثمَّ: فإنه يمكن تفسير كل أنشطتها ومقاصدها في ضوء هذا المحور، وهذه الثلة هي التي أُمِر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يفصح عن محورها باعتباره رائدها وهاديها:{ قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ [162] لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ[163]}[سورة الأنعام].
إن الذين يعلنون الولاء للمبادئ كثيرون، بل هم أكثر أهل الأرض، ولكن لا برهان على ذلك لدى أكثرهم، ويمكن أن يقال: إن لأكثر الناس دينين : ديناً معلَناً وديناً حقيقيّاً، ودينُ المرء الحقيقي هو الذي يكرِّس حياته من أجله .
إن من طبيعة المبدأ أنه يمد من يتمحور حوله بقوى وإمكانات خارقة وخارجة عن رصيده الفعلي، ولذا: فإن التضحيات الجليلة لا تصدر إلا عن أصحاب المبادئ والالتزام، وهم أنفع الناس للناس؛ لأنهم يثرون الحياة دون أن يسحبوا من رصيدها الحيوي، إذ إنهم ينتظرون المكافأة في الآخرة .
التمحور حول المبدأ هو الذي يمنح الحياة معنى، ويجعلها تختلف عن حياة السوائم الذليلة التي تحيا من أجل التكاثر ومجرد البقاء .. المبدأ هو الذي يُضفي على تصرفاتنا الانسجام والمنطقية، ويجعلها واضحة مفهومة .
نحن لا ننكر أن الظروف الصعبة تُوهِن من سيطرة المبدأ على السلوك، لكن تلك الظروف هي التي تمنحنا العلامة الفارقة بين أناس تشبّعوا بمبادئهم؛ حتى اختلطت بدمائهم ولحومهم، وأناس لا تمثل المبادئ بالنسبة لهم أكثر من تكميل شكلي لبشريتهم.
3- لا يماري أحد في أن الإنسان اكتشف في العصر الحديث من الآيات والسنن ما لم يكتشف عشر معشاره في تاريخ البشرية الطويل، لكن مع هذا فعنصر المخاطرة والإمكانات المفتوحة ما زال قائماً؛ حيث تتحكم في الظاهرة الواحدة عشرات الألوف من العلاقات التي يصعب معها التنبؤ بنتائج الاجتهادات والأنشطة المختلفة، ولا سيما في القضايا الكبرى، كمصائر الأمم والحضارات، وقضايا التقدم والتخلف، وما تنطوي عليه من تفاعلات وتغيرات، وإن الله قد ضمن لنا نتائج الاستقامة في الدنيا والآخرة، فهي بوجه من الوجوه وعلى نحو من الأنحاء لا تكون إلا خيراً، وإلا في صالح الإنسان، وقد قال الله:{... إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[128]}[سورة الأعراف] .
وقوله:{... لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[132]}[سورة طه]. وقوله:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[96]}[سورة الأعراف].
أما من يسلك دروب المعاصي والفجور، ويتبع مغريات الأهواء والشهوات فإنه يظل يتوجس خيفة من سوء العاقبة، لكنه لا يعرف شكل العقوبة، ولا طريقة نزولها ولا توقيتها؛ ليكون الشك والغموض والخوف عاجل جزائه، ومقدمةً للبلاء الذي ينتظره، ثم تكون الخيبة الكبرى والخسارة العظمى ! !
إن هناك فترة سماحات تطول أو تقصر بين الانحراف وعواقبه، وهذا هو الذي جعل الابتلاء تامّاً، كما أنه هو الذي جرّأ أهل المعاصي على التماري في غيهم، لكن العاقل الحصيف ينظر دائماً إلى الأمام ويتحسس ما هو آتٍ، ويضغط على واقعة من أجل السلامة في مستقبله .
4- علينا أن نجمع بين النصوص التي تدل على ضرورة الاستقامة والالتزام بالمنهج الرباني، والنصوص التي تفيد رفع الحرج والعنت عن هذه الأمة، من مثل قوله تعالى:{... هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...[78]}[سورة الحج] وقوله:{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا...[286]}[سورة البقرة] . وقوله:{... يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ...[185]}[سورة البقرة].
وإذا فعلنا ذلك، فإننا سنفهم من مجموعها أمرين:
الأول: هو ضرورة تزويد المسلمين بثقافة شرعية تتضح فيها حدود الواجبات، والمباحات والمحظورات، بما يشكل خارطة فكرية واضحة لما ينبغي أن يكون عليه سلوك المسلم وعلاقاته .
الثاني: توفير الظروف والشروط الموضوعية التي تجعل التزام المسلم بدينه ميسوراً، وبعيداً عن الحرج والمشقة التي لا تُحتمل؛ إذ إنه لا يكفي أن تكون التعاليم الإسلامية ضمن الطوق، بل لا بد إلى جانب ذلك من أن تكون الظروف المعيشية العامة التي يحيا فيها المسلم مناسبة، ومشجِعة على الالتزام .(/2)
إنه كلما تعقدت الظروف المطلوبة للعيش الكريم؛ قلّ عدد أولئك الذين يتصرفون ضمن مبادئهم، ويلتزمون حدود الشرع، فحين يكون المرتّب الشهري للموظف لا يكفي لسداد أجرة البيت الذي يسكنه، فإن شريحة كبيرة من الموظفين سوف تلجأ إلى طرق غير مشروعة في تأمين احتياجاتها اليومية، وآنذاك سيشعرون أن الالتزام التام لا يخلو من العنت، وحينئذ سيكون عدد الملتزمين بالطرق الشرعية في الكسب محدوداً .
إن الحضارة الحديثة أضعفت الإرادة بما أوجدته من صنوف اللهو والمتع، وجعلت الشروط المطلوبة للحد الأدنى من العيش الكريم فوق طاقة كثير من الناس، كما أنها أوجدت من الطموحات إلى الكماليات، وأشكال المرفِهات ما يتجاوز بكثير الإمكانات المتاحة، وهذا كله جعل الاستقامة على الشرع الحنيف بحاجة إلى نمط من الرجال أرقى، كما جعل من الواجب على الأمة أن تفكر مليّاً في توفير ظروف تساعد على الاستقامة، وتحفز عليها .
إن المنهجية الإسلامية تقوم دائماً على ما يمكن أن نسميه بـ [الحلول المركبة] ؛ إذ إن هناك من النصوص والأحكام ما يرفع الوتيرة الروحية للمسلم، كما إن هناك ما يزيد في بصيرته، وهناك ما يدعوه إلى الصبر والجلد، وهناك ما يحفزه على تحسين ظروف عيشه وأدائه، ولا بد أن نمنح الفاعلية لكل ذلك حتى يمكن تجسيد المنهج الرباني في حياة الناس .
إن الفكر مهما كان قويّاً، وإن الوعي النقدي مهما كان عظيماً، فإن سلوك الناس لن يتغير كثيراً ما لم تنشأ ظروف وأوضاع جديدة تحملهم حملاً على التحول إلى سلوك الطريق الأقوم والأرشد .
ويؤسفني القول: إننا لم نستطع إلى الآن أن نبلور نظرية إصلاحية إسلامية معاصرة ومتعمقة في تلمس شروط الاستجابة والظروف الصحيحة والمثلى لها، إلى جانب تلمس مجمل الحساسيات والترابطات والتداعيات التي تشكل المناخ المطلوب لقيام حياة إسلامية راشدة ! .
إن جل اهتمامنا ينصب على بيان ما يجب عمله، أما البرامج والكيفيات والإجراءات والأطر والسياسات التي يجب اتباعها وتأسيسها من أجل تحويل المبدأ إلى واقع معيش .. فإنها لا تلقى ما تستحقه من اهتمام ومتابعة، والخبرات لدينا في ذلك ما زالت ضئيلة، بل إن هناك مَن يستوحش من الخوض في غمار مثل هذا النوع من البحث، ويعد التعمق في ذلك ضرباً من [الاستغراب] أو الجنوح نحو المادية ! ومن الدعاة من يدعي أنه عارف بكل ذلك، لكن لو نظرت في إنتاجه المعرفي لم تقف له في هذه السبيل على كتاب، أو رسالة، بل على خاطرة أو فكرة .. [وما أطيب العرسَ لولا النفقة] ! ! ولله الأمر من قبل ومن بعد .
من:' فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ' للدكتور/ عبد الكريم بكار(/3)
{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ}- 2
مفكرة الإسلام :
عزيزتي الزوجة المسلمة:
هذه أسئلة أبحث عن الإجابة عنها ولكن من القرآن الكريم وأحاديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ولا أريد الإجابة من عقول من يزعمون بالتحرر والتقدم الواهم.
ألا تحبين أن تكوني:
1. زوجة قانتة مطيعة لزوجها بارة به؟
2. زوجة قانتة تتودد إلى زوجها وتحرص على رضاه؟
3. زوجة قانتة تبري أمه وتكرمي أهله؟
4. زوجة قانتة تعينه على طاعة الله؟
5. زوجة قانتة تملأ نفسه وتتزين له وتلقاه مرحة مؤنسة شاكرة؟
6. زوجة قانتة تحققي له الهدوء والسكن والراحة؟
كانت هذه نهاية الجزء الأول من هذا المقال وقد وعدتك في خاتمتها أن أساعدك في الإجابة عليها وها هي الإجابة تأتي تباعا:
أول هذه الإجابات من كتاب ربي عز وجل يقول تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} وأنت إن شاء الله من الصالحات
ويقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] إذن زوجك هو نفسك وعليك أن تمنحيه كل الحب والود والرحمة وما هو أكثر من ذلك لما تضيفه هذه الآيات من معانٍ وظلال وأما من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته الكريمة فالإجابات كثيرة اصطفي منها ما يلي:
1ـ الزوجة المسلمة مطيعة لزوجها بارة به:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'لو كنت آمرًا لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها' [حديث حسن صحيح. رواه الترمذي]
لماذا ؟ لعظم حقه عليها.
عن أم سلمة رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة'. [رواه بن ماجه].
ألا تحبين أن تكون من أهل الجنة ؟
بالطبع: نعم.
فلماذا المكابرة والعناد ؟
ويحضرني هنا عزيزتي الزوجة ما رأيته في أحد برامج المرأة على إحدى الفضائيات عن كيفية تغسيل المرأة، ما حكته إحداهن عن شابة ماتت وهي تلد مولودها الثاني أنها عند تغسيلها كانت عبارة عن نور يذهل العقول، وعندما سألت من تغسلها عن حياتها قالت لها حماتها: إنها كانت امرأة صالحة بارة بزوجها وأم زوجها، فكان جزاؤها هذه البشارة من الله بحسن الخاتمة ومن بعدها الجنة في الآخرة.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 'إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح'. [فتح الباري 9/294 كتاب النكاح].
فتلبية نداء الزوج من أحق حقوقه وهو من طرق إرضائه فلا تتهاوني في حقوق الفراش وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يبهج النفس عن السيدة عائشة وكيف كانت تتودد وتحب زوجها الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا حديثها تقول فيه:'يا معشر النساء لو تعلمن بحق أزواجكن عليكن، لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بخد وجهها' [رواه بن حبان في صحيحه]
2ـ الزوجة المسلمة تبر أمه وتكرم أهله:
ومن بر الزوج بر أمه وإكرام أهله، وفي هذا يقول رسولنا الكريم صل الله عليه وسلم: 'البر لا يبلى والذنب لا ينسى والديان لا يموت افعل ما شئت فكما تدين تدان' فاجعلي عزيزتي الزوجة برك لأم زوجك وأقاربه طريقًا لسعادتك في تلك الدنيا والآخرة، وليس العكس.
3ـ تتودد لزوجها وتحرص على رضاه:
ولا تنسي عزيزتي الزوجة قصة أم سليم بنت ملحان زوجة أبي طلحة الأنصاري عندما فجعت بابنها وكان زوجها مسافرًا، وموقفها الفريد لولا ثبوته في صحيح مسلم لعددناه من الأساطير عندما تهيأت له أجمل ما تكون وقربت إليه العشاء وقضوا ليلتهما
هذا وحسن التبعل والتودد للزوج مع الاحتساب والصبر وابتغاء مرضاة الله تعالى ثم رضاء الزوج، أتمنى أن أكون أنا وأنت مثل أم سليم.
4ـ الزوجة المسلمة تعينه على طاعة الله:
وانظري إلى هذه الصورة الجميلة التي رسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم للزوجين المتعاونين على الطاعة، الداخلين في رحمة الله، وذلك في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهه الماء ورحم الله امرأة قامت فصلت، وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء'. [أخرجه أبو داود 2/ 45 في كتاب الصلاة]
إلى دعاة التحرر، إلى من يدعون أن المرأة المسلمة لا قيمة لها ولا رأي ولا مشاركة في بيتها، أسوق هذا الحديث وليفهم كل ذي لب وعقل كيف منح الإسلام المرأة أدوارًا وأدوارًا في بيتها وفي حياة زوجها.
5ـ الزوجة المسلمة تملأ نفسه وتتزين له وتلقاه مرحة مؤنسة شاكرة:(/1)
يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم:'الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة' [صحيح مسلم 10/ 56 كتاب الرضاع] ويقول عليه الصلاة والسلام: 'من سعادة بن آدم ثلاثة، ومن شقوه ابن آدم ثلاثة: من سعادة ابن آدم، المرآة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح. ومن شقاوة ابن آدم: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء'[رواه أحمد1/168]
فكوني عزيزتي بابًا من أبواب السعادة لنفسك ولزوجك.
وفي أحكام النساء لابن الجوزي: دخلت بكرة بنت عقبة على أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها فسألتها عن الحناء فقالت: شجرة طيبة وماء طهور وسألتها عن الجفاف [أي إزالة الشعر] فقالت لها: إن كان لك زوج فاستطعت أن تنتزعي مقلتيك فتضعيها أحسن مما هما فافعلي'.
عزيزتي الزوجة المسلمة:
ونرى الآن عجبًا حيث تتزين المرأة لمن هم خارج البيت والضيوف والأعزاب، وتهمل ذلك في بيتها ولزوجها وهو الذي يستحق هذا التزين والتعطر.
وتلقى الأغراب بكل فرح وبشر وسرور في حين تلقى زوجها عابسة ساخطة مهمومة، وهو الأحرى أن تقابله بالفرح والبهجة والظرف والابتسامة المشرقة والكلمة الطيبة شاكرة لله ولزوجها.
وعجبًا لمن لا تشكر زوجها وهي لا تستغني عنه, يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: 'لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه'.[أخرجه الحاكم في مستدركه 2/190 كتاب النكاح]
عزيزتي الزوجة ... انتبهي!!
الزوجة تطيع زوجها في غير معصية، وإن أمرها زوجها بمعصية فمن تمام إيمانها عدم طاعتها له لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
أيضًا لا يعني قنوت الزوجة طاعتها لزوجها أنها ضعيفة ومسكينة ومغلوبة على أمرها ولا يعبر عن غبائها أو رداءة فكرها، بل يعبر عن رجاحة عقلها وقوة بصيرتها، فالمرأة الطائعة قوية الشخصية حكيمة وهي من أنجح الزوجات، لأنها بطاعتها تعلي من مكانتها لدى زوجها وتسهم في بناء الأسرة الناجحة الآمنة وتنال الاحترام والتبجيل من قبل زوجها وأولادها، فيحرصون على رضاها ويغمرونها بكل الحب والعطاء.
وفي السيرة موقفان اذكرنهما دليل على قنوت المرأة مع قوة شخصيتها:
السيدة خديجة بنت خويلد
لقد ضربت السيدة خديجة رضي الله عنها أروع المثل للزوجة القانتة الودودة لزوجها، المؤثرة في حياة زوجها وهذا لم يمنعها أن تكون قوية الشخصية أيضًا ودليل ذلك أنها عند نزول الوحي على زوجها أخذته على ابن عمها ورقة بن نوفل، ليطمئن بما حدث له من أمر الوحي، وثبتته وقالت له قولتها المشهورة البليغة: أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدًا، والله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتحمل الكل ,تكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق'.
حتى أن الوحي جاء الرسول وقال: فإذا هي أتتك أي خديجة فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب' [متفق عليه].
وهذه صفعة أخرى على وجه من ادعى أن الإسلام قد أهان المرأة وأذلها بخدمة الرجل.
السيدة عائشة:
فيما ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:'إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عني غضبى، قالت: ومن أين تعرف ذلك ؟
قال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد.
وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم قالت أجل: والله يا رسول الله لا أهجر إلا اسمك'.
وأنت أيضا عزيزتي إذا أردت التعبير عن رأيك فلا بأس ولكن في أدب وذوق واحترام وتوقير.
وفي حادثة الإفك وقد نالت براءتها من السماء فقال لها أبواها: قومي إلى رسول الله. فقالت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله'.
عزيزتي الزوجة
الآن أستطيع أن أقول: القانتة: عندما تقوم الزوجة بواجباتها تجاه زوجها تكون من أنجح الزوجات، ولا تنسي الحديث الجميل 'إن الله قد كتب الإحسان على كل شيء...' [صحيح مسلم. ج13 باب الأمر بالإحسان الذبح والقتل]
فأحسني إلى زوجك تلقيه إحسانًا {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ}, وحتى في وجود الخادمة أشعري زوجك بالرعاية الخاصة واتخذي رضاه طريقًا إلى الجنة وأسعدي نفسك وأسعديه ... فالحياة قصيرة ويكفي ما فيها من كبد وعناء فهل تقضيها في مزيد من النكد والعناء والمشاكل أم نستمتع بما أحله الله لنا من الحب والود والصفاء والمشاعر الجميلة بيننا وبين أزوجنا؟!
وأحب أن أختم بهذا الحديث العجيب:
جاءت أسماء بنت يزيد الأنصارية للنبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله أنتم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمع والجماعات والجنائز وفوق ذلك الجهاد في سبيل الله، وإذا خرج الواحد منكم حاجًّا أو معتمرًا قعدنا في بيوتكم فربينا لكم أولادكم وغزلنا لكم أثوابكم فهل بقي لنا من الأجر شيء يا رسول الله ؟ [ لم تقل أين حقوق المرأة يا رسول الله ؟ ] فسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقولها والتفت إلى الصحابة وقال: هل سمعتم مقالة أفضل من هذه ؟ قالوا: ما ظننا أن امرأة تفطن إلى مثل ذلك يا رسول الله.(/2)
فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم ارجعي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أن طاعة الواحدة منكن لزوجها تعدل كل ذلك وقليل منكن تفعله'. [صحيح مسلم]
وأترك التعليق على الحديث لك عزيزتي الزوجة ولكن أود تذكيرك بأن أكثر أهل النار من النساء بنص حديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم:'تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار'.
تصدقي بالكلمة الطيبة بالابتسامة المشرقة بالطاعة الصافية من النفس، تصدقي بالدعابة الحلوة والزينة المبهجة والهيئة الأنيقة والبيت النظيف المرتب والحرص على توفير الهدوء والراحة والسكينة والاستقرار كل ذلك لمن ؟ وبكَم ؟
لزوجك أي لنفسك وبالتالي أيضًا لأولادك، وكل هذا يعود بالسعادة عليك وعليهم، وكل هذا لا يكلفك مالاً كثيرا أو عناءً شاقًا، واعلمي أن نقطة من العسل تصيد من الذباب أكثر مما يصيد برميل من العلقم.
فالعنف يولد العنف والغضب يولد الغضب، أما الهدوء والاحترام والأدب فإنه يطفئ الغضب كما يطفئ الماء النار وفقنا الله جميعًا لما يحب ويرضى.
إلى اللقاء قريبا مع الجزء الثاني من السلسلة ' حافظات للغيب ' حتى تكتمل الآية
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْب
مفكرة الإسلام : قالت إحداهن: أنا لا أكوى له ملابسه أليست له يد ليكوي بها؟
وإن كان لا يعرف، فليرسلها إلى إحدى محلات 'دراي كلين' المخصصة لهذا الغرض.
وقالت الأخرى: أمسح له الحذاء' هذا مستحيل!! وهل أنا خادمته أليس عندي كرامة؟
وقالت الثالثة: 'كل شيء على رأسي في هذا البيت ليتني لم أتزوج، وكنت مرتاحة من هذه الهموم ومن هذا الزوج المتعب كثير الطلبات، وهو لا يحب راحتي'.
عزيزتي الزوجة المسلمة...
أكتب إليك وأنا امرأة مثلك متزوجة وأشعر في بعض الأحيان بما تشعر به النساء من الضجر والحنق على أعمال البيت وطلبات الزوج والأولاد, ولكن تعالي معي لنفق وقفة صادقة مع هذه الآية العظيمة من آيات القرآن الكريمة الذي أنزل من لدن حكيم عليم: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء: 34].
نتلمس عزيزتي المرأة المسلمة في هذه الآية جناحي السعادة الزوجية القنوت وحفظ الغيب قد نبعا من الصالحات من النساء دون غيرهن.
{قَانِتَاتٌ} صفة يرغبها الزوج في الزوجة وهو حاضر.
{حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} صفة يطلبها الزوج وهو غائب.
وبهما تهنأ حياة الأزواج وتنعم الأسر والمجتمعات وفي هذا المقام نتحدث عن الجناح الأول للسعادة الزوجية 'القنوت' وفي مقام آخر نتحدث عن الجناح الثاني للسعادة الزوجة ' حفظ الغيب'.
فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ 1
عزيزتي الزوجة المسلمة
' فالصالحات ' من النساء ' قانتات ' قال ابن عباس وغير واحد: يعني مطيعات لأزواجهن فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك'.
عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت'[1]. فالقَانِتَاتٌ هن المطيعات لله القائمات بحقوق الأزواج[2]{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَات} إن من طبيعة المرأة المؤمنة الصالحة ومن صفتها الملازمة لها بحكم إيمانها وصلاحها أن تكون قانتة مطيعة.
إشارة بليغة وتأمل بديع:
والقنوت: الطاعة عن إرادة وتوجه ورغبة ومحبة، لا عن قسر وإرغام وتفلت ومعالظة، ومن ثم قال: قانتات ولم يقل طائعات لأن مدلول اللفظ الأول نفسي وظلاله رضية ندية، وهذا هو الذي يليق بالسكن والمودة والستر بين شطري النفس الواحدة[3].
عزيزتي الزوجة المسلمة:
نفهم من ذلك أن أصل القنوت دوام الطاعة غير أنه طاعة خاصة يوحى بذلك ظل الكلمة وإيحاؤها المبدع وسمتها الرائق الأخاذ فالمرأة الطائعة دون قنوت .. تعير زوجها استجابة دون روح، وانقيادًا دون قناعة، فقد تطيع لغاية تبغاها أو لهدف تريد الوصول إليه، وبمجرد وصولها لهدفها فلا طاعة ولا معروف.
أما المرأة القانتة فهي تطيع حبًّا للطاعة ذاتها، وتقربًا إلى بعلها، وتوددًا إلى من يقاسمها الحياة، ورغبة في إقامة الأسرة الفاضلة وقبل هذا طاعة الله ورضاه.
القانتة تمنح زوجها حسن السمع، وصدق المشاعر، وصفاء السريرة، ولطف العشرة ولين الجانب، كما تهبه نقاء الود وعذب الكلام لا تكون عصية متبطرة، ولا تعرف النشوز والخصام ... بل هي حامدة شاكرة وصابرة ومحتسبة، وهي أيضًا لا تكفر العشير ولا تنسى المعروف أو الجميل ... ووقتئذٍ تكون عند زوجها ملء السمع والبصر، فالطيبون للطيبات، فيعرف قدرها وتزيد مكانتها عنده.
وإذا سألت أيتها الزوجة لماذا أكون قانتة طائعة طوال الوقت ؟ هل هو أفضل مني ؟ هل أنا خادمته المشتراة ؟ لماذا هذا العذاب ؟(/3)
أجيبك بأن أول الطريق لتصلي للإجابة الصحيحة لترضي بها نفسك وتسكن ثائرتك أن تنفضي من رأسك دواعي التحرر وأفكار المتحررات من النساء الغافلات الشقيات اللاتي لا يشعرن بنعمة الحياة الحقيقية، والعجيب أنها تحمل في قلبها كل الحقد على الرجل والبيت وكأنه هو العدو الأول في حياتها الذي حرمها من متع الدنيا ونسمة الهواء بحقوق ... حقوق ... حقوق ... لا تنتهي.
وأنا أؤكد لك وأنا امرأة مثلك أن الإسلام أعطى المرأة حقوقًا أكثر من الأديان الأخرى وحباها من التقدير والتكريم ما تحسدها عليه المرأة الغربية وما يكون أحيانًا من تعسف من الرجل تجاه المرأة إنما مردوده إلى الجهل بتعاليم الإسلام السمحة، والجهل علاجه التعلم والسؤال.
فتعلمي عزيزتي المرأة حقوقك وأيضًا واجباتك، وعلميها لمن لا تعرف، ولزوجك أيضًا ولا عيب في ذلك ولكن بأدب واحترام وود وصفاء وإذا علمت عزيزتي أن زوجك امتداد لك وأنتما كالجسد الواحد والقلب الواحد قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}[4] وأنت وزوجك لباس واحد {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}[5] لكانت من صفاتك الإتقان والزيادة والإخلاص في أي عمل ولو كان شاقًا ولزاد حبك لزوجك، وزادت رعايتك لأولادك ولأسرتك.
ولقد أعجبني شعر هذه المرأة لزوجها وتأمليه معي حين قالت:
قُصَارُك مني النصحُ ما دمتُ حيَّة وودٌ كماءِ المزن غير مشوب
وآخر شيء أنت لي عند مرقدي وأول شيء أنت عند هبوبي
عزيزتي الزوجة المسلمة:
هذه أسئلة أبحث عن الإجابة عنها ولكن من القرآن الكريم وأحاديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ولا أريد الإجابة من عقول من يزعمون بالتحرر والتقدم الواهم.
ألا تحبين أن تكوني:
1. زوجة قانتة مطيعة لزوجها بارة به؟
2. زوجة قانتة تتودد إلى زوجها وتحرص على رضاه؟
3. زوجة قانتة تبري أمه وتكرمي أهله؟
4. زوجة قانتة تعينه على طاعة الله؟
5. زوجة قانتة تملأ نفسه وتتزين له وتلقاه مرحة مؤنسة شاكرة؟
6. زوجة قانتة تحققي له الهدوء والسكن والراحة؟
اسمحي لي أن أساعدك في الإجابة عن هذه الأسئلة ولكن في الجزء الثاني من هذا المقال فتابعي معي
وإلى حين اللقاء لك مني التحية
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
-------------
[1] تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج/1.
[2] رياض الصالحين ـ باب حق الزوج على المرأة.
[3] في ظلال القرآن ـ سيد قطب ج2.
[4] [الروم:21]
[5] [البقرة:187](/4)
شهادة العصر والتاريخ .. خمسون عاما على طريق الدعوة الإسلامية / أنور الجندي .
ط. دار المنارة ، جدة ، السعودية ، قطع متوسط ، ط 1 : 1413 / 1993 ، 287 صفحة .
هي مذكرات أنور الجندي .
فرغ من كتابة مقدمتها في 4 / 1413 هـ = 10 / 1992 م ( _ كما في شهادة العصر والتاريخ ص 3 ، 6 ) ، وقد جاوز السبعين .
والكتاب ممتع رائق ، يعبر عن فكر إسلامي نقي ، ورؤية هامة لما مرت به الأمة الإسلامية خلال القرن 15 هـ = 20م من مؤامرات الاحتواء والتغريب والتبعية ، وفيه شهادة للتاريخ ، وفيه معلومات صادقة هامة عن المؤلف وحياته وفكره وهمومه . ... 1993
130 ... مقدمات العلوم والمناهج .. محاولة لبناء منهج إٍسلامي متكامل / بقلم : أنور الجندي .
ط. دار الأنصار ، القاهرة ، قطع كبير ، 10 أجزاء ( مجموع صفحاته : 6307 صفحة ).
"يتناول بالبحث الجذور الأساسية للفكر الإسلامي التي بناها القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وما واجهه من محاولات ترجمة الفكر اليوناني والفارسي والهندي ، وكيف قاوم مفهوم التوحيد كل محاولة لاحتوائه أو السيطرة عليه بما مكنه من بناء " منهج السنة والجماعة "، وكيف انبعثت عنه حركة اليقظة الإسلامية في العصر الحديث من قلب العالم الإسلامي نفسه فقاومت حركات التغريب والغزو الثقافي .
وضم الدراسة إلى ذلك مخططات الغزو الاستعماري عن طريق الاستشراق والتبشير ومؤامرات ابتعاث الفكر الوثني الهليني والشرقي القديم ".
الهدف من الكتاب : قال مؤلفه 1 / 3 [ م ] :
" إن التحدي الخطير الذي يواجه العالم الإسلامي اليوم ( على أبواب القرن الخامس عشر الهجري ) انتقالا من التبعية إلى الأصالة، ومن التغريب إلى الرشد الفكري، ومن الإسلام إلى الإيمان هو وضع مقدمات العلوم والمناهج المبثوثة بحيث يمكن أن تغطي تلك الفجوة الضخمة بين الإسلام ومفاهيم العصر ، وبحيث يمكن أن تكون تلك المقدمات بمثابة إطار إسلامي للفكر المعاصر كله ، وهو ما قصرت عنه دراسات المعاهد والجامعات وبرامج التربية والتعليم المقررة ، حماية للشباب المسلم من تحديات الغزو ، وفي سبيل مواجهة الأخطار المحدثة بالإسلام والمسلمين ، واستمدادا من منابع الإسلام الأصيلة، هذا التحدي هو ما نود أن نواجهه بأن نضع في أيدي الشباب المسلم المثقف عصارة لكل المذاهب والأيدلوجيات والفلسفات المعاصرة من خلال نظرة الإسلام لها ، وردا على عشرات من الشبهات والزيوف والسموم التي تطرح في أفق الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي على السواء ..."
** موضوعات مجلدات الكتاب :
المجلد الأول : بناء الفكر الإسلامي وتطوره . ( عدد صفحاته : 575 )
( قال مؤلفه : يتناول بالبحث الجذور الأساسية للفكر الإسلامي التي بناها القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وما واجهه من محاولات ترجمة الفكر اليوناني والفارسي والهندي ، وكيف قاوم مفهوم التوحيد كل محاولة لاحتوائه أو السيطرة عليه بما مكنه من بناء " منهج السنة والجماعة " وكيف انبعثت عنه حركة اليقظة الإسلامية في العصر الحديث من قلب العالم الإسلامي نفسه فقاومت حركة التغريب والغزو الثقافي .
وتضم الدراسة إلى ذلك مخططات الغزو الاستعماري عن طريق الاستشراق والتبشير ومؤتمرات ابتعاث الفكر الوثني الهليني والشرقي القديم )
المجلد الثاني : تاريخ الإسلام منذ فجر الإسلام إلى اليوم . ( عدد صفحاته : 788 )
( قال مؤلفه : يقدم المجلد دراسة لتاريخ الإسلام منذ طلوع فجره إلى اليوم ( 1979 م ) مرورا بمراحله المختلفة وأحداثه الكبرى وتوسعاته في قارات آسيا وأوربا وإفريقيا ، كاشفا عن أكبر أحداثه في مواجهة الحملات الصليبية والمغولية والغزو الفرنجي على جبهات الأندلس والمغرب والشام وبيت المقدس ومصر ، وعلاقة الإسلام بعالم الغرب من خلال الاستعمار الغربي والصهيونية والشيوعية كاشفا عن علاقات التُّرك والعرب من خلال دولة الخلافة العثمانية والعروبة والإسلام ، ومحاولات القوميات الضيقة والإقليميات والوحدة الإسلامية والتضامن ، وبزوغ عصر اليقظة ، انطلاقا إلى عصر النهضة على مشارف القرن الخامس عشر الهجري )
المجلد الثالث : العالم الإسلامي المعاصر . ( عدد صفحاته : 672 )
( قال مؤلفه : يتناول بالبحث تاريخ العالم الإسلامي المعاصر وأقطاره وقضاياه ، والتحديات الموجهة إليه ، وقضية الجامعة الإسلامية والوحدة العربية والتضامن ، وموقف العالم الإسلامي من القوى الغازية الثلاث : الاستعمار الغربي والصهيونية والشيوعية ، ودراسة قضايا العالم الإسلامي على أبواب القرن الخامس عشر الهجري ، وما يتصل بالعلاقات بين الشيوعية والصهيونية والدعوات الهدامة كالبهائية والقاديانية والمخططات التي تستهدف غزو المجتمع الإسلامي )
المجلد الرابع : اللغة والأدب والثقافة . ( عدد صفحاته : 855 )
( قال مؤلفه : يقدم دراسة مستوعبة لقضايا ثلاث كبرى :(/1)
أولا : اللغة العربية الفصحى – لغة القرآن – والتحديات التي واجهتها في العصر الحديث ، ومؤامرات العامية والكتابة بالحروف اللاتينية وما قام به النفوذ الأجنبي من تجميد لنفوذ الفصحى ودفع اللغات الأجنبية والعاميات .
ثانيا : الأدب العربي : خصائصه المستمدة من القرآن والسنة ، وارتباطه في العصر الحديث بالعصور المتوالية منذ ظهور الإسلام والتحديات التي واجهته من قضايا الشعر والقصة والتراث والأدب المهجري والأساطير والمسرحية اليونانية ودور الشعوب الحديثة .
ثالثا : دراسة الثقافة العربية ذات الانتماء الإسلامي وخصائصها ووجوه الاختلاف بينها وبين الثقافات الشرقية والغربية ، والكشف عن مصادر الثقافة الغربية والإغريقية والمسيحية واليهودية ، والتحديات التي تواجهها في مختلف المجالات )
المجلد الخامس : التبشير والاستشراق والدعوات الهدامة . ( عدد صفحاته : 507 )
( قال مؤلفه : يتناول بالبحث مخططات الغزو الفكري والثقافي والعقائدي في ثلاث موضوعات كبرى :
الأول : التبشير والاستشراق وأثرهما في الفكر والأدب والاجتماع .
الثاني : المؤامرة على تاريخ الإسلام ، وأثر الاستشراق في تزييف عدد من حقائق التاريخ الإسلامي .
الثالث : الدعوات الهدامة : تاريخها ، وأهدافها ، وشبهاتها )
المجلد السادس : المجتمع الإسلامي : نظام الإسلام ، قضايا المجتمع ، التربية الإسلامية ، مناهج التعليم . ( عدد صفحاته : 551 )
( قال مؤلفه : يتناول بالبحث : بناء المجتمع في الإسلام سياسيا واقتصاديا وتربويا ، ويتناول :
أولا : قضايا الانتماء والقوميات والإقليميات والوحدة الإسلامية الجامعة .
ثانيا : مفهوم " الإسلام " الجامع المتكامل ، من خلال الشريعة الإسلامية في مواجهة القانون الوضعي والديمقراطيات ، والاقتصاد الإسلامي .
ثالثا : مختلف تحديات المجتمع الإسلامي ، وقضايا الشباب والطفل والمرأة المسلمة ، وآثار الصحافة والسنما والإذاعة .
رابعا : دراسة شاملة للتربية الإسلامية وبناء الأجيال ، والكشف عن فساد النظام العلماني الذي طرحه الاستعمار في المجتمع الإسلامي .
خامسا : إعادة بناء مناهج العلوم والمناهج التجريبية والاجتماعية ، ودور الإسلام الرائد في بنائها ، وكيف تجاهلتها المناهج الحديثة )
المجلد السابع : الحضارة والعلم والعلوم الاجتماعية . ( عدد الصفحات : 594 )
( قال مؤلفه : يتناول بالبحث :
الكشف عن الدور الضخم الذي قام به الإسلام - استمداد من القرآن – في بناء المنهج التجريبي ، وكيف تحول هذا إلى الغرب لبناء الحضارة الحديثة .
دراسة الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارات الوثنية السابقة لها ، والكشف عن منطلقات هذه الحضارة ، وعطائها لحضارة الغرب ، والأثر الذي أحدثته في أزمة الإنسان والعالم نتيجة خروجها على منهج الله ، وقدرة الإسلام على تحرير الحضارة من الانحراف المادي .
دراسة مناهج العلوم الاجتماعية والنفس والأخلاق وأثر النظرية المادية في بناء الإنسان والمجتمع والمسرح والفن ، وموقف الإسلام ومنهجه في هذه القضايا ، وفي بناء الإنسان والمجتمع )
المجلد الثامن : طابع الإسلام بين الأديان والأيدلوجيات ( الإسلام وموقفه من الفلسفات والأديان ) ( عدد صفحاته : 488 )
( قال مؤلفه : يجيب الكتاب على التساؤل : بماذا يتميز الإسلام بين الأديان والأيدلوجيات ، وذلك من خلال ثلاث رسائل :
عطاء الإسلام للبشرية .
العلمانية في ضوء الإسلام
الإيدلوجيات المعاصرة .
ومن خلال ذلك يكشف الكثير من الحقائق ويرد على الكثير من الشبهات المثارة )
المجلد التاسع : المنهج الغربي : أخطاؤه ، وشبهاته ، والشبهات المثارة حول الإسلام . ( عدد صفحاته : 542 )
( قال مؤلفه : يتضمن ثلاثة أبحاث متصلة متكاملة :
أخطاء المنهج الغربي الوافد في مجالات : العقائد ، والدين ، والفلسفة ، والتاريخ ، والحضارة ، واللغة ، والأدب ، والفن ، بالمقارنة مع أصول منهج البحث العلمي الإسلامي ، والكشف عن وجوه التباين والاختلاف بينهما .
دراسة قضايا التعليم والشريعة واللغة العربية بين التبعية والأصالة .
موقف الإسلام من الفلسفات القديمة )
المجلد العاشر : تاريخ اليقظة الإسلامية . ( عدد صفحاته : 735 )
( قال مؤلفه : يسجل البحث ثلاث مراحل لليقظة الإسلامية : الأولى منذ سيطرة الاستعمار الغربي على العالم الإسلامي وإلى مطالع الحرب العالمية الأولى . الثاني : مرحلة التغريب التي امتدت خلال ما بين الحربية الأولى والثانية . الثالث : مرحلة الغزو الفكري الغربي والماركسي والصهيوني منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى اليوم )
117 ... كيف يحطم المسلمون قيد التبعية والحصار / أنور الجندي
ط. مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط1 : 1405 هـ / 1985 م، قطع متوسط، 99 صفحة .
** أبرز نقاط الكتاب :
1. الإسلام : هذا النور المبين ص 5
2. المؤامرة على الصحوة وأبعادها ص 23
3. المؤامرة على المنهج الإسلامي ص 39(/2)
4. كيف يحطم المسلمون قيد التبعية والحصار : ( ص 49 : )
- توهين الإسلام هي خطة الغزو الثقافي والتغريب
- سقوط النموذج الغربي وانهياره أمام النفس المسلمة اليوم
- وما زالوا يخدعوننا بإحياء الفكر الباطني والوثني
- الاستشراق زيف حقائق الإسلام ويفرض مفاهيم مسمومة لتوهين الإسلام .
- المؤامرة على التاريخ الإسلامي .
- الحملة على الدولة العثمانية .
- إنهم يزرعون اليأس في قلب الشباب المسلم .
- لقد فشلت الحضارة الغربية في إعطاء النفس الإنسانية أشواقها
- ما تتطلع إليه البشرية : حضارة تعرف ربها .
- ترشيد الصحوة الإسلامية . ... 1985
19 ... حقائق مضيئة في وجه شبهات مثارة / أنور الجندي
ط. دار الصحوة ، القاهرة ، ط 1 : 1410 / 1989 ، قطع متوسط ، 163 صفحة .
** أبرز نقاط الكتاب :
- الإسلام
- القرآن
- إسلام القرآن
- الأديان
- المعرفة بالإسلام
- النظام السياسي .
- النفس والأخلاق ... 1989
70 ... جيل العمالقة والقمم الشوامخ في ضوء الإسلام / أنور الجندي
ط. دار الاعتصام ، القاهرة ، إيداع 1985 م ، قطع متوسط ، 224 صفحة .
قال أنور الجندي ص 4 : " والحقيقة أن ما قدمته هذه المدرسة التي يسمونها تارة باسم " الرواد " وتارة باسم " جيل العمالقة والقمم الشوامخ " ليس إلا عصارات من الفكر الغربي انتزعت من هنا وهناك ، خلاصات ومضامين ذلك الفكر الذي سيطر على الغرب تحت اسم الفلسفة المادية ومدرسة العلوم الاجتماعية والتحليل النفسي ، وهو خلاصة ما كتب دارون ودوركايم وفرويد وسارتر وماركس وإنجلز ومترجمات للقصص الجنسي والإباحي من الأدب الفرنسي ، وكان الصراع في أول الأمر قائما بين اللاتينيين والسكسون هؤلاء مع المدرسة الإنجليزية ( العقاد والمازني وشكري ) وأولئك مع المدرسة الفرنسية ( خليل مطران وطه حسين وهيكل ) .
ثم جاء الصراع الثاني بين المدرسة الليبرالية ( لطفي السيد – طه حسين - وحسين فوزي وزكي نجيب محمود ) ومن المدرسة الإنسانية الماسونية ( الهومنيزم ) وعلى رأسها لويس عوض … " إلخ ، وهو حديث هام للغاية .
جاء في آخره ص 422 : ( أضفنا إلى هذا الكتاب مادة كتابنا " شخصيات اختلف فيها الرأي " )
هذا الكتاب في غاية الأهمية .
** أهم نقاط الكتاب :
* مدخل إلى البحث :
. تقييم المحصول الذي قدمه جيل الرواد بميزان الإسلام .
. إعادة تقييم ما كتبه هذا الجيل الرائد .
. محاولة تغيير الهوية والانتماء والعرف الإسلامي .
. سقوط المسلمات الباطلة .
. رواد الأصالة ورواد التبعية .
1- جيل العمالقة والقمم الشوامخ
- لطفي السيد وأكذوبة أستاذ الجيل ص 35 : 75 .
. الحملة على اللغة العربية والدعوة إلى العامية ص 41 :
. سياسة " الجريدة " ص 45 :
. لطفي السيد وترجمة مؤلفات أرسطو ص 49 :
2 - جورجي زيدان ص 61 : 83 .
. " تاريخ آداب اللغة العربية " ص 61 : 69 .
. " تاريخ التمدن الإسلامي " ص 70 : 76 .
. روايات جورجي زيدان لا روايات الإسلام ص 77 : 83 .
3- أحمد أمين – فجر الإسلام & علي عبد الرازق – الإسلام وأصول الحكم ص 85 : 104
4 - سعد زغلول ص 105 :
. سعد زغلول رأس المدرسة الحزبية في مصر ص 113
. سعد زغلول واللغة العربية ص 123 : 127 .
. مواقف سعد ص 128 : 131 .
5 - قاسم أمين ص 133 : 148 .
. المرأة المسلمة وموقفها من قضية تحرير المرأة ص 144 : 148 .
6 - ساطع الحصري ص 149 :
. عجز الحصري عن فهم الفارق بين الكتلة الإسلامية والقومية الغربية وبين العروبة والإسلام ص 157 : 159 .
7 - سلامة موسى ص 161 :
. سلامة موسى : دارون ونظرية التطور ص 172
8 - زكي نجيب محمود ص 185 : 201 .
9 - توفيق الحكيم ( تبعية للفكر الوثني والمادي من الشباب إلى الشيخوخة ) ص 203 : 217 .
10 - عبد الرحمن الشرقاوي ص 219 :
. مخططات تكشف أهدافها ولم تعد تخدع أحدا ص 221 :
. كتاب " محمد رسول الحرية " ص 226 :
. مسرحية الحسين شهيدا ص 241 :
. مآخذ على كتابات الشرقاوي " حول الإمام علي " ص 245 :
. أخطاء عبد الرحمن الشرقاوي في كتابة السيرة والتاريخ ص 250 : 252 .
11 - محمد التابعي ( منشئ صحافة الإثارة ) ص 253 : 259 .
12 - لويس عوض ص 261 :
. مؤامرة توفيق الحكيم ولويس عوض
. التشكيك في القرآن ص 269 :
. الهجوم على لغة القرآن ص 272 :
13 - مدحت ( مدحت باشا ) وأتاتورك ( الرد على عبد الحميد الكاتب ) ص 285 : 294 .
14 - كيف سرق غاندي الحركة الوطنية من المسلمين ص 295 : 304 .
15 - سارتر بين عبد الرحمن بدوي وأنيس منصور ص 305 : 313
16 - طه حسين ص 315 :
. ماذا بقي من طه حسين بعد أحد عشر عاما من وفاته ص 325 : 330 .
. أمانة الأجيال ص 331 : 335 . ( في الرد على ثروت أباظه )
. كلمة حق في الرد على المدافعين عن طه حسين ص 336 : 340 .
. حقائق في حياة طه حسين ص 341 : 345 .
. لماذا لم يدخل طه حسين مدرسة البيان في النثر العربي الحديث ؟ ص 346 :
. انكشاف ما خفي على الناس زمانا ص 350 :(/3)
- تحفظات على الكتابة العصرية للسيرة النبوية ص 265 : ( حول كتابات طه حسين وهيكل والعقاد – على هامش السيرة – محمد – عبقرية محمد )
- الحملة على نوابغ الإسلام . الحملة على جمال الدين الأفغاني للويس عوض ص 392 : 394 .
- أخطاء منهج القمم الشوامخ وجيل العمالقة ص 395 : ( ومما فيها : عريضة اتهام عنيفة ضد طه حسين وجيله )
- محاولة مضللة لتزييف تاريخ الفكر الإسلامي والعمل على إحياء سموم علي عبد الرازق وقاسم أمين ومنصور فهمي ص 403 :
- سقطت مدرسة التبعية للفكر الوافد ص 410 : 412 .
- الدكتور إبراهيم بيومي مدكور تصور زائف لحركة اليقظة الإسلامية ص 413 :
. هل كان لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين من تلاميذ الشيخ محمد عبده ، هل كان محمد عبده هو قمة اليقظة أو مرحلة من مراحلها ؟ ) ص 405 :419 . ... 1985
105 ... مفكرون وأدباء من خلال آثارهم / أنور الجندي
ط. دار الإرشاد ، ط1 : بدون تاريخ ، قطع متوسط
مجال البحث في الكتاب : " العالم العربي من المغرب إلى العراق ، زمن البحث : بعد الحرب العالمية الثانية ".
قال مؤلفه ص 8 : " ولا بأس أن نشير هنا إلى أن " موسوعة معالم الأدب العربي المعاصر " التي صدر منها حتى الآن 18 مجلدا قد استطاعت أن تجري مسحا شاملا قريبا من الكمال للأدب العربي في العالم العربي منذ أوائل الحرب العالمية الثانية ، وان هذه الدراسة التي بين يدي القارئ اليوم هي أول عمل فيما بعد الموسوعة ".
ضم الكتاب 39 شخصية ( هي : أبو الفضل إبراهيم ، إبراهيم الأبياري ، أحمد الحوفي ، أحمد حسين ، أحمد الشرباصي ، أحمد عطية الله ، أحمد غلوش ، أحمد شلبي ، بدوي طبانة ، حمدي حافظ ، خالد محمد خالد ، خير الدين الزِّرِكْلِيّ ، خيري حماد ( من الأردن )، د. زكي علي ، عبد العزيز بنعبد الله ( المغرب )، عامر محمد بحيري، عمر الدسوقي ، عبد العزيز الدسوقي ، عبد الله كنون ، عز الدين الأمين ( من السودان )، علي أدهم ، عمر فروخ ، علي الجندي ، قدري حافظ طوقان ، كامل السوافيري ( من فلسطين )، كامل الكيلاني ، محب الدين الخطيب ، د. محمد صبري ، الأمير مصطفى الشهابي ( من سوريا ) ، محمد صبيح ، محمد عبد الغني حسن ، محمد عطا ، محمد علي ديوز ( من الجزائر ) ، محمد عبد الله عنان ، د. محمد محمد حسين ، د. مصطفى الحفناوي ، هلال ناجي ( من العراق )، وديع فلسطين ، د. يوسف عز الدين ( من العراق ) ). ... 0
من أعلام الفكر والأدب / أنور الجندي
ط. الدار القومية للطباعة والنشر ، القاهرة ، 29 / 9 / 1964 ، ـ مذاهب وشخصيات ( 98 ) ، قطع متوسط ، 186 صفحة .
الكتاب قبل التوجه الفكري الإسلامي النقي للمؤلف ، وعليه فالتراجم التي فيه لا تعكس فكر أنور الجندي الإسلامي الأصيل . ... 1964
107 ... عبد العزيز جاويش من رواد التربية والصحافة والاجتماع / أنور الجندي
ط. المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر ( الدار المصرية للتأليف والترجمة ) ، مصر ، سلسلة أعلام العرب ( 44 ) ، قطع دون المتوسط ، 231 صفحة ، بدون تاريخ .
الكتاب ترجمة عبد العزيز جاويش . ... 0
13 ... عالمية الإسلام / أنور الجندي
ط. دار الاعتصام ، مصر ، قطع دون المتوسط ، إيداع 1987 م ، 142 صفحة .
** أبواب الكتاب :
1 ذاتية الإسلام
2 خصائص الإسلام
3 معطيات الإسلام
4 حضارة الإسلام
5 عالمية الإسلام ... 1987
79 ... الصحافة السياسية في مصر منذ نشأتها إلى الحرب العالمية الثانية / / أنور الجندي
ط. مكتبة الأنجلو المصرية ودار المعرفة ، القاهرة ودار المعارف بيروت ، قطع دون المتوسط، 672 صفحة ، 1962 م
الكتاب هو المجلد الأول من مؤلفه : " تطور الصحافة العربية وأثرها في الأدب المعاصر "، والذي يتكون من ثلاثة مجلدات هي :
1- الصحافة السياسية في مصر منذ نشأتها إلى الحرب العالمية الثانية
2 - تطور الصحافة العربية بين الحربين ( 1919 – 1939 )
3 - تطور الصحافة في العالم العربي بعد الحرب الثانية إلى اليوم.
قال في مقدمة الكتاب يصف الجهد الذي بذله لتأليف الكتاب : " وإننا نستطيع أن نتصور كيف يكون الجهد من أجل ذلك إذا ذكرنا أننا في صدد دراسة هذه الحلقة عن الصحافة السياسية في مصر قرأنا ألوف الصفحات من عشرات الصحف ، وأننا قرأنا قراءة استيعاب كاملة ( جريدة الأهرام منذ عام 1920 – 1939 ) وأعددنا فهرسا موضوعيا للانتفاع به في بحث هذه الفترة بلغ أكثر من ألف صفحة ، وإنا من أجل البحث عن صحف فترة ( 1880 – 1939 ) قد صعدنا إلى مكتبة دار الكتب بالقلعة يوميا لمدة عام كامل ".
ثم قال ص هـ : " وإنا لنرجو أن نبذل أضعاف هذا الجهد من أجل دراسة مماثلة للصحافة السياسية في العالم العربي كله من المحيط إلى الخليج لنكشف الصورة الحقيقية للفكر العربي من خلال هذا الجانب السياسي التي غلب عليه الزيف أحيانا ورسمت فيه بطولات خادعة وأقصيت بطولات صادقة مجاهدة ".
الكتاب في الواقع دراسة جادة هامة . ... 1962(/4)
133 ... أهداف التغريب في العالم الإسلامي / أنور الجندي
ط. الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة الإسلامية ، الأزهر ، مصر ، قطع متوسط ، سلسلة ( قضايا إسلامية معاصرة ) ، 1987 م
** أبرز قضايا الكتاب :
1. مؤامرة التغريب وأبعادها
- أهداف التغريب .
- الغزو الثقافي : سلاح التغريب وأداته
- الاستشراق والتبشير .
2. تزييف مفهوم الإسلام الأصيل .
- تزييف مفهوم الإسلام الأصيل .
- تحطيم الوحدة الإسلامية .
- إفساد المصادر والمراجع .
3. المعاول ما تزال تضرب في جدار الإسلام .
- التعليم هو منطلق التغريب الأول
- تدمير العقيدة الإسلامية .
- التشكيك في الشريعة الإسلامية .
- تزييف الثقافة الإسلامية
- مفاهيم النفس والأخلاق والاجتماع .
- طرح سموم الحضارة الغربية في مجتمعنا .
- المؤامرة على الفصحى لغة القران .
- محاولة تزييف تاريخ الإسلام .
- محاولة تدمير التراث الإسلامي .
- محاولة فرض مفهوم وثني للفن .
4. مواجهة أخطار التغريب .
- مواجهة أخطار التغريب.
- نظريات مسمومة .
- التحرر من المسلمات الباطلة . ... 1987
87 ... عبد العزيز الثعالبي رائد الحرية والنهضة الإسلامية 1879 – 1944 / أنور الجندي
ط. دار الغرب الإسلامي ، بيروت ، ط1 : 1404 / 1984 ، قطع دون المتوسط ، 222 صفحة . ... 1984
65 ... المعارك الأدبية في مصر منذ 1914 – 1939 م / أنور الجندي
ط. مكتبة الأنجلو المصرية ، القاهرة ، 1983 م ، قطع متوسط ، 728 صفحة
** أبرز نقاط الكتاب :
1. معارك الوحدة والتجزئة
- معركة الوحدة العربية ( طه حسين وعزام والخطيب ) ص 16
- مصر بين العربية والفرعونية ( الزيات وعثمان ص 28
- معركة العروبة والمصرية ( ساطع الحصري وطه حسين ) ص 59
2. معارك اللغة العربية ص 73
- تمصير اللغة العربية ( مصطفى الرافعي ولطفي السيد ) ص 73
- مجمع اللغة ما هي مهمته ؟ ( منصور فهمي وطه حسين ) ص 82
- معركة الكتابة بالحروف اللاتينية ( عبد العزيز فهمي و محمد كرد علي ) ص 90
3 معارك مفاهيم الثقافة ص 104 :
- ثقافة الشرق وثقافة الغرب ص 104 ( معركة بين فيلكس فارس و إسماعيل أدهم )
- لاتينيون وسكسونيون : بين العقاد وطه حسين ( ص 127 :
- النزعة اليونانية : بين زكي مبارك وطه حسين ص 137
- كتابة السيرة : بين التاريخ والأسطورة ص 148
- بين هيكل وطه حسين ص 148
- معركة الترجمة : بين منصور فهمي وطه حسين ص 163
- أدب الساندويش : بين أمين الزيات والمازني والعقاد ص 169
- أدبنا هل يمثلنا ؟ : بين أحمد أمين وأمين الخولي ص 174
- غاية الأدب ، ما هي ؟ : بين زكي مبارك وسلامة موسى ص 178
- متى يزدهر الأدب ؟ : بين لطفي جمعة وزكي مبارك ( ص 181
- الأدب المكشوف : بين توفيق دياب وسلامة موسى ص 185
- التراث الشرقي : يكفي أو لا يكفي : بين عبد الرحمن الرافعي والعقاد ص 194
- ثقافة دار العلوم : بين أحمد أمين ومهدي علام ص 198
4. معارك الأسلوب والمضمون : ص 205
- بين الرافعي وسلامة موسى وطه حسين ص 205
- أسلوب الكتابة : معركة بين شكيب أرسلان وخليل السكاكيني ص 213
- أساليب الكتابة : بين شكيب أرسلان ومحمد كرد علي ص 222
5. معارك النقد : ص 231 :
- أسلوب طه حسين : بين المازني وطه حسين ص 231
- مقومات الأدب العربي : بين زكي مبارك و أحمد أمين ص 241
- مذهبان في الدب : بين أنصار الرافعي وأنصار العقاد ص 266
- بين النقد الذاتي والموضوعي : بين أحمد أمين وطه حسين ص 296
- الأدب بين التجديد والانحراف : بين زكي مبارك وزكي أبو شادي ص 296
- هل نقتبس أم نقلد : بين منصور فهمي وطه حسين ص 307
- معركة فقدان الثقة : بين محمد حسين هيكل وطه حسين ص 310
- الفن للفن والفن للمجتمع : بين أحمد أمين وتوفيق الحكيم و عبد الوهاب ص 319
6. معارك النقد حول الكتاب :
- رسالة منصور فهمي للدكتوراه ص 329
- الخلافة وأصول الحكم : معركة حول كتاب علي عبد الرازق ص 334
- معركة الشعر الجاهلي ص 346
- كتاب " النثر الفني " : بين زكي مبارك وفريد وجدي ولطفي جمعة ص 379
- كتاب " أوراق الورد " بين الرافعي ولطفي جمعة و إبراهيم المصري ص 388
- كتاب " ثورة الأدب " : بين فريد وجدي وهيكل ص 394
- كتاب " مع المتنبي " بين محمود شاكر وطه حسين ص 404
- معركة " مستقبل الثقافة " : بين طه حسين وساطع الحصري وزكي مبارك و محمد حسين ص 409
7. المعارك بين المجددين [و] المحافظين
- معارك الرافعي مع العقاد وطه حسين وزكي مباركو عبد الله عفيفي ص 427
- معركة فضل العرب على الحضارة بين طه حسين و أحمد زكي باشا وشكيب أرسلان ص 445
- الدين والمدنية بين محمود عزمي وعلماء الأزهر ص 451
- التغريب : بين حسين فوزي وسعيد العريان ص 455
- حقوق المرأة : مساجلة بين رشيد رضا ومحمود عزمي ص 457
- معركة حول التراث القديم : بين زكي مبارك والسباعي بيومي ص 463
- معركة الخلاف بين الدين والعلم ص 475(/5)
- جمال الدين الأفغاني ورينان : بين رشيد رضا و مصطفى عبد الرازق ص 490
- خم النوم : بين أحمد زكي باشا وزكي مبارك
- بين النقد والتفريط : بين زكي مبارك و عبد الله عفيفي ص 511
8. معارك بين المحافظين حول اللغة
- بين أحمد زكي باشا ومحمد مسعود ص 518
9. معارك نقد الشعر ص 535
- بين شوقي ونقاده ص 527
- بين عبد الرحمن شكري والمازني ص 547
- إمارة الشعر : بين الزهاوي ومطران ص 565
- ديوان " وحي الأربعين " : بين مصطفى صادق الرافعي والعقاد ص 570
10. معارك النقد في المجددين
- بين التغريب والتجديد : مساجلة بين توفيق الحكيم وطه حسين ص 587
- معركة الكرامة : بين توفيق الحكيم وطه حسين ص 595
- معركة الصفاء بين الأدباء : بين توفيق الحكيم وزكي مبارك والعقاد والزيات ص 607
- معارك النقد : بين العقاد وطه حسين ص 624
- بين ز كي مبارك وخصومه ص 634
- مبارك ينقد كتابه " الأخلاق عند الغزالي " ص 642
- بين العقاد وخصومه ص 646
- بين سلامة موسى وخصومه ص 649
- بين المازني وخصومه ص 656
- معارك أدبية بين د. هيكل وطه حسين ص 660
- أضخم معركة في تاريخ الأدب العربي المعاصر بين زكي مبارك وطه حسين ص 670
- المعارك الأدبية بين شباب الأدب وشيوخه ص 713 ... 1983
134 ... الفكر الغربي دراسة نقدية / أنور الجندي
ط. إدارة الشئون الإسلامية ، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية ، الكويت ، قطع دون المتوسط ، 360 صفحة .ط 1 : 1407 هـ / 1987 م .
قال مؤلفه في مقدمته ص 7 : " لقد أصبح من الضروري على الأمة الإسلامية قبل نهاية العقد الأول من القرن الخامس الهجري أن تحدد موقفها من الفكر الغربي والحضارة الغربية تماما بعد أن مرت معهما بمراحل متعددة أبرزها الانبهار والتبعية ثم العودة إلى الذات والتماس المنابع واكتشاف فساد نظرية الولاء وضرورة الانعتاق والتحرر ، وقد جاءت الأحداث عاملة على وضع المسلمين على طريق الأصالة بعد أن خدعتهم فكرة الولاء والتبعية وترتب عليها هزيمتهم واحتوائهم وحصارهم وسقوط أعز درة من تاريخ وجودهم الإسلامي وهى القدس مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقبلة الأولى في أيدي أعدى أعداء الإنسانية ( يهود ) … "
** النقاط الرئيسية في الكتاب :
- الفكر الغربي قبل الإسلام .
- بين الأديان السماوية والفلسفات .
- المواجهة مع الفكر الغربي .
- طاقة جديدة من النور .
- ماذا يري مفكرو الغرب في حضارتهم .
- ماذا يرى مفكرو الغرب في عقيدتهم .
- تساقط أوراق الخريف .
** ومن الفوائد في الكتاب :
. ماذا أخذ الغرب وماذا أعطى ص 48
. أرسطو بين الفارابي وابن سينا ص 58
. جارودي مرجع جديد في فهم الإسلام ! ص 289 ... 1987
1 ... إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام / أنور الجندي
ط. دار الاعتصام ، القاهرة ، إيداع 1985 م ، قطع متوسط ، 334 صفحة .
كتاب هام جدا . قال مؤلفه ص 5 :
" في مطلع هذا القرن الهجري الخامس عشر تقتضينا أمانة القلم ومسئولية الكتابة في الثقافة والأدب والعمل الصحفي خلال أربعين عاما أن نعيد النظر في كتابات العصريين الذين حاولوا السيطرة على آفاق الفكر الإسلامي الأصيلة وتحويلها من وجهتها الخالصة لله تبارك وتعالى إلى وجهات متعددة وصدق الله تبارك وتعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله .. } … "
ثم قال ص 21 بعد أن استعرض ما عاث فيه الصحفيون فسادا والحصار على الصحافة الإسلامية : " من أجل هذا كله كان لابد من " إعادة النظر في كتابات العصريين " . اللهم اجعلنا سلما لأوليائك حربا على أعدائك ، نحب بحبك من أحبك ونبغض ببغضك من خالفك ، هذا وبالله التوفيق ".
** أبرز قضايا الكتاب :
1- قضايا مثارة في ضوء الإسلام :
- الشريعة الإسلامية ( فتحي غانم – روز اليوسف
- عقيدة ومنهاج وحياة ( محمد خلف الله - فؤاد زكريا - حسن حنفي )
- مفهوم الإسلام للفن وقضاياه .
- المؤامرة على الخلافة والدولة العثمانية – عبد الحميد الكاتب : أخبار اليوم
- كتاب الإسلام وأصول الحكم ليس من تأليف على عبد الرازق بل من تأليف مرجليوث .
- الذاتية الإسلامية ومعركة المحافظة عليها .
- مصر عربية إسلامية - محاولة للقضاء على الانتماء العربي الإسلامي .
- استعلاء موجة الجنس في الأفلام والمسرحيات والمسلسلات .
- حقيقة القمم الشوامخ والعمالقة .
- خلفاء طه حسين وغلمان المستشرقين وزكي نجيب محمود - توفيق الحكيم - حسين فوزي .
- سقوط مذهب الوجودية .
- المؤامرة على الفصحى لغة القرآن - لويس عوض
1. كتاب العصر :
أ . جيل الرواد : ( رفاعة الطهطاوي ، لطفي السيد ، علي عبد الرازق ، أمين الخولي ، حسين فوزي ، العقاد ، هيكل ، طه حسين )
ب . كتاب لبنان المارون ( فارس نمر ، فرح أنطون ، سليم سركيس ـ يعقوب صنوع ، شبلي شميل ، أديب إسحق ، لويس صابونجي ، جبران خليل جبران (أدب المهجر )، جرجي زيدان ( روايات الإسلام ) ).(/6)
ت . الفن والمسرح : نجيب الريحاني - زكى طليمات – يوسف وهبي .
ث . دعاة التغريب ( ساطع الحصري (القوميات )، سلامة موسى (التغريب )، توفيق الحكيم ( التغريب )، توفيق الحكيم - محاولة جديدة على طريق تغريب الإسلام . لويس عرض (التغريب ) .
ج . نجوم الصحافة ( مصطفى أمين ، إحسان عبد القدوس (القصة)، أمينة السعيد ( الصحافة النسوية ) حسين مؤنس (التغريب )، صلاح جاهين ( العامية )، يوسف إدريس (التغريب ) ، أنيس منصور )
ح . دعاة الشعوبية .
- مناهج التعليم : أتياع ديوي ( إسماعيل القباني - عبد العزيز القوصي ) .
- د. محمد أحمد خلف الله ( الشعوبية)
- عبد الرحمن بدوي (الفلسفة الوجودية ) .
- غالي شكري ( التراث ).
- زكي نجيب محمود (التغريب ).
- عبد الرحمن الشرقاوي ( التفسير المادي للتاريخ )
- عمر عبد العزيز أمين ( ترجمة القصة )
- صلاح عبد الصبور ( الشعر الحديث بلا شهادة ميلاد )
- عصبة العلمانية أعداء الشريعة الإسلامية - خلفاء علي عبد الرازق : ( خالد محمد خالد ، أحمد بهاء الدين ، محمد عمارة ، محمد أحمد خلف الله ، محمد سعيد عشماوي )
- إعادة النظر في كتابات التغريب ... 1985
11 ... اليقظة الإسلامية في مواجهة التغريب / أنور الجندي
ط. دار الاعتصام ، القاهرة ، 1991 م ، 383 صفحة ، قطع متوسط .
قال مؤلفه ص 5 :
" يعنى هذا البحث بدراسة حركة اليقظة العربية الإسلامية فترة ما بين الحربين ( 1920 - 1940 ) . ولما كانت هذه المرحلة إنما تمثل حلقه من حلقات الفكر الإسلامي كله منذ فجر الإسلام . وكانت حركة اليقظة في العصر الحديث قد بدأت في منتصف القرن الثالث عشر الهجري ( عام 1256 م تقريبا ) فإن الأمر يقتضي تقديم عرض سريع شامل للمعطيات التي قدمتها المرحلة السابقة حتى أوائل الحرب الأولى حتى يمكن استعراض هذه المرحلة الدقيقة التي حفلت بالتحديات والأخطار والتي واجهتها حركة اليقظة في دقة وحسم واستطاعت أن تكشف زيفها وأن ترد عاديتها وخطرها ، وأن تكسب إلى صفها بعض خصومها ".
** أبرز القضايا :
1. مدخل تاريخي سياسي
2. حركة التغريب .
3. نمو حركة اليقظة واتساع آفاقها . ( المدرسة القرآنية : جماعة الإخوان )
4. بناء الفكر العربي الإسلامي ومضامينه ( العمل الأكبر للدعوة الإسلامية الحكم بكتاب الله )
5. التحديات في وجه حركة اليقظة .
- تحديات التغريب وقضاياه
- عالمية الثقافة .
- التبعية للاستشراق والتغريب .
- الحملة على الإسلام ورجال الأزهر
- تجزئة الإسلام .
- الهجوم على القرآن
- الشريعة والقانون .
- النظرية المادية .
- إقليمية الأدب .
- الهجوم على الفصحى
- التغريب
- تزييف التاريخ وتدمير البطولة .
- إحياء الأساطير
- الشعوبية واتهام العقلية العربية
- إسقاط الحضارة الإسلامية
- الإغريقيات والنزعة اليونانية
- فصل الأدب عن مقومات المجتمع والفكر
- المرأة والمجتمع
- الأدب المكشوف والإباحية
- الدعوات الهدامة
- الإقليمية الضيقة
- تعظيم الغرب
- التبشير والإرساليات الأجنبية
- اتهام الأدب العربي
- العروبة ذات الجذور . . والانفصالية
- تغريب التعليم والجامعة والتربية
- إحياء ما قبل الإسلام
6. انكسار الموجة
- الانتقاض على تيار التغريب ( أولا : النتائج التي حققها انكسار الموجة . ثانيا : دراسات التاريخ ثالثا : إحياء التراث رابعا : الشريعة خامسا : الحضارة سادسا : اللغة سابعا : الصحافة
7. مدرسة اليقظة أعمدها ومناهجها ( عبد الحميد بن باديس ، محمود أبو العيون ، مصطفى صادق الرافعي ، فريد وجدي ، محمد مصطفى المراغي ، علي العناني ، محمد أحمد الغمراوي ، حسن البنا )
صحافة اليقظة ، مجلة المنار ، مجلة الفتح ، مجلة الشبان المسلمين ، مجلة الرسالة ، مجلة دار العلوم ، مجلة الأزهر ، مجلة النذير .
8. الانتقاض على حركة التغريب ( منصور فهمي ، إسماعيل مظهر ، الدكتور هيكل ، زكى مبارك
9. كبرى قضايا الفكر العربي ( قضية تحريف المفاهيم وتزييف القيم . تقرير اللجنة عن كتاب الأدب الجاهلي . ظاهرة الضعف والتخلف في العصور الأخيرة ).
10. عروبة مصر وإسلامية الثقافة
خاتمة : إيماءات إلى مصادر الخطر . ... 1991
23 ... حركة اليقظة الإسلامية في مواجهة النفوذ الغربي والصهيونية والشيوعية
ط. دار الاعتصام ، القاهرة ، إيداع 1979 م ، 430 صفحة ، قطع متوسط .
** أبواب الكتاب :
1. الوحدة الإسلامية
2. الدعوة الإسلامية
3. مواجهة التحديات
4. مواجهة التحدي الخطير ( الصهيونية ، الشيوعية ، والنفوذ الغربي )
5. أمة القرآن على أبواب القرن الخامس عشر . ... 1979
31 ... عقبات في طريق النهضة مراجعة لتاريخ مصر الإسلامية منذ الحملة الفرنسية إلى النكسة 1898 – 1964
ط. دار الاعتصام ، القاهرة ، بدون تاريخ ، 351 صفحة ,
** أبواب الكتاب :
1. من التبعية إلى اليقظة ( ومما تضمنه : محمد علي ، إسماعيل باشا ، جمال الدين الأفغاني ، سعد زغلول وطه حسين )
2. من النكسة إلى الأصالة(/7)
3. تزييف حقائق الإسلام
4. تمزيق الوحدة الإسلامية
5. تدمير المجتمع الإسلامي
6. القانون الوضعي والاقتصاد الربوي
7. تحديات في وجه الثقافة العربية الإسلامية
8. اقتحام العقبات
- ومما تضمنه :
- بيان مصطلحات : ( الأمة الإسلامية ) ص 10 ، الأصالة ص 11 ، مصطلح الحرية ص 11 ، الإيمان الصادق ص 11 . ... 0
4 ... تاريخ الإسلام في مواجهة التحديات
ط. مكتبة التراث الإسلامي ، القاهرة ، إيداع 1989 م ، 400 صفحة ، قطع متوسط .
** أبواب الكتاب :
1. تاريخ ما قبل الإسلام
2. تاريخ الإسلام اليوم
3. تاريخ : وطني وقومي وإسلامي جامع
4. تفسير التاريخ الإسلامي
5. تصحيح أكبر خطأ في تاريخ الإسلام الحديث ( السلطان عبد الحميد ) ... 1989
85 ... صفحات مجهولة من الأدب العربي المعاصر
ط. مكتبة الأنجلو المصرية ، القاهرة ، ط 1 : 1979 م ، 395 صفحة ، قطع متوسط
** أبرز نقاط الكتاب :
* أولا : في أصول العمل الأدبي :
1. بناء الفكر العربي من خلال أعمال الموسوعيين العرب .
2. مصابيح مضيئة على طريف الثقافة العربية
3. المراجع المدونة والمصادر الحية
4. غوامض في تاريخ الأدب
5. أدوات الكاتب ومصادره
6. المصادر الحية
* ثانيا : أطروحات الأدب :
1. المدرستان الفرنسية والإنجليزية
2. التفريط والابتعاد
3. التعدين الهجاء والدعاية
4. أول معركة في النقد
5. طبقات الشعراء .. معركة بين الرافعي والمنفلوطي ومطران .
6. بين المنفلوطي والرافعي
7. فليكس فارس والمدرسة الوسطى
8. بين هيكل وطه حسين
9. حسن العطار وعبد الغني حسن
10. فن الكتابة
11. التجربة في حياة الفنان
12. عناوين الكتب بين الغرابة والغموض
13. الكاتب ومراجع الكاتب
14. أدب الطفل : كامل كيلاني
- أدب الطفل ( بين كيلاني وبرانق )
- المراسلات الأدبية وقيمتها الفكرية
- رسائل الرافعي
- رسائل الريحاني
- رسائل بين الكتاب والقراء
4. السرقات الأدبية :
- إبراهيم المازني والسرقات
- سرقات المازني في الترجمة .
5.فن التراجم
- الصلة الشخصية في كتابة التراجم والسير
- أزمات الأدباء : أزمة العصر وقضية الشراب
- أزمة سعيد العريان
- لماذا هاجر أبو شادي
6. من تاريخ الأدب :
- منزل في عين شمس ( حافظ إبراهيم يصور بيت محمد عبده في عين شمس )
- ثلاثة زعماء من صالون نازلي فاضل : سعد زغلول – محمد عبده – قاسم أمين
7. أدب المرأة :
- أزمة مي زيادة
- أزمة الأديبات العربيات ( عائشة التيمورية ص 326 ، ملك حفني ناصف ص 328 ، مي زيادة ص 333 )
- مريم مزهر ووسيلة محمد ( سليم سركيس – حافظ نجيب )
- زينب فواز ( أول عربية كتبت في صحف مصر )
- قاسم أمين وسر دعوته إلى تحرير المرأة ص 360 :
7. من أدب الرحلات
8. أضواء جدية على شخصيات لامعة ص 372
- أيام من حياة شوقي
- جوانب من حياة العقاد ... 1979
2 ... من سقوط الخلافة إلى مولد الصحوة
ط. بيت الحكمة ، القاهرة ، 1990 م ، 231 صفحة .
على صفحة العنوان : ( مع مطالع القرن الخامس عشر الهجري . موسوعة التأصيل الإسلامي . الفكر المعاصر والخروج من التبعية )
** فصول الكتاب :
1. الإسلام والغرب .
2. الدولة العثمانية .
3. الخلافة
4. الوحدة الإسلامية
5. القومية والعروبة
6. العروبة والإسلام
7. اليقظة
8. الأصالة
9. الصحوة
10. عالمية الإسلام
11. تاريخ الإسلام
12. اللغة العربية ... 1990
112 ... تصحيح المفاهيم في ضوء الكتاب والسنة / أنور الجندي
ط. دار الاعتصام ، القاهرة ، إيداع 1983 م ، قطع متوسط ، 480 صفحة .
في الغلاف الأخير للكتاب : " تصحيح المفاهيم في ضوء الكتاب والسنة . موسوعة ميسرة جامعة ، تقدم :
أولا : مفاهيم الإسلام في : التوحيد ، أصول الإسلام ، الفطرة ، الاجتماع الإسلامي ، القرآن الكريم والسنة ، التربية الإسلامية ، الغيب ، الفن الإسلامي ، سنن الله ، الاقتصاد الإسلامي ، الفكر السياسي الإسلامي ، الفصحى لغة القرآن ، النبوة ، وحدة الدين ، الروح ، الحضارة الإسلامية ، الشريعة الإسلامية ، تاريخ الإسلام
ثانيا : وجهة نظر الإسلام في القضايا الآتية :
التغريب ، الاستعمار ، الطائفية ، الفاشية ، الإقليمية ، العلمانية ، الأيدلوجيات ، الروحية الحديثة ، الأنثروبلوجية ، الوجودية ، الفلكلور ، الاقتصاد ، الاستشراق ، الديمقراطية ، الحكومة الثيوقراطية ، العروبة ، السامية ، التقدم ، الفرويدية ، الفرعونية ، الأسطورة ، الانفجار السكاني ، أزمة الحضارة المعاصرة ، الاجتماع والعلوم السياسية ، التفسير ، الرأسمالية ، الشعوبية ، القومية ، السلفية ، الصهيونية ، الدارونية ، البهائية ، التطور ، الشعر الحر ، فساد نظام الربا ، القصة . ... 1983
40 ... المدرسة الإسلامية على طريق الله ومنهج القرآن
ط. دار الاعتصام ، القاهرة ، 1984 م ، 271 صفحة ، قطع متوسط .
يدور الكتاب حول المدرسة الفكرية لجماعة الإخوان المسلمين . كُتب في أعلى صفحة العنوان الداخلية : "ليس كتابا عن التعليم ، بل عن الدعوة " .(/8)
** اشتمل الكتاب على الشخصيات التالية :
1 حسن البنا
2 عمر التلمساني
3 محمد الغزالي
4 صالح العشماوي
5 عبد الحليم محمود
6 محمد متولي الشعراوي
7 سيد قطب
8 علي سامي النشار
9 محمد المبارك
10 عبد القادر عودة
11 محمد البهي
12 محمود شيت خطاب
13 محمد محمد حسين
14 يوسف القرضاوي
15 عيسى عبده
16 محمود أبو السعود
17 مصطفى كمال وصفي
18 مالك بن نبي
19 ضياء الدين الريس
20 محمد عطية خميس
21 حسان حتحوت
22 المهدي بن عبود
23 مصطفى السباعي
24 محمد عبد الله دراز
25 محمد أحمد الغمراوي
26 أبو الأعلى المودودي
27 أبو الحسن الندوي
28 عمر بهاء الدين
29 زينب الغزالي
30 أنور الجندي ( ص 256 : 263 )
31 عمر فروخ . ... 1984
يقظة الفكر العربي 1- في مواجهة الاستعمار
ط. مطبعة الرسالة ، القاهرة ، إيداع 1971 م ، قطع متوسط ، 304 صفحة .
" يقظة الفكر العربي " : يضم هذا البحث ثلاث حلقات :
1. اليقظة في مواجهة الاستعمار .
2. اليقظة في مواجهة التغريب .
3. اليقظة في مواجهة الشعوبية ".
- يتبع هذا الكتاب مجموعة ( مصادر الموسوعة العربية الإسلامية )
مما ضم الكتاب :
- محمد بن عبد الوهاب ص 47
- الشوكاني ص 59
- رفاعة الطهطاوي ص 64
- خير الدين التونسي ص 74
- الآلوسي ص 77
- التصوف السني ص 79
- محمد علي السنوسي ص 80
- الطرق الصوفية ص 86
- مدحت باشا ص 92
- جمال الدين الأفغاني ص 95
- ضيا آل كوك ص 117
- صدام القومية العربية والطورانية ص 133
- كرومر ص 145
- جمال الدين الأفغاني ص 150
- محمد عبده ص 162
- عبد الرحمن الكواكبي ص 174
- شبلي شميل ص 207
- فرح أنطون ص 207
- لطفي السيد ص 219 ... 1971
45 ... التفسير الإسلامي للفكر البشري .. الأيدلوجيات والفلسفات المعاصرة في ضوء الإسلام .. دراسة جامعة (الفلسفة المادية ، العلمانية ، التفسير المادي للتاريخ ، البرجماتية ، الأجناس ، النفس والجنس لفرويد ، النسبية ، الوجودية ، الهيبية ، الروحية ، البهائية )
ط. دار الاعتصام ، القاهرة ، إيداع 1978 م ، قطع متوسط ، 298 صفحة . ... 1978
115 ... الصحافة الإسلامية / أنور الجندي
ط. دار الاعتصام ، القاهرة ، إيداع 1986 م ، 423 صفحة .
** أبرز المحتويات :
1. مجلة الفتح للسيد محب الدين الخطيب
- عرض تحليلي عام لأدوار المجلة من سقوط الخلافة إلى سقوط فلسطين
- الدعوة الإسلامية
2. القوى المناهضة لإسلام
- مؤامرة التبشير والاستشراق
- التغريب والغزو الفكري
- قضايا الغزو الفكري
- دعاة التغريب
- تغريب الجامعة
- مطاعن طه حسين في الإسلام
- الفرق الضالة
3. قضايا العالم الإسلامي الكبرى
- تطويق العالم الإسلامي وهدم الوحدة الإسلامية
- تغريب تركيا وسقوط الخلافة الإسلامية
- الصهيونية والقضية الفلسطينية
- قضية شمال إفريقية
- قضية مسلمي الهند وقيام باكستان
- مسلمي أندونيسيا
- حول قضايا العالم الإسلامي
4. قضايا الإسلام الكبرى
- التشريع الإسلامي
- التربية الإسلامية
- المجتمع الإسلامي
- الوحدة الإسلامية والقوميات
5 .الدعوة الإسلامية
- الدعوة الإسلامية
- دعاة الإسلام
1. الصحافة الإسلامية في مواجهة الصحافة التغريبية .
- معارك الصحافة الإسلامية في مواجهة الصحافة التغريبية
- تاريخ الإسلام والتراث
- الإسلام في الغرب
- مقارنات الأديان ... 1986
تراجم الأعلام المعاصرين في العالم الإسلامي
ط. مكتبة الأنجلو المصرية ، القاهرة ، ط 1 : 1970 م ، 495 صفحة
قال مؤلفه ص 4 : " عندما يتاح لنا اليوم أن تتحقق أمينة غالية عاشت في أعماق النفس زمنا ، وهي إصدار موسوعة ( تراجم الأعلام )
** تضمن :
إبراهيم هنانو
أبو الكلام آزاد
أحمد عرابي
أمير بقطر
أمير علي
إسماعيل عصيرنسكي
جمال الدين القاسمي
خير الدين التونسي
رشيد رضا
رشيد عالي الكيلاني
رفيق العظم
شبلي النعماني
شكيب أرسلان
صلاح الدين الصباغ
طاهر الجزائري
طنطاوي جوهري
عزيز المصري
عبد الحميد بن باديس
عبد الحميد الزهراوي
عبد الرحمن شهبندر
عبد الرحمن الرافعي
عبد العزيز الثعالبي
عبد القادر الجزائري
عبد القادر المغربي
عبد القادر الحسيني
عبد الكريم الخطابي
عبد المحسن الكاظمي
علي مبارك
علي يوسف
عمر مكرم
فارس الخوري
فريد وجدي
مدحت باشا
محمد أحمد المهدي
محمد علي جناح
محمد بن عبد الوهاب
محمد بن علي السنوسي
محمد بن العربي العلوي
محمد مصطفى المراغي
محمد مصدق
محمد مسعود
مصطفى عبد الرازق
مصطفى كامل
نعمان ، أبو الثناء ، الآلوسي
يوسف العظمة ... 1970
12 ... اليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار ( منذ ظهورها إلى أوائل الحرب العالمية الأولى )
ط. دار الاعتصام ، القاهرة ، بدون تاريخ أو رقم إيداع .
جاء في ص 7 :
" اليقظة الإسلامية .. دراسة للفكر الإسلامي في العصر الحديث ، تصدر في ثلاث حلقات :
الأولى : في مواجهة الاستعمار .
الثانية : في مواجهة التغريب .
الثالثة : في مواجهة الأيدلوجيات الغربية والماركسية والصهيونية .(/9)
قال مؤلفه ص 9 : " إن يقظة الفكر العربي الإسلامي التي جاءت بعد مرحلة الضعف والتخلف إنما انبثقت من قلب المجتمع العربي الإسلامي نفسه ، وأنها لم تبدأ من خلال حركة خارجية ، أو أنها جرت بمحض الصدفة ، وهي خطوة طبيعية للفكر العربي الإسلامي ، وفق قانونه الطبيعي الذي يعطيه دائما القوة على التجدد من التجدد من الداخل … " ... 0
77 ... قضايا العصر ومشكلات الفكر تحت ضوء الإسلام
ط. مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ط1 : 1401 / 1981 ، 252 صفحة .
** مما تضمنه :
1. قضايا العصر :
- الإسلام والعلم - الإسلام والدين - الإسلام والتوحيد - الإسلام والحضارة المعاصرة
- الإسلام والنفس الإنسانية - الإسلام والأخلاق - الإسلام والأدب - الإسلام والمجتمع
- الإسلام والروحية الحديثة
2. مشكلات الفكر :
- القيم - التطور - الحرية - العقل - التقدم - العلوم والإنسانيات - التجديد - الأصالة
- البطولة - اصطلاح " المأساة " - النبوة والعبقرية - الفنون الجميلة - لقاء الأجيال
- الضياع - الفلكلور - مصطلح " الضمير " ... 1981
58 ... تأصيل مناهج العلوم والدراسات الإنسانية بالعودة إلى منابع الفكر الإسلامي الأصيل
ط. المكتبة العصرية ، بيروت ، قطع متوسط ، 1983 ، 208 صفحة .
يدور الكتاب حول المقدمات الإسلامية للمناهج التالية :
1. العلوم والدراسات الإنسانية
- مقدمات العلوم
- مقدمات الفلسفة
- مقدمات القانون
- مقدمات التاريخ
- مقدمات النفس والأخلاق
2. الدراسات الاجتماعية
- مقدمات الاجتماع
- مقدمات العلوم السياسية
- مقدمات علم الاقتصاد
- مقدمات التربية
- مقدمات الحضارة
3. الدراسات الثقافية والأدبية
- مقدمات الثقافة
- مقدمات اللغة
- مقدمات الأدب ... 1983
3 ... الإسلام والحضارة
ط. المكتبة العصرية ، بيروت ، قطع متوسط ، بدون تاريخ ، 254 صفحة .
** أبواب الكتاب :
1. حضارة ما قبل الإسلام
2. منطلق الحضارة الإسلامية
3. منطلق الحضارة الغربية
4. أزمة الحضارة الغربية
5. لماذا دخلت الحضارة الغربية مرحلة المحاق
6. المسلمون وحضارة الغرب
7. موقف الغرب من حضارة الإسلام
8. حضارة التوحيد وحضارة الوثنية ... 0
تصحيح أكبر خطأ في تاريخ الإسلام الحديث .. السلطان عبد الحميد والخلافة الإسلامية
ط. دار ابن زيدون ، بيروت ودار الكتب السلفية ، القاهرة ، ط1 : 1407 ، 228 صفحة .
في أعلى يمين صفحة الغلاف والغلاف الداخلي : " إعادة كتابة تاريخ الإسلام من خلال المنهج الإسلامي الأصيل لكتابة التاريخ " .
قال مؤلفه في مقدمته ص 5 : " في هذه الرسالة نحاول أن نستصفي المنهج الإسلامي في تفسير التاريخ، ونحاول أن نصحح المفاهيم إزاء أمرين خطيرين :
أولا : فساد نظرية السامية التي قدمها الاستشراق ، وفرقها على مناهج التاريخ والأدب في المدارس والجامعات .
ثانيا : ثبات مفهوم الانقطاع الحضاري فيها قبل الإسلام وبعده ، وإن كل ما كان قبل الإسلام هو تمهيد له ومقدمة ، وأن الإسلام قد جب التاريخ السابق له ، فلم يكن من الممكن إحياءه مرة أخرى . ثم تجيء الحقيقة الباهرة التي لا سبيل إلى نقضها وهي أن الإسلام والإسلام وحده هو الذي نقل العالم كله من طفولة البشرية إلى رشد الإنسانية ليدخل في الدعوة العالمية الخاتمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ".
** أبواب الكتاب :
. مقدمة : الدعوة لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي .
1 التاريخ في مفهوم الإسلام
2 البطولة في تاريخ الإسلام
3 الدولة العثمانية
4 السلطان عبد الحميد
5 كمال أتاتورك وإسقاط الخلافة
6 عودة الخلافة الإسلامية
7 يقظة الإسلام في تركيا المسلمة
8 الدرة المغتصبة بعد ثلاثين عاما
9 فساد نظرية الجنس السامي واللغة السامية
10 الانقطاع الحضاري
11 الإسلام نقل العالم من طفولة البشرية الإنسانية إلى رشد الإنسانية ... 1987
124 ... أضواء على الأدب العربي المعاصر / أنور الجندي
ط. دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ، وزارة الثقافة ، مصر ، 1388 / 1969 م ، سلسلة المكتبة العربية _ التأليف، قطع متوسط ، 296 صفحة .
قال في مقدمته ص 5 : " هذا البحث في الأدب العربي المعاصر عصارة دراسة واسعة شملت تطور فنون الأدب العربي في العالم العربي كله من المغرب الأقصى إلى العراق في الفترة التي تبدأ بالنهضة العربية التي حمل لواءها جمال الدين الأفغاني في السبعينات من القرن الماضي 1871 مع نظرة إلى مقدماتها في الثلاثينات من القرن التاسع عشر "… ... 1969
100 ... القرن الخامس عشر الهجري .. التحديات في وجه الدعوة الإسلامية والعالم الإسلامي
ط. المكتبة العصرية ، بيروت ، بدون تاريخ ، قطع متوسط ، 347 صفحة .
** النقاط الأساسية :
1. الإسلام في عالمنا المعاصر .
- تحديات القرن الرابع عشر
- نظرة عامة إلى الأحداث
- شبهات مثارة
2. مفاتيح الأصالة الإسلامية
3. المسلمون على أبواب عالم جديد
- المسلمون على أبواب عالم جديد
- التجربة الإسلامية القرآنية
- مدرسة التبعية للحضارة الغربية(/10)
- المنابع الإسلامية مازالت صالحة للعطاء
- مراجعة تراكمات الفكر البشري وزيوفه
- طريق الفلسفة وطريق القرآن
- مفهوم القوميات الزائف
- مؤامرة التغريب
- بدأ عصر الرشد الفكري
- الأصالة والعودة إلى المنابع
4. من اليقظة إلى النهضة
5. قضايا القرن الخامس عشر وتحدياته
- منهج المعرفة الإسلامي : نهج القرآن
- العودة إلى الأصالة
- أمانات الكاتب المسلم
- انتصرت الفطرة التي جاء بها الدين الحق
- جاء الغزو بعد الغفلة عن المرابطة والإعداد
- عصر الأصالة الإسلامية
- الصحوة الإسلامية تشق طريقها
- التراث
- الاقتصاد
- بناء الأجيال
- أزمة الحضارة المعاصرة
- القانون الوضعي والشريعة الإسلامية
- بعد أن عجزت الأيديولوجيات
- أرنولد توينبي وحضارة الإسلام
- الصهيونية الماركسية ... 0
137 ... التربية وبناء الأجيال في ضوء الإسلام ( كتاب ) / أنور الجندي .
ط. دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، 1982 م ، ـ الموسوعة الإسلامية العربية ( رقم 8 )، قطع متوسط ، 231 صفحة .
قال مؤلفه ص 7 : " هناك سؤال يطرح نفسه في أفق العالم الإسلامي بقوة ، وتلح الأحداث المتصلة في طلب الإجابة عليه ، وهي مقدمة اليوم على كل سؤال ، هذا هو : ما هو الخنجر الذي طعن به المسلمون ؟ لقد تحدث المصلحون عن مقاتل متعددة أصيب بها المسلمون في كيانهم ، … … ولكن أمرا من ذلك كله لم يكن أشد خطرا من احتواء الركن الركين في بناء الأمم : احتواء التربية والتعليم … "
** النقاط الرئيسية في الكتاب :
1. الدراسة التاريخية على المستوى الأفقي : ص 7 :
أ . الغزو التربوي والتعليمي والثقافي ص 19
- مدارس الإرساليات ص 21
- التعليم الوطني ص 57
2. الدراسة الموضوعية على المستوى الرأسي : ص 109 :
أ . واقع التربية الوافدة في العالم الإسلامي وآثارها ص 109
- أوجه الخلاف بين المناهج ص 111
- أوجه النقص في الاقتباس ص 131
ب . التربية والتعليم والثقافة في إطار الإسلام
- التربية الإسلامية ص 153
- التعليم الإسلامي ص 185
- الثقافة الإسلامية ص 219 ... 1982
86 ... حسن البنا الداعية الإمام والمجدد الشهيد ( 1324 – 1368 هـ = 1906 – 1949 م )
ط. دار القلم ، بيروت ، سلسلة : أعلام الدعاة المعاصرين ( رقم 1 )، 372 صفحة ، قطع متوسط ، ط 1 : 1398 هـ / 1978 م . ... 1978
34 ... المد الإسلامي في مطالع القرن الخامس عشر
/ أنور الجندي . ... ؟؟؟
عالمية الإسلام ( كتاب ) / أنور الجندي .
ط. دار المعارف ، مصر ، ـ سلسلة اقرأ ( رقم 426 ) ، 1977 م ، 158 صفحة ، 17 × 12 سم .
** أبرز نقاط الكتاب :
1. ذاتية الإسلام : أولا : الدين الحق . ثانيا : ذاتية الإسلام وطابعه المفرد .
2. خصائص الإسلام : أولا : التوحيد . ثانيا : التوازن . ثالثا : الوسطية . رابعا : فريضة الجهاد . خامسا : قانون النصر .
3. معطيات الإسلام : أولا : الأسلوب الرباني . ثانيا : الرؤية المؤمنة . ثالثا : سكينة النفس . رابعا : التربية الإسلامية . خامسا : تأمين المجتمعات من الانحراف .
4. حضارة الإسلام : أولا : حضارة الإسلام . ثانيا : العربية لغة القران . ثالثا : الإسلام وتحديات العصر .
5. عالمية الإسلام : أولا : عالمية الإسلام - ذاتية خاصة للتطبيق وقانون خاص لتفسير الحياة . ثانيا : عالمية الإسلام – في مواجهة النظريات والأيدلوجيات الوافدة . ثالثا : الإنسان والعلوم التجريبية . ... 1977
62 ... أعلام الإسلام ( تراجم الأسماء البارزة منذ عصر النبوة إلى اليوم ) ( كتاب ) / أنور الجندي .
ط. دار الاعتصام ، القاهرة ، بدون تاريخ ، 256 صفحة ، سلسلة الرسائل الإسلامية ( رقم 3 )
يضم الكتاب ترجمة أكثر من 260 شخصية إسلامية منذ عصر النبوة إلى زمن طباعة الكتاب ( _ كما في الغلاف الأخير للكتاب)، تستغرق ترجمة كل شخصية صفحة واحدة ، وأسماء الشخصيات مرتبة هجائيا .
( لعل مؤلفه وضعه قبل بلوغه تمامه الفكري . راجع ترجمة البدوي وباحثة البادية ) ... 0
أصول الثقافة العربية ( كتاب ) / أنور الجندي .
ط. دار المعرفة ، القاهرة ، إيداع 1971 م ، 405 صفحة ، قطع دون المتوسط
هذا الكتاب هو الأول في موسوعته : ( الموسوعة العربية الإسلامية )
** النقاط الرئيسية في الكتاب :
1 أصول الثقافة العربية
2 مدخل إلى مفهوم الثقافة
3 مقومات الثقافة العربية
4 معالم الثقافة العربية وخصائصها
5 معطيات الثقافة العربية
6 الثقافة العربية في مواجهة الثقافة الغربية
7 أصول الثقافة الغربية ومصادرها
8 المنحنى الخطير للثقافة الغربية
9 التحديات في وجه الثقافة العربية
10 الثقافة العربية في مواجهة الحضارة الغربية
11 موقف الثقافة العربية من الفكر الغربي
12 البناء على الأساس
13 خاتمة ( قيم الفكر الإسلامي أساس بناء الثقافة العربية ) ... 1971
146 ... الإسلام والدعوات الهدامة ( كتاب ) / أنور الجندي .(/11)
ط. دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، 1982 م ، ـ الموسوعة الإسلامية العربية ( 3 ) ، قطع متوسط ، 296 صفحة .
** أبرز النقاط :
* مصادر المذاهب القديمة ( العنوصية ، تحريف العقيدة السبئية ،المذاهب الهدامة والإلحاد ، الله في مفهوم الإسلام ، عقيدة البعث )
1. دعوات هدامة للعقائد والقيم ( الدهرية ، الثيوصوفية ، البهائية ، الروحية الحديثة " تحضير الأرواح " )
2. دعوات هدامة للمجتمعات والأمم ( أيدلوجية التلمود ، دعوة العنصرية ، المادية ، العلمانية ، العالمية )
3. دعوات هدامة للنفس والأخلاق ( الفرويدية : الجنس ، الوجودية ، الهيبية )
4. دعوات هدامة للفكر والثقافة ( الدعوة إلى إحياء ما قبل الإسلام : الوثنية ، الجاهلية ، الإقليمية ، الفرعونية، الفينيقية – الإسرائيليات ، دعوة التغريب : التبشير ، الاستشراق ، الشعوبية – إحياء الهيلينية ، الدعوة إلى العامية ) ... 1982
101 ... المثل الأعلى للشباب المسلم ( كتاب ) / أنور الجندي .
ط. المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، القاهرة ، 15 / 1 / 1392 = 1 / 3 / 1972 م ، ـ سلسلة دراسات في الإسلام (رقم 130) ، قطع دون المتوسط ، 158 صفحة . ... 1972
103 ... الشبهات والأخطاء الشائعة في الأدب العربي والتراجم والفكر الإسلامي ( كتاب ) / أنور الجندي .
( لم نجد ناشر الكتاب )، 11 / 1971م
** أبواب الكتاب :
1 في العلوم والمناهج
- الثقافة - الدين - التوحيد - الأخلاق - التربية - التصوف - التراث - الفلسفة
2 الأدب
- الأدب العربي - الإباحية ( في الأدب ) - الأدب المكشوف - التجديد - الفكر والأدب - القصة
3 الفقه
- السنة - الشريعة - الاجتهاد - التقليد - الربا - الرقيق
4 قضايا الفكر والاجتماع
- الأحجار والبطولة - الأساطير - الاستشراق - الاقتباس - الإلحاد - التسامح - التطور ( التطور والثبات) -التعقيل
- التغريب - التقدم - التكامل - التوراتية - التوحيد - الثورة الفرنسية - الجرح والتعديل - الجبرية - الجهاد
- الحرية - حرية الفكر - الخطيئة - الدولة الثيوقراطية - رجال العلم - العلم والدين - العقل العربي - العروبة والإسلام - العصرية - العصور الوسطى - عصر الانحطاط - علة تأخر المسلمين - الغيبيات - الفلكلور - الفكر والعنصر - القيم - القديم - الكتب الصفراء - كتب المحاضرات - اللاتينية - اللاهوت - المنهج العلمي التجريبي - المرأة وتحرير المرأة
- المحافظة - المعرفة والعقيدة - المثل الأعلى - منطق أرسطو - المسرح والفكر الإسلامي - القرآن والأدب - هزيمة المعتزلة - وحدة الوجود - وحدة الحضارة - الوسطية
5 الدعوات والمذاهب
- البهائية - التبشير - الصهيونية - الطائفية - العلمانية - العامية - العنصرية - الفينيقية - الفرعونية - القومية ( الضيقة )
- المادية - الماسونية - الهدامة ( المذاهب الهدامة ) - الوثنية - توحيد الأديان \\ يبدو أن الطبعة التالية أضاف إليها : القرامطة ، الشعوبية \\
6 التاريخ
- إخوان الصفا - الإسرائيليات - الإغريق واليونان - البطولة - تفسير التاريخ - الحملة الفرنسية - الخلافة - فتنة 1860
- الكشف - محاكم التفتيش - ما قبل الإسلام - معركة سانت بارتلمي - مكتبة الإسكندرية - مصر للمصريين - إرساليات لبنان
7 الكتب والمؤلفات
- الاستعمار - الاستعمار التركي - الأقليات - الإقليمية - الرجل الأبيض - الجامعة الإسلامية - الجنس - العالمية - الوطنية
- الاتحاديون وليس السلطان - ألف ليلة وليلة
8 السياسة
- شمائل المصريين المحدثين - الأغاني - البيان والتبيين - المضنون به على غير أهله - الإمامة والسياسة - المنجد - دائرة المعارف الإسلامية - يقظة العرب - الموسوعة العربية الميسرة - تحرير المرأة - حديث الأربعاء - الأخلاق عند الغزالي - على هامش السيرة - في الأدب الجاهلي
9 تراجم الأعلام
- لورنس - فيليب حتي - ساطع الحصري - المتنبي - الحلاج - السلطان عبد الحميد - السهروردي - شبلي شميل - ابن رشد
- ابن الراوندي - يعقوب أرتين - عمر الخيام - ولي الدين يكن - غاندي - سارتر - ابن خلدون - ميكافيلي - تولستوي
- يعقوب صنوع - أديب إسحاق - جرجي زيدان - نيتشه - فاركس - فرويد - سعد زغلول - لطفي السيد - كرومر
- دنلوب - ولفنجستون - فاسكو دى جاما - الغزالي - كارل مارتل - دور كايم - دارون - لورنس (لاجنس ) - جبران
- أبو نواس - هرتزل - ابن المقفع - هنري الملاح - أبو ذر الغفاري ... 1971
المختار من كتاب محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء / تأليف : حسين بن محمد ، الراغب الأصبهاني ( - 502 هـ )
اختيار : أنور الجندي . مراجعة : علي الجندي
ط. الإدارة العامة للثقافة ، وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، مصر ، ط 1 : 1960 م ، قطع دون المتوسط ، 242 صفحة ، ـ سلسلة مختارات من تراثنا .
اقتصر أنور الجندي على اختصار الكتاب . ... 1960(/12)
82 ... تاريخ الصحافة الإسلامية : 2 – الفتح : محب الدين الخطيب 1926 – 1948 م ( كتاب ) / أنور الجندي .
ط. دار الأنصار ، القاهرة ، إيداع 1986 م ، قطع متوسط ، 423 صفحة .
** أبرز نقاط الكتاب :
1 مجلة الفتح : السيد محب الدين الخطيب
- مجلة الفتح عرض تحليلي عام لأدوار المجلة من سقوط الخلافة إلى سقوط فلسطين
- الدعوة الإسلامية
2 القوى المناهضة للإسلام
- مؤامرة التبشير والاستشراق
- التغريب والغزو الفكري
- قضايا الغزو الفكري
- دعاة التغريب
- تغريب الجامعة
- مطاعن طه حسين في الإسلام
- الفرق الضالة
3 قضايا العالم الإسلامي الكبرى
- تطويق العالم الإسلامي وهدم الوحدة الإسلامية
- تغريب تركيا وسقوط الخلافة الإسلامية
- الصهيونية والقضية الفلسطينية
- قضية شمال إفريقيا
- قضية مسلمي الهند وقيام باكستان
- مسلمو أندونيسيا
- حول قضايا العالم الإسلامي
4 قضايا الإسلام الكبرى
- التشريع الإسلامي
- التربية الإسلامية
- المجتمع الإسلامي
- الوحدة الإسلامية والقوميات
5 الدعوة الإسلامية
- الدعوة الإسلامية
- دعاة الإسلام
6 الصحافة الإسلامية في مواجهة الصحافة التغريبية
- معارك الصحافة الإسلامية في مواجهة الصحافة التغريبية
- تاريخ الإسلام والتراث
- الإسلام في الغرب
- مقارنات الأديان
الكتاب ثمين جدا . ... 1986
محمد فريد أبو حديد رائد التوفيق بين العلم والدين ( كتاب ) / أنور الجندي
ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب ( مصر ) ، 1974 م ... 1974
44 ... مفاهيم العلوم الاجتماعية والنفس والأخلاق في ضوء الإسلام ( الرد على فرويد وماركس ودوركايم )
/ أنور الجندي
ط. دار الكتب ، الجزائر ، 1987 م ، قطع متوسط، 298 صفحة .
ينتمي الكتاب لحلقة فكرية للمؤلف ، أوضحها ص 7 فقال : " محاولة بناء إطار متكامل للفكر الإسلامي :
1 مقدمات المناهج .
2 الإسلامية (السياسة والاقتصاد )
3 العلوم الاجتماعية والنفس والأخلاق .
4 التربية وبناء الأجيال
5 الفصحى لغة القرآن
6 أصول الثقافة العربية ومصادرها الإسلامية
7 خصائص الأدب العربي
8 الإسلام والتكنولوجيا
9 الإسلام والحضارة
10 الإسلام وحركة التاريخ
** النقاط الرئيسية في الكتاب :
1. الإنسان مع نفسه : ( المسئولية الفردية – الالتزام الأخلاقي )
2. الإنسان مع الآخر ( فطرية الأسرة - حقيقة دور المرأة في المجتمع - الاعتراف بالرغبات 9
3. الإنسان مع الحياة ( الإنسان مع الجماعة - الإنسان مع الحضارة - الإنسان والزينة - الإنسان والموت - الإنسان والعالم المواجه - الإنسان والمسرح - الإنسان والسينما - الإنسان والفن )
4. الإنسان وعلم الإنسان ( بناء الإنسان - إلى أي مدى تصدق النظريات المطروحة )
( كلام هام جدا ص 21 ) ... 1987
13 ... الصحافة والأقلام المسمومة
ط. دار الاعتصام ، القاهرة ، إيداع 1980 م ، 247 صفحة
الكتاب دراسة عن الصحافة العربية في العالم العربي عامة في مرحلة الهزيمة ( النكبة والنكسة بين عامي 1948 – 1967 ) ، وهي مرحلة خطورتها على التاريخ الإسلامي لا يوازيها جسامة ولا يماثلها أثرا إلا مرحلة الحروب الصليبية والتتارية التي واجهها عالم الإسلام ، وهي ما تزال حتى أحمد\لان أشد التحديات ( _ من تعريف الناشر بالكتاب في الغلاف الأخير له ببعض التصرف )
* * أبرز النقاط :
1. المرأة والصحافة ص 31
2. صحافة الإثارة والجنس ( صحافة الإثارة والجنس – مدرسة الإثارة )
3. الصحافة والفن ( المسرح والسنما – الأغاني – الرقص )
4. الصحافة والأدب ( الأدب – الشعر )
5. الصحافة والقصة ( الصحافة والقصة –كتاب القصة )
6. الصحافة وتغريب المجتمع ( الصحافة وتغريب المجتمع – كتاب التغريب )
كتاب هام جدا في موضوعه . ... 1980
5 ... الإسلام والغرب / أنور الجندي
ط. المكتبة العصرية ، بيروت ، ط 1 : 1402 / 1982 م ، قطع متوسط .
** أبواب الكتاب :
1 الإسلام يقتحم أوربا من جبهتي الأندلس والبلقان ص 13 :
2 أوربا والغرب من المسيحية إلى الاستعمار ص 75 :
3 الدولة العثمانية وسبعة قرون من الدفاع عن الإسلام : ص 127 :
4 عالم الإسلام في قبضة الغرب ص 151 :
5 قوى الاستعمار والصهيونية والشيوعية المتصارعة حول عالم الإسلام المتفقة عليه ص 209
6 عالم الغرب اليوم إزاء الإسلام ص 229 :
7 الإسلام في دورة الفلك ص 257 ... 1982
27 ... محمد الرسول .. دراسة تحليلية لشخصية محمد وحياته
/ أنور الجندي
الجزء الأول : ط. [ الدار القومية للطباعة والنشر ، القاهرة ] ( مطابع دار الكتاب العربي . محمد حلمي المنياوي ) ، ـ سلسلة كتب ثقافية ( رقم 39 ) ، قطع فوق الصغير ، 138 صفحة ، 3 / 3 / 1960 م ... 1960
هذا هو جمال من بني مر إلى الجمهورية العربية المتحدة
ط. مكتبة المعارف ، بيروت ، ط1 : 3 / 1960 م ، قطع متوسط ، 288 صفحة .
زكي مبارك .. دراسة تحليلية لحياته وأدبه 1892 – 1952 / أنور الجندي(/13)
ط. الدار القومية للطباعة والنشر ، القاهرة ، مصر ، مختارات الإذاعة والتليفزيون ، ـ سلسلة مذاهب وشخصيات ( رقم 35 ) ، قطع متوسط ، 196 صفحة .
وقال ص 5 : " ومنذ مات زكي مبارك لم يذكره ذاكر إلا كتابات قليلة على فترات متباعدة ، فكان حقا على عصرنا الذي جعل من الوفاء أولى علاماته أن يذكر زكي مبارك … "
إطار إسلامي للفكر المعاصر
ط. المكتب الإسلامي ، بيروت ، ط 1 : 1400 / 1980 ، قطع متوسط ، 454 صفحة .
** أبرز نقاط الكتاب :
1- أبعاد الغزو الفكري ومخططات التغريب : ص 13 : 72
- (1) أبعاد الغزو الفكري ص 15
- (2) الإسلام في مواجهة المذاهب والأيديولوجيات ص 26
- (3) تغيير العقلية الإسلامية : هدف الاستشراق ص 34
- (4) ضرب الإسلام من الداخل : مؤامرة قديمة متجددة ص 41
- (5) تحديات الاستعمار والصهيونية والماركسية ص 47
- (6) ملاحقة شبهات التغريب ودحضها ص 53
- (7) خطر الانهزامية ص 60
- (8) المعاول ما تزال تضرب ص 67
2- التحرر من تبعية الفكر الغربي ص 72 : 102
- (1) من التبعية إلى الأصالة ص 75
- (2) التحرر من الفرويدية ص 81
- (3) التحرر من الوجودية ص 87
- (4) التحرر من دوركايم ومدرسة العلوم الاجتماعية ص 94
3- تحديات في وجه الثقافة الإسلامية ص 103 : 144
- (1) أصالة الثقافة الإسلامية ص 105
- (2) كيف نواجه الركام الوافد ص 110
- (3) التيار الزائف ص 116
- (4) بناء ذاتية المثقف المسلم في وجه الخطر ص 122
- (5) محاولة احتواء الفكر الإسلامي ص 128
- (6) البعد الثالث في الدراسات الإسلامية ص 137
4- تحديات في وجه الحضارة الإسلامية ص 145 : 194 .
- (1) كيف تفهم الغرب روح الإسلام ص 147
- (2) هل هدفنا هو اللحاق بالغرب ؟ ص 152
- (3) حضارة الغرب في مواجهة حضارة الإسلام ص 160
- (4) في سبيل بناء حضارة جديدة ص 171
- (5) أوروبا ولدت في أسيا ص 178
- (6) الحضارة الإسلامية تأخذ طريقها إلى العطاء ص 187
5- تحديات في وجه التاريخ الإسلامي ص 195 : 218
- (1) مخططات صهيونية لتزييف التاريخ الإسلامي والعالمي ص 197
- (2) أبعاد خطة تزييف تاريخ العرب والمسلمين ص 204
- (3) التحديات التي تواجه التاريخ الإسلامي ص 211
6- تحديات في وجه المجتمع الإسلامي ص 221
- (1) ظواهر خطيرة في المجتمع الإسلامي ص 221
- (2) الهيبيون وعالمهم المنهار ص 225
- (3) المقاييس المنحرفة في البطولة والفن والموت ص 229
7- تحديات في وجه الشباب المسلم ص 227 : 256
- (1) تساؤلات الشباب ص 239
- (2) أمانة الإسلام في تكوين الأجيال ص 246
- (3) تزكية الشخصية المسلمة وتأهيلها لقيادة البشرية ص 251
8- أزمة التعليم والتربية والثقافة ص 257 : 282
- (1) أزمة التعليم ص 259
- (2) علوم مقطوعة عن جذورها ص 264
- (3) أزمة التربية ص 270
- (4) أزمة الثقافة ص 276
9- التحديات في وجه العربية الفصحى ص 282 : 299
- (1) العربية لغة العالم الإسلامي ص 285
- (2) المؤامرة على الفصحى موجهة إلى القرآن ص 291
10- التحديات في وجه الشريعة الإسلامية ص 299 : 230 .
- (1) الشريعة الإسلامية والمؤامرات الاستعمارية ص 301
- (2) مؤامرات في مواجهة العودة للشريعة الإسلامية ص 308
- (3) نصيحة عالم قانوني للمسلمين 315
11- التحديات في وجه الأدب العربي ص 321 : 334
- (1) مفهوم الأدب العربي في ضوء الإسلام ص 323
- (2) التحديات التي تواجه الأدب العربي ص 328
12- التحديات في وجه منهج الإسلام ص 335 : 360 .
- (1) حقيقة الإسلام ص 337
- (2) عاصفة على الإسلام ص 343
- (3) موقف البشرية من المنهج الكامل والنظريات المجزأة ص 350
- (4) دحض شبهات مثارة حول معطيات الإسلام ص 356
13- التحديات في وجه الوحدة الإسلامية ص 360 : 378 .
- (1) الوحدة الإسلامية من الأسلوب الوافد إلى الأسلوب الأصيل ص 363
- (2) محاولات التقارب والحوار ص 369
14- تصحيح المفاهيم ص 279 : 436 .
- (1) تصحيح المفاهيم ص 381
- (2) تاريخ أبطال الإسلام ومحاولات تزييفه ص 387
- (3) حقائق خطيرة تتكشف ص 398
- (4) علم النفس الإسلامي وعلم الاجتماع الإسلامي ص 405
- (5)مؤامرة الصمت ص 410
- (6) الإسلام الحضاري والثقافي لا يكفي ص 422
- (7) أخطر ما يواجه عالم الإسلام ص 430
15- الكلمة المسلمة ص 437 : 450 .
- الكلمة المسلمة ص 439
- نظرة الإسلام ( التكامل ، التوحيد ، الذاتية ) ص 446
29 ... القومية العربية والوحدة الكبرى / بقلم : أنور الجندي
ط. الدار القومية للطباعة والنشر ، مصر ، ـ كتب قومية ، قطع دون المتوسط ، 318 صفحة .
كتب في فوق العنوان : ( مسابقة مصلحة الاستعلامات )
وعلى الغلاف أيضا : ( البحوث الفائزة بجوائز مصلحة الاستعلامات في مسابقة " كتب قومية " )
46 ... من التبعية إلى الأصالة في مجال القانون – العلم - اللغة / أنور الجندي
( وعلى الغلاف الخارجي : " من التبعية إلى الأصالة في مجال التعليم والقانون واللغة " )(/14)
ط. دار الاعتصام ، القاهرة ، إيداع 1977 م ، 218 صفحة
ينتمي الكتاب لمجموعة ( معالم تاريخ الإسلام ) ( رقم 7 )
** أبواب الكتاب :
1 تغريب الشريعة .
2 تغريب التعليم : ( تغريب التعليم ، الزهر ، الجامعة ، التربية الإسلامية )
3 تغريب اللغة ( تغريب اللغة ، العاميات ، الحروف اللاتينية ، تطوير اللغة )
4 خطوات على طريق الأصالة ( من التغريب إلى الأصالة ، تحرر القانون واللغة العربية ، من التبعية إلى الرشد الفكري ، للمسلمين دور رائد في العلوم التجريبية ، الخلافة الإسلامية بعد نصف قرن ، محاولات التقارب والحوار )
132 ... أخطاء المنهج الغربي الوافد في العقائد والتاريخ والحضارة واللغة والأدب والاجتماع / أنور الجندي
ط. دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، 1982 م ، قطع متوسط ، 440 صفحة ، ـ الموسوعة الإسلامية العربية (رقم 6 )
قال مؤلفه ص 7 :
" يطلق اسم " منهج البحث " في الغرب على ذلك الأسلوب المستحدث الذي يتخذ أساسا للبحث في مختلف قضايا الفكر والعلوم الطبيعية والرياضية والعلم الإنسانية ( النفس والاجتماع والتاريخ ) ، وقد تنقل الفكر الغربي بين منهجين من مناهج البحث هما المنهج القائم على ( الاستنباط ) والمنهج القائم على (الاستقراء) .
أما المنهج الأول فهو منهج أرسطو الذي يقوم على استخراج النتائج من مقدماتها القائمة . وهذا منهج قد نبذته أوربا منذ وقت بعيد . ومنذ وضع فرانسيس بيكون منهج ( الاستقراء ) القائم على التجربة .
ويقرر التاريخ أن هذا المنهج الذي وضعه فرنسيس بيكون هو المنهج الإسلامي الذي قدمه المسلمون والذي نقل بيكون عنهم ، وأعلن ذلك رسميا في أكثر من وثيقة ثابتة … "
** أبرز نقاط الكتاب :
* مدخل : أصول " منهج البحث " بين النظرية والتطبيق :
- مقومات منهج البحث . ص 9
- منهج البحث في الإنسانيات ص 14
- تجربة علم النفس وعلم الاجتماع ص 17
- منهج البحث الغربي ليس عاما ولا عالميا
1- الأخطاء في مجال العقائد والدين والفلسفة :
- الأخطاء في مجال العقائد .
- الأخطاء في مقارنات الأديان .
- أخطاء الشريعة والسنة .
- أخطاء الفلسفة ( 1- العلم والفلسفة . 2- أخطاء الاعتزال . 3- أخطاء التصوف )
2- أخطاء التاريخ والحضارة : ( ص 143 :
- مفاهيم التاريخ .
- علم الأجناس والقومية .
- مفاهيم الحضارة .
3- أخطاء اللغة والأدب والفن : ( ص 253 :
- مفاهيم اللغة .
- مفاهيم الأدب .
- مفاهيم الفن .
4- أخطاء مفاهيم الاجتماع والنفس والتربية : ( 359 :
- مفاهيم الاجتماع .
- مفاهيم الأخلاق .
- مفاهيم النفس .
- مفاهيم الوجودية .
- مفاهيم التربية .
5- أخطاء المنهج الغربي الوافد : ( ص 421 :
- أخطاء المنهج الغربي الوافد .
- وجوه التباين والاختلاف بين المناهج .
68 ... تطور الصحافة العربية في مصر / أنور الجندي
ط. مطبعة الرسالة ، القاهرة ، بدون تاريخ ، 400 صفحة ، قطع متوسط .
في أعلى العنوان : ( إطار لملامح المجتمع وصورة العصر )
يعبر عنه مؤلفه بِـ " تطور الصحافة العربية في مصر .. إطار لملامح المجتمع وصورة العصر "
يشكل الكتاب أحد أربعة كتب تنتمي لمجموعة ( تطور الصحافة العربية وأثرها في الأدب العربي المعاصر ) وهي:
1 الصحافة السياسية في مصر منذ إنشائها إلى الحرب العالمية الثانية
2 تطور الصحافة العربية في مصر ( إطار لملامح المجتمع وصورة العصر )
3 تطور الصحافة العربية بين الحربين ( 1919 – 1939 ) في العالم العربي
4 تطور الصحافة في العالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم
قال مؤلفه ص 3 : 4 : " وقد كان أهم ما عني به هذا البحث : محاولة رسم إطار لملامح العصر وصورة المجتمع ، وهو في هذا المجال يكمل دراستنا المستقلة " الشرق في فجر اليقظة " . وكنا قد تناولنا في كتابنا " الفكر العربي المعاصر في معركة التغريب والتبعية الثقافية " عديد من القضايا الفكرية والاجتماعية والسياسية – في مرحلة ما بين الحربين - ، ومن هنا فإننا لم نكرر أنفسنا في هذه الكتب الأربعة … وهي في مجموعها تكمل بعضها البعض في دراسة شاملة للعصر كله منذ ( 1871 تقريبا إلى 1939 ) ( صحافة – سياسة – مجتمع – حضارة – فكر ) بوصفها مرحلة متكاملة في تاريخ الشرق الإسلامي والعالم العربي ".
فرغ منه مؤلفه : نهاية 1967 م ، وهو كتاب ثمين للغاية في موضوعه .
** أبرز القضايا :
1. صحف وأقلام وصراع أفكار ( ص 17 :
- صحافة جمال الدين الأفغاني ص 23
- جريدة مصر ص 25
- جريدة مرآة الشرق ( سليم عنحوري و إبراهيم اللقاني ) ص 28
- تلاميذ جمال الدين بعد سفره من مصر ص 31
- أثر الصحافة في مجلس شورى القوانين ( عبد السلام المويلحي ) ص 24
- صحف عربية في لندن وباريس ص 36
- مرآة الأحوال ( رزق الله حسون ) ص 36
- الخلافة ( لويس صابونجي ) ص 37
- " الأهرام " آل تقلا ص 39
- " اللطائف " عبد الله النديم ص 42
- " العروة الوثقى " جمال الدين و محمد عبده ص 44
- المقطم ( صروف ونمر ومكاريوس ) ص 46(/15)