عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟! فقالت: (أحرورية أنت؟) قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل، قالت: (كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) ([10]).
قال النووي: "أجمع المسلمون على أن الحائض والنفساء لا تجب عليهما الصلاة، ولا الصوم في الحال، وأجمعوا على أنه لا يجب عليهما قضاء الصلاة، وأجمعوا على أنه يجب عليهما قضاء الصوم" ([11]).
3. صوم المتمتع والقارن في الحج إذا لم يجدا الهدي:
أما المتمتع فلقوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196].
وجاء عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: (لم يرخّص في أيام التشريق أن يصوم إلا لمن لم يجد هدياً) ([12]).
وأما القران فقال الشيخ الشنقيطي: "واعلم أن من يعتدّ به من أهل العلم أجمعوا على أن القارن يلزمه ما يلزم المتمتع من الهدي، والصوم عند العجز عن الهدي"([13]).
4. كفارة الحلق في الحج – على التخيير –:
قال تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196].
قال الحافظ ابن كثير: "وعامة العلماء أنه يخير في هذا المقام، إن شاء صام، وإن شاء تصدق بفَرْقٍ، وهو ثلاثة آصع، لكل مسكين صاع، وهو مُدّان، وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء"([14]).
وعن كعب بن عجرة قال حُملتِ إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: ((ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا أما تجد شاةً ؟!)) قلت: لا، قال: ((صُمْ ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك))([15]).
قال الخطابي: "قلت: هذا إنما هو حكم من حلق رأسه لعذر مِنْ أذى يكون به، وهو رخصة له، فإذا فعل ذلك كان مخيراً بين الدم والصدقة والصيام"([16]).
5. جزاء قتل الصيد للمحرم – على التخيير –:
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة:95].
قال ابن جرير الطبري: "وأولى الأقوال بالصواب عندي في قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً} أن يكون تخييراً، وأن يكون للقاتل الخيار في تكفيره – بقتله الصيد وهو محرم – بأيّ هذه الكفارات الثلاث شاء..." ([17]).
وقال في قوله تعالى: {أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً}: "...أو على قاتل الصيد محرماً عدلُ الصيد المقتول من الصيام، وذلك أن يُقوّم الصيد حياً غير مقتول قيمته من الطعام بالموضع الذي قتله فيه المحرم، ثم يصوم مكان كلّ مُدّ يوماً..." ([18]).
6. كفارة القتل – على الترتيب -:
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:92].
قال ابن عطية: "... عند الجمهور: فمن لم يجد العتق ولا اتّسع ماله له فيجزيه صيام شهرين متتابعين في الأيام، لا يتخللّها فطر"([19]).
وقال البغوي: "والقاتل إن كان واجداً للرقبة أو قادراً على تحصيلها بوجود ثمنها فاضلاً عن نفقته ونفقة عياله وحاجته من مسكن ونحوه فعليه الإعتاق، ولا يجوز أن ينقل إلى الصوم، فإن عجز عن تحصيلها فعليه صوم شهرين متتابعين، فإن أفطر يوماً متعمداً في خلال الشهرين أو نسي النية ونوى صوماً آخر وجب عليه استئناف الشهرين"([20]).
7. كفارة اليمين – على الترتيب -:(/14)
قال تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:89].
عن ابن عباس أنه قال: (هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة، الأول فالأول، فإن لم يجد من ذلك شيئاً فصيام ثلاثة أيام متتابعات)([21]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فمتى كان واجداً فعليه أن يكفر بإحدى الثلاث، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام..." ([22]).
8. كفارة الظهار – على الترتيب –:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ C فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة:3، 4].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: فمن لم يجد منكم ممن ظاهر من امرأته رقبة يحررها، فعليه صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا والشهران المتتابعان هما اللذان لا فصل بينهما بإفطار في نهار شيء منهما إلا من عذر"([23]).
قال القرطبي: "ذكر الله عز وجل الكفارة هنا مرتبة؛ فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الرقبة، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام، فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكيناً..."([24]).
وعن خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت: ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجادلني فيه، ويقول: ((اتقي الله فإنه ابن عمك)) فما برحمت حتى نزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} [المجادلة:1]. إلى الفرض فقال: ((يعتق رقبه)) قالت: لا يجد، قال: ((فليطعم ستين مسكيناً)) قالت: ما عنده من شيء يتصدق به، قالت: فأتى ساعتئذٍ بعَرَقٍ من تمر، قلت: يا رسول الله، فإني أعينه بعرقٍ آخر، قال: ((أحسنت، اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكيناً وارجعي إلى ابن عمك))([25]).
قال ابن قدامة: "أجمع أهل العلم على أن المظاهر إذا لم يجد رقبةً، أن فرضه صيام شهرين متتابعين وذلك لقول الله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة:4]، وحديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر"([26]).
9. صيام النذر:
قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:7].
قال قتادة: "كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسمّاهم الله بذلك الأبرار"([27]).
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: ((نعم، فدين الله أحق أن يُقضى)) وفي رواية: قالت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أمي ماتت وعليها صوم نذر..))([28]).
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ومن نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه))([29]).
وعن زيادة بن جبير قال: كنت مع ابن عمر فسأله رجل فقال: نذرت أن أصوم كل يوم ثلاثاء أو أربعاء ما عشت، فوافقت هذا اليوم يوم النحر فقال: (أمر الله بوفاء النذر ونهينا أن نصوم يوم النحر)، فأعاد عليه، فقال مثله لا يزيد عليه([30]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويصام النذر عنه – يعني: الميّت – سواء تركه لعذر أو لغير عذر ...، قال في رواية عبد الله – في رجل مرض في رمضان -: إن استمر المرض حتى مات، ليس عليه شيء؛ فإن كان نذر صام عنه وليه! إذا هو مات؛ لأن النذر محلة الذمة، وهو أوجبه على نفسه.
ولهذا قد يجب على الإنسان من الديون بفعل نفسه ما يعجز عنه، ولا يجب عليه بإيجاب الله عليه إلا ما يقدر عليه.
ولهذا لو تكفّل من الدَّيْن بما لا يقدر عليه ؛ لزمه في ذمّته.
وعلى هذا فلا فرق بين أن ينذر وهو مريض فيموت مريضاً، أو ينذر صوم شهر ثم يموت قبل مضي شهر"([31]).
([1]) تفسير الطبري (3/409).
([2]) التمهيد (22/148).
([3]) شرح العمدة (1/26- الصيام).
([4]) رواه البخاري (1/20) كتاب الإيمان، باب: دعاؤكم إيمانكم رقم (8)، ومسلم (1/45) كتاب الإيمان باب أركان الإسلام ودعائمه العظام رقم (16).(/15)
([5]) رواه البخاري (1/33) كتاب الإيمان، باب: سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم رقم (50)، ومسلم (1/36-38) كتاب الإيمان، باب: الإيمان والإسلام رقم (8).
([6]) رواه البخاري (1/431)، كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة رقم (1397)، ومسلم (1/44) كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة رقم(14).
([7]) رواه البخاري (1/31-32) كتاب: الإيمان، باب: الزكاة من الإسلام رقم (46)، ومسلم (1/40-41)، كتاب: الإيمان باب: السؤال عن أركان الإسلام رقم (11).
([8]) رواه البخاري (1/35) كتاب: الإيمان، باب: أداء الخمس من الإيمان، رقم (53)، ومسلم (1/46) كتاب: الإيمان باب: الأمر بالإيمان بالله تعالى رقم (17).
([9]) تفسير الطبري (3/457).
([10]) رواه مسلم (1/265) كتاب: الحيض باب وجوب قضاء الصوم على الحائض رقم (335) وأبو داود (1/262) كتاب: الطهارة، باب: في الحائض لا تقضي الصلاة . وأبو أعوانه (1/270) والبيهقي (1/308).
([11]) شرح صحيح مسلم (4/26).
([12]) تفسير الطبري (4/98).
([13]) منسك الإمام الشنقيطي (3/97).
([14]) تفسير ابن كثير (1/349-350) وانظر: الفروع لابن مفلح (3/258)، ونيل الأوطار (5/77).
([15]) رواه البخاري، كتاب: تفسير القرآن باب: ((فمن كان منكم مريضاً)) رقم (4517).
([16]) معالم السنن (2/161) . وانظر: المبدع (3/136)، والفروع (3/258)، والأم (2/186) وبدائع الصنائع (2/178)، وبداية المجتهد (1/276)، وتحفة المحتاج (2/197).
([17]) تفسير الطبري (11/37).
([18]) تفسير الطبري (11/42)، وانظر: أحكام القرآن للطحاوي (2/281-287)،وللجصاص (4/140-141). وأضواء البيان (2/133-134)، والمغني (5/415-518).
([19]) المحرّر الوجيز (4/211).
([20]) تفسير البغوي (2/263).
([21]) أخرجه الطبري في تفسيره (10/561).
([22]) مجموع الفتاوى (35/349).
([23]) تفسير الطبري (23/232).
([24]) تفسير القرطبي (17/285).
([25]) رواه أبو داود كتاب: الطلاق، باب: في الظهار رقم (2214) وابن ماجه كتاب: الطلاق، باب: الظهار رقم (2062)، وأحمد (6/411) وحسنه الألباني كما في صحيح أبي داود (2/416-4117) وانظر: إرواء الغليل (7/176) رقم (2091).
([26]) المغني (11/85) . وانظر: الدر المختار (2/798)، ومغني المحتاج (3/364-365)، وكشاف القناع (5/443-448).
([27]) أخرجه الطبري في تفسيره (29/208).
([28]) رواه البخاري كتاب الصوم باب من مات وعليه صوم رقم (1953).
([29]) رواه البخاري كتاب الأيمان والنذور، باب: النذر في الطاعة رقم (6696).
([30]) رواه البخاري كتاب الأيمان والنذور باب: من نذر أن يصوم أياماً رقم (6706)، ومسلم، كتاب: الصيام باب: النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى رقم (1139).
([31]) شرح العمدة (1/375- الصيام-).
ثالثاً: الصوم المحرّم:
1. صوم الدهر:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت، فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي، قال: ((فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، وقم ونم، وصم من الشهر ثلاثة أيام ؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر))([1]).
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا صام من صام الأبد))([2]).
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الله بن عمرو إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل، وإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين، ونهكت. لا صام من صام الدهر، صوم ثلاثة أيام من الشهر صوم الدهر كله))([3]).
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام الدهر ضيقت عليه جهنم – هكذا – وقبض كفّه))([4]).
قال الحافظ ابن حجر: "وظاهره أنها تضيق عليه حصراً له فيها ؛ لتشديده على نفسه وحمله عليها، وغربته عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واعتقاده أن غير سنته أفضل منها، وهذا يقتضي الوعيد الشديد فيكون حراماً"([5]).
2. صوم العيدين: الفطر والأضحى:
عن أبي سعيد رضي الله عنه: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الفطر والنحر([6]).
وعنه قال: سمعت أربعاً من النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبنني، قال: لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم، ولا صوم في يومين: الفطر والأضحى... الحديث([7]).
قال النووي: "قد أجمع العلماء على تحريم صوم هذين اليومين بكل حال، سواء صامهما عن نذر أو تطوع أو كفارة أو غير ذلك، ولو نذر صومهما متعمداً لعينهما، قال الشافعي والجمهور: لا ينعقد نذره ولا يلزمه قضاؤهما. وقال أبو حنيفة: ينعقد، ويلزمه قضاؤهما. قال: فإن صامهما أجزأه. وخالف الناس كلهم في ذلك"([8]).
3. صوم المرأة بغير إذن زوجها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تصوم المرأة وبعلها شاهدٌ إلا بإذنه))([9]).(/16)
وقال ابن حزم: "لا يحل لذات الزوج أن تصوم تطوعاً بغير إذنه، فإن كان غائباً لا تقدر على استئذانه أو تعذّر، فلتصم بالتطوّع إن شاءت"([10]).
قال الكاساني: "وليس للمرأة التي لها زوج أن تصوم تطوعاً إلا بإذن زوجها، ولأن له حق الاستمتاع بها، ولا يمكنه ذلك في حال الصوم، فله أن يمنعها إن كان يضره. فإن كان صيامها لا يضره بأن كان صائماً أو مريضاً لا يقدر على الجماع، فليس له أن يمنعها؛ لأن المنع كان لاستيفاء حقه، فإذا لم يقدر على الاستمتاع فلا معنى للمنع"([11]).
قال أبو الطيب العظيم آبادي: "لا تصوم امرأة نفلاً وزوجها حاضرٌ معها في بلدها إلا بإذنه تصريحاً أو تلويحاً ؛ لئلا يفوت عليه حقه في الاستمتاع بها"([12]).
4. صوم الحائض والنفساء:
قال النووي: "لا يصح صوم الحائض والنفساء، ولا يجب عليهما، ويحرم عليهما، ويجب قضاؤه، وهذا كله مجمع عليه، ولو أمسكت لا بنية الصوم لم تأثم، وإنما تأثم إذا نوته، وإن كان لا ينعقد"([13]).
وقال ابن الحاج: "ومنهن من تصوم مدة الحيض وتقضيها بعده، وفاعلة ذلك منهن آثمة في صومها في أيام حيضها، مصيبةٌ في القضاء بعده"([14]).
5. صوم أيام التشريق تطوعاً:
عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيام التشريق أيام أكل وشرب)) وفي رواية: ((وذكر لله))([15]).
عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق فنادى: ((أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأيام منى أيام أكل وشرب))([16]).
قال ابن عبد البر: "وأما صيام أيام التشريق فلا خلاف بين فقهاء الأمصار فيما علمت أنه لا يجوز لأحد صومها تطوعاً، وقد روي عن الزبير وابن عمر والأسود بن يزيد وأبي طلحة ما يدل على أنهم كانوا يصومون أيام التشريق تطوعاً، وفي أسانيد أخبارهم تلك ضعفٌ.
وجمهور العلماء من الفقهاء وأهل الحديث على كراهية ذلك...." ([17]).
قال الحافظ ابن رجب: "إنما نهى عن صيام أيام التشريق لأنها أعياد المسلمين مع يوم النحر، فلا تصام بمنى ولا غيرها عند جمهور العلماء خلافاً لعطاء في قوله: إن النهي يختص بأهل منى، وإنما نهى عن التطوع بصيامها سواء وافق عادة أو لم يوافق، فأما صيامها عن قضاء فرض أو نذر أو صيامها بمنى للمتمتع إذا لم يجد الهدى ففيه اختلاف مشهور بين العلماء، ولا فرق بين يومٍ منها ويوم عند الأكثرين، إلا عند مالك فإنه قال في اليوم الثالث منها يجوز صيامه عن نذر خاص"([18]).
6. صيام يوم الشك لمن لم يصادفه فيه عادة:
ويوم الشك هو: يوم الثلاثين من شعبان إذا كان في السماء ما يمنع رؤية الهلال، وأما إذا كانت السماء صحواً فلا شك([19]).
عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال:(من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم)([20]).
وقد ذهب إلى تحريم صيامه جماعة من أهل العلم، ونقله ابن المنذر عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وعمار وحذيفة وأنس وأبي هريرة والأوزاعي، وهو مذهب الشافعية، واختيار ابن المنذر وابن حزم.
ورجحه الشيخ ابن عثيمين([21]).
قال الخطابي: "اختلف الناس في معنى النهي عن صيام يوم الشك؛ فقال قومٌ: إنما نهي عن صيامه إذا نوى به أن يكون عن رمضان؛ فأما من نوى به صوم يومٍ من شعبان فهو جائز، وقالت طائفة لا يصام ذلك اليوم عن فرضٍ ولا تطوّع للنهي فيه، وليقع الفصل بذلك بين شعبان ورمضان"([22]).
7. تقدم رمضان بصيام يومٍ أو يومين:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجلاً يصوم صوماً فليصمه))([23]).
قال النووي: "فيه التصريح بالنهي عن استقبال رمضان بصوم يوم أو يومين لمن لم يصادف عادةً له أو يصله بما قبله، فإن لم يصله ولا صادف عادة فهو حرام، هذا هو الصحيح من مذهبنا"([24]).
وقال ابن مفلح: "فتقدمه اليوم واليومين أولى عنده – يعني: أحمد – بالتحريم ؛ لصحة النهي فيه، ولا معارض، ووجه تحريم استقباله – فقط – النهي، وفيه زيادة على المشروع"([25]).
([1]) تقدم تخريجه.
([2]) رواه مسلم كتاب: الصيام باب: النهي عن صوم الدهر رقم (1159).
([3]) رواه البخاري كتاب: الصوم، باب: صوم داود عليه السلام رقم (1979) ومسلم كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر رقم (1159) واللفظ له.
([4]) رواه أحمد (4/414)، وأبو داود الطيالسي (514)، وابن أبي شيبة (3/78)، وصححه ابن خزيمة (3/313) وابن حبان (8/349).
([5]) الفتح (4/261).
([6]) رواه البخاري كتاب الصوم باب: صوم يوم الفطر رقم (1991).
([7]) رواه البخاري كتاب: الصوم، باب: صوم يوم النحر رقم (1995) واللفظ له، ومسلم كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم يوم الفطر (827).
([8]) شرح صحيح مسلم (8/15).
([9]) رواه البخاري كتاب: النكاح باب: صوم المرأة بإذن زوجها، رقم (5192) ومسلم كتاب: الزكاة، باب: ما أنفق العبد من مال مولاه رقم (1026).
([10]) المحلى (7/30).
([11]) بدائع الصنائع (2/107).(/17)
([12]) عون المعبود (7/128-129) بتصرف.
([13]) المجموع شرح المهذب (6/257) وانظر: المهذب (1/177)، وروضة الطالبين (2/365) وشرح زيد بن رسلان (1/155).
([14]) المدخل لابن الحاج (2/272-273) وانظر: البحر الرائق (2/277) وفتح القدير (2/234).
([15]) رواه مسلم في الصيام، باب: تحريم صوم أيام التشريق رقم (1141).
([16]) رواه مسلم في الصيام باب: تحريم صوم أيام التشريق رقم (1142).
([17]) التمهيد (14/127).
([18]) لطائف المعارف (304-305). وانظر: الفروع: (3/128)، والشرح الممتع (6/482-483).
([19]) الشرح الممتع (6/480)، وانظر: المجموع (6/454) للنووي، والفروع (3/125).
([20]) علقه البخاري (2/32) كتاب: الصوم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الهلال... ووصله أبو داود، كتاب الصوم باب: كراهية صوم يوم الشك رقم (2334) والترمذي كتاب الصوم باب: ما جاء في كراهية صوم يوم الشك رقم (686)، وابن ماجه كتاب الصيام باب: ما جاء في صيام يوم الشك رقم (1645) والنسائي كتاب الصيام باب: صيام يوم الشك رقم (2187)، وأورد الحافظ ابن حجر له طرقاً وشواهد في تغليق التعليق (3/141-142) يُحسّن الحديث بها، والله أعلم.
([21]) الشرح الممتع (6/480).
([22]) معالم السنن للخطابي (2/85) باختصار، وانظر: فتح الباري (4/153-154).
([23]) رواه البخاري، كتاب: الصوم، باب: لا يتقدم رمضان بيوم ولا يومين رقم (1914).
([24]) شرح مسلم (7/194).
([25]) الفروع (3/117).
الملف العلمي للبحوث المنبرية لفقه وآداب وأحكام الصيام
...
.
أنواع الصوم: رابعًا: الصوم المكروه: قائمة محتويات هذا الملف
رابعاً الصوم المكروه:
1. صيام يوم النيروز والمهرجان بغير قصد التعظيم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما النيروز والمهرجان ونحوهما من أعياد المشركين، فمن لم يكره صوم يوم السبت من الأصحاب وغيرهم، قد لا يكره صوم ذلك اليوم ؛ بل ربما يستحبه لأجل مخالفتهم، وكرههما أكثر الأصحاب. وقد قال أحمد في رواية عبد الله: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن أنس والحسين: كرها صوم يوم النيروز والمهرجان، وقد اختلف الأصحاب هل يدل ذلك على مذهبه؟ على وجهين:
وعللوا ذلك بأنهما يومان تعظمهما الكفار، فيكون تخصيصهما بالصيام دون غيرهما موافقةً لهم في تعظيمهما فكُره، كيوم السبت، قال الإمام أبو محمد المقدسي: وعلى قياس هذا ؛ كل عيدٍ للكفار، أو يوم يفردونه بالتعظيم([1]).
وقد يُقال: يكره صوم يوم النيروز والمهرجان، ونحوهما من الأيام التي لا تعرف بحساب العرب بخلاف ما جاء في الحديث من يوم السبت والأحد، فإنهما من حساب المسلمين، فليس في صومهما مفسدة، فيكون استحباب صوم أعيادهم المعروفة بالحساب العربي الإسلامي مع كراهة الأعياد المعروفة بالحساب الجاهلي العجمي، توفيقاً بين الآثار والله أعلم"([2]).
وقال المرداوي: "(يكره صومهما) وهو المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم، وهو من مفردات المذهب، واختار المجد أنه لا يكره لأنهم لا يعظمونهما بالصوم"([3]).
2. إفراد يوم الجمعة بالصوم:
عن محمد بن عباد بن جعفر قال: سألت جابر بن عبد الله: أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم([4]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم))([5]).
قال الحافظ ابن حجر: "استدل بأحاديث الباب على منع إفراد يوم الجمعة بالصيام، وذهب الجمهور إلى أن النهي فيه للتنزيه، وعن مالك وأبي حنيفة لا يكره، واختلف في سبب النهي عن إفراده على أقوال:
أحدهما: لكونه يوم عيد والعيد لا يصام، ثانيها: لئلا يضعف عن العبادة، ثالثها: خوف المبالغة في تعظيمه فيفتتن به كما افتتن اليهود بالسبت، رابعها: خوف اعتقاد وجوبه، خامسها: خشية أن يفرض عليهم كما خشي صلى الله عليه وسلم من قيامهم الليل ذلك، سادسها: مخالفة النصارى لأنه يجب عليهم صومه، ونحن مأمورون بمخالفتهم، وأقوى الأقوال وأولاها بالصواب أولها"([6]).
3. إفراد يوم السبت بالصوم:
اختلف أهل العلم في حكم إفراد يوم السبت بالصيام، هل هو مكروه أم مباح؟على قولين:
القول الأول: يكره إفراد يوم السبت بالصيام، وهو مذهب جماهير أهل العلم من الحنفية ([7])، والمالكية ([8])، والشافعية ([9])، ورواية عن أحمد اعتمدها أتباعه([10]).
القول الثاني: لا يكره إفراده بالصيام، ورجحه جماعة من أهل العلم منهم: الزهري، والأوزاعي، وأبو داود، ورواية عن أحمد اختارها الأثرم([11]). ورجحه الطحاوي ([12])، وشيخ الإسلام ابن تيمية ([13])، وابن القيم([14])، وابن حجر([15]).
حجة أصحاب القول الأول:
احتجوا بحديث عبد الله بن بسر عن أخته الصماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمصه))([16]).(/18)
قال النووي: "يكره إفراد يوم السبت بالصوم: فإن صام قبله أو بعده معه لم يكره"([17]).
حجة أصحاب القول الثاني:
احتجوا بحديث أم سلمة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت والأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: ((إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم))([18]) وبإن الأصل الإباحة، ولا دليل صحيح على الكراهة.
قال الطحاوي: "ففي هذه الآثار المروية إباحة صوم يوم السبت، وهي أشهر وأظهر في أيدي العلماء من هذا الحديث الشاذ الذي قد خالفها"([19]).
قال ابن حجر في معرض حديثه عن مخالفة أهل الكتاب: "والذي قاله بعضهم من كراهة إفراد السبت وكذا الأحد ليس جيداً، بل الأولى من المحافظة على ذلك يوم الجمعة كما ورد الحديث الصحيح فيه([20]). وأما السبت والأحد فالأولى أن يصاما معاً وفرادى امتثالاً لعموم الأمر بمخالفة أهل الكتاب"([21]).
4. صوم الوصال:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، قال: ((إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى))([22]).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمةً لهم، فقالوا: إنك تواصل، قال: ((إني لست كهيأتكم، إني يطعمني ربي ويسقين))([23]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم، فقال له رجلٌ من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله، قال: ((وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقين))، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً ثم يوماً، ثم رأوا الهلال، فقال: ((لو تأخّر لزدتكم))، كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا([24]).
قال ابن قدامة: "الوصال وهو أن لا يفطر بين اليومين بأكلٍ ولا شرب . وهو مكروهٌ في قول أكثر أهل العلم – إلى أن قال – وأما النهي فإنما أتى به رحمةً لهم ورفقاً بهم؛ لما فيه من المشقة عليهم كما نهى عبد الله بن عمرو عن صيام النهار وقيام الليل، وعن قراءة القرآن في أقلّ من ثلاث، قالت عائشة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمةً لهم، وهذا لا يقتضي التحريم، ولهذا لم يفهم منه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم التحريم؛ بدليل أنهم واصلوا بعده، ولو فهموا منه التحريم لما استجازوا فعله"([25]).
وقال ابن دقيق العيد: "في الحديث دليل على كراهة الوصال، واختلف الناس فيه، ونقل عن بعض المتقدمين فعله، ومن الناس من أجازه إلى السحر لحديث أبي سعيد الخدري([26])، وفي حديث أبي سعيد الخدري دليل على أن النهي عنه نهي كراهة لا نهي تحريم، وقد يُقال: إن الوصال المنهي عنه ما اتصل باليوم الثاني، فلا يتناوله الوصال إلى السحر، إلا أن قوله عليه السلام: ((فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر)) يقتضي تسميته وصالاً، والنهي عن الوصال يمكن تعليله بالتعريض بصوم اليوم الثاني، فإن كان واجباً كان بمثابة الحجامة والفصد وسائر ما يتعرض به الصوم للإبطال، وتكون الكراهة شديدة، وإن كان صوم نفل ففيه التعريض لإبطال ما شرع فيه من العبادة، وإبطالها إما ممنوع على مذهب بعض الفقهاء، وإما مكروه، وكيفما كان فعلّة الكراهة موجودة إلا أنها تختلف رتبتها"([27]).
وقال الحافظ ابن حجر: "... اختلف في المنع المذكور فقيل: على سبيل التحريم، وقيل على سبيل الكراهة، وقيل: يحرم على من شق عليه، ويباح لمن لم يشق عليه، وقد اختلف السلف في ذلك فنقل التفصيل عن عبد الله بن الزبير، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه أنه كان يواصل خمسة عشر يوماً([28])، وذهب إليه من الصحابة أيضاً أخت أبي سعيد ومن التابعين عبد الرحمن بن أبي نعم وعامر بن عبد الله بن الزبير وإبراهيم بن زيد التيمي وأبو الجوزاء كما نقله أبو نعيم في ترجمته في الحلية([29])، وغيرهم رواه الطبري وغيره، ومن حجتهم أنه صلى الله عليه وسلم واصل بأصحابه بعد النهي، فلو كان النهي للتحريم لما أقرهم على فعله، فعلم أنه أراد بالنهي الرحمة لهم والتخفيف عنهم كما صرّحت به عائشة في حديثها"([30]).
5. الصوم في السفر لمن يشقّ عليه:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظُلل عليه فقال: ((ما هذا؟)) فقالوا: صائم، فقال: ((ليس من البر الصوم في السفر))([31]).
وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماءٍ فرفعه، حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام. فقال: ((أولئك العصاة أولئك العصاة))([32]).
قال ابن دقيق العيد: "أخذ من هذا أن كراهة الصوم في السفر لمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه، أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من القربات، ويكون قوله: ((ليس من البر الصيام في السفر)) منزلاً على مثل هذه الحالة"([33]).(/19)
وقال ابن تيمية: "والصحيح أنه إن شق عليه الصوم بأن يكون ماشياً أو لا يجد عشاءً يقوّيه، أو بين يديه عدوّ يخاف الضعف عنه بالصوم، أو يصير كلاًّ على رفقائه، أو يسوء خلقه، ونحو ذلك؛ كره له الصوم، وكذلك إن صام تعمقاً وغلواً، بحيث يعتقد أن الفطر نقص في الديّن ونحو ذلك"([34]).
6. صوم يوم عرفة للحاج:
عن أبي هريرة رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة بعرفة([35]).
وهذا الحديث في صحّته نظر، لكن يؤيّده أن الناس شكّوا في صومه صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فأُرسل إليه بقدح من لبنٍ فشربه ضحى يوم عرفة، والناس ينظرون، حتى يتبيّن أنه لم يصم، ولأن هذا اليوم يوم دعاءٍ وعمل، ولا سيما أن أفضل زمن الدعاء هو آخر هذا اليوم، فإذا صام الإنسان فسوف يأتيه آخر اليوم وهو في كسل وتعب، لا سيما في أيام الصيف وطول النهار وشدّة الحر، فإنّه يتعب وتزول الفائدة العظيمة الحاصلة بهذا اليوم، والصوم يُدْرك في وقت آخر.
ولهذا نقول: صوم يوم عرفة للحاج مكروه، وأما لغير الحاج فهو سنة مؤكّدة([36]).
([1]) المغني (3/53).
([2]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/579-580)، ويلخص كلامه ابن القيم تلخيصاً حسناً في تهذيب سنن أبي داود (8/52).
([3]) الإنصاف (3/349). وانظر:حاشية ابن عابدين(2/399)، وفتح القدير (2/349) وبدائع الصنائع (2/79).
([4]) رواه البخاري في الصوم باب صوم يوم الجمعة (1984)، ومسلم في الصيام، باب: كراهية صيام يوم الجمعة متفرداً (1143).
([5]) رواه البخاري في الصوم باب: صوم يوم الجمعة (1985)، ومسلم في الصيام، باب: كراهية صيام يوم الجمعة منفرداً (1144).
([6]) فتح الباري (4/235) باختصار.
([7]) بدائع الصنائع للكاساني (2/79).
([8]) القوانين الفقهية لابن جزي (110).
([9]) المجموع للنووي (6/439).
([10]) شرح العمدة (2/653- الصيام -).
([11]) المرجع السابق (5/655).
([12]) شرح معاني الآثار (2/80).
([13]) الفروع لابن مفلح (3/124).
([14]) تهذيب السنين (7/67).
([15]) فتح الباري (10/362).
([16]) رواه الإمام أحمد (4/189)، وأبو داود في الصوم باب النهي أن يخص يوم السبت بصوم (2421)، والترمذي في الصيام ما جاء في صوم يوم السبت (744)، وابن ماجه في الصوم، باب: ما جاء في صيام يوم السبت (1726) وقد اختلف أهل العلم في حكمهم على هذا الحديث بين مصحح ومضعف، وممن صححه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان (8/379)، وممن أعله ورده الزهري (أخرجه الحاكم 1/602) ومالك والأوزاعي (أخرجه أبو داود 1/736)، والقطان (انظر تهذيب السنن 7/67)، والطحاوي (شرح المعاني 2/80)، وحكم أبو داود بنسخه (1/736).
([17]) المجموع (6/439).
([18]) رواه الإمام أحمد (6/324)، وابن خزيمة في صحيحه (3/318)، وابن حبان (الإحسان 8/381).
([19]) شرح المعاني (2/80).
([20]) تقدم ذكره وتخريجه.
([21]) فتح الباري (10/362) بتصرف واختصار.
([22]) رواه البخاري كتاب الصوم باب: الوصال رقم (1962).
([23]) رواه البخاري في الصوم، باب: الوصال رقم (1964).
([24]) رواه البخاري في الصوم باب: التنكيل لمن أكثر الوصال رقم (1965).
([25]) المغني (4/436-437).
([26]) حديث أبي سعيد الخدري هو قوله صلى الله عليه وسلم: ((فأيكم أراد أن يواصل، فليواصل إلى السحر)) رواه البخاري (الصوم باب: الوصال إلى السحر).
([27]) إحكام الأحكام (2/233-234).
([28]) مصنف ابن أبي شيبة (2/496).
([29]) حلية الأولياء (3/79-80).
([30]) فتح الباري (4/240-241).
([31]) رواه البخاري في الصوم باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظُلل واشتد الحر ((ليس من البر الصوم في السفر)) رقم (1946).ومسلم في الصيام باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر رقم (1115).
([32]) رواه مسلم كتاب الصوم باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر رقم (1114) والترمذي كتاب الصوم باب: ما جاء في كراهية الصوم في السفر رقم (710).
([33]) إحكام الأحكام (2/225)، وانظر: فتح الباري (4/217-218).
([34]) شرح العمدة (1/237- الصيام).
([35]) أخرجه أحمد (2/304-446) وأبو داود (2440) وابن ماجه (1732) وفي إسناده ضعف، وقال العقيلي في الضعفاء (1/298): "ولا يصح عنه أنه نهى عن صومه".
([36]) الشرح الممتع (6/472-473) لابن عثيمين.
فضائل الصوم
أولاً: فضائل الصيام عموماًَ :
1- أنه وسيلة إلى التقوى :
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
قال البغوي: " {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يعني بالصوم ؛ لأن الصوم وصلة إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات " ([1]).
وقال ابن كثير: " لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان " ([2]).
2- أن الله أعدّ للصائمين مغفرة وأجراً عظيماً :(/20)
قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35].
فالصيام من كبريات أعمال الخير والبر التي أعد الله لعامليها أمرين عظيمين :
أ- {مَّغْفِرَةً}، وذلك بغفران الذنوب أي بسترها وعدم المحاسبة عليها، ونُكرت المغفرة لتعظيم أمرها، فهي إذا ً مغفرة شاملة.
ب- {وَأَجْراً عَظِيماً}، وذلك في جنات النعيم مع الكرامة في موقف الحساب ([3]).
3- أن الله جعله فدية لبعض محظورات الإحرام([4]) :
قال تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الآية [البقرة:196].
عن عبد الله بن معقل قال: قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد – يعني مسجد الكوفة – فسألته عن فدية من صيام، فقال: حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ((ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، أما تجد
شاة ؟ )) قلت: لا، قال: ((صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام أو احلق رأسك)) قال: فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة ([5]).
قال تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة:95].
قال ابن جرير: "{أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً} يعني تعالى ذكره بذلك أنه على قاتل الصيد محرماً عدل الصيد المقتول من الصيام ، وذلك أن يقوّم الصيد حياً غير مقتول قيمته من الطعام بالموضع الذي قتله فيه المحرم ، ثم يصوم مكان كل مدّ يوماً"([6]).
4- أن الله جعله بدلاً عن الهدي لمن وجب عليه الهدي ولا يستطيع أن يهدي([7]) :
قال تعالى في تتمة الآية السابقة: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:196].
قال القرطبي: "{فَمَن لَّمْ يَجِدْ} يعني الهدي، إما لعدم المال أو لعدم الحيوان صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده"([8]).
5- أن الله جعله بدلاً عن كفارة اليمين عند العجز عنها ([9]):
قال تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89].
قال ابن جرير: " يقول تعالى ذكره {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} لكفارة يمينه التي لزمه تكفيرها من الطعام والكسوة والرقاب ما يكفرها به على ما فرضنا عليه وأوجبناه في كتابنا وعلى لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} يقول: فعليه صيام ثلاثة أيام " ([10]).
6- أن الله جعله بدلاً عن العتق في كفارات القتل والظهار والوقاع في نهار رمضان([11]):(/21)
يقول تعالى في كفارة القتل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}
[النساء: 92].
قال ابن كثير: "أي هذه توبة القاتل خطأ إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين"([12]).
وقال الله عز وجل بشأن كفارة الظهار: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3، 4].
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره فمن لم يجد منكم ممن ظاهر من امرأته رقبة يحررها فعليه صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسّا"([13]).
وأما في كفارة الوقاع في نهار رمضان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: مالك ؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (( هل تجد رقبة تعتقها؟)) قال: لا، قال: ((فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟)) قال: لا، قال: ((فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟)) قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بِعِرْق فيها تمر - والعرق: المكتل - قال: ((أين السائل؟)) فقال: أنا، قال: ((خذ هذا فتصدق به)) فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله ؟ فوالله ما بين لابتيها – يريد الحرتين – أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: ((أطعمه أهلك)) ([14]).
قال ابن حجر في بيان الحكمة من هذه الخصال في الكفارة: " وأما الصيام فمناسبته ظاهرة؛ لأنه كالمقاصّة بجنس الجناية، وأما كونه شهرين فلأنه لما أمر بمصابرة النفس في حفظ كل يوم من شهر رمضان على الولاء فلما أفسد منه يوماً كان كمن أفسد الشهر كله، من حيث أنه عبادة واحدة بالنوع، فكلف بشهرين مضاعفة على سبيل المناقضة لنقيض قصده " ([15]).
7- الصيام جنة :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه)) ([16]).
وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ((الصيام جُنّة من النار، كجُنّة أحدكم من القتال))([17]).
قال ابن عبد البر: "والجُنّة: الوقاية والستر من النار، وحسبك بهذا فضلاً
للصائم" ([18]).
وقال القاضي عياض: "((جُنّة)) أي سِتْر ومانع من الرفث والآثام أو مانع من النار وساتر منها أو مانع من جميع ذلك " ([19]).
قال ابن العربي: " إنما كان الصوم جنة من النار ؛ لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات " ([20]).
قال ابن حجر: " فالحاصل أنه إذا كفّ نفسه عن الشهوات في الدنيا كان ذلك ساتراً له من النار في الآخرة " ([21]).
8- أجر الصائم على الله :
في حديث أبي هريرة السابق: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا
أجزي به)).
وعن أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك))([22]).
قال ابن عبد البر: "كفى بقوله: ((الصوم لي)) فضلاً للصيام على سائر العبادات"([23]).
وقال أيضاً: "فإن قال قائل: وما معنى قوله: ((الصوم لي وأنا أجزي به)) وقد علم أن الأعمال التي يراد بها وجه الله كلها له وهو يجزي بها؟(/22)
فمعناه والله أعلم: أن الصوم لا يظهر من ابن آدم في قول ولا عمل، وإنما هو نيّة ينطوي عليها صاحبها ولا يعلمها إلا الله، وليست مما تظهر فتكتبها الحفظة كما تكتب الذكر والصلاة والصدقة وسائر الأعمال ؛ لأن الصوم في الشريعة ليس بالإمساك عن الطعام والشراب؛ لأن كل ممسك عن الطعام والشراب إذا لم ينو بذلك وجه الله ولم يرد أداء فرضه أو التطوع لله به فليس بصائم في الشريعة، فلهذا قلنا إنه لا تطّلع عليه الحفظة ولا تكتبه، ولكنّ الله يعلمه ويجازي به على ما شاء من التضعيف" ([24]).
9- الصوم كفارة للخطيئات :
عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه: من يحفظ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال حذيفة: أنا سمعته يقول: ((فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة)) قال: ليس أسأل عن هذِهْ، إنما أسأل عن التي تموج كما يموج البحر، قال: وإن دون ذلك باباً مغلقاً، قال: فيفتح أو يكسر؟ قال: يكسر، قال: ذاك أجدر أن لا يغلق إلى يوم القيامة، فقلنا لمسروق: سَلْهُ، أكان عمر يعلم من الباب؟ فسأله فقال: نعم، كما يعلم أن دون غد الليلة)([25]).
وقد ترجم البخاري على الحديث بقوله: " باب الصوم كفارة ".
قال القاري: "والمعنى أن الرجل يبتلى ويمتحن في هذه الأشياء، ويسأل عن حقوقها، وقد يحصل له ذنوب من تقصيره فيها، فينبغي أن يكفرها بالحسنات؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ} [هود:144]" ([26]).
10- خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك :
في حديث أبي هريرة الماضي: ((والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك))([27]).
قال ابن الأثير: "الخِلفة: بالكسر: تغيرّ ريح الفم، وأصلها في النبات: أن ينبت الشيء بعد الشيء؛ لأنها رائحة حدثت بعد الرائحة الأولى، يقال: خلف فمه يخلُف خِلفة وخلوفاً، ومنه الحديث: (( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك )) " ([28]).
وقال ابن عبد البر: "ومعنى قوله: ((لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)): يريد أزكى عند الله وأقرب إليه وأرفع عنده من ريح المسك، وهذا في فضل الصيام وثواب الصائم، ومن أجل هذا الحديث كره جماعة من أهل العلم السواك للصائم في آخر النهار من أجل الخلوف؛ لأنه أكثر ما يعتري الصائم الخلوف في آخر النهار لتأخر الأكل والشرب عنه " ([29]).
11- للصائم فرحتان:
في حديث أبي هريرة الماضي: ((للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه)) ([30]).
قال القاضي عياض: " أما فرحته عند لقاء ربه فبيّنة؛ لما يراه من الثواب وحسن الجزاء، وأما عند إفطاره فلتمام عبادته وسلامتها من الفساد وما يرجوه من ثوابها، وقد يكون معناه: لما طبعت النفس عليه من الفرح بإباحة لذة الأكل وما منع منه الصائم وحاجته إلى ذهاب ألم الجوع عنه " ([31]).
12- الصيام لا يعدله شيء :
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله مُرْني بأمر آخذه عنك، قال: ((عليك بالصيام فإنه لا عدل له))([32]).
قال السندي: " ((فإنه لا مثل له)) في كسر الشهوة ودفع النفس الأمّارة والشيطان، أو لا مثل له في كثرة الثواب" ([33]).
13- الريان للصائمين :
عن سهل بن سعد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد))([34]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها ؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم))([35]).
قال النووي: " قال العلماء: معناه من كان الغالب عليه في عمله وطاعته ذلك "([36]).
وقال أيضاً: " قال العلماء: سمي باب الريان تنبيهاً على أن العطشان بالصوم في الهواجر سيروى وعاقبته إليه وهو مشتق من الري " ([37]).
14- شفاعة الصيام :
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة؛ يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان)) ([38]).(/23)
قال الطيبي: "والقول من الصيام والقرآن إما أن يُأَوَّل أو يجرى على ما عليه النص، هذا هو المنهج القويم والصراط المستقيم، فإن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل عن إدراك العوالم الإلهية ولا سبيل لها إلا الإذعان له والإيمان به " ([39]).
وقال الملا علي قاري: " وهذا دليل على عظمتهما " ([40]).
([1]) معالم التنزيل ( 1 / 196 ).
([2]) تفسير ابن كثير ( 1 / 318 ).
([3]) الصيام ورمضان في السنة والقرآن ( ص: 119 – 120 ).
([4]) الصيام ورمضان ( ص: 120 ).
([5]) أخرجه البخاري - كتاب المحصر - باب الإطعام في الفدية نصف صاع (1816)، ومسلم في الحج (1201).
([6]) تفسير الطبري (5/57).
([7]) الصيام ورمضان ( ص: 120 ).
([8]) الجامع لأحكام القرآن ( 2 / 399 ).
([9]) الصيام ورمضان ( ص: 123 ).
([10]) جامع البيان ( 5 / 30 ).
([11]) الصيام ورمضان ( ص: 124 ).
([12]) تفسير القرآن العظيم ( 1 / 811 ).
([13]) جامع البيان ( 12 / 10 ).
([14]) رواه البخاري في الصيام، باب إذا جامع في رمضان لم يكن له شيء (1936)، ومسلم في الصيام (1111).
([15]) فتح الباري ( 4 / 197 ).
([16]) أخرجه البخاري في الصيام، باب هل يقول إني صائم إذا شتم ؟ برقم ( 1904 )، ومسلم في الصيام برقم
( 1151 ).
([17]) صحيح: أخرجه النسائي في الصيام، باب فضل الصيام برقم ( 2231 )، وابن ماجه في الصيام، باب ما جاء في فضل الصيام برقم ( 1639 )، وأحمد في مسنده ( 4 / 22 )، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (982).
([18]) التمهيد ( 19 / 54 ).
([19]) الإكمال ( 4 / 110 ).
([20]) فتح الباري ( 4 / 125 ).
([21]) فتح الباري ( 4 / 125 ).
([22]) رواه مسلم في الصيام برقم ( 1151 ).
([23]) فقه الصوم ( 1 / 29 ).
([24]) التمهيد ( 19 / 60 ).
([25]) أخرجه البخاري في الصيام، باب الصوم كفارة برقم ( 1895 )، ومسلم في الإيمان برقم ( 144 ).
([26]) مرقاة المفاتيح ( 9 / 328 ).
([27]) تقدم تخريجه.
([28]) النهاية ( 2 / 67 ).
([29]) التمهيد ( 19 / 57 ).
([30]) تقدم تخريجه.
([31]) الإكمال ( 4 / 112 ).
([32]) صحيح: أخرجه النسائي في الصيام، باب فضل الصيام برقم ( 2220 )، وابن خزيمة في الصيام، باب فضل الصيام وأنه لا عدل له من الأعمال برقم ( 1893 )، وقال ابن حجر في الفتح (4 / 126): " إسناده صحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ( 1937 ).
([33]) شرح سنن النسائي ( 4 / 165 ).
([34]) أخرجه البخاري في الصيام، باب الريان للصائمين، برقم ( 1896 )، ومسلم في الصيام برقم ( 1152 ).
([35]) أخرجه البخاري في الصيام، باب الريان للصائمين، برقم ( 1897 )، ومسلم في الزكاة برقم ( 1027 ).
([36]) شرح مسلم للنووي ( 7 / 116 ).
([37]) المرجع السابق.
([38]) رواه أحمد في مسنده ( 2 / 174 – 6626 )، والحاكم في المستدرك ( 1 / 740 )، وقال: " صحيح على شرط مسلم "، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ( 3 / 181 ): " رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجال الطبراني رجال الصحيح "، وصححه الألباني في صحيح الترغيب ( 1 / 483 )، ولم أعثر عليه عند
الطبراني.
([39]) شرح الطيبي على المشكاة ( 4 / 141 ).
([40]) المرقاة شرح المشكاة ( 4 / 454 ).
ثانياً: فضائل صيام رمضان :
1- أنه ركن من أركان الإسلام :
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان))([1]).
قال القرطبي: "يعني أن هذه الخمس أساس دين الإسلام وقواعده عليها تبنى وبها تقوم"([2]).
فصيام رمضان أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، قال الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 183- 185].
وأجمع المسلمون على فرضية صوم رمضان إجماعاً قطعياً معلوماً بالضرورة من دين الإسلام([3]).
2- أنه كفارة للخطيئات :(/24)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))([4]).
قال النووي: " معنى إيماناً: تصديقاً بأنه حق مقتصد فضيلته، ومعنى احتساباً: أن يريد الله تعالى وحده لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص " ([5]).
وقال المناوي: "وفيه فضل رمضان وصيامه وأن تنال به المغفرة وأن الإيمان وهو التصديق والاحتساب وهو الطواعية شرط لنيل الثواب والمغفرة في صيام رمضان، فينبغي الإتيان به بنية خالصة وطوية صافية امتثالاً لأمره تعالى واتكالاً على وعده من غير كراهية وملالة لما يصيبه من أذى الجوع والعطش وكلفة الكف عن قضاء الوطر بل يحتسب النصب والتعب في طول أيامه ولا يتمنى سرعة انصرامه ويستلذ مضاضته " ([6]).
3- أنه من أسباب دخول الجنة :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: ((تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان))، قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئاً أبداً ولا أنقص منه، فلما ولّى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا))([7]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من آمن بالله وبرسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها))([8]).
وعن جابر رضي الله عنه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إذا صليت الصلوات المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئاً، ءأدخل الجنة؟ قال: ((نعم))، قال: والله لا أزيد على ذلك شيئاً([9]).
([1]) رواه البخاري في الإيمان، باب دعاؤكم إيمانكم برقم ( 8 )، ومسلم في الإيمان برقم ( 16 ).
([2]) المفهم ( 1 / 168 ).
([3]) مجالس شهر رمضان ( ص: 33 – 34 ).
([4]) أخرجه البخاري في الإيمان، باب صوم رمضان احتساباً من الإيمان برقم ( 38 )، ومسلم في صلاة المسافرين برقم ( 759 ).
([5]) شرح صحيح مسلم (6/39).
([6]) فيض القدير ( 6 / 207 ).
([7]) رواه البخاري في الزكاة، باب وجوب الزكاة برقم ( 1397 )، ومسلم في الإيمان برقم ( 14 ).
([8]) أخرجه البخاري في الجهاد، باب درجات المجاهدين في سبيل الله برقم ( 2790 ).
([9]) أخرجه مسلم: الإيمان (15).
حِكم الصيام وأسراره
أولاً: حِكم وأسرار تربوية:
1- تحقيق معنى التقوى:
قال تعالى: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة: 183 ] .
قال الواحديُّ: "إنّ الصيام وصلة إلى التُّقى لأنه يكف الإنسان عن كثيرٍ مما تَطْمع إليه النفس من المعاصي" ([1]) .
وقال أبو المظفر السمعاني في قوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }: "أي بالصوم؛ لأنّ الصوم وصلة إلى التقوى بما فيه من قهر النفس، وكسر الشهوات"([2]).
وقال السدي: "{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي: من الطعام والشراب والنساء"([3]).
وقال ابن كثير: "الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان"([4]).
وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (( من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء )) ([5]) .
قال ابن حجر: " (( فإنه له وجاء )) بكسر الواو وبجيم ومد، وهو رضُّ الخصيتين، وقيل: رضُّ عروقهما، ومن يفعل به ذلك تنقطع شهوته، ومقتضاه أن الصوم قامع لشهوة النكاح " ([6]) .
2- الصوم يحفظ الجوارح عن الوقوع في الحرام :
قال ابن القيم: " من جالس الصائم انتفع بمجالسته وأمن فيها من الزور والكذب والفجور والظلم ؛ فإن تكلم لم يتكلم بما يُجرِّح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه كله نافعاً صالحاً " ([7]).
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه )) ([8]) .
قال المهلب: " فيه دليل أنَّ حكم الصيام الإمساك عن الرفث وقول الزور، كما يمسك عن الطعام والشراب، وإن لم يمسك عن ذلك فقد تنقص صيامه وتعرض لسخط ربِّه، وترك قبوله منه " ([9]) .
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: " إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواءً " ([10]) .
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: ( إذا صمت فتحفظ ما استطعت ) ([11]).
3- الصيام يربي في النفس حقيقة الإخلاص لله عز وجل:(/25)
قال ابن القيم: " والصيام لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإنّ الصائم لا يفعل شيئاً، وإنّما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثاراً لمحبة الله ومرضاته، وهو سرُّ بين العبد وربه، لا يطَّلعُ عليه سواه، والعباد قد يطَّلعون منه على ترك المفطرات
الظاهرة، وأما كونه تَرَك طعامه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمرٌ لا يَطَّلِعُ عليه بشرٌ، وذلك حقيقة الصوم " ([12]) .
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (( قال الله: كُلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلاَّ الصِّيام فإنه لي وأنا أَجْزِي بِهِ )) ([13]) .
قال مجاهد: " قوله في الحديث: (( الصِّيام لي وأنا أجْزِي بِهِ )) ولا يكون لله خالصاً إلاَّ بانفراده بعلمه دون الناس " ([14]) .
وقال ابن بطال: " فالصيام وجميع الأعمال لله، لكن لما كانت الأعمال الظاهرة يُشْرِكُ فيها الشيطان بالرياء وغيره، وكان الصيام لا يطلع عليه أحد إلا الله، فيثيبه عليه على قدر خلوصه لوجهه، جاز أن يضيفه تعالى إلى نفسه " ([15]).
وقال القرطبي: " الصوم سر بين العبد وبين ربه لا يَظْهَر إلاَّ له ؛ فلذلك صار مختصاً به " ([16]) .
4- الصيام والصبر :
قال ابن رجب: " الصيام من الصبر، والصبر ثلاثة أنواع، وتجتمع الثلاثة في الصوم، فإنّ فيه صبراً على طاعة الله، وصبراً عمَّا حرم الله على الصائم من الشهوات، وصبراً على ما يحصُلُ للصائم فيه من ألم الجوع
والعطش، وضعف النفس والبدن ، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] " ([17]) .
قال ابن عيينة: " الصوم هو الصبر، يُصَبِّرُ الإنسان نفسه عن المطعم والمشرب والمنكح، ثم قرأ: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }" ([18]) .
وقال ابن حجر: " والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال " ([19]) .
5- في الصيام تضييق لمجاري الشيطان :
قال ابن رجب: " إنّ الصيام يضيق مجاري الدم، التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم ؛ فإنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر ثورة الشهوة والغضب، ولهذا جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصوم وجاءً ([20])، لقطعه عن شهوة النكاح " ([21]) .
6- الصيام يدعو الإنسان لشكر النعم :
قال الشيخ عبد العزيز السلمان: " الصوم يدعو إلى شكر نعمة الله، إذ هو كفُّ النفس عن الطعام والشراب ومباشرة النساء، ولا يعرف الإنسان قدر هذه النِّعم إلا بعد فقدها، فيبعثه ذلك على القيام بشكرها، وإلى هذا أشار جل وعلا بقوله: { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ البقرة: 185 ] " ([22]) .
7- الصيام يثير في النفس مراقبة الله عز وجل والخوف منه :
يقول الشيخ محمد رشيد رضا: " الصيام موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه فيه إلا الله، وهذه المراقبة تكسب الإنسان الحياء منه سبحانه أن يراه حيث نهاه، وفي هذه المراقبة من كمال الإيمان بالله والاستغراق في تعظيمه وتقديسه ما يجلب الخوف منه عز وجل، إن صاحب هذه المراقبة لا
يسترسل في المعاصي، إذ لا يطول أمد غفلته عن الله تعالى، وإذا نسي وألم بشيء منها يكون سريع التذكر قريب الفيء والرجوع بالتوبة إلى الله سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف:201] " ([23]) .
8- الصيام وخلق الكرم والعطف على الفقراء :
قال ابن رجب: " سئل بعض السلف لم شرع الصيام ؟ قال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع " ([24]) .
وقال الشيخ محمد رشيد رضا: " إن الصائم عندما يجوع يتذكر من لا يجد قوتاً فيحمله التذكر على الرأفة والرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة، وقد وصف الله تعالى نبيه بأنه رؤوف رحيم، ويرتضي لعباده المؤمنين ما ارتضاه لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولذلك أمرهم بالتأسي به " ([25]) .
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل([26]).
قال الزين بن المنير: " أي فيعم خيره وبره من هو بصفة الفقر والحاجة ومن هو بصفة الغنى والكفاية أكثر مما يعم الغيث الناشئة عن الريح المرسلة صلى الله عليه وسلم " ([27]) .
9- في الصيام تتجلى وحدة المسلمين، وتعرف الأُمَّةُ أهمية الوقت :
يقول الشيخ محمد رشيد رضا: " الصيام يُعَلِّمُ الأُمَّة النظام في المعيشة، فجميع المسلمين يفطرون في وقت واحد لا يتقدم أحدٌ على آخر دقيقة واحدة، وقلما يتأخر عنه دقيقة واحدة " ([28]) .
([1]) الوسيط في تفسير القرآن المجيد للواحدي (1/272).
([2]) تفسير السمعاني (1/179)، وانظر: زاد المسير (1/167)، والبحر المحيط (2/36).
([3]) انظر جامع البيان (3/413)، والدر المنثور (1/323).
([4]) تفسير القرآن العظيم (1/318)، وانظر محاسن التأويل (2/74).(/26)
([5]) أخرجه البخاري: في كتاب الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة رقم (1905) واللفظ له، ومسلم: كتاب النكاح، باب: استحباب النكاح رقم (1400).
([6]) فتح الباري (4/142).
([7]) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص41) بتصرف يسير.
([8]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به رقم (1903).
([9]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/23).
([10]) المصنف لابن أبي شيبة (2/422)، كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب.
([11]) المصنف لابن أبي شيبة (2/421)، كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب.
([12]) زاد المعاد (2/29).
([13]) أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شُتِم رقم (1904)، واللفظ له، ومسلم، كتاب الصيام: باب فضل الصيام رقم (1151).
([14]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/9).
([15]) المرجع السابق .
([16]) الجامع لأحكام القرآن (2/274).
([17]) انظر: لطائف المعارف ( ص: 284 ) بتصرف يسير، وموارد الظمآن ( 1 / 357 ) .
([18]) شرح صحيح البخاري لابن بطال ( 4 / 9 ) .
([19]) فتح الباري ( 4 / 130 ) .
([20]) تقدم تخريج الحديث، والكلام عليه، في الفقرة رقم ( 1 ) .
([21]) لطائف المعارف ( ص: 291 ) .
([22]) انظر: موارد الظمآن ( 1 / 356 ) بتصرف يسير .
([23]) انظر: تفسير المنار ( 2 / 145 – 146 ) بتصرف يسير، وكتاب الصوم للشيخ عبد الرحمن الدوسري.
([24]) لطائف المعارف لابن رجب ( ص: 314 ) .
([25]) انظر: تفسير المنار ( 2 / 147 ) بتصرف يسير .
([26]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان رقم ( 1902 )، واللفظ له، ومسلم في كتاب الفضائل، باب كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس رقم ( 2308 ) .
([27]) انظر: فتح الباري ( 4 / 139 ) .
([28]) انظر: تفسير المنار ( 2 / 148 ) بتصرف يسير .
ثانيا: حِكم وأسرار صحية:
1- يقول ابن القيم:
" الصوم جنة من أدواء الروح والقلب والبدن ؛ مَنافِعُه تفوت الإحصاء، وله تأثير عجيب: في حفظ الصحة، وإذابة الفضلات، وحبس النفس عن تناول مؤذياتها، ولاسيما: إذا كان باعتدال وقصد في أفضل أوقاته شرعاً، وحاجة البدن إليه طبعاً، ثم إنّ فيه: من إراحة القوى والأعضاء ما يحفظ عليها قواها، وفيه خاصية تقتضي إيثاره، وهي: تفريجه للقلب عاجلاً وآجلاً، فهو أنفع شيء لأصحاب الأمزجة الباردة والرطبة، وله تأثير عظيم، في حفظ صحتهم .
وهو يدخل في الأدوية الروحانية والطبيعية، وإذا راعى الصائم فيه ما ينبغي مراعاته طبعاً وشرعاً، عظم انتفاع قلبه وبدنه به، وحبس عنه المواد الغريبة الفاسدة التي هو مستعِدّ لها، وأزال المواد الرديئة الحاصلة بحسب كماله ونقصانه ويحفظ الصائم مما ينبغي أن يتحفظ منه، ويعينه على قيامه بمقصود الصوم وسره وعلته الغائية .
فإنّ القصد منه أمر آخر وراء ترك الطعام والشراب، وباعتبار ذلك الأمر، أُختصَّ من بين الأعمال: بأنه للهِ سبحانه، ولمَّا كان وقايةً وجُنةً بين العبد وبين ما يؤذي قلبه وبدنه عاجلاً راجلاً، قال الله تعالى: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ } [ البقرة: 183 ]، فأحد مقصودَي الصيام: الجنةُ والوقاية ؛ وهي حِمْية عظيمةُ النفع .
والمقصود الآخر: اجتماعُ القلب والهمِّ على الله تعالى، وتوفيرُ قُوى النفس على محابِّهِ وطاعته " ([1]) .
2- الصيام وصحة الجسم :
" يفيد الصيام صحة النفس والجسم كليهما، فيشحذ الذهن ويقوي الإرادة، ويخفف العبء عن أجهزة الجسم جميعها وبخاصة جهاز الهضم وجهاز الدوران والكلى " ([2]) .
" والصيام ينشط تجدد خلايا الجسم، فمن المعروف أنّ في جسم الإنسان نحو من ( 125 ) ألف مليار خلية، وأنّه يموت ويحيا كل دقيقة نحو من ( 7 ) مليارات خلية، أي أن خلايا الجسم جميعها تتجدد خلال اثني عشر يوماً تقريباً، أما في الصوم فتتجدد جميعها خلال ( 5 – 6 ) أيام فقط " ([3]) .
3- الصيام والجهاز الهضمي :
" إن للصوم الأثر الكبير في راحة الجهاز الهضمي المُتْعَبْ طيلة أيام السنة، وفي الصوم حثٌ على الاستفادة من مخزون الشحوم في الجسم كافة، فتتحول هذه الشحوم وتتفتت وتنتج لنا الطاقة اللازمة لإدامة الحياة بدل الطعام " ([4]) .
" وإن من حكمة الإفطار على التمر أنه يحتوي على المواد السكرية التي سرعان ما تُمتص فتصل إلى الدم بسرعة، ويرتفع مستوى السكر في الدم، ويشعر به الصائم نشاطاً يدب في جسمه، وقوةً في التركيز والرؤية، ويقلل نوعاً ما من شعور الصائم بالحاجة إلى الطعام فتقل شهيته فيأكل ما يكفيه دون إفراط " ([5]) .
" إنَّ شرب الماء عند الإفطار قبل الطعام قد يحرك الأمعاء ويقلل من حالة الإمساك التي يشكو منها كبار السن عادة " ([6]) .
4- الصيام وأمراض الكليتين :(/27)
الصيام يريح الكليتين وجهاز البول، بإقلاله فضلات استقلاب الأغذية المنطرحة عن طريق الجهاز ([7]) .
5- الصيام وعلاج البدانة :
يستفيد السمين من الصيام كثيراً ؛ لأن الصائم بعد حرقه الغذاء الوارد في السحور يستمد 83 % من القدرة الضرورية من استهلاك المدخرات الذهنية وتزيد فائدته إن لم يسرف في الطعام، وقلل من الأغذية الدهنية والنشوية وباقي السكريات([8]) .
6- الصيام يحمي الأسنان من التسوس ويمنع إصابة اللثة بالأمراض :
" يقول أحد الأطباء: إن الامتناع عن الأكل من السحور حتى الفطور يحمي الأسنان من التلف الناتج عن تخمر فضلات الطعام في الأسنان، وبالتالي فإن ذلك يحول دون إصابة الأسنان بالتسوس، ويقلل من الإفرازات اللعابية التي تسبب زيادة ترسب المواد الجيرية والدهنية على الأسنان، وتظل اللثة معرضة للأمراض " ([9]) .
7- أمراض الروماتيزم :
" يؤكد أخصائيو الأمراض الروماتيزمية والأمراض المزمنة أن الصيام يفيد مرضى الروماتيزم، وخاصة السيدات وكبار السن من الجنسين، فهو يخفض الوزن ويتخلص من السموم في الجسم " ([10]) .
8- أمراض الكبد :
" يقول أخصائيو الأمراض الباطنية: إِنَّ حالات كثيرة من أمراض السكر قد أفادت إفادة كبيرة في شهر رمضان؛ لأنّ الصيام يعمل على خفض مستوى السكر في الدم وانخفاضه في البول كما ينصح الأطباء مَرْضَى الكبد أن يستفيدوا من تجربة شهر الصيام طوال العام بعد الإفراط في الأكل وتنظيمه " ([11]) .
9- ترك الدخان :
" والصوم حافز كبير يساعد على التخلص نهائياً من الإدمان في شرب السجائر والمنبهات، والصوم يعطي مناعة وقوة تزيدهم تحملاً للمسؤوليات وأعباء الحياة، وتزيدهم صبراً على تحمل الحرمان، وبذلك يمكن الإقلاع عن التدخين، وتتحسن صحتهم النفسية والجسمية " ([12]) .
10- الصوم ومرض السكر :
" والصوم يحمي الإنسان من مرض السكر: ولتفسير ذلك نقول إن في الصوم تقل كمية السكر في الدم إلى أدنى المعدلات، وهذا يعطي غدة البنكرياس فرصة للراحة، فمن المعروف أن البنكرياس يفرز الأنسولين، وهذه المادة بدورها تؤثر على السكر في الدم، فتحوله إلى مواد نشوية ودهنية تترسب وتخزن في الأنسجة، ولكن إذا زاد الطعام عن قدرة البنكرياس في إفراز الأنسولين، فإن هذه الغدة تصاب بالإرهاق والإعياء، ثم أخيراً تعجز عن القيام بوظيفتها، فيتراكم السكر في الدم، وتزيد معدلاته بالتدريج سنة وراء سنة، حتى يظهر مرض السكر، وخير حماية للبنكرياس من هذا الإرهاب؛ هو الصوم المعتدل"([13]).
11- الصوم والمعدة :
" وما أصدق الحكمة القائلة: قليل من الصوم يصلح المعدة، ففي الصيام تخلو المعدة تماماً من الطعام خلال 12 ساعة في اليوم الواحد، ولمدة شهر كامل، وهذه المدة تكفي لإخلاء المعدة من كل طعام متراكم وتعطيها فرصة للراحة من غير إرهاق، ولذلك نجد أنه أثناء فترة الصيام يتخلص الإنسان من عادة التكرع أو ( التجشوء ) التي يسببها أكل الطعام على الطعام مما ينجم عنه تخمر الأطعمة في المعدة قبل أن تتمكن من هضمها " ([14]) .
12- الصوم والأمعاء :
"والصيام يريح الأمعاء والمصران الغليظ أيضاً من الطعام المتراكم، وبذلك يتخلص الصائم من الغازات والروائح الكريهة التي تنتج عن التخمة وسوء الهضم والتخمر في الأمعاء بسبب عدم قدرتها على امتصاص الطعام أو التخلص منه، وقد كان الناس فيما مضى قبل الأدوية الحديثة يعالجون حالات الإسهال
بالصيام وحده أو باستعمال المسهلات للمساعدة على طرد المواد السامة من المصارين" ([15]) .
([1]) الطب النبوي لابن القيم ( ص: 258 – 259 ) .
([2]) كتاب الحقائق الطبية في الإسلام ( ص: 184 ) بتصرف يسير .
([3]) كتاب الحقائق الطبية في الإسلام ( ص: 184 ) بتصرف يسير .
([4]) الطب الوقائي في الإسلام ( ص: 253 ) بتصرف يسير .
([5]) الطب الوقائي في الإسلام ( ص: 253 ) بتصرف يسير .
([6]) الطب الوقائي في الإسلام ( ص: 253 ) بتصرف يسير .
([7]) الطب النبوي والعلم الحديث ( 1 / 274 ) .
([8]) الطب النبوي والعلم الحديث ( 1 / 274 ) .
([9]) الصيدلية المحمدية ( ص: 42 – 43 ) .
([10]) الصيدلية المحمدية ( ص: 42 – 43 ) .
([11]) الصيدلية المحمدية ( ص: 42 – 43 ) .
([12]) الصيدلية المحمدية ( ص: 42 – 43 ) .
([13]) صوموا تصحوا، دراسة علمية لفوائد الصيام الصحية ( ص: 32 – 33 ) .
([14]) صوموا تصحوا، دراسة علمية لفوائد الصيام الصحية ( ص: 32 – 33 ) .
([15]) صوموا تصحوا، دراسة علمية لفوائد الصيام الصحية ( ص: 32 – 33 ) .
ما قيل من الشعر عن رمضان
1 ـ استقبال رمضان والفرح به
قال بعضهم:
جاء شهر الصيام بالبركات
...
...
فأَكرِمْ به من زائرٍ هُوَ آت([1])
وقال آخر:
أتى رمضانُ مزرعةُ العباد
فأَدِّ حقوقه قولاً وفعلاً
فمن زرع الحبوبَ وما سقاها
...
...
لتطهير القلوب من الفساد
وزادُك فاتخذه للمعاد
تأَوَّه نادمًا يوم الحصاد([2])
وقال آخر:
إذا رمضان أتى مقبلاً
لعلك تخطئه قابلاً
...
...(/28)
فأَقْبِلْ فبالخير يُسْتقْبَل
وتأتي بعذر فلا يُقْبل([3])
وقال آخر:
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما
واتْلُ القرآن وسبح فيه مجتهدًا
واحملْ على جسد ترجو النجاة له
كم كنت تعرف ممّن صام في سلف
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم
ومُعجبٌ بثياب العيد يقطعها
حتى متى يعمر الإنسان مسكنه
...
...
حتى عصى ربَّه في شهر شعبان
فلا تُصيِّره أيضًا شهر عصيان
فإنه شهر تسبيح وقرآن
فسوف تضرم أجساد بنيران
من بين أهل وجيران وإخوان
حيًا فما أقربَ القاصي من الداني
فأصبحت في غد أثواب أكفان
مصير مسكنه قبر لإنسان([4])
ويقول مصطفى الصادق الرافعي أديب الإسلام:
فديتك زائرًا في كل عام
وتُقْبِل كالغمام يفيض حِينًا
وكم في الناس من كَلِف مَشُوقٍ
رمزت له بألحاظ الليالي
فظل يعدّ يومًا بعد يومٍ
ومدّ له رواق الليل ظِلاًّ
فبات وملء عينيه منام
ولم أر قبل حبك من حبيب
فلو تدري العوالم ما درينا
بَنِي الإسلام هذا خير ضيف
يلُمُّكم على خير السجايا
فشدوا فيه أيديكم بعزم
وقوموا في لياليه الغوالي
وكم نفر تغرهم الليالي
وخلوا عادة السفهاء عنكم
يحلون الحرام إذا أرادوا
وما كل الأنام ذوي عقول
ومن روّته مرضعة المعاصي
...
...
تُحَيّا بالسلامة والسلام
ويبقى بعده أثر الغمام
إليك وكم شجيٍّ مستهام
وقد عيّ الزمان عن الكلام
كما اعتادوا لأيام السقام
ترف عليه أجنحة الظلام
لتنفض عنهما كسل المنام
كفى العشاق لوعات الغرام
لحنّت للصلاة وللصيام
إذا غشي الكريم ذرا الكرام
ويجمعكم على الهمم العظام
كما شدَّ الكميّ على الحسام
فما عاجت عليكم للمقام
وما خلقوا ولا هي للدوام
فتلك عوائد القوم اللئام
وقد بان الحلال من الحرام
إذا عَدُّوا البهائمَ في الأنام
فقد جاءته أيام الفطام([5])
وقال أحمد محمد الصديق:
قِفي ها هُنا في رِحابِ الهُدَى
أطلَّ عَلى الناس شهر الصيامِ
هَلُمّي... هَلُمّي.. به نَحْتَفي
أعيذُك من نزغات الهَوى
على عَتَبات الرضا والسلامِ
فإن جاد بالعفو ربُّ السماءِ
وحسبُكِ أنّا عَفرْنا الجبينَ
صيامُك يا نفس فيه الخلاصُ
ومعراجُك الفذُّ تقوى الإلهِ
...
...
ولله يا نفس فاستسلمي
فبُشراك بالوافد المُكْرَمِ
ونعلن عن فرحة المقدم
وفي موسم الخصبِ أن تُحرمي
أطيلي الوُقوفَ.. ولا تَسأمي
فحسبك ذلك من معنم
لديه.. وفي حصنه نحتمي
من الضعف والعجز والمأثَمِ
فركضًا إلى الله.. لا تُحجِمي([6])
وقال الصديق حافظ:
((رمضانُ)) أَقْبَلَ قم بنا يا صاحِ
الكون مِعْطارٌ بطيب قُدُومه!
صفو أتيح فخذ لنفسك قِسطَها
واغنم ثواب صيامِه وقيامِه
كم مؤمن لم تُلْهِهِ الدنيا فلم
قَوّامِ ليلٍ نائمٌ عنه الكَرَى
وحليف شيطانٍ غويٍّ لم يزلْ
في ليلة زُمرُ المعاصي تنتشي
رمضان لا يثنيه عن آثامِه!
الصوم يُعْلي من وَضيعِ غرائز
تلك الغرائز كم لها من صولةٍ
والنفس إن سَقت وهيض جناحها
الصوم يمنحنا مشاعر رحمةٍ
رمضان فيه ليلة خير لنا
فيها تنزّلُ بالسلام ملائِكٌ
قد أنزل القرآن فيها جامعًا
ومصدقًا للرسل فيما بلغوا
هذا كتاب الله زاد مُسَافر
أقبل عليه فإن من نفحاته
يا ليلة القدر امنحي أيامنا
رباه إني في ضلال حائر
هذِي خُطاي على الطريق ضريرةٌ
ثارت بي الشهواتُ فاصرف شرها
يا نُور هذا الكون هب لبصيرتي
إني لما أنزلت من خير فقيرٌ
وامُدد يَديْك إليّ إنّي هَالِك
واجعَلْ صِيَامَي راحةً لمتاعبي
...
...
هذا أوان تبتُّلٍ وصلاح!
روح وريحان ونفح أقاحي
فالصفو ليس على المدى بمتاحِ!
تسعد بخير دائم وفلاح!
يستبدل الأتراح بالأفراح!
الصّوامِ واعٍ صاحِ!
عبدًا لبنت الكَرْمِ والأقداحِ
ونهاره في غفلة ومزاح!
واهي العقيدة في إهَاب وَقاح!
وطبائع سُودِ الوجُوه قِباح
مسعورةِ الأنيَابِ ذاتِ نُبَاح!
فالصوم معراجٌ بغير جَنَاح!
وتعاونٍ، وتعففٍ، وسَمَاح!
من ألفِ شهرٍ في الزمان صِباحِ!
والروحُ حتى مطلع الإصْباحِ!
لمراشِدِ التهذيب والإصْلاحِ!
عن مُنْزِلِ الأسْفَارِ والألوَاحِ!
وبرودُ ماءٍ في الهَجير قَرَاح!
تقوى القلوب، وبهجةَ الأرواح!
فضلَ الكريم المنعمِ الفتَّاح!
عانٍ أنوءُ بحِمْلِيَ الفَدَّاح!
يكبو غُدُوّي باكيًا ورواحي!
عنِّى وكفكف ثورتي وجماحي!
قبسًا من المشكاة والمصباح!
فأغنني واملأ بعفوك سَاحي!
وامنُن عَلَيَّ بتوبة وصلاح!
واجعل قِيَامي بَلْسَمًا لجراحي([7])
وقال محمد حسن فقي:
رمضان.. في قلبي هَماهِمُ نشوةٍ
وعلى فمي طعم أحس بأنه
لا طعم دنيانا، فليس بوسعها
ما ذقت قط ولا شعرت بمثله
قالوا بأنك قادم، فتهللت
وتطلعت نحو السماء نواظر
تهفو إليه، وفي القلوب وفي النُّهى
لم لا نتيه مع الهيام.. ونزدهي
بهما نُحَلِّق في الغمام، ونرتوي
ونشف أرواحًا فننهج منهجًا
ونُصِحُّ أجساداً، فلا نشكو الونى
فنعود كالأسلاف أكرم أمة
...
...
من قبل رؤية وجهك الوضاء
من طعم تلك الجنة الخضراء
تقديم هذا الطعم للخلفاء
أفلا أكون به من السعداء
بالبشر أَوْجُهُنا.. وبالخيلاء
لهلال شهر نضارة ورُواء(/29)
شوق لمقدمه، وحسن رجاء
بجلال أيام.. ووحي سماء؟
من عذبه .. ونصول في الأجواء
نفضي به لمرابع الجوزاء
أبداً ولا نشكو من الأدواء
وأعز في السراء والضراء
([1]) لطائف المعارف لابن رجب (279).
([2]) المرجع السابق (280).
([3]) المرجع السابق (281).
([4]) المرجع السابق (282).
([5]) ديوان الرافعي (31).
([6]) من ديوان نداء الحق.
([7]) ديوان شعر السيد الصديق حافظ.
2 ـ الحث على الطاعة في رمضان
والحذر من المعصية فيه
قال بعضهم:
من يُرِدْ ملك الجنانِ
وليقم في ظلمة الليل
وَلْيَصِلْ صومًا بصومٍ
إنما العيش جوار الله
...
...
فليدع عنه التواني
إلى نور القُرَانِ
إن هذا العيشَ فاني
في دار الأمانِ([1])
وقال بعضهم:
أَسْتَغْفِرُ الله من صيامي
صيامنا كله خروق
مستيقظ في الدجى ولكن
...
...
طول زماني ومن صلاتي
وصلاته أيما صلاتي
أَحْسَنُ من يقظتي سُباتي([2])
وقال بعضهم:
لا تَجْعَلَنْ رمضان شهر فُكاهةٍ
واعلم بأنك لا تنال قبوله
...
...
تلهيك فيه من القبيح فنونه
حتى تكون تصومه وتصونه([3])
وقال أحمد شوقي:
وصلّ صلاة من يرجو ويخشى
...
...
وقبل الصوم صُمْ علىكل فحشا([4])
وقال محمد بن عبد الرحمن:
في صيام الشهر طِبُّ
فيه أسرار يعيها
فيه غيث من صفاء
فيه للأرواح سبح
صائم في درع تقوى
...
...
ليس يدريه طبيبُ
صائم حقًا أريبُ
ترتوي منه القلوبُ
دونه الكون الرحيب
تنجلي عنه الكروب([5])
وقال أبو زيد إبراهيم:
يا أيها الشهر الكريم ومن به
فالصوم تزكية النفوس وطهرها
والصوم تربية الضمير فمن سما
كم صائم والصوم منه مُبرَّأ
صوم الجوارح أن تكف عن الأذى
...
...
تسمو النفوس ويخشع الوجدان
ولكبح كل زرية ميزان
فيه الضمير تألق الإيمان
وبرجسه يتفاخر الشيطان
لا صومَ في صوم به أضغان([6])
وقال بعضهم:
تنصَّف الشهر والهفاه وانهدما
وأصبح الغافل المسكين منكسرًا
من فاته الزرع في وقت البذار فما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته
...
...
واختصَّ بالفوز بالجنات من خدما
مثلي فيا ويحَه يا عُظم ما حُرِما!
تراه يحصد إلا الهم والندما
في شهره وبحبل الله معتصما([7])
([1]) لطائف المعارف لابن رجب (298).
([2]) المرجع السابق (384).
([3]) نفح الطيب للمقّري (2/999).
([4]) الشوقيات (1/32).
([5]) ديوان الشاعر محمد عبد الرحمن.
([6]) ديوان شعر أبي زيد إبراهيم سيد.
([7]) لطائف المعارف (338).
3 ـ وداع شهر رمضان
قال بعضهم:
سلام من الرحمن كل أوان
سلام على شهر الصيام فإنه
لئن فنيت أيامك الغر بغتة
...
...
على خير شهر قد مضى وزمان
أمان من الرحمن أي أمان
فما الحزن من قلبي عليك بفان([1])
وقال أبو جعفر الرامي:
مضى رمضان مرمض الذَّنْب فَقْدُه
فيا لك شهرًا أشهر الله قدره
...
...
وأقبل شوال تشول به قهرًا
لقد شهرت فيه سيوف العدا شهرًا([2])
([1]) لطائف المعارف لابن رجب (387).
([2]) قرى الضيف لابن أبي الدنيا (172).
مراحل تشريع الصوم
الحكمة من التدرج في تشريع الصيام:
لم يفرض الصوم جملة واحدة ، وإنما شرع على التدرج ، قال ابن القيم في بيان الحكمة من ذلك : " لما كان ـ أي الصوم ـ غيرَ مألوف لهم ولا معتاد ، والطباع تأباه ، إذ هو هجر مألوفها ومحبوبها ، ولم تذق بعدُ حلاوته وعواقبه المحمودة ، وما في طيه من المصالح والمنافع، فخيرت بينه وبين الإطعام ، وندبت إليه ، فلما عرفت علته – يعني حكمته – وألفته ، وعرفت ما ضمنه من المصالح والفوائد : حتم عليها عيناً ، ولم يقبل منها سواه ، فكان التخيير في وقته مصلحة، وتعيين الصوم في وقته مصلحة ، فاقتضت الحكمة البالغة شرع كل حكم في وقته ؛ لأن المصلحة فيه في ذلك الوقت " ([1]) .
وقال ابن حجر الهيثمي: " وحكمته – أي التدرج – الرفق بالأمة ؛ لأنهم لما لم يألفوا الصوم كان يقينه عليهم ابتداء فيه مشقة ، فخيروا بينه وبين الفدية أولاً ، ثم لما قوي يقينهم ، واطمأنت نفوسهم : حتم عليهم الصوم وحده ، ونظير ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أول ما بعث لم يكلف الناس إلا بالتوحيد فقط ، ثم استمر على ذلك مدة مديدة ، ثم فرض عليهم من الصلاة ما ذكر في سورة المزمل ، ثم نسخ ذلك كله بالصلوات
الخمس،وكان كلما ازداد ظهوراً وتمكناً:ازدادت الفرائض وتتابعت،كل ذلك لما قررته من الرفق والتدرج في المراتب حتى تؤخذ بحقها"([2]) .
([1]) مفتاح دار السعادة ( 2 / 377 ) ، وانظر : ( 2 / 386 ) منه .
([2]) إتحاف أهل الإسلام بخصوصيات الصيام ( ص : 78 ) ، وللتوسع انظر : العبادات وتطور تشريعها في زمن الوحي، لمحمد أنيس عبادة ، والتدرج في التشريع : ( مقال في مجلة الأزهر – السنة 37 ، ص : 146 وما بعدها ) لبدر المتولي عبد الباسط ، ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية( ص :74 – 78 ) ليعقوب الباحسين .
هل فُرِض صيامٌ قبل فرض صيام رمضان؟
قال ابن حجر: " ذهب الجمهور – وهو المشهور عند الشافعية – إلى أنه لم يجب قط صوم قبل صوم رمضان " ([1]) .(/30)
وقال ابن جرير الطبري : " وذلك أنه لم يأت خبر تقوم به حجة بأن صوماً فُرِض على أهل الإسلام غير صوم شهر رمضان ثم نسخ بصوم شهر رمضان ... فمن ادعى أن صوماً كان قد لزم المسلمين فَرْضُه غير صوم شهر رمضان الذين هم مجمعون على وجوب فرض صومه، ثم نسخ ذلك سُئل عن البرهان على ذلك من خبر تقوم به حجة، إذْ كان ذلك لا يُعْلم إلا بخبرٍ يَقْطَع العذر" ([2]) .
واختار جماعة من العلماء أن صياماً قد فُرِض قبل فرض صيام رمضان ، ثم نسخ برمضان ، ثم اختلفوا في تحديد ذلك الصيام على قولين ([3]) :
1- يوم عاشوراء :
وبذلك قال أبو حنيفة ([4]) ، وهو رواية عن أحمد ([5]) ، اختارها الأثرم ([6]) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ([7]) .
ومن أدلتهم : حديث عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صامه ، وأمر بصيامه ، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة ، وترك يوم عاشوراء ، فمن شاء صامه ومن شاء تركه ) ([8]) .
قال ابن بطال : " دلّ حديث عائشة على أن صومه كان واجباً قبل أن يُفْرَض
رمضان ، ودل أيضاً أن صومه قد رد إلى التطوع بعد أن كان فرضاً " ([9]) .
2- ثلاثة أيام من كل شهر :
وإليه ذهب عطاء، مستدلاً بقوله تعالى : {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ a أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ} [البقرة: 183، 184].
قال عطاء : "كان عليهم الصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، ولم يسم الشهر أياماً معدودات ، قال : وكان هذا صيام الناس قبل ، ثم فرض الله عز وجل على الناس شهر رمضان " ([10]) .
([1]) فتح الباري ( 4 / 103 ) ، وانظر : المجموع ( 6 / 433 – 435 ) للنووي .
([2]) جامع البيان ( 3 / 417 ) ، وانظر : تفسير المنار ( 2 / 150 ) .
([3]) انظر : الذخيرة ( 2 / 485 ) للقرافي .
([4]) بدائع الصنائع ( 2 / 262 ) .
([5]) الإنصاف ( 3 / 346 ) .
([6]) ناسخ الحديث ومنسوخه ( ص : 186 – 188 ) .
([7]) مجموع الفتاوى ( 25 / 295 ، 296 ، 311 ) ، شرح العمدة ( 2/ 573 – الصيام ) والاختيارات (164) للبعلي .
([8]) رواه البخاري في كتاب التفسير، باب { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ... } ( 4502 ) ، ومسلم في كتاب الصيام، باب صوم عاشوراء ( 1125 ) .
([9]) شرح ابن بطال على البخاري ( 4 / 141 ) .
([10]) رواه الطبري في تفسيره ( 3 / 414 ) .
مراحل فرض صيام رمضان :
قال ابن القيم : " وكان للصوم رتب ثلاث:
إحداها : إيجابه بوصف التخيير ، والثاني : تحتمه ، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة ، فنسخ ذلك بالمرتبة الثالثة وهي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة " ([1]) .
دليل المرتبة الأولى :
قال تعالى : {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184].
قال سلمة بن الأكوع رضي الله عنه : ( لما نزلت {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها ) ([2]) .
دليل المرتبة الثانية والثالثة :
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : ( كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى
يمسي ، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً ، فلما حضر الإفطار أتى امرأته ، فقال لها : أعندك طعام ؟ قالت : لا ، ولكن انطلق فأطلب لك ، وكان يومه يعمل ، فغلبته عيناه ، فجاءته امرأته ، فلما رأته قالت : خيبة لك ، فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] ففرحوا بها فرحاً شديداً ، ونزلت : {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187])([3]) .
([1]) زاد المعاد ( 2 / 31 ) .
([2]) رواه البخاري في كتاب التفسير، باب { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ( 4507 ) .
([3]) رواه البخاري في كتاب الصوم، باب قول الله جل ذكره: { أحل لكم ليلة الصيام الرفث ... } ( 1915 ) .
متى فُرِض صوم رمضان؟
لم يختلف أهل السِّيَر في أنّ رمضان قد فُرِض في السنة الثانية من الهجرة.
قال الطبري في حوادث السنة الثانية من الهجرة: "وفي هذه السنة فُرِض ـ فيما ذُكِر ـ صومُ رمضان،وقيل: إنه فرض في شعبان منها"([1]).
([1]) التاريخ (2/417)، وانظر: الفصول في سيرة الرسول لابن كثير (ص 127) .
صوم رمضان الحقيقة اللغوية والشرعية
1- تعريف الصوم:(/31)
أ ـ لغة: الأصل في الصوم: الإمساك.
قال الراغب: " الصوم في الأصل الإمساك عن الفعل مطعماً كان، أو كلاماً، أو مشياً، ولذلك قيل للفرس الممسك عن السير أو العلف: صائم " ([1]).
قال الشاعر:
خيل صيام وأخرى غير صائمة
...
...
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما([2])
قال أبو عبيد: " الصائم من الخيل القائم الساكت الذي لا يطعم شيئاً " ([3]).
وقال: " ويقال للنهار إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة: قد صام " ([4]).
قال الليث: " والصوم القيام بلا عمل ".
وقال: " وبكرة صائمة إذا قامت فلم تَدُرْ " ([5]).
والصوم يقال للصمت، ومنه قوله تعالى:{إِنّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً} [ مريم: 26]، قال ابن عباس: " يعني بالصوم: الصّمت " ([6]).
ويقال لركود الرّيح، ولرمضان، وللبيعة ([7]).
وشجر في لغة هذيل ([8]).
ويوصف به فيستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والاثنين والجماعة، تقول: رجل صَوْم، وامرأة صَوْم، ورجلان صَوْم، ورجال صَوْم ([9]).
ويطلق الصائم للواحد والجميع ([10])، ويجمع كذلك على صُوَّام وصُيَّام وصُوَّم وصِيَّم وصِيام وصيامى ([11]).
ويقال للفرد: صائم وصَوْمان وصَوم ([12]).
ب ـ شرعاً: هو: إمساك مخصوص ( وهو الكف عن قضاء شهوتي الفرج والبطن وسائر المفطرات ) من شخص مخصوص ( وهو أن يكون مسلماً طاهراً من الحيض والنفاس ) في وقت مخصوص ( وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ) بصفة مخصوصة ( وهو أن يكون على قصد التقرب ) ([13]).
وقيل: الصوم هو الإمساك عن المفطرات الثلاثة نهاراً ([14]).
وقيل: الإمساك عن شهوتي الفم والفرج وما يقوم مقامهما، مخالفةً للهوى في طاعة المولى، في جميع أجزاء النهار، بنيَّةٍ، قبل الفجر أو معه إن أمكن، فيما عدا زمن الحيض والنفاس وأيام الأعياد ([15]).
ولو قيل بأنه: هو التعبد لله تعالى بالإمساك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ([16])، لكان وافياً بالمراد، مع اختصاره.
([1]) المفردات ( صوم: 500 ).
([2]) هو بيت للنابغة الذبياني، كما في " اللسان ": ( علك ) و ( صام )، وغيره.
وليس في قصيدته التي على هذا الرّويّ في ديوانه ( 111 )، وجزم شيخ العربية محمود شاكر بأنه منها في تعليقه على تفسير الطبري ( 3 / 409 ).
([3]) انظر: تهذيب اللغة ( 12 / 259 ).
([4]) غريب الحديث ( 1 / 327 ) له.
([5]) انظر: تهذيب اللغة ( 12 / 259 )، والعين ( 7 / 171 )، فكأنّ الأزهري يذهب إلى أنّ العين لليث بن المظفر وليس للخليل، والله أعلم.
([6]) أخرجه ابن جرير ( 18 / 182 )، بسند ضعيف جداً، لكن ثبت عن أنس بن مالك عند ابن جرير ( 18 / 182 )، وعن قتادة عند عبد الرزاق في تفسيره ( 2 / 7 ).
([7]) انظر: الصحاح ( 5 / 1970 )، القاموس المحيط ( صوم ).
([8]) انظر: العين ( 7 / 172 )، والصحاح ( 5 / 1970 ).
([9]) العين ( 7 / 172 ).
([10]) انظر: القاموس المحيط ( صوم )، وقال الزبيدي في تاج العروس (مادة: صوم): هكذا في النسخ، والصّواب: "والصّوم".
([11]) انظر: العين ( 7 / 172 )، القاموس المحيط ( صوم ).
([12]) القاموس ( صوم ).
([13]) انظر: المبسوط ( 3 / 54 )، بدائع الصنائع ( 6 / 248 )، الإنصاف ( 6 / 323 )، حاشية الروض
( 3 / 344 ).
([14]) انظر: البناية شرح الهداية ( 4 / 3 ).
([15]) الذخيرة ( 2 / 485 ).
([16]) الشرح الممتع ( 6 / 310 ).
2- رمضان:
أ- لغة: قال ابن فارس: " الراء والميم والضاد أصلٌ مطرد يدل على حدّةٍ في الشيء من حرٍّ وغيره.
ومنه: سكين رميض – أي حاد -، وكل حاد رميض، وخرج عن الأصل قول القائل: أتيتُ فلاناً فلم أجده، فرمضت عنده ترميضاً: أي انتظرته " ([1]).
قال الليث بن المظفر: " الرمض حرّ الحجارة من شدة حرّ الشمس، والاسم
الرمضاء، ورمض الإنسان رمضاً: إذا مشى على الرمضاء " ([2]).
وقال ابن السكّيت: " الرّمض: مصدر رمض الرجل يرمض رمضاً: احترقت قدماه من شدّة الحرّ، ورمض الفصال: أن تحترق الرمضاء – وهو الرمل – فتبرك الفصال من شدّ حرّها، وإطراقها أخفافها وفراسنها " ([3]).
قال الجوهريُّ: " وأرمضتني الرمضاء: أحرقتني، والترميض: صيد الظبي في
الهاجرة " ([4]).
ب- اشتقاقه:
قال الراغب: " هو من الرّمض، أي: شدة وقع الشمس " ([5]).
وقال السّمين الحلبي: " لموافقة فريضته في الزمان الأول – عند بعضهم – زمن الرمضاء، وهي شدّة الحرّ، وقيل لشدّة احتراق جوف الصائم بالعطش " ([6]).
وقال القاضي أبو يعلى الفرّاء الحنبلي: " قيل: سُمّي رمضان لأنه يرمض الذنوب، أي: يحرقها ويهلكها " ([7]).
روي في معنى ما قاله القاضي حديثان موضوعان ! أحدهما: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شهر رمضان، فقال: ((أرمض الله فيه ذنوب المؤمنين فغفرها لهم )) ([8]).
والآخر: عن أنس رضي الله عنه، وفيه: ((وإنما سمي رمضان لأنه يرمض
الذنوب)) ([9]).(/32)
وقد فصّل القول في اشتقاق " رمضان " شيخ الإسلام ابن تيمية وأتى فيه بما لا يوجد عند غيره([10]).
ج- هل يصحّ إطلاق " رمضان " على شهر الصوم بدون لفظ " شهر " ؟
ذهب القاضي أبو يعلى إلى كراهة إطلاقه من غير قرينة تدلّ على أنّ المراد به الشهر؛ لأن الله يقول: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [ البقرة:185] ([11]).
وإلى ذلك ذهب أكثر الشافعية، فلا بأس عندهم أن يقال: صمنا رمضان – مثلاً – لكن يكره أن يقال: جاء رمضان، أو دخل رمضان ([12]).
ونقل النووي عن أصحاب مالك كراهة إطلاق " رمضان " على الشهر مطلقاً، سواء كانت هناك قرينة أم لا، بل لا يقال إلاّ شهر رمضان ([13])، والذي في كتب المالكية على خلاف ما ذكر ([14]).
ومستند الكراهة حديث لا يثبت، هو: (( لا تقولوا: جاء رمضان، فإن رمضان اسم الله، ولكن قولوا: جاء شهر رمضان )) ([15]).
وقد ثبتت أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما في تسمية " رمضان " من غير ذكر شهر كقوله صلى الله عليه وسلم: (( إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة... )). وكقوله: ((من صام رمضان... )).
ولذا فالصواب أنه لا كراهة في قول " رمضان " مطلقاً، لأنّ الكراهة إنّما تثبت بنهي الشرع، ولم يثبت نهي، وإلى هذا ذهب المحققون من أهل العلم ([16]).
([1]) المقاييس ( 2 / 440 ).
([2]) انظر: تهذيب اللغة ( 12 / 32 ).
([3])انظر: تهذيب اللغة ( 12 / 32 ).
([4]) الصحاح ( 3 / 1081 ).
([5]) المفردات ( رمض: 366 ).
([6]) عمدة الحفاظ ( ر م ض: 2 / 127 ).
([7]) شرح العمدة ( 1 / 35 – الصيام ) لشيخ الإسلام ابن تيمية.
([8]) أخرجه الأصبهاني في الترغيب والترهيب ( 2 / 380 )، وحكم عليه بالوضع العلاّمة المعلّمي في تعليقه على الفوائد المجموعة ( ص: 87 ) للشوكاني.
([9]) أخرجه ابن مردويه كما في الدر المنثور ( 1 / 344 )، ومن طريقه الأصبهاني في الترغيب والترهيب ( 2 / 353 )، وفي إسناده راوٍ كذّاب.
([10]) انظر: شرح العمدة ( 1 / 35 – 36 الصيام ).
([11]) الفروع ( 3 / 4 ) لابن مفلح.
([12]) المجموع ( 6 / 248 ).
([13]) المجموع ( 6 / 248 ).
([14]) انظر: الذخيرة ( 2 / 486 )، المقدّمات والممهّدات ( 1 / 246، 252 ) لابن رشد، منح الجليل ( 1 / 384، 385، وغيرها )، لعليش.
([15]) أخرجه البيهقي في الكبرى ( 4 / 201 )، وابن عدي في الكامل ( 7 / 53 )، وأعلّه أبو حاتم كما في العلل ( 1 / 149 – 150 )، وضعّفه ابن حجر في الفتح ( 4 / 135 )، وحكم عليه ابن الجوزي بالوضع في الموضوعات ( 2 / 545 )، وقال الجورقاني في الأباطيل والمناكير ( 2 / 88 ): " هذا حديث باطل ".
([16]) انظر: شرح العمدة ( 1 / 31 – 34 الصيام )، بدائع الفوائد ( 2 / 104 )، الأذكار (331) للنووي، الإعلام ( 5 / 140، 159 ) لابن الملقن، معجم المناهي اللفظية ( ص: 644 – 645 ) لبكر أبو زيد، وذكر فيه مصادر أخرى.
3- أسماء شهر رمضان:
أ- شهر الصبر:
قال صلى الله عليه وسلم:((صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر تعدل صوم الدهر)) ([1]).
ب- شهر المواساة:
قال صلى الله عليه وسلم: ((وهو شهر المواساة )) ([2]).
ج- سيّد الشهور:
في الحديث: (( سيّد الشهور شهر رمضان،... )) ([3]).
د- شهر الصوم:
قال أبو زيد اللغوي: " أقمت بالبصرة صومين، أي: رمضانين " ([4]).
ومن أسماء الصيام السياحة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {السَّائِحُونَ} [ التوبة:112]: "الصائمون " ([5]).
وكذا قال ابن مسعود ([6])، وابن عباس ([7]) رضي الله عنهم أجمعين ([8]).
* * *
([1]) إسناده صحيح: أخرجه أحمد ( 2 / 263 )، والنسائي في الكبرى ( 2 / 134 )، والبيهقي في الكبرى
( 4 / 293 ) وغيرهم.
([2]) إسناده ضعيف: رواه ابن خزيمة ( 1887 )، والبيهقي في الشعب ( 3 / 306 )، من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه، وانظر: السلسلة الضعيفة ( 871 ).
([3]) إسناده ضعيف: رواه البزار ( 1 / 457 كشف الأستار )، وقال: " يزيد فيه لين، وقد روى عنه جماعة "، وقال الألباني في ضعيف الجامع ( ص: 487 ): " ضعيف ".
([4]) لسان العرب ( 7 / 445 – 446 ).
([5]) أخرجه ابن جرير ( 50384 ) بأسانيد صحيحة.
([6]) أخرجه ابن جرير ( 50384 ) بأسانيد صحيحة.
([7]) أخرجه ابن جرير ( 50384 ) بأسانيد صحيحة.
([8]) وانظر: شرح العمدة ( 1 / 25 الصيام ) لشيخ الإسلام ابن تيمية.
آداب الصوم في رمضان
1. حفظ اللسان، والجوارح عن اللغو والإثم:
والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) ([1]).
قال المهلب: "فيه دليل على أن حكم الصيام الإمساك عن الرفث وقول الزور، كما يمسك عن الطعام والشراب، وإن لم يمسك عن ذلك فقد تنقص صيامه، وتعرض لسخط ربه، وترك قبوله منه". وقال غيره: "وليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه إذا لم يدع قول الزور، وإنما معناه التحذير من قول الزور والعمل به ليتم أجر صيامه"([2]).(/33)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الصيام جُنَّه، فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم...)) الحديث ([3]).
قال النووي: "فيه نهي الصائم عن الرفث وهو السخف وفاحش الكلام، ... واعلم أن نهي الصائم عن الرفث والجهل والمخاصمة والمشاتمة ليس مختصاً به، بل كل أحد مثله في أصل النهي عن ذلك، لكن الصائم آكد"([4]).
وعن عمر رضي الله عنه قال: (ليس الصيام من الطعام والشراب، ولكن من الكذب والباطل واللغو والحلف) ([5]).
وقال جابر رضي الله عنهما: (إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك عن الكذب، والمآثم، ودع أذى الخادم وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم صيامك وفطرك سواء) ([6]).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (إذا صمت فتحفظ ما استطعت) ([7]).
وقال عبيدة السلماني: "اتقوا المفطِّرَين: الغيبة، والكذب"([8]).
قال الغزالي مبيناً أدب الصوم: "فهو كف الجوارح عن الآثام وتمامه بستة أمور:
الأول: غض البصر، وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره، وإلى كل ما يشغل القلب ويلهى عن ذكر الله عز وجل.
الثاني: حفظ اللسان عن الهذيان، والكذب، والغيبة، والنميمة، والفحش، والجفاء، والخصومة، والمراء وإلزامه السكوت، وشغله بذكر الله سبحانه، وتلاوة القرآن، فهذا صوم اللسان.
الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه، لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه.
الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام: من اليد، والرجل، وعن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار ([9])، فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال ثم الإفطار على الحرام، فمثال هذا الصائم مثال من يبني قصراً ويهدم مصراً.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش))، فقيل: هو الذي يفطر على الحرام، وقيل: هو الذي يمسك عن الطعام الحلال ويفطر على لحوم الناس بالغيبة وهو حرام، وقيل: هو الذي لا يحفظ جوارحه عن الآثام.
الخامس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه، وكيف يستفاد من الصوم قهرُ عدوا الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره ؟! وربما يزيد عليه في ألوان الطعام، حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر. ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء وكسر الهوى، لتقوى النفس على التقوى.
سادساً: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً مضطرباً بين الخوف والرجاء، إذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين، أو يرد عليه فهو من الممقوتين؟ وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها"([10]).
وقال ابن الجوزي: "وللصوم آداب يجمعها: حفظ الجوارح الظاهرة، وحراسة الخواطر الباطنة، فينبغي أن يتلقى رمضان بتوبة صادقة، وعزيمة موافقة، وينبغي تقديم النية وهي لازمة في كل ليلة، ولا بد من ملازمة الصمت عن الكلام الفاحش والغيبة فإنه ما صام من ظل يأكل لحوم الناس، وكف البصر عن النظر إلى الحرام، ويلزم الحذر من تكرار النظر إلى الحلال"([11]).
وقال ابن القيم: "والصائم هو الذي صامت جوارحه عن الآثام ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الرفث ؛ فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه كله نافعاً صالحاً، وكذلك أعماله، فهي بمنزلة الرائحة التي يشمها من جالس حامل المسك، كذلك من جالس الصائم انتفع بمجالسته، وأَمِن فيها من الزور والكذب والفجور والظلم، هذا هو الصوم المشروع لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب ... فالصوم هو صوم الجوارح عن الآثام، وصوم البطن عن الشراب والطعام، فكما أن الطعام والشراب يقطعه ويفسده فهكذا الآثام تقطع ثوابه، وتفسد ثمرته، فتصيره بمنزلة من لم يصم"([12]).
([1]) أخرجه البخاري في الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم (1903)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([2]) شرح ابن بطال على البخاري (4/23) بتصرف يسير.
([3]) أخرجه البخاري في الصيام، باب: فضل الصوم (1894)، ومسلم في الصيام، باب حفظ اللسان للصائم (1151).
([4]) شرح مسلم (8/28، 29).
([5]) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/272) باب: ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب.
([6]) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/271)، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام .
([7]) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/271)، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام.
([8]) أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (ص125-126) رقم (179) بسندٍ لا بأس به.
([9]) قال الزبيدي: "أي عن تناول طعام فيه شبهة"، إتحاف السادة المتقين (4/412).
([10]) إحياء علوم الدين (1/110) وما بعدها، بتصرف.
([11]) التبصرة (2/80).
([12]) الوابل الصيب (ص43).
2 ـ الإكثار من العبادة:(/34)
كان من هدية صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات فكان جبريل عليه الصلاة والسلام يدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، يكثر فيه من الصدقة والإحسان، وتلاوة القرآن، والصلاة، والذكر، والاعتكاف.
وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره من الشهور، حتى إنه كان ليواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة، وكان ينهى أصحابه عن الوصال([1]).
قال ابن رجب: "وكان جوده صلى الله عليه وسلم يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه يتضاعف فيه أيضاً، فإن الله جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة، وكان على ذلك قبل البعثة"([2]).
وقال أيضاً: "وفي تضاعف جوده صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة منها: شرف الزمان، ومضاعفة أجر العمل فيه.
ومنها: إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعاتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم، كما أن من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلفه في أهله فقد غزا.
ومنها: أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، لا سيما في ليلة القدر"([3]).
وقال القسطلاني: "ولما كان شهر رمضان موسم الخيرات ومنبع الجود والبركات ؛ لأن نعم الله فيه تزيد على غيره من الشهور، وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر فيه من العبادات وأنواع القربات الجامعة لوجوه السعادات، من الصدقة والإحسان، والصلاة، والذكر، والاعتكاف، ويخص به من العبادات ما لا يخص به غيره من الشهور، كما أن جود ربه تعالى يتضاعف فيه أيضاً، فإن الله تعالى جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة"([4]).
وإليك بعض العبادات التي لها مزيّة في رمضان:
· الجود، ومدارسة القرآن:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة) ([5]).
قال النووي: "وفي هذا الحديث فوائد منها:
بيان عظم جوده عليه الصلاة والسلام، ومنها: استحباب إكثار الجود في رمضان.
ومنها: زيادة الخير عند ملاقاة الصالحين وعقب فراقهم للتأثر بلقائهم، ومنها: استحباب مدارسة القرآن"([6]).
· القيام:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) ([7]).
قال أبو الوليد الباجي: "... ثم بين الترغيب بقوله: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له، ما تقدم من ذنبه))، وهذا من أعظم الترغيب وأولى ما يجب أن يسارع إليه إذا كان فيه تكفير السيئات التي تقدمت له"([8]).
وقال النووي: "معنى ((إيماناً)) تصديقاً بأنه حق مقتصد فضيلته، ومعنى ((احتساباً)) أن يراد الله تعالى وحده ولا يقصد رؤية الناس، ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص، والمراد بقيام رمضان صلاة التراويح، واتفق العلماء على استحبابها"([9]).
· العمرة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار: ((ما منعك أن تحج معنا)) قالت: لم يكن لنا إلا ناضحان فحج أبو ولدها وابنها على ناضح وترك لنا ناضحاً ننضح عليه، قال: ((فإذا جاء رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة))([10]).
قال النووي: "أي: تقوم مقامها في الثواب، لا أنها تعدلها في كل شيء"([11]).
([1]) زاد المعاد (2/32).
([2]) لطائف المعارف (ص308، 309).
([3]) لطائف المعارف (ص311) بتصرف يسير.
([4]) المواهب اللدنية (4/327).
([5]) أخرجه البخاري في: بدئ الخلق، باب: ذكر الملائكة (3220) واللفظ له، ومسلم في الفضائل، باب: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس (2308).
([6]) شرح مسلم (15/69).
([7]) أخرجه البخاري في الإيمان، باب: تطوع قيام رمضان من الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: الترغيب في قيام رمضان (759).
([8]) المنتقى (1/206).
([9]) شرح مسلم (6/39).
([10]) أخرجه البخاري في الحج، باب عمرة في رمضان (1782)، ومسلم في الحج، باب: فضل العمرة في رمضان (1256) واللفظ له.
([11]) شرح مسلم (9/2).
شروط الفطر بالمفطرات
أولاً: الذكر وعدم النسيان:
أ- تعريف النسيان:
هو الغفلة عن معلوم في غير حالة السَّنة، فلا ينافي الوجوب، أي نفس الوجوب، ولا وجوب الأداء([1]).
وقيل: هو عدم استحضار الشيء وقت حاجته([2]).
ب ـ الأدلة:
1. قال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286].
قال ابن جرير: "قيل إن النسيان على وجهين:
أحدهما: على وجه التضييع من العبد والتفريط، والآخر: على وجه عجز الناسي على حفظ ما استحفظ ووكِّل به، وضعف عقله عن احتماله.(/35)
فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه، والتفريط، فهو تركٌ منه لما أمر بفعله، فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عز وجل في تركه مؤاخذته به.
وأما الذي العبد به غير مؤاخذ، لعجز بنيته عن حفظه، وقلة احتمال عقله ما وكِّل بمراعاته، فإن ذلك من العبد غير معصية، وهو به غير آثم"([3]).
وقال أبو بكر الجصاص: "النسيان الذي هو ضد الذكر، فإن حكمه مرفوع فيما بين العبد وبين الله تعالى في استحقاق العقاب، والتكليف في مثله ساقط عنه، والمؤاخذة به في الآخرة غير جائزة"([4]).
وقال القرطبي: "المعنى: أعف عن إثم ما يقع منّا على هذين الوجهين أو أحدهما"([5]).
2. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) ([6]).
قال المهلب: "معنى قوله: ((فإن الله أطعمه وسقاه))، إثبات عذر الناسي، وعلة لسقوط الكفارة عنه، وأن النسيان لا يرفع نية الصوم التي بيّتها، فأَمَره عليه السلام بإتمام العمل على النية، وأسقط عنه الكفارة ؛ لأنه ليس كالمنتهك العامد"([7]).
وقال ابن تيمية: "أمره بإتمام الصوم تخصيصاً له بهذا الحكم بقوله: ((من أكل أو شرب ناسياً)) فعلم أن هذا إتمام لصوم صحيح" ([8]).
ويقول أيضاً: "فأضاف إطعامه وإسقاءه إلى الله؛ لأنه لم يتعمد ذلك ولم يقصده، وما يكون مضافاً إلى الله لا يُنْهى عنه العبد، فإنما يُنْهى عن فعله، والأفعال التي ليست اختيارية لا تدخل تحت التكليف، ففعل الناسي كفعل النائم والمجنون والصغير؛ ونحو ذلك"([9]).
وقال ابن حجر: "وفي الحديث لطف الله بعباده والتيسير عليهم ورفع المشقة عليهم والحرج عنهم"([10]).
وقال الشيخ ابن عثيمين: "فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإتمامه دليلٌ على صحته، ونِسْبةُ إطعام الناسي وسقيه إلى الله ؛ دليل على عدم المؤاخذة عليه"([11]).
حكم من أكل أو شرب ناسياً:
اختلف العلماء في هذه المسألة إلى قولين:
القول الأول: صومه صحيح، ولا قضاء عليه، وبه قال الجمهور، وأهل الظاهر([12])، وهو قول علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وابن عمر وعطاء وطاووس، وابن أبي ذئب، والأوزاعي والثوري، وإسحاق، ومجاهد وقتادة، والحسن([13]).
القول الثاني: صومه غير صحيح، وعليه القضاء، وبه قال الإمام مالك([14]).
والراجح: قول الجمهور.
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه))([15]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسياً أو مخطئاً فلا قضاء عليه وهو قول طائفة من السلف والخلف"([16]).
حكم من جامع ناسياً:
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ليس عليه قضاء ولا كفارة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وأهل الظاهر ورواية عن أحمد، وهو قول الحسن، ومجاهد، والثوري([17]).
القول الثاني: عليه القضاء والكفارة، وهو المشهور عن الإمام أحمد، ورواية عن مالك([18]).
القول الثالث: عليه القضاء دون الكفارة، وهو المشهور عن الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد([19]).
والراجح: قول الجمهور أنه ليس عليه قضاءٌ ولا كفارة.
لحديث أبي هريرة المتقدم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والأول أظهر (أي لا قضاء عليه ولا كفارة) فإنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة أن من فعل محظوراً أو ناسياً لم يؤاخذه الله بذلك، وحينئذ يكون بمنزلة من لم يفعله، فلا يكون عليه إثم، ومن لا إثم عليه لم يكن عاصياً، ولا مرتكباً لما نهي عنه، وحينئذٍ فيكون قد فعل ما أمر به، ولم يفعل ما نهى عنه، ومثل هذا لا يعطل عبادته، إنما يبطل العبادات إذا لم يفعل ما أمر به أو فعل ما حظر عليه"([20]).
([1]) التعريفات للجرجاني مادة "النسيان" (ص309).
([2]) البحر الرائق لابن نجيم (2/473).
([3]) جامع البيان (6/133) بتصرف يسير.
([4]) أحكام القرآن (2/278).
([5]) الجامع لأحكام القرآن (3/392).
([6]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً رقم (1933)، ومسلم في كتاب الصيام باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر رقم (1155)، واللفظ له.
([7]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/61).
([8]) كتاب الصيام من شرح العمدة (1/457).
([9]) مجموع الفتاوى (20/571).
([10]) فتح الباري (4/186).
([11]) مجالس شهر رمضان (ص172).
([12]) انظر: البحر الرائق (2/472)، والحاوي (3/284)، والمغني (4/367)، والمحلى (6/327) .
([13]) انظر: المحلى (6/329)، والمقنع والشرح الكبير والإنصاف (7/423-424).
([14]) انظر: التفريع (1/305)، البيان والتحصيل (2/351).
([15]) تقدم تخريجه.
([16]) مجموع الفتاوى (25/228).
([17]) انظر: البحر الرائق (2/472)، والحاوي (3/284)، والإنصاف (3/311)، والمحلى (6/327).
([18]) انظر: المغني (4/374)، والتفريع (1/305).(/36)
([19]) انظر: التفريع (1/305)، والقوانين الفقهية لابن الجزي (ص121)، والمقنع والشرح الكبير والإنصاف (7/443).
([20]) مجموع الفتاوى (25/226، 228)، وانظر: (20/573)، والشرح الممتع (6/416).
ثانياً: العلم وعدم الجهل:
أ - تعريف الجهل:
هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه([1]).
ب -الأدلة:
1. قال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286].
قال ابن جرير: "وكذلك للخطأ وجهان:
أحدهما: من وجه ما نهى عنه العبد فيأتيه بقصد منه وإرادة، فذلك خطأ منه، وهو به مأخوذ، وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من إثم عنه.
والآخر منهما: ما كان منه على وجه الجهل به، والظن منه بأن له فعله، كالذي يأكل في شهر رمضان ليلاً وهو يحسب أن الفجر لم يطلع، أو يؤخِّر صلاةً في يوم غيمٍ وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها، فيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لم يدخل . فإن ذلك من الخطأ الموضوع عن العبد، الذي وضع الله عز وجل عن عباده الإثم فيه، فلا وجه لمسألة العبد ربَّه أن لا يؤاخذه به"([2]).
وقال ابن كثير: "أي إنْ تركنا فرضاً على جهة النسيان أو فعلنا حراماً، كذلك أو أخطأنا، أي الصواب في العمل جهلاً منا بوجهه الشرعي"([3]).
فدل على أن الخطأ يطلق وقد يراد به الجهل.
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) ([4]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولأن الجهل أشد عذراً من النسيان، فإن الناسي قد كان عَلِمَ ثم ذكر، والجاهل لم يعلم أصلاً ؛ فإذا كان النسيان عذراً في منع الإفطار، فالجهل أولى.
ولأن الصوم من باب الترك، ومن فعل ما نهي عنه جاهلاً بالنهي عنه؛ لم يستحق العقوبة، فيكون وجود الفعل منه كعدمه ؛ فلا يفطر، كالناسي"([5]).
وقال أيضاً: "فإن الإنسان إذا فعل ما نُهي عنه ناسياً أو مخطئاً ؛ كان وجود ذلك الفعل كعدمه في حق الله تعالى"([6]).
وقال الشاطبي: "عمدة مذاهب الصحابة اعتبار الجهل في العبادات اعتبار النسيان على الجملة، فعدُّوا من خالف في الأفعال أو الأقوال جهلاً على حكم الناسي"([7]).
ج- أقسام الجهل:
قال الشيخ ابن عثيمين: "وضد العلم الجهل، والجهل ينقسم إلى قسمين:
1. جهل بالحكم الشرعي: أي لا يدري أن هذا حرام.
2. جهل بالحال: أي لا يدري أنه في حالٍ يحرم عليه الأكل والشراب، وكلاهما عذر"([8]).
فمثال الأول: عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: لما نزلت {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ} [البقرة:187] عمدت إلى عقالٍ أسود وإلى عقالٍ أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: ((إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار))([9]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لأن عدي بن حاتم ورجلاً من المسلمين كانوا يأكلون حتى يتبين لهم العقال الأبيض من العقال الأسود؛ معتقدين أن ذلك معنى قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ} [البقرة:187]، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء ؛ لكونهم غير عالمين بأن الأكل في هذا الوقت مفطر"([10]).
قال الشيخ ابن عثيمين: "فهذا أخطأ في الحكم في فهم الآية، فالحكم أن الخيط الأبيض بياض النهار والأسود سواد الليل، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبره، قال له: ((إن وسادك لعريض إن وسع الخيط الأبيض والأسود))، ولم يأمره بالقضاء؛ لأنه جاهل لم يقصد مخالفة الله ورسوله، بل رأى أن هذا حكم الله ورسوله، فعذر"([11]).
ومثال الآخر:
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غيم، ثم طلعت الشمس، قيل لهشام: فأمروا بالقضاء ؟ قال: بُدٌّ من قضاءٍ، وقال معمر: سمعت هشاماً يقول: لا أدري أقضوا أم لا)([12]).
قال ابن حجر: " قال ابن المنير في الحاشية: في هذا الحديث أن المكلفين إنما خوطبوا بالظاهر، فإذا اجتهدوا فأخطئوا فلا حرج عليهم في ذلك"([13]).
د - الجهل بالوقت:
وله صورتان:
الصورة الأولى: إن أكل يظن أن الفجر لم يطلع، وقد كان طلع، أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت، ولم تغب، وهذه الصورة فيها قولان لأهل العلم:
القول الأول: عليه قضاء ذلك اليوم، وبه قال الجمهور([14]).
القول الثاني: لا قضاء عليه، وحُكي عن عروة، ومجاهد، والحسن، وإسحاق، وعطاء، وداود بن علي([15]).
والراجح: أنه لا قضاء عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن قيل: فالمخطئ بفطر، مثل من يأكل يظن بقاء الليل، ثم تبين أنه طلع الفجر، أو يأكل يظن غروب الشمس، ثم تبين له أن الشمس لم تغرب.(/37)
قيل: هذا فيه نزاع بين السلف والخلف، والذين فرقوا بين الناسي والمخطئ قالوا: هذا ممكن الاحتراز منه بخلاف النسيان، وقاسوا ذلك على ما إذا أفطر يوم الشك ثم تبين أنه من رمضان، ونقل عن بعض السلف أنه يقضي في مسألة الغروب دون الطلوع ؛ كما لو استمر الشك، والذين قالوا: لا يفطر في الجميع قالوا: حجتنا أقوى، ودلالة الكتاب والسنة على قولنا أظهر؛ فإن الله قال: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، فجمع بين النسيان والخطأ ؛ ولأن من فعل المحظورات في الحج والصلاة مخطئاً كمن فعلها ناسياً، وقد ثبت في الصحيح([16]) أنهم أفطروا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس، ولم يذكروا في الحديث أنهم أمروا بالقضاء، ولكن هشام بن عروة قال: لا بد من القضاء، وأبوه أعلم منه، وكان يقول: لا قضاء عليهم.
وثبت في الصحيحين([17]) أن طائفة من الصحابة كانوا يأكلون حتى يظهر لأحدهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأحدهم: ((إن وسادك لعريض، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل)) ولم ينقل أنه أمرهم بقضاء، وهؤلاء جهلوا الحكم فكانوا مخطئين، وثبت عن عمر بن الخطاب أنه أفطر، ثم تبين النهار، فقال: (لا نقضي، فإنا لم نتجانف الإثم) ([18])، وروي عنه أنه قال: (نقضي)([19]) ؛ ولكن إسناد الأول أثبت، وصح عنه أنه قال: (الخطب يسير)([20]).
فتأول ذلك من تأوله على أنه أراد خفة أمر القضاء، لكن اللفظ لا يدل على ذلك. وفي الجملة فهذا القول أقوى أثراً ونظراً، وأشبه بدلالة الكتاب والسنة والقياس"([21]).
قال ابن القيم: "فلو قدّر تعارض الآثار عن عمر لكان القياس يقتضي سقوط القضاء؛ لأن الجهل ببقاء اليوم كنسيان نفس الصوم، ولو أكل ناسياً لصومه لم يجب عليه قضاؤه، والشريعة لم تفرق بين الجاهل والناسي، فإن كل واحد منهما قد فعل ما يعتقد جوازه، وأخطأ في فعله، وقد استويا في أكثر الأحكام، وفي رفع الآثام، فما الموجب للفرق بينهما في هذا الموضع؟ وقد جعل أصحاب الشافعي وغيرهم الجاهل والمخطئ أولى بالعذر من الناسي في مواضع متعددة"([22]).
الصورة الثانية: إن أكل شاكًّا في طلوع الفجر، ولم يتبين الأمر، أو أكل شاكًّا في غروب الشمس، ولم يتبين.
فهاهنا صورتان:
أ- لو أكل شاكًّا في طلوع الفجر ولم يتبين، ففي المسألة قولان:
القول الأول: ليس عليه قضاء، وهو قول الجمهور([23]).
القول الثاني: يجب عليه القضاء، وهو قول الإمام مالك([24]).
والراجح: قول الجمهور.
قال ابن قدامة: "قول الله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [الفجر:187]، مدّ الأكل إلى غاية التبين، وقد يكون شاكًّا قبل التبُّين، فلو لزمه القضاء لحرّم عليه الأكل .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فكلوا، واشربوا، حتى يؤذِّن ابن أم مكتوم))([25]) وكان رجلاً أعمى، لا يؤذِّن حتى يقال له: أصحيت، أصبحت، ولأن الأصل بقاء الليل، فيكون زمان الشك منه ما لم يُعلم يقين زواله"([26]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإن شك: هل طلع الفجر؟ أو لم يطلع؟ فله أن يأكل ويشرب، حتى يتبين الطلوع، ولو علم بعد ذلك أنه أكل بعد طلوع الفجر، ففي وجوب القضاء نزاع.
والأظهر أنه لا قضاء عليه، وهو الثابت عن عمر، وقال به طائفة من السلف والخلف"([27]).
ب- أما إذا أكل شاكَّا في غروب الشمس، ولم يتبين.
فالجمهور على أن عليه القضاء؛ لأن الأصل بقاء النهار([28]).
قال المرداوي: "قوله: وإن أكل شاكاً في غروب الشمس فعليه القضاء، يعني إذا دام شكه، وهذا إجماع([29]).
([1]) التعريفات للجرجاني مادة "الجهل" (ص108).
([2]) جامع البيان (6/134-135).
([3]) تفسير ابن كثير (1/350).
([4]) تقدم تخريجه.
([5]) كتاب الصيام من شرح العمدة (1/464).
([6]) المرجع السابق (1/461).
([7]) الموافقات (3/50).
([8]) الشرح الممتع (6/401).
([9]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب (وكلوا وأشربوا حتى يتبين ...) رقم (1916)، ومسلم في كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر ...، رقم (1090).
([10]) كتاب الصيام من شرح العمدة (1/464).
([11]) الشرح الممتع (6/402).
([12]) أخرجه البخاري في كتاب الصيام، باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس رقم (1959).
([13]) فتح الباري (4/236).
([14]) انظر: البحر الرائق (2/508)، والتلقين (ص187)، الحاوي الكبير (3/266)، المغني (4/389).
([15]) المغني (4/389)، وانظر: الحاوي الكبير (3/266)، والمحلى (6/342).
([16]) تقدم تخريجه.
([17]) تقدم تخريجه.
([18]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4/179) رقم (7395)، وابن أبي شيبة (2/287)، والبيهقي في الكبرى (4/217).
([19]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4/178) رقم (7394)، وابن أبي شيبة (2/286)، والبيهقي في الكبرى (4/217).(/38)
([20]) أخرجه مالك في الموطأ (1/251) في كتاب الصيام، باب ما جاء في قضاء رمضان والكفارات، وعبد الرزاق في المصنف (4/178) رقم (7392)، والبيهقي في الكبرى (4/217).
([21]) مجموع الفتاوى (20/571-573).
([22]) تهذيب السنن (3/237-238)، وانظر: الشرح الممتع (6/410).
([23]) انظر: البحر الرائق (2/509)، والمجموع (6/306)، المقنع والشرح الكبير والإنصاف (7/438).
([24]) انظر: البيان والتحصيل (2/351)، والقوانين الفقهية لابن جزى (ص118).
([25]) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره رقم (617)، ومسلم في كتاب الصيام باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر ... رقم (1092).
([26]) المغني (4/391).
([27]) مجموع الفتاوى (25/216-217).
([28]) انظر: البحر الرائق (2/510)، والبيان والتحصيل (2/351)، والقوانين الفقهية لابن جزي، والحاوي (3/276)، والمقنع والشرح الكبير والإنصاف (7/438).
([29]) الإنصاف (3/310)، وانظر الشرح الممتع (6/409).
ثالثاً: الاختيار وعدم الإكراه:
أ - تعريف الإكراه:
هو حمل الغير على ما يكرهه بالوعيد، والإلزام والإجبار على ما يكره الإنسان، طبعاً وشرعاً، فيقدّم على عدم الرضا، ليرفع ما هو أضر([1]).
ب - الدليل:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه))([2]).
قال أبو جعفر الطحاوي: "فذهب قومٌ إلى أن الرجل إذا أكره على طلاق، أو نكاح، أو يمين، أو إعتاق، أو ما أشبه ذلك حتى فعله مكرهاً، أن ذلك كله باطل؛ لأنه قد دخل فيما تجاوز الله فيه للنبي صلى الله عليه وسلم عن أمته، احتجوا في ذلك بهذا الحديث"([3]).
ج - صور الإكراه والخلاف فيها:
1. حكم المكره على الأكل والشرب:
في المسألة قولان:
القول الأول: لا قضاء عليه، وهو قول الشافعية والحنابلة والظاهرية([4]).
القول الثاني: عليه القضاء، وهو قول الحنفية والمالكية([5]).
الراجح: أنه لا قضاء عليه.
لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه))([6]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أن من فعلها مكرهاً لم يفسد صومه أيضاً، وهو نوعان:
أحدهما: أن لا يكون له فعل في الأكل والشراب ونحوهما، مثل أن يُفْتح فوه ويوضع الطعام والشراب فيه، أو يُلْقى في ماء فيدخل إلى أنفه وفمه، أو يُرش عليه ماء فيدخل مسامعه، أو يُحجم كرهاً، أو يداوي مأمومة أو جائفة بغير اختياره، أو يخرج جرحاً نافذاً إلى جوفه بغير اختياره، ونحو ذلك، فهذا لا يفطر في المنصوص عنه الذي عليه أصحابه"([7]).
2. حكم الصائمة إذا أكرهها زوجها على الجماع:
في المسألة قولان:
القول الأول: عليها القضاء، ولا كفارة عليها، وهو قول الجمهور، وعند مالك فعليه كفارتان، عنه، وعنها([8]).
القول الثاني: لا قضاء عليها وصومها صحيح، وهو قول الشافعية، والظاهرية وبه قال الثوري([9]).
3. حكم الصائم إذا أكره على الجماع:
في المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا كفارة عليه وهو قول الحنفية والمالكية([10]).
القول الثاني: عليه القضاء، وفي الكفارة روايتان، أحدهما: عليه الكفارة، والأخرى: لا كفارة عليه وهو قول الحنابلة([11]).
القول الثالث: لا قضاء عليه ولا كفارة، وصومه صحيح، وهو قول الشافعية والظاهرية([12]).
قال أبو محمد بن حزم: "وأما من أكره على الفطر، أو وُطئت امرأة نائمة، أو مكرهة أو مجنونة أو مغمى عليها، أو صب في حلقه ماء وهو نائم، فصوم النائم، والنائمة والمكره، والمكرهة، تام صحيح لا داخلة فيه، ولا شيء عليهم، ولا شيء على المجنونة والمغمى عليها، ولا على المجنون والمغمى عليه ؛ لما ذكرنا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه))([13])". ([14])
وقال الشوكاني: "أما من أُكره على الإفطار، ولم يقدر على الدفع، ولا بقي له فعل فلا وجه للحكم عليه بأنه قد أفطر، بل صومه باق ولا قضاء عليه، وهذا المكره إلى هذا الحد أولى بأن يقال فيه: لا يفطر من الناسي، وأما إذا بقي له قدرة على الدفع حتى لا يفطر فذلك واجب عليه؛ لأن إكراهه على الإفطار منكر يجب إنكاره"([15]).
([1]) التعريفات للجرجاني مادة الإكراه (ص50) وانظر معجم لغة الفقهاء مادة الإكراه (85).
([2]) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي رقم (2045)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/95)، وابن حبان (الإحسان 16/202) رقم (7219)، والدارقطني (4/170-171)، والحاكم في المستدرك (2/216) رقم (2801)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والحديث صححه النووي في المجموع (6/309)، والعلامة الألباني في الإرواء رقم (82)، ولمزيد البحث راجع طرقه: في جامع العلوم والحكم، الحديث رقم (39)، وفي تلخيص الحبير. (1/301-302).(/39)
([3]) شرح معاني الآثار (3/95).
([4]) المجموع (6/353)، والكافي (2/244)، والمغني (4/365)، والمحلى (6/334).
([5]) بدائع الصنائع (2/91)، والبحر الرائق (2/474-475)، والبناية (4/37)، والذخيرة (2/514).
([6]) تقدم تخريجه.
([7]) كتاب الصيام من شرح العمدة (1/462).
([8]) انظر: البحر الرائق (2/483)، والتفريع (1/306)، الكافي (2/48)، المغني (4/376). شرح الزركشي على متن الخرقي (2/31)، وحاشية الروض المربع (3/413).
([9]) انظر: المجموع (6/353)، والبجيرمي على الخطيب (2/381)، المحلى (6/34-35).
([10]) البحر الرائق (2/482)، الذخيرة (2/515).
([11]) الكافي (2/248)، المقنع والشرح الكبير والإنصاف (7/451).
([12]) المجموع (6/351)، ومغني المحتاج (2/178)، والمحلى (6/334).
([13]) تقدم تخريجه.
([14]) المحلى (6/334).
([15]) السيل الجرار (2/124).
شروط وجوب الصوم
1 ـ الإسلام:
قال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54].
قال ابن جرير الطبري: "يقول تعالى ذكره: وما منع هؤلاء المنافقين، يا محمد، أن تقبل منهم نفقاتهم التي ينفقونها في سفرهم معك، وفي غير ذلك من السبل، إلا أنهم كفروا بالله ورسوله"([1]).
وقال القرطبي: "وما منعهم من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا كفرهم"([2]).
وقال ابن كثير: "لأنهم كفروا بالله وبرسوله، أي والأعمال إنما تصح بالإيمان"([3]).
وقال السعدي: "والأعمال كلها، شرط قبولها، الإيمان، فهؤلاء، لا إيمان لهم، ولا عمل صالح"([4]).
وهذا الشرط باتفاق الأئمة رحمهم الله([5]).
([1]) جامع البيان (14/294).
([2]) الجامع لأحكام القرآن (4/92).
([3]) تفسير ابن كثير (2/565).
([4]) تفسير الكريم الرحمن (3/248).
([5]) انظر: المبسوط (3/54)، الذخيرة (2/494)، المجموع (6/254)، الإنصاف (3/280).
2- البلوغ:
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ)) وفي رواية: ((وعن المجنون))، وفي لفظ: ((المعتوه، حتى يفيق أو يعقل، وعن الصبي حتى يكبر))، وفي رواية: ((حتى يحتلم))، وفي لفظ: ((حتى يعقل))، وآخر: ((حتى يبلغ))([1]).
قال النووي: "فلا يجب صوم رمضان على الصبي، ولا يجب عليه قضاء ما فات قبل البلوغ بلا خلاف"([2]).
قال السبكي في قوله صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاثة)): "هو كناية عن عدم التكليف"([3]).
وقال السندي: "قوله: ((رفع القلم)) كناية عن عدم كتابة الآثام عليهم في هذه الأحوال"([4]).
([1]) صحيح أخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً رقم (4398) واللفظ له، وابن ماجه في كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم رقم (2041)، والنسائي في كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج رقم (3432). والدارمي في كتاب الحدود، باب رفع القلم عن ثلاث رقم (2296)، وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان رقم (42)و(43)، والحاكم في المستدرك في كتاب البيوع (2/68) رقم (2350). وقال: "هذا حديث صحيح". ووافقه الذهبي، والحديث صححه النووي في المجموع (6/253) والألباني في الإرواء رقم (297).
([2]) المجموع (6/253)، وانظر: الذخيرة (2/494)، كشَّاف القناع (2/308).
([3]) انظر: عون المعبود (12/72).
([4]) حاشية السندي (5/468).
3. العقل:
قال ابن قدامة([1]): "والمجنون غير مكلّف، ولا يلزمه قضاء ما ترك في حال جنونه، إلا أن يُفيق في وقت الصلاة، فيصير كالصبي يبلغ، ولا نعلم في ذلك خلافاً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستقيظ، وعن الصبي حتى يَشِبَّ، وعن المعتوه حتى يعقل))([2]).
وقال الشيرازي: "ومن زال عقله بجنون لم يجب عليه الصوم، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وعن المجنون حتى يفيق))([3]).
وقال النووي: "المجنون لا يلزمه الصوم في الحال بالإجماع، للحديث وللإجماع"([4]).
وقال السامري: "ولا يجب على المجنون، ولا على الأبله، اللَّذيْنِ لا يفيقان"([5]).
([1]) المغتي (2/50).
([2]) تقدم تخريجه والكلام عليه في شرط الإسلام.
([3]) المهذب (2/587).
([4]) المجموع (6/255)، وانظر: مجمع الأنهر (1/253).
([5]) المستوعِب (3/382)، وانظر: بلغة السالك (1/239).
4. القدرة على الصوم:
قال تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184].(/40)
قال ابن جرير الطبري: "يعني بقوله جل ثناؤه: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} من كان منكم مريضاً، ممن كلِّف صومه، أو كان صحيحاً غير مريض وكان على سفر {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} يقول: فعليه صوم عدة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره، {مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} يعني من أيام غير أيام مرضه أو سفره"([1]).
قال ابن العربي: "للمريض ثلاثة أحوال:
أحدها: ألا يُطيق الصوم بحالٍ، فعليه الفطر واجباً.
الثاني: أنّه يقدر على الصوم بضررٍ ومشقةٍ؛ فهذا يستحب له الفطر، ولا يصوم إلا جاهل.
الثالث: قال محمد بن إسماعيل البخاري: "اعتللت بنيسابور عِلةً خفيفة ً، وذلك في شهر رمضان، فعادني إسحاق بن راهويه في نفرٍ من أصحابه، فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله ! فقلت: نعم، فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة، قلت: أنبأنا عَبْدان، عن ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: من أيِّ المرض أُفطر؟ قال: من أي مرض كان، كما قال الله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا}"([2]).
وقال الكيا الهراسي: "يقتضي جواز الإفطار على اسم المرض والسفر، إلا أن المريض الذي لا يضره الصوم مخصوصٌ إجماعاً، ولا يعرف له مأخذ أقوى من الإجماع، وأطلق السفر، ولم يذكر له حداً، والمسافة القريبة لا تسمى سفراً في العرف"([3]).
وقال ابن قدامة: "أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة، و الأصل فيه قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]. والمرض المبيح للفطر هو الشديد الذي يزيد بالصوم أو تُخشى تباطؤ برئه، قيل لأحمد: متى يفطر المريض؟ قال: إذا لم يستطع، قيل: مثل الحمى؟ قال: وأي مرضٍ أشد من الحمى"([4]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالمريض له أن يؤخر الصوم باتفاق المسلمين، وليس له أن يؤخر الصلاة باتفاق المسلمين، والمسافر له أن يؤخر الصيام باتفاق المسلمين، وليس له أن يؤخر الصلاة باتفاق المسلمين"([5]).
وقال ابن كثير: "أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر لما في ذلك من المشقة عليهما، بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أُخر"([6]).
([1]) جامع البيان (3/418).
([2]) أحكام القرآن لابن العربي (1/77).
([3]) أحكام القرآن للكيا الهراسي (1/62).
([4]) المغتي (4/403)، وانظر: بدائع الصنائع (2/94)، البناية في شرح الهداية (4/76)،الذخيرة (2/516) التذكرة لابن الملقن (ص78).
([5]) مجموع الفتاوى (22/31).
([6]) تفسير ابن كثير (1/203).
5. أن يكون مقيماً:
قال تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}([1]) [البقرة:184].
وقد اختلف العلماء في صوم رمضان في السفر:
فذهب جماهير العلماء إلى جواز الصوم في السفر وينعقد ويجزئه.
1- قال الكاساني: "ولأن جواز الصوم للمسافر في رمضان مجمع عليه"([2]).
2- وقال ابن القاسم: "قال مالك: الصيام في رمضان في السفر أحب إليَّ لمن قوى عليه"([3]).
3- وقال النووي: "ومذهبنا جوازهما (أي جواز الصوم والفطر في السفر)، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم"([4]).
4- وقال ابن قدامة: "وجواز الفطر للمسافر ثابت بالنص والإجماع؛ وأكثر أهل العلم على أنه إن صام أجزاه"([5]).
وخالف أهل الظاهر فقالوا: لا يصح صوم رمضان في السفر، فإن صامه لم ينعقد، ويجب قضاؤه.
قال أبو محمد بن حزم: "ومن سافر في رمضان فَفَرْضٌ عليه الفطر إذا تجاوز ميلاً أو بلغه أو إزاءه، وقد بطل صومه حينئذ لا قبل ذلك، ويقضي بعد ذلك في أيامٍ أُخر"([6]).
والراجح: ما عليه جماهير العلماء، أنه يجوز الصوم في السفر، لمن قدر عليه، والفطر لمن لحقه ضررٌ ومشقة.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نغزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنَّا الصائم ومنَّا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوةً فصام، فإنَّ ذلك حسنٌ. ويرون أن من وجد ضعفاً فأفطر، فإن ذلك حسنٌ)([7]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لا تَعِبْ على من صام، ولا على من أفطر، قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، وأفطر)([8]).
قال النووي: "فيه دلالة لمذهب الجمهور في جواز الصوم والفطر جميعاً"([9]).
وقول جماهير العلماء، فيه إعمال لجميع الأحاديث، وهذا أولى من الأخذ ببعضها وترك الآخر.
قال النووي: "وأمّا الأحاديث التي احتج بها المخالفون فمحمولة على من يتضرر بالصوم، وفي بعضها التصريح بذلك، ولا بد من هذا التأويل للجمع بين الأحاديث"([10]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن هذا الباب الصوم والفطر للمسافر في رمضان، فإنّ الأئمة الأربعة اتفقوا على جواز الأمرين"([11]).
([1]) تقدم أقوال العلماء في مسألة القدرة على الصوم.
([2]) بدائع الصنائع (2/95).
([3]) المدونة الكبرى (1/180).
([4]) المجموع (6/269).(/41)
([5]) المغني (4/406).
([6]) المحلى (6/243).
([7]) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر رقم (1116).
([8]) أخرجه مسلم في كتاب الصيام باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر ... رقم (1113).
([9]) صحيح مسلم بشرح النووي (7/328).
([10]) المجموع (6/271).
([11]) مجموع الفتاوى (22/287).
6. الخلو من الموانع: الحيض والنفاس.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى ـ أو في فطر ـ إلى المصلَّى، فمر على النساء فقال: ((يا معشر النساء تصدَّقن، فإني أُريتكُنَّ أكثر أهل النار، فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: تُكِثْرنَ اللَّعن، وَتَكفُرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقلٍ ودينٍ أذهَبَ للبِّ الرجلِ الحازم من إحداكنَّ، قلن: وما نقصانُ دينِنا وعَقْلنِا يا رسول الله ؟ قال: أليس شهادةُ المرأةِ مثلُ نصفِ شهادةِ الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذَلكَ من نقصان عَقْلِها. أليس إذا حاضتْ لم تُصَلِّ ولم تصم؟ قلن: بَلى، قال: فذلكِ من نقصانِ دِينها))([1]).
قال ابن بطال: "قوله عليه السلام: ((أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم)) نص أن الحائض يسقط عنها فرض الصلاة، ولا يجوز لها الصوم في أيام حيضها، والأُمَّةُ على ذلك، وأجمعوا أن عليها قضاء ما تركت من الصيام، ولا قضاء عليها للصلاة، إلاَّ طائفة من الخوارج يرون عليها قضاء الصلاة، وعلماء الأُمَّة من السلف والخلف على خلافهم"([2]).
قال شيخ الإسلام ابن يتيمة: "كما يحرم على الحائض الصلاة والصيام بالنَّص، والإجماع؛ ومس المصحف عند عامة العلماء"([3]).
وقال أيضاً: "وخروج دم الحيض والنفاس يُفَطِّرُ باتفاق العلماء"([4]).
([1]) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم رقم (304) واللفظ له، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات .... رقم (79).
([2]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/419).
([3]) مجموع الفتاوى (26/176).
([4]) مجموع الفتاوى (25/267). وانظر: بدائع الصنائع (2/83)، المدونة الكبرى (1/184)، روضة الطالبين (2/365)، المحلى (5/185).
فروض صحة الصوم
1 ـ الإسلام:
قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
قال الطبري: "ومن يطلب دينًا غير دين الإسلام ليدين به؛ فلن يقبل الله منه {وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} يقول: من الباخسين أنفسهم حظوظها من رحمة الله عز وجل"([1]).
قال الدسوقي عند ذكره لباب الصيام: "... وشروط صحته الإسلام والزمان القابل للصوم"([2]) .
قال ابن جُزِي: "الباب الأول في: شروط الصيام. وهي: الإسلام والبلوغ والعقل والطهارة، ووجوبه على الخلاف في مخاطبة الكفار بالفروع وهو شرط في صحة فعله بإجماع. وفي وجوب قضائه أيضًا، فإن أسلم في أثناء الشهر صام بقيته وليس عليه قضاء ما مضى منه، وإن أسلم في أثناء يوم كفّ عن الأكل في بقيته وقضاه استحبابًا"([3]) .
([1]) تفسير الطبري (6/570).
([2]) حاشية الدسوقي (1/509).
([3]) القوانين الفقهية لابن جزيّ (ص 113). وانظر الإنصاف (3/ 292 ـ 293)، والبحر الرائق (2/277).
2 ـ النية:
عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له)) ([1]) .
قال ابن قدامة: ".. لا يصح صومٌ إلا بنية إجماعًا، فرضًا كان أو تطوّعًا؛ لأنه عبادة محضة، فافتقر إلى النية كالصلاة، ثم إن كان فريضة كصيام رمضان في أدائه أو قضائه، والنذر والكفارة اشترط أن ينويه من الليل عند إمامنا، ومالك والشافعي"([2]) .
وقال النووي: "لا يصحّ الصوم إلا بنية، ومحلها القلب، ولا يشترط النطق بها بلا خلاف"([3]) .
وقال ابن رشد: "أما كون النية شرطًا في صحة الصيام فإنه قول الجمهور"([4]) .
1/ 2 حكم تقديم النية في الصوم:
لم يختلف العلماء في جواز تقديم النية في الصوم كما اختلفوا في الوضوء والصلاة. والسبب في ذلك أمران:
1. النصوص الصريحة الدالة على أن محل النية في الصوم هو الليل.
2. أن اشتراط مقارنة النية لأول الصوم فيه مشقة بالغة، وحرج شديد والله يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. ووجه المشقة والحرج أن أول الصوم يأتى في وقت غفلةٍ من الناس، ولعسر مراقبة أول الصوم وهو الفجر.
قال الكاساني: "فالأفضل في الصيامات كلها أن ينوي وقت طلوع الفجر إن أمكنه ذلك، أو من الليل لأن النية عند طلوع الفجر تقارن أول جزء من العبادة حقيقة ومن الليل تقارنه تقديرًا..." ([5]) .
2/ 2 حكم تأخير النية في الصوم:
النية في صوم رمضان:
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن صوم رمضان يتأدّى بنيةٍ من بعد غروب الشمس إلى منتصف النهار، وقالوا بجواز صومه بنية من النهار، وقال به أبو حنيفة وأصحابه.(/42)
قال الكاساني: "وإن كان عينًا وهو صوم رمضان وصوم التطوع خارج رمضان والمنذور المعين يجوز"([6])، أي عقد النية بعد طلوع الفجر.
وخالف زُفر من الأحناف في المريض والمسافر إذا صاما رمضان. قال: "لا بد لهما من تبييت النية من الليل لأنه في حقهما كالقضاء لعدم تعينه عليهما"([7]) .
القول الثاني: أنه لا يصح صوم رمضان إلا بنية من الليل. وقال به مالك وأحمد وإسحاق والشافعي وداود وجماهير العلماء من السلف والخلف([8]) .
أدلة الفريق الأول ومناقشتها:
حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً ينادي في الناس يوم عاشوراء:((أن من أكل فليتم أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل))([9]).
ولا يتم لهم الاستدلال بالحديث إلا على القول بأن صوم عاشوراء كان واجبًا.
قال النووي: "وأجابوا عن استدلال أبي حنيفة بأن صوم عاشوراء كان تطوعًا متأكداً شديد التأكيد ولم يكن واجبًا. وهذا صحيح مذهب الشافعية"([10]).
واستدلوا على أن صومه لم يكن واجبًا بحديث معاوية بن أبي سفيان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر))([11]).
فقوله: ((ولم يكتب عليكم صيامه))، وقوله: ((من شاء فليصم ومن شاء فليفطر)) ظاهر الدلالة على أنه لم يكن واجبًا قط، بل هو نص في ذلك.
والصواب أن صوم عاشوراء كان واجباً، وأن وجوبه نُسخ عندما فرض الله صوم رمضان؛ لقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصيام عاشوراء، فلما فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر) ([12]) .
قال الحافظ ابن حجر: "ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبًا لثبوت الأمر بصيامه، ثم تأكد الأمر بذلك ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت في صحيح مسلم: (لما فرض رمضان ترك عاشوراء)، مع العلم بأنه ما ترك استحبابه بل هو باقٍ، فدل على أن المتروك وجوبه"([13]) .
وعلى هذا يتبين أن عاشوراء كان واجبًا ثم نسخ([14]) .
ولا يتم للأحناف الاستدلال أيضًا؛ لأن الحديث لا تقوم به حجة؛ لأن المتنازع فيه في صوم الفرض المقدور هل يجوز أن ينويه من النهار بلا عذر؟ أما الذي دل عليه الحديث فهو صحة صوم من لم يعلم وجوب الصوم عليه من الليل، كالذي لم يبلغه أن اليوم أول رمضان إلا بعد أن أصبح، وقد احتج ابن حزم بالحديث على صحة صوم من لم يعلم وجوب الصوم إلا بعد طلوع الفجر([15]).
واحتجوا بالقياس ولهم فيه طريقان:
1 ـ قياس الفرض على النفل، فالنفل صح فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينويه من النهار.
وردّ عليهم بأنه قياس لا يصح لأننا عهدنا من الشارع أنه يخفف في النوافل ما لا يخفف في الفرائض.
2 ـ قياس النية المتأخرة على المتقدمة من أول الغروب، والجامع بينهما التيسير ورفع الحرج([16]).
وهذا يلزمهم القول بإجازة الصوم بنية من النهار قبل الزوال وبعده، لا كما يقولون بأن النية بعد الزوال لا تصح، وذلك لأنّ الحرج قد يوجد بعد الزوال. فقد يبلغ الصبي، ويسلم الكافر، ويفيق المجنون، ويصحو المغمى عليه وهم لا يقولون بذلك.
أدلة الفريق الثاني ومناقشتها:
1 ـ حديث حفصة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له)) ([17]) .
وقد رد الأحناف عليهم بأن الحديث ضعيف. والجواب عليهم من وجهين:
أ ـ أن جماعة من الحفاظ حكموا بصحته: كابن خزيمة والحاكم وغيرهما.
ب ـ على التسليم لهم بالضعف فإنه قد روي موقوفًا عن ثلاثة من الصحابة بأسانيد صحيحة؛ إذ جاء عن ابن عمر وأخته حفصة وعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهم([18]) ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة.
2 ـ قال القاضي عبد الوهاب: "ولأنه صوم شرعي فأشبه النذور والقضاء، ولأنها عبادة من شرطها النية، فوجب ألا يتأخر عن بعض زمانها... ولأنها نية ابتدأت بعد مضي جزء من النهار أصله بعد الزوال، ولأن كل ما لا يكون الصائم صائمًا إلا بوجوده فلا يصح الصوم بعد مضي جزء من اليوم... ولأن النية أحد ركني الصيام فاختصت بإحدى جنسي الزمان أصله الإمساك"([19]) .
النية في صوم القضاء والكفارة:
لا يجوز تأخير نية صوم الكفارة وقضاء رمضان، ولا يصح صومهما إلا بنية من الليل عند كافة العلماء. قال النووي: "ولا نعلم أحدًا خالف في ذلك"([20]) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أما تبييت النية فإن الصوم الواجب الذي وجب الإمساك فيه من أول النهار لا يصح إلا بنية من الليل، سواء في ذلك ما تعين زمانه كأداء رمضان والنذر المعين، وما لم يتعين كالقضاء والكفارة والنذر المطلق"([21]) .
النية في صيام التطوع:
اختلف أهل العلم في اشتراط تبييت النية لصيام التطوع على قولين:(/43)
القول الأول: يجوز صوم التطوع بنية من النهار ولا يشترط تبييت النية، وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة على خلاف بينهم في آخر وقت لنية التطوع؛ فعند الحنفية آخر وقت نية صوم التطوع الضحوة الكبرى، أي نصف النهار([22])، وعند الشافعية قبل الزوال([23])، وعند الحنابلة يمتدّ وقتها إلى ما بعد الزوال([24]) .
ويشترط عند الجميع لصحة نية النفل في النهار: أن لا يكون فعل ما يفطره قبل النية، فإن فعل فلا يجزئه الصوم حينئذ اتفاقًا.
القول الثاني: يشترط في نية صوم التطوع التبييت كالفرض، وبه قال المالكية([25]) .
أدلة أصحاب القول الأول:
احتج من لم يشترط تبييت النية في صوم التطوع:
1 ـ بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: ((يا عائشة، هل عندكم شيء؟)) قالت: فقلت: يا رسول الله، ما عندنا شيء، قال: ((إني صائم)) ([26]) .
2 ـ أن صيام النفل يخالف الفرض في كونه أخفّ منه، وقد خفف الشارع في ترك القيام واستقبال القبلة في النفل مع القدرة([27]).
أدلة أصحاب القول الثاني:
واحتج من رأى وجوب تبييت النية في صيام النفل:
1 ـ بحديث حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له))([28]).
وأجاب الجمهور عليه بما قاله ابن قدامة: "وحديثهم نخصّه بحديثنا على أن حديثنا أصح من حديثهم"([29]) .
2 ـ أن النية لا تكفي بعد الفجر لأن حقيقتها: القصد، وقصد الماضي محال عقلاً.
حكم تعيين النية لكل يوم من رمضان:
اختلف أهل العلم، هل يشترط للصائم أن ينوي الصيام قبل كل يوم جديد، أم تكفي نية واحدة وتجزئ عن جميع أيام الشهر، على قولين:
القول الأول: تجب نية مستقلة لكل يوم من أيام رمضان، وقال به الحنفية([30]) والشافعية([31]).
وهو رواية عن الإمام أحمد عليها المذهب عند أتباعه([32]).
القول الثاني: تجزئ نية واحدة عن جميع شهر رمضان، وهو قول المالكية([33]) ورواية عند أحمد([34]).
أدلة أصحاب القول الأول:
قال ابن قدامة: "دلنا: أنه صوم واجب فوجب أن ينوي كل يوم من ليله، كالقضاء، ولأن هذه الأيام عبادات لا يفسد بعضها بفساد بعض، ويتخللها ما ينافيها فأشبهت القضاء، وبهذا فارقت اليوم الأول، وعلى قياس رمضان إذا نذر صوم شهر بعينه، فيخرج فيه مثل ما ذكرناه في رمضان" ([35])، وقد اختار هذا القول اللجنة الدائمة للإفتاء([36]).
أدلة أصحاب القول الثاني:
استدل من رأى الاجتزاء بنية واحدة عن جميع الشهر بعدة أمور منها:
- أن صوم الشهر عبادة واحدة.
- ما ثبت في الحديث: ((ولكل امرئ ما نوى))، وهذا نوى صيام الشهر فله ما نوى.
- قياسه على الحج، فالحج طوافه وسعيه والوقوف بعرفة ..، تجزئ فيه نية واحدة عن جميعه.
قال ابن عثيمين: "وهذا هو الأصح، لأن المسلمين جميعاً لو سألتهم لقال كل واحد منهم أنا نويت الصوم أول الشهر إلى آخره، فإذا لم تتحقق النية حقيقة فهي محققة حكماً، لأن الأصل عدم القطع، ولهذا قلنا: إذا انقطع التتابع لسبب يبيحه، ثم عاد إلى الصوم فلا بد من تجديد النية، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس"([37]).
([1]) رواه أبو داود: كتاب الصوم، باب: النية في الصيام رقم (2454) واللفظ له، والنسائي (4/196) كتاب: الصيام، باب: ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة. وصححه الألباني كما في: صحيح أبي داود (2/465).
([2]) المغني (4/333).
([3]) روضة الطالبين (2/350).
([4]) بداية المجتهد (1/359).
([5]) بدائع الصنائع (2/85). وانظر حاشية ابن عابدين (2/92).
([6]) بدائع الصنائع (2/85).
([7]) انظر: فتح القدير (2/48) الباب في شرح مختصر القدوري (1/163).
([8]) انظر: المعونة (1/457)، الإنصاف (7/395)، والمجموع (6/300).
([9]) رواه البخاري واللفظ له (2/59) كتاب الصوم باب صيام يوم عاشوراء رقم (2007)، ومسلم (2/798) كتاب الصيام، باب من أكل في عاشوراء رقم (1135).
([10]) المجموع (6/301) بتصرف يسير.
([11]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء (2003) ومسلم في الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء (1129).
([12]) رواه البخاري كتاب: الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء رقم (2001)، ومسلم كتاب: الصيام باب: صوم يوم عاشوراء رقم (1125).
([13]) فتح الباري (4/247). وانظر: زاد المعاد (2/68 ـ 77).
([14]) انظر: الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص 69 ـ 72).
([15]) انظر: النيات في العبادات للأشقر (1/174).
([16]) فتح القدير (2/48). وانظر: النيات في العبادات (1/177 ـ 178).(/44)
([17]) رواه النسائي، كتاب: الصيام باب: ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة (2334)، والدارمي كتاب: الصوم باب: من لم يجمع الصيام من الليل (1698)، ورواه بلفظ ((من لم يجمع...)) الإمام أحمد (6/287)، والترمذي كتاب: الصوم، باب: ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل (730)، وأبو داود كتاب: الصوم، باب: النية في الصيام (2454). قال ابن حجر في: فتح الباري (4/142): "واختلف في رفعه ووقفه ورجح الترمذي والنسائي الموقوف بعد أن أطنب النسائي في تخريج طرقه، وحكى الترمذي في: العلل عن البخاري ترجيح وقفه. وعمل بظاهر الإسناد جماعة من الأئمة فصححوا الحديث المذكور: منهم ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن حزم".
([18]) انظر: المحلى (6/161)، والتلخيص الحبير (2/188).
([19]) المعونة (1/457 ـ 458).
([20]) المجموع (6/337).
([21]) شرح العمدة (1/176- الصيام).
([22]) حاشية ابن عابدين (2/85).
([23]) مغني المحتاج (1/424).
([24]) كشاف القناع (2/317).
([25]) حاشية الدسوقي (1/530).
([26]) رواه مسلم في: الصيام، باب: فضل الصيام في سبيل الله (1154).
([27]) شرح العمدة (1/176- الصيام).
([28]) تقدم تخريجه.
([29]) المغني (4/342).
([30]) حاشية ابن عابدين (2/400).
([31]) المجموع للنووي (6/303).
([32]) شرح منتهى الإرادات للبهوتي (1/478).
([33]) التفريع لابن الجلاب (1/303).
([34]) الكافي لابن قدامة (1/393).
([35]) المغني (4/337).
3 ـ الإمساك عن الأكل والشرب:
قال تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ} [البقرة:187].
قال البغوي: "فالصائم يحرم عليه الطعام والشراب بطلوع الفجر الصادق ويمتد إلى غروب الشمس فإذا غربت حصل الفطر"([1]).
قال ابن المنذر: "لم يختلف أهل العلم أن الله عز وجل حرم على الصائم في نهار الصوم الرفث وهو الجماع، والأكل والشرب"([2]).
قال الجصاص: "وكذلك النية شرط في صحة الصوم وترك الأكل أيضاً شرطٌ في صحته"([3]).
قال ابن رشد: "وأجمعوا على أنه يجب على الصائم الإمساك زمان الصوم عن المطعوم والمشروب والجماع لقوله تعالى: {فالآن بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] ([4]).
وقال ابن قدامة: "وأجمع العلماء على الفطر بالأكل والشرب لما يتغذّى به"([5]).
([1]) تفسير البغوي (1/209).
([2]) الإجماع (59).
([3]) أحكام القرآن (4/174).
([4]) بداية المجتهد (1/356).
([5]) المغني (4/350).
4 ـ الإمساك عما هو في حكم الأكل والشرب:
1/4 الامتناع عن الحقن الطبية.
2/4 الامتناع عن تعمد القيء.
3/4 الامتناع عن ابتلاع فضلات الطعام التي بين الأسنان.
4/4 الامتناع عن المبالغة في المضمضة والاستنشاق.
5/4 الامتناع عن تعمد ابتلاع البلغم بعد وصوله إلى الفم.
قال أبو إسحاق الشيرازي: "ولا فرق بين أن يأكل ما يؤكل أو ما لا يؤكل، فإن استفَّ تراباً أو ابتلع حصاة أو درهما أو ديناراً بطل صومه، لأن الصوم هو الإمساك عن كل ما يصل إلى الجوف وهذا ما أمسك، ولهذا يقال: فلان يأكل الطين، ويأكل الحجر، ولأنه إذا بطل الصوم بما يصل إلى الجوف مما ليس يؤكل كالسُعوط والحقنة وجب أيضاً أن يبطل بما ليس بمأكول.
وإن قلع ما بقي بين أسنانه بلسانه وابتلعه بطل صومه، وإن جمع ريقه في فيه ريقاً كثيراً فابتلعه ففيه وجهان.
أحدهما: أنه يبطل صومه، لأنه ابتلع ما يمكنه الاحتراز منه مما لا حاجة به إليه فأشبه إذا قلع ما بين أسنانه وابتلعه، والثاني لا يبطل، لأنه وصل إلى جوفه من معدنه فأشبه ما يبتلعه من ريقه على عادته.
فإن أخرج البلغم من صدره، ثم ابتلعه، أو جذبه من رأسه ثم ابتلعه، بطل صومه.
وإن استقاء بطل صومه، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من استقاء فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه)) ([1])، ولأن القيء إذا صعد ثم تردد فرجع بعضه إلى الجوف فيصير كطعام ابتلعه"([2]).
([1]) رواه الترمذي كتاب: الصوم، باب: من استقاء عمداً، وقال: حديث حسن رقم (720)، وأبو داود كتاب: الصيام، باب: الصائم يتقيأ عمداً رقم (2380)، وابن ماجه كتاب: الصيام، باب: ما جاء في الصائم بقيء رقم (1676). وصححه الألباني كما في صحيح أبي داود (2/452).
([2]) المهذّب في فقه الشافعي (2/605-606). وانظر المجموع (6/312)، وبداية المجتهد (1/326)
5 ـ الإمساك عن شهوة الفرج :
وهو على خمسة أنواع:
1/5 الإمساك عن الجماع:(/45)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله أهلكت، قال: ((ما لك؟)) قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تجد رقبة تعتقها؟)) قال: لا، قال: ((فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟)) قال: لا، قال: ((فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟)) قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر ـ والعرق: المكتل ـ قال: ((أين السائل؟)) فقال: أنا، قال: ((خذ هذا فتصدق به))، فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله ؟ فوالله، ما بين لابتيها – يريد الحرتين – أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: ((أطعمه أهلك)) ([1]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان ما يفطر الصائم وما لا يفطره: "وهذا نوعان: منه ما يفطر بالنص والإجماع وهو الأكل والشرب والجماع"([2]).
وقال العلامة ابن القيم: "والقرآن دال على أن الجماع مفطر كالأكل والشرب، لا يُعرف فيه خلاف"([3]).
2/5 الإمساك عن الاستمناء:
قال أبو إسحاق الشيرازي: "وإن استمنى فأنزل بطل صومه؛ لأنه أنزل عن مباشرة، فهو كالإنزال عن القبلة، ولأن الاستمناء كالمباشرة فيما دون الفرج من الأجنبية في الإثم والتعزير، فكذلك في الإفطار"([4]).
وقال ابن تيمية: "وإن استمنى بيده فعليه القضاء دون الكفارة"([5]).
3/5 الإمساك عن الإيلاج وتغييب الحشفة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الكفارة تجب بالجماع في الفرج، سواء كان قبلاً أو دبراً، من ذكرٍ أو أنثى وسواء أنزل الماء أو لم ينزل ؛ رواية واحدة.
وكذلك إذا ولج في فرج بهيمة في المشهور عند أصحابنا"([6]).
وقال أبو إسحاق الشيرازي: "ووطء المرأة في الدبر واللواط كالوطء في الفرج في جميع ما ذكرناه من إفساد الصوم ووجوب الكفارة والقضاء؛ لأن الجميع وطء، ولأن الجميع في إيجاب الحد واحد، فكذلك في إفساد الصوم وإيجاب الكفارة.
وأما إتيان البيهمة ففيه وجهان من أصحابنا من قال: يبنى ذلك على وجوب الحد، فإن قلنا: يجب فيه الحد أفسد الصوم، وأوجب الكفارة كالجماع في الفرج، وإن قلنا: يجب فيه التعزير لم يفسد الصوم ولم تجب به الكفارة، لأنه كالوطء فيما دون الفرج في التعزير، فكان مثله في إفساد الصوم وإيجاب الكفارة.
ومن أصحابنا من قال: يفسد الصوم ويوجب الكفارة قولاً واحداً، لأنه وطء يوجب الغسل فجاز أن يتعلق به إفساد الصوم وإيجاب الكفارة كوطء المرأة"([7]).
4/5 الإمساك عن الإنزال بشهوة بسبب القبلة أو الضم:
قال ابن قدامة: "إذا قبل فأمنى أو أمذى، ولا يخلو المقبّل من ثلاثة أحوال:
أحدها أن لا يُنزل، فلا يفسد صومه بذلك، لا نعلم فيه خلافاً لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبّل وهو صائم وكان أملككم لإربه" رواه البخاري ومسلم ([8])، ورُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: هششت فقبلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله، صنعت اليوم أمراً عظيماً، قبلت وأنا صائم، فقال: ((أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم؟)) قلت: لا بأس به، قال: ((فمه؟))([9])، شبّه القبلة بالمضمضة من حيث إنها من مقدمات الشهوة، وإن المضمضة إذا لم يكن معها نزول الماء لم يفطر، وإن كان معها نزوله أفطر.
الحال الثاني: أن يمني فيفطر بغير خلاف نعلمه، لما ذكرناه من إيماء الخبرين، ولأنه إنزال بمباشرة، فأشبه الإنزال بالجماع دون الفرج.
الحال الثالث: أن يمذي فيفطر عند إمامنا ومالك، وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا يفطر، ورُوي ذلك عن الحسن والشعبي، والأوزاعي، لأنه خارجٌ لا يوجب الغسل، أشبه البول.
ولنا أنه خارج تخلله الشهوة، خرج بالمباشرة، فأفسد الصوم كالمنيّ، وفارق البول بهذا.
واللمس لشهوة كالقبلة في هذا.
إذا ثبت هذا فإن المقبّل إن كان ذا شهوة مفرطة بحيث يغلب على ظنه أنه إذا قبّل أنزل لم تحلّ له القبلة؛ لأنها مفسدة لصومه، فحرمت كالأكل.
وإن كان ذا شهوةٍ لكنه لا يغلب على ظنه ذلك، كُره له التقبيل؛ لأنه يعرض صومه للفطر، ولا يأمن الفساد، ولأن العبادة إذا منعت الوطء منعت القبلة، كالإحرام، ولا تحرم القبلة في هذه الحال"([10]).
وقال الشوكاني: "إن وقع من الصائم سببٌ من الأسباب التي وقع الإمناء منها بطل صومه"([11]).
هذا وقد تقدم الكلام على هذه المفطرات وغيرها في مبحث مفطرات الصيام بالتفصيل.
([1]) رواه البخاري كتاب: الصوم، باب: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق رقم (1936) واللفظ له، ومسلم كتاب: الصيام، باب: تغليظ الجماع في نهار رمضان رقم (2554).
([2]) مجموع الفتاوى (25/219).
([3]) زاد المعاد (2/60).
([4]) المهذب (2/607).
([5]) شرح العمدة (1/303- الصيام). وانظر: الإنصاف للمرداوي (30/301).
([6]) شرح العمدة (1/300- الصيام).
([7]) المهذب (2/615-616).(/46)
([8]) رواه البخاري كتاب: الصوم، باب: المباشرة للصائم رقم (1927)، ومسلم كتاب: الصيام باب: بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة رقم (1106).
([9]) رواه أبو داود كتاب: الصيام، باب: القبلة للصائم رقم (2385)، والدارمي (2/21) باب: الروضة في القبلة للصائم، وابن خزيمة (3/345)، والحاكم في المستدرك (1/596) وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
([10]) المغني (4/361-362) باختصار.
([11]) السيل الجرار (2/121). وانظر: شرح الزركشي على مختصر الخرقي (2/580).
6 ـ طهارة المرأة من الحيض والنفاس:
عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ فقالت: (أحرورية أنت؟!) قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل، قالت: (كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة) ([1]).
وعن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو في فطر إلى المصلى، فمر على النساء فقال: ((يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار))، فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: ((تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن))، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: ((أليس شهادة المرأة مثلُ نصف شهادة الرجل؟)) قلن: بلى، قال: ((فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟)) قلن: بلى، قال: ((فذلك من نقصان دينها))([2]).
قال الإمام أبو بكر بن المنذر - تعليقاً على الحديث -: "فأخبر أن لا صلاة عليها، ولا يجوز لها الصوم في حال الحيض، ثم أجمع أهل العلم على أن عليها الصوم بعد الطهر، ونفى الجميع عنها وجوب الصلاة، فثبت قضاء الصوم عليها بإجماعهم، وسقط عنها فرض الصلاة لاتفاقهم"([3]).
وقال ابن جزي: "وأما الطهر من دم الحيض والنفاس فشرط في صحته وفي جواز فعله"([4]).
وقال ابن الملقن - عند ذكره لشروط صحة الصوم -: "الإسلام والعقل، والنقاء عن الحيض والنفاس كل يوم"([5]).
([1])رواه البخاري كتاب: الحيض، باب: لا تقضي الحائض الصلاة رقم (321)، ومسلم كتاب: الحيض، باب: وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة (335) واللفظ له.
([2]) رواه البخاري كتاب: الحيض، باب: ترك الحائض الصوم برقم (304) واللفظ له، ومسلم كتاب: الإيمان، باب: بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات رقم (79).
([3]) الأوسط لابن المنذر (2/203).
([4]) القوانين الفقهية لابن جزي (ص114).
([5]) التذكرة في الفقه الشافعي (ص76).
7 ـ الزمن القابل للصوم:
إذ لا يجوز صوم رمضان إلا في شهر رمضان.
قال الإمام الدسوقي رحمه الله - عند ذكره لباب الصيام -: "... وشروط صحته الإسلام والزمان القابل للصوم"([1]).
وعدد القرافي شروط الصوم فقال: "الشرط السادس: الزمن القابل للصوم"([2]).
ولا يعلم فيه خلاف بين أهل العلم.
* * *
([1]) حاشية الدسوقي (1/509).
([2]) الذخيرة للقرافي (2/497). وانظر: المفصل في أحكام المرأة للدكتور عبد الكريم زيدان (2/47).
([36]) فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (10/246).
([37]) الشرح الممتع (6/369-370).
مفسدات الصوم
أولاً: المفطرات المجمع عليها:
1. الأكل.
2. الشرب.
3. الجماع.
قال ابن المنذر: "لم يختلف أهل العلم أن الله عز وجل حرَّم على الصائم في نهار الصوم الرفث وهو الجماع والأكل والشرب" ([1]).
وقال ابن قدامة: "يفطر بالأكل والشرب بالإجماع، وبدلالة الكتاب والسنة، أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} [البقرة:187]، مدّ الأكل والشرب إلى تبين الفجر ثم أمر بالصيام عنهما، وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي))([2])، وأجمع العلماء على الفطر بالأكل والشرب لما يتغذى به"([3]).
وقال أيضاً: "لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أنّ من جامع في الفرج فأنزل، أو لم ينزل، أو دون الفرج فأنزل، أنه يفسد صومه"([4]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما يفطر بالنصٍّ والإجماع وهو: الأكل والشرب والجماع، قال تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} [البقرة:187]، فأذن في المباشرةِ، فعقل من ذلك أنّ المراد الصيام من المباشرة والأكل والشرب، ولما قال أولاً: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]، كان معقولاً عندهم أن الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع"([5]).
4. الحيض.
5. النفاس.(/47)
قال ابن قدامة: "أجمع أهل العلم على أن الحائض والنفساء لا يحل لهما الصوم، وأنهما يفطران رمضان ويقضيان، وأنهما إذا صامتا لم يجزئهما الصوم"([6]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكذلك ثبت بالسنة واتفاق المسلمين أنّ دم الحيض ينافي الصوم، فلا تصوم الحائض، لكن تقضي الصوم"([7]).
وقال: "وخروج دم الحيض والنفاس يفطر باتفاق العلماء"([8]).
6. الردة:
قال ابن قدامة: "لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أنّ من ارتد عن الإسلام في أثناء الصوم أنه يفسد صومه، وعليه قضاء ذلك إذا عاد إلى الإسلام، سواءٌ أسلم في أثناء اليوم أو بعد انقضائه، وسواء كانت ردته باعتقاده ما يكفر به، أو بشكه فيما يكفر بالشك فيه، أو بالنطق بكلمة الكفر مستهزءاً، أو غير مستهزئ، قال الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ M لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65، 66]، وذلك أنّ الصوم عبادة من شرطها النية، فأبطلتها الردة كالصلاة والحج، ولأنّه عبادة محضة فنافاها الكفر كالصلاة"([9]).
7. الاستقاء عمداً:
قال ابن المنذر: "وأجمعوا على إبطال صوم من استقاء عامداً"([10])، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة كما هو مقرر في كتبهم إلا أنهم اختلفوا في بعض التفاصيل.
فعند الحنفية أنّه إذا استقاء فسد صومه وعليه القضاء، وعند أبي يوسف إذا كان أقل من ملء الفم لا يفسد لعدم الخروج حكماً([11]).
وعند أحمد ثلاث روايات:
الأول: يفطر قليله وكثيره على السواء.
الثانية: لا يفطر إلاّ بملء الفم.
الثالثة: لا يفطر إلاّ إذا كان نصف الفم.
والأُولى هي الأَولى([12])؛ لإطلاق الحديث فيها، وهو حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ذرعه قيء وهو صائم، فليس عليه قضاء، وإن استقاء فليقضِ))([13]).
ولأن سائر المفطرات لا فرق بين قليلها وكثيرها([14]).
([1]) الإجماع (ص59).
([2]) أخرجه البخاري في: الصوم، باب: فضل الصوم رقم (1894) واللفظ له، ومسلم في الصيام ، باب: فضل الصوم رقم (1151).
([3]) المغني (4/349-350).
([4]) المغني (4/372).
([5]) مجموع الفتاوى (25/220).
([6]) المغني (4/397).
([7]) مجموع الفتاوى (25/220).
([8]) مجموع الفتاوى (25/267).
([9]) المغني (4/369-370).
([10]) الإجماع (ص59).
([11]) انظر: الهداية مع فتح القدير (2/260)، والمدونة (1/179)، والأم (2/130)، والمغني (4/368).
([12]) المغني (4/3690).
([13]) أخرجه أبو داود: الصيام، باب الصائم يستقئ عامداً برقم (2380)، والترمذي: الصيام، باب ما جاء فيمن استقاء عمداً برقم (720)، وابن ماجه: الصيام، باب ما جاء في الصائم يقيء برقم (1676)، وأحمد في المسند (2/498) برقم (10468)، والدراقطني في السنن: الصيام، باب القبلة للصائم (2/184)، والحاكم في المستدرك، ك الصوم، وقال الدارقطني: "رواته ثقات كلهم"، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين". وصححه الألباني في الصحيحة (923) والإرواء (923).
([14]) المغني (4/369).
ثانياً: المفطرات المختلف فيها:
1- أكل ما لا يؤكل في العادة كالدرهم والتراب والحصى والحديد والحنوط ونحو ذلك:
اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأول: أنه يفطر بذلك. وهو قول الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة([1]).
القول الثاني: أنه لا يفطر بذلك؛ لأنه ليس طعاماً ولا شراباً.
وهذا القول حكي عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه، وعن الحسن بن صالح([2]).
والراجح: هو القول الأول، من وجهين:
الوجه الأول: لأنّ تحريم الأكل والشرب على الصائم على العموم يدخل فيه محل النزاع.
الوجه الثاني: لأنّ الصوم هو الإمساك عن كل ما يصل إلى الجوف، وهذا لم يمسك، ولهذا يقال: فلان يأكل الطين، ويأكل الحجر([3]).
2- إيصال شيء إلى الجوف من أي منفذٍ كان، ويدخل تحته أشياء:
أ- السعوط([4]):
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يفطر بذلك إن وصل إلى الدماغ. وبه قال الحنفية، والشافعية، والحنابلة([5]).
القول الثاني: أنه لا يفطر به إلا إذا وصل إلى الحلق. وبه قالت المالكية([6]).
ب- التقطير في الأذن:
والقول فيه كالقول في السعوط([7]).
ج- الاكتحال في العين:
اختلف العلماء فيه إلى قولين:
القول الأول: أنه لا يفطر به سواء وجد طعمه في حلقه أم لا. وبه قالت الحنفية والشافعية([8]).
القول الثاني: أنه يفطر به إذا علم وصوله إلى حلقه، أو وجد طعمه فيه. وبه قالت المالكية والحنابلة([9]).
د- الحقنة في الدبر:
اختلف العلماء فيها إلى قولين:
القول الأول: أن الحقنة في الدبر تفطر مطلقاً أو قُبُل المرأة خاصة لأنه إيصال شيء إلى الجوف فيفطر به. وبه قالت الحنفية والشافعية والحنابلة([10]).
القول الثاني: أنّه لا يفطر إلاّ بالحقنة المائعة، أمّا الجامدة؛فلا يفطر بها.وبه قالت المالكية([11]).(/48)
هـ - التقطير في الإحليل:
اختلف العلماء فيه إلى قولين:
القول الأول: أنه لا يفطر؛ لأنه لا يوجد منفذين باطن الذكر والجوف. وبه قالت الحنفية والمالكية والحنابلة([12]).
القول الثاني: أنه يفطر؛ لأنه منفذ يتعلق الفطر بالخارج منه فتحلق بالواصل إليه كالفم. وبه قالت الشافعية([13]).
و- مداواة المأمومة والجائفة([14]):
اختلف العلماء فيه على قولين:
القول الأول: أنّه يفطر بمداواة المأمومة إن وصل الدواء إلى دماغه، ومداواة الجائفة إن وصل الدواء إلى جوفه. وبه قالت الحنفية والشافعية والحنابلة([15]).
القول الثاني: أنّه لا يفطر به؛ لأنه لا يصل إلى محل الطعام والشراب ولو وصل إليه لمات في ساعته([16]).
الراجح في هذه المسائل:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويفسد الصوم بها، لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة، وبلَّغوه الأمة كما بلَّغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً وعلم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك".
وقال أيضاً: "وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة ونحوها، لم يجز إفساد الصوم بمثل هذه الأقيسة لوجوه:
أحدها: أنّ القياس وإن كان حجة إذا اعتبرت شروط صحته، فقد قلنا في الأصول: إن الأحكام الشرعية كلها بينتها النصوص أيضاً، وإن دل القياس الصحيح على مثل ما دل عليه النص دلالة خفية فإذا علمنا أن الرسول لم يحرم الشيء ولم يوجبه، علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب، وأن القياس المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد، ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على الإفطار بهذه الأشياء التي ذكرها بعض أهل الفقه، فعلمنا أنها ليست مفطرة.
الثاني: أنّ الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً، ولا بد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفى هذا، عُلِمَ أنّ هذا ليس من دينه... – إلى أن قال: – وإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً، ولا بد أن تنقل الأمة ذلك، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب، فلو كان هذا مما يفطر بينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بيَّن الإفطار بغيره، فلما لم يبيِّن ذلك، عُلِمَ أنه من جنس الطيب والبخور والدهن، والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ وينعقد أجساماً، والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله، ويتقوى به الإنسان، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيّدة، فلما لم ينه الصائم عن ذلك دل على جواز تطييبه وتبخيره وادّهانه، وكذلك اكتحاله، وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم يجرح أحدهم إمّا في الجهاد وإمّا في غيره مأمومة أو جائفة، فلو كان هذا يفطر لبيَّن لهم ذلك، فلما لم ينه الصائم عن ذلك علم أنه لم يجعله مفطراً.
الوجه الثالث: إثبات التفطير بالقياس يحتاج إلى أن يكون القياس صحيحاً، وذلك إما قياس علة بإثبات الجامع، وإما بإلغاء الفارق، فإما أن يدل دليل على العلة في الأصل فيجرى بها إلى الفرع، وإما أن يعلم أن لا فارق بينهما من الأوصاف المعتبرة في الشرع، وهذا القياس هنا منتف، وذلك أنّه ليس في الأدلة ما يقتضي أنّ المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطراً، هو ما كان واصلاً إلى دماغ أو بدن، أو ما كان داخلاً من منفذِ، أو واصلاً إلى الجوف ونحو ذلك من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عند الله ورسوله... – إلى أن قال: – وإذا لم يكن على تعليق الله ورسوله للحكم بهذا الوصف دليلٌ، كان قول القائل: "إنّ الله ورسوله إنما جعلا هذا مفطراً لهذا" قولاً بلا علم، وكان قوله: "إن الله حرم على الصائم أن يفعل هذا" قولاً بأن هذا حلال وهذا حرام بلا علم، وذلك يتضمن القول على الله بما لا يعلم وهذا لا يجوز"([17]).
3- قضاء الوطر بغير الجماع:
ويدخل تحته أشياء:
أ - القبلة والمباشرة فيما دون الفرج ولها أحوال:
إذا قَبَّل فلم ينزل:
قال ابن قدامة: "فلا يفسد صومه بذلك، لا نعلم فيه خلافاً لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم، وكان أملككم لإربه. رواه البخاري ومسلم([18]). وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: هششت فقبلت، وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله، صنعت اليوم أمراً عظيماً قبلت وأنا صائم، فقال: ((أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم؟!)) قلت: لا بأس به، قال: ((فمه؟)) رواه أبو داود ([19])، شبه القبلة بالمضمضة من حيث إنها من مقدمات الشهوة، وإنّ المضمضة إذا لم يكن معها نزول الماء لم يفطر، وإن كان معها نزول أفطر"([20]).
إذا قبَّل فأنزل:(/49)
فإنّه يفطر، قال ابن قدامة: "بغير خلاف نعلمه لما ذكرناه من إيماء الخبرين، ولأنه إنزال بمباشرة، فأشبه الإنزال بالجماع دون الفرج"([21]).
إذا قبَّل فأمذى:
اختلف العلماء فيه على قولين:
القول الأول: لا يفطر لأنه خارج لا يوجب الغسل فأشبه البول. وبه قالت الحنفية والشافعية([22]).
القول الثاني: يفطر لأنه خارج تخلله شهوة خرج بالمباشرة فأفسد الصوم كالمني، وبهذا فارق البول. وبه قالت المالكية والحنابلة([23]).
ب- إذا نظر إلى ما يشتهى فأنزل:
اختلف العلماء فيه إلى قولين:
القول الأول: إذا أنزل بالنظر فإنه لا يفطر ولو كرر النظر لأنه لم يوجد الجماع صورة لعدم وجود المباشرة. وبه قالت الحنفية والشافعية([24]).
القول الثاني: إنه يفطر بذلك لأنه إنزال بفعل يتلذذ به ويمكن التحرز منه فأفسد الصوم. وبه قالت المالكية والحنابلة([25]).
أما إذا لم ينزل، فقال ابن قدامة: "فلا يفسد الصوم بغير اختلاف"([26]).
ج- التفكر:
اختلف العلماء فيه على قولين:
القول الأول: أنّه إذا فكّر فأنزل فلا يفسد صومه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((عفي لأمتي من الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم))([27]).
ولأنه لا نص في الفطر به، ولا إجماع، ولا يقاس على المباشرة، وتكرار النظر؛ لأنه دونهما في استدعاء الشهوة وإفضائه إلى الإنزال. ويخالفهما في التحريم إذا تعلّق بأجنبية، أو الكراهة إن كان في زوجة، فيبقى على الأصل. وبه قالت الحنفية والشافعية والحنابلة([28]).
القول الثاني: إذا أنزل بإدامة الفكر فيفسد صيامه، فإن كان من عادته الإنزال به، فعليه القضاء والكفارة، وإذا لم يكن من عادته الإنزال به، فعليه القضاء، واختلفوا في الكفارة. وإن لم يدم النظر والفكر فعليه القضاء فقط دون الكفارة. وبه قالت المالكية([29]).
د- الاستمناء:
اختلف العلماء فيه إلى قولين:
القول الأول: يفطر بالاستمناء باليد أو غيرها وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة([30]).
القول الثاني: أنه لا يفطر بالاستمناء لعدم ورود النص بأنه ينقض الصوم، وبه قال ابن حزم الظاهري([31]).
والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور؛ لأن الاستمناء في معنى القبلة في إثارة الشهوة([32]).
4- الحجامة:
اختلف العلماء فيها على قولين:
القول الأول: أن الحجامة لا تفطر. وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية وابن حزم الظاهري([33]).
القول الثاني: أن الحجامة تفطر الحاجم والمحجوم على السواء. وهو قول الحنابلة.
قال ابن قدامة: "وبه قال إسحاق وابن المنذر ومحمد بن إسحاق ابن خزيمة، وهو قول عطاء وعبد الرحمن بن مهدي"([34]).
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور على عدم الإفطار بالحجامة بما يأتي:
- حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم([35]).
- عن ثابت البناني قال: سئل أنس بن مالك رضي الله عنه: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: (لا، إلا من أجل الضعف)([36]).
- حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث لا يفطرن الصائم الحجامة والقيء والاحتلام))([37]).
أدلة القائلين بالفطر بها:
- قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفطر الحاجم والمحجوم))([38]).
- وأجابوا على حديث ابن عباس بأن الصواب فهي بدون ذكر (صائم)، فقد طعن في هذه الزيادة عدد من الحفاظ، ولذا لم يذكرها مسلم في صحيحه([39]).
- وقالوا: حديث ((أفطر الحاجم والمحجوم)) ناسخ لحديثي ابن عباس وأنس لأنه كان عام الفتح كما في حديث شداد بن أوس أنه مر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الفتح على رجل يحتجم بالبقيع لثمان عشرة خلت من رمضان، وهو آخذ بيدي فقال: ((أفطر الحاجم والمحجوم))([40]).
- أن الإفطار بالحجامة يوافق القياس الصحيح، وهو من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاءة والاستمناء، وذلك لأنه كما نهي الصائم عن أخذ ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب، فينهى عن إخراج ما يضعفه ويخرج مادته التي بها يتغذى، وإلا فإذا مُكِّن من هذا ضرَّه، وكان متعدياً في عبادته لا عادلاً([41]).
الترجيح:
الذي يظهر والله أعلم، أنّ الحجامة تفسد الصيام، فينهى الصائم عنها.
ويدخل تحت الحجامة الفصاد:
قال شيخ الإسلام: "وذلك لأن المعنى الموجود في الحجامة موجود في الفصاد شرعاً وطبعاً، وحيث حض النبي صلى الله عليه وسلم على الحجامة، وأمر بها، فهو حض على ما في معناها من الفصاد وغيره، لكن الأرض الحارة تجتذب الحرارة فيها دم البدن فيصعد إلى سطح الجلد فيخرج بالحجامة، والأرض الباردة يغور الدم فيها إلى العروق هرباً من البرد، فإن شبه الشيء منجذب إليه، كما تسخن الأجواف في الشتاء وتبرد في الصيف، فأهل البلاد الباردة لهم الفصاد وقطع العروق، كما للبلاد الحارة الحجامة لا فرق بينهما في شرع ولا عقل"([42]).(/50)
ويدخل في ذلك أيضاً: جميع الوسائل المستخدمة في إخراج الدم كعمليات سحب الدم.
قال شيخ الإسلام: "وقد بينا أن الفطر بالحجامة على وفق الأصول والقياس، وأنه من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاء وبالاستمناء، وإذا كان كذلك فبأيّ وجه أراد إخراج الدم أفطر"([43]).
5- النخامة :
ابتلاع النخامة له أحوال:
1. إن لم تحصل في حد الظاهر من الفم لم تضر بالاتفاق([44]).
2. إن حصلت في الفم بأنصبابها من الدماغ في الثقبة النافذة منه إلى أقصى الفم فوق الحلقوم، ولم يقدر على صفها ومجها حتى نزلت إلى الجوف، لم تضر.
3. إن ردها إلى فضاء الفم أو ارتدت إليه ثم ابتلعها أفطر.
وهذا عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة، وقول المالكية([45]).
وأما المعتمد عند المالكية، ورواية ثانية للحنابلة، عدم الفطر بالنخامة لأجل المشقة، ولأنه معتاد في الفم غير واصل من خارج، فأشبه الريق([46]).
6- بلع ما بين الأسنان من الطعام:
وله حالتان:
الأولى: إن كان يسيراً لا يمكن الاحتراز منه فإن ابتلاعه لا يضر الصائم تشبيهاً له بالريق بالإجماع.
قال ابن المنذر: "وأجمعوا عن أن لا شيء على الصائم فيما يزدرده مما يجري مع الريق مما بين الأسنان، فيما لا يقدر على الامتناع منه"([47]).
الثانية: إذا أمكن الاحتراز منه فابتلعه، اختلف العلماء فيه على قولين:
القول الأول: أنه يفطر به، ولو كان يسيراً. وهو قول المالكية والشافعية، والحنابلة ؛ لأنه بلع طعاماً يمكنه لفظه باختياره ذاكراً لصومه فأفطر به، كما لو ابتدأ الأكل، ويخالف ما يجري به الريق، فإنه لا يمكن لفظه([48]).
القول الثاني: أنه لا يفطر إن كان يسيراً ويفطر إن كان كثيراً، وجعلو اليسير مقدار الحمّصة فما دونها، وعللوا عدم الفطر به أنه يشبه الريق فلا يمكن التحرز منه فيكون تابعاً للأسنان بخلاف الكثير. لأنه لا يبقى فيما بين الأسنان([49]). وهو قول الحنفية.
والظاهر هو ترجيح مذهب الجمهور ؛ للعلة التي ذكروها، والله أعلم.
7- مضغ العلك:
قال ابن قدامة العلك ضربان:
أحدهما: ما يتحلل منه أجزاء، وهو الردئ الذي إذا مضغه يتحلل، فلا يجوز مضغه إلاَّ أن لا يبلع ريقه، فإن فعل فنزل إلى حلقه منه شيء أفطر به، كما لو تعمد أكله.
والثاني: العلك القوي الذي كلما مضغه صلب وقوي فهذا يكره مضغه، ولا يحرم لأنه يحلب الفم ويجمع الريق ويورث العطش، ومتى مضغه ولم يجد طعمه في حلقه لم يفطر، وإن وجد طعمه في حلقه، ففيه وجهان:
أحدهما: يفطره كالكحل إذا وجد طعمه في حلقه.
والثاني: لا يفطره لأنه لم ينزل منه شيء، ومجرد الطعم لا يفطر"([50]).
وقال النووي: "ولو نزل طعمه في جوفه أو ريحه دون جرمه، لم يفطر؛ لأن ذلك الطعم بمجاورة الريق له، هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور"([51]).
وألزم المالكية الكفارة بوصول شيء من العلك إلى الحلق، إذا كان متعمداً في ذلك، وإن لم يكن متعمداً، فالقضاء فقط([52]).
وعند الحنفية أنه يكره ولا يفطر؛ لأنه لا يصل إلى جوفه، هكذا أطلقه المتقدمون، وقيَّده المتأخرون بما إذا لم يتفتت أو يصل شيء منه إلى الجوف، وإلاّ فإنه يفطر([53]).
8- الإغماء:
اختلف العلماء فيمن نوى الصيام ليلاً، ثم أغمي عليه، فلم يفق إلا بعد غروب الشمس، على قولين:
القول الأول: يصح صومه ولا يؤثر فيه الإغماء. وهو قول الحنفية، لأن النية قد صحت وزوال الاستشعار بعد ذلك لا يمنع صحة الصوم كالنوم([54]).
القول الثاني: لا يصح صومه ويلزمه القضاء. وهذا قول جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة([55]).
وهذا القول هو الراجح، ويدل عليه ما يأتي:
1. أن الصوم إمساك مع نية، وفي الحديث: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه من أجلي))([56]).
فأضاف الطعام والشراب إليه، وإذا كان مغمى عليه، فلا يضاف الإمساك إليه، فلم يجزئه.
2. أن النية أحد ركني الصيام، فلا تجزئ وحدها كالإمساك وحده.
3. أما قياس الإغماء على النوم فلا يستقيم، لأن النوم عادة لا يزيل الإحساس بالكلية، ومتى نُبّه انتبه، والإغماء عارض يزيل العقل فأشبه الجنون([57]).
9- الدخان:
الدخان بجميع أنواعه وما يحرق في الأنبوب، وما يوضع في النارجيلة من المواد العضوية التي تحتوي على القطران والنيكوتين، ولها جرم يظهر في الفلتر وعلى الرئتين، وتصبغ الطبقة المخاطية التي تغطي جدار البلعوم بلون داكن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: فإن التدخين يلي شهوة المدخن (الكيف والمزاج) فيؤثر على أعصابه تأثيراً لا يقل عن تأثير الخمور والمخدرات، ولهذا نجد المدخن يصبر عن الطعام والشراب، ولكن لا يصبر عن الدخان، فتناول الدخان إذًا يتنافى مع معنى الصوم الذي ذكر في الحديث القدسي: ((يدع طعامه شرابه وشهوته من أجلي))([58])، ولذلك يُعدّ التدخين من مفسدات الصوم. والله أعلم([59]).
حكم بعض العلاجات العصرية:(/51)
نظراً لما توصل إليه الطب من أنواع من العلاجات لم تكن معروفة في الزمان السابق فاحتاج الناس إلى معرفة الحكم فيها بالنسبة لإفسادها للصيام أو عدمه، ونذكر بعض هذه العلاجات:
1. بخاخ الربو:
وهو يحتوي على مستحضرات طبية وماء وأكسجين، وقد استظهرت اللجنة الدائمة للإفتاء أنه لا يفطر، وبه أفتى الشيخ ابن عثيمين، وأكد عدد من الأطباء والصيادلة أن هذا المحتوى يدخل إلى المعدة يقيناً، فهو بذلك يفسد الصوم([60]). والله أعلم.
2. التغذية عن طريق الأنف:
إذا استعمل الأنف طريقاً للتغذية، فإنه يكون منفذاً كالفم تماماً، فما يدخل منه بذلك يكون مفسداً للصيام([61]).
3. الحقنة الشرجية:
ثبت في الطب أنّ الأمعاء الغليظة تمتص الماء وقليلاً من الأملاح والجلوكوز وقد تمتص الأدوية المختلفة كما أنها تستعمل كطريقة في تغذية المريض، ولذا فينصح بتأخير استعمال الحقنة الشرجية إلى ما بعد الإفطار احتياطاً للعبادة، سواء كانت تحمل مواداً غذائية أو وسائل أخرى، كما أن كثيراً من أساتذة الطب ينصحون بعدم إجراء الحقن الشرجية أثناء فترة الصوم، لأنها تسبب ضعفاً في عضلات الأمعاء وغشائها، وتخرش القولون، وتهك المريض، وتستهلك قواه.
وأما استعمال التحاميل أو اللبوس أو أقماع البواسير أو المراهم، ونحو ذلك مما يستعمل لتخفيف آلام البواسير، أو خفض درجة الحرارة، أو التقليل من مضاعفات الزكام والبرد، عن طريق إدخالها في الدبر، وهذه الوسائل تمتص من مكانها بواسطة شبكة كبيرة من الأوردة الدموية للدم مباشرة ولا تستغرق العملية وقتاً طويلاً فهي كامتصاص الجلد الخارجي للماء والدواء والدهون فلذا لا تؤثر على صحة الصوم، والله أعلم([62]).
4. الإبر، وهي على نوعين:
أ- الإبر التي توصل أدوية أو مواد غذائية أو مقوية، وتدخلها إلى بدن الصائم عن غير طريق الأوردة والشرايين (كالاحتقان في العضدين أو الفخذين أو رأس الإليتين أو ما شابه ذلك) لا تفسد الصوم، لأنها تصل إلى البدن عن طريق المسام مثلها مثل الاغتسال بالماء البارد، فلا أثر لها في الصوم.
ب- الإبر التي توصل أدوية أو غذية أو مقويات إلى الدم مباشرة عن طريق الأوردة أو الشرايين، تفسد الصوم لأنها صارت منفذاً – عرفاً – لإمداد الجسم بالجلوكوز والصوديوم، وأنواع الأحماض المختلفة مما يؤدي إلى اكتفاء البدن واستغنائه عن المواد المألوفة من الطعام والشراب([63]).
5. الأشعة:
وهي تستخدم لتصوير بعض الأجهزة الداخلية، أو علاج موضعي كتفتيت حصوة في الكلية، أو الحالب أو المثانة أو المرارة أو الرتق داخلي أو خارجي كشبكة العين، وإدخال هذه الأشعة لا يؤثر على صحة الصوم؛ لأنها في جميع حالاتها عبارة عن تصويب حزمة رفيعة من الضوء موحدة الاتجاه إلى المكان المراد علاجه، كإتمام عملية التحام الشبكية المصابة بالانفصال أو التمزق أو التحام الأوعية الدموية في الجراحة أو غيرها، والله أعلم([64]).
6. التخدير:
وله أنواع في الطب:
أ- التخدير عن طريق الأنف:
وذلك بشم مادة غازية، كالهواء تؤثر على الأعصاب فيحدث التحذير، فإن كان التخدير لا يؤثر على المخ ولا يفقد الصائم وعيه فلا يبطل الصوم، وإن كان يفقد الوعي فيبطل الصوم بسبب فقدان الوعي، وليس بسبب المادة الغازية.
ب- التخدير عن طريق الإبر الصينية:
وهو من العلاج الصيني يعتمد على إدخال إبر مصمته جافة إلى مراكز الإحساس تحت الجلد، فتستحث نوعاً معيناً من الغدد داخل البدن على إفراز المورفين الطبيعي الذي يحتوي عليه الجسم، فيفتقد المريض الإحساس في ذلك الموضع، وهذا لا يؤثر على الصيام لعدم دخول شيء إلى البدن ولعدم التأثير على الوعي.
ج- التخدير بالحقن: بإدخال مادة سائلة مخدرة عن طريق الحقنة في موضع معين من البدن.
فإن كان الحقن في مكان غير الأوردة والشرايين كالعضلة فلا يفسد الصوم كما مر في الإبر؛ ولأنه لا يحدث غياب الوعي منه.
وإن كان الحقن في الأوردة أو الشرايين بالمادة المخدرة فإن الصوم يبطل لدخول المائع إلى البدن من منفذ عرقي؛ ولأنّ الصائم يفقد وعيه، لأن المادة المخدرة التي صبت في الدم قد توزعت على جميع البدن بواسطة الدورة الدموية، واتصلت بالمخ ومراكز الإحساس ففقد الوعي([65]).
والله تعالى أعلم.
([1]) البحر الرائق (2/481)، الشرح الكبير (1/523-524)، المجموع (6/340)، المغني (4/350).
([2]) المغني (4/350).
([3]) المهذب للشيرازي مع المجموع (6/337).
([4]) قال الجوهري في الصحاح: "السعوط: الدواء في الأنف وقد استعطت الرجل فاستعط هو بنفسه" مادة (سعط).
([5]) البحر الرائق (2/467)، والمجموع (6/346)، والمغني (4/353).
([6]) الشرح الكبير (1/524).
([7]) البحر الرائق (2/486-487)، الشرح الكبير (1/524)، والمجموع (6/346)، المغني (4/353).
([8]) البحر الرائق (2/477) والمجموع (6/387).
([9]) الشرح الكبير (1/524)، والمغني (4/353-354).
([10]) البحر الرائق (2/486)، والمجموع (6/335)، والمغني (4/353).(/52)
([11]) الشيء الكبير (1/524).
([12]) البحر الرائق (2/488) والشرح الكبير (1/524) والمغني (4/360).
([13]) المجموع (6/334، 336).
([14]) المأمومة أو الآمة: الجراحة التي تبلغ أم الدماغ؛ وهي: الجلدة التي تحيط بالدماغ انظر: النظم المستعذب في غريب ألفاظ المهذب (1/173).
والجائفة: الجراحة التي تصل إلى الجوف (الصحاح:4/1339).
([15]) انظر: البحر الرائق (2/486)، والمجموع (6/346)، والمغني (4/353).
([16]) انظر: الشرح الكبير (1/533).
([17]) مجموع الفتاوى (25/233-243) بتصرف. وانظر: الشرح الممتع (6/379-384).
([18]) أخرجه البخاري كتاب: الصيام، باب: المباشرة للصائم، برقم (1927)، ومسلم في: الصيام برقم (1106).
([19]) أخرجه أبو داود في: الصيام، باب: القبلة للصائم (2385)، وأحمد في المسند (1/21) برقم (138) والدارمي: الصوم، باب الرخصة في القبلة للصائم (1728)، والحاكم: الصوم (1/596) وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وصححه النووي وقال: "ولا يقبل قول الحاكم: إنه على شرط البخاري، وإنما هو على شرط مسلم" (المجموع (6/348).
([20]) المغني (4/360-361). وانظر: البحر الرائق (2/476) وتنوير المقالة (3/193) والمجموع (6/349).
([21]) المغني (4/361). وانظر: البحر الرائق (2/476) وتنوير المقالة (3/193)، والمجموع (6/349).
([22]) انظر المجموع (6/350).
([23]) انظر تنوير المقالة (3/193)، والمغني (4/361).
([24]) انظر البحر الرائق (2/475)، والمجموع (6/349).
([25]) انظر: الشرح الكبير (1/29)، والمغني (4/363).
([26]) المغني (4/363).
([27]) أخرجه ابن ماجه: كتاب الطلاق، باب: طلاق المكره والناس (2045)، بلفظ: "إن الله وضع على أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"، وأخرجه الحاكم كذلك (2/198) وقال: "صحيح على شرط الشيخين". وأما هذا اللفظ" فقد قال الزيلعي في نصب الراية (2/64): "وهذا لا يوجد بهذا اللفظ". وصححه الألباني في الإرواء (1/123) وقال: "لم أجده بلفظ عفي".
([28]) البحر الرائق (2/293)، نهاية المحتاج (2/173)، المغني (4/364).
([29]) الشرح الكبير (1/529).
([30]) انظر البحر الرائق (2/475) والشرح الكبير (1/529) والمجموع (6/350) والمغني (4/363).
([31]) المحلى (6/203، 205).
([32]) المغني (4/363).
([33]) فتح القدير (2/256)، والذخيرة (2/506)، والمجموع (6/389)، المحلى (6/203-204).
([34]) المغني (4/350).
([35]) أخرجهما البخاري في الصيام: باب الحجامة والقيء للصائم برقم (1938-1939).
([36]) أخرجه البخاري: في الصيام، باب الحجامة والقيء للصائم برقم (1940).
([37]) ضعيف: أخرجه الترمذي: الصوم، باب ما جاء في الصائم يذرعه القيء، والبيهقي في الكبرى: الصيام، باب: من ذرعه القيء لم يفطر (4/220)، وقال الترمذي: "حديث أبي سعيد غير محفوظ، والصوب أنه مرسل"، وقال البيهقي: "عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف".
([38]) صحيح: أخرجه الترمذي عن رافع بن خدريج: الصوم، باب: كراهية الحجامة للصائم برقم (774) وقال: "حسن صحيح". وأخرجه أحمد في المسند (5/276) برقم (22425) وأبو داود: في الصيام، باب: في الصائم يحتجم برقم (2367)، وابن ماجه في: الصيام، باب: ما جاء في الحجامة للصائم برقم (1680)، من حديث ثوبان، وأخرجه أحمد في مسنده (4/122) برقم (17153) وأبو داود: الصيام، باب: في الصائم يحتجم برقم (2369)، والدارمي: الصوم، باب: الحجامة تفطر الصائم برقم (1730) من حديث شداد بن أوس، وذكر الترمذي عن أحمد تصحيح حديث رافع، وأعلَّ ابن المديني تصحيح حديث ثوبان بن شداد (الترمذي 3/145) وللحديث طرق أخرى كثيرة.
([39]) انظر: المغني (4/351-352) ومجموع الفتاوى (25/252-254).
([40]) انظر: مجموع الفتاوى (25/255).
([41]) مجموع الفتاوى (25/250).
([42]) مجموع الفتاوى (25/256-257).
([43]) مجموع الفتاوى (25/257).
([44]) المجموع للنووي (6/343).
([45]) المجموع (6/343)، والمغني (4/355)، الشرح الكبير (1/252).
([46]) المغني (4/355)، والشرح الكبير (1/525).
([47]) الإجماع (ص59). وانظر: فتح القدير (2/258)، والذخيرة (2/507)، والمجموع (6/340-341)، والمغني (4/360).
([48]) انظر: النوادر والأصول لابن أبي زيد القيرواني (2/41)، والمجموع (6/340-341) والمغني (4/360).
([49]) فتح القدير (2/258).
([50]) المغني (4/358).
([51]) المجموع (5/394-395).
([52]) الشرح الكبير (517).
([53]) الهداية مع فتح القدير (4/268).
([54]) انظر: البحر الرائق (2/448)، والمغني (4/343).
([55]) انظر: المدونة (1/184)، والمجموع (6/383)، والمغني (4/343).
([56]) أخرجه البخاري: الصيام، باب فضل الصوم (1894) واللفظ له، ومسلم: الصيام باب: فضل الصيام (1151).
([57]) انظر: المجموع (6/383-385)، والمغني (4/343-344)، والصوم والإفطار لأصحاب الأعذار، د. فيحان المطيري (ص136).(/53)
([58]) أخرجه البخاري: الصيام، باب: فضل الصوم (1894) ومسلم: الصيام، باب: فضل الصيام (1151).
([59]) مفطرات الصيام في ضوء المستجدات الطبية – مجلة الحكمة – عدد (14) (ص104).
([60]) مفطرات الصيام في ضوء المستجدات الطبية – مجلة الحكمة – عدد (14) (ص102).
([61]) المصدر السابق (104-106).
([62]) المصدر السابق (111-113).
([63]) المصدر السابق (115/119).
([64]) مجلة الحكمة، عدد (14) (ص121).
([65]) المصدر السابق (ص121-123).
ثالثًا: محلقات عامة:
نظم في مفطرات الصيام:
قال بعضهم:
عشرة مفطرات الصوم فهاكها إغماء كل اليوم
إنزاله مباشراً والردّة والوطء والقيء إذا تعمده
ثم الجنون الحيض مع نفاس وصول عين بطنه مع راسِ([1])
([1]) إعانة الطالبين للبكري (2/225). ويلاحظ: أن في بعض ما ذكره من المفطرات خلاف، وقد تقدم ذكره والراجح فيه
مخالفات في شهر رمضان
أولاً: بدع واقعة في رمضان
1. بدع عند دخول رمضان:
1/1 الاعتماد على حساب الفلكيين في تقاويمهم في بدء الصيام.
قال شيخ الإسلام: "فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى ؛ لا يجوز.
والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يُعرف فيه خلاف قديم أصلاً، ولا خلاف حديث؛ إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غُمَّ الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا.
وهذا القول وإن كان مقيَّداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ، مسبوق بالإجماع على خلافه"([1]).
2/1 رفع الأيدي عند رؤية الهلال والدعاء:
قال الشيخ علي بن محفوظ: "... فمن بدع الصوم ما تفعله العامة من رفع الأيدي إلى الهلال عند رؤيته يستقبلونه بالدعاء قائلين: (هلَّ هلالك، جلَّ جلالك، شهرٌ مبارك)، ونحو ذلك مما لم يعرف عن الشرع"([2]).
وقال الشيخ بكر أبو زيد: "رفع اليدين عند رؤية الهلال، واستقباله للدعاء، وقول بعضهم: (هل هلالك شهر مبارك علينا وعليك يا رب) فهذا القول بدعة، ولفظ: (وعليك يا رب) جهل عظيم، وسوء أدب مع الله تعالى"([3]).
3/1 زيادة الإنارة في رمضان والإكثار من القناديل المذهَّبة والملوَّنة:
قال ابن الحاج: ".... وبعضهم يجعل الماء الذي في القناديل ملوناً، وبعضهم يضم إلى ذلك القناديل المذهبة أو الملونة أو هما معاً، وهذا كله من باب السرف والخيلاء والبدعة وإضاعة المال ومحبة الظهور، والقيل والقال، فكيفما زادت فضيلة الليالي والأيام قابلوها بضدها، أسأل الله تعالى العافية بمنّه"([4]).
ولعل وجه التبديع فيها تخصيصها في رمضان دون سائر الشهور، ولربما احتيج إلى زيادة في الإنارة، لكثرة توافد الناس، فإن كانت زيادة الإنارة لأجل ذلك، فلا حرج بشرط الاعتدال فيها.
4/1 تخصيص قراءة آيات الصيام في صلاة العشاء لأول ليلة من رمضان([5]).
5/1 قراءة سورة القلم عشاء أول ليلةٍ من رمضان:
نُقِلَ عن الإمام أحمد استحباب قراءة سورة القلم في صلاة العشاء من أول ليلة من رمضان.
قال الإمام ابن مفلح: "واستحب أحمد أن يبتدئ التراويح بسورة القلم [اقرأ] لأنها أول ما نزل، وآخر ما نزل"([6]). ووافقه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية([7]).
وقد عقَّب على ذلك الشيخ بكر أبو زيد بقوله: "ولم أر لهذا الاستحباب دليلاً فليحرر"([8]).
2. بدع في أثناء الصيام:
1/2 صوم الحائض اعتقاداً للفضل:
قال ابن الحاج: "والعجب العجيب في صوم بعضهن في أيام حيضتها محافظةً منها على صوم رمضان على زعمهن"([9]).
2/2 تجويع الحائض نفسها وإفطارها على القليل التماساً للفضل:
قال ابن الحاج: "ومنهن من تفطر في أيام الحيض، لكنهن يجوّعن أنفسهن فيه فتفطر إحداهن على التمرة ونحوها، ويزعمن أن لهن في ذلك الثواب، وهذا بدعة، وهي آثمة في التديُّن بذلك"([10]).
3/2 الصمت عن الكلام في الصوم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأمّا الصمت عن الكلام مطلقًا في الصوم، أو الاعتكاف، أو غيرهما، فبدعة مكروهة باتفاق أهل العلم"([11]).
4/2 تلاوة القصص في رمضان:
قال أبو بكر الطرطوشي: "نهى مالك أن يقص أحدٌ في رمضان بالدعاء، وحكى أن الأمر المعمول به في المدينة إنما هو الصلاة من غير قصص ولا دعاء"([12]).
5/2 قراءة القرآن بالألحان:
قال الطرطوشي: "فصل القراءة بالألحان: فمن ذلك البدع المحدثة في الكتاب العزيز من الألحان والتطريب – إلى أن قال – قال مالك: ولا تعجبني القراءة بالألحان، ولا أحبها في رمضان ولا في غيره؛ لأنه يشبه الغناء، ويُضحك بالقرآن، فيقال: فلانٌ أقرأ من فلان"([13]).
3. بدع عند الإفطار:
1/3 تعمد تأخير أذان المغرب بدعوى الاحتياط:(/54)
قال الحافظ ابن حجر: "من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث في رمضان، وإطفاء المصابيح التي جعلت علامة لتحريم الأكل والشرب على من يريد الصيام، زعماً ممن أحدثه أنه للاحتياط في العبادة، ولا يعلم بذلك إلا آحاد الناس، وقد جرّهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون إلا بعد الغروب بدرجةٍ لتمكين الوقت زعموا، فأخّروا الفطور وعجّلوا السحور وخالفوا السنة، فلذلك قلّ عنهم الخير وكثر فيهم الشر، والله المستعان"([14]).
2/3 تأخير الفطر لمن يرى الفضل في تأخيره:
قال الإمام الشافعي: "وأحب تعجيل الفطر وترك تأخيره، وإنما أكره تأخيره إذا عمد ذلك كأنه يرى الفضل فيه"([15]).
وانظر كلام الحافظ ابن حجر في الفقرة السابقة.
3/3 زيادة ((وذكركم الله فيمن عنده)) في دعاء المفطر لمن فطّره:
عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: أفطر الرسول صلى الله عليه وسلم عند سعد فقال: ((أفطر عندكم الصائمون وصلت عليكم الملائكة وأكل طعامكم الأبرار))([16]).
هذا هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلاّ أنّ بعضهم يزيد في آخره: ((وذكركم الله فيمن عنده)) وهي زيادة لا أصل لها، فالواجب الاقتصار على الوارد([17]).
4. بدع السحور:
1/4 إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر في رمضان تعجيلاً للسحور:
انظر: قول الحافظ ابن حجر في: (تعمد تأخير أذان المغرب بدعوى الاحتياط)([18]).
2/4 التسحير في رمضان وهو تنبيه الناس على السحور:
قال ابن الحاج: "وينهى المؤذنين عما أحدثوه في شهر رمضان من التسحير ؛ لأنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر به، ولم يكن من فعل من مضى، والخير كله في الاتباع لهم"([19]).
وقال محمد جمال الدين القاسمي: "ولا يخفى أنه حيث جرت العادة الآن بتنبيه الناس وإيقاظهم للسحور، أولاً: بطبل المسحر وطرقه الأبواب في الحارات والأزقة في آخر الليل، وثانياً: بضرب مدفعين في الولايات أو بندقيتين في الأقضية، الأول لتناول الطعام، والثاني للتهيؤ للإمساك عن الطعام والشراب، فاللازم ترك هذا الأذان([20]) الأول رأساً اكتفاءً بما مر، والصعود إلى المنارة إذا دخل الفجر الصادق كما رأيت ذلك ببعلبك، فإنه يؤذن المؤذن في فجر رمضان وغيره في وقته على المنارة، وهذا أقرب إلى الحالة السلفية"([21]).
3/4 النشيد بعد الأذان:
قال الشيخ محمد جمال الدين القاسمي: "ثم هناك بدعة أخرى في رمضان، وهي أنه إذا فرغ المؤذن من أذان الإمساك المتقدم حاله يكون قد بقي لدخول الفجر ربع ساعة، أي خمس عشرة دقيقة، فإذا نزل المؤذن من المنارة يقف في آخر صفوف المصلين على مرتقى أو سدّة، وينشد نثراً ونظماً جملة تسمى "أمة خير الأنام"، لأن ذلك مطلعها، يحضّهم فيها على اغتنام ليالي الصيام، ويذكر فوز من قام بأوقات السحر بنغمةٍ خاصة، وكل هذا من البدع"([22]).
4/4 التلفظ بنية السحور:
قال الشيخ بكر أبو زيد: "التلفظ بنية السحور بدعة"([23]).
وقال الشيخ صالح آل الشيخ: "التلفظ بالنية لم يكن يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته، ولا التابعون، ولا أحد من الأئمة الأربعة، ولا السلف فهو محدث وبدعة، والنية محلها القلب، وهي قصد العبادة.
وقد ثبت في الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط إجماع وتبييت الصيام قبل الفجر في الفريضة، ومعنى ذلك: قصد الصيام ونيته بقلبه أنه يصوم غداً"([24]).
5/4 قول المتسحر: ((اللهم بارك لنا في سحورنا))([25]).
6/4 بدعة الإمساك قبل الفجر تعبداً:
قال الشيخ الألباني تعليقاً على حديث: ((إذا سمع أحدكم النداء والإناء في يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته))، قال: "وإن من فوائد هذا الحديث إبطال بدعة الإمساك قبل الفجر بنحو ربع ساعة، لأنهم إنما يفعلون ذلك خشية أن يدركهم أذان الفجر وهم يتسحّرون، ولو علموا هذه الرخصة لما وقعوا في تلك البدعة"([26]).
7/4 التعبد بترك السحور:
قال الشيخ محمود شلتوت عندما تكلم عن بعض استحسانات العقل في العبادات، قال: "ومنه الابتداع بقصد الحصول على زيادة المثوبة عند الله، ويُظن أن طريق هذا تحميل النفس مشقة في جنس ما يُتعبد به الله، وهذا تارةً يكون بإلحاق غير المشروع بالمشروع ؛ لأنه يزيد في المقصود من التشريع.
ومن أمثلة ذلك التعبد بترك السحور ؛ لأنه يضاعف قهر النفس المقصود من مشروعية الصوم"([27]).
5. بدع التراويح والوتر:
1/5 قراءة سورة الأنعام في ركعة واحدة:
قال السيوطي: "ومن البدع قراءة سورة الأنعام في ركعة في صلاة التراويح، فقراءتها في ركعة واحدة بدعة من وجوه:
أحدها: تخصيص ذلك بسورة الأنعام دون غيرها، فيوهم أن ذلك سنة فيها، دون غيرها، والأمر بخلاف ذلك.
الثاني: تخصيص ذلك بصلاة التراويح دون غيرها.
الثالث: ما فيه من التطويل على المأمومين، ولا سيما على من يجهل ذلك من عادتهم، فيقلق ويضجر ويسخط ويكره العبادة.(/55)
الرابع: ما فيه من مخالفة السنة من تقليل القراءة في الركعة الثانية عن الأولى، وقد عكس صاحب هذه البدعة قضية ذلك، وخالف الشريعة، ولا قوة إلا بالله"([28]).
2/5 الفصل بين كل ترويحتين بركعتين:
قال الطرطوشي: "جرت عادة الأئمة أن يفصلوا بين كل ترويحتين بركعتين خفيفتين يصلونهما أفذاذاً". وعلّق عليه المحقق بقوله: "وهي عادةٌ لا أصل لها في الشرع ولم يرد دليلٌ من قبل المقتدى بفعالهم"([29]).
3/5 الذكر بعد التسليمتين من صلاة التراويح:
قال ابن الحاج: "وينبغي له أن يتجنب ما أحدثوه من الذكر بعد كل تسليمتين من صلاة التراويح، ومن رفع أصواتهم بذلك، والمشي على صوتٍ واحد، فإن ذلك كله من البدع"([30]).
4/5 قول المؤذن: (الصلاة يرحمكم الله):
قال ابن الحاج: "وكذلك ينهى عن قول المؤذن بعد ذكرهم بعد التسليمتين من صلاة التراويح: (الصلاة يرحمكم الله) فإنه محدث أيضاً، والحدث في الدين ممنوع، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء بعده ثم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولم يذكر عن أحد من السلف فعل ذلك، فيسعنا ما وسعهم"([31]).
5/5 جواب المأموم في مواطن الذكر من قنوت الإمام ببعض الألفاظ:
قال الشيخ بكر أبو زيد: "جواب المأموم على مواطن الذكر من قنوت الإمام بلفظ (حقاً) أو (صدقت) أو (صدقاً وعدلاً) أو (أشهد) أو (حق) ونحو ذلك، كلها لا أصل لها"([32]).
6/5 مسح الوجه بعد دعاء القنوت:
قال العز بن عبد السلام: "ولا يستحب رفع اليدين في الدعاء إلا في المواطن التي رفع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ولا يمسح وجهه بيديه عقيب الدعاء إلا جاهل"([33]).
7/5 دعاء ختم القرآن في صلاة التراويح:
قال الشيخ بكر أبو زيد: "دعاء ختم القرآن داخل الصلاة في التراويح، عملٌ لا أصل له من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من هدي الصحابة رضي الله عنهم، ولم يرد فيه مرويٌ أصلاً، ومن ادعى فعليه الدليل"([34]).
8/5 تعمد تخفيف الصلاة بعد الختم:
قال ابن الحاج: "وينبغي له أن يتجنّب ما أحدثه بعضهم في الختم من أنهم يقومون في ليالي رمضان كلها في الغالب بحزبين فما فوقهما، فإذا كانت ليلة الختم التي ينبغي أن يزاد فيها على القيام المعهود لفضيلتها، فيصلي بعضهم فيها بنصف حزب ليس إلا، هو من سورة (والضحى) إلى آخر الختمة، وكان السلف رضوان الله عليهم يقومون تلك الليلة كلها، فجاء هؤلاء ففعلوا الضد من ذلك كما تقدم"([35]).
9/5 جمع آيات سجدات القرآن في الركعة الأخيرة من التراويح:
قال السيوطي: "وابتدع بعضهم بدعةً أخرى، وجمع آيات سجدات القرآن عقيب ختم القرآن في صلاة التراويح في الركعة الأخيرة، فيسجد بالمأمومين جميعاً"([36]).
10/5 جمع آيات الدعاء ويسمونها آيات الحرس:
قال أبو شامة: "وابتدع آخرون سرد جميع ما في القرآن من آيات الدعاء في آخر ركعة من التراويح بعد قراءة (سورة الناس)، فيطول الركعة الثانية على الأولى نحواً من تطويله بقراءة (الأنعام)([37]) مع اختراعه لهذه البدعة.
وكذلك الذين يجمعون آيات يخصونها بالقراءة ويسمونها آيات الحَرَس، ولا أصل لشيء من ذلك، فيعلم أن جميع ذلك بدعة، وليس شيء منها من الشريعة، بل هو مما يوهم أنه من الشرع وليس منه"([38]).
11/5 التواعد للختم:
قال ابن الحاج: "وينبغي له أن يتجنّب ما أحدثوه من البدع في تواعدهم للختم، فيقولون فلان يختم في ليلة كذا، وفلان يختم في ليلة كذا"([39]).
12/5 إحضار الكيزان وشرب الماء منه والتبرك به:
قال ابن الحاج: "وينبغي له أن يتجنب في نفسه وينهى غيره عما أحدثه بعضهم من إحضارهم الكيزان وغيرها من أواني الماء في المسجد حين الختم، فإذا ختم القارئ شربوا من ذلك الماء، ويرجعون به إلى بيوتهم فيسقونه لأهليهم ومن شاءوا على سبيل التبرك، وهذه بدعة لم تنقل عن أحدٍ من السلف رضي الله عنهم"([40]).
13/5 سير الفقراء الذاكرين بين يدي القارئ إلى أن يصل إلى بيته.
14/5 ضرب الطبل والأبواق والدف أمام القارئ أثناء سيره إلى بيته.
15/5 استعمال الشمع للوقود في أوانٍ من ذهب أو فضة، ولا يخفى تحريمها لعدم الضرورة إليهما.
16/5 تعليق ختمة عند الموضع الذي يختمون فيه، فمنهم من يتخذها من شقق([41]) الحرير الملونة ويعلقون فيها القناديل([42]).
17/5 اعتقاد البعض أن في هذا الاجتماع بما فيه من البدع إظهارًا لشعائر الإسلام([43]).
18/5 انفراد المصلين للوتر عن الاقتداء بالإمام لمخالفته في المذهب:
قال الشيخ القاسمي: "أصل هذا الانفراد والتباين والتقسيم في المصلين هو أن الحنفية يرون صلاة الوتر ثلاث ركعات موصولة بتسليمة واحدة، والشافعية يرون فصل الركعة الأخيرة عما قبلها وأداء الثلاثة بتسليمتين – إلى أن قال -: والقصد أني أرى مصلي التراويح مع إمام المسجد ينبغي لهم إتمام الاقتداء به في صلاته إلى آخرها، وعدم الانفراد عنه"([44]).(/56)
19/5 استحداث صلاة تسمى صلاة القدر بأن يصلوا ركعتين مع الإمام وفي آخر الليل يصلون تمام المائة.
وقد سئل عنها شيخ الإسلام ابن تيمية فأجاب قائلا: "الحمد لله، بل المصيب هذا الممتنع من فعلها والذي تركها، فإن هذه الصلاة لم يستحبها أحدٌ من أئمة المسلمين، بل هي بدعة مكروهة باتفاق الأئمة"([45]).
20/5 قولهُم بعد الركعتين الأوليين وقبل الأُخريين: "الصلاة والسلام عليك..." والترضي عن الصحابة.
قال الشيخ علي محفوظ: "ومن هنا يعلم كراهة ما أحدث في صلاة التراويح من قولهم عقب الركعتين الأوليين منها: (الصلاة والسلام عليك يا أول خلق الله) ونحو ذلك قبل الأخريين، وبعضهم يترضى عن الصحابة، فَعِقَبَ الأولى عن أبي بكر والثانية عن عمر، والثالثة عن عثمان، والرابعة عن علي، وكل ذلك شَرْعٌ لما لم يشرعه الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم"([46]).
21/5 صلاة التراويح بعد المغرب:
وهو توقيت أحدثه الرافضة؛ ذلك لأنهم يكرهون صلاة التراويح، ويزعمون أنها بدعةٌ أحدثها عمر بن الخطاب رضي الله عنه([47]).
وقد سئل عنها شيخ الإسلام ابن تيمية، فأطال في الجواب ثم قال: "... فمن صلاها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة"([48]).
22/5 رفع الصوت في الدعاء والزَعْق:
قال ابن الحاج: "وينبغي له أن يتجنب ما أحدثوه بعد الختم من الدعاء برفع الأصوات والزعقات، قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55]، وبعض هؤلاء يعرضون عن التضرع والخُفْية بالعياط والزعقات، وذلك مخالف للسنة المطهرة"([49]).
6. بدع العشر الأواخر من رمضان:
1/6 تخصيص آخر جمعة من رمضان بصلاةٍ معينة:
نقل الشقيري عن كتاب شرح المواهب فقال: "وأقبح من ذلك ما اعتيد في بعض البلاد من صلاة الخمس في هذه الجمعة عقب صلاتها، زاعمين أنها تكفر صلوات العام أو العمر المتروكة، وذلك حرام لوجوه لا تخفى"([50]).
2/6 تعظيم آخر خميس من رمضان:
قال الشيخ حسن بن حسين بن علي: "وما يجري في رمضان من تعظيم يوم الخميس، لا سيما الأخير، فهذا مما ينبغي إنكاره، وظاهر كلام الشيخ([51])، بل صريحهُ: أن هذا من المنكرات المحدثة، فتأمل كلامه يظهر لك الحكم إن شاء الله تعالى"([52]).
3/6 النشيد في وداع رمضان:
قال الشيخ محمد جمال الدين القاسمي في هذا النشيد: "هذه العادة المستهجنة جارية في أغلب المساجد، ذلك أنه إذا بقي من رمضان خمس ليالٍ أو ثلاث يجتمع المؤذنون والمتطوّعون من أصحابهم فإذا فرغ الإمام من سلام ووتر رمضان تركوا قراءة المأثور من التسبيح، وأخذوا يتناوبون مقاطيع منظومة في التأسّف على انسلاخ رمضان، فمتى فرغ أحدهم من نشيد مقطوعة بصوته الجهوري أخذ رفقاؤه بمقطوعة دورية، باذلين قصارى جهدهم في الصيحة والصراخ بضجيج يصم الآذان، ويسمع الصم، ويساعدهم على ذلك جمهور المصلين بقرار نغمهم"([53]).
4/6 قول الخطيب في آخر جمعة: (لا أوحش الله منك يا شهر رمضان):
قال الشيخ الشقيري: "أما قول الخطباء على المنابر في آخر جمعة من رمضان: (لا أوحش الله منك يا شهر رمضان، لا أوحش الله منك يا شهر القرآن، يا شهر المصابيح، يا شهر التراويح، يا شهر المفاتيح) فلا شك أنه جهل فاضح، وعجيب هذا منهم، ومن مؤلفي الدواوين، حيث يلفظون بهذا الكلام السبهلل على الناس، مع علمهم أنهم محتاجون إلى فهم آية واحدة، وحديث واحد من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم"([54]).
5/6 بدعة حفظية رمضان (حفائظ) في آخر جمعة من رمضان:
وهي كتابة أوراق يسمونها (حفائظ) في آخر جمعة من رمضان، ويسمون هذه الجمعة بالجمعة اليتيمة، فيكتبون هذه الأوراق حال الخطبة، ومما يكتب فيها: (لا آلاء إلا آلاؤك كعسهلون...).
قال الشيخ بكر أبو زيد: "الدعاء في آخر جمعة من رمضان، والخطيب على المنبر بقولهم: "لا آلاء إلا آلاؤك، سمعٌ محيط علمك كعسهلون، وبالحق أنزلناه، وبالحق نزل" بدعة ضلالة، ودعاء مخترع، وطلاسم فاسدة، وتسمى عندهم التحويطة"([55]).
6/6 اجتماع الناس ليلة سبع وعشرين لبيع الحلوى، والاختلاط الحاصل:
قال الإمام الطرطوشي: "ومن البدع اجتماع الناس بأرض الأندلس([56]) على ابتياع الحلوى ليلة سبعٍ وعشرين من رمضان.
وكذلك على إقامة (ينير)([57])، بابتياع الفواكه، كالعجم، وإقامة العنصرة، وخميس إبريل([58]) بشراء المجبنات والإسفنج، وهي من الأطعمة المبتدعة ([59])، وخروج الرجال جميعاً أو أشتاتاً مع النساء مختلطين للتفرّج"([60]).
7/6 تخصيص ليلة العيد بقيام:
ويروى فيه حديث لا يصح: ((من قام ليلة العيدين محتسباً لله لم يمت قلبه يوم تموت القلوب))([61]).(/57)
قال الإمام أحمد بن حنبل: "أما قيام ليلة الفطر فما يعجبني، ما سمعنا أحداً فعل ذلك إلا عبد الرحمن وما أراه لأن رمضان قد مضى، وهذه ليست منه، وما أحب أن أفعله، وما بلغنا من سلفنا أنهم فعلوه، وكان أبو عبد الله يصلي ليلة الفطر المكتوبة، ثم ينصرف، ولم يصلها معه قطّ، وكان يكرهه للجماعة"([62]).
8/6 التزام الصمت في الاعتكاف:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما الصمت عن الكلام مطلقاً في الصوم أو الاعتكاف، أو غيرهما فبدعة مكروهة باتفاق أهل العلم"([63]).
قال موفق الدين ابن قدامة عند ذكره ِلمسائل الاعتكاف: "فأما التزام الصمت فليس من شريعة الإسلام"([64]).
7. بدع متفرقة:
1/7 استئجار القراء في رمضان:
قال الشيخ الشقيري: "أما استئجار القراء للقراءة في ليالي رمضان بالأجرة فبدعة مذممة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((اقرأوا القرآن واعملوا به ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به)) ([65])"([66]).
2/7 الذهاب إلى المقابر:
قال الشيخ الشقيري: "وذهابهم إلى المقابر في يومي العيدين ورجب وشعبان ورمضان".
3/7 تخصيص رمضان بالصلاة والصيام دون سائر الأيام:
قال الشيخ الشقيري: "اعلم أن من الضلال الكبير ترك غالب الناس للصلاة طول السنة، فإذا ما جاء شهر رمضان صلوا وصاموا وطقطقوا بالسبح"([67]).
4/7 الاحتفال بذكرى غزوة بدر:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وللنبي صلى الله عليه وسلم خطب وعهود ووقائع في أيام متعددة: مثل يوم بدر، وحنين، والخندق، .. وخطب متعددة يذكر فيها قواعد الدين، ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ أمثال تلك الأيام أعياداً، وإنما يفعل مثل هذا النصارى، الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى عليه السلام أعياداً، أو اليهود، وإنما العيد شريعة، فما شرعه الله اتُّبع، وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه"([68]).
"ومما أحدث في هذا الشهر المبارك الاحتفال بذكرى غزوة بدر، وذلك أنه إذا كانت ليلة السابع عشر من شهر رمضان، اجتمع الناس في المساجد وأغلبهم من العامة، وفيهم من يدعي العلم، فيبدؤون احتفالهم بقراءة آيات من الكتاب الحكيم، ثم ذكر قصة بدر وما يتعلق بها من الحوادث، وذكر بطولات الصحابة رضوان الله عليهم والغلو فيها، وإنشاء بعض القصائد المتعلقة بهذه المناسبة.
وفي بعض البلدان الإسلامية تحتفل الدولة رسمياً بهذه المناسبة فيحضر الاحتفال أحد المسؤولين فيها، ولا يخفى ما يصاحب هذه الاحتفالات من الأمور المنكرات كالاجتماع في المساجد لغير ما عبادة شرعية، أو ذكر مشروع، وما يصاحب هذه الاجتماعات من اللغط والتشويش ونحو ذلك من الأمور التي تصان بيوت الله عنها.
وكذلك دخول بعض الكفار إلى المسجد كالمختصين منهم في مجال مكبرات الصوت، أو الإضاءة، أو الصحافة والإعلام، وكذلك دخول المصورين للمسجد لتصوير هذه المناسبة بالإضافة إلى اعتبار هذا الاجتماع سنة تقام في مثل هذا اليوم، أو هذه الليلة في كل عام.
فتخصيص هذه الليلة – ليلة السابع عشر من رمضان – بالاجتماع والذكر، وإلقاء القصائد، وجعلها موسماً شرعياً ليس له مستند من الكتاب ولا من السنة، ولم يؤثر عن الصحابة رضوان الله عليهم، أو التابعين أو السلف الصالح رحمهم الله أنهم احتفلوا بهذه المناسبة في هذه الليلة أو غيرها"([69]).
5/7 الخطبة عقب الختم:
قال ابن الحاج: "والخطب الشرعية معروفة مشهورة ولم يذكر فيها خطبة عند ختم القرآن في رمضان ولا غيره، وإذا لم تذكر فهي بدعة ممن فعلها سيما إن كان الموضع معروفاً مشهوراً، مثل أن يكون المسجد الجامع، أو يكون المسجد منسوباً إلى عالم معروف بالخير والصلاح، أو يكون منسوباً إلى المشيخة إلى غير ذلك، ففعل ذلك فيه أشد كراهة لاقتداء كثير من عامة الناس به، وإن كان ذلك ممنوعاً في حق المساجد كلها لكن يتأكّد المنع في حق من يقتدى به"([70]).
([1]) مجموع الفتاوى (25/132-133) وانظر فتاوى الشيخ ابن باز (2/157، 158) كتاب الدعوة.
([2]) الإبداع في مضار الابتداع (ص303).
([3]) تصحيح الدعاء (ص509).
([4]) المدخل لابن الحاج (2/449-450) وانظر: إصلاح المساجد للقاسمي (ص101).
([5]) انظر: تصحيح الدعاء (ص421) لبكر أبو زيد.
([6]) الفروع لابن مفلح (1/548) وانظر طبقات ابن أبي يعلى (1/96).
([7]) انظر الاختيارات للبعلي (64).
([8]) تصحيح الدعاء (ص421).
([9]) المدخل لابن الحاج (2/273) وانظر: السنن والمبتدعات (ص18،141).
([10]) المدخل (2/273).
([11]) مجموع الفتاوى (25/292) وانظر: المجموع للنووي (6/376).
([12]) كتاب الحوادث والبدع (ص65) وانظر (ص109).
([13]) المصدر السابق (ص83).
([14]) فتح الباري (4/199).
([15]) الأم (2/128).
([16]) أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/118)، وابن أبي شيبة (3/100)، وعبد الرزاق (4/311)، وصححه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 12/107).
([17]) انظر: تصحيح الدعاء (509)، وصفة صوم النبي صلى الله عليه وسلم للهلالي والحلبي (69).(/58)
([18]) انظر: فتح الباري (4/199)، وإصلاح المساجد في البدع والعوائد للقاسمي (ص135-136).
([19]) المدخل (2/414).
([20]) يقصد به أذان يؤذّن به للسحور، والذي هو محدث وبدعة في الدين.
([21]) إصلاح المساجد (ص136).
([22]) إصلاح المساجد (ص136).
([23]) تصحيح الدعاء (ص509).
([24]) المنظار في بيان كثير من الأخطاء الشائعة (ص50).
([25]) تصحيح الدعاء (ص509).
([26]) تمام المنة (ص418)، وانظر فتح الباري (4/199).
([27]) البدعة أسبابها ومضارها (ص32).
([28]) الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع (ص192)، وانظر : الباعث على إنكار البدع (ص139)، وتصحيح الدعاء (421).
([29]) الحوادث والبدع للطرطوشي تحقيق علي حسن عبد الحميد (ص59-60).
([30]) المدخل لابن الحاج (2/443).
([31]) المصدر السابق .
([32]) تصحيح الدعاء (ص423).
([33]) الفتاوى (ص47) للعز بن عبد السلام. وللشيخ العلامة بكر أبو زيد رسالة في مرويّات مسح الوجه باليدين بعد الدعاء.
([34]) تصحيح الدعاء (ص423-424) وله فيه رسالة مفردة.
([35]) المدخل (2/443).
([36]) الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع (ص192)، وانظر: المدخل (2/446) وتصحيح الدعاء (ص422).
([37]) تقدم الكلام عليها وقول السيوطي فيها.
([38]) الباعث على إنكار البدع (ص140)، وانظر: تنبيه الغافلين لابن النحاس (ص331-332)، وتصحيح الدعاء (ص422) والبدع الحولية لعبد الله التويجري (ص330).
([39]) المدخل (2/451).
([40]) المصدر السابق.
([41]) نوع من الثياب المعروفة السبيبة المستطيلة انظر: لسان العرب (10/184) مادة: شقق.
([42]) انظر: فيما تقدم المدخل لابن الحاج (2/451) وما بعدها.
([43]) انظر: البدع الحولية (ص331-334).
([44]) إصلاح المساجد (ص86-87).
([45]) مجموع الفتاوى (23/122) وانظر: السنن والمبتدعات للشقيري (ص139).
([46]) الإبداع (ص285).
([47]) انظر: مختصر التحفة الاثني عشرية للآلوسي (ص255).
([48]) مجموع الفتاوى (23/121) وانظر البدع الحولية (327-329).
([49]) المدخل (2/444)، وانظر: تفسير الطبري (12/485-487).
([50]) السنن والمبتدعات (ص139)، وانظر: المحلى لابن حزم (3/37) والمنظار لصالح آل الشيخ (ص44).
([51]) لعله يقصد الإمام محمد بن عبد الوهاب.
([52]) الدرر السنية في الفتاوى النجدية (5/261).
([53]) إصلاح المساجد (ص146)، وانظر: تصحيح الدعاء (ص510).
([54]) السنن والمبتدعات (ص143)، وانظر: إصلاح المساجد (ص146) وتصحيح الدعاء (ص510).
([55]) تصحيح الدعاء (ص510) وانظر: السنن والمبتدعات (ص140) ونقل عن الحافظ ابن حجر أنه كان ينكره إذا رأى الناس يفعلونه، ويُروى فيه حديث لا يصح، وقد تكلم فيه الإمام العجلوني وأنكره كما في كشف الخفاء (2/348).
([56]) وليس هذا قاصراً على أرض الأندلس ردها الله للمسلمين، بل هو محدث في كل البلدان، والله المستعان.
([57]) وهي ما يسمونه "ليلة عيد الميلاد" انظر الأمر بالاتباع للسيوطي (ص145).
([58]) وهو ما يسمى بخميس البيض وهو تشبه بالكفار، انظر: تشبه الخسيس بأهل الخميس للذهبي (ص3-7) والأمر بالاتباع (ص143).
([59]) لمشابهتها بالكفار.
([60]) كتاب الحوادث والبدع (ص150-151)، وانظر: الصوم في ضوء الكتاب والسنة للدكتور عمر الأشقر (ص47).
([61]) أخرجه ابن ماجه، كتاب الصيام باب فيمن قام في ليلتي العيدين (1782) والبيهقي في الكبرى (3/319)، قال العراقي في تخريج الإحياء (1/328): "إسناده ضعيف"، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة (521): "ضعيف جداً".
([62]) انظر: بدائع الفوائد (4/93) والسنن والمبتدعات (ص153).
([63]) مجموع الفتاوى (25/292).
([64]) الكافي (2/293) وانظر: المجموع شرح المهذب (6/376).
([65]) رواه البيهقي في السنن الصغير (1/337) رقم (950)، وفي الكبرى (2/17)، وابن أبي شيبة في مصنفه (2/168) والطبراني في الأوسط (8/344)، وأحمد بنحوه (3/428)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/95): "رواه أحمد وأبو يعلى باختصار والطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات".
([66]) السنن والمبتدعات (ص143).
([67]) المصدر السابق (ص140).
([68]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/614-615).
([69]) البدع الحولية (ص339).
([70]) المدخل لابن الحاج (2/444) وانظر: كتاب الحوادث والبدع (ص64) والباعث على إنكار البدع (ص57).
السحور والفطر أحكام وآداب
أولاً: السحور:
تعريفه: مأخوذ من السحر، والسحر: قُبيل الصبح ([1]).
قال ابن الملقن: "وكأن السحور سمي باسم زمنه؛ لأنه يفعل في السحر قبيل الفجر، ويدخل وقته بنصف بنصف الليل"([2]).
وقال ابن دقيق العيد في ضبط السحور: "بالفتح ما يتسحر به، وبالضم الفعل هذا هو الأشهر"([3]).
حكم السحور:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تسحروا فإن في السحور بركة))([4]).(/59)
قال البخاري: "باب بركة السحور من غير إيجاب؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واصلوا، ولم يذكروا السحور"([5]).
وقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنّ السحور مندوب إليه"([6]).
وقال النووي: "فيه الحث على السحور، وأجمع العلماء على استحبابه، وأنه ليس بواجب"([7]) .
وقال ابن الملقن: "أجمع العلماء على استحباب السحور، وأنّه ليس بواجب، وإنما الأمر به أمر إرشاد"([8]) .
فضله:
أ - السحور بركة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تسحروا فإن في السحور بركة))([9]).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هو الغداء المبارك، يعني السحور))([10]).
وعن عبد الله بن الحارث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر، فقال: ((إنها بركة أعطاكم الله إياها، فلا تدعوه))([11]).
قال ابن دقيق العيد: "فيه دليل على استحباب السحور للصائم، وتعليل ذلك بأن فيه بركة، وهذه البركة يجوز أن تعود إلى الأمور الأخروية، فإن إقامة السنة توجب الأجر وزيادته، ويحتمل أن تعود إلى الأمور الدنيوية لقوة البدن على الصوم وتيسيره من غير إجحاف به"([12]).
وقال ابن حجر: "والأولى أن البركة في السحور تحصل بجهات متعددة، وهي: اتباع السنة، ومخالفة أهل الكتاب، والتقوِي به على العبادة، والزيادة في النشاط، ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، والتسبب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك، أو يجتمع معه على الأكل، والتسبب للذكر والدعاء وقت مظنة الإجابة، وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام"([13]).
ب ـ السحور من خصائص هذه الأمة:
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أَكْلَةُ السحر))([14]).
قال الخطابي: "معنى هذا الكلام: الحث على التسحر، وفيه الإعلام بأنّ هذا الدين يسر لا عسر فيه، وكان أهل الكتاب إذا ناموا بعد الإفطار لم يحل لهم معاودة الأكل والشرب، وعلى مثل ذلك كان الأمر في أول الإسلام، ثم نسخ الله عز وجل ذلك، ورخص في الطعام والشراب إلى وقت الفجر"([15]).
وقال القرطبي: "الفصل: الفرق، وأهل الكتاب: اليهود والنصارى، وهذا الحديث، يدل على أنّ السحور من خصائص هذه الأمة ومما خُفِّف به عنهم"([16]).
ج- صلاة الله عز وجل وملائكته على المتسحرين:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السحور كله بركة؛ فلا تدعوه ولو أن يجْرع أحدكم جرعةً من ماء؛ فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين))([17]).
استحباب تأخيره:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: (تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام إلى الصلاة، قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية)([18]).
قال المهلب: "هذا يدل على تأخير السحور؛ ليتقوى به على الصوم، وإنما كان يؤخره إلى الفجر الأول"([19]).
وقال النووي: "فيه الحث على تأخير السحور إلى قبيل الفجر"([20]).
وقال ابن حجر: "في قوله (قدر خمسين آية) أي متوسطة، لا طويلة ولا قصيرة ولا سريعة ولا بطيئة"([21]).
وقال ابن أبي جمرة: "كان صلى الله عليه وسلم ينظر ما هو الأرفق بأمته فيفعله؛ لأنه لو لم يتسحر لاتبعوه فيشق على بعضهم، ولو تسحر من جوف الليل لشق أيضاً على بعضهم ممن يغلب عليه النوم"([22]).
أفضل السحور:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نعم سحور المؤمن التمر))([23]).
قال الطيبي: "وإنما مدحه في هذا الوقت؛ لأن في نفس السحور بركة، وتخصيصه بالتمر بركة على بركة... ليكون المبدوء به والمنتهى إليه البركة"([24]).
الاقتصاد في طعام السحور:
قال ابن دقيق العيد: "وللمتصوفة وأرباب الباطن كلام تشوفوا فيه إلى اعتبار معنى الصوم وحكمته، وهو كسر شهوة البطن والفرج، وقالوا: إن من لم يتغير عليه عادته من مقدار أكله لا يحصل له المقصود من الصوم، وهو كسر الشهوتين، والصواب ـ إن شاء الله ـ أن ما زاد في المقدار حتى تُعْدم هذه الحكمة بالكلية لا يستحب، كعادة المترفين في التأنّق في المآكل والمشارب وكثرة الاستعداد بها. وما لا ينتهي إلى ذلك فهو مستحب على وجه الإطلاق، وقد يختلف مراتب هذا الاستحباب باختلاف مقاصد الناس وأحوالهم، واختلاف مقدار ما يستعملون"([25]).
إذا سمع النداء والإناء في يده:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه))([26]).(/60)
قال الخطابي: "قلت: هذا على قوله: ((إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم))، أو يكون معناه: أن يسمع الأذان وهو يشك في الصبح، مثل أن تكون السماء مغيمة فلا يقع له العلم بأذانه أن الفجر قد طلع، لعلمه أن دلائل الفجر معه معدومة، ولو ظهرت للمؤذن لظهرت له أيضاً.
فأما إذا علم انفجار الصبح فلا حاجة به إلى أذان الصارخ؛ لأنه مأمور بأن يمسك عن الطعام والشارب إذا تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"([27]).
وقال البيهقي: "وهذا إن صح فهو محمول عند عوام أهل العلم على أنه صلى الله عليه وسلم علم أن المنادي كان ينادي قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر"([28]).
وقت الإمساك:
قال تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} [البقرة:187].
قال قتادة في تفسير الخيط الأبيض والأسود: "هما علمان وحدّان بيِّنان، فلا يمنعكم أذان مؤذن مراء أو قليل العقل من سحوركم، فإنهم يؤذنون بهجيع من الليل طويل، وقد يرى بياض ما على السحر يقال له: الصبح الكاذب، كانت تسميه العرب، فلا يمنعكم ذلك من سحوركم، فإن الصبح لا خفاء به: طريقة معترضة في الأفق، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الصبح، فإذا رأيتم ذلك فأمسكوا"([29]) .
قال الطبري: "اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فقال بعضهم: يعني بقوله: {الْخَيْطُ الأبْيَضُ} ضوء النهار، وبقوله: {الْخَيْطِ الأسْوَدِ} سواد الليل... وقال آخرون: الخيط الأبيض هو ضوء الشمس، والخيط الأسود هو سواد الليل ـ ثم قال ـ: وأولى التأويلين بالآية، التأويل الذي رُوِي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (({الْخَيْطُ الأبْيَضُ} بياض النهار، و{الْخَيْطِ الأسْوَدِ} سواد الليل)). وهو المعروف من كلام العرب"([30]) .
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: لما نزلت {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ} عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: ((إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار))([31]).
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (أنزلت: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ}، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعدُ: {مِنَ الْفَجْرِ}، فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار)([32]).
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: سمعت محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يغرن أحدكم نداء بلال من السحور، ولا هذا البياض حتى يستطير([33])))([34]).
وعن عائشة رضي الله عنها: أن بلالاً كان يؤذن بليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر)).
قال القاسم: "ولم يكن بين أذانهما إلا أن يرقى ذا، وينزل ذا"([35]) .
قال ابن عبد البر: "وفي هذا دليل على أنّ السحور لا يكون إلا قبل الفجر؛ لقوله: ((إن بلالاً ينادي بليل)). ثم منعهم من ذلك عند أذان ابن أم مكتوم، وهو إجماع لم يخالف فيه إلا الأعمش فشذ، ولم يعرج على قوله، والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، على هذا إجماع علماء المسلمين، فلا وجه للكلام فيه"([36]) .
وقال أيضًا: "وقد أجمع العلماء على أن من استيقن الصباح لم يجز له الأكل ولا الشرب بعد ذلك"([37]) .
قال النووي: "في هذه الأحاديث بيان الفجر الذي يتعلق به الأحكام. وهو الفجر الثاني الصادق"([38]) .
وقال أيضًا: "هذا الذي ذكرناه من الدخول في الصوم بطلوع الفجر وتحريم الطعام والشراب والجماع به هو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، قال ابن المنذر: وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعلماء الأمصار، قال: وبه نقول ... وحكى وأصحابنا عن الأعمش وإسحاق بن راهويه أنهما جوّزا الأكل وغيره إلى طلوع الشمس"([39]).
وقال ابن حجر: "من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان، وإطفاء المصابيح التي جعلت علامة لتحريم الأكل على من يريد الصيام، زعماً ممن أحدثه أنه للاحتياط في العبادة، ولا يعلم بذلك إلا آحاد الناس"([40]).
([1]) الصحاح (2/678) مادةسحر.
([2]) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (5/187).
([3]) إحكام الأحكام (2/209).
([4]) رواه البخاري كتاب الصوم، باب بركة السحور من غير إيجاب (1923).
([5]) صحيح البخاري كتاب: الصوم باب: رقم (20).(/61)
([6]) الإجماع (58).
([7]) شرح صحيح مسلم (7/213).
([8]) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (5/188).
([9]) تقدم تخريجه.
([10]) رواه ابن حبان في صحيحه (الإحسان – كتاب الصوم باب السحور (3464)، والطبراني في الكبير (18/322)، وصححه لغيره الألباني في صحيح الترغيب (1068).
([11]) رواه الإمام أحمد (5/270)، والنسائي في الكبرى كتاب الصيام، باب فضل السحور (2472)، وفي المجتبى كتاب الصيام باب فضل السحور (2162)، وحسنه المنذري في الترغيب (1/620) وقال الألباني: صحيح. صحيح الترغيب (1096).
([12]) إحكام الأحكام (2/208).
([13]) فتح الباري (4/140).
([14]) رواه مسلم كتاب الصوم، باب الحث على السحور وتأخيره (1095).
([15]) معالم السنن (2/89).
([16]) المفهم (3/156).
([17]) رواه الإمام أحمد (3/12، 44)، وللجملة الأخيرة منه شاهد من حديث ابن عمر: رواه ابن حبان في صحيحه، كتاب الصوم، باب السحور (3467)، والطبراني في الأوسط (1/99)، وأبو نعيم في الحلية (8/320)، وغيرهم، قال المنذري في الترغيب (1/621): "إسناده قوي"، وحسَّنه بمجموع طرقه الألباني في السلسلة الصحيحة (1654).
([18]) رواه البخاري كتاب الصوم، باب قدركم بين السحور وصلاة الفجر (1921)، ومسلم كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره (1097).
([19]) شرح ابن بطال على البخاري (4/44).
([20]) شرح مسلم (7/208).
([21]) فتح الباري (4/138).
([22]) بهجة النفوس (2/195) بتصرّف.
([23]) رواه أبو داود كتاب: الصيام، باب: من سمى السحور الغداء (2345)، وابن حبان في: صحيحه (الإحسان: كتاب الصوم باب السحور (3475)، والبيهقي في: الكبرى كتاب: الصيام، باب: ما يستحب من السحور (4/237). وصححه الألباني في الصحيحة (562).
([24]) شرح الطيبي على المشكاة (4/157).
([25]) إحكام الأحكام (2/209).
([26]) رواه الإمام أحمد (2/423)، وأبو داود كتاب الصيام، باب الرجل يسمع النداء والإناء على يده (2333)، والحاكم في المستدرك كتاب الصوم (1/426)، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وسكت عنه الذهبي، وصححه الألباني في الصحيحة (1394).
([27]) معالم السنن (2/91).
([28]) السنن الكبرى (4/218).
([29]) رواه الطبري في تفسيره (3/510).
([30]) المرجع السابق (3/509) وما بعدها باختصار.
([31]) رواه البخاري: الصوم، باب {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم...} (1916)، ومسلم: الصيام باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (1090).
([32]) رواه البخاري: الصوم، باب {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم..} (1917).
([33]) رواه مسلم: الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (1094).
([34]) يستطير: ينتشر ويمتد، انظر الصحاح للجوهري (2/728) مادة (طير).
([35]) رواه البخاري: الصوم، باب: لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال (1919).
([36]) التمهيد (10/62).
([37]) المرجع السابق (10/63).
([38]) شرح صحيح مسلم (8/212).
([39]) المجموع (6/324) باختصار.
([40]) فتح الباري (4/199).
ثانيًا: الفطر:
تعريفه: "الفَطْر للصائم، والاسم الفِطْر، والفِطْرُ: نقيضُ الصوم"([1]).
وقال الجوهري: "الفطور: ما يفطر عليه"([2]).
وقت الإفطار:
قال تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} [البقرة:187].
قال الطبري: "وأما قوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} فإنه تعالى ذكره حدّ الصوم بأن آخر وقته إقبال الليل، كما حدّ الإفطار وإباحة الأكل والشرب والجماع وأول الصوم بمجيء أول النهار وأول إدبار آخر الليل. فدل بذلك على أن لا صوم بالليل، كما لا فطر بالنهار في أيام الصوم"([3]).
وقال القرطبي في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ}: "أمر يقتضي الوجوب من غير خلاف، وإلى غاية، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه ... فَشَرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل، كما جوّز الأكل حتى يتبين النهار"([4]).
وقال ابن كثير: "يقتضي الإفطار عند غروب الشمس حكماً شرعياً"([5]).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم))([6]).
قال الخطابي: "قوله: ((فقد أفطر الصائم)) فمعناه أنه قد صار في حكم المفطر وإن لم يأكل، وقيل: معناه أنه قد دخل في وقت الفطر، وحان له أن يفطر، كما قيل: أصبح الرجل، إذا دخل في وقت الصبح، وأمس وأظهر، كذلك"([7]).
وقال النووي: "قال العلماء: كل واحد من هذه الثلاثة يتضمن الآخرين، ويلازمهما؛ وإنما جمع بينها لأنه قد يكون في وادٍ ونحوه، بحيث لا يشاهد غروب الشمس، فيعتمد إقبال الظلام وإدبار الضياء، والله أعلم"([8]).(/62)
قال ابن الملقن: "الإشارة في الأول إلى جهة المشرق وفي الآخر إلى جهة المغرب، وهما متلازمان في الوجود، إذ لا يقبل الليل إلا إذا أدبر النهار"([9]).
وقال أيضا: "يستفاد من الحديث بيان وقت الصوم وتحديده، والرد على أهل الكتاب وغيرهم من الشيعة الذين قالوا: لا يفطر حتى تظهر النجوم، وأن الأمر الشرعي أبلغ من الحسّي، وأن العقل لا يقضي على الشرع، بل هو قاضٍ عليه، حيث جعل دخول الليل فطراً شرعاً"([10]).
وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهو صائم، فلما غابت الشمس قال لبعض القوم: ((يا فلان، قم فاجْدَح([11]) لنا))، قال: إن عليك نهاراً، قال: ((انزل فاجدْح لنا))، قال: يا رسول الله، فلو أمسيت، قال: ((انزل فاجْدح لنا))، قال: إن عليك نهاراً، قال: ((انزل فاجْدح لنا))، فنزل فجدح لهم، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم))([12]).
قال النووي: "معنى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا صياماً، وكان ذلك في شهر رمضان، كما صرّح به في رواية يحيى بن يحيى فلما غربت الشمس أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالجدْح ليفطروا، فرأى المخاطب آثار الضياء والحمرة التي بعد غروب الشمس، فظن أن الفطر لا يحل إلاّ بعد ذهاب ذلك... وتكريره المراجعة لغلبة اعتقاده على أنّ ذلك نهار يحرم فيه الأكل مع تجويزه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى ذلك الضوء نظراً تاماً، فقصد زيادة الإعلام ببقاء الضوء"([13]).
وقال ابن حجر: "في الحديث أيضاً استحباب تعجيل الفطر، وأنه لا يجب إمساك جزء من الليل مطلقاً، بل متى تحقق غروب الشمس حلّ الفطر"([14]).
وقال ابن عبد البر: "من السنة تعجيل الفطر وتأخير السحور، والتعجيل إنما يكون بعد الاستيقان بمغيب الشمس، ولا يجوز لأحد أن يفطر وهو شاكٌ، هل غابت الشمس أم لا؟ لأن الفرض إذا لزم بيقين، لم يخرج عنه إلا بيقين، والله عز وجل يقول: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ}. وأول الليل مغيب الشمس كلها في الأفق عن أعين الناظرين، ومن شك لزمه التمادي حتى لا يشك في مغيبها"([15]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويستحب التعجيل إذا غاب القرص مع بقاء تلك الحمرة الشديدة، ويستدل على مغيبها باسوداد ناحية المشرق، وإذا تيقن أو غلب على ظنه مغيبها جاز له الفطر، وليس عليه أن يبحث بعد ذلك. قاله أصحابنا، فأما مع الشك فلا يجوز له الفطر، والاختيار أن لا يفطر حتى يتيقن الغروب"([16]).
وقال ابن حجر: "من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان... زعماً ممن أحدثه أنه للاحتياط في العبادة... وقد جرّهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون إلاّ بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت زعموا، أخروا الفطور وعجلوا السحور، وخالفوا السنة، فلذلك قلّ عنهم الخير، وكثر فيهم الشر، والله المستعان"([17]).
وأجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، عن سؤال ورد إليها بشأن المسافر بالطائرة، متى يفطر؟ بقولها: "الأصل أن لكل شخص في إمساكه في الصيام وإفطاره وأوقات صلاته حكم الأرض التي هو عليها أو الجو الذي يسير فيه، فمن غربت عليه الشمس في مطار الظهران مثلاً، أفطر وصلّى المغرب، وأقلعت به الطائرة متجهة إلى الغرب، ورأى الشمس بعدُ باقية فلا يلزمه الإمساك، ولا إعادة صلاة المغرب؛ لأنه وقت الإفطار أو الصلاة له حكم الأرض التي هو عليها، وإن أقلعت به الطائرة قبل غروب الشمس بدقائق واستمر معه النهار فلا يجوز له أن يفطر، ولا أن يصلي المغرب حتى تغرب شمس الجو الذي يسير فيه حتى ولو مرّ بسماء بلد أهلها قد أفطروا وصلوا المغرب وهو في سمائها يرى الشمس... وهذا هو مقتضى الأدلة الشرعية، قال تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} [البقرة:187]، وقال: {أَقِمِ الصلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}.
قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم))([18])، ولكن لو نزلوا في مكان قد غربت فيه الشمس صار لهم حكم ذلك المكان في الصوم والصلاة مدة وجودهم فيه([19]).
استحباب تعجيله:
عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر))([20]).
قال ابن عبد البر: "من السنة تعجيل الفطر وتأخير السحور، والتعجيل إنما يكون بعد الاستيقان بمغيب الشمس، ولا يجوز لأحد أن يفطر وهو شاك هل غابت الشمس أم لا؟ لأن الفرض إذا لزم بيقين لم يخرج عنه إلا بيقين"([21]).(/63)
وقال المهلب: "إنّما حضّ عليه السلام على تعجيل الفطر؛ لئلا يزاد في النهار ساعة من الليل، فيكون ذلك زيادة في فروض الله، ولأن ذلك أرفق بالصائم وأقوى له على الصيام"([22]).
وقال القاضي عياض: "ظاهره أنه عليه السلام أشار أن فساد الأمور يتعلق بتغيُّر هذه السنة التي هي تعجيل الفطر، وأن تأخيره ومخالفة السنة في ذلك كالعلم على فساد الأمور"([23]).
عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم))([24]).
قال ابن دقيق العيد: "فيه دليل على الرد على المتشيعة الذين يؤخرون إلى ظهور النجم، ولعل هذا هو السبب في كون الناس لا يزالون بخير ما عجلوا الفطر؛ لأنهم إذا أخروه كانوا داخلين في فعل خلاف السنة، ولا يزالون بخير ما فعلوا السنة"([25]).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون))([26]).
قال الطيبي: "في هذا التعليل دليل على أن قوام الدين الحنفي على مخالفة الأعداء من أهل الكتابين، وأن في موافقتهم ثلماً للدين، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}"([27])[المائدة:51].
قال ابن الملقن: "كون الناس تفعله بخير، وأن الدين لم يزل ظاهراً بتعجيله في الرواية التي ذكرناها لما فيه من إظهار السنة، فإن الخير كله في متابعتها والشر كله في مخالفتها، وكانت الصحابة رضي الله عنهم إذا خُذلوا في أمر فتشوا على ما تركوا من السنة، فإذا وجدوه علموا أن الخذلان إنما وقع بترك تلك السنة، فلا يزال أمر الأمة منتظماً وهم بخير ما حافظوا على سنة تعجيل الفطر، وإذا أخروه كان علامة على فسادٍ يقعون فيه"([28]).
قال ابن حجر: "ظهور الدين مستلزم لدوام الخير"([29]).
عن أبي عطية قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة، فقلنا: يا أم المؤمنين، رجلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ أحدهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة، والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة، قالت: أيهما الذي يعجل الإفطار ويعجل الصلاة؟ قال: قلنا: عبد الله – يعني ابن مسعود – قالت: كذلك كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية زاد: والآخر أبو موسى([30]).
قال الطيبي: "يعني تَمَسّك ابن مسعود بالعزيمة من السنة، وأبو موسى بالرخصة فيها"([31]).
قال القاري - متعقباً كلام الطيبي -: "وهذا إنما يصح لو كان الاختلاف في الفعل فقط، أما إذا كان الخلاف قولياً فيحمل على أن ابن مسعود اختار المبالغة في التعجيل، وأبو موسى اختار عدم المبالغة فيه، وإلاّ فالرخصة متفق عليها عند الكل، والأحسن أن يحمل عمل ابن مسعود على السنة، وعمل أبي موسى على بيان الجواز"([32]).
قال عمرو بن ميمون: "كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إفطاراً، وأبطأ سحوراً"([33]).
الفطر قبل الصلاة:
عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي ([34]).
وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان صائماً لم يصل حتى نأتيه برطب وماء ([35]).
قال محمود خطاب السبكي: "وفي الحديث استحباب تعجيل الفطر قبل صلاة المغرب"([36]).
ما يفطر عليه:
عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء ([37]).
قال ابن العربي: "الحكمة ـ والله أعلم ـ في الفطر على التمر ما فيه من البركة، وأنها أفضل المطعومات، فتعقُبُ ليلاً أفضلَ العبادات في النهار، والماء أفضل المشروبات فيكون بدلها"([38]).
وقال الشوكاني: "وإنما شرع الإفطار بالتمر لأنه حلو، وكل حلو يقوي البصر الذي يضعف الصوم، وهذا أحسن ما قيل في المناسبة وبيان وجه الحكمة، وإذا كانت العلة كونه حلواً، والحلو له ذلك التأثير فيلحق به الحلويات كلها، أما ما كان أشد منه حلاوة فبفحوى الخطاب، وما كان مساوياً له فبلحنه"([39]).
يقول الدكتور قباني في بيان فوائد الفطر على التمر:
"فالصائم يستنفد في نهاره عادة معظم وقود جسده، أي: يستنفد السكر المكتنز في خلايا جسمه، وهبوط نسبة السكر في الدم عن حدها المعتاد هو الذي يسبب ما يشعر به الصائم من ضعف وكسل وزوغان في البصر وعدم قدرة على التفكير والحركة؛ لذا كان من الضروري أن نمدّ أجسامنا بمقدار وافر من السكر ساعة الإفطار، فالصائم المتراخي المتكاسل في أواخر يوم صيامه، تعود إليه قواه سريعاً ويدب النشاط إلى جسمه في أقل من ساعة إذا اقتصر في إفطاره على المواد السكرية ببضع تمرات مع كأس ماء أو كأس حليب، وبعد ساعة يقوم الصائم إلى تناول عشائه المعتاد، ولهذا النمط من الإفطار ثلاث فوائد:(/64)
1- أن المعدة لا ترهق بما يقدم إليها من غذاء دسم وفير، بعد أن كانت هاجعة نائمة طوال ثماني عشرة ساعة تقريباً، بل تبدأ عملها بالتدريج في هضم التمر السهل الامتصاص، ثم بعد نصف ساعة يقدم إليها الإفطار المعتاد.
2- أن تناول التمر أولاً يحد من جشع الصائم، فلا يقبل على المائدة ليلتهم ما عليها بعجلة دون مضغ أو تذوق.
3- أن المعدة تستطيع هضم المواد السكرية من التمر خلال نصف ساعة... فيزول الإحساس بالدوخة والتعب سريعاً"([40]).
هل يقدم الطعام الحلو على الماء عند فقد التمر؟
قال ابن عثيمين: "إذا كان عند الإنسان عسل وماء، فأيهما يقدم الماء أو العسل؟ يقدّم الماء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((فإن لم، فعلى ماء فإنه له طهور)) ولكن لا بأس بأن يشرب الماء ثم يأكل العسل، وعلى كلّ يفطر على الماء مقدماً على غيره، فإن لم يجد ماء ولا شراباً آخر ولا طعاماً ينوى الفطر بقلبه، ويكفي"([41]).
ما يسن من الذكر عند الإفطار:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: ((ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله))([42]).
قال الطيبي: "((ثبت الأجر)) بعد قوله: ((ذهب الظمأ)) استبشار منهم؛ لأن من فاز ببغيته ونال مطلوبه بعد التعب والنصب، وأراد أن يستلذ بما أدركه مزيد استلذاذ ذكر تلك المشقة، ومن ثم حمد أهل السعادة في الجنة بعد ما أفلحوا بقوله: {الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}"([43])[فاطر:34].
وقال القاري: "((وابتلت العروق)) أي: بزوال اليبوسة الحاصلة بالعطش، وقال: ((ثبت الأجر)) أي زال التعب وحصل الثواب، وهذا حث على العبادات، فإن التعب يسير لذهابه وزواله، والأجر كثير لثباته وبقائه"([44]).
التقليل من الطعام وعدم الإسراف:
قال الله تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31].
قال ابن عباس: (أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلة) ([45]).
قال ابن العربي: "والإسراف هو مجاوزة حد الاستواء، فتارة يكون بمجاوزة الحلال إلى الحرام، وتارة يكون بمجاوزة الحد في الإنفاق، فيكون ممن قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27]. وقد يكون الإسراف في الأكل أن يأكل فوق الشبع حتى يؤديه إلى الضرر، فذلك محرم أيضاً"([46]).
وقال القرطبي: "قوله تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُواْ} أي في كثرة الأكل، وعنه يكون كثرة الشرب، وذلك يثقل المعدة، ويثبّط الإنسان عن خدمة ربه، والأخذ بحظه من نوافل الخير. فإن تعدّى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام بالواجب عليه حرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه"([47]).
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلوا واشربوا، وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف ولا مخيلة)) ([48]).
قال المناوي: "وهذا الخير جامع لفضائل تدبير المرء نفسه، والإسراف يضر بالجسد والمعيشة، والخيلاء تضر بالنفس حيث تكسبها العجب، وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس، وبالآخرة حيث تكسب الإثم"([49]).
عن المقدام بن معدي كرب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه))([50]).
قال ابن رجب: "وهذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها... قال الحارث (الطبيب): الذي قتل البريّة، وأهلك السباع في البرية، إدخال الطعام على الطعام قبل الانهضام.
وأما منافع تقليل الطعام بالنسبة إلى القلب وصلاحه، فإن قلة الغذاء توجب رقة القلب، وقوة الفهم، وانكسار النفس، وضعف الهوى، والغضب، وكثرة الغذاء توجب ضد ذلك"([51]).
وقال المباركفوري: "جعل البطن أولاً وعاءً كالأوعية التي تتخذ ظروفاً لحوائج البيت توهيناً لشأنه، ثم جعله شر الأوعية؛ لأنها استعملت فيما هي له، والبطن خلق لأن يتقوّم به الصلب بالطعام، وامتلاؤه يفضي إلى الفساد في الدين والدنيا، فيكون شراً منها"([52]).
وقال محمد بن واسع: "من قلّ طعامه، فهم، وأفهم، وصفا، ورقَّ، وإن كثرة الطعام ليثقل صاحبه عن كثير مما يريد"([53]).
وقال عمرو بن قيس: "إياكم والبطنة فإنها تقسِّي القلب"([54]).
وسئل ابن عثيمين عن الإفراط في إعداد الأطعمة للإفطار، هل يقلّل من ثواب الصوم؟
فأجاب: "لا يقلل من ثواب الصيام، والفعل المحرم بعد انتهاء الصوم لا يقلل من ثوابه، ولكن ذلك يدخل في قوله تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]. فالإسراف نفسه محظور، والاقتصاد نصف المعيشة، وإذا كان لديهم فضل فليتصدقوا به فإنه أفضل"([55]).
تفطير الصائمين:(/65)
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فطَّر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً))([56]).
قال ابن العربي: "إن الله بفضله على الخلق آجرهم على ما ابتلاهم به من الأمر والنهي، لا باستحقاقٍ وجب لهم، ثم زادهم من فضله المضاعفة فيه، ثم زادهم من فضله أنْ جعل للمُعِين عليه لغيره مثل أجره، لا ينقص ذلك من أجره شيئاً... والله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم"([57]).
وقال القاري: "وهذا الثواب لأنه من باب التعاون على التقوى والدلالة على الخير"([58]).
([1]) لسان العرب (10/288) (فطر).
([2]) الصحاح (2/781) (فطر).
([3]) جامع البيان (3/532).
([4]) الجامع لأحكام القرآن (2/327).
([5]) تفسير القرآن العظيم (1/322).
([6]) رواه البخاري في الصوم، باب: متى يحل فطر الصائم؟ (1954)، ومسلم في: الصيام، باب: بيان القضاء وقت الصوم (1100).
([7]) معالم السنن (3/234).
([8]) شرح صحيح مسلم (8/217).
([9]) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (5/313).
([10]) المرجع السابق (5/316).
([11]) قال الخطابي: "الجدْح: أن يخاض السويق بالماء، ويحرك حتى يستوي، وكذلك اللبن ونحوه" (معالم السنن 3/235).
([12]) رواه البخاري في الصوم، باب متى يحل فطر الصائم؟ (1955)، ومسلم في الصيام، باب بيان وقت انقضاء الصوم (1101).
([13]) شرح صحيح مسلم (8/218).
([14]) فتح الباري (4/197).
([15]) التمهيد (21/98).
([16]) شرح العمدة (1/503- الصيام).
([17]) فتح الباري (4/199).
([18]) تقدم تخريجه.
([19]) فتاوى اللجنة الدائمة (10/294، 295، 296).
([20]) رواه البخاري كتاب: الصوم، باب: تعجيل الفطر (1957)، ومسلم كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه (2513) .
([21]) التمهيد (21/97-98).
([22]) شرح ابن بطال على البخاري (4/104).
([23]) إكمال المعلم (4/33).
([24]) رواه ابن خزيمة كتاب الصيام باب ذكر استحسان سنة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم ما لم ينتظر بالفطر (2061)، ومن طريقه ابن حبان في صحيحه (الإحسان / كتاب الصوم باب الإفطار وتعجيله (3510) )، وصححه الألباني في تعليقه على ابن خزيمة.
([25]) إحكام الأحكام (2/232).
([26]) رواه الإمام أحمد (2/450)، وأبو داود في كتاب: الصوم، باب ما يستحب من تعجيل الفطر (2353)، وابن خزيمة كتاب: الصوم، باب: ذكر ظهور الدين ما عجل الناس فطرهم (2060)، وابن حبان في: صحيحه، الإحسان: كتاب: الصوم، باب: ذكر العلة التي من أجلها يستحب للصوام تعجيل الإفطار (3503)، وحسِّنه الألباني في تعليقه على ابن خزيمة.
([27]) شرح الطيبي على المشكاة (4/156).
([28]) الإعلام بفوائد عمدة الإحكام (5/310).
([29]) فتح الباري (4/199).
([30]) رواه مسلم كتاب: الصيام، باب: فضل السحور، واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر (1099).
([31]) شرح الطيبي على المشكاة (4/156).
([32]) مرقاة المفاتيح (4/490).
([33]) رواه عبد الرزاق في: المصنف كتاب: الصوم، باب: تعجيل الفطر (7591)، والفريابي في: كتاب: الصيام، باب: ما يستحب من تعجيل الإفطار وما روي فيه (56)، وصحح إسناده ابن حجر في: الفتح (4/199).
([34]) رواه الإمام أحمد (3/164)، وأبو داود في الصوم، باب: ما يفطر عليه (2339)، والحاكم في الصوم (1/432) وقال: "صحيح على شرط مسلم"، وسكت عنه الذهبي، وحسَّنه الألباني في الإرواء (922).
([35]) رواه ابن خزيمة كتاب: الصوم، باب: استحباب الفطر على الرطب إذا وجد (2065)، وأبو يعلى (3792)، وابن حبان في: صحيحه (الإحسان كتاب الصوم باب الإفطار وتعجيله (3504).
([36]) المنهل العذب المورود (10/79).
([37]) تقدم تخريجه.
([38]) عارضة الأحوذي (3/215).
([39]) نيل الأوطار (4/262).
([40]) الغذاء لا الدواء (126).
([41]) الشرح الممتع (6/442).
([42]) رواه أبو داود في كتاب: الصوم، باب: القول عند الإفطار (2340)، والنسائي في: السنن الكبرى كتاب الصيام، باب: يقول إذا أفطر (3329) والدارقطني في كتاب: الصيام، باب: القبلة للصائم (2/185) وقال: "تفرد به الحسين بن واقد وإسناده حسن"، والحاكم في المستدرك كتاب الصوم (1/422)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين فقد احتجا بالحسين بن واقد ومروان بن المقنع"، والبيهقي في السنن الكبرى كتاب: الصيام، باب ما يقول إذا أفطر (4/239).
([43]) شرح الطيبي على المشكاة (4/155).
([44]) مرقاة المفاتيح (4/488).
([45]) رواه الطبري في جامع البيان (12/394).
([46]) أحكام القرآن (4/207).
([47]) الجامع لأحكام القرآن (7/194).(/66)
([48]) علّقه البخاري في أول كتاب اللباس (5/2181)، ووصله ابن أبي شيبة في "المصنّف"، كتاب اللباس، باب من قال: البس ما شئت ما اخطأه سرف أو مخيلة (5/171)، والإمام أحمد (2/181)، والنسائي في كتاب الزكاة، باب الاختيال في الصدقة (2558)، والحاكم في المستدرك كتاب الأطعمة (4/125)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه".
([49]) فيض القدير (5/46).
([50]) رواه الإمام أحمد (4/132)، والترمذي في كتاب الزهد باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل (2380) وقال: "حسن صحيح"، وابن ماجه في كتاب الأطعمة باب الاقتصاد في الأكل وكراهة الشبع (3349)،وابن حبان في صحيحه (الإحسان)، كتاب الرقائق باب ذكر الأخبار عما يجب على المرء من ترك الفضول في قوته (674)، والحاكم في المستدرك كتاب الصوم (4/331)، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
([51]) جامع العلوم والحكم (2/468) بتصرف يسير.
([52]) تحفة الأحوذي (7/51).
([53]) رواه أبو نعيم في الحلية (2/351).
([54]) رواه أبو نعيم في الحلية (7/36).
([55]) فقه العبادات (ص252) جمع عبد الله الطيار.
([56]) رواه الإمام أحمد (4/114) والترمذي كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل من فطر صائماً (807) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه كتاب الصوم باب في ثواب من فطر صائماً (1746)، وابن حبان في صحيحه (الإحسان كتاب الصوم، باب فضل الصوم، ذكر تفضل الله جل وعلا بإعطاء المفطر مسلماً مثل أجره (3429).
([57]) عارضة الأحوذي (4/21).
([58]) مرقاة المفاتيح (4/487).
ليلة القدر
1- سبب تسميتها:
اختلف العلماء في سبب تسميتها بليلة القدر على أقوال:
القول الأول: لأن الله تعالى يقدّر فيها الأرزاق والآجال وما هو كائن.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال، حتى الحُجّاج. يقال: يحج فلان، ويحج فلان".
وقال الحسن ومجاهد وقتادة: "يبرم في ليلة القدر في شهر رمضان كل أجل وعمل وخلق ورزق، وما يكون في تلك السنة"([1]).
القول الثاني: أنها مأخوذة من عِظَم القدر والشرف والشأن كما تقول: فلانٌ له قدرٌ([2]).
القول الثالث: لأنها تكسب من أحياها قدراً عظيماً لم يكن له قبل ذلك، وتزيده شرفاً عند الله تعالى([3]).
القول الرابع: سميت بذلك لأنّ العمل فيها له قدرٌ عظيمٌ.
عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3].
قال: "عملها وصيامها وقيامها خيرٌ من ألف"([4]).
وعن عمرو بن قيس الملائي قال: "عملٌ فيها خيرٌ من عمل ألف شهر"([5]).
قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان:3].
وقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1].
القول الخامس: سميت بذلك لأن الله تعالى قدّر فيها إنزال القرآن([6]).
القول السادس: لأنها ليلة الحكم والفصل .
عن مجاهد قال: "ليلة القدر ليلة الحكم"([7]).
وقال النووي: "وسميت ليلة القدر، أي ليلة الحكم والفصل. هذا هو الصحيح المشهور"([8]).
([1]) انظر: تفسير البغوي (7/227-228)، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم (8/213) وفضائل الأوقات للبيهقي (ص213).
([2]) تفسير البغوي (8/485).
([3]) انظر: المصدر السابق .
([4]) تفسير الطبري (24/533)، وانظر شرح الصدر بذكر ليلة القدر للحافظ العراقي (ص17-18).
([5]) انظر: المصدر السابق.
([6]) تفسير القرآن للعزّ بن عبد السلام (3/473).
([7]) انظر: تفسير الطبري (12/652) ط دار الكتب العلميّة.
([8]) المجموع شرح المهذب (6/447).
2- فضلها:
1/2 أنها خيرٌ من ألف شهر:
قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3].
قال مجاهد: "عملها وصيامها وقيامها خيرٌ من ألف شهر"([1]).
وقال عمرو بن قيس الملائي: "عملٌ فيها خيرٌ من عمل ألف شهر"([2]).
وعن قتادة قال: "خيرٌ من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر"([3]).
قال الدكتور عبد الرحمن حبنكة: "وألف شهر تعادل ثلاثاً وثمانين سنة وثلث السنة، وهذا عمرٌ قلَّ من الناس من يبلغه، فكيف بمن يعبد الله فيه، وهو لا يعبد إلاّ مميزًا على أقل تقدير"([4]).
2/2 نزول الملائكة والروح فيها:
قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ} [القدر:4].
قال البغوي: "قوله عز وجل: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} يعني جبريل عليه السلام معهم {فِيهَا} أي: ليلة القدر {بِإِذْنِ رَبّهِم} أي: بكل أمرٍ من الخير والبركة"([5]).
قال الحافظ ابن كثير: "أي: يكثر تنزّل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزّل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحِلَقِ الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدقٍ تعظيماً له"([6]).
3/2 أنها سلام إلى مطلع الفجر:
قال تعالى: {سَلَامٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:5].(/67)
عن مجاهد في قوله: {سَلَامٌ هِىَ} قال: "سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً أو يعمل فيها أذى"([7]).
قال أبو المظفر السمعاني: "وقوله: {سَلَامٌ هِىَ} فيه قولان:
أحدهما: أن المراد منه تسليم الملائكة على من يذكر الله تعالى في تلك الليلة([8]).
والقول الثاني: {سَلَامٌ} أي سلامة، والمعنى أنه لا يعمل فيها داء ولا سحر ولا شيء من عمل الشياطين والكهنة"([9]).
وقال ابن الجوزي: "... وفي معنى السلام قولان:
أحدهما: أنه لا يحدث فيها داء ولا يُرسَل فيها شيطان، قاله مجاهد.
والثاني: أن معنى السلام: الخير والبركة، قاله قتادة، وكان بعض العلماء يقول: الوقف على {سَلَامٌ}، على معنى تنزّل الملائكة بالسلام"([10]).
4/2 من قامها إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه))([11]).
قال ابن بطال: "ومعنى قوله: ((إيماناً واحتساباً)) يعني مُصدِّقاً بفرض صيامه، ومصدقاً بالثواب على قيامه وصيامه، ومحتسباً مريداً بذلك وجه الله، بريئاً من الرياء والسمعة، راجياً عليه ثوابه"([12]).
قال النووي: "معنى إيماناً: تصديقاً بأنّه حق، مقتصد فضيلته، ومعنى احتساباً: أن يريد الله تعالى وحده، لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص، والمراد بالقيام: صلاة التراويح، واتفق العلماء على استحبابها"([13]).
5/2 تقدير الأرزاق والآجال والمقادير فيها:
قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ C فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:3، 4].
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن الرجل ليمشي في الناس وقد رُفع في الأموات)، ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ C فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} قال: (يفرق فيها أمر الدنيا من السنة إلى السنة)([14]).
وقال أبو عبد الرحمن السلمي في الآية: "يُدَبِّر أمر السنة في ليلة القدر"([15]).
وقال مجاهد: "كنا نحدّث أنه يفرق فيها أمر السنة إلى السنة"([16]).
ونقل القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنه: "يحكم الله أمر الدنيا إلى قابل في ليلة القدر ما كان من حياة أو موت أو رزق، وقاله قتادة ومجاهد والحسن وغيرهم، وقيل: إلا الشقاء والسعادة فإنهما لا يتغيران ؛ قاله ابن عمر"([17]).
واختُلف في الليلة المراد بها في الآية على قولين:
القول الأول: أنها ليلة القدر. وهو قول ابن عباس([18])، وأبي عبد الرحمن السلمي([19])، وقتادة([20])، ومجاهد([21])، والحسن البصري([22]).
القول الثاني: أنها ليلة النصف من شعبان. وهو مروي عن عائشة([23])، وعكرمة([24]).
الترجيح:
قال ابن جرير الطبري: "وأولى القولين بالصواب قول من قال: ذلك ليلة القدر؛ لما تقدم من بياننا عن أن المعنيّ بقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان:3]. ليلة القدر، والهاء في قوله: {فِيهَا} من ذكر الليلة المباركة"([25]).
وقال الحافظ ابن كثير: "... ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان كما رُوي عن عكرمة فقد أبعد النُجعة، فإنّ نص القرآن أنّها في رمضان. والحديث الذي رواه عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل عن الزهري أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إنّ الرجل لينكح ويولد له، وقد أخرج اسمه في الموتى))([26])، فهو حديث مرسل، ومثله لا يعارض به النصوص"([27]).
([1]) انظر تفسير الطبري (24/533).
([2]) المصدر السابق.
([3]) المصدر السابق.
([4]) الصيام ورمضان في السنة والقرآن لعبد الرحمن حسن حبنكه (ص183).
([5]) تفسير البغوي (8/491).
([6]) تفسير ابن كثير (4/568).
([7]) تفسير ابن أبي حاتم (10/3453)، وانظر: تفسير ابن كثير (4/568).
([8]) تفسير القرآن لأبي المظفّر السمعاني (6/262).
([9]) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (4/1964).
([10]) زاد المسير لابن الجوزي (8/287).
([11]) رواه البخاري (1/28) كتاب الإيمان باب قيام ليلة القدر من الإيمان رقم (35)، ومسلم (1/235)، واللفظ له، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح رقم (759).
([12]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/59).
([13]) شرح صحيح مسلم للنووي (6/39). وانظر: إكمال المعلم للقاضي عياض (3/112).
([14]) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (22/10) وعبد الله بن أحمد في السنة (2/407). وانظر الدرّ المنثور (5/739).
([15]) رواه الطبري في تفسيره (22/9).
([16]) المصدر السابق.
([17]) تفسير القرطبي (16/126).
([18]) تفسري ابن أبي حاتم (10/3287) وانظر الدر المنثور (5/738) ومعاني القرآن للنحاس (6/396-397).(/68)
([19]) تفسير الطبري (22/9).
([20]) تفسير الطبري (22/9).
([21]) تفسير الطبري (22/9).
([22]) تفسير الطبري (22/8).
([23]) انظر: الدرّ المنثور (5/740).
([24]) تفسير الطبري (22/10) وابن أبي حاتم (10/3287) والبغوي (7/228).
([25]) تفسير الطبري (22/10-11).
([26]) رواه الطبري في تفسيره (22/10) والبيهقي في شعب الإيمان (7/422-423).
([27]) تفسير ابن كثير (4/138).
3- رفع تعيينها:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكفت مع النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان، فخرج صبيحة عشرين فخطبنا، وقال: ((إنّي رأيت ليلة القدر ثم أُنسيتها ـ أو نسيتها ـ فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر، وإنّي رأيت أنّي أسجد في ماء وطين، فمن كان اعتكف معي فليرجع))، فرجعنا، وما نرى في السماء قزعة، فجاءت سحابةٌ فمطرت حتى سال سقف المسجد، وكان من جريد النخل، وأقيمت الصلاة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين، حتى رأيت أثر الطين في جبهته([1]).
قال بدر الدين العيني عند قوله: ((نسيتها)): "والمعنى أنّه أنسي علم تعيينها في تلك السنة، وقال الكرماني: فإن قلتَ: إذا جاز النسيان في هذه المسألة جاز في غيرها فيفوت منه التبليغ إلى الأمة. قلتُ: نسيان الأحكام التي يجب عليه التبليغ لها لا يجوز، ولو جاز ووقع لذكّره الله تعالى"([2]).
([1]) رواه البخاري (2/62-63) كتاب فضل ليلة القدر باب التماس ليلة القدر رقم (2016).
([2]) عمدة القاري (11/133) باختصار.
4- سبب رفع تعيينها:
1/4 تلاحي([1]) اثنين من أصحاب:
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: ((خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فَرُفِعَتْ، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة))([2]).
2/4 إيقاظ أهل النبي صلى الله عليه وسلم له:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((أُرِيتُ ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر([3])))([4]).
قال الحافظ ابن حجر: "وفي رواية أبي نضرة عن أبي سعيد عند مسلم: ((فجاء رجلان يختصمان، معهما الشيطان))([5]). ـ إلى أن قال ـ وروى مسلم أيضاً عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أُرِيتُ ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها)).
وهذا سبب آخر، فإما أن يُحمل على التعدّد بأن تكون الرؤيا في حديث أبي هريرة مناماً، فيكون سببُ النسيان: الإيقاظ، وأن تكون الرؤية في حديث غيره في اليقظة، فيكون سبب النسيان: ما ذكر من المخاصمة.
أو يحمل على اتحاد القصة، ويكون النسيان وقع مرتين عن سببين.
ويحتمل أن يكون المعنى: أيقظني بعض أهلي فسمعت تلاحي الرجلين، فقمت لأحجز بينهما فنسيتها للاشتغال بهما.
وقد روى عبد الرزاق من مرسل سعيد بن المسيّب أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بليلة القدر؟ قالوا: بلى، فسكت ساعة، ثم قال: لقد قلت لكم وأنا أعلمها، ثم أُنسيتها))([6]). فلم يذكر سبب النسيان، وهو مما يقوّي الحمل على التعدّد"([7]).
([1]) التلاحي: المنازعة والمشاتمة. قال ابن منظور: تلاحى الرجلان تشاتما. انظر: لسان العرب (12/259-مادة لحا).
([2]) رواه البخاري (2/64)كتاب فضل ليلة القدر باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس رقم (2023) مادة: لحا .
([3]) قال ابن الأثير في النهاية (3/337) : "أي البواقي".
([4]) رواه مسلم (2/824) كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر رقم (1166).
([5]) رواه مسلم (2/827) كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر رقم (1167).
([6]) مصنف عبد الرزاق (4/249).
([7]) فتح الباري (4/315).
5- أقوال العلماء في تعيينها:
اختلف العلماء في تعيين ليلة القدر على أقوال كثيرة، حتى أوصلها الحافظ في (الفتح) إلى ستةٍ وأربعين قولاً، واحتمالين([1]).
كما أوصلها الحافظ ولُّي الدين العراقي إلى خمسة وعشرين قولاً([2]).
وأوصلها بعض المعاصرين إلى أكثر من ستين قولاً([3]).
قال أبو العباس القرطبي بعدما ذكر بعض هذه الأقوال: "وهذه الأقوال كلها للسلف والعلماء، وسبب اختلافهم اختلاف الأحاديث كما ترى"([4]).
وهذه بعض أقوالهم:
القول الأول: أنّها ممكنة في جميع السنة. وهو قول ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وغيرهم. وهو قولٌ للحنفية([5]).
ومأخذُ ابن مسعود: لئلا يتكل الناس، كما بيَّن ذلك أُبيّ بن كعب([6]).
القول الثاني: أنها مختصة برمضان، ممكنةٌ في جميع لياليه. وهو قول أبي هريرة([7])، وابن عباس([8])، وأبي ذر([9])، والحسن البصري([10])، وهو قول أبي حنيفة، وابن المنذر، وبعض الشافعية، ورجحه السبكي([11]).
القول الثالث: أنها أول ليلة من رمضان. وهو قول أبي رزين العقيلي لقيط بن عامر([12]).(/69)
القول الرابع: أنها ليلة سبع عشرة. ورُوي ذلك عن زيد بن أرقم أنّه قال: "ما أشك وما أمتري أنها ليلة أنزل القرآن، ويوم التقى الجمعان"([13]). وقد أمر ابن مسعود بتحريها في تلك الليلة([14]).
القول الخامس: أنها أول ليلة من العشر الأخير. وإليه مال الشافعي، وجزم به جماعة من الشافعية([15]).
القول السادس: أنها ليلة ثلاث وعشرين. وهو قول ابن عباس([16])، وبلال([17])، وعائشة وكانت توقظ أهلها([18])، وأنيس الجهني([19])، وابن المسيّب([20]).
القول السابع: أنها ليلة أربع وعشرين. وهو قولٌ لابن عباس([21]).
القول الثامن: أنها ليلة تسع وعشرين. وهو مرويٌ عن أبي هريرة وغيره([22]).
القول التاسع: أنها ليلة سبع وعشرين. وهو قول جمع من الصحابة منهم أبي بن كعب([23])، وأنس بن مالك([24])، وإليه ذهب زر بن حبيش([25]).
قال الحافظ ابن حجر: "القول الحادي والعشرين: أنها ليلة سبع وعشرين. وهو الجادّة من مذهب أحمد، ورواية عن أبي حنيفة، وبه جزم أبي كعب، وحلف عليه، كما أخرجه مسلم"([26]).
وعن زر بن حبيش عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال أُبيّ في ليلة القدر: (والله إني لأعلمها، وأكبر علمي هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، وهي ليلة سبع وعشرين)([27]).
الترجيح:
ولعل أرجح الأقوال فيها أنها في العشر الأواخر من رمضان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إني أُريت ليلة القدر ثم أنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر))([28]).
وقد نُقل إجماع الصحابة على هذا؛ فقد روى عبد الرزاق في مصنّفه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "دعا عمر بن الخطاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ليلة القدر، فأجمعوا أنها في العشر الأواخر..." ([29]).
ويستحب تحرّيها في الأوتار من العشر الأواخر، كليلة الحادي والعشرين، والثالث والعشرين، والخامس والعشرين، والسابع والعشرين، والتاسع والعشرين ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر))([30])، وقولِه صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان))([31])، وقولِه: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى))([32])، وقولِه: ((هي في العشر الأواخر، في تسع يمضين أو في سبع يبقين))([33]).
قال ابن بطال: "وإنّما يصح معناه وتُوافِق ليلة القدر وتراً من الليالي على ما ذُكِر في الحديث: إذا كان الشهر ناقصاً، فأما إن كان كاملاً فإنها لا تكون إلا في شفع، فتكون التاسعة الباقية: ثنتين وعشرين، والخامسة الباقية: ليلة ست وعشرين، والسابعة الباقية: ليلة أربع وعشرين على ما ذكره البخاري عن ابن عباس، فلا تصادف واحدة منهن وتراً، وهذا يدل على انتقال ليلة القدر كل سنة في العشر الأواخر من وتر إلى شفع، ومن شفع إلى وتر، لأنّ النبي عليه السلام لم يأمر أمته بالتماسها في شهر كامل دون ناقص، بل أطلق طلبها في جميع شهور رمضان التي قد رتبها الله مرّة على التمام، ومرةً على النقصان، فثبت انتقالها في العشر الأواخر وكلّها على ما قاله أبو قلابة"([34]).
وهي في ليلة السابع والعشرين آكد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة))([35]).
ولحلف أبيّ بن كعب رضي الله عنه على ذلك.
قال الحافظ ابن حجر: "وأرجاها أوتار العشر، وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين على ما في حديث أبي سعيد وعبد الله بن أنيس، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين"([36]).
([1]) انظر: فتح الباري (4/309-313).
([2]) انظر :كتاب شرح الصدر بذكر ليلة القدر (ص25-42).
([3]) انظر: كتاب سطوع البدر بفضائل ليلة القدر لإبراهيم الحازمي (ص69-111).
([4]) المفهم للقرطبي (3/251).
([5]) انظر: فتح الباري (4/309).
([6]) رواه مسلم (2/828) كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر رقم (762).
([7]) رواه عبد الرزاق في مصنفه (4/255).
([8]) مصنف عبد الرزاق (4/255).
([9]) مصنف عبد الرزاق (4/255).
([10]) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/490).
([11]) انظر: فتح الباري (4/310).
([12]) انظر: فتح الباري (4/310).
([13]) رواه ابن أبي شيبة (2/489). ووقع في "مطبوعة المصنّف" أنها ليلة (تسع عشرة) والتصحيح من فتح الباري (4/310)، كما أنّ معركة بدر كانت في السابع عشر من رمضان، قال الهيثمي في مجمع الزائد (3/170): "رواه الطبراني في الكبير، وفيه حوط العبدي قال البخاري عنه: حديثه منكر".
([14]) رواه عبد الرزاق في مصنفه (4/252).
([15]) انظر: فتح الباري (4/310).
([16]) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/488). وكان يرشّ على أهله الماء: (2/490).
([17]) ابن أبي شيبة (2/489).
([18]) ابن أبي شيبة (2/490) وعبد الرزاق (4/251).
([19]) رواه عبد الرزاق في مصنفه (4/250-251).
([20]) عبد الرزاق (4/249).(/70)
([21]) رواه البخاري (4/64) كتاب الصوم باب تحري ليلة القدر رقم (2022).
([22]) رواه ابن خزيمة في صحيحه (3/332) جماع أبواب ذكر الليالي التي كان فيها ليلة القدر باب كثرة الملائكة في الأرض، رقم (2194).
([23]) رواه ابن أبي شيبه مصنفه (2/489) وعبد الرزاق (4/252-253). ومسلم – كما سيأتي -.
([24]) رواه ابن أبي شيبة (2/490).
([25]) رواه عبد الرزاق (4/253).
([26]) فتح الباري (4/311).
([27]) رواه مسلم (2/828) كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر رقم (762).
([28]) رواه البخاري (2/62-63) كتاب فضل ليلة القدر، باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2016) ومسلم (2/824) كتاب الصيام باب فضل ليلة الوتر رقم (1167).
([29]) رواه عبد الرزاق في مصنفه (4/246) والمروزي في مختصر قيام رمضان (ص123-124)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/348): "رواه البزار ورجاله ثقات".
([30]) رواه البخاري (2/62-63) كتاب فضل ليلة القدر باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2016)، ومسلم (2/824) كتاب الصيام باب فضل ليلة الوتر رقم (1167).
([31]) رواه البخاري (2/63) كتاب فضل ليلة القدر باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر رقم (2017).
([32]) رواه البخاري (2/64)كتاب فضل ليلة القدر باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر رقم (2021).
([33]) المصدر السابق رقم (2022).
([34]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (3/156) .
([35]) رواه البخاري (2/64) كتاب فضل ليلة القدر باب رفع ليلة القدر رقم (2023)، ومسلم (2/827) وهذا لفظه كتاب الصيام باب: فضل ليلة القدر رقم (1167).
([36]) فتح الباري (4/413).
6- هل تنتقل من ليلة إلى أخرى باختلاف السنين؟
اختلف العلماء في هذا على قولين:
القول الأول: أنها تنتقل فتكون سنةً في ليلة، وسنةً في ليلةٍ أخرى.
وإليه ذهب مالك، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور.
قال الحافظ العراقي: "وذهب جماعة من العلماء إلى أنها تنتقل فتكون سنةً في ليلةٍ وسنة في ليلة أخرى وهكذا، وهذا قول مالك، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وغيرهم"([1]).
وبه قالت الحنفية([2])، وهو قولٌ عن للشافعية([3]).
القول الثاني: أنّها في ليلةٍ واحدة بعينها لا تنتقل. وهو مذهب ابن حزم، وبعض الشافعية.
قال أبو محمد بن حزم: "ليلة القدر في شهر رمضان، خاصة في العشر الأواخر، خاصة في ليلةٍ واحدةٍ بعينها لا تنتقل أبداً، إلا أنه لا يدري أحدٌ من الناس أي ليلةٍ هي من العشر المذكورة، إلاّ أنها في وتر منها ولا بدّ"([4]).
مناقشة القولين:
ولعل القول الأول هو الراجح لتضافر الأدلة على انتقالها، ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في سجود النبي صلى الله عليه وسلم على الماء والطين، قال أبو سعيد: "مُطرنا ليلة إحدى وعشرين فوكف المسجد في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح، ووجهه مبتلٌ طيناً وماءً"([5]).
ولحديث عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأُراني صبحَها أسجد في ماء وطين))، قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرف، وإنّ أثر الماء والطين على جبهته وأنفه([6]).
قال الحافظ ابن حجر: "وأرجحها كلها أنها في وترٍ من العشر الأخير، وأنها تنتقل، كما يُفهم من أحاديث هذا الباب"([7]).
([1]) كتاب شرح الصدر (ص41).
([2]) انظر إعانة الطالبين (2/256).
([3]) انظر فتاوى الإمام النووي (ص55)، والمجموع (6/459)، وفتح الباري (4/313).
([4]) المحلى (6/446). وانظر لقول الشافعية: حاشية البجيرمي (2/93) وحاشية الشرواني (2/478).
([5]) رواه مسلم (4/824) كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر رقم (1167).
([6]) رواه مسلم (2/827) كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر رقم (1168).
([7]) فتح الباري (4/413).
7- الحكمة في رفع العلم بها وعدم تعيينها:
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: ((خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم..)) الحديث([1]).
قال البيهقي: "قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمها في الابتداء، غير أنه لم يكن مأذوناً له في الإخبار بها؛ لئلا يتكلوا على علمها فيُحْيُوها دون سائر الليالي، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أنسيها؛ لئلا يسأل عن شيء من أمر الدين فلا يخبر به"([2]).
قال الحافظ ابن حجر: "قوله: ((فعسى أن يكون خيراً)) فإن وجه الخيرية من جهة أن خفاءها يستدعي قيام كل الشهر، أو العشر، بخلاف ما لو بقيت معرفة تعيينها"([3]).(/71)
وقال أيضاً: "قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عُيِّنت لها ليلةٌ لاقتُصِر عليها، كما تقدم نحوه في ساعة الجمعة، وهذه الحكمة مُطَّرِدة عند من يقول: إنها في جميع السنة، وفي جميع رمضان، أو في جميع العشر الأخير، أو في أوتاره خاصة، إلا أنّ الأول ثم الثاني أليق"([4]).
([1]) رواه البخاري (2/64) كتاب فضل ليلة القدر باب رفع معرفة ليلة القدر رقم (2023).
([2]) فضائل الأوقات للبيهقي (ص244).
([3]) فتح الباري (4/314).
([4]) المصدر السابق (4/313).
8- علاماتها:
1- عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه، وقيل له: إنّ عبد الله بن مسعود يقول: من قام السنة أصاب ليلة القدر، فقال أبيّ: والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان، ووالله إني لأعلم أي ليلةٍ هي، هي الليلة التي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلة صبيحة سبع وعشرين، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها([1]).
قال القاضي عياض: في تفسير قول أبيّ:
"يحتمل وجهين:
أحدهما: أن هذه الصفة اختصت بعلامةِ صبيحةِ الليلةِ التي أنبأهم النبي صلى الله عليه وسلم أنها ليلة القدر، وجعلها دليلاً لهم عليها في ذلك الوقت، لا أن تلك الصفة مختصة بصبيحة كل ليلة قدر، كما أعلمهم أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين.
والثاني: أنها صفة خاصة لها، وقيل في ذلك: لما حجبها من أشخاص الملائكة الصاعدة إلى السماء، الذي أخبر الله بتنزيلهم تلك الليلة حتى يطلع الفجر، والله أعلم"([2]).
([1]) رواه مسلم (1/525) كتاب صلاة المسافرين باب الترغيب في قيام رقم (761).
([2]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/116).
9 - ما يستحب فيها من أعمال:
1/9 صلاة التراويح([1]):
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه)([2]).
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة رضي الله عنها: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً . فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال: ((يا عائشة، إن عيني تنامان، ولا ينام قلبي))([3]).
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سأل رجلٌ النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: ما ترى في صلاة الليل؟ قال: ((مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح صلى واحدةً فأوترت له ما صلّى))([4]).
وأكمل الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم في عددها وكيفيّتها، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها، وغيرهِ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "نفس قيام رمضان لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عدداً معيناً، بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يطيل الركعات، فلما جمعهم عمر على أبيّ بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة، ثم يوتر بثلاث، وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد من الركعات. لأن ذلك أخفّ على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة، ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة، ويوترون بثلاث، وآخرون قاموا بست وثلاثين، وأوتروا بثلاث، وهذا كله سائغ، فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه، فقد أحسن.
والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام، فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين، فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين، وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك، ولا يكره شيء من ذلك. وقد نصّ على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره"([5]).
2/9 الدعاء بما أرشد صلى الله عليه وسلم إليه: ((اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عنا)):
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: أرأيتَ إن علمتُ أي ليلةٍ ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: ((اللهم إنك عفوٌ كريم تحب العفو فاعف عني))([6]).
3/9 الاعتكاف:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان ([7]).
قال الإمام البخاري: "باب الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلها...".
قال الحافظ ابن حجر: "قال أبو داود عن أحمد: لا أعلم عن أحدٍ من العلماء خلافاً أنه مسنون"([8]).
4/9 الاجتهاد في إحيائها بالعبادة، وإيقاظ الأهل لذلك:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله ([9]).(/72)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكذلك قيام الليالي جميعها، كالعشر الأخير من رمضان، أو قيام غيرها أحياناً، فهذا مما جاءت به السنن، وقد كان الصحابة يفعلونه فثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان شدّ المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا ليله كله"([10]).
وقال القسطلاني: "وجزم عبد الرزاق بأن شدّ مئزرِه هو اعتزاله النساء، وحكاه عن الثوري، وقال الخطابي: يحتمل أن يراد به الجدّ في العبادة كما يقال: شددت لهذا الأمر مئزري، أي: تشمرت له، ويحتمل أن يراد به التشمير والاعتزال معاً، ويحتمل أن يراد به الحقيقة والمجاز، فيكون المراد: شدّ مئزره حقيقة فلم يحلّه، واعتزالَ النساء وتشمّر للعبادة.
وقوله: ((وأحيا ليله)) أي: سهره، فأحياه بالطاعة، وأحيا نفسه بسهره فيه ؛ لأن النوم أخو الموت، وأضافه إلى الليل اتساعاً، لأن النائم إذا حيي باليقظة حيي ليله بحياته، وهو نحو قوله: لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، أي: لا تناموا فتكونوا كالأموات فتكون بيوتكم كالقبور.
فقد كان صلى الله عليه وسلم يخصّ العشر الأخير بأعمالٍ لا يعملها في بقيّة الشهر، فمنها إحياء الليل، فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله، ويحتمل أن تريد – يعني عائشة - بإحياء الليل غالبِهُ"([11]).
5/9 الاغتسال والتطيب والتزيّن:
وقد ورد هذا عن بعض السلف.
قال الحافظ ابن رجب: "كان النخعي يغتسل في العشر كله، ومنهم من كان يغتسل ويتطيّب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر، وأمر زرّ بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع وعشرين من رمضان.
ورُوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيّب ولبس حلّة إزاراً ورداءً، فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل.
وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين، وأربع وعشرين، ويلبس ثوبين جديدين، ويستجمر([12])، ويقول: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة أهل المدينة، والتي تليها ليلتنا، يعني البصريين.
وعن حماد بن سلمة: كان ثابت البناني، وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيّبان، ويطيّبون المسجد بالنضوح والدخنة([13]) في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر.
فتبيّن بهذا أنه يستحبّ في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظّف والتزيّن، والتطيّب بالغسل والطيب واللباس الحسن، كما يشرع ذلك في الجُمع والأعياد، وكذلك يُشرع أخذ الزينة بالثياب في سائر الصلوات، كما قال تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، وقال ابن عمر: (الله أحق أن يتزيّن له)، ورُوي عنه مرفوعاً ([14]).
ولا يَكْمُل التزيُّنُ الظاهر إلاّ بتزيين الباطن ؛ بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى، وتطهيره من أدناس الذنوب وأوضارها ؛ فإن زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئاً"([15]).
([1]) قال الحافظ ابن حجر في سبب تسميتها بالتراويح: "لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين" فتح الباري (4/294).
([2]) رواه البخاري (2/62) كتاب فضل ليلة القدر باب فضل ليلة القدر رقم (2014) ومسلم (1/524) كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح رقم (760).
([3]) رواه البخاري (2/61) كتاب صلاة التراويح باب فضل من قام رمضان رقم (2013). ومسلم (1/509) كتاب صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعا ت النبي صلى الله عليه وسلم رقم (738).
([4]) رواه البخاري (1/168) كتاب الصلاة باب الحلق والجلوس في المسجد رقم (472) ومسلم (1/516) كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب صلاة الليل مثنى مثنى رقم (749).
([5]) مجموع الفتاوى (22/272).
([6]) رواه الترمذي (5/534) كتاب الدعوات، باب حدثنا يوسف بن عيسى رقم (3513). وابن ماجه (2/1265) كتاب الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية. وأحمد في المسند (6/171، 182، 183). والحاكم (1/530)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ولم يتعقبه الذهبي.
([7]) رواه البخاري (2/65) كتاب الاعتكاف باب الاعتكاف في العشر الأواخر رقم (2025) ومسلم (2/830) كتاب الاعتكاف باب اعتكاف العشر الأواخر رقم (1171).
([8]) فتح الباري (4/320).
([9]) رواه البخاري (2/64) كتاب فضل ليلة القدر باب العمل في العشر الأواخر من رمضان رقم (2024) ومسلم (2/732) كتاب الاعتكاف باب الاجتهاد وفي العشر الأواخر من شهر رمضان رقم (1174).
([10]) مجموع الفتاوى (22/304).
([11]) المواهب اللدنية (4/393-394) باختصار.
([12]) مِن: الجَمْر ، والمراد: يتطيّب بالبخور.
([13]) النضوح: نوع من الطيب تفوح رائحته، والدُّخنة: ما يُتبخّر به من الطيب.
([14]) رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر ولفظه: "إذا صلى أحدكم فليصل في ثوبين، فإن لم يكن عليه ثوب فليتزر به، ثم ليصل، ولا تشتملوا اشتمال اليهود، فإن الله أحق أن يتزيّن له" (8/29-30) . وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/51): إسناده حسن.(/73)
([15]) لطائف المعارف (ص346-347).
الحث على قيام رمضان وما يتعلق به من أحكام وآداب
أولاً: قيام الليل عموماً:
أ. الآيات:
1- قال تعالى: { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64].
قال سعيد بن جبير: "يعني يصلون بالليل"([1]).
وقال ابن جرير: "والذين يبيتون لربهم يصلون لله، يراوحون بين سجودٍ في صلاتهم وقيام"([2]).
وقال السيوطي: "ينتصبون لله على أقدامهم، ويفترشون وجوههم سجداً لربهم، تجري دموعهم على خدودهم خوفاً من ربهم".
قال الحسن: لأمرٍ ما سهر ليلهم، ولأمر ما خشع نهارهم"([3]).
2- وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16].
قال الحسن: "يعني قيام الليل"([4]).
وقال مجاهد: "يقومون يصلون من الليل"([5]).
وقال ابن كثير: "يعني بذلك قيام الليل، وترك النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة"([6]).
3- وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
قال ابن عباس: "من أحب أن يهوِّن الله عليه الوقوف يوم القيامة، فليره الله في ظلمة الليل ساجداً أو قائماً يحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه"([7]).
وقال ابن كثير: "قال ابن عباس والحسن والسُدّي وابن زيد آناء الليل جوف الليل"([8]).
4- وقال تعالى: {كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ Q وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17، 18].
قال الحسن: "كابدوا قيام الليل"([9]).
وقال أيضاً: "مدوا في الصلاة ونشطوا حتى كان الاستغفار بسحر"([10]).
وقال القرطبي: "{كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} أي: ينامون قليلاً من الليل ويصلون أكثره"([11]).
ب. الأحاديث:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام، بعد رمضان، شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة، بعد الفريضة، صلاة الليل)) ([12]).
قال النووي: "فيه دليل لما اتفق العلماء عليه أن تطوع الليل أفضل من تطوع النهار"([13]).
2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتمنَّيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت غلاماً شاباً، وكنت أنامُ في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني، فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أُناسٌ قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، قال: فلقينا ملك آخر فقال لي: لم تُرَع. فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((نِعْم الرجل عبد الله لو كان يُصلي من الليل، فكان بعدُ لا ينام من الليل إلا قليلاً)) ([14]).
قال ابن حجر: "شاهد الترجمة قوله: ((نِعْم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل)) فمقتضاه أن من كان يصلي من الليل يوصف بكونه نعم الرجل"([15]).
وقال أيضاً: وفي الحديث تنبيه على أن قيام الليل مما يُتقى به النار"([16]).
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقدٍ، يضرب على مكان كل عقدة: عليك ليلٌ طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدةٌ، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدةٌ، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان))([17]).
قال ابن حجر: "والذي يظهر أن في صلاة الليل سراً في طيب النفس وإن لم يستحضر المصلى شيئاً مما ذكر، وكذا عكسه، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6]. وقد استنبط بعضهم منه أن من فعل ذلك مرةً ثم عاد إلى النوم لا يعود إليه الشيطان بالعقد المذكور ثانياً([18]).
4- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن في الليل لساعةً لا يوافقها رجلٌ مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلةٍ)) ([19]).
قال النووي: "فيه إثبات ساعة الإجابة في كل ليلة ويتضمن الحث على الدعاء في جميع ساعات الليل رجاء مصادفتها"([20]).
5- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فصلَّت، فإن أبت نضح في وجهها من الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلَّت، وأيقضت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء))([21]).(/74)
قال الطيبي: "وفيه أن من أصاب خيراً ينبغي له أن يتحرى إصابته الغير، وأن يحب له ما يحب لنفسه، فيأخذ بالأقرب فالأقرب. فقوله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله رجلاً فعل كذا)) تنبيه للأمة بمنزلة رش الماء على الوجه لاستيقاظ النائم، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما نال ما نال بالتهجد من الكرامة والمقام المحمود، أراد أن يحصل لأمته نصيب وافر من ذلك، فحثهم عليه على سبيل التلطف، حيث عدل من صيغة الأمر إلى صيغة الدعاء لهم"([22]).
6- وعن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعاً، كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات))([23]).
قال أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي: "وفي الحديث إشارة إلى تفسير الآية الكريمة: {وَالذاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35] ([24]).
ج. آثار عن بعض الصحابة والسلف في فضل قيام الليل:
1- قال ابن عمر رضي الله عنهما حين حضرته الوفاة: (ما آسى على شيء من الدنيا إلا على ظمأ الهواجر ومكابدة الليل)([25]).
2- وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (شرف الرجل قيامه بالليل وغناه استغناؤه عما في أيدي الناس)([26]).
3- وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية)([27]).
4- وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: (ركعة بالليل أفضل من عشر بالنهار)([28]).
5- وقيل للحسن: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: "لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره نوراً"([29]).
6- وقال أيضاً: "ما نعلم عملاً أشد من مكابدة هذا الليل، ونفقة هذا المال"([30]).
7- وعن الأوزاعي: "بلغني أنه من أطال قيام الليل خفف الله عنه يوم القيامة"([31]).
8- وقال يزيد الرقاشي: "بطول التهجد تقر عيون العابدين وبطول الظمأ تفرح قلوبهم"([32]).
9- وقال أيضاً: "قيام الليل نور للمؤمن يوم القيامة، يسعى من بين يديه ومن خلفه، وصيام العبد يُبعده من حرِّ السعير"([33]).
10- وقال شريك: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار"([34]).
د. آداب قيام الليل:
1. ذكرُ الله سبحانه وتعالى عند القيام:
إذا استيقظ الإنسان من نومه لصلاة الليل استحبّ له أن يذكر الله تعال تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: سألت عائشة أم المؤمنين: بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: ((اللهم! رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات الأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم))([35]).
قال النووي: "يسن لكل من استيقظ في الليل أن يمسح النوم عن وجهه وأن يتسوك وأن ينظر في السماء وأن يقرأ الآيات التي في آخر آل عمران: {إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ} [آل عمران:190] الآيات، ثبت كل ذلك في الصحيحين([36]) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"([37]).
2. التسوك عند القيام للتهجد:
عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك([38]).
قال ابن دقيق العيد: "فيه دليل على استحباب السواك في هذه الحالة وهي القيام من النوم. وعلته أن النوم مقتضى لتغير الفم والسواك هو آلة التنظيف للفم فيسن عند مقتضى التغير"([39]).
3. استفتاح القيام بركعتين خفيفتين:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل ليصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين ([40]).
قال النووي: "هذا دليل على استحبابه لينشط بهما لما بعدهما"([41]).
4. ترك القيام عند النعاس:
عن عائشة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد، حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه))([42]).
قال النووي: "وفيه الحث على الإقبال على الصلاة بخشوع وفراغ قلب ونشاط، وفيه أمر الناعس بالنوم أو نحوه مما يذهب عنه النعاس"([43]).
5. طول القيام:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصلاة طول القنوت)) ([44]).
قال النووي: "المراد بالقنوت هنا القيام باتفاق العلماء فيما علمت"([45]).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً، فلم يزل قائماً حتى هممتُ بأمر سوء، قلنا: وما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي صلى الله عليه وسلم)([46]).(/75)
قال ابن حجر: "وفي الحديث دليل على اختيار النبي صلى الله عليه وسلم تطويل صلاة الليل، وقد كان ابن مسعود قوياً محافظاً على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما همَّ بالقعود إلا بعد طول كثير ما اعتاده"([47]).
6. إيقاظ الأهل لصلاة القيام:
عن أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلةً فقال: ((سبحان الله، ماذا أنزل الليلة من الفتنة؟ ماذا أنزل من الخزائن؟ من يوقظ صواحب الحجرات؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة))([48]).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت النبي عليه السلام ليلةً فقال: ((ألا تصليان؟!))([49]).
قال ابن بطال: "في حديث أم سلمة وحديث علي فضل صلاة الليل وإنباه النائمين من الأهل والقرابة"([50]).
7. الإكثار من الدعاء والاستغفار:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن في الليل لساعةً، لا يوافقها رجلٌ مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلةٍ))([51]).
8. ترك المشقة على النفس في القيام:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأةٌ فقال: ((من هذه؟))، فقلت: امرأةٌ لا تنام، تصلي، قال: ((عليكم من العمل ما تطيقون، فوالله، لا يملُّ الله حتى تملوا)) ([52]).
قال القاضي عياض: "ظاهره الإنكار لما تقدم من تكلُّف ما لا يُطاق ويشق من العبادة، وقد جاء المعنى مفسراً في حديث مالك في الموطأ ([53])، قال: (فكره ذلك حتى عرفت الكراهة في وجهه)"([54]).
9. النوم بعد قيام الليل:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ألفي رسول الله صلى الله عليه وسلم السحر الأعلى في بيتي أو عندي إلا نائماً) ([55]).
قال القاضي عياض: "تعني ـ والله أعلم ـ قبل الفجر وبعد قيامه، ثم ينام ليستريح من تعب القيام، وينشط لصلاة الصبح، والنوم بعد القيام آخر الليل مستحسن"([56]).
هـ. الأسباب التي بها يتيسَّر قيام الليل:
قال الغزالي: "اعلم أن قيام الليل عسير على الخلق إلا على من وفق للقيام بشروطه الميسرة له ظاهراً وباطناً.
فأما الظاهرة: فأربعة أمور:
الأول: أن لا يكثر الأكل فيكثر الشرب فيغلبه النوم ويثقل عليه القيام.
الثاني: أن لا يتعب نفسه بالنهار في الأعمال التي تعيا بها الجوارح، وتضعف بها الأعصاب، فإن ذلك أيضاً مجلبة للنوم.
الثالث: أن لا يترك القيلولة بالنهار.
الرابع: أن لا يحتقب الأوزار بالنهار، فإن ذلك مما يقسي القلب ويحول بينه وبين أسباب الرحمة.
وأما الباطنة فأربعة أمور:
الأول: سلامة القلب عن الحقد على المسلمين، وعن البدع وعن فضول هموم الدنيا.
الثاني: خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل.
الثالث: أن يعرف فضل قيام الليل بسماع الآيات والأخبار والآثار.
الرابع: وهو أشرف البواعث الحب لله وقوة الإيمان"([57]).
و. قصص وأشعار في فضل قيام الليل:
1- كان بعض السلف نائماً فأتاه آت في منامه فقال له: قم فصل، أما علمت أن مفاتيح الجنة مع أصحاب الليل، هم خزانها.
2- قال عون بن عبد الله: يدخل الله الجنة أقواماً فيعطيهم حتى يملوا وفوقهم ناس في الدرجات العلى، فلما نظروا إليهم عرفوهم، فقالوا: ربنا إخواننا كنا معهم فيم فضلتهم علينا؟ فيقول: هيهات هيهات! إنهم كانوا يجوعون حين تشبعون، ويظمئون حين تروون، ويقومون حين تنامون، ويشخصون حين تخفضون.
3- وكان بعض السلف يحيي الليل بالصلاة ففتر عن ذلك، فأتاه آتٍ في منامه، فقال له: قد كنت يا فلان تدأب في الخطبة فما الذي قصر بك عن ذلك؟ قال: وما ذلك؟ قال: كنت تقوم مِن الليل، أوَما علمت أن المتهجد إذا قام إلى تهجده قالت الملائكة: قد قام الخاطب إلى خطبته؟!.
4- ورأى بعضهم في منامه امرأة لا تشبه نساء الدنيا فقال لها: من أنت؟ قالت: حوراء أمة الله، فقال لها: زوجيني نفسك، قالت: اخطبني إلى سيدي وامهرني، قال: وما مهرك؟ قالت: طول التهجد.
5- نام بعض المتهجدين ذات ليلة، فرأى في منامه حوراء تنشده:
أتخطب مثلي وعني تنام ونوم المحبين عنا حرام
لأنا خُلقنا لكل امرئ كثير الصلاة براه الصيام
6- وكان لبعض السلف ورد من الليل فنام عنه ليلة، فرأى في منامه جارية كأن وجهها القمر، ومعها رق فيه كتاب مكتوب، فقالت: أتقرأ؟ قال: نعم، فأعطته إياه، ففتحه فإذا فيه مكتوب:
ألهتك اللذائذ والأماني عن الفردوس والظلل الدواني
أتلهو بالكرى عن طيب عيشٍ مع الخيرات في غُرف الجنان
تعيش مخلداً لا موت فيها وتنعم في الجنان مع الحسان
تيقظ من منامك إن خيراً من النوم التهجد بالقُران
فاستيقظ قال: فوالله ما ذكرتها إلا ذهب عني النوم.
7- كان بعض الصالحين له وردٌ فنام عنه، فوقف عليه فتى في منامه، فقال له بصوت محزون:
تيقظ لساعات من الليل يا فتى لعلك تحظى في الجنان بحورها
فتنعم في دارٍ يدوم نعيمها محمد فيها والجليل يزورها(/76)
فقم وتيقظ ساعة بعد ساعة عساك توفي ما بقي من مهورها
8- كان بعض السلف الصالح كثير التهجد، فبكى شوقاً إلى الله عز وجل ستين سنة، فرأى في منامه كأنه على ضفة نهر يجري بالمسك به شجرُ لؤلؤ ونبت من قضبان الذهب، فإذا بحورٍ مزيناتٍ يقلن بصوت واحد: سُبحان المسبّح بكل لسان سبحانه، سبحان الموحد بكل مكان سبحانه، سبحان الدائم في كل الأزمان سبحانه، فقال لهن: ما تصنعن هاهنا، فقلن:
ذرانا إله الناس رب محمد لقوم على الأقدام بالليل قوم
يناجون رب العالمين إلههم وتسري هموم القوم والناس نوم
فقال: بخٍ بخٍ لهؤلاء من هم لقد أقر الله أعينهم بكنَّ، فقلن: أوما تعرفهم؟! قال: لا، فقلن: بلى هؤلاء المتهجدون أصحاب القرآن والسهر.
9- وروي عن أبي سليمان الداراني أنه قال: ذهب بي النوم ذات ليلة في صلاتي فإذا بها – يعني الحوراء – تنبهني وتقول: يا أبا سليمان! أترقد وأنا أربىّ لك في الخدور منذ خمسمائة سنة؟ وفي رواية عنه أنه نام ليلة في سجوده، قال: فإذا بها قد ركضتني برجلها وقالت: أحبيبي ترقد عيناك والملك يقظان ينظر إلى المتهجدين في تهجدهم، بؤساً لعين آثرت لذة نوم على مناجاة العزيز، قم فقد دنا الفراغ، ولقي المحبّون بعضهم بعضاً، فما هذا الرقاد يا حبيبي وقرة عيني؟ أترقد عيناك وأنا أربى لك في الخدور منذ خمسمائة عام؟ فوثب فزعاً، وقد عرق من توبيخها له، قال: وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي.
10- وقال أبو سليمان الداراني: إذا جن الليل وخلا كل حبيب بحبيبه، افترش أهل المحبة أقدامهم، وجرت دموعهم على خدودهم أشرف الجليل جل جلاله، ونادى يا جبريل!: بعيني من تلذذ بكلامي واستروح إلى مناجاتي، ناد فيهم يا جبريل! ما هذا البكاء، هل رأيتم حبيباً يعذب أحباءه أم كيف يجمل بي أن أعذب قوماً إذا جنهم الليل تملقوني؟ فبي حلفت إذا قدموا عليّ يوم القيامة لأكشفن لهم عن وجهي ينظرون إلي، وأنظر إليهم.
11- رأت امرأة من الصالحات في منامها كأن حللاً قد فرقت على أهل مسجد محمد بن جحادة، فلما انتهى الذي يفرقها إليه، دعا بسفط مختوم، فأخرج منه حلة صفراء، قالت: فلم يقم لها بصري، فكساه إياها، وقال: هذه لك بطول السهر، قالت: فوالله لقد كنت أراه – تعني محمد بن جحادة – بعد ذلك فأتخايلها عليه – تعني تلك الحلة.
12- وقال بعضهم:
يا نفس فاز الصالحون بالتقى وأبصروا الحق وقلبي قد عمي
يا حسنهم والليل قد جنّهم ونورهم يفوق نور الأنجم
ترنّموا بالذكر في ليلهم فعيشهم قد طاب بالترنّم
قلوبهم للذكر قد تفرّغت دموعهم كاللؤلؤ منتظم
أنوارهم بهم لهم قد أشرقت وخلع الغفران خير القسم
13- قام بعض الصالحين في ليلة باردة، وكان على أخلاق رثة، فضربه البرد، فبكى، فسمع هاتفاً يقول: أقمناك وأنمناهم، ثم تبكي علينا:
تنبهوا أيا أهيل ودِّي كم ذا الكرى هبّ نسيم نجد
كم بين خالٍ وجوٍ وساهرٍ وراقدٍ وكاتمٍ ومُبدي
14- وقال بعضهم:
الليل لي ولأحبابي أحادثهم قد اصطفيتهم كي يسمعوا ويعوا
لهم قلوب بأسراري لها مُلئت على ودادي وإرشادي لهم طبعوا
قد أثمرت شجرات الفهم عندهم فما جنوا إذ جنوا مما به ارتفعوا
سروا فما وهنوا عجزاً ولا ضعفوا وواصلوا حبل تقريبي فما انقطعوا([58])
([1]) الدر المنثور (5/141).
([2]) جامع البيان (19/296).
([3]) الدر المنثور (5/142).
([4]) جامع البيان (20/180).
([5]) جامع البيان (20/180).
([6]) تفسير القرآن العظيم (3/467).
([7]) الجامع لأحكام القرآن (15/239).
([8]) تفسير القرآن العظيم (4/51).
([9]) جامع البيان (22/408).
([10]) جامع البيان (22/409).
([11]) الجامع لأحكام القرآن (17/36).
([12]) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب فضل صوم المحرم رقم (1163).
([13]) صحيح مسلم بشرح النووي (8/55).
([14]) أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب فضل قيام الليل رقم (1121) واللفظ له، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رقم (2479).
([15]) فتح الباري (3/9).
([16]) فتح الباري (3/10).
([17]) أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم ُ يُصلِّ بالليل، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما روى فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح رقم (776).
([18]) فتح الباري (3/33).
([19]) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء رقم (757).
([20]) شرح مسلم للنووي (6/36).
([21]) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب قيام الليل، رقم (1308)، والنسائي في كتاب قيام الليل، باب الترغيب في قيام الليل رقم (1610)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل رقم (1336)، وابن خزيمة في صحيحه (2/183)، وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان(6/306)، والحاكم في المستدرك (1/309) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وحسَّنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب (1/399) رقم (625).(/77)
([22]) شرح الطيبي (3/129).
([23]) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الحث على قيام الليل رقم (1451)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة باب ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل، رقم (1339)، وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان (6/307)، والحاكم في المستدرك (1/316) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، والحديث صححه العلامة الألباني في صحيح الجامع رقم (330).
([24]) عون المعبود (4/325).
([25]) مختصر قيام الليل للمروزي (ص62)، وابن سعد في الطبقات (4/185)، وسير أعلام النبلاء (3/232).
([26]) مختصر قيام الليل للمروزي (ص63).
([27]) مختصر قيام الليل للمروزي (ص63)، والطبراني في الكبير (9/205) رقم (8998) و(8999)، وفي (10/179) رقم (10382)، قال الهيثمي في المجمع (2/251) رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات، ورجع الشيخ الألباني وقفه وضعف المرفوع في الجامع الصغير رقم (3980).
([28]) مختصر قيام الليل للمروزي (ص63).
([29]) مختصر قيام الليل للمروزي (ص58).
([30]) الصلاة والتهجد للخراط (ص298).
([31]) مختصر قيام الليل للمروزي (ص66).
([32]) قيام الليل للمروزي (ص67).
([33]) الصلاة والتهجد للخراط (298).
([34]) الكامل لابن عدي (2/526).
([35]) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم (770).
([36]) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب قراءة القرآن بعد الحدث رقم (183)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه رقم (763).
([37]) المجموع شرح المهذب (4/45).
([38]) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء باب السواك رقم (245) ومسلم في كتاب الطهارة، باب السواك رقم (255).
([39]) إحكام الأحكام (1/67).
([40]) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم (767).
([41]) شرح صحيح مسلم للنووي (6/54).
([42]) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء باب الوضوء من النوم رقم (212) واللفظ له، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب أمر من نعس في صلاته... رقم (786).
([43]) شرح صحيح مسلم للنووي ((6/74).
([44]) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب أفضل الصلاة طول القنوت رقم (756).
([45]) شرح صحيح مسلم للنووي (6/35).
([46]) أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب طول الصلاة في قيام الليل رقم (1135) واللفظ له، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل رقم (773).
([47]) فتح الباري (3/24).
([48]) أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على قيام الليل والنوافل من غير إيجاب .. رقم (1126).
([49]) أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على قيام الليل والنوافل من غير إيجاب رقم (1127) واللفظ له، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب ما روى فيمن نام الليل حتى أصبح رقم (775).
([50]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (3/115).
([51]) تقدم تخريج الحديث والكلام عليه في فضل قيام الليل عموماً.
([52]) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب أحب الدين إلى الله أدومه رقم (43)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب أمر من نعس في صلاته... رقم (785)، واللفظ له.
([53]) الموطأ في كتاب صلاة الليل، باب ما جاء في صلاة الليل (1/118).
([54]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/150).
([55]) أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب من نام عند السحر رقم (1133)، ومسلم كتاب صلاة المسافرين باب صلاة الليل رقم (742) واللفظ له.
([56]) إكمال العلم بفوائد مسلم (3/88) بتصرف.
([57]) إحياء علوم الدين (2/38-40) بتصرف.
([58]) كل ما تقدم من القصص والأشعار من كتاب شرح حديث اختصام الملأ الأعلى لابن رجب الحنبلي، (ص57-62) بتصرّف.
ثانياً: فضل قيام رمضان خصوصاً:
أ . فضل قيام ليالي رمضان (صلاة التراويح):
قد وردت أحاديث كثيرة دالة على فضل قيام ليالي رمضان وإحيائه بالصلاة ومن ذلك:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرغِّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه))([1]) فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم كان الأمر في خلافة أبي بكر، وصدراً من خلافة عمر على ذلك.
قال النووي: "والمراد بقيام رمضان صلاة التراويح"([2]).
وقال ابن حجر: "إيماناً أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه، واحتساباً أي: طلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه"([3]).(/78)
2- عن أبي ذر رضي الله عنه قال: صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يُصلِّ بنا حتى بقى سبعٌ من الشهر فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل،ثم لم يقم بنا في السادسة، وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل، فقلنا له: يا رسول الله، لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه؟ فقال: ((إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف،كتب له قيام ليلةٍ)).
ثم لم يصل بنا حتى بقي ثلاث من الشهر، وصلى بنا في الثالثة، ودعا أهله ونساءه، فقام بنا حتى تخوَّفنا الفلاح، قال جُبير بن نفير الراوي عن أبي ذر: قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور([4]).
قال شمس الحق العظيم آبادي: "أي حصل له ثواب قيام ليلةٍ تامة"([5]).
قال الألباني: "والشاهد من الحديث قوله: ((من قام مع الإمام حتى ينصرف...)) فإنه ظاهر الدلالة على فضيلة صلاة قيام رمضان مع الإمام"([6]).
ب . حكم صلاة التراويح:
قال السرخسي: "التراويح سنة لا يجوز تركها"([7]).
وقال ابن رشد: "وأجمعوا على أن قيام شهر رمضان مرغَّب فيه أكثر من سائر الأشهر"([8]).
وقال النووي: "فصلاة التراويح سنة بإجماع العلماء"([9]).
وقال ابن قدامة: "وهي سنةٌ مؤكدةٌ"([10]).
ج. مشروعية قيام الليل جماعة في رمضان:
قد وردت في هذا أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم منها:
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلةً من جوف الليل فصلَّى في المسجد، وصلَّى رجالٌ بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلَّى فصلُّوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى لصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر، أقبل على الناس فتشهد ثم قال: ((أما بعد فإنه لم يخف عليَّ مكانكم، ولكني خشيت أن تفترض عليكم فتعجزوا عنها)) فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك([11]).
قال ابن حجر: "فيه ندب قيام الليل ولا سيما في رمضان جماعة ؛ لأن الخشية المذكورة أُمِنت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك جمعهم عمر بن الخطاب على أبي بن كعب"([12]).
2- عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: (قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ثلاث وعشرين في شهر رمضان إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قام بنا ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح، قال: وكنا ندعو السحور الفلاح) ([13]).
قال الحاكم: "وفيه الدليل الواضح أن صلاة التراويح في مساجد المسلمين سنة مسنونة، وقد كان علي بن أبي طالب يحث عمر رضي الله عنهما على إقامة هذه السنة إلى أن أقامها"([14]).
3- حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي تقدم، وفيه: ((إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلةٍ)) ([15]).
قال الترمذي: "واختار ابن المبارك وأحمد وإسحاق الصلاة مع الإمام في شهر رمضان، واختار الشافعي أن يصلي الرجل وحده إذا كان قارئاً"([16]).
وقال البغوي: "وقيام شهر رمضان جماعة سنة غير بدعة"([17]).
وقال الألباني: "لا يشك عالم اليوم بالسنة في مشروعية صلاة الليل جماعة في رمضان، هذه الصلاة التي تعرف بصلاة التراويح"([18]).
وقال أيضاً: "وهذه الأحاديث ظاهرة الدلالة على مشروعية صلاة التراويح جماعة؛ لاستمراره صلى الله عليه وسلم في تلك الليالي، ولا ينافيه تركه صلى الله عليه وسلم لها في الليلة الرابعة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علَّله بقوله: ((خشيت أن تفرض عليكم)) ولاشك أن هذه الخشية قد زالت بوفاته صلى الله عليه وسلم أن أكمل الله الشريعة، وبذلك يزول المعلول وهو ترك الجماعة ويعود الحكم السابق، وهو مشروعية الجماعة، ولهذا أحياها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعليه جمهور العلماء"([19]).
د. لماذا سميت بصلاة التراويح:
قال ابن منظور: "والترويحة في شهر رمضان: سميت بذلك لاستراحة القوم بعد كل أربع ركعات.
وفي الحديث: صلاة التراويح؛ لأنهم كانوا يستريحون بين كل تسليمتين، والتراويح: جمع ترويحة، وهي المرة الواحدة من الراحة، تفعيلة منها مثل تسليمة من السلام"([20]).
هـ. عدد ركعات صلاة التراويح:
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة رضي الله عنها: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعةً، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً، فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال: ((يا عائشة، إن عيني تنامان، ولا ينام قلبي))([21]).
قال الحافظ بن حجر: "وفي الحديث دلالة على أن صلاته كانت متساوية في جميع السنة"([22]).
وقد اختلف أهل العلم في عدد صلاة التراويح.(/79)
قال ابن رشد: "واختلفوا في المختار من عدد الركعات التي يقوم بها الناس في رمضان، فاختار مالك في أحد قوليه، وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وداود القيام بعشرين ركعة سوى الوتر، وذكر ابن القاسم عن مالك أنه كان يستحسن ستاً وثلاثين ركعة، والوتر ثلاث"([23]).
ولا شك في أن الأكمل والأفضل هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو الاقتصار على إحدى عشرة ركعة؛ لكن هل الزيادة عليها جائزة أم لا؟
قال القاضي عياض: "ولا خلاف أنه ليس في ذلك حدٌّ لا يزيد عليه ولا ينقص منه، وأن صلاة الليل من الفضائل والرغائب التي كلما زيد فيها زيد في الأجر والفضل، وإنما الخلاف في فعل النبي صلى الله عليه وسلم وما اختاره لنفسه"([24]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قيام رمضان لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عدداً معيناً؛ بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يطيل الركعات، فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة، ثم يوتر بثلاث، وكان يخف القراءة بقدر ما زاد من الركعات؛ لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة.
ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة، ويوترون بثلاث، وآخرون قاموا بست وثلاثين، وأوتروا بثلاث، وهذا كله سائغ، فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن.
والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام، فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين، فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين، وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك، وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره.
ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مؤقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ، فإذا كانت هذه السعة في نفس عدد القيام، فكيف الظن بزيادة القيام لأجل دعاء القنوت أو تركه، كل ذلك سائغ حسن. وقد ينشط الرجل فيكون الأفضل في حقه تطويل العبادة، وقد لا ينشط فيكون الأفضل في حقه تخفيفها.
وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدلة، إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود، وإذا خفف القيام خفف الركوع والسجود، هكذا كان يفعل المكتوبات وقيام الليل، وصلاة الكسوف، وغير ذلك"([25]).
وقال الشوكاني: "فقصر الصلاة المسماة بالتراويح على عدد معين، وتخصيصها بقراءة مخصوصة لم يرد به سنة"([26]).
وقال الشيخ العثيمين: "والسنة أن يقتصر على إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين؛ لأن عائشة رضي الله عنها سئلت كيف كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، متفق عليه([27]).
وفي الموطأ عن محمد بن يوسف (وهو ثقة ثبت) عن السائب بن يزيد (وهو صحابي) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة([28]).
وإن زاد على إحدى عشرة ركعة فلا حرج لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قيام الليل فقال: ((مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى)) أخرجاه في الصيحيحين([29]). لكن المحافظة على العدد الذي جاءت به السنة مع التأني والتطويل الذي لا يشق على الناس أفضل وأكمل"([30]).
و. وقت صلاة التراويح:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "السنة في التراويح أن تصلى بعد العشاء الآخرة، كما اتفق على ذلك السلف والأئمة، فما كان الأئمة يصلونها إلا بعد العشاء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد خلفائه الراشدين وعلى ذلك أئمة الإسلام، لا يعرف عن أحد أنه تعمد صلاتها قبل العشاء، فإن هذه تسمى قيام رمضان"([31]).
ز. ما يقال من الذكر بعد الوتر:
قال ابن قدامة: "يستحب أن يقول بعد وتره: سبحان الملك القدوس ثلاثاً، ويمدّ صوته بها في الثالثة؛ لما روى أبي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلّم من الوتر قال: ((سبحان الملك القدوس)) هكذا رواه أبو داود([32]). وروى عبد الرحمن بن أبزى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ{سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، و{قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]. وإذا أراد أن ينصرف من الوتر قال: ((سبحان الملك القدوس)) ثلاث مرات ثم يرفع صوته بها في الثالثة، أخرجه الإمام أحمد في المسند([33])"([34]).
ح. بدع صلاة التراويح:
1. قراءة سورة الأنعام في رمضان ليلة الجمعة أو في الليلة السابعة:
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: "عما يصنعه أئمة هذا الزمان من قراءة سورة الأنعام في رمضان في ركعة واحدة ليلة الجمعة، هل هي بدعة أم لا؟(/80)
فأجاب: نعم بدعة، فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة والتابعين ولا غيرهم من الأئمة أنهم تحروا ذلك وإنما عمدة من يفعله ما نقل عن مجاهد وغيره من أن سورة الأنعام نزلت جملة، مشيعة بسبعين ألف ملك فاقرؤوها جملة لأنها نزلت جملة وهذا استدلال ضعيف وفي قراءتها جملة من الوجوه المكروهة أمور.
منها: أن فاعل ذلك يطول الركعة الثانية من الصلاة على الأولى تطويلاً فاحشاً. والسنة تطويل الأولى على الثانية كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها تطويل آخر قيام الليل على أوله، وهو خلاف السنة فإنه كان يطول أوائل ما كان يصليه من الركعات على أواخرها والله أعلم"([35]).
وقال النووي: "وليحذر كل الحذر مما اعتاده جهلة أئمة كثير من المساجد من قراءة سورة الأنعام بأكملها في الركعة الأخيرة في الليلة السابعة من شهر رمضان زاعمين أنها نزلت جملةً! وهذه بدعة قبيحة وجهالة ظاهرة مشتملة على مفاسد كثيرة..." ([36]).
2. صلاة القدر:
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: "عن قوم يصلون بعد التراويح ركعتين في الجماعة، ثم في آخر الليل يصلون تمام مائة ركعة، ويسمون ذلك صلاة القدر، وقد امتنع بعض الأئمة من فعلها، فهل الصواب مع من يفعلها؟ أو مع من يتركها؟ وهل هي مستحبة عند أحد من الأئمة أو مكروهة. وهل ينبغي فعلها والأمر بها، أو تركها والنهي عنها؟
فأجاب: الحمد لله، بل المصيب هذا الممتنع من فعلها، والذي تركها، فإن هذه الصلاة لم يستحبها أحد من الأئمة المسلمين، بل هي بدعة مكروهة باتفاق الأئمة، ولا فعل هذه الصلاة لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا يستحبها أحد من أئمة المسلمين والذي ينبغي أن تترك وينهى عنها"([37]).
3. الذكر بعد التسليمتين من صلاة التراويح:
قال ابن الحاج: "وينبغي له أن يتجنب ما أحدثوه من الذكر بعد كل تسليمتين من صلاة التراويح، ومن رفع أصواتهم بذلك والمشي على صوت واحد؛ فإن ذلك كله من البدع، وكذلك ينهى عن قول المؤذن بعد ذكرهم بعد التسليمتين من صلاة التراويح: الصلاة يرحمكم الله؛ فإنه محدث أيضاً، والحدث في الدين ممنوع وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء بعده ثم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولم يذكر عن أحد من السلف فعل ذلك فيسعنا ما وسعهم"([38]).
وقال الشيخ علي محفوظ: "ومن هنا يعلم كراهة ما أحدث في صلاة التراويح من قولهم عقب الركعتين الأوليين منها: الصلاة والسلام عليك يا أول خلق الله، ونحو ذلك قبل الأخريين وبعضهم يترضى عن الصحابة فعقب الأولى عن أبي بكر والثانية عن عمر والثالثة عن عثمان والرابعة عن علي، وكل ذلك شرع لما لم يشرعه الله على لسان نبيه.
ولا يقال: إنه لا بأس به حيث إنه صلاة وتسليم عليه صلى الله عليه وسلم، ومن حيث إنه ترضٍّ عن أصحابه لانعقاد الإجماع على سنِّ الترضي عنهم والترحم على العلماء والصلحاء؛ لما فيه من التنويه بعلو شأنهم، والتنبيه على عظم مقامهم، ولكن الناس تفعله على أنه شعار لصلاة التراويح ويرون ذلك حسنا، وهو من تلبيس الشيطان عليهم وهو أيضاً بدعة إضافية"([39]).
4. قيام السنة كلها كهيئة التراويح:
قال الباجي في شرح الموطأ: "إن هذا القيام الذي يقوم الناس به في رمضان في المساجد هو مشروع في السنة كلها يوقعونه في بيوتهم، وهو أقل ما يمكن في حق القارئ، وإنما جعل ذلك في المساجد في رمضان لكي يحصل لعامة الناس فضيلة القيام بالقرآن كله وسماع كلام ربهم في أفضل الشهور، انتهى. ولكونه أنزل فيه القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، ولكون جبريل عليه السلام كان يدارس القرآن النبي صلى الله عليه وسلم فيه؛ فلأجل هذه الوجوه وما شابهها ناسب محافظة جميع الناس على قيامه، وإن كان القيام في السنة كلها مشروعاً لمن حفظ القرآن ومن لم يحفظه، فمن حفظه؛ قام به في بيته جهراً ولا يقوم به في المسجد - أعني في جماعة كما في رمضان وغير الحافظ يستحب له أن يصلي عدد الركعات بأم القرآن وبما تيسر معها من السور في بيته أيضاً، هذه هي السُنّة الماضية في الأمة؛ خلافاً لما فعله بعض الناس من أنه جعل القيام المعهود في رمضان دائماً في زاويته في جميع السنة، ثم نقلت واشتهرت فصارت تعمل في بعض المواضع المشهورة.
وقد قال ابن حبيب وغيره من العلماء إنهم يمنعون من ذلك في المساجد وفي كل موضع مشهور، وكذلك لو تواعدوا على أنهم يجمعون في موضع مشهور فإنهم يمنعون منه، فإن فعلوا فهي بدعة ممن فعلها. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعالى عنه فيما تقدم: نعمت البدعة هذه ـ يعني في جمعهم على قارئ واحد في رمضان، على ما تقدم بيانه، فذكره رضي الله تعالى عنه ذلك للتنبيه على أن من فعله على تلك الصفة في غير شهر رمضان فإنه بدعة"([40]).(/81)
([1]) أخرجه البخاري في كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان رقم (2009)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح رقم (759)، واللفظ له.
([2]) شرح صحيح مسلم للنووي (6/58).
([3]) فتح الباري (4/296).
([4]) أخرجه الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في قيام شهر رمضان، رقم (806)، واللفظ له وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأبو داود في كتاب الصلاة باب في قيام شهر رمضان، رقم (1375)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قيام شهر رمضان رقم (1327)، والنسائي في كتاب السهر، باب ثواب من صلى مع الإمام حتى ينصرف رقم (1363).
([5]) عون المعبود (4/174).
([6]) صلاة التراويح (ص17).
([7]) المبسوط (2/145)، والبحر الرائق (2/115).
([8]) بداية المجتهد (1/487)، التفريع (1/269)، المعونة (1/288).
([9]) المجموع (2/526)، التهذيب في فقه الإمام الشافعي (2/233).
([10]) المغني (2/601) والإنصاف (2/180) .
([11]) أخرجه البخاري في كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان رقم (2012) واللفظ له، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان، رقم (761).
([12]) فتح الباري (3/18).
([13]) أخرجه المروزي في قيام الليل (ص34)، وأحمد في المسند رقم (18402)، والنسائي في كتاب قيام الليل، باب قيام شهر رمضان رقم (1605)، وابن خزيمة في صحيحه (3/336) رقم (2204)، والحاكم في المستدرك (1/607) رقم (1608)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي بقوله: "معاوية إنما احتج به مسلم، وليس الحديث على شرط واحد منهما بل هو حسن". وصححه العلامة الألباني في صلاة التراويح (ص11).
([14]) المستدرك على الصحيحين (1/607).
([15]) تقدم تخريجه والكلام عليه.
([16]) سنن الترمذي (3/170).
([17]) شرح السنة (4/119).
([18]) صلاة التراويح (ص10).
([19]) صلاة التراويح (ص14) بتصرف.
([20]) لسان العرب مادة "روح"، وانظر فتح الباري (4/294)، وسبل السلام (2/23)، والنهاية لابن الأثير (2/274).
([21]) أخرجه البخاري في كتاب التهجد،باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل في رمضان وغيره رقم(1147)، واللفظ له، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم في الليل ... رقم (738).
([22]) فتح الباري (3/40).
([23]) بداية المجتهد (1/487) وانظر: المبسوط (2/144)، والتفريع (1/269)، والمجموع (2/527)، والمغني (2/604).
([24]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/82).
([25]) مجموع الفتاوى (22/272-273)، (23/112، 113، 120)، وانظر قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي (ص220-222)، السنة للبغوي (4/117-125)، والمغني (2/604). وطرح التثريب (3/97)، والحاوي للفتاوى (1/347-350) وتحفة الأحوذي (3/520-532)، وصلاة التراويح للشيخ الألباني، رحمة الله على الجميع.
([26]) نيل الأوطار (3/66).
([27]) تقدم تخريجه (ص).
([28]) الموطأ في كتاب الصلاة في رمضان، باب ما جاء في قيام رمضان (1/114) رقم (4).
([29]) أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب كيف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم رقم (1137)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى ... رقم (749).
([30]) كتاب فصول في الصيام والتراويح والزكاة (ص16-17).
([31]) مجموع الفتاوى (23/119-123)، وانظر المجموع للنووي (2/526).
([32]) في كتاب الوتر، باب في الدعاء بعد الوتر، رقم (1430)، وصحّحه الألباني في صحيح أبي داود (1267).
([33]) المسند (3/406) وأخرجه النسائي (3/235، 244-247). كتاب قيام الليل، وغيره.
([34]) المغني (2/601) وانظر: المجموع للنووي (3/511) وقيام رمضان للألباني (ص33).
([35]) مجموع الفتاوى (23/121).
([36]) الأذكار للنووي (ص305).
([37]) مجموع الفتاوى (23/122).
([38]) المدخل لابن الحاج (2/443).
([39]) الإبداع (ص285).
([40]) انظر: المدخل (2/446-447).
تلاوة القرآن في رمضان وآدابها
رمضان شهر القرآن:
قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].
قال ابن كثير: "يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم"([1]).
قال ابن رجب الحنبلي: "وشهر رمضان له خصوصية بالقرآن كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}"([2]).(/82)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان؛ لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة ([3]).
قال ابن رجب: "دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك، وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان"([4]).
([1]) تفسير القرآن العظيم (1/222).
([2]) لطائف المعارف (ص315).
([3]) رواه البخاري: فضائل القرآن، باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم (4997)، ومسلم: الفضائل (2308).
([4]) لطائف المعارف (ص315) بتصرف يسير.
فضائل القرآن من الكتاب والسنة:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ c لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29، 30].
قال ابن كثير: "يخبر تعالى عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه، ويؤمنون به، ويعملون بما فيه من إقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله تعالى في الأوقات المشروعة ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} أي يرجون ثواباً عند الله لا بد من حصوله"([1]).
وقال عز وجل: {إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء:9، 10].
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره إن هذا القرآن الذي أنزلناه على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يرشد ويسدد من اهتدى به {لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} يقول: للسبيل التي هي أقوم من غيرها من السبل، وذلك دين الله الذي بعث به أنبياءه وهو الإسلام، يقول جل ثناؤه: فهذا القرآن يهدي عباد الله المهتدين به إلى قصد السبيل التي ضل عنها سائر أهل الملل المكذبين به"([2]).
وقال تعالى: {وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء:82].
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره: وننزل عليك يا محمد من القرآن ما هو شفاء يستشفى به من الجهل من الضلالة، ويبصر به من العمى للمؤمنين ورحمة لهم دون الكافرين به؛ لأن المؤمنين يعملون بما فيه من فرائض الله، ويحلون حلاله، ويحرمون حرامه فيدخلهم بذلك الجنة، وينجيهم من عذابه فهو لهم رحمة ونعمة من الله أنعم بها عليهم {وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} يقول: ولا يزيد هذا الذي ننزل عليك من القرآن الكافرين به إلا خساراً، يقول: إهلاكاً؛ لأنهم كلما نزل فيه أمر من الله بشيء أو نهي عن شيء كفروا به، فلم يأتمروا لأمره، ولم ينتهوا عما نهاهم عنه فزادهم ذلك خساراً إلى ما كانوا فيه قبل ذلك من الخسار رجساً إلى رجسهم قبل"([3]).
وقال عز وجل: {ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57، 58].
قال ابن كثير: "يقول تعالى ممتناً على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم على رسوله الكريم: {ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ} أي زاجراً عن الفواحش {وَشِفَاء لِمَا فِى الصُّدُورِ} أي من الشبه والشكوك، وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} أي يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى، وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه وقوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} أي بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا، فإنه أولى ما يفرحون به {هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} أي من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة"([4]).
وقال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23].
قال ابن كثير: "هذا مدح من الله عز وجل لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسوله الكريم"([5]).(/83)
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: "فأحسن الحديث كلام الله، وأحسن الكتب المنزلة من كلام الله هذا القرآن، وإذا كان هو الأحسن عُلم أن ألفاظه أفصح الألفاظ وأوضحها، وأن معانيه أجل المعاني؛ لأنه أحسن الحديث في لفظه ومعناه متشابهاً في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف بوجه من الوجوه حتى إنه كلما تدبره المتدبر، وتفكر فيه المتفكر رأى من اتفاقه حتى في معانيه الغامضة ما يبهر الناظرين، ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم"([6]).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يقرأ القرآن كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب، والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة طعمها طيب ولا ريح فيها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مرّ، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح فيها)) ([7]).
قال ابن بطال: "لما كان ما جمع طيب الريح وطيب المطعم أفضل المأكولات، وشبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجه التي جمعت طيب الريح وطيب المطعم، دل ذلك أن القرآن أفضل الكلام"([8]).
وقال النووي: "فيه فضيلة حافظ القرآن"([9]).
وعن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلّمه)) وأقرأ أبو عبد الرحمن السلمي في إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال: وذلك الذي أقعدني مقعدي هذا([10]).
قال ابن بطال: "حديث عثمان يدل أن قراءة القرآن أفضل أعمال البر كلها؛ لأنه لما كان من تَعلّم القرآن أو علمه أفضل الناس وخيرهم دلّ ذلك على ما قلناه؛ لأنه إنما وجبت له الخيرية والفضل من أجل القرآن، وكان له فضل التعليم جارياً ما دام كل من علمه تالياً"([11]).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا حسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل، ورجل أعطاه الله مالاً فهو يتصدق به آناء الليل وآناء النهار))([12]).
قال ابن كثير: "ومضمون الحديث أن صاحب القرآن في غبطة وهي حسن الحال، فينبغي أن يكون شديد الاغتباط بما هو فيه، ويستحب تغبيطه بذلك"([13]).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران))([14]).
قال القاضي عياض: "يحتمل - والله أعلم - أن له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقاً للملائكة السفرة لاتصافه بوصفهم بحمل كتاب الله، ويحتمل أن يكون المراد أنه عامل لعمل السفرة وسالك مسلكهم"([15]).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطَنَيْن، فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: ((تلك السكينة تنزلت للقرآن))([16]).
قال النووي: "قد قيل في معنى السكينة هنا أشياء، والمختار منها: أنها شيء من مخلوقات الله تعالى فيه طمأنينة ورحمة، ومعه الملائكة، وفي الحديث فضيلة القراءة وأنها سبب نزول الرحمة وحضور الملائكة، وفيه فضيلة استماع القرآن"([17]).
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة فقال: ((أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كَوْماويْن([18]) في غير إثم ولا قطع رحم))؟ فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك، قال: ((أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل؟))([19]).
قال أبو العباس القرطبي: "ومقصود الحديث الترغيب في تعلم القرآن وتعليمه، وخاطبهم على ما تعارفوه، فإنهم أهل إبل، وإلا فأقلّ جزء من ثواب القرآن وتعليمه خير من الدنيا وما فيها"([20]).
([1]) تفسير القرآن العظيم (3/561).
([2]) جامع البيان (8/43).
([3]) جامع البيان (8/139).
([4]) تفسير القرآن العظيم (2/436).
([5]) تفسير القرآن العظيم (4/55).
([6]) تيسير الكريم الرحمن (6/463-464).
([7]) أخرجه البخاري: فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام (5020)، ومسلم: صلاة المسافرين (797).
([8]) شرح البخاري (10/256).
([9]) شرح صحيح مسلم (6/83).
([10]) أخرجه البخار ي: فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه (5027).
([11]) شرح البخاري (10/265).
([12]) أخرجه البخاري: فضائل القرآن، اغتباط صاحب القرآن (5025)، ومسلم: صلاة المسافرين (815).
([13]) فضائل القرآن لابن كثير (ص129).
([14]) أخرجه البخاري: التفسير، سورة عبس (4937)، ومسلم كتاب: صلاة المسافرين باب : نزول السكينة لقراءة القرآن. (798).
([15]) إكمال المعلم (3/166).
([16]) أخرجه البخاري: فضائل القرآن، فضل الكهف (5011)، ومسلم: صلاة المسافرين (795).(/84)
([17]) شرح صحيح مسلم (6/82).
([18]) الكَوْماء من الإبل: مشرفة السنام عاليته (النهاية في غريب الحديث 4/211).
([19]) أخرجه مسلم كتاب: صلاة المسافرين باب: فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه (803).
([20]) المفهم (2/429).
آداب قراءة القرآن :
1. الإخلاص لله تعالى:
قال النووي: "أول ما ينبغي للمقرئ والقارئ أن يقصدا بذلك رضا الله تعالى، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ الصلاةَ وَيُؤْتُواْ الزكاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ} [البينة:5]. أي: الملة المستقيمة، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى))([1]) " ([2]).
2. الطهارة:
قال النووي: "يستحب أن يقرأ وهو على طهارة، فإن قرأ محدثاً جاز بإجماع المسلمين، والأحاديث فيه كثيرة معروفة"([3]).
3. الاستياك:
قال النووي: "وينبغي إذا أراد القراءة أن ينظف فاه بالسواك وغيره"([4]).
4. حسن الهيئة عند القراءة:
قال الغزالي مبينا آداب التلاوة: "الأول أن يكون على الوضوء واقفاً على هيئة الأدب والسكون، إما قائماً وإما جالساً مستقبل القبلة، مطرقاً رأسه غير متربع ولا متكئ ولا جالس على هيئة التكبر، فإن قرأ على غير وضوء وكان مضطجعاً في الفراش فله أيضاً ولكنه دون ذلك، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ} [آل عمران:191]. فأثنى على الكل، ولكن قدّم القيام في الذكر، ثم القعود، ثم الذكر مضطجعاً"([5]).
5. نظافة المكان الذي يقرأ فيه:
قال النووي: "ويستحب أن تكون القراءة في مكان نظيف مختار، ولهذا استحب جماعة من العلماء القراءة في المسجد لكونه جامعاً للنظافة وشرف البقعة"([6]).
6. الاستعاذة عند بداية القراءة:
والدليل قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98].
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا كنت يا محمد قارئاً القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم" ([7]).
وصيغة التعوذ أن يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)([8]).
وله صيغة أخرى وهي: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه).
وصيغة ثالثة بزيادة هي: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) ([9]).
7. الترتيل:
قال تعالى: {وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4].
قال ابن جرير: "يقول جل ثناؤه وبيّن القرآن إذا قرأته تبييناً وترسّل فيه ترسلاً"([10]).
وقال ابن كثير: "أي: اقرأه على تمهل، فإنه يكون عوناً على فهم القرآن وتدبره"([11]).
وعن قتادة قال: سئل أنس، كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كانت مداً، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، يمد ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم([12]).
قال أبو بكر الآجري: "ثم ينبغي لمن قرأ القرآن أن يرتل كما قال الله عز وجل: {وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً} قيل في التفسير: تبينه تبييناً، واعلم أنه إذا رتله وبينه انتفع به من يسمعه منه، وانتفع هو بذلك؛ لأنه قرأه كما أمر الله عز وجل في قوله تعالى: {وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء:106]، على تؤدة"([13]).
وعن أبي وائل قال: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف تقرأ هذا الحرف، ألفاً تجده أم ياء: من ماء غير آسن أو من ماء غير ياسن، فقال عبد الله: وكل القرآن قد أحصيت غير هذا؟ قال: إني لأقرأ المفصّل في ركعة، فقال عبد الله: هذَّاً كهذِّ الشعر؟ إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع ... الحديث([14]).
قال ابن كثير: "وفيه دليل على استحباب ترتيل القراءة والترسل فيها من غير هذرمة ولا بسرعة مفرطة، بل بتأمل وتفكر، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاْلْبَابِ} [ص:29]" ([15]).
8. تحسين الصوت بالقرآن:
عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا أبا موسى لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)) ([16]).
وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)) ([17]).(/85)
قال أبو بكر الآجري: "ينبغي لمن رزقه الله حسن الصوت بالقرآن أن يعلم أن الله قد خصه بخير عظيم، فليعرف قدر ما خصه الله به، وليقرأ لله لا للمخلوقين، وليحذر من الميل إلى أن يستمع منه ليحظى به عند السامعين رغبة في الدنيا، فمن مالت نفسه إلى ما نهيته عنه خِفْته أن يكون حُسْن صوته فتنة عليه، وكان مراده أن يستمع منه القرآن لينتبه أهل الغفلة عن غفلتهم، فيرغبوا فيما رغبهم الله عز وجل، وينتهوا عما نهاهم، فمن كانت هذه صفته انتفع بحسن صوته وانتفع به الناس"([18]).
9. الجهر بالقراءة:
قال تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:110].
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في تفسير الآية: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوارٍ بمكة فكان إذا صلّى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} فيسمع المشركون قراءتك {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك، أسمعهم القرآن، ولا تجهر ذلك الجهر {وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً} يقول بين الجهر والمخافتة"([19]).
قال ابن جرير: "فتأويل الكلام: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى، ولا تجهر يا محمد بقراءتك في صلاتك، ودعائك فيها ربك ومسألتك إياه وذكرك فيها فيؤذيك بجهرك بذلك المشركون، ولا تخافت بها فلا يسمعها أصحابك {وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً} ولكن التمس بين الجهر والمخافتة طريقاً إلى أن تسمع أصحابك ولا يسمعه المشركون فيؤذوك"([20]).
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة))([21]).
وقال الترمذي: "ومعنى هذا الحديث: أن الذي يُسرُّ بقراءة القرآن أفضل من الذي يجهر بقراءة القرآن؛ لأن صدقة السر أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية، وإنما معنى هذا عند أهل العلم لكي يأمن الرجل من العجب؛ لأن الذي يُسرُّ العمل لا يُخاف عليه العجب ما يُخاف عليه من علانيته"([22]).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: ((ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة)) أو قال: ((في الصلاة)) ([23]).
قال الغزالي: "ووجه الجمع أن الإسرار أبعد عن الرياء والتصنع، فهو أفضل في حق من يخاف ذلك على نفسه، فإن لم يخف ولم يكن في الجهر ما يشوّش الوقت على مُصَلِّ آخر فالجهر أفضل؛ لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته أيضاً تتعلق بغيره، فالخير المتعدي أفضل من اللازم، ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف إليه سمعه، ولأنه يطرد النوم في رفع الصوت، ولأنه يزيد في نشاطه للقراءة ويقلل من كسله"([24]).
10. التدبر:
قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألْبَابِ} [ص:29].
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وهذا القرآن كتاب أنزلناه إليك يا محمد مبارك ليدبروا آياته، يقول: ليتدبروا حجج الله التي فيه وما شرع فيه من شرائعه، فيتعظوا ويعملوا به"([25]).
قال الآجري: "ثم إن الله عز وجل حثّ خلقه على أن يتدبروا القرآن فقال عز وجل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
وقال عز وجل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً} [النساء:82].
ألا ترون - رحمكم الله - إلى مولاكم الكريم كيف يحث خلقه على أن يتدبروا كلامه، ومن تدبر كلامه عرف الرب عز وجل وعرف عظيم سلطانه وقدرته وعرف عظيم تفضله على المؤمنين، وعرف ما عليه من فرض عبادته، فألزم نفسه الواجب فحذر مما حذره مولاه الكريم ورغب فيما رغبه فيه، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن وعند استماعه من غيره كان القرآن له شفاء فاستغنى بلا مال وعزّ بلا عشيرة وأنس بما يستوحش منه غيره، وكان همه عند التلاوة للسورة إذا افتتحها، متى أتعظ بما أتلوا؟! ولم يكن متى أختم السورة، وإنما مراده متى أعقل عن الله الخطاب، متى أزدجر، متى أعتبر؟! لأن تلاوته للقرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة والله الموفق"([26]).
11. البكاء :
قال تعالى: {قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107-109].(/86)
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره: ويخرّ هؤلاء الذين أوتوا العلم من مؤمني أهل الكتابين من قبل نزول الفرقان إذا يتلى عليهم القرآن لأذقانهم يبكون، ويزيدهم ما في القرآن من المواعظ والصبر خشوعاً، يعني: خضوعاً لأمر الله وطاعته واستكانة له"([27]).
وقال عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّيْنَ مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْراءيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58].
قال ابن جرير: "يقول: إذا تتلى على هؤلاء الذين أنعم الله عليهم من النبيين أدلة الله وحججه التي أنزلها عليهم في كتبه {خَرُّواْ} لله {سُجَّداً} استكانة له وتذللاً وخضوعاً لأمره وانقياداً، {وَبُكِيّاً} يقول: خروا سجداً وهم باكون"([28]).
قال الآجري: "فأحب لمن يقرأ القرآن أن يتحزن عند قراءته ويتباكى ويخشع قلبه ويتفكر في الوعد والوعيد ليستجلب بذلك الحزن، ألم تسمع إلى ما نعت الله عز وجل من هو بهذه الصفة وأخبرنا بفضلهم، فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الزمر:23].
ثم ذمّ قوماً استمعوا القرآن فلم تخشع له قلوبهم فقال عز وجل: {أَفَمِنْ هَاذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ G وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:59-61]"([29]).
وقال الغزالي: "ووجه احضار الحزن أن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود، ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره فيحزن لا محالة ويبكي، فإن لم يحضره حزن وبكاء كما يحضر أرباب القلوب الصافية فليبك على فقد الحزن والبكاء فإن ذلك أعظم المصائب"([30]).
12.مراعاة حق الآيات:
عن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مسترسلاً: إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ ... الحديث"([31]).
قال الآجري: "وأحب إذا درس فمرت به آية رحمة سأل مولاه الكريم، وإذا مرت به آية عذاب استعاذ بالله عز وجل من النار، وإذا مر بآية تنزيه لله عز وجل عما قال أهل الكفر سبح الله وعظمه"([32]).
13.المحافظة على سجود التلاوة:
قال تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58].
قال ابن كثير: "أي إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم خضوعاً واستكانة، حمداً وشكراً على ما هم فيه من النعم العظيمة، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود ههنا اقتداء بهم واتباعاً لمنوالهم"([33]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار)) ([34]).
قال الآجري: "وأحب للقارئ أن يأخذ نفسه بسجود القرآن كلما مر بسجدة سجد فيها، وفي القرآن خمس عشرة سجدة، وقد قيل أربع عشرة سجدة، وقد قيل إحدى عشرة سجدة، والذي أختار له أن يسجد كلما مرت به سجدة، فإنه يرضي ربه عز وجل، ويغيظ عدوه الشيطان"([35]).
14.الاجتماع عند التلاوة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده))([36]).
وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من قوم يذكرون الله إلا حفّت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده)) ([37]).
قال النووي: "اعلم أن قراءة الجماعة مجتمعين مستحبة بالدلائل الظاهرة وأفعال السلف والخلف المتظاهرة"، ثم ذكر الحديثين السابقين فقال: "وروى ابن أبي داود فعل الدراسة مجتمعين عن جماعات من أفاضل السلف والخلف وقضاة المتقدمين"([38]).
([1]) أخرجه البخاري: بدء الوحي ، باب بدء الوحي (1)، ومسلم في : الإمارة ، باب : قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال...)) (1907).
([2]) التبيان في آداب حملة القرآن (ص17).
([3]) المصدر السابق (ص38).
([4]) المصدر السابق (ص37).
([5]) إحياء علوم الدين (1/365).
([6]) التبيان (ص40).
([7]) تفسير ابن جرير (7/644).
([8]) التبيان (ص41).(/87)
([9]) أخرجه والذي قبله أبو داود: الصلاة، باب: رأي الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك (775)، والترمذي: الصلاة، باب: ما يقول عند افتتاح الصلاة (242)، والدارمي: الصلاة، باب: ما يقال بعد افتتاح الصلاة (1241) من حديث أبي سعيد الخدري وصححه الألباني في الإرواء برقم (341، 342). وقد فسر ألفاظه عمرو بن مرة عند ابن ماجه (1/265، 807) ومطر الوراق عند الدرامي (ص325) بالرقم السابق فقالا: همزه: الموتة، ونفثه: الشعر، ونفخه: الكبر.
([10]) تفسير ابن جرير (12/280).
([11]) تفسير القرآن العظيم (4/463).
([12]) أخرجه البخاري: فضائل القرآن، باب مدّ القراءة (5046).
([13]) أخلاق حملة القرآن (220/221).
([14]) أخرجه البخاري: فضائل القرآن، باب: الترتيل في القراءة (5043)، ومسلم: صلاة المسافرين (722) واللفظ له.
([15]) فضائل القرآن (ص158).
([16]) أخرجه البخاري: فضائل القرآن، باب: حسن الصوت بالقراءة للقرآن (5048)، ومسلم: صلاة المسافرين (793).
([17]) أخرجه البخاري: فضائل القرآن، باب: من لم يتغن بالقرآن (5023)، ومسلم: صلاة المسافرين (792).
([18]) أخلاق حملة القرآن (ص210).
([19]) أخرجه البخاري: التفسير، باب: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها (4722)، ومسلم: الصلاة (446).
([20]) جامع البيان (17/588-589).
([21]) رواه أبو داود: الصلاة، باب: رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (1333)، والترمذي: فضائل القرآن، والنسائي: الزكاة، باب: المسر بالصدقة (2561)، والحاكم: فضائل القرآن (1/155)، وقال: صحيح على شرط البخاري وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1184) (1/247).
([22]) جامع الترمذي (5/165-166).
([23]) رواه أبو داود: الصلاة، باب: رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (1332)، والنسائي: في فضائل القرآن، باب: ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يجهر بعضكم على بعض في القرآن (117)، وابن خزيمة: أبواب صلاة التطوع بالليل، باب: الزجر عن الجهر بالقراءة في الصلاة (1162)، والحاكم في المستدرك: صلاة التطوع (1/311)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1183)، وفي الصحيحة (1597)، (1603).
([24]) إحياء علوم الدين (1/370).
([25]) جامع البيان (21/190).
([26]) أخلاق حملة القرآن (ص111).
([27]) جامع البيان (17/579).
([28]) جامع البيان (18/58).
([29]) أخلاق حملة القرآن (ص220).
([30]) إحياء علوم الدين (1/368).
([31]) رواه مسلم: صلاة المسافرين (272).
([32]) أخلاق حملة القرآن (ص201).
([33]) تفسير القرآن العظيم (3/134) بتصرف يسير.
([34]) أخرجه مسلم: الإيمان (81) ولكن قال (فأبيت) بدل (فعصيت).
([35]) أخلاق حملة القرآن (ص198).
([36]) أخرجه مسلم: الذكر والدعاء باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (2699).
([37]) أخرجه مسلم: الذكر والدعاء (2700).
([38]) التبيان في آداب حملة القرآن (ص51).
الاعتكاف
أولاً: تعريف الاعتكاف:
أ- الاعتكاف لغة:
قال ابن فارس: "العين والكاف والفاء أصل صحيح يدل على مقابلة وحبس"([1]).
وهو من عكف على الشيء يعكف عكفاً وعكوفاً، أي: لزم المكان ([2]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والتاء في الاعتكاف تفيد ضرباً من المعالجة والمزاولة؛ لأن فيه كلفة، كما يقال … عمل واعتمل وقطع وانقطع" ([3]).
ويسمى الاعتكاف جِوَاراً؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصغي إلي رأسه، وهو مجاور في المسجد، فأرجله، وأنا
حائض([4]).
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني كنت أجاور هذه العشر، ثم بدا لي أجاور العشر الأواخر))([5]).
وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما قالا: (لا جوار إلاّ بصيام)([6]).
قال الحافظ: "ويؤخذ منه أن المجاورة والاعتكاف واحد" ([7]).
ب- والاعتكاف شرعاً:
اتفق الفقهاء رحمهم الله على أنّه في الشرع: لزوم مسجدٍ لطاعة الله، وإن كان بينهم تفاوتٌ في صياغة التعريف من حيث إثبات أو حذف بعض الشروط والأركان، كالنية، والإسلام، والصوم … الخ، تبعاً لاختلافهم في بعض المسائل.
فتعريف الحنفية: هو اللبث في المسجد مع الصوم ونية الاعتكاف ([8]).
وتعريف المالكية: هو لزوم مسلمٍ مميِّز مسجداً مباحاً بصوم كافًّا عن الجماع ومقدماته يوماً وليلةً فأكثر للعبادة بنية ([9]).
وتعريف الشافعية: اللبث في المسجد من شخصٍ مخصوصٍ بنية ([10]).
وتعريف الحنابلة: هو لزومُ مسلمٍ لا غُسْل عليه، عاقلٍ ولو مميِّزاً، مسجداً ولو
ساعة، لطاعةٍ على صفةٍ مخصوصة ([11]).
وعرَّفه أبو محمد ابن حزم رحمه الله بأنه: " الإقامة في المسجد بنية التقرب الى الله عز وجل ساعة فما فوقها ليلاً أو نهاراً " ([12]).
والاعتكاف من الشرائع القديمة([13])، كما قال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [ البقرة: 125 ].(/88)
([1]) مقاييس اللغة (4/108)، مادة (عكف).
([2]) لسان العرب (9/255)، مادة (عكف).
([3]) شرح العمدة (2/707-الصيام).
([4]) أخرجه البخاري، في الاعتكاف، باب الحائض ترجل رأس المعتكف (2028) و(2029).
([5]) أخرجه البخاري، في فضل ليلة القدر، باب: تحري ليلة القدر (2018)، ومسلم في الصيام، باب: فضل ليلة القدر (1167).
([6]) أخرجه عبد الرزاق (4/353)، والبيهقي في الكبرى (4/318). وصححه الحافظ في الفتح (4/322).
([7]) فتح الباري (4/273).
([8]) الهداية مع فتح القدير (2/390).
([9]) الشرح الكبير للدردير مع حاشيته (1/541).
([10]) مغني المحتاج (1/449).
([11]) منتهى الإرادات (1/167).
([12]) المحلى (5/179).
([13]) انظر: مغني المحتاج (1/449)، الإقناع للشربيني (1/246)، الشرح الممتع (6/506).
ثانيًا: الأدلة على مشروعيته:
دلّ على مشروعيته: دليل الكتاب، والسنة، والإجماع.
أ- أما دليل الكتاب:
فقوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [ البقرة: 187 ].
قال السعدي: " دلت الآية على مشروعية الاعتكاف " ([1]).
ب- وأما دليل السنة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان([2]).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده([3]).
عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان...([4]) الحديث.
قال القاضي عياض: "وفي هذه الأحاديث جواز الاعتكاف في رمضان وشوال، ويقاس عليها غيرهما من الشهور، وجواز أول الشهر ووسطه وآخره؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك"([5]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا كله يدل على محافظته صلى الله عليه وسلم"([6]).
قال ابن الملقن: "وفيه استحباب الاعتكاف وتأكده حيث واظب عليه حتى توفي عليه السلام"([7]).
ج- وأمَّا الإجماع:
فقد نقله غير واحد من العلماء رحمهم الله:
قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن الاعتكاف سنة، لا يجب على الناس فرضاً إلا أن يوجبه المرء على نفسه نذراً فيجب عليه"([8]).
ونقله أيضاً ابن حزم([9])، والنووي([10])، وابن قدامة([11])، وابن تيمية ([12])، والقرطبي ([13])، وابن هبيرة ([14])، والزركشي([15])، وابن رشد ([16]).
([1]) تيسير الكريم الرحمن (1/227).
([2]) أخرجه البخاري في الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأواخر (2025)، ومسلم في الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأواخر (1171).
([3]) أخرجه البخاري في الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأواخر (2026)، ومسلم في الاعتكاف، باب: تحري ليلة القدر (2018).
([4]) أخرجه البخاري في فضل ليلة القدر، باب: تحري ليلة القدر (2018)، ومسلم في الصيام، باب: فضل ليلة القدر (1167).
([5]) إكمال المعلم (4/151).
([6]) شرح العمدة (2/710-الصيام).
([7]) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (5/428).
([8]) الإجماع (ص: 53 ).
([9]) مراتب الإجماع (ص: 41 ).
([10]) المجموع (6/407 ).
([11]) المغني (4/456 ).
([12]) شرح العمدة (2/711 ـ الصيام).
([13]) الجامع لأحكام القرآن (2/333 ).
([14]) الإفصاح (1/255 ).
([15]) شرح الزركشي (3/4 ).
([16]) بداية المجتهد (1/312 ).
ثالثًا: الحكمة من مشروعيته:
قال ابن القيم: "لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً على جمعيّته على الله، ولمّ شَعَثِه بإقباله بالكليّة على الله تعالى، فإن شعث القلب لا يلمّه إلا الإقبال على الله تعالى، وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، مما يزيده شعثاً ويشتّته في كل وادٍ، ويقطعه عن سيده إلى الله ـ تعالى ـ، أو يضعفه، أو يعوقه ويوقفه: اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوِّقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم"([1]).(/89)
والحكمة من تخصيصه صلى الله عليه وسلم العشر الأواخر من رمضان قد بيَّنها عليه السلام، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط... ثم أطلع رأسه فكلم الناس فدنوا منه، فقال: ((إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت فقال: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف))، فاعتكف الناس معه...([2]).
([1]) زاد المعاد (2/86 – 87 )، وانظر: شرح العمدة لشيخ الإسلام (2/711 ـ الصيام)، والفتاوى الهندية (1/212 )، والشرح الصغير للدردير (1/259 )، وسبل السلام (2/174 ).
([2]) أخرجه البخاري في فضل ليلة القدر، باب تحري ليلة القدر (2018 )، ومسلم في الصيام، باب فضل ليلة القدر (1167) (215 )، واللفظ له.
رابعًا: فضله:
قال أبو داود: قلت لأحمد: تعرف في فضل الاعتكاف شيئاً؟ قال: لا؛ إلا شيئاً ضعيفاً([1]).
قال ابن تيمية: "وأحاديث الترغيب والترهيب يتسامح في أسانيدها؛ كما قال أحمد: إذا جاء الترغيب والترهيب سهّلنا، وإذا جاء الحلال والحرام شددنا.
وقول أحمد: (إلا شيئاً ضعيفاً) إشارة إلى أنّ إسناده ليس قوياً، وهذا القدر قدر لا يمنع الاحتجاج به في الأحكام، فكيف في الفضائل؟!"([2]).
ومما ورد في ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المعتكف: ((هو الذي يعكف الذنوب، ويجرى له من الحسنات كعامل الحسنات كلها))([3]).
وعن أبي الدرداء مرفوعاً: ((من اعتكف ليلة كان له كأجر عمرة، ومن اعتكف ليلتين كأن له كأجر عمرتين...))([4]).
([1]) مسائل أبي داود (ص96).
([2])شرح العمدة (2/713 ـ الصيام)
([3]) ضعيف، أخرجه ابن ماجه في الاعتكاف، باب في ثواب الاعتكاف (1781)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/523)، من طريق عبيدة العمي عن فرقد السبخي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً. وفرقد قال البخاري عنه في تاريخه (7/131): فرقد أبو يعقوب السبخي، عن سعيد بن جبير، في حديثه مناكير. وضعف الحديث البيهقي في الشعب، والبوصيري في مصباح الزجاجة (2/45).
([4]) عزاه ابن تيمية في شرح كتاب الصيام من العمدة (2/712) إلى إسحاق بن راهويه، ولم أقف عليه بعد طول بحث.
خامسًا: حكمُه:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكمه للرجال:
الاعتكاف سنة ما لم يوجبه الإنسان على نفسه بالنذر، وقد حكي إجماعاً ([1]).
ولأدلة مشروعيته المتقدمة([2]).
وعن الإمام مالك كراهةُ الاعتكاف، أخذها ابن رشد([3]) من قول الإمام مالك:
"ما رأيت صحابياً اعتكف، وقد اعتكف صلى الله عليه وسلم حتى قُبِضَ، وهم أشد الناس، فلم أزل أفكّر حتى أخذ بنفسي أنه لشدّته، نهارُه وليلُه سواء كالوصال المنهي
عنه".
وقال أيضاً: "ما بلغني أن أبا بكر ولا عمر ولا عثمان ولا ابن المسيب، ولا أحد من سلف هذه الأمة اعتكف إلا أبا بكر بن عبد الرحمن، وذلك – والله أعلم – لشدة الاعتكاف"([4]).
وعلل بعض المالكية ما ظهر عن الإمام مالك من كراهية الاعتكاف؛ أنه من الرهبانية المنهي عنها([5]).
وأخذ منه بعض المالكية استحباب الاعتكاف دون سنيته([6]).
ولا يسلم ما ذكره الإمام مالك رحمه الله؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم اعتكفوا معه في حياته صلى الله عليه وسلم؛ لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط... فكلم الناس فدنوا منه، فقال: ((إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف)) فاعتكف الناس معه...([7]).
وأيضاً: اعتكف أزواجه رضي الله عنهن من بعده صلى الله عليه وسلم ([8]).
قال الحافظ ابن حجر: "لعله – أي: مالكاً – أراد صفة مخصوصة، وإلا فقد حكيناه عن غير واحد من الصحابة أنه اعتكف"([9]) كعلي بن أبي طالب ([10])، ويعلى بن أمية ([11]) رضي الله عنهما.
قال الزهري: "عجباً من الناس كيف تركوا الاعتكاف؟! ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل الشيء ويتركه، وما ترك الاعتكاف حتى قبض"([12]).
وقال الإمام أحمد: "لا أعلم عن أحد من العلماء خلافاً أنه مسنون"([13]).
المطلب الثاني: حكمه للمرأة:
ذهب جماهير أهل العلم([14]) إلى أن الاعتكاف سنة في حق النساء كما هو سنة في حق الرجال.
ومما استدلوا به: عموم أدلة مشروعية الاعتكاف ([15])، فهي تشمل الرجل والمرأة الشابة.
وحديث عائشة رضي الله عنها، وفيه إذنه صلى الله عليه وسلم لعائشه وحفصة رضي الله عنهما أن يعتكفا معه([16])، وكانتا شابتين.
([1]) انظر: الإجماع لابن المنذر (ص: 53 )، وشرح العمدة لشيخ الإسلام (2/711 ـ الصيام).
([2]) انظر: (ص: 3 – 4 ).
([3]) مقدمات ابن رشد مع المدونة (1/201 ).
([4]) انظر: الاستذكار (10/304 ).
([5]) انظر: إكمال إكمال المعلم للأبي (3/281 ).(/90)
([6]) انظر: بداية المجتهد (1/312 ).
([7]) تقدم تخريجه في (ص:3 ).
([8]) تقدم تخريجه في (ص:5).
([9]) فتح الباري (4/272 ).
([10]) انظر: عارضة الأحوذي (4/3 ).
([11]) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4/2346 )، وابن أبي شيبة في المصنف (3/89 )، وصححه ابن حزم في المحلى (5/179 ).
([12]) انظر: المبسوط (3/114 )، عمدة القاري (12/140 ).
([13]) مسائل أحمد لأبي داود (ص: 97 ).
([14]) انظر: المبسوط (3/119 )، المدونة مع مقدمات ابن رشد (1/200 )، مغني المحتاج (1/451 )، المبدع (3/65)، المحلى (5/179 ).
([15]) تقدمت الإشارة إليه.
([16]) أخرجه البخاري في الاعتكاف، باب الاعتكاف في شوال (2041 )، ومسلم في الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه (1173 ).
سادسًا: أركان الاعتكاف:
اختلف الفقهاء رحمهم الله في تعداد أركان الاعتكاف، وهذا الاختلاف راجع إلى اختلافهم في اعتبارِ بعض الشروط، والامتناعِ عن بعض المبطلات أركاناً.
فعند الحنفية أن ركن الاعتكاف هو: اللبث في المسجد فقط، والباقي شروط وأطراف لا أركان([1]).
وعند المالكية أركانه خمسة: نية الاعتكاف، المسجد المباح، الصوم، الكف عن الجماع ومقدماته([2]).
وعند الشافعية أركانه أربعة: اللبث في المسجد، النية، المعتكف، والمعتكف فيه([3]).
وعند الحنابلة ركناه: لزوم المسجد، النية ([4]).
([1]) انظر: بدائع الصنائع (2/109 )، حاشية ابن عابدين (2/441 ).
([2]) انظر: الخلاصة الفقهية على مذهب السادة المالكية للقروي (ص: 257 ).
([3]) انظر: روضة الطالبين (2/391 ).
([4]) انظر: شرح العمدة لابن تيمية (2/751 ـ الصيام).
سابعًا: شروط صحة الاعتكاف:
وللاعتكاف شروط اتفق العلماء على بعضها، واختلفوا في البعض الآخر.
ولنبدأ بما اتفقوا عليه ثم نعقب ذلك بذكر ما اختلفوا فيه مع شيءٍ من البسط في ذكر أدلة كلّ قول.
أ- الإسلام:
فلا يصح الاعتكاف من كافر أصلي أو مرتد؛ لقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة:54].
قال الشيخ ابن سعدي: "والأعمال كلها شرط قبولها الإيمان، فهؤلاء لا إيمان لهم، ولا عمل صالح"([1]).
فإذا كانت النفقات – مع أن نفعها متعدّ – لا تقبل من الكافر لكفره، فالعبادات البدنية المحضة من باب أولى([2]).
وهذا الشرط باتفاق الأئمة رحمهم الله([3]).
ب- العقل:
فلا يصح الاعتكاف من مجنون، ولا سكران، ولا مغمىً عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبيّ حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل))([4]).
ولا يصح منه ذلك "لعدم القصد؛ لأن المجنون لا قصد له، ومن لا قصد له لا
نية له، ومن لا نية له لا عمل له؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات))([5])"([6]).
وهذا الشرط باتفاق الأئمة رحمهم الله([7]).
ج- التمييز:
فغير المميز لا يصح منه الاعتكاف؛ لما تقدم من الدليل في الشرط الثاني.
وهذا الشرط باتفاق الأئمة رحمهم الله([8]).
د- النية:
لحديث عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((إنما الأعمال بالنيات)) الحديث ([9]).
قال القاضي عياض: "قوله: ((إنّما الأعمال بالنيات)) دليل أنّ ما عمل بغير نية غير جائز ولا لازم، وإنما يلزم منه ويصح ما قارفته"([10]).
وقال النووي: "وفيه دليل على أن الطهارة وهي: الوضوء والغسل والتيمم لا تصح إلاَّ بالنية، وكذلك الصلاة والزكاة والصوم والاعتكاف وسائر العبادات"([11]).
"ولأنّ اللبث في المسجد قد يقصد به الاعتكاف، وقد يقصد به غيره، فاحتيج إلى نية للتمييز بينهما"([12]).
وهذا باتفاق الأئمة رحمهم الله.
قال ابن هبيرة: "واتفقوا على أنه لا يصح إلا بنية"([13]).
وقال ابن رشد: "أمّا النية فلا أعلم فيها اختلافاً"([14]).
إلا أن المالكية([15])، والشافعية([16])، وشيخ الإسلام([17])، ذكروا النية في أركان الاعتكاف.
هـ- الطهارة الكبرى: من الحيض والنفاس والجنابة:
اختلف العلماء رحمهم الله في حكم اعتكاف الحائض والنفساء والجنب على قولين:
القول الأول: التحريم وعدم الصحة.
وهو قول جمهور أهل العلم رحمهم الله ([18]).
ومما استدلوا به قوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ} [النساء:43].
قال الإمام الشافعي رحمه الله: " قال بعض العلماء بالقرآن: معناها لا تقربوا مواضع الصلاة، وما أشبه ما قال بما قال؛ لأنه ليس في الصلاة عبور سبيل، إنما السبيل في موضعها وهو المسجد"([19]).
القول الثاني: صحة اعتكافهم في المسجد.
وهو قول الظاهرية ([20]).(/91)
ومما استدلوا به: ما روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنّ وليدة سوداء كانت لحيٍّ من العرب، فأعتقوها، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فكان لها خِباء في المسجد أو حفش([21])([22]).
قال أبو محمد بن حزم: "فهذه امرأة ساكنة في مسجد النبي، والمعهود من النساء الحيض، فما منعها عليه السلام من ذلك، ولا نهى عنه، وكل ما لم ينه عنه فمباح"([23]).
أمّا الطهارة من الحدث الأصغر: فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد أمر الله تعالى بتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود، والعاكف فيه لا يشترط له الطهارة، ولا تجب عليه الطهارة من الحدث الأصغر باتفاق المسلمين"([24]).
و- إذن السيد لعبده والزوج لزوجته:
يصح اعتكاف الرقيق والمرأة باتفاق الأئمة رحمهم الله([25]).
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان... قال: فاستأذنته عائشة أن تعتكف، فأذن لها... الحديث([26]).
ولعموم أدلة الاعتكاف، فهي شاملة للرقيق وغيره.
لكن ليس للزوجة أن تعتكف إلا بإذن زوجها، وليس للمملوك أن يعتكف إلا بإذن سيده، كما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه استئذان عائشة رضي الله عنها.
قال ابن المنذر: "في هذا الحديث إباحة اعتكاف النساء؛ لأنه عليه السلام أذن لعائشة وحفصة في ذلك، وفيه دليل أن المرأة إذا أرادت اعتكافاً لم تعتكف حتى تستأذن زوجها، ويدل على أن الأفضل والأعلى للنساء لزوم منازلهن، وترك الاعتكاف مع إباحته لهن؛ لأن ردَّهُنَّ ومنعهن منه يدل على أنّ لزوم منازلهن أفضل من الاعتكاف"([27]).
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه)) ([28]).
قال القاضي عياض: "هذا في التطوع؛ لأنّ حق زوجها عليها واجب، فلا يترك الواجب للنفل"([29]).
وقال النووي: "وهذا النهي للتحريم صرَّح به أصحابنا؛ وسببه أن الزوج له حق الاستمتاع بها في كل الأيام وحقه فيه واجب على الفور، فلا يفوته بتطوع"([30]).
وكذا الاعتكاف.
ولأن "منافعهما – أي: الزوجة والرقيق – مملوكة لغيرهما، والاعتكاف يفوتها، ويمنع استيفاءها وليس بواجب عليهما بالشرع، فكان لهما المنع منه"([31]).
قال ابن هبيرة: "وأجمعوا على أن العبد ليس له أن يعتكف إلا بإذن
سيده"([32]).
ز- الصوم في الاعتكاف:
اختلف العلماء رحمهم الله في اشتراط الصوم لصحّة الاعتكاف على أقوال.
والسبب في اختلافهم: "أن اعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما وقع في رمضان، فمن رأى أن الصوم المقترن باعتكافه هو شرط في الاعتكاف، وإن لم يكن الصوم للاعتكاف نفسه، قال: لابد من الصوم مع الاعتكاف، ومن رأى أنه إنما اتفق ذلك اتفاقاً لا على أنّ ذلك كان مقصوداً له عليه الصلاة والسلام في الاعتكاف، قال: ليس الصوم من شرطه؛ ولذلك أيضاً سبب آخر، وهو اقترانه مع الصوم في آية واحدة"([33]).
القول الأول: عدم اشتراط الصوم لصحة الاعتكاف.
قال به علي، وابن مسعود، وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وعطاء، وطاوس([34]).
وبه قال بعض المالكية([35])، وهو مذهب الشافعية([36])، والحنابلة([37])، وداود، وابن حزم([38]).
ومما استدلوا به ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له:
((أوف بنذرك))([39]).
قال النووي: "وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه في صحة الاعتكاف بغير صوم"([40]).
وقال ابن حجر: "استدل به على جواز الاعتكاف بغير صوم؛ لأن الليل ليس ظرفاً للصوم، فلو كان شرطاً لأَمَرَهَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم به"([41]).
"ولأنَّهما عبادتان منفصلتان؛ فلا يشترط للواحدة وجوَّد الأخرى"([42]).
واختار هذا القول الشوكاني([43])، ومن المعاصرين الشيخ ابن عثيمين رحمه الله([44]).
القول الثاني: أنّ الصوم شرط لصحة الاعتكاف الواجب دون التطوع.
وهو مذهب الحنفية([45]).
القول الثالث: أنّه شرط لصحة الاعتكاف مطلقاً.
وهو مذهب بعض المالكية ([46])، وبه قال بعض الشافعية ([47])، ورواية عن أحمد([48]).
ومما استدلوا به قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187].
ووجه الدلالة: قالوا: دلَّت الآية على أنَّ الصوم شرط لصحة الاعتكاف؛ لأنَّ الله ذكره بعد ذكر الصوم، وعليه فيكون الاعتكاف مشروعاً في كل وقت عدا الأيام التي ينهى فيها عن الصيام ([49]).
وردَّ هذا بالمنع "إذ لا يلزم من ذكر حكمٍ بعد حكمٍ آخر عَقْدُ أحدهما بالآخر، وإلاَّ لزم أن يقال: لا يجزي صيام إلا باعتكاف ولا قائل به"([50]).
واستدلوا أيضاً بما روته عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: ((لا اعتكاف إلا
بصوم))([51]).
ورد: بأنَّه ضعيف.
وإلى هذا القول ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم([52]).(/92)
ثمرة الخلاف: يترتب على القول باشتراط الصوم لصحة الاعتكاف أمور منها:
1- عدم صحة اعتكاف الأيام المنهي عنها كالعيدين وأيام التشريق ([53]).
2- عدم صحة اعتكاف الليل بمفرده ([54]).
3- أن الاعتكاف لا يكون أقل من يوم ([55]).
حـ - أن يكون الاعتكاف في المسجد:
ودليل ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما دليل الكتاب فقوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}
[البقرة:187].
قال القرطبي: "أجمع العلماء على أنّ الاعتكاف لا يكون إلاَّ في
المسجد"([56]).
وقال الحافظ ابن حجر: "فعلم من ذكر المساجد أنَّ المراد أنَّ الاعتكاف لا يكون إلاَّ فيها"([57]).
وقال السعدي: "ودلت الآية... أنّ الاعتكاف لا يصح إلاَّ في مسجد"([58]).
" فإن قيل: قوله تعالى: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} دليل على أنَّه قد يكون عاكفاً في غير المسجد؟ لأنّ التقييد بالصفة بما لولاه لدخل في المطلق.
قلنا: لا ريب أنَّ كل مقيم في مكان ملازم له فهو عاكف، لكن الكلام في النوع الذي شرعه الله تعالى؛ كما أنَّ كل ممسك يسمى صائماً، وكل قاصد يسمى متيمِمًا، ثم لما أمر الله تعالى بتيمم الصعيد وأمر بالإمساك عن المفطرات؛ صار ذلك هو النوع المشروع.
على أنَّ الصفة قد تكون للتبيين والإيضاح، كما في قوله تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ} [المؤمنون:117]، وقوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ} [البقرة:61] ونحو ذلك"([59]).
وقال الشوكاني: " ومعلّم الشرائع صلى الله عليه وسلم الذي جاء بمشروعية الاعتكاف لم يفعله إلاَّ في المسجد، ولم يشرعه لأمَّته إلاَّ في المساجد، وهذا القدر يكفي، ومن ادَّعى أنها تُوجَد ماهية الاعتكاف الشرعية في غير مسجد فالدليل عليه"([60]) ولا دليل.
وأما السنة: فلما روت عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل رأسه، وهو في المسجد، فأُرَجِّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً([61]).
وغيرها من الأحاديث.
وأما الإجماع فقال ابن بطال: "وأجمع العلماء أن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد"([62]).
وقال ابن عبد البر: "فمما أجمع عليه العلماء من ذلك أنّ الاعتكاف لا يكون إلاَّ في مسجد؛ لقول الله عز وجل: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}"([63]).
وقال القرطبي: "أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد"([64]).
وقال ابن تيمية: "والاعتكاف يشترط له المسجد، ولا يشترط له الطهارة بالاتفاق"([65]).
وقال ابن رشد وابن حجر والزرقاني: " وقد اتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف، إلا محمد بن عمر بن لبابة فأجازه في كل مكان"([66]).
مسألة: اشتراط الاعتكاف في المساجد الثلاثة:
لم يذهب إلى اشتراط الاعتكاف في المساجد الثلاثة إلا سعيد بن المسيب([67])، ومن المعاصرين الشيخ الألباني ([68]) .
وعن عطاء: لا اعتكاف إلا في مسجد مكة والمدينة([69]).
واستدلوا بحديث حذيفة رضي الله عنه أنّه قال لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: الناسُ عكوف بين دارك ودار أبي موسى، لا يضر؟ وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا اعتكاف إلاّ في المساجد الثلاثة)). فقال عبد الله: لعلك نسيت وحفظوا، أو أخطأت وأصابوا([70]).
ونوقش هذا الاستدلال من أوجه:
الوجه الأول: أنّه لا يثبت مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم، والصواب أنه موقوف([71]).
الوجه الثاني: أنّ ابن مسعود رضي الله عنه، وهّنه حين ذكر له حذيفة هذا، فقال له: (لعلهم أصابوا فأخطأت، وذكروا فنسيت) فأوهن هذا حكمًا ورواية([72]).
الوجه الثالث: أنّه لو قيل بموجب هذا الحديث لكانت (أل) في قوله تعالى: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187]، للعهد الذهني، ولا دليل على ذلك في الآية، بل هي للعموم، وهذا هو الأصل([73]).
الوجه الرابع: أنّه لو قيل بموجب هذا الحديث لكان حملاً للآية على النادر، وهذا من معايب الاستدلال([74]).
الوجه الخامس: أنّه على فرض ثبوته فالمراد به: لا اعتكاف تام. أي: أن المساجد الأخرى الاعتكاف فيها دون المساجد الثلاثة، كما أن الصلاة في المساجد فيها دون الصلاة في المساجد الثلاثة([75]).
والذي عليه عامة الصحابة والتابعين أنّه يصح في كل مسجد فيه جماعة.
قال ابن تيمية: "وهو قول عامة التابعين، ولم ينقل عن صحابي خلافه، إلاّ من قول من خص الاعتكاف بالمساجد الثلاثة، أو مسجد نبي"([76]) .
وقال به من السلف: عروة، والزهري، والحسن، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، وأبو الأحوص، وأبو قلابة، وغيرهم ([77]) .
مسألة: أفضل المساجد للاعتكاف:
أفضل المساجد للاعتكاف: المسجد الحرام، ثم المسجد النبوي، ثم المسجد الأقصى([78]).(/93)
لكونها أفضل المساجد، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي
هذا، والمسجد الأقصى))([79]).
وأفضلها: المسجد الحرام، ثم النبوي، ثم الأقصى؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام))([80]).
ثم بعد المساجد الثلاثة فنصَّ الحنفية على أنَّه يستحب أن يعتكف في المسجد الجامع، ثم المساجد العظام التي كثر أهلها([81]).
ونصَّ الشافعية والحنابلة: أنَّ الأفضل أن يعتكف في الجامع ممن تجب عليه الجمعة، إذا تخلل اعتكافه جمعة لئلا يحوجه ذلك إلى الخروج إليها([82]).
([1]) تيسير الكريم الرحمن (3/248 ).
([2]) انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين (2/19) بتصرف يسير.
([3]) انظر: بدائع الصنائع (2/108 )، تبيين الحقائق (1/348 )، جواهر الإكليل (1/156 )، شرح الخرشي (2/267 )، روضة الطالبين (2/396 )، مغني المحتاج (2/454 )، المبدع (3/63 )، غاية المنتهى (1/364 )، منار السبيل (1/232 ).
([4]) صحيح: أخرجه أحمد (6/101 )، وابن ماجه في كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم (1/658 رقم 2041 )، وأبو داود في كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً (5/83 رقم 4398 )، والنسائي في كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج (6/156 رقم 3432 )، واللفظ لأحمد، وصححه ابن حبان (1/355 )، والحاكم (2/59) وغيرهما.
([5]) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور، باب النية في الأيمان (16689 )، ومسلم في الأمارة، باب قوله عليه السلام: (( إنما الأعمال بالنية )) (1907 ).
([6]) الشرح الممتع لابن عثيمين (1/355 )، وانظر: بدائع الصنائع (2/108 ).
[7]) انظر: المصادر السابقة في (الشرط الأول ).
([8]) انظر: بدائع الصنائع (2/108 )، سراج المسالك (1/203 )، روضة الطالبين (2/396 )، المبدع (3/63 )، مطالب أولي النهى (2/227 ).
([9]) تقدم تخريجه.
([10]) إكمال المعلم (6/332 ).
([11]) شرح مسلم (13/54 ).
([12]) فقه الاعتكاف لخالد المشيقح (ص: 70 ).
([13]) الإفصاح (1/255 ).
([14]) بداية المجتهد (1/315 ).
([15]) انظر: الخلاصة الفقهية لابن القروي (ص: 257 ).
([16]) انظر: روضة الطالبين (2/395 ).
([17]) شرح العمدة (2/751 ـ الصيام).
([18]) انظر: حاشية ابن عابدين (2/442 )، الشرح الصغير للدردير (2/290 )، المجموع (6/519 )، الشرح الكبير مع الإنصاف (7/605 )، مجموع فتاوى شيخ الإسلام (26/123، 215 ).
([19]) الأم (1/54).
([20]) انظر: المحلى (2/250) (5/286 ).
([21]) الحِفْش: بكسر الحاء وإسكان الفاء: البيت الصغير. انظر: النهاية (1/407) مادة (حفش ).
([22]) أخرجه البخاري مطولاً في كتاب الصلاة، باب نوم المرأة في المسجد (439 ).
([23]) المحلى (2/253 ).
([24]) مجموع الفتاوى (26/126 ).
([25]) انظر: المبسوط (3/119 )، مقدمات ابن رشد (1/200 )، الأم (2/108) المغني (4/485 ).
([26]) أخرجه البخاري في الاعتكاف، باب الاعتكاف في شوال (2041 )، واللفظ له، ومسلم في الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه (1173 ).
([27]) انظر: شرح ابن بطال على البخاري (4/170 ).
([28]) أخرجه البخاري في النكاح، باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها (5195 )، واللفظ له، ومسلم في الزكاة، باب ما أنفق العبد من مال مولاه (1026 ).
([29]) إكمال المعلم (3/553 ).
([30]) شرح مسلم (7/115 ).
([31]) المغني (4/485 ).
([32]) الإفصاح (3/205) ط: الفجر.
([33]) بداية المجتهد (1/317 ).
([34]) انظر: المحلى (5/181 )، المغني (4/459 ).
([35]) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/334 ).
([36]) انظر: الأم (2/107 ).
([37]) انظر: المستوعب (3/478 )، المغني (4/459 ).
([38]) انظر: المحلى (5/268 ).
([39]) أخرجه البخاري في الاعتكاف، باب الاعتكاف ليلاً (2032 )، ومسلم في الإيمان، باب نذر الكافر
( 1656 ).
([40]) شرح مسلم (11/124 ).
([41]) فتح الباري (4/322 ).
([42]) الشرح الممتع (6/509 ).
([43]) السيل الجرار (2/134 ).
([44]) الشرح الممتع (6/509 ).
([45]) انظر: المبسوط (3/115 )، بدائع الصنائع (2/109 ).
([46]) انظر: الموطأ (1/27 )، المدونة مع مقدمات ابن رشد (1/195 ).
([47]) انظر: المجموع (6/485 ).
([48]) انظر: الإنصاف (3/360).
([49]) انظر: الموطأ (1/315 ).
([50]) المحلى (5/182) بتصرف يسير.
([51]) أخرجه الدارقطني في كتاب الصيام، باب الاعتكاف (2/199 )، وقال: " تفرد به سويد عن سفيان بن حسين "، والبيهقي في الصيام، باب المعتكف يصوم (4/317 )، وقال: " هذا وهم من سفيان بن حسين أو من سويد، وسويد ضعيف بمرة، لا يقبل منه ما تفرد به ".
([52]) انظر: زاد المعاد (2/88 ).
([53]) انظر: مقدمات ابن رشد مع المدونة (1/200 ).(/94)
([54]) انظر: فقه الاعتكاف (ص: 109 ).
([55]) المرجع السابق.
([56]) الجامع لأحكام القرآن (2/333 ).
([57]) فتح الباري (4/272 ).
([58]) تيسير الكريم الرحمن (1/227 ).
([59]) شرح العمدة لابن تيمية (2/721 ـ الصيام).
([60]) السيل الجرار (2/136 ).
([61]) أخرجه البخاري في الاعتكاف، باب لا يدخل البيت إلا لحاجة (2029 )، ومسلم في الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها (297 ).
([62]) شرحه على البخاري (4/161 ).
([63]) التمهيد (8/325 ).
([64]) الجامع لأحكام القرآن (2/333 ).
([65]) مجموع الفتاوى (26/123 ).
([66]) بداية المجتهد (1/312 )، فتح الباري (4/372 )، شرح الزرقاني للموطأ (2/206 ).
([67]) أخرجه ابن أبي شيبة (3/91)، وابن حزم في (المحلى) (5/194). وإسناده صحيح.
([68]) انظر: قيام رمضان له (37).
([69]) أخرجه عبد الزراق (4/349) بإسناد صحيح.
([70]) أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" (7/201) والبيهقي في "الكبرى" (4/316) وابن حزم في المحلى (5/192)، وقال ابن حزم: (هذا شك من حذيفة أو ممن دونه، ولو أنه عليه السلام قال: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة لحفظه الله تعالى علينا، ولم يدخل فيه شك، فصح يقينا أنه عليه السلام لم يقله قط). وانظر لمزيد تخريج هذا الحديث والكلام على طرقه رسالة "دفع الاعتساف عن محل الاعتكاف" لجاسم الفهيد الدوسري.
([71]) ولهذا لم يتطرّق من ذكر مذهب حذيفة وابن المسيب إلى الرواية المرفوعة.. انظر: "شرح السنة" (6/394) للبغوي، و"أحكام القرآن" (1/333) للجصاص، و"الجامع لأحكام القرآن" (2/333) للقرطبي، و"التمهيد" (8/325) لابن عبد البر، وانظر: "شرح العمدة" (2/724 ـ 726 الصيام ـ حاشية المحقق).
([72]) الشرح الممتع (6/504).
([73]) الشرح الممتع (6/505).
([74]) من كلام الشيخ ابن عثيمين في تعليقاته على "الكافي". انظر: فقه الاعتكاف (ص 122) للمشيقح.
([75]) الشرح الممتع (6/505 ).
([76]) شرح العمدة (2/734 ـ الصيام).
([77]) انظر: مصنف عبد الزراق (4/346)، مصنف ابن أبي شيبة (3/90).
([78]) انظر: المبسوط( 3/115 )، حاشية العدوي (1/410 )، الأم (1/107 )، المستوعب (3/480 ).
([79]) أخرجه البخاري في فضل الصلاة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1189 )، ومسلم في الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (1397 ).
([80]) أخرجه البخاري في الموضع السابق (1190)، ومسلم في الحج، باب فضل الصلاة بمسجد مكة (1394).
([81]) انظر: بدائع الصنائع (3/113 ).
([82]) انظر: المجموع (6/481 )، شرح كتاب الصيام من العمدة لابن تيمية (2/749 – 750 ).
ثامنًا: آدابه:
قال ابن القيم: "لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً على جمعيّته على الله، ولَمِّ شَعَثِه بإقباله بالكلية على الله تعالى = شرع لهم الاعتكاف، الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيّته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبُّه والإقبال عليه في كل هموم القلب وخطراته..."([1]).
قال علي رضي الله عنه: (أيّما رجل اعتكف فلا يسابّ، ولا يرفث في الحديث، ويأمر أهله بالحاجة، ولا يجلس عندهم)([2]).
وقال الإمام أحمد ـ في رواية المرّوذي ـ: "يجب على المعتكف أن يحفظ لسانه، لا يؤويه إلا سقف المسجد، ولا ينبغي له إذا اعتكف أن يخيط أو يعمل"([3]).
قال شيخ الإسلام: "إن الذي ينبغي للمعتكف أن يشتغل بالعبادات المحضة التي بينه وبين الله تعالى؛ مثل القرآن، وذكر الله تعالى، والدعاء، والاستغفار، والصلاة، والتفكر، ونحو ذلك"([4]).
وبعد أن بيّن ابن القيم هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف قال: "..كلُّ هذا تحصيلاً لمقصود الاعتكاف ورُوحه، عكس ما يفعله الجهّال من اتخاذ المعتكف موضع عِشرة، ومجلبةً للزائرين وأَخْذِهم بأطراف الأحاديث بينهم! فهذا لونٌ، والاعتكاف النبوي لونٌ!!"([5]).
وأمَّا الصمت عن الكلام مطلقاً في الصوم أو الاعتكاف أو غيرهما فبدعة مكروهة باتفاق أهل العلم([6]).
([1]) زاد المعاد (2/86، 87).
([2]) أخرجه عبد الرزاق (4/356)، وأحمد ـ كما في شرح العمدة (2/792 ـ الصيام) لشيخ الإسلام،، والفروع (3/184) ـ، وابن أبي شيبة (2/334)، وقال ابن مفلح في ((الفروع)): إسناده صحيح.
([3]) انظر: شرح العمدة (2/792 ـ الصيام).
([4]) شرح العمدة (2/787 ـ الصيام).
([5]) زاد المعاد (2/90).
([6]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (25/292).
تاسعًا: زمن دخول المُعْتَكَفِ والخروج منه:
ا- زمن دخول المعتكَف:
اختلف أهل العلم رحمهم الله في الوقت المستحب لدخول المعتكف على قولين:
القول الأول: أنه من قبل غروب شمس يوم العشرين.
وبه قال الجمهور ([1]).
ومما استدلوا به حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المتقدّم، وفيه: ((فليعتكف العشر الأواخر))([2]).
قالوا: دلّ هذا الحديث على أن زمن دخول المعتكف هو من قبل غروب الشمس(/95)
ليلة إحدى وعشرين؛ إذ "العَشْرُ" بغيرِ هاءٍ عددُ الليالي، وأوَّل هذه الليالي ليلة إحدى وعشرين([3]).
واستدلوا أيضاً: بأنّ ليلة القدر تُرْجَى في أوتار العشر، ومنها ليلة إحدى وعشرين؛ ولهذا اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد – طلباً لها – العشر الأوسط ثم العشر الأواخر، فيستحب أن يدخل معتكفه قبل غروب شمس ليلة إحدى وعشرين([4]).
القول الثاني: أنّ زمن دخول المعتكف يكون من بعد صلاة الصبح من يوم الحادي والعشرين.
وهو رواية عن أحمد([5])، وبه قال الأوزاعي، ورواية عن الليث ([6]).
ومما استدلوا به ما روته عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الصبح دخل معتكفه([7]).
قالوا: وهذا نصٌّ في محل النزاع.
وَرُدَّ بأن معنى الحديث: أنّه انقطع في معتكفه، وتخلَّى بنفسه بعد صلاة الصبح، لا أنّ ذلك كان وقت ابتداء اعتكافه، بل كان من قبل المغرب لابثاً في جملة المسجد([8]).
وأجيب: بأنّه صرفٌ للّفظ عن ظاهره بلا دليل، وأيضاً فإن عادته صلى الله عليه وسلم أنه لا يخرج من بيته إلا عند الإقامة([9]).
وَرُدَّ: بوجود الدليل، كما تقدم في أدلة الجمهور.
ب- زمن الخروج منه:
استحب كثير من العلماء أن يكون خروجه من مُعْتَكَفه عند خروجه إلى صلاة
العيد ([10])، وإن خرج قبل ذلك جاز.
وهو فعل كثير من السلف([11]).
فعن الإمام مالك: "أنه رأى بعض أهل العلم إذا اعتكفوا العشر الأواخر من رمضان لا يرجعون إلى أهليهم حتى يشهدوا الفطر مع الناس".
وقال مالك: "وبلغني عن أهل الفضل الذين مضوا، وهذا أحب ما سمعت إلي في ذلك"([12]).
وقال إبراهيم النخعي: "كانوا يستحبون للمعتكف أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يكون غُدوُّه منه إلى العيد"([13]).
ولأجل أن يصل عبادة بعبادة([14]).
وقال الأوزاعي: "يخرج إذا غربت الشمس من آخر يوم من أيام العشر"([15])؛ لأن العشر تزول بزوال الشهر؛ والشهر يزول بغروب الشمس من ليلة الفطر([16]).
([1]) حاشية ابن عابدين (2/452 )، المدوَّنة (2/238)، شرح مسلم للنووي (8/68)، الفروع (3/170).
([2]) تقدم تخريجه.
([3]) الشرح الكبير (2/67) بتصرف يسير.
([4]) الفروع (3/170 ).
([5]) انظر: الفروع (3/170 )، الإنصاف (3/369 ).
([6]) شرح النووي على مسلم (8/68 )، الإعلام لابن الملقن (5/434 ).
([7]) أخرجه البخاري في الاعتكاف، باب الاعتكاف في شوال (2041 )، ومسلم في الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف (1173 ).
([8]) شرح النووي على مسلم (8/69 )، الإعلام لابن الملقن (5/434 )، نيل الأوطار (4/265 ).
([9]) سبل السلام (2/174 ).
([10]) انظر: الاستذكار (10/296 )، المجموع (6/491 )، الشرح الكبير لابن قدامة (2/67 ).
([11]) انظر: الموطأ (1/351 )، المصنف لابن أبي شيبة (3/92 )، المغني (4/490 ).
([12]) "الموطأ" في الاعتكاف، باب خروج المعتكف للعيد (1/315 ).
([13]) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/338) بإسناد صحيح.
([14]) الشرح الكبير للدردير (1/550).
([15]) انظر: الاستذكار (10/297).
([16]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/337).
عاشرًا: أقل الاعتكاف وأكثره:
ا- أقله:
اختلف العلماء رحمهم الله في أقل الاعتكاف على أقوال:
القول الأول: أقله يوم.
وهو رواية عن أبي حنيفة ([1])، وبه قال بعض المالكية ([2])، ووجه عند الشافعية ([3]).
واستدلوا: بأنّ من شرط صحة الاعتكاف الصوم، والصوم لا يصح أن يكون أقل من يوم.
ورُدَّ: بأنّ ذلك بعد تسليم اشتراط الصوم لصحة الاعتكاف.
وأيضاً: "فإن العبادة لا تكون مقدرة بشرطها"([4]).
القول الثاني: أن أقله يوم وليلة.
وهو مذهب المالكية([5]).
واستدلوا: "بحديث عمر رضي الله عنه، وفيه تقديره بيوم وليلة، فكان ذلك
أقله"([6]).
وردّ: بأنه ليس فيه تحديد أقل الاعتكاف، وكل ما فيه تحديد مدة نذر عمر رضي الله عنه.
القول الثالث: أنّ أقله عشرة أيام.
وهو رواية عن مالك([7]).
واستدلوا: بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله([8]).
ورُدَّ بما قاله ابن حزم: "فإن قيل: لم يعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل من عشر ليال. قلنا: ولَمْ يمنع من أقل ذلك، وكذلك أيضاً لم يعتكف قط في غير مسجد المدينة، فلا تجيزوا الاعتكاف في غير مسجده عليه السلام، ولا اعتكف قط إلاّ في رمضان وشوال، فلا تجيزوا الاعتكاف في غير هذين الشهرين!! والاعتكاف فعل خير فلا يجوز المنع منه إلا بنص وارد بالمنع"([9]).
القول الرابع: أن أقله لحظة.
وهو قول أكثر العلماء([10]).
واستدلوا: بقوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[البقرة:187].(/96)
قال أبو محمد بن حزم: " فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، وبالعربية خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاعتكاف في لغة العرب الإقامة... فكل إقامةٍ في مسجدٍ لله تعالى بنية التقرب إليه اعتكافٌ... مما قلّ من الأزمان أو كثر؛ إذ لم يخص القرآن والسّنّة عدداً من عدد، ووقتاً من وقت"([11]).
وقال الشوكاني: "لم يأتنا عن الشارع في تقدير مدة الاعتكاف شيء يصلح للتمسك به، واللبثُ في المسجد والبقاء فيه يصدق على اليوم وبعضه، بل وعلى الساعة إذا صحب ذلك نية الاعتكاف"([12]).
ب- أكثره:
أما أكثر الاعتكاف فلا حدَّ له([13]) ما لم يتضمن محذوراً شرعياً.
لعموم قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187].
قال ابن الملقن: " وأجمع العلماء على أن لا حد لأكثره " ([14]).
([1]) انظر: الهداية مع فتح القدير (2/391 ).
([2]) انظر: مواهب الجليل (2/454 ).
([3]) انظر: روضة الطالبين (2/391 ).
([4]) أحكام القرآن لابن العربي (1/95 ).
([5]) انظر: المدونة مع مقدمات ابن رشد (1/202 ).
([6]) أحكام القرآن لابن العربي (1/95 ).
وحديث عمر الذي أشار إليه ابن العربي هو: ما رواه عبد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر:
( أن عمر نذر أن يعتكف (يوماً بليلته). قال الدارقطني في "العلل" (2/30 ): " فإن كان حفظ ـ أي ـ العمري هذا فقد صحت الأقاويل عن نافع، ويكون قول من قال: (يوماً) بليلته، ومن قال: (ليلة) بيومها".
([7]) انظر: المدونة (1/202 )، الاستذكار (10/313 ).
([8]) سبق تخريجه.
([9]) المحلى (5/180 ).
([10]) انظر: الدر المختار (1/445 )، القوانين الفقهية (ص: 125 )، المهذب (1/190 )، الإنصاف مع الشرح الكبير (7/566 )، المحلى (5/179 ).
([11]) المحلى (5/180 ).
([12]) السيل الجرار (2/136 ).
([13]) انظر: بدائع الصنائع (2/115 )، أحكام القرآن لابن العربي (1/92 )، المجموع (6/490 )، كشاف القناع (2/374 )، المحلى (5/180 ).
([14]) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (5/430 ).
حادي عشر: مبطلات الاعتكاف:
1- الجِماع:
قال الشوكاني: "دلّ على هذا الكتاب العزيز... ودلّ عليه إجماع
الأمة"([1]).
أما دليل الكتاب فقول الله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187].
قال ابن العربي: "فحرَّم الله تعالى المباشرة في المسجد، وذلك يحرم خارج المسجد؛ لأن معنى الآية: ولا تباشروهن وأنتم ملتزمون الاعتكاف في المسجد معتقدون له، فهو إذا خرج لحاجة الإنسان وهو ملتزم للاعتكاف في المسجد معتقد له رُخِّص له في حاجة الإنسان للضرورة الداعية إليه، وبقي سائر أفعال الاعتكاف كلها على أصل المنع"([2]).
وقال القرطبي: "بيّن جل تعالى أن الجماع يفسد الاعتكاف، وأجمع أهل العلم على أن من جامع امرأته وهو معتكف عامداً لذلك في فرجها أنه مفسد
لاعتكافه"([3]).
وقال ابن كثير: "أي: لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد، ولا في غيره"([4]).
وأمّا الإجماع فقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن من جامع امرأته وهو معتكف عامداً لذلك في فرجها أنه يفسد اعتكافه"([5]).
وقال ابن حزم: "واتفقوا أن الوطء يفسد الاعتكاف"([6]).
وقال ابن هبيرة: "وأجمعوا على أنَّ الوطء عامداً يبطل الاعتكاف المنذور والمسنون معاً"([7]).
2- الخروج بجميع البدن لغير حاجة:
وهذا باتفاق الأئمة رحمهم الله ([8]).
ودليل ذلك السنة والإجماع.
أما دليل السنة فحديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم، وفيه: وكان - أي النبي صلى الله عليه وسلم – لا يدخل البيت إلا لحاجةٍ إذ كان معتكفاً([9]).
قال الخطابي: "فيه بيان أن المعتكف لا يدخل بيته إلا لغائط أو بول، فإن دخله لغيرهما من طعام أو شراب فسد اعتكافه"([10]).
وقد قسَّم الشيخ ابن عثيمين خروج المعتكف إلى ثلاثة أقسام فقال: "الأول: الخروج لأمر لابد منه طبعاً وشرعاً: كقضاء حاجة البول والغائط والوضوء الواجب والغسل الواجب لجنابة أو غيرها والأكل والشرب، فهذا جائز إذا لم يمكن فعله في المسجد، فإن أمكن فعله في المسجد فلا، مثل أن يكون في المسجد حمام يمكنه أن يقضي حاجته فيه، وأن يغتسل فيه، أو يكون له من يأتيه بالأكل والشرب، فلا يخرج حينئذ لعدم الحاجة إليه.
الثاني: الخروج لأمر طاعة لا تجب عليه: كعيادة مريض وشهود جنازة ونحو ذلك، فلا يفعله إلا أن يشترط ذلك في ابتداء اعتكافه، مثل: أن يكون عنده مريض يجب أن يعوده، أو يخشى من موته، فيشترط في ابتداء اعتكافه خروجه لذلك فلا بأس به.
ثالثاً: الخروج لأمر ينافي الاعتكاف: كالخروج للبيع والشراء وجماع أهله ومباشرتهم ونحو ذلك، فلا يفعله لا بشرط ولا بغير شرط؛ لأنه يناقض الاعتكاف وينافي المقصود منه"([11]).
وأما الإجماع فقال أبو محمد بن حزم: "واتفقوا على أن من خرج من معتكفه من المسجد لغير حاجة ولا ضرورة ولا برٍّ أُمِر به أو نُدِب إليه فإن اعتكافه قد بطل"([12]).(/97)
([1]) السيل الجرار (2/136 ).
([2]) أحكام القرآن (1/136 ).
([3]) الجامع لأحكام القرآن (2/332 ).
([4]) تفسير القرآن العظيم (1/231 ).
([5]) الإجماع (ص: 54 ).
([6]) مراتب الإجماع (ص: 41 ).
([7]) الإفصاح (1/358 ).
([8]) انظر: فتح القدير (2/396 )، الشرح الكبير للدردير (1/543 )، الأم (2/108 )، كشاف القناع (3/362 )، المحلى (5/188 ).
([9]) انظر: (ص: 1 ).
([10]) معالم السنن (3/341 ).
([11]) مجالس شهر رمضان (ص: 245 – 246 ).
([12]) مراتب الإجماع (ص: 41 ).
مراجع للتوسع:
في المذهب الحنفي:
1. الهداية مع فتح القدير، المجلد الثاني.
2. المبسوط، المجلد الثالث، ط دار المعرفة.
3. بدائع الصنائع، المجلد الثاني، ط دار الكتب العلمية.
4. حاشية ابن عابدين، المجلد الثاني، ط دار الفكر.
في المذهب المالكي:
1. الموطأ للإمام مالك، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.
2. بداية المجتهد لابن رشد، المجلد الأول، ط دار القلم.
3. مقدمات ابن رشد مع المدونة، المجلد الأول، ط دار الفكر.
4. الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي، المجلد الأول، ط دار الفكر.
في المذهب الشافعي:
1. الأم للشافعي، المجلد الثاني، ط دار الفكر.
2. المجموع للنووي، المجلد السادس.
3. روضة الطالبين، المجلد الثاني، ط المكتب الإسلامي.
4. مغني المحتاج، المجلد الأول، ط البابي الحلبي.
في المذهب الحنبلي:
1. المغني لابن قدامة، المجلد الرابع، ط هجر.
2. المبدع لابن مفلح، المجلد الثالث، ط المكتب الإسلامي.
3. منتهى الإرادات، المجلد الأول، ط عالم الكتب.
4. المستوعب، المجلد الثالث، ط المعارف.
في المذهب الظاهري:
1. المحلى لابن حزم، المجلد الخامس، ط دار التراث.
كتب أخرى:
1. شرح ابن بطال على البخاري، المجلد الرابع، ط مكتبة الرشد.
2. إكمال المعلم للقاضي عياض، المجلد الرابع، ط دار الوفاء.
3. شرح النووي على مسلم، المجلد السابع، ط دار الكتاب العربي.
4. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن، المجلد الخامس، ط العاصمة.
5. شرح العمدة لشيخ الإسلام ـ كتاب الصيام، المجلد الثاني، ط الأنصاري.
6. مجموع فتاوى شيخ الإسلام، المجلد السادس والعشرين.
7. فتح الباري لابن حجر، المجلد الرابع، ط السلفية.
8. فقة الاعتكاف، لخالد المشيقح.
الدروس المستفادة من رمضان
1 ـ رمضان شهر الصبر:
الصبر:
قال ابن فارس: "الصاد والباء والراء أصول ثلاثة: الأول الحبس، والثاني أعالي الشيء، والثالث جنس من الحجارة" ([1]).
قال أبو عبيد: "وأصل الصبر: الحبس، وكل من حبس شيئاً فقد صبره" ([2]).
قال عنترة:
فصبرت عارفة لذلك حرّة ترسو إذا نفس الجبان تطلّع
يقول: حبست نفساً صابرة ([3]).
قال الراغب: "الصبر الإمساك في ضيق" ([4]).
وقال: "وسمي الصوم صبراً لكونه كالنوع له" ([5]).
قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ} [البقرة:45].
قال ابن جرير: "وقد قيل: إن معنى الصبر في هذا الموضع: الصوم، والصوم بعض معاني الصبر عندنا" ([6]).
رمضان والصبر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر))([7]).
قال السيوطي: "شهر الصبر هو شهر رمضان، وأصل الصبر: الحبس، فسمي الصوم صبراً لما فيه من حبس النفس عن الطعام والشراب والنكاحً([8]).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجلٍ: ((صُمْ شهر الصبر ويوماً من كل شهر))، قال: زدني فإن بي قوة، قال: ((صُمْ يومين))، قال: زدني، قال: ((صُمْ ثلاثة أيام))، قال: زدني، قال: ((صُمْ من الحُرُم واترك، صُمْ من الحُرُم واترك، صُمْ من الحُرُم واترك))، وقال بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها ([9]).
قال الخطابي: "وقوله: ((من الحُرُم)) فإن الحرم أربعة أشهر، وهي التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه، فقال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماوات وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36]. وهي شهر رجب وذي القعدة وذي الحجة والمحرم" ([10]).
رمضان مدرسة لتعلم الصبر:
قال ابن رجب الحنبلي: "وأفضل أنواع الصبر: الصيام، فإنه يجمع الصبر على الأنواع الثلاثة؛ لأنه صبر على طاعة الله عز وجل، وصبر عن معاصي الله ؛ لأن العبد يترك شهواته لله ونفسه قد تنازعه إليها، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن الله عز وجل يقول: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي)) ([11]).
وفيه أيضاً صبرٌ على الأقدار المؤلمة بما قد يحصل للصائم من الجوع والعطش، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمي شهر الصيام شهر الصبر"([12]).
أنواع الصبر:
قال ابن القيم: "الصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام: صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها، وصبرٌ عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها" ([13]).(/98)
([1]) المقاييس (4/329).
([2]) تهذيب اللغة (12/171).
([3]) الصحاح (2/706).
([4]) المفردات (ص474).
([5]) المرجع السابق.
([6]) تفسير الطبري (1/259).
([7]) أخرجه النسائي في الصيام، باب ذكر الاختلاف على أبي عثمان في حديث أبي هريرة (3408).
([8]) شرح سنن النسائي (4/218).
([9]) أبو داود (2428) في الصوم، باب في صوم أشهر الحرم، ابن ماجه (1741) في الصيام، باب صيام أشهر الحرم، أحمد (19811).
([10]) معالم السنن (3/306).
([11]) رواه البخاري في الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم (1805)، ومسلم في الصيام باب فضل الصيام (1151).
([12]) جامع العلوم والحكم (1/26).
([13]) مدارج السالكين (2/165).
2 ـ رمضان شهر الجود والإحسان والبر والصلة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرَسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة([1]).
قال ابن حجر: "فيه أن مدارسة القرآن تجدد العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود، والجود في الشرع: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعم من الصدقة. وأيضاً فرمضان موسم الخيرت ؛ لأن نعم الله على عباده فيه زائدة على غيره، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر متابعة سنة الله في عباده، فبِمجْموع ما ذكر من الوقت والمنزول به والنازل والمذاكرة حصل المزيد في الجود، والعلم عند الله" ([2]).
من مجالات الجود والإحسان والبر والصلة:
1- تفطير الصائم:
عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فطّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً))([3]).
قال المباركفوري: "قوله: ((من فطّر صائماً)) قال ابن عبد الملك: التفطير جعل أحد مفطراً، أي: من أطعم صائماً، انتهى. قال القاري: أي عند إفطاره، ((كان له)) أي لمن فطّر ((مثل أجره)) أي الصائم" ([4]).
2- بر الوالدين وصلة الأرحام:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((ثم أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((ثم أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((ثم أبوك))([5]).
وعن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سره أن يبسط عليه رزقه، أو ينسأ في أثره فليصل رحمه))([6]).
قال النووي: "ينسأ، مهموز أي: يؤخر، والأثر: الأجل؛ لأنه تابع للحياة في أثرها، وبسط الرزق، توسيعه وكثرته، وقيل: البركة فيه" ([7]).
قال عطاء: "لدرهم أضعه في قرابتي أحب إلي من ألفٍ أضعها في فاقة. قال له قائل: يا أبا محمد، وإن كان قرابتي مثلي في الغنى، قال: وإن كان أغني منك"([8]).
3- الصدقة والإنفاق وغير ذلك من أعمال الخير:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة))([9]).
قال النووي: "قال العلماء: المراد: صدقة ندب وترغيب، لا إيجاب وإلزام"([10]).
([1]) البخاري (6) في بدء الوحي، باب بدء الوحي، مسلم (2308) في الفضائل، باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس.
([2]) فتح الباري (1/31).
([3]) الترمذي (807) في الصوم، باب ما جاء في فضل من فطر صائماً، ابن ماجه (1746) في الصيام، باب في ثواب من فطّر صائماً، والدارمي (2/14) في الصوم، باب الفضل لمن فطر صائماً، وعبد الرزاق (4/311)، وابن حبان في صحيحه (10/491) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
([4]) تحفة الأحوذي (3/533).
([5]) البخاري (5971) في الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة ؟، ومسلم (2548) في البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به.
([6]) البخاري (5985) في الأدب، باب من بُسط له في الرزق بصلة الرحم. مسلم (2557) في البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم، وتحريم قطيعتها.
([7]) شرح مسلم (16/114).
([8]) مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا (62).
([9]) البخاري (2989) في الجهاد، باب من أخذ بالركاب ونحوه، ومسلم (1009) في الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل أنواع من المعروف، واللفظ له.
([10]) شرح مسلم (7/95).
3 ـ رمضان شهر الجهاد والانتصارات والفتوح:
1- غزوة بدر الكبرى:
قال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال:41].(/99)
قال عروة بن الزبير في قوله: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ}: "يوم فرّق الله بين الحق والباطل، وهو يوم بدر، وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة، فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مائة وبضعة عشر رجلاً، والمشركون ما بين الألف والتسع مائة، فهزم الله يومئذ المشركين، وقتل منهم زيادة على سبعين، وأسر منهم"([1]).
2- فتح مكة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة، فسار هو ومن معه من المسلمين إلى مكة، يصوم ويصومون حتى بلغ الكَدِيد – وهو ماء بين عسْفان وقُدَيْد – أفطَرَ وأفطروا([2]).
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح في رمضان([3]).
3- عين جالوت:
وقعت معركة عين جالوت بين جيوش التتار بقيادة هولاكو المغولي، وبين جيوش المماليك المصرية، بقيادة الملك المظفر قطز، في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان عام 658هـ، وانتصر فيها المسلمون انتصاراً عظيماً([4]).
4- وقعة شقحب:
وقعت هذه الوقعة يوم السبت للأول من رمضان من عام 702هـ، واستمرت إلى اليوم الثاني بين التتار والجيوش الإسلامية، وشارك فيها شيخ الإسلام ابن تيمية، وكانت الغلبة فيها للمسلمين.
قال ابن كثير: "وحرّض – أي ابن تيمية – السلطان على القتال وبشّره بالنصر، وجعل يحلف له بالله إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم، وأفطر هو أيضاً، وكان يدور على الأطلاب([5]) والأمراء، فيأكل من شيء معه في يده، ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل، فيأكل الناس"([6]).
([1]) رواه الطبري في تفسيره (10/9)، وانظر تفصيل الحديث عن الغزوة في سيرة ابن هشام (2/606-633).
([2]) البخاري (4276) في المغازي، باب غزوة الفتح في رمضان.
([3]) البخاري (4275) في المغازي، باب: غزوة الفتح في رمضان.
([4]) انظر تفاصيل المعركة في البداية والنهاية (17/403) ط التركي.
([5]) الأطلاب جمع طلب، وهو لفظ كردي، معناه الأمير الذي يقود مائتي فارس في ميدان القتال، ويطلق أيضاً على قائد المائة أو السبعين، ثم عدل مدلوله فأصبح يطلق على الكتيبة من الجيش، انظر حاشية البداية والنهاية (18/28).
([6]) انظر تفاصيل الوقعة في البداية والنهاية (18/26) ط التركي.
4 ـ رمضان شهر القرآن والقيام:
القرآن وشهر رمضان:
قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
عن ابن عباس قال: (أنزل القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا، فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئاً أنزله منه حتى جمعه)([1]).
وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ([2]).
قال النووي: "إن مما يؤخذ من الحديث من الأحكام المستفادة: استحباب مدارسة القرآن في هذا الشهر المبارك"([3]).
وقال ابن حجر: "وفي الحديث من الفوائد... تعظيم شهر رمضان؛ لاختصاصه بابتداء نزول القرآن فيه، ثم معارضته ما نزل منه فيه، ويلزم من ذلك كثرة نزول جبريل فيه، وفي كثرة نزوله من توارد الخيرات والبركات ما لا يحصى، ويستفاد منه: أن فضل الزمان إنما يحصل بزيادة العبادة، وفيه أن مداومة التلاوة توجب زيادة الخير، وفيه استحباب تكثير العبادة في آخر العمر، ومذاكرة الفاضل بالخير والعلم، وإن كان هو لا يخفى عليه لزيادة التذكرة والاتعاظ، وفيه أن ليل رمضان أفضل من نهاره، وأن المقصود من التلاوة الحضور والفهم ؛ لأن الليل مظنة لذلك، لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية"([4]).
صور من اجتهاد السلف في تلاوة القرآن في شهر رمضان:
قال إبراهيم النخعي: "كان الأسود يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، فكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليالٍ"([5]).
وقال سلام بن أبي مطيع: "كان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختم كل ليلة"([6]).
وقال الربيع بن سليمان: "كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة"([7]).
وقال موسى بن معاوية: "رحلت من القيروان وما أظن أحداً أخشع من البهلول بن راشد، حتى لقيت وكيعاً، وكان يقرأ في رمضان في الليل ختمه، وثلثاً، ويصلي ثنتي عشرة من الضحى، ويصلي من الظهر إلى العصر"([8]).
وقال محمد بن زهير بن محمد: "كان أبي يجمعنا في وقت ختمه للقرآن في شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث مرات، يختم تسعين ختمة في رمضان"([9]).(/100)
وقال مسبح بن سعيد: "كان محمد بن إسماعيل – يعني البخاري – يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليال بختمة"([10]).
وقال أبو بكر الحداد: "أخذت نفسي بما رواه الربيع عن الشافعي أنه كان يختم في رمضان ستين ختمة، سوى ما يقرأ في الصلاة، فأكثر ما قعدت عليه تسعا وخمسين، وأتيت في غير رمضان بثلاثين ختمة"([11]).
القيام وشهر رمضان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))([12]).
قال ابن حجر: "أي قام لياليه مصلياً، والمراد من قيام الليل: ما يحصل به مطلق القيام"([13]).
وقال النووي: "معنى ((إيماناً)) تصديقاً بأنه حق مقتصد فضيلته، ومعنى ((واحتساباً)) أن يريد الله تعالى وحده، لا يقصد رؤية الناس، ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص، والمراد بقيام رمضان: صلاة التراويح"([14]).
من صور اجتهاد السلف في قيام رمضان:
قال علي ابن المديني: "كان سويد بن غفلة يؤمّنا في شهر رمضان في القيام، وقد أتى عليه عشرون ومائة سنة"([15]).
([1]) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (2/145) بسند صحيح.
([2]) البخاري (6) في بدء الوحي، باب كيفية بدء الوحي، مسلم (2308) في الفضائل، باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس.
([3]) شرح مسلم (15/69).
([4]) فتح الباري (9/45).
([5]) سير أعلام النبلاء (4/51).
([6]) سير أعلام النبلاء (5/276).
([7]) سير أعلام النبلاء (10/36).
([8]) سير أعلام النبلاء (12/109).
([9]) سير أعلام النبلاء (12/361).
([10]) سير أعلام النبلاء (12/439).
([11]) سير أعلام النبلاء (15/447).
([12]) البخاري (37) في الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، ومسلم (759) في الصيام، باب الترغيب في قيام رمضان.
([13]) فتح الباري (4/251).
([14]) شرح مسلم (6/39).
([15]) سير أعلام النبلاء (4/72).
5 ـ رمضان شهر التآخي والمحبة:
النفوس جبلت على حب من أحسن إليها، وتتجلى مظاهر التآخي والمحبة، في تفطير الصائمين، وهي إحدى حِكم حث الشارع عليها:
عن زيد بن خالد الجهني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فطّر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينتقص من أجر الصائم شيئاً))([1]).
وفي إخراج زكاة الفطر مظهر من مظاهر ذلك:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة([2]).
([1]) تقدم تخريجه.
([2]) البخاري (1503) في الزكاة، باب فرض صدقة الفطر، مسلم (986) في الزكاة، باب الأمر بإخراج زكاة الفطر قبل الصلاة
6 ـ رمضان شهر المغفرة والعتق من النيران:
ويتجلى ذلك في أعمالٍ ثلاثة:
1- صوم شهر رمضان إيماناً واحتساباً.
2- قيام شهر رمضان إيماناً واحتساباً.
3- قيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))([1]).
وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ماتقدم من ذنبه)) ([2]).
إيماناً: أي بدافع الإيمان بالله ورسوله، واليوم الآخر، وأنه حق، لا عن عادة أو تقليد.
احتساباً: أي خالصاً لوجه الله عز وجل([3]).
وغاية المغفرة العتق من النار.
([1]) البخاري (1901) في الصوم، باب من صام رمضان إيماناً واحتساباً ونية. ومسلم (760) في صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، واللفظ له.
([2]) البخاري (37) في الإيمان، باب تطوع قيام رمضان عن الإيمان، ومسلم (759) في الصيام، باب الترغيب في قيام رمضان.
([3]) انظر شرح النووي على مسلم (6/39).
7 ـ رمضان شهر التوبة والتقوى:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلّقت أبواب النار، وصفدت الشياطين))([1]).
قال القاضي عياض: "ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله تعالى لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عموما كالصيام والقيام، وكذلك تغليق أبواب النار وتصفيد الشياطين عبارة عما ينكفون عنه من المخالفات"([2]).
رمضان فرصة لأرباب الذنوب للتوبة:
يا من ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى الله في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيّره أيضاً شهر عصيان([3])
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان، ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجلٍ أدرك عنده أبواه الكبر، فلم يدخلاه الجنة))([4]).
رمضان موسم لتكفير الذنوب والخطايا:(/101)
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر))([5]).
رمضان مدرسة للتربية على التقوى، وهي حِكمة من حكم تشريع صومه:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
قال القرطبي: "قيل: معناه هنا: تضعفون، فإنه كلما قل الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلّت المعاصي، وهذا وجد مجازي حسن، وقيل: لتتقوا المعاصي، وقيل: هو على العموم، ولأن الصيام كما قال عليه السلام: ((الصيام جُنّة ووجاء)) وسبب تقوى، لأنه يميت الشهوات"([6]).
وقال ابن كثير: "{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لأن الصوم فيه تزكية للبدن، وتضييق لمسالك الشيطان، لهذا ثبت في الصحيحين: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء))([7])"([8]).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))([9]).
قال ابن المنير: "هو كناية عن عدم القبول كما يقول المغضب لمن رد عليه شيئاً طلبه عنه فلم يقم به: لا حاجة لي بكذا، فالمراد: رد الصوم المتلبس بالزور، وقبول السالم منه"([10]).
([1]) مسلم (1079) في الصيام، باب فضل شهر رمضان.
([2]) نقلاً عن شرح مسلم للنووي (7/188).
([3]) لطائف المعارف (ص282).
([4]) الترمذي (3545) في الدعوات، باب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنف رجلٍ، أحمد (7402) ونحوه عند ابن خزيمة (1888) في الصيام، باب استحباب الاجتهاد في رمضان.
([5]) صحيح مسلم (333) في الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان.
([6]) تفسير القرطبي (2/275-276).
([7]) البخاري (5065) في النكاح، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم من استطاع ، ومسلم (1400) في النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه.
([8]) تفسير ابن كثير (1/219).
([9]) البخاري (1903) في الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم.
([10]) نقلاً عن فتح الباري (4/117).
8 ـ رمضان شهر الإخلاص والصدق:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال سول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عندلقاء ربه، ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك))([1]).
قال القرطبي: "لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطَّلع عليه بمجرد فعله إلا الله، فأضافه الله إلى نفسه ولهذا قال في هذا الحديث: ((يدع شهوته من أجلي))"([2]).
وقال ابن الجوزي: "جميع العبادات تظهر بفعلها، وقلّ أن يسلم ما يظهر من شوب، بخلاف الصوم"([3]).
صور من إخلاص السلف وصدقهم:
قال الفلاس: "سمعت ابن أبي عدي يقول: "صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان خزازاً يحمل غداءه فيتصدق به في الطريق"([4]).
([1]) البخاري (5927) في اللباس، باب ما يذكر في المسك، مسلم (1151) في الصيام، باب فضل الصيام، اللفظ لمسلم.
([2]) نقله في فتح الباري (4/107).
([3]) نقله في فتح الباري (4/107).
([4]) سير أعلام النبلاء (6/378).
أحوال السلف في رمضان
أولاً: حالهم مع قراءة القرآن:
قال ابن رجب: "وفي حديث فاطمة رضي الله عنها، عن أبيها صلى الله عليه وسلم أنه أخبرها أنّ جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن كل عام مرةً، وأنّه عارضه في عام وفاته مرتين([1]).
وفي حديث ابن عباس أنّ المدارسة بينه وبين جبريل كانت ليلاً ([2])، فدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً؛ فإنّ الليل تنقطع فيه الشواغل، وتجتمع فيه الهمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر.
كما قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6]، وشهر رمضان له خصوصية بالقرآن، كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]"([3]).
ولهذا حرص السلف رحمهم الله على الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان:
1- عن إبراهيم قال: كان الأسود بن يزيد يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليالٍ([4]).
2- وعن وِقا بن إياس قال: كان سعيد بن جبير يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء في شهر رمضان، وكانوا يؤخرون العشاء([5])
3- وعن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير أنّه كان يختم القرآن في كل ليلتين([6])(/102)
4- وقيل: كان الوليد بن عبد الملك يختم في كل ثلاثٍ، وختم في رمضان سبع عشرة ختمه وكان يقول: "لولا أنّ الله ذكر قوم لوطٍ ما شعرت أن أحداً يفعل ذلك"([7])
5- وعن أبي عوانة قال: شهدت قتادة يدرس القرآن في رمضان([8])
6- وقال سلام بن أبي مطيع: كان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاثٍ، فإذا جاء العشر ختم كل ليلةٍ([9])
7- وقال الربيع بن سليمان: كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة، وفي كل شهر ثلاثين ختمة([10])
8- وقال موسى بن معاوية: كان وكيع بن الجراح يقرأ في رمضان في الليل ختمةً وثلثاً، ويصلي ثنتي عشرة من الضحى، ويصلي من الظهر إلى العص([11])
9- وقال محمد بن زهير بن محمد بن قمير: كان أبي يجمعنا في وقت ختمه للقرآن في شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث مرات، يختم تسعين ختمة في رمضان([12])
10- وقال مسبِّح بن سعيد: كان محمد بن إسماعيل البخاري يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليالٍ بختمة([13])
11- قال محمد بن علي بن حبيش: كان لأحمد بن عطاء البغدادي في كل يوم ختمة، وفي رمضان تسعون ختمة، وبقي في ختمةٍ مفردةٍ بضع عشرة سنة يتفهَّم ويتدبر([14])
12- وقال القاسم بن علي يصف أباه ابن عساكر صاحب (تاريخ دمشق): وكان مواظباً على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم كل جمعة أو يختم في رمضان كل يوم، ويعتكف في المنارة الشرقية([15])
13- قال الذهبي في ترجمة أبي البركات هبة الله بن محفوظ: "تفقَّه، وقرأ القرآن، وله صدقة وبرٌّ، كان يختم في رمضان ثلاثين ختمة ([16])
14- قال الذهبي: "سمعت الشيخ عبد الله بن حسن بن محمد الكردي بحرَّان يقول: قرأتُ في رمضان ثلاثين ختمة"([17])
([1]) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام رقم (3624)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة رضي الله عنها رقم (2449).
([2]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان رقم (1902)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير من الريح المرسلة رقم (2308).
([3]) لطائف المعارف (ص315).
([4]) سير أعلام النبلاء (4/51).
([5]) حلية الأولياء (6/273)، وسير أعلام النبلاء (4/324).
([6]) طبقات ابن سعد (6/275)، حلية الأولياء (4/273)، سير أعلام النبلاء (4/325).
([7]) سير أعلام النبلاء (4/347).
([8]) سير أعلام النبلاء (5/273).
([9]) سير أعلام النبلاء (5/276).
([10]) سير أعلام النبلاء (10/36، 83).
([11]) سير أعلام النبلاء (12/109).
([12]) سير أعلام النبلاء (12/361).
([13]) سير أعلام النبلاء (12/439).
([14]) سير أعلام النبلاء (14/255).
([15]) سير أعلام النبلاء (20/562).
([16]) سير أعلام النبلاء (21/266).
([17]) سير أعلام النبلاء (21/470).
ثانياً: حالهم في قيام الليل:
1- عن السائب بن يزيد قال: "أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبَي بن كعب وتميم الداري رضي الله عنهما أن يقوما للناس في رمضان، فكان القاريء يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلاَّ في فروع الفجر"([1]).
2- وعن مالك عن عبد الله بن أبي بكر قال: سمعت أبي يقول: "كنا ننصرف في رمضان من القيام، فيستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر"([2]).
3- وعن أبي عثمان النهدي قال: "أمر عمر بثلاثة قراء يقرؤون في رمضان، فأمر أسرعهم أن يقرأ بثلاثين آية، وأمر أوسطهم أن يقرأ بخمس وعشرين، وأمر أدناهم أن يقرأ بعشرين"([3]).
4- وعن داود بن الحصين عن عبد الرحمن بن هُرْمز قال: "سمعته يقول: ما أدركت الناس إلاّ وهم يلعنون الكفرة في شهر رمضان، قال: فكان القراء يقومون بسورة البقرة في ثمان ركعات، فإذا قام بها القراء في اثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف عنهم"([4]).
5- وقال نافع: كان ابن عمر رضي الله عنهما يقوم في بيته في شهر رمضان، فإذا انصرف الناس من المسجد أخذ إداوةً من ماءٍ ثم يخرج إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يخرج منه حتى يصلي فيه الصبح([5]).
6- وعن نافع بن عمر بن عبد الله قال: سمعت ابن أبي ملكية يقول: "كنت أقوم بالناس في شهر رمضان فأقرأ في الركعة الحمد لله فاطر ونحوها، وما يبلغني أنّ أحداً يسثقل ذلك"([6]).
7- وعن عمران بن حُدير قال: "كان أبو مجلز يقوم بالحي في رمضان يختم في كل سبع"([7]).
8- وعن سعيد بن عامر عن أسماء بن عبيد قال: "دخلنا على أبي رجاء العطاردي، قال سعيد: زعموا أنّه كان بلغ ثلاثين ومائة، فقال: يأتوني فيحملوني كأني قُفَّةٌ حتى يضعوني في مقام الإمام فأقرأ بهم الثلاثين آية وأحسبه قد قال: أربعين آية في كل ركعة يعني في رمضان"([8]).
وعن عبد الصمد قال حدثنا أبو الأشهب قال: " كان أبو رجاء يختم بنا في قيام رمضان لكل عشرة أيام"([9]).(/103)
9- وعن محمد بن عماره قال: أخبرني أبو أمية الثقفي عن عرفجة أن علياً كان يأمر الناس بالقيام في رمضان، فيجعل للرجال إماماً، وللنساء إماماً، قال: فأمرني فأممت النساء([10]).
10- وعن يزيد بن خصفة عن السائب بن يزيد، قال: "كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعة، قال: وكانوا يقرؤون بالمائتين، وكانوا يتوكؤون على عصيهم في عهد عثمان بن عفان من شدة القيام"([11]).
([1]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (7730)، وابن أبي شيبة، في كتاب صلاة التطوع والإقامة، باب صلاة رمضان (2/284)، والمروزي في مختصر قيام الليل (ص51)، واللفظ له، والبيهقي في الكبرى (2/496).
([2]) أخرجه مالك في الموطأ (1/116)، والمروزي في مختصر قيام الليل (ص51)، والبيهقي في الكبرى (2/497).
([3]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (7732)، واللفظ له، وابن أبي شيبة في كتاب صلاة التطوع والإقامة، باب صلاة رمضان (2/284)، والبيهقي في الكبرى (2/497).
([4]) أخرجه عبد الرزاق في الصنف رقم (7734)، واللفظ له، والبيهقي في الكبرى (2/497).
([5]) أخرجه البيهقي في الكبرى (2/494).
([6]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب صلاة التطوع والإقامة، باب صلاة رمضان (2/284).
([7]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب صلاة التطوع والإقامة، باب صلاة رمضان (2/284).
([8]) مختصر قيام الليل للمروزي (ص52).
([9]) حلية الأولياء (2/306)، سير أعلام النبلاء (4/257).
([10]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (7722)، والبيهقي في الكبرى (2/926).
([11]) أخرجه البيهقي في الكبرى (2/496)، وتقدم تخريجه في صلاة التراويح.
ثالثاً: حالهم في الجود والكرم إذا أقبل شهر رمضان:
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان. إنّ جبريل عليه السلام كان يلقاه في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ، فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة([1]).
قال المهلب: "وفيه بركة أعمال الخير، وأن بعضها يفتح بعضاً، ويعين على بعض ؛ ألا ترى أن بركة الصيام، ولقاء جبريل وعرضه القرآن عليه زاد في جود النبي صلى الله عليه وسلم وصدقته حتى كان أجود من الريح المرسلة"([2]).
وقال الزين بن المنير: "أي فيعم خيره وبره من هو بصفة الفقر والحاجة، ومن هو بصفة الغنى والكفاية أكثر مما يعم الغيث الناشئة عن الريح المرسلة صلى الله عليه وسلم"([3]).
وقال ابن رجب: "قال الشافعي رضي الله عنه: أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصَّوم والصلاة عن مكاسبهم"([4]).
2- كان ابن عمر رضي لله عنهما يصوم، ولا يفطر إلاَّ مع المساكين، فإذا منعهم أهله عنه، لم يتعشَّ تلك الليلة، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه، أخذ نصيبه من الطعام وقام، فأعطاه السائل، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجِفْنَةِ، فيصبح صائماً ولم يأكل شيئاً([5]).
3- يقول يونس بن يزيد: "كان ابن شهاب إذا دخل رمضان، فإنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام"([6]).
4- كان حماد بن أبي سليمان يفطِّر في شهر رمضان خمس مائة إنسان، وإنه كان يعطيهم بعد العيد لكل واحد مائة درهم([7]).
([1]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان رقم (1902)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس رقم (2308)، واللفظ له.
([2]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/22-23).
([3]) فتح الباري (4/139).
([4]) لطائف المعارف (ص315).
([5]) لطائف المعارف (314).
([6]) التمهيد (6/111).
([7]) سير أعلام النبلاء (5/234).
رابعاً: التقليل من الطعام:
1- قال إبراهيم بن أبي أيوب: كان محمد بن عمرو الغزي يأكل في شهر رمضان أكلتين([1]).
2- وقال أبو العباس هاشم بن القاسم: كنت عند المهتدي عشيَّةً في رمضان، فقمت لأنصرف، فقال: اجلس، فجلست، فصلى بنا، ودعا بالطعام، فأحضر طبقَ خِلافٍ، عليه أرغفةٌ، وآنية فيها ملحٌ وزيتٌ وخلٌّ. فدعاني إلى الأكل، فأكلت أكل من ينتظر الطبيخ، فقال: ألم تكن صائماًً؟ قلت: بلى، قال: فكل واستوفِ، فليس هنا غير ما ترى!([2]).
([1]) سير أعلام النبلاء (11/464).
([2]) سير أعلام النبلاء (12/536).
خامساً: حفظ اللسان، وقلة الكلام وتوقي الكذب:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور، والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه))([1]).
قال المهلب: "وفيه دليل أن حُكم الصيام الإمساك عن الرفث، وقول الزور، كما يمسك عن الطعام والشراب، وإن لم يمسك عن ذلك فقد تنقَّص صيامه، وتعرض لسخط ربه وترك قبوله منه"([2]).(/104)
2- وفي رواية مسلم: ((إذا أصبح أحدكم يوماً صائماً، فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤٌ شاتمه أو قاتله، فليقل: إني صائمٌ إني صائمٌ))([3]).
قال المازري في قوله: ((إني صائمٌ)): "يحتمل أن يكون المراد بذلك أن يخاطب نفسه على جهة الزجر لها عن السباب والمشاتمة"([4]).
3- قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ليس الصيام من الطعام والشراب وحده، ولكنه من الكذب والباطل واللغو والحلف)([5]).
4- وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (إنّ الصيام ليس من الطعام والشراب، ولكن من الكذب والباطل واللغو)([6]).
5- وعن طلق بن قيس قال: قال أبو ذر رضي الله عنه: "إذا صمت فتحفظ ما استطعت"، وكان طلق إذا كان يوم صومه دخل فلم يخرج إلاّ لصلاة([7]).
6- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك، ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء)([8]).
7- وعن أبي متوكل أن أبا هريرة رضي الله عنه وأصحابه كانوا إذا صاموا جلسوا في المسجد([9]).
8- وعن عطاء قال: سمعت أبا هريرة يقول: (إذا كنت صائماً فلا تجهل، ولا تساب، وإن جُهِل عليك فقل: إني صائم)([10]).
9- وعن مجاهد قال: "خصلتان من حفظهما سلم له صومه: الغيبة والكذب"([11]).
10- وعن أبي العالية قال: "الصائم في عبادة ما لم يغتب"([12]).
([1]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور، والعمل به في الصوم، رقم (1903).
([2]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/23).
([3]) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب حفظ اللسان للصائم رقم (1151).
([4]) المعلم بفوائد مسلم (2/41).
([5]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب (2/422).
([6]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب (2/422).
([7]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب (2/421).
([8]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب (2/422).
([9]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب (2/422).
([10]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف برقم (7456).
([11]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب (2/422).
([12]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب (2/423).
أحاديث شهر القرآن
أولاً: أحاديث في فضل الصيام:
1- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من صام يوما في سبيل الله بعَّد الله وجهَه عن النار سبعين خريفا([1]))) متفق عليه([2]).
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة([3])، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث يومئذ([4]) ولا يصخب([5])، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم. والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم([6]) أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك. وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربَّه فرح بصومه)) متفق عليه واللفظ لمسلم([7]).
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أنفق زوجين([8]) في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة))، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: ((نعم، وأرجو أن تكون منهم)) متفق عليه([9]).
4- عن سهل رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة بابا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)) متفق عليه واللفظ للبخاري([10]).
5- عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيُشفَّعان)) رواه أحمد([11]).
([1]) أي: سبعين عاما. قال الحافظ في الفتح: "تخصيص الخريف بالذكر دون بقية الفصول لأن الخريف أزكى الفصول لكونه يُجنى فيه الثمار".
([2]) أخرجه البخاري في الجهاد (2840)، ومسلم في الصيام (1153).(/105)
([3]) بضم الجيم، أي: وقاية وستر يقيه من النار ومن شهوات نفسه.
([4]) بضم الفاء، أي: لا يتكلم بالكلام الفاحش البذيء.
([5]) الصخب الخصام والصياح.
([6]) أي: الرائحة التي تنبعث من فمه من أثر الصوم.
([7]) أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151).
([8]) المراد بالزوجين إنفاق شيئين من أي صنف من أصناف المال من نوع واحد، فرسان أو عبدان أو بعيران..
([9]) أخرجه البخاري في الصوم (1897)، ومسلم في الزكاة (1027).
([10]) أخرجه البخاري في الصوم (1896)، ومسلم في الصيام (1152).
([11]) أخرجه أحمد (2/174)، وصححه الحاكم (2036)، وقال المنذري في الترغيب (2/84): "رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله محتج بهم في الصحيح، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع وغيره بإسناد حسن"، وقال الهيثمي في المجمع (10/381): "رواه أحمد وإسناده حسن على ضعف في ابن لهيعة وقد وثق"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (984، 1429).
ثانياً: أحاديث في فضل رمضان والعمل فيه:
6- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كلَّ ليلة في رمضان حتى ينسلخ([1])، يعرض عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجودَ بالخير من الريح المرسلة([2]). متفق عليه([3]).
7- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه([4]).
8- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه([5]).
9- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: ((قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم)) وذلك في رمضان. متفق عليه([6]).
10- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخل شهر رمضان فتِّحت أبواب السماء، وغلِّقت أبواب جهنم، وسُلسلت الشياطين)) متفق عليه واللفظ للبخاري([7]).
11- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر)) رواه مسلم([8]).
([1]) أي: حتى ينقضي.
([2]) المراد: هو في الإنفاق كالريح في إسراعها وعمومها.
([3]) أخرجه البخاري في الصوم (1902)، ومسلم في الفضائل (2308).
([4]) أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760).
([5]) أخرجه البخاري في الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين (759).
([6]) أخرجه البخاري في الجمعة (1129)، ومسلم في صلاة المسافرين (761).
([7]) أخرجه البخاري في الصوم (1899)، ومسلم في الصيام (1079).
([8]) أخرجه مسلم في الطهارة (233).
ثالثاً: أحاديث في فضل العشر الأواخر وليلة القدر:
12- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه([1]).
13- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدَّ مئزره([2])، وأحيا ليله، وأيقظ أهله. متفق عليه واللفظ للبخاري([3]).
14- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. رواه مسلم([4]).
15- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قُبَّة تركية على سُدَّتها حصير، قال: فأخذ الحصير بيده، فنحاها في ناحية القبَّة، ثم أطلع رأسه فكلَّم الناس، فدنوا منه فقال: ((إني اعتكفتُ العشرَ الأول ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفتُ العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحبَّ منكم أن يعتكف فليعتكف))، فاعتكف الناس معه، قال: ((وإني أُريتها ليلةَ وتر، وإني أسجد صبيحتها في طين وماء))، فأصبح من ليلة إحدى وعشرين وقد قام إلى الصبح، فمطرت السماء فوكف المسجد([5])، فأبصرت الطين والماء، فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وروثة أنفه([6]) فيهما الطين والماء، وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر. متفق عليه واللفظ لمسلم([7]).(/106)
16- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرِّيَها فليتحرَّها في السبع الأواخر)) متفق عليه([8]).
17- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان)) متفق عليه واللفظ للبخاري([9]).
18- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيتَ إن علمتُ أي ليلةٍ ليلةُ القدر ما أقول فيها؟ قال: ((قولي: اللهم إنك عفو كريم، تحب العفو، فاعف عني)) رواه أحمد وأصحاب السنن واللفظ للترمذي([10]).
([1]) أخرجه البخاري في الصوم (1901)، ومسلم في صلاة المسافرين (760).
([2]) أي: اعتزل نساءه، وقال: المراد الجد والاجتهاد في العبادة.
([3]) أخرجه البخاري في الاعتكاف (2024)، ومسلم في الاعتكاف (1174).
([4]) أخرجه مسلم في الاعتكاف (1175).
([5]) أي: سال من سقفه المطر.
([6]) أي: طرفه، ويقال لها أيضا: أرنبة.
([7]) أخرجه البخاري في الاعتكاف (2027)، ومسلم في الاعتكاف (1167).
([8]) أخرجه البخاري في صلاة التراويح (2015)، ومسلم في الصيام (1165).
([9]) أخرجه البخاري في صلاة التراويح (2017)، ومسلم في الصيام (1169).
([10]) أخرجه أحمد (6/182)، والترمذي في الدعوات (3580)، والنسائي في الكبرى (3130)، وابن ماجه في الدعاء (3850)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (1/530)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2789).
رابعاً: أحاديث في أحكام الصيام وآدابه:
19- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غَبِي عليكم([1]) فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) متفق عليه واللفظ للبخاري([2]).
20- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصامه وأمر الناس بصيامه. رواه الدارمي وأبو داود([3]).
21- عن حفصة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يبيِّت الصيامَ قبل الفجر([4]) فلا صيام له)) رواه أحمد وأصحاب السنن([5]).
22- عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: ((هل عندكم شيء؟)) فقلنا: لا، قال: ((فإني إذن صائم))، ثم أتانا يوما آخر فقلنا: يا رسول الله، أُهدي لنا حَيس([6])، فقال: ((أرِينيه، فلقد أصبحت صائما))، فأكل. رواه مسلم([7]).
23- عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر)) متفق عليه([8]).
24- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تسحَّروا فإن في السحور بركة)) متفق عليه([9]).
25- عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فصلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلةُ السحر)) رواه مسلم([10]).
26- عن أنس عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: تسحَّرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة، قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية. متفق عليه([11]).
27- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم الأعمى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن بلالا يؤذِّن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذِّن ابن أم مكتوم))، قال: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا. متفق عليه واللفظ لمسلم([12]).
28- عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم. متفق عليه واللفظ للبخاري([13]).
29- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم([14]))) متفق عليه([15]).
30- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رُطَبات، فإن لم تكن رُطَبات فتُميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء([16]). رواه أحمد وأبو داود والترمذي([17]).
31- عن سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة، فمن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور)) رواه أحمد وأصحاب السنن واللفظ للترمذي([18]).(/107)
32- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم([19])، فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله!! قال: ((وأيكم مثلي؟! إني أبيت يطعمني ربي ويسقين))، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما، ثم رأوا الهلال فقال: ((لو تأخَّر لزدتكم)) كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا. متفق عليه واللفظ للبخاري([20]).
33- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور والعملَ به([21]) فليس لله حاجةٌ في أن يدعَ طعامه وشرابَه)) رواه البخاري([22]).
34- عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فطَّر صائما كان له مثلُ أجرِه غيرَ أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا)) رواه أحمد وأصحاب السنن واللفظ للترمذي([23]).
35- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل وهو صائم، ويباشر وهو صائم([24])، ولكنه أملكُكُم لأَرَبه([25]). متفق عليه واللفظ لمسلم([26]).
36- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم. رواه البخاري، وروى مسلم شطره الأول([27]).
37- عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه مرَّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمنَ الفتح على رجل يحتجم بالبقيع لثمان عشرةَ خلت من رمضان وهو آخذ بيدي فقال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) رواه أحمد واللفظ له، وأصحاب السنن([28]).
38- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتمَّ صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه)) متفق عليه واللفظ لمسلم([29]).
39- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ذَرَعه القيء([30]) فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا فليقضِ)) رواه أحمد وأصحاب السنن واللفظ للترمذي([31]).
40- عن لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الوضوء، قال: ((أسبغ الوضوء، وخلِّل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما)) رواه أحمد وأصحاب السنن([32]).
41- عن جابر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى رجلا قد اجتمع الناس عليه، وقد ظلل عليه، فقال: ((ما له؟)) قالوا: رجل صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس من البر أن تصوموا في السفر)) متفق عليه واللفظ لمسلم([33]).
42- عن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أجد بي قوةً على الصيام في السفر، فهل عليَّ جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحبَّ أن يصوم فلا جناح عليه)) متفق عليه واللفظ لمسلم([34]).
43- عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم قالا: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصوم الصائم، ويفطر المفطر، فلا يعيب بعضهم على بعض. رواه مسلم([35]).
44- عن أنس رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلا في يوم حارٍّ، أكثرنا ظلا صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصُوَّام، وقام المفطرون فضربوا الأبنيةَ وسقوا الرِّكاب([36])، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذهب المفطرون اليوم بالأجر)) متفق عليه واللفظ لمسلم([37]).
45- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوسٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ((ما لك؟)) قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تجد رقبةً تعتقها؟)) قال: لا، قال: ((فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟)) قال: لا، فقال: ((فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟)) قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَقٍ فيها تمر([38])، والعرق المِكتل، قال: ((أين السائل؟)) فقال: أنا، قال: ((خذها فتصدق به))، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها([39]) ـ يريد الحرتين ـ أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: ((أطعمه أهلك)) متفق عليه واللفظ للبخاري([40]).
46- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يكون عليَّ الصومُ من رمضان، فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان. متفق عليه([41]).
47- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات وعليه صيام صام عنه وليه)) متفق عليه([42]).
([1]) غبِيَ عليكم بالتخفيف أي: خفِي عليكم.
([2]) أخرجه البخاري في الصوم (1909)، ومسلم في الصيام (1081) ولفظه عنده: ((فإن غُمِي عليكم فأكملوا العدد)).(/108)
([3]) أخرجه الدارمي في الصوم (1691)، وأبو داود في الصوم (2342)، والدارقطني (2/156) وقال: "تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب، وهو ثقة"، وصححه ابن حبان (3447)، والحاكم (1/423)، وابن حزم في المحلى (6/236)، والألباني في الإرواء (908).
([4]) أي: من لم ينو الصوم بالليل قبل طلوع الفجر.
([5]) أخرجه أحمد (6/287)، وأبو داود في الصوم (2454)، والترمذي في الصوم (730)، والنسائي في الصيام (2331)، وابن ماجه في الصيام (1700)، واختلف في رفعه ووقفه، فقال الترمذي: "حديث حفصة حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وقد روي عن نافع عن ابن عمر قوله وهو أصح، وهكذا أيضا روي هذا الحديث عن الزهري موقوفا، ولا نعلم أحدا رفعه إلا يحيى بن أيوب"، ونقل في العلل (202) عن البخاري أنه قال: "عن سالم عن أبيه عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم خطأ، وهو حديث فيه اضطراب، والصحيح عن ابن عمر موقوف"، وقال النسائي في الكبرى (2649): "والصواب عندنا موقوف، ولم يصح رفعه والله أعلم"، وقال أبو حاتم في العلل كما في التلخيص الحبير (2/188): "لا أدري أيهما أصح، لكن الوقف أشبه"، وصححه ابن خزيمة (1933)، وابن حزم في المحلى (6/162)، وقال الدارقطني (2/172): "رفعه عبد الله بن أبي بكر عن الزهري، وهو من الثقات الرفعاء"، وقال البيهقي (4/202): "قد اختُلف على الزهري في إسناده وفي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن أبي بكر أقام إسناده ورفعه، وهو من الثقات الأثبات"، وصححه الألباني في الإرواء (914).
([6]) الحَيْس بفتح الحاء المهملة هو التمر مع السمن والقط.
([7]) أخرجه مسلم في الصيام (1154).
([8]) أخرجه البخاري في الصوم (1957)، ومسلم في الصيام (1098).
([9]) أخرجه البخاري في الصوم (1922)، ومسلم في الصيام (1095).
([10]) أخرجه مسلم في الصيام (1096).
([11]) أخرجه البخاري في الصوم (1921)، ومسلم في الصيام (1097).
([12]) أخرجه البخاري في الصوم (1919)، ومسلم في الصيام (1092).
([13]) أخرجه البخاري في الصوم (1926)، ومسلم في الصيام (1109).
([14]) أي: دخل في وقت الإفطار، وهو خبر بمعنى الأمر، أي: فليفطر.
([15]) أخرجه البخاري في الصوم (1954)، ومسلم في الصيام (1100).
([16]) أي: شرب جرعات من ماء.
([17]) أخرجه أحمد (3/164)، وأبو داود في الصوم (2356)، والترمذي في الصوم (696)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الدارقطني (2/185)، والحاكم (1575)، وحسنه الألباني في الإرواء (932).
([18]) أخرجه أحمد (4/17)، وأبو داود في الصوم (2355)، والترمذي في الصوم (691)، والنسائي في الكبرى (3315)، وابن ماجه في الصيام (1699)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3514)، والحاكم (1/431-432)، ووافقه الذهبي، لكن في السند الرباب بنت صليع الضبية الراوية عن سلمان، قال الذهبي في الميزان (7/468): "لا تعرف إلا برواية حفصة بنت سيرين عنها"، وقال ابن حجر في التقريب (8582): "مقبولة"، وضعف الحديث الألباني في ضعيف الترمذي (110).
([19]) الوصال هو قصد الترك في ليالي الصيام لما يفطِر بالنهار.
([20]) أخرجه البخاري في الصوم (1965)، ومسلم في الصيام (1103).
([21]) المراد بقول الزور الكذب بجميع أنواعه، والمراد بالعمل به العمل بمقتضاه.
([22]) أخرجه البخاري في الصوم (1903).
([23]) أخرجه أحمد (4/114-115)، والترمذي في الصوم (804)، والنسائي في الكبرى (3330)، وابن ماجه في الصيام (1746)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3429)، وهو في صحيح الترمذي (647).
([24]) معنى المباشرة هنا اللمس باليد، وهو من التقاء البشرتين.
([25]) قال الحافظ في الفتح: "بفتح الهمزة والراء وبالموحَّدة، أي: حاجته، ويُروى بكسر الهمزة وسكون الراء، أي: عضوه، والأول أشهر، وإلى ترجيحه أشار البخاري بما أورده من التفسير".أ
([26]) أخرجه البخاري في الصوم (1927)، ومسلم في الصيام (1106).
([27]) أخرجه البخاري في الصوم (1938)، ومسلم في الحج (1202).
([28]) أخرجه أحمد (4/123)، وأبو داود في الصوم (2369)، والنسائي في الكبرى (3138)، وابن ماجه في الصيام (1681)، قال ابن خزيمة عقب الحديث (1965): "ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم))"، وصححه ابن حبان (3533)، والحاكم (1/428)، ووافقه الذهبي، ونقل البيهقي في الكبرى (4/267) تصحيح أحمد وابن راهويه وابن المديني والدارمي لهذا الحديث، وهو في صحيح أبي داود (2076).
([29]) أخرجه البخاري في الصوم (1933)، ومسلم في الصيام (1155).
([30]) ذرعه القيء أي: غلبه وسبقه.(/109)
([31]) أخرجه أحمد (2/498)، وأبو داود في الصوم (2380)، والترمذي في الصوم (720)، والنسائي في الكبرى (3130)، وابن ماجه في الصيام (1176)، قال الترمذي: "حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث عيسى بن يونس، و قال محمد ـ يعني البخاري ـ: لا أراه محفوظا"، وصححه ابن الجارود (385)، وابن خزيمة (1960، 1961)، وابن حبان (3518)، والحاكم (1/426-427)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء (930).
([32]) أخرجه أحمد (4/33)، وأبو داود في الصوم (2366)، والترمذي في الصوم (788)، والنسائي في الطهارة (87)، وابن ماجه في الطهارة (407)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (80)، وابن خزيمة (150)، وابن حبان (1087)، والحاكم (522)، وصححه الألباني في صحيح الإرواء (935).
([33]) أخرجه البخاري في الصوم (1946)، ومسلم في الصيام (1115).
([34]) أخرجه البخاري في الصوم (1943)، ومسلم في الصيام (1121).
([35]) أخرجه مسلم في الصيام (1117).
([36]) أي: سقوا الإبل.
([37]) أخرجه البخاري في الجهاد (2890)، ومسلم في الصيام (1119).
([38]) العرق بفتح أوله وثانيه، هذا هو الصواب المشهور في الرواية واللغة، ويقال له أيضا: الزَّبيل والزِّنبيل والقُفَّة والسفيفة والمِكتل بكسر الميم.
([39]) اللابتان واحدها لابة، وهي الحرة وهي الحجارة السود.
([40]) أخرجه البخاري في الصوم (1936)، ومسلم في الصيام (1111).
([41]) أخرجه البخاري في الصوم (1950)، ومسلم في الصيام (1146).
([42]) أخرجه البخاري في الصوم (1952)، ومسلم في الصيام (1147).
خامساً: أحاديث في فضل القيام:
48- عن عائشة رضي الله عنها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه([1])، فقالت عائشة: لِم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: ((أفلا أحبُّ أن أكون عبدا شكورا؟!)) فلما كثر لحمه صلى جالسا، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع. متفق عليه واللفظ للبخاري([2]).
49- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كلَّ عقدة: عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطا طيبَ النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)) متفق عليه([3]).
50- عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل([4]) الناس إليه، وقيل: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استثبتُّ وجهَ([5]) رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفتُ أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول شيء تكلم به أن قال: ((أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه([6]).
51- عن جابر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة)) رواه مسلم([7]).
52- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله رجلا قام من الليل فصلى، ثم أيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء([8])، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، ثم أيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)) رواه أحمد وأصحاب السنن([9]).
53- عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أيقظ الرجل أهلَه من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعا كُتبا في الذاكرين والذاكرات)) رواه أبو داود وابن ماجه([10]).
([1]) أي: تتشقق.
([2]) أخرجه البخاري في تفسير القرآن (4837)، ومسلم في صفة القيامة (2820).
([3]) أخرجه البخاري في الجمعة (1142)، ومسلم في صلاة المسافرين (776).
([4]) انجفل الناس بالجيم أي: أسرعوا ومضوا كلهم.
([5]) استثبته أي: تحققته وتبينته.
([6]) أخرجه أحمد، والترمذي في الجمعة (1142)، وابن ماجه في صلاة المسافرين (776)، وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح"، وصححه الحاكم (4283)، وهو في السلسلة الصحيحة (569).
([7]) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (757).
([8]) أي: رشَّ وجهها بالماء.
([9]) أخرجه أحمد (2/250)، وأبو داود في الصلاة (1113)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار (1592)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1326)، وصححه ابن خزيمة (1148)، وابن حبان (2567)، والحاكم (1164)، والنووي في الرياض (1181)، وهو في صحيح أبي داود (1160).(/110)
([10]) أخرجه أبو داود في الصلاة (1309)، والنسائي في الكبرى (1310)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1335)، وصححه ابن حبان (2569)، والحاكم (3561)، والنووي في الرياض (1182)، وهو في صحيح أبي داود (1161).
سادساً: أحاديث في فضل قراءة القرآن:
54- عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان ـ أو ـ كأنهما غيايتان([1]) ـ أو ـ كأنهما فرقان من طير([2]) صوافّ تحاجَّان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة([3]))) رواه مسلم([4]).
55- عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) رواه البخاري([5]).
56- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الماهر بالقرآن([6]) مع السفرة([7]) الكرام البررة([8])، والذي يقرأ القرآن ويتَتَعْتع فيه([9]) وهو عليه شاقٌّ له أجران)) متفق عليه واللفظ لمسلم([10]).
57- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجَّة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة([11]) ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة([12]) ليس لها ريح وطعمها مر)) متفق عليه([13]).
58- عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حسد إلا في اثنتين([14]): رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)) متفق عليه([15]).
59- عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين([16])، فتغشته سحابة، فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: ((تلك السكينة تنزَّلت للقرآن)) متفق عليه([17]).
60- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتقِ([18])، ورتِّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي([19]).
61- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) رواه الترمذي([20]).
62- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((اقرأ عليَّ))، قلت: ءأقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: ((فإني أحب أن أسمعه من غيري))، فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَاْ جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا}، قال: ((أمسك))، فإذا عيناه تذرفان. متفق عليه واللفظ للبخاري([21]).
([1]) الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما.
([2]) أي: قطيعان وجماعتان.
([3]) قال معاوية بن سلام أحد رواة الحديث: "بلغني أن البطلة السحرة".
([4]) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (804).
([5]) أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5027).
([6]) الماهر هو الحاذق الكامل الحفظ الذي لا يتوقف ولا يشق عليه القراءة لجودة حفظه وإتقانه.
([7]) السفرة جمع سافر وهم الرسل، وقيل: هم الكتبة.
([8]) البررة المطيعون، من البر وهو الطاعة.
([9]) الذي يتتعتع هو الذي يتردَّد في تلاوته لضعف حفظه.
([10]) أخرجه البخاري في تفسير القرآن (4937)، ومسلم في صلاة المسافرين (798).
([11]) هي كل نبت طيب الريح من أنواع المشموم.
([12]) الحنظلة نبات يمتد على الأرض كالبطيخ، وثمره يشبه ثمر البطيخ، لكنه أصغر منه جدا، ويضرب المثل بمرارته.
([13]) أخرجه البخاري في الأطعمة (5427)، ومسلم في صلاة المسافرين (797).
([14]) المراد: لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين وما في معناهما.
([15]) أخرجه البخاري في التوحيد (7529)، ومسلم في صلاة المسافرين (815).
([16]) أي: حبلين.
([17]) أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5011)، ومسلم في صلاة المسافرين (795).
([18]) أي: اعلُ وارتفع.
([19]) أخرجه أحمد (2/192)، وأبو داود في الصلاة (1464)، الترمذي في فضائل القرآن (2914) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (766)، والحاكم (2030)، وهو في صحيح أبي داود (1300).
([20]) أخرجه الترمذي في فضائل القرآن (2910) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وهو في صحيح الترمذي (2327).(/111)
([21]) أخرجه البخاري في تفسير القرآن (4582)، ومسلم في صلاة المسافرين (800).
سابعاً: أحاديث في الاعتكاف:
63- عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده. متفق عليه([1]).
64- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوما. رواه البخاري([2]).
65- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكَفه. متفق عليه واللفظ لمسلم([3]).
66- عن عائشة رضي الله عنها قالت: وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُدخل عليَّ رأسه وهو في المسجد فأرجِّله([4])، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا. متفق عليه([5]).
67- عن عائشة رضي الله عنها قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع. رواه أبو داود([6]).
68- عن صفية بنت حيي رضي الله عنها أنها جاءت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تزوره وهو معتكف في المسجد في العشر الغوابر من رمضان، فتحدثتْ عنده ساعة من العشاء ثم قامت تنقلب، فقام معها النبي صلى الله عليه وسلم يقلِبها، حتى إذا بلغت باب المسجد الذي عند مسكن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بهما رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نفذا([7])، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((على رِسلكما([8])، إنما هي صفية بنت حيي))، قالا: سبحان الله يا رسول الله، وكبُر عليهما ما قال: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما)) متفق عليه واللفظ للبخاري([9]).
([1]) أخرجه البخاري في الاعتكاف (2026)، ومسلم في الاعتكاف (1172).
([2]) أخرجه البخاري في الاعتكاف (2044).
([3]) أخرجه البخاري في الاعتكاف (2041)، ومسلم في الاعتكاف (1173).
([4]) أي: أمشطه وأسرِّحه.
([5]) أخرجه البخاري في الاعتكاف (2029)، ومسلم في الحيض (297).
([6]) أخرجه أبو داود في الصوم (2473) وقال: "غير عبد الرحمن بن إسحق لا يقول فيه: (قالت: السنة)، جعله قولَ عائشة"، وأخرجه أيضا الدارقطني (2/201)، والبيهقي (4/320) وقال: "قد ذهب كثير من الحفاظ إلى أن هذا الكلام من قول من دون عائشة، وأن من أدرجه في الحديث وهم فيه"، وأورده الألباني في صحيح السنن (2160).
([7]) أي: مضيا وخلفاه.
([8]) بكسر الراء ويجوز فتحها، أي: تمهَّلا أو قفا.
([9]) أخرجه البخاري في الأدب (6219)، ومسلم في السلام (2175).
ثامناً: أحاديث في فضل الصدقة:
69- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظلُّه: إمامٌ عدْلٌ، وشابٌّ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)) متفق عليه([1]).
70- عن حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول([2])، وخير الصدقة عن ظهر غِنًى([3])، ومن يستعففْ([4]) يعِفه الله، ومن يستغنِ يغنِه الله)) رواه البخاري واللفظ له، وروى مسلم أكثره([5]).
71- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غيرَ مفسدةٍ كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن([6]) مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجرَ بعض شيئا)) متفق عليه([7]).
72- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، ثم انصرف فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة فقال: ((أيها الناس، تصدقوا))، فمرَّ على النساء فقال: ((يا معشر النساء، تصدَّقن فإني رأيتكن أكثرَ أهلِ النار))، فقلن: وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: ((تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للُبِّ الرجل الحازم([8]) من إحداكن يا معشر النساء))، ثم انصرف، فلما صار إلى منزله جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه، فقيل: يا رسول الله، هذه زينب، فقال: ((أيُّ الزيانب؟)) فقيل: امرأة ابن مسعود، قال: ((نعم ائذنوا لها))، فأذن لها قالت: يا نبي الله، إنك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حُليٌّ لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه وولدَه أحقُّ من تصدقتُ به عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدق ابن مسعود، زوجُك وولدُك أحقُّ من تصدقتِ به عليهم)) رواه البخاري واللفظ له، وروى مسلم بعضه([9]).(/112)
73- عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله)) رواه مسلم([10]).
74- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا)) متفق عليه([11]).
75- عن يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل امرئ في ظلِّ صدقته حتى يفصل بين الناس ـ أو قال: ـ يحكم بين الناس)) قال يزيد: وكان أبو الخير لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة أو كذا. رواه أحمد([12]).
([1]) أخرجه البخاري في الزكاة (1423)، ومسلم في الزكاة (1031).
([2]) أي: من تلزمك نفقته من العيال والقرابة.
([3]) أي: أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية لأهله وعياله، ولذا قال أولا: ((وابدأ بمن تعول)).
([4]) أي: كفَّ عن الحرام وعن سؤال الناس.
([5]) أخرجه البخاري في الزكاة (1428)، ومسلم في الزكاة (1034).
([6]) الخازن هو الذي يكون بيده حفظ الطعام ونحوه.
([7]) أخرجه البخاري في الزكاة (1425)، ومسلم في الزكاة (1024).
([8]) اللبُّ هو الخالص من العقل، والرجل الحازم هو الضابط لأمره.
([9]) أخرجه البخاري في الزكاة (1462)، ومسلم في العيدين (889).
([10]) أخرجه مسلم في الزكاة (994).
([11]) أخرجه البخاري في الزكاة (1442)، ومسلم في الزكاة (1010).
([12]) أخرجه أحمد (4/147)، وأبو يعلى (1766)، والطبراني (17/280)، وصححه ابن خزيمة (2431)، وابن حبان (3310)، والحاكم (1/416)، وقال الهيثمي في المجمع (3/110): "رجال أحمد ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (872).
تاسعاً: أحاديث زكاة الفطر:
76- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفطر صاعا([1]) من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة. متفق عليه واللفظ للبخاري([2]).
77- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقِط([3]) أو صاعا من زبيب. متفق عليه([4]).
78- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث وطعمةً للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. رواه أبو داود وابن ماجه([5]).
([1]) الصاع هو ما يسع كيلويَون وعشرين غراما (2020 غرام) من البر الجيد.
([2]) أخرجه البخاري في الزكاة (1503)، ومسلم في الزكاة (984).
([3]) الأقط لبن مجفف يابس مستحجر يُطبخ به.
([4]) أخرجه البخاري في الزكاة (1506)، ومسلم في الزكاة (985).
([5]) أخرجه أبو داود في الزكاة (1609)، وابن ماجه في الزكاة (1827)، والدارقطي (2/138) وقال: "رواة هذا الحديث ليس فيهم مجروح"، وصححه الحاكم على شرط البخاري (1/409) ولكن تعقبه ابن عبد الهادي في المحرر (584) ونقل عن أبي محمد المقدسي أنه قال: "هذا إسناد حسن"، وحسنه أيضا الألباني في صحيح أبي داود (1420).
عاشراً: أحاديث في صيام التطوع: الصفحة السابقة الصفحة التالية
عاشراً: أحاديث في صيام التطوع:
79- عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صومه، قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وببيعتنا بيعةً. قال: فسئل عن صيام الدهر، فقال: ((لا صام ولا أفطر)) أو ((ما صام وما أفطر)). قال: فسئل عن صوم يومين وإفطار يوم، قال: ((ومن يطيق ذلك؟!)). قال: وسئل عن صوم يوم وإفطار يومين، قال: ((ليت أن الله قوَّانا لذلك)). قال: وسئل عن صوم يوم وإفطار يوم، قال: ((ذاك صوم أخي داود عليه السلام)). قال: وسئل عن صوم يوم الاثنين، قال: ((ذاك يوم وُلدت فيه، ويوم بُعثت أو أنزل علي فيه)). قال: فقال: ((صوم ثلاثة من كل شهر ورمضان إلى رمضان صوم الدهر)). قال: وسئل عن صوم يوم عرفة، فقال: ((يكفر السنة الماضية والباقية)). قال: وسئل عن صوم يوم عاشوراء، فقال: ((يكفر السنة الماضية)) رواه مسلم([1]).
80- عن ابن عباس رضي الله عنهما وسئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهرا إلا هذا الشهر يعني رمضان. متفق عليه واللفظ لمسلم([2]).(/113)
81- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)) قال: يعني يوم عاشوراء. رواه مسلم([3]).
82- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحبُّ أن يعرض عملي وأنا صائم)) رواه الترمذي([4]).
83- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحَبُّ الصيام إلى الله صيام داود؛ كان يصوم يوما ويفطر يوما، وأحبُّ الصلاة إلى الله صلاة داود؛ كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه)) متفق عليه واللفظ للبخاري([5]).
84- عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر)) رواه مسلم([6]).
85- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) رواه مسلم([7]).
86- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي بثلاث، لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر. متفق عليه واللفظ للبخاري([8]).
87- عن معاذة العدوية أنها سألت عائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، فقلت لها: من أي أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم. رواه مسلم([9]).
88- عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، وأيام البيض: صبيحة ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة)) رواه النسائي([10]).
89- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الله، ألم أخبَر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟!)) فقلت: بلى يا رسول الله، قال: ((فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإنَّ لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله))، فشدَّدتُ فشدّد عليَّ، قلت: يا رسول الله، إني أجد قوة، قال: ((فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد عليه))، قلت: وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام؟ قال: ((نصف الدهر))، فكان عبد الله يقول بعد ما كبر: يا ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه واللفظ للبخاري([11]).
90- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان. متفق عليه([12]).
([1]) أخرجه مسلم في الصيام (1162).
([2]) أخرجه البخاري في الصوم (2006)، ومسلم في الصيام (1132).
([3]) أخرجه مسلم في الصيام (1134).
([4]) أخرجه الترمذي في في الصوم (747) وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1041).
([5]) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3420)، ومسلم في الصيام (1159).
([6]) أخرجه مسلم في الصيام (1164).
([7]) أخرجه مسلم في الصيام (1163).
([8]) أخرجه البخاري في الجمعة (1178)، ومسلم في صلاة المسافرين (721).
([9]) أخرجه مسلم في الصيام (1160).
([10]) أخرجه النسائي في الصيام (2420)، وصحح إسناده الحافظ في الفتح (4/227)، وحسنه الألباني في صحيح السنن (2276).
([11]) أخرجه البخاري في الصوم (1975)، ومسلم في الصيام (1159).
([12]) أخرجه البخاري في الصوم (1969)، ومسلم في الصيام (1156).
حادي عشر: أحاديث في الصوم المنهي عنه:
91- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتقدَّمنَّ أحدُكم رمضانَ بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجلٌ كان يصوم صومَه، فليصم ذلك اليوم)) متفق عليه واللفظ للبخاري([1]).
92- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر. متفق عليه واللفظ لمسلم([2]).
93- عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله)) رواه مسلم([3]).
94- عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم قالا: لم يرخَّص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي. رواه البخاري([4]).
95- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تخْتصُّوا ليلةَ الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخُصُّوا يومَ الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم)) رواه مسلم([5]).(/114)
96- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده)) متفق عليه واللفظ لمسلم([6]).
97- عن صِلَة بن زُفَر قال: كنا عند عمار بن ياسر، فأتي بشاة مصلية، فقال: كلوا، فتنحى بعض القوم فقال: إني صائم، فقال عمار: من صام اليوم الذي يشُكُّ فيه الناس فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. رواه أصحاب السنن واللفظ للترمذي([7]).
98- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه، وما أنفقت من نفقة عن غير أمره فإنه يؤدَّى إليه شطره)) متفق عليه واللفظ للبخاري([8]).
([1]) أخرجه البخاري في الصوم (1914)، ومسلم في الصيام (1082).
([2]) أخرجه البخاري في الصوم (1991)، ومسلم في الصيام (1138).
([3]) أخرجه مسلم في الصيام (1141).
([4]) أخرجه البخاري في الصوم (1998).
([5]) أخرجه مسلم في الصيام (1144).
([6]) أخرجه البخاري في الصوم (1985)، ومسلم في الصيام (1144).
([7]) علقه البخاري بصيغة الجزم في الصوم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا..))، ووصله أبو داود في الصوم (2334)، والترمذي في الصوم (681)، والنسائي في الصيام (2188)، وابن ماجه في الصيام (1645)، قال الترمذي: "وفي الباب عن أبي هريرة وأنس. وحديث عمار حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (1914)، وابن حبان (3585، 3595)، والدارقطني (2/157)، والحاكم (1542)، وصححه الحافظ في تغليق التعليق (3/140-141)، وأورده الألباني في صحيح الترمذي (553).
([8]) أخرجه البخاري في النكاح (5195)، ومسلم في الزكاة (1026).
ثاني عشر: أحاديث لا تثبت:
99- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الأعمال عند الله عز وجل سبع: عملان موجبان، وعملان بأمثالهما، وعمل بعشر أمثاله، وعمل بسبعمائة، وعمل لا يعلم ثواب عامله إلا الله عز وجل. فأما الموجبان فمن لقي الله يعبده مخلصا لا يشرك به شيئا وجبت له الجنة، ومن لقي الله قد أشرك به وجبت له النار، ومن عمل سيئة جزي بها، ومن أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها جزي مثلها، ومن عمل حسنة جزي عشرا، ومن أنفق ماله في سبيل الله ضعفت له نفقته، الدرهم سبعمائة، والدينار سبعمائة، والصيام لله عز وجل لا يعلم ثواب عامله إلا الله عز وجل لا يعلم ثواب عامله إلا الله عز وجل)) رواه الطبراني والبيهقي([1]).
100- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اغزوا تغنموا، وصوموا تصحوا، وسافروا تستغنوا)) رواه الطبراني([2]).
101- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام يوما ابتغاء وجه الله تعالى بعَّده الله عز وجل من جهنم كبعد غراب طار وهو فرخ حتى مات هرما)) رواه أحمد([3]).
102- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل شيء زكاة وزكاة الجسد الصوم، والصيام نصف الصبر)) رواه ابن ماجه([4]).
103- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان وعرف حدوده وتحفظ مما كان ينبغي له أن يتحفظ فيه كفَّر ما كان قبله)) رواه أحمد([5]).
104- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدرك رمضان بمكة فصام وقام منه ما تيسر له كتب الله له مائة ألف شهر رمضان فيما سواها، وكتب الله له بكل يوم عتق رقبة، وكل ليلة عتق رقبة، وكل يوم حملان فرس في سبيل الله، وفي كل يوم حسنة، وفي كل ليلة حسنة)) رواه ابن ماجه([6]).
105- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطها أمة قبلهم: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزيِّن الله عز وجل كلَّ يوم جنته ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المئونة والأذى ويصيروا إليك، ويصفَّد فيه مردة الشياطين فلا يخلصوا إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة))، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: ((لا، ولكن العامل إنما يوَفى أجرَه إذا قضى عمله)) رواه أحمد([7]).(/115)
106- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان أول ليلة من رمضان فتحت أبواب السماء فلا يغلق منها باب حتى يكون آخر ليلة من رمضان، وليس عبد مؤمن يصلي في ليلة فيها إلا كتب الله له ألفا وخمسمائة حسنة بكل سجدة، وبنى له بيتا في الجنة من ياقوتة حمراء لها ستون ألف باب، لكل منها قصر من ذهب موشح بياقوتة حمراء، فإذا صام أول يوم من رمضان غفر له ما تقدم من ذنبه إلى ذلك اليوم من شهر رمضان، واستغفر له كل يوم سبعون ألف ملك من صلاة الغداة إلى أن توارى بالحجاب، وكان له بكل سجدة يسجدها في شهر رمضان بليل أو نهار شجرة يسير الراكب في ظلها خمسمائة عام)) رواه البيهقي([8]).
107- عن سلمان رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان قال: ((يا أيها الناس، قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه، ومن فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء))، قالوا: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم، فقال رسول الله: ((يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على تمرة، أو شربة ماء، أو مذقة لبن، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، من خفَّف عن مملوكه فيه غفر الله له وأعتقه من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال، خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنها، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار، ومن سقى صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة)) رواه ابن أبي أسامة وابن خزيمة([9]).
108- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أظلكم شهركم هذا بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مر بالمسلمين شهر قط خير لهم منه، وما مر بالمنافقين شهر قط أشر لهم منه، بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليكتب أجره ونوافله ويكتب إصره وشقاءه من قبل أن يدخله، وذاك لأن المؤمن يعِد فيه القوةَ من النفقة للعبادة، ويعِد فيه المنافق ابتغاء غفلات المؤمنين وعوراتهم، فهو غُنم للمؤمن يغتنمه الفاجر)) رواه أحمد([10]).
109- عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاكم رمضان، شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، وينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرا، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل)) رواه الطبراني([11]).
110- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذاكر الله في رمضان مغفور له، وسائل الله فيه لا يخيب)) رواه الطبراني([12]).
111- عن أنس رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ فقال: ((شعبان لتعظيم رمضان))، قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: ((صدقة في رمضان)) رواه الترمذي([13]).
112- عن علي بن حسين رضي الله عنهم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اعتكف عشرا في رمضان كان كحجتين وعمرتين)) رواه الطبراني والبيهقي([14]).
([1]) أخرجه الطبراني في الأوسط (865)، والبيهقي في الشعب (3589)، قال الهيثمي في المجمع (3/182): "فيه يحيى بن المتوكل وقد ضعفه جمهور الأئمة، ووثقه ابن معين في رواية وضعفه في أخرى"، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (572): "ضعيف جدا".
([2]) أخرجه الطبراني في الأوسط (8312)، وقال المنذري في الترغيب (2/83): "رواته ثقات"، وكذا قال الهيثمي في المجمع (3/179)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (573).
([3]) أخرجه أحمد (2/526) وفي إسناده عبد الله بن لهيعة ورجل لم يسمَّ، ولذا ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1330).
([4]) أخرجه ابن ماجه في الصيام (1745) من طريقين، وأشار المنذري إلى ضعفه (2/85)، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/79): "هذا إسناد ضعيف من الطريقين معا، فيه موسى بن عبيدة الربذي وهو متفق على تضعيفه، ومدار الإسنادين عليه"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1329).
([5]) أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص98)، ومن طريقه أحمد (3/55)، وأبو يعلى (1058)، والبيهقي في الكبرى (4/304)، وصححه ابن حبان (3433)، لكن فيه عبد الله بن قرط لم يرو عنه غير يحيى بن أيوب، وأورده ابن أبي حاتم (5/140) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وقال الحسيني في الإكمال: "مجهول"، وضعفه الألباني في تمام المنة (ص395).(/116)
([6]) أخرجه ابن ماجه في المناسك (3117)، والبيهقي في الشعب (3729، 4149) من طريق عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال البيهقي: "تفرد به عبد الرحيم بن زيد وليس بالقوي"، وقال في الموضع الثاني: "عبد الرحيم بن زيد العمي ضعيف يأتي بما لا يتابعه الثقات عليه"، وقال عنه الحافظ في التقريب: "متروك كذبه ابن معين"، وأبوه زيد ضعيف، وقد حكم الألباني على الحديث بالوضع ضعيف الترغيب (585).
([7]) أخرجه أحمد (2/292)، والبزار (1/458- كشف الأستار)، ومحمد بن نصر في قيام رمضان (ص112)، والبيهقي في الشعب (3602)، وقال البزار: "لا نعلمه عن أبي هريرة مرفوعاً إلا بهذا الإسناد، وهشام بصري يقال له: هشام بن زياد أبو المقدام، حدث عنه جماعة من أهل العلم وليس هو بالقوي في الحديث"، وقال الهيثمي في المجمع (3/140): "رواه أحمد والبزار، وفيه هشام بن زياد أبو المقدام وهو ضعيف"، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (586): "ضعيف جداً".
([8]) أخرجه البيهقي في الشعب (3635) وقال: "قد روينا في الأحاديث المشهورة ما يدل على هذا أو بعض معناه"، وفي سنده محمد بن مروان السدي متهم بالكذب، ولذا قال الألباني في ضعيف الترغيب (588): "موضوع".
([9]) أخرجه الحارث في مسنده (318- بغية الباحث)، وابن خزيمة (3/191-1887)، وابن أبي حاتم في العلل (1/249)، وابن عدي في الكامل (5/293)، قال أبو حاتم: "هذا حديث منكر"، وانظر تخريجه في السلسلة الضعيفة (871).
([10]) أخرجه أحمد (2/374)، وابن خزيمة (3/188)، والطبراني في الأوسط (9/21)، قال الهيثمي في المجمع (3/141): "رواه أحمد والطبراني في الأوسط عن تميم مولى ابن زمانة، ولم أجد من ترجمه"، وفي إسناده أيضاً عمرو بن تميم قال الذهبي في الميزان (5/302): "عمرو بن تميم عن أبيه عن أبي هريرة في فضل رمضان وعنه كثير بن زيد، قال البخاري: في حديثه نظر"، وقال العقيلي في الضعفاء (3/260): "لا يتابع عليه"، وهو في ضعيف الترغيب (590).
([11]) عزاه المنذري في الترغيب (2/99) إلى الطبراني من حديث عبادة رضي الله عنه وقال: "رواته ثقات إلا محمد بن قيس لا يحضرني فيه جرح ولا تعديل"، وقال الهيثمي في المجمع (3/142): "رواه الطبراني في الكبير، وفيه محمد بن أبي قيس ولم أجد من ترجمته"، وحكم عليه الألباني بالوضع في ضعيف الترغيب (592).
([12]) أخرجه الطبراني في الأوسط (6170)، وأشار المنذري إلى ضعفه في الترغيب (2/104)، وقال الهيثمي في المجمع (3/143): "فيه هلال بن عبد الرحمن وهو ضعيف"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (600).
([13]) أخرجه الترمذي في الزكاة (663) وقال: "هذا حديث غريب، وصدقة بن موسى ليس عندهم بذاك القوي"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (618).
([14]) أخرجه الطبراني في الكبير (3/128)، والبيهقي في الشغب (3966)، وأشار المنذري إلى ضعفه في الترغيب (2/149)، وقال الهيثمي في المجمع (3/143): "فيه عيينة بن عبد الرحمن القرشي وهو متروك"، وحكم عليه الألباني بالوضع في السلسلة الضعيفة (518).
أحاديث لا تثبت في شهر رمضان وصيامه
1 ـ ما جاء في النهي عن قول رمضان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقولوا رمضان، فإن رمضان اسم الله، ولكن قولوا: شهر رمضان)) ([1]).
([1]) رواه ابن عدي في الكامل (7/2517)، والجورقاني في الأباطيل (2/88) وقال: "هذا حديث باطل مداره على أبي معشر واسمه نجيح السندي عن سعيد"، وابن الجوزي في الموضوعات كتاب الصوم باب النهي أن يقال رمضان (1117) وقال: "هذا حديث موضوع لا أصل له"
2 ـ أحاديث في فضل شهر رمضان وصيامه وعظيم منزلته:
عن عائشة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سلمت الجمعة سَلِمت الأيام، وإذا سلم رمضان سلمت السنة))([1]).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تبارك وتعالى ليس بتاركٍ أحدًا من المسلمين صبيحة أول يوم من رمضان إلا غفر له))([2]).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول إله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن الله عز وجل أذن للسموات والأرض أن تتكلم لبشرت الذي يصوم رمضان بالجنة))([3]).(/117)
وعن عبد الله مسعود رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ـ وقد أهل رمضان -: ((لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنَّت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها)) فقال رجل من خزاعة: حدثنا به، قال: ((إن الجنة تزين لرمضان من رأس الحول إلى الحول، حتى إذا كان أول يوم من رمضان، هبَّت ريح من تحت العرش فصفقت ورق الجنة، فينظر الحور العين إلى ذلك فيقلن: يا رب اجعل لنا من عبادك في هذا الشهر أزواجًا تقر أعيننا بِهم، قال: فما من عبد يصوم رمضان إلا زُوِّج زوجة من الحور العين في خيمة من در مجوفة مما نعت الله عز وجل: {حُورٌ مَّقْصُوراتٌ فِى الْخِيَامِ} [الرحمن:72]، على كل امرأة سبعون حلة، ليس فيها حلة على لون الأخرى، ويعطى سبعين لونًا من الطيب ليس منها لون على ريح الآخر، لكل امرأة منهن سبعون سريرًا من ياقوتة حمراء موشحة بالدر، على كل سرير سبعون فراشًا بطائنها من إستبرق، وفوق السبعين فراشًا سبعون أريكة، لكل امرأة منهن سبعون ألف وصيفة لحاجاتها، وسبعون ألف وصيف، مع كلّ وصيف صحفة من ذهب فيها لون طعام يجد لآخر لقمة لذة لا يجدها لأوله، يعطى زوجها مثل ذلك على سرير من ياقوت أحمر، هذا لكل يوم صامه من رمضان، سوى ما عمل من الحسنات))([4]).
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان فقال: ((أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعًا، من تقرب فيه بخصلة من الخير، كان كمن أدَّى فريضة فيما سواه، ومن أدَّى فيه فريضة، كان كمن أدَّى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن، من فطَّر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء))، قالوا: ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم، فقال: ((يعطي الله هذا الثواب من فطر صائمًا على تمرة أو شربة ماء أو مذقة لبن، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، من خفف عن مملوكه غفر الله له وأعتقه من النار، واستكثروا فيه أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه، وأما اللتان لا غنى بكم عنهما، فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار، ومن أشبع فيه صائمًا سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة)) ([5]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت أمتي في رمضان خمس خصال، لم تعطها أمة قبلهم: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويصفَّد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون في غيره، ويزيِّن الله عز وجل في كل يوم جنته، ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى، ويصيروا إليك، ويغفر لهم في آخر ليلة، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يُوفَّى أجره إذا قضى عمله)) ([6]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا تصحوا)) ([7]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أفطر يومًا من رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صوم الدهر وإن صامه)) ([8]).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صَمْتُ الصائمِ تسبيحٌ، ونومه عبادة، ودعاؤه مستجاب، وعمله مضاعف)) ([9]).
([1]) رواه ابن حبان في المجروحين ( 2/140)، وابن عدي في الكامل (5/288) وقال: حديث باطل لا أصل له، وأبو نعيم في الحلية (7/140)، وابن الجوزي في الموضوعات (2/557)، وقال: تفرد به عبد العزيز، قال يحيى: ليس هو بشيء، هو كذاب خبيث يضع الحديث، وقال محمد بن عبد الله بن نُمير: "هو كذاب".
([2]) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (5/91)، ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات (2/551) وقال: هذا حديث لا يصح، وقال الألباني: موضوع السلسلة الضعيفة (296).
([3]) رواه ابن الشجري في أماليه (2/41)، وابن أبي الصقر في مشيخته (106)، وابن الجوزي في الموضوعات (2/553) وقال: هذا حديث لا يصح، وأقره على الحكم بالوضع السيوطي في اللآلئ (2/103)، وابن عراق في تنْزيه الشريعة (2/147)، والشوكاني في الفوائد المجموعة (258).(/118)
([4]) رواه أبو يعلى في مسنده (9/180/5273)، وابن خزيمة في صحيحه كتاب الصيام، باب ذكر تزيين الجنة لشهر رمضان (1886)، وقال: "إن صح الخبر فإن في القلب من جرير بن أيوب البجلي"، والشاشي في مسنده (2/77)، والطبراني في الكبير (22/388)، وابن شاهين في فضائل شهر رمضان (38)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/313)، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات كتاب الصوم، باب تزين الجنة لصوام رمضان (1119) وقال: "هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتهم به: جرير بن أيوب"، وقال: "وقد رويت في هذا المعنى أحاديث لا تثبت قد ذكرتها في «الأحاديث الواهية»".
([5]) رواه الحارث في مسنده (بغية الباحث للهيثمي رقم (318) ) وابن خزيمة في صحيحه كتاب الصوم باب فضائل شهر رمضان إن صح الخبر (1887)، وابن أبي حاتم في العلل (1/249)، والمحاملي في الأمالي (1/287)، وابن عدي في الكامل (5/293)، وابن شاهين في فضائل شهر رمضان (38)، قال أبو حاتم: هذا حديث منكر اهـ، وللتوسع في تخريجه انظر (حاشية تحقيق مشيخة أبي طاهر ص113).
([6]) رواه الإمام أحمد (2/292)، والحارث في مسنده (بغية الباحث للهيثمي 316)، والبزار (كشف الأستار 1/458) وقال: "لا نعلمه عن أبي هريرة مرفوعاً إلا بهذا الإسناد، وهشام بصري يقال له: هشام بن زياد أبو المقدام، حدث عنه جماعة من أهل العلم وليس هو بالقوي في الحديث"، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (8/12/3013)، وابن شاهين في فضائل شهر رمضان (48)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/304)، وقال الألباني: "ضعيف جدًا " ضعيف الترغيب والترهيب (1/294).
([7]) رواه العقيلي في الضعفاء (2/92) في ترجمة زهير بن محمد، وقال: "لا يتابع عليه إلا من وجه فيه لين"، والطبراني في الأوسط (8/147)، وابن عدي في الكامل (7/57)، قال العراقي في تخريج الإحياء (3/75): "رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الطب النبوي من حديث أبي هريرة بسند ضعيف"، وانظر: السلسلة الضعيفة للألباني (253).
([8]) رواه البخاري تعليقًا غير مجزوم به كتاب الصيام باب إذا جامع في رمضان (2/683)، ووصله الترمذي كتاب الصوم باب ما جاء في الإفطار متعمدًا (723) وقال: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وسمعت محمدًا يقول: أبو المطوس اسمه يزيد بن المطوس ولا أعرف له غير هذا الحديث"، وأبو داود كتاب الصيام، باب التغليظ في من أفطر عمدًا (2396)، وابن ماجه كتاب الصوم، باب ما جاء في كفارة من أفطر يومًا من رمضان (1672)، والنسائي في الكبرى: كتاب الصوم (2/24/3279)، وابن خزيمة في صحيحه كتاب الصوم باب التغليظ في إفطار يوم من رمضان متعمدًا من غير رخصة إن صح الخبر فإني لا أعرف ابن المطوس ولا أباه غير أن حبيب ابن أبي ثابت قد ذكر أنه لقي أبا المطوس (1987)، قال الحافظ في الفتح (4/161): "واختلف فيه على حبيب بن أبي ثابت اختلافاً كثيرًا، فحصلت فيه ثلاث علل: الاضطراب، والجهل بحال أبي المطوس، والشك في سماع أبيه من أبي هريرة".
([9]) رواه ابن أبي الصقر في مشيخته (46)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3493). ورواه بلفظ: ((نوم الصائم عبادة، وسكوته تسبيح، ودعاؤه مستجاب)) من حديث ابن أبي أوفى: ابن صاعد في مسند ابن أبي أوفى (43)، والبيهقي في الشعب (3/415)، ومن حديث ابن مسعود: أبو نعيم في الحلية (5/83)، ورواه معضلاً من حديث محمد بن علي بن الحسين الجرجاني في تاريخ جرجان (1/370)، قال العراقي في تخريج الإحياء (1/182): "رويناه في أمالي ابن منده من رواية ابن المغيرة القواس عن عبد الله بن عمر بسند ضعيف، ولعله عبد الله بن عمرو، فإنهم لم يذكروا لابن المغيرة رواية عنه، ورواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وفيه سليمان بن عمر النخعي أحد الكذابين".
3 ـ ما جاء في فضل السحور:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فرأى رجلاً طليحًا (يعني ذابلاً) فقال: ((ما له؟)) فقالوا: صائم يا رسول الله، قال: ((من أحب أن يقوى على الصوم فليتسحر، وليَقِلْ، وليشمَّ طيبًا، ولا يفطر على ماء))([1]).
([1]) رواه ابن حبان في المجروحين (1/363)، والبيهقي في شعب الإيمان (3911)، ومن طريق آخر ابن عدي في الكامل (6/282)، وسئل عنه الدراقطني فقال:"يرويه أبو عبيدة الحداد عن هشام عن قتادة عن أنس مرفوعًا، والصواب عن أنس أنه من قوله"، (العلل 4/31/أ)، نقلاً عن حاشية تحقيق مشيخة أبي طاهر (138).
4 ـ ما جاء في المفطرات:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خمس يفطرن الصائم وينقضن الوضوء: الكذب والنميمة والغيبة والنظرة بشهوة واليمين الكاذبة)) ([1]).(/119)
وعن عبيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم: أن امرأتين صامتا، وإن رجلاً قال: يا رسول الله، إن هاهنا امرأتين قد صامتا، وإنّهما كادتا أن تموتا من العطش، فأعرض عنه أو سكت، ثم عاد ـ وأراه قال: بالهاجرة – قال: يا نبي الله، إنهما والله قد ماتتا أو كادتا أن تموتا، قال: ((ادعهما))، فجاءتا، قال: فجيء بقدح أو عُسٍّ، فقال لإحداهما: ((قيئي))، فقاءت قيحًا ودمًا وصديدًا ولحمًا حتى قاءت نصف القدح، ثم قال للأخرى: ((قيئي)) فقاءت من قيح ودم وصديد ولحم عبيط وغيره حتى ملأت القدح، ثم قال: ((إنّ هاتين صامتا عما أحل الله وأفطرتا على ما حرم الله عز وجل عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى، فجعلتا تأكلان لحوم الناس))([2]).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((من تأمل خَلْق امرأة؛ حتى حجم عظامها، ورأى ثيابَها، وهو صائمٌ، فقد أفطر))([3]).
([1]) رواه الجورقاني في الأباطيل (1/351) وقال: "هذا حديث باطل وفي إسناده ظلمات" وسردها، وابن الجوزي في الموضوعات كتاب الصوم، باب ما يبطل الصوم (1131) وقال: "هذا مضوع، ومن سعيد إلى أنس كلهم مطعون فيه"، قال ابن أبي حاتم في العلل (1/258): سألت أبي عن هذا الحديث فقال: "هذا حديث كذب"، وانظر: السلسلة الضعيفة للألباني (1708).
([2]) رواه الإمام أحمد (5/431)، وابن أبي الدنيا في الصمت (1/123)، وأبو يعلى في مسنده (3/147)، وفي المفاريد (87)، والروياني في مسنده (1/481) وابن حزم في المحلى (6/178)، ورواه من حديث سعد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن قانع في معجم الصحابة (1/257)، ومن حديث أنس ابن أبي الدنيا في الصمت (1/122)، قال العراقي: "رواه أحمد عن عبيد الله مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه رجل لم يسمّ "ا هـ، تخريج الإحياء (3/123)، ومدار الأسانيد عليه، انظر: السلسلة الضعيفة للألباني (519).
([3]) رواه ابن عدي في الكامل (2/343)، (3/76)، ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات (2/559)، وقال: "هذا حديثٌ موضوع، وفي إسناده كذابان"، وأقره السيوطيّ في اللآلئ (2/105)، وابن عراق في تنزيه الشريعة (2/147)، والشوكاني في الفوائد المجموعة (94).
5 ـ الفطر في السفر:
عن كعب بن عاصم الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس من امبر امصيام في امسفر)) ([1]).
([1]) رواه بهذا اللفظ الشافعي (مسند الشافعي 1/157)، والحميدي (2/381)، وأحمد (5/434)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/63)، والطبراني في الكبير (19/172). وتفرد بهذا اللفظ معمر عن الزهري، وباقي الرواة عن الزهري: سفيان وابن جريج ومحمد بن أبي حفص والزبيدي كلهم رووه بلفظ: ((ليس من البر الصيام في السفر)). لذا حكم الألباني بالشذوذ على اللفظ الأول، انظر الضعيفة (1130).
6 ـ ما يقال عند الإفطار:
عن ابن عباس وأنس رضي الله عنهم: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: ((اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، اللهم تقبل منا، إنك أنت السميع العليم))([1]).
([1]) رواه من حديث ابن عباس: الدراقطني في السنن (240) وابن السني في عمل اليوم والليلة (474)، والطبراني في الكبير (3/174)، ومن حديث أنس: الطبراني في الأوسط (7/298)، وفي الصغير (189). ويرويه من طريق آخر مرسلاً: ابن المبارك في الزهد (1410)، وأبو داود في كتاب الصيام، باب: القول عند الإفطار (2358) وفي المراسيل (1/124)، قال ابن القيم في الزاد (2/51): "لا يثبت"، وضعفه ابن حجر في التلخيص (2/444)، والألباني في الإرواء (4/36).
7 ـ الترغيب في الاعتكاف:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها، كان خيرًا له من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يومًا ابتغاء وجه الله تعالى، جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق، كل خندق أبعد مما بين الخافقين))([1]).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اعتكف عشرًا في رمضان، كان كحجتين وعمرتين)) ([2]).
([1]) رواه الطبراني في الأوسط (7/221)، والخطيب في تاريخ بغداد (4/126)، وقال: "غريب لا أعلم رواه عن عطاء غير أبي رواد"،والبيهقي في شعب الإيمان (3/425)،وضعَّفه، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/517)، ونقل كلام الخطيب البغدادي السابق، وضعَّفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (662).
([2]) رواه الطبراني في المعجم الكبير (3/128)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/425)، وضعَّف إسناده. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/173): "رواه الطبراني في الكبير وفيه عيينة بن عبد الرحمن القرشي، وهو متروك"، وحكم عليه الألباني بالوضع في الضعيفة (518).
8 ـ الترغيب في زكاة الفطر وعظم شأنها:
عن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((شهر رمضان معلق بين السماء والأرض، لا يرفع إلى الله إلاّ بزكاة الفطر))([1]).(/120)
([1]) رواه ابن الجوزي في العلل المتناهية من حديث جرير وأنس (2/498-499) وقال: "هذان حديثان لا يصحان، أما الأول: ففيه عبد الرحمن بن عثمان، قال أحمد بن حنبل: طرح الناس حديثه. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وأما الثاني فإن فيه محمد بن عبيد مجهول". ورواه أحمد بن عيسى المقدسي في فضائل جرير (2/24/2) كما في السلسلة الضعيفة للألباني (43)، وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (9/121) من حديث أنس.
9 ـ أحاديث متفرقة:
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((افترض الله على أمتي الصوم ثلاثين يومًا، وافترض على سائر الأمم أقل وأكثر، وذلك لأن آدم لما أكل من الشجرة بقي في جوفه مقدار ثلاثين يومًا، فلما تاب الله عليه أمره بصيام ثلاثين يومًا بلياليهن، فافترض عليَّ وعلى أمتي بالنهار، وما نأكل بالليل ففضل من الله عز وجل))([1]).
وعن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب قال: ((اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان))([2]).
وعن عاصم الأحول قال: (سألت أنس بن مالك، أيستاك الصائم؟ قال: نعم، قلت: برطب السواك ويابسه؟ قال: نعم، قلت: في أول النهار وآخره؟ قال: نعم، قلت له: عن من؟ قال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)([3]).
([1]) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (13/35)، وقال: "موسى بن نصر هو أبو عمران الثقفي سكن سمرقند وكان غير ثقة"اهـ، ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات (2/543)، ونقل كلام الخطيب المتقدم، وأقره على حكمه عليه بالوضع السيوطي في اللآلئ (2/97)، وابن عراق في تنزيه الشريعة (2/145)، والشوكاني في الفوائد المجموعة (87).
([2]) رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند في مسند ابن عباس (1/259)، والبزار في مسنده (كشف الأستار: 616)، والطبراني في الأوسط (4/189)، وأبو نعيم في الحلية (6/169)،والبيهقي في شعب الإيمان (3/375) وقال: "قال البخاري: زائدة بن أبي الرقاد عن زياد النميري منكر الحديث". والحديث قد ضعفه النووي في الأذكار (572)، وابن حجر في تبيين العجب (18)، والهيثمي في المجمع (2/165).?
([3]) رواه ابن حبان في المجروحين (1/102) وقال (1/241): "لا أصل لهذا الحديث من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من حديث أنس، وإبراهيم يروي عن عاصم المناكير التي لا يجوز الاحتجاج بها"، والبيهقي في السنن الكبرى (4/272)، وابن الجوزي في الموضوعات (2/558) ونقل كلام ابن حبان السابق ولم يتعقبه
ما يخص المسافر من أحكام الصيام
الفصل الأول: بيان حكم الفطر والصوم للمسافر:
المسألة الأولى: مشروعية الفطر للمسافر.
يجوز للمسافر سفرا يباح فيه قصر الصلاة، وكان غيرَ عاص بسفره هذا أن يفطر في رمضان حالَ سفره، وعليه قضاء المدة التي أفطر فيها. ودليل ذلك: الكتاب، والسنّة، والإجماع.
أما دليل الكتاب:
فقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدةٌ مِنْ أَيامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} [البقرة:185].
قال الطبري رحمه الله: "يعني بقوله جل ثناؤه: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً}: من كان منكم مريضا، ممن كلِّف صومه، أو كان صحيحا غير مريض وكان على سفر {فَعِدةٌ مِنْ أَيامٍ أُخَرَ}. يقول: فعليه صوم عدة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره {فَعِدةٌ مِنْ أَيامٍ أُخَرَ}. يعني: من أيام أخر غير أيام مرضه أو سفره"([1]).
وقال ابن كثير رحمه الله: "معناه: ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه أو يؤذيه، أو كان على سفر أي: في حال السفر فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه عدة ما أفطره في السفر من الأيام"([2]).
وأما دليل السنّة: فقد دل على ذلك السنة القولية والفعلية:
فعن أنس بن مالك رجلٍ من بني عبد الله بن كعب رضي الله عنه قال: أغارت علينا خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يتغدى فقال: ((ادن فكل))، فقلت: إني صائم، فقال: ((ادن أحدثك عن الصوم ـ أو الصيام ـ، إن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل أو المرضع الصوم ـ أو الصيام ـ))([3]).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: ((أولئك العصاة، أولئك العصاة))([4]).
وأما الإجماع: فقال ابن عبد البر رحمه الله: "وأجمع الفقهاء على أن المسافر بالخيار، إن شاء صام وإن شاء أفطر"([5])، وقال ابن قدامة رحمه الله: "وأجمع المسلمون على إباحة الفطر للمسافر بالجملة"([6])، وقال ابن تيمية رحمه الله: "واتفق المسلمون على أن الفطر في السفر جائز"([7]).
فرع: إذا كان سفره سفر معصية، هل له الأخذ برخصة الفطر أم لا؟(/121)
اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: لا يجوز له الفطر في سفر المعصية، وبه قالت المالكية والشافعية والحنابلة([8]).
واستدلوا بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145].
قالوا: وقد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن الباغي هو الباغي على الإمام الذي يجوز قتاله، والعادي هو العادي على المسلمين وهم المحاربون قطاع الطريق، فإذا ثبت أن الميتة لا تحل لهم فسائر الرخص أولى، وقالوا: إذا اضطر العاصي بسفره أمرناه أن يتوب ويأكل ولا نبيح له إتلاف نفسه.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وهذه حجج ضعيفة؛ أما الآية فأكثر المفسرين قالوا: المراد بالباغي الذي يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال، والعادي الذي يتعدى القدر الذي يحتاج إليه، وهذا التفسير هو الصواب دون الأول؛ لأن الله أنزل هذا في السور المكية: الأنعام والنحل، وفي المدينة: ليبين ما يحل وما يحرم من الأكل، والضرورة لا تختص بسفر، ولو كانت في سفر فليس السفر المحرم مختصا بقطع الطريق والخروج على إمام، ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إمام يخرج عليه، ولا من شرط الخارج أن يكون مسافرا، والبغاة الذين أمر الله بقتالهم في القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين ولا كان الذين نزلت الآية فيهم أولا مسافرين، بل كانوا من أهل العوالي مقيمين واقتتلوا بالنعال والجريد، فكيف يجوز أن تفسر الآية بما لا يختص بالسفر، وليس فيها كل سفر محرم؟ فالمذكور في الآية لو كان كما قيل لم يكن مطابقا للسفر المحرم، فإنه قد يكون بلا سفر، وقد يكون السفر المحرم بدونه"([9]).
القول الثاني: أنه يجوز له الفطر في أي سفر كان، وهو قول الحنفية، واختاره ابن حزم وابن تيمية([10]).
واستدلوا: بعموم قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185].
قالوا: فعم تعالى الأسفار كلها، ولم يخص سفرا من سفر، وما كان ربك نسيا.
قال ابن تيمية رحمه الله: "والحجة مع من جعل القصر والفطر مشروعا في جنس السفر، ولم يخص سفرا من سفر وهذا القول هو الصحيح؛ فإن الكتاب والسنة قد أطلقا السفر، قال تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، كما قال في آية التيمم: {وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء:43] الآية، وكما تقدمت النصوص الدالة على أن المسافر يصلي ركعتين، ولم ينقل قط أحد عن النبي أنه خص سفرا من سفر مع علمه بأن السفر يكون حراما ومباحا، ولو كان هذا مما يختص بنوع من السفر لكان بيان هذا من الواجبات، ولو بيَّن ذلك لنقلته الأمة، وما علمت عن الصحابة في ذلك شيئا، وقد علق الله ورسوله أحكاما بالسفر كقوله تعالى في التيمم: {وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}، وقوله في الصوم: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ}، وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء:101]، وقول النبي: ((يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن))، وقوله: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم))، وقوله: ((إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة))، ولم يذكر قط في شيء من نصوص الكتاب والسنة تقييد السفر بنوع دون نوع، فكيف يجوز أن يكون الحكم معلقا بأحد نوعي السفر ولا يبين الله ورسوله ذلك؟!"([11]).
فرع: إذا سافر من أجل الفطر، هل يجوز له الأخذ برخصة الفطر أم لا؟
قال ابن القيم رحمه الله: "وإن كانت الحيلة فعلا تفضي إلى غرض له، مثل: أن يسافر في الصيف ليتأخَّر عنه الصوم إلى الشتاء لم يحصل غرضه، بل يجب عليه الصوم في هذا السفر"([12]).
المسألة الثانية: حكم من صام في رمضان وهو متلبس بالسفر؟
اختلف أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يجوز له الصوم بنية رمضان، ولو صام وجب عليه القضاء في الحضر. حكي ذلك عن عمر وأبي هريرة وعبد الرحمن بن عوف وابن عمر، والزهري وأبي سلمة وإبراهيم النخعي، وغيرهم([13])، وبه قال ابن حزم([14]).
قال ابن عبد البر رحمه الله: "وهو قول شاذ، هجره الفقهاء كلهم"([15]).
واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} [البقرة:184].
قالوا: ظاهره فعليه عدة، أو فالواجب عدة.(/122)
ورُدَّ عليهم بأنه استدلالٌ باطلٌ قطعا، فإن الذي أنزلت عليه هذه الآية ـ وهو أعلم الخلق بمعناها والمراد منها ـ قد صام بعد نزولها بأعوام في السفر, ومحال أن يكون المراد منها ما ذكرتم, ولا يعتقده مسلم, فعُلم أن المراد بها غير ما ذكرتم، فإما أن يكون المعنى: فأفطرَ فعدةٌ من أيام أخر, كما قال الأكثرون, أو يكون المعنى: فعدة من أيام أخر تجزي عنه, وتقبل منه, ونحو ذلك. فما الذي أوجب تعيينَ التقدير بأن عليه عدة من أيام أخر, أو ففرضُه, ونحو ذلك؟ وبالجملة: ففِعلُ من أُنزلت عليه تفسيرُها, وتبيينُ المراد منها, وبالله التوفيق. وهذا موضع يغلط فيه كثير من قاصري العلم, يحتجون بعموم نص على حكم, ويغفلون عن عمل صاحب الشريعة وعمل أصحابه الذي يبين مراده, ومن تدبَّر هذا علم به مراد النصوص, وفهم معانيها([16]).
2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: ((أولئك العصاة، أولئك العصاة))([17]).
قال ابن القيم رحمه الله: "وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أولئك العصاة)) فذاك في واقعة معينة, أراد منهم الفطر فخالفه بعضهم، فقال هذا"([18]).
وقال ابن حجر رحمه الله: "ولا حجة في شيء من ذلك؛ لأن مسلما أخرج من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم صام بعد هذه القصة في السفر، ولفظه: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، فنزلنا منزلا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا))، فكانت رخصة، فمنَّا من صام، ومنا من أفطر، فنزلنا منزلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم مصبحو عدوكم فالفطر أقوى لكم فأفطروا))، فكانت عزيمة فافطرنا، ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر. وهذا الحديث نص في المسألة، ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان لأنه عزم عليهم فخالفوا، وهو شاهد لما قلناه من أن الفطر أفضل لمن شق عليه الصوم، ويتأكد ذلك إذا كان يحتاج إلى الفطر للتقوي به على لقاء العدو"([19]).
3- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: ((ما هذا؟)) فقالوا: صائم، فقال: ((ليس من البر الصوم في السفر))([20]).
قالوا: ومقابلة البر الإثم، وإذا كان آثما بصومه لم يجزئه.
ورد عليهم بأنه ليس في هذا الحديث ما ينافي إذنه لهم في الصيام في السفر، فإنه نفى أن يكون من البر ولم ينف أن يكون جائزا مباحا، والفرض يسقط بفعل النوع الجائز المباح إذا أتى المأمور به، والمراد به كونه في السفر ليس من البر كما لو صام وعطش نفسه بأكل المالح، أو صام وأضحى للشمس، فإنه يقال: ليس من البر الصيام في الشمس. ولهذا قال سفيان بن عيينة: معناه: ليس من صام بأبر ممن لم يصم. ففي هذا دليل على أن الفطر أفضل، فإنه آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صام أولا في السفر ثم أفطر فيه، ومن كان يظن أن الصوم في السفر نقص في الدين فهذا مبتدع ضال"([21]).
ورد عليهم أيضاً بأن هذا خرج على شخص معين, رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظلل عليه, وجهده الصوم, فقال هذا القول, أي: ليس البر أن يجهد الإنسان نفسه حتى يبلغ بها هذا المبلغ, وقد فسح الله له في الفطر. فالأخذ إنما يكون بعموم اللفظ الذي يدل سياق الكلام على إرادته، فليس من البر هذا النوع من الصيام المشار إليه في السفر. وأيضا فقوله: ((ليس من البر)) أي: ليس هو أبر البر؛ لأنه قد يكون الإفطار أبر منه إذا كان في حج أو جهاد يتقوَّى عليه، وقد يكون الفطر في السفر المباح برًّا, لأن الله تعالى أباحه ورخص فيه, وهو سبحانه يحب أن يؤخذ برخصه, وما يحبه الله فهو بر, فلم ينحصر البر في الصيام في السفر، وتكون "من" على هذا زائدةٌ, ويكون كقوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ...} [البقرة:177] الآية، وكقولك: ما جاءني من أحد, وفي هذا نظرٌ. وأحسن منه أن يقال: إنها ليست بزائدة, بل هي على حالها، والمعنى: إن الصوم في السفر ليس من البر الذي تظنونه وتتنافسون عليه، فإنهم ظنوا أن الصوم هو الذي يحبه الله ولا يحب سواه, وأنه وحده البر الذي لا أبر منه, فأخبرهم أن الصوم في السفر ليس من هذا النوع الذي تظنونه, فإنه قد يكون الفطر أحب إلى الله منه, فيكون هو البر([22]).
4- عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر))([23]).
قال ابن حجر رحمه الله: "وعلى تقدير صحته فهو محمول على ما تقدم أولاً حيث يكون الفطر أولى من الصوم. والله أعلم"([24]).(/123)
5- واحتجوا: بأن الفطر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم رحمه الله: "وأما كون الفطر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد به واقعةٌ معينةٌ, وهي غزاة الفتح, فإنه صام حتى بلغ الكديد, ثم أفطر, فكان فطره آخر أمريه, لا أنه حرَّم الصوم, ونظير هذا قول جابر: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مسته النار، إنما هو في واقعة معينة دعي لطعام فأكل منه, ثم توضأ وقام إلى الصلاة, ثم أكل منه وصلى ولم يتوضأ، فكان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار. وجابر هو الذي روى هذا وهذا, فاختصره بعض الرواة, واقتصر منه على آخره، ولم يذكر جابر لفظا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا آخر الأمرين مني, وكذلك قصة الصيام, وإنما حكوا ما شاهده أنه فعل هذا وهذا, وآخرهما منه الفطر وترك الوضوء, وإعطاء الأدلة حقها يزيل الاشتباه والاختلاف عنها"([25]).
القول الثاني: صحة الصيام، ولا قضاء عليه، وهو مذهب جمهور الصحابة، والحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة([26]).
واستدلوا بما يلي:
1- عن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه))([27]).
2- عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة([28]).
3- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فإن ذلك حسن([29]).
القول الثالث: من سافر بعد دخول رمضان فعليه صومه كله. حكي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس، وأبي مخلد وعبيدة السلماني وأبي مجلز وسويد بن غفلة([30]).
ومما استدلوا به:
1- قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه} [البقرة:185]. قالوا: وهذا قد شهده، ولأنه لما استهل في الحضر لزمه صوم الإقامة، وهو صوم الشهر حتما، فهو بالسفر يريد إسقاطه عن نفسه فلا يملك ذلك.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وإذا صام على هذا الوجه معتقدا وجوب الصوم عليه وتحريم الفطر فقد أمر طائفة من السلف والخلف بالإعادة"([31]).
والراجح في هذه المسألة قول الجمهور، القاضي بجواز الصوم وجواز الفطر في رمضان لمن كان مسافراً، وأن من صام فصيامه صحيح.
قال الطبري رحمه الله: "وهذا القول عندنا أولى بالصواب؛ لإجماع الجميع على أن مريضا لو صام شهر رمضان ـ وهو ممن له الإفطار لمرضه ـ أن صومه ذلك مجزئ عنه، ولا قضاء عليه إذا برأ من مرضه بعدة من أيام أخر، فكان معلوما بذلك أن حكم المسافر حكمه في أن لا قضاء عليه إن صامه في سفره؛ لأن الذي جعل للمسافر من الإفطار وأمر به من قضاء عدة من أيام أخر مثل الذي جعل من ذلك للمريض وأمر به من القضاء. ثم في دلالة الآية كفاية مغنية عن استشهاد شاهد على صحة ذلك بغيرها، وذلك قول الله تعالى ذكره: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، ولا عسر أعظم من أن يلزم من صامه في سفره عدة من أيام أخر، وقد تكلَّف أداء فرضه في أثقل الحالين عليه حتى قضاه وأداه. فإن ظن ذو غباوة أن الذي صامه لم يكن فرضه الواجب، فإن في قول الله تعالى ذكره: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ} [البقرة:183]، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] ما ينبئ أن المكتوب صومه من الشهور على كل مؤمن هو شهر رمضان مسافرا كان أو مقيما؛ لعموم الله تعالى ذكره المؤمنين بذلك بقوله: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ}، {شَهْرُ رَمَضَانَ}، وأن قوله: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} معناه: ومن كان مريضا أو على سفر فأفطر برخصة الله فعليه صوم عدة أيام أخر مكان الأيام التي أفطر في سفره أو مرضه. ثم في تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله إذ سئل عن الصوم في السفر: ((إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر)) الكفاية الكافية عن الاستدلال على صحة ما قلنا في ذلك بغيره"([32]).
وقال ابن تيمية رحمه الله: "والصحيح الذي عليه الجمهور جواز الأمرين"([33]).
فرع: إذا علم أن الصوم في السفر مباح، فهل الصوم لمن قوي عليه ولم يُلحِق به ضررًا أفضل أم الفطر؟
اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك إلى أقوال:(/124)
القول الأول: إن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يُلحق به ضررا، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية([34]).
واستدلوا بما يلي:
1- عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة([35]).
2- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فإن ذلك حسن([36]).
القول الثاني: أن الفطر أفضل عملا بالرخصة، وبه قالت الحنابلة([37]).
واستدلوا بما يلي:
1- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زحاما ورجلا قد ظلِّل عليه، فقال: ((ما هذا؟)) فقالوا: صائم، فقال: ((ليس من البر الصوم في السفر))([38]).
2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: ((أولئك العصاة، أولئك العصاة))([39]).
3- عن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه))([40]).
4- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته))([41]).
القول الثالث: أفضلهما أيسرُهما، وهو قول عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة، واختاره ابن المنذر([42]).
واستدلوا بما يلي:
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
قالوا: فإن كان الفطر أيسرَ عليه فهو أفضل في حقه، وإن كان الصيام أيسرَ كمن يسهل عليه حينئذ ويشقّ عليه قضاؤه بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل.
قال ابن تيمية رحمه الله: "قد ثبت في الصحيح عن النبي أن حمزة بن عمرو سأله فقال: إنني رجل أكثر الصوم أفأصوم في السفر؟ فقال: ((إن أفطرت فحسن، وإن صمت فلا بأس)). فإذا فعل الرجل في السفر أيسر الأمرين عليه من تعجيل الصوم أو تأخيره فقد أحسن، فإن الله يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر، أما إذا كان الصوم في السفر أشقَّ عليه من تأخيره فالتأخير أفضل، فإن في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته))"([43]).
وقال ابن حجر رحمه الله: "فالحاصل أن الصوم لمن قوي عليه أفضل من الفطر، والفطر لمن شق عليه الصوم أو أعرض عن قبول الرخصة أفضل من الصوم، وأن من لم يتحقق المشقة يخيَّر بين الصوم والفطر"([44]).
القول الرابع: أنه مخيَّر مطلقاً([45]).
والراجح في هذه المسألة القول الثالث القاضي بالتفصيل.
قال ابن حجر رحمه الله: "والذي يترجح قول الجمهور، ولكن قد يكون الفطر أفضل لمن اشتد عليه الصوم وتضرر به، وكذلك من ظنَّ به الإعراض عن قبول الرخصة، كما تقدم في المسح على الخفين وسيأتي نظيره في تعجيل الإفطار، وقد روى أحمد من طريق أبي طعمة قال: قال رجل لابن عمر: إني أقوى على الصوم في السفر، فقال له ابن عمر: (من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة)، وهذا محمول على من رغب عن الرخصة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من رغب عن سنتي فليس مني)). وكذلك من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر، فقد يكون الفطر أفضل له، وقد أشار إلى ذلك ابن عمر فروى الطبري من طريق مجاهد قال: (إذا سافرت فلا تصم؛ فإنك إن تصم قال أصحابك: اكفوا الصائم، ارفعوا للصائم، وقاموا بأمرك، وقالوا: فلان صائم، فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك)"([46]).
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "والصواب: أن المسافر له ثلاث حالات:
الأولى: أن لا يكون لصومه مزية على فطره، ولا لفطره مزية على صومه، ففي هذه الحالة يكون الصوم أفضل له للأدلة الآتية:
أولاً: أن هذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان في يوم شديد الحر ،حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، ولا فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة.
ثانياً: أنه أسرع في إبراء الذمة؛ لأن القضاء يتأخر، والأداء وهو صيام رمضان يقدَّم.
ثالثاً: أنه أسهل على المكلف غالباً؛ لأن الصوم والفطر مع الناس أسهل من أن يستأنف الصوم بعد كما هو مجرب ومعروف.
رابعاً: أنه يدرك الزمن الفاضل، وهو رمضان، فإن رمضان أفضل من غيره؛ لأنه محل الوجوب.(/125)
فلهذه الأدلة يترجح ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله أن الصوم أفضل في حق من يكون الصوم والفطر عنده سواء.
الحالة الثانية: أن يكون الفطر أرفق به، فهنا نقول: إن الفطر أفضل، وإذا شق عليه بعض الشيء صار الصوم في حقه مكروهاً؛ لأن ارتكاب المشقة مع وجود الرخصة يشعر بالعدول عن رخصة الله عز وجل.
الحالة الثالثة: أن يشق عليه مشقة شديدة غير محتملة، فهنا يكون الصوم في حقه حراماً.
والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما شكى إليه الناس أنه قد شق عليهم الصيام، وينتظرون ما سيفعل الرسول صلى الله عليه وسلم دعا بإناء به ماء بعد العصر، وهو على بعير فأخذه وشربه، والناس ينظرون إليه، ثم قيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: ((أولئك العصاة، أولئك العصاة))، فوصفهم بالعصاة، فهذا ما يظهر لنا من الأدلة في صوم المسافر"([47]).
([1]) جامع البيان (2/137).
([2]) تفسير القرآن العظيم (1/222).
([3]) أخرجه أحمد (4/347)، والترمذي في الصوم، باب: ما جاء في الرخصة في الإفطار للحبلى والمرضع (715)، والنسائي في الصيام (2274)، وابن ماجه في الصيام، باب: ما جاء في الإفطار للحامل والمرضع (1667). قال الترمذي :"حديث أنس بن مالك الكعبي حديث حسن، ولا نعرف لأنس بن مالك هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث الواحد. والعمل على هذا عند أهل العلم". وأورده الألباني في صحيح الترمذي (575).
([4]) أخرجه مسلم في الصيام (1114).
([5]) التمهيد (9/67).
([6]) المغني (4/345).
([7]) مجموع الفتاوى (26/93).
([8]) ينظر: حاشية العدوي (1/569)، والمجموع (6/260)، وكشاف القناع (1/505).
([9]) مجموع الفتاوى (24/109) وما بعدها.
([10]) ينظر: تبين الحقائق (1/216)، والمحلى (6/243)، ومجموع الفتاوى (24/109).
([11]) ينظر: مجموع الفتاوى (24/109-110).
([12]) إغاثة اللهفان (1/372).
([13]) ينظر: فتح الباري (4/183).
([14]) المحلى (6/243).
([15]) التمهيد (22/49).
([16]) تهذيب السنن (3/287-288).
([17]) أخرجه مسلم في الصيام (1114).
([18]) تهذيب السنن (3/287).
([19]) فتح الباري (4/184).
([20]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر... (1946) واللفظ له، ومسلم في الصيام (1115).
([21]) مجموع الفتاوى (22/287).
([22]) تهذيب السنن (3/286).
([23]) أخرجه ابن ماجه في الصيام، باب: ما جاء في الإفطار في السفر (1666)، والضياء في المختارة (912) من طريق أسامه بن زيد عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن عوف. قال البيهقي في الكبرى (4/244): "وإسناده ضعيف"، وقال البوصيري: "هذا إسناد ضعيف ومنقطع، رواه أسامة بن زيد ـ هو ابن أسامة ـ ضعيف، وأبو سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه شيئا. قاله ابن معين والبخاري". وضعفه ابن جحر في الفتح (4/184)، وقال الألباني في الضعيفة (498) "منكر". وروي موقوفا عند النسائي في الصيام، باب: ذكر قوله: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر (2284)، والبيهقي في الكبرى (4/244). قال ابن أبي حاتم في العلل (1/239): "قال أبو زرعة: الصحيح عن الزهري عن أبي سلمة عن أبيه، موقوف". وقال الدارقطني في العلل (4/282): "والصحيح عن أبي سلمة عن أبيه موقوفا". وقال ابن حجر في الفتح(4/148): "ومع وقفه فهو منقطع؛ لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه".
([24]) فتح الباري (4/184).
([25]) تهذيب السنن (3/286).
([26]) ينظر: تبيين الحقائق (1/216)، والدر المختار (1/527)، والقوانين الفقهية (ص59)، وحاشية البيجوري على ابن قاسم (1/210)، والمغني (4/406)، والروض المربع (1/89).
([27]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: الصوم في السفر والإفطار (1943)، ومسلم في الصوم (1121) واللفظ له.
([28]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: إذا صام أياما من رمضان ثم سافر (1945)، ومسلم في الصيام (1122).
([29]) أخرجه مسلم في الصيام (1116).
([30]) ينظر: بدائع الصنائع (2/94-95)، والمجموع (6/261)، المغني (3/117).
([31]) مجموع الفتاوى (22/287).
([32]) جامع البيان (2/160-161).
([33]) مجموع الفتاوى (22/3336).
([34]) ينظر: فتح القدير (2/273)، والدر المختار (2/117)، ومراقي الفلاح (ص375)، والمدونة الكبرى (1/180)، والقوانين الفقهية (81)، والمجموع (6/265- 266)، وحاشية القليوبي على شرح المحلي على المنهاج (2/64)، والوجيز (1/103).
([35]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: إذا صام أياما من رمضان ثم سافر (1945)، ومسلم في الصيام (1122).
([36]) أخرجه مسلم في الصيام (1116).
([37]) ينظر: الإنصاف (3/287)، كشاف القناع (2/311)، والمغني مع الشرح الكبير (3/18).
([38]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر... (1946) واللفظ له، ومسلم في الصيام (1115).
([39]) أخرجه مسلم في الصيام (1114).(/126)
([40]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: الصوم في السفر والإفطار (1943)، ومسلم في الصوم (1121) واللفظ له.
([41]) أخرجه أحمد (1/108) واللفظ له، والروياني في مسنده (1433)، والبيهقي في الكبرى (3/140)، وصححه ابن خريمة (950)، وابن حبان (2742)، والألباني في الإرواء (564) . وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند ابن حبان (354)، وآخر من حديث عائشة رضي الله عنها عند ابن حبان في الثقات (2/200)، والطبراني في الأوسط (8032)، وابن عدي في الكامل (5/1718) بسند ضعيف.
([42]) ينظر: فتح الباري (4/183).
([43])مجموع الفتاوى (22/287).
([44]) فتح الباري (4/183).
([45]) ينظر: فتح الباري (4/183).
([46]) فتح الباري (4/183).
([47]) الشرح الممتع (6/355-356).
الفصل الثاني: فيمن نوى الصوم ثم أفطر:
المسألة الأولى: حكم من أفطر في رمضان وقد نواه من الليل، وتحته صور:
الصورة الأولى: فيمن نوى الصوم وهو مسافر، ثم أراد أن يفطر في نهاره، فهل له الفطر؟
اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأول :الجواز، وإليه ذهبت الشافعية والحنابلة([1]).
واستدلوا بما يلي:
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس([2]).
قال البخاري: "والكديد ماء بين عسفان وقديد".
2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: ((أولئك العصاة، أولئك العصاة))([3]).
قال ابن قدامة رحمه الله: "وهذا نص صريح لا يعرج على من خالفه، إذا ثبت هذا فإن له أن يفطر بما شاء من أكل وشرب وغيرهما"([4]).
قال ابن القيم رحمه الله: "وهذه الآثار صريحة في أن من أنشأ السفر في أثناء يوم من رمضان فله الفطر فيه"([5]).
القول الثاني: أنه لا يحل له الفطر ذلك اليوم، ولو أفطر لا كفارة عليه، وهو قول الحنفية([6]).
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33].
القول الثالث: أنه لا يحل له الفطر، وعليه القضاء والكفارة إن أفطر متعمدا من غير عذر، وهو رواية عن مالك([7]).
قالوا: لأنه كانت له سعة في أن يفطر أو يصوم، فإذا صام ليس له أن يخرج منه إلا بعذر من الله، فإن أفطر كانت عليه الكفارة مع القضاء.
الصورة الثانية: إذا سافر المقيم وقد نوى الصوم في حالة إقامته، فهل له الفطر في ذلك اليوم؟ لهذه الصورة أربع حالات:
الحالة الأولى: أن يبدأ السفر بالليل ويفارق عمران البلد قبل الفجر، فله الفطر بلا خلاف بين العلماء رحمهم الله([8]).
الحالة الثانية: ألا يفارق العمران إلا بعد الفجر، فهنا اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: لا يجوز له الفطر، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية([9]).
قالوا: لأن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة.
القول الثاني: أنه يجوز له الفطر، وهو قول عمرو بن شرحبيل والشعبي وإسحاق وداود وابن المنذر، وأصح الروايتين عند أحمد([10]).
واستدلوا بما يلي:
عن عبيد بن جبر قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان، فدفع ثم قرب غداءه، ثم قال: اقترب، فقلت: ألسنا نرى البيوت؟! فقال أبو بصرة: أرغبتَ عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!([11]).
وقالوا: ولأن السفر معنى لو وجد ليلا واستمر في النهار لأباح الفطر، فإذا وجد في أثنائه أباحه كالمرض، ولأنه أحد الأمرين المنصوص عليهما في إباحة الفطر بهما فأباحه في أثناء النهار كالآخر.
الحالة الثالثة: أن ينوي الصيام في الليل ثم يسافر، ولا يعلم هل سافر قبل الفجر أو بعده: الذي يظهر أن من منع الفطر بعد الفجر يمنع الفطر في هذه الحالة؛ لأنه يشك في مبيح الفطر، ولا يباح الفطر إلا بالتعيين الموجب لإباحة الفطر([12]).
الحالة الرابعة: أن يسافر بعد الفجر ولم يكن نوى الصيام، قال النووي رحمه الله: "فهذا ليس بصائم لإخلاله بالنية من الليل، فعليه قضاؤه، ويلزمه الإمساك هذا اليوم؛ لأن حرمته قد ثبتت بطلوع الفجر وهو حاضر"([13]).
ويؤيده قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، وهذا شاهد تعمَّد الفطر، فلا يجوز له أن يتلبس برخصة السفر([14]).
فرع: ثم إن القائلين بجواز الفطر اختلفوا في الوقت الذي يجوز فيه الفطر على قولين، هما:
القول الأول: أنه لا يفطر حتى يفارق العمران، وهو مذهب أحمد([15]).
واستدلوا بما يلي:
قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].
قالوا: وهذا شاهد، ولا يوصف بكونه مسافرا حتى يخرج من البلد، ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين ولذلك لا يقصر الصلاة.(/127)
القول الثاني: له أن يفطر في بيته إن أراد السفر، وهو مروي عن عطاء والحسن، وغيرهم.
واستدلوا بما يلي:
1- عن محمد بن كعب أنه قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً، وقد رحلت له
راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ قال: سنة. ثم ركب ([16]).
قال الترمذي رحمه الله: "وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث، وقالوا: للمسافر أن يفطر في بيته قبل أن يخرج وليس له أن يقصر الصلاة حتى يخرج من جدار المدينة أو القرية، وهو قول إسحق بن إبراهيم الحنظلي"([17]).
وقال ابن القيم رحمه الله: "وكان الصحابة حين ينشؤون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت، ويخبرون أن ذلك سنته وهدية"([18]).
المسألة الثانية: المسافر يقدم بلداً نهار رمضان وهو مفطر، وفيها صورتان:
الصورة الأولى: أن يقدم بلده في أثناء اليوم، أو بلداً نوى الإقامة فيه:
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يجب عليه الإمساك بقية ذلك اليوم، وهو قول الحنفية([19]).
واستدلوا بما يلي:
عن الربيع بنت معوذ قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: ((من أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائما فليصم))([20]).
قالوا: وصوم عاشوراء كان فرضا يومئذ؛ ولأن زمان رمضان وقتٌ شريف فيجب تعظيم هذا الوقت بالقدر الممكن، فإذا عجز عن تعظيمه بتحقيق الصوم فيه يجب تعظيمه بالتشبه بالصائمين قضاءً لحقه بالقدر الممكن إذا كان أهلا للتشبه، ونفيا لتعريض نفسه للتهمة.
القول الثاني: أنه لا يجب عليه الإمساك بقية يومه، بل يستحب له، وهو مذهب المالكية والشافعية([21]).
قالوا: لأنه أفطر بعذر، ولا يأكل عند من لا يعرف عذره؛ لخوف التهمة والعقوبة.
الصورة الثانية: إذا دخل بلداً لم ينو الإقامة بها، وإنما كانت له حاجة: فالذي يظهر ـ والعلم عند الله ـ أنه لا يجب عليه الإمساك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة عام الفتح أفطر فلم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر([22])، ولأنه لا يزال متلبسا بالسفر، والرخصة في حقه باقية.
فرع: إذا قدم المسافر في أثناء نهار رمضان وهو مفطر، فوجد امرأته قد طهرت في أثناء ذلك النهار من حيض أو نفاس، أو برأت من مرض وهي مفطرة، فهل له وطؤها أم لا؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: له وطؤها، ولا كفارة عليه، وهو مذهب الحنفية والشافعية([23]).
قالوا: إنهما مفطران فأشبها المسافر والمريض.
القول الثاني: لا يجوز وطؤها، وهو قول الأوزاعي([24]).
المسألة الثالثة: إذا قدم المسافر في أثناء النهار وهو صائم، فهل له أن يفطر باعتبار كونه مسافرا في أول النهار؟
مذهب جمهور العلماء رحمهم الله أنه لا يجوز له الفطر، وعللوا ذلك بأن سبب الرخصة قد زال قبل الترخص بالفطر في حالة السفر، فلم يجز له الترخص بعد زوالها كما لو قدم المسافر وقت الصلاة فإنه لا يجوز له القصر([25]).
فرع: لو قدم المسافر بلده ولم يكن نوى من الليل صوما ولا أكل في نهاره، هل له أن يفطر أم لا بد أن يمسك بقية يومه؟
مذهب الحنفية: أنه يجب عليه أن ينوي الصوم إذا كان وقت للنية، وهو قبل الزوال، وإلا وجب عليه الإمساك لزوال المرخص([26]).
وقال مالك رحمه الله: "إذا علم أنه يدخل بيته من سفره في أول النهار فليصبح صائما، وإن لم يصبح صائما وأصبح ينوي الإفطار ثم دخل بيته وهو مفطر فلا يجزئه الصوم وإن نواه، وعليه قضاء هذا اليوم"([27]).
وبه قال الشافعي رحمه الله([28]).
المسألة الرابعة: هل للمترخص بالفطر في رمضان بسبب السفر أن يصوم غيره من النفل أو النذر أو القضاء؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: قول أبي حنيفة: أنه يقع عما نوى في الواجب من نذر أو قضاء، وإن كان عن نفل فعنه روايتان:
الأولى: وقوعه عما نوى عنه.
الثانية: أنه يقع عن رمضان، وهي الراجحة([29]).
ووجه قوله في الواجب، قالوا: إنه يقع عنه لا عن رمضان؛ لأن المسافر له ألا يصوم، فله أن يصرفه إلى واجب آخر؛ لأن الرخصة متعلقة بمظنة العجز وهو السفر، وذلك موجود، بخلاف المريض فإنها متعلقة بحقيقة العجز، فإذا صام تبين أنه غير عاجز.
وأما وقوعه في نية النفل عن رمضان، فقالوا: لأن فائدة النفل الثواب، وهو في فرض الوقت أكثر.
القول الثاني: ذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة([30]): إلى عدم جواز الصيام في رمضان عن غيره، فإن نوى صيام غير رمضان لم يصح ذلك.
ووجه قولهم: أن الفطر أبيح رخصة وتخفيفا عنه، فإذا لم يرد التخفيف عن نفسه، لزمه أن يأتي بالأصل.
([1]) ينظر: المجموع (6/286)، والمغني (4/347).
([2]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: إذا صام أياما من رمضان ثم سافر (1944)، ومسلم في الصيام (1113).
([3]) أخرجه مسلم في الصيام (1114).
([4]) المغني (4/348).
([5]) زاد المعاد (2/57).
([6]) حاشية ابن عابدين (2/431).
([7]) ينظر: المدونة الكبرى (1/180)، والتمهيد (22/51).
([8]) ينظر: المجموع (6/266).(/128)
([9]) ينظر: حاشية ابن عابدين (2/431)، والمدونة (1/180)، والمجموع (6/287).
([10]) ينظر: المغني (4/346).
([11]) أخرجه أحمد (6/398) واللفظ له، وأبو داود في الصوم، باب: متى يفطر المسافر إذا خرج؟ (2412)، والدارمي في الصوم، باب: متى يفطر الرجل إذا خرج من بيته يريد السفر (1713)، والبيهقي في الكبرى (4/246). وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2109).
([12]) ينظر: المجموع (6/266)، وكتاب: المسافر وما يختص به من أحكام، للدكتور: أحمد الكبيسي (ص154).
([13]) ينظر: المجموع (6/266-267).
([14]) ينظر: المسافر وما يختص به من أحكام، للدكتور: أحمد الكبيسي (ص154).
([15]) ينظر: المغني (4/346).
([16]) أخرجه الترمذي في الصوم، باب: من أكل ثم خرج يريد السفر (799) واللفظ له، والدراقطني في السنن (2/187)، والبيهقي في الكبرى (4/247). قال الترمذي: "هذا حديث حسن". وصححه الضياء في المختارة (7/172)، والألباني في رسالته: تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره بعد الفجر، والردعلى من ضعفه (ص13-28).
([17]) السنن (799).
([18]) زاد المعاد (2/56).
([19]) ينظر: بدائع الصنائع (2/103).
([20]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: صوم الصبيان (1960)، ومسلم في الصيام (1960).
([21]) ينظر: المدونة الكبرى (1/202)، والأم (2/88)، والمجموع (6/261).
([22]) أخرجه البخاري في المغازي، باب: غزوة الفتح في رمضان (4275) واللفظ له، ومسلم في الصيام (1113).
([23]) ينظر: بدائع الصنائع (2/103)، والمجموع (6/289).
([24]) ينظر: المجموع (6/289).
([25]) ينظر: الدر المختار ورد المحتار عليه (2/106)، والمدونة الكبرى (1/202)، والمجموع (6/267).
([26]) ينظر: حاشية ابن عابدين (2/431).
([27]) ينظر: المدونة الكبرى (1/202).
([28]) ينظر: الأم (2/87).
([29]) ينظر: حاشية ابن عابدين (2/378- 379).
([30]) ينظر: المجموع (6/268)، والمغني (4/349).
الفصل الثالث: مسائل تتعلق بقضاء المسافر للصوم:
تمهيد:
من أفطر أياما من رمضان ـ كالمسافر ـ قضى بعدة ما فاته؛ لأن القضاء يجب أن يكون بعدة ما فاته، لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184].
ومن فاته صوم رمضان كله قضى الشهر كله، سواء ابتدأه من أول الشهر أو من أثنائه، ويجوز أن يقضي يوم شتاء عن صيف، ويجوز عكسه، بأن يقضي يوم صيف عن يوم شتاء؛ وهذا لعموم الآية المذكورة وإطلاقها([1]).
المسألة الأولى: هل يقضي ما عليه متتابعا أم لا؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: يجوز له أن يقضي متفرقا، وقيدوه بما إذا لم يفت وقت قضائه، بأن يهل رمضان آخر. وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وإليه ذهب الحسن وسعيد بن المسيب والثوري والأوزاعي([2]).
واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184].
قالوا: فهذا إطلاق غير مقيد بالتتابع.
2- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان([3]).
قال ابن كثير رحمه الله: "وهذا قول جمهور السلف والخلف، وعليه ثبتت الدلائل؛ لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر، فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدة ما أفطر"([4]).
القول الثاني: أنه يجب في قضاء رمضان التتابع، حكي عن علي وابن عمر والنخعي والشعبي وداود([5]).
واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].
قالوا: والشهر متتابع لتتابع أيامه، فيكون صومه متتابعا ضرورة.
2- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضاء رمضان: ((يسرده ولا يفرقه))([6]).
قال ابن قدامة رحمه الله: "ولو صح حملناه على الاستحباب؛ فإن المتتابع أحسن لما فيه من موافقة الخبر، والخروج من الخلاف وشبهه بالأداء. والله أعلم"([7]).
المسألة الثانية: ماذا عليه إذا أخَّر القضاء إلى أن يدخل رمضان آخر؟
لهذه المسألة صورتان:
الصورة الأولى: إذا أخر القضاء بعذر، فلا شيء عليه؛ لأنه ما زال متلبسا برخصة الله. والله يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. والواجب عليه أن يقضي ما علية في أقرب وقت يتمكن منه.
الصورة الثانية: إذا أخر القضاء بغير عذر، فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن عليه القضاء، وإطعام مسكين لكل يوم، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة([8]).
قالوا: وأما وجوب القضاء فلأنه دين في ذمته لم يقضه فلزمه قضاؤه.(/129)
وأما وجوب الإطعام فجبراً لما أخل به من تفويت الوقت المحدد، فيطعم عن كل يوم مسكينا؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل أفطر في شهر رمضان من مرض، ثم صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر قال: ((يصوم الذي أدركه، ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه، ويطعم مكان كل يوم مسكينا))([9]).
وروي عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما أنه يلزمه الإطعام([10]).
القول الثاني: أنه يلزمه القضاء، وليس عليه أكثر من ذلك، وهو مذهب الحنفية، واختاره ابن عثيمين([11]).
قالوا: إيجاب الطعام مخالف لظاهر قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [لبقرة:184]، فإن الله لم يوجب إلا عدة من أيام أخر.
وأما الحديث فإنه ضعيف لا تقوم به حجة، وأما ما روي عن الصحابة في ذلك: فيحمل على الاستحباب.
المسألة الثالثة: إذا مات ولم يقض هل يصوم عنه وليُّه أو لا؟ للمسألة صورتان:
الصورة الأولى: إن أخر قضاء رمضان لعذر، بأن استمر سفره إلى موته، ولم يتمكن من القضاء حتى مات، فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: لا شيء عليه، ولا إثم يلحقه، ولا يصام عنه ولا يطعم؛ وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة([12]).
واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم))([13]).
3- قالوا: ولأنه حق لله تعالى وجب بالشرع، ومات من يجب عليه قبل إمكان فعله، فسقط إلى غير بدل كالحج.
القول الثاني: يجب أن يطعم عنه لكل يوم مسكين، وهو قول طاووس وقتادة.
قالوا: لأنه صوم واجب سقط بالعجز عنه فوجب الإطعام عنه، كالشيخ الهرم إذا ترك الصيام لعجزه عنه.
الصورة الثانية: إن مات بعد تمكنه من القضاء ولم يقض، وللعلماء في ذلك قولان:
القول الأول: أنه لا يصام عنه، بل يطعم عنه لكل يوم مسكين، وهو قول الحنفية والمالكية والحنابلة وأشهر القولين عند الشافعية([14]).
واستدلوا بما يلي:
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا))([15]).
2- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إذا مرض الرجل في رمضان، ثم مات ولم يصم، أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه)([16]).
3- عن عمرة أن أمها ماتت وعليها من رمضان، فقالت لعائشة: أقضيه عنها؟ قالت: (لا، بل تصدَّقي عنها مكان كلِّ يوم نصفَ صاع على كل مسكين)([17]).
4- وقالوا: الصوم واجب بأصل الشرع لا يقضى عنه؛ لأنه لا تدخله النيابة في الحياة فكذلك بعد الممات كالصلاة.
القول الثاني: أنه يصام عنه، وهو قول طاووس والحسن والزهري وقتادة وأبي ثور وداود وأصح القولين عند الشافعية ـ كما قال النووي ـ واختاره ابن عثيمين([18]).
واستدلوا بما يلي:
1- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات وعليه صيام صام عنه وليه))([19]). قالوا: ((صيام)) نكرة في سياق الشرط فتعم كل أنواع الصوم.
2- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: ((أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها؟!)). قالت: نعم. قال: ((فصومي عن أمك))([20]).
وصلى الله وسلم على رسوله محمد وآله وصحبه،،،
([1]) ينظر: الإنصاف (3/333)، وكشاف القناع (2/333).
([2]) ينظر: الفتاوى الهندية (1/208)، الشرح الكبير للدردير (1/537)، القوانين الفقهية (ص84)، والإقناع (2/343)، شرح المحلى على المنهاج (2/68-69)، والمهذب (6/363)، والمغني (4/408).
([3]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: متى يقضى قضاء رمضان؟ (1950)، ومسلم في الصيام (1146).
([4]) تفسير القرآن العظيم (1/281).
([5]) ينظر: المغني (4/409).
([6]) أخرجه الدارقطني في السنن (2/192)، والبيهقي في الكبرى (4/259). قال الدارقطني: "عبد الرحمن بن إبراهيم ضعيف". وضعفه الحافظ في التلخيص الحبير (2/206) .
([7]) المغني (4/410).
([8]) ينظر: المدونه الكبرى (1/219)، والمهذب (1/252)، وكشاف القناع (2/334).
([9]) أخرجه الدارقطني في السنن (2/197)، والبيهقي في الكبرى (4/253). قال الدارقطني: "إبراهيم وابن وجيه ضعيفان". وقال البيهقي: "وليس بشيء، إبراهيم وعمر متروكان".
([10]) أما أثر ابن عباس فأخرجه البيهقي (4/253)، قال النووي في المجموع (6/364):" إسناده صحيح". وأما أثر أبي هريرة فأخرجه الدارقطني في السنن (2/196)، وقال:" هذا إسناد صحيح موقوف".
([11]) ينظر: الهداية (2/354)، والدر المختار (2/423)، والشرح الممتع (6/451).
([12]) ينظر: بدائع الصنائع (2/103)، والقوانين الفقهية (ص110)، والمجموع (6/372)، ومغني المحتاج (1/438)، والمغني().(/130)
([13]) جزء من حديث أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم (7288)، ومسلم في الحج (1337).
([14]) ينظر: بدائع الصنائع (2/103)، والقوانين الفقهية (ص110)، والمجموع (6/372)، ومغني المحتاج (1/438)، والمغني().
([15]) أخرجه الترمذي في الصوم، باب: ما جاء في الكفارة (718)، وابن ماجه في الصيام، باب: من مات وعليه صيام رمضان قد فرط فيه (1757)، وابن عدي في الكامل (1/373). وفيه أشعث بن سوار متكلم فيه. قال الترمذي: "حديث ابن عمر لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، والصحيح عن ابن عمر موقوف". وقال الذهبي في الميزان (1/429): "الصحيح موقوف". وضعفه الألباني في ضغيف الترمذي(113).
([16]) أخرجه أبو داود في الصوم، باب: من مات وعليه صوم (2401)، والطحاوي في المشكل (3/142)، وابن حزم في المحلى (7/7) وصحح إسناده. وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2101).
([17]) أخرجه الطحاوي في المشكل (3/142)، وابن حزم في المحلى (7/7).
([18]) ينظر: بدائع الصنائع (2/103)، والقوانين الفقهية (ص110)، والمجموع (6/372)، ومغني المحتاج (1/438)، والمغني ()، والشرح الممتع (6/455-456).
([19]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: من مات وعليه صوم (1952)، ومسلم في الصيام (1147).
([20]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: من مات وعليه صوم (1953)، ومسلم في الصيام(1148) واللفظ له.
تفسير آيات الصوم
أولاً: آيات الصوم من سورة البقرة:
1- الآيات (183-184).
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 183 ـ 184].
أسباب النزول:
1ـ قوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ...} [البقرة:183].
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ويصوم يوم عاشوراء، فأنزل الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} إلى قوله: {طَعَامُ مِسْكِينٍ} فكان من شاء أن يصوم صام، ومن شاء أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينًا أجزأه ذلك([1]) .
القراءات:
أ ـ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}.
1 ـ (يُطوَّقونه): وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنهما([2]) .
2 ـ (يُطيّقونه): بضم الياء الأولى وتشديد الياء الثانية، وهي قراءة سعيد بن المسيب([3]).
2 ـ (يطّيّقونه): بتشديد الطاء والياء الثانية، وهي قراءة مجاهد وعكرمة([4]) .
4 ـ (يُطيقونه): وهي قراءة الجمهور([5]) .
ب ـ قوله تعالى: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}.
1 ـ (فديةُ طعامِ) بالإضافة، وهي قراءة أهل المدينة والشام([6]) .
2 ـ (طعام مساكين) وهي قراءة أهل المدينة والشام أيضًا([7]) .
ج ـ قوله تعالى: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا}.
قرأ عيسى بن عمرو ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي (يطّوع) مشددًا مع جزم الفعل على معنى يتطوّع([8]).
المفردات:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ}: فرض عليكم الصيام([9]).
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: أي بالمحافظة عليها، وقيل: تتقون المعاصي بسبب هذه العبادة؛ لأنها تكسر الشهوة، وتضعف دواعي المعاصي([10]).
{أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ}: أي قليلة في غاية السهولة([11]) والمراد بها: شهر رمضان([12]).
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}: أي يطيقون الصيام.
وقيل: أي يتكلفونه، ويشق عليهم مشقة غير محتملة، كالشيخ الكبير([13]).
{فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} قيل: معناه: من أراد الإطعام مع الصوم، وقيل: من زاد في الإطعام على المدّ، وقيل: من أطعم مع المسكين مسكينًا آخر([14]).
قال الطبري: "أي هذه المعاني تطوع به المفتدي من صومه، فهو خير له؛ لأن كل ذلك من تطوع الخير، ونوافل الفضل"([15]).
المعنى الإجمالي:
يخبر تعالى بما من به على عباده، بأنه فرض عليهم الصيام كما فرضه على الأمم السابقة، لأنه من الشرائع والأوامر التي فيها من المصالح العظيمة للخلق في كل زمان، وفيه تنشيط لهذه الأمة المحمدية بأن تنافس غيرها من الأمم، وتسارع إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثقيلة التي اختصت بها هذه الأمة عن غيرها.
ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إذ الصيام من أعظم الأسباب الجالبة للتقوى؛ إذ إنه يضيق مجاري الشيطان، ويقوي النفس على طاعة الرحمن حقيقة مجربة.
ولما ذكر سبحانه فرض الصوم أخبر أنه أيام معدودات، أي: قليلة في غاية السهولة يستطيع أن يؤديها المكلف العادي.(/131)
ثم سهل تسهيلاً آخر فقال: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وذلك فيما إذا حصلت المشقة، فإن الله قد أباح لهما الفطر، ولما كان لا بد من حصول مصلحة الصيام أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض، وانقضى السفر، وحصلت الراحة.
أما الذين يشق عليهم الصيام كالكبير والمريض مرضًا مزمنًا فدية عن كل يوم طعام مسكين عوضًا عن فوات الصوم في وقته، وامتثالاً لأمر الله تعالى، وتحقيقًا لمبدأ العبودية لله تعالى([16]).
نصوص ذات صلة:
1 ـ عن أنس بن مالك الكعبي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يتغدّى، فقال: ((ادن فكل)) فقلت: إني صائم، فقال: ((ادن أحدثك عن الصوم إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل أو المرضع الصوم))([17]).
2 ـ عن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء))([18]).
3 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان))([19]).
4 ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم))([20]).
الفوائد:
1 ـ من دخل عليه شهر رمضان وهو صحيح عاقل بالغ فصومه عليه واجب([21]) .
2 ـ الصيام من أعظم أسباب التقوى.
3 ـ الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه لعلمه باطلاع الله عليه.
4 ـ الصيام يضيق مجاري الشيطان؛ فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام يضعف نفوذه، وتقل المعاصي.
5 ـ الصائم في الغالب تكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى.
6 ـ الغني إذا ذاق ألم الجوع أوجب له ذلك مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى.
7 ـ المريض والمسافر رخص الله لهما في الفطر، ولما كان لا بد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض وانقضى السفر وحصلت الراحة([22]) .
8 ـ الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات.
9 ـ الصوم سرٌ بين العبد وبين ربه لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصًا به، وما سواه من العبادات ظاهر([23]) .
* * *
2- الآية (185).
قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
القراءات:
أ ـ قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}
قرأ مجاهد وشهر بن حوشب بنصب (شهرَ)([24]).
ب ـ قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
قرأ الحسن والأعرج بكسر اللام (فلِيصمه) ([25]) .
ج ـ قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
قرأ جماعة (اليُسُر) بضم السين، وكذلك (العُسُر) ([26]) .
د ـ قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}
قرأ الحسن وقتادة والأعرج ورواية عن عاصم وأبي عمر (ولتكمّلوا العدّة) بالتشديد([27]).
المفردات:
{هُدًى لّلنَّاسِ}: يعني رشادًا للناس إلى سبيل الحق وقصد المنهج([28]).
{وَبَيِّنَاتٍ}: أي دلائل وحجج بسنة واضحة جلية لمن فهمها وتدبّرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغي([29]).
{وَالْفُرْقَانِ}: ما فرق بين الحق والباطل([30]).
{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}: أي فمن دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم في داره، فعليه صوم الشهر كله([31]).
{فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}: أيام معدودة سوى هذه الأيام([32]) .
{وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ}: أي عدّة ما أفطرتم من أيام أخر، أوجبت عليكم قضاء عدة من أيام أخرى بعد برئكم من مرضكم، أو إقامتكم من سفركم([33]).
المعنى الإجمالي:
لمّا ذكر تعالى أنه كتب على أمة الإسلام الصيام في الآية السابقة، وأنه أيام معدودات، بين في هذه الآية أن المراد من الأيام المعدودات أيام شهر رمضان المبارك، والله سبحانه وتعالى قد مدح هذا الشهر العظيم لاختصاصه بالصيام، ونزول القرآن إذ كان ـ أي القرآن ـ هاديًا وموضحًا طرق الهداية، وفارقًا بين الحق والباطل.(/132)
ثم بين سبحانه وتعالى أحكام أهل الأعذار الذين لا يستطيعون الصيام إما لمرض أو لأجل سفر، وأن على من أفطر بهما قضاء ما أفطر بعدده.
وأخبر سبحانه ـ وهو الرؤوف الرحيم بخلقه ـ أنه يريد بالإذن في الإفطار للمريض والمسافر اليسر بالأمة ولا يريد بها العسر؛ إذ الإسلام جاء بالسماحة في كل شيء.
ثم علل سبحانه القضاء لإكمال عدة الصيام، وللتكبير على الهداية، فإن من فعل هذا فعسى أن يكون من الشاكرين([34]).
نصوص ذات صلة:
1. عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال))([35]).
2. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه))([36]).
3. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه))([37]).
4. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عليكم برخصة الله الذي رخص لكم))([38]).
5. عن محجن الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره)) ([39]).
6. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يسروا ولا تعسروا، وسكّنوا ولا تنفروا))([40]).
7. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو([41]).
الفوائد:
1. فضيلة شهر رمضان لنزول القرآن فيه، واختصاصه بليلة القدر([42]).
2. وجوب صيام رمضان على جميع المكلفين([43]) .
3. الرخصة للمريض والمسافر الفطر في رمضان، ووجوب القضاء مكان الإفطار([44]).
4. يسر الشريعة الإسلامية، وخلوّها من العسر([45]).
5. مشروعية التكبير ليلة العيد ويومه شكرًا لنعمة الهداية إلى الإسلام([46]).
* * *
3- الآية (186).
قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
سبب النزول:
عن الحسن قال: سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أين ربنا؟ فأنزل الله تعالى ذكره {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}([47]).
وقيل: إنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي..}([48]).
المفردات:
{فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى}: أي كما أجبتهم إذا دعوني، فليستجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعات([49]) .
{لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}: أي يهتدون لمصالح دينهم ودنياهم([50]) .
المعنى الإجمالي:
يوجه الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يخبر المؤمنين الداعين المتضرعين بأنه منهم قريب، وشهيدٌ على أعمالهم، ومطلع على سرائرهم.
والقرب نوعان: قرب بعلمه من كل خلقه، وقرب من عابده وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق، فمن دعا ربه بقلب حاضر، وتهيأت له أسباب الإجابة؛ فإنه سيحصل له ما أراد بإذن الله تعالى، وعلى المؤمن أن يستجيب لأوامر الله تعالى بالتطبيق ولنواهيه بالكف والامتناع، عله أن ينال الهداية والرشاد كما وعده ربه([51]).
نصوص ذات صلة:
1 ـ عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فجعلنا لا نصعد شرفًا ولا نهبط في وادٍ إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير، قال: فدنا منا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنما تدعون سمعيًا بصيرًا))، ثم قال: ((يا عبد الله بن قيس، ألا أعلمك كلمة هي من كنوز الجنة؟! لا حول ولا قوة إلا بالله))([52]).
2 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقول: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني))([53]).
3 ـ عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن للصائم عند فطره لدعوة ما تُرد))([54]).
الفوائد:
1 ـ مشروعية واستحباب الدعاء([55]) .
2 ـ أن قرب الله تعالى لا يستلزم المخالطة، بل هو قريبٌ في علو.
قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله:
وذكره للقرب والمعيّة لم ينف للعلوّ والفوقية
فإنه العليّ في دنوّه وهو القريب جلّ في علوه([56]) .
3 ـ كراهية رفع الصوت بالعبادات إلا ما كان في التلبية والأذان والإقامة([57]) .
4 ـ وجوب الاستجابة والإذعان لأوامر الله تعالى([58]) .
5 ـ أن الاستجابة لأمر الله تعالى يورث الهداية والرشاد([59]) .
* * *
4- الآية (187).(/133)
قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ نِسكُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ الا تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].
أسباب النزول:
1 ـ قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ نِسكُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ....} [البقرة:187].
أ ـ عن البراء رضي الله عنه قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صرفة الأنصاري كان صائمًا، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل فغلبته عيناه، فقالت: خيبة لك. فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ نِسكُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ}([60]).
ب ـ وعنه رضي الله عنه لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ نِسكُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ}([61]).
ج ـ عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، وقد سهر عنده، فوجد امرأته قد نامت، فأرادها، فقالت: إني قد نمت، قال: ما نمت، ثم وقع بها، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك، فغدا عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ نِسكُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ}([62]).
2 ـ قوله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ...} [البقرة:187].
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: أنزلت: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ} ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعدُ {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار([63]). وفي رواية: فكان الرجل إذا أراد الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعد ذلك: {من الفجر}([64]).
3 ـ قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].
أ ـ قال مقاتل بن سليمان: نزلت في علي وعمار بن ياسر وأبي عبيدة بن الجراح، كان أحدهم يعتكف، فإذا أراد الغائط من السحر رجع إلى أهله فيباشر ويجامع ويغتسل ويرجع فنزلت([65]).
ب ـ وعن الضحاك قال: كانوا يجامعون وهم معتكفون، حتى نزلت: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}([66]).
القراءات:
قوله تعالى: {فالآن باشروهن... لكم}
قرأ الحسن البصر: (واتبعوا) بالعين المهملة من الاتباع([67]).
المفردات:
{الرَّفَثُ}: الجماع([68]).
{هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ}: كناية عن انضمام الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيها بالثوب([69]).
{تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ}: خيانتهم كانت في أمرين أحدهما: جماع النساء، والآخر: المطعم والمشرب في الوقت الذي كان حرامًا ذلك عليهم([70]) ثم نسخ هذا بعد ذلك، وعفا الله عنهم([71]).
{بَاشِرُوهُنَّ}: أي جامعوهن، بعد ما كان حرامًا([72]).
{وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}: أي انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله تعالى، والمقصود الأعظم من الوطء، وهو حصول الذرية، وإعفاف الفرج، وحصول مقاصد النكاح([73]).
{الْخَيْطُ الأبْيَضُ}: الفجر اللصادق المعترض في الأفق، لا الفجر الكاذب الذي هو كذنب السِّرحان([74])([75]).(/134)
{الْخَيْطِ الاسْوَدِ}: سواد الليل([76]) والعرب تسمي الصبح خيطًا وظلام الليل المختلط به خيطًا([77]).
{عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} أي منقطعون للعبادة في المساجد([78]).
{حُدُودُ اللَّهِ}: جمع حد، وهو ما شرع الله تعالى من الطاعات فعلاً أو تركًا([79]).
المعنى الإجمالي:
كان المسلمون في بداية أمرهم يصومون إلى الغروب، فإذا غربت الشمس حل لهم الأكل والشرب والجماع ما لم يناموا، فإن ناموا حرم عليهم ذلك فأمسكوا حتى اليوم التالي، وكانوا يجدون في ذلك مشقة عظيمة.
ومن ثم فرج الله تعالى عنهم ذلك بعد وقوعهم في الحرج العظيم إزاء هذه العبادة فكانوا يختانون أنفسهم. فخفف الله تعالى عنهم بأن أباح لهم الأكل والشرب والجماع في ليالي الصيام، وتاب عليهم وعفا عنهم ما سلف من أمرهم.
ثم يأمرهم سبحانه وتعالى أن يباشروا نساءهم، ويقصدوا بذلك تكثير سواد الأمة بالتوالد، والإعفاف عن تقحم الحرام، لا مجرد قضاء الشهوة وتصريفها، وما أجل التعبير القرآني إذ عمد إلى الكناية بدلاً من التصريح فيما يستحى من ذكره.
ثم ينهى سبحانه وتعالى عن المباشرة للمعتكف؛ إذ إنها تنقض الاعتكاف وتفسده، وبعدما ذكر هذه الأحكام العظيمة بين أنها حدود محددة لا يجوز تجاوزها ولا اقتحامها، فإن من امتثل لهذه الأحكام وطبقها فحري به أن يكون من المتقين([80]) .
نصوص ذات صلة:
1 ـ عن حفصة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له))([81]).
2 ـ عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود؟ أهما خيطان؟ قال: ((إنك لعريض القفا، إن أبصرت الخيطين))، ثم قال: ((لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار))([82]).
3 ـ عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق))([83]).
4 ـ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم))([84]).
5 ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال. قالوا: إنك تواصل! قال: ((إني لست مثلكم، إني أطُعم وأسقى))([85]).
6 ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تسحروا فإن في السحور بركة)) ([86]).
7 ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: أشهد على رسول الله إن كان ليصبح جنبًا من جماع غير احتلام ثم يصوم([87]).
8 ـ عن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفًا فأتيته أزوره ليلاً فحدثته، ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((على رسلكما، إنها صفية بنت حيي))، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: ((إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءًا ـ أو قال ـ: شيئًا))([88]).
9 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه))([89]).
10 ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم([90]).
11 ـ عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر))([91]).
12 ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: ((ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله))([92]).
13 ـ عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر))([93]).
14 ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إليَّ رأسه فأرجّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان([94]).
15 ـ وعنها رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه([95]).
الفوائد:
1. إباحة الأكل والشرب والجماع في ليالي الصيام بعد أن كان محرمًا بالنوم([96]).
2. وقت الصيام يبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس([97]).
3. استحباب استعمال الكناية بدل التصريح فيما يستحيى من ذكره([98]).
4. مشروعية الاعتكاف في رمضان، والانقطاع للعبادة، وأن المعتكف لا يحل له أن يستمتع بزوجته حتى تنقضي مدة اعتكافه([99]).
5. حرمة انتهاك حرمات الشرع وتعدي حدوده([100]).
6. ذكر الغاية من إنزال الشرائع ووضع الحدود، وهي تقوى الله عز وجل([101]).
* * *
5- الآية (196).(/135)
قال تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196].
أسباب النزول:
1 ـ عن صفوان بن أمية أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمخًا بالزعفران، عليه جبّة، فقال: كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي؟ فأنزل الله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أين السائل عن العمرة؟)) فقال: ها أنا ذا، فقال له: ((ألق عنك ثيابك ثم اغتسل واستنشق ما استطعت ثم ما كنت صانعًا في حجك فاصنعه في عمرتك)) ([102]) .
2 ـ عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: وقف علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، ورأسي يتهافت قملاً، فقال: يؤذيك هوامك؟ قلت: نعم، قال: ((فاحلق رأسك)). أو قال: ((احلق)). فيّ نزلت هذه الآية: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ} إلى آخرها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفرق بين ستة، أو انسك بما تيسر))([103]).
القراءات:
قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
1 ـ {وأقيموا الحج والعمرة لله} وهي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وعلقمة([104]).
2 ـ {وأتموا الحج والعمرة إلى البيت} كما جاء في مصحف ابن مسعود([105]).
3 ـ {وأتموا الحج والعمرةُ لله} برفع التاء، وهي قراءة الشعبي وأبي حيوة([106]).
قوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ}
{حتى يبلغ الهَديُّ محلِّه} بكسر الدال مثقلة، وهي قراءة الأعرج([107]).
قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ}
{فصيامَ} بالنصب، أي: فليصم([108]).
قوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}
{وسبعةً إذا رجعتم} بالنصب، وهي قراءة زيد بن علي، وابن أبي علية([109]).
المفردات:
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} الإحصار يكون على معنيين:
1 ـ الإحصار بسبب العدو([110]) .
2 ـ الإحصار بسبب المرض وجميع العوائق([111]) .
{حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ}: أي حتى يبلغ بالذبح أو النحر محلّ أكله والانتفاع به في محل ذبحه ونحره([112]).
{أَوْ نُسُكٍ}: النسك: جمع نسيكة، وهي الذبيحة([113]).
{فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ}: أي فمن أحرم بعمرة في أشهر الحج وتحلل، وبقي في مكة ينتظر الحج، وحج فعلاً فالواجب أن يذبح ما قدر عليه من الهدي، وأقله شاة([114]).
{ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: أي من كان أهله من حاضر المسجد الحرام (مكة)، فليس عليه هدي، لعدم الموجب لذلك([115]).
المعنى الإجمالي:
يأمر الباري سبحانه عباده المؤمنين أن يتموا الحج والعمرة له سبحانه على أكمل وجه، وأتم صورة مخلصين له غير مرائين، ثم يخبر سبحانه أن من أحصر في مكان ما، وحال بينهم وبين إتمام شعيرة الحج أن يذبحوا ما تيسر لهم من الهدي وهو سُبع بدنة أو سُبع بقرة أو شاة، ويحلق بعد ذلك أو يقصر، ويحل من إحرامه.
ثم يُعلمهم سبحانه وتعالى أن من كان منهم مريضًا أو به أذى من رأسه واضطر إلى حلق رأسه أو لبس ثوبٍ أو تغطيةِ رأس، فالواجب عليه إن فعل شيئًا من ذلك أن يفتدي بواحد من ثلاثة على التخيير، وهي: صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة.
ثم يخبرهم سبحانه أن من حج متمتعًا عليه هدي، وهي شاة أو بقرة أو بعير، فإن ضاقت عليه حاله فلم يستطع الذبح صام ثلاثة أيام في الحج من أول شهر ذي الحجة إلى اليوم التاسع منه، وسبعة إذا رجع إلى بلاده، وهذا الحكم ينطبق على من ليس من أهل مكة.
ثم يأمر سبحانه بأن يتقي الإنسان في حجه هذا ربَّه سبحانه، ويذكرهم بأنه شديد العقاب([116]).
نصوص ذات صلة:
1. عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، قال: ((حج عن أبيك واعتمر))([117]).
2. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم ارحم المحلقين)) قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: ((اللهم ارحم المحلقين)). قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: ((والمقصرين))([118]).(/136)
3. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: ((أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة))([119]).
4. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من الفجور في الأرض، وكانوا يسمون المحرم صفرًا، ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر([120]) حلت العمرة لمن اعتمر، قال: فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رابعة مهلين بالحج وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة. قالوا: يا رسول الله، أيّ الحل؟ قال: ((الحل كله))([121]).
5. عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة))([122]).
6. عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضُباعة بنت الزبير، فقال لها: ((لعلك أردت الحج؟)) قالت: والله لا أجدني إلا وجِعةً. فقال لها: ((حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني))([123]).
7. عن حفصة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، ما شأن الناس حلوا بعمرة، ولم تحلل أنت من عمرتك؟! قال: ((إني لبدت رأسي وقلّدت هديي، فلا أحل حتى أنحر))([124]).
8. عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله))([125]).
9. عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة...))([126]).
10. عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لم يكن معه هدي فليصم ثلاثة أيام قبل يوم النحر، ومن لم يكن صام تلك الأيام فليصم أيام التشريق أيام منى))([127]).
11. عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الحج والعمرة فريضتان، لا يضرك بأيهما بدأت))([128]).
الفوائد:
1. وجوب إتمام الحج والعمرة وأعمالهما لمن شرع فيهما([129]).
2. إن عرض للحاج أو المعتمر عارض حال دون الوصول إلى مكة وإتمام الحج أو العمرة، فالواجب عليهما ذبح هدي في محلهما([130]).
3. وجوب الإخلاص لله تعالى في الحج والعمرة([131]).
4. يسر الشريعة الإسلامية بالتخفيف على المريض أو من به أذى من رأسه أن يحلقه ويفتدي ذلك بصيام أو صدقة أو ذبح لله تعالى([132]).
5. جزاء الصيد والفدية والنذر لا يأكل منها صاحبها، ويأكل من التطوع والتمتع([133]).
6. لا متعة لأهل الحرم([134]).
7. الأمر والإلزام بتقوى الله تعالى، واستشعار عظمته وسطوته، فهو أدعى للإخلاص وقبول الأعمال([135]) .
* * *
([1]) رواه أحمد (5/ 246)، وأبو داود في الصلاة باب: كيف الأذان؟ (507) واللفظ له، والحاكم في المستدرك (2/ 274) وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (479) وانظر: جامع البيان للطبري (3/ 414)، والعجاب في بيان الأسباب لابن حجر (1/ 429).
([2]) انظر جامع البيان للطبري (3/ 418)، وروي (يطّيّقونه) بفتح الياء، وتشديد الطاء والياء مفتوحتين. انظر: فتح القدير (1/ 278).
([3]) انظر روح المعاني للآلوسي (2/ 58).
([4]) انظر روح المعاني (2/ 58)
([5]) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 286).
([6]) انظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 287)، وفتح القدير (1/ 278).
([7]) انظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 287)، وفتح القدير (1/ 278).
([8]) انظر فتح القدير (1/ 278).
([9]) انظر جامع البيان للطبري (3/ 409).
([10]) انظر فتح القدير للشوكاني (1/ 277) وروح المعاني (2/ 57).
([11]) انظر تيسير الكريم الرحمن ص 68.
([12]) انظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 276).
([13]) انظر تيسير الكريم الرحمن (ص 69).
([14]) انظر فتح القدير (1/ 278).
([15]) جامع البيان (3/ 443).
([16]) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 202 ـ 204) وتيسير الكريم الرحمن للسعدي ص 68.
([17]) رواه الترمذي في الصوم، باب: ما جاء في الرخصة في الإفطار للحبلى والمرضع (715) والنسائي في الصيام، باب ذكر اختلاف معاوية بن سلام وعلي بن المبارك (2275)، وابن ماجه في الصيام، باب: ما جاء في الإفطار للحامل والمرضع (667)، قال الترمذي: "حديث أنس بن مالك الكعبي حديث حسن"، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترمذي (575). وانظر جامع البيان للطبري (3/ 435).
([18]) رواه البخاري في النكاح، باب من لم يستطع الباءة فليصم (5066)، ومسلم في النكاح، باب: استحباب النكاح (1400)، وانظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 202).
([19]) رواه البخاري في الإيمان باب بني الإسلام على خمس (8)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام (16) وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 272).(/137)
([20]) رواه ابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (1/ 304) قال ابن حجر: فيه مجهول. انظر فتح الباري (8/ 178) وفتح القدير (1/ 279).
([21]) انظر جامع البيان (3/ 454).
([22]) الفوائد (2 ـ 7) ينظر تيسير الكريم الرحمن ص 68 ـ 69.
([23]) انظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 274).
([24]) انظر فتح القدير (1/ 281)، وروح المعاني (2/ 59).
([25]) انظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 299).
([26]) انظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 301).
([27]) انظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 305).
([28]) انظر: جامع البيان (3/ 448).
([29]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 205).
([30]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 299).
([31]) انظر: جامع البيان (3/ 449).
([32]) انظر: جامع البيان (3/ 459).
([33]) انظر: جامع البيان (3/ 476).
([34]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 204 ـ 205) وروح المعاني (2/ 61 ـ 63) وتيسير الكريم الرحمن ص 69، وأيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري (1/ 163 ـ 164).
([35]) رواه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الأوابين (748)، وانظر فتح القدير (1/ 280).
([36]) رواه البخاري في الإيمان، باب: صوم رمضان احتسابًا من الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها ـ باب الترغيب في قيام رمضان (760) وانظر فتح القدير (1/ 282).
([37]) رواه البخاري في الإيمان، باب تطوع قيام رمضان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان (759)، وانظر فتح القدير (1/ 282).
([38]) رواه مسلم في الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر (1115)، وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 206).
([39]) رواه البخاري في الأدب المفرد ص 124 وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (260). وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 206).
([40]) رواه البخاري في الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يسروا...) (6125)، ومسلم في الجهاد والسير، باب: في الأمر بالتيسير وترك التنفير (1734). وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 206).
([41]) رواه البخاري في الجهاد والسير، باب: السفر بالمصاحف إلى أرض العدو (2990)، ومسلم في الأمارة باب النهي عن أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار (1869) واللفظ له، وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 298).
([42]) انظر: جامع البيان (3/ 448).
([43]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 203).
([44]) انظر: فتح القدير (1/ 281 ـ 282).
([45]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 206).
([46]) انظر التفاسير (1/ 164).
([47]) رواه الطبري في جامع البيان (3/ 481)، وقال الشيخ أحمد شاكر: الإسناد صحيح إلى الحسن. ولكن الحديث ضعيف لأنه مرسل، لم يسنده الحسن عن أحد من الصحابة، وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 308).
([48]) رواه ابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (1/ 314) وفيه الصلت بن حكيم: مجهول، انظر لسان الميزان لابن حجر (3/ 195).
([49]) انظر: فتح القدير (1/ 285).
([50]) انظر: روح المعاني (2/ 64).
([51]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 208) وفتح القدير (1/ 285) وروح المعاني (2/ 64).
([52]) رواه البخاري في القدر باب: لا حول ولا قوة إلا بالله (6610) ومسلم في الذكر والدعاء، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر (2704)، وانظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 207).
([53]) رواه مسلم في الذكر والدعاء، باب: فضل الذكر والدعاء (2675) وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 207).
([54]) رواه ابن ماجه في الصيام باب في الصائم لا ترد دعوته (1753)، والحاكم (1/ 422) وضعفه الألباني في إرواء الغليل (921). وانظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 208)
([55]) انظر: تيسير الكريم الرحمن ص 69.
([56]) انظر: معارج القبول (1/ 29، 204 ـ 207).
([57]) أيسر التفاسير (1/ 165).
([58]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 313).
([59]) انظر: تيسير الكريم الرحمن ص 69.
([60]) رواه البخاري في الصوم، باب قول الله جل ذكره: أحل لكم ليلة الصيام (1915).
([61]) رواه البخاري في تفسير القرآن باب: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم (4508) قال الشيخ مقبل الوادعي بعد ما ذكر الروايتين: "وظاهرهما التغاير، لكن لا مانع من أن تكون نزلت في هؤلاء وفي هؤلاء" انظر الصحيح المسند من أسباب النزول ص 18.
([62]) رواه أحمد في المسند (3/ 460) وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر في جامع البيان للطبري (3/ 497). وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 314) وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 209). وفتح القدير للشوكاني (1/ 288).
([63]) رواه البخاري في الصوم، باب قول الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين...} (1917).
([64]) رواه مسلم في الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (1091). وانظر جامع البيان للطبري (3/ 513).
([65]) العجاب في بيان الأسباب (1/ 449).
([66]) جامع البيان (3/ 541).
([67]) انظر: فتح القدير (1/ 287).(/138)
([68]) انظر: جامع البيان (3/ 488).
([69]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 316)، وأيسر التفاسير (1/ 166).
([70]) انظر: جامع البيان (3/ 493).
([71]) انظر: فتح القدير (1/ 286).
([72]) انظر الجامع لحكام القرآن (2/ 317).
([73]) تيسير الكريم الرحمن ص 69.
([74]) السرحان: الذئب. انظر لسان العرب (6/ 232) مادة: سرح.
([75]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 319) وفتح القدير (1/ 287).
([76]) انظر: فتح القدير (1/ 287).
([77]) انظر: أضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي (1/ 105).
([78]) انظر: فتح القدير (1/ 287).
([79]) انظر: أيسر التفاسير (1/ 167).
([80]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 208 ـ 215)، وتيسير الكريم الرحمن ص 69 ـ 70.
([81]) رواه الترمذي في الصوم، باب: لا صيام لمن لم يعزم من الليل (730)، والنسائي في الصيام، باب: ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة (2333)، وأبو داود في الصوم، باب النية في الصيام (2454) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (583).
([82]) رواه البخاري في تفسير القرآن باب قوله: {وكلوا واشربوا...} (4510) وانظر جامع البيان للطبري (3/ 513).
([83]) رواه الترمذي في الصوم باب ما جاء في بيان الفجر (706) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (568)، وانظر جامع البيان (3/ 515).
([84]) رواه البخاري في الصوم باب متى يحل فطر الصائم؟ (1954)، ومسلم في الصيام باب بيان وقت انقضاء الصوم (1100)، وانظر جامع البيان (3/ 533).
([85]) رواه البخاري في الصوم، باب الوصال، ومن قال ليس في الليل صيام (1962)، ومسلم في الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم (1102)، وانظر جامع البيان (3/ 536).
([86]) رواه البخاري في الصوم، باب بكرة السحور من غير إيجاب (1923)، ومسلم في الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره (1095)، وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 210).
([87]) رواه البخاري في الصوم، باب: اغتسال الصائم (1932) ومسلم في الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب (1109) من رواية أم سلمة وعائشة رضي الله عنها. وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 210).
([88]) رواه البخاري في بدء الخلق باب: صفة إبليس وجنوده (3281)، ومسلم في السلام، باب: بيان أنه يستحب لمن رئي خاليًا بامرأة... (2175). وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 313).
([89]) رواه البخاري في الصوم، باب: الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا (1933)، ومسلم في الصيام، باب: أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر (1155)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 323).
([90]) رواه البخاري في الصوم، باب المباشرة للصائم (1927)، ومسلم في الصيام، باب: بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة (1106)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 324).
([91]) رواه مسلم في الصيام، باب: فضل السحور (1096) وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 329).
([92]) رواه أبو داود في الصوم، باب: القول عند الإفطار (2357)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2066) وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/331).
([93]) رواه مسلم في الصيام، باب: استحباب صوم ستة أيام من شوال (1164)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 331).
([94]) رواه البخاري في الاعتكاف باب: لا يدخل البيت إلا لحاجة (2029)، ومسلم في الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها (297)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 334 ـ 335).
([95]) رواه مسلم في الاعتكاف، باب: متى يدخل من أراد الاعتكاف (1173) وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 336).
([96]) انظر: جامع البيان (3/ 464).
([97]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 318 ـ 319).
([98]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 315).
([99]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 213).
([100]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 213).
([101]) انظر: رزوح المعاني (2/ 69).
([102]) رواه ابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (1/ 334) وانظر العجاب في بيان الأسباب لابن حجر (1/ 486) وهو في البخاري في الحج، باب: يفعل في العمرة ما يفعل في الحج (1789)، ومسلم في الحج باب: ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح (1180) بدون ذكر نزول هذه الآية. وانظر فتح القدير (1/ 302).
([103]) رواه البخاري في الحج، باب: قول الله تعالى: {أو صدقة} وهي إطعام ستة.. (1815)، ومسلم في الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى (1201) وانظر جامع البيان (4/ 59).
([104]) انظر: جامع البيان (4/ 7) وروح المعاني (2/ 79).
([105]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 369).
([106]) انظر: جامع البيان (4/ 14)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 369).
([107]) انظر: جامع البيان (4/ 35).
([108]) انظر: روح المعاني (2/ 82).
([109]) انظر: فتح القدير (1/ 302) وروح المعاني (2/ 83).
([110]) وهو الذي رجحه الشنقيطي في أضواء البيان (1/111).
([111]) انظر: فتح القدير (1/ 300).
([112]) انظر: جامع البيان (4/ 40).(/139)
([113]) انظر: جامع البيان (4/ 86) والجامع لأحكام القرآن (2/ 386).
([114]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/222) وأيسر التفاسير (1/ 176).
([115]) انظر: تيسير الكريم الرحمن ص 74.
([116]) انظر: تيسير الكريم الرحمن ص 73 ـ 74، وأيسر التفاسير (1/ 177).
([117]) رواه الترمذي في الحج (930) والنسائي في مناسك الحج باب وجوب العمرة (2621)، وأبو داود في المناسك باب الرجل يحج عن غيره (1810) وابن ماجه في المناسك باب الحج عن الحي إذا لم يستطِع (2906) وصححه الألباني في صحيح النسائي (2458)، وانظر: جامع البيان (4/ 18).
([118]) رواه البخاري عن الحج، باب: الحلق والتقصير (1727)، ومسلم في الحج باب: تفضيل الحلق على التقصير (1301) وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 381).
([119]) رواه البخاري في الحج باب قول النبي صلى الله عليه وسلم العقيق (1534) وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 389).
([120]) (برأ الدبر): يعنون ظهور الإبل بعد انصرافها من الحج، فإنها كانت تدبر بالسير عليها للحج. (عفا الأثر): أي درس وانمحى، والمراد: أثر الإبل وغيرها في سيرها، عفا أثرها لطول مرور الأيام. انظر شرح صحيح مسلم للنووي (8/ 225).
([121]) رواه البخاري في المناقب باب: أيام الجاهلية (3832)، ومسلم في الحج، باب: جواز العمرة في أشهر الحج (1240) وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 393).
([122]) رواه مسلم في الحج، باب: جواز العمرة في أشهر الحج (1241)، وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 219).
([123]) رواه البخاري في النكاح، باب الأكفاء في الدين (5089)، ومسلم في الحج، باب: جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض (1207) وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 220).
([124]) رواه البخاري في الحج، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج.. (1566)، ومسلم في الحج، باب: بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل (1229)، وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 220 ـ 221).
([125]) رواه مسلم في الصيام، باب: تحريم صوم أيام التشريق (1141) وانظر تفسير القرآن العظيم (1/222) وذكر أنه من رواية قتيبة الهذلي، وهو خطأ أو تحريف.
([126]) رواه البخاري في الحج، باب: كيف تهل الحائض والنفساء (1556) ومسلم في الحج باب، بيان وجوه الإحرام (1211) وانظر: فتح القدير (1/ 299).
([127]) رواه الدارقطني في السنن (2/ 186)، وقال: يحيى بن أبي أنيسة ضعيف، وانظر فتح القدير (1/ 305).
([128]) رواه الدارقطني في السنن (2/ 284) والحاكم (1/ 643) وقال: والصحيح عن زيد بن ثابت قوله. وضعفه ابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 123)، قال أبو الطيب آبادي في تعليق على الدارقطني: الحديث في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف، ثم هو عن ابن سيرين عن زيد وهو منقطع، ورواه البيهقي موقوفًا على زيد من طريق ابن سيرين أيضًا وإسناده أصح.
([129]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 365).
([130]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 373).
([131]) انظر: تيسير الكريم الرحمن (ص 73).
([132]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 221).
([133]) انظر: جامع البيان (4/ 83).
([134]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 223).
([135]) انظر: تيسير الكريم الرحمن (ص 74).
ثانياً: آية الصوم من سورة النساء:
الآية (92).
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:92].
أسباب النزول:
1 ـ عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد بن أنيسة من بني عامر بن لؤي يعذّب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل، ثم خرج الحارث بن يزيد مهاجرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه عياش بالحرّة فعلاه بالسيف حتى سكت، وهو يحسب أنه كافر. ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، ونزلت: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} الآية فقرأها، ثم قال له: ((قم فحرّر))([1]).
وقيل: نزلت في أبي الدرداء رضي الله عنه.(/140)
2 ـ عن ابن زيد قال: نزل هذا في رجل قتله أبو الدرداء، نزل هذا كله فيه، كانوا في سرية، فعدل أبو الدرداء إلى شعبٍ يريد حاجة له، فوجد رجلاً من القوم في غنم له، فحمل عليه بالسيف. فقال: لا إله إلا الله. قال: فضربه، ثم جاء بغنمه إلى القوم، ثم وجد في نفسه شيئًا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا شققت عن قلبه))، فقال: ما عسيت أجد! هل هو يا رسول الله إلا دم أو ماء؟ قال: ((فقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه؟)) قال: كيف بي يا رسول الله؟ قال: ((فكيف بلا إله إلا الله؟)) قال: فكيف بي يا رسول الله؟ قال: ((فكيف بلا إله إلا الله؟)) حتى تمنيت أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي. قال ونزل القرآن: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} حتى بلغ {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} قال: إلا أن يضعوها([2]).
قال الطبري بعدما ذكر الروايتين: "والصواب في ذلك أن يقال: إن الله عرّف عباده بهذه الآية ما على من قتل مؤمنًا خطأ من كفارة ودية، وجائز أن تكون الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة وقتيلة، وفي أبي الدرداء وصاحبه، وأي ذلك كان فالذي عنى الله تعالى بالآية تعريف عباده ما ذكرنا، وقد عرف ذلك من عقل عنه من عباده تنزيله، وغير ضائرهم جهلهم بمن نزلت فيه"([3]).
وقيل: إنها نزلت في أسامة بن زيد رضي الله عنهما في قصة قريبة من قصة أبي الدرداء رضي الله عنه([4]).
القراءات:
أ ـ {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ}
1 ـ {إلا أن يتصدقوا} وهي قراءة أبيّ وابن مسعود رضي الله عنهما([5]).
2 ـ {إلا أن تصَدّقوا} وهي قراءة أبي عبد الرحمن ونبيح([6]).
3 ـ {تصَّدَّقوا} وهي قراءة أبي عمرو([7]).
ب ـ {يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً}
قرأ الأعمش {يقتل مؤمنًا إلا خطاء} ممدودًا([8]).
ج ـ {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}.
قرأ الحسن {وإن كان من قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ وهو مؤمن}([9]).
المفردات:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً}: أي يستحيل ويمتنع أن يصدر من مؤمن قتلُ مؤمن آخر متعمدًا، إلا أن يكون خطأ كأن يرمي صيدًا أو نحوه([10]).
{رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ}: الرقبة المؤمنة هي التي صلّت، وعقلت الإيمان([11]) وقيل: سواء كانت الرقبة صغيرة أو كبيرة إذا كانت بين المسلمين أو لمسلم فإنه يجوز([12]).
{وَدِيَةٌ}: الدية: ما يُعطى عوضًا عن دم القتيل إلى وليه([13]).
{مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}: أي مدفوعة إليهم على ما وجب لهم، موفرة غير منتقصة حقوق أهلها منها([14]).
{إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} أي: إلا أن يتصدق أهل المقتول على القاتل الدية. سمي العفو عنها صدقة ترغيبًا فيها([15]).
{مّيثَاقٌ}: عهد([16]).
{مُتَتَابِعَيْنِ}: أي: لا إفطار بينهما، بل يسرد صومهما إلى آخرهما([17]).
المعنى الإجمالي:
يخبر سبحانه وتعالى أن المؤمن يمنعه إيمانه من قتل أخيه المؤمن، ولا التعدي عليه، إذ الإيمان نور يكشف عن مدى قبح هذه الجريمة النكراء فيبني حول صاحبه سياجًا منيعًا يحول دون الإقدام على إزهاق نفسٍ مؤمنة تشهد بأن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. لكن حينما تقع هذه الجريمة لا تقع إلا في حالة الخطأ، فإن المخطئ الذي لا يقصد القتل غير آثم، ولا مجترئ على محارم الله.
ولأجل أنه قد ارتكب فعلاً شنيعًا، وصورته كافية في قبحه، وإن لم يقصده أمر تعالى بالكفارة، وهي عتق رقبة مؤمنة لا أي رقبة، بل يجب أن تكون هذه الرقبة رقبة مؤمنة وذلك فيما لو قتل مؤمنًا خطأ من قومٍ عدوٍ للمسلمين محاربين.
وإن كان المقتول من قوم كافرين وهو مؤمن، أو كافر ولكن بين المسلمين وبين قومه معاهدة، فعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة، ودية تسلم إلى أهله، فإن لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين توبة لله تعالى لا يقطع ما بينهما بإفطار إلا إن كان له عذر، فإن قطع التتابع بإفطار يوم واحد استأنف صيامه مرة أخرى.
وهذا كله تشريع من العليم بما يحقق مصالح العباد، الحكيم في تشريعاته وأحكامه([18]).
نصوص ذات صلة:
1 ـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون تتكافأ دماؤهم))([19]).
2 ـ عن أبي رقية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجني عليك ولا تجني عليه))([20]).
3 ـ عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبدٍ أو أمة([21]).
4 ـ عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن امرأتين كانتا تحت رجل من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط فأسقطت، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: كيف ندي من لا صاح ولا استهل ولا شرب ولا أكل؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أسجعٌ كسجع الأعراب؟!)) فقضى بالغرة على عاقلة المرأة([22]).(/141)
5 ـ عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟)) قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفًا من السلاح. قال: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟)) فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذٍ([23]).
6 ـ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة))([24]).
7 ـ عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمةٍ سوداء وقال: يا رسول الله، إن علي رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتشهدين أن لا إله إلا الله؟)) قالت: نعم, قال: ((أتشهدين أني رسول الله؟)) قالت: نعم. قال: ((أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟)) قالت: نعم. قال: ((أعتقها))([25]).
8 ـ عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أنه لما جاء بجاريته قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أين الله؟)) قالت: في السماء. قال: ((من أنا؟)) قالت: أنت رسول الله. قال: ((أعتقها فإنها مؤمنة))([26]).
9 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني خزيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالدُ يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده فقال: ((اللهم إني أبرا إليك مما صنع خالد)) مرتين([27]).
10 ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)) ([28]).
الفوائد:
1. المؤمن الحق لا يقع منه القتل العمد لأخيه المؤمن إلا خطأ غير مقصود([29]).
2. حرمة دم المؤمن([30]).
3. إذا كان القتيل مؤمنًا، وكان من قومٍ كافرين محاربين فالجزاء تحرير رقبة مؤمنة فقط([31]).
4. إذا كان القتيل من قوم بين المسلمين وبينهم ميثاق فالواجب الدية وتحرير رقبة مؤمنة([32]).
5. أجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل([33]).
6. شرط عتق الرقبة أن تكون مؤمنة([34]).
7. لا يجوز قطع التتابع في الصيام إلا لعذر، فإن قطعه فأفطر، فعليه أن يستأنف الصيام من جديد([35]).
* * *
([1]) رواه الطبري في تفسيره جامع البيان (9/ 33)، والبيهقي في السنن الكبرى مختصرًا (8/ 72). قال ابن حجر: روى هذه القصة أبو يعلى مرسلة ـ ثم قال ـ وقيل في سبب نزولها غير ذلك مما لا يثبت. انظر فتح الباري (12/ 212). وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 506).
([2]) رواه ابن جرير في تفسيره جامع البيان (9/ 34)، وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 506).
([3]) جامع البيان (9/ 34 ـ 35).
([4]) انظر: صحيح مسلم كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله (96)، وانظر أحكام القرآن لابن العربي (1/ 473) وروح المعاني (5/ 113).
([5]) انظر: جامع البيان (9/ 38) والجامع لأحكام القرآن (5/ 323) وفتح القدير (1/ 752).
([6]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 323).
([7]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 323).
([8]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 313).
([9]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 325).
([10]) انظر: جامع البيان (9/ 30) وتيسير الكريم الرحمن ص 156.
([11]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 314).
([12]) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 474).
([13]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 315).
([14]) انظر: جامع البيان (9/ 37)، وفتح القدير (1/ 751).
([15]) انظر: فتح القدير (1/ 751 ـ 752).
([16]) انظر: جامع البيان (9/ 44).
([17]) تفسير القرآن العظيم (1/ 507).
([18]) انظر: روح المعاني (5/ 113 ـ 114) وتيسير الكريم الرحمن ص 156 ـ 157.
([19]) رواه أبو داود في الجهاد، باب في السرية ترد على أهل العسكر (2751) وابن ماجه في الديات، باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم (2685) وقال الألباني في صحيح أبي داود (2390): حسن صحيح، وانظر الجامع لأحكام القرآن (5/ 314).
([20]) رواه أبو داود في الديات، باب: لا يؤخذ أحد بجريرة أخيه أو أبيه (4495) والدارمي في الديات، باب لا يؤخذ أحد بجناية غيره (2389). وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3773)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (5/ 320).(/142)
([21]) رواه الترمذي في الديات باب ما جاء في دية الجنين (1411) وأبو داود في الديات باب: دية الجنين (4579) وابن ماجه في الديات، باب: دية الجنين (2639)، وأصله في البخاري في الطب، باب الكهانة (5760) من حديث أبي هريرة، ومسلم في القسامة والمحاربين، باب: دية الجنين (1682) وانظر الجامع لأحكام القرآن (5/ 321).
([22]) رواه النسائي في القسامة، باب: صفة شبه العمد (4825) وأبو داود في الديات، باب: دية الجنين (4568) وأصله في البخاري في الطب، باب: الكهانة (5758) ومسلم في القسامة، باب: دية الجنين (1681) عن أبي هريرة وانظر الجامع لأحكام القرآن (5/ 322).
([23]) رواه مسلم في الإيمان, باب: تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله (96)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (5/ 324).
([24]) رواه البخاري في الديات، باب: قول الله تعالى: {أن النفس بالنفس} (6878)، ومسلم في القسامة والمحاربين باب: ما يباح به دم المسلم (1676) وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 506).
([25]) رواه أحمد (3/ 451) وعبد الرزاق في المصنف (9/ 175)، وابن أبي شيبة في المصنف (6/ 162) وصححه ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (1/ 507).
([26]) رواه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة (537)، وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 507).
([27]) رواه البخاري في المغازي باب: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد (4339)، وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 507).
([28]) رواه البخاري في الديات، باب: قول الله تعالى: {ومن أحياها...} (6868)، ومسلم في الإيمان باب: بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ترجعوا بعدي كفارًا)) (65)، وانظر تيسير الكريم الرحمن ص 156.
([29]) انظر: جامع البيان (9/ 30 ـ 31).
([30]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 506).
([31]) انظر: جامع البيان (9/ 31).
([32]) انظر: جامع البيان (9/ 38).
([33]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 325).
([34]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 506).
([35]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 327) وتيسير الكريم الرحمن ص 157.
ثالثاً: آيات الصوم من سورة المائدة:
1- الآية (89).
قال تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:89].
سبب النزول:
قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ}.
1 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:87] في القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم على أنفسهم، قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله تعالى ذكره: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ}([1]).
2 ـ ورُوي أن عبد الله بن رواحة كان له أيتام وضيف، فانقلب من شغله بعد ساعة من الليل، فقال: أعشيتم ضيفي؟ فقالوا: انتظرناك، فقال: لا والله لا آكله الليلة، فقال ضيفه: وما أنا بالذي يأكل. وقال أيتامه: ونحن لا نأكل، فلما رأى ذلك أكل وأكلوا، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له: ((أطعت الرحمن وعصيت الشيطان)) فنزلت الآية([2]).
قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}
3 ـ عن سعيد بن جبير في قوله : {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}. قال: كانوا يفضلون الحر على العبد، والكبير على الصغير، فنزلت: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}([3]).
القراءات:
قوله تعالى: {وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ}
1 ـ {عَقَدْتُم الأيمان}: وهي قراءة الكوفيين([4]).
2 ـ {عاقدتم الأيمان}([5]).
قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}
1 ـ {أو كُسوتهم} بضم الكاف([6]).
2 ـ {أو كإسوتهم}، وهي قراءة سعيد بن جبير ومحمد بن السميقع اليماني([7]).
قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ}
{فصيام ثلاثة أيام متتابعات} وهي قراءة أبيّ بن كعب وابن مسعود رضي الله عنهما([8]).
المفردات:
{اللَّغْوِ}: اللغو ما يجري على لسان الإنسان من غير قصد كقوله: لا والله، وبلى والله. وقيل: إن اللغو هو أن يحلف على ما يعتقده فيظهر نفيه([9]).
{عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ}: تعمدتم وقصدتم([10]).(/143)
{أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}: أي المتوسط بين طرفي الإسراف والتقتير، مما تعتادون أهليكم منه([11]).
{كِسْوَتُهُمْ} الكسوة هي الثوب، أو كل ما وقع عليه اسم كسوة([12]).
{وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ} أي راعوها لكي تؤدوا الكفارة عنها إذا حنثتم، أو احفظوا أنفسكم من الحنث فيها([13]).
المعنى الإجمالي:
في الآية الكريمة يخبر سبحانه وتعالى بأنه قد تجاوز على من كانت يمينه لغوًا، وهي الأيمان التي حلف بها المقسم من غير نية ولا قصد، أو عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلاف ذلك.
وأما من عقد يمينه قاصدًا تحقيق ما عزم عليه فالواجب في حقه الإنفاذ، فإن حال دونه ودون الإنفاذ بأي سبب كان كفَّر عن يمينه كفارة اليمين، وهي: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم من أوسط ما يطعم ويكسو به أهله، أو يحرر رقبة مؤمنة، فإن لم يجد واحدًا من هذه الثلاث؛ صام ثلاثة أيام فتلك هي الكفارة.
ثم يأمر الله سبحانه بحفظ الأيمان، وعدم تعريضها للعتب أو الحنث.
ثم يخبر تعالى بأنه كما بين لنا أحكام الأيمان وكفاراتها؛ بين لنا ووضح للعالمين أعلام دينه وشعائره وأحكامه ليشكر المؤمنون ربهم على أن هداهم ووفقهم([14]).
نصوص ذات صلة:
1 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه))([15]).
2 ـ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: ((الإشراك بالله))، قال: ثم ماذا؟ قال: ((ثم عقوق الوالدين)). قال: ثم ماذا؟ قال: ((اليمين الغموس)). قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: ((الذي يقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كاذب))([16]).
3 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت))([17]).
4 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف منكم فقال في حلفه: باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله. ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق))([18]).
5 ـ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير))([19]).
6 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله))([20]).
7 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اليمين على نية المستحلف))([21]).
الفوائد:
1. الأيمان ثلاثة: لغو لا كفارة لها مثل قول: لا والله وبلى والله. الغموس، وهي أن يحلف متعمدًا الكذب ولا كفارة لها إلا التوبة، اليمين المنعقدة: وهي التي تعمد فيها المؤمن الحلف ويقصده ليفعل ثم يحنث. فهذه الأخيرة هي التي ذكر الله تعالى كفارتها([22]).
2. الخيرة في الكفارات الثلاث وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، أو تحرير رقبة فمن لم يستطع أياً من هذه انتقل إلى صيام ثلاثة أيام([23]).
3. لا يشترط التتابع في الصيام([24]).
4. الإطعام يكون مفردًا لكل مسكين([25]).
5. لا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة([26]).
6. اليمين لا يكون إلا بأسماء الله تعالى وصفاته([27]).
7. لا يجوز القسم بمخلوق([28]).
* * *
2- الآية (95).
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة:95].
سبب النزول:
رُوي أن أبا اليسر ـ واسمه: عمرو بن مالك الأنصاري ـ كان محرمًا عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت فيه {لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}([29]).
القراءات:
أ ـ قوله: {فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ}
1 ـ {فجزاءٌ مثلُ ما قتل من النعم}: وهي قراءة عبد الله بن مسعود والأعمش([30]).
2 ـ {فجزاءُ مثلِ ما قتل من النعم} بإضافة الجزاء إلى "المثل" وخفض المثل([31]).
3 ـ {فجزاء مثلَ ما قتل من النعم}: بنصب "مثلَ" وهي قراءة عبد الرحمن([32]).
4 ـ {فجزاء مثل ما قتل من النعْم} بإسكان العين، وهي قراءة الحسن([33]).
ب ـ قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ}
{ذو عدل} وهي قراءة محمد بن جعفر([34]).
ج ـ قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ}
{كفارةُ طعامِ مساكين} بالإضافة، وهي قراءة أهل المدينة([35]).(/144)
د ـ قوله: {أَو عَدْلُ ذالِكَ}
{أو عِدْل} بكسر العين([36]).
المفردات:
{وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}: أي وأنتم محرمون بحج أو عمرة([37]).
{فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}: أي فعلى قاتل الصيد جزاء الصيد المقتول مثل ما قتل من النعم([38]).
{ذَوَا عَدْلٍ}: أي رجلان معروفان بالعدالة بين المسلمين([39]).
{هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}: أي يذبح في الحرم([40]).
{أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً}: أي يقوّم الصيد حيًا غير مقتول قيمته من الطعام بالموضع الذي قتله فيه المحرم، ثم يصوم مكان كل مدٍ يومًا([41]).
{وَبَالَ} سوء العاقبة.
المعنى الإجمالي:
ينهى الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين الحجاج والمعتمرين عن قتل الصيد والتعرض له، والنهي عن قتله يشمل النهي عن مقدمات القتل، وعن المشاركة في القتل، والدلالة عليه، والإعانة على قتله، حتى إن من تمام ذلك أنه نهى المحرم عن أكل ما قتل أو صيد لأجله. وهذا كله تعظيم لهذا النُسك العظيم، أنه يحرم على المحرم قتل وصيد ما كان حلالاً له قبل الإحرام.
ثم يخبر سبحانه بأن من قتل الصيد متعمدًا فهو مخيّر بين ثلاث:
أولاً: إخراج المثل من النعم، يحكم به عدلان من المسلمين يعرفان الحكم ووجه الشبه، يرسل به إلى الحرم يذبح هناك.
ثانيًا: يقوّم الجزاء فيشتري بقيمته طعامًا، فيطعم كل مسكين مُدّ بُرٍ أو نصف صاع من غيره.
ثالثًا: يصوم بدل كل نصف صاع يومًا. وذلك جزاءً له لمخالفته.
ثم يخبر تعالى بأنه قد عفا عما بدر من تقصير قبل ظهور الحكم وبيانه لكنه توعد من عاد في الصيد مرة أخرى بعد تبين حكمه بالانتقام والعذاب الشديد، والكفارة للمرة الثانية غير مجدية([42]) .
نصوص ذات صلة:
1. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور))([43]).
2. عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: لو رأيت الضباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بين لابتيها حرام))([44]).
3. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن إبراهيم حرّم مكة، وإني حرّمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها، ولا يصاد صيدها))([45]).
4. عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً))([46]).
الفوائد:
1. حرمة قتل الصيد للمحرم بحج أو بعمرة([47]).
2. الخيار في الكفارات الثلاث([48]).
3. الدم والإطعام لا بد أن يكون بمكة، والصيام في أي مكان([49]).
4. جواز قتل الحيوان غير المأكول([50]).
5. الإحرام ينحل بالصيد إذا كان الصائد المحرم ذاكرًا عامدًا([51]).
6. الكفارة تجب على المتعمد بخلاف الناسي([52]).
7. أن من عاد في الصيد فلا كفارة عليه، وسينتقم الله تعالى منه([53]).
8. أن الصيام يكون بعدد المساكين المقدّر إطعامهم، فيصوم عن كل مدٍ يومًا([54]).
* * *
([1]) رواه الطبري في تفسيره جامع البيان (10/ 523).
([2]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 265).
([3]) رواه الطبري في تفسيره جامع البيان (10/ 541 ـ 542).
([4]) انظر جامع البيان (10/ 524).
([5]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 266)، وفتح القدير (2/ 104).
([6]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 279) وفتح القدير (2/ 105).
([7]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 279) وروح المعاني (7/ 13).
([8]) انظر جامع البيان (10/ 560).
([9]) انظر: أضواء البيان (2/ 107).
([10]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 267).
([11]) انظر: فتح القدير (2/ 104).
([12]) انظر جامع البيان (10/ 551).
([13]) انظر: روح المعاني (7/ 15).
([14]) انظر: جامع البيان (10/ 562) وتيسير الكريم الرحمن (ص 204 ـ 205).
([15]) رواه مسلم في الأيمان، باب: ندب من حلف يمنيًا فرأى غيرها خيرًا منها (1650)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 267).
([16]) رواه البخاري في استتابة المرتدين، باب: إثم من أشرك بالله (6920)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 268).
([17]) رواه البخاري في الأيمان والنذور، باب: لا تحلفوا بآبائكم (6646)، ومسلم في الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله (1646) وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 271).
([18]) رواه البخاري في الأدب، باب: من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً (6107)، ومسلم في الأيمان، باب: من حلف باللات والعزى (1647)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 271).
([19]) رواه البخاري في كفارات الأيمان، باب: الاستثناء في الأيمان (6718)، ومسلم في الأيمان، باب: ندب من حلف يمنيًا فرأى غيرها خيرًا منها (1649) وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 275).(/145)
([20]) رواه مسلم في الأيمان، باب: النهي عن الإصرار على اليمين (1655)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 281).
([21]) رواه مسلم في الأيمان، باب: يمين الحالف على نية المستحلف (1653)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 282).
([22]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 265 ـ 267).
([23]) انظر: فتح القدير (2/ 105).
([24]) انظر جامع البيان (10/ 562).
([25]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 277).
([26]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 280).
([27]) انظر: أضواء البيان (2/ 110).
([28]) انظر: أضواء البيان (2/ 110).
([29]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 302) وروح المعاني (7/ 23).
([30]) انظر جامع البيان (11/ 13) والجامع لأحكام القرآن (6/ 309).
([31]) انظر: جامع البيان (11/ 13).
([32]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 309) وفتح القدير (2/ 113).
([33]) انظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 309).
([34]) انظر: روح المعاني (7/ 26).
([35]) انظر: جامع البيان (11/ 30).
([36]) انظر: روح المعاني (7/ 28 ـ 29).
([37]) انظر: جامع البيان (11/ 7).
([38]) انظر: جامع البيان (11/ 13).
([39]) انظر: تيسير الكريم الرحمن ص 207.
([40]) انظر: جامع البيان (11/ 42).
([41]) انظر: فتح القدير (2/ 114).
([42]) انظر: تيسير الكريم الرحمن ص 206 ـ 207.
([43]) رواه البخاري في الحج، باب: ما يقتل المحرم من الدواب (1828)، ومسلم في الحج، باب: ما يندب للمحرم وغيره (1199) وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 305).
([44]) رواه البخاري في الحج باب: لابتي المدينة (1873) ومسلم في الحج، باب: فضل المدينة (1372) وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 306).
([45]) رواه مسلم في الحج، باب: فضل المدينة وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 306).
([46]) رواه البخاري في الفرائض، باب: إثم من تبرأ من مواليه (6755)، ومسلم في الحج، باب: فضل المدينة (1370) واللفظ له، وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 307).
([47]) انظر: تفسير القرآن العظيم (2/ 93).
([48]) انظر: جامع البيان (11/ 37).
([49]) انظر: جامع البيان (11/ 40).
([50]) انظر: تفسير القرآن العظيم (2/ 93).
([51]) انظر: فتح القدير (2/ 113).
([52]) انظر: أضواء البيان (2/ 116 ـ 117).
([53]) انظر: روح المعاني (7/ 29).
([54]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 316).
رابعاً: آيات الصوم من سورة المجادلة:
قال تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة:4].
أسباب النزول:
1- عن خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها قالت: والله فيّ وفي أوس بن الصامت أنزل الله عز وجل صدر سورة المجادلة، قالت: كنت عنده وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه وضجر قالت: فدخل عليّ يوماً فراجعته بشيء فغضب فقال: أنتِ عليّ كظهر أمي، قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعةً ثم دخل عليّ يوماً فراجعته بشيءٍ فغضب فقال: أنتِ عليّ كظهر أمي، قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعةً ثم دخل عليَّ فإذا هو يريدني على نفسي، قالت: فقلت: كلا والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه، قالت: فواثبني وامتنعت منه فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عني، قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابها، ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه فجعلت أشكو إليه صلى الله عليه وسلم ما ألقى من سوء خلقه، قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا خويلة، ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه، قالت: فوالله ما برحت حتى نزل فيّ القرآن فتغشّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشّاه ثم سُرّي عنه، فقال لي: يا خويلة، قد أنزل الله فيك وفي صاحبك ثم قرأ عليّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَ...} إلى قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة:1-4]([1]).(/146)
2- وقيل: نزلت في سلمة بن صخر الأنصاري، فعنه أنه قال: كنت رجلاً قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان تظاهرت من امرأتي، حتى ينسلخ رمضان فرقاً من أن أصيب منها في ليلي فأتتابع في ذلك، إلى أن يدركني النهار، وأنا لا أقدر أن أنزع، فبينما هي تخدمني ذات ليلة، إذ تكشّف لي منها شيء، فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري، فقلت: انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بأمري، فقالوا: لا والله لا نفعل، نتخوف أن ينزل فينا قرآن، أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك. قال: فخرجت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبري، فقال: ((أنت بذاك؟)) قلت: أنا بذاك، قال: ((أنت بذاك؟)) قلت: أنا بذاك، قال: ((أنت بذاك؟)) قلت: أنا بذاك، وها آنذا فامض فيّ حكم الله، فإني صابر لذلك. قال: ((أعتق رقبة))، قال: فضربَ صفحة عنقي بيدي فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها، قال: ((فصم شهرين)) قلت: يا رسول الله، وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام، قال: ((فأطعم ستين مسكيناً)) قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشى ما لنا عشاء، قال: ((اذهب إلى صاحب صدقة بني زُريق فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقاً ستين مسكيناً، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك)). قال: فرجعت إلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة، أمر لي بصدقتكم فادفعوها إليّ، فدفعوها إليّ([2]).
المفردات:
{فَمَن لَّمْ يَجِدْ}: أي فمن لم يجد منكم من ظاهر من امرأته رقبة يحرّرها: فعليه صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا([3]).
{مُتَتَابِعَيْنِ}: الشهران المتتابعان هما اللذان لا فصل بينهما بإفطار في نهار شيء منهما إلا من عذر([4]).
{مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}: المراد بالتماس هنا: الجماع، وقيل: المراد الاستمتاع بالجماع أو اللمس أو النظر إلى الفرج بشهوة([5]).
{حُدُودُ اللَّهِ}: أي محارمه، فلا تنتهكوها([6]).
المعنى الإجمالي:
أخبر سبحانه وتعالى قبل هذه الآية الكريمة بأن على الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا، أي: يعزمون على وطئهن بعد الظهار منهن، فالواجب عليهم قبل الوطء تحرير رقبة ذكراً كانت أو أنثى صغيرة أو كبيرة، لكن مؤمنة لا كافرة، ثم يتدرج سبحانه في الحكم في هذه الآية بأن من لم يجد رقبة لانعدامها، أو غلاء ثمنها فيجزئه صيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع لعلّةٍ قامت به فالواجب إطعام ستين مسكيناً يُعطي كل مسكين مداً من بُرٍ أو نصف صاعٍ من غير البُرّ كالشعير والتمر ونحوهما، كلّ ذلك من قبل أن يتماسا.
ثم يبيّن الله سبحانه أن ما تقدّم من أحكام الظهار إنما شرعها للمؤمنين ليؤمنوا بالله ورسوله، إذ إن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واجبةٌ ومتحتّمة، ومعصيتهما من الكفران، ثم يبيّن أيضاً أن هذه الأحكام ما هي إلا حدود لا يجوز للمسلم تجاوزها وتخطيها، وإلا نال من عذاب الله تعالى الشيء العظيم الموجع([7]).
الفوائد:
1. بيان حكم الظهار وأنه محرّم، ومعصية لله تعالى([8]).
2. من ظاهر من امرأته فعليه عتق رقبة، فإن لم يستطع فعليه صيام شهرين متتابعين لا يقطعهما بفطر، فإن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكيناً لكل مسكين مدّ من بُرّ أو مُدين من غير البُر كالشعير والتمر([9])، وقيل: ما يُشبع من غير تحديد([10]).
3. الكفّارة هنا مرتّبة، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الرقبة، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام([11]).
4. يجب إخراج الكفارة إذا كانت عتقاً أو صياماً قبل المسيس، كما قيده الله، بخلاف كفارة الإطعام، فإنه يجوز المسيس والوطء في أثنائها([12]).
* * *
([1]) رواه أحمد في المسند (6/410)، وحسنه الأرناؤوط في جامع الأصول (7/652)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (17/277).
([2]) رواه الترمذي في تفسير القرآن، باب: ومن سورة المجادلة (3299)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2628) وانظر تفسير القرآن العظيم (4/4998).
([3]) انظر جامع البيان (23/232) وروح المعاني (28-82).
([4]) انظر جامع البيان (23/232).
([5]) انظر فتح القدير (5/259).
([6]) انظر تفسير القرآن العظيم (4/502).
([7]) انظر فتح القدير (5/259) وأيسر التفاسير (5/285).
([8]) انظر فتح القدير (5/259).
([9]) انظر الجامع لأحكام القرآن (17/287) وأيسر التفاسير (5/285).
([10]) انظر روح المعاني (28/16).
([11]) انظر الجامع لأحكام القرآن (17/285).
([12]) انظر تيسير الكريم الرحمن (ص784).
خامساً: آية الصوم من سورة الأحزاب:(/147)
قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35].
أسباب النزول:
1- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، ما لنا لا نُذكر في القرآن كما يُذكر الرجال؟! قالت: فلم يرعني منه يوماً إلا ونداؤه على المنبر: ((يا أيها الناس))، قالت: وأنا أسرح رأسي فلففت شعري ثم دنوت من الباب فجعلت سمعي عند الجريد فسمعته يقول: ((إن الله عز وجل يقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ...})) هذه الآية([1]).
وفي رواية قالت: يا رسول الله، يذكر الرجال ولا يذكر النساء! فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}([2]).
2- عن أم عمارة الأنصارية رضي الله عنها أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}([3]).
المفردات:
{َالْقَانِتِينَ}: القانت هو العابد المطيع([4]).
{َالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ}: الخائفين والخائفات([5]).
{َالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ}: أي الحافظين فروجهم عن المحارم والمآثم إلا عن المباح([6]).
{َالذاكِرِينَ اللَّهَ}: أي بالألسنة والقلوب([7]).
المعنى الإجمالي:
نزلت هذه الآية الكريمة لما تساءلت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلن له: ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟! فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة.
تسامت همّة أولئك النسوة باللحاق بالرجال في الأجر والمثوبة، فأنزل الله هذه الآية تطييباً لنفوسهن التوّاقة للمنازل الرفيعة، فيقول: إن المسلمين والمسلمات الذين انقادوا لله ظاهراً وباطناً، والمؤمنين المصدقين بالله رباً وإلهاً، وبالنبي محمد نبياً ورسولاً، وبالإسلام ديناً وشرعاً والمصدقات، والقانتين المطيعين لربهم والقانتات، والصادقين في أقوالهم وأعمالهم والصادقات، والصابرين الحابسين نفوسهم على الطاعات وعن المحرمات وعلى البلاء والصابرات، والخاشعين المتذللين الخائفين من ربهم والخاشعات، والمتصدقين المؤدّين للزكاة والصدقة والمتصدقات، والصائمين الفرائض والنوافل والصائمات، والحافظين فروجهم عن الفواحش والمحرمات والحافظات، والذاكرين الله تعالى في خلوتهم وجولتهم في الليل والنهار والذاكرات. أولئك جميعاً أعدّ الله تعالى لهم مغفرة عظيمةً للذنوب، وأجراً جزيلاً على أعمالهم وطاعاتهم، وأعظم الجزاء الفوز بجنات الخلد عند مليكٍ مقتدر([8]).
نصوص ذات صلة:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصوم))([9]).
2- عن معاذ بن أنس الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله فقال: أي الجهاد أعظم أجراً؟ قال: ((أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكراً))، قال: فأي الصائمين أعظم أجراً؟ قال: ((أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكراً))، ثم ذكر لنا الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكراً))، فقال أبو بكر رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه: يا أبا حفص، ذهب الذاكرون بكل خيرٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أجل))([10]).
الفوائد:
1- الصائمون والصائمات في الآية قيل: في الفرض فقط، وقيل: في الفرض والنفل([11]).
2- الصوم أكبر عونٍ للإنسان على كسر الشهوة كما قال صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء))([12]).
3- قال مجاهد: "لا يكون ذاكراً لله تعالى كثيراً حتى يذكره قائماً وجالساً ومضطجعاً"([13]).
([1]) رواه أحمد في المسند (6/301) وانظر جامع ا لبيان (20/270).
([2]) رواه الحاكم في المستدرك (2/451)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وانظر تفسير القرآن العظيم (3/468).
([3]) رواه الترمذي في تفسير القرآن، باب: ومن سورة الأحزاب (3211)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2565)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (14/185)، وفتح القدير (4/403).
([4]) انظر الجامع لأحكام القرآن (14/185).
([5]) انظر جامع البيان (20/269).
([6]) انظر تفسير القرآن العظيم (3/469).
([7]) انظر روح المعاني (22/21).
([8]) انظر تيسير الكريم الرحمن (ص612)، وأيسر التفاسير (4/269-270).(/148)
([9]) رواه ابن ماجه في الصيام، باب: في الصوم زكاة الجسد (1745)، وضعفه البوصيري في مصباح الزجاجة (633)، والألباني في ضعيف ابن ماجه (341)، وانظر تفسير القرآن العظيم (3/469).
([10]) رواه أحمد في المسند (3/438)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/74): "رواه أحمد والطبراني وفيه زبان بن فائد، وهو ضعيف، وقد وثق، وكذلك ابن لهيعة، وبقية رجال أحمد ثقات".
([11]) انظر الجامع لأحكام القرآن (14/185).
([12]) رواه البخاري في الصوم، باب: الصوم لمن خاف على نفسه العزبة (1905)، ومسلم في النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت لنفسه (1400)، وانظر تفسير القرآن العظيم (3/469).
([13]) انظر الجامع لأحكام القرآن (14/186).(/149)
فقهُ التاجرِ المسلمِ وآدابُه
تأليف
الأستاذ الدكتور حسام الدين بن موسى عفانه
أستاذ الفقه والأصول
كلية الدعوة وأصول الدين
جامعة القدس
الطبعة الأولى
بيت المقدس
1426هـ
2005م
توزيع
المكتبة العلمية ودار الطيب للطباعة والنشر
القدس / أبوديس / شارع جامعة القدس تلفون ( 2791365)
طباعة وتنسيق:
شفاء بنت حسام الدين عفانه
بسم الله الرحمن الرحيم
نصوص شرعية في البيع والشراء: قال الله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } سورة البقرة الآية 275.
وقال الله تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون َ } سورة الجمعة الآية 10.
وقال الله تعالى: { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } سورة النور الآية 37.
وقال الله تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أثيم إن الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َفإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } سورة البقرة الآيات 275 - 279.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(إن الله يحب سَمْح البيع سَمْح الشراء سَمْح القضاء) رواه الترمذي وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/34.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(يا معشر التجار، فاستجابوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله وبر وصدق) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } سورة آل عمران الآية 102. { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } النساء الآية 1. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } سورة الأحزاب الآيتان 70-71.
أما بعد ...(/1)
فإن هذا الكتاب يتناول قضية هامة من القضايا التي يحتاجها كثير من الناس، حيث إن التجارة هي عصب الحياة الاقتصادية في المجتمع وقد رغبت أن أضع بين يدي إخواننا التجار كتاباً يحوي أهم المسائل التي يحتاجونها في تجارتهم وتعاملهم مع الناس. فوضعت هذا الكتاب المشتمل على أحكام البيع والشراء وما يتعلق بهما من آداب ليكون دليلاً للتاجر المسلم في تجارته، وقدمت على ذلك حديثاً موجزاً عن التجارة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وعرضت مسائل الكتاب بلغة سهلة واضحة، وطرزت الكتاب بنصوص كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وبيّنت الراجح من أقوال أهل العلم في المسائل الخلافية التي ذكرتها، مستنداً في ترجيحي على الأدلة الشرعية، وعلى ما قرره كبار فقهاء الإسلام قديماً وحديثاً. وذكرت في هذا الكتاب كثيراً من القضايا المعاصرة التي يتعامل بها التجار في وقتنا الحاضر، وبينت أحكامها الشرعية،وخاصة مسألة الربا والتعامل مع البنوك الربوية، فقد نالت حظاً وافراً من الحديث في مواضع عديدة، نظراً لانتشار التعامل بالربا بين كثير من التجار.
وختاماً أذكر العبارة المشهورة التي تقول:( الدين المعاملة )، فهذه العبارة صحيحة المعنى ويدل على صدقها وصحتها الأدلة الكثيرة التي سقتها في هذا الكتاب، فإن حسن تعامل التجار المسلمين قديماً كان سبباً في دخول ملايين الناس في دين الإسلام. فالتاجر المسلم صاحب عقيدة يدعو الناس إليها. والتاجر المسلم صاحب خلق يدعو الناس إليه، والتاجر المسلم داعية إلى دين الله بسلوكه وحسن تعامله مع الناس فهو داعية بلسان الحال وإن لم يكن كذلك بلسان المقال، وقد ذكر بعض أهل العلم تحليلاً لكلمة تاجر حيث قال:[التاء تعني تقوى، والألف أمين، والجيم جسور، والراء رحيم، فالتاجر المسلم تقيٌّ أمينٌ جسورٌ رحيمٌ] وآمل أن يتحلى تجارنا بهذه المعاني الطيبة وأن يعيدوا سيرة التجار المسلمين السابقين الذين كانوا هداة مهتدين.
وأود أن نبه إلى أن هذا الكتاب سيكون إن شاء الله تعالى الأول ضمن سلسلة تهدف إلى تقريب الفقه الإسلامي إلى أصحاب المهن والصنائع وغيرهم وسيتبعه بإذن الله تعالى بقية السلسلة كما يلي:
- فقه الطبيب المسلم وآدابه ... ... ... ... - فقه الممرض المسلم وآدابه
- فقه الزوجة المسلمة وآدابها ... ... ... ... - فقه الزوج المسلم وآدابه
- فقه الموظف المسلم وآدابه ... ... ... ... - فقه المعلم المسلم وآدابه ( المربي )
- فقه إمام المسجد وآدابه ... ... ... ... - فقه خطيب الجمعة وآدابه
- فقه العامل المسلم وآدابه ... ... ... ... - فقه الرياضي المسلم وآدابه
- فقه المسئول وآدابه
أسأل الله عز وجل أن يعينني على إعدادها وأن يرزقني الإخلاص في القول والعمل. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه الأستاذ الدكتور حسام الدين بن موسى عفانه
أبوديس/ القدس
صباح يوم الثلاثاء الثاني عشر من رجب 1426هـ
وفق السادس عشر من آب 2005 م.
تمهيد في التفقه في أحكام التجارة
حث الله سبحانه وتعالى على التفقه في الدين فقال جلَّ جلاله: { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } سورة التوبة الآية 122. فيجب على المسلم أن يتعلم من أمور دينه ما هو ضروري لعبادته ولعمله. وقد ورد في الحديث قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:(طلب العلم فريضة على كل مسلم) وهو حديث لا يقلّ عن درجة الحسن كما سيأتي لاحقاً.
وقد قال العلماء إن المقصود بالفريضة من العلم ما تتوقف عليه صحة العبادة والمعاملة فلا بد للسلم أن يتعلم كيفية أداء الصلاة والصيام والزكاة والحج بشكل صحيح وكذا يجب على من اشتغل بعمل من الأعمال أن يتعلم الأمور الأساسية التي لا يصح العمل بدونها، فعلى التاجر المسلم أن يتعلم أحكام البيع والشراء وما يتعلق بالربا حتى يتجنبه ونحو ذلك من الأحكام.
ومن الجدير بالذكر أن العلماء قد قسموا العلم الشرعي إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما هو فرض عين، والمقصود بفرض العين ما يجب على كل مسلم مكلف أن يحصله ولا يعذر بجهله، وحدُّ هذا القسم هو ما تتوقف عليه صحة العبادة أو المعاملة فيجب على المسلم أن يتعلم كيفية الوضوء والصلاة والأحكام الأساسية في الصوم والزكاة إن كان عنده نصاب، والأحكام الأساسية في الحج إن كان من أهل الاستطاعة وكذلك يجب عليه أن يتعلم أحكام المعاملات التي يحتاج إليها، فمثلاً لو كان شخص يعمل في الصرافة فيجب عليه أن يتعلم أحكام الصرف في الشريعة الإسلامية وهكذا بالنسبة للأمور التي يحتاج لها في عباداته ومعاملاته.(/2)
قال الإمام النووي:[... فرض العين وهو تعلم المكلف ما لا يتأدّى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به، ككيفية الوضوء والصلاة ونحوها وعليه حمل جماعات الحديث المروي في مسند أبي يعلى الموصلي عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:(طلب العلم فريضة على كل مسلم) وهذا الحديث وإن لم يكن ثابتاً فمعناه صحيح ...] المجموع 1/24.
والحديث الذي ذكره الإمام النووي وهو:(طلب العلم فريضة على كل مسلم) حديث مختلف فيه فمن العلماء من يرى أنه حديث ضعيف، قال الإمام البيهقي:[وهذا حديث متنه مشهور وإسناده ضعيف وقد روي من أوجه كلها ضعيف] وضعفه الإمام أحمد أيضاً كما قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين. ويرى بعض أهل الحديث أن الحديث يصلح للاحتجاج لتعدد طرقه كالسيوطي والعلامة الألباني. وعلى كل حال فالمقصود بالعلم في الحديث هو العلم الذي يكون فرض عين فقط وليس مطلق العلم.
قال ابن عابدين في حاشيته نقلاً عن العلامي في فصوله:[من فرائض الإسلام تعلم ما يحتاج إليه العبد في إقامة دينه وإخلاص عمله لله تعالى ومعاشرة عباده وفرض على كل مكلف ومكلفة بعد تعلمه علم الدين والهداية تعلم علم الوضوء والغسل والصلاة والصوم وعلم الزكاة لمن له نصاب والحج لمن وجب عليه والبيوع على التجار ليحترزوا عن الشبهات والمكروهات في سائر المعاملات وكذا أهل الحرف وكل من اشتغل بشيء يفترض عليه علمه وحكمه ليمتنع عن الحرام فيه] حاشية ابن عابدين 1/42.
الثاني: فرض الكفاية وهو ما إذا قام به البعض كفى وسقط الإثم عن الباقي، وعرّفه الإمام النووي بقوله:[وهو تحصيل ما لا بد للناس منه في إقامة دينهم من العلوم الشرعية كحفظ القرآن والأحاديث وعلومهما والأصول والفقه والنحو واللغة والتصريف ومعرفة رواة الحديث والإجماع والخلاف. وأما ما ليس علماً شرعياً ويحتاج إليه في قوام أمر الدنيا كالطب والحساب ففرض كفاية أيضاً ...] المجموع 1/26.
الثالث: النفل وهو كالتوسع في العلوم الشرعية.
وبهذا يظهر لنا أن تعلم أحكام التجارة من باب فرض العين في حق التجار، لأن صحة أعمالهم التجارية متوقفة على العلم بها، قال الإمام النووي:[باب أقسام العلم الشرعي هي ثلاثة: الأول فرض العين وهو تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به ... أما البيع والنكاح وشبههما مما لا يجب أصله فقال إمام الحرمين والغزالي وغيرهما يتعين على من أراده تعلم كيفيته وشرطه وقيل لا يقال يتعين بل يقال يحرم الإقدام عليه إلا بعد معرفة شرطه وهذه العبارة أصح: وعبارتهما محمولة عليها] المجموع 1/24-25.
وقال الإمام الغزالي:[اعلم أن تحصيل علم هذا الباب واجب على كل مسلم مكتسب لأن طلب العلم فريضة على كل مسلم وإنما هو طلب العلم المحتاج إليه والمكتسب يحتاج إلى علم الكسب ومهما حصل علم هذا الباب وقف على مفسدات المعاملة فيتقيها وما شذ عنه من الفروع المشكلة فيقع على سبب إشكالها فيتوقف فيها إلى أن يسأل فإنه إذا لم يعلم أسباب الفساد بعلم جملي فلا يدري متى يجب عليه التوقف والسؤال، ولو قال لا أقدم العلم ولكني أصبر إلى أن تقع لي الواقعة فعندها أتعلم وأستفتي، فيقال له: وبم تعلم وقوع الواقعة مهما لم تعلم جمل مفسدات العقود فإنه يستمر في التصرفات ويظنها صحيحة مباحة فلا بد له من هذا القدر من علم التجارة ليتميز له المباح عن المحظور وموضع الإشكال عن موضع الوضوح ولذلك روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يطوف السوق ويضرب بعض التجار بالدرِّة ويقول لا يبيع في سوقنا إلا من يفقه وإلا أكل الربا شاء أم أبى] إحياء علوم الدين 2/66.
وقال الشوكاني:[التفقه في الدين مأمور به في كتاب الله عز وجل، وفي صحيح الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس ذلك بخاص بنوع من أنواع الدَّين، بل في كل أنواعه، فيندرج تفقه التاجر للتجارة تحت الأدلة العامة ولا شك أن أنواع الدَّين تختلف باختلاف الأشخاص دون بعض، فمثلاً التاجر المباشر للبيع والشراء أحوج لمعرفة ما يرجع إلى ما يلابسه من غيره ممن لا يلابس البيع إلا نادراً] وبل الغمام 2/122.
وقال ابن عابدين:[... وفي تبيين المحارم: لا شك في فرضية علم الفرائض الخمس وعلم الإخلاص؛ لأن صحة العمل موقوفة عليه وعلم الحلال والحرام ... وعلم البيع والشراء والنكاح والطلاق لمن أراد الدخول في هذه الأشياء] حاشية ابن عابدين 1/42.(/3)
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية:[تعلم الفقه قد يكون فرض عين على المكلف كتعلمه ما لا يتأدّى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به، ككيفية الوضوء والصلاة، والصوم ونحو ذلك، وعليه حمل بعضهم الحديث المروي عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:(طلب العلم فريضة على كل مسلم) ... أما البيوع والنكاح وسائر المعاملات مما لا يجب أصله فيتعين على من يريد شيئاً من ذلك تعلم أحكامه ليحترز عن الشبهات والمكروهات، وكذا كل أهل الحرف، فكل من يمارس عملاً يجب عليه تعلم الأحكام المتعلقة به ليمتنع عن الحرام] الموسوعة الفقهية الكويتية 32/194-195.
فيجب على التاجر المسلم أن يتعلم أحكام البيع والشراء وما يتعلق بالربا حتى يتجنبه ونحو ذلك من الأحكام الأساسية.
وهذا الواجب ينبغي أن يكون قبل الخوض في التجارة فإن العلم قائد والعمل تابع وخاصة أن كثيراً من التجار والباعة في أسواقنا هم من العامة الذين لا يعرفون معظم أحكام البيع والشراء، وقد كان عمر - رضي الله عنه - يأمر التجار بالتفقه في أحكام البيع والشراء، فقد روى الترمذي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال:[لا يبع في سوقنا إلا من قد تفقه في الدين] قال العلامة الألباني حسن الإسناد، انظر صحيح الترمذي 1/151.
وجاء في رواية أخرى عن عمر - رضي الله عنه - قال:[لا يبع في سوقنا إلا من تفقه، وإلا أكل الربا شاء أم أبى].
وقد روي أن عمر - رضي الله عنه - كان يضرب من وجده في السوق وهو لا يعرف أحكام البيع والشراء، وقال الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله معلقاً على أثر عمر السابق:[نعم، حتى يعرف ما يأخذ وما يدع، وحتى يعرف الحلال والحرام، ولا يفسد على الناس بيعهم وشراءهم بالأباطيل والأكاذيب، وحتى لا يُدخِل الربا عليهم من أبواب قد لا يعرفها المشتري، وبالجملة: لتكون التجارة تجارة إسلامية صحيحة خالصة، يطمئن إليها المسلم وغير المسلم، لا غش فيها ولا خداع] تعليق أحمد شاكر على سنن الترمذي 2/357.
وقال عطاء من التابعين:[مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام كيف تشتري وتبيع وتصلي وتصوم وتنكح وتطلق وتحج وأشباه هذا] الآداب الشرعية 2/34.
وقال ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق:[ ... وكان التجار في القديم إذا سافروا استصحبوا معهم فقيهاً يرجعون إليه وعن أئمة خوارزم أنه لا بد للتاجر من فقيه صديق].
- - -
التجارة
في
الكتاب والسنة
التجارة في الكتاب الكريم
التجارة هي البيع والشراء وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في عدة مواضع منها:
- قوله تعالى: { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا } سورة البقرة الآية 282.
- وقوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } سورة النساء الآية 29.
قال الإمام الطبري:[ ... عن قتادة قوله: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } قال التجارة رزق من رزق الله وحلال من حلال الله لمن طلبها بصدقها وبرها وقد كنا نحدث أن التاجر الأمين الصدوق مع السبعة في ظل العرش يوم القيامة] تفسير الطبري 5/32.
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } ... كأنه يقول: لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال, ولكن المتاجر المشروعة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال ] تفسير ابن كثير2/239.
- ومنها قوله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } سورة البقرة الآية 275.
- ومنها قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } سورة المزمل الآية 20.
قال الإمام القرطبي في تفسير الآية:[سوَّى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله، والإحسان والإفضال، فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله].(/4)
- ومنها قوله تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } سورة الجمعة الآية 10.
وقد وصف الله سبحانه وتعالى البيع بأنه حلال في قوله جل جلاله: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } سورة البقرة الآية 275.
وقال الإمام البخاري:[باب صدقة الكسب والتجارة لقوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } سورة البقرة الآية 267.
وقال الإمام البخاري أيضاً:[باب الخروج في التجارة وقول الله تعالى: { فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ } سورة الجمعة الآية 10].
وقال الإمام البخاري أيضاً:[باب التجارة في البحر وقال مطر لا بأس به وما ذكره الله في القرآن إلا بحق ثم تلا: { وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } سورة النحل الآية 14].
ثم روى الإمام البخاري بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها فأنزل الله { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } في مواسم الحج.
وغير ذلك من النصوص من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
- - -
التجارة في السنة النبوية
ورد في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة في التجارة وأشير إلى طائفة منها:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها فأنزل الله { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } في مواسم الحج قرأ ابن عباس كذا) رواه البخاري.
وفي رواية أخرى قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } في مواسم الحج) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسراً قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعلّ الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه) رواه البخاري.
وعن قيس بن أبي غرزة - رضي الله عنه - قال:خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نسمى السماسرة فقال:(يا معشر التجار إن الشيطان والإثم يحضران البيع فشوبوا بيعكم بالصدقة) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء) رواه الترمذي وقال حديث حسن .
وفي رواية أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما (التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء يوم القيامة) أخرجه ابن ماجة والحاكم وقال صحيح.
قال الطيبي في شرح الحديث [ قوله:(التاجر الصدوق الأمين إلخ...) فمن تحرى الصدق والأمانة في تجارته كان في زمرة الأبرار من النبيين والصديقين ومن توخى خلافهما كان في قرن الفجار من الفسقة والعاصين] شرح الطيبي على المشكاة 7/2119.
وقال الإمام البخاري:[باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع ومن طلب حقاً فليطلبه في عفاف].
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني:[ قوله:(باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع) ... والمراد بالسماحة ترك المضاجرة ونحوها لا المكايسة في ذلك].
ثم روى الإمام البخاري بإسناده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(إن الله يحب سَمْح البيع سَمْح الشراء سَمْح القضاء) رواه الترمذي وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/34.
قال المباركفوري:[ قوله:(إن الله يحب سَمْح البيع) بفتح السين وسكون الميم أي سهلاً في البيع وجواداً يتجاوز عن بعض حقه إذا باع . قال الحافظ: السمح الجواد يقال سمح بكذا إذا جاد والمراد هنا المساهلة. (سمح الشراء سمح القضاء) أي التقاضي لشرف نفسه وحسن خلقه بما ظهر من قطع علاقة قلبه بالمال. قاله المناوي: وللنسائي من حديث عثمان رفعه:(أدخل الله الجنة رجلاً كان سهلاً مشترياً وبائعاً وقاضياً ومقتضياً) ... وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال صحيح . قال المناوي في شرح الجامع الصغير :وأقروه] تحفة الأحوذي 4/457.(/5)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة بعد العصر إلى مغيربان الشمس حفظها منّا من حفظها ونسيها منّا من نسيها فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:(أما بعد، فإن الدنيا خضرة حلوة وإن الله مستخلفكم فيها فناظرٌ كيف تعملون، ألا فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى منهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت مؤمناً، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت كافراً، ومنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت كافراً، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت مؤمناً، ألا إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم، ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فإذا وجد أحدكم شيئاً من ذلك فالأرض الأرض، ألا إنّ خير الرجال من كان بطيء الغضب سريع الرضا، وشر الرجال من كان سريع الغضب بطيء الرضا، فإذا كان الرجل بطيء الغضب بطيء الفيء وسريع الغضب وسريع الفيء فإنها بها، ألا إن خير التجار من كان حسن القضاء حسن الطلب، وشر التجار من كان سيئ القضاء سيئ الطلب، فإذا كان الرجل حسن القضاء سيئ الطلب أو كان سيئ القضاء حسن الطلب فإنها بها، ألا إن لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته، ألا وأكبر الغدر غدر أمير عامة، ألا لا يمنعن رجلاً مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) فلما كان عند مغيربان الشمس قال:(ألا إن مثل ما بقي من الدنيا فيما مضى منها مثل ما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه) رواه أحمد والترمذي وحسنه والحاكم والبيهقي.
وعن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده أنه خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال:(يا معشر التجار، فاستجابوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله وبر وصدق) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وعن قيس بن أبي غرزة - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نسمى السماسرة فقال:(يا معشر التجار إن الشيطان والإثم يحضران البيع فشوبوا بيعكم بالصدقة) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(من قال حين يدخل السوق لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له بيتاً في الجنة) رواه ابن ماجة وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/21.
وعن رافع بن خديج - رضي الله عنه - قال: قيل (يا رسول الله أي الكسب أطيب؟ قال: كسب الرجل بيده وكل بيع مبرور) رواه أحمد والحاكم.
وأخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - :(البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما للآخر اختر ).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(إن الله يقول أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانه خرجت من بينهما) رواه أبو داود والدارقطني وهو حديث حسن.
وقال الإمام البخاري [باب ما ذكر في الأسواق، وقال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - لما قدمنا المدينة قلت هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع. وقال أنس قال عبد الرحمن دلوني على السوق. وقال عمر ألهاني الصفق بالأسواق].
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني:[ قوله:(باب ما ذكر في الأسواق) قال ابن بطال: أراد بذكر الأسواق إباحة المتاجر ودخول الأسواق للأشراف والفضلاء وكأنه أشار إلى ما لم يثبت على شرطه من أنها شر البقاع وهو حديث أخرجه أحمد والبزار وصححه الحاكم من حديث جبير بن مطعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(أحب البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق) وإسناده حسن, وأخرجه ابن حبان والحاكم أيضا من حديث ابن عمر نحوه, قال ابن بطال: وهذا خرج على الغالب وإلا فرب سوق يذكر فيها الله أكثر من كثير من المساجد ... والغرض منه هنا ذكر السوق فقط وكونه كان موجوداً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -, وكان يتعاهده الفضلاء من الصحابة لتحصيل المعاش للكفاف وللتعفف عن الناس] فتح الباري 4/429.
وقال الإمام الترمذي:[ باب ما جاء في التبكير بالتجارة ] ثم روى بإسناده عن صخر الغامدي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(اللهم بارك لأمتي في بكورها) قال: وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم أول النهار وكان صخر رجلاً تاجراً وكان إذا بعث تجارة بعثهم أول النهار فأثرى وكثر ماله) ... قال الترمذي حديث حديث حسن.(/6)
وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - التجار من الحلف الكاذب فقال:(إن التجار هم الفجار. قيل: يا رسول الله! أو ليس قد أحل الله البيع؟ قال: بلى، ولكنهم يحدثون فيكذبون، ويحلفون فيأثمون] رواه أحمد وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج1 حديث رقم 366.
- - -
التجارة لا تلهي عن الواجبات عامة ولا تلهي عن الصلوات خاصة
التاجر الصادق مع الله ومع نفسه هو الذي يوازن بين أمور الدنيا وأمور الآخرة فيعطي كلاً حقه وقد أثنى الله عز وجل على الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ولا عن شيء من الواجبات فقال: { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } سورة النور الآية 37.
قال القرطبي [قوله تعالى: { لَا تُلْهِيهِمْ } أي لا تشغلهم. { تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } خص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل بها الإنسان عن الصلاة ... { عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } اختُلِفَ في تأويله؛ فقال عطاء: يعني حضور الصلاة، وقاله ابن عباس، وقال: المكتوبة. وقيل عن الأذان؛ ذكره يحيى بن سلام. وقيل: عن ذكره بأسمائه الحسنى؛ أي يوحدونه ويمجدونه. والآية نزلت في أهل الأسواق؛ قاله ابن عمر. قال سالم: جاز عبد الله بن عمر بالسوق وقد أغلقوا حوانيتهم وقاموا ليصلوا في جماعة فقال: فيهم نزلت: { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ } الآية. وقال أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:(هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله). وقيل: إن رجلين كانا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، أحدهما بياعاً فإذا سمع النداء بالصلاة فإن كان الميزان بيده طرحه ولا يضعه وضعاً، وإن كان بالأرض لم يرفعه. وكان الآخر قيناً يعمل السيوف للتجارة، فكان إذا كانت مطرقته على السندان أبقاها موضوعة، وإن كان قد رفعها ألقاها من وراء ظهره إذا سمع الأذان؛ فأنزل الله تعالى هذا ثناءً عليهما وعلى كل من اقتدى بهما... قوله تعالى { وَإِقَامِ الصَّلَاةِ } هذا يدل على أن المراد بقوله { عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } غير الصلاة؛ لأنه يكون تكراراً... قوله تعالى { وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } قيل: الزكاة المفروضة؛ قاله الحسن. وقال ابن عباس: الزكاة هنا طاعة الله تعالى والإخلاص؛ إذ ليس لكل مؤمن مال. { يَخَافُونَ يَوْمًا } يعني يوم القيامة. { تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } يعني من هوله وحذر الهلاك] تفسير القرطبي 12/279-280.
وقال ابن كثير:[وقوله تعالى: { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } الآية. وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } الآية, يقول تعالى لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم, والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم, لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق, ولهذا قال تعالى: { لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } يقدمون طاعته ومراده ومحبته على مرادهم ومحبتهم, قال هشيم عن سيار قال: حدثت عن ابن مسعود أنه رأى قوماً من أهل السوق حيث نودي للصلاة المكتوبة تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة, فقال عبد الله بن مسعود: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } الآية,... عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة, فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد فقال ابن عمر: فيهم نزلت { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه } ... وعن ابن عباس { لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه } يقول عن الصلاة المكتوبة ... وقال السدي: عن الصلاة في جماعة. وقال مقاتل بن حيان: لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة وأن يقيموها كما أمرهم الله, وأن يحافظوا على مواقيتها وما استحفظهم الله فيها] تفسير ابن كثير4/559-560.
وقد عاتب الله عز وجل الصحابة الذين تركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء خطبة الجمعة عندما جاءت قافلة تجارية وفيهم نزل قوله تعالى: { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضّوَاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ مّنَ اللّهْوِ وَمِنَ التّجَارَةِ وَاللّهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ } .(/7)
قال ابن كثير:[يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ فقال تعالى: { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضّوَاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } أي على المنبر تخطب, هكذا ذكره غير واحد من التابعين... فانصرفوا إليها وتركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً على المنبر إلا القليل منهم, وقد صحّ بذلك الخبر فقال الإمام أحمد ... عن جابر قال: قدمت عير مرة المدينة, ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلاً فنزلت { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضّوَاْ إِلَيْهَا } أخرجاه في الصحيحين ... وعن جابر بن عبد الله قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة, فقدمت عير إلى المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, حتى لم يبق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنا عشر رجلاً فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي ناراً) ونزلت هذه الآية { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضّوَاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } وقال: كان في الاثني عشر الذين ثبتوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر وعمر رضي الله عنهما] تفسير ابن كثير 6/218-219.
وروى الإمام البخاري بإسناده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:(بينما نحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبلت عير تحمل طعاماً فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنا عشر رجلاً فنزلت هذه الآية { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضّوَاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } .
وقال الإمام البخاري:[ باب { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضّوَاْ إ } وقوله جل ذكره { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه } وقال قتادة كان القوم يتجرون ولكنهم كانوا إذا نابهم حق من حقوق الله لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله حتى يؤدوه إلى الله].
وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بإجابة النداء لصلاة الجمعة وترك البيع والشراء فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } سورة الجمعة الآية 9.
فيا أخي التاجر إذا سمعت الأذان لصلاة الجمعة فأجب النداء وأغلق محلك وقت الصلاة واحذر من الانشغال عن صلاة الجمعة فالبيع والشراء الذي يؤدي إلى فوات صلاة الجمعة محرم وما تحصل عليه من كسب حينئذ فهو كسب خبيث واحذر من إضاعة بقية الصلوات لأجل كسب دراهم معدودات فإن الدنيا زائلة ومال الدنيا باقٍ فيها فاترك الدنيا الفانية واسع لذكر الله الموصل للآخرة { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون َ } .
والزم يا أخي التاجر ذكر الله عز وجل عندما تدخل السوق أو محلك التجاري فقد جاء في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(من قال حين يدخل السوق لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له بيتاً في الجنة) رواه الترمذي وابن ماجة وغيرهما وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/21.
قال المباركفوري:[ قوله (من دخل السوق) قال الطيبي: خصه بالذكر لأنه مكان الغفلة عن ذكر الله والاشتغال بالتجارة فهو موضع سلطنة الشيطان ومجمع جنوده، فالذاكر هناك يحارب الشيطان ويهزم جنوده فهو خليق بما ذكر من الثواب انتهى. (فقال) أي سراً أو جهراً ... قال الطيبي: فمن ذكر الله فيه دخل في زمرة من قال تعالى في حقهم { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه } تحفة الأحوذي 9/272-273.
قال الإمام الغزالي تحت عنوان شفقة التاجر على دينه فيما يخصه ويعم آخرته:[ولا ينبغي للتاجر أن يشغله معاشه عن معاده فيكون عمره ضائعاً وصفقته خاسرة وما يفوته من الربح في الآخرة لا يفي به ما ينال في الدنيا فيكون اشترى الحياة الدنيا بالآخرة بل العاقل ينبغي أن يشفق على نفسه وشفقته على نفسه يحفظ رأس ماله ورأس ماله دينه وتجارته فيه.(/8)
قال بعض السلف أولى الأشياء بالعاقل أحوجه إليه في العاجل وأحوج شيء إليه في العاجل أحمده عاقبة في الآجل .وقال معاذ بن جبل - رضي الله عنه - في وصيته: إنه لا بد لك من نصيبك في الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج فابدأ بنصيبك من الآخرة فخذه فإنك ستمر على نصيبك من الدنيا فتنظمه قال الله تعالى: { وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا } أي لا تنس في الدنيا نصيبك منها للآخرة فإنها مزرعة الآخرة وفيها تكتسب الحسنات وإنما تتم شفقة التاجر على دينه بمراعاة سبعة أمور ثم ذكر منها: الثالث أن لا يمنعه سوق الدنيا عن سوق الآخرة وأسواق الآخرة المساجد، قال الله تعالى: { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } وقال الله تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } فينبغي أن يجعل أول النهار إلى وقت دخول السوق لآخرته فيلازم المسجد ويواظب على الأوراد كان عمر - رضي الله عنه - يقول للتجار: اجعلوا أول نهاركم لآخرتكم وما بعده لدنياكم. وكان صالحو السلف يجعلون أول النهار وآخره للآخرة والوسط للتجارة] إحياء علوم الدين 2/86.
ثم قال الإمام الغزالي:[الرابع أن لا يقتصر على هذا بل يلازم ذكر الله سبحانه في السوق ويشتغل بالتهليل والتسبيح فذكر الله في السوق بين الغافلين أفضل ... قال - صلى الله عليه وسلم -:(من دخل السوق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة) وكان ابن عمر وسالم بن عبد الله ومحمد بن واسع وغيرهم يدخلون السوق قاصدين لنيل فضيلة هذا الذكر] إحياء علوم الدين 2/86.
واحذر أخي التاجر أن تكون من المتكالبين على الدنيا الحريصين عليها فلا تكونن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإن ذلك شر عظيم فقد روى الإمام مسلم بإسناده عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال:(لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته).
قال الإمام النووي:[ قوله في السوق (إنها معركة الشيطان)... فشبه السوق وفعل الشيطان بأهلها ونيله منهم بالمعركة; لكثرة ما يقع فيها من أنواع الباطل كالغش والخداع, والأيمان الخائنة, والعقود الفاسدة, والنجش, والبيع على بيع أخيه, والشراء على شرائه, والسوم على سومه, وبخس المكيال والميزان. قوله (وبها ينصب رايته) إشارة إلى ثبوته هناك, واجتماع أعوانه إليه للتحريش بين الناس, وحملهم على هذه المفاسد المذكورة, ونحوها, فهي موضعه وموضع أعوانه] شرح النووي على صحيح مسلم 6/8-9.
- - -
التجار من الصحابة
من المعلوم أنه كانت للعرب أسواق في الجاهلية يتاجرون فيها وهي أسواق مشهورة في شعر العرب وأدبهم وقد ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما فقال: كانت عكاظ ومَجنَّه وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فلما كان الإسلام فكأنهم تأثموا فيه، فنزل قول الله تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } رواه البخاري.
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو في مكة يرتاد الأسواق ويتاجر كسباً للرزق وطلباً للمعاش بل كان له شريك في التجارة يقال له السائب وقد عاب المشركون على النبي - صلى الله عليه وسلم - تردده على الأسواق حيث ذكر الله جل جلاله ذلك عنهم { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ } سورة الفرقان الآية 7.(/9)
قال الإمام القرطبي:[ قوله تعالى { وَقَالُوا } ذكر شيئاً آخر من مطاعنهم. والضمير في { وَقَالُوا } لقريش؛ وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلس مشهور، ذكره ابن إسحاق في السيرة وغيره. مضمنه - أن سادتهم عتبة بن ربيعة وغيره اجتمعوا معه فقالوا: يا محمد! إن كنت تحب الرئاسة وليَّناك علينا، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا؛ فلما أبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك رجعوا في باب الاحتجاج معه فقالوا: ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام، وتقف بالأسواق! فعيروه بأكل الطعام؛ لأنهم أرادوا أن يكون الرسول مَلَكاً، وعيروه بالمشي في الأسواق حين رأوا الأكاسرة والقياصرة والملوك الجبابرة يترفعون عن الأسواق، وكان عليه السلام يخالطهم في أسواقهم، ويأمرهم وينهاهم؛ فقالوا: هذا يطلب أن يتملك علينا، فماله يخالف سيرة الملوك؛ فأجابهم الله بقوله، وأنزل على نبيه: { وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ } فلا تغتم ولا تحزن، فإنها شكاة ظاهر عنك عارها ... دخول الأسواق مباح للتجارة وطلب المعاش. وكان عليه السلام يدخلها لحاجته، ولتذكرة الخلق بأمر الله ودعوته، ويعرض نفسه فيها على القبائل، لعل الله أن يرجع بهم إلى الحق. وفي البخاري في صفته عليه السلام: ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق... وذكر السوق مذكور في غير ما حديث، ذكره أهل الصحيح. وتجارة الصحابة فيها معروفة، وخاصة المهاجرين؛ كما قال أبو هريرة: وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق؛ خرجه البخاري] تفسير القرطبي 13/4- 5.
وقال تعالى: { وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } سورة الفرقان الآية 20.
قال الإمام القرطبي:[ قوله تعالى: { وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ } نزلت جواباً للمشركين حيث قالوا : { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ } سورة الفرقان الآية 7. وقال ابن عباس: لمّا عيّر المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفاقة وقالوا: { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ } الآية، حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك فنزلت تعزية له؛ فقال جبريل عليه السلام: السلام عليك يا رسول الله! الله ربك يقرئك السلام ويقول لك: { وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ } أي يبتغون المعايش في الدنيا ... هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك ... وقال: { وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ } قال العلماء: أي يتجرون ويحترفون ...وكان الصحابة رضي الله عنهم يتجرون ويحترفون وفي أموالهم يعملون] تفسير القرطبي 13/12- 14.
وعن مجاهد عن السائب بن أبي السائب أنه كان يشارك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الإسلام في التجارة فلما كان يوم الفتح جاءه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(مرحباً بأخي وشريكي، كان لا يداري ولا يماري، يا سائب قد كنت تعمل أعمالاً في الجاهلية لا تقبل منك وهي اليوم تقبل منك وكان ذا سلف وصلة) رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح كما قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد.
وذكر ابن هشام تحت عنوان [خروجه - صلى الله عليه وسلم - إلى الشام في تجارة خديجة وما كان من بحيرى].
قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال. تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم وكانت قريش قوماً تجاراً; فلما بلغها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بلغها، من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له ميسرة فقبله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، وخرج في مالها ذلك وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام ثم باع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري ثم أقبل قافلاً إلى مكة ومعه ميسرة] سيرة ابن هشام 1/ 187-188.
هذا وقد اقتدى الصحابة رضوان الله عليهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فكانوا يرتادون الأسواق ويتجرّون فيها بأموالهم، ولا يرون في ذلك بأساً.(/10)
وقد ذكر أهل الحديث والتاريخ والسير عدداً من الصحابة الذين اشتغلوا في التجارة منهم أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر وزيد بن أرقم والبراء بن عازب والزبير بن العوام رضوان الله عليهم فقد ذكر ابن سعد في الطبقات في ترجمة أبي بكر - رضي الله عنه - أنه كان رجلاً تاجراً فكان يغدو إلى السوق فيبيع ويبتاع] الطبقات 3/186. وذكر أيضاً أن عثمان - رضي الله عنه - كان رجلاً تاجراً في الجاهلية والإسلام. الطبقات 3/60. وذكر نحوه محمد بن الحسن في كتاب الكسب ص 89.
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لقد خرج أبو بكر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تاجراً إلى بصرى، لم يمنع أبا بكر الضن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - شحه على نصيبه من الشخوص للتجارة، وذلك كان لإعجابهم كسبَ التجارة، وحبهم للتجارة، ولم يمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر من الشخوص في تجارته لحبه صحبته وضنه بأبي بكر ، - فقد كان بصحبته معجباً - لاستحسان (وفي رواية: لاستحباب) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للتجارة وإعجابه بها) رواه الطبراني في الكبير وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 6/1036.
وروي في الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: خرج أبو بكر - رضي الله عنه - في تجارة إلى بصرى قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعام ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة وكانا شهدا بدراً وكان نعيمان على الزاد وكان سويبط رجلاً مزَّاحاً، فقال لنعيمان: أطعمني، قال: حتى يجيء أبو بكر، قال: فلأغيظنك، قال: فمروا بقوم فقال لهم سويبط: تشترون مني عبداً لي؟ قالوا: نعم، قال: إنه عبد له كلام وهو قائل لكم إني حر فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه فلا تفسدوا عليَّ عبدي، قالوا: لا بل نشتريه منك، فاشتروه منه بعشر قلائص، ثم أتوه فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلا فقال: نعيمان إن هذا يستهزئ بكم وإني حر لست بعبد، فقالوا: قد أخبرنا خبرك فانطلقوا به فجاء أبو بكر فأخبروه بذلك قال: فاتبع القوم ورد عليهم القلائص وأخذ نعيمان، قال: فلما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبروه، قال: فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه منه حولاً) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني في الكبير.
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يتاجر أيضاً حتى شغله الصفق في الأسواق عن المواظبة على مجالس العلم عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى الإمام البخاري بإسناده (أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلم يؤذن له وكأنه كان مشغولاً فرجع أبو موسى ففرغ عمر فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ائذنوا له، قيل: قد رجع، فدعاه فقال: كنا نؤمر بذلك، فقال: تأتيني على ذلك بالبينة، فانطلق إلى مجلس الأنصار فسألهم فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا أبو سعيد الخدري فذهب بأبي سعيد الخدري، فقال: عمر أخفي هذا عليَّ من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألهاني الصفق بالأسواق يعني الخروج إلى تجارة).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني:[... وأطلق عمر على الاشتغال بالتجارة لهواً لأنها ألهته عن طول ملازمته النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى سمع غيره منه ما لم يسمعه, ولم يقصد عمر ترك أصل الملازمة وهي أمر نسبي, وكان احتياج عمر إلى الخروج للسوق من أجل الكسب لعياله والتعفف عن الناس] فتح الباري 4/378.
وكان عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - من أهم التجار في المدينة وكان ذا ثراء عظيم مع أنه بدأ تجارته بعد الهجرة ولما مات - رضي الله عنه - ترك ثروة كبيرة حتى إن امرأته صولحت بثمنها بثمانين ألفا. أخرجه ابن أبي الدنيا في إصلاح المال ص51.
وقال الإمام البخاري:[باب ما ذكر في الأسواق، وقال عبد الرحمن بن عوف لما قدمنا المدينة قلت هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع. وقال أنس قال: عبد الرحمن دلوني على السوق، وقال عمر: ألهاني الصفق بالأسواق).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني:[قوله:(باب ما ذكر في الأسواق) قال ابن بطال: أراد بذكر الأسواق إباحة المتاجر ودخول الأسواق للأشراف والفضلاء ... قوله:(وقال عبد الرحمن بن عوف إلخ ) تقدم موصولاً في أوائل البيوع, والغرض منه هنا ذكر السوق فقط وكونه كان موجوداً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -, وكان يتعاهده الفضلاء من الصحابة لتحصيل المعاش للكفاف وللتعفف عن الناس] فتح الباري 4/429.(/11)
وروى الإمام البخاري بإسناده أن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال:(لما قدمنا المدينة آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيني وبين سعد بن الربيع فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم لك نصف مالي وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها فإذا حلت تزوجتها، قال فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع قال فغدا إليه عبد الرحمن فأتى بأقط وسمن قال ثم تابع الغدو فما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تزوجت؟ قال: نعم، قال: ومن قال امرأة من الأنصار، قال: كم سقت؟ قال: زنة نواة من ذهب أو نواة من ذهب، فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم -: أولم ولو بشاة).
وجاء في رواية عند الإمام أحمد في المسند (أن عبد الرحمن بن عوف قدم المدينة فآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري فقال له سعد: أي أخي أنا أكثر أهل المدينة مالاً فانظر شطر مالي فخذه وتحتي امرأتان فانظر أيهما أعجب إليك حتى أطلقها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فدلوه على السوق، فذهب فاشترى وباع وربح فجاء بشيء من أقط وسمن ثم لبث ما شاء الله أن يلبث فجاء وعليه ردع زعفران، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مهيم – أي ما أمرك وما شأنك - فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة، فقال: ما أصدقتها؟ قال: وزن نواة من ذهب، قال: أولم ولو بشاة. قال عبد الرحمن فلقد رأيتني ولو رفعت حجراً لرجوت أن أصيب ذهباً أو فضةً).
وعن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال:(كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير فآخذ مكانها الورق وأبيع بالورق فآخذ مكانها الدنانير فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدته خارجاً من بيت حفصة فسألته عن ذلك فقال: لا بأس به بالقيمة) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.
وكان زيد بن أرقم والبراء بن عازب والزبير بن العوام وعثمان بن عفان رضوان الله عليهم من التجار. روى الإمام البخاري بإسناده عن أبي المنهال قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف فقالا: كنا تاجرين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصرف فقال: إن كان يداً بيد فلا بأس وإن كان نساءً – أي مؤجلاً - فلا يصلح).
وهكذا كان عدد كبير من الصحابة مهاجرين وأنصار يشتغلون في التجارة. روى الإمام البخاري بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثاً ثم يتلو { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى... إلى قوله الرَّحِيمُ } إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون).
وقال سعيد بن المسيب:(كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتجرون في بحر الروم، منهم طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل) إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص 76.
وقال أيوب:(كان أبو قلابة يأمرني بلزوم السوق والصنعة، ويقول: إن الغنى من العافية) إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص76.
وعن الهيثم بن جميل قال: قلت لابن المبارك: أتّجر في البحر؟ قال: اتّجر في البر والبحر، واستغن عن الناس) إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص77.
ولقي رجل الحسن بن يحيى بأرض الحبشة، معه تجارة، فقال له:(ما الذي بلغ بك هاهنا؟ فأخبره، فعذله الرجل. فقال: أكل هذا طلب للدنيا، وحرص عليها؟ فقال له الحسن: يا هذا إن الذي حملني على هذا، كراهة الحاجة إلى مثلك) إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص78.
وقد ضرب التجار من الصحابة أروع الأمثلة في البذل والعطاء والإنفاق في سبيل الله تعالى فهذا أبو بكر - رضي الله عنه - خير مثال للمنفق في سبيل الله. فعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول:(أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق فوافق ذلك عندي مالاً فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، قال: فجئت بنصف مالي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أبقيت لأهلك قلت مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ قال أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: والله لا أسبقه إلى شيء أبداً ) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح .
وروى الإمام أحمد والترمذي عن عبد الرحمن بن سمرة، قال:(جاء عثمان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بألف دينار حين جهز جيش العسرة فينثرها في حجره قال عبد الرحمن فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقلبها في حجره ويقول ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين) قال الترمذي حديث حسن غريب.(/12)
وعن عبد الرحمن بن خباب قال: شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يحث على جيش العسرة فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله عليَّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله عليَّ ثلاث مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فأنا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل عن المنبر وهو يقول ما على عثمان ما عمل بعد هذه ما على عثمان ما عمل بعد هذه) رواه الترمذي.
وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: لما حصر عثمان أشرف عليهم فوق داره ثم قال: أذكركم بالله هل تعلمون أن حراء حين انتفض قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أثبت حراء فليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد، قالوا: نعم، قال: أذكركم بالله، هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في جيش العسرة: من ينفق نفقة متقبلة والناس مجهدون معسرون فجهزت ذلك الجيش قالوا: نعم، ثم قال أذكركم بالله، هل تعلمون أن بئر رومة لم يكن يشرب منها أحد إلا بثمن فابتعتها فجعلتها للغني والفقير وابن السبيل قالوا اللهم نعم وأشياء عددها ) رواه الترمذي ثم قال حديث حسن صحيح غريب وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/208.
وذكر أهل التاريخ أنه في عهد الخليفة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أصاب الناس جفاف وجوع شديدان، فلمّا ضاق بهم الأمر ذهبوا إلى الخليفة أبي بكر - رضي الله عنه - وقالوا:يا خليفة رسول الله، إنّ السّماء لم تمطر، والأرض لم تنبت، وقد أدرك الناس الهلاك فماذا نفعل؟ قال أبو بكر - رضي الله عنه -: انصرفوا، واصبروا، فإني أرجو ألاّ يأتي المساء حتّى يفرج الله عنكم. وفي آخر النهار جاء الخبر بأنّ قافلة جمالٍ لعثمان بن عفّان - رضي الله عنه - قد أتت من الشّام إلى المدينة. فلمّا وصلت خرج النّاس يستقبلونها، فإذا هي ألف جمل محملة سمناً وزيتاً ودقيقاً، وتوقّفت عند باب عثمان - رضي الله عنه - فلمّا أنزلت أحمالها في داره جاء التجار. قال لهم عثمان - رضي الله عنه - ماذا تريدون؟ أجاب التجار: إنّك تعلم ما نريد، بعنا من هذا الذي وصل إليك فإنّك تعرف حاجة النّاس إليه. قال عثمان: كم أربح على الثّمن الذي اشتريت به؟ قالوا:الدّرهم درهمين. قال:أعطاني غيركم زيادة على هذا. قالوا:أربعة! قال عثمان - رضي الله عنه -: أعطاني غيركم أكثر. قال التّجار:نربحك خمسة. قال عثمان:أعطاني غيركم أكثر. فقالوا:ليس في المدينة تجار غيرنا، ولم يسبقنا أحد إليك، فمن الذي أعطاك أكثر مما أعطينا؟! قال عثمان - رضي الله عنه -:إن الله قد أعطاني بكل درهم عشرة، الحسنة بعشرة أمثالها، فهل عندكم زيادة؟ قالوا:لا. قال عثمان:فإني أشهد الله أني جعلت ما جاءت به هذه الجمال صدقة للمساكين وفقراء المسلمين. ثم أخذ عثمان بن عفان يوزّع بضاعته، فما بقي من فقراء المدينة واحد إلاّ أخذ ما يكفيه ويكفي أهله.
قال الإمام البخاري:[باب مناقب عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(من يحفر بئر رومة فله الجنة فحفرها عثمان وقال من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزه عثمان).
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: بينما عائشة في بيتها إذ سمعت صوتاً في المدينة فقالت: ما هذا؟ قالوا: عير لعبد الرحمن بن عوف قدمت من الشام تحمل من كل شيء، قال: فكانت سبع مائة بعير، قال: فارتجت المدينة من الصوت، فقالت عائشة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قد رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبواً فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف، فقال: إن استطعت لأدخلنها قائماً فجعلها بأقتابها وأحمالها في سبيل الله عز وجل) رواه أحمد.
- - -
فقه التجارة
البيع وشروطه
البيع هو مبادلة المال بالمال تملكاً وتمليكاً كما قال الشيخ ابن قدامة المقدسي في المغني 3/480. ولفظ البيع من أسماء الأضداد التي تطلق على الشيء وضده مثل لفظة الشراء فيطلق البيع ويراد به الشراء ويطلق الشراء ويراد به البيع، قال الله تعالى: { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } أي باعوه. سورة يوسف الآية 20.
والبيع مباح ومشروع بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وانعقد الإجماع على ذلك. وقامت الأدلة الكثيرة على ذلك منها:
- قول الله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } سورة البقرة الآية 275.
- وقوله تعالى: { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } سورة البقرة الآية 282.
- وقوله تعالى: { يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ... } سورة النساء الآية 29.
وصحّ في الحديث من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:(البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) رواه البخاري ومسلم.(/13)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(لا يبتاع المرء على بيع أخيه ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لبادٍ) رواه البخاري. وغير ذلك من النصوص، وقد انعقد الإجماع على جواز البيع.
شروط البيع:
ذكر الفقهاء شروطاً كثيرة لعقد البيع وأذكر هنا أهم هذه الشروط بإيجاز شديد:
- يشترط في العاقدين أن يكونا مكلفين شرعاً وجائزي التصرف شرعاً وأجاز كثير من الفقهاء بيع الصبي المميز.
- ويشترط توافق الإيجاب والقبول في البيع. ويصح البيع بكل لفظ يدل على التراضي حسب ما يتعارف عليه الناس سواء كان بلفظ الماضي أو الحاضر أو الأمر ويصح البيع بالتعاطي أيضاً بدون النطق بالإيجاب والقبول وقد جرى العرف بذلك
- ويشترط في المبيع أن يكون مملوكاً لصاحبه وأن يكون موجوداً حقيقة أو حكماً عند العقد وأن يكون مالاً متقوماً شرعاً أي له قيمة في الشرع ويباح الانتفاع به وأن يكون مقدور التسليم وأن يكون معلوماً.
- ويشترط لصحة البيع أن يخلو العقد من الجهالة والإكراه والغرر وأن يخلو من الشروط المفسدة للعقد.
- ويصح البيع بثمن حالّ أو مؤجل إلى أجل معلوم لقوله تعالى: { يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّىً فَاكْتُبُوهُ } سورة البقرة الآية 282. ومن أراد تفصيل الكلام على هذه الشروط وغيرها فليرجع إلى كتب الفقهاء.
وينبغي أن يُعْلم أن الشروط السابقة تختلف عن الشروط التي يشترطها أحد المتعاقدين وتسمى بالشروط الجعلية أي التي تكون بجعل من المكلف مثل أن يشتري شخص بضاعة من تاجر ويشترط عليه نقلها إلى محل المشتري في قريته أو يشترط عليه كفالة الآلات لمدة سنة واحدة ونحو ذلك من الشروط. فهذه الشروط جائزة شرعاً إذ الأصل في الشروط في المعاملات الحل والإباحة إلا ما نصت الأدلة على تحريم اشتراطه.
ويدل على جواز الشروط الجعلية ما يلي:
قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } سورة المائدة الآية 1. وقوله تعالى: { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } سورة الإسراء الآية 34. فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود والعهود وهذا عام ويدخل فيه ما عقده المرء على نفسه من الشروط ورضي به والتزمه.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (أنه كان يسير على جملٍ له قد أعيا فمرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فضربه فدعا له فسار بسير ليس يسير مثله ثم قال: بعنيه بوقية، قلت: لا، ثم قال: بعنيه بوقية، فبعته فاستثنيت حملانه إلى أهلي فلما قدمنا أتيته بالجمل ونقدني ثمنه ثم انصرفت فأرسل على إثري قال: ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك...) وقال محمد بن المنكدر عن جابر شرط ظهره إلى المدينة) رواه البخاري .
وفي رواية عند أبي داود عن جابر بن عبد الله قال:(بعته يعني بعيره من النبي - صلى الله عليه وسلم - واشترطت حملانه إلى أهلي ...).
ووجه الدلالة في الحديث أن جابراً - رضي الله عنه - شرط أن يركب الجمل إلى المدينة النبوية مع أنه باعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ابتدأ ذلك الشرط من عند نفسه من غير أن يسأل هل هذا الشرط مما تقره الشريعة أم لا؟ وقد أقره الرسول- صلى الله عليه وسلم - على ذلك الشرط فهذا الإقرار من النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على أن الأصل في الشروط الجعلية الجواز.
ومما يدل على أن الأصل في الشروط الحل ما جاء في الحديث عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) رواه الترمذي ثم قال: حديث حسن صحيح.
وقد أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشترط أحد المتبايعين شرطاً له فيه مصلحة كما ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(من باع نخلاً قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترط المبتاع) رواه البخاري ومسلم .
وخلاصة الأمر أن هذه الأدلة تدل على حرية المتعاقدين في وضع الشروط التي تحقق مصلحتهما وأنه لا يحرم من الشروط إلا ما قام الدليل الشرعي على تحريمه.
- - -
وبعد هذا البيان الموجز للبيع وشروطه سأتحدث عن مسائل هامة في البيع والشراء وما يتعلق بهما وهي مسائل يقع التعامل بها في عالم التجارة في الوقت الحاضر.
الكسب الحلال
من الواجبات على المسلم أن لا يأكل إلا الحلال بل إن الله قدم الأكل من الطيبات على العمل الصالح فقال: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .(/14)
وقد ذكر الإمام الغزالي:[أنه كان بين أحمد بن حنبل ويحيى بن معين صحبة طويلة فهجره أحمد إذ سمعه يقول: إني لا أسأل أحداً شيئاً ولو أعطاني الشيطان شيئاً لأكلته حتى اعتذر يحيى، وقال: كنت أمزح فقال تمزح بالدين أما علمت أن الأكل من الطيبات قدمه الله تعالى على العمل الصالح فقال: { كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } ] إحياء علوم الدين 2/92.
وفي هذا الزمان تحقق ما أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق حيث أخبر أن من الناس من لا يفرق في كسبه بين حلال وحرام فلا يهمه من أين اكتسب المال وكل ما يهمه أن يكون المال بين يديه ينفقه كيفما شاء. فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام) رواه البخاري.
وقد ينسى بعض الناس أنه سيحاسب على ماله وأنه سيسأل عن هذا المال من أين اكتسبه وفيما أنفقه ؟
فقد ورد في الحديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني. فلتحرص أخي التاجر على الكسب الحلال وإن قلَّ .
وقد وردت نصوص كثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحث على الأكل من الطيبات منها:
قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } سورة البقرة آية 172.
وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } سورة البقرة الآية 188 .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } . وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له) رواه مسلم.
وعن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) رواه البخاري ومسلم.
كما وردت النصوص الكثيرة التي تحذر من الأكل من الحرام وتبين أن الجسد الذي ينمو من حرام فالنار أولى به فعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت وكل لحم نبت من سحت كانت النار أولى به) رواه أحمد والدارمي والبيهقي في شعب الإيمان .
وفي رواية أخرى:(كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به) رواه أحمد والطبراني والحاكم وغيرهم وقال العلامة الألباني صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 2/831.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال:(تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال الفم والفرج) رواه الترمذي وقال حديث صحيح غريب وحسنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/318.
وجاء في الحديث عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال:(استحيوا من الله حق الحياء. قلنا: يا نبي الله إنا لنستحي والحمد الله. قال: ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء هو أن تحفظ الرأس وما وعى وتحفظ البطن وما حوى وتتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا - يعني من الله - حق الحياء) رواه الترمذي وحسّنه العلامة الألباني. صحيح سنن الترمذي 2/299.
وعن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون بعدي فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد عليَّ الحوض ومن غشي أبوابهم أو لم يغش ولم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه ويرد عليَّ الحوض .يا كعب بن عجرة: الصلاة برهان والصوم جنة حصينة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار. يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به) رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وصححه العلامة الألباني. صحيح سنن الترمذي 1/189 .(/15)
وعن أبي بكر - رضي الله عنه - أن - صلى الله عليه وسلم - قال:(لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام) رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/320.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج وكان أبو بكر يأكل من خراجه فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك فهذا الذي أكلت منه. فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه) رواه البخاري.
ورُوي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - شرب لبناً فأعجبه، فقال للذي سقاه من أين لك هذا؟ فقال مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء.
- - -
ضوابط الكسب
إن المسلم ينطلق في حياته من عقيدته الإسلامية وأنه عبد لله سبحانه وتعالى ملتزم بشرعه فالإسلام لا يعطي الفرد الحرية المطلقة في أن يفعل ما يشاء وكيفما يشاء كما هو الحال في النظام الرأسمالي.
إن الحرية المطلقة رذيلة ممقوتة حيث إنها تؤدي بالإنسان إلى الشرود والجموح والانفلات من جميع القيم والمبادئ، يقول د. يوسف القرضاوي:[إن الحرية التي شرعها الإسلام في مجال الاقتصاد ليست حرية مطلقة من كل قيد كالحرية التي توهمها قوم شعيب { أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } سورة هود الآية 87. بل هي حرية منضبطة مقيدة بالعدل الذي فرضه الله تعالى. ذلك أن في الطبيعة الإنسانية نوعاً من التناقض خلقها الله عليه لحكمة اقتضاها عمران الأرض واستمرار الحياة.
فمن طبيعة الإنسان الشغف بجمع المال وحبه حباً قد يخرجه عن حد الاعتدال كما قال تعالى في وصف الإنسان: { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } سورة العاديات الآية 8. وكما صوّر الرسول - صلى الله عليه وسلم - مدى طمع الإنسان بقوله:(لو كان لابن آدم واديان من تراب لابتغى إليهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) متفق عليه.
ومن طبيعة الإنسان الشح والحرص كما قال تعالى: { وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ } سورة النساء الآية 128، { وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا } سورة الإسراء الآية 100. وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(يشيب ابن آدم وتشب معه خصلتان: الحرص، وطول الأمل) رواه البخاري. ومن طبيعته حب الخلود إن لم يكن بنفسه فبذريته من بعده وحب الاستعلاء والسيطرة على الآخرين وهاتان الغريزتان كانتا الأحبولة التي أوقع إبليس بها آدم أبا البشر في شرك المخالفة بالأكل من الشجرة: { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى } سورة طه الآية 120] دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي ص 371 - 372.
إذا تقرر هذا فإن الإسلام حث على العمل والسعي في الأرض للكسب، قال تعالى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } سورة الملك الآية 15.
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا } سورة البقرة الآية 168.
وقد وضع العلماء أصولاً وضوابط لما يحل ويحرم في باب المعاملات فمن هذه الضوابط والأصول:
- تحريم الربا فهو محرم بنص كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } سورة البقرة الآيتان 275- 276 .
وقال - صلى الله عليه وسلم -:(لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
ويترتب على تحريم الربا تحريم العمل في البنوك الربوية مهما كان العمل لأن العمل فيها إما إعانة على الربا أو رضاً بهذا العمل المحرم وكلاهما ممنوع شرعاً يقول الله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } سورة المائدة الآية 2.
ويدخل في ذلك تأجير المحلات والمباني للبنوك الربوية فهو حرام لما سبق من أنه تعاون على الإثم والعدوان.(/16)
- ومن هذه الضوابط تحريم كل معاملة فيها غش وخداع وقد ثبت في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(من غشنا فليس منا) رواه مسلم. فهذا الحديث عام يشمل المعاملات كلها والعمل كذلك.
وصور الغش والخداع في زماننا كثيرةٌ جداً وخاصة في التجارة والأعمال المختلفة فمن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
1. بيع المواد الفاسدة و المنتهية الصلاحية.
2. التلاعب في الأوزان كأن يكتب على العبوة وزن معين ثم لا يكون وزنها في الحقيقة كذلك.
3. تسويق بضاعة رديئة على أنها بضاعة جيدة وذلك بوضع العلامة التجارية للبضاعة الجيدة على الرديئة.
4. بيع المواد الضارة بالصحة والتي تسبب الأمراض المستعصية.
5. وصف مكونات المواد المصنعة بأوصاف غير حقيقية.
6. الغش في تنفيذ المقاولات وأعمال البناء مثل تقليل الحديد والإسمنت في البنايات مما قد يتسبب في انهيار المبنى ومقتل سكانه أو إصابتهم بأذى.
- ومن الضوابط التي تحكم عالم التجارة والعمل تحريم الاتجار والعمل بالمحرمات سواء كان ذلك بانتهاك محرم أو ترك واجب. يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } سورة المنافقون الآية 9.
ومن صور الاتجار في المحرمات وكذا العمل فيها:
التجارة في الخمر بمختلف أسمائها وكذا العمل في صناعتها والعمل في قطف العنب لتصنيعها وبيع العنب لمن يعصره خمراً .
وقد صح في الحديث من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(إن الله تعالى حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في الحديث:(أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمول إليه وآكل ثمنها) رواه أبو داود والحاكم وصححه الشيخ العلامة الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/907.
ويلحق بتحريم الاتجار بالخمر الاتجار بالمخدرات والسموم القاتلة كالهيروين والأفيون والحشيش.
- ومن الصور المحرمة المتاجرة في الأفلام الساقطة الخليعة والصحف والمجلات التي تنشر الفحشاء والمنكر وكذا العمل في طباعتها وطباعة أي مادة تحارب الله ورسوله ودينه.
- ومن صور العمل المحرمة الأعمال التي يجبر فيها الإنسان على ترك الفرائض كمن يعمل في مصنع ويمنع من أداء الصلاة المفروضة في وقتها فهذا عمل محرم.
- وكذا العمل الذي تكون فيه خلوة محرمة شرعاً كعمل السكرتيرة في مكتب المدير أو المحامي أو الطبيب إذا وجدت الخلوة المحرمة.
- وكذا العمل الذي يقتضي أن تتخلى المرأة المسلمة عن لباسها الشرعي المفروض.
- وكذا العمل الذي تنتهك فيه المحرمات كعمل الراقصات والمغنيات والممثلات ومن يشاركهن في ذلك من الرجال والنساء كالمصورين والمخرجين وغيرهم فهذا العبث الذي يسميه الناس في زماننا فناً والمتضمن انتهاك المحرمات كالعري والتقبيل والمعاشرة الجنسية وإن لم تكن تامة كل ذلك من المحرمات ويمنع ترويج وبيع هذه الأفلام والأشرطة أو تأجيرها أو الإعلان عنها وغير ذلك.
- ومن الأعمال المحرمة الحفلات الغنائية المختلطة وما يصاحبها من رقص ماجن وعري وتهتك.
- ومن الأعمال المحرمة الاشتغال بعمل أو وظيفة من شأنها الإعانة على ظلم أو حرام فهي حرام كمن يشتغل في عمل ربوي أو محل للخمر أو في مرقص أو ملهى أو نحو ذلك. الحلال والحرام ص 141.
- وكذلك العمل في وظيفة تلحق الضرر والأذى بالمسلمين سواء كان الضرر أو الأذى مادياً أو معنوياً.
- ومن الأعمال المحرمة المتاجرة بالمواد المسروقة والمغصوبة وهي التي أخذت من أصحابها بغير رضا كالمواد التي تصادر من الناس ظلماً وعدواناً.
- ومن الضوابط في هذا المجال تحريم المعاملات التي فيها غرر وخطر كالقمار الذي هو الميسر، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } سورة المائدة الآيتان 90-91.
- ومن ذلك ما يعرف باللوتو والتوتو وكذلك اليانصيب المسمى زوراً وبهتاناً باليانصيب الخيري فكل ذلك حرام.
وأخيراً لا يظنن أحد أن فيما تقدم من المحرمات تضييق لموارد الرزق على الناس بل إن طرق الكسب الحلال مفتوحة وهي أكثر من أن تعد وتحصى.
- - -
توثيق المعاملات بالكتابة
... كتابة العقود وتوثيقها بمختلف أنواعها أمر مطلوب شرعاً وخاصة في هذا الزمان حيث خربت ذمم كثير من الناس وقلَّ دينهم وورعهم وزاد طمعهم وجشعهم.(/17)
وإن الاعتماد على عامل الثقة بين الناس ليس مضموناً لأن قلوب الناس متقلبة وأحوالهم متغيرة وقد يكون المتعاقدان متحابين وصديقين حميمين وقت العقد ووقت الإقراض ثم يقع بينهما من العداوة والبغضاء ما الله به عليم فتضيع الحقوق. أو تنكر أو تنقض لذا كان من الأمور المندوبة شرعاً توثيق الدَّين وغيره من العقود والاتفاقيات.
ومما يدل على مشروعية ذلك آية الدَّين وهي أطول آية في القرآن الكريم حيث يقول الله سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } سورة البقرة الآيتان 282-283. ففي هاتين الآيتين دلالة واضحة على مشروعية كتابة الدَّين وتوثيقه.
قال الإمام ابن العربي المالكي:[قوله تعالى: { فَاكْتُبُوهُ } يريد أن يكون صكاً ليستذكر به عند أجله لما يتوقع من الغفلة في المدة التي بين المعاملة وبين حلول الأجل والنسيان موكل بالإنسان، والشيطان ربما حمل على الإنكار والعوارض من موت وغيره تطرأ فشُرِع الكتاب والإشهاد] أحكام القرآن 1/247.
ومما يرشد إلى مشروعية كتابة العقود وتوثيقها ما جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال:(ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه) رواه البخاري ومسلم.
وقد روى الترمذي بإسناده عن عبد المجيد بن وهب قال:(قال لي العداء بن خالد بن هوذة: ألا أقرئك كتاباً كتبه لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: قلت بلى، فأخرج لي كتاباً: هذا ما اشترى العداء ابن خالد بن هوذة من محمد - صلى الله عليه وسلم - اشترى منه عبداً أو أمة لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم المسلم) رواه الترمذي وحسّنه وقال العلامة الألباني: حسن. صحيح سنن الترمذي 2/5.
وبناءً على هذه الأدلة قال جمهور أهل العلم إن كتابة الدَّين وتوثيقه أمر مندوب إليه، وقال بعض العلماء بوجوب ذلك أخذاً بظاهر الآية وهو قول وجيه له حظ من النظر وينبغي حمل الناس عليه في هذا الزمان قطعاً لأكل حقوق الآخرين بالباطل وسداً لأبواب النزاعات، والخصومات ولما نرى في مجتمعنا من نزاع وشقاق وخلاف بسبب عدم توثيق الديون والعقود وكتابتها فكم من المنازعات حدثت بين المؤجر والمستأجر بسبب عدم كتابة عقد الإجارة وكم من خصومات حصلت بين الشركاء لاختلافهم في قضية ما ويعود ذلك لعدم كتابة اتفاق الشراكة وهكذا الحال في كل المعاملات التي لم توثق. لذا فإني أنصح كل متعاقدين في أي من العقود الشرعية أن يوثقا العقد بجميع شروطه وتفصيلاته الصغيرة قبل الكبيرة، قال الله تعالى: { ولا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ } .
قال ابن العربي المالكي:[هذا تأكيد من الله تعالى في الإشهاد بالدَّين تنبيهاً لمن كسل فقال: هذا قليل لا أحتاج إلى كتبه والإشهاد عليه. لأن أمر الله تعالى فيه والتحضيض عليه واحد والقليل والكثير في ذلك سواء] أحكام القرآن 1/257.(/18)
كما أن المعاملة التي لا تكتب ولا يستشهد عليها يترتب عليها مفاسد كثيرة منها ما يكون عن عمد إذا كان أحد المتداينين ضعيف الأمانة فيدعي بعد طول الزمن خلاف الواقع ومنها ما يكون عن خطأ ونسيان فإذا ارتاب المتعاملان واختلفا ولا شيء يُرجع إليه في إزالة الريبة ورفع الخلاف من كتابة أو شهود أساء كل منهما الظن بالآخر ولم يسهل عليه الرجوع عن اعتقاده إلى قول خصمه فلج خصامه وعدائه وكان وراء ذلك من شرور المنازعات ما يرهقهما عسراً ويرميهما بأشد الحرج وربما ارتكبا في ذلك محارم كثيرة . تفسير المنار 3/134 بتصرف .
وكتابة الدَّين وتوثيقه تعود بالمنفعة على الناس من عدة وجوه:
1. صيانة الأموال وقد أمرنا بصيانتها ونهينا عن إضاعتها.
2. قطع المنازعة فإن الوثيقة تصير حَكَماً بين المتعاملين ويرجعان إليها عند المنازعة، فتكون سبباً لتسكين الفتنة ولا يجحد أحدهما حق صاحبه مخافة أن تخرج الوثيقة وتشهد الشهود عليه بذلك فينفضح أمره بين الناس.
3. التحرز عن العقود الفاسدة لأن المتعاملين بها ربما لا يهتديان إلى الأسباب المفسدة للعقد ليتحرزا عنها فيحملهما الكاتب على ذلك إذا رجعا إليه ليكتب.
4. رفع الارتياب فقد يشتبه على المتعاملين إذا تطاول الزمان مقدار البدل ومقدار الأجل فإذا رجعا إلى الوثيقة لا يبقى لواحد منهما ريبة ] الموسوعة الفقهية 14/135.
ويجب التنبيه على أن كاتب الديون أو العقود بين الناس لا ينبغي أن يكون أحد المتعاقدين حتى يكون أقرب للعدل المشار إليه في قوله تعالى: { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ } .
قال القرطبي:[قوله تعالى: { بِالْعَدْلِ } أي بالحق والمعدلة أي لا يكتب لصاحب الحق أكثر مما قاله ولا أقل وإنما قال: { بَيْنَكُمْ } ولم يقل أحدكم لأنه لما كان الذي له الدَّين يهتم في الكتابة الذي عليه الدَّين وكذلك بالعكس شرع الله سبحانه وتعالى كاتباً غيرهما يكتب بالعدل لا يكون في قلبه ولا قلمه موادة لأحدهما على الآخر] تفسير القرطبي 3/383.
وأخيراً فينبغي الإشارة إلى قوله تعالى: { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } إن المدين - الذي عليه الحق - هو الذي يملي على الكاتب اعترافه بالدَّين ومقدار الدَّين وشرطه وأجله، ذلك خيفة أن يقع الغبن على المدين لو أملى الدائن فزاد في الدَّين أو قَرَّب الأجل أو ذكر شروطاً معينة في مصلحته والمدين في موقف ضعيف قد لا يملك معه إعلان المعارضة رغبةً في إتمام الصفقة لحاجته إليها فيقع عليه الغبن فإذا كان المدين هو الذي يملي لم يمل إلا ما يريد الارتباط به عن طيب خاطر ثم ليكون إقراره بالدَّين أقوى وأثبت وهو الذي يملي وفي الوقت ذاته يناشد ضمير المدين وهو يملي أن يتقي الله ربه وأن لا يبخس شيئاً من الدَّين الذي يقرّ به] ظلال القرآن 1/492.
- - -
الإشهاد على العقد
الإشهاد على العقود من السنن وليس من الواجبات. ولا شك أن الإشهاد على العقود أفضل وأولى وخاصة إذا كان العقد يتعلق بأمر ذو أهمية كبيع أرض أو إجارة عمارة أو نحو ذلك والإشهاد على العقود أقطع للنزاع وأبعد عن التجاحد وإنكار الحقوق بل فيه حفظ للحقوق وهذا الأمر ينطبق تماماً على كتابة العقود وتوثيقها فينبغي لمن وقع عقد بيع أرض مثلاً مع غيره أن يبين فيه كل التفاصيل المتعلقة بالبيع مثل موقع الأرض وحدودها ومساحتها وثمن البيع ووقت تأدية الثمن إن كان مؤجلاً أو على أقساط وينبغي له أن يستشهد شهيدين على ذلك بأن يذكر اسميهما على أن يوقعا على وثيقة البيع وينبغي عدم إغفال تاريخ البيع بالتفصيل بالإضافة لذكر كل ما يزيد العقد توثيقاً ...إلخ.(/19)
ومما يدل على مشروعية ذلك آية الدَّين وهي أطول آية في القرآن الكريم حيث يقول الله سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } سورة البقرة الآيتان 282-283 .
وفي هاتين الآيتين الكريمتين أمر الله جل وعلا بالإشهاد في موضعين الأول { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } والموضع الثاني { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } وهذا الأمر مصروف عن ظاهره والمراد به الندب لا الإيجاب كما قرر ذلك جمهور أهل العلم.
قال الإمام أبو بكر الجصّاص الحنفي:[ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن المذكور جميعه في هذه الآية ندب وإرشاد إلى ما لنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا، وأن شيئاً منه غير واجب. وقد نقلت الأمة خلف عن سلف عقود المداينات والأشربة والبياعات في أمصارهم من غير إشهاد، مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم، ولو كان الإشهاد واجباً لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به. وفي ذلك دليل على أنهم رأوه ندباً، وذلك منقول من عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا. ولو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها وأشريتها لورد النقل به متواتراً مستفيضاً ولأنكرت على فاعله ترك الإشهاد ، فلما لم ينقل عنهم الإشهاد بالنقل المستفيض ولا إظهار النكير على تاركه من العامة ثبت بذلك أن الكتاب والإشهاد في الديون والبياعات غير واجبين] أحكام القرآن للجصاص 2/206.
وقال الإمام ابن العربي المالكي:[اختلف النَّاس في لفظ (أَفْعِلْ) في قوله تعالى: { وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } على قولين: أحدهما: أنَّه فرض; قاله الضَّحَّاكُ. الثاني: أنَّه ندب; قالهُ الكافَّة; وهو الصّحيح; فقد باع النّبي - صلى الله عليه وسلم - وَكتب ونسخة كتابِه:(بِسم اللَّه الرحمن الرَّحيم هذا ما اشترى العدَّاء بن خالد بن هَوْذَة من محمدٍ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اشترى منه عبدًا أو أمةً لا داء ولا غائلة ولا خِبثة, بيع المسلم للمسلم). وقد باع ولم يشهد, واشترى ورهن درعه عند يهوديّ ولم يشهد, ولو كان الإشهاد أمرًا واجباً لوجب مع الرهن لخوف المنازعة] أحكام القرآن لابن العربي 1/259.(/20)
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[ ويستحب الإشهاد في البيع; لقول الله تعالى: { وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } وأقل أحوال الأمر الاستحباب. ولأنه أقطع للنزاع، وأبعد من التجاحد, فكان أولى, ويختص ذلك بما له خطر, فأما الأشياء القليلة الخطر, كحوائج البقَّالِ, والعطَّارِ, وشبههما, فلا يستحب ذلك فيها; لأن العقود فيها تكثر, فيشق الإشهاد عليها, وتقبح إقامة البينة عليها, والترافع إلى الحاكم من أجلها, بخلاف الكثير. وليس الإشهاد بواجب في أحد منهما, ولا شرطاً له. روي ذلك عن أبي سعيد الخدري وهو قول الشافعي, وأصحاب الرأي, وإسحاق وأبي أيوب وقالت طائفة: ذلك فرض لا يجوز تركه .... ولنا قول الله تعالى: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } . وقال أبو سعيد: صار الأمر إلى الأمانة. وتلا هذه الآية, ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهودي طعاماً, ورهنه درعه, واشترى من رجل سراويل, ومن أعرابي فرساً, فجحده الأعرابي حتى شهد له خزيمة بن ثابت, ولم يُنقل أنه أشهد في شيء من ذلك. وكان الصحابة يتبايعون في عصره في الأسواق، فم يأمرهم بالإشهاد، ولا نقل عنهم فعله، ولم ينكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو كانوا يشهدون في كل بياعاتهم لما اخل بنقله. وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عروة بن الجعد أن يشتري له أضحية. ولم يأمره بالإشهاد. واخبره عروة أنه اشترى شاتين فباع إحداهما، ولم ينكر عليه ترك الإشهاد. ولأن المبايعة تكثر بين الناس في أسواقهم وغيرها، فلو وجب الإشهاد في كل ما يتبايعونه، أفضى إلى الحرج المحطوط عنا بقوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } . والآية المراد بها الإرشاد إلى حفظ الأموال والتعليم، كما أمر بالرهن والكاتب، وليس بواجب، وهذا ظاهر]. المغني 4/205-206.
وخلاصة الأمر أنه يستحب الإشهاد على عقود البيع والشراء والإجارة ونحوها إذا كان محل العقد شيئاً مهماً كبيراً ولا ينبغي الإشهاد على كل صغير لما في ذلك من الحرج.
- - -
حكم البيع والشراء وقت النداء لصلاة الجمعة
يقول الله سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } سورة الجمعة الآية 9.
وصلاة الجمعة فرض على كل مسلم بإجماع الأمة والأئمة إلا من استثني وقد أمر الله بالسعي إلى ذكر الله وأمر بترك البيع لما فيه من إشغال عن الصلاة.
قال الإمام القرطبي:[قوله تعالى: { وَذَرُوا الْبَيْعَ } منع الله عز وجل منه عند صلاة الجمعة وحرَّمه في وقتها على من كان مخاطباً بفرضها. والبيع لا يخلو من شراء فاكتفى بذكر أحدهما … وخص البيع لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق] تفسير القرطبي 18/107. والأمر بالسعي في الآية يفيد الوجوب والأمر بترك البيع بمعنى النهي يفيد التحريم وقد قال جمهور أهل العلم إن المقصود بقوله تعالى: { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ } ،الأذان الذي يكون بين يدي الإمام والذي يبدأ الإمام عقبه بالخطبة لأنه الأذان الذي كان موجوداً على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في الحديث عن السائب بن يزيد قال:(كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلمّا كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء. قال الإمام البخاري : والزوراء موضع بالسوق من المدينة) رواه البخاري.
وفي هذا الحديث أنه كان على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أذان واحد للجمعة وهو الذي يكون بين يدي الإمام وبعده تكون الخطبة، ثم لمّا كان عثمان أحدث الأذان الثاني لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياساً على بقية الصلوات فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب. فتح الباري 3/44.
وسماه الحديث ثانياً باعتباره وجد بعد الأذان الأول الذي كان في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وسمّاه في الحديث ثالثاً: باعتباره مزيداً على الأذان الأول والإقامة ولأن الإقامة تسمى أذاناً كما في الحديث:( بين كل أذانين صلاة) رواه البخاري ومسلم.
وقد اتفق جمهور أهل العلم على تحريم البيع والشراء وقت النداء وأن هذا التحريم خاص بالمخاطبين بفرض الجمعة وأما من لا جمعة عليهم فلا حرج عليهم إذا باعوا وشروا مع أمثالهم ممن لا يخاطب بالجمعة وهؤلاء غير المخاطبين بالجمعة هم:
1. الصبي وهو من كان دون البلوغ.
2. المرأة فليس على النساء جمعة.
3. المسافر فلا جمعة على المسافر.
4. المريض فلا جمعة على المريض العاجز عن إجابة النداء.(/21)
وهناك أعذار خاصة تسقط الجمعة ليس هذا محل بحثها.فهؤلاء المذكورين ومن في حكمهم ممن لا جمعة عليهم يجوز لهم البيع والشراء وقت النداء لأن الله سبحانه وتعالى إنما نهى عن البيع من أمره بالسعي للجمعة وهؤلاء غير مخاطبين بالسعي إلى الجمعة.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[ وتحريم البيع ووجوب السعي يختص بالمخاطبين بالجمعة فأما غيرهم من النساء والصبيان والمسافرين فلا يثبت في حقه ذلك … فإن الله تعالى إنما نهى عن البيع من أمره بالسعي فغير المخاطب بالسعي لا يتناوله النهي ولأن تحريم البيع معلل بما يحصل به من الاشتغال عن الجمعة وهذا معدوم في حقهم] المغني 2/220.فالمرأة إن باعت لصبي أو لامرأة مثلها أو لمسافر أو لمريض ومن في حكمهم فلا حرج في ذلك إن شاء الله، وأما إن باعت لمن وجبت عليه الجمعة وهو تارك لها فإنها قد أعانت على المعصية والإثم فذاك تارك الجمعة لا شك أنه آثم لتركه الجمعة فإعانته على المعصية حرام ،والله سبحانه وتعالى يقول: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } ومن المعلوم أن ترك الجمعة لغير عذر ذنب عظيم فقد ثبت في الحديث الشريف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال:(لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) رواه مسلم.
وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر:(من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها طبع الله على قلبه) رواه أحمد وأصحاب السنن وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني.
وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال:(من ترك ثلاث جمعات من غير عذر كتب من المنافقين) رواه الطبراني وقال العلامة الألباني حديث حسن.
وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر:(من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة طبع الله على قلبه) رواه أحمد والحاكم بإسناد حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب ص 306-307.
ويجب أن يعلم أن الأمر بترك البيع وقت النداء لصلاة الجمعة ليس خاصاً بالبيع وإنما النهي يشمل البيع والشراء والإجارة والنكاح وباقي العقود لأن الحكمة في ذلك أن البيع يشغل عن تلبية النداء فكذا بقية العقود ويلحق بذلك الألعاب المختلفة فتحرم إقامة المباريات الرياضية أو الثقافية وقت النداء لصلاة الجمعة.
روى الإمام البخاري عن عطاء أحد أئمة التابعين أنه قال:[ تحرم الصناعات كلها -أي وقت النداء للجمعة - ]. وذكر الحافظ ابن حجر رواية أخرى عن عطاء بلفظ آخر:[إذا نودي بالأذان حرم اللهو والبيع والصناعات كلها والرقاد وأن يأتي الرجل أهله وأن يكتب كتاباً].وقال الحافظ :[وبهذا قال الجمهور أيضاً] فتح الباري 3/41.ويستمر تحريم هذه العقود حتى انقضاء صلاة الجمعة، قال ابن عباس رضي الله عنهما:[لا يصلح البيع يوم الجمعة حين ينادي للصلاة فإذا قضيت الصلاة فبع واشتر] ذكره الحافظ في فتح الباري 3/41.
- - -
كيفية حساب زكاة أموال التجارة
من المعلوم أن الزكاة واجبة في عروض التجارة على الصحيح من أقوال أهل العلم لعموم الأدلة التي أوجبت الزكاة في الأموال ولا شك أن عروض التجارة داخلة في هذا العموم دخولاً أولياً كقوله تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } سورة التوبة الآية 103. وقوله تعالى: { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } سورة الذاريات الآية 19. وقوله تعالى: { يَا أيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ } سورة البقرة الآية267. ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال:(كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نخرج الصدقة مما يُعد للبيع) رواه أبو داود والدارقطني واختلف في سنده وحسنه ابن عبد البر.
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:( في الإبل صدقتها وفي البقر صدقتها وفي البز صدقته).
قال الإمام النووي:[هذا الحديث رواه الدارقطني في سننه والحاكم أبو عبد الله في المستدرك والبيهقي بأسانيدهم ذكره الحاكم بإسنادين ثم قال هذان الإسنادان صحيحان على شرط البخاري ومسلم] المجموع 6/47. والبز المذكور في الحديث هو الثياب ومنه البزاز لمن يعمل في تجارة الثياب. انظر المصباح المنير ص 47-48.(/22)
وقال الإمام النووي:[والصواب الجزم بالوجوب –أي وجوب الزكاة في عروض التجارة- وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم أجمعين قال ابن المنذر أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة قال رويناه عن عمر بن الخطاب وابن عباس والفقهاء السبعة سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وخارجة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسلمان بن يسار والحسن البصري وطاووس وجابر بن زيد وميمون بن مهران والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي والنعمان - أبو حنيفة - وأصحابه وأحمد واسحق وأبي ثور وأبي عبيد ...] المجموع 6/47.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:[وأما العروض التي للتجارة ففيها الزكاة وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة إذا حال عليها الحول: روي ذلك عن عمر وابنه وابن عباس وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر بن زيد وميمون بن مهران وطاووس والنخعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وحكي عن مالك وداود: لا زكاة فيها. وفي سنن أبي داود عن سمرة قال:(كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع). وروى عن حماس قال: مرَّ بي عمر فقال: أدِ زكاة مالك، فقلت: مالي إلا جِعاب وأُدُم فقال قومها ثم أد زكاتها. واشتهرت القصة بلا منكر فهي إجماع. – والجعاب جمع جعبة وهي وعاء توضع فيه السهام. انظر المصباح المنير ص 102. والأُدُم جمع أديم وهو الجلد المدبوغ انظر المصباح المنير ص9-. وأما مالك فمذهبه أن التجار على قسمين: متربص ومدير. فالمتربص: وهو الذي يشتري السلع وينتظر بها الأسواق فربما أقامت السلع عنده سنين فهذا عنده لا زكاة عليه إلا أن يبيع السلعة فيزكيها لعام واحد وحجته أن الزكاة شرعت في الأموال النامية فإذا زكى السلعة كل عام - وقد تكون كاسدة - نقصت عن شرائها فيتضرر فإذا زكيت عند البيع فإن كانت ربحت فالربح كان كامناً فيها فيخرج زكاته ولا يزكي حتى يبيع بنصاب ثم يزكي بعد ذلك ما يبيعه من كثير وقليل. وأما المدير: وهو الذي يبيع السلع في أثناء الحول فلا يستقر بيده سلعة فهذا يزكي في السنة الجميع يجعل لنفسه شهراً معلوماً يحسب ما بيده من السلع والعين والدَّين الذي على المليء الثقة ويزكي الجميع هذا إذا كان ينض في يده في أثناء السنة ولو درهم فإن لم يكن يبيع بعين أصلاً فلا زكاة عليه عنده] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/15-16.
وبعد هذا البيان لوجوب الزكاة في أموال التجارة فإذا حلَّ الشهر الذي يؤدي التاجر فيه زكاة أمواله فإنه يقوم بحصر أمواله من التجارة والتي تشمل البضائع الموجودة لديه والتي لم تبع بعد ذلك وكذلك أمواله السائلة وماله من ديون على الناس إذا كانت مضمونة فيقوِّم البضائع الموجودة لديه بسعرها الحاضر ويضم إلى ذلك أرباحه ومدخراته وديونه المضمونة الأداء ويخصم ما عليه من دين إن كان هناك دين ثم يخرج زكاة الباقي بنسبة 2,5% أي ربع العشر.
مثال توضيحي: أحصى تاجر ما في محله من البضائع في أول شهر رمضان فوجد قيمتها بسعر الجملة 120000 دينار، ومعه أموال نقدية 40000 دينار، وله ديون مضمونة على الناس بلغت 65000 دينار، وعليه ديون للناس 25000 دينار، فيجمع قيمة البضائع وما معه من نقد وماله من ديون مضمونة فتكون 225000 دينار، ويخصم من المجموع ما عليه من ديون، فيكون الصافي 200000 دينار، فيزكيها بنسبة 2،5% فيكون ما عليه من زكاة 5000 دينار.
وينبغي التنبيه على أن الأجهزة والمعدات والرفوف وديكور المحل لا تدخل في الزكاة مثلاً إذا كانت لديه ثلاجات أو خزائن أو مبنى أو سيارة لخدمة المحل أو نحو ذلك فلا تحسب من ضمن مال الزكاة وإنما الزكاة على الأموال السائلة وهي الأموال المعدة للبيع لما ورد في الحديث عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال:(كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نخرج الصدقة مما يعد للبيع).
وكذلك فإن تقويم البضائع والسلع يكون بناءً على سعرها الحالي - سعر الجملة - الذي تباع به وقت التقويم وهذا قول أكثر الفقهاء.
ويجوز للتاجر أن يخرج زكاة تجارته من أعيان تلك التجارة كتاجر المواد الغذائية فيجوز له أن يخرجها مما عنده من أرزٍ أو طحينٍ أو سكر وغيرها.
- - -
يقدر نصاب النقود في الزكاة بالذهب دون الفضة
الزكاة فريضة تُؤخذ من الأغنياء، وترد على الفقراء كما ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً إلى اليمن فقال:(ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم .... ) رواه البخاري.(/23)
وجاء في حديث آخر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال:(إنما الصدقة عن ظهر غنى) رواه أحمد وإسناده صحيح.
والغنى الذي يوجب الزكاة عند الفقهاء، هو ملك النصاب، والمقصود بالنصاب هنا، عشرون ديناراً ذهباً، وتعادل خمسة وثمانين غراماً من الذهب، أو مئتا درهم من الفضة وتعادل خمسمئة وخمسة وتسعون غراماً من الفضة.
ومن المعلوم أن مقدار النصاب من الذهب - عشرون ديناراً - كانت تساوي مقدار نصاب الفضة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن سعر الفضة أخذ في الهبوط بعد ذلك العهد إلى أن صار الفرق بين النصابين كبير جداً بينما بقي الذهب محافظاً على سعره إلى وقتنا الحاضر مع اختلاف يسير حيث إن القوة الشرائية للذهب في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت تساوي (100% - 120%) مما هي عليه الآن لا أكثر، انظر مجلة المجمع الفقهي 5/3/1679.
ونظراً للهبوط الكبير في سعر الفضة، رأى كثير من العلماء، أن تقدير النصاب في الزكاة بالذهب هو الصحيح، نظراً لثبات سعر الذهب دون الفضة.
قال د. يوسف القرضاوي مرجحاً هذا القول:[ويبدو لي أن هذا القول سليم الوجهة قوي الحجة، فبالمقارنة بين الأنصبة المذكورة في أموال الزكاة، كخمس من الإبل أو أربعين من الغنم أو خمسة أوسق من الزبيب أو التمر، تجد أن الذي يقاربها في عصرنا الحاضر، هو نصاب الذهب لا نصاب الفضة] فقه الزكاة 1/264.
ويقول د. وهبة الزحيلي:[ويجب اعتبار النصاب الحالي كما هو كان في أصل الشرع دون النظر إلى تفاوت السعر القائم بين الذهب والفضة، وتقدر الأوراق النقدية بسعر الذهب، ولأنه هو الأصل في التعامل، ولأن غطاء النقود هو بالذهب، ولأن المثقال كان في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعند أهل مكة هو أساس العملة ....] الفقه الإسلامي وأدلته 2/760.
وقال د. محمد الأشقر:[وقد مال في هذا العصر بعض الفقهاء إلى الرجوع إلى التقويم في عروض التجارة والنقود الورقية إلى نصاب الذهب خاصة، ولذلك وجه بيّن، وهو ثبات القدرة الشرائية للذهب فإن نصاب الذهب -العشرين ديناراً- كان يشترى بها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرون شاة من شياه الحجاز تقريباً وكذلك نصاب الفضة -المئتا درهم- كان يُشتَرى بها عشرون شاةً تقريباً أيضاً، أما في عصرنا الحاضر فلا تكفي قيمة مئتي درهم من الفضة إلا لشراء شاة واحدة، بينما العشرون مثقالاً من الذهب تكفي الآن لشراء عشرين شاة من شياه الحجاز أو أقل قليلاً فهذا الثبات في قوة الذهب الشرائية تتحقق به حكمة تقدير النصاب على الوجه الأكمل، بخلاف نصاب الفضة] أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة 1/30.
- - -
زكاة مال الشركاء
...
الأصل أن الزكاة تجب على المكلف في ماله فإذا ملك نصاباً وحال عليه الحول وتحققت شروط وجوب الزكاة في ماله زكَّاه . وبالنسبة للمال المشترك فكل واحد من الشركاء يحسب نصيبه من الشركة وما تحقق له من ربح في المحل التجاري ويضمه إلى ما لديه من أموال أخرى فإن تحققت فيه شروط وجوب الزكاة وجب عليه إخراجها .وقد أخذ بهذا القول مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة فقرر أنه في الشركات التي يساهم فيها عدد من الأفراد لا ينظر في تطبيق أحكام الزكاة إلى مجموع أرباح الشركات وإنما ينظر إلى ما يخص كل شريك على حدة.
ومن العلماء من يرى أن تُعامل الشركة معاملة الشخص الواحد أي شخصية اعتبارية فتخرج الزكاة على هذا الأساس فقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي ما يلي:[أولاً: تجب زكاة الأسهم على أصحابها وتخرجها الشركة نيابة عنهم إذا نص في نظامها الأساسي على ذلك أو صدر به قرار من الجمعية العمومية أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة أو حصل تفويض من صاحب الأسهم لإخراج إدارة الشركة زكاة أسهمه.
ثانياً: تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة ومن حيث النصاب ومن حيث المقدار الذي يؤخذ وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي وذلك أخذاً بمبدأ الخلطة عند من عممه من الفقهاء في جميع الأموال ويطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة ومنها أسهم الخزانة العامة وأسهم الوقف الخيري وأسهم الجهات الخيرية وكذلك أسهم غير المسلمين.(/24)
ثالثاً: إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه زكى أسهمه على هذا الاعتبار لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك: فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي وليس بقصد التجارة فإنه يزكيها زكاة المستغلات وتمشياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم وإنما تجب الزكاة في الريع وهو ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة زكاها زكاة عروض التجارة فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه زكى قيمتها السوقية وإذا لم يكن لها سوق زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة فيخرج ربع العشر 2,5% من تلك القيمة ومن الربح إذا كان للأسهم ربح.
رابعاً: إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله وزكاه معه عندما يجيء حول زكاته أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها على النحو السابق] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد4 ج1/881-882.
وجاء في فتاوى بيت التمويل الكويتي ما يلي:[يجوز أن يتضمن عقد إنشاء الشركة بنداً ينص على أن الشركة تخرج الزكاة عما لديها من الأموال وحينئذ يحق لإدارة الشركة إخراج الزكاة نيابة عن المساهمين أما إذا لم ينص عقد إنشاء الشركة على ذلك فيجوز للشركاء أن يوكلوا إدارة الشركة في إخراج الزكاة فإن لم يوكلوها لم يكن لها أن تخرج الزكاة ] وهذا في ظل الأمر القائم الآن من أن الدولة جعلت تحصيل بيت الزكاة للزكوات باختيار المزكين أما لو أخذت الدولة بنظام التحصيل الإلزامي فيجوز حينئذ أخذ الزكاة للشركة ككل ويعتبر مالها مالاً واحداً قياساً على نظام الخلطة في زكاة الماشية وأما في ظل الوضع الحاضر فإن كل مزك يخرج عن نفسه أو يوكل من يخرج عنه الزكاة ويضم إلى حصته من الموجودات الزكوية من الشركة ما سوى ذلك من أمواله الزكوية ويسقط ما عليها من الديون ويزكى الباقي إن كان أكثر من نصاب والله أعلم].
ولا بد من رضا المساهمين شخصياً عند تطبيق هذا الرأي ومستند هذا الاتجاه الأخذ بمبدأ (الخلطة) الوارد في السنة النبوية بشأن زكاة الأنعام والذي أخذ به الشافعية أيضاً في الأموال النقدية وأموال التجارة وغيرها، قال الإمام النووي:(الخلطة تؤثر في المواشي بلا خلاف – أي في المذهب الشافعي – وهل تؤثر في الثمار والزروع والنقدين وأموال التجارة؟ …) ثم ذكر أن المذهب الجديد عندهم أن الخلطة تؤثر فيها. الروضة 2/30.
وخلاصة الأمر أن الأصل أن يزكي كل شريك أمواله منفرداً وإن زكت الشركة أموالها باعتبار أنها شخصية اعتبارية فحسن ولا بأس بذلك.
- - -
زكاة الأسهم
السهم هو الحصة التي يقدمها الشريك في شركات المساهمة وهو يمثل جزءاً معيناً من رأس مال الشركة فالسهم مال كما هو في الغالب لأن بعض الأسهم قد تكون عيناً وبما أن السهم مال مملوك فتجب الزكاة فيه إذا توافرت شروط وجوب الزكاة وهذا ما قرره الفقهاء المعاصرون.
ومن هؤلاء العلماء من يرى أنه تجب زكاة الأسهم على المساهم نفسه لأنه هو المالك لها فيقوم بإخراج زكاتها ومنهم من يرى أن الشركة هي المطالبة بإخراج زكاة الأسهم لأن الشركة لها شخصية اعتبارية مستقلة ولأن الزكاة حق متعلق بالمال نفسه فلا يشترط فيمن تجب عليه أن يكون مكلفاً شرعاً كما هو الحال في وجوب الزكاة في مال الصغير والمجنون.
ومن العلماء من جمع بين القولين بأن قال إن زكاة الأسهم تجب على المساهم لأنه هو المالك الحقيقي للأسهم وتقوم الشركة بإخراج الزكاة نيابة عنه فإذا نص نظام الشركة الأساسي على أن الشركة تخرج زكاة الأسهم فتقوم الشركة بإخراجها ولا يطالب بها المساهمون وأما إذا لم تقم الشركة بإخراج الزكاة فيجب على المساهم أن يزكي أسهمه وهذا رأي حسن قرره مجمع الفقه الإسلامي في جدة بالسعودية.
وعند قيام الشركة بإخراج زكاة الأسهم فإنها تخرجها كما يخرج الشخص العادي زكاة ماله بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال لشخص واحد وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار أخذاً بمبدأ الخلطة عند من عممه من الفقهاء في جميع الأموال وتعامل الأسهم في الشركة التجارية معاملة عروض التجارة فتقوم الأسهم وتزكى مع أرباحها في كل عام بنسبة 2.5%.
وأما إذا كان الشخص مساهماً في شركة تجارية ولا تقوم هذه الشركة بإخراج الزكاة فإن الواجب على المساهم أن يخرج زكاة أسهمه بعد أن يعرف قيمة أسهمه وأرباحها.
- - -
زكاة البضاعة الكاسدة(/25)
إن الأصل عند أكثر العلماء أن كل مال يكون عند التاجر ويقصد به التجارة تجب فيه الزكاة ويدخل في ذلك جميع السلع وإن كسدت أو بارت فعلى التاجر أن يقوِّم هذه السلع الكاسدة ويؤدي زكاتها كغيرها من السلع غير الكاسدة.
وهنالك رأي آخر في المسألة قال به بعض فقهاء المالكية ونسب إلى الإمام مالك وهو إن السلع إذا كسدت وبارت فلا تجب الزكاة فيها إلا إذا بيعت فيزكيها صاحبها عن سنة واحدة وهذا رأي له وجاهته ويمكن الأخذ به وخاصة إذا كانت البضائع الكاسدة كثيرة وهذا من باب التخفيف والتيسير على التجار . ومن المعروف عند التجار أنه لابد أن تبور كمية من كل نوع من السلع فمثلاً إذا اشترى التاجر مئة قطعة من نوع معين من الثياب فباع تسعين قطعة وبارت الباقية فحينئذ تكون الفتوى على قول جمهور أهل العلم فتقوم تلك البضاعة ويزكيها عندما يزكي أمواله وأما إذا كان الكساد هو الأكثر فحينئذ نأخذ برأي بعض فقهاء المالكية. قال الدسوقي المالكي:[قوله:(إذ بوارها لا ينقلها للقنية ولا للاحتكار) هذا هو المشهور وهو قول ابن القاسم، ومقابله ما لابن نافع وسحنون لا يقوم ما بار منها وينتقل للاحتكار، وخص اللخمي وابن يونس الخلاف بما إذا بار الأقل قالا: فإن بار النصف أو الأكثر لم يقوم اتفاقاً. وقال ابن بشير: بل الخلاف مطلقاً بناء على أن الحكم للنية لأنه لو وجد مشترياً لباع أو للموجود وهو الاحتكار قاله في التوضيح] حاشية الدسوقي 1/474.
وقد أفتى بقول المالكية هذا بعض أهل العلم المعاصرين منهم الشيخ العلامة مصطفى الزرقا فقال:[إن ما سألتني عنه من رأيي في زكاة البضائع الكاسدة والتاجر المتربِّص، رأيي فيه من القديم هو مذهب مالك - رضي الله عنه - وهو الذي يُشعِر كلامُ شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ باستحسانه، كما استحسنه أخونا العلامة الدكتور القرضاوي أيضاً، وضعاً للضَّرر البالغ عن التاجر المتربِّص، فأنا أُفتي به دائماً تيسيراً على الناس، ولا سيما في العقارات، حيث يكثر فيها المشترون المتربِّصون في عهد التضخم النقدي العام اليوم، ولا سيما في عالمنا الثالث الذي استمر فيه هبوط قيمة النقود الورقية التي انفردت في وظيفة التنمية، منذ أن حلَّت المَطابع محلَّ مناجم استخراج الذَّهب والفضة!! ولم يبقَ أمام كثير من الناس وسيلة لحفظ قيمة نقودهم وقوتها الشرائية سوى تحويلها إلى عقار والتربص به، وقد يتربَّصون بها مُدداً طويلة، وعدداً من السنين قد تَصل إلى العَشرات، ثم يبيعونها عندما يَحتاجون إلى قيمتها. وخلال ذلك قد ترتفع قيمتها كما كانوا يتوقَّعون من استمرار ارتفاع قيمة العَقارات في كل مكان تقريباً، وإن لم ترتفع فإنها لا تهبِط، فأنا أفتي في هذه بأنها تزكَّى مرة واحدة عن سنة واحدة حين بيعها، لكنها يجب أن تزكّى على أساس قيمتها الحالية المرتفعة، لا على أساس قيمتها القديمة التي اشتروها بها، فإذا كانت قيمتها قد ارتفعت من البيع عشرة أضعاف مثلاً أو أكثر ـ وهذا واقع كثيرًا في الأراضي ـ فإن زكاتها تَزيد أيضاً عشرة أضعاف عن زكاتها بحسَب قيمتها الأولى التي اشْتُريتْ بها. وفي هذا عدل، كما أنه تيسير على المكلَّف، ودفع للإرهاق عنه، ومثل ذلك التربُّص في البضائع التجارية الكاسدة. وقد نصَّ الفقهاء على أن التاجر إذا أفرزَ بعض أموالِه ليأخذَه إلى بيته لاستعماله فيه، فإن زكاته تتوقَّف منذ ذلك؛ لأنه خرج من نطاق التِّجارة التي تُنَمِّيه، فأصبح بتحويله لاستعماله غيرَ نامٍ، والزكاة إنما هي في المال النامِي فعلاً أو تقديراً كالنقود.
ففي رأيي أن حالة التربُّص ـ خلال مدّة التربُّص ـ تُشبهُ هذه ما دام المُتربِّص لا يُريد بيع المال المتربَّص فيه، بل تركه بمعزِل عن التداول إلى أجل غير محدَّد، فالمال في هذه الحالة أصبح غير نام، أو متوقِّف النماء، كالديون غير المرجوة الوفاء (ولو أَنّها كانت أثمانًا لمَبيعات رابحة، وليست قروضًا حسنة) فإنها بانقطاع الأمل من استيفائها خرجت عن أن تكونَ ناميةً ولو تَقديراً. هذا ما أراه ـ أيها الأخ الكريم ـ وأرجو من فضله ـ تعالى ـ أن يكون صوابا مُتَّفِقًا مع مقاصد الشريعة] فتاوى الشيخ العلامة مصطفى الزرقا ص 135-136.
وخلاصة الأمر أن البضائع إذا كسدت وبارت وكانت كثيرة وصار الأمل ضعيفاً جداً في بيعها فلا زكاة فيها حتى يتم بيعها فإذا بيعت زكيت عن سنة واحدة فقط ولو مضى على بوارها سنوات وأما البوار والكساد القليل فلا يمنع الزكاة.
- - -
التهرب من أداء الزكاة(/26)
صح في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) فالله سبحانه وتعالى مطلع على النوايا ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فالمسلم يجب أن يلتزم بما أمر الله سبحانه وتعالى به والزكاة من جملة فرائض الله سبحانه وتعالى فعلى من وجبت عليه الزكاة أن يلتزم بإخراجها وأن يضعها في مصارفها الشرعية ولا يجوز لأحد أن يحتال لإسقاط الزكاة ويحرم الفرار من الزكاة وهذا مذهب جماهير أهل العلم وقالوا إن من حاول الفرار من الزكاة فإنها تؤخذ منه ويعامل على خلاف قصده كما في قصة أصحاب الجنة التي قصها الله علينا قال الله تعالى: { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ } سورة القلم 17-32 .
فأصحاب البستان عزموا على حرمان المساكين من الصدقة فعاقبهم الله سبحانه وتعالى بخلاف قصدهم، قال العلامة ابن كثير:[هذا مثل ضربه الله تعالى لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة وأعطاهم من النعمة الجسيمة وهو بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة ولهذا قال تعالى: { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ } أي اختبرناهم { كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ } وهي البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه { إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } أي فيما بينهم ليجذن ثمرها ليلاً لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل ليتوفر ثمرها عليهم ولا يتصدقوا منه بشيء { وَلَا يَسْتَثْنُونَ } أي فيما حلفوا به، ولهذا حنثهم الله في أيمانهم فقال تعالى { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ } أي أصابتها آفة سماوية { فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } ]. ثم قال ابن كثير أيضاً:[قد ذكر بعض السلف أن هؤلاء قد كانوا من أهل اليمن، قال سعيد بن جبير: كانوا من قرية يقال لها ضروان على ستة أميال من صنعاء، وقيل كانوا من أهل الحبشة وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة، وكانوا من أهل الكتاب وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة فكان ما يستغل منها يرد فيها ما تحتاج إليه ويدخر لعياله قوت سنتهم ويتصدق بالفاضل فلما مات وورثه بنوه قالوا: لقد كان أبونا أحمق إذ كان يصرف من هذه شيئاً للفقراء ولو أنا منعناهم لنوفر ذلك علينا ، فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية رأس المال والربح والصدقة فلم يبق لهم شيء قال الله تعالى { كَذَلِكَ الْعَذَابُ } أي هكذا عذاب من خالف أمر الله وبخل بما أتاه الله وأنعم عليه ومنع حق المساكين والفقير وذوي الحاجات وبدل نعمة الله كفراً { وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أي هذه عقوبة الدنيا كما سمعتم وعذاب الآخرة أشق] تفسير ابن كثير 4/406-407.
ومما يدل على تحريم الفرار من الزكاة ما ورد عن أنس - رضي الله عنه -:(أن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب له فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) رواه البخاري. وقد ذكر الإمام البخاري هذا الحديث في صحيحه في كتاب الحيل باب الزكاة أي ترك الحيل في الزكاة لإسقاطها. صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 15/363.(/27)
قال الحافظ ابن حجر:[ قال مالك في الموطأ: معنى هذا الحديث أن يكون النفر الثلاثة لكل واحد منهم أربعون شاة وجبت فيها الزكاة فيجمعونها حتى لا تجب عليهم كلهم فيها إلا شاة واحدة أو يكون للخليطين مائتا شاة وشاتان فيكون عليهما فيها ثلاث شياه فيفرقونها حتى لا يكون على كل واحد إلا شاة واحدة. وقال الشافعي: هو خطاب لرب المال من جهة وللساعي من جهة فأمر كل واحد منهم أن لا يحدث شيئاً من الجمع والتفريق خشية الصدقة. فرب المال يخشى أن تكثر الصدقة فيجمع أو يفرق لتقل والساعي يخشى أن تقل الصدقة فيجمع أو يفرق لتكثر، فمعنى قوله (خشية الصدقة) أي خشية أن تكثر الصدقة أو خشية أن تقل الصدقة فلما كان محتملاً للأمرين لم يكن الحمل على أحدهما بأولى من الآخر فحمل عليهما معاً. لكن الذي يظهر أن حمله على المالك أظهر والله أعلم] فتح الباري 4/56.
وقال العلامة ابن القيم:[ويدل على تحريم الحيل الحديث الصحيح وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -:(لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) وهذا نص في تحريم الحيلة المفضية إلى إسقاط الزكاة أو تنقيصها بسبب الجمع والتفريق فإذا باع بعض النصاب قبل تمام الحول تحيلاً على إسقاط الزكاة فقد فرق بين المجتمع فلا تسقط الزكاة عنه بالفرار منها] إعلام الموقعين 3/172.
وذكر الخرقي في مختصره مسألة الفرار من الزكاة فقال:[من كانت عنده ماشية فباعها قبل الحول بدراهم فراراً من الزكاة لم تسقط الزكاة عنه]. وقد فصل الشيخ ابن قدامة المقدسي المسألة بقوله:[قد ذكرنا أن إبدال النصاب بغير جنسه يقطع الحول ويستأنف حولاً آخر فإن فعل هذا فراراً من الزكاة لم تسقط عنه سواء أكان المُبدل ماشية أو غيرها من النصب. وكذا لو أتلف جزءاً من النصاب قصداً للتنقيص لتسقط عنه الزكاة، لم تسقط وتؤخذ الزكاة منه في آخر الحول إذا كان إبداله أو إتلافه عند قرب الوجوب ولو فعل ذلك في أول الحول لم تجب الزكاة. لأن ذلك ليس بمظنة للفرار، وبما ذكرناه قال مالك والأوزاعي وابن الماجشون وإسحاق وأبو عبيد ... ولنا: قول الله تعالى: { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } فعاقبهم الله تعالى بذلك لفرارهم من الصدقة ولأنه قصد إسقاط نصيب من انعقد سبب استحقاقه، فلم يسقط كما لو طلّق امرأته في مرض موته، ولأنه لمّا قصد قصداً فاسداً اقتضت الحكمة معاقبته بنقيض قصده كمن قتل مورثه لاستعجال ميراثه عاقبه الشرع بالحرمان وإذا أتلفه لحاجته لم يقصد قصداً فاسداً] المغني 2/504.
وخلاصة الأمر أنه يحرم على المسلم أن يفر من أداء الزكاة بأي وسيلة كانت لأن ذلك من الحيل المحرمة في الشرع وقد نعى الله سبحانه وتعالى تحيل اليهود لانتهاك المحرمات فقال تعالى: { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } سورة الأعراف الآية 163.
ورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(لا ترتكبوا ما ارتكبت يهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) رواه ابن بطة في إبطال الحيل، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:[هذا إسناد جيد يصحح مثله الترمذي وغيره تارة ويحسنه تارة] إبطال الحيل ص 112.
وقال العلامة الألباني:[وحسَّن إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير] صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص 33.
- - -
تعجيل الزكاة
يجوز تعجيل زكاة الأموال التي يشترط لها الحول قبل حلول الحول، على الراجح من أقوال أهل العلم، وهو قول الحسن البصري وسعيد بن جبير والزهري والأوزاعي والحنفية والشافعية والحنابلة، وهو قول إسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم ابن سلام وغيرهم، انظر المغني 2/470، ويدل على ذلك أحاديث منها:
- عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (أن العباس بن عبد المطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل صدقته قبل أن تحلَّ، فرخص له في ذلك) رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما، قال الإمام النووي: وإسناده حسن، المجموع 6/145، وقال العلامة الألباني: حديث حسن، صحيح سنن الترمذي 1/207.
- وعن علي - رضي الله عنه - أيضاً، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر بن الخطاب:(إنا أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام) رواه أبو داود والترمذي، وقال العلامة الألباني: حسن أيضاً صحيح سنن الترمذي 1/207-208.
- وفي رواية أخرى عن علي أيضاً، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(إنا كنا احتجنا فاستسلفنا من العباس صدقة عامين) قال البيهقي: وهذا مرسل.(/28)
قال الإمام النووي بعد أن ذكر الأدلة على جواز تعجيل الزكاة:[إذا عرفت هذا، حصل الاستدلال على جواز التعجيل من مجموع ما ذكرنا، وقد قدمنا في أول هذا الشرح أن الشافعي يحتج بالحديث المرسل إذا اعتضد بأحد أربعة أمور، وهي أن يسند من جهة أخرى أو يرسل، أو يقول بعض الصحابة أو أكثر العلماء به فمتى وجد واحد من هذه الأربعة جاز الاحتجاج به، وقد وجد في هذا الحديث المذكور عن علي - رضي الله عنه -، بأنه روي في الصحيحين معناه من حديث أبي هريرة السابق وروى هو أيضاً مرسلاً ومتصلاً كما سبق، وقال به من الصحابة ابن عمر، وقال به أكثر العلماء كما نقله الترمذي، فحصلت الدلائل المتظاهرة على صحة الاحتجاج به، والله أعلم] المجموع 6/146.
وحديث أبي هريرة الذي أشار إليه الإمام النووي، هو ما رواه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:(أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبد المطلب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله رسوله، وأما خالد، فإنكم تظلمون خالداً فقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، وأما العباس بن عبد المطلب، فعم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهي عليه صدقة ومثلها معها).
وفي رواية أخرى:(وأما العباس فهي عَلَيَّ ومثلها معها) رواه مسلم.
وقد اختلف أهل العلم في المراد بكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حق صدقة العباس على أقوال منها ما قاله الحافظ ابن حجر:[وقيل معنى قوله (عَلَيَّ) أي هي عندي قرض، لأنني استلفت منه صدقة عامين، وقد ورد ذلك صريحاً بما أخرجه الترمذي وغيره من حديث علي]، - ثم ذكر الروايات الواردة في تعجيل العباس صدقته وبين حال إسنادها - ثم قال:[ ... وليس ثبوت هذه القصة في تعجيل صدقة العباس ببعيد في النظر بمجموع هذه الطرق، والله أعلم] فتح الباري 4/76.
قال العلامة الألباني:[قلت: وهو الذي نجزم به لصحة سندها مرسلاً وهذه شواهد لم يشتد ضعفها فهو يتقوى بها ويرتقي إلى درجة الحسن على أقل الأحوال] إرواء الغليل 3/49.
وقال الإمام النووي في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم -:(فهي عليَّ ومثلها معها)] والصواب أن معناه تعجلتها منه وقد جاء في حديث آخر في غير مسلم (إنا تعجلنا منه صدقة عامين) شرح النووي على صحيح مسلم 3/49.
ومما يدل على جواز تعجيل الزكاة، ما ورد في جواز تعجيل صدقة الفطر قبل وقت الوجوب، كما هو مذهب جمهور أهل العلم، وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما، (أنه كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة) رواه مالك في الموطأ والبيهقي في السنن وغيرهما.
ومما احتج به العلماء على جواز تعجيل الزكاة قبل حلول الحول، قياس ذلك على جواز الكفارة قبل الحنث، لما ثبت في أحاديث كثيرة منها، قوله - صلى الله عليه وسلم -:(من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير) رواه مسلم.
وقد أجاز الحنفية تعجيل زكاة سنوات كثيرة، وأجاز الحسن البصري أن يعجلها لثلاث سنوات فقد روى أبو عبيد بإسناده عن حفص بن سليمان قال:[قلت للحسن: أأخرج زكاة ثلاثة أعوام ضربة - أي دفعة واحدة - فلم ير بذلك بأساً] الأموال ص703.
والأولى هو ألا يزيد التعجيل عن حولين، لأنه هو الذي وردت به النصوص.
- - -
لا يجوز احتساب الدَّين من الزكاة
لا يجوز احتساب الدَّين الذي على الفقير من مال الزكاة، على الراجح من أقوال أهل العلم لما ورد في الحديث الشريف من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً إلى اليمن فقال له:(...أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم) رواه البخاري ومسلم.
فلا بد في الزكاة من أخذها من الأغنياء، ثم ردها إلى الفقراء، وإسقاط الدَّين عن الفقير لا يعتبر أخذاً من الأغنياء ولا رداً على الفقراء، وهذا قول جماهير أهل العلم الحنفية والمالكية والحنابلة وهو أصح القولين في مذهب الشافعية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام وسفيان الثوري وغيرهم.
قال الإمام النووي:[إذا كان لرجل على معسر دين، فأراد أن يجعله من زكاته وقال له جعلته عن زكاتي فوجهان حكاهما صاحب البيان أصحهما لا يجزئه، وبه قطع الصيمري، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، لأن الزكاة في ذمته فلا يبرأ إلا بإقباضها... الخ] المجموع 6/210.
وقال الإمام القرافي:[لا يخرج في زكاته إسقاط دينه عن الفقير لأنه مستهلك عند الفقير] الذخيرة 3/153.(/29)
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[قال مهنا: سألت أبا عبد الله -يعني الإمام أحمد- عن رجل له دين برهن وليس عنده قضاؤه، ولهذا الرجل زكاة مال يريد أن يفرقها على المساكين فيدفع إليه رهنه ويقول له: الدَّين الذي لي عليك هو لك ويحسبه من زكاة ماله، قال -أحمد- لا يجزيه ذلك، ثم قال الشيخ ابن قدامة المقدسي معللاً ذلك: لأن الزكاة لحق الله تعالى، فلا يجوز صرفها إلى نفعه، ولا يجوز أن يحتسب الدَّين الذي له من الزكاة قبل قبضه، لأنه مأمور بأدائها وإيتائها وهذا إسقاط، والله أعلم] المغني 2/487.
وسُئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن إسقاط الدَّين عن المعسر، هل يجوز أن يحسبه من الزكاة؟ فأجاب:[وأما إسقاط الدَّين عن المعسر فلا يجزئ عن زكاة العين بلا نزاع] الفتاوى 25/84.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام:[وكان سفيان بن سعيد الثوري فيما حكوا عنه يكرهه ولا يراه مجزئاً -أي إسقاط الدّين واحتسابه من الزكاة- فسألت عنه عبد الرحمن، فإذا هو على مثل رأي سفيان، ولا أدري لعله قد ذكره عن مالك أيضاً، وكذلك هو عندي غير مجزئ عن صاحبه، لخلال اجتمعت فيه: أما إحداها: فإن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة كانت على خلاف هذا الفعل، لأنه إنما كان يأخذها من أعيان المال عن ظهر الأغنياء ثم يردها في الفقراء، وكذلك كانت الخلفاء بعده ولم يأتنا عن أحد منهم أنه أذن لأحد في احتساب دين من زكاة، وقد علمنا أن الناس قد كانوا يدانون به في دهرهم -أي يتداينون-.
الثانية: أن هذا المال ثاوٍ -أي هالك أو ضائع- غير موجود قد خرج من يد صاحبه على معنى القرض والدَّين، ثم هو يريد تحويله بعد الثواء – الهلاك - إلى غيره بالنية، فهذا ليس بجائز في معاملات الناس بينهم حتى يقبض ذلك الدَّين ثم يستأنف الوجه الأخر فكيف يجوز فيما بين العباد وبين الله عز وجل.
الثالثة: أني لا آمن أن يكون إنما أراد أن يقي ماله بهذا الدَّين قد يئس منه فيجعله ردءاً لماله يقيه به إذا كان منه يائساً ... وليس يقبل الله تبارك وتعالى إلا ما كان له خالصاً] الأموال ص533 - 534.
وبهذا يظهر لنا أنه لا يجوز إسقاط الدَّين واحتسابه من الزكاة .
- - -
لا يصح تأخير صرف الزكاة لمستحقيها
يرى جمهور الفقهاء أن الزكاة واجبة على الفور، فلا ينبغي تأخيرها إذا وجبت هذا في حق من وجبت عليه الزكاة، ومن باب أولى في حق من هو موكل بتوزيعها على المستحقين ويدل على ذلك قوله تعالى: { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } سورة الأنعام/141، وهذه الآية في زكاة الزروع ويلحق بها غيرها، فالله سبحانه وتعالى أمر بإيتاء الزكاة، فمتى وجبت الزكاة في مال فيجب المبادرة إلى إخراجها وتوزيعها على مستحقيها، ولأنه لو جاز التأخير لجاز إلى غير غاية فتنتفي العقوبة على الترك، ولأن حاجة الفقراء والمساكين ناجزة وحقهم في الزكاة ثابت، فيكون تأخيرها منعاً لحقهم في وقته.
وسُئل الإمام أحمد عن الرجل إذا ابتدأ في إخراج الزكاة فجعل يخرجها أولاً فأولاً؟ فقال:[لا بل يخرجها كلها إن حال الحول].
وقال الإمام أحمد:[لا يجري على أقاربه من الزكاة في كل شهر يعني لا يؤخر إخراجها حتى يدفعها إليهم متفرقة في كل شهر شيئاً] المغني 2/510، الموسوعة الفقهية 23/295.
ومما يدل على وجوب إخراج الزكاة على الفور والمبادرة إلى توزيعها على المستحقين عموم النصوص المرغبة في المبادرة إلى الطاعات كما في قوله تعالى: { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } سورة البقرة/148.
وقوله تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } سورة آل عمران/133.
ومما يدل على المبادرة في إخراج الزكاة وإيصالها إلى مستحقيها، ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن عقبة بن الحارث - رضي الله عنه - قال:(صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر فأسرع ثم دخل البيت فلم يلبث أن خرج فقلت أو قيل له، فقال: كنت خلَّفت في البيت تبراً من الصدقة فكرهت أن أبيِّته فقسمته)، فانظر أخي المسلم يا رعاك الله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره أن يبيّت عنده شيء من مال الصدقة فسارع إلى قسمته وإعطائه لمستحقيه.
وقال ابن بطال معلقاً على الحديث السابق:[فيه أن الخير ينبغي أن يُبادَر به، فإن الآفات تعرض والموانع تمنع والموت لا يؤمن والتسويف غير محمود] فتح الباري 4/41.
وقال الحافظ ابن حجر:[وزاد غيره -أي غير ابن بطال- وهو أخلص للذمة وأنقى للحاجة وأبعد من المطل المذموم وأرضى للرب وأمحى للذنب] فتح الباري 4/41.
وبناءً على ما تقدم، فلا يجوز شرعاً تأخير إخراج الزكاة أو تأخير توزيعها من الشخص أو الجهة الموكلة بتوزيعها، ومن يؤخرها بدون عذر شرعي فهو آثم.
قال الإمام النووي:[قد ذكرنا أن مذهبنا أنها إذا وجبت الزكاة وتمكن من إخراجها، وجب الإخراج على الفور فإن أخرها أثم ،وبه قال مالك وأحمد وجمهور العلماء] المجموع 5/335.(/30)
فلذلك ننصح لجان الزكاة والقائمين على توزيع الزكاة، أنهم إذا جمعوا الزكاة فالواجب عليهم أن يبادروا إلى توزيعها على مستحقيها، ولا يؤخروها إلا لمدة يسيرة ولعذر مقبول، كأن تؤخر لتدفع إلى فقير غائب أشد حاجة وفقراً من الحاضرين.
وعلى كل حال فالتأخير المسموح به هو التأخير اليسير، قال د. يوسف القرضاوي:[وعندي أنه لا ينبغي العدول عن ظاهر ما جاء عن فقهاء المذاهب، وإن كان التسامح في يوم أو يومين بل أياماً أمراً ممكناً جرياً على قاعدة اليسر ورفع الحرج، أما التسامح في شهر أو شهرين بل أكثر إلى ما دون العام ... فلا يصح اعتباره حتى لا يتهاون الناس في الفورية الواجبة] فقه الزكاة 2/830.
- - -
مصارف الزكاة
...
بين الله سبحانه وتعالى مصارف الزكاة وحصرها في ثمانية مصارف، فقال تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } سورة التوبة الآية 60.
فهذه الآية الكريمة حصرت مصارف الزكاة في المصارف الثمانية ويدل على ذلك قوله تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ } ولفظة { إِنَّمَا } تقتضي حصر الزكاة في المصارف الثمانية ثم إن الله سبحانه وتعالى أضاف الصدقات للفقراء باللام التي تدل على التمليك ثم عطف بقية الأصناف على الفقراء، قال أبو إسحق الشيرازي بعد أن ذكر آية مصارف الزكاة:[فأضاف جميع الصدقات إليهم بلام التمليك وأشرك بينهم بواو التشريك فدل على أنه مملوك لهم مشترك بينهم] المهذب مع شرحه المجموع 6/185.
وقد اختلف أهل العلم في اشتراط تمليك الزكاة للأصناف الثمانية، فمن العلماء من قال إن التمليك شرط في الأصناف الثمانية. وجمهور العلماء على أن التمليك شرط في الأصناف الأربعة الأولى وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[وأربعة أصناف يأخذون أخذاً مستقراً ولا يراعى حالهم بعد الدفع وهم الفقراء والمساكين والعاملون والمؤلفة. فمتى أخذوها ملكوها ملكاً دائماً مستقراً لا يجب عليهم ردها بحال وأربعة منهم وهم: الغارمون وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل. فإنهم يأخذون أخذاً مراعىً. فإن صرفوه في الجهة التي استحقوا الأخذ لأجلها وإلا استرجع منهم. والفرق بين هذه الأصناف والتي قبلها: أن هؤلاء أخذوا لمعنى لم يحصل بأخذهم للزكاة والأولون حصل المقصود بأخذهم وهو غنى الفقراء والمساكين وتأليف المؤلفين وأداء أجر العاملين] المغني 2/500.
وجاء في توصيات الندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة المنعقدة في الكويت سنة 1413هـ ما يلي:[التمليك في الأصناف الأربعة الأولى المذكورة في آية مصارف الزكاة { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ … } شرط في إجزاء الزكاة والتمليك يعني دفع مبلغ من النقود أو شراء وسيلة النتاج كآلات الحرفة وأدوات الصنعة وتمليكها للمستحق القادر على العمل] أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة 2/886.
وقد اتفق أهل العلم على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلا لهذه الأصناف التي ذكرت في الآية الكريمة ولكنهم اختلفوا بعد ذلك هل يجب استيعاب هذه المصارف؟ أم أنه يجوز الصرف لبعض هذه المصارف دون بعض. والذي عليه أكثر أهل العلم أنه لا يجب صرف الزكاة لجميع الأصناف المذكورين في الآية ويجوز صرفها إلى صنف واحد وهذا قول الحنفية والمالكية والحنابلة ومنقول عن جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً قول الخرقي:[وإن أعطاها كلها في صنف واحد أجزأه] وجملته أنه يجوز أن يقتصر على صنف واحد من الأصناف الثمانية ويجوز أن يعطيها شخصاً واحداً وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس وبه قال سعيد بن جبير والحسن والنخعي وعطاء وإليه ذهب الثوري وأبو عبيد وأصحاب الرأي] المغني 2/498-499.
وقال الإمام النووي:[وقال الحسن البصري وعطاء وسعيد بن جبير والضحاك والشعبي والثوري ومالك وأبو حنيفة وأحمد وأبو عبيد له صرفها إلى صنف واحد قال ابن المنذر وغيره وروي هذا عن حذيفة وابن عباس قال أبو حنيفة وله صرفها إلى شخص واحد من أحد الأصناف قال مالك ويصرفها إلى أمسهم حاجة وقال إبراهيم النخعي إن كانت قليلة جاز صرفها إلى صنف وإلا وجب استيعاب الأصناف] المجموع 6/186.(/31)
ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية قول الإمام أبي جعفر الطبري:[عامة أهل العلم يقولون: للمتولي قسمتها ووضعها في أي الأصناف الثمانية شاء وإنما سمى الله الأصناف الثمانية إعلاماً منه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إلى غيرها لا إيجاباً لقسمتها بين الأصناف الثمانية وروى بإسناده عن حذيفة وعن ابن عباس أنهما قالا: إن شئت جعلته في صنف أو صنفين أو ثلاثة. قال وروى عن عمر أنه قال: أيما صنف أعطيته أجزأك وروى عنه أنه كان عمر يأخذ الفرض في الصدقة فيجعله في الصنف الواحد وهو قول أبي العالية وميمون بن مهران وإبراهيم النخعي] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 25/40.
ويدل لما ذهب إليه جمهور أهل العلم من جواز إعطاء صنف واحد من أصناف الزكاة وأنه لا يجب تعميمها على الأصناف الثمانية ما قاله القرطبي:[وتمسك علماؤنا بقوله تعالى: { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } سورة البقرة الآية 271. والصدقة متى أطلقت في القرآن فهي صدقة الفرض] تفسير القرطبي 8/168. ومراد القرطبي أن الآية لم تذكر إلا صنفاً واحداً - الفقراء - من الأصناف الثمانية.
واحتج الشيخ ابن قدامة المقدسي لقول الجمهور بحديث معاذ - رضي الله عنه - لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن فقال:[ (أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) فأخبر أنه مأمور برد جملتها في الفقراء وهم صنف واحد ولم يذكر سواهم ثم أتاه بعد ذلك مال فجعله في صنف ثان سوى الفقراء وهم المؤلفة: الأقرع بن حابس وعينية بن حصن وعلقمة بن علاثة وزيد الخيل قسّم فيهم الذهبية التي بعث بها إليه علي من اليمن وإنما يؤخذ من أهل اليمن الصدقة ثم أتاه مال آخر: فجعله في صنف آخر لقوله لقبيصة بن المخارق حين تحمل حمالة فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله فقال:(أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها) وفي حديث سلمة بن صخر البياضي: أنه أمر له بصدقة قومه ولو وجب صرفها إلى جميع الأصناف لم يجز دفعها إلى واحد] المغني 2/499.
وحديث معاذ الذي ذكره الشيخ ابن قدامة المقدسي رواه البخاري ومسلم، وأما حديث الذهبية فهو ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال:(بعث علي - رضي الله عنه - وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أربعة نفر الأقرع بن حابس الحنظلي وعينية بن بدر الفزاري وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب وزيد الخير الطائي ثم أحد بني نبهان فغضبت قريش فقالوا: أيعطي صناديد نجد ويدعنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم ...) الحديث، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى هؤلاء المؤلفة قلوبهم فقط ولو كان استيعاب الأصناف واجباً لاستوعبها.
وأما حديث قبيصة فهو ما رواه مسلم بإسناده عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال:(تحملت حمالة فأتيت رسول الله أسأله فيها فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها) قال: ثم قال: يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلَّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة فحلَّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً) صحيح مسلم مع شرح النووي 3/110.
والشاهد في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفع الزكاة إلى صنف واحد بل إلى شخص واحد من مصرف واحد وهو مصرف الغارمين وأما حديث سلمة بن صخر البياضي فقد جاء فيه أنه قد ظاهر من زوجته ثم واقعها ثم ذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلب عونه في الكفارة فقال له رسول الله:(انطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك) رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي حديث حسن. والشاهد في هذا الحديث كسابقه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بدفع الزكاة لصنف واحد بل لشخص واحد.
وخلاصة الأمر في هذه المسألة أنه يجب أخذ الأمور الآتية بالاعتبار عند توزيع الزكاة من قبل لجان الزكاة أو من الأفراد:
أولاً: إذا كان مال الزكاة كثيراً فينبغي تعميم المال على المصارف الثمانية إذا وجدت. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[ فإن المستحب صرفها إلى جميع الأصناف أو إلى من أمكن منهم لأنه يخرج بذلك عن الخلاف ويحصل الإجزاء يقيناً ] المغني 2/499. وهذا ما رجحه د. يوسف القرضاوي إذا كانت الزكاة توزع من قبل إمام المسلمين.
ثانياً: إذا كان المال قليلاً فيعجبني ما ذهب إليه إبراهيم النخعي حيث قال:[إذا كان المال ذا مز -أي ذا فضل وكثرة- ففرقه في الأصناف وإذا كان قليلاً فأعطه صنفاً واحداً] الأموال ص 689.(/32)
فإذا كان لدى شخص ألف دينار فزكاتها خمسة وعشرون ديناراً فأرى له أن يعطيها فقيراً واحداً أو مسكيناً واحداً ولا أرى له أن يفرقها لقلة النفع بها حينئذ.
ثالثاً: إذا كان في أحد الأصناف الثمانية حاجة ماسة وظاهرة فينبغي العناية بالصرف إليه وهذا ما ذهب إليه الإمام مالك حيث إنه يرى أنه إن وجدت الأصناف كلها فينبغي إيثار أهل الحاجة. الذخيرة 3/149.
رابعاً: قال د. يوسف القرضاوي:[ينبغي أن يكون الفقراء والمساكين هم أول الأصناف الذين تصرف لهم الزكاة، فإن كفايتهم وإغنائهم هو الهدف الأول للزكاة حتى إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر في حديث معاذ وغيره إلا هذا المصرف:(تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) وذلك لما لهذا المصرف من أهمية خاصة] فقه الزكاة 2/693.
- - -
صرف الزكاة للعمال العاطلين عن العمل
الأصل في الزكاة أن تصرف في المصارف الثمانية المذكورة في قوله تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } سورة التوبة الآية 60.
فهؤلاء الذين تصرف لهم الزكاة فمن كان غنياً أو قادراً على الكسب فلا يجوز أن تصرف له الزكاة لقوله - صلى الله عليه وسلم -:(لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني. والمقصود بذي مرة سوي أي الإنسان القوي السليم الأعضاء الذي يستطيع العمل والذي يفهم من النصوص الشرعية أن المقصود من يستطع العمل ويجد العمل والطريق إلى كسب العيش وأما من سدت طرق التكسب في وجهه ولا يجد عملاً فيجوز أن يعطى من الزكاة وإن كان قوياً قادراً على الكسب ولكنه لا يجد السبيل إلى ذلك كما هو حال كثير من العمال في وقتنا الحاضر الذي سدت سبل طلب الرزق أمامهم فإذا أعطوا من الزكاة فلا بأس بذلك ، قال الإمام النووي:[قال أصحابنا - أي الشافعية- وإذا لم يجد الكسوب من يستعمله حلت له الزكاة لأنه عاجز] المجموع 6/191.
ويؤيد ما سبق ما رود في الحديث عن عبد الله بن عدي بن الخيار قال:(أخبرني رجلان أنهما أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين -أي قويين- فقال: إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) رواه أبو داود والنسائي وهو حديث صحيح كما قال الإمام النووي وصححه العلامة الألباني.
- - -
مصرف ( وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ) في آية الصدقات
يقول الله سبحانه وتعالى في بيان مصارف الزكاة: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } سورة التوبة الآية 60 .
وقد اختلف العلماء في المراد بعبارة { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } المذكورة في الآية فمنهم من رأى أن سبيل الله يراد بها سبيل الخير . المصالح العامة التي تقوم عليها أمور الدين والدولة دون الأفراد بالإضافة إلى المجاهدين والمرابطين كبناء المستشفيات والملاجئ والمدارس الشرعية والمعاهد الإسلامية والمكتبات العامة ومساعدة الجمعيات الخيرية على أداء مهماتها الإنسانية ودعم المؤسسات التي تقدم خدمات عامة لأفراد المجتمع وكذا الإنفاق على الجهاد شريطة ألا يأكل ذلك أسهم الأصناف الأخرى التي ذكرت في آية الصدقات] إنفاق الزكاة في المصالح العامة ص100-101.
ومن العلماء من يرى أن { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } الغزاة في سبيل الله فقط ولا يصح صرف الزكاة فيما سواه. ومن العلماء من يرى أن مصرف في سبيل الله يقصد به الجهاد والحج والعمرة.
وأرجح الأقوال هو القول الأول الذي يرى جواز صرف الزكاة في المصالح العامة وقد اختار هذا القول جماعة من العلماء المتقدمين واللاحقين ولهم أدلة قوية على ما ذهبوا إليه منها.
أولاً: لا يوجد نص صريح في كتاب الله أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمنع أن يصرف جزء من سهم { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } في المصالح العامة أو يحصر الصرف في الجهاد.
ثانياً: ثبت في الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطى دية رجل من الأنصار قتل بخيبر مئة من إبل الصدقة رواه البخاري ومسلم. وهذا من الإصلاح بين الناس وهو من المصالح العامة.(/33)
ثالثاً: إن المتأمل للآية التي حددت المصارف الثمانية للزكاة يجد أنها فرقت بين الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم من جهة وبين بقية الأصناف الأخرى وهي الرقاب والغارمون وسبيل الله وابن السبيل من جهة أخرى في حرف الجر الذي سبق كلاً من المجموعتين فقد سبق ذكر الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم حرف اللام وسبق الأصناف الأخرى حرف (في) واللام تفيد التمليك أما ( في) فتفيد الوعاء وعلى هذا فالأصناف الأربعة الأوائل يملكون الزكاة والأصناف الأخرى يستحقون الزكاة فتصرف عليهم لتحقيق مصالحهم ومنافعهم وما جاءت المصالح العامة إلا لهذا. إنفاق الزكاة في المصالح العامة ص 103-104.
رابعاً: زعم بعض العلماء المحدثين أن عبارة { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } إذا اقترنت بالإنفاق كان معناها الجهاد جزماً ولا تحتمل غيره مطلقاً. النظام الاقتصادي في الإسلام ص 208.
إن هذا الزعم غير صحيح وهذا الجزم غير مقبول وترده الآيات التي ذكر فيها { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } ويراد بها غير الجهاد فمن ذلك قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } سورة التوبة الآية 34.
فالمراد بسبيل الله في الآية المعنى الأعم وليس الجهاد فقط وإلا لكان من أنفق ماله على الفقراء والمساكين واليتامى ونحوهم داخلاً ضمن الذين يكنزون وليس الأمر كذلك.
ومن ذلك قوله تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كلِّ سنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } سورة البقرة الآية 261.
ومن ذلك قوله تعالى: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } سورة البقرة الآية 262.
فهذه الآيات يفهم منها أن المراد { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } المعنى العام وليس المعنى الخاص.
وخلاصة الأمر جواز الصرف في المصالح العامة للمسلمين ولكن يجب التدقيق والنظر العميق قبل الصرف حتى نتحقق أن ما نصرفه من هذا السهم هو فعلاً من المصالح العامة للمسلمين.
- - -
دفع الزكاة للأقارب
صرف الزكاة لأِقارب المزكي فيه تفصيل عند أهل العلم أبينه فيما يلي:
أولاً: لا يجوز صرف الزكاة للوالدين باتفاق أهل العلم، نقل الشيخ ابن قدامة المقدسي عن ابن المنذر قوله:[أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا يجوز دفعها إلى الوالدين في الحال التي يجبر الدافع إليهم على النفقة، ولأن دفع زكاته إليهم تغنيهم عن نفقته وتسقطها عنه ويعود نفعها إليه، فكأنه دفعها إلى نفسه فلم تجز كما لو قضى بها دينه] المغني 2/282.
ثانياً: لا يجوز صرف الزكاة للأولاد ذكوراً وإناثاً، لأن أولاد الرجل جزء منه وهو ملزم بالإنفاق عليهم، ومن يدفع الزكاة لأولاده يكون كمن دفع المال إلى نفسه، انظر فقه الزكاة 2/781.
ثالثاً: لا يجوز للزوج أن يصرف الزكاة إلى زوجته، لأن نفقة الزوجة واجبة على زوجها باتفاق أهل العلم، قال ابن رشد القرطبي المالكي:[واتفقوا على أن من حقوق الزوجة على زوجها النفقة والكسوة، لقوله تعالى: { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } سورة البقرة الآية 233، ولما ثبت من قوله - صلى الله عليه وسلم -:(ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لهند زوجة أبي سفيان:(خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) بداية المجتهد 2/45. فإذا أعطى الزوج زكاة ماله لزوجته فقد دفع المال إلى نفسه.
رابعاً: يجوز للزوجة الغنية أن تدفع زكاة مالها الخاص بها لزوجها الفقير لأنه لا يجب على المرأة الإنفاق على زوجها الفقير.(/34)
ويدل على الجواز ما ورد في الحديث عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن قالت: فرجعت إلى عبد الله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد -أي فقير- وإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا بالصدقة فائته فاسأله، فإن كان ذلك يجزي عني، وإلا صرفتها لغيركم، قالت: فقال عبد الله: بل ائتيه أنت، قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجتي حاجتها ، قالت: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ألقيت عليه المهابة، قالت: فخرج علينا بلال فقلنا له: إئت رسول الله فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك: أتجزي الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما ولا تخبر من نحن قالت: فدخل بلال فسأله فقال له: من هما؟ فقال: امرأة من الأنصار وزينب فقال الرسول: أي الزيانب؟ فقال امرأة عبد الله فقال - صلى الله عليه وسلم - لهما أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة) متفق عليه.
وذهب إلى العمل بمقتضى هذا الحديث جمهور أهل العلم فقالوا: يجوز للزوجة أن تعطي زكاة مالها لزوجها.
خامساً: لا يجوز إعطاء الزكاة لبقية الأقارب الذين تجب نفقتهم على المزكي، وهناك خلاف بين أهل العلم في النفقة على الأقارب غير الأصول والفروع والزوجة، مثل الأخ أو الأخت والعم والعمة والخال والخالة وغيرهم.
والقول الراجح في ذلك هو: إن النفقة تجب على ذي الرحم الوارث، سواء ورث بفرض أو تعصيب أو برحم وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وبناء على ذلك لا يجوز أن يعطي الرجل زكاة ماله لمن وجبت عليه نفقته، فمثلاً أخرج المزكي زكاة ماله وله عمة وليس لها من ينفق عليها إلا المزكي المذكور، فلا يجوز أن يعطيها من زكاة ماله.
وهذا الأساس الذي بني عليه الحكم في المنع من إعطاء الزكاة للأقارب إذا كانت النفقة واجبة على المزكي ، قال به جماعة من أهل العلم من السلف والخلف فمن ذلك ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده عن أبي حفصة قال:(سألت سعيد بن جبير عن الخالة تعطى من الزكاة فقال: ما لم يغلق عليكم باباً) المصنف 3/192، -أي ما لم يضمها إلى عياله-.
سادساً: إن لم تكن نفقة القريب واجبة على المزكي، فيجوز إعطاؤه من الزكاة، فيجوز إعطاء عمك وخالك وعمتك وخالتك وأختك المتزوجة وأخيك وابن أخيك وابن أختك وزوج أختك ونحوهم إن كانوا فقراء، ولم تكن ملزماً بالإنفاق عليهم، بل هؤلاء الأقارب في هذه الحالة أولى بالزكاة من غيرهم، وللمزكي إن أعطى الزكاة لأقاربه أجران أجر الصدقة وأجر الصلة، لما ثبت في الحديث عن سلمان بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة) رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن، ورواه الحاكم وقال: إسناده صحيح ووافقه الذهبي وحسنه العلامة الألباني في إرواء الغليل 3/387.
سابعاً: يجوز إعطاء الزكاة للبنت المتزوجة من فقير، لأن نفقة البنت بعد زواجها واجبة على زوجها لا على أبيها.
ثامناً: يجوز قضاء ديون الأقارب من الزكاة، حتى وإن وجبت نفقتهم على المزكي فيجوز قضاء ديْن الأب وديْن الأم ودين الابن ودين البنت وغيرهم من الأقارب، بشرط أن لا يكون سبب هذا الدَّين تحصيل نفقة واجبة على المزكي، لأن ديون الأقارب بما فيها ديون الوالدين والأولاد لا يجب شرعاً على المرء أن يؤديها عنهم، فيجوز قضاء الدَّين عنهم من الزكاة لأنهم يعتبرون هنا في هذه الحالة من الغارمين فهم يستحقون الزكاة هنا بوصف لا تأثير للقرابة فيه.
- - -
حكم أخذ غير المستحق من أموال الزكاة
يقول الله سبحانه وتعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } سورة التوبة الآية 60.
وقد أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا تصرف إلا في المصارف الثمانية المذكورة في الآية الكريمة ولا حق لأحد من الناس فيها سواهم ولهذا قال عمر بن الخطاب :[هذه لهؤلاء].
وقد روي في الحديث عن زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعته -وذكر حديثاً طويلاً- فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(إن الله لم يرضَ بحكم نبي ولا غيره في الصدقة حتى حكم هو فيها فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت في تلك الأجزاء أعطيتك حقك) رواه أبو داود والبيهقي والدار قطني وفي سنده ضعف.(/35)
وقد طعن بعض الناس في تقسيم النبي - صلى الله عليه وسلم - للزكاة وكانوا طامعين فيها مع أنهم ليسوا من أهلها فنعى الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } سورة التوبة الآيات 58-60.
إذا تقرر هذا فإن العلماء قد بينوا أصناف الذين لا يستحقون الزكاة ولا يجوز صرفها لهم وهم على وجه الإجمال: الأغنياء والأقوياء المتكسبون والمتفرغون للعبادة وأصول المزكي وفروعه وزوجته وآل النبي - صلى الله عليه وسلم - والكفار والملاحدة هذا بشكل عام، وهناك غيرهم اختلف الفقهاء في إعطائهم وسأقتصر هنا على الحديث عن القسمين الأولين.
أما الأغنياء فلا تحل لهم الزكاة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال لمعاذ - رضي الله عنه - في الحديث:(أعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي) رواه أصحاب السنن وهو حديث صحيح صححه العلامة الألباني وغيره. انظر صحيح سنن أبي داود 1/308.
وعن عبيد الله بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألاه عن الصدقة فصعد فيهما وصوب فقال:(إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب) رواه أبو داود والنسائي وهو حديث صحيح صححه العلامة الألباني وغيره. انظر صحيح سنن أبي داود 1/307.
والغني الذي لا تحل له الزكاة هو من ملك نصاباً زائداً عن حاجته الأصلية وتحققت فيه شروط وجوب الزكاة وهذا أرجح أقوال العلماء في حد الغنى المانع من أخذ الزكاة حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بين أن الزكاة تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء ومن ملك نصاباً وتحققت فيه الشروط الشرعية لوجوب الزكاة فعليه أداؤها فهو غني وغير فقير قال القرطبي عند ذكر اختلاف العلماء في حد الفقر:[وقال أبو حنيفة: من معه عشرون ديناراً أو مئتا درهم فلا يأخذ من الزكاة، فاعتبر النصاب لقوله - صلى الله عليه وسلم -:(أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردّها في فقرائكم) وهذا واضح ورواه المغيرة عن مالك] تفسير القرطبي 8/171-172.
وأما القوي المكتسب فلا تحل له الزكاة، والقوي المكتسب هو من كان صحيحاً في بدنه ويجد عملاً يكتسب منه ما يسد حاجته فهذا لا يعطى من الزكاة لأن الواجب عليه أن يعمل ويكسب ليكفي نفسه وعياله ولا يجوز أن يكون عاطلاً عن العمل باختياره ويمد يده ليأخذ من أموال الزكاة وهذا مذهب جمهور أهل العلم. انظر المجموع 6/228.
وعلى ذلك دلت الأدلة كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -:(لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي) وهذا الحديث وإن كان قد ورد في ذي المرة السوي مطلقاً إلا أنه مقيد بالحديث الآخر وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -:(ولا حظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب) وهو حديث صحيح كما سبق. قال الإمام النووي:[من يكسب كل يوم كفايته لا يجوز له أخذ الزكاة] روضة الطالبين 2/310.
وقال الإمام البغوي بعد أن ذكر الحديث:[فيه دليل على أن القوي المكتسب الذي يغنيه كسبه لا يحل له الزكاة ولم يعتبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ظاهر القوة دون أن يضم إليه الكسب لأن الرجل قد يكون ظاهر القوة غير أنه أخرق لا كسب له فتحل له الزكاة وإذا رأى الإمام السائل جلداً قوياً شك في أمره وأنذره وأخبره بالأمر كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن زعم أنه لا كسب له أو له عيال لا يقوم كسبه بكفايتهم قبل منه وأعطاه] شرح السنة 6/81-82.
فإذا لم يجد الكسوب عملاً حلت له الزكاة قال الإمام النووي:[قال أصحابنا وإذا لم يجد الكسوب من يستعمله حلت له الزكاة]. المجموع 6/191.
وقال د. يوسف القرضاوي:[والخلاصة أن القادر على الكسب الذي يحرم عليه الزكاة هو الذي تتوافر فيه الشروط التالية:
1. أن يجد العمل الذي يكتسب منه.
2. أن يكون هذا العمل حلالاً شرعاً فإن العمل المحظور في الشرع بمنزلة المعدوم.
3. أن يقدر عليه من غير مشقة شديدة فوق المحتمل عادةً.
4. أن يكون ملائماً لمثله ولائقاً بحاله ومركزه ومروءته ومنزلته الاجتماعية.
5. أن يكتسب منه قدر ما تتم به كفايته وكفاية من يعولهم.(/36)
ومعنى هذا أن كل قادر على الكسب مطلوب منه شرعاً أن يكفي نفسه بنفسه وأن المجتمع بعامة -وولي الأمر بخاصة- مطلوب منه أن يعينه على هذا الأمر الذي هو حق له وواجب عليه. فمن كان عاجزاً عن الكسب -لضعف ذاتي كالصغر والعته والشيخوخة والعاهة والمرض أو كان قادراً ولم يجد باباً حلالاً للكسب يليق بمثله أو وجد ولكن كان دخله من كسبه لا يكفيه وعائلته أو يكفيه بعض الكفاية دون تمامها- فقد حل له الأخذ من الزكاة ولا حرج عليه في دين الله] فقه الزكاة 2/559-560.
- - -
تحديد ربح التجار
إن المتتبع لآيات القرآن الكريم ولأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يجد أنها حددت مقدار أرباحهم بل جعلت ذلك حسب ظروف التجارة والسماحة والتيسير وعدم الاستغلال.
وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على جواز أن يربح التاجر ضعف ثمن البضاعة فقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام البخاري بإسناده عن شبيب بن غرقدة، قال:(سمعت الحي يحدثون عن عروة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه ديناراً يشتري له به شاة فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة فدعا له بالبركة في بيعه وكان لو اشترى التراب أربح فيه) وقول الراوي في الحديث: سمعت الحي أي قبيلته، كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 7/445.
وقد ورد هذا الحديث براوية أطول عند الإمام أحمد في مسنده عن عروة بن الجعد البارقي - رضي الله عنه - قال:(عرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - جلب فأعطاني ديناراً، وقال: أي عروة إئت الجلب فاشتر لنا شاة فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت منه شاتين بدينار فجئت أسوقهما فلقيني رجل فساومني فأبيعه شاة بدينار فجئت بالدينار وجئت بالشاة فقلت: يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتكم. قال: وصنعت كيف؟ قال فحدثته الحديث. فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه، فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة أي سوقها فأربح أربعين ألفاً قبل أن أصل إلى أهلي وكان يشتري الجواري ويبيع) الفتح الرباني 15/20.
ففي هذا الحديث نجد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أقر عروة على بيعه الشاة بدينار مع أنه اشتراها بنصف دينار فقد ربح فيها ما نسبته 100% فهذا يدل على جواز أن يربح التجار هذه النسبة بشرط أن لا يكون في البيع غش أو خداع أو احتكار أو غبن فاحش. فالتاجر المسلم الملتزم بدينه لا يتعامل بهذه الطرق غير المشروعة.
وقد ناقش مجمع الفقه الإسلامي مسألة تحديد أرباح التجار وقرر ما يلي:
أولاً: الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحراراً في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها عملاً بمطلق قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } سورة النساء الآية 29.
ثانياً: ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة وظروف التاجر والسلع مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والسماحة والتيسير.
ثالثاً: تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته كالغش والخديعة والتدليس والاستغفال وتزييف حقيقة الربح والاحتكار الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة.
رابعاً: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللاً واضحاً في السوق والأسعار ناشئاً من عوامل مصطنعة فإن لولي الأمر حينئذ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش.
- - -
العربون في البيع جائز
بيع العربون هو أن يبيع الإنسان الشيء ويأخذ من المشتري مبلغاً من المال يسمى عربوناً لتوثيق الارتباط بينهما على أساس أن المشتري إذا قام بتنفيذ عقده احتسب العربون من الثمن، وإن نكل كان العربون للبائع. المدخل الفقهي 1/495.
وقد اختلف فيه الفقهاء، فجمهور الفقهاء على أنه غير صحيح، لما روي في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:(نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع العربان) رواه أحمد والنسائي وأبو داود ومالك، وهذا الحديث ضعيف. قال الحافظ ابن حجر:[وفيه راوٍ لم يسمَّ، وسُمِّي في رواية لابن ماجة ضعيفه عبد الله بن عامر الأسلمي وقيل هو ابن لهيعة وهما ضعيفان] التلخيص الحبير3/17، وضعف العلامة الألباني الحديث في تخريجه للمشكاة 2/866.(/37)
وأجاز الحنابلة بيع العربون وروي القول بصحة بيع العربون عن عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهما، وقال به محمد بن سيرين وسعيد بن المسيب، وقد ضعف الإمام أحمد الحديث الوارد في النهي عن بيع العربون، واحتج لصحته بما ورد عن نافع بن عبد الحارث (أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم فإن رضي عمر كان البيع نافذاً وإن لم يرض فلصفوان أربعمئة درهم، قال الأثرم: قلت لأحمد: تذهب إليه؟ قال: أي شيء أقول؟ هذا عمر - رضي الله عنه -، وضعّف الحديث المروي) المغني 4/176.
واحتجوا على صحته بما رواه عبد الرزاق في المصنف، عن زيد ابن أسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(سئل عن بيع العربان فأحله)، ولكنه مرسل وفيه ضعيف كما قال الشوكاني في نيل الأوطار 5/173.
والقول بصحة بيع العربون هو أرجح القولين في المسألة لما في ذلك من تحقيق مصالح العباد وخاصة أنه لم يثبت النهي عن بيع العربون عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ومن المعلوم أن طريقة العربون، هي وثيقة الارتباط العامة في التعامل التجاري في العصور الحديثة، وتعتمدها قوانين التجارة وعرفها، وهي أساس لطريقة التعهد بتعويض ضرر الغير عن التعطل والإنتظار.
وقد أيد ذلك ابن القيم رحمه الله بما رواه البخاري في صحيحه في باب ما يجوز من الاشتراط، عن ابن عون عن ابن سيرين أنه قال:( قال رجل لكرّيه: أرحل ركابك فان لم أرحل معك في يوم كذا، فلك مئة درهم، فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه) المدخل الفقهي 1/495 -496، والكرّي هو المكاري الذي يؤجر الدواب للسفر، وأرحل ركابك، أي شدّ على دوابك رحالها استعداداً للسفر.
وبناءً على ما تقدم، يجوز أخذ العربون إن تراجع المشتري عن الصفقة. وإن كنت أفضل أن يعاد العربون لصاحبه خروجاً من الخلاف ورحمة بالناس.
ومدة العربون ترجع إلى ما تعارف عليه الناس حيث لم يرد في الشرع تحديد لمدة العربون وما لم يرد له تحديد في الشرع فالمرجع في تحديده العرف.
- - -
تسمية الثمن في البيع شرط لصحته
لا يصح البيع بدون ذكر الثمن عند العقد لأن ذلك من بيع الغرر؛ وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر) رواه مسلم. ويدخل في الغرر الجهل بالثمن فإن الجهل بالثمن أو عدم معلومية الثمن تفضي إلى النزاع والخلاف بين المتعاقدين وكذلك فإنها جهالة مفضية إلى بطلان العقد حيث إن معرفة مقدار الثمن شرط من شروط صحة البيع عند جمهور الفقهاء. قال الشيخ أبو إسحق الشيرازي في المهذب:[ولا يجوز إلا بثمن معلوم القدر فإن باع بثمن مجهول كبيع السلعة برقمها وبيع السلعة بما باع فلان سلعته وهما لا يعلمان ذلك فالبيع باطل لأنه عوض فلم يجز مع الجهل بقدره كالمسلم فيه] المهذب مع المجموع 9/332.
وقال الإمام النووي:[يشترط في صحة البيع أن يذكر الثمن في حال العقد فيقول: بعتكه بكذا، فإن قال: بعتك هذا واقتصر على هذا فقال المخاطب: اشتريت أو قبلت لم يكن هذا بيعاً بلا خلاف ولا يحصل به الملك للقابل على المذهب وبه قطع الجمهور] المجموع 9/171.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[… لأن العلم بالثمن شرط لصحة البيع فلا يثبت بدونه] المغني 4/144.
وذكر المرداوي الحنبلي من شروط صحة البيع:[أن يكون الثمن معلوماً] الإنصاف 4/309.
وجاء في المادة 237 من مجلة الأحكام العدلية:[تسمية الثمن حين البيع لازمة فلو باع بدون تسمية ثمن كان البيع فاسداً]. وجاء في المادة 238 من مجلة الأحكام العدلية: يلزم أن يكون الثمن معلوماً والعلم بالثمن (1) العلم بقدره (2) العلم بوصفه صراحةً أو عرفاً، وكذلك إذا كان الثمن يحتاج حمله إلى نفقة وجب العلم بمكان التسليم وكل ذلك لازم لئلا يفسد البيع فإن الجهل بالثمن مؤد إلى النزاع فإذا كان الثمن مجهولاً فالبيع فاسد ويفهم من لفظتي (قدراً، وصفاً) أن الثمن يجب أن يكون معلوماً وصفاً كأن يقال: دينار سوري أو مصري أو إنكليزي (ابن عابدين على البحر) والمسائل التي تتفرع عن هذه المادة هي: 1. إذا قال إنسان لآخر: بعتك هذا المال برأس ماله أو بقيمته الحقيقية أو بالقيمة التي يقدرها المخمنون أو بالثمن الذي شرى به فلان فإذا لم تقدر القيمة ويعين ثمن المبيع في المجلس فالبيع فاسد ما لم يكن المبيع مما لا تتفاوت قيمته كالخبز] درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1/217 -218.
وكلامه في أن البيع فاسد لا باطل بناءً على أصل الحنفية في التفريق بين الباطل والفاسد حيث إن الحنفية يفرقون بينهما في المعاملات فالباطل عندهم ما كان الخلل واقعاً فيه في أصل العقد والفاسد ما كان الخلل واقعاً في صفة العقد وهذا التفريق عند الحنفية تفريق عملي لا نظري.
وخلاصة الأمر أن البيع بدون ذكر الثمن بيع باطل لا تترتب عليه آثاره شرعاً كما هو مذهب جمهور أهل العلم وبهذه المناسبة أودُّ التنبيه على أنواع من المخالفات التي تقع في البيع والشراء ويتعامل بها بعض التجار فمن ذلك الصور التالية:(/38)
الصورة الأولى: هنالك من يشتري سلعة بثمن معلوم ولكنه مؤجل لمدة شهرين أو ستة أشهر أو نحو ذلك ويتم الاتفاق بين البائع والمشتري على أنه إن بقي سعر السلعة في السوق كما تم عليه الاتفاق في يوم البيع فإن المشتري إذا حلَّ الأجل دفع الثمن حسب الاتفاق السابق وأما إن طرأ ارتفاع على الأسعار فإنه يدفع الثمن حسب السعر الجديد عندما يحل الأجل فهذه المعاملة معاملة ربوية محرمة شرعاً لأن الثمن إذا استقر في ذمة المشتري فأي زيادة تلحق الثمن بعد ذلك تكون زيادة ربوية محرمة شرعاً.
وقد قرر الفقهاء أن ثمن السلعة المؤجل إنما هو دين استقر في ذمة المشتري والأصل في الديون أن تقضى كما استقرت في الذمة بدون زيادة.
الصورة الثانية : إذا اشترى شخص سلعة إلى أجل بالشيكل فإن المتعاقدين يتفقان على أن يتم السداد بالدينار الأردني.
وهذه الصورة لا تجوز شرعاً لأن الدَّيْن إذا استقر في الذمة بعملة معينة فيجب قضاؤه بنفس تلك العملة ولا يجوز أن يسجل في ذمة المدين بعملة أخرى.
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 79/6/8 ما يلي:[رابعاً: الدَّين الحاصل بعملة معينة لا يجوز الاتفاق على تسجيله في ذمة المدين بما يعادل قيمة تلك العملة من الذهب أو من عملة أخرى على معنى أن يلتزم المدين بأداء الدَّين بالذهب أو العملة الأخرى المتفق على الأداء بها] مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد 8، ج3/788.
الحالة الثالثة: إذا اشترى شخص سلعة بالشيكل ثم ماطل في سداد الثمن فإن البائع يقوم بتحويل السعر إلى الدينار الأردني فهذه الصورة شبيهة بالصورة السابقة إلا أن تحويل الدَّين هذا تم بإرادة البائع منفرداً وهذه الصورة لا تجوز شرعاً لما ذكرته فيما سبق.
معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( لا تبع ما ليس عندك )
هذا الحديث ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من رواية حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال:(سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يأتيني الرجل فيسألني من البيع ما ليس عندي أبتاع له من السوق ثم أبيعه؟ قال: لا تبع ما ليس عندك) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقال العلامة الألباني: صحيح. انظر إرواء الغليل 5/132. وفي رواية أخرى عند الترمذي عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال:(نهاني رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أن أبيع ما ليس عندي). وقال الترمذي:[والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم كرهوا أن يبيع الرجل ما ليس عنده] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/363.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح. سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/361.
وهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز أن يبيع المسلم ما ليس عنده أي ما ليس في ملكه عند العقد قال المباركفوري:[وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -:(لا تبع ما ليس عندك) دليل على تحريم بيع ما ليس في ملك الإنسان ولا داخلاً تحت قدرته] تحفة الأحوذي 4/360.
وقد جعل الفقهاء من شروط صحة عقد البيع أن يكون المبيع موجوداً حين العقد وأن يكون في ملك البائع ولم يجيزوا بيع المعدوم كبيع ما تنتجه الحيوانات وبيع ما في ملك جاره أو صديقه لأنه غير مملوك للبائع وقد استثني من هذا الأصل بيع السلم وألحق به عقد الاستصناع.
قال الإمام البغوي في شرح حديث (لا تبع ما ليس عندك) :[هذا في بيوع الأعيان دون بيوع الصفات فلو قبل السلم في شيء موصوف عام الوجود عند المحل المشروط يجوز وإن لم يكن في ملكه حال العقد] شرح السنة 8/141.
وقال الشوكاني:[وظاهر النهي تحريم ما لم يكن في ملك الإنسان ولا داخلاً تحت مقدرته وقد استثني من ذلك السلم فتكون أدلة جوازه مخصصة لهذا العموم] نيل الأوطار 5/175.
ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن المنذر قوله:[وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين أحدهما: أن يقول: أبيعك عبداً أو داراً معينة وهي غائبة فيشبه بيع الغرر لاحتمال أن تتلف أو لا يرضاها. وثانيهما: أن يقول: هذه الدار بكذا على أن أشتريها لك من صاحبها أو على أن يسلمها لك صاحبها وقصة حكيم موافقة للاحتمال الثاني] فتح الباري 4/441.
وبيع السلم الذي استثناه العلماء من بيع ما ليس عند الإنسان هو بيع آجل بعاجل أو هو بيع موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلاً.
ومثال ذلك أن يبيع المزارع ألف كيلو غرام من الزيتون بسعر خمسة آلاف شيكل يقبضها عند العقد على أن يسلم كمية الزيتون بعد أربعة أشهر مثلاً وعقد السلم مشروع باتفاق العلماء وقد دل على مشروعيته الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم. قال الله تعالى: { يَاأ َيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } سورة البقرة الآية 282. وقال ابن عباس : هذه الآية نزلت في السلَّم خاصة . تفسير القرطبي 3/377 .(/39)
وصح في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) رواه البخاري ومسلم.
وعقد السلم من العقود التي تعطي مرونة كبيرة للاقتصاد الإسلامي وتفتح مجالاً رحباً في الزراعة والصناعة فالمزارع يبيع إنتاجه الزراعي مقدماً وكذا صاحب المصنع يبيع إنتاجه ويحصل على ثمنه مقدماً على أن يسلمه في مدة لاحقة متفق عليها وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المتعلق بالسلم وتطبيقاته المعاصرة ما يلي:[يعد السلم في عصرنا الحاضر أداة تمويل ذات كفاءة عالية في الاقتصاد الإسلامي وفي نشاطات المصارف الإسلامية من حيث مرونتها واستجابتها لحاجات التمويل المختلفة سواء أكان تمويلاً قصير الأجل أم متوسطه أم طويله واستجابتها لحاجات شرائح مختلفة ومتعددة من العملاء سواء أكانوا من المنتجين الزراعيين أم الصناعيين أم المقاولين أم من التجار واستجابتها لتمويل نفقات التشغيل والنفقات الرأسمالية الأخرى . ولهذا تعددت مجالات تطبيق عقد السلم ومنها ما يلي:
أ. يصلح عقد السلم لتمويل عمليات زراعية مختلفة حيث يتعامل المصرف الإسلامي مع المزارعين الذين يتوقع أن توجد لديهم السلعة في الموسم من محاصيلهم أو محاصيل غيرهم التي يمكن أن يشتروها ويسلموها إذا أخفقوا في التسليم من محاصيلهم فيقدم لهم بهذا التمويل نفعاً بالغاً ويدفع عنهم مشقة العجز المالي عن تحقيق إنتاجهم.
ب. يمكن استخدام عقد السلم في تمويل النشاط الزراعي والصناعي ولا سيما تمويل المراحل السابقة لإنتاج وتصدير السلع والمنتجات الرائجة وذلك بشرائها سلماً وإعادة تسويقها بأسعار مجزية.
ج. يمكن تطبيق عقد السلم في تمويل الحرفيين وصغار المنتجين الزراعيين والصناعيين عن طريق إمدادهم بمستلزمات الإنتاج في صورة معدات وآلات أو مواد أولية كرأس مال سلم مقابل الحصول على بعض منتجاتهم وإعادة تسويقها] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 9 ج1 ص663-665.
وأما عقد الاستصناع الذي استثناه العلماء أيضاً من بيع ما ليس عند الإنسان فهو فرع من عقد السلم عند جمهور أهل العلم وهو عقد مع صانع على عمل شيء معين في الذمة كمن يطلب من نجار أن يصنع له خزانة بأوصاف معينة بثمن معين.
وعقد الاستصناع عقد مشروع فقد صح (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استصنع خاتماً) رواه البخاري. وعقد الاستصناع أيضاً يفتح آفاقاً واسعة في الاقتصاد الإسلامي يقول الشيخ العلامة مصطفى الزرقا:[إن عقد الاستصناع لا يجري في المنتوجات الطبيعة التي لا تدخلها الصنعة كالبقول والفواكه واللحوم الطازجة واللبن والقمح وسائر الحبوب… إلخ فهذه السلع الطبيعية طريق بيع غير الموجود منها وقت العقد إنما هو السلم فلا يجري الاستصناع إلا فيما تدخله الصنعة كالأمثلة السابقة البيان. واليوم قد وجدت صناعة التعليب لهذه المنتوجات الطبيعية وصناعة تجميدها أيضاً لتحفظ معلبة أو مجمدة مثلجة في علب أو أكياس البلاستيك فهل تنتقل بذلك من زمرة المنتوجات الطبيعية إلى زمرة المصنعات فيصح فيها عقد الاستصناع ويجوز التعاقد مع معمل التعليب على أن يقوم بتعليب الكميات المطلوبة من كل نوع بمواصفات معينة.
لا شك في كون الجواب إيجابياً لأنها انتقلت بهذا العمل الصناعي إلى زمرة المصنعات ويدخل في ذلك الأسماك واللحوم والخضروات وسواها. بطريق الاستصناع يمكن إقامة المباني على أرض مملوكة للمستصنع بعقد مقاولة فإذا كان عقد المقاولة يقوم على أساس أن المقاول هو الذي يأتي بمواد البناء ويتحمل جميع تكاليفه ويسلمه جاهزاً على المفتاح فهذا يمكن أن يعتبر استصناعاً] عقد الاستصناع ومدى أهميته ص24 نقلاً عن البيوع الشائعة ص177.
وبعد هذا الكلام ترى أن العلماء قد منعوا بيع ما ليس عند الإنسان واستثنوا من ذلك بيع السلم وعقد الاستصناع مع أن كلاً منهما عقد على غير مملوك للإنسان عند العقد.
وأود أن أنبه إلى أن بعض الناس قد أدخل تحت النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان صوراً من التعامل الصحيحة الجائزة وزعموا أنها محرمة فمن ذلك:
بيع المرابحة للآمر بالشراء الذي تتعامل به المصارف الإسلامية وإدخال بيع المرابحة المذكور تحت بيع ما ليس عندك غير صحيح وتجنٍ على المصارف الإسلامية لأن المعروف أن المصارف الإسلامية عندما تتعامل ببيع المرابحة للآمر بالشراء فإنها لا تبيع السلعة للآمر بالشراء إلا بعد أن يتملك المصرف الإسلامي السلعة تملكاً تاماً وقد جاء في قرارات مؤتمر المصرف الإسلامي ما يلي:[يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد تملك السلعة المشتراة وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الموعد السابق هو أمر جائز شرعاً طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسؤولية الهلاك قبل التسليم وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي] بيع المرابحة للآمر بالشراء ص60.(/40)
فإذا اتفق شخص مع آخر على أن يشتري له سلعة وصفها له واتفقا على ثمنها وأن ثمنها سيكون على أقساط مؤجلة وتم الوعد بينهما على ذلك ولكن العقد لم يجر بينهما إلا بعد تملك الأول للسلعة فالعقد صحيح وهذه المعاملة غير داخلة في بيع ما ليس عند الإنسان.
ومن الصور التي زعم بعض الناس دخولها تحت بيع ما ليس عندك ما تعارف عليه الناس قديماً وحديثاً مما يسميه الناس (التفصيل) يقولون فلان فصَّل غرفة نوم وفلان فصَّل بدلة، وهذا في الحقيقة هو عقد استصناع وهو عقد صحيح إذا تم وفق ما قرره الفقهاء.
ومن الصور التي زعم بعض الناس أنها تدخل في بيع ما ليس عندك شراء سيارة جديدة من وكالة السيارات والسيارة ليست موجودة لدى الوكالة وإنما ما زالت في بلد الإنتاج، وهذا الزعم باطل لأنه عندما يتم بيع سيارة بالطريقة السابقة فإن جميع التفاصيل تكون مبينة وواضحة فيما يسمى بكتالوج السيارة بل إن أدق التفاصيل تكون مذكورة فيه فهذا العقد صحيح ولا يدخل تحت بيع ما ليس عند الإنسان بل هو من صور السلم.
ومن الصور الجائزة في البيع أيضاً وغير داخلة في بيع ما ليس عند الإنسان بيع عمارة أو شقة على الخارطة إذا كانت الأوصاف مبينة وواضحة فهذه الصورة لا بأس بها أيضاً وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المتعلق بالتمويل العقاري لبناء المساكن ما يلي:[ إن تملك المساكن عن طريق عقد الاستصناع –على أساس اعتباره لازماً– وبذلك يتم شراء المسكن قبل بنائه بحسب الوصف الدقيق المزيل للجهالة المؤدية للنزاع دون وجوب تعجيل جميع الثمن بل يجوز تأجيله بأقساط يتفق عليها مع مراعاة الشروط والأحوال المقررة لعقد الاستصناع لدى الفقهاء الذين ميزوه عن عقد السلم] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 6، ج 1/188.
- - -
البيع بالتقسيط
البيع بالتقسيط جائز شرعاً ولا مانع منه ويدل على ذلك قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ } سورة البقرة الآية 282. وكذلك ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال رسول الله: من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم ) رواه البخاري ومسلم.
وثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت:( اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يهودي طعاماً بنسيئة إلى أجل ورهنه درعاً من حديد) رواه البخاري ومسلم.
وليس في بيع التقسيط رباً وليس فيه غرر ما دام العاقدان قد بتَّا البيع فإذا قال البائع للمشتري: أبيعك هذه السلعة بألف دينار حالَّة وبألف ومئة مؤجلة فقال المشتري: اشتريها بألف ومئة مؤجلة فالعقد صحيح ولا مانع منه وزيادة المئة ليست من الربا المحرم فالصورة المذكورة جائزة. وأما إذا قال المشتري: قبلت ولم يحدد ما الذي قبله، هل هو الثمن الحالّ أم الثمن المؤجل؟ فلا يجوز ذلك ويعتبر العقد باطلاً لأنه بيعتين في بيعة حيث إنه لم يجزم ببيع واحد.
والبيع بالتقسيط فيه توسعة على الناس فالبائع يزيد مبيعاته والمشتري يستطيع الحصول على السلعة دون أن يكون لديه الثمن حالاً بل يسدد ثمنها على أقساط.
وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي مسألة بيع التقسيط وقرر جوازه مع مراعاة ما يلي:
1. تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحال، كما يجوز ذكر ثمن المبيع نقداً وثمنه بالأقساط لمدد معلومة ولا يصح البيع إلا إذا جزم العاقدان بالنقد أو التأجيل. فإن وقع البيع مع التردد بين النقد والتأجيل بأن لم يحصل الاتفاق الجازم على ثمن محدد فهو غير جائز شرعاً.
2.لا يجوز شرعاً في بيع الأجل التنصيص في العقد على فوائد التقسيط مفصولة عن الثمن الحال بحيث ترتبط بالأجل سواء اتفق العاقدان على نسبة الفائدة أم ربطاها بالفائدة السائدة.
3.إذا تأخر المشتري المدين في دفع القسط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدَّين بشرط سابق أو بدون شرط لأن ذلك ربا محرم.
4.يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حلَّ من الأقساط ومع ذلك لا يجوز شرعاً اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء.
5. يجوز شرعاً أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها عند تأخر المدين عن أداء بعضها ما دام المدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد.
6. لا حق للبائع في الاحتفاظ بالمبيع بعد البيع ولكن يجوز للبائع أن يشترط على المشتري رهن المبيع عنده لضمان حقه في استيفاء الأقساط المؤجلة.
- - -
بيع الجزاف
بيع الجزاف اصطلاحاً: هو بيع ما يكال, أو يوزن, أو يُعد, جملةً بلا كيلٍ ولا وزنٍ, ولا عدٍ. ومثاله شراء كومة بطيخ أو حمولة سيارة من العنب ونحو ذلك.(/41)
وجمهور الفقهاء على جواز بيع الجزاف في الجملة مع أن الأصل أن من شرط صحة عقد البيع أن يكون المبيع معلوماً, ولكن لا يشترط العلم به من كل وجه, بل يشترط العلم بعين المبيع وقدره وصفته, وفي بيع الجزاف يحصل العلم بالقدر, كبيع صبرة – كومة - طعام, دون معرفة كيلها أو وزنها, وبيع قطيع الماشية دون معرفة عدده, وبيع الأرض دون معرفة مساحتها، وبيع الثوب دون معرفة طوله.
وبيع الجزاف استثني من الأصل لحاجة الناس واضطرارهم إليه، بما يقتضي التسهيل في التعامل. قال الدسوقي المالكي: الأصل في بيع الجزاف منعه, ولكنه خفف فيما شق علمه من المعدود, أو قلَّ جهله في المكيل والموزون. وقد اشترط أهل العلم لجواز بيع الجزاف عدة شروط أهمها:
الأول: أن يرى المشتري المبيع جزافاً حال العقد، أو قبله إذا استمر على حاله إلى وقت العقد دون تغيير.
الثاني: أن يجهل المتبايعان معاً قدر الكيل أو الوزن أو العدد فإن كان أحدهما يعلم عددها فلا يصح.
الثالث: أن يحزرا ويقدرا قدره عند إرادة العقد عليه.
الرابع: ألا يكون ما يراد بيعه جزافاً كثيراً جداً، لتعذر تقديره... ولا قليلاً جداً، لأنه لا مشقة في معرفة قدره بالعد.
ودليل جواز بيع الجزاف ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(لقد رأيت الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتاعون جزافاً يعني الطعام يُضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم) رواه البخاري ومسلم.
وعن سالم بن عبد الله أن أباه - رضي الله عنه - قال (قد رأيت الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ابتاعوا الطعام جزافا يضربون في أن يبيعوه في مكانهم وذلك حتى يؤووه إلى رحالهم) رواه مسلم، وفي رواية أخرى عند مسلم. قال ابن شهاب وحدثني عبيد الله بن عبد الله بن عمر أن (أباه كان يشتري الطعام جزافاً فيحمله إلى أهله).
وهذه الروايات تدل على أن جواز بيع الجزاف لأنه وقع من الصحابة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقرهم على ذلك ولم ينكر عليهم. انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 9/72-73 بتصرف وزيادة.
- - -
السمسرة وأجرة السمسار في البيع وغيره
الوساطة التجارية أو السمسرة أو الدلالة من الأمور المشهورة والمتعارف عليها ويتعامل بها الناس منذ عهد بعيد وهي مشروعة وجائزة.
وقد ورد في الحديث عن قيس بن أبي غرزة - رضي الله عنه - قال:(كنا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسمَّى السماسرة فمر بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمانا باسم هو أحسن منه. فقال: يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة - أي اخلطوه - ) رواه أبو داود وسكت عنه وقال العلامة الألباني: صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود 2/640.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد) - قال طاووس راوي الحديث- فقلت لابن عباس: ما قوله (لا يبع حاضر لباد) قال: لا يكون له سمساراً) رواه البخاري ومسلم.
وقال الإمام البخاري في صحيحه:[ باب أجرة السمسرة ولم يرَ ابن سيرين وعطاء وإبراهيم والحسن بأجر السمسار بأساً. وقال ابن عباس: لا بأس أن يقول بع هذا الثوب فما زاد على كذا وكذا فهو لك. وقال ابن سيرين: إذا قال له بعه بكذا فما كان من ربح فهو لك أو بيني وبينك فلا بأس به.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(المسلمون عند شروطهم). ثم ساق الإمام البخاري حديث ابن عباس السابق] صحيح البخاري مع الفتح 5/357-358.
وينبغي أن تكون أجرة السمسار معلومة باتفاق الفقهاء حتى لا يقع أي نزاع فيما بعد. ويصح أن تكون الأجرة مبلغاً مقطوعاً كعشرة دنانير مثلاً ويجوز أن تكون الأجرة نسبة مئوية كأن يقول شخص لسمسار: بع لي هذه الأرض ولك 1% من ثمنها مقابل سعيك وسمسرتك.
وأما أخذ السمسار أجرة من البائع والمشتري فلا بأس به إذا كان مشروطاً أو جرى العرف بذلك فمثلاً لو قال شخص لسمسار: بع لي هذه العمارة ولك 1% من ثمنها. وقال شخص آخر لنفس السمسار اشتر لي تلك العمارة ولك 1% من ثمنها فيجوز ذلك ولا بأس به.
لأن الشرط المذكور شرط جائز ينبغي الوفاء به وقد ورد في الحديث الشريف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(المسلمون عند شروطهم) رواه أبو داود وابن حبان والحاكم وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/143.
وأخيراً ينبغي التنبيه على أن السمسرة من الأمور المهمة في عالم التجارة ولكن يجب على السماسرة أن يتقوا الله سبحانه وتعالى في أعمالهم وأن يبتعدوا عن التغرير والتدليس والغش ليكون كسبهم حلالاً طيباً وقد ثبت في الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال:(من غشناً فليس منا) رواه مسلم.(/42)
وعلى السماسرة ألا يخدعوا الناس في معاملاتهم فيزينوا لهم شراء السلع والبضائع بأكثر من أسعارها الحقيقية أو يزينوا للبائعين أن يبيعوا بضائعهم بأبخس الأثمان فكل ذلك غير جائز شرعاً فلا يجوز إلحاق الضرر بالناس فلا ضَرَرَ ولا ضِرار.
- - -
الفرق بين البنوك الإسلامية والبنوك الربوية
يزعم بعض الناس أنه لا يوجد فرق بين البنوك الإسلامية وبين البنوك الربوية وهؤلاء يلقون الكلام جزافاً دون معرفة أو اطلاع على حقائق الأمور، وهذه المقولة يرددها كثير من الوعاظ والعامة وبعض المنتسبين إلى العلم الشرعي من أرباع المثقفين وليس من أنصافهم الذين ما عرفوا الأسس الشرعية التي تقوم عليها فكرة البنوك الإسلامية وما عرفوا كيفية تطبيق المعاملات في البنوك الإسلامية ومن جهل شيئاً عاداه وبعض هؤلاء المعادين لفكرة البنوك الإسلامية يرفضونها لأنهم يعتبرونها ترقيعاً ويظنون أنه عندما تقوم للمسلمين دولة سيضغط الخليفة على زر فتتحول البنوك الربوية إلى بنوك إسلامية في لحظة واحدة ولكن هؤلاء واهمون ومخطئون.
ولو سألت هؤلاء ما هو الحل لهذه المشكلة العظيمة التي يعاني منها العالم الإسلامي وهي هذا الطوفان الربوي الجارف فلا يحرون جواباً سديداً.
والغريب في مقولة المحاربين لفكرة البنوك الإسلامية أنهم يسوون بين الحلال والحرام دونما بصر أو بصيرة ودعواهم هذه قالها المشركون قديماً كما حكى الله سبحانه وتعالى قولهم: { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } وقد رد الله سبحانه وتعالى عليهم رداً قاطعاً واضحاً فقال جل جلاله: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } .
وأقول لهؤلاء هل درستم نظام المعاملات في الشريعة الإسلامية دراسة واعية ودرستم كيفية تطبيق البنوك الإسلامية لمعاملاتها قبل أن تلقوا الكلام على عواهنه.
إن الفكرة الأساسية التي تقوم عليها البنوك الإسلامية هي البعد عن الربا في جميع معاملاتها أخذاً وإعطاءً فكيف تسوون بينها وبين البنوك الربوية التي تقوم أكثر معاملاتها على الربا أخذاً وإعطاءً.
إن البنوك الإسلامية تعلن جهاراً نهاراً أنها لا تتعامل بالربا بجميع أشكاله وتنص أنظمتها ولوائحها الداخلية على ذلك ويأتي هؤلاء ويقولون إنه لا فرق بين البنوك الإسلامية والبنوك الربوية !!؟
إن خاصية البنوك الإسلامية في عدم التعامل بالربا هي الخاصية الأساسية التي يتميز بها البنك الإسلامي عن البنك الربوي لأن الربا كما هو معلوم محرم بالنصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، يقول الله سبحانه وتعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أثيم إن الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َفإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } سورة البقرة الآيات 275 - 279.
ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:(لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء) رواه مسلم.
يقول الدكتور غريب الجمال:[تشكل خاصية استبعاد الفوائد من معاملات المصارف الإسلامية المعلم الرئيسي لها وتجعل وجودها متسقاً مع البنية السليمة للمجتمع الإسلامي وتصبغ أنشطتها بروح راسية ودوافع عقائدية تجعل القائمين عليها يستشعرون دائماً أن العمل الذي يمارسونه ليس مجرد عمل تجاري يهدف إلى تحقيق الربح فحسب بل إضافة إلى ذلك أسلوب من أساليب الجهاد في حمل عبء الرسالة والإعداد لاستنقاذ الأمة من مباشرة أعمال مجافية للأصول الشرعية وفوق كل ذلك وقبله يستشعر هؤلاء العاملون أن العمل عبادة وتقوى مثاب عليها من الله سبحانه وتعالى إضافة إلى الجزاء المادي الدنيوي] المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق ص192-193.(/43)
كما أن البنوك الإسلامية توجه كل جهودها نحو استثمار المال بالحلال فمن المعلوم أن المصارف الإسلامية مصارف تنموية بالدرجة الأولى ولما كانت هذه المصارف تقوم على اتباع منهج الله المتمثل بأحكام الشريعة الغراء ، لذا فإنها وفي جميع أعمالها تكون محكومة بما أحله الله وهذا يدفعها إلى استثمار وتمويل المشاريع التي تحقق الخير للبلاد والعباد والتقيد في ذلك بقاعدة الحلال والحرام التي يحددها الإسلام مما يترتب عليه ما يأتي:
أ. توجيه الاستثمار وتركيزه في دائرة إنتاج السلع والخدمات التي تشبع الحاجات السوية للإنسان المسلم.
ب. تحري أن يقع المنتج - سلعة كان أو خدمة - في دائرة الحلال.
ج. تحري أن تكون كل مراحل العملية الإنتاجية (تمويل - تصنيع - بيع - شراء) ضمن دائرة الحلال.
د. تحري أن تكون كل أسباب الإنتاج (أجور - نظام عمل) منسجمة مع دائرة الحلال.
هـ. تحكيم مبدأ احتياجات المجتمع ومصلحة الجماعة قبل النظر إلى العائد الذي يعود على الفرد]. المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق ص 193.
ويضاف إلى ذلك ما للبنوك الإسلامية من دور هام في إحياء نظام الزكاة من خلال صندوق الزكاة وتوزيع الزكاة على المستحقين لها.
وكذلك دور البنوك الإسلامية الذي لا ينكره إلا مكابر أو جاهل في بعث الروح في فقه المعاملات في الشريعة الإسلامية الذي طالما كان مهجوراً فتوجهت همم الباحثين والدارسين لنفض الغبار عنه وبدأت الدراسات الكثيرة عن مفردات هذا النظام فحفلت المكتبة الإسلامية بمئات المؤلفات التي درست المرابحة والمضاربة والشركات والصرف وغير ذلك.
وينبغي أن يعلم أن كلامي هذا عن البنوك الإسلامية لا يعني أنها بلغت الدرجة العالية في التطبيق والتنفيذ وأنها لا تخطئ وأنها كلها تسير على المنهج الشرعي بشكل تام.
لا، فإن البنوك الإسلامية حالها كحال الناس تماماً فكما أنك تجد في أفراد المسلمين من هو ملتزم تماماً بالحكم الشرعي وتجد فيهم من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فكذلك البنوك الإسلامية تجد بعضها لديه التزام عالٍ بالمنهج الشرعي وبعضها يخلط الخطأ بالصواب وإن وجود الأخطاء في التطبيق لدى البنوك الإسلامية لا يعني بحال من الأحوال أن الخطأ في الفكرة والقاعدة التي تسير عليها البنوك الإسلامية ولكن وجود الأخطاء من العاملين أمر عادي جداً فالذي لا يعمل هو الذي لا يخطئ أما الذي يعمل فلا بد أن يقع منه الخطأ.
وأخيراً يجب التنبيه إلى أن البنوك الإسلامية تسير في مسيرتها التي تشهد تقدماً ونجاحاً بمرور الأيام -والحمد لله- معتمدةً على أسس وقواعد وضعها عدد كبير من علماء المسلمين في هذا العصر من خلال دراسات وأبحاث ومجامع علمية وفقهية ومن خلال مؤتمرات علمية يشارك فيها خبراء في الاقتصاد بجانب علماء الشريعة كما أن لكل بنك إسلامي هيئة للرقابة الشرعية مؤلفة من أهل الخبرة والاختصاص الشرعيين والاقتصاديين لمراقبة أعمال البنك تتولى التوجيه والإرشاد والتدقيق وغير ذلك.
وأختم كلامي بما قاله د. يوسف القرضاوي:[... كلمة أوجهها للناقدين للمصارف والمؤسسات المالية الإسلامية أيا كانت دوافعهم وأعتقد أن بعضهم مخلص في نقده وكلمتي إليهم تتمثل في أمور ثلاثة:
أ. أن يكونوا واقعيين ولا ينشدوا الكمال في البنوك الإسلامية وحدها في مجتمع يعج بالنواقص في كل ميدان وأن يصبروا على التجربة فهي لا زالت في بدايتها وأن يقدموا لها العون بدل أن يوجهوا إليها الطعن من أمام ومن خلف.
وان يذكروا هذه الحكمة جيداً: إن من السهل أن نقول ونحسن القول ولكن من الصعب كل الصعب أن يتحول القول إلى عمل.
ب. أن يقدموا حسن الظن بالناس بدل المسارعة بالاتهام للغير وسوء الظن بالآخرين وأن يتخلوا عن الإعجاب بالرأي فهو أحد المهلكات وعن الغرور بالنفس فهو أحد الموبقات وأن يذكروا قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } سورة الحجرات الآية 12.
وقول رسوله الكريم:(إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) متفق عليه.
ج. أن يذكروا أن المصارف الإسلامية -وإن كان لها بعض السلبيات وعليها بعض المآخذ- لها إيجابيات مذكورة وإنجازات مشكورة نذكر منها:
1. أنها يسرت للفرد المسلم سبيل التعامل الحلال وأراحت ضمائر المسلمين من التعامل مع البنوك الربوية.
2. زرعت الثقة والأمل في أنفس المسلمين بإمكان قيام بنوك بغير ربا وأن تطبيق الشريعة عندما تتجه الإرادة الجماعية إليه ميسور غير معسور.
3. شجعت قاعدة كبيرة من جماهير الشعوب المسلمة على الادخار والاستثمار على حين قلما تتعامل البنوك الربوية إلا مع الأغنياء.
4. هيأت فرصة مساعدة الفقراء ومساعدة المؤسسات الخيرية والجمعيات الإسلامية عن طريق صناديق الزكاة والبر والقرض الحسن.
5. ساهمت في تنمية الجانب التربوي الثقافي ] بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية ص 86- 87.
- - -(/44)
الفرق بين الربح والربا
من القضايا المشكلة في أذهان كثير من الناس عدم التفريق بين الربح والفائدة (الربا).
فيقول هؤلاء إنه لا فرق بين ما يتم التعامل به في البنوك الإسلامية وبين ما يتم التعامل به في البنوك الربوية فيقول أحدهم مثلاً: إنه ذهب لشراء سيارة إلى البنك الإسلامي فأخبروه أن ثمن السيارة مثلاً مئة ألف شيكل وأنهم سيربحون منه ثمانية آلاف شيكل وأنه ذهب إلى بنك ربوي ليحصل على قرض لشراء ذات السيارة فأخبروه أنهم سيقرضونه مئة ألف شيكل بفائدة قدرها 6.5% فهو يرى أنه لا فرق بين المعاملتين بل إن الفائدة في البنك الربوي أقل من الربح في البنك الإسلامي ولذلك قرر أن يختار أقل التكلفتين.
ولتوضيح الفرق بين الصورتين أقول: إن الربح في لغة العرب هو النماء في التجارة والعرب تقول: ربحت تجارته إذا ربح صاحبها فيها ويقولون تجارة رابحة كما ورد في تاج العروس 4/44.
وقد وردت الإشارة إلى ذلك في القرآن الكريم حيث قال تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } سورة البقرة الآية 16.
وقد ذكر الطبري في تفسيره لهذه الآية ما يلي:[… الرابح من التجار المستبدل من سلعته المملوكة عليه بدلاً هو أنفس من سلعته أو أفضل من ثمنها الذي يبتاعها به فأما المستبدل من سلعته بدلاً دونها ودون الثمن الذي يبتاعها به فهو الخاسر في تجارته] تفسير الطبري 1/315-316.
فالربح هو الزيادة على رأس المال نتيجة تقليبه في النشاط التجاري أو هو الزائد على رأس المال نتيجة تقليبه في الأنشطة الاستثمارية المشروعة كالتجارة والصناعة وغيرها. انظر الربح في الفقه الإسلامي ص44.
والربح عند الفقهاء ينتج من تفاعل عنصري الإنتاج الرئيسيين وهما العمل ورأس المال فالعمل له دور كبير في تحصيل الربح. المصدر السابق ص44-45.
قال د. سامي حمود:[والخلاصة أن الربح في النظر الفقهي الإسلامي هو نوع من نماء المال الناتج عن استخدام هذا المال في نشاط استثماري وأن هذا النشاط الاستثماري ملحوظ فيه عنصر تقليب راس المال من حال إلى حال كما هو الحال عند الاتجار بالمال حيث تصبح النقود عروضاً ثم تعود نقوداً أكثر بالربح أو أقل بالخسارة إذا حصلت خسارة بالفعل.
وإن هذا التقليب المعتبر للمال والذي يحصل الربح نتيجة له ما هو إلا إظهار للجهد البشري المرتبط بعمل الإنسان في المال. وذلك لأن هذا المال الجامد لا يزيد، ولولا مخالطة العمل للمال لبقي الدينار فيه ديناراً عاماً بعد عام ولكن هذا الدينار يمكن أن يصبح دنانير إذا أمسكته يد الإنسان الخبير بالبيع والشراء وسائر وجوه التقليب المعتبرة فالمال الجامد لا ينمو إلا بالعمل فيه حيث إن النقود لا تلد النقود.
ولذا فإن الإسلام في نظرته لرأس المال -كما تجلت قواعده الفقهية- لم يقرر للنقود حقاً في الحصول على أي ربح إلا إذا كان ذلك على وجه المشاركة للعمل في السراء والضراء، وفي هذا دليل ملموس على مدى اعتبار هذا العنصر المعنوي المتمثل في جهد الإنسان الذي كرمه الله تكريماً لم يقدره هذا المخلوق الجزوع والذي لا يتوانى عن الخضوع ذليلاً لكل ما يشرعه أهل الأرض بينما لا يخجل من نفسه أن يتطاول -وإذا نظر للمسائل دون إيمان- على ما شرع الله لعباده بالعدل والإحسان ] تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية ص 254.
وأما الفائدة فهي زيادة مستحقة للدائن على مبلغ الدَّيْن يدفعها المدين مقابل احتباس الدَّيْن إلى تمام الوفاء. الفائدة والربا ص 16.
إذا تأملنا تعريف الفائدة فنجد أنها زيادة في مبادلة مال بمال لأجل أي أن الفائدة هي مقابل المدة الزمنية.
فمثلاً إذا اقترض شخص ألف دينار من البنك الربوي على أن يردها ألفاً ومئة دينار فالمئة دينار هي الفائدة وهذه استحقت مقابل تأجيل السداد لمدة سنة، ولتوضيح الفرق بين الربح والفائدة (الربا) لا بد أن نلاحظ أن الربح ناتج عن اجتماع العمل مع رأس المال فالتاجر يشتري ويبيع فيتولد من عمله ورأس ماله ربح وأما الفائدة فهي متولدة من رأس المال فقط بلا عمل أي أن المال هو الذي يولد المال.
وقد يقول قائل إن كلاً من الربح والفائدة يحملان معنى الزيادة في المال وهذا الكلام صحيح ولكن الزيادة في الربح مرتبطة بالتصرف الذي يتحول به المال من حال إلى حال، وأما الزيادة في الفائدة فهي حاصلة بشكل يزداد فيه المال نفسه أي أن الألف دينار صارت ألفاً ومئة.
وينبغي التنبيه إلى ما يقال من أن نتيجة الأعمال التي تقوم بها البنوك الإسلامية هي نفس نتيجة الأعمال التي تقوم بها البنوك الربوية فلوا افترضنا أن شخصاً اشترى سلعة من بنك إسلامي وكان ثمنها أحد عشر ألف دينار، وشخص آخر اقترض عشرة آلاف دينار بفائدة قدرها 10% لشراء ذات السلعة فإن النتيجة في الحالتين واحدة وأقول إن العبرة ليست بالنتيجة وإنما بالطريق الموصل إلى تلك النتيجة.(/45)
فلو افترضنا أن شخصين كل منهما عنده ألف دينار فقام الأول بشراء كمية من الأرز بالألف التي يملكها ثم باع الأرز بألف ومئة دينار فإن هذا الشخص يكون قد زاد رأس ماله مئة دينار وتسمى هذه الزيادة ربحاً.
وإذا قام الشخص الثاني بإقراض الألف التي يملكها لآخر على أن يردها ألفاً ومئة فإنه يكون قد زاد رأس ماله مئة دينار وهذه الزيادة تمسى ربا وفائدة.
فنلاحظ أن كلاً منهما زاد رأس ماله مئة دينار فالنتيجة في الحالتين واحدة ولكن الزيادة الأولى حلال والزيادة الثانية حرام. فليست العبرة بالنتيجة وإنما العبرة بالطريق الموصل إليها.
- - -
بيع المرابحة للآمر بالشراء
عقد المرابحة هو في الأصل بيع المرابحة المعروف عند الفقهاء المتقدمين وإن اختلفت بعض صوره الحديثة التي تتعامل وفقها المؤسسات والبنوك الإسلامية كبيع المرابحة للآمر بالشراء فبيع المرابحة عند الفقهاء هو بيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح.
وصورة بيع المرابحة المستعملة الآن في البنوك والمؤسسات الإسلامية هي أن يتفق العميل والبنك على أن يقوم العميل بشراء البضاعة بربح معلوم بعد شراء البنك لها وهذه الصورة هي المسماة ببيع المرابحة للآمر بالشراء ومثال ذلك أن يطلب صاحب مصنع من البنك أو المؤسسة التي تتعامل وفق الشريعة الإسلامية أن يشتري له جهازاً من الأجهزة اللازمة له ويكون طلب الشراء مصحوباً باستعداد لشراء ذلك الجهاز من البنك أو المؤسسة إذا كانت مواصفاته كما طلب ويدفع المشتري ربحاً يتم الاتفاق عليه مقابل قيام البنك أو المؤسسة بشراء ذلك الجهاز وتأجيل الثمن وجعله على أقساط فيشتري البنك أو المؤسسة الجهاز ويحوزه في ملكه ثم يبيعه للآمر بالشراء حسب الشروط التي تم الاتفاق عليها ، وإذا لحق بالجهاز ضرر يكون الضرر على البنك إلى أن يقوم بتسليمه للآمر بالشراء ويكون الآمر بالشراء ملزماً بشراء السلعة إذا كانت مواصفاتها كما طلب .
فهذه الصورة من بيع المرابحة للآمر بالشراء هي أكثر صورة منتشرة الآن وهذه الصورة جائزة شرعاً عند كثير من فقهاء العصر وصدرت بجوازها فتاوى كثيرة.
ومن الأدلة على جوازها، قوله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } فالآية الكريمة تدل على حل جميع أنواع البيع إلا إذا ورد دليل بتحريم نوع معين والمرابحة من ضمن البيوع المباحة.
وكذلك فإن المعاملات مبنية على مراعاة العلل والمصالح كما قرر ذلك فقهاء الإسلام يقول د. يوسف القرضاوي:[إن الشرع لم يمنع من البيوع والمعاملات إلا ما اشتمل على ظلم وهو أساس تحريم الربا والاحتكار والغش ونحوها أو ما خشي منه أن يؤدي إلى نزاع وعداوة بين الناس وهو أساس تحريم الميسر والغرر…] بيع المرابحة د. القرضاوي ص 18.
وكذلك فإن بيع المرابحة جائز قياساً على جواز عقد الاستصناع، وأما قول من قال إن هذه الصورة ما هي إلا نوع من الربا فكلام باطل ومردود وقد أجاب عن ذلك د. يوسف القرضاوي فقال:[قالوا: إن القصد من العملية كلها هو الربا والحصول على النقود التي كان يحصل عليها العميل من البنك الربوي فالنتيجة واحدة وإن تغيرت الصورة والعنوان، فإنها ليست من البيع والشراء في شيء فإن المشتري الحقيقي ما لجأ إلى المصرف إلا من أجل المال والمصرف لم يشتر هذه السلعة إلا بقصد أن يبيعها بأجل إلى المشتري وليس له قصد في شرائها.
ونقول إن هذا الكلام ليس صحيحاً في تصوير الواقع فالمصرف يشتري حقيقة ولكنه يشتري ليبيع لغيره كما يفعل أي تاجر وليس من ضرورة الشراء الحلال أن يشتري المرء للانتفاع أو القنية أو الاستهلاك الشخصي، والعميل الذي طلب من المصرف الإسلامي أن يشتري له السلعة يريد شراءها حقيقة لا صورة ولا حيلة كالطبيب الذي ذكرنا أنه يريد شراء أجهزة ولجوء مثله إلى المصرف الإسلامي ليشتري له السلعة المقصودة له أمر منطقي لأن مهمة المصرف أن يقدم الخدمة والمساعدة للمتعاملين معه. من ذلك أن يشتري لهم السلعة بما يملك من ماله ويبيعها لهم بربح مقبول . نقداً أو لأجل وأخذ الربح المعتاد على السلعة لا يجعلها حراماً وبيعها إلى المشتري بأجل لا يجعلها حراماً أيضاً.
المهم أن هنا قصداً إلى بيع وشراء حقيقيين لا صوريين وليس المقصود الاحتيال لأخذ نقود بالربا والقول بأن هذه العملية هي نفس ما يجري في البنوك الربوية وإنما تغيرت الصورة فقط قول غير صحيح . فالواقع أن الصورة والحقيقة تغيرتا كلتاهما فقد تحولت من استقراض بالربا إلى بيع وشراء وما أبعد الفرق بين الاثنين وقد حاول اليهود قديماً أن يستغلوا المشابهة بين البيع والربا ليصلوا منها إلى إباحة الربا فرد الله تعالى عليهم رداً حاسماً بقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } سورة البقرة الآية 275.(/46)
على أن تغيير الصورة أحياناً يكون مهماً جداً وإن كانت نتيجة الأمرين واحدة في الظاهر فلو قال رجل لآخر أمام ملأ من الناس: خذ هذا المبلغ واسمح لي أن آخذ ابنتك لأزني بها فقبل وقبلت البنت لكان كل منهم مرتكباً منكراً من أشنع المنكرات ولو أنه قال له: زوجنيها وخذ هذا المبلغ مهراً لها … فقبل وقبلت لكان كل من الثلاثة محسناً والنتيجة في الظاهر واحدة ولكن يترتب على مجرد كلمة (زواج) من الحقوق والمسؤوليات شيء كثير . وكذلك كلمة (البيع) إذا دخلت بين المتعاملين فإنه يترتب عليها بأن يكون هلاك المبيع إذا هلك على ضمان البائع حتى يقبضه المشتري. وأن يتحمل تبعة الرد بالعيب إذا ظهر فيه عيب وكذلك إذا كان غائباً واشتراه على الصفة فجاء على غير المواصفات المطلوبة.
كما أنه إذا تأخر في توفية الثمن في الأجل المحدد لعذر مقبول لم تفرض عليه أية زيادة كما يفعل البنك الربوي بل يمهل حتى يوسر كما قال تعالى: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } سورة البقرة الآية 280.
وإن تأخر لغير عذر فهو حينئذ ظالم يستحق العقوبة كما في حديث:(مطل الغني ظلم) وحديث:(لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) فمن حق المصرف الإسلامي أن يطالبه بالتعويض عن الضرر الفعلي قلّ أو كثر عملاً بالقاعدة الشرعية التي عبر عنها حديث:(لا ضرر ولا ضرار) وأخذ منها الفقهاء أن الضرر يزال.
وهذا يخالف ما تفعله البنوك الربوية لأنها تأخذ المبلغ المقترض والفائدة الربوية المقررة على كل حال من المعسر والموسر سواء حدث ضرر أم لم يحدث سواء كان الضرر قليلاً أم كثيراً بل تأخذه سواء سلمت السلعة المقترض لها المال أم لم يتسلمها أو هلكت فالبنك الربوي لا علاقة له بالسلعة بحال، انظر بيع المرابحة ص 27-31.
- - -
يحرم وضع المال في البنوك الربوية
إن الربا من أكبر الكبائر وتحريمه قطعي في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن المسلم إذا دقق النظر في النصوص الشرعية الواردة في تحريم الربا وقف على خطورة هذه الكبيرة والنتائج المترتبة عليها.
يقول الله سبحانه وتعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } سورة البقرة الآيتان 275 -276 .
ويقول الله سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } سورة البقرة الآيتان ( 278-279 ) .
وإن المتمعن في حال الأمة الإسلامية اليوم ليرى أن سوء حالها من ذلة وهوان على الناس ما هو إلا إحدى نتائج البعد عن منهج الله جل وعلا ومن ذلك التعامل بالربا فالأمة المسلمة في معظم البلدان تتعامل بالربا ويراه كثير من الناس مباحاً وبعضهم غير اسم الربا إلى فائدة متحايلاً على شرع الله فحاربهم الله تعالى وسلط عليهم الأمم من كل جانب. وينبغي أن يعلم أن آيات تحريم الربا وردت عامة فلا تفرق في تحريمه بين التعامل به مع المسلمين أو غيرهم وهذا العموم من خواص المحرمات في الشريعة الإسلامية فالشيء المحرم يكون محرماً على كل مسلم سواء كان في ديار الإسلام أو في ديار غيرهم. فالخمر حرام على المسلم في ديار الإسلام وحرام عليه أيضاً إذا خرج منها.
قال الإمام الشافعي رحمه الله:[ومما يرافق التنزيل والسنة ويعقله المسلمون ويجتمعون عليه أن الحلال في دار الإسلام حلال في دار الكفر والحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر]الأم 4/160.
ولذلك كله فلا يجوز التعامل بالربا مع أي بنك وفي أي بلد مهما كان . وهذا مذهب جمهور أهل العلم وبه قال الأئمة مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من العلماء.
وقد نسب إلى بعض الفقهاء قولهم بجواز التعامل بالربا في غير دار الإسلام وهذا المذهب ضعيف لا تقوم الحجة به وليس عندهم دليل معتبر والصحيح في هذه المسألة حرمة التعامل بالربا مطلقاً ويدل على ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء) رواه مسلم. فيؤخذ من هذا الحديث أن كل من يأكل الربا ملعون. أي مطرود من رحمة الله من غير فرق بين أن يتعامل به مع المسلمين أو مع غيرهم.
- - -
الحساب الجاري في البنوك الربوية(/47)
الأصل حرمة التعامل مع البنوك الربوية لأن أكثر أعمالها تتعلق بالإقراض والاقتراض بالفوائد الربوية المحرمة قطعاً ولكن نظراً للظروف التي نعيشها من حيث عدم الأمن على المال ومن حيث قلة البنوك الإسلامية ومن حيث توقف أعمال التجارة والصناعة على التعامل مع البنوك الربوية فيجوز فتح حسابات جارية في البنوك الربوية بشرط عدم ربطها بالفائدة الربوية.
- - -
التقسيط الميسر مع البنوك الربوية
إن الربا من أكبر الكبائر وتحريمه قطعي في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن ذلك قوله تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ } سورة البقرة الآيات 275 - 279. وثبت في الحديث عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(اجتنبوا السبع الموبقات، قالو : يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وصححه وقال العلامة الألباني: صحيح .انظر صحيح الجامع الصغير 1/663.
وقال - صلى الله عليه وسلم -:(درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ست وثلاثين زنية) رواه أحمد وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد 4/117. وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 3/29. وغير ذلك من الأحاديث.
وعلى الرغم من وضوح تحريم الربا في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلا أن بعض الناس يحاول أن يتحايل على الربا بالتلاعب بالأسماء فمن ذلك ما يفعله بعض التجار بالتعاون مع البنوك الربوية مما يسمونه التقسيط الميسر وصورته الشائعة أن التاجر يتفق مع البنك الربوي على تمويل مشتريات الزبائن فإذا تقدم زبون لتاجر أجهزة كهربائية مثلاً وأراد أن يشتري ثلاجة فيقول التاجر أبيعك الثلاجة بخمسة آلاف شيكل مقسطة على سنة ولكن التسديد يكون عن طريق البنك الربوي فيرسل الزبون مع المعاملة إلى البنك الربوي الذي يطلب من الزبون ضمانات كتحويل راتبه على البنك إن كان موظفاً أو إحضار كفيلين ونحو ذلك من الضمانات فإن تمَّ ذلك وفق ما يطلبه البنك الربوي بعدها يقوم البنك بدفع المبلغ نقداً إلى التاجر مخصوماً منه الفوائد الربوية حسب الاتفاق بين التاجر والبنك الربوي وتتراوح نسبة الفائدة بين 5% - 10% ثم يقوم الزبون بتسديد المبلغ كاملاً للبنك على مدى سنة وهي مدة التقسيط المتفق عليها.
ولدى التدقيق في هذه المعاملة نجدها معاملة ربوية حيث إن البنك مقرض وليس بائعاً فهو أقرض التاجر أربعة آلاف وخمسمئة شيكل نقداً واستوفاها من الزبون خمسة آلاف شيكل وهذا هو الربا بعينه.
وإنني لأستغرب مما يفتي به بعض المنتسبين للعلم الشرعي من إباحة هذه العملية الربوية بحجة أن المشتري فيما يسمى بالتقسيط الميسر اشترى السلعة من التاجر ودفع الثمن المتفق عليه بدون زيادة وإن كان هنالك عقد ربوي بين التاجر والبنك الربوي وأن لا علاقة للمشتري بذلك العقد وإن دفع عن طريق البنك الربوي ونحو ذلك من الترهات فكل ما سبق هو من الربا الحرام وهنا يجب التذكير بالقواعد الآتية:
1. يحرم التعاون على الإثم والعدوان بنص كتاب الله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } سورة المائدة الآية 2.(/48)
2. يحرم على المسلم أن يكون طرفاً في أي عملية ربوية وقد ثبت في الحديث الصحيح (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
3.إذا استقر الدَّين في الذمة فلا تجوز الزيادة عليه لأن ذلك عين الربا.
4.كل زيادة مشروطة على القرض ربا بغض النظر عن اسمها فتغيير الأسماء لا يغير من حقائق المسميات شيئاً فقد صار شائعاً عند كثير من المتعاملين بالربا التلاعب بالألفاظ والعبارات محاولةً منهم لتغيير الحقائق والمسميات بتغيير أسمائها فقط فالربا يسمى فائدة ويسمى رسم خدمات ويسمى التقسيط الميسر وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل هذا التلاعب من تغيير الناس لأسماء المحرمات كما جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(ليستحلن طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في غاية المرام ص 24 وفي السلسلة الصحيحة 1/136.
وجاء في رواية أخرى:(إن ناساً من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها) رواه الحاكم والبيهقي وله شواهد تقويه، وقد صدق الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - فإن الخمور تسمى في زماننا بالمشروبات الروحية.
وروي في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال:(يأتي على الناس زمان يستحلون الربا باسم البيع) ذكره ابن القيم في إغاثة اللهفان 1/352. وضعفه العلامة الألباني في غاية المرام ص 25 ثم قال:[... معنى الحديث واقع كما هو مشاهد اليوم].
ويجب أن يُعلم أن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني كما قرر ذلك فقهاؤنا.
- - -
حساب التوفير ربا
لا شك أن للبنوك الربوية أساليب كثيرة مغرية لجلب الزبائن للتعامل معها ولإيداع أموالهم حتى توسع أعمالها وتزيد من دخلها وتزين للناس طرق كسب كثيرة ولكنها لا تخرج في حقيقة الأمر عن دائرة الربا المحرم ومن ذلك دعوة الناس إلى فتح حسابات التوفير لدى هذه البنوك بطرق دعائية براقة تستهوي كثيراً من الناس ومن ذلك ما جاء في دعاية أحد البنوك من أن حسابات التوفير هي ضمان وأمان للمستقبل ونحو ذلك من الكلام الزائف.
ومن المعلوم أن البنوك تدفع ما تسميه فوائد مجزية على حسابات التوفير وهي في الحقيقة من الربا المحرم.
ومما يؤسف له أن كثيراً من الناس يقبلون على فتح حسابات التوفير هذه ويزعمون أنهم يؤمنون مستقبل أولادهم ويدخرون لهم وهذه المدخرات تنمو بالربا الحرام والمال الحرام لا يبارك الله فيه بل يسحقه ويمحقه.
يقول الله تعالى: { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } .
وعلى المسلم أن يوقن بأن الأرزاق بيد الله وأن تأمين المستقبل كما يقولون لا يكون عن طريق الحرام وإنما يكون بالادخار من المال الحلال فهذا الذي يدخر لأولاده من المال الحرام وبطرق حرام إنما يربي أولاده على الحرام وينفق عليهم من الحرام ويدخر لهم نار جهنم والعياذ بالله.
يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } . وقال: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذيه بالحرام فأنى يستجاب له) رواه مسلم.
وعلى كل مسلم أن يسعى لتأمين مستقبل أولاده بالكسب المشروع الحلال ولا يكون ذلك أبدأً عن طريق الربا المحرم بنص كتاب الله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
الاقتراض بالربا ( الفائدة ) للضرورة !!
يزعم بعض الناس أنه يقترض بالربا ( الفوائد ) لأنه مضطر لذلك وللرد على هذا الزعم لا بد أولاً من معرفة الضرورة عند العلماء وما هي المحظورات التي تباح بالضرورة لنرى هل الاقتراض بالربا ( الفوائد ) يدخل ضمن ذلك أم لا؟
فأقول إن الشريعة الإسلامية جاءت باليسر والسماحة ودفع المشقة ورفع الحرج عن الناس.
يقول الله تعالى: { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } سورة البقرة الآية 173.(/49)
ويقول الله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } سورة المائدة الآية 3.
ويقول الله تعالى: { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } سورة الأنعام الآية 145.
ويقول الله تعالى: { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } سورة الأنعام الآية 119.
فهذه الآيات الكريمات بينت أن حالات الضرورة مستثناة من التحريم وبناءً على ذلك قال الفقهاء:[الضرورة هي أن تطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة بحيث يخاف حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو بالعضو أو بالعرض أو بالعقل أو بالمال وتوابعها ويتعين أو يباح عندئذ ارتكاب الحرام أو ترك الواجب أو تأخيره عن وقته دفعاً للضرر عنه في غالب ظنه ضمن قيود الشرع] نظرية الضرورة الشرعية ص 67-68.
وقاعدة الضرورات تبيح المحظورات ليست على عمومها ولم يقل أحد من أهل العلم أن كل محظور يباح عند الضرورة.
فالضرورة لا تدخل في كل الأمور المحرمة بمعنى أن هنالك محرمات لا تباح بالضرورة كالقتل فلا يباح قتل المسلم بحجة الضرورة فلا يجوز لمسلم أن يقتل مسلماً ولو كان مضطراً أو مكرهاً لأن قتل النفس لا يباح إلا بالحق يقول الله تعالى: { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } سورة الإسراء الآية 33.
فقد اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للمسلم أن يقدم على قتل غيره بحجة الضرورة.
وكذلك فإن الزنا لا يباح بحجة الضرورة فلا يحل لمسلم أن يزني بحجة الضرورة ولو كان مكرهاً.
ولكن يجوز أكل الميتة وأكل لحم الخنزير في حال الاضطرار وكذا إساغة اللقمة بالخمر عند الغصة أو عند العطش الشديد أو عند الإكراه الملجىء فهذه الأمور ونحوها تباح عند الضرورة.
وقد ذكر الفقهاء قديماً وحديثاً قواعد وضوابط للضرورة منها: أن يحصل فعلاً خوف الهلاك أو التلف على النفس أو المال وذلك بغلبة الظن.
أو يتحقق المرء من وجود خطر حقيقي على إحدى الضرورات الخمس وهي الدين والنفس والعرض والعقل والمال ومنها ألا يتمكن الشخص من دفع الضرورة بوسيلة أخرى من المباحات.
ومنها أن الضرورة تقدر بقدرها فلا يصح التوسع في باب الضرورات فيقتصر المضطر على الحد الأدنى لدفع الضرر. نظرية الضرورة الشرعية ص 69-70.
إذا تقرر هذا فأقول: إنه لا يجوز شرعاً الاقتراض بالربا لشراء سيارة مثلاً بحجة الضرورة لأن اقتناء السيارة ليس من باب الضرورة التي تبيح الحرام (الربا).
لا شك أن السيارة حاجة مهمة في الحياة ولكن لا يصل الحال إلى اعتبارها من الأمور الضرورية التي يتوقف عليها حفظ إحدى الضروريات الخمس فكم من الناس لا يملكون سيارة وحياتهم تسير بشكل طبيعي.
فلا يجوز شرعاً أن نبيح الربا باسم الضرورة وخاصة إذا كانت هذه الضرورة متوهمة وليست حقيقية كما هو الحال في شراء سيارة جديدة بقرض ربوي باسم الضرورة.
قال الشيخ المودودي:[لا تدخل كل ضرورة في باب الاضطرار بالنسبة للاستقراض بالربا. فإن التبذير في مجالس الزواج ومحافل الأفراح والعزاء ليس بضرورة حقيقية. وكذلك شراء السيارة أو بناء المنزل ليس بضرورة حقيقية وكذلك ليس استجماع الكماليات أو تهيئة المال لترقية التجارة بأمر ضروري. فهذه وأمثالها من الأمور التي قد يعبر عنها بالضرورة والاضطرار ويستقرض لها المرابون آلافاً من الليرات لا وزن لها ولا قيمة في نظر الشريعة والذين يعطون الربا لمثل هذه الأغراض آثمون.(/50)
فإذا كانت الشريعة تسمح بإعطاء الربا في حالة من الاضطرار فإنما هي حالة قد يحل فيها الحرام كأن تعرض للإنسان نازلة لا بد له فيها من الاستقراض بالربا أو حلت به مصيبة في عرضه أو نفسه أو يكون يخاف خوفاً حقيقياً حدوث مشقة أو ضرر لا قبل له باحتمالها ففي مثل هذه الحالات يجوز للمسلم أن يستقرض بالربا ما دام لا يجد سبيلاً غيره للحصول على المال غير أنه يأثم بذلك جميع أولي الفضل والسعة من المسلمين الذين ما أخذوا بيد أخيهم في مثل هذه العاهة النازلة به حتى اضطروه لاستقراض المال بالربا. بل أقول فوق ذلك أن الأمة بأجمعها لا بد أن تذوق وبال هذا الإثم لأنها هي التي غفلت وتقاعست عن تنظيم أموال الزكاة والصدقات والأوقاف مما نتج عنه أن أصبح أفرادها لا يستندون إلى أحد ولم يبق لهم من بدّ من استجداء المرابين عند حاجاتهم.
لا يجوز الاستقراض حتى عند الاضطرار إلا على قدر الحاجة ومن الواجب التخلص منه ما استطاع الإنسان إليه سبيلاً لأنه من الحرام له قطعاً أن يعطي قرشاً واحداً من الربا بعد ارتفاع حاجته وانتفاء اضطراره.
أما: هل الحاجة شديدة؟ ..أم لا..؟ وإذا كانت فإلى أي حدّ؟ .. ومتى قد زالت؟ فكل هذا مما له علاقة بعقل الإنسان المبتلى بمثل هذه الحالة وشعوره بمقتضى الدين والمسؤولية الأخروية. فهو على قدر ما يكون متديناً يتقي الله ويرجو حساب الآخرة يكون معتصماً بعروة الحيطة والورع في هذا الباب] الربا ص 157-158.
وأخيراً يجب أن يعلم أن كثيراً من الناس يدخلون إلى الربا الحرام من باب الضرورة كما يزعمون وهذه دعوى باطلة كما بينت فالربا محرم بالنص القطعي من كتاب الله سبحانه وتعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } سورة البقرة الآية 275-279.
وقد صح في الحديث أن - صلى الله عليه وسلم - قال:(لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
- - -
بيع العينة وبيع التورق
ورد في الحديث عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:(إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) رواه أبو داود والبيهقي وأحمد قال الحافظ ابن حجر:[رجاله ثقات وصححه ابن القطان] بلوغ المرام ص 172. وصححه الشيخ العلامة الألباني في غاية المرام ص 121 وفي السلسلة الصحيحة 1/15.
وبيع العينة هو أن يبيع شخص شيئاً لغيره بثمن مؤجل ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر وهذه أشهر صور بيع العينة فمثلاً اشترى زيد سيارة من عمرو بمبلغ اثني عشر ألف دينار مؤجلة ثم باع زيد السيارة إلى عمرو بمبلغ عشرة آلاف دينار حالة فهنا دخلت السيارة في عملية البيع وليست مقصودة بالبيع لأن السيارة عادت إلى صاحبها فوراً وإنما المقصود النقود (العين) وهذه العملية تعتبر رباً حيث إن زيداً قد اقترض عشرة آلاف وسيقوم بتسديد اثني عشر ألفاً. فالعينة قرض ربوي مستتر تحت صورة البيع وبناء على كونها رباً قال جمهور أهل العلم بتحريم بيع العينة. انظر نيل الأوطار 5/234، شرح ابن القيم على مختصر سنن أبي داود 9/241 فما بعدها، الموسوعة الفقهية 9/69.
وقد ساق العلامة ابن القيم أدلة كثيرة على تحريم العينة منها عن ابن عباس رضي الله عنهما:(أنه سئل عن العينة يعني بيع الحريرة؟ فقال: إن الله لا يُخدع، هذا مما حرم الله ورسوله) وقال ابن القيم: وهذا في حكم المرفوع اتفاقاً عند أهل العلم.(/51)
وعن امرأة أبي إسحق قالت:[( دخلت على عائشة في نسوة فقالت: ما حاجتكن؟ فكان أول من سألها أم محبة فقالت: يا أم المؤمنين هل تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم. قالت: فإني بعته جارية لي بثمانمائة درهم إلى العطاء وإنه أراد أن يبيعها فابتعتها بستمائة درهم نقداً. فأقبلت عليها وهي غضبى فقالت: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب. وأفحمت صاحبتنا فلم تتكلم طويلاً ثم إنه سهل عنها فقالت: يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فتلت عليها { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } فلولا أن عند أم المؤمنين علماً لا تستريب فيه أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا بالاجتهاد ولا سيما إن كانت قد قصدت أن العمل يحبط بالردة وأن استحلال الربا كفر وهذا منه ولكن زيداً معذور لأنه لم يعلم أن هذا محرم ولهذا قالت أبلغيه.
ويحتمل أن تكون قد قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد فيصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئاً.
وعلى التقديرين لجزم أم المؤمنين بهذا دليل على أنه لا يسوغ فيه الاجتهاد ولو كانت هذه من مسائل الاجتهاد والنزاع بين الصحابة لم تطلق عائشة ذلك على زيد فإن الحسنات لا تبطل بمسائل الاجتهاد] شرح ابن القيم على مختصر أبي داود 9/246. ثم ذكر ابن القيم أدلة أخرى على تحريم بيع العينة.
وأما التورق فهو أن يشتري شخص سلعة إلى أجل ثم يبيعها لغير البائع بأقل مما اشتراها نقداً ليحصل بذلك على النقد فمثلاً اشترى زيد ثلاجة بستة آلاف مؤجلة واستلم الثلاجة من البائع وباعها إلى شخص آخر بخمسة آلاف نقداً فهذا هو التورق. انظر الموسوعة الفقهية 14/147، الجامع في أصول الربا ص174.
وهذه المعاملة جائزة عند جمهور أهل العلم وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بكراهة هذه المعاملة ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن عمر بن عبد العزيز أنه قال:[التورق أخية الربا] مجموع الفتاوى 29/303.
وقال العلامة مصطفى الزرقا:[إن هذه المسألة التي سألتم عنها تسمى عند الفقهاء (مسألة التورق) لأن مشتري البضاعة لا يريد البضاعة لذاتها وإنما يريد الرقة أو الورق وهي الفضة أي: مقصوده الدراهم (وحكمها الشرعي في رأي العلماء أنها إذا كانت نتيجة تواطؤ) تفاهم مسبق (بين المشتري والتاجر البائع على أن يعيد بيعها للبائع بسعر أقل نقداً) وقد كان اشتراها منه بسعر أعلى مؤجلاً فذلك غير جائز شرعاً، لأنه كالمراباة الصريحة -وهذه هي العينة- أما إذا كان المحتاج إلى النقود (ولا يجد من يقرضه قرضاً حسناً) قد ذهب من تلقاء نفسه إلى السوق، فاشترى بضاعة بثمن مؤجل، ثم باعها بدون سابق تواطؤ نقداً بسعر أقل، لكي يحصل على الدراهم التي هي حاجته دون أن يلجأ إلى الاقتراض بالربا، فلا مانع منه شرعاً، بل يعتبر حسن تصرف منه كيلا يقع في المراباة والله سبحانه أعلم] فتاوى العلامة مصطفى الزرقا ص 496.
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين بعد أن ذكر خلاف العلماء في المسألة:[لكن أرى أنها حلال بشروط هي:الشرط الأول: أن يتعذر القرض أو السلم أي أن يتعذر الحصول على المال بطريق مباح والقرض في وقتنا الحاضر الغالب أنه متعذر...
الشرط الثاني: أن يكون محتاجاً لذلك حاجة بينة.
الشرط الثالث: أن تكون السلعة عند البائع فإن لم تكن عند البائع فقد باع ما لم يدخل في ضمانه وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن بيع السلع في مكان شرائها حتى ينقلها التاجر إلى رحله) –متفق عليه- فهذا من باب أولى لأنها ليست عنده فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة فأرجو أن لا يكون بها بأس لأن الإنسان قد يضطر أحياناً لهذه المعاملات] الشرح الممتع على على زاد المستقنع 8/232-233.
وخلاصة الأمر أن التورق جائز عند توفر الشروط السابقة.
- - -
كل قرض جرَّ نفعاً فهو ربا
روي في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -:(كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا). وهذا الحديث بهذا اللفظ لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروي بلفظ آخر وهو (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قرض جر منفعة) فقد رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده وفي إسناده متروك كما قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 3/34. ورواه البيهقي في السنن 5/350، بلفظ (كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا) وقال البيهقي: موقوف. ورواه البيهقي أيضاً في معرفة السنن والآثار 8/169 والحديث ضعيف، ضعفه الحافظ ابن حجر كما سبق وضعفه أيضاً العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/235.
ومع ضعف الحديث إلا أن معناه صحيح ولكن ليس على إطلاقه، فالقرض الذي يجر نفعاً ويكون رباً أو وجهاً من وجوه الربا هو القرض الذي يشترط فيه المقرض منفعة لنفسه فهو ممنوع شرعاً.(/52)
وأما إذا لم يشترط ذلك فرد المقترض للمقرض القرض وهدية مثلاً بدون شرط سابق فهذا جائز ولا بأس به، بل هو من باب مكافأة الإحسان بالإحسان وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:(خيركم أحسنكم قضاء) رواه البخاري ومسلم.
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال:(أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد ضحى فقال: صل ركعتين وكان لي عنده دين فقضاني وزادني) رواه البخاري.
ومن هذا يتبين لنا أن المنفعة التي يجرها القرض تكون محرمة إذا كانت مشروطة وينطبق عليها كل قرض جر منفعة فهو ربا.
ويلحق بالمنفعة المشروطة الهدية أو المنفعة التي يقدمها المقترض للمقرض قبل السداد. ولم تجر العادة في التهادي بينهما ففيها شبهٌ بالربا وقد ورد في آثار عن الصحابة المنع من ذلك.
فقد روى البخاري عن أبي بردة قال:(أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي: ألا تجيء إلى البيت حتى أطعمك سويقاً وتمراً فذهبنا فأطعمنا سويقاً وتمراً، ثم قال: إنك بأرض الربا فيها فاشٍ -أي منتشر- فإذا كان لك على رجل دين فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تقبله فإن ذلك من الربا) والقت علف الدواب .
وعن سالم بن أبي الجعد قال:(كان لنا سماك عليه لرجل خمسون درهماً فكان يهدي إليه السمك فأتى ابن عباس فسأله عن ذلك؟ فقال: قاصِّه بما أهدى إليك) رواه البيهقي وقال العلامة الألباني إسناده صحيح، وقوله ( قاصِّه ) أي احسب ما أهدى إليك واحسمه من الدَّين.
وله رواية أخرى:(أن ابن عباس قال في رجل كان له على رجل عشرون درهماً فجعل يهدي إليه وجعل كلما أهدى إليه هدية باعها حتى بلغ ثمنها ثلاثة عشر درهما فقال ابن عباس: لا تأخذ منه إلا سبعة دراهم) سنن البيهقي 5/349 -350. وقال العلامة الألباني: إسناده صحيح، إرواء الغليل 5/234.
- - -
تحريم الكفالة في قرض ربوي
إن الإسلام إذا حرم شيئاً سدَّ كل الطرق الموصلة إليه والميسرة له، فالربا من أشد المحرمات وبالتالي حرم الإسلام كل ما يؤدي له أو يساعد فيه ومن هذا الباب يحرم على الشخص أن يكفل من اقترض قرضاً ربوياً ويحرم عليه أيضاً أن يشهد على ذلك ويحرم عليه أن يكتب معاملة ربوية، وقد ثبت في الحديث:( لعن الله آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه، وقال هم سواء) رواه مسلم. وآكل الربا هو من يأخذ المال بالربا ومؤكل الربا هو دافعه ومطعمه غيره وهذا الحديث يدل دلالة صريحة على تحريم الربا وما لحق به من حيث الشاهد والكاتب والكفيل أشد من ذلك.
- - -
حكم شراء أسهم الشركات التي تتعامل بالربا أحياناً
لا يجوز للمسلم أن يساهم في شركات تتعامل بالربا أخذاً وإعطاءً كما هو حال كثير من الشركات المساهمة التي ينص في أنظمتها على أن من موارد الشركة الإقراض والاقتراض بالربا.
والنصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - صريحة في تحريم الربا تحريماً قاطعاً لا شك فيه. ومن المسلَّم به عند أهل العلم أن فوائد البنوك هي من الربا المحرم.
وإن في طرق الاستثمار الشرعية غنىً عن الاستثمار بالطرق المحرمة كالمساهمة في شركات تتعامل بالحرام أو تتعامل بالربا أخذاً وإعطاءً وهذا القول هو أصح قولي العلماء في هذه المسألة وأقربها للتقوى إن شاء الله.
ولكن بعض أهل العلم المعاصرين لهم رأي آخر في المسألة ولا بأس من ذكره وهو أنه قد تكون الشركة المساهمة ذات أغراض مشروعة وموضع نشاطها حلالاً وتؤدي خدمات عامة للاقتصاد لكنها تتعامل مع البنوك الربوية بالفائدة فتضع أموالها في تلك البنوك وتتقاضى عليها فوائد ربوية تدخل في مواردها وأرباحها كما تقترض في بعض الحالات ما تحتاج إليه من تلك البنوك لقاء فائدة تدفعها وتدخل تلك القروض في إنتاج ما تنتجه والربح الذي تحققه، فالربا يدخل في بعض أعمالها أخذاً وإعطاءً فلا ينبغي أن نُحرِّم على الناس اقتناء أسهم هذه الشركات بصورة مطلقة ولا أن نبيحها لهم بصورة مطلقة بل نراعي ضرورة قيام هذه المؤسسات في المجتمعات ومنها المجتمعات الإسلامية وحاجة كثير من الناس إلى اقتناء أسهمها ولا سيما الذين لا يجدون طريقاً آخر لاستثمار مدخراتهم الصغيرة دون أن يجمدوها حتى تتآكل وفي الوقت نفسه يجب استبعاد العنصر الحرام من أرباح هذه الأسهم ... وذلك بأن يحسب مالك الأسهم بصورة دقيقة أو تقريبية جداً عند تعذر الحساب الدقيق ما دخل على عائدات كل سهم من العنصر الحرام في ربحه فيقرر مقداره من عائدات الأسهم ويوزعه على الفقراء دون أن ينتفع به أية منفعة ولا أن يحتسبه من زكاته ولا يعتبره صدقة من خالص ماله ولا أن يدفع به ضريبة حكومية ولو كانت من الضرائب الجائرة الظالمة لأن كل ذلك انتفاع بذلك العنصر الحرام من عائدات أسهمه.(/53)
وإن حساب هذا العنصر ولا سيما بصورة تقريبية جداً قد أصبح ميسوراً بالوسائل والأجهزة الحديثة والاستعانة بأهل الخبرة . وهذا يدخل في عموم البلوى وبهذا نيسر على الناس ونجنبهم الحرام دون أن نحرمهم من طريق استثماري لا يجدون بديلاً له بسب صغر مدخراتهم مع ملاحظة أن طريق المشاركات الصغيرة التجارية والمضاربة قد أصبح شديد الخطورة بسب ندرة الأمانة -مع الأسف- في هذا الزمان حيث أصبح الذي يضع ماله في يد غيره لاستثماره يدخل في مخاطرة كبيرة لفساد الذمم ويعرضه للتبخر ولا سيما أيضاً أن كثيراً من المدخرين الصغار أيتام وأرامل لا يستطيعون العمل بأنفسهم لأنفسهم. ولكل زمان حكمه وقد قرر الفقهاء في مناسبات كثيرة أموراً استثنائية عللوها بفساد الزمان.
هذا وفي حالة توافر شركات مساهمة تسد الحاجة وتلتزم بعدم التعامل بالربا أخذاً وإعطاءً يجب على المسلمين عدم التعامل مع الشركات المساهمة التي تقترض بالربا عند الحاجة وتودع أموالها بفائدة . المعاملات المالية المعاصرة ص 170.
ويعلق صاحب الكتاب السابق على الفتوى المذكورة بقوله: نستخلص من هذه الفتوى عدة أمور:
1. إن هذه الفتوى خاصة بالشركات الحيوية التي تؤدي خدمات عامة للناس ويقع الناس في حرج ومشقة نتيجة انهيارها ولا تعم جميع الشركات ويؤكد هذا الدكتور عبد الله الكيلاني في رسالته حيث يقول:[سألت الأستاذ الزرقاء حول موضوع الشركات المساهمة هل هي على إطلاقها أو لا؟ فأجاب: بأن الشركة التي لا تؤمِّن مرفقاً حيوياً ضرورياً أو حاجياً للمجتمع وكانت تتعامل بالربا في ادخار أموالها فأفتي بحرمة الاكتتاب بأسهمها لأنه لا يضر المجتمع انهيارها] .
2. إن هذه الفتوى تستند إلى عدة أمور وهي:
أ. سد حاجة حيوية عامة للمسلمين لا تستطيع رؤوس الأموال الفردية ولا رؤوس أموال الدولة أن تقوم بها فتعين وجودها من خلال شركات المساهمة التي قد تتعامل بالربا في إيداع أموالها والاقتراض من المصارف.
ب. تخريج المسألة على قاعدة (عموم البلوى ورفع الحرج عن الناس) ففي حالة فساد الزمان وخراب الذمم يمكن أن يفتى الناس بالأحكام الاستثنائية، فقد قرر الفقهاء عند فساد الزمان وشيوع الفسق وندرة العدالة قبول شهادة غير العدل فتقبل شهادة الأمثل فالأمثل لعموم البلوى كيلا يتعطل القضاء إذا طلبت العدالة الكاملة في الشاهد.
ج. سد حاجة فردية لصغار المساهمين الذين لا يجدون بديلاً استثمارياً بسب صغر مدخراتهم وعجزهم عن القيام بأنفسهم بالاستثمار بالإضافة إلى عدم الثقة بكثير ممن يقومون بالمشاركات الأخرى كالمضاربة لفساد ذممهم وقلة الأمانة لديهم.
3. الفتوى تمنع انتفاع صاحب الأسهم بالمال الحرام الذي دخل في عوائدها ، وينبغي تقديره والتخلص منه بإعطائه للفقراء والمستحقين. انظر كتاب المعاملات المالية المعاصرة ص 171.
وخلاصة الأمر أني لا أجيز لمسلم أن يساهم في شركات تتعامل بالربا أخذاً وإعطاءً ابتداءً.
ومن له أسهم في مثل هذه الشركات فإن أراد التقوى والورع فعليه أن يبيع أسهمه تلك وأن يخلَّص رأس ماله من شوائب الربا. قال تعالى: { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } سورة البقرة الآية 279.
وإن اختار أحدٌ الطريق الآخر وأخذ بالرأي الثاني - وله حظ من النظر والفقه - فذلك شأنه.
- - -
حكم السندات
السندات نوع من الأوراق المالية التي يجري التعامل بها في الأسواق المالية المعاصرة وتسمى أحياناً شهادات الاستثمار وهي عبارة عن قرض طويل الأجل تتعهد الشركة المقترضة بموجبه أن تسدد قيمته في تواريخ محددة. المعاملات المالية المعاصرة ص 176.
أو هو صك قابل للتداول يمثل قرضاً يعقد عادة بواسطة الاكتتاب العام وتصدره الشركات أو الحكومات ويعتبر حامل سند الشركة دائناً للشركة ويعطى حامل السند فائدة ثابتة سنوياً وله الحق في استيفاء قيمته عند حلول أجل معين. مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد 6، جزء 2، ص1283.
ويلاحظ في تعريف السندات أن السند عبارة عن دين ثابت على الشركة ويستوفي حامل السند فائدة ثابتة سواء ربحت الشركة أو خسرت. وخلاصة الأمر أن السند عبارة عن قرض ربوي مهما اختلفت أسماؤه وتعددت أوصافه.
وبناءً على أن السند قرض ربوي فيحرم التعامل بالسندات ما دامت تصدر بفائدة ثابتة معينة لذا لا يجوز إصدار السندات ولا تداولها والقول بتحريم السندات واعتبارها من الربا المحرم هو مذهب أكثر العلماء والفقهاء المعاصرين. لأن السند قرض على الشركة أو الجهة التي أصدرته لأجل معين وبفائدة معينة ثابتة ومشروطة وهذا هو ربا النسيئة بعينه الذي حرمته الشريعة الإسلامية بالنصوص الصريحة في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.(/54)
قال الله تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } سورة البقرة الآية 275.
وقد حاول بعض العلماء أن يخرج مسألة السندات على عقد المضاربة المعروف في الفقه الإسلامي ولكن هذا التخريج غير صحيح مطلقاً لأن السندات في حقيقتها قروض ربوية ولو سلمنا جدلاً بصحة تخريجها على المضاربة الشرعية فهي مضاربة فقدت شروط صحتها شرعاً كما قال د.يوسف القرضاوي:[والخلاصة أن شهادات الاستثمار من فئة (أ) و (ب) إما أنها من باب القرض بفائدة وهو الأمر الواضح بحسب قانون إنشائها أو من باب المضاربة التي فقدت شروطها الشرعية ففقدت بذلك إذن الشرع فيها فهي محرمة على كلا الاحتمالين] فوائد البنوك هي الربا الحرام ص 102.
والقول بتحريم السندات هو القول الفصل في المسألة وهو ما قرره مجمع الفقه الإسلامي الذي يضم عدداً كبيراً من العلماء والفقهاء المعاصرين فقد جاء في قرار المجمع ما يلي:[وبعد الإطلاع على أن السند شهادة يلتزم المصدر بموجبها أن يدفع لحاملها القيمة الاسمية عند الاستحقاق مع دفع فائدة متفق عليها منسوبة إلى القيمة الاسمية للسند أو ترتيب نفع مشروط سواء أكان جوائز توزع بالقرعة أم مبلغاً مقطوعاً أم حسماً (خصماً) قرر ما يلي:
1. إن السندات التي تمثل التزاماً بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه أو نفع مشروط محرمة شرعاً من حيث الإصدار أو الشراء أو التداول لأنها قروض ربوية سواء أكانت الجهة المصدرة لها خاصة أو عامة ترتبط بالدولة ولا أثر لتسميتها شهادات أو صكوكاً استثمارية أو ادخارية أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحاً أو ريعاً أو عمولة أو عائداً.
2. تحرم أيضاً السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قروضاً يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية ويستفيد أصحابها من الفروق باعتبارها خصماً لهذه السندات.
3. كما تحرم أيضاً السندات ذات الجوائز باعتبارها قروضاً اشترط فيها نفع أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين أو لبعضهم لا على التعيين فضلاً عن شبهة القمار.
4. من البدائل للسندات المحرمة -إصداراً أو شراءً أو تداولاً- السندات أو الصكوك القائمة على أساس المضاربة لمشروع أو نشاط استثماري معين بحيث لا يكون لمالكيها فائدة أو نفع مقطوع وإنما تكون لهم نسبة من ربح هذا المشروع بقدر ما يملكون من هذه السندات أو الصكوك ولا ينالون هذا الربح إلا إذا تحقق فعلاً. ويمكن الاستفادة في هذا من الصيغة التي تم اعتمادها في القرار رقم 5 للدورة الرابعة لهذا المجمع بشأن سندات المقارضة] مجلة مجمع الفقه الإسلامي 6/2/1725-1726 .
وختاماً أقول إن تعامل الناس بالربا في هذا الزمان قد عمّ وطمّ وغلب التعامل بالربا على أكثر معاملات الناس المعاصرة بسبب ارتباط الحياة الحديثة بالبنوك الربوية وقد وقع مصداق حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال:( ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يبقى أحد منهم إلا أكل الربا ومن لم يأكله أصابه من غباره) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
ومع انتشار التعامل بالربا في زماننا إلا أن كثيراً من الناس يقدمون على التعامل به مختارين غير مكرهين ولا مضطرين وإلى هؤلاء وغيرهم أسوق بعض النصوص الشرعية التي تحرم الربا والتعامل به:
1. يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } سورة البقرة الآيتان 276-277.
2. عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال:( لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
3. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هنَّ؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم.
4. وقال - صلى الله عليه وسلم -:(الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه) رواه الحاكم وقال العلامة الألباني: صحيح. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/488.
5. وقال - صلى الله عليه وسلم -:(الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وقال العلامة الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/663.(/55)
6. وقال - صلى الله عليه وسلم -:(درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية) رواه أحمد والطبراني وقال العلامة الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/636 وغير ذلك من الأحاديث.
- - -
التخلص من الفوائد الربوية
إن الربا من أكبر المحرمات وقد قامت الأدلة الصريحة من كتاب الله وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على تحريمه كما سبق، والأصل أنه يحرم على المسلم أن يضع أمواله في البنوك الربوية ابتداء إلا عند الضرورة فإذا حصل ووضع أمواله في البنك الربوي وأعطاه البنك الربوي ما يسمونه بالفائدة وهو الربا حقيقة وفعلاً فإن أمامه عدة احتمالات ليتصرف بهذا المال كما قرر ذلك بعض الفقهاء المعاصرين:
أولاً: أن ينفق هذا المال على نفسه وعياله وفي شؤونه الخاصة.
ثانياً: أن يترك هذا المال للبنك.
ثالثاً: أن يأخذ هذا المال ويتلفه ليتخلص منه.
رابعاً: أن يأخذه ويصرفه في مصارف الخير المختلفة للفقراء والمساكين والمؤسسات الخيرية.
هذه هي الاحتمالات الأربعة القائمة في هذه المسألة ونريد أن نناقشها واحداً تلو الآخر.
أما الخيار الأول وهو أن يأخذ هذا المال الحرام -الفائدة- من البنك وينفقه على نفسه وعياله وشؤونه الخاصة فهذا أمر محرم شرعاً بنص كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأنه إن أخذه وأنفقه على نفسه وعياله يكون قد استحل الربا المحرم، يقول الله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } ويقول أيضاً: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
وأما الخيار الثاني الذي مفاده أن تترك الفائدة للبنوك فإنه مهما اعتبره بعض الناس اقتضاء التقوى وموافقة حكم الشرع ومهما ترجح هذا الرأي لديهم لا يشك في تحريم ذلك من له أدنى معرفة بنظام البنوك الربوية وخاصة بنوك أوروبا وأميركا حيث تقوم هذه البنوك بتوزيع تلك الأموال على جمعيات معادية للإسلام والمسلمين.
لذلك فإن إبقاء الفوائد للبنوك الربوية حرام ولا يجوز شرعاً، قال د. يوسف القرضاوي:[والخلاصة أن ترك الفوائد للبنوك وبخاصة الأجنبي حرام بيقين وقد صدر ذلك عن أكثر من مجمع وخصوصاً مؤتمر المصارف الإسلامية الثاني في الكويت] فتاوى معاصرة 2/410.
وذكر أحد علماء الهند المعاصرين أن تلك الفوائد التي كان المسلمون يتركونها للبنوك الربوية في الهند كانت تصرف على بناء الكنائس وعلى إرساليات التبشير وغير ذلك . راجع قضايا فقهية معاصرة ص 24.
وأما الخيار الثالث وهو إتلاف تلك الأموال فلا يقول به عاقل لأن المال نعمة من الله سبحانه وتعالى وليس بنجس بنفسه وإنما يخبث المال إذا كسبه بطريق حرام فإتلافه إهدار لنعمة الله، قال الشيخ مصطفى الزرقا:[فالمال لا ذنب له حتى نحكم عليه بالإعدام فإتلافه إهدار لنعمة الله وهو عمل أخرق والشريعة الإسلامية حكمة كلها لأن شارعها حكيم].
فإذا بطلت الخيارات الثلاثة وبقي الخيار الرابع وهو أخذ المال من البنك وتوزيعه على الفقراء والمساكين وجهات الخير الأخرى وهذا شأن كل مال حرام يحوزه المسلم فيجب عليه أن يتصدق به ، قال حجة الإسلام الغزالي موضحاً مسألة التصدق بالمال الحرام ما نصه:[ فإن قيل: ما دليل جواز التصدق بما هو حرام وكيف يتصدق بما لا يملك؟ وقد ذهب جماعة إلى أن ذلك غير جائز لأنه حرام وحكى عن الفضيل أنه وقع في يده درهمان فلما علم أنهما من غير وجههما رماهما بين الحجارة وقال: لا أتصدق إلا بالطيب ولا أرضي لغيري مالاً لا أرضاه لنفسي؟ فنقول: نعم ذلك له وجه واحتمال، وإنما اخترنا خلافه للخبر والأثر والقياس.
أما الخبر: فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتصدق بالشاة المصلية التي قدمت فكلمته بأنها حرام إذ قال - صلى الله عليه وسلم -:(أطعموها الأسارى) - قال الحافظ العراقي في تخريج هذا الحديث رواه أحمد وإسناده جيد-
ولما نزل قوله تعالى: { الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } كذبه المشركون وقالوا للصحابة: ألا ترون ما يقول صاحبكم يزعم أن الروم ستغلب فخاطرهم أبو بكر - رضي الله عنه - بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما حقق الله صدقه وجاء أبو بكر - رضي الله عنه - بما قامرهم به قال - صلى الله عليه وسلم -:(هذا سحت فتصدق به وفرح المؤمنون بنصر الله وكان قد نزل تحريم القمار بعد إذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له في المخاطرة مع الكفار.(/56)
قال الحافظ العراقي: حديث مخاطرة أبي بكر بإذنه - صلى الله عليه وسلم - لما نزل قوله تعالى: { الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } وفيه فقال - صلى الله عليه وسلم -:(هذا سحت فتصدق به) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة من حديث ابن عباس وليس فيه إن ذلك كان بإذنه - صلى الله عليه وسلم - والحديث عند الترمذي وحسنه والحاكم وصححه دون قوله أيضاً:(هذا سحت فتصدق به).
وأما الأثر فإن ابن مسعود - رضي الله عنه - اشترى جارية فلم يظفر بمالكها لينقده الثمن فطلبه كثيراً فلم يجده فتصدق بالثمن وقال: اللهم هذا عنه إن رضي وإلا فالأجر لي.
وسئل الحسن - رضي الله عنه - عن توبة الغال -من يأخذ من مال الغنيمة قبل أن يقسم- وما يؤخذ منه بعد تفرق الجيش فقال: يتصدق به. وروي أن رجلاً سوّلت له نفسه فغلّ مائة دينار من الغنيمة ثم أتى أميره ليردها عليه فأبى أن يقبضها وقال له: تفرق الناس. فأتى معاوية فأبى أن يقبضها. فأتى بعض النّساك فقال: ادفع خمسها إلى معاوية وتصدّق بما يبقى فبلغ معاوية قوله فتلهف إذ لم يخطر له ذلك. وقد ذهب أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وجماعة من الورعين إلى ذلك.
وأما القياس: فهو أن يقال: إن هذا المال مردد بين أن يضيع وبين أن يصرف إلى خير إذ قد وقع اليأس من مالكه وبالضرورة يعلم أن صرفه إلى خير أولى من إلقائه في البحر فإنا إن رميناه في البحر فقد فوتناه على أنفسنا وعلى المالك ولم تحصل منه فائدة وإذا رميناه في يد فقير يدعو لمالكه حصل للمالك بركة دعائه وحصل للفقير سد حاجته وحصول الأجر للمالك بغير اختياره في التصدق لا ينبغي أن ينكر فإن في الخبر الصحيح:(إن للزارع والغارس أجراً في كل ما يصيبه الناس من ثماره وزروعه) رواه البخاري.
وأما قول القائل: لا نتصدق إلا بالطيب فذلك إذا طلبنا الأجر لأنفسنا ونحن الآن نطلب الخلاص من المظلمة لا الأجر وترددنا بين التضييع وبين التصدق ورجحنا جانب التصدق على جانب التضييع.
وقول القائل: لا نرضى لغيرنا ما لا نرضاه لأنفسنا فهو كذلك ولكنه علينا حرام لاستغنائنا عنه وللفقير حلال إذا حلّه دليل الشرع وإذا اقتضت المصلحة التحليل وجب التحليل وإذا حل فقد رضينا له الحلال.
ونقول: إن له أن يتصدق على نفسه وعياله إذا كان فقيراً أما عياله وأهله فلا يخفى لأن الفقر لا ينتفي عنهم بكونهم من عياله وأهله بل هم أولى ولو تصدق به على فقير لجاز وكذا إذا كان هو الفقير] فتاوى معاصرة 2/412 - 413.
وبهذا يظهر لنا أن المصرف الوحيد لهذه الأموال -الفوائد- هو التصدق بها وقد قال بهذا القول عدد من الفقهاء المعاصرين في مؤتمر عقد سنة 1979م وشارك فيه عدد من العلماء المسلمين المعاصرين وهو قول سديد وفقه حسن وبه أقول.
- - -
حكم التعامل ببطاقات الائتمان (بطاقات الفيزا) وغيرها
إننا في فلسطين نعيش في ظل ظروف اقتصادية صعبة فرضت على كثير من الناس أن يتعاملوا مع البنوك الربوية وكثير من المعاملات التجارية صارت متوقفة على التعامل مع البنوك الربوية ومع ذلك فإني أنصح بعدم التعامل مع البنوك الربوية إلا في أضيق نطاق نظراً لخطورة الربا فهو من المحرمات القطعية في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك التعامل بهذه البطاقات (الفيزا وغيرها) فينبغي أن يكون استعمالها في أضيق نطاق لأن البطاقات التي تصدرها البنوك الربوية تتضمن في الغالب شروطاً ربوية مثل فرض زيادة ربوية (فائدة) في حال تأخر حامل البطاقة عن التسديد أو كشف حسابه في البنك المصدر للبطاقة، وكذلك فإن البنوك الربوية تفرض نسبةً مقطوعة محددة على كلّ عمليّة سحب نقدي يجريها حامل البطاقة وهذا هو الربا المحرم قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } سورة البقرة الآيتان 278- 279. وصح في الحديث عَنْ جَابِر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:( لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء) رواه مسلم.(/57)
ومن المعلوم أن بطاقات الائتمان من المسائل الجديدة التي لم يعرفها الفقه الإسلامي قديماً وقد وفدت هذه المسألة من ضمن ما وفد على المسلمين من مستلزمات الرأسمالية التي تقوم على نظام الربا (الفائدة) وقد درست هذه القضية من مجامع فقهية وحلقات علمية ودراسات فردية ولكن بداية أذكر أن شيخنا الأستاذ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان حفظه الله ورعاه يرى أن تسمية البطاقات التي تصدرها البنوك من أمثال: فيزا وماستر كارد وأميريكان إكسبريس ببطاقات الائتمان تسمية غير صحيحة وليست معبرة عن حقيقة هذه البطاقات فقد ذكر في كتابه البطاقات البنكية الإقراضية والسحب المباشر من الرصيد أنه يجب تصحيح مصطلح بطاقات الائتمان وأن المصطلح الصحيح هو: بطاقات الإقراض والسحب المباشر من الرصيد ليكون أبلغ في الكشف عن حقيقتها وأقسامها المتداولة، يدركه المثقف والعامي، التاجر والمستهلك، من يحملها، ومن تقدم له، مصطلح ترسخ معناه في أذهان الجميع، يعرفون آثاره ومسؤولياته، الحلال منه والحرام، معلومة أحكامه من الدين بالضرورة، مسلم المبادئ والأحكام، وليس من سبب يدعو لهجره والعدول عنه] البطاقات البنكية الإقراضية والسحب المباشر من الرصيد ص31.
وقد عرف مجمع الفقه الإسلامي هذه البطاقة بأنها (مستند يعطيه مُصدِرهُ لشخص طبيعي أو اعتباري بناءً على عقد بينهما يمكنه من شراء السلع أو الخدمات ممن يعتمد المستند دون دفع الثمن حالاً لتضمنه التزام المصدر بالدفع ومن أنواع هذا المستند ما يمكن من سحب نقود من المصارف. ولبطاقات الائتمان صور:
- منها ما يكون السحب أو الدفع بموجبها من حساب حاملها في المصرف وليس من حساب المصدر فتكون بذلك مغطاة. ومنها ما يكون الدفع من حساب المصدر ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية.
- ومنها ما يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع خلال فترة محددة من تاريخ المطالبة. ومنها ما لا يفرض فوائد.
- وأكثرها يفرض رسماً سنوياً على حاملها ومنها ما لا يفرض فيه المصدر رسماً سنوياً). مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السابع الجزء الأول ص717.
وقد صدر قرار عن مجمع الفقه الإسلامي وضح فيه القواعد الأساسية للتعامل مع هذه البطاقات ونصه:... بعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع (بطاقات الائتمان غير المغطاة) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله من الفقهاء والاقتصاديين، ورجوعه إلى تعريف بطاقة الائتمان في قراره رقم 63/1/7 الذي يستفاد منه تعريف بطاقة الائتمان غير المغطاة بأنه: مستند يعطيه مصدرُه (البنك المصدر) لشخص طبيعي أو اعتباري (حامل البطاقة) بناء على عقد بينهما يمكنه من شراء السلع، أو الخدمات، ممن يعتمد المستند (التاجر) دون دفع الثمن حالاً لتضمنه التزام المصدر بالدفع، ويكون الدفع من حساب المصدر، ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية، وبعضها يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع بعد فترة محددة من تاريخ المطالبة، وبعضها لا يفرض فوائد.
قرر ما يلي:أولاً: لا يجوز إصدار بطاقة الائتمان غير المغطاة ولا التعامل بها، إذا كانت مشروطة بزيادة فائدة ربوية، حتى ولو كان طالب البطاقة عازماً على السداد ضمن فترة السماح المجاني.
ثانياً: يجوز إصدار البطاقة غير المغطاة إذا لم تتضمن شرط زيادة ربوية على أصل الدَّين. ويتفرع على ذلك:
أ. جواز أخذ مصدرها من العميل رسوماً مقطوعة عند الإصدار أو التجديد، بصفتها أجراً فعلياً على قدر الخدمات المقدمة منه.
ب. جواز أخذ البنك المصدر من التاجر عمولة على مشتريات العميل منه، شريطة أن يكون بيع التاجر بالبطاقة بمثل السعر الذي يبيع به بالنقد.
ثالثاً: السحب النقدي من قبل حامل البطاقة اقتراضاً من مصدرها، ولا حرج فيه شرعاً إذا لم يترتب عليه زيادة ربوية، ولا يعد من قبيلها الرسوم المقطوعة التي لا ترتبط بمبلغ القرض أو مدته مقابل هذه الخدمة. وكل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة لأنها من الربا المحرم شرعاً كما نص على ذلك المجمع في قراره رقم 13 (10/2) و 13 (1/3).
رابعاً: لا يجوز شراء الذهب والفضة وكذا العملات النقدية بالبطاقة غير المغطاة] انتهى قرار المجمع الفقهي.
إذا تقرر هذا فأعود لقضية استعمال هذه البطاقات في عملية صرف العملات فأقول: اتفق أهل العلم على أن من شروط عقد الصرف تقابض البدلين من الجانبين في مجلس العقد قبل افتراقهما. قال ابن المنذر:[أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد]. فلذلك يشترط في عملية بيع عملة بأخرى أن يتم تبادل العملتين في مجلس العقد ولا يجوز تأجيل قبض إحداهما وإن حصل التأجيل فالعقد باطل ويدل على ذلك حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(الذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد والفضة بالفضة مثلاً بمثل يداً بيد) رواه مسلم .(/58)
وبما أن العملات الورقية تقوم مقام الذهب والفضة كما قاله كثير من علماء العصر وهو القول الصحيح فإنه يشترط في بيع هذه العملات بغيرها من العملات التقابض في مجلس العقد ولا يجوز التأجيل وبناءً على ما تقدم فإذا كان التاجر يمكنه قبض العملة بمجرد رجوعه إلى البنك المصدر للبطاقة فيجوز استعمال البطاقات المذكورة في صرف العملات لأن القيد في الحساب مباشرة يقوم مقام القبض الفعلي وأما إذا لم يمكنه ذلك فيحرم حينئذ استعمالها.
وخلاصة الأمر أني أنصح بعدم التعامل مع البنوك الربوية بشكل عام وإذا احتاج الشخص للتعامل معها فيكون ذلك في أضيق نطاق وإذا احتاج للتعامل بالبطاقات فلا بد من الانتباه لأمر هام وهو أن يكون حساب الشخص غير مكشوف لدى البنك.
- - -
حكم التعامل في الأسواق المالية (البورصة)
سوق الأوراق المالية المسماة بالبورصة تعني المكان الذي يلتقي فيه المصرفيون وسماسرة الأوراق المالية والتجار لإجراء الصفقات التجارية في الأسهم والسندات وحصص التأسيس.
وسوق الأوراق المالية أمر حديث نسبياً في العالم الإسلامي حيث إنه من نتاج الحضارة الرأسمالية وليس معنى ذلك أنه مرفوض شرعاً وإنما لا بد من وضع ضوابط شرعية معينة حتى يصح التعامل في الأسواق المالية ، وقد وضع العلماء المعاصرون هذه القيود والضوابط للحالات التي يجوز التعامل بها في السوق المالي.
وينبغي أولاً التذكير بأن الأصل في باب المعاملات في الشريعة الإسلامية هو الإباحة وبناءً على ذلك لا يجوز منع أي معاملة إلا بنص صريح من الشارع الحكيم أو قياس صحيح عليه.
ويدل على ذلك قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } سورة المائدة الآية 1.
فالآية الكريمة أوجبت الوفاء بالعقود من غير تعيين قال شيخ الإسلام ابن تيمية:[والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه كما لا يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها إلى الله إلا ما دل الكتاب والسنة على شرعه إذ الدين ما شرعه الله والحرام ما حرمه الله بخلاف الذين ذمهم الله حيث حرموا من دين الله ما لم يحرمه الله وأشركوا به ما لم ينزل به سلطاناً وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، اللهم وفقنا لأن نجعل الحلال ما حللته والحرام ما حرمته والدين ما شرعته] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 28/386.
ويقول د. يوسف القرضاوي:[إن الأصل في المعاملات والعقود الإذن والإباحة إلا ما جاء نص صحيح الثبوت صريح الدلالة يمنعه ويحرمه فيوقف عنده … وهذا بخلاف العبادات التي تقرر: أن الأصل فيها المنع حتى يجيء نص من الشارع لئلا يشرع الناس في الدين ما لم يأذن به الله فإذا كان الأساس الأول للدين ألا يعبد إلا الله فإن الأساس الثاني ألا يعبد الله إلا بما شرع.
وهذه التفرقة أساسية ومهمة فلا يجوز أن يقال لعالم: أين الدليل على إباحة هذا العقد أو هذه المعاملة؟ إذ الدليل ليس على المبيح لأنه جاء على الأصل وإنما الدليل على المُحّرّم، والدليل المحرم يجب أن يكون نصاً لا شبهة فيه كما هو اتجاه السلف الذين نقل عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية أنهم ما كانوا يطلقون الحرام إلا على ما علم تحريمه جزماً] بيع المرابحة للقرضاوي ص13.
كما وأن الأصل في البيع الحل لعموم قوله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } سورة البقرة الآية 275 .
إذا تقرر هذا فأعود إلى بيان حكم التعامل بالأسواق المالية (البورصة) فأقول: تتعامل البورصة بالأسهم والسندات بشكل عام، فأما الأسهم فهي عبارة عن حصص الشركاء في الشركات المساهمة حيث إن رأسمال الشركة المساهمة يقسم إلى أجزاء متساوية يُطْلَق على كل منها سهمٌ، فالسهم هو جزء من رأس مال الشركة وهو يمثل حق المساهم مقدراً بالنقود لتحديد نصيبه في ربح الشركة أو خسارتها وكذلك تحديد مسؤولية المساهم في الشركة.
والأصل في الشركة المساهمة الجواز إذا كانت خالية من الربا والتعامل المحرم فالمساهمون فيها يتحقق فيهم معنى الشركاء حيث إنهم يقدمون أسهمهم حصصاً في رأس المال فيشتركون في رأس المال ويقتسمون الأرباح والخسائر فيكونون شركاء بمجرد توقيع عقد الاكتتاب في الشركة فيعتبر ذلك إيجاباً وقبولاً لأن الإيجاب والقبول لا يشترط فيهما التلفظ بل يصحان بالكتابة وهؤلاء الشركاء يوكلون مجلس إدارة الشركة بالقيام بالعمل وهو توكيل صحيح. والقول بمنع شركة المساهمة قول ضعيف لا دليل يؤيده. انظر شركة المساهمة ص 303 فما بعدها.
وأما السندات فهي عبارة عن قروض طويلة الأجل تتعهد الشركة المقترضة بموجبها أن تسدد قيمتها في تواريخ محددة مع فائدة متفق عليها. المعاملات المالية المعاصرة ص 176.
والصحيح من أقوال أهل العلم جواز التعامل بالأسهم ضمن ضوابط معينة وحرمة التعامل بالسندات لأنها قروض ربوية.
وأما ضوابط التعامل بالأسهم فهي:(/59)
أولاً: أن تكون الأسهم صادرة من شركات ذات أغراض مشروعة بأن يكون موضوع نشاطها حلالاً مباحاً مثل الشركات الإنتاجية للسلع والخدمات كشركة الكهرباء وشركة الأدوية وغير ذلك، أما إذا كان موضوع نشاطها محرماً كشركات إنتاج الخمور أو شركات إنشاء البنوك الربوية فلا يجوز امتلاك شيء من أسهمها وتداوله بين المسلمين كما تحرم أرباحها لأن شراء الأسهم من تلك الشركة من باب المشاركة في الإثم والعدوان.
ثانياً: أن تكون الأسهم صادرة عن شركة معروفة ومعلومة لدى الناس بحيث تتضح سلامة تعاملها ونزاهته لذا لا يجوز التعامل بأسهم سلة شركات مساهمة كما هو في الغرب دون أن يعرف المشتري للأسهم حقيقة تلك الشركات فمن الأساليب الجديدة في الاستثمار استثمار في سلة مشتركة لشركات مساهمة أمريكية (Mutual Fund) وكل سلة لها مدير مشرف عليها ويديرها حسب تعليمات ودراسات تجريها شركة :"مريل لينش الاستثمارية" فالأسهم التي يشتريها المستثمر في السلة المشتركة عرضة للربح والخسارة ففي عام 1995 حققت سلة "ميرل ليتس بيسك فاليو" أرباحاً بنسبة 18% في ستة أشهر في حين أنها في عام 1990 خسرت بنسبة 13%.
فبالرغم من أن الاستثمار في هذه السلة عرضة للربح والخسارة إلا أن هذا الأسلوب من الاستثمار لا يجوز لأمرين:
الأول: عدم معرفة ماهية تلك الشركات التي تتضمنها تلك السلة فهي لا تخلو من شركات مساهمة ذات أنشطة اقتصادية محرمة كشركات إنتاج الخمور أو شركات البنوك الربوية التي حرم الإسلام التعامل بأسهمها.
والثاني: إن هذه السلات تقوم بأنشطة اقتصادية غير مشروعة كبيع دين بدين على حساب الفائدة.
ولذلك ترفض المصارف الإسلامية التعامل مع تلك السلات واستثمار أموالها عن طريقها.
ثالثاً: أن لا يترتب على التعامل بها أي محظور شرعي كالربا والغرر والجهالة وأكل أموال الناس بالباطل فلا يجوز للمسلم قبول أسهم الامتياز التي تعطي له حق الحصول على ربح ثابت سواء أربحت الشركة أم خسرت لأن هذا ربا محرم شرعاً ولا يجوز للمسلم قبول أسهم التمتع التي تعطي صاحبها حق الحصول على الأرباح دون أن يكون شريكاً في المال والعمل لأن هذا أكل لأموال الناس بالباطل. المعاملات المالية المعاصرة ص 169-173.
وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي في مؤتمره السابع التعامل مع الأسواق المالية وقرر ما يلي:
[ أولاً: الأسهم:
1. الإسهام في الشركات:
أ. بما أن الأصل في المعاملات الحل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز.
ب. لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها.
ج. الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات بالربا ونحوه بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة.
التعامل بالأسهم بطرق ربوية:
أ. لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن وهما من الأعمال المحرمة بالنص على لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه.
ب. لا يجوز أيضاً بيع سهم لا يملكه البائع وإنما يتلقى وعداً من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم لأنه من بيع ما لا يملك البائع ويقوى المنع إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار لينتفع به بإيداعه بفائدة للحصول على مقابل الإقراض…] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد7 ج1 ص 711- 717.
وأما التعامل بالسندات فهو محرم كما قلت لأنها قروض ربوية بفوائد محددة وقرر ذلك مجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة حيث جاء في قراره:
1. إن السندات التي تمثل التزاماً بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه أو نفع مشروط محرمة شرعاً من حيث الإصدار أو الشراء أو التداول لأنها قروض ربوية سواء أكانت الجهة المصدرة لها خاصة أم عامة ترتبط بالدولة ولا أثر لتسميتها شهادات أو صكوكاً استثمارية أو ادخارية أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحاً أو ريعاً أو عمولة أو عائداً.
2. تحرم أيضاً السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قروضاً يجري بيعها بأقل من قيمتها الإسمية ويستفيد أصحابها من الفروق باعتبارها حسماً(خصماً) لهذه السندات.
3. كما تحرم أيضاً السندات ذات الجوائز باعتبارها قروضاً اشترط فيها نفع أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين أو لبعضهم لا على التعيين فضلاً عن شبهة القمار… ]. مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 6 ج 2 ص1725 - 1726.(/60)
وبناء على كل ما تقدم فإنه لا يجوز شرعاً تداول أسهم البنوك الربوية وشركات التأمين وكل شركة تتعامل بالمحرمات كشركات إنتاج الخمور ونحوها كما لا يجوز إجراء عمليات البيع الآجلة لأن هذا النوع من العمليات لا يتم فيه تسليم المعقود عليه لا الثمن ولا المثمن بل يشترط تأجيلها فهذه العملية لا تجوز لأن شرط صحة العقود أن يتم تسليم العوضين أو أحدهما ولا يجوز تأجيل الاثنين حيث إنها تدخل في معنى بيع الكالئ بالكالئ فهذه العمليات تدخل في القمار الممنوع لأن البائع يضارب على هبوط السعر في اليوم المحدد والمشتري يضارب على صعوده ومن يصدق توقعه يكسب الفرق. الأسواق المالية ص 32.
- - -
استلام الشيك الحالّ بمثابة قبض النقود
إن الأصل في نظام المعاملات في الشريعة الإسلامية الإباحة مع الالتزام بالقواعد العامة الحاكمة لنظام المعاملات المالية الشرعية وإن التطور الملموس الذي ظهر في باب المعاملات المالية يحتاج إلى دراسة وبحث لصور المعاملات المالية الحديثة على ضوء القواعد الشرعية وينبغي التروي في إصدار الأحكام ودراستها دراسة عميقة ومن المعروف أن التعامل بالشيكات صار من الأمور المشهورة والمعروفة والتي لا يستغني عنها الناس في معاملاتهم المالية والشيك عبارة عن أمر من العميل إلى المصرف ليدفع إلى شخص ثالث المبلغ المدون في الشيك من حسابه الجاري في المصرف. المصارف الإسلامية ص 314 .
والشيكات على أنواع وأشكال مختلفة ولا يتسع المقام للحديث عن تفاصيل ذلك ولكن سأذكر حكم استعمال الشيك في الصرف وهل يقوم استلام الشيك مقام قبض المبلغ في الصرف لأنه من المعلوم فقهاً أنه يشترط لصحة عقد الصرف تقابض البدلين في المجلس فإذا ما تصارف اثنان أحدهما لديه ألف دينار مثلاً ويريد أن يصرفها إلى دولارات فدفع الأول الألف دينار للصراف فأعطاه الصراف شيكاً حال الأجل بالدولارات التي تقابل الدنانير فهل عملية الصرف هذه صحيحة أم لا؟
إذا نظرنا إلى حقيقة التعامل بالشيكات وأن منزلتها لا تقل عن منزلة التعامل بالأوراق النقدية وإذا اشترطنا في الشيك الحلول بمعنى أن يكتب تاريخ الشيك في تاريخ المصارفة وأن يكون المبلغ المكتوب فيه محدداً فإنه يجوز استعمال الشيك في هذه الحالة ويعتبر استلام الشيك بمثابة قبض المبلغ المدون فيه فقبض الشيك في هذه الحالة يقوم مقام قبض بدل الصرف ذاته.
يقول الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله:[فإذا نظرنا إلى أن الشيكات تعتبر في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية وأنها يجري تداولها بينهم كالنقود تظهيراً وتحويلاً وأنها محمية في قوانين جميع الدول من حيث أن سحب الشيك على بنك ليس للساحب فيه رصيد يفي بقيمة الشيك المسحوب يعتبر جريمة شديدة تعاقب عليها قوانين العقوبات في الدول جميعاً، إذا نظرنا إلى هذه الاعتبارات يمكن القول معها بأن تسليم المصرف الوسيط شيكاً بقيمة ما قبض من طالب التحويل يعتبر بمثابة دفع بدل الصرف في المجلس أي أن قبض ورقة الشيك كقبض مضمونه فيكون الصرف قد استوفى شريطته الشرعية في التقابض] أحكام صرف النقود والعملات ص 101.
وبهذا يتضح لنا أن إعطاء شيك حال بمنزلة التقابض في المجلس فلا مانع من ذلك شرعاً وأما أخذ العمولة على الشيكات المؤجلة كأن تكون قيمة الشيك ألف دينار مثلاً وتاريخ الشيك بعد شهرين فيذهب حامل الشيك إلى الصراف فيعطيه 950 ديناراً فأرى أن هذه الصورة ممنوعة شرعاً لاشتمالها على الربا.
وأما إذا كان الشيك حالَّاً فلا مانع من أخذ العمولة عليه كما جرت عادة المصارف والصرافين من خصم 1% مثلاً على الشيك فهذه الصورة تخرج على أنها وكالة والوكالة تجوز بأجر وبدون أجر فهذه العملية ظاهر فيها الجواز شرعاً لأن العمولة التي يأخذها البنك هي أجرة له على التحصيل فهو وكيل مفوّض من قبل أصحاب هذه الأوراق علماً أن تحصيلها يتطلب جهداً كبيراً من البنك ويكلفه مصاريف انتقال المحصلين وإرسال الإخطارات للمدينين والإشعارات بسدادهم يقول الأستاذ الهمشري:[وبالتأمل في مفهوم كل من التحصيل للأوراق التجارية والوكالة أستطيع أن أقرر أن عملية التحصيل للأوراق التجارية لا تخرج عن كونها عملية توكيل للبنك بأجر وإذا أجزنا للمحامي الأجر مقابل وكالته في الدفاع سواء أكسب القضية أم خسرها فإن الوكيل - البنك - في عملية التحصيل للدين يستحق الأجر سواء تم التحصيل أم لا لأنه قام بالوكالة وحقق المطالبة بسداد الدَّين في ميعاد الاستحقاق واتخذ كافة وسائل التحصيل الممكنة... ] البنوك الإسلامية ص 137-138.
وخلاصة الأمر أنه يجوز صرف الشيكات الحالة مع دفع عمولة عليها كما هو متعارف الآن لدى البنوك والصرافين وأن هذه العمولة تخرج على أنها وكالة بأجر.
- - -
التعامل بالشيكات الآجلة(/61)
التعامل بالشيكات من الأمور الجائزة شرعاً ضمن الضوابط الشرعية لذلك ومن أهم هذه الضوابط أنه لا يجوز بيع الشيكات المؤجلة بأقل من قيمتها لأن ذلك من الربا المحرم حيث إن بيع الشيك المؤجل بأقل من قيمته هو في الحقيقة بيع دين بنقد مع التفاضل وعدم التقابض في المجلس وهذا ربا النسيئة المحرم بالنصوص الشرعية وقد انعقد الإجماع على ذلك، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبُر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي:[قوله - صلى الله عليه وسلم -:(يداً بيد) حجة للعلماء كافة في وجوب التقابض وإن اختلف الجنس] شرح النووي على صحيح مسلم 4/199.
وفي رواية أخرى للحديث السابق قال - صلى الله عليه وسلم -:(لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض - أي لا تزيدوا - ولا تبيعوا الورق -الفضة- بالورق إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) رواه البخاري ومسلم.
وقد اتفق أهل العلم على أن من شروط عقد الصرف تقابض البدلين من المتعاقدين في مجلس العقد قبل افتراقهما .قال ابن المنذر:[أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد] المغني4/41.
ويمكن الاستعاضة عن بيع الشيكات المؤجلة بأقل من قيمتها بأن يجعل الشخص الذي بيده تلك الشيكات مبلغاً من المال لمن يحصل لك تلك الشيكات المؤجلة على أن يدفع له المبلغ المتفق عليه بعد أن يقوم بتحصيلها وهذا ما يسمى الجعالة عند الفقهاء وهي تسمية مال معلوم لمن يعمل للجاعل عملاً مباحاً انظر الموسوعة الفقهية 15/208.
وقد قال جمهور أهل العلم بصحة عقد الجعالة ويدل على جوازها قوله تعالى: { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } سورة يوسف الآية72. ويدل على جوازها أيضاً ما ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال:(انطلق نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم، فلُدِغَ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم أن يكون عندهم شيء، فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم، والله إني لأرقي، ولكن استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براقٍ حتى تجعلوا لنا جُعلاً، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه، ويقرأ: الحمد لله رب العالمين، فكأنما أنشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قَلَبَة – أي علة -، فقال فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقتسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكروا له ذلك، فقال: وما يدريك أنها رقية؟، ثم قال: قد أصبتم، اقتسموا، واضربوا لي معكم سهماً) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأدلة.
ولا بد من التنبيه على أن من شروط صحة الجعالة أن العامل لا يستحق شيئاً إلا بعد إنجاز العمل المتفق عليه. الموسوعة الفقهية 15/209.
- - -
بيع الشيكات المؤجلة بعملة أخرى
يقوم بعض الناس ببيع شيك مؤجل بالدولار مثلاً بعملة أخرى كالشيكل ولكنه يقبض قيمة الشيك بالشيكل بأقل من سعر صرف الدولار مقابل الشيكل وهذه العملية تعد نوعاً من التحايل على الربا المحرم شرعاً فإن بيع الشيك بعملة أخرى هو من باب الصرف ويشترط فيه التقابض في المجلس وعليه فلا يجوز شرعاً بيع الشيكات المؤجلة بأقل من قيمتها سواء كان ذلك بنفس العملة المذكورة في الشيك أو بغيرها من العملات وسواء كان ذلك بقيمتها أو بأقل من قيمتها.
- - -
صرف العملة مع تأجيل القبض
إن بيع عملة بعملة أخرى يسمى عند الفقهاء عقد الصرف وقد اتفق أهل العلم على أن من شروط عقد الصرف تقابض البدلين من المتعاقدين في المجلس قبل افتراقهما.
قال ابن المنذر:[أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد].
فلذلك يشترط في عملية بيع عملة بأخرى أن يتم تبادل العملتين في المجلس ولا يجوز تأجيل قبض إحداهما وإن حصل التأجيل فالعقد باطل ويدل على ذلك حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(الذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد والفضة بالفضة مثلاً بمثل يداً بيد) رواه مسلم.
وبما أن العملات الورقية تقوم مقام الذهب والفضة كما قال كثير من علماء العصر فإنه يشترط في بيع هذه العملات بغيرها من العملات التقابض ولا يجوز التأجيل وبناء على ما تقدم لا يجوز أن يشتري شخص دولارات بشيكلات مؤجلة الدفع.
- - -(/62)
حكم شراء الذهب بالشيكات وحكم بيع الذهب إلى أجل
إن شراء الذهب بالشيكات يعتبر من باب الصرف عند الفقهاء لأن الذهب يعتبر الأصل في العملات ويشترط في عقد الصرف تقابض البدلين في مجلس العقد ويحرم تأجيل أحدهما لما سبق في الحديث (الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبُر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد...) ومن المعلوم أن الشيكات تقوم مقام النقد.
وبناءً على ما تقدم فإنه يجوز بيع وشراء الذهب بأنواعه وأشكاله المختلفة بالشيكات بشرط أن تكون الشيكات حالّة أي يستطيع الصائغ (البائع) صرفها فوراً وبشرط أن يتم استلام الذهب والشيك في مجلس العقد وأما إذا كانت الشيكات مؤجلة أي كتب عليها تاريخ متأخر عن تاريخ شراء الذهب ولو بيوم واحد فهذه المعاملة محرمة لأنها أخلت بشرط التقابض في مجلس العقد. وهنا ينبغي التذكير بأن مذهب جماهير أهل العلم أنه لا يجوز بيع حلي الذهب والفضة نسيئة أي مع تأخير قبض الثمن أو بالدَّين كما يقول عامة الناس بل لابد من البيع نقداً مع التقابض في مجلس العقد وقد صح في الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال:(لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض -أي لا تزيدوا- ولا تبيعوا الورق -الفضة- بالورق إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي:[قوله - صلى الله عليه وسلم -:(لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا سواء بسواء)، قال العلماء: هذا يتناول جميع أنواع الذهب والورق من جيد ورديء وصحيح ومكسور وحلي وتبر وغير ذلك وسواء الخالص والمخلوط بغيره وهذا كله مجمع عليه] شرح النووي على صحيح مسلم 4/195.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي:(والجيد والرديء والتبر والمضروب والصحيح والمكسور سواء في جواز البيع مع التماثل وتحريمه مع التفاضل وهذا قول أكثر أهل العلم) المغني 4/8.
- - -
حكم بيع الحلي الذهبية القديمة بجديدة
كثير من النساء عندما يردن بيع الحلي الذهبية القديمة التي لديهن يذهبن إلى الصائغ فيعطينه الذهب القديم ويأخذن ذهباً جديداً ويدفعن فرق السعر، إن هذا البيع باطل ولا يجوز شرعاً لأنه يشترط في بيع الذهب بالذهب أمران أولهما اتحاد الوزن أي التساوي في الوزن والثاني التقابض في مجلس البيع والشراء وفي الصورة المذكورة فإن الذهب الجديد لم يساو الذهب القديم في الوزن حيث إنه تم دفع الفرق في السعر بينهما.
وحتى يكون هذا البيع صحيحاً فإن المرأة تبيع الذهب القديم إلى الصائغ بالسعر الذي يتم الاتفاق عليه وتقبض الثمن ثم تشتري منه ذهباً جديداً بالسعر الذي يتم الاتفاق عليه والأولى والأفضل أن تبيع المرأة الذهب القديم إلى الصائغ وتقبض الثمن ثم تذهب إلى السوق فتطلب حاجتها من الذهب من غيره من الصاغة فهذا أحسن كما ذهب إليه الإمام أحمد. المغني 4/42.
وقد صح في الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال:(لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض -أي لا تزيدوا- ولا تبيعوا الورق -الفضة- بالورق إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي:[قوله - صلى الله عليه وسلم -:(لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا سواء بسواء)، قال العلماء: هذا يتناول جميع أنواع الذهب والورق من جيد ورديء وصحيح ومكسور وحلي وتبر وغير ذلك وسواء الخالص والمخلوط بغيره وهذا كله مجمع عليه] شرح النووي على صحيح مسلم 4/195.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[والجيد والرديء والتبر والمضروب والصحيح والمكسور سواء في جواز البيع مع التماثل وتحريمه مع التفاضل وهذا قول أكثر أهل العلم] المغني 4/8.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(الذهب بالذهب وزناً بوزن مثلاً بمثل والفضة بالفضة وزناً بوزن مثلاً بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا) رواه مسلم.
وعن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزناً بوزن) رواه مسلم.
ويؤخذ من هذه الأحاديث وغيرها أن الأموال الربوية أي التي يجري فيها الربا لا يجوز بيع بعضها ببعض إلا إذا تساوى الوزن وتم القبض في مجلس العقد.
فلا يصح بيع الرديء منها بالجيد مع اختلاف الوزن وكذلك القديم بالجديد ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(بعث أخا عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر فقدم بتمر جنيب -أي جيد- فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكلُّ تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع - تمر رديء -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تفعلوا ولكن مثلاً بمثل أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا وكذلك الميزان) رواه مسلم.(/63)
وفي رواية أخرى عند مسلم: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(فلا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً).
ويدل على ذلك أيضاً ما ثبت في الحديث عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال:(جاء بلال بتمر برني - تمر جيد - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أين هذا؟ فقال بلال: تمر كان عندنا رديء فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أوه عين الربا لا تفعل لكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به) رواه مسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا).
وخلاصة الأمر أن الصحيح أن يباع الذهب القديم بالنقود وبعد قبضها من الصائغ يُشترى الذهب الجديد ولا ينبغي أن يكون هنالك تواطُؤ على العقدين والأفضل هو بيع القديم لصائغ وشراء الجديد من صائغ آخر.
- - -
صرف دولارات من الفئة الكبيرة بدولارات من الفئة الصغيرة
لا يجوز شرعاً بيع الفئة الصغيرة من الدولار الأمريكي بفئة كبيرة من الدولار الأمريكي مع التفاضل سواء كان ذلك يداً بيد أو مؤجلاً، لأن العملات الورقية - النقود - تقوم مقام الذهب والفضة وبالتالي فإن الربا يجري فيها كما يجري في الذهب والفضة فتأخذ النقود الورقية أحكام الذهب والفضة وبناءً عليه لا يجوز بيع الجنس الواحد منها بعضه ببعض متفاضلاً سواء كان ذلك نسيئة أو يداً بيد لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثلٍ سواءً بسواءٍ يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) رواه مسلم.
وأرى أن يقوم الصراف بتبديل الفئات الصغيرة من الدولار بعملة أخرى بسعر أقل من السعر الذي تبدل به الفئات الكبيرة من الدولار فهذه الصورة جائزة ولا بأس بها.
- - -
الاختلاف بين البائع والمشتري بسبب هبوط قيمة العملة
إذا اشترى شخص سيارة مثلاً بمبلغ تسعين ألف شيكل ودفع بعض ثمنها للبائع واتفقا على أن يسدد الباقي بعد شهرين ثم هبطت قيمة الشيكل فهل للبائع أن يطالب بتسديد الثمن حسب سعر صرف الشيكل بالنسبة للدينار في يوم الشراء؟
لا يجوز للبائع أن يطالب بتسديد ثمن السيارة حسب سعر صرف الشيكل بالنسبة للدينار في يوم شراء السيارة لأن الدَّين قد استقر في ذمة المشتري وهو تسعون ألف شيكل فعلى المشتري أن يسدد الثمن الذي استقر في ذمته عدداً لا قيمةً أي تسعون ألف شيكل فقط.
وهذا مذهب أكثر الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وكثير من الفقهاء والعلماء المعاصرين حيث إنهم يرون أن الدَّين إذا استقر في ذمة المشتري بمقدار محدد فالواجب هو تسديد ذلك المقدار بدون زيادة أو نقصان فالديون تقضى بأمثالها في حالة الرخص والغلاء ولا تقضى بقيمتها جاء في المدونة:[كل شيء أعطيته إلى أجل فرد إليك مثله وزيادة فهو ربا] المدونة 4/25.
وقال أبو إسحاق الشيرازي:[ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل لأن مقتضى القرض رد المثل] المهذب مع المجموع 12/185.
وقال الكاساني:[ولو لم تكسد -النقود- ولكنها رخصت قيمتها أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجماع وعلى المشتري أن ينقد مثلها عدداً ولا يلتفت إلى القيمة هاهنا] بدائع الصنائع 5/542.
وقال الشيخ ابن عابدين في رسالته عن النقود:[... لأن الإمام الإسبيجاني في شرح الطحاوي قال: وأجمعوا على أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت فعليه مثل ما قبض من العدد] رسالة تنبيه الرقود على مسائل النقود 2/60 ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين.
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً وجوب رد المثل بلا زيادة. مجموع الفتاوى 29/535.
وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي هذه المسألة بحثاً مستفيضاً وتوصل العلماء المشاركون في المجمع إلى القرار التالي:[العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5، ج 3/2261.
وقد يقول بعض الناس إن رد المثل في القرض والديون فيه ضررٌ للمقرض والبائع فنقول لهم: إن الضرر لا يزال بضرر مثله كما قرر ذلك الفقهاء.
- - -
سداد الدَّين بعملة أخرى
لا يجوز لمن اقترض مبلغاً بعملة معينة أن يتفق مع المقترض على سداد القرض بعملة أخرى، فإذا استدان شخص ألف دينار أردني فإن الواجب عليه سداد ألف دينار أردني فقط، لأنها هي الثابتة في ذمته.(/64)
وكذلك لا يجوز ربط قيمة الدَّين بالذهب عند الاستدانة ليتم السداد بالذهب يوم السداد لأن اختلاف العملة يفسح مجالاً للتفاضل مع التأجيل، فيصير قرضاً ربوياً كما تدل على ذلك الأحاديث النبوية على أن هذه المبادلة تصير بيعاً ممنوعاً، فالذهب بالفضة لا يجوز بيعهما بالأجل لأنه يصير حينئذٍ صرفاً مؤجلاً. انظر الجامع في أصول الربا ص 283.
إلا أنه يجوز اتفاق الدائن والمدين في يوم سداد الدَّين على قضاء الدَّين بعملة أخرى بسعر صرفها في يوم السداد، فمثلاً استدان شخص من آخر مبلغ ألف دولار، على أن يسددها بعد سنة، ولما حان يوم السداد، اتفق الدائن والمدين على أن يسدد المدين الألف دولار بقيمتها بالدينار الأردني بسعر اليوم الذي تمَّ فيه السداد، فيجوز ذلك بشرط أن لا يبقى شيء لأحدهما في ذمة الآخر.
وهذا مذهب جماعة من أهل العلم، ويدل عليه ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(كنت أبيع الإبل في البقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس، إذا أخذتهما بسعر يومهما فافترقتما وليس بينكما شيء) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وغيرهم، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الشيخ الأرناؤوط: إسناده حسن على شرط مسلم.
وعن يسار بن نمير قال:(كان لي على رجل دراهم، فعرض عليَّ دنانير، فقلت: لا آخذها حتى أسأل عمر، فسألته فقال: إئت بها الصيارفة فاعرضها فإذا قامت على سعر فإن شئت فخذها، وإن شئت فخذ دراهمك) ذكره ابن حزم في المحلى.
[وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي ما يلي بالنسبة إلى هذه المسألة:
أولاً: الدَّين الحاصل بعملة معينة لا يجوز الاتفاق على تسجيله في ذمة المدين بما يعادل قيمة تلك العملة من الذهب أو من عملة أخرى على معنى أن يلتزم المدين بأداء الدَّين بالذهب أو العملة الأخرى المتفق على الأداء بها.
ثانياً : يجوز أن يتفق الدائن والمدين يوم السداد – لا قبله – على أداء الدَّين بعملة مغايرة لعملة الدَّين إذا كان ذلك بسعر صرفها يوم السداد . وكذلك يجوز في الدين على أقساط بعملة معينة، الاتفاق يوم سداد أي قسط على أدائه كاملاً بعملة مغايرة بسعر صرفها في ذلك اليوم .
ويشترط في جميع الأحوال أن لا يبقى في ذمة المدين شيء مما تمت عليه المصارفة في الذمة].
- - -
الخصم من الدَّين إذا عجل المدين السداد
إذا استدان شخص من آخر مبلغ عشرة آلاف دينار مثلاً على أن يسددها بعد سنة ولكن الدائن ألمَّت به حاجة لماله فطالب المدين أن يسدد الدَّين قبل حلول الأجل بأربعة أشهر على أن يحسم له خمسمائة دينار فهل يجوز ذلك أم لا؟
تسمى هذه المسألة عند الفقهاء مسألة (ضع وتعجل) وهي مسألة خلافية فذهب جمهور أهل العلم إلى منعها وقال آخرون بالجواز وهو منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وبه قال إبراهيم النخعي وابن سيرين وأبو ثور وهو راوية عن الإمام أحمد ومنقول عن الإمام الشافعي وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن عابدين الحنفي وقال به جماعة من العلماء المعاصرين كما سيأتي.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[إذا كان عليه دين مؤجل فقال لغريمه: ضع عني بعضه وأعجل لك بقيته لم يجز كرهه زيد بن ثابت وابن عمر والمقداد وسعيد بن المسيب وسالم والحسن وحماد والحكم والشافعي ومالك والثوري وهشيم وابن علية وإسحاق وأبو حنيفة وقال المقداد لرجلين فعلا ذلك كلاكما قد آذن بحرب من الله ورسوله وروي عن ابن عباس: أنه لم ير به بأساً وروي ذلك عن النخعي وأبي ثور لأنه آخذ لبعض حقه تارك لبعضه فجاز كما لو كان الدَّين حالَّاً] المغني 4/39.
وقال العلامة ابن القيم بعد أن ذكر القول بمنع (ضع وتعجل) قال:[والقول الثاني أنه يجوز وهو قول ابن عباس وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد حكاها ابن أبي موسى وغيره واختاره شيخنا] أي شيخ الإسلام ابن تيمية. إعلام الموقعين 3/359.
وقد احتج هذا الفريق من أهل العلم بما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(لمَّا أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج بني النضير قالوا: يا رسول الله إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ضعوا وتعجلوا) رواه الحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد. المستدرك 2/362.
وأخرجه الطبراني في الكبير وفيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف وقد وثق كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/130، ورواه البيهقي في السنن الكبرى 6/28، وقال إنه ضعيف لضعف مسلم بن خالد الزنجي.
وروى البيهقي بإسناده:[أن ابن عباس كان لا يرى بأساً أن يقول أعجل لك وتضع عني] سنن البيهقي 6/28.(/65)
وتضعيف مسلم بن خالد الزنجي غير مسلَّم قال الذهبي عنه:[الإمام فقيه مكة] ثم ذكر اختلاف العلماء في توثيقه وتجريحه فقال:[قال يحيى بن معين ليس به بأس، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال ابن عدي: حسن الحديث أرجو أنه لا بأس به، وقال أبو داود: ضعيف. قلت -أي الذهبي-: بعض النقاد يرقي حديث مسلم إلى درجة الحسن] سير أعلام النبلاء 8/176-177.
وسبق كلام الهيثمي أن مسلم بن خالد الزنجي قد وثق وهو شيخ الإمام الشافعي وقد روى عنه الإمام الشافعي واحتج به!
قال ابن القيم بعد أن ساق الحديث:[قلت هو على شرط السنن وقد ضعفه البيهقي وإسناده ثقات وإنما ضعف بمسلم بن خالد الزنجي وهو ثقة فقيه روى عنه الشافعي واحتج به] إغاثة اللهفان 2/13. وبهذا يظهر لنا أن الحديث صالح للاحتجاج به.
وقال هذا الفريق من أهل العلم إن مسألة ضع وتعجل تعتبر من قبيل الصلح وليس فيها مخالفة لقواعد الشرع وأصوله بل حكمة الشرع ومصالح المكلفين تقتضي أن المدين والدائن قد اتفقا وتراضيا على أن يتنازل الأول عن الأجل والدائن عن بعض حقه فهو من قبيل الصلح والصلح جائزٌ بين المسلمين إلا صلحاً أحلَّ حراماً وحرم حلالاً. الربا والمعاملات المصرفية ص 237.
وأجاب العلامة ابن القيم عن دعوى أن مسألة ضع وتعجل من باب الربا بقوله:[لأن هذا عكس الربا فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل فانتفع به كل واحد منهما ولم يكن هنا رباً لا حقيقةً ولا لغةً ولا عرفاً فإن الربا الزيادة وهي منتفية ههنا والذين حرموا ذلك إنما قاسوه على الربا ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله: إما أن تربي وإما أن تقضي، وبين قوله: عجل لي وأهب لك مائة. فأين أحدهما من الآخر؟ فلا نص في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس صحيح] إعلام الموقعين 3/359.
وقال ابن القيم أيضاً:[قالوا: وهذا ضد الربا فإن ذلك يتضمن الزيادة في الأجل و الدَّين وذلك إضرار محض بالغريم ومسألتنا تتضمن براءة ذمة الغريم من الدَّين وانتفاع صاحبه بما يتعجله فكلاهما حصل له الانتفاع من غير ضرر بخلاف الربا المجمع عليه فإن ضرره لاحق بالمدين ونفعه مختص برب الدَّين فهذا من الربا صورة ومعنى] إغاثة اللهفان 2/13.
وقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي مسألة ضع وتعجل عند بحثه لبيع التقسيط فقد جاء في قرار المجمع ما يلي:[الحطيطة من الدَّين المؤجل لأجل تعجيله سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين (ضع وتعجل) جائزة شرعاً لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناءً على اتفاق مسبق وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية فإذا دخل طرف ثالث لم تجز لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية] مجلة مجمع الفقه الإسلامي 7/2/218. كما وأجازت هذه المسألة عدد من الهيئات العلمية الشرعية.
- - -
لا يجوز الاشتراط في القرض دفع غرامة مالية إذا تأخر المقترض في السداد
القرض الحسن مشروع بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد قال تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } سورة البقرة/245. ووجه الدلالة فيه، أن الله سبحانه وتعالى شبه الأعمال الصالحة والإنفاق في سبيل الله بالمال المقرَض، وشبه الجزاء المضاعف على ذلك ببدل القرض شيئاً ليأخذ عوضه، ومشروعية المشبه تدل على مشروعية المشبه به، عقد القرض ص13 .
وثبت في الحديث الصحيح، عن أبي رافع - رضي الله عنه - (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استلف من رجل بَكْراً -أي جملاً فتياً- فقدمت على الرسول - صلى الله عليه وسلم - إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فقال: يا رسول الله، لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً - أي جملاً كبيراً - ، فقال: أعطه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) رواه مسلم.
وإقراض المعسر وتفريج كربه أمر مرغَّب فيه شرعاً ويدخل ذلك في عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:(من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) رواه مسلم.
وللمقرِض أجر عظيم عند الله سبحانه وتعالى فقد جاء في الحديث عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين، إلا كان كصدقة مرة) رواه ابن حبان في صحيحه وابن ماجة والطبراني وهو حديث حسن.
وينبغي أن يعلم أنَّ القروض تقضى بأمثالها، ولا يجوز شرعاً الزيادة المشروطة في رد بدل القرض، وكل زيادة تعتبر من باب الربا.
قال الحافظ ابن عبد البر:[وكل زيادة في سلف أو منفعة ينتفع بها المسلِف فهو ربا، ولو كانت قبضة من علف، وذلك حرام إن كان بشرط].(/66)
وقال ابن المنذر:[أجمعوا على أن المسلِف إذا شرط على المستلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، إن أخذ الزيادة ربا] الموسوعة الفقهية 33/130.
وهنا لا بد من التنبيه على بعض القضايا المهمة والمتعلقة بالقروض:
أولاً: يحرم على الغني أن يماطل فيما وجب عليه من دَّيون وكذلك من وجد أداءً لحق عليه وإن كان فقيراً تحرم عليه المماطلة، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(مطل الغني ظلم) رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر:[والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر، والغني مختلف في تعريفه ولكن المراد به هنا من قدر على الأداء فأخره ولو كان فقيراً] فتح الباري 5/371.
وقال الحافظ أيضاً:[وفي الحديث الزجر عن المطل، واختلف هل يعد فعله عمداً كبيرة أم لا؟ فالجمهور على أن فاعله يفسَّق] فتح الباري 5/372.
وكما جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته) رواه أبو داود والنسائي وأحمد بإسناد حسن كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 5/459.
وذكره الإمام البخاري تعليقاً فقال:[باب لصاحب الحق مقالاً، ويذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:(لي الواجد يحل عرضه وعقوبته).
قال سفيان: (يحل عرضه) تقول: مطلتني، وعقوبته الحبس، والمراد بقوله (ليُّ الواجد) أي مماطلة من يجد أداء الحقوق التي عليه، وقوله (يحل عرضه وعقوبته) المراد به كما فسره سفيان أن يقول صاحب الحق، أو صاحب الدَّين: مطلني فلان، وعقوبته أن يسجن.
وأخيراً ينبغي أن أنبه إلى أن هذا الحكم إنما هو في حق الغني المماطل وأما إذا كان المدين معسراً فإن الله سبحانه وتعالى طلب إنظاره إلى ميسرة، كما قال تعالى: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } سورة البقرة الآية280.
ثانياً: إن ماطل المدين الموسر، فيحرم شرعاً فرض أية غرامة مالية عليه، في حال التأخر عن السداد لأن ذلك يعتبر من الربا، وهذا ما قرره أكثر الفقهاء قديماً وحديثاً، وأخذت به المجامع الفقهية المعتمدة، فقد جاء في قرار مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، بمكة المكرمة ما يلي:
[نظر المجمع الفقهي في موضوع السؤال التالي، إذا تأخر المدين عن سداد الدَّين في المدة المحددة، فهل للبنك الحق أن يفرض على المدين غرامة مالية، جزائية بنسبة معينة بسبب التأخر عن السداد في الموعد المحدد بينهما؟
الجواب: وبعد البحث والدراسة، قرر المجمع الفقهي بالإجماع ما يلي: إن الدائن إذا شرط على المدين أو فرض عليه أن يدفع له مبلغاً من المال غرامة مالية جزائية محددة أو بنسبة معينة، إذا تأخر عن السداد في الموعد المحدد بينهما، فهو شرط أو فرض باطل، ولا يجب الوفاء به، ولا يحل سواءً أكان الشارط هو المصرف أو غيره، لأن هذا بعينه هو ربا الجاهلية الذي نزل القرآن بتحريمه].
وقد يقول قائل: إن هذا الكلام يشجع المدينين على المماطلة وعدم الوفاء بالدَّين، ونقول يمكن للمقرض أن يشترط على المدين أنه في حالة تأخره عن سداد قسط من أقساط الدَّين تحلّ بقية الأقساط ويمكن اتخاذ أمور أخرى ضد المدين المماطل كمطالبة الكفلاء وغير ذلك. وسيأتي تفصيل ذلك لاحقاً.
ثالثاً: لا يجوز شرعاً ربط الديون بمستوى الأسعار أو جدول غلاء المعيشة، فقد قرر مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة ما يلي:[العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار] مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الخامس، الجزء الثالث ص 2261.
- - -
لا يصح اشتراط عقدٍ آخر مع القرض
لا يجوز شرعاً للمقرض أن يشترط أي عقد آخر مع القرض، كالبيع أو الإجارة، أو يشترط أن يقرضه المقترض، وهذا مذهب جمهور أهل العلم لما ثبت في الحديث، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(لا يحل سلف وبيع) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وغيرهم، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال العلامة الألباني: حسن، إرواء الغليل 5/146.
قال الشيخ ملا علي القاري:[لا يحل سلف وبيع، أي معه يعني مع السلف، بأن يكون أحدهما مشروطاً في الآخر.
قال القاضي رحمه الله:[السلف يطلق على السلم والقرض والمراد هنا شرط القرض... أي لا يحل بيع مع شرط سلف بأن يقول مثلاً: بعتك هذا الثوب بعشرة على أن تقرضني عشرة، نفي الحل اللازم للصحة ليدل على الفساد من طريق الملازمة] مرقاة المفاتيح 6/89.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:[معنى الحديث أن لا يجمع بين معاوضة وتبرع لأن ذلك التبرع إنما كان لأجل المعاوضة لا تبرعاً مطلقاً فيصير جزءاً من العوض] مجموع الفتاوى 29/62 - 63.(/67)
وقال الشيخ ابن القيم:[وأما السلف والبيع فلأنه إذا أقرضه مئة إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة، فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه ردّ المثل ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك] تهذيب سنن أبي داود 9/295 - 296.
- - -
المماطلة في سداد الدَّين
مما يؤسَف له أن كثيراً من الناس يتساهلون في الدَّين تساهلاً كبيراً فتراهم يشترون البضاعة ويطلبون من البائع أن يمهلهم حتى استلام رواتبهم أو حتى نهاية الشهر أو نحو ذلك ثم يماطلون ويسوِّفون في سداد الدَّين وقد تمضي عليهم الشهور والسنون وهم كذلك مع مقدرتهم على قضاء ديونهم، إن ما يقوم به هؤلاء الناس ما هو إلا أكل لأموال الناس بالباطل وقد قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } سورة النساء الآية 29.
وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمثال هؤلاء الذين يأخذون أموال الناس ويماطلون فيها فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري.
وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال:(كانت ميمونة تدان فتكثر فقال لها أهلها في ذلك ولاموها ووجدوا عليها فقالت: لا أترك الدَّين وقد سمعت خليلي وصفيي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من أحد يدَّان ديناً يعلم الله منه أنه يريد قضاءه إلا أداه الله عنه في الدنيا) رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح ابن ماجة 2/52.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(من مات وعليه دينار أو درهم قضي من حسناته ليس ثمَّ دينار ولا درهم) رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/53.
وعن صهيب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(أيما رجل يدين ديناً وهو مجمع على أن لا يوفيه إياه لقي الله سارقاً) رواه ابن ماجة والبيهقي وقال العلامة الألباني: حسن صحيح. المصدر السابق 2/52.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من الدَّين كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال:(دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة جالساً فيه فقال: يا أبا أمامة ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: أفلا أعلّمك كلاماً إذا قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك؟ فقال: بلى يا رسول الله، قال: قل إذا أصبحت وأمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من البخل والجبن وأعوذ بك من غلبة الدَّين وقهر الرجال. قال: فقلت ذلك فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني) رواه أبو داود.
فلا ينبغي لأحد من الناس أن يتساهل في الدَّين وخاصة أن الإنسان قد يموت وهو مدين ويكون بذلك على خطرٍ عظيم لأن نفس المؤمن تكون معلَّقة بدينه، فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(نفس المؤمن معلَّقة بدينه حتى يقضى عنه) رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن، ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وعن جابر - رضي الله عنه - قال:(توفي رجل فغسّلناه وكفّناه وحنّطناه ثم أتينا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عليه، فقلنا: تصلي عليه؟ فخطا نحوه خطوة ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران، فانصرف فتحملهما أبو قتادة فأتيناه، فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد أوفى الله حق الغريم وبرئ منهما الميت؟ قال: نعم فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران؟ قلت: إنما مات أمس، فعاد إليه من الغد فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الآن برّدْت جلدته) رواه أحمد بإسناد حسن كما قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب 2/591.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمتنع عن الصلاة عمَّن عليه دين حتى يقضى دينه فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه -:(أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى بالرجل الميت عليه الدَّين فيسأل: هل ترك لدينه قضاء؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلّى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعليَّ قضاؤه ومن ترك مالاً فهو لورثته) رواه مسلم.(/68)
ويجب أن يعلم أن هؤلاء الذين يتلاعبون بأموال الناس ويماطلون في تسديد الدَّين أن المماطلة في أداء الدَّين محرمة مع القدرة على الأداء فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال:(مطل الغني ظلم) متفق عليه.
قال الإمام النووي:[قوله - صلى الله عليه وسلم -:(مطل الغني ظلم) قال القاضي وغيره: المطل منع قضاء ما استحق أداؤه فمطل الغني ظلم وحرام] شرح النووي على صحيح مسلم 4/174-175.
ومن المعلوم عند أهل العلم أن أداء الدَّين واجب باتفاق بدلالة الأحاديث الصحيحة الواردة في تحريم مال الغير كما قال القرطبي في تفسيره 3/415.
ولأهمية قضاء الدَّين من أموال الميت فهو مقدم على الوصية وإن ذكرت قبله في قول الله تعالى: { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } سورة النساء الآية 12، وعلى هذا أكثر أهل العلم. وكذلك فإن الدَّين يقضى عن الميت قبل توزيع تركته.
وأخيراً أنبه الدائنين أن يوثقوا ديونهم ويكتبوها ويشهدوا على ذلك لأن ذمم كثير من الناس قد خربت وفسدت وكثير من هؤلاء ينكرون الدَّين إن لم يكن موثقاً بالكتابة وقد قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } سورة البقرة الآية 282.
- - -
عقد المضاربة
إذا اتفق شخص مع آخر على أن يدفع له مبلغاً من المال ليتاجر له بأنواع معينة من البضائع فهذا الاتفاق يعتبر عقد مضاربة عند الفقهاء ويسميه بعض العلماء عقد قراض أيضاً، والمضاربة مشروعة عند أهل العلم وإن لم يرد نص صحيح صريح من الكتاب والسنة في خصوصها قال الشيخ ابن حزم:[ كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في القرآن والسنة حاشا القراض فما وجدنا له أصلاً فيهما البتة ولكنه إجماع صحيح مجرد] نيل الأوطار 5/301. وقال ابن المنذر:[وأجمعوا على أن القراض بالدنانير والدراهم جائز] الإجماع ص 58.
وقد استدل العلماء على جواز المضاربة بأدلة عامة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واحتجوا ببعض الأحاديث والآثار في ذلك كما سأبين.
قال الماوردي:[والأصل في إحلال القراض وإباحته عموم قول الله عز وجل: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } سورة البقرة الآية 198، وفي القراض ابتغاء فضل وطلب نماء] الحاوي الكبير 7/305.
وجاء عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضة يضرب له به أن لا تجعل مالي في كبد رطبة ولا تحمله في بحر ولا تنزل به بطن مسيل فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي) رواه البيهقي والدارقطني وقوى الحافظ إسناده كما ذكر الشوكاني في نيل الأوطار 5/300.(/69)
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال:(خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق فلما قفلا مرَّا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهّل ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكماه فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون الربح لكما فقالا: وددنا ذلك ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهم المال فلما قدما باعا فأربحا فلما دفعا ذلك إلى عمر قال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما أديا المال وربحه فأما عبد الله فسكت وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه فقال عمر: أدياه فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً فقال عمر: قد جعلته قراضاً فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال) ورواه الدارقطني أيضاً، قال الحافظ ابن حجر وإسناده صحيح، نيل الأوطار 5/300، وانظر الاستذكار 21/120.
وقد وردت آثار أخرى عن الصحابة كعلي وابن مسعود وابن عباس وجابر وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، قال الشوكاني:[فهذه الآثار تدل على أن المضاربة كان الصحابة يتعاملون بها من غير نكير إجماعاً منهم على الجواز] نيل الأوطار 5/300-301.
ويشترط لصحة المضاربة أن يكون نصيب كل من المتعاقدين من الربح معلوماً على أن يكون جزءاً مشاعاً كنسبة مئوية 10% أو 15% أو 40% على حسب ما يتفقان. قال ابن المنذر:[أجمع أهل العلم على أن للعامل أن يشترط على رب المال ثلث الربح أو نصفه أو يجمعان عليه بعد أن يكون ذلك معلوماً جزءاً من أجزاء] المغني 5/23.
ولا يجوز أن يكون الربح مبلغاً محدداً فإن حصل ذلك أدى ذلك إلى فساد عقد المضاربة.
ومن الأمور المهمة في عقد المضاربة أن الخسارة إن حصلت يتحملها صاحب المال دون العامل لأن العامل يخسر جهده وعمله، إلا إذا كانت المضاربة مقيدة ومشروطة بشرطٍ محدد، فخالف العامل ذلك الشرط فإنه حينئذٍ يضمن، كأن يشترط صاحب المال على العامل ألا يتاجر بالسيارات مثلاً، فتاجر العامل بالسيارات فخسر فحينئذٍ فإن العامل ضامن لأنه خالف الشرط الذي اتفق عليه.
ولا بد من تحديد نصيب كل من الشريكين أو الشركاء من الربح نصاً صريحاً يمنع النزاع والخلاف وليكون كل منهم على بصيرة من الأمر.
وأخيراً أنبه على أنه يجوز توقيت المضاربة بمدة معينة على الراجح من أقوال العلماء وهو قول الحنفية والحنابلة قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[ويصح تأقيت المضاربة مثل أن يقول: ضاربتك على هذه الدراهم سنة فإذا انقضت فلا تبع ولا تشتر قال مهنا: سألت أحمد عن رجل أعطى رجلاً ألفا مضاربة شهراً قال: إذا مضى شهر يكون قرضاً قال: لا بأس به...] المغني 5/50، وانظر الاختيار لتعليل المختار 3/21.
- - -
لا تجوز المشاركة بالمال مقابل مبلغ ثابت من الربح
إذا اتفق شخص مع أحد التجار ليدخله شريكاً في تجارته لمدة ثلاث سنوات على أن يدفع للتاجر مبلغ عشرة آلاف دينار وشرط عليه أن يعطيه مائة دينار شهرياً وأن يرد له العشرة آلاف دينار عند انتهاء المدة المتفق عليها فهذه المعاملة باطلة شرعاً من وجهين:
الأول منهما أنها في حقيقتها قرض ربوي فالتاجر اقترض من الشخص عشرة آلاف دينار على أن يدفع له ربا (فائدة) على المبلغ وهي مئة دينار شهرياً لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني كما قرر ذلك فقهاؤنا قال العلامة ابن القيم:[قواعد الفقه وأصوله تشهد أن المرعي في العقود حقائقها ومعانيها لا صورها وألفاظها] زاد المعاد 5/200. وقال في موضع آخر:[والتحقيق أنه لا فرق بين لفظ ولفظ فالاعتبار في العقود بحقائقها ومقاصدها لا بمجرد ألفاظها] زاد المعاد 5/813. فكون المتعاقدين قد سمَّيا العقد بينهما شركة فهذا لا يغير من حقيقة كونها ربا شيئاً بناء على القاعدة السابقة. والشركة المقصودة هي شركة المضاربة وعقد المضاربة المعروف عند الفقهاء هو شركة تقوم على العمل من العامل والمال من صاحب المال ويجب أن يكون الربح بينهما نسبة شائعة كالربع أو الثلث مثلاً أو نسبة مئوية مثل 25% أو حسبما يتفقان عليه، وتكون الخسارة على صاحب المال وأما العامل فيخسر جهده وعمله وتبطل المضاربة إذا اشترط أحدهما مبلغاً مقطوعاً.(/70)
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً قول الخرقي:[ولا يجوز أن يجعل لأحد من الشركاء فضل دراهم]. قال ابن قدامة:[وجملته أنه متى جعل نصيب أحد الشركاء دراهم معلومة، أو جعل مع نصيبه دراهم مثل أن يشترط لنفسه جزءاً وعشرة دراهم بطلت الشركة. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض إذا شرط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة وممن حفظنا ذلك عنه مالك والأوزاعي والشافعي، وأبو ثور وأصحاب الرأي... وإنما لم يصح ذلك لمعنيين: أحدهما أنه إذا شرط دراهم معلومة احتمل أن لا يربح غيرها، فيحصل على جميع الربح واحتمل أن لا يربحها فيأخذ من رأس المال جزءاً وقد يربح كثيراً، يستضر من شرطت له الدراهم. والثاني: أن حصة العامل ينبغي أن تكون معلومة بالأجزاء لما تعذر كونها معلومة بالقدر، فإذا جهلت الأجزاء فسدت كما لو جهل القدر فيما يشترط أن يكون معلوماً به ولأن العامل متى شرط لنفسه دراهم معلومة، ربما توانى في طلب الربح لعدم فائدته فيه وحصول نفعه لغيره بخلاف ما إذا كان له جزء من الربح] المغني 5/28.
والوجه الثاني لبطلان المعاملة المذكورة هو أن التاجر قد ضمن رأس المال وهذا الشرط لا يجوز شرعاً لأن يد المضارب يد أمانة وليست يد ضمان ولا يضمن المضارب إلا إذا فرَّط أو قصَّر أو أخلَّ بما شَرَط عليه صاحب المال، والمضاربة مشاركة بالمال من جهة وبالعمل من جهة أخرى فإذا حصلت خسارة فهي على رب المال ويخسر العامل جهده وتعبه فشرط ضمان التاجر لرأس المال ينافي مقتضى العقد فلا يجوز، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[إذا تعدى المضارب وفعل ما ليس له فعله أو اشترى شيئاً نُهي عن شرائه فهو ضامن للمال في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن أبي هريرة وحكيم بن حزام وأبي قلابة ونافع وإياس والشعبي والنخعي والحكم وحماد ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي ... ولنا أنه متصرف في مال غيره بغير إذنه فلزمه الضمان كالغاصب...] المغني 5/39.
وقال الإمام الماوردي:[... فأما تعدي العامل في مال القراض من غير الوجه الذي ذكرنا فعلى ضربين:
أحدهما: أن يكون تعديه فيه لم يؤمر به مثل إذنه بالتجارة في الأقوات فيتجر في الحيوان، فهذا تعدٍ يضمن به المال، ويبطل معه القراض، فيكون على ما مضى في مقارضة غيره بالمال.
والضرب الثاني: أن يكون تعديه لتغريره بالمال، مثل أن يسافر به ولم يؤمر بالسفر أو يركب به بحراً ولم يؤمر بركوب البحر، فإن كان قد فعل ذلك مع بقاء عين المال بيده ضمنه، وبطل القراض بتعديه، لأنه صار مع تعديه في عين المال غاصباً] الحاوي الكبير 7/340-341.
وقال ابن رشد المالكي عند حديثه عن الشروط الفاسدة في القراض (المضاربة) [ومنها إذا شرط رب المال الضمان على العامل، فقال مالك: لا يجوز القراض وهو فاسد، وبه قال الشافعي... وعمدة مالك أن اشتراط الضمان زيادة غرر في القراض ففسد...] بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/199.
وقد جاء في فتاوى هيئة الرقابة الشرعية لبنك دبي الإسلامي ما يلي:
[ السؤال: هناك أموال أيتام يريدون استثمارها في المضاربة الشرعية وقد اشترطت الجهة القائمة على هذه الأموال ضمان هذه الأموال خوفاً عليها من الخسارة فهل يجوز ضمان هذه الأموال عن طريق إصدار خطاب ضمان يضمن فيها أموال اليتامى وهل يمكن اعتبارها إذا صح المخرج عن طريق خطاب الضمان كأمانة ترد كما هي ربحت المضاربة أم خسرت؟
الجواب: بحثت الهيئة مسألة ضمان أموال الأيتام المستثمرة ورأت أنه لا يجوز شرعاً ضمان المال المستثمر بقصد الربح لأن الاستثمار في الإسلام يقوم على أساس الغرم بالغنم فالضمان المطلوب بهذه الصورة لا أساس له شرعاً وإنما يجب اتخاذ الحيطة والحذر لذلك باختيار المضارب الثقة الأمين المتمسك بدينه مع الأخذ بالأساليب العلمية في الاستثمار من دراسة السوق ودراسة الجدوى الاقتصادية والمتابعة والتقييم لكل الخطوات التنفيذية وغير ذلك مما تتطلبه أساليب الاستثمار السليمة.]
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز اشتراط مبلغ مقطوع في المضاربة لأنها تتحول حينئذ إلى رباً محرمٍ وكذلك لا يجوز أن يضمن العامل رأس المال في المضاربة إلا إذا فرَّط أو قصَّر أو تعدى.
- - -
يجوز تقاضي الشريك راتباً شهرياً زيادة على نسبته في الربح(/71)
يجوز شرعاً أن يتقاضى أحد الشركاء راتباً مقطوعاً أو نسبةً من الربح مقابل عمله للشركة بالإضافة إلى حصته من الربح مقابل رأس ماله في الشركة فلا مانع شرعاً أن يكون الشخص شريكاً وفي ذات الوقت يكون أجيراً للشركة. فمن المعلوم أنه يجوز للشركاء أن يستأجروا عاملاً ليعمل لهم في الشركة فمن باب أولى أن يستأجروا أحدهم ليعمل للشركة حيث إنه سيكون أحرص على أموال الشركة من العامل الأجنبي عنها ولكن يجب أن يعلم أن عمل أحد الشركاء للشركة يجب أن يكون بعقد أو اتفاق منفصل عن عقد الشراكة. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي عند حديثه عن أقسام الشركة:[القسم الرابع: أن يشترك مالان وبدن صاحب أحدهما، فهذا يجمع شركة ومضاربة وهو صحيح، فلو كان بين رجلين ثلاثة آلاف درهم لأحدهما ألف وللآخر ألفان فأذن صاحب الألفين لصاحب الألف أن يتصرف فيها على أن يكون الربح بينهما نصفين صح، ويكون لصاحب الألف ثلث الربح بحق ماله والباقي وهو ثلثا الربح بينهما لصاحب الألفين ثلاثة أرباعه، وللعامل ربعه، وذلك لأنه جعل له نصف الربح فجعلناه ستة أسهم منها ثلاثة للعامل حصة ماله وسهم يستحقه بعمله في مال شريكه وحصة مال شريكه أربعة أسهم للعامل سهم وهو الربع] المغني 5/20.
وقال ابن حزم الظاهري:[… فإن عمل أحدهما أكثر من الآخر، أو عمل وحده تطوعاً بغير شرط فذلك جائز، فإن أبى من أن يتطوع بذلك فليس له إلا أجر مثله في مثل ذلك العمل ربح أو خسر، لأنه ليس عليه أن يعمل لغيره] المحلّى 6/415.
وقال البهوتي الحنبلي:[وعلى كل من الشركاء تولي ما جرت عادة بتوليه. لحمل إطلاق الإذن على العرف، ومقتضاه تولي مثل هذه الأمور بنفسه، فإن فعل ما عليه توليه بنائب بأجرة فهي عليه لأنه بذلها عوضاً عما عليه، وما جرت عادة بأن يستنيب فيه. فله أن يستأجر من مال الشركة إنساناً حتى شريكه لفعله إذا كان فعله، مما لا يستحق أجرته إلا بعمل، وليس للشريك فعل ما جرت العادة بعدم توليه بنفسه ليأخذ أجرته بلا استئجار صاحبه له، لأنه تبرع بما لا يلزمه فلم يستحق شيئاً] شرح منتهى الإرادات 2/324.
ويقول الدكتور وهبة الزحيلي:[… ويصح أيضاً عند الحنفية ما عدا زفر أن يتفاضل الشريكان في الربح حالة التساوي في رأس المال بشرط أن يكون العمل عليهما، أو على الذي شرط له زيادة الربح، لأن الربح كما قلنا يستحق إما بالمال، أو بالعمل، أو بالضمان، وزيادة الربح في هذه الحالة كانت بسبب زيادة العمل، لأنه قد يكون أحد الشريكين أحذق وأهدى وأكثر عملاً، وأقوى فيستحق زيادة ربح على حساب شريكه ...] الفقه الإسلامي وأدلته 4/842.
ويقول الدكتور وهبة الزحيلي أيضاً:[ ولا مانع من وجود صفتي الشركة والإجارة في شيء واحد لأن المنع من وجود عقدين أو شرطين في عقد يزول إذا زالت علته أو حكمته وهو عدم إثارة النزاع والخلاف وعدم التنازع جرى عليه العرف والعادة فلم يعد شرطاً مفسداً ] الفقه الإسلامي وأدلته 4/842.
[ وعليه فإنه يمكن حصول الشريك على راتب ونسبة معاً إذا كان يعمل خدمةً زائدةً على عمل شريكه كما لو اشتركا في رأس المال وتولى أحدهما العمل فيه، فإنه يستحق أجرة على عمله ونسبة من الأرباح بحسب رأس ماله المشارك به أو بحسب ما اتفقا عليه؛ لأن شركة العنان لا يشترط فيها التساوي في الربح ولا في رأس المال، وإنما يوكل ذلك إلى التراضي والاتفاق بين الشركاء.] فتاوى الشبكة الإسلامية .
وخلاصة الأمر أنه لا مانع شرعاً من أن يكون الشريك أجيراً في الشركة براتب مقطوع أو بزيادة نسبته في الربح.
- - -
بيع المزايدة
بيع المزايدة هو أن ينادى على السلعة ويزيد فيها بعض المشترين على بعض حتى تقف على آخر زائد فيها فيأخذها . القوانين الفقهية ص 175.
وبيع المزايدة مشروع وجائز ويدخل في عموم قوله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } ومما يدل على مشروعيته ما يلي:
1. قال الإمام البخاري في صحيحه:[باب بيع المزايدة] ثم ذكر قول عطاء بن أبي رباح من أئمة التابعين:[أدركت الناس لا يرون بأساً في بيع المغانم فيمن يزيد].
ثم ذكر بإسناده عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رجلاً أعتق غلاماً له عن دبر -أي بعد وفاته يكون العبد حراً- فاحتاج فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:(من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا فدفعه إليه).
وذكر الحافظ ابن حجر عن مجاهد قال: لا بأس ببيع من يزيد.
والشاهد في الحديث قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(من يشتريه مني) فعرضه للزيادة. صحيح البخاري مع الفتح 5/257-258.(/72)
2. قال الإمام الترمذي:(ما جاء في بيع من يزيد) ثم روى بإسناده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باع حلساً وقدحاً وقال:(من يشتري هذا الحلس والقدح؟ فقال رجل: أخذتهما بدرهم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من يزيد على درهم؟ من يزيد على درهم؟ فأعطاه رجل درهمين فباعهما منه) وقال الترمذي: حديث حسن. تحفة الأحوذي 4/343. وجمهور الفقهاء على جواز بيع المزايدة. نيل الأوطار 5/191.
وبيع المزايدة ليس من باب البيع على بيع أخيه الذي ورد النهي عنه في حديث ابن عمر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال:(لا يبع بعضكم على بيع أخيه) رواه البخاري ومسلم.
قال العلماء البيع على البيع حرام وكذلك الشراء على الشراء وهو أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار افسخ لأبيعك بأنقص أو يقول للبائع افسخ لأشتري منك بأزيد وهو مجمع عليه.
وأما السوم فصورته أن يأخذ شيئاً يشتريه فيقول له: رده لأبيعك خيراً منه بثمنه أو مثله بأرخص. أو يقول للمالك استرده لأشتريه منك بأكثر ومحله بعد استقرار الثمن وركون أحدهما للآخر. فتح الباري 5/257.
وقال الحافظ ابن عبد البر في بيان البيع على بيع أخيه:[هو أن يستحسن المشتري السلعة ويهواها ويركن إلى البائع ويميل إليه ويتذاكران الثمن ولم يبق إلا العقد والرضا الذي يتم به البيع فإذا كان البائع والمشتري على مثل هذه الحال لم يجز لأحد أن يعترضه فيعرض على أحدهما ما به يفسد به ما هما عليه من التبايع فإن فعل أحد ذلك فقد أساء وبئس ما فعل فإن كان عالماً بالنهي عن ذلك فهو عاص لله] فتح المالك 8/180.
وبهذا يظهر لنا الفرق بين بيع المزايدة والبيع على بيع أخيه ففي بيع المزايدة البائع يعرض سلعته لمن يزيد فإن عرض أحد الناس عليه مبلغاً فلم يرض به البائع فيطلب أكثر منه فيزيده شخص آخر وهكذا، وهذا كله قبل أن يستقر البيع وقبل أن يرضى البائع بالثمن.
ومن الأمور التي تصاحب بيع المزايدة وخاصة المزادات العلنية ما يسمى عند العلماء بالنجش وهو أن يزيد شخص في ثمن السلعة وهو لا يريد شراءَها ولكن ليغرَّ غيره وغالباً ما يكون النجش باتفاق بين صاحب السلعة والناجش وهو حرام شرعاً لما فيه من الخديعة فقد ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النجش) رواه البخاري.
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المتعلق بعقد المزايدة ما يلي:
[وحيث إن عقد المزايدة من العقود الشائعة في الوقت الحاضر وقد صاحب تنفيذه في بعض الحالات تجاوزات دعت لضبط طريقة التعامل به ضبطاً يحفظ حقوق المتعاقدين طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية كما اعتمدته المؤسسات والحكومات وضبطته بتراتيب إدارية ومن أجل بيان الأحكام الشرعية لهذا العقد قرر ما يلي:
1. عقد المزايدة: عقد معاوضة يعتمد دعوة الراغبين نداء أو كتابة للمشاركة في المزاد ويتم عند رضا البائع.
2. يتنوع عقد المزايدة بحسب موضوعه إلى بيع وإجارة وغير ذلك وبحسب طبيعته إلى اختياري كالمزادات العادية بين الأفراد وإلى إجباري كالمزادات التي يوجبها القضاء وتحتاج إليه المؤسسات العامة والخاصة والهيئات الحكومية والأفراد.
3. إن الإجراءات المتبعة في عقود المزايدات من تحرير كتابي وتنظيم وضوابط وشروط إدارية أو قانونية يجب ألا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.
4. طلب الضمان ممن يريد دخول الشراء في المزايدة جائز شرعاً ويجب أن يرد لكل مشارك لم يرس عليه العطاء ويحتسب الضمان المالي من الثمن لمن فاز في الصفقة.
5. لا مانع شرعاً من استيفاء رسم الدخول ( قيمة دفتر الشروط بما لا يزيد عن القيمة الفعلية) لكونه ثمناً له.
6. يجوز أن يعرض المصرف الإسلامي أو غيره مشاريع استثمارية ليحقق لنفسه نسبة أعلى من الربح سواء أكان المستثمر عاملاً في عقد مضاربة مع المصرف أم لا.
7. النجش حرام ومن صوره:
أ. أن يزيد في ثمن السلعة من لا يريد شرائها ليغري المشتري بالزيادة.
ب. أن يتظاهر من لا يريد الشراء بإعجابه بالسلعة وخبرته بها ويمدحها ليغُرَّ المشتري فيرفع ثمنها.
ج. أن يدعي صاحب السلعة أو الوكيل أو السمسار ادعاءً كاذباً أنه دُفعَ فيها ثمنٌ معينٌ ليدلس على من يسوم.
د. ومن الصور الحديثة للنجش المحظورة شرعاً اعتماد الوسائل السمعية والمرئية والمقروءة التي تذكر أوصافاً رفيعة لا تمثل الحقيقة أو ترفع الثمن لتغرَّ المشتري وتحمله على التعاقد] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 8 ج 2/169-170.
- - -
الغبن في التجارة
الغبن عبارة عن بيع السلعة بأكثر مما جرت العادة أن الناس لا يتغابنون بمثله إذا اشتراها كذلك. الموسوعة الفقهية الكويتية 31/138.(/73)
وهذا الغبن هو الذي يسميه الفقهاء غبن المسترسل وهو المستسلم لبائعه فلا يساوم ولا يماكس. وقد أثبت بعض الفقهاء الخيار للمسترسل المغبون أخذاً بما ورد في الحديث عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال( ذُكر رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يُخدع في البيوع. فقال: من بايعت فقل لا خِلابة) رواه البخاري ومسلم.
وعن أنس - رضي الله عنه - (أن رجلاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبتاع وكان في عقدته يعني في عقله ضعف فأتى أهلُهُ النبيَ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله احجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف، فدعاه ونهاه فقال يا نبي الله إني لا أصبر عن البيع فقال إن كنت غير تاركٍ للبيع فقل هاءً وهاءٍ –أي يداً بيدٍ- ولا خِلابة) رواه أصحاب السنن وأحمد وصححه الترمذي. قال الإمام الشوكاني:[قوله (لا خِلابة) بكسر المعجمة وتخفيف اللام: أي لا خديعة.
قال العلماء:لقَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا القول ليتلفظ به عند البيع، فيطلع به صاحبه على أنه ليس من ذوي البصائر في معرفة السلع ومقادير القيمة، ويرى له ما يرى لنفسه، والمراد أنه إذا ظهر غبن ردَّ الثمن واسترد المبيع.
واختلف العلماء في هذا الشرط هل كان خاصاً بهذا الرجل أم يدخل فيه جميع من شرط هذا الشرط؟ فعند أحمد ومالك في رواية عنه والمنصور بالله والإمام يحيى أنه يثبت الردّ لكل من شرط هذا الشرط، ويثبتون الرد بالغبن لمن لم يعرف قيمة السلع.
وقيده بعضهم بكون الغبن فاحشاً وهو ثلث القيمة عنده، قالوا: بجامع الخداع الذي لأجله أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك الرجل الخيار.
وأجيب بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جعل لهذا الرجل الخيار للضعف الذي كان في عقله كما في حديث أنس المذكور، فلا يلحق به إلا من كان مثله في ذلك بشرط أن يقول هذه المقالة، ولهذا روي أنه كان إذا غبن يشهد رجل من الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعله بالخيار ثلاثاً فيرجع في ذلك.
وبهذا يتبين أنه لا يصح الاستدلال بمثل هذه القصة على ثبوت الخيار لكل مغبون وإن كان صحيح العقل، ولا على ثبوت الخيار لمن كان ضعيف العقل إذا غبن ولم يقل هذه المقالة، وهذا مذهب الجمهور وهو الحقّ] نيل الأوطار 5/207.
وبناءً على قول الجمهور الذي ذكره الشوكاني لا يثبت حق فسخ البيع بمجرد الغبن ما لم يضف إليه تغرير وقد جاء في المادة 356 من مجلة الأحكام العدلية:[ إذ وجد غبن فاحش في البيع ولم يوجد تغرير فليس للمغبون أن يفسخ البيع ] درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1/368.
وقد فصَّلَ هذه المسألة العلامةُ ابن عابدين وبيَّن أن الغبن الفاحش ليس سبباً موجباً لفسخ البيع في رسالته المسماة:[تحبير التحرير في إبطال القضاء بالفسخ بالغبن الفاحش بلا تغرير] ضمن مجموعة رسائله 2/66-82.
ونص بعض أهل العلم على أن الخيار يثبت إذا كان الغبن يخرج عن العادة، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[... المسترسل إذا غُبنَ غبناً يخرج عن العادة فله الخيار بين الفسخ والإمضاء... فأما غير المسترسل فإنه دخل على بصيرة بالغبن فهو كالعالم بالبيع وكذا لو استعجل فجهل ما لو تثبت لعلمه لم يكن له خيار لأنه انبنى على تقصيره وتفريطه] المغني 3/497-498.
والغبن الخارج عن العادة قدره بعض العلماء بالثلث وبعضهم بالربع وبعضهم بالخمس أي أن البائع إذا زاد في السعر بنسبة 33% أو 25% أو 20% فهذا غبن خارج عن العادة وإذا كان أقل من ذلك فيكون الغبن من ضمن ما جرى تغابن الناس به. فالمرجع في الغبن إلى العرف، فيستشار فيه أهل الخبرة فما عدُّوه غُبناً فهو غُبنٌ وما لم يعدُّوه غُبناً فليس بغبنٍ.
انظر الشرح الممتع على زاد المستقنع 8/298، الفقه الإسلامي وأدلته 4/221.
- - -
لا يجوز شراء المال المسروق
يحرم على المسلم أن يشتري مالاً مغصوباً أو مسروقاً أو أخذ من صاحبه بغير حق وهو يعلم كالأجهزة التي تصادر من أصحابها لعدم دفعهم الضرائب ونحو ذلك فهذا وأمثاله لا يجوز للمسلم أن يقدم على شرائه وهو يعلم لأنه قد أُخِذَ من أصحابه بدون حق لأن هذه الأجهزة لم تنتقل ملكيتها من صاحبها بطريق شرعي وإنما هي مغصوبة أو مسروقة فإذا أقدم المسلم على شرائها فيكون قد اشتراها من غير مالكها الحقيقي.
ولا شك أن في شراء المال المسروق أو المغصوب تشجيعاً لهؤلاء الذين يأخذون أموال الناس بالباطل ويعتبر ذلك من باب التعاون على الإثم والعدوان وقد نهانا الله عن ذلك بقوله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } سورة المائدة الآية 2.
وكذلك فإننا نعلم أنه لا يحل أخذ مال المسلم إلا إذا طابت نفسه بذلك وهذه الأموال المسروقة أو المغصوبة تؤخذ بالقوة أو بالخفية ولا تطيب نفس صاحبها بها والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول:(لا يحل مال امرئٍ مسلمٍ إلا بطيب نفس منه) رواه أحمد والبيهقي والدارقطني وهو حديث صحيح.(/74)
وقد روي في الحديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوله:(من اشترى سرقة –شيئاً مسروقاً– وهو يعلم أنها سرقة فقد اشترك في إثمها وعارها) رواه الحاكم والبيهقي وسنده مختلف فيه.
- - -
خلو الرِّجْل
خلو الرجل هو مبلغ مالي يدفع نظير إخلاء العين المؤجرة وخلو الرجل عند من يقول بجوازه يشترط فيه أن يكون قد بقي شيء من مدة عقد الإجارة، فمثلاً: إذا استأجر شخص محلاً تجارياً لمدة خمس سنوات ورغب المالك في إنهاء العقد بعد مضي سنتين فأجازوا للمستأجر أن يأخذ خلو الرجل لأن ذلك يكون مقابل ما بقي له من حق المنفعة في المحل المستأجر وأما إذا انتهت مدة عقد الإجارة فلا يجوز للمستأجر أخذ الخلو ويجب عليه إعادة المحل لمالكه لأن المالك أحق بملكه.
وقد أصدر مجلس مجمع الفقه الإسلامي قراراً بشأن بدل الخلو جاء فيه ما يلي:
أولاً: تنقسم صور الاتفاق على بدل الخلو إلى أربع صور هي:
1. أن يكون الاتفاق بين مالك العقار وبين المستأجر عند بدء العقد.
2.أن يكون الاتفاق بين المستأجر وبين المالك، وذلك في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها.
3. أن يكون الاتفاق بين المستأجر وبين مستأجر جديد، في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها.
4. أن يكون الاتفاق بين المستأجر الجديد وبين كل من المالك والمستأجر الأول قبل انتهاء المدة، أو بعد انتهائها.
ثانياً: إذا اتفق المالك والمستأجر على أن يدفع المستأجر للمالك مبلغاً مقطوعاً زائداً عن الأجرة الدورية (وهو ما يسمى في بعض البلاد خلواً)، فلا مانع شرعا من دفع هذا المبلغ المقطوع على أن يُعد جزءًا من أجرة المدة المتفق عليها، وفي حالة الفسخ تطبق على هذا المبلغ أحكام الأجرة.
ثالثاً : إذا تم الاتفاق بين المالك وبين المستأجر أثناء مدة الإجارة على أن يدفع المالك إلى المستأجر مبلغاً مقابل تخليه عن حقه الثابت بالعقد في ملك منفعة بقية المدة، فإن بدل الخلو هذا جائز شرعاً، لأنه تعويض عن تنازل المستأجر برضاه عن حقه في المنفعة التي باعها للمالك . أما إذا انقضت مدة الإجارة، ولم يتجدد العقد صراحةً أو ضمناً عن طريق التجديد التلقائي حسب الصيغة المفيدة له، فلا يحل بدل الخلو، لأن المالك أحق بملكه بعد انقضاء حق المستأجر.
رابعاً: إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد أثناء مدة الإجارة على التنازل عن بقية مدة العقد لقاء مبلغ زائد عن الأجرة الدورية، فإن بدل الخلو هذا جائز شرعاً، مع مراعاة مقتضى عقد الإجارة المبرم بين المالك والمستأجر الأول، ومراعاة ما تقضي به القوانين النافذة الموافقة للأحكام الشرعية.
على أنه في الإجارات الطويلة المدة -خلافاً لنص عقد الإجارة طبقاً لما تسوغه بعض القوانين- لا يجوز للمستأجر إيجار العين لمستأجر آخر، ولا أخذ بدل الخلو فيها إلا بموافقة المالك.
أما إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد بعد انقضاء المدة فلا يحل بدل الخلو، لانقضاء حق المستأجر الأول في منفعة العين.] مجلة المجمع عدد 4 جزء 3 ص 2171.
- - -
لا يجوز بيع الطعام قبل قبضه
بيع الطعام قبل القبض مفسد للعقد عند أهل العلم فإذا اشترى شخص طعاماً فلا يجوز له أن يبيعه قبل أن يقبضه باتفاق أهل العلم لأن بيع الطعام قبل القبض لا يصح شرعاً قال ابن المنذر فيما نقله عنه الشيخ ابن قدامة المقدسي:[أجمع أهل العلم على أن من اشترى طعاماً فليس له أن يبيعه حتى يستوفيه] المغني 4/83.
وقال ابن رشد المالكي:[وأما بيع الطعام قبل قبضه، فإن العلماء مجمعون على منع ذلك إلا ما يحكى عن عثمان البتي. وإنما أجمع العلماء على ذلك لثبوت النهي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه)] بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/119.
واستدل العلماء بأدلة كثيرة على المنع من بيع الطعام قبل قبضه منها:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية عند البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه) قال ابن عباس وأحسب كل شيء مثله. رواه مسلم.
وفي رواية أخرى عند مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه)، قال ابن عباس وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام.(/75)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه) قال: وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه. رواه مسلم.
وقال أبو هريرة - رضي الله عنه - (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام حتى يستوفى) رواه مسلم.
وعن حكيم بن حزام قال:(قلت: يا رسول اللَّه إنِّي أَشتري بيوعًا فما يحلُّ لي منها وما يحرم عليَّ؟ قال: إذا اشتريت شيئاً فلا تبِعه حتّى تقبضه) رواه أحمد.
وعن جابر - رضي الله عنه - قال:(نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري) رواه ابن ماجة والدارقطني. وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/20.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(ابتعت زيتاً في السوق فلما استوجبته لنفسي لقيني رجل فأعطاني به ربحاً حسناً فأردت أن أضرب على يده فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفتُّ فإذا زيد بن ثابت فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) رواه أبو داود. وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/668.
قال صاحب عون المعبود:[(فلما استوجبته): أي صار في ملكي بعقد التبايع ...(فأردت أن أضرب على يده): أي أعقد معه البيع, لأن من عادة المتبايعين أن يضع أحدهما يده في يد الآخر عند العقد...] عون المعبود 9/286.
وقال الإمام الترمذي:[عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه) قال ابن عباس وأحسب كل شيء مثله. قال وفي الباب عن جابر وابن عمر وأبي هريرة قال أبو عيسى –الترمذي- حديث ابن عباس حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم كرهوا بيع الطعام حتى يقبضه المشتري.
وقد رخص بعض أهل العلم فيمن ابتاع شيئاً مما لا يكال ولا يوزن مما لا يؤكل ولا يشرب أن يبيعه قبل أن يستوفيه وإنما التشديد عند أهل العلم في الطعام وهو قول أحمد وإسحق] سنن الترمذي 3/586.
وقال الإمام النووي بعد أن ذكر ما رواه مسلم في هذا الباب:[باب بطلان بيع المبيع قبل قبضه ... وفي هذه الأحاديث النهي عن بيع المبيع حتى يقبضه البائع, واختلف العلماء في ذلك, فقال الشافعي: لا يصح بيع المبيع قبل قبضه سواء كان طعاماً أو عقاراً أو منقولاً أو نقداً أو غيره.
وقال عثمان البتي: يجوز في كل مبيع.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز في كل شيء إلا العقار. وقال مالك: لا يجوز في الطعام ويجوز فيما سواه. ووافقه كثيرون.
وقال آخرون: لا يجوز في المكيل والموزون ويجوز فيما سواهما. أما مذهب عثمان البتي فحكاه المازري والقاضي ولم يحكه الأكثرون بل نقلوا الإجماع على بطلان بيع الطعام المبيع قبل قبضه, قالوا: وإنما الخلاف فيما سواه فهو شاذ متروك والله أعلم] شرح النووي على صحيح مسلم 4/130.
وقد أشار ابن عباس رضي الله عنهما إلى العلة في منع بيع الطعام قبل قبضه لما سأله طاووس فيما رواه البخاري عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبيع الرجل طعاماً حتى يستوفيه) قلت –أي طاووس- لابن عباس كيف ذاك؟ قال ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ قال أبو عبد الله مرجئون مؤخرون].
قال الإمام الشوكاني في شرحه:[... ما علل به النهي فإنه أخرج البخاري عن طاووس قال: قلت لابن عباس كيف ذاك قال دراهم بدراهم والطعام مرجأ استفهمه عن سبب النهي فأجابه بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باع دراهم بدراهم ويبين ذلك ما أخرجه مسلم عن ابن عباس أنه قال لما سأله طاووس ألا تراهم يبتاعون بالذهب والطعام مرجأ وذلك لأنه إذا اشترى طعاماً بمائة دينار ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام ثم باع الطعام إلى آخر بمائة وعشرين مثلاً فكأنه اشترى بذهبه ذهباً أكثر منه ولا يخفى أن مثل هذه العلة لا ينطبق على ما كان من التصرفات بغير عوض وهذا التعليل أجود ما علل به النهي لأن الصحابة أعرف بمقاصد الرسول - صلى الله عليه وسلم -] نيل الأوطار 5/180-181.
وما نقل عن عثمان البتي وهو أحد فقهاء التابعين من جواز بيع الطعام قبل قبضه فهو قول شاذ ومخالف لصريح الأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الحافظ ابن عبد البر:[وهذا قول مردود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام، وأظنه لم يبلغه هذا الحديث ومثل هذا لا يلتفت إليه] المغني 4/86.
وقال الإمام النووي:[أما مذهب عثمان البتي فحكاه المازري والقاضي ولم يحكه الأكثرون بل نقلوا الإجماع على بطلان بيع الطعام المبيع قبل قبضه, قالوا: وإنما الخلاف فيما سواه فهو شاذ متروك والله أعلم] شرح النووي على صحيح مسلم4/130.(/76)
وقال الإمام الشوكاني:[وروي عن عثمان البتي أنه يجوز بيع كل شيء قبل قبضه والأحاديث ترد عليه فإن النهي يقتضي التحريم بحقيقته ويدل على الفساد المرادف للبطلان كما تقرر في الأصول] نيل الأوطار 5/179.
- - -
البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل
يكتب بعض التجار هذه العبارة (البضاعة المباعة لا تُرد ولا تُستبدل) على لوحة ويعلقها في مكان بارز من متجره وهذه العبارة ليست صحيحة على إطلاقها بل في حكمها التفصيل التالي:
أولاً: تكون عبارة (البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل) صحيحة فيما إذا وقع البيع خالياً من الخيار ومن العيوب فمن المعلوم أن عقد البيع إذا تم بصدور الإيجاب والقبول من المتعاقدين فهو عقد لازم والعقود اللازمة عند الفقهاء لا يملك أحد المتعاقدين فسخها إلا برضى الآخر إذا لم يكن بينهما خيار لقوله - صلى الله عليه وسلم -:[البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا ] رواه البخاري ومسلم.
فإذا اشترى شخص سلعة ولم تكن معيبة ثم ذهب إلى بيته فبدا له أن يُرْجِع السلعة للبائع فلا يملك المشتري ذلك إلا إذا وافق البائع وهذا ما يسمى بالإقالة والإقالة أمر مندوب إليه شرعاً ومرغب فيه وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يقيل البائع المشتري إن ندم على الشراء لأي سبب من الأسباب فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(من أقال مسلماً أقاله الله عثرته يوم القيامة) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، ولكن إن أبى البائع أن يقيل المشتري بيعته فله ذلك وفي هذه الحالة تكون عبارة (البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل) صحيحة ولكن رد السلعة وإقالة المشترى أولى.
ثانياً: تكون عبارة (البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل) باطلة إذا اشترى شخص سلعة ولما رجع إلى بيته وجد فيها عيباً فله كل الحق في رد السلعة وإن شرط البائع عليه أن (البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل).
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[إنه متى عَلِم بالمبيع عيباً لم يكن عالماً به، فله الخيار بين الإمساك والفسخ سواء كان البائع علم العيب وكتمه أو لم يعلم، لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافاً وإثبات النبي - صلى الله عليه وسلم - الخيار بالتصرية تنبيه على ثبوته بالعيب ولأن مطلق العقد يقتضي السلامة من العيب] المغني 4/109.
وحديث التصرية الذي أشار إليه الشيخ ابن قدامة المقدسي هو ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاع تمر) والتصرية هي حبس الحليب في الضرع لخداع المشتري وتُعَد التصرية عيباً عند الفقهاء وقد أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - الخيار برد المصراة وجعله حقاً للمشتري.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:[ولهذا أثبت الشارع الخيار لمن لم يعلم بالعيب أو التدليس؛ فإن الأصل في البيع الصحة وأن يكون الباطن كالظاهر. فإذا اشترى على ذلك فما عرف رضاه إلا بذلك فإذا تبين أن في السلعة غشاً أو عيباً فهو كما لو وصفها بصفة وتبينت بخلافها فقد يرضى وقد لا يرضى فإن رضي وإلا فسخ البيع. وفى الصحيحين عن حكيم بن حزام عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبيّنَّا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)] مجموع الفتاوى 28/104.
وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية (ما حكم الشرع في كتابة عبارة (البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل) التي يكتبها بعض أصحاب المحلات التجارية على الفواتير الصادرة عنهم؟ وهل هذا الشرط جائز شرعاً؟ وما هي نصيحة سماحتكم حول هذا الموضوع؟
الجواب: وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بأن بيع السلعة بشرط ألا ترد ولا تستبدل لا يجوز لأنه شرط غير صحيح لما فيه من الضرر والتعمية ولأن مقصود البائع بهذا الشرط إلزام المشتري بالبضاعة ولو كانت معيبة واشتراطه هذا لا يبرئُه من العيوب الموجودة في السلعة لأنها إذا كانت معيبة فله استبدالها ببضاعة غير معيبة أو أخذ المشتري أرش العيب.
ولأن كامل الثمن مقابل السلعة الصحيحة وأخذ البائع الثمن مع وجود عيب أخذ بغير حق.
ولأن الشرع أقام الشرط العرفي كاللفظي وذلك للسلامة من العيب حتى يسوغ له الرد بوجود العيب تنزيلاً لاشتراط سلامة المبيع عرفاً منزلة اشتراطها لفظاً. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ...].
فهذه الفتوى محمولة على الحالة الثانية من الحالتين اللتين ذكرتهما أي إلغاء خيار الرد بالعيب، والعلماء متفقون على أن المشتري إذا وجد عيباً فيما اشتراه كان له حق الرد وإن لم يكن البائع يعلم مسبقاً بالعيب.
- - -
الإعلانات التجارية(/77)
الإعلانات التجارية عن السلع أمر جائز ومشروع بضوابط سأذكرها لاحقاً لأن الإعلانات تعرِّف الناس بأنواع السلع والبضائع وتعرِّفهم على أماكن بيعها وتسهل عليهم أموراً كثيرة. ومن المعروف اليوم أن الإعلان صار فناً قائماً بذاته وله طرقه ووسائله المتقدمة والمتعددة.
ولكن يجب على التاجر المسلم ومن يرغب في الإعلان عن سلعه وبضائعه وغير ذلك أن يلتزم بالضوابط التالية حتى يكون إعلانه مشروعاً:
1. أن يكون الإعلان سالماً وخالياً من المحظورات الشرعية فلا يجوز الإعلان عن السلع والأمور المحرمة كالخمور والمخدرات ونوادي القمار وأفلام الجنس ونحوها. كما لا يجوز أن تستعمل في الإعلان وسائل محرمة كظهور النساء العاريات أو يظهر في الإعلان أناس يشربون الخمر ونحو ذلك.
2. أن يكون الإعلان صادقاً في التعبير عن حقيقة السلعة لأننا نلاحظ أن كثيراً من الإعلانات التجارية فيها مبالغة واضحة في وصف السلع وغالباً ما تكون هذه الأوصاف كاذبة وغير حقيقية ويعرف صدق هذا الكلام بالتجربة.
إن الإعلان الكاذب عن السلع والذي يظهرها على غير حقيقتها يعتبر تغريراً وغشاً وخداعاً وكل ذلك محرم شرعاً في شريعتنا الإسلامية ويؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل. يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } سورة النساء الآية 29.
وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(مرََّ على صُبرة طعام -كومة- فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله - أي المطر - قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشنا فليس مني) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم:(من غشنا فليس منا).
ويدخل ضمن الغش والخداع أن يُذكر في الإعلان أوصاف للسلعة ولا تكون فيها حقيقة. وكذلك إذا كان في السلعة عيب أخفاه المعلن ولم يذكره وباع السلعة مع علمه أنها معيبة.
فقد جاء في الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال:(المسلم أخو المسلم ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعاً فيه عيب أن لا يبينه) رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه وقال العلامة الألباني: صحيح. إرواء الغليل 5/165.
وعن أبي سباع قال:[اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسفع - رضي الله عنه - فلما خرجت بها أدركني رجل فقال: اشتريت؟ قلت: نعم. قال: وبين لك ما فيها. قلت: وما فيها؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: أردت بها سفراً أو أردت بها لحماً؟ قلت: أردت بها الحج. قال: ارتجعها. فقال صاحبها: ما أردت إلى هذا أصلحك الله تفسد عليَّ. قال: إني سمعت رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يحل لأحد أن يبيع شيئاً إلا بين ما فيه ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار) رواه ابن حبان والطبراني وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/164.
3. أن لا يترتب على الإعلان عن السلعة إلحاق الضرر بسلع الناس الآخرين كأن يذم الأصناف المشابهة. انظر الإعلان المشروع والممنوع في الفقه الإسلامي ص 96-98.
لأن هذا من الضرر الممنوع شرعاً وقد صح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 250.
كما لا يجوز استغلال التشابه في الاسم التجاري أو العلامة التجارية من أجل التغرير بالمستهلكين وإيهامهم بأن سلعته مماثلة لتلك السلع المشهورة والمعروفة.
وينبغي أن يعلم أن النصح واجب في المعاملة وقد ثبت في الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال:(الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم.
وقد بين الإمام الغزالي ضوابط النصح المأمور به في المعاملة وهي:
1. أن لا يثني على السلعة بما ليس فيها لأن ذلك يعد كذباً ولا بأس أن يذكر الصفات الحقيقية الموجودة في السلعة من غير مبالغة.
2. أن يظهر جميع عيوب المبيع ولا يكتم منها شيئاً فذلك واجب فإن أخفى شيئاً من العيوب كان ظالماً غاشاً والغش حرام وكان تاركاً للنصح في المعاملة والنصح واجب.
3. أن لا يكتم من مقدار السلعة شيئاً وذلك بتعديل الميزان والمكيال والاحتياط في ذلك.
قال الله تعالى: { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } سورة المطففين الآيات 1-3.
4. أن يصدق في سعر الوقت ولا يخفي منه شيئاً.(/78)
ثم قال الغزالي بعد ذلك:[فليس له أن يغتنم فرصة وينتهز غفلة صاحب المتاع ويخفي من البائع غلاء السعر أو من المشتري تراجع الأسعار فإن فعل ذلك كان ظالماً تاركاً للعدل والنصح للمسلمين] انظر إحياء علوم الدين 4/76-80.
- - -
جوائز التجار
إن ترويج التجارة اليوم أصبح فناً قائماً بذاته وصار التجار يتبعون أساليب كثيرة ومختلفة من أجل تسويق بضائعهم وبعض هذه الأساليب غير مشروع كالجوائز التي يعلن عنها التجار بأن من اشترى عندهم بمبلغ ما يحصل على كوبون ثم يدخل في سحب على سيارة أو ثلاجة أو نحو ذلك فهذا نوع من القمار المسمى باليانصيب لما يلي:
1. لأن المشتري يقدم على الشراء وهو على خطر فربما يحصل على الجائزة وربما لا يحصل عليها.
2. إن التجار الذين يمارسون هذا النوع من الترويج لبضائعهم يقومون غالباً برفع أثمان السلع حتى يتمكنوا من تغطية قيمة الجوائز من مجموع المشترين فيربح واحد من المشترين أو اثنان مثلاً ويخسر الآخرون.
3. إن مثل هذه الأساليب تدفع كثيراً من الناس إلى الشراء دونما حاجة رغبة في الحصول على الجائزة الموعودة وهذا يؤدي إلى الإسراف وترسيخ النهج الرأسمالي في الاستهلاك.
4. إن مثل هذه الأساليب تؤدي إلى تنمية الضغينة والحقد والحسد في قلوب الخاسرين من المشترين وهم الأكثر لأن الرابحين قلة. راجع كتاب (الميسر والقمار) ص 168– 169.
ولا شك أن هذا الأسلوب يدخل في الميسر المحرم (القمار) يقول الله سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } سورة المائدة الآية 90.
وقد سئل الشيخ الدكتور مصطفى الزرقا رحمه الله عن جوائز التجار فأجاب:[إن رأيي في هذه المسألة هو التميِيز بين الهدايا البَسيطة التي هي من عادة التجار وعُرفهم (أنّ مَنْ يشتري كمية كبيرة من البضائع عندهم يقدِّمون إليه هديّة بسيطة تقديريّة وتَرغيبيّة له كسيارة لُعبة أولاد أو قطعة أو قِطعتين زيادة عمّا اشتراه وبين هذه الهدايا ذات القيمة الكبيرة التي يجري عليها سحب بطريقة السحب على اليانَصيب بالأرقام، فيَفوز بِها أحدُ حاملي هذه البطاقات (الكوبونات) من الزّبائن. فتلك الهدايا البسيطة المُعتادة بيْن جميع التجار لمن يشتري كَمِّية كبيرة أو مجموعة من الأصناف هي حلال؛ لأنها تَقدمةٌ تعبيريّة عن تقديرات التاجر لذلك الزبون.
أما هذا النوع الذي سألت عنه من الهدايا ذات القيمة الكبيرة كالسيارة والثلاجة، مما يجري عليه سحب بحسب أرقام القسائم التي يُعطونها لمن يشتري ما لا يقل عن مقدار معين من المُشتريات، ثم يسحب دوريًّا على القَسائم لاستحقاق تلك الهدية الثمينة، والتي أصبح المشترون يشترون من عند هذا التاجر لأخذ هذه القسائم، فلا أراها إلا من قَبيل اليانصيب التِّجاري الذي هو اليوم في نظر علماء الشريعة ضَرْبٌ من المُقامَرة مُحرَّم يأثَم فيه الطرفان التاجر والزبون، ولا يكون ما يَستحقُّه بهذه الطريقة حلالاً، ولا سيما أنَّه يضرُّ اقتصاديًّا بصِغار التُّجار الذين لا يملِكون مثل هذه الوسائل القِماريّة المُغرِية، فيصرِفُ عنهم الناسَ ويُخرِجُهم من السوق، وهذا ضرر اقتصاديٌّ كبير، والله سبحانه أعلم] فتاوى مصطفى الزرقا ص513-514.
وعلق د. يوسف القرضاوي على الفتوى السابقة بقوله:[أنا أؤيد النظر الفقهي العميق، وأرى إضافة إلى ذلك أن هذا الأسلوب هو - في النهاية - إغلاء لقيمة السلعة على حساب عموم المستهلكين، وهو يعبر عن النمط الغربي الذي يغري الناس بكثرة الاستهلاك للسلع، وإن لم يكن بهم حاجة إليها، على خلاف المنهج الإسلامي الذي يحث على الاعتدال أبداً] المصدر السابق ص514.
كما سئُل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله سؤالاً هذا نصه:[هل يجوز أن أعلن للجميع أن من يشتري من عندي سيارة يحصل على رقم، ولمدة محدودة، وبعدها يجُعل سحب على هذه الأرقام، فالذي يُسحب رقمه يحصل على جائزة قيمة، وبذلك أُرغَّب في بضاعتي ويكثر زبائني. أفتونا عن هذه الطريقة جزاكم الله خيراً؟
فأجاب: هذا لا يجوز لأنه إما قمار أو شبيه به، والله تعالى يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } سورة المائدة الآية 90. والميسر: هو القمار الذي يكون الداخل فيه بين غانم وغارم]. فقه وفتاوى البيوع ص414.
- - -
بيع المحرمات
المتاجرة بأفلام الفيديو والمجلات الإباحية(/79)
إن المتاجرة في أفلام الفيديو والمجلات الإباحية التي تعرض المحرمات كأفلام الجنس والخلاعة والمجون والرذائل والأفلام البوليسية التي تعلم الناس وسائل الإجرام وتسهم في نشر الجرائم والرذائل وصور النساء العاريات ونحوها حرام شرعاً ، فالتعامل في هذه الأشرطة والمجلات بيعاً أو شراءً أو إجارةً أو إهداءً أو تبادلاً بدون مقابل كل ذلك محرم شرعاً لأنها تسهم بلا شك في نشر الفاحشة بين المسلمين يقول الله سبحانه وتعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } سورة النور الآية 19.
وكذلك فإنه يعد من باب التعاون على الإثم والعدوان والله سبحانه وتعالى يقول: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } سورة المائدة الآية 2.
وينبغي أن يعلم أنه لا يجوز لمالكي العقارات والمحلات التجارية أن يؤجروها لأمثال هؤلاء، تجار أشرطة الفيديو والمجلات الخليعة.
وأما إذا كانت أشرطة الفيديو تعرض البرامج النافعة والمفيدة كالأشرطة العلمية والطبية والتاريخية ونحو ذلك مما لا يتعارض مع أحكام الشريعة فيجوز التعامل بها.
- - -
بيع التماثيل والصلبان في محلات السنتواري وغيرها
يحرم شرعاً بيع التماثيل والصلبان للمسلم ولغير المسلم وقد ثبت في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح وهو بمكة:(إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عند ذلك قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه – أذابوه - ثم باعوه فأكلوا ثمنه) رواه البخاري ومسلم.
والعلة في تحريم بيع الأصنام كونها ليس فيها منفعة مباحة وأنها وسيلة من وسائل الشرك فيحرم بيعها سواء اتخذت للعبادة أو للزينة وسواء كانت على شكل إنسان أو حيوان وسواء بيعت للمسلمين أو لغيرهم.
كما ويحرم بيع أي شيء له علاقة بعقيدة غير المسلمين كالمنتجات الخاصة بعيد رأس السنة (الكريسماس) وما يسمى عيد الحب ( فالنتاين ) ونحوهما.
- - -
استعمال الدمى لعرض الملابس
في كثير من محلات بيع الملابس النسائية تعرض الملابس على دمى على شكل امرأة وهذه الأصنام تكون بحجم الانسان الكامل وهذا أمر محرم فلا يجوز عرض الملابس على هذه الدمى إلا إذا كانت مقطوعة الرأس؛ فقد ورد في الحديث عن أبي الهياج الأسدي قال:(قال لي علي بن أبي طالب ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان في باب البيت تمثال الرجال، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي بالباب فليقطع فليصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع ويجعل منه وسادتين منتبذتين يوطآن، ومر بالكلب فيُخْرَج، ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان ذلك الكلب جرواً للحسن أو الحسين تحت نضد له – متاع البيت المنضود فوقه فوق بعض - فأمر به فأخرج ) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
- - -
حكم بيع الأغذية المصنعة المنتهية الصلاحية
إن الأغذية التي لها تاريخ لانتهاء الصلاحية ومثلها الأدوية، لم يوضع عليها تاريخ انتهاء الصلاحية عبثاً وإنما بعد دراسة لصلاحية مركباتها وهذا يعتمد على دراسات علمية يقررها صانعو الأدوية والأغذية.
وبناءً على ذلك وبعد سؤال أهل الخبرة في هذا الشأن فإن استعمال الأدوية والأغذية التي انتهت صلاحيتها قد يلحق الضرر والأذى بمن يستهلكها.
وعليه فإنه لا يجوز شرعاً بيع الأغذية والأدوية بعد انتهاء صلاحيتها لأن في ذلك إضراراً بالناس وإلحاقاً للأذى بهم ويحرم على المسلم أن يلحق الضرر بغيره لما ورد في الحديث الشريف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال:(لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي والحاكم وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم ووافقه الذهبي وقال العلامة الألباني: صحيح. إرواء الغليل 3/408.
وإذا ثبت أنه قد لحق ضرر بمن استهلك الأغذية أو الأدوية المنتهية الصلاحية فإن من باعها يكون مسئولاً عن ذلك وينبغي أن يعاقب على ذلك.
ومن جهة أخرى فإن بيع الأغذية والأدوية المنتهية الصلاحية مع علم البائع بذلك يعتبر غشاً وكتماناً لعيب السلعة عن المشتري والغش محرم في الشريعة الإسلامية.(/80)
فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(مرَّ على صُبرة طعام -كومة- فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال أصابته السماء يا رسول الله، أي المطر. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني) رواه مسلم.
وجاء في حديث آخر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(من حمل السلاح علينا فليس منا ومن غشنا فليس منا) رواه مسلم.
والحديثان ظاهران في الدلالة على تحريم الغش باعتباره وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل إذ أن حقيقة الغش هي إخفاء وكتمان ما في السلعة من نقص أو عيب.
وهذا ينافي عصمة أموال المسلمين التي جاءت بها الشريعة الإسلامية لما جاء في الحديث الشريف من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:(لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) رواه أحمد والبيهقي وابن حبان وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/279.
والغش حرام بصورته السلبية وهي مجرد السكوت عن العيب والنقص وبصورته الإيجابية وهي القيام بجهد ما في إخفاء العيب أو تزيين السلعة.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أن رجلاً كان يبيع الخمر في سفينة وكان يشوبه بالماء وكان معه في السفينة قرد قال: فأخذ الكيس وفيه الدنانير، قال: فصعد الذرو – أعلى السفينة - ففتح الكيس فجعل يلقي في البحر ديناراً وفي السفينة ديناراً حتى لم يبق فيه شيء) رواه أحمد.
- - -
بيع العنب لمن يعصره خمراً
يحرم على المسلم أن يبيع العنب لشخص يصنع منه خمراً سواء كان ذلك الشخص مسلماً أو غير مسلم ويشترط لتحريم ذلك علم البائع بأن المشتري يصنع من العنب خمراً وهذا مذهب المالكية والحنابلة والمعتمد عند الشافعية هو مذهب الظاهرية ، ويدل على ذلك قوله تعالى: { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } سورة المائدة الآية 2 .قال الشيخ ابن قدامة المقدسي رحمه الله:[وهذا النهي يقتضي التحريم] المغني 4/167.
ويدل على ذلك أيضاً ما ورد في الحديث :( لعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له) رواه الترمذي وابن ماجة وهو حديث حسن صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/27.
ويدل على ذلك ما روي في الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال:(من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يتخذه خمراً فقد تقحم النار على بصيرة) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن، كما قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام ص 167. وقد خالفه بعض المحدثين في تحسينه الحديث.
وقد روى محمد بن سيرين (أن قيماً كان لسعد بن أبي وقاص في أرض له فأخبره عن عنب أنه لا يصلح زبيباً ولا يصلح إلا لمن يعصره -يجعله خمراً- فأمر بقلعه وقال: بئس الشيخ أنا إن بعت الخمر] المغني 4/168.
وروى ابن حزم بسنده عن عطاء قال:[لا تبعه لمن يجعله خمراً] المحلى 7/522.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن بيع العنب لمن يجعله خمراً فقال:[لا يجوز بيع العنب لمن يعصره خمراً بل قد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يعصر العنب لمن يتخذه خمراً فكيف بالبائع له الذي هو أعظم معاونة ولا ضرورة لذلك فإنه إذا لم يمكن بيعه رطباً ولا تزبيبه فإنه يتخذه خلاً أو دبساً ونحو ذلك] مجموع الفتاوى 29/236.
وهنا لا بد من توضيح قاعدة هامة تتعلق بهذه المسألة وهي ما قرره العلماء من أن للوسائل أحكام المقاصد .قال الإمام العز بن عبد السلام:[للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل] قواعد الأحكام 1/46. فوسيلة المحرم محرمة أي إن ما أدى إلى الحرام فهو حرام.
- - -
بيع السجائر
إن نبتة الدخان لم تكن معروفة في ديار الإسلام لذلك لم يتعرض لها الفقهاء المتقدمون في مؤلفاتهم وأول ما عرف الدخان في بلاد المسلمين في حوالي الألف للهجرة كما ذكر بعض العلماء ولما شاع التدخين اختلف الفقهاء في حكمه فمنهم من رأى أنه مباح ومنهم من رأى أنه حرام وخلافهم هذا كان قبل وقوفهم على أضرار التدخين، أما الآن فقد أصبحت أضرار التدخين معلومة علماً تاماً ومقطوعاً بها. فقد اتفقت على أضراره الهيئات العلمية والمجامع الطبية وقررت أنه سبب رئيس للسرطان وتليف الكبد وأمراض الشريان التاجي والذبحة الصدرية وسرطان الفم وغيرها من الأمراض الخبيثة لذلك رأى كثير من العلماء المعاصرين أن التدخين حرام وهذا هو القول الصحيح إن شاء الله تعالى.
ويلحق بالدخان ما يسمى بالمعسل والشيشة (الأرجيلة) وغير ذلك من الأنواع. وإذا قلنا بتحريم التدخين فيحرم كل ما يتعلق به من بيع وتوزيع وتقديمه للناس والدعاية له ... إلخ.
وهذا التحريم مستند لما يلي:(/81)
أولاً: ضرر التدخين المؤكد على صحة الإنسان المدخن وغيره:
وهذا ما أكده أهل الخبرة والاختصاص من الأطباء والكيميائيين وغيرهم فالدخان يتكون من مجموعة كثيرة من المواد منها أكثر من خمسة عشر نوعاً من السموم الفتاكة كالنيكوتين الذي يعد من السموم القوية والفعالة وله أثر سيء على الكلية والجهاز العصبي والدم، ومنها أول أكسيد الكربون وهو معروف بتأثيره السام وله تأثير سيء على الدم.
ومنها القطران وهو المادة اللزجة الصفراء التي تؤدي إلى اصفرار الأسنان ونخرها وإلى التهابات اللثة وهو أخطر محتويات الدخان على الصحة ويسبب السرطان والتهابات الشعب الهوائية وغير ذلك من المواد الضارة التي تلحق الضرر و الأذى بصحة المدخن فالتدخين يضر بالفم وبالشفاه واللثة والأسنان واللسان واللوزتين والجهاز الهضمي والجهاز التنفسي والأعصاب والدورة الدموية والجهاز البولي كما أن للتدخين ضرراً على النسل لذلك تُنصح الحوامل بعدم التدخين وما كان ضرره كذلك فلا شك في حرمته لأن الإسلام يحرم كل ضار يقول - صلى الله عليه وسلم -:(لا ضرر ولا ضرار ) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 250.
وقال الإمام النووي:[كل ما أضر أكله كالزجاج و الحجر والسم يحرم أكله].
ثانياً: ضرر التدخين المالي:
لا شك أن الملايين تُنْفَق على التدخين وما يتعلق به وكذلك فإن الملايين تنفق في علاج الأمراض التي تنتج عن التدخين وأن الأرقام التي تذكر في هذا المجال أرقام كبيرة جداً مما يؤكد الضرر البالغ للتدخين على الناحية الاقتصادية على مستوى الأفراد والشعوب، والإسلام لا يقر أبداً إنفاق الأموال في هذه الجوانب فإن إنفاق المال في التدخين إنفاق له فيما لا ينفع لا في الدنيا ولا في الآخرة.
ثالثاً: يقول د. يوسف القرضاوي:[وهناك ضرر آخر يغفل عنه عادة الكاتبون في هذا الموضوع وهو الضرر النفسي وأقصد به أن الاعتياد على التدخين وأمثاله يستعبد إرادة الإنسان، ويجعلها أسيرة لهذه العادة السخيفة بحيث لا يستطيع أن يتخلص منها بسهولة إذا رغب في ذلك يوماً لسببٍ ما. كظهور ضررها على بدنه أو سوء أثرها في تربية ولده أو حاجته إلى ما ينفق فيها لصرفه في وجوه أخرى أنفع وألزم أو نحو ذلك من الأسباب لهذا الاستعباد النفسي لدى بعض المدخنين يجور على قوت أولاده والضروري من نفقة أسرته ومن أجل إرضاء مزاجه هذا لأنه لم يعد قادراً على التحرر منه وإذا عجز مثل هذا يوماً عن التدخين لمانع داخلي أو خارجي فإن حياته تضطرب وميزانه يختل وحاله تسوء وفكره يتشوش وأعصابه تثور لسبب أو لغير سبب] ولا ريب في أن مثل هذا الضرر جدير بالاعتبار في إصدار حكم على التدخين.
رابعاً: إن التدخين خبيث عند ذوي الطباع السليمة ولا ينكر ذلك إلا مكابر ولا يقول أحد من العقلاء إنه من الطيبات والله سبحانه وتعالى يقول: { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } والدخان خبيث فهو من المحرمات.
خامساً: إن الدخان مفتر من المفترات وهذا معروف عند المدخنين وكونه لا يفتر المدمنين عليه فهذا لا يعتبر في إثبات التحريم لأن بعض المدمنين على الخمر لا يسكر من كأس أو كأسين ويحتاج إلى كمية أكبر حتى يسكر فلا يقال إن الخمر في حقه غير محرم وكذلك الحال في الدخان وقد ثبت في الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها:(أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كل مسكر ومفتر) حديثٌ صحيح رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، والأصل في النهي أنه يفيد التحريم ما لم ترد قرينه تصرفه عن ذلك.
وبعد هذا العرض الموجز لأهم الأدلة الدالة على تحريم التدخين أقرر ما قاله بعض العلماء المعاصرين من حرمة التدخين بلا شك ولكن حرمته ليست كحرمة الخمر أو الزنا فالمحرمات تتفاوت، فهي على درجات فبعضها يعد من الكبائر وبعضها صغائر وأظن أن التدخين من الأخيرة ومع ذلك فينبغي الإقلاع عن هذه العادة السيئة ولا يجوز التعامل مع كل ما يتعلق بالتدخين كصناعته وبيعه وتوزيعه والدعاية له وتقديمه للناس وغير ذلك.
وأخيراً ينبغي أن يعلم أن قول من يرى أن التدخين مباح قول ضعيف لا وجه له بعد أن ثبت الضرر المؤكد للتدخين عند العامة والخاصة يقول د. يوسف القرضاوي:[ويتبين من هذا التمحيص الذي ذكرناه أن إطلاق القول بإباحة التدخين لا وجه له بل هو غلط صريح وغفلة عن جوانب الموضوع كله ويكفي ما فيه من إضاعة لجزء من المال فيما لا نفع فيه وما يصحبه من نتن الرائحة المؤذية وما فيه من ضرر بعضه محقق وبعضه مظنون أو محتمل].
وإن كان لهذا القول وجه فيما مضى عند ظهور استعمال هذا النبات في سنة ألف من الهجرة حيث لم يتأكد علماء ذلك العصر من ثبوت ضرره فليس له أي وجه في عصرنا بعد أن أفاضت الهيئات العلمية الطبية في بيان أضراره وسيء آثاره وعلم بها الخاص والعام وأيدتها لغة الأرقام.
- - -
بيع الكلاب(/82)
يجب أن يعلم أولاً أنه لا يجوز اقتناء الكلب في البيوت إلا لحاجة نافعة ككلاب الصيد وكلاب الحراسة لما ثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو كلب ماشية نقص من عمله كل يوم قيراطان) رواه مسلم.
وأما بيع الكلاب فمحل خلاف كبير بين أهل العلم وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم بيع الكلب وأن ثمنه حرام واستدلوا على ذلك بما يلي:
1. عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -:(أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب) رواه البخاري ومسلم.
2. وعن رافع بن خديج - صلى الله عليه وسلم - قال:(سمعت رسول الله يقول: شر الكسب مهر البغي وثمن الكلب وكسب الحجام) رواه مسلم.
وفي رواية أخرى عند مسلم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(ثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث) وغير ذلك من الأحاديث.
وأجاز جماعة من أهل العلم بيع الكلاب التي ينتفع بها ككلاب الحراسة والصيد ويلحق بها في زماننا الكلاب التي تقتفي الأثر والتي تستعمل في تعقب آثار المجرمين والكشف عن المخدرات ونحوها فيجوز بيع هذه الكلاب، وهذا قول أبي حنيفة ومالك في رواية عنه وبه قال عطاء وإبراهيم النخعي. شرح النووي على صحيح مسلم 4/179.
وسحنون من المالكية حيث قال:[أبيعه وأحج بثمنه] أي كلب الصيد كما نقله عنه في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/11، وهو قول بعض الحنابلة . الإنصاف 4/28.
ومال إلى هذا القول الإمام الشوكاني و العلامة الألباني وغيرهما وهو الذي أميل إليه، لما يلي:
أولاً: قال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } سورة المائدة الآية 4.
ووجه الدليل في الآية الكريمة قوله تعالى: { مُكَلِّبِينَ } ، قال القرطبي:[معنى: { مُكَلِّبِينَ } ، أصحاب الكلاب وهو كالمؤدب صاحب التأديب] تفسير القرطبي 6/66.
وهذه الآية تدل على جواز اتخاذ الكلاب للصيد ويفهم من ذلك أنها أداة للصيد ينتفع بها وما كان كذلك يجوز بيعه ما دام أنه يجوز اقتناؤه.
ثانياً: وردت بعض الأحاديث التي تستثني كلب الصيد وكلب الماشية وما في معناهما من عموم النهي المذكور في الأحاديث التي احتج بها الجمهور على المنع فمن ذلك:
1. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -:(نهى عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد) رواه الترمذي وقال لا يصح من هذا الوجه، ولكن العلامة الألباني ذكر أن الحديث حسن في صحيح سنن الترمذي 2/24.
وقد ذكر الشيخ أحمد الغماري عدة طرق يتقوى بها حديث أبي هريرة السابق، الهداية في تخريج أحاديث البداية 7/169 فما بعدها.
2. وعن جابر - رضي الله عنه - قال:(نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب إلا الكلب المعلَّم) رواه النسائي وأحمد والدارقطني وطعن النسائي في سنده ولكن قال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات، إلا أن النسائي طعن في صحته. فتح الباري 5/331.
وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 3/4:[ورد الاستثناء من حديث جابر ورجاله ثقات] وقال الشيخ أحمد الغماري:[هذا سند على شرط الصحيح] ثم ذكر له طرقا تقويه وذكر رواية عن ابن عباس فيها استثناء كلب الصيد . الهداية في تخريج أحاديث البداية 7/171.
وقال الإمام الشوكاني بعد أن ذكر حديث جابر:[فينبغي حمل المطلق على المقيد ويكون المحرم بيع ما عدا كلب الصيد إن صلح هذا المقيد للاحتجاج به] نيل الأوطار 5/163.
وقال العلامة المحدث الألباني:[... ولكن معنى الاستثناء صحيح دراية للأحاديث الصحيحة التي تبيح اقتناء كلب الصيد وما كان كذلك حل بيعه وحل ثمنه كسائر الأشياء المباحة كما حققه الإمام أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار ...] السلسلة الصحيحة 6/1156.
وذكر العلامة الألباني في موضع آخر أن حديث جابر وهو:(نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد) قد رواه النسائي والبيهقي وهو على شرط مسلم وذكر له شاهدين ثم قال:[فلعل هذا الاستثناء يقوى بهذه الطرق والشواهد] التعليقات الرضية 2/347.
وذكر صاحب إعلاء السنن - 14/486 فما بعدها - عدداً من الشواهد تتقوى بها هذه الأحاديث ويدل على أن الحديث الوارد في استثناء كلب الصيد لا يقل عن درجة الحسن وعليه فيجوز بيع الكلاب التي ينتفع بها في الحراسة والصيد وكلاب الأثر وغير ذلك.
- - -
آداب التاجر
أخلاق التاجر المسلم
إن التجارة في الإسلام تحكمها ضوابط وقيم أخلاقية ينبغي على التجار التحلي بها ، وهذه الضوابط والقيم مستمدة من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ومن سير الصحابة والسلف في تعاملهم التجاري.(/83)
قال أبو حامد الغزالي:[وقد أمر الله تعالى بالعدل والإحسان جميعاً، والعدل سبب النجاة فقط وهو يجري من التجار مجرى رأس المال والإحسان سبب الفوز ونيل السعادة وهو يجري من التجارة مجرى الربح ولا يعد من العقلاء من قنع في معاملات الدنيا برأس ماله فكذا في معاملات الآخرة فلا ينبغي للمتدين أن يقتصر على العدل واجتناب الظلم ويدع أبواب الإحسان وقد قال الله تعالى: { وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } وقال عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ } وقال سبحانه وتعالى: { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } ونعني بالإحسان فعل ما ينتفع به العامل وهو غير واجب عليه ولكنه تفضلٌ منه فإن الواجب يدخل في باب العدل وترك الظلم] إحياء علوم الدين 2/80-81.
وكذلك فإن الصدق والأمانة والنصيحة من أعظم أخلاق التجار فقد ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء) رواه الترمذي وقال حديث حسن. سنن الترمذي 3/515. وفيه ضعف منجبر كما قال العلامة الألباني في غاية المرام ص 124.
وعن رفاعة - رضي الله عنه - أنه خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال:(يا معشر التجار فاستجابوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال: إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله وبرَّ وصدق) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. سنن الترمذي 3/516، ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وغير ذلك من الأحاديث.
ومن الأمور التي ينبغي للتجار ألا يتعاملوا بها الغبن، وهو أن يُغلب أحد المتبايعين، وهو نوع من الخداع. قال أبو حامد الغزالي:[... فينبغي أن لا يغبن صاحبه بما لا يتغابن به في العادة فأما أصل المغابنة فمأذون فيه لأن البيع للربح ولا يمكن ذلك إلا بغبن ما ولكن يراعى فيه التقريب فإن بذل المشتري زيادة على الربح المعتاد إما لشدة رغبته أو لشدة حاجته في الحال إليه فينبغي أن يمتنع من قبوله فذلك من الإحسان ومهما لم يكن تلبيس لم يكن أخذ الزيادة ظلماً وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الغبن بما يزيد على الثلث يوجب الخيار ولسنا نرى ذلك ولكن من الإحسان أن يحط ذلك الغبن.
يروى أنه كان عند يونس بن عبيد حُلل -نوع من الثياب- مختلفة الأثمان ضرب قيمة كل حلة منها أربعمائة وضرب كل حلة قيمتها مائتان فمرّ إلى الصلاة وخلَّف ابن أخيه في الدكان فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها فاشتراها فمضى بها وهي على يديه فاستقبله يونس فعرف حلته فقال للأعرابي: بكم اشتريت؟ فقال: بأربعمائة. فقال: لا تساوي أكثر من مائتين فارجع حتى تردها. فقال: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها. فقال له يونس: انصرف فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها. ثم ردّه إلى الدكان وردّ عليه مائتي درهم وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله وقال أما استحييت أما اتقيت الله تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين فقال: والله ما أخذها إلا وهو راضٍ بها. قال: فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك، وهذا إن كان فيه إخفاء سعر وتلبيس فهو من باب الظلم … وكان الزبير بن عدي يقول: أدركت ثمانية عشر من الصحابة ما منهم أحد يحسن يشتري لحماً بدرهم فغبن مثل هؤلاء المسترسلين ظلم إن كان من غير تلبيس فهو من ترك الإحسان وقلما يتم هذا إلا بنوع تلبيس وإخفاء سعر الوقت وإنما الإحسان المحض ما نقل عن السري السقطي أنه اشترى كرّ –مكيال– لوز بستين ديناراً وكتب في روزنامجه – سجله - ثلاثة دنانير ربحه وكأنه رأى أن يربح على العشرة نصف دينار فصار اللوز بتسعين فأتاه الدلال وطلب اللوز فقال: خذه. قال: بكم؟ فقال: بثلاثة وستين. فقال الدلال وكان من الصالحين: فقد صار اللوز بتسعين. فقال السري: قد عقدت عقداً لا أحله لست أبيعه إلا بثلاثة وستين. فقال الدلال: وأنا عقدت بيني وبين الله أن لا أغش مسلماً لست آخذاً منك إلا بتسعين. قال: فلا الدلال اشترى منه ولا السري باعه). فهذا محض الإحسان من الجانبين فإنه مع العلم بحقيقة الحال.(/84)
وروي عن محمد بن المنكدر أنه كان له شقق –نوع من الثياب– بعضها بخمسة وبعضها بعشرة فباع في غيبته غلام شقة من الخمسيات بعشرة فلما عرف لم يزل يطلب ذلك الأعرابي المشتري طول النهار حتى وجده فقال له: إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة. فقال: يا هذا قد رضيت، فقال: وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا فاختر إحدى ثلاث خصال إما أن تأخذ شقة من العشريات بدراهمك وإما أن نرد عليك خمسة وإما أن ترد شقتنا وتأخذ دراهمك. فقال: أعطني خمسة. فردّ عليه خمسة وانصرف الأعرابي يسأل ويقول: من هذا الشيخ؟ فقيل له: هذا محمد بن المنكدر، فقال: لا إله إلا الله هذا الذي نستسقي به في البوادي إذا قحطنا. فهذا إحسان في أن لا يربح على العشرة إلا نصفاً أو واحداً على ما جرت به العادة في مثل ذلك المتاع في ذلك المكان ومن قنع بربح قليل كثرت معاملاته واستفاد من تكررها ربحاً كثيراً وبه تظهر البركة.
كان علي - رضي الله عنه - يدور في سوق الكوفة بالدرة ويقول:[معاشر التجار خذوا الحق تسلموا لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره] إحياء علوم الدين 2/81-82.
ولا بد أن أشير إشارة سريعة إلى دور التجار المسلمين في نشر الإسلام فقد عمل التجار المسلمون على نشر الدعوة الإسلامية بين أهل البلاد التي رحلوا إليها بالحكمة والموعظة الحسنة وبالسلوك الطيب والتعامل الحسن والتودد إلى أهل البلاد وقد دخل كثير من الناس في الإسلام عن طريق التجار المسلمين، فعرفت تركستان الشرقية في الصين الإسلام عن طريق التجار المسلمين فانتشر الإسلام بين الصينيين وقد وصل التجار المسلمون إلى بلدان جنوب شرق آسيا كأندونيسيا وماليزيا والفلبين وغيرها وكان التجار المسلمون وراء وصول الإسلام إلى جزر المالديف التي تقع في الجنوب الغربي من سريلانكا، ودخل الإسلام فيتنام أيضاً عن طريق التجار المسلمين. وكان للتجار المسلمين دور بارز في نقل الإسلام من الشمال الإفريقي إلى وسط وشرق وجنوب إفريقيا.
ووصل الإسلام إلى ألبانيا وغيرها من مناطق البلقان عن طريق التجار المسلمين قبل الفتح العثماني.
وبعد هذا العرض الموجز جداً نرى أن أخلاق التجار المسلمين وحسن تعاملهم مع الناس كان له أكبر الأثر في انتشار الإسلام في مناطق شاسعة من العالم.
- - -
هذه باقة من آداب التاجر المسلم
من آداب التاجر النية الصالحة
أخي التاجر اجعل نيتك في عملك الوصول إلى الرزق الحلال وإعفاف نفسك وأهلك عن الحرام واجعل من عملك وسيلة لنيل رضا الله عز وجل.
فالنية الصالحة هي التي تقلب الأمور العادية إلى عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه عز وجل فقد صح في الحديث عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) رواه البخاري.
وقد ذكر الإمام الغزالي أن حسن النية من آداب التاجر المسلم فقال:[حسن النية والعقيدة في ابتداء التجارة فلينو بها الاستعفاف عن السؤال وكف الطمع عن الناس استغناء بالحلال عنهم واستعانة بما يكسبه على الدين وقياماً بكفاية العيال ليكون من جملة المجاهدين به ولينو النصح للمسلمين وأن يحب لسائر الخلق ما يحب لنفسه ولينو اتباع طريق العدل والإحسان في معاملته ... ولينوِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل ما يراه في السوق فإذا أضمر هذه العقائد والنيات كان عاملاً في طريق الآخرة فإن استفاد مالاً فهو مزيد وإن خسر في الدنيا ربح في الآخرة] إحياء علوم الدين 2/84.
- - -
من آداب التاجر التبكير في طلب الرزق
ينبغي التبكير في طلب الرزق قال الإمام الترمذي:[باب ما جاء في التبكير بالتجارة] ثم روى بإسناده عن صخر الغامدي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(اللهم بارك لأمتي في بكورها، قال: وكان –أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- إذا بعث سريةً أو جيشاً بعثهم أول النهار وكان صخر رجلاً تاجراً وكان إذا بعث تجارة بعثهم أول النهار فأثرى وكثر ماله) ... قال أبو عيسى - الترمذي- حديث صخر الغامدي حديث حسن ...] سنن الترمذي.
قال في التحفة:[(فأثرى) أي صار ذا ثروة بسبب مراعاة السنة. وإجابة هذا الدعاء منه - صلى الله عليه وسلم -].
- - -
من آداب التاجر أن يذكر الله تعالى إذا دخل السوق
ورد في الحديث عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(من دخل السوق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة) رواه الترمذي وابن ماجة. وقال المنذري:[وإسناده حسن متصل ورواته ثقات أثبات] الترغيب والترهيب 2/517، وحسنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب2/309.(/85)
وعلى التاجر أن لا يقتصر على هذا بل يلازم ذكر الله سبحانه في السوق ويشتغل بالتهليل والتسبيح فذكر الله في السوق بين الغافلين أفضل وكان ابن عمر وابنه سالم ومحمد بن واسع وغيرهم يدخلون السوق قاصدين لنيل فضيلة حديث الذكر في السوق المذكور سابقاً.
وكان عمر - رضي الله عنه - إذا دخل السوق قال:[ اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفسوق ومن شر ما أحاطت به السوق اللهم إني أعوذ بك من يمين فاجرة وصفقة خاسرة ] فهكذا تكون تجارة من يتجر لطلب الكفاية لا للتنعم في الدنيا فإن من يطلب الدنيا للاستعانة بها على الآخرة كيف يدع ربح الآخرة، والسوق والمسجد والبيت له حكم واحد وإنما النجاة بالتقوى قال - صلى الله عليه وسلم -:(اتق الله حيثما كنت) رواه الترمذي وصححه فوظيفة التقوى لا تنقطع عن المتجردين للدين كيفما تقلبت بهم الأحوال وبه تكون حياتهم وعيشتهم إذ فيه يرون تجارتهم وربحهم وقد قيل: من أحب الآخرة عاش، ومن أحب الدنيا طاش، والأحمق يغدو ويروح في لاش، والعاقل عن عيوب نفسه فتَّاش. انظر إحياء علوم الدين 2/86-87.
واعلم أخي التاجر أن من أهم مفاتيح الرزق وأسبابه التي يُستنزل بها الرزق من الله عز وجل الاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل من الذنوب، قال الله تعالى عن نوح عليه السلام: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً } سورة نوح الآيات 10-12.
وقال الله تعالى عن هود عليه السلام: { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ } سورة هود الآية 52. فاحرص أخي التاجر على ذكر الله وداوم على التوبة والاستغفار.
- - -
من آداب التاجر طرح السلام ورده
طرح السلام -أي التسليم- من السنن الثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد صح في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -:(أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) رواه البخاري ومسلم.
وثبت في الحديث أيضاً عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال:(أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع: بعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس ونصر الضعيف وعون المظلوم وإفشاء السلام وإبرار المقسم) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) رواه مسلم.
ويجب أن يعلم أن تحية المسلمين هي السلام وليس صباح الخير ولا مساء الخير ولا أي عبارة أخرى سواء أكانت بالعربية أو بغيرها من اللغات كما يفعل بعض الناس حيث إنهم يحيون بعضهم بعضاً بألفاظ غير عربية.
فالسلام هو تحية أهل الإسلام بل إنها تحية أهل الجنة أيضاً، قال الله تعالى: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } سورة الرعد الآيتان 23-2 .
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } سورة النور الآية 27.
وقال تعالى: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ } سورة الذاريات الآيتان 24 - 25.
فتحية الأنبياء والملائكة والمسلمين هي السلام فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(خلق الله عز وجل آدم على صورته -أي صورة آدم- فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك، نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله) رواه البخاري ومسلم.
فالسلام هي تحيتنا التي ينبغي أن نستعملها وهي تحية عظيمة تحمل معنى عظيماً فهي دعاء بالسلامة من الآفات في الدين والنفس ولأن في تحية المسلمين بعضهم لبعض بهذا اللفظ عهداً بينهم على صيانة دمائهم وأعراضهم وأموالهم. الموسوعة الفقهية 25/156.
ولا ينبغي للمسلمين أن يستبدلوا هذه التحية العظيمة بألفاظ مستوردة مثل: Good morning، أو بونجور، أو صباح الخير، أو مساء الخير،أو بوكر توف.
قال الله تعالى: { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } سورة البقرة الآية 61.(/86)
وقد كره العلماء استعمال هذه الألفاظ وأمثالها، قال الشيخ ابن حجر الهيتمي المكي:[مطلب على أنه تكره التحية بصباح الخير بخلاف صبحك الله بالخير] الفتاوى الحديثية ص 133.
وقال الأستاذ عمر فروخ:[ومعظم الناس إذا حيا بعضهم بعضاً قالوا: صباح الخير أو مساء الخير! والرد على هذه التحية هو: صباح النور، مساء النور، وهذه التحية هي التحية المجوسية يعتقد المجوسي بقوتين: الخير والشر يمثلهما النور والظلمة. وللمجوسي إله للخير أو النور، وإله للشر أو الظلمة وهما يتنازعان السيطرة على العالم فكان من المعقول أن يحي المجوس بعضهم بعضاً بقولهم: صباح الخير - صباح النور! ومع أن الإسلام قد أمرنا بأن نأخذ تحية الإسلام (السلام عليكم) مكان كل تحية أخرى فلا يزال العرب في معظمهم -من المسلمين ومن غير المسلمين- يتبادلون التحية بقولهم صباح الخير- صباح النور] معجم المناهي اللفظية ص 334-335.
والأصل في التسليم أن يكون باللسان أي باللفظ وليس باليد أو بالرأس بدون تلفظ.
والسلام بالإشارة باليد أو بالرأس بدون تلفظ مكروه عند أهل العلم لما ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى بالكف) رواه الترمذي وضعفه ولكن له شواهد تقويه لذا حسنه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/346، وفي السلسلة الصحيحة 5/227.
ويؤيد ذلك ويقويه ما رواه النسائي في عمل اليوم والليلة ص 288 عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرؤوس والأكف والإشارة)، قال الحافظ ابن حجر: أخرجه النسائي بسند جيد. فتح الباري 13/255.
ويؤيد ذلك أيضاً أن السلف كانوا يكرهون التسليم باليد فقد روى الإمام البخاري في الأدب المفرد عن عطاء بن أبي رباح قال: كانوا يكرهون التسليم باليد. وقال العلامة الألباني: صحيح الإسناد. صحيح الأدب المفرد 1/385. وقال العلامة الألباني في موضع آخر: وإسناده صحيح على شرطه في الصحيح. حجاب المرأة المسلمة ص 99.
ويجوز التسليم بالإشارة مع التلفظ إذا كان المسلًّم عليه بعيداً بحيث لا يسمع التسليم قال العلامة فضل الله الجيلاني:[والنهي عن السلام بالإشارة مخصوص بمن قدر على اللفظ حساً وشرعاً وإلا فهي مشروعة لمن يكون في شغل يمنعه من التلفظ بجواب السلام كالمصلي والبعيد والأخرس وكذا الأصم] فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد 2/489.
وقال الحافظ ابن حجر:[واستدل بالأمر بإفشاء السلام على أنه لا يكفي سراً بل يشترط الجهر وأقله أن يسمع في الابتداء وفي الجواب.
ولا تكفي الإشارة باليد ونحوه ... ويستثنى من ذلك حالة الصلاة فقد وردت أحاديث جيدة أنه - صلى الله عليه وسلم - ردَّ السلام وهو يصلي إشارة... وكذا من كان بعيداً بحيث لا يسمع التسليم يجوز السلام عليه إشارة ويتلفظ مع ذلك بالسلام] فتح الباري 13/255.
- - -
من آداب التاجر السماحة في البيع والشراء وإنظار المعسر
السهولة والسماحة في البيع والشراء أمر مطلوب شرعاً وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها:
عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(إن الله يحب سمح البيع سمح الشراء سمح القضاء) رواه الترمذي وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/327.
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(غفر الله لرجل كان قبلكم كان سهلاً إذا باع سهلاً إذا اشترى سهلاً إذا اقتضى) رواه الترمذي وحسنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/326.
وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(أدخل الله عز وجل رجلاً كان سهلاً مشترياً وبائعاً وقاضياً ومقتضياً الجنة) رواه النسائي وحسنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/326.
أخي التاجر اطلب حقك برفق ولين فهذه هي السماحة في الاقتضاء.
وأما إنظار المعسر فقد قال الله تعالى: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } سورة البقرة الآية 280. وهذه الآية وإن كانت قد نزلت في دين الربا إلا أن سائر الديون ملحق به لحصول المعنى الجامع بينهما فإذا أعسر المديون وجب إنظاره وهو اختيار الإمام الطبري.(/87)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ...) رواه مسلم.
وعن أبي اليسر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(من أنظر معسراً أو وضع له أظله الله في ظل عرشه) رواه مسلم.
وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه) رواه مسلم.
وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم فقالوا أعملت من الخير شيئا قال لا قالوا تذكر قال كنت أداين الناس فآمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجوزوا عن الموسر قال الله عز وجل تجوزوا عنه) رواه مسلم.
وفي رواية عن حذيفة - رضي الله عنه - قال:(أُتيَ اللهُ بعبد من عباده آتاه الله مالاً فقال له ماذا عملت في الدنيا قال ولا يكتمون الله حديثاً قال: يا رب آتيتني مالك فكنت أبايع الناس وكان من خلقي الجواز فكنت أتيسر على الموسر وأنظر المعسر فقال الله أنا أحق بذا منك تجاوزوا عن عبدي ) فقال عقبة بن عامر الجهني وأبو مسعود الأنصاري هكذا سمعناه من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(من أنظر معسراً أو وضع له أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب.
أخي التاجر أنظر المعسر وتجاوز عنه تجاوز الله عنا وعنك في اليوم الآخر.
- - -
من آداب التاجر الصدق والأمانة
الصدق مطلوب من المسلم عموماً في كل أموره وأحواله قال سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } سورة التوبة الآية 119. وقال تعالى: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } سورة الأحزاب الآية 35.
وثبت في الحديث الصحيح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن والرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) رواه البخاري ومسلم.
والصدق مطلوب من التاجر المسلم خصوصاً نظراً لأهمية الصدق في المعاملات، فعن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما) رواه البخاري ومسلم، فالصدق في البيع والشراء سبب لحصول البركة والكذب سبب لمحق البركة.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وجاء في الحديث عن رفاعة - رضي الله عنه - أنه خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال:(يا معشر التجار فاستجابوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال: إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله وبر وصدق) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح ورواه ابن ماجة وابن حبان والحاكم وقال: صحيح. فالبر والصدق والتقى منجاة للتاجر من النار يوم القيامة.
وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: ( إن أطيب الكسب كسب التجار، الذين إذا صدقوا لم يكذبوا، وإن ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا اشتروا لم يندموا، وإذا باعوا لم يخدعوا، وإذا كان عليهم لم يماطلوا وإذا كان لهم لم يعسروا).
وقد ضرب التجار المسلمون أروع الأمثلة في الصدق والأمانة فمن ذلك ما قاله النضر بن شميل: غلا الخز في موضع كان إذا غلا هناك غلا بالبصرة وكان يونس بن عبيد خرازاً فعلم بذلك فاشترى من رجل متاعاً بثلاثين ألفاً فلما كان بعد ذلك قال لصاحبه هل كنت علمت أن المتاع غلا بأرض كذا وكذا؟ قال لا ولو علمت لم أبع قال هلم إلي مالي وخذ مالك فرد عليه الثلاثين ألفاً.
- - -
من آداب التاجر الخلق الحسن(/88)
الأخلاق الحسنة من القواعد التي أكمل بنائها الإسلام فالخلق الحسن له مكانة عظيمة في دين الإسلام وقد أثنى الله عز وجل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بحسن الخلق فقال جل وعلا: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } سورة القلم الآية 4.
وقد وردت أحاديث كثيرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحث على الخلق الحسن منها:
قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:(اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وروى الإمام البخاري بإسناده عن مسروق قال كنا جلوساً مع عبد الله بن عمرو يحدثنا إذ قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشاً ولا متفحشاً وإنه كان يقول إن خياركم أحاسنكم أخلاقاً).
وعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً) رواه الترمذي وحسنه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) رواه البيهقي في السنن الكبرى والحاكم في المستدرك، ورواه مالك في الموطأ، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع 1/464.
وقال - صلى الله عليه وسلم -:(ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق) رواه أصحاب السنن وقال الترمذي حسن صحيح.
والأخلاق الحسنة كالصدق والأمانة والوفاء بالعقود والعهود وحسن المعاملة وإنظار المعسرين وترك المماطلة في سداد الديون وأداء الحقوق لأصحابها ونحو ذلك من الأخلاق الفاضلة الحميدة كلها مطلوبة من المسلم بشكل عام ومن التاجر المسلم على وجه الخصوص.
ومن المعلوم أن الإسلام قد دخل أقطاراً كثيرة على يد التجار المسلمين أصحاب مكارم الأخلاق.
ولا شك أن الأخلاق من أسس بناء الأمم كما قال الشاعر:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
- - -
من آداب التاجر وفاء الكيل والميزان
أوجب الله عز وجل إيفاء الكيل والميزان فقال تعالى: { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } سورة الأنعام الآية 152.
وقال تعالى: { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ } سورة الإسراء الآية 35.
وقال تعالى: { أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنْ الْمُخْسِرِينَ } سورة الشعراء الآية 181.
وقال تعالى: { وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } سورة الرحمن الآية 9.
وقد حرم الله سبحانه وتعالى تطفيف الكيل والميزان فيقول الله عز وجل: { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } سورة المطففين الآيات 1-6.
وجاء في الحديث أن تطفيف الكيل والميزان من أسباب الشدائد والمحن التي تصيب الأمة فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:(يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) رواه ابن ماجة وقال العلامة الألباني حديث حسن انظر صحيح سنن ابن ماجة 2/370.
وقال الإمام الغزالي محذراً التاجر من التطفيف:[ألا يكتم في المقدار شيئاً وذلك بتعديل الميزان والاحتياط فيه وفي الكيل فينبغي أن يكيل كما يكتال قال الله تعالى: { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } ولا يخلص من هذا إلا بأن يرجع إذا أعطي وينقص إذا أخذ إذ العدل الحقيقي قلما يتصور فليستظهر بظهور الزيادة والنقصان فإن من استقصى حقه بكماله يوشك أن يتعداه وكان بعضهم يقول لا أشتري الويل من الله بحبة... وكان يقول ويل لمن باع بحبة جنة عرضها السموات والأرض وما أخسر من باع طوبى بويل، وإنما بالغوا في الاحتراز من هذا وشبهه لأنها مظالم لا يمكن التوبة منها إذ لا يعرف أصحاب الحبات حتى يجمعهم ويؤدي حقوقهم ولذلك لما اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قال:(للوزان لما كان يزن ثمنه زن وأرجح)] إحياء علوم الدين 2/79. والحديث المذكور رواه أصحاب السنن والحاكم وقال الترمذي حسن صحيح وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم.(/89)
أخي التاجر إياك و التطفيف في الكيل الميزان فإنه من أسباب الهلاك وما كسبته من التطفيف في الكيل الميزان سحت محرم.
- - -
من آداب البيع والشراء خلطهما بالصدقة
نظراً لما يقع من كثير من التجار من الحلف واللغو والكذب أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - التجار إلى أن يخلطوا بيعهم بالصدقة فإنها تطفئ غضب الرب عز وجل فقد ورد في الحديث عن قيس بن أبي غرزة - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نسمى السماسرة، فقال:(يا معشر التجار إن الشيطان والإثم يحضران البيع فشوبوا بيعكم بالصدقة) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وفي رواية أخرى عن قيس بن أبي غرزة - رضي الله عنه - قال: كنا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسمَّى السماسرة فمر بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمانا باسم هو أحسن منه. فقال :(يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة) رواه أبو داود، وقال العلامة الألباني: صحيح . انظر صحيح سنن أبي داود 2/640 .
وفي رواية عند النسائي قال - صلى الله عليه وسلم -:(يا معشر التجار إنه يشهد بيعكم الحلف والكذب فشوبوه بالصدقة).
قال صاحب عون المعبود:[(إن البيع يحضره اللغو): أي غالباً وهو من الكلام ما لا يعتد به, وقيل هو الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغو وهو صوت العصافير. ذكره الطيبي. قال القاري: والظاهر أن المراد منه ما لا يعنيه وما لا طائل تحته وما لا ينفعه في دينه ودنياه انتهى. (والحلف): أي إكثاره أو الكاذب منه، (فشوبوه): بضم أوله أي اخلطوا ما ذكر من اللغو والحلف قاله القاري] عون المعبود شرح سنن أبي داود 9/124.
وقد ورد في فضل الصدقة نصوص كثيرة من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - منها قوله تعالى: { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } سورة الحديد الآية 18.
وقوله تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } سورة البقرة الآية 245.
وقوله تعالى: { الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } سورة البقرة الآية 274.
وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال عمر - رضي الله عنه - أيكم يحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الفتنة قال: قلت أنا أحفظه كما قال قال إنك عليه لجريء فكيف قال قلت: فتنة الرجل في أهله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والمعروف قال سليمان قد كان يقول الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...) رواه البخاري.
وعن عدي بن حاتم - صلى الله عليه وسلم - قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:(من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل) رواه مسلم.
وعن رافع بن خديج - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(الصدقة تسد سبعين باباً من السوء) رواه الطبراني في المعجم الكبير.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(داووا مرضاكم بالصدقة) رواه البيهقي في شعب الإيمان وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/634 .
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع عن ميتة السوء) رواه الترمذي وحسنه .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(صدقة السر تطفىء غضب الرب) قال العلامة الألباني صحيح بمجموع طرقه وشواهده. السلسلة الصحيحة 4/535.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(تصدقوا ولو بتمرة فإنها تسد من الجائع وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) رواه في مسند الشهاب والزهد لابن المبارك وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/568. وغير ذلك من النصوص .
- - -
من آداب التاجر الوفاء بالوعد
كثيرٌ من النصوص من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أمرت بالوفاء بالوعد وحثت على ذلك وذمت من لم يف بوعده فمن هذه النصوص قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } سورة المائدة الآية 1. فهذه الآية الكريمة تأمر بالوفاء بالعقود والوعد داخل في ذلك.
قال الزجاج:[المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم مع بعضكم مع بعض] نقله عنه القرطبي في تفسيره 6/33.
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } سورة الصف الآية 3.
وهذه الآية من أشد الآيات في وجوب الوفاء بالوعد لأنها تضمنت الذم الشديد لمن لم يف بما يعد. قال القرافي:[والوعد إذا أخلف قول لم يفعل فيلزم أن يكون كذباً وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقاً] الفروق 4/20.(/90)
وقال تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } سورة النحل الآية 91.
وقال تعالى: { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } سورة الإسراء الآية 34.
كما أن الله سبحانه وتعالى ذم بعض المنافقين الذين لم يفوا بوعودهم كما في قوله تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءَاتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا ءَاتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } سورة التوبة الآيات 75-77.
كما أن الله سبحانه وتعالى مدح الموفين بعهودهم ووعودهم وأثنى عليهم كما في قول الله تعالى: { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } سورة البقرة الآية 177.
وقال تعالى: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } سورة النجم الآية 37.
ومدح الله سبحانه وتعالى إسماعيل بقوله: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا } سورة مريم الآية 54.
وورد في السنة النبوية ما يدل على وجوب الوفاء بالوعد فمن ذلك ما جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا وعد أخلف) رواه البخاري ومسلم .
وجاء في رواية أخرى عند مسلم:(من علامات المنافق ثلاث ...).
وفي رواية ثالثة عند مسلم أيضاً:(آية المنافق ثلاث ... وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم).
وجاء في حديث آخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في الحديث عن عبد الله بن عامر - رضي الله عنه - قال:(دعتني أمي يوماً ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد في بيتها فقالت: تعال أعطك. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أردت أن تعطيه؟ فقالت: أعطيه تمراً. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة) رواه أبو داود وحسّنه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/943، وفي السلسة الصحيحة 2/384.
وجاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها:(أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستعيذ في صلاته كثيراً من المأثم والمغرم -الإثم والدَّين- فقيل له: يا رسول الله، ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ فقال: إن الرجل إذا غرم -أي استدان- حدث فكذب ووعد فأخلف) رواه البخاري.
وبعد عرض هذه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية أقول إن أهل العلم اختلفوا في حكم الوفاء بالوعد فمنهم من قال بأنه مندوب ومنهم من قال بأنه واجب ومنهم من قال بالتفصيل ففي حالات يجب الوفاء وفي أخرى يندب.
والذي أميل إليه وأختاره وجوب الوفاء بالوعد ديانةً وقضاءً وهذا قول جماعة من أهل العلم منهم جماعة من فقهاء السلف كالفقيه المعروف ابن شبرمة والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والقاضي سعيد بن الأشوع وإسحاق بن راهويه وغيرهم.
قال الإمام البخاري في صحيحه:[ باب من أمر بإنجاز الوعد. وفعله الحسن – أي الأمر بإنجاز الوعد فعله الحسن البصري - { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ } سورة مريم الآية 54 - وقضى ابن الأشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة.
وقال المسور بن مخرمة سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر صهراً له فقال: وعدني فوفاني. قال أبو عبد الله -أي البخاري- رأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري5/355.
ثم ساق البخاري أربعة أحاديث في الوفاء بالوعد منها قصة أبي سفيان مع هرقل وفيه:(سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. قال: وهذه صفة نبي).
ثم ذكر حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق في علامات المنافق ثم ذكر حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال:(لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء أبا بكر مالٌ من قبل العلاء بن الحضرمي. فقال أبو بكر: من كان له على النبي - صلى الله عليه وسلم - دين أو كانت له قِبَلَهُ عِدةٌ فليأتنا. قال جابر: فقلت: وعدني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا فبسط يديه ثلاث مرات. قال جابر: فعدَّ في يدي خمسمائة ثم خمسمائة ثم خمسمائة). ثم ذكر حديث ابن عباس في قصة وفاء موسى عليه السلام بوعده لوالد الفتاتين.
فهذه الأدلة وغيرها تدل على وجوب الوفاء بالوعد.(/91)
وقد ذكر الحافظ السخاوي تفصيلاً أكثر من هذا في كتابه القيم (التماس السعد في الوفاء بالوعد) وبين قوة هذا القول فقال في مقدمة كتابه:[وبعد، فهذا تصنيف لطيف سميته التماس السعد في الوفاء بالوعد، جمعت فيه ما تيسر لي الوقوف عليه من الأحاديث والآثار ومناسبات الأشعار وافتتحته بآية في المعنى مع طرف من تفسيرها الأسنى ليتوافق دليل السنة والكتاب ويظهر قوة من جنح في ذلك للوجوب من الأصحاب] التماس السعد في الوفاء بالوعد ص 30.
ومن لطيف ما ذكره الحافظ السخاوي:[أن مطرفاً بن عبد الله الشخير وكان من فضلاء السلف سمع رجلاً يقول: أستغفر الله وأتوب إليه. فأخذ بذراعه وقال: لعلك لا تفعل من وعد فقد أوجب].
وذكر أيضاً:[أنه قيل لبعض الصالحين وقد أصبح صائماً تطوعاً: أفطر فإن المتطوع أمير نفسه. فقال: إني لأستحي من ربي عز وجل أن أعده وعداً وهو أن أصوم ولا أوفي له بوعدي] التماس السعد ص 57-58.
ومن كلمات السلف:[الوعد سحابة والإنجاز مطر وأحسن المواعيد ما صدقه الإمطار] التماس السعد ص 96.
وأخيراً ينبغي أن يقال إن الأخذ بقول من أوجب الوفاء بالوعد يضبط معاملات الناس وخاصة في الأمور المالية وقد أخذت كثير من المصارف الإسلامية التي تتعامل وفق الأحكام الشرعية بمبدأ الإلزام بالوعد لما في ذلك من ضبط للمعاملات المالية.
- - -
من آداب التاجر الإقالة
أخي التاجر إذا اشترى شخص سلعة منك ثم ندم على شرائها وطلب منك إرجاعها فأرجعها وأقل بيعته عسى الله أن يقيل عثرتك يوم القيامة.
والإقالة عند الْفُقَهَاءِ هي:[رَفْعُ الْعَقْدِ وَإِلْغَاءُ حُكْمِهِ وَآثَارِهِ بِتَرَاضِي الطَّرَفَيْنِ]. الموسوعة الفقهية الكويتية 5/324.
والإقالة أمر مندوب إليه شرعاً ومرغب فيه وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يقيل البائع المشتري إن ندم على الشراء لأي سبب من الأسباب فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(من أقال مسلماً أقاله الله عثرته يوم القيامة) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني:[ حديث (من أقال أخاه المسلم صفقةً كرهها, أقالهُ اللَّه عثرتَهُ يوم القيامة) . أبو داود, وابن ماجه وابن حبَّان, والحاكم وَصحَّحهُ ... قال أبُو الفتح القشيرِي: هو على شرطهما وصحَّحه ابن حزمٍ. التلخيص الحبير 3/24.وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/182. وجاء في رواية أخرى قوله - صلى الله عليه وسلم -:(منْ أقالَ نَادِمًا بَيعَتهُ, أَقَاله اللَّهُ عثرته يومَ القيامةِ) انظر إرواء الغليل 5/182. وجاء في رواية أخرى قوله - صلى الله عليه وسلم -:(من أقال أخاه بيعاً أقاله الله عثرته يوم القيامة) رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات كما قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 110.
قال صاحب عون المعبود في شرح الحديث:[(من أقال مسلماً) أي بيعه (أقاله الله عثرته) أي غفر زلته وخطيئته. قال في إنجاح الحاجة:صورة إقالة البيع إذا اشترى أحد شيئاً من رجل ثم ندم على اشترائه إما لظهور الغبن فيه أو لزوال حاجته إليه أو لانعدام الثمن فرد المبيع على البائع وقبل البائع رده أزال الله مشقته وعثرته يوم القيامة لأنه إحسان منه على المشتري, لأن البيع كان قد بت فلا يستطيع المشتري فسخه انتهى] عون المعبود 9/237.
وروى الإمام مالك عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن أنه سمعها تقول ابتاع رجل ثمر حائط في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعالجه وقام فيه حتى تبين له النقصان فسأل رب الحائط أن يضع له أو أن يقيله فحلف أن لا يفعل فذهبت أم المشتري إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تألَّى -أي حلف- أن لا يفعل خيراً فسمع بذلك رب الحائط فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله هو له] الموطأ ص483.
وينبغي أن يعلم أن عقد البيع إذا تم بصدور الإيجاب والقبول من المتعاقدين فهو عقد لازم والعقود اللازمة عند الفقهاء لا يملك أحد المتعاقدين فسخها إلا برضى الآخر إذا لم يكن بينهما خيار لقوله - صلى الله عليه وسلم -:[البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا] رواه البخاري ومسلم .
ومع ذلك فقد اتفق أهل العلم على أن من آداب البيع والشراء الإقالة قال الإمام الغزالي عند ذكره الإحسان في المعاملة:[الخامس: أن يقيل من يستقيله فإنه لا يستقيل إلا متندم مستضر بالبيع ولا ينبغي أن يرضى لنفسه أن يكون سبب استضرار أخيه، قال - صلى الله عليه وسلم -:(من أقال نادماً صفقته أقال الله عثرته يوم القيامة)] إحياء علوم الدين 2/83.(/92)
وقال الحافظ المناوي:[(من أقال مسلماً) أي وافقه على نقض البيع أو البيعة وأجابه إليه (أقال اللّه عثرته) أي رفعه من سقوطه يقال أقاله يقيله إقالة وتقاؤلاً إذا فسخا البيع وعاد المبيع إلى مالكه والثمن إلى المشتري إذا ندم أحدهما أو كلاهما وتكون الإقالة في البيعة والعهد، كذا في النهاية، قال ابن عبد السلام ...:[إقالة النادم من الإحسان المأمور به في القرآن لما له من الغرض فيما ندم عليه سيما في بيع العقار وتمليك الجوار] فيض القدير شرح الجامع الصغير 6/103.
ولا شك أن الإقالة من باب الإحسان والتراحم والتيسير على الناس والرفق بهم وتقديم العون لهم وإقالة عثراتهم وهي أمور مطلوبة من المسلم فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:(الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(إنما يرحم الله من عباده الرحماء) رواه البخاري.
وقال - صلى الله عليه وسلم -:(من فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) رواه البخاري.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه؛ من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته؛ ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم -:(الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) رواه مسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم -:(من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) رواه مسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم -:(من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) رواه مسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم -:(كان فيمن كان قبلكم تاجر يداين الناس، فإن رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه) رواه البخاري.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(اللهم من رفق بأمتي فارفق به، ومن شق عليهم فشق عليه) رواه أحمد ومسلم والنسائي.
وقال - صلى الله عليه وسلم -:(إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف) رواه مسلم.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(من يحرم الرفق يحرم الخير) رواه مسلم .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل) رواه مسلم.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(لا تنزع الرحمة إلا من شقي) رواه الترمذي وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/180.
وإنما ذكرت هذه الأحاديث لما غلب على التعامل بين الناس من طمعٍ وجشعٍ وفقدانٍ للتراحم والإحسان، لعلهم يتذكرون فيتراحمون.
وأخيراً أنبه على أمرين أولهما: ما ورد في بعض ألفاظ أحاديث الإقالة من قوله - صلى الله عليه وسلم - (من أقال مسلماً بيعته) فإن ذكر المسلم في الحديث ورد من باب التغليب وإلا فإقالة غير المسلم كإقالة المسلم قال الإمام الصنعاني:[وأما كَوْنُ الْمُقَالِ مُسْلِمًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ, وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِكَوْنِهِ حُكْماً أَغْلَبِيّاً وَإِلَّا فَثَوَابُ الْإِقَالَةِ ثَابِتٌ فِي إقَالَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ وَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ مَنْ أَقَالَ نَادِماً أَخْرَجَهُ الْبَزَّار] سبل السلام 3/796.
والثاني:إن الْإِقَالَةُ َتَكُونُ وَاجِبَةً إذَا كَانَتْ بَعْدَ عَقْدٍ مَكْرُوهٍ أَوْ بَيْعٍ فَاسِدٍ, لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْبَيْعُ فَاسِداً أَوْ مَكْرُوهاً وَجَبَ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الرُّجُوعُ إلَى مَا كَانَ لَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ صَوْناً لَهُمَا عَنْ الْمَحْظُور, لِأَنَّ رَفْعَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الإمكان, وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالْإِقَالَةِ أَوْ بِالْفَسْخِ. كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْإِقَالَةُ وَاجِبَةً إذَا كَانَ الْبَائِعُ غَارّاً لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ الْغَبْنُ يَسِيراً, وَإِنَّمَا قُيِّدَ الْغَبْنُ بِالْيَسِيرِ هُنَا, لِأَنَّ الْغَبْنَ الْفَاحِشَ يُوجِبُ الرَّدَّ إنْ غَرَّهُ الْبَائِعُ عَلَى الصَّحِيحِ] الموسوعة الفقهية الكويتية 5/325.
- - -
من آداب التاجر وضع الجوائح
أخي التاجر إذا كان لك دين على تاجر آخر فاحترق محله مثلاً أو أن السيول غمرته أو أصابه نحو ذلك من الجوائح فارحمه وتسامح معه فالجائحة عند الفقهاء كل شيء لا يستطاع دفعه لو علم به كعارضٍ سماويٍ مثل البرد والحر والجراد والمطر. ومثل هذه الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها وكل مصيبة عظيمة. انظر معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية 1/515.
وألحق بعض أهل العلم بالآفة السماوية ما يطرأ من أمور غير سماوية كالحرب. انظر الشرح الكبير 3/185، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 4/426.(/93)
وعن عطاء بن أبي رباح قال:(الجوائح كل ظاهر مفسد من مطر أو برد أو جراد أو ريح أو حريق) رواه أبو داود.
والجائحة لها أثر واضح في التخفيف عمن أصابته ويدل على ذلك عدة أحاديث وردت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منها:
عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(لو بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً بم تأخذ مال أخيك بغير حق ؟) رواه مسلم.
وعن أنس - رضي الله عنه - (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمرة حتى تزهي قالوا: وما تزهي؟ قال: تحمر، فقال: إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك؟) رواه مسلم.
وعن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -:(أمر بوضع الجوائح) رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: أصيب رجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) رواه النسائي.
ويؤخذ من هذه الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع الجوائح حتى لا يأكل المسلم مال أخيه بالباطل.
فعلى التجار أن يتقوا الله في أنفسهم وفي إخوانهم وأن يتراحموا فيما بينهم يقول الله تعالى: { ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } سورة البلد الآية 17، وورد في الحديث عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(من لا يَرْحم لا يُرْحم) رواه البخاري.
وجاء في رواية أخرى عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(لا يرحم الله من لا يرحم الناس) رواه البخاري أيضاً.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شُجْنَةٌ من الرحمن فمن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. والشُجْنة أي قرابة مشتبكة كاشتباك العروق. النهاية في غريب الحديث 2/447.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال وهو على المنبر ( ارحموا تُرحموا واغفروا يغفر الله لكم) رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 482.
- - -
أخي التاجر إياك وحلف الأيمان !
كثير من التجار يكثرون من الحلف في البيع والشراء فتراهم يحلفون بالله عز وجل على أتفه الأمور ولا يعلمون أن كثرة الحلف مكروهة هذا إذا كان الحالف صادقاً قال الله تعالى: { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } سورة المائدة الآية 89 . قال القرطبي:[أي بترك الحلف فإنكم إذا لم تحلفوا لم تتوجه عليكم هذه التكليفات] تفسير القرطبي 6/285.
ونقل القرطبي أيضاً عن بعض المفسرين في قوله تعالى: { ولآ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } سورة البقرة الآية 224، [بأن المعنى لا تكثروا من اليمين بالله تعالى فإنه أهيب للقلوب ولهذا قال الله تعالى: { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } وذمَّ من كثَّر اليمين فقال الله تعالى: { وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ } والعرب تمتدح بقلة الأيمان... ] تفسير القرطبي 3/97.
وأما إذا كان الحالف كاذباً متعمداً للكذب فقد وقع في الحرام قال الله تعالى: { إن الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } سورة آل عمران الآية 77.
وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كثرة الحلف في البيع والشراء ويلحق به غيرهما من وجوه التعامل بين الناس فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:(الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:(إياكم وكثرة الحلف في البيع فإنه ينفق ثم يمحق) رواه مسلم.
قال الإمام النووي:[وفيه النهي عن كثرة الحلف في البيع فإن الحلف من غير حاجة مكروه وينضم إليه ترويج السلعة وربما اغتر المشتري باليمين] شرح النووي على صحيح مسلم 3/220.(/94)
وقال الحافظ أبو العباس القرطبي المحدّث -وهو شيخ القرطبي المفسر-:[ وقوله:(الحلف منفقة للسلعة ممحقة للربح) الرواية: منفقة ممحقة -بفتح الميم وسكون ما بعدها وفتح ما بعدها- وهما في الأصل مصدران مزيدان محدودان بمعنى: النَّفاق. والمحق أي الحلف الفاجرة تنفق السلعة وتمحق بسببها البركة فهي ذات نفاق وذات محق. ومعنى تمحق البركة أي تذهبها وقد تذهب رأس المال كما قال الله تعالى: { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } وقد يتعدى المحق إلى الحالف فيعاقب بإهلاكه وبتوالي المصائب عليه وقد يتعدى ذلك إلى خراب بيته وبلده كما روي :أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(اليمين الفاجرة تذر الديار بلاقع) أي: خالية من سكانها إذا توافقوا على التجرؤ على الأيمان الفاجرة. وأما محق الحسنات في الآخرة فلا بد منه لمن لم يتب وسبب هذا كله أن اليمين الكاذبة يمين غموس يؤكل بها مال المسلم بالباطل.
وقوله:(إياكم وكثرة الحلف فإنه ينفق ثم يمحق) إياكم معناه الزجر والتحذير ... أي: احذره واتقه وإنما حذر من كثرة الحلف لأن الغالب ممن كثرت أيمانه وقوعه في الكذب والفجور وإن سلم من ذلك على بعده لم يسلم من الحنث أو الندم لأن اليمين حنث أو مندمة وإن سلم من ذلك لم يسلم من مدح السلعة المحلوف عليها والإفراط في تزيينها ليروجها على المشتري مع ما في ذلك من ذكر الله تعالى لا على جهة التعظيم بل على جهة مدح السلعة فاليمين على ذلك تعظيم للسلع لا تعظيم لله تعالى وهذه كلها أنواع من المفاسد لا يقدم عليها إلا من عقله ودينه فاسد] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 4/522-523.
وجاء في الحديث عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -:(أن رجلاً أقام سلعة وهو في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط ليوقع فيها رجلاً من المسلمين فنزلت: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } رواه البخاري.
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال: فقرأها رسول الله ثلاث مرار . قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) رواه مسلم. والمسبل هو الذي يجر رداءه تكبراً واختيالاً والمنان هو الذي لا يعطي شيئاً إلا منة.
وعن سلمان - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: أُشيْمطٌ زانٍ وعائلٌ مستكبرٌ ورجلٌ جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه) رواه الطبراني في معاجمه الثلاثة وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/589.
وجاء في رواية أخرى:(رجل اتخذ الأيمان بضاعة يحلف في كل حق وباطل) رواه الطبراني وقال العلامة الألباني: حسن، كما في المصدر السابق.
والأشيمط الزاني هو الرجل الكبير في العمر ومع ذلك يزني والعائل المستكبر هو ذو العيال المتكبر وغير ذلك من الأحاديث.
فعلى التجار أن يتقوا الله في أنفسهم وأن لا يكثروا من الأيمان.
قال أبو حامد الغزالي:[ولا ينبغي أن يحلف عليه البتة فإنه إن كان كاذباً فقد جاء باليمين الغموس وهي من الكبائر التي تذر الديار بلاقع. وإن كان صادقاً فقد جعل الله عرضة لأيمانه وقد أساء فيه إذا الدنيا أخس من أن يقصد ترويجها بذكر اسم الله من غير ضرورة ... فإذا كان الثناء على السلعة مع الصدق مكروهاً من حيث أنه فضول لا يزيد في الرزق فلا يخفى التغليظ في أمر اليمين] إحياء علوم الدين 2/77.
وأخيراً فإن التاجر إذا كثر منه الحلف فعليه أن يكثر من الصدقة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:(يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة ) أي اخلطوه بالصدقة رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/640.
- - -
أخي التاجر إياك والغش !
إن من قواعد البيع والشراء في الشريعة الإسلامية تحريم الغش بكل صوره وأشكاله وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الغش منها ما ثبت في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(مرََّ على صُبرة طعام -كومة- فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، أي المطر. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشنا فليس مني) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية أخرى عند مسلم:(من غشنا فليس منا).(/95)
وفي رواية أخرى للحديث السابق عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال:(خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السوق فرأى طعاماً مصبراً فأدخل يده فأخرج طعاماً رطباً قد أصابته السماء فقال لصاحبه: ما حملك على هذا؟ قال: والذي بعثك بالحق إنه لطعام واحد قال: أفلا عزلت الرطب على حدته واليابس على حدته فيبتاعون ما يعرفون، من غشنا فليس منا) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد، وقال العلامة الألباني حسن لغيره. صحيح الترغيب والترهيب 2/334-335.
وجاء في حديث آخر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(من حمل السلاح علينا فليس منا ومن غشنا فليس منا) رواه مسلم.
وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق (ليس منا) زجرٌ شديد عن الغش، ورادعٌ من الوقوع في مستنقعه الآسن.
قال صاحب عون المعبود:[قال الخطابي: معناه ليس على سيرتنا ومذهبنا, يريد أن من غش أخاه وترك مناصحته فإنه قد ترك اتباعي والتمسك بسنتي ... وهذا كما يقول الرجل لصاحبه أنا منك وإليك, يريد بذلك المتابعة والموافقة, ويشهد لذلك قوله تعالى: { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ] سورة إبراهيم الآية 36. عون المعبود شرح سنن أبي داود 9/231.
وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:(المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلمٍ باع من أخيه بيعاً فيه عيبٌ إلا بيَّنه له) رواه أحمد وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/22.
وهذه الأدلة ظاهرة الدلالة على تحريم الغش باعتباره وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل إذ أن حقيقة الغش هي إخفاء وكتمان ما في السلعة من نقص أو عيب. يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } سورة النساء الآية 29.
والغش ينافي عصمة أموال المسلمين التي جاءت بها الشريعة الإسلامية كما جاء في الحديث الشريف من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:(لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) رواه أحمد والبيهقي وابن حبان وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/279.
والغش بمقتضى الأحاديث السابقة يعتبر من كبائر الذنوب.
قال الشيخ ابن حجر الهيتمي المكي:[تنبيه: عدُّ هذا -الغش- كبيرة هو ظاهر بعض ما في هذه الأحاديث من نفي الإسلام عنه مع كونه لم يزل في مقت الله أو كون الملائكة تلعنه ... وضابط الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع أو مشتر فيها شيئاً لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذها بذلك المقابل فيجب عليه أن يعلمه به ليدخل في أخذه على بصيرة، ويؤخذ من حديث واثلة وغيره ما صرح به أصحابنا أنه يجب أيضاً على أجنبي علم بالسلعة عيباً أن يخبر به مريد أخذها وإن لم يسأله عنها كما يجب عليه إذا رأى إنساناً يخطب امرأة ويعلم بها أو به عيباً أو رأى إنساناً يريد أن يخالط آخر لمعاملة أو صداقة أو قراءة ... وعلم بأحدهما عيباً أن يخبر به وإن لم يستشر به كل ذلك أداء للنصيحة المتأكد وجوبها لخاصة المسلمين وعامتهم] الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/543. وقال الشيخ ابن حجر الهيتمي المكي أيضاً:[ونحن لا نحرم التجارة ولا البيع والشراء فقد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يتبايعون ويتجرون في البزر وغيره من المتاجر، وكذلك العلماء والصلحاء بعدهم ما زالوا يتجرون ولكن على القانون الشرعي والحال المرضي الذي أشار الله تعالى إليه بقوله عز قائلاً: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } سورة النساء الآية 29. فبين الله أن التجارة لا تحمد ولا تحل إلا إن صدرت عن التراضي من الجانبين والتراضي إنما يحصل حيث لم يكن هناك غش ولا تدليس، وأما حيث كان هناك غش وتدليس بحيث أخذ أكثر مال الشخص وهو لا يشعر بفعل تلك الحيلة الباطلة معه المبنية على الغش ومخادعة الله ورسوله فذلك حرام شديد التحريم موجب لمقت الله ومقت رسوله وفاعله داخل تحت الأحاديث السابقة والآتية، فعلى من أراد رضا الله ورسوله وسلامة دينه ودنياه ومروءته وعرضه وأخراه أن يتحرى لدينه وأن لا يبيع شيئاً من تلك البيوع المبنية على الغش والخديعة] الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/546.(/96)
وقال الشيخ ابن حجر الهيتمي المكي أيضاً:[كله حرام شديد التحريم موجب لصاحبه أنه فاسق غشاش خائن يأكل أموال الناس بالباطل ويخادع الله ورسوله وما يخادع إلا نفسه لأن عقاب ذلك ليس إلا عليه، وكثرة ذلك تدل على فساد الزمان وقرب الساعة، وفساد الأموال والمعاملات ونزع البركات من المتاجر والبياعات والزرعات بل ومن الأراضي المزروعات، وتأمل قوله - صلى الله عليه وسلم -:(ليس القحط أن لا تمطروا، وإنما القحط أن تمطروا، ولا يبارك لكم فيه) أي بواسطة تلك القبائح والعظيمات التي أنتم عليها في تجاراتكم ومعاملاتكم، ولهذه القبائح التي ارتكبها التجار والمتسببون وأرباب الحرف والصنائع سلط الله عليهم الظلمة فأخذوا أموالهم وهتكوا حريمهم بل وسلط عليهم الكفار فأسروهم واستعبدوهم وأذاقوهم العذاب والهوان ألواناً، وكثرة تسلط الكفار على المسلمين بالأسر والنهب وأخذ الأموال والحريم، إنما حدث في هذه الأزمنة المتأخرة لما أن أحدث التجار وغيرهم قبائح ذلك الغش الكثيرة المتنوعة وعظائم تلك الجنايات والمخادعات والتخيلات الباطلة على أخذ أموال الناس بأي طريق قدروا عليها لا يراقبون الله المطلع عليهم، ولا يخشون سطوة عقابه ومقته مع أنه تعالى عليهم بالمرصاد { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } سورة غافر الآية 19. { يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } سورة طه الآية 7. { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } سورة الملك الآية 14.
ولو تأمل الغشاش الخائن الآكل أموال الناس بالباطل ما جاء في إثم ذلك في القرآن والسنة لربما انزجر عن ذلك أو عن بعضه، ولو لم يكن من عقابه إلا قوله - صلى الله عليه وسلم -:(إن العبد ليقذف اللقمة من حرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من حرام فالنار أولى به). وقوله - صلى الله عليه وسلم -:(إنه لا دين لمن لا أمانة له)] الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/547.
وقد ذكر بعض أهل العلم مضار الغش وهي:
1.الغش طريق موصل إلى النار.
2.الغش دليل على دناءة النفس وخبثها، فلا يفعله إلا كل دنيء نفسٍ هانت عليه نفسه فأوردها مورد الهلاك والعطب.
3.الغش يبعد عن الله وعن الناس.
4.الغش طريق لحرمان إجابة الدعاء.
5.الغش طريق لحرمان البركة في المال والعمر.
6.الغش دليل على نقص الإيمان.
- - -
أخي التاجر إياك أن تبيع سلعة معيبة دون أن تبين للمشتري العيب
يجب على البائع أن يبين للمشتري ما في السلعة من عيب إن كان فيها ويحرم عليه أن يكتم شيئاً من عيوبها فإذا أعلم المشتري بالعيب ثم اشترى السلعة مع علمه بالعيب يكون البائع قد أبرأ ذمته فقد جاء في الحديث عن أبي سباع قال: اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع فلما خرجت بها أدركني وهو يجر إزراه فقال: يا عبد الله اشتريت؟ قلت: نعم. قال: بُينَ لك ما فيها؟ قلت: وما فيها؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة، قال: أردت بها سفراً أو أردت بها لحماً؟ قلت: أردت بها الحج. قال: فإن بخفها نقباً. فقال صاحبها: ما أردت أي هذا أصلحك الله تفسد علي؟ قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:(لا يحل لأحد يبيع شيئاً إلا بين ما فيه ولا يحل لمن علم ذلك إلا بيَّنه) رواه الحاكم والبيهقي وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وقال العلامة الألباني حسن لغيره. صحيح الترغيب والترهيب 2/337-338.
وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(المسلم أخو المسلم ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعاً فيه عيب أن لا يبينه) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني في الكبير. وقال العلامة الألباني: صحيح. صحيح الترغيب والترهيب 2/338.
فبيع السلعة المعيبة دون بيان العيب نوع من الغش والغش محرم بجميع أشكاله وأنواعه وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على صبرة -كومة- طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ فقال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس من غشنا فليس منا) رواه مسلم.
وفي رواية أخرى للحديث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال:(خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السوق فرأى طعاماً مصبراً فأدخل يده فأخرج طعاماً رطباً قد أصابته السماء فقال لصاحبه: ما حملك على هذا؟ قال: والذي بعثك بالحق إنه لطعام واحد قال: أفلا عزلت الرطب على حدته واليابس على حدته فيبتاعون ما يعرفون، من غشنا فليس منا) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد وقال العلامة الألباني حسن لغيره. صحيح الترغيب والترهيب 2/334-335.
- - -
أخي التاجر عليك ردُّ المفقودات إلى أصحابها(/97)
يسمى المال الضائع من صاحبه ويجده غيره لقطة والأصل في اللقطة التعريف بها والإعلان عنها إن كانت ذات قيمة وأما الأمور التافهة التي يسرع إليها الفساد كالثمار ونحوها فلا يحتاج إلى التعريف بها والإعلان عنها ويجوز لملتقطها أن ينتفع بها فقد ورد في الحديث عن أنس - رضي الله عنه - قال: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمرة في الطريق فقال:(لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها) رواه البخاري ومسلم، فهذا الحديث يدل على جواز أخذ المحقرات في الحال، قال الحافظ ابن حجر:[قوله - صلى الله عليه وسلم -:(لأكلتها) ظاهر في جواز أكل ما يوجد من المحقرات ملقى في الطرقات لأنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنه لم يمتنع عن أكلها إلا تورعاً لخشية أن تكون من الصدقة التي حرمت عليه لا لكونها مرمية في الطريق فقط … ولم يذكر تعريفاً فدل ذلك على أن مثل ذلك يملك بالأخذ ولا يحتاج إلى تعريف] فتح الباري 5/107-108.
وقال الإمام الترمذي:[وقد رخص بعض أهل العلم إذا كانت اللقطة يسيرة أن ينتفع بها ولا يعرفها وقال بعضهم إذا كان دون دينار يعرفها قدر جمعة وهو قول اسحق بن إبراهيم] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/518.
ويرى بعض أهل العلم أن الأمور الحقيرة التي لا يسرع إليها الفساد تعرف ثلاثة أيام واحتجوا على ذلك بما ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(من التقط لقطة يسيرة حبلاً أو درهماً أو شبه ذلك فليعرفها ثلاثة أيام فإن كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام فإن جاء صاحبها وإلا فليتصدق بها) رواه أحمد والطبراني والبيهقي وفي سنده كلام لأهل العلم.
وأما الأمور ذات القيمة فيجب تعريفها لمدة سنة كما ثبت في الحديث عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال:(أصبت صرة فيها مئة دينار فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: عرِّفها حولاً فعرفتها حولاً فلم أجد من يعرفها ثم أتيته فقال: عرفها حولاً فعرفتها فلم أجد ثم أتيته ثلاثاً، فقال: احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها فاستمتعت بها فلقيته بعد بمكة فقال: لا أدري ثلاثة أحوال أو حولاً واحداً) رواه البخاري.
وعن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - أنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن اللقطة فقال:(اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرِّفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها، قال: فضالة الغنم قال: لك أو لأخيك أو للذئب قال: فضالة الإبل؟ قال:مالك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربُها) رواه مسلم. والعفاص هو الوعاء الذي يكون فيه المال، والوكاء هو الخيط الذي يشد به الوعاء.
وفي رواية لمسلم عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة الذهب أو الورق فقال:(اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرِّفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدها إليه) وسأله عن ضالة الإبل فقال:(مالك ولها؟ دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها) وسأله عن الشاة فقال:(خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب).
قال الإمام النووي:[ وأما التعريف سنة فقد أجمع المسلمون على وجوبه إذا كانت اللقطة ليست تافهة ولا في معنى التافهة … ولا بد من تعريفها سنة بالإجماع] شرح النووي على صحيح مسلم 4/386.
ثم قال الإمام النووي:[ والتعريف أن ينشدها في الموضع الذي وجدها فيه وفي الأسواق وأبواب المساجد ومواضع اجتماع الناس فيقول: من ضاع منه شيء؟ من ضاع منه حيوان؟ من ضاع منه درهم؟ ونحو ذلك ويكرر ذلك بحسب العادة قال أصحابنا: فيعرفها أولاً في كل يوم ثم في الأسبوع ثم في أكثر منه] المصدر السابق 4/386-387.
والتعريف باللقطة إذا كانت ذات قيمة واجب على الراجح من أقوال أهل العلم قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[فإنه واجب على كل ملتقط سواء أراد تملكها أو حفظها لصاحبها، وقال الشافعي: لا تجب على من أراد حفظها لصاحبها. ولنا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به زيد بن خالد وأبي بن كعب ولم يفرق ولأن حفظها لصاحبها إنما يقيد بإيصالها إليه وطريقه التعريف أما بقاؤها في يد الملتقط من غير وصولها إلى صاحبها فهو وهلاكها سيان ولأن إمساكها من غير تعريف تضييع لها عن صاحبها فلم يجز كردها إلى موضعها أو إلقائها في غيره ولأنه لو لم يجب التعريف لما جاز الالتقاط لأن بقاءها في مكانها إذاً أقرب إلى وصولها إلى صاحبها إما بأن يطلبها في الموضع الذي ضاعت فيه فيجدها وإما بأن يجدها مع من يعرفها وأخذه لها يفوت الأمرين فيحرم فلما جاز الالتقاط وجب التعريف كيلا يحصل هذا الضرر ولأن التعريف واجب على من أراد تملكها فكذلك على من أراد حفظها فإن التمليك غير واجب فلا تجب الوسيلة إليه فيلزم أن يكون الوجوب في المحل المتفق عليه لصيانتها عن الضياع عن صاحبها وهذا موجود في محل النزاع] المغني 6/74.(/98)
إذا تقرر هذا فإن العلماء قد اتفقوا على أن يد الملتقط يد أمانة فإذا تلفت اللقطة عنده أثناء الحول بلا تعدٍ منه ولا تقصير فلا ضمان عليه وأما إذا تعدى أو قصّر فعليه الضمان.
- - -
أخي التاجر إياك والنجش
النجش هو أن يزيد في ثمن السلعة من لا يريد شرائها ليغري المشتري بالزيادة، والنجش حرام بنص أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النجش) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(أن يبيع حاضرٌ لبادٍ ولا تناجشوا ولا يبيع الرجل على بيع أخيه) رواه البخاري ومسلم.
ومن صور النجش أن يأتي الرجل الذي يفصل السلعة إلى صاحب السلعة فيستام بأكثر مما تسوى وذلك عندما يحضره المشتري يريد أن يغتر المشتري به وليس من رأيه الشراء إنما يريد أن يخدع المشتري بما يستام وهذا ضرب من الخديعة. قال الشافعي: وإن نجش رجل فالناجش آثم فيما يصنع والبيع جائز لأن البائع غير الناجش هذا ما قاله الإمام الترمذي .
أخي التاجر إياك واستغلال جهل المشتري بالأسعار:
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن استغلال جهل المشترى بأسعار السلع في الأسواق نظراً لأنه ليس من أهل المنطقة مثلاً أو لغير ذلك من الأسباب فقد منع النبي - صلى الله عليه وسلم - تلقي الركبان من أهل البادية قبل وصولهم للسوق لما في ذلك من استغلال لجهلهم بالأسعار ولما فيه من التضييق على أهل الحاضرة.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:(نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التلقي وأن يبيع حاضر لباد) رواه البخاري.
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) رواه مسلم.
قال الإمام النووي:[قوله:(نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لباد). وفي رواية (قال طاووس لابن عباس: ما قوله حاضر لباد؟ قال: لا يكن له سمساراً). وفي رواية (لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض). وفي رواية عن أنس:(نهينا أن يبيع حاضر لباد وإن كان أخاه أو أباه).
هذه الأحاديث تتضمن تحريم بيع الحاضر للبادي, وبه قال الشافعي والأكثرون. قال أصحابنا: والمراد به أن يقدم غريب من البادية أو من بلد آخر بمتاع تعم الحاجة إليه ليبيعه بسعر يومه, فيقول له البلدي: اتركه عندي لأبيعه على التدريج بأعلى] شرح النووي على صحيح مسلم.
وعلة النهي عن بيع الحاضر للبادي:[... ما يؤدي إليه هذا البيع من الإضرار بأهل البلد، والتضييق على الناس. والقصد أن يبيعوا للناس برخص. قال ابن القاسم: لم يختلف أهل العلم في أن النهي عن بيع الحاضر للبادي إنما هو لنفع الحاضرة، لأنه متى ترك البدوي يبيع سلعته، اشتراها الناس برخص، ويوسع عليهم السعر، فإذا تولى الحاضر بيعها، وامتنع من بيعها إلا بسعر البلد، ضاق على أهل البلد، وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعليله إلى هذا المعنى] الموسوعة الفقهية الكويتية9/82.
ويمكن أن يكون النهي حتى لا يحول أهل الحاضرة بين وصول أهل البادية إلى الأسواق ومعرفة الأسعار الحقيقية فيشتري أهل الحاضرة السلع بأرخص الأسعار ثم يغالون في أسعارها.
- - -
أخي التاجر احذر الرشوة والهدية للمسوؤل
روى الإمام البخاري بسنده عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - قال:(استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال: هذا مالكم وهذا أهدي إليَّ. فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فصعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: هذا لك وهذا لي؟ فهلَّا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر… ) .
وهذا الحديث الصحيح يدل على عدم جواز الهدية للمسئولين إذا كانت الهدية جاءتهم بحكم المسؤولية التي يحملونها وتعتبر هذه الهدية في حكم الرشوة فإذا أهدى شخص هدية إلى موظف في وظيفة ما ولم يكن بينهما تهادٍ قبل توليه لتلك الوظيفة فلا يجوز أن يقبل الهدية. جاء في المغني عند الكلام على الهدية للقاضي قال:[ولا يقبل هدية من لم يكن يهدي إليه قبل ولايته وذلك لأن الهدية يقصد بها في الغالب استمالة قلبه ليعتني به في الحكم فتشبه الرشوة…] المغني 10/68.(/99)
وبناء على ما تقدم أقول لك أخي التاجر إياك أن تقدم هدايا للموظفين الذين لهم علاقة بتجارتك لتسهيل معاملاتك، فهذه الهدايا ما هي في الحقيقة إلا رشاوى وقد ورد في الحديث (أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعن الراشي والمرتشي) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني. واللعن هو الطرد من رحمة الله. فاحذر أخي التاجر أن تكون من المطرودين من رحمة الله تعالى.
- - -
أخي التاجر احذر أكل السحت
ورد الوصف بأكل السحت في ثلاث آيات من القرآن الكريم وذلك في سورة المائدة، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } سورة المائدة الآيتان 41-42.
وقال الله تعالى: { وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } سورة المائدة الآية 62.
وقوله تعالى: { لوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } سورة المائدة الآية 63.
قال أهل التفسير في قوله تعالى: { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أي الحرام وسمي المال الحرام سحتاً لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها. انظر تفسير القرطبي 6/183.
وقيل لأنه لا بركة فيه لأهله فيهلك هلاك الاستئصال غالباً. وقيل لأنه يسحت مروءة الإنسان. والسحت المقصود في الآية هو الرشوة على الحكم وذلك على المشهور عند المفسرين وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري. تفسير الألوسي 3/309.
وروى الإمام البخاري تعليقاً عن محمد بن سيرين أنه قال:[كان يقال السحت الرشوة في الحكم].
وقال الحافظ ابن حجر:[وأشار ابن سيرين بذلك إلى ما جاء عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت من قوله في تفسير السحت أنه الرشوة في الحكم أخرجه ابن جرير بأسانيد عنهم. ورواه من وجه آخر مرفوعاً ورجاله ثقات ولكنه مرسل ولفظه: كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به. قيل: يا رسول الله وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم] فتح الباري 5/360.
قال الحافظ ابن عبد البر:[وفيه دليل على أن كل ما أخذه الحاكم والشاهد على الحكم بالحق أو الشهادة بالحق سحت وكل رشوة سحت وكل سحت حرام ولا يحل لمسلم أكله وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء المسلمين.
وقال جماعة من أهل التفسير في قول الله عز وجل: { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } قالوا: السحت الرشوة في الحكم وفي السحت كل ما لا يحل كسبه] فتح المالك 8/223.
ويدخل تحت السحت كل مال حرام لا يحل كسبه ولا أكله، ومن السحت الربا والغصب والقمار والسرقة ومهر البغي وثمن الخمر والخنزير والميتة والأصنام والتماثيل والمال المأكول بالباطل كمن يسأل الناس وهو ليس بحاجة فإن ما يأكله من المال يعتبر سحتاً فقد جاء في الحديث عن قبيصة بن مخارق الهلالي - رضي الله عنه - قال:(تحملت حمالة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها. قال ثم قال: يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش -أو قال سداداً من عيش- ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش -أو قال سداداً من عيش- فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً) رواه مسلم.
وجاء في الحديث عن جابر - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت وكل لحم نبت من سحت كانت النار أولى به) رواه أحمد والدارمي والبيهقي في شعب الإيمان.
وفي رواية أخرى:( كل جسدٍ نبت من سحتٍ فالنار أولى به) رواه أحمد والطبراني والحاكم وغيرهم وقال العلامة الألباني صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 2/831.
قال الشيخ المناوي بعد أن ذكر الحديث:[هذا وعيد شديد يفيد أن أكل أموال الناس بالباطل من الكبائر] فيض القدير 5/23.(/100)
وعن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون بعدي فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد عليَّ الحوض ومن غشي أبوابهم أو لم يغش ولم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه ويرد عليَّ الحوض. يا كعب بن عجرة: الصلاة برهان والصوم جنة حصينة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار. يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به) رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وصححه العلامة الألباني. صحيح سنن الترمذي 1/189.
وعن أبي بكر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(لا يدخل الجنة جسد غُذِيَ بحرام) رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أبي يعلى ثقات وفي بعضهم اختلاف قاله الهيثمي. مجمع الزوائد 10/293. وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/320.
- - -
أخي التاجر احذر من استعمال الورق المكتوب عليه الآيات القرآنية لتغليف السلع
أخي التاجر اعلم أنه لا يجوز شرعاً أن تلف السلع بالأوراق التي كتب عليها آيات القرآن الكريم لما في ذلك من امتهان لآيات الكتاب الكريم لأنه يجب شرعاً تعظيم شعائر الله يقول الله تعالى: { ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } سورة الحج الآية 32. ويقول تعالى: { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } سورة الحج الآية 30.
قال الإمام القرطبي:[ { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ } الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم... فشعائر الله أعلام دينه ...] تفسير القرطبي 12/56.
ولا شك أن آيات القرآن الكريم من أعظم شعائر الله فتجب صيانتها وحفظها من الامتهان وعندما تلف البضاعة بهذا الورق الذي كتبت عليه آيات القرآن الكريم فهذا يعرضها للامتهان وهذا أمر محرم.
- - -
أخي التاجر احذر الأمور التالية :
الأول: التنزيلات الوهمية فهي نوع من الغش والتحايل على الناس وخاصة إذا كانت البضاعة منتهية الصلاحية أو فيها عيوب خفية.
الثاني: إزعاج الناس بمكبرات الصوت عند المنادة على البضاعة.
الثالث: إزعاج الناس بالموسيقى ورفع أصوات المذياع والمسجل والتلفزيون.
الرابع:احذر من وضع بضائعك في الطريق العام فهذا ليس من حقك فلا ضرر ولا ضرار.
الخامس:احذر من بيع الملابس وكذا غيرها من السلع المكتوب عليها آيات من القرآن الكريم لما في ذلك من ابتذال لكلام رب العالمين وتعريضه للإهانة وهذا لا يفعله مسلم.
تمَّ الكتاب بحمد الله تعالى
فهرس
الموضوع ... الصفحة
مقدمة ... 5
تمهيد في التفقه في أحكام التجارة ... 9
التجارة في الكتاب والسنة ... 13
التجارة في الكتاب الكريم ... 14
التجارة في السنة النبوية ... 16
التجارة لا تلهي عن الواجبات عامة ولا تلهي عن الصلوات خاصة ... 20
التجار من الصحابة ... 25
فقه التجارة ... 33
البيع وشروطه ... 35
الكسب الحلال ... 38
ضوابط الكسب ... 41
توثيق المعاملات بالكتابة ... 45
الإشهاد على العقد ... 49
حكم البيع والشراء وقت النداء لصلاة الجمعة ... 52
كيفية حساب زكاة أموال التجارة ... 55
يقدر نصاب النقود في الزكاة بالذهب دون الفضة ... 58
زكاة مال الشركاء ... 60
زكاة الأسهم ... 62
زكاة البضاعة الكاسدة ... 63
التهرب من أداء الزكاة ... 65
تعجيل الزكاة ... 68
لا يجوز احتساب الدَّين من الزكاة ... 70
لا يصح تأخير صرف الزكاة لمستحقيها ... 72
مصارف الزكاة ... 74
صرف الزكاة للعمال العاطلين عن العمل ... 78
مصرف ( وفي سبيل الله ) في آية الصدقات ... 79
دفع الزكاة للأقارب ... 81
حكم أخذ غير المستحق من أموال الزكاة ... 84
تحديد ربح التجار ... 87
العربون في البيع جائز ... 89
تسمية الثمن في البيع شرط لصحته ... 91
معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تبع ما ليس عندك) ... 93
البيع بالتقسيط ... 98
بيع الجزاف ... 100
السمسرة وأجرة السمسار في البيع وغيره ... 102
الفرق بين البنوك الإسلامية والبنوك الربوية ... 104
الفرق بين الربح والربا ... 109
بيع المرابحة للآمر بالشراء ... 112
يحرم وضع المال في البنوك الربوية ... 115
الحساب الجاري في البنوك الربوية ... 117
التقسيط الميسر مع البنوك الربوية ... 118
حساب التوفير ربا ... 121
الاقتراض بالربا (الفائدة) للضرورة ... 122
بيع العينة وبيع التورق ... 126
كل قرض جرَّ نفعاً فهو رباً ... 129
تحريم الكفالة في قرض ربوي ... 131
حكم شراء أسهم الشركات التي تتعامل بالربا أحياناً ... 132
حكم السندات ... 135
التخلص من الفوائد الربوية ... 138
حكم التعامل ببطاقات الائتمان (بطاقات الفيزا) وغيرها ... 142
حكم التعامل في الأسواق المالية (البورصة) ... 146(/101)
استلام الشيك الحالّ بمثابة قبض النقود ... 151
التعامل بالشيكات الآجلة ... 153
بيع الشيكات المؤجلة بعملة أخرى ... 155
صرف العملة مع تأجيل القبض ... 155
حكم شراء الذهب بالشيكات وحكم بيع الذهب إلى أجل ... 156
حكم بيع الحلي الذهبية القديمة بجديدة ... 157
صرف دولارات من الفئة الكبيرة بدولارات من الفئة الصغيرة ... 159
الاختلاف بين البائع والمشتري بسبب هبوط قيمة العملة ... 160
سداد الدَّين بعملة أخرى ... 161
الخصم من الدَّين إذا عجل المدين السداد ... 163
لا يجوز الاشتراط في القرض دفع غرامة مالية إذا تأخر المقترض في السداد ... 166
لا يصح اشتراط عقد آخر مع القرض ... 169
المماطلة في سداد الدَّين ... 170
عقد المضاربة ... 173
لا تجوز المشاركة بالمال مقابل مبلغ ثابت من الربح ... 175
يجوز تقاضي الشريك راتباً شهرياً زيادة على نسبته من الربح ... 178
بيع المزايدة ... 180
الغبن في التجارة ... 183
لا يجوز شراء المال المسروق ... 185
خلو الرِّجل ... 186
لا يجوز بيع الطعام قبل قبضه ... 188
البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل ... 192
الإعلانات التجارية ... 194
جوائز التجار ... 196
بيع المحرمات (المتاجرة بأفلام الفيديو والمجلات الإباحية) ... 198
بيع التماثيل والصلبان في محلات السنتواري وغيرها ... 199
استعمال الدمى لعرض الملابس ... 200
حكم بيع الأغذية المصنعة المنتهية الصلاحية ... 200
بيع العنب لمن يعصره خمراً ... 202
بيع السجائر ... 203
بيع الكلاب ... 206
آداب التاجر ... 209
أخلاق التاجر المسلم ... 211
من آداب التاجر النية الصالحة ... 214
من آداب التاجر التبكير في طلب الرزق ... 215
من آداب التاجر أن يذكر الله تعالى إذا دخل السوق ... 215
من آداب التاجر طرح السلام ورده ... 217
من آداب التاجر السماحة في البيع والشراء وإنظار المعسر ... 220
من آداب التاجر الصدق والأمانة ... 222
من آداب التاجر الخلق الحسن ... 223
من آداب التاجر وفاء الكيل والميزان ... 224
من آداب البيع والشراء خلطهما بالصدقة ... 226
من آداب التاجر الوفاء بالوعد ... 228
من آداب التاجر الإقالة ... 231
من آداب التاجر وضع الجوائح ... 235
أخي التاجر إياك وحلف الأيمان ... 237
أخي التاجر إياك والغش ... 240
أخي التاجر إياك أن تبيع سلعة معيبة دون أن تبين للمشتري العيب ... 243
أخي التاجر عليك رد المفقودات إلى أصحابها ... 244
أخي التاجر إياك والنجش ... 247
أخي التاجر احذر الرشوة والهدية للمسئول ... 249
أخي التاجر احذر أكل السحت ... 250
أخي التاجر احذر من استعمال الورق المكتوب عليه الآيات القرآنية لتغليف السلع ... 252
أخي التاجر احذر الأمور التالية ... 253
الأعمال العلمية للمؤلف الأستاذ الدكتور حسام الدين عفانه
الحقيقة والمجاز في الكتاب والسنة وعلاقتهما بالأحكام الشرعية (رسالة الماجستير)
بيان معاني البديع في أصول الفقه (رسالة الدكتوراه)
الأدلة الشرعية على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية (كتاب)
أحكام العقيقة في الشريعة الإسلامية (كتاب)
يسألونك الجزء الأول (كتاب)
يسألونك الجزء الثاني (كتاب)
بيع المرابحة للآمر بالشراء على ضوء تجربة شركة بيت المال الفلسطيني العربي (كتاب)
صلاة الغائب دراسة فقهية مقارنة (كتاب)
يسألونك الجزء الثالث (كتاب)
يسألونك الجزء الرابع (كتاب)
يسألونك الجزء الخامس (كتاب)
المفصل في أحكام الأضحية (كتاب)
شرح الورقات في أصول الفقه لجلال الدين المحلي (دراسة وتعليق وتحقيق)
فهارس مخطوطات مؤسسة إحياء التراث الإسلامي 12 جزءاً بالاشتراك (صدر الأول منها)
الفتاوى الشرعية (1) بالاشتراك (هيئة الرقابة الشرعية لشركة بيت المال الفلسطيني العربي)
الفتاوى الشرعية (2) بالاشتراك (هيئة الرقابة الشرعية لشركة بيت المال الفلسطيني العربي)
الشيخ العلامة مرعي الكرمي وكتابه دليل الطالب (بحث)
الزواج المبكر (بحث)
الإجهاض (بحث)
مسائل مهمات في فقه الصوم والتراويح والقراءة على الأموات (كتاب)
مختصر كتاب جلباب المرأة المسلمة للعلامة المحدث الألباني (كتاب)
إتباع لا ابتداع (كتاب)
بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود للغزي التمرتاشي (دراسة وتعليق وتحقيق)
يسألونك الجزء السادس (كتاب)
رسالة إنقاذ الهالكين للعلامة محمد البركوي (دراسة وتعليق وتحقيق)
الخصال المكفرة للذنوب (يتضمن تحقيق مخطوط للخطيب الشربيني) (كتاب)
أحاديث الطائفة الظاهرة وتحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين (كتاب)
التنجيم (بحث بالاشتراك)
الحسابات الفلكية (بحث بالاشتراك)
يسألونك الجزء السابع (كتاب)
المفصل في أحكام العقيقة (كتاب)
يسألونك الجزء الثامن (كتاب)
يسألونك الجزء التاسع (كتاب)
فهرس المخطوطات المصورة الجزء الثاني (الفقه الشافعي) بالاشتراك (كتاب)
فقه التاجر المسلم وآدابه (هذا الكتاب)
موقع الأستاذ الدكتور حسام الدين على شبكة الانترنت: www.yasaloonak.net(/102)
وعنوان البريد الإلكتروني : yasaloonak.net.fatawa@(/103)
فكاك الأسرى
د. مسلم محمد جودت اليوسف
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلا وَ أَنْتُمْ مسلمون ) [ آل عمران : 102 ] .
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) [ النساء : 1 ] .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيْداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) [ الأحزاب : 70 – 71 ] .
أما بعد :
إن أي واقعة تقع على المسلمين من نصر أو هزيمة أو فتن … إنما تصنعها أسباب وضعها الله سبحانه و تعالى ، فمن توكل على الله حق التوكل وأخذ بأسباب النصر نصر بفضل الله وعصم من الفتن والخذلان .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) ( سورة محمد: الآية 7) .
ومن عصى الله وترك أسباب النصر باء بالهزيمة والخذلان جزاء بما قدمته يداه ، وهذه سنة الله في خلقه .
قال تعالى : ( سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) ( سورة الفتح:23 )
وسواء تحقق النصر أو لم يتحقق ، فإنه قد يقع بعض المسلمين أسرى بأيدي أعداء الله تعالى .
والأسير: هو الذي يقع في يد العدو من أهل البلاد الإسلامية أو من بذمتهم بحرب أو بغيرها .
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية الذي لم يقتصر على فك أسرى المسلمين بل طالب بفك أسرى أهل الذمة من اليهود والنصارى ، حيث قال : وقد عرفت النصارى كلهم أني لما خاطبت التتار في إطلاق الأسرى و أطلقهم ( غازان ) … فسمح بإطلاق المسلمين – قال لي : لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس ، فهؤلاء لا يطلقون ! فقلت له بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذي هم أهل ذمتنا ، فإنا نفتكهم ، ولا ندع أسيراً ، ولا من أهل الملة و لا من أهل الذمة ! وأطلقنا من النصارى ما شاء الله )
رحم الله تلك الأيام التي كنا نستطيع فيها فك أسرانا وأسرى أهل ذمتنا ، أما الآن فقد انقلبت الموازين ووقعنا كلنا في الأسر والعبودية ، فكيف بغريق يستطيع أن ينقذ غريقاً .
وهذا ما عبر عنه القرطبي ، من إهمال المسلمين في عصره من تخليص الأسرى من أيدي الكفار بسبب الصراع القائم بين أهل القبلة أنفسهم وكان حالهم كحالنا اليوم مع الفارق طبعاً.
قال عليه رحمة الله : ( تظاهر بعضنا على بعض ! ليت بالمسلمين ! بل بالكافرين ! حتى تركنا إخواننا أذلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين )
وكان الواجب على المسلمين في كل العصور والأحوال استنقاذ الأسرى من الكفار ومن يدور بفلكهم بالقتال أو ما يقوم مقامه ويؤدي غايته ، وإلا وقع جميع أهل القبلة تحت غضب الله وسخطه لتقاعسهم عن هذا الأمر الجليل .
قال ابن الجزي : ( يجب استنقاذهم من يد الكفار بالقتال فإن عجز المسلمون وجب عليهم الفداء بالمال ، فيجب على الغني فداء نفسه ، وعلى الإمام فداء الفقراء من بيت المال فما نقص تعين في جميع أموال المسلمين ولو أتى عليها ). ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:286)
الدكتور مسلم محمد جودت اليوسف
مدير معهد المعارف لتخريج الدعاة في الفلبين سابقا
و الباحث في الدراسات الفقهية القانونية(/1)
فكر الاستعمار وأزمنة الانكسار!!
بقلم: عبد الرحمن عبد الوهاب
fiqhofglory@yahoo.com
مما لا شك فيه ,, ان الفكر .. من الاليات المهمة والكبرى للنهوض بالامم
. It is the power of thought that gives nations power to over come Anderson, Hans Christian
انه القوة .. ذلك هوالفكر الذي يعطي الامم القوة ..للانتصار
وفي حالات اخرى يكون الوضع مغايرا .. حيث تنتكس الامم بالفكر .. الغير المسئول .. الفكر الخائن و العميل.. من خلال الذين يحاربون .. امتهم بالوكالة ..
كما للفكر القدرة على الانتشار .. انتشار النار في الهشيم .. كما قال ابن رشد .. ان للفكر أجنحة لا تعقوها الحدود .. والاسوار ..
كما يعتبرالبعض أن ثمة انواعا من الفكر تكون كالافيون .. يمكن له أن يسممنا ..أما اذا استيقظ الفكرفمن الممكن ان ترى من خلاله شواهق الجبال وكل شيء كائن في الوجود. الفكر النهضوي.ممكن ان تنتصر به الامم وتقاد الجيوش.. ولما كانت أسس الفكر السليم يتم استقاءها من العقيدة ..
قال الشابي ..
ومن لم يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر ..
وإذا الشعب يوما اراد الحياة فلابد ان يستجيب القدر
.. وقالوا أنت تعيش بأفكارك .. فيجب أن تعرف على أي اسس من الافكار تعيش.. ان افكارك هي ما أوصلتك الى حالك اليوم .. وهي ما ستوصلك الى أي من المحطات غدا ..
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (11) سورة الرعد..
الفكر .. مهم .. لقد كانت الامة الاسلامية يوما مليء السمع والصر .. كانت اليات النصر .. ومفاهيم الصمود .. من ذلك الكتاب الرائع في الوجود القرآن الكريم .... كانت فئة قليلة .. من البشر .. وثقوا بالله واستمدوا منه العون .. فأعطاهم الله مجد الدنيا ومجد الاخرة .. العقيدة .. هي التي تعطي ذلك الفكر المتوهج .. فالعلم قبسة من نور الله ..
قيمة الفكر السليم أن ينفي عن كتاب الله تحريف الغالين, وانتحال المبطلين, وتأويل الجاهلين الا اننا اليوم .. نواجه بفكر .. غير مسئول امام الله والتاريخ .. ما يمكن ان نطلق عليه .. الفكر العميل ..
فما الذي يجعل كاتبا .. يصدر كتابا اسمه التحليل النفسي للانبياء .. وكأن الأنبياء ,, الذروة من البشر .. ينسحب عليهم الحبر والنقد ونظريات فرويد .. أي صفاقة تلك وأي قحة وسوء أدب .. انها كانت محاولات تنزيلا لمقام الانبياء من منزلة الاصطفاء ..
كيف وانهم الفئة المصفاة من البشر .. {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (33) {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (34) سورة آل عمران..
أن هؤلاء يريدون أن ينزعو القدسية والهيبة عن الانبياء .. فيسحبون عليهم ما على غيرهم .. من نظريات ..
كما قال شيخ الازهر ..عن المصطفى انه ميت لا يسطيع الدفاع عن نفسه .. وكأنه ينسحب على محمد صلى الله عليه وسلم ما على غيره من الاموات الصالح منهم والطالح .. النبي المرسل .. وغيره من عوام الناس ..
كانت تلك هي اليات الفكر العميل تدور في نفس السياق ..
بل ان سوء الادب .. طال الله سبحانه وتعالى .. .تقول . فيفيان صليوا .. المغترب العربي
يحركني الله كأنني لعبته/ أكبر غلطة أرتكبتها يا إلهي إنك خلقتني/أعظم مخلوق على الأرض هو الماء/
*لا تقف على رأسي أيها الله إنك أمرضتني/*العالم ليس عالمي بل عالم نفسه/ *أنتظرت السماء أن تنزل
لكنهاأعطت لي ظهرها..
أهلا أهلا .. ايها السادة .. بالفكر والعهر العربي المعاصر ..
سبحانك وتعاليت يا الله تسبيحا وتمجيدا .. أبد الابدين ودهر الداهرين ,, تسبيحا وتمجيدا لا يفنى أبدا ولا يحصى له عددا ..
ولن أعلق على تلك القصيدة .. ففيها من الكفر والعهر .. ما يكفيها ..
تساءلت لماذا كان الاحتفاء .. بمحمد أركون الكاتب الجزائري( المتسربن ).. نسبة الى السربون ... في برنامج مسارات بقناة الجزيرة ..
هل لأنه كان أحد المحاربين القدامى ضد الاسلام من كتاب الاستعمار بالامس .. ليقول لنظراؤه-- من كتاب المارينز اليوم .. الذين وقفوا ضمن خطوط العرض الفكرية للاستعمار الامريكي ..والخطوط الامامية مع أميركا ضد الامة .. -- (نحن هنا وما زلنا على الساحة)..
لقد قدمه البرنامج على انه رجلا طويل القامة .. متعدد الثقافات واللغات .. وعلى انه مفكر اسلامي ..
ولكني .. فوجئت أثناء الحوار .. بالضيف محمد اركون .. يوجه الى الاسلام.. أو القرآن قذيفة من العيار الثقيل ..
وكأنه اعتبر الاستضافة له فرصة ..فكيف يمررها بدون .. أن يسدد طعنة الى الاسلام ..(/1)
فلما كان الحوار يتعلق بالحضارات .. ذكر في طياته القصص القرآني .. قال .. أركون .. ان القصص القراني .. هو ترجمة ..للمصطلح الغربي .. le mythe .. وجاراه مقدم الحلقة .. على انها ..تطابق المصطلح /Le mythe.. أي اسطورة .. واذا رجعنا الى تعريف الاسطورة .. فهي .. نتاج تراكمات الفكر البشري .. كما هو الحال .. لأساطير اليونان .. أو اساطير الهند ..الذي لعب الخيال الانساني دورة .. وشتان ما بين الحق المحض ..المنزل من السماء.. ونسج خيال الانسان ..
ولقد أقر القاموس الغربي والشرقي .. ان الأساطير .. هي من نسج الخيال واللاوقعية ..
يقول برنارد ديول Bernard Doyle في تعريفه للاسطورة ..حيث يعرفها انها اتت من المصطلح الاغريقي
Mythos.. أي الحكاية او الحوار في الأصل الى ان تحور معناها .. الى معنى الحكاية الخيالية ..
فكيف بنا أن نسحب التصور الغربي .. للاسطورة .. على القصص القرآني ..
لقد فات أركون .. نقطة في غاية الأهمية ..أن حكمة الله العليا .. أرادت ان تقطع السنة المشعوذين الفكريين المتغربين والتي .على شاكلته.. من العبث الفكري .. فقال تعالى ..لما تناول .. {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} (62) سورة آل عمران
فكلمة( الحق) هنا في الاية أعلاه .. قد لا يراها .. اركون ولا غيره .. ممن أعماهم الباطل .. وعملوا له .. نعم .. اننا حينما نتعاطى مع القرآن كمسلمين .. فاننا ندرك .. انه الحق .. المحض .. وليس اسطورة .. أو كما قال أدعياء الباطل بالامس ,, {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (24) سورة النحل.... ولكن الجريمة تتم اليوم بلسان فرنسي .. وهذه هي روعة القرآن ومجد القرآن .. انه بآية واحدة بل بكلمة واحدة ,,. يقطع ألسنة المتخرصين والبطلين ..
وبكلمة (الحق) هنا .. تقطع لسان اركون[ اليوم ] وصناديد الكفرمن قريش[ بالامس] .. لا مناص .. وكأن القرآن كان مستعدا منذ 1425 سنة .. لمواجهة هذه النمطية من المفكرين .. بالحق .. فلقد قال تعالى .. {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (105) سورة الإسراء.. نعم هي تلك الروعة للقرآن .. انه كلمة الحق الباقية .. ولكل سؤال جواب .. ولكل جريمة فكرية دحض .. ولكل افتراء حجة ودليل قاطع ..
وكان للاستاذ .. الحاج دواق بن حمنه آل بوعافية.. تحليلا .. لرؤية اركون ..
وهي لا تختلف عما سقناه .[. إن الإستراتيجية الأيديولوجية لمحمد أركون، تتأسس على هدر الطابع الإلهي للقرآن والتأكيد على بشريته، تمهيدا لنكرانه والإلحاد فيه، زيادة إلى التزهيد في المقدرة المعرفية للقرآن في توليد الوعي وصناعة الفكر وبناء العقل، ثم العمل على ربط الوحدات النصية، هكذا يسميها، الآيات القرآنية بلازمات زمانية وربما ظرفية مكانية، في مضمونها وملفوظها، وهذا أيضا لإسقاط الطابع المتجاوز للأحكام، كمدخل لرفض الشريعة، وتعويضها بالاجتهاد الوضعي.]
ولم تختلف الرؤية .. عن تساؤلات الاستاذ يحي أبو زكريا .. تجاه أركون ..
[محمد أركون المفكّر الجزائري أثارت أفكاره في المغرب العربي كما في مشرقه جدلا واسعا , وقد إحتار كثيرون في أيّة خانة يصنفّونه أهو مع الفكر الإسلامي أم ضدّه ! أيدعو إلى تفعيل الفكر الإسلامي أم إلى نسفه من أساسه ! أهو عربي وإسلامي الهويّة أم لا يختلف عن المستشرقين الذين تعاملوا مع الفكر الإسلامي من منطلق الإنقضاض عليه ! وفي تعامله مع الموروث الإسلامي أيسقط عليه أدوات علميّة متعارفا عليها أم أدوات سربونيّة من وحي المناهج الغربيّة وآخر ما تفتّق عنه العقل الغربي في التعامل مع التاريخ ! وفي خضمّ وجوده في باريس وإقامته في عاصمة الجنّ والملائكة وإشرافه على قسم الدراسات الفلسفيّة في جامعة السوربون كان ولاؤه للعالم العربي والإسلامي أم للغرب !..]
الغريب .. في أمر أركون .. انه اليوم .. ينادي باحداث ثورة على الساحة الاسلامية .. وتتبناه جهات غربية ..
كما جاء في جريدة المغاربية عناوينا .. ملأت الجرائد والساحة المغاربية بهذه الثورة .. أهي ثورة ضد الاسلام باسم الاسلام..
وكان منها هذه العناوين [محمد أركون: إحياء التنوير العربي ضروري للخروج من محنة الحاضر]
وعنوانا آخر المفكر المغاربي محمد أركون، رمز التنوير في الفكر الإسلامي يدعو إلى إحداث ثورة عربية مشابهة لثورة عصر التنوير الأوربية من أجل الخروج من المأزق العربي المزمن]
هل كان الغرض منها بريئا .. ام نسفا للاسلام كما قال يحي أبو زكريا .. ؟
ترى .. ما هو الغرض ..من استضافته .. وتوجيهه هذه الطعنة .. بأن القصص القرآني أساطير .. هل هو هدر الطابع الالهي للقرآن كما قال الاستاذ بو عافية ,., اعلاه ..(/2)
[لقد هدف محمد أركون إلى بناء "إسلاميات تطبيقية" و ذلك بمحاولة تطبيق المنهجيات العلمية على القرآن الكريم, و من ضمنها تلك التي طبقت على النصوص المسيحية, و هي التي أخضعت النص الديني لمحك النقد
التاريخي المقارن و التحليل الألسني التفكيكي و للتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى و توسعاته و تحولاته..]
قد يبد و الامر مثيرا للدهشة .. انه يتكلم هو اليوم باسم الفكر الاسلامي .. وقد قدمه التريكي مقدم البرنامج على انه مفكرا اسلاميا ..
ويهاجم أركون الحركات السياسية الإسلامية والحكومات التي تستخدم الإسلام (حسب رأيه )لأغراض سلطوية وتخلط بين النشاط الحركي الأيدولوجي والإبداع الفكري والفني والأدبي، ويساعدها في ذلك أن التراث الإسلامي لم يتعرض للنقد التاريخي كما حصل للتراث المسيحي. وما يجري -برأيه- في المجتمعات الموصوفة بالإسلامية في الدساتير الرسمية أو في الخطابات اليومية أو في كتب علماء السياسة يدل دلالة واضحة على غياب النزعة الإنسانية.. Hnumanism..
انه يحاول جاهدا .. ان يقوم بعمليات انتقادية . للتراث الإسلامي .بأن يجري على القرآن والمصطفى الحبر والنقد .. كما اراد صاحبنا ذو رؤية التحليل النفسي للأنبياء ... ويسحب على الاسلام ما حدث .. مع التراث النصراني .. ولا يعرف .. ان الاسلام فوق النقد ..والمصدر الاساسي للتشريع [القرآن ] فوق النقد ومحمد صلى الله عليه وسلم فوق النقد .,ان الاسلام هو قضية الحق في الكون .. وان القران هو الحق .. لا يأتية الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. ...وان محمدا هو رسول الحق .. انه يظن بخياله المريض ان سور الاسلام واطيء لهذه الدرجة بأن بقفز عليه كل من هب ودب .. ..ولما استعصى الامر عليه .. اخترع مصطلح .le mythe. الاساطير .. كي يتسني له .. ممارسة اللهو الخفي ..
قد تبدو الأمور أشد طرافه ,, ان أركون وبالرغم من خدماته الجليلة للفكر .. الغربي .. والطعن في الاسلام على طريقته الخاصة .. إلا انه .. وأثر مقاله له .. في اللوموند الفرنسية مقال حول سلمان رشدي ,, في 15 مارس 89
أثارت لغطا ورود فعل حامية الوطيس .. وضعته في خانة المتزمت .. واصبح خارج دائرة العلمانية والحداثة ..
يقول أركون(إن مقالة اللوموند كلفتني غالياً بعد نشرها. وانهالت عليّ أعنف الهجمات بسببها. ولم يفهمني الفرنسيون أبداً، أو قل الكثيرون منهم، ومن بينهم بعض زملائي المستعربين على الرغم من أنهم يعرفون جيداً كتاباتي ومواقفي. لقد أساءوا فهمي ونظروا إليّ شزراً... ونهضوا جميعاً ضد هذا المسلم الأصولي(!)
يقول أركون : ( على الرغم من أني أحد الباحثين المسلمين المعتنقين للمنهج العلمي والنقد الراديكالي للظاهرة الدينية، إلا أنهم – أي الفرنسيين - يستمرون في النظر إليّ وكأني مسلم تقليدي! فالمسلم في نظرهم –أي مسلم- شخص مرفوض ومرمي في دائرة عقائده الغريبة ودينه الخالص وجهاده المقدس وقمعه للمرأة وجهله بحقوق الإنسان وقيم الديموقراطية ومعارضته الأزلية والجوهرية للعلمنة... هذا هو المسلم ولا يمكنه أن يكون إلا هكذا!! والمثقف الموصوف بالمسلم يشار إليه دائماً بضمير الغائب: فهو الأجنبي المزعج الذي لا يمكن تمثله أو هضمه في المجتمعات الأوروبية لأنه يستعصي على كل تحديث أو حداثة) . [لا حظ .. عبارته النقد الراديكالي للظاهرة الدينية ]
وكأن ينطبق عليه ما قاله أرنولد توينبي : لقد بذلنا جهدنا حتى يخجل المسلم من دينه فإذا وصلنا الى ما نبتغيه ولم يعد لديه ما يعطيه.. أحتقرناه )
{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (120) سورة البقرة
سبحانك يا الله .. حتى بالرغم من اتباع ملتهم .. هاهم لم يرضوا .. يقول مراد هوفمان في كتابه ( رحله إلى مكه ) : ( إن الغرب يتسامح مع كل المعتقدات والملل ، حتى مع عبدة الشيطان ، ولكنه لا يظهر أي تسامح مع المسلمين . فكل شيئ مسموح إلا أن تكون مسلمًا )..حتى بالرغم من ركوع أركون أمام أصنام الفكر الغربي .. فالغرب لا يرضى منه الا السجود ..
الهنا وحبيبنا ومولانا .. هاهو الامر كما قلت وقولك الحق .. وسبقت كلمة الله صدقا وعدلا ..
* * *
..فهل كان كل هذا حريا .. بأن يعدل أركون المسار .. أبدا .. ولكنه لا فما زال .. يقوم بالدور المناط به على أكمل وجه
وقفت مليا .. أمام الكلمات التالية .. وهي مترجمة بثلاث لغات على موقع المغاربية ..(/3)
[هاهو المفكر المغاربي الجزائري الأصل، يدعو إلى حوار بين الثقافات، على سعة أفق وشمولية وتنوُّر. يتمثَّل مشروعُه الفكري الرصين في إنتاج ثقافة الأسئلة، بمنأى عن كافة المسلَّمات الجاهزة، وصولاً إلى المسكوت عنه واللامفكَّر فيه في الثقافة العربية الإسلامية. ويحرص أركون على كشف المعوقات الذهنية والعراقيل التاريخية والاجتماعية التي تعوق التقدم وتعرقله. يقضُّه سؤال العقل الإسلامي، في شرطيه المعرفي والتاريخي، وكيفية تجاوز الواقع الراهن لدخول معمعان الحداثة..]لاحظ بمنأى عن المسلمات الجاهزة وصولا الى المسكوت عنه .. واللامفكر فيه .. فما ذا تريد يا ركون ؟..
. فقد قال الإمام محمد بن سيرين ـ رحمه الله ـ: [إنَّ هذا العلم دين؛ فانظروا عمَّن تأخذون دينكم] [شرح مسلم للنووي1/84..
يذكرني ..بحالة حدثت لأحد الجيران استنهضني للذهاب مع امه الى المستشفى بعدما تفاقمت الحالة المرضية لأمه .. فقد أتوا لها بماء زمزم .. وكانت تنهل منه .. صبحة وعشيا ..ولما ازدادت حالتها سوء.. ذهب بها الى المستوصف لإجراء فحوصات عاجلة ونقل دم .. فقال لهم الطبيب انه ليس بزمزم .وبعد تحليل الماء بالمختبر... بالفعل لم يكن ماء زمزم ذلك الذي كانت تنهل منه المسكينة صباح مساء .. وانما كان ماء .. ملوثا.. اشتراه جاري من احد التجار الغشاشين ..من أحد الاسواق الشعبية
فأقسم جاري والحزن والقهر يتملكه.. بألا يأتي بزمزم .. إلا من من الحرم على يده وبصره .. ومن نبع زمزم نفسه طالما وصل الخداع لهذه الدرجة .. كان زمزم دوما شفاء للناس .. فما أكثر رحمة الله بعباده .. وما أشقى الانسان بأخيه الانسان ..حينما يموت الضمير .. وهذا ينسحب على تجارة الفكر المغشوش .. ..فهاهوالاسلام يأتينا اليوم ملوثا من السربون . أ, اسلاما غير الذي جاء به محمد ...فيامرحبا بالاسلام المتسربن ..(.serbonized islam)..وهانحن اليوم .. نرى قوافل الحجيج تشد الرحال الى البيت الابيض بدلا من البيت العتيق ..وتشد الرحال .. الى السربون بدلا من مكة .. وبقية مساجد حواضر الاسلام .التي كانت تشع نورا وعلما بنور القرآن بالامس..
فياضيعة الاسلام .. ومن ذا يعيد قوافل الحجيج !!.؟؟.
According to Dictionary.com, mythology means: "A body or collection of myths belonging to a people and addressing their origin, history, deities, ancestors, and heroes." and another definition ; "A body of myths; esp., the collective myths which describe the gods of a heathen people; as, the mythology of the Greeks."
-اعترافات محمد أركون ! سليمان بن صالح الخراشي
Deutsche Welle راديو المانيا دوتش فيلي حوار مع محمد أركون
الاستراتيجية الأيديولوجية لمنهج محمد أركون المعرفي... بقلم: الحاج دواق بن حمنه آل بوعافية
الإسلام والأنسنة.. معارك من أجل الأنسنة في السياق الإسلامي.. عرض ابراهيم غرايبة .. المعرفة موقع الجزيرة نت ..
تحليل فكر محمد اركون .. يحي ابو زكريا ..(/4)
فكر في زواج مبكر الجيلي حامد*
وضعت الظروف الاقتصادية، والتعقيدات الاجتماعية، والعادات الوافدة، والمتوارثة الفتاة العربية على وجه العموم، والسودانية على وجه الخصوص في ظروف محزنة؛ فهي كلما ودعت عاما ضعفت نسبتها في الدخول إلى القفص الذهبي؛ وبالتالي تزداد من الهموم والاحزان؛ مما ينعكس سلباً على الصحة (عنوان الجمال)..
والملاحظ بوضوح زيادة نسبة المواليد من الإناث، وطغيان الجنس اللطيف على الذكور في كافة الأصعدة.. باستثناء القليل منها.. والبنات قد سجلن اعترافا بذلك في المزاد العلني (أغاني البنات)!!.. بناءًا علي القاعدة الاقتصادية (كلما زاد العرض قل الثمن)؛ فقبل عشرات السنين كان النداء (المابجيب الألف الرجوع بالخلف).. (والمابجيب العالي الرجوع طوالي)، و(الشيلة بالهينو، وثلاث قدور صندلية)، ثم جاءت مرحلة ما بعد التعالي؛ يعني النِدِّيَّة؛ فكان النداء هو (القروش ما أهمية!؛ المهمة الشخصية)، ثم وصلنا أخيراً؛ وليس آخراً - على غرار الجايات أكثر من الرايحات - إلى مرحلة التنازلات الأكبر من نوعها؛ فكان النداء: (تعال بقميصك بيت أبوي بيعيشك)، و(وتعال بالعندك أبوي بيسندك)!!.. جرسة غير عادية؛ لا أذكرها احتراماً لرابحة الكنانية، والأخريات؛ من جيل البطلات!!.
تعاطفاً مع ما سبق أوجه رسالة للجميع - ونحن في الألفية الثالثة؛ ذات الأسنان الستة -؛ فأقول: كفوا عن الصرف بإسراف على مثل مناسبات الزواج؛ ولا تضعوا من الشروط ما يضيع مستقبل بناتكم؛ فينطبق عليكم المثل الدائر (واقفين تحننوا.. قاعدين تجننوا)؛ والبنت تبقي هي الضحية للبوبار، والعنجهية؛ منحصرة بين أربع حيطان؛ تحدث نفسها مع إشراقة كل يوم، ومرور كل عام؛ ومعها المرآة؛ صديقتها؛ التي لا تعرف المجاملة؛ فكلما حدقت النظر إلى وجهها في المرآة عاد النظر مليئاً بالدموع الجارفة؛ التي تذهب بخداع المكياج؛ إمعاناً في توضيح الحقيقة؛ والسبب كله الوالدة.. والوالدة رفعت التسعيرة!.
عندكم مثل معلق بإيقاف التنفيذ؛ وما أكثر المعلقات والمعلقات.. المثل القائل (اخطب لبنتك ولا تخطب لولدك)؛ فهل فعلها أحدهم يوماً؛ وداس على كرامته؛ إكراماً لكريمته.. إلا أحداثا قليلة؛ وقعت في جنح الظلام، وبهمس السرية التام؛ وكأن الأمر عيب!!.. لا والله!؛ إن له في الدين خير مثال؛ فقد وقع من أقوى الرجال رجولة وإيمانا وهو سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حينما خطب لابنته حفصة رضي الله تعالى عنها.. افعلها يا ولي الأمر، أو علي الأقل لا تفرط في العريس - إذا دق بابك - بمبررات واهية.. يقول الحبيب المصطفي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض).
الأخوات الفضليات! إن الإنسان نبتة تمر بفصول العمر قصرا دون اختيار!! وتمر عليها أطوار النمو؛ فضعن ذلك في الحسبان؛ ولا تأخرن الزواج من أجل الشهادات.. ولك عبرة في تلك التي بلغت درجة الدكتوراة ولكنها حينما نظرت إلى نفسها وجدتها في الطور الأخير من أطوار النبات؛ فقالت وهي ترثي العمر المحنط: خذوا كل شهاداتي وأسمعنني كلمة ماما.. والجواب: (هيهات؛ والتسوي بإيدك يغلب أجاويدك).
إن الكلام في هذا الموضوع تصعب لملمته؛ لاتساعه، وتشعبه؛ فأرجو أن تقوم لجان متخصصة من علماء الدين، والمسؤولين، والتربويين، وكذلك تتاح فرصة لأصحاب الشأن (البنات)؛ ليقولوا ويقلن الكلمة الفصل في هذا الموضوع..
اختم؛ وأقولك إن البركة في قلة المؤونة، والزواج المبكر؛ استغلالا للعمر أطول ما يكمن في طاعة الله.. والله معك.. والله يجعل هذا العام عاماً للزواج.(/1)
فكر محمد أسد كما لا يعرفه الكثيرون (4)
تأويل الجن والجزاء الأخروي عند محمد أسد
د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
فى الفصل الذى عنوانه "Dajjal: الدجال" من كتابه المشهور "The Road to Mecca" يحكى لنا محمد أسد تأويله، فى بدايات تحوله إلى الإسلام وفى حضور ابن بليهد العالم السعودى المعروف فى عهد الملك عبد العزيز آل سعود، لنبوءة المسيخ الدجال على أساس أن المقصود هو التحذير من الحضارة الغربية: فهى حضارة عوراء تهتم بالجسد فحَسْب ولا تلقى بالا إلى الروح أو الإيمان بالله (مثلما أن الدجال أعور)، وهى قد بلغت من التقدم العلمى والسيطرة على الطبيعة وتوفير مستوًى عالٍ من الرفاهية بحيث فُتِن بها كثير من الناس وعظّموها لدرجة التأليه (وهو ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه سيكون للدجال فى ظاهر الأمر مثل هذه القدرة التى تغريه بدعوة الناس إلى عبادته فيستجيب له ضعفاء الإيمان). ويروى أسد أيضا أن الشيخ ابن بليهد قد أعجب بهذا التأويل، بل تحمس له رغم أنه، كما قال، لم يخطر له من قبل على بال[1].
وفى ترجمته لـ"صحيح البخارى"، التى ظهرت لأول مرة فى كتابٍ سنة 1938م يؤوّل أسد قول الرسول عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن سلام إن أول أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، بأنه وصف رمزى للجوائح الاجتماعية التى سوف تأتى على قواعد الثقافات المشرقية وتدفع المشارقة دفعا إلى التقليد الأعمى للغرب على أساس أن النار ستلتهم ما تبقَّى من حيوية الثقافة الخاصة بشعوب المشرق، ومن ثم لا يعود هناك اتصال بين ماضيهم وحاضرهم[2]. وهو تأويل فى النفس منه أشياء: فابن سلام قد سأل النبى سؤاله هذا على سبيل الاختبار كى يعرف أهو رسول حقيقى أم لا. ومعنى ذلك أن النبى أجاب ابن سلام وِفَاقَ ما فى نفسه، فهل كان ابن سلام يعرف أن المشرقيين فى عصرنا الحديث سوف يتَخَلَّوْن عن ثقافتهم ويقلدون الغرب تقليدا أعمى؟ ثم إن الصلة لم تنقطع بين حاضر المشرقيين وثقافتهم القديمة، اللهم إلا فى بعض القطاعات الضيقة، بل إن الإسلام قد شرع ينتشر فى الغرب نفسه. كذلك فكلام أسد لا يعنى إلا أنه لا أمل للمسلمين فى الانتصار على الغرب ما دام هذا الوضع هو علامة من علامات الساعة، أى أنه لن يكون هناك وقت لتغييره، وهو ما يدفع إلى اليأس والرضا بالعبودية للغرب. وهذا كله غريب!
والواقع أن التأويل يمثل قَسَمَة بارزة، إن لم تكن أبرز القسمات، فى فكر محمد أسد الإسلامى كما يتبدى فى ترجمته التفسيرية للقرآن الكريم. ونبدأ بتأويله لإبليس والشياطين، ويتضح من الهامش رقم 10 و16 من هوامش ترجمته لسورة "الأعراف" مثلا أن قصة آدم وعصيان إبليس للأمر الإلهى بالسجود له هى عنده قصه رمزية للتطورات الروحية والأخلاقية التى طرأت على حياة الجنس البشرى فوق هذه البسيطة، وليست قصة حقيقية حدثت قبلا لآدم فى الجنة[3]. وإبليس، عنده أيضا، "ملاك ساقط"، وتمرده تمرد رمزى، وهو بإغوائه البشر إنما يمثل مهمة كونية محددة هى حَفْزهم على ممارسة ما وهبهم الله من إرادة أخلاقية حرة، أى القدرة على الفعل والترك فى مجال الأخلاق[4]. كما يفسر الشياطين بأنها تعبيرٌ استعارىّ عن الرغبات البشرية الشريرة المضادة لمصالح البشر الروحية[5]. وبالمثل يؤول "القُرَناء" فى قوله عز وجل: "وقَيَّضْنا لهم قُرَناء فزيَّنوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم" والآيات التى تشبهه بالنزغات الشريرة التى لا تنفك ملازمة للمجرمين[6].
فأما أن إبليس "ملاك ساقط" فهو يخالف ما جاء فى القرآن الكريم من أنه من الجن: "إلا إبليس، كان من الجن ففسق عن أمر ربه"[7]. ومما يؤكد هذا قول إبليس نفسه فى حواره مع رب العزة إنه خير من آدم لأن آدم مخلوق من طين، أما هو فمن نار[8]، ومعروف أن الجِنّة مخلوقون من النار[9]، فكيف يُقْدِم مسلمٌ بعد ذلك على القول بأن إبليس كان ملاكا عصى الله فهبط من عليائه؟ إن هذا أحد التأثيرات الكتابية لأن أهل الكتاب هم الذين يقولون ذلك، أما المسلمون فيقرأون فى القرآن المجيد قوله جل شأنه فى وصف الملائكة: "يخافون ربهم مِنْ فوقهم، ويفعلون ما يؤمرون"[10]، فكيف يقال إن مَلَكًا من الملائكة قد جرؤ على عصيان الله، وقد فطرهم الله جميعا على الطاعة المطلقة بحيث لا يُتَصَوَّر وقوع العصيان منهم مجرد تصور؟(/1)
أما الاحتجاج بأن إبليس قد استُثْنِىَ من الملائكة فى قوله سبحانه: "وإذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس أبَى واستكبر وكان من الكافرين"[11] وغيره من الآيات التى تتناول نفس الموضوع[12]، فليس باحتجاج سليم، إذ الاستثناء لا يعنى بالضرورة أن المستثنى داخل فى المستثنى منه، وإلا فأين يذهب "الاستثناء المنقطع" فى مثل قولنا: "قام الطلاب إلا حمارا" كما تقول بعض كتب النحو للتدليل على أن المستثنى قد يكون من جنسٍٍ أو نوعٍ أو طائفةٍ أو جماعةٍ غير جماعة المستثنى منه؟ ومن شواهده فى القرآن العظيم قوله عز من قائل يخاطب رسوله محمدا عليه السلام: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى* إلا تذكرةً لمن يخشى"[13]، وقوله سبحانه على لسان إبراهيم عن الأصنام التى كان يعبدها قومه: "فإنهم عدوٌّ لى إلا رب العالمين"[14]، "وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه: إننى بَرَاءٌ مما تعبدون* إلا الذى فطرنى، فإنه سيهدين"[15]، وقوله عزت قدرته: "بل الذين كفروا يكذّبون* والله أعلم بما يُوعُون* فبشِّرْهم بعذاب أليم* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون"[16]، وغير ذلك كثير. فتذكرةُ من يخشى ليست داخلة فى الشقاء، والله سبحانه ليس من الأصنام وليست هى منه فى شىء، والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا ينتمون إلى الكافرين من قريب أو بعيد، وذلك من الوضوح بمكان مكين.
وعلى أية حال فمن غير المفهوم أن يقول أسد عن إبليس إنه "ملاك ساقط" ما دام يرى أنه هو والشياطين لا يَعْدُون أن يكونوا هم الرغبات البشرية، وأن تمردهم إنما هو مسألة رمزية، أى أن الأمر كله عراك فى غير معترك أو كما تقول الكناية الشهيرة: "زوبعة فى فنجان". ومع ذلك كله فإنى أفضل ألا يمضى الواحد منا فى مثل هذه التأويلات لأنه سيجد نفسه وقد سقط فى شبكة من التناقضات يستحيل عليه أن يخلّص نفسه منها كما شاهدنا قبلا ما حدث لكاتبنا. وإن الاعتقاد فى وجود إبليس والشياطين لأقوى فى وَزْع الإنسان عن عمل الشر من القول بأن الأمر ليس إلا رغبات نفسية تريد الإشباع. ولست مع ذلك أشدد النكير على من يريحهم التأويل رغم كثرة الآيات والأحاديث التى تتحدث عن الشيطان بوصفه كائنا ذا شخصية، إذ حددت المادة التى خُلِق منها، وروت لنا ما جرى فى أول الخليقة بينه وبين المولى سبحانه بوقائعه ومشاهده وحواراته، وحذرت آدم وذريته من وساوسه وأكاذيبه وأحقاده، وتوعدت من يُصِيخ إليه بالخسران المبين وأهوال الجحيم.
ولقد غَبَرَ علىَّ فى شبابى زمن كنت أميل فيه إلى القول بمثل ما قال محمد أسد، لكننى كلما تعمقت فى الأمر وجدت أن من الأسلم الإيمان بوجود الشيطان ووسوسته. ومع هذا فلكلِّ وجهةٌ هو مولِّيها، والعقول ووجهات النظر والأمزجة تختلف من إنسان لإنسان، ولكنى لا أستطيع إلا أن أستعجب ممن يقولون بوجود "اللاوعى" مثلا (الشخصى منه والجمعى) وينكرون وجود الشيطان! أَوَعندهم دليل على وجود مثل هذا اللاوعى؟ إنما هو كلام بعض علماء النفس، وكلامهم مجرد تخمينات وافتراضات، أما الشيطان فمعرفتنا به راجعة إلى ما جاء فى القرآن الكريم وأحاديث الرسول، وأين هذا من ذاك؟ وأيا ما يكن الأمر فإن الإيمان بوجود الشيطان لا يناقض القول بوجود الغرائز البشرية: فالرغبات موجودة، والشيطان ينفخ فيها ويؤججها ويغرى بالارتماء فى نارها. وإن شعور الإنسان فى مثل هذا الموقف بأنه فى صراع مع شىء متميز عنه لمما يؤكد وجود الشيطان.
وبمثل هذه العين ننظر فيما قاله كاتبنا عن أمر الله لملائكته بالسجود لآدم، إذ معناه عنده أن البشر متفوقون عليهم بالتفكير التصورى والقدرة من ثَمَّ على التمييز بين الصواب والخطإ[17]. إننا لا نشاحّ فى شىء من هذا، لكننا لا نجد فيه ما يمنع من الإيمان بوجود الملائكة والشياطين ورضا الأولين بالسجود لآدم، واستكبار إبليس عن ذلك. ترى لماذا لا يسير الأمران جنبا إلى جنب؟ هل فى طبيعتهما ما يمنع من هذا؟ ونفس الشىء نقول فى أجنحة الملائكة المذكورة فى الآية الأولى من سورة "فاطر"، فأسد يراها رمزا يدل على السرعة والقوة التى يتنزل بها الوحى على الأنبياء[18]. إننا لا نرى فيما يقوله أسد هنا عن سرعة الوحى وقوته ما يبعث على الاعتراض عليه، ولكننا أيضا لا نرى فيما جاء به القرآن عن أجنحة الملائكة ما يوجب التأويل. المهم ألا نشبهها بأجنحة الطيور، فالطيور جنس من المخلوقات، والملائكة جنس آخر مختلف تماما.(/2)
ثم إن هذه النزعة التأويلية المسرفة من كاتبنا لَتُوقِعه أحيانا فيما لا يقبله العقل. لنأخذ مثلا تفسيره لـ "الجِنّة" فى قوله سبحانه عن المشركين: "وجعلوا بينه (أى بين الله) وبين الجِنَّة نسبا" بأنهم "قوى الطبيعة، إذ إن هذه القوانين لا تظهر للعين ولا تدركها الحواس، فهى تنتمى إذن لعالم الخفاء، و"الجِنَّة" هى كل كائن خفى[19]. يقصد أن مادة "ج ن ن" تعنى الخفاء. ووجه المناقضة للمنطق فى هذا التفسير أن القرآن يشير فى الآية المباركة إلى ما كان العرب يعتقدونه، والعرب (كما هو معلوم) لم يكونوا يعرفون شيئا أى شىء عن قوانين الطبيعة التى يفسر بها أسد كلمة "الجنة". أى أنه ينسب إلى العرب ما لا يمكن نسبته إليهم. إنه، بهذه الطريقة، يدعى على التاريخ ما ليس منه، وهذا هو وجه الخطورة. ثم إن الجن فى القرآن جنس محدد بمعالمه فلا يمكن من ثَمَّ أن يفسَّر بـ "القوانين الطبيعية". كذلك فالآية تنسب إلى الجن "العِلْم"، ولا يمكن أن توصف القوانين الطبيعية بالعلم، إذ ماذا تعلم؟ أو كيف تعلم؟ كما أن الآية تقول عن "الجِنَّة" إنهم لَمُحْضَرون للحساب يوم القيامة، فهل يمكن القول عن قوانين الطبيعة إنها ستُحْضَر يوم القيامة؟ فهذا وغيره هو الذى جعلنى أرجع عما كنت أعتقده فى شبابى الأول من أن الملائكة هى عوامل البناء فى الكون، أما الشياطين فهى عوامل الهدم والتفتيت، بالمعنى الواسع لكلمتى "البناء والهدم"[20]. ويزداد تناقض ما يقوله أسد مع منطق العقل بروزا عندما نراه يقيس ما كانت العرب فى الجاهلية تعتقده من وجود نسب بين الله سبحانه والجن على مفهوم: " l' élan vital: الدفعة الحيوية" فى فكر برجسون الفيلسوف الفرنسى، هذا المفهوم الذى يقوم على إضفاء صفات الألوهية على عناصر الطبيعة[21]، إذ أين اعتقاد العرب فى الجن من الدفعة الحيوية البرجسونية؟
وعلى نفس الوتيرة من الإسراف فى التأويل ومناقضته لمنطق العقل يسير محمد أسد فى تفسير "التسعة عشر" ملَكًا الذين جعلهم الله على "سَقَر" فى الدار الآخرة حسبما جاء فى الآيات 26-31 من سورة "المدَّثِّر": "سأُصْلِيه سَقَر* وما أدراك ما سقر؟* لا تُبْقِى ولا تَذَر* لوّاحةٌ للبشر* عليها تسعةَ عشَر* وما جَعَلْنا أصحابَ النار إلا ملائكة، وما جعلنا عِدّتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين فى قلوبهم مرض والكافرون: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ كذلك يُضِلّ الله من يشاء ويهدى من يشاء، وما يعلم جنودَ ربك إلا هو، وما هى إلا ذِكْرَى للبشر"، فماذا يقول محمد أسد هنا؟ إن "التسعة عشر" عنده هى قوى الإدراك وحواسه والوظائف العضوية للجسم البشرى، ومن ثم جاءت ترجمته لها على النحو التالى: "عليها تسعة عشر قوة"، ثم علق قائلا إن هذه القوى "التسعة عشر" قوًى ملائكية لأن الإنسان يميز بها بين الخير والشر[22].
ويؤسفنى أن يجنح كاتبنا إلى هذه المغالطات الواهية ويُقْدِم على العبث بنص القرآن الكريم على ذلك النحو مضيفا كلمة "قوة" لتمييز العدد "تسعة عشر" رغم خلو النص القرآنى منها، ورغم أن الآية التالية تقول إن هؤلاء التسعة عشر هم تسعة عشر مَلَكًا يُسَمَّوْن: "أصحاب النار"، ورغم أن الموضع الذى اجْتُلِبَتْ له كلمة "قوة" وزُِرِعَتْ فيه زرعا يرفضها رفضا قاطعا لأنها كلمة مؤنثة، ومن ثَمَّ تصلح أن تكون تمييزا لصيغة "تسع عشرة"، أما "تسعة عشر" فكلا ثم كلا ثم كلا. ومن تمحُّله هنا أيضا أنه، كى تتسق الآية المذكور فيها "أصحاب النار" مع الآية السابقة عليها، يقول إن هذه القوة قوة ملائكية، وهو تلاعب بالألفاظ خطر! ثم كيف تكون قوة الإدراك وحواسه والوظائف العضوية للجسم البشرى قائمة على سَقَر؟ وكيف تكون قوةً ملائكية، وهى كثيرا ما تُغْرِى بالشهوات وتسوق الإنسان إليها وإلى مغامستها سَوْقًا؟ لقد تحدث القرآن الكريم عن هؤلاء التسعة عشر فى عدة مواضع فسمّاهم فى سورتى "غافر" و"المُلْك": "خَزَنة جهنم"[23]، كما وصفهم فى سورة "التحريم" بأنهم "ملائكةٌ غِلاظٌ شِداد"[24]، وها هو ذا يدعوهم هنا: "أصحاب النار". ثم كيف تسمَّى هذه القُوَى: "أصحاب كذا"؟ فضلا عن أن "أصحاب" مفردها "صاحب" (مذكَّر)، ومن ثَمَّ لا يصلح استعمالها لـ"القوة" لأنها مؤنثة، ولو كانت هى المقصودة لاستعمل القرآن لها كلمة "صواحب"، التى مفردها "صاحبة".(/3)
الحق أنى أخشى أن تكون هذه التأويلات المسرفة المتعسفة واشيةً بوجود شبهة إنكار، ولو مبطنا، لبعض من جوانب عالم الغيب، وإلا فما معنى أن يَضْرِب الإنسان صَفْحًا عن كل ما يمتّ إلى ما يسمَّى فى القرآن بـ"عالم الغيب" مؤوِّلا إياه كل مرة بشىء من عالم الحس أو مما يتعلق بعالم الحس؟ لطالما نعى محمد أسد على الحضارة الغربية وأبنائها أنهم لا يؤمنون إلا بما يقع عليه الحس، فما السر فى موقفه ذاك إذن؟ وما دام الشىء بالشىء يُذْكَر فينبغى ألا يفوتنى الإيماء هنا إلى أن ملك غلام فريد (القاديانى) قد أوَّل "التسعة عشر" فى الآية الكريمة تأويلا مشابها، إذ قال إنها الحواس التسع[25] ومقابلاتها الروحية (وهى تسعة أيضا) بالإضافة إلى الشعور بالألم والحرارة[26]. وقد ذكر أسد أن الرازى قد أول "التسعة عشر" هذا التأويل من قبل.
وإذا كان مترجمنا قد أول "الجِنّة" بـ "قوانين الطبيعة"، فها هو ذا فى موضع آخر يؤول الجن (والجنّ والجِنّة شىء واحد كما نعرف) بأنهم "ناسٌ غرباءُ مسافرون لم يُرَوْا من قبل"، وذلك فى قوله تعالى يخاطب الرسول عليه السلام: "وإذ صَرَفْنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا: أَنْصِتوا. فلما قُضِىَ وَلَّوْا إلى قولهم منذِرين* قالوا: يا قومنا، إنا سمعنا كتابا أُنْزِل من بعد موسى يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم* يا قومنا، أجيبوا داعىَ الله وآمِنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويُجِرْكم من عذاب أليم* ومن لا يجب داعى الله فليس بمعجز فى الأرض وليس له من دونه أولياء. أولئك فى ضلال مبين"[27]، "قل: أُوحِىَ إلىَّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا* يهدى إلى الرُّشْد فآمنّا به، ولن نشرك بربنا أحدا*...إلى آخر الآيات"[28]. وهؤلاء الناس الغرباء كانوا، كما يقول، من اليهود، إذ لم يذكروا إلا رسالة موسى مما يدل على أنهم لم يكونوا يؤمنون بعيسى عليه السلام. كما يترجم "نفرا من الجن" فى آيات "الأحقاف" بـ "جماعة من الكائنات الخفية"[29].
وتعليقى على هذا أنه ليس هناك من سبب يجعلنا نصرف لفظ "الجن" عن دلالته المعروفة إلى معنى "الغرباء من البشر"، وإلا فأين الدليل على ذلك؟ صحيح أن القرآن قد استخدم كلمة "شياطين" للبشر، لكنه حين فعل ذلك قال: "شياطين الإنس"، أما هنا فقد استعمل كلمة "الجن" مطلقة دون إضافتها إلى "الإنس" أو "البشر" أو ما إلى ذلك. وعلاوة على هذا فإن القرآن يسمى الغرباء المسافرين: "أبناء السبيل" أو الذين "على سفر"، ولا يسميهم "الجن" أبدا. ثم إننا، على مذهب محمد أسد، ينبغى أن نسمى كل مسافر أو غريب لم نره من قبل: "جِنًّا"! أَوَلَيْسَ هذا كلاما مضحكا؟ وبالإضافة إلى ذلك فإن سورة "الجن" تذكر "الجن" فى مقابل "الإنس" كما تفعل آيات كثيرة فى القرآن الكريم، ولم يقل أحد إن "الجن" فى غير هذه السورة وسورة "الأحقاف" هم الأغراب الذين لم يسبق لنا أن رأيناهم، فلماذا تشذّ هاتان السورتان؟ وماذا نفعل بقوله عز شأنه فى سورة "الجن" على لسان الطائفة التى تنتمى إلى هذا الجنس: "وأنا لمسنا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَسًا شديدا وشُهُبا* وأنا كنا نقعد منها مقاعدَ للسمع، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصَدا"؟ أنقول إن هؤلاء الأغراب كانوا يقعدون من السماء مقاعد للسمع، أما الآن فقد تغير الحال ولم يعد يمكنهم أن يفعلوا ذلك؟ ولكن كيف يا ترى يتسنى للبشر أن يصنعوا هذا؟ أم ترى لابد من التأويل هنا كى نغطى ظهر التأويل السابق؟ إننا، بهذه الطريقة، نضيع معالم الآيات وملامحها، ويلتبس كل شىء فيها بكل شىء!
ولقد تكرر ذكر الجن والشياطين الذين كانوا يسترقُون السمع لأخبار السماء قبل الإسلام والذين باتوا يُرْمَوْن بعده بالشهب المحرقة[30]، لكن أسد يفسر "رُجُوم الشياطين" الواردة فى سورة "المُلْك" بأنها ما يَرْجَُم به شياطين الإنس، وهم المنجمون. يقصد تخميناتهم وظنونهم، ولا أدرى كيف يكون ذلك! لقد بينّا أن القرآن حين يقصد أشرار الإنس فإنه يقول بصريح العبارة: "شياطين الإنس"، أما حين يستعمل كلمة "الشياطين" مطلقة فليس إلا الشياطين المخلوقون من نار. وأىّ قول بغير هذا هو عبث وتدليس فى مواضع لا تقبل شيئا من عبث أو تدليس.(/4)
ثم إن القرآن يفسر بعضه بعضا، و"رجوم الشياطين" هى الشهب الراصدة التى يُقْذَف بها من يريدون أن يَسَّمَّعوا من الشياطين إلى الملإ الأعلى. وقد جاء فى الآية 17 من سورة "الحِجْر" أن الله قد حفظ السماء "من كل شيطان رجيم"، فالرَّجْم هنا هو الرجم هناك، أى القذف بالشهب الراصدة والطرد من رحمة الله لا رجم الظنون والتكهنات. وهذا واضح لكل ذى عينين! وهو نفسه ما تقوله آيتا سورة "الجن" المذكورتان آنفا، فلم اللف والدوران؟ كذلك لو كان الجن هنا مجرد جماعة من الغرباء، فما الذى أمسكهم فلم يجعلهم يبرزون من مكامنهم التى تصادف أن استمعوا فيها للرسول عليه السلام وهو يقرأ القرآن فى وادى نخلة؟ إن الآيات واضحة الدلالة على فرحتهم به وبالقرآن الذى سمعوه منه ومسارعتهم إلى الإيمان، أفلم يكن الطبيعى منهم أن يحرصوا على التقدم إليه وتعريفه بأنفسهم وإشهاده على إيمانهم برسالته؟ لكن آيات سورتى "الأحقاف" و"الجن" تنص على أن الرسول لم يعلم بوجود هؤلاء القوم وإيمانهم بدعوته إلا من خلال الوحى الإلهى، مما يدل على أنهم من الجن المعروفين الذين لا يظهرون للبشر. وتبقى مسألة كونهم يهودا أو نصارى، وليست آيات سورة "الأحقاف" قاطعة الدلالة على أنهم يهود، ولقد قال محمد أسد ذاته فى تعليق سابق إن عيسى لم يأت بشريعة جديدة. ومن هنا فإن التوراة من الناحية التشريعية شىء واحد لكل من اليهود والنصارى.
والطريف أن محمد أسد، بعد كل هذا، عاد فترجم "الجن" فى قوله سبحانه فى الآية الرابعة من سورة "الجن": "وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا" بـ"القوة الخفية"، وفسرها فى الهامش بأن المقصود بهم "the occult powers"، أى القدرات السحرية الخفية[31]، فأى ارتباك وإرباك هذا؟ أهكذا يُتَناول القرآن الكريم؟ فكيف تقول "القدرات السحرية" على الله الكذب؟ إن هذه القدرات إنما هى مفاهيم مجردة لا أشخاص، فكيف يمكن أن يقع منها قول أو توصَف بالكذب؟
هذا، وأود أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى أن ملك غلام فريد (القاديانى) قد فسر ذلك النفر من الجن بأنهم ناس من اليهود غير العرب، سُمُّوا "جنا" لأنهم كانوا غرباء[32]، تماما كما فعل محمد أسد لَدُنْ تناوله لآيات سورة "الأحقاف"، وإن كان المترجم القاديانى قد ذكر أنهم قابلوا النبى عليه السلام فعلا وأسلموا على يديه[33]، وهو ما لم تقله الآيات القرآنية فى أى موضع، بل من الواضح، حسبما جاء فى مفتتح سورة "الجن"،أنه عليه السلام لم يشعر بهم ولم يعرف بأمرهم إلا من الوحى: "قل: أُوحِىَ إلىَّ أنه استمع نفر من الجن...". كذلك أود أن أختتم هذه الملاحظات الخاصة بهؤلاء النفر من الجن بأنهم لو كانوا بشرا لسماهم القرآن بـ"أهل الكتاب" كما يفعل فى الآيات المشابهة. وحتى لو افترضنا أن كلمة "الجن" فى هذا السياق تعنى "الغرباء"، فهل كانوا غرباء فى نظر أنفسهم حتى يُسَمُّوا هم أيضا أنفسهم "جِنًّا" كما فى قوله تعالى: "وأنا ظننّا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا"؟ ثم لو كانوا ناسًا من غير العرب فكيف فهموا لسان القرآن العربى، وهم غرباء لا يعرفون هذا اللسان"؟ أما الجن فلهم وضع آخر، إذ لهم قدرات عجيبة غير متاحة للبشر. ومن التشابهات بين أسد والمترجم القاديانى أيضا تفسير الأخير لـ"الجن" فى السورة المسماة باسمهم بأنهم "العرافون والكهنة"[34]. ترى لو كان هذا التفسير صحيحا فما الذى حجز القرآن عن أن يسميهم بـ"الكهنة"، وقد استخدم كلمة "كاهن" فى أكثر من موضع منه؟
فهذا عن الجن والملائكة ونظرة محمد أسد إليهم. وعلى أساس من التأويل أيضا نراه يتناول الجَنّة والنار وما فيهما من نعيم وعذاب، فهو يؤكد أن أوصاف الجنة من أكل وشرب ولبس، وكذلك كلّ ما يتعلق باليوم الآخر فى القرآن، إنما هى تعبيرات رمزية لتقريب هذه الأمور، ولا يصح فهمها على ظاهرها بأية حال[35]: فـ"اتكاء أهل الجنة على فُرُشٍٍ بطائنها من إستبرق" كما جاء فى الآية 54 من سورة "الرحمن" معناه عنده الراحة التامة والسلام الشامل لا أكثر ولا أقل[36]، "والرحيق المختوم" المذكور فى الآية 25 من سورة "المطففين" مجرد إشارة رمزية لمشاعر البهجة الأخروية المركزة التى لا تخطر على قلب بشر[37]، و"ضحك الذين آمنوا فى الجَنّة من الكفار" فى نفس السورة هو مجرد معنى مجازى يشير إلى سعادتهم بحظهم الطيب لأن مثل ذلك الضحك مما لا يليق بالمؤمنين[38]، و"أنكال" سورة "المدثر" التى اعدها الله يوم القيامة لأهل الجحيم ليست سوى رمز على بقاء النفس فى العالم الآخر مقيدة بمتعها وشهواتها الجسدية، ومن ثَمَّ لا تستطيع بلوغ عالم الروح والصفاء[39]، و"ضَرِيع" سورة "الغاشية"، وهو فيها طعام أهل النار، إنما هو مشتق من "الضراعة"، وليس إلا تعبيرا مجازيا[40]...وهكذا.(/5)
ومن الواضح أنه ينظر إلى متع الجسد نظرة تقززية وأن الحياة الآخرة لديه إنما هى حياة روحية محضة. وهذه نظرة شائعة بين قطاع من المسلمين، ولا أعرف لماذا، ولا على أى أساس من آيات القرآن أو أحاديث النبى يقولون بذلك، ولا لأى سبب يحتقرون الجسد ويعلون من شأن الروح وحدها. إن كلا من الجسد والروح هو صنعة الله، فلماذا نحتقر ذلك ونفضل هذه عليه؟ ألأن الجسد يمرض ويشيخ ويتغضن ويفرز البصاق والعرق والعماص والبلغم والبول والبراز والقيح والصديد وتتغير رائحته مع مرور الوقت؟ سبحان الله! وهل الروح بمنأى عن العيوب والثلمات؟ ألا يشعر الإنسان بالملل والضيق واليأس والشح والحقد والغرور والضعة والأنانية والشك والسهو والنسيان والغباء واشتهاء المحرمات؟ أليست هذه ألوانا من النقص تعترى الروح البشرية، وغيرها كثير؟ إذن فلم تلك النظرة الدونية للجسد؟ ثم من قال إن أجساد أهل الجنة ستكون كأجسادنا هنا على الأرض؟ إن آيات القرآن وأقوال الرسول واضحة الدلالة على أنها ستكون خالية من كل ما يسبب لنا الألم والضيق والتقزز فى الدنيا، فما المشكلة إذن؟ ثم إن حواسنا الجسدية هى نوافذنا على العالم ووسيلتنا إلى الاتصال به، فلم الزعم بأن ذلك الوضع سيتغير فى الآخرة ويُلْغَى الجسد وتلك النوافذ التى تصلنا بالعالم إذا كان القرآن نفسه وحديث الرسول لا يقولان بهذا بل بعكسه؟ هل هناك ما يدل على أن الكلام عن الجنة والنار هو كلام مجازى؟ فأين هذا الدليل؟ الواقع أنه لا يصار إلى القول بالمجاز إلا إذا كان السياق يوجب هذا أو كان من المستحيل وقوع الأمر على ظاهره أو ترتَّب على الفهم الظاهرى للكلام تناقض لا يمكن إزالته...إلخ، ولا شىء من ذلك، والحمد لله، فى النصوص القرآنية والحديثية الخاصة بذلك الموضوع.
قد يقال: وكيف سنُبْعَث بأجسادنا هذه، وقد كان لكل واحد فى دنياه أجساد بعدد اللُّحَيْظات التى عاشها؟ فبأى جسد من هؤلاء سنُبْعَث؟ وقد أثير سؤال قريب من هذا فى إحدى محاضرات الفلسفة الإسلامية التى كان يعطيناها د. حسن حنفى فى أواخر الستينات من القرن الماضى بآداب القاهرة، وكانت إثارته على سبيل التحدى من جانب أحد الملحدين. وقال الأستاذ الدكتور إن جسد كل منا يعتريه التحلل بعد موته ويصير ترابا يتغذى عليه النبات الذى يأكله إنسان آخر يستحيل جسده بدوره بعد موته ترابا يأكله النبات...وهكذا دواليك، فكيف ستنماز أجساد البشر اللامتناهية يوم القيامة، وكلها فى الأصل راجعة إلى عدد محدودد نسبيا من الأجساد؟ لكنْ نَسِىَ أصحاب هذا الاعتراض أن كل شىء حاضر بجميع أوضاعه وتطوراته فى إدراك الله يبرزه لنا وقتما يشاء. لقد استطاع البشر تسجيل الأشياء والأشخاص بالصوت والصورة، أما الله فكل شىء عنده مخزون بكل أبعاده وعناصره وطبائعه وخصائصه لا مسجَّل فقط صوتا وصورة، ذلك أن علمه سبحانه مطلق بلا حدود، وهو جلَّ شأنه فوق الزمان والمكان، وكل شىء حاضر فى علمه حضورا أبديا مهما تناءى به الزمان والمكان. أما بعد الحساب فكل شىء سوف يتغير، وتجرى الأمور على أوضاع وقوانين جديدة، فأهل الجنة مثلا سيَغْدُون شبابا خالدين لا يعرفون الهَرَم أبدا كما جاءت بذلك نصوص القرآن والحديث. ثم ينبغى ألا ننسى أن كلا منا ليست له فقط روح واحدة، بل أرواح متتابعة بعدد اللحظات التى مرت به مثلما هو الحال فى الأجساد أيضا، إذ إن التغير لا يعترى الأجساد وحدها، بل الأرواح معها.
والواقع إن فى إنكار بعث الأجساد لَصَدًى من إنكار الكافرين بالبعث بوجه عام، فقد كانوا يستغربون أن يبعث الله البشر بعد أن تكون عظامهم قد بَلِيَتْ واختلط رفاتهم بالتراب، ويقولون مستهزئين: "أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون؟"، "أإذا ضللنا فى الأرض أإنا لفى خلق جديد؟"، "مَنْ يُحْيِى العظام وهى رميم؟". ولقد كان رد القرآن عليهم: "قل: يُحْيِيها (أى يحيى العظام الرميم) الذى أنشأها أول مرة"[41]، "أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه؟* بَلَى قادرين على أن نُسَوِّىَ بَنَانه"[42].(/6)
وإن آيات مثل "منها (أى من الأرض والتربة) خلقناكم، وفيها نعيدكم، ومنها نخرجكم تارة أخرى"[43]، "ونُفِخَ فى الصُّور، فإذا هم من الأجداث إلى ربهم يَنْسِلون"[44]، "وإذا القبور بُعْثِرَتْ* علمتْ نفسٌ ما قَدَّمَتْ وأَخَّرَتْ"[45]، "وقالوا (أى الكافرون): أإذا كنا عظامًا ورُفَاتًا أإنا لمبعوثون خَلْقًا جديدا؟* قل: كونوا حجارة أو حديدا* أو خَلْقًا مما يَكْبُر فى صدوركم. فسيقولون: من يُعِيدنا؟ قل: الذى فطركم أول مرة"[46]، "يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون"[47]، "ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاسْتَبََقُوا الصراط، فأنَّى يبصرون؟"[48]، "وتَرَى كلَّ أمة جاثية. كلُّ أمة تُدْعَى إلى كتابها: اليوم تُجْزَوْن ما كنتم تعملون"[49] لتبرهن على أن البعث سيكون بالأجساد أيضا. وبالمثل فإن آياتٍ مثل "من ورائه جهنم، ويُسْقَى من ماءٍ صديد * يتجرعه ولا يكاد يُسِيغه"[50]، "ولهم (أى للكافرين) مقامعُ من حديد"[51]، "كلما نضجتْ جلودهم بدَّلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب"[52]، "إنها (أى شجرة الزقوم) شجرة تخرج فى أصل الجحيم* طَلْعُها كأنه رؤوس الشياطين* فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون* ثم إن لهم عليها لَشَوْبًا من حميم"[53] لَتُثْبِت أن للأجساد فى عذاب النار نصيبا. كذلك فإن آياتٍ مثل: "فيها (أى فى الجنة) ما تشتهيه الأنفسُ وتَلَذُّ الأعينُ"[54]، "هم وأزواجهم فى ظلال، على الأرائك متكئون"[55]، "لهم جنّاتُ عَدْنٍ تجرى من تحتهم الأنهار يُحَلَّوْنَ فيها من أساورَ من ذهب ويلبسون ثيابًا خُضْرًا من سندسٍ وإستبرق"، "على سُرُرٍ موضونة* متكئين عليها متقابلين* يطوف عليهم وِلْدَانٌ مخلَّدون* بأكوابٍ وأباريقَ وكأس من مَعِين*...* وفاكهةٍ مما يتخيَّرون* ولحمِ طيٍر مما يشتهون* وحور عِين* كأمثال اللؤلؤ المكنون"[56] وغيرها من الآيات المماثلة لتدل على أن حظوظ الجسد ستكون مَرْعِيَّة ومتاحة فى نعيم الآخرة. ويؤكد ذلك أن القرآن الكريم يذكر إلى جانب هذا أيضا "السلام"[57] و"الرضوان الإلهى"[58] و"خلو القلوب من الغل"[59]...إلخ مما يدل على أنه سيكون هناك هذا وذاك ما دام القرآن قد ميز بين الأمرين، وإلا لَذَكَر هذه المتع الروحية الأخيرة فقط.
إن هذه النزعة المتقززة من لذائذ الجسد هى نزعة غريبة عن الإسلام، وينبغى وضع حد لها[60]. وإنى لأتوجه إلى ضمائر القراء الصادقين سائلا: أيُّكم يجد فى متع الطعام والشراب واللبس واللمس والنظر والشم والجنس ما يبعث فعلاً (لا ادعاءً) على الاشمئزاز؟ فما بالنا إذا صَفَتْ هذه اللذائذ من كل ما يعكرها وأصبحت متاحة لنا دائما دون أن يصحبها شعور بالملل أو الكظّة أو المَغْص، أو يحتاج الإنسان معها إلى جُشَاء أو تبوُّل أو تبرز؟ إن هذا غاية المنى، وهو الذى تَحْفَى أقدام البشر خلف أقل القليل منه هنا على الأرض دون بلوغه! أفإن أتاحه الله لنا ركب بعضَنا شيطانُ العناد السخيف وشَمَخَ بأنفه قائلا: هذه لذاتٌ وضيعة؟ ترى ماذا بالله فى أن يعود الواحد منا شابًّا شبابا دائما فلا يشكو نَصَبًا ولا أَيْنًا ويَلْقَى كل ما كان يشتهيه فى الدنيا بين يديه صافيا نقيا من كل شائبة وعلى أحسن وضع مما لا يمكننا تصوره تماما الآن بعقولنا المحصورة داخل تجارب الدنيا وظروفها؟ ورب الكعبة إن هذا لهو البطر بعينه!
إننى لا أكفِّر أحدا ممن يؤوّل نعيم الجنة مثلا ولا أفسِّقه ولا أضلِّله، ولكنى رغم ذلك أجد أن الرأى الذى أقول به أَوْجَه وأكثر إقناعا وأقرب إلى المنطق والنصوص. وقد ورد فى "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال" لابن رشد أن هذه من المسائل المختلف فيها. ورأى هذا الفيلسوف، رضى الله عنه، أن المخطئ من العلماء فى هذا الموضوع معذور، والمصيب مشكور مأجور، والمهم ألا ينكر أحد البعث، وإلا فالإنكار كُفْر لأن البعث أصل من أصول الشريعة[61]. وكان ابن حزم، رحمه الله رحمة واسعة، من القائلين ببعث الأجساد والنفوس معا[62]، ويسعدنى أن أكون فى صفوف الفريق الذى يضم هذا العالمَ العبقرىَّ الجليل.(/7)
ومع ذلك كله فإن أسد فى ترجمته لـ"صحيح البخارى" لم يحاول، فى الأحاديث التى ورد فيها ذكر شىء من نعيم الجنة أو الجن مثلا، تأويل هذا النعيم. لقد أدى مثلا الحديث الذى يقول فيه النبى عليه السلام: "بينما أنا نائم رأيتُنى فى الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر...إلخ" كما هو دون أدنى تغيير، كما أنه لم يعلق عليه فى الهامش بما يخرجه عن معناه الظاهرى[63]. ومثل ذلك ترجمته لكلمة "الجِنّ" بـ"Jinn" دون أن يستبدل بها شيئا آخر أو يجنح إلى تأويلها فى الهامش بما يخرجها عن معناها المعروف. بل إنه فى الحديث الذى وردت فيه إشارة إلى أن العظم والروث هما من طعام الجن لم يعلق ولو بكلمة واحدة تَصْرِف المعنى عن ظاهره[64]. ليس ذلك فقط، بل نراه فى موضعٍ آخرَ من هذا الكتاب يحمل على الاتجاه العصرى الذى ينكر وجود الجن وما أشبه استنادا إلى عدم إدراك الحواس لمثل هذه الأشياء، ثم يستشهد بكلام للفيلسوف برادلى يقرر فيه أن عجزنا عن إدراك شىء ما لا يصلح متكأً البتةَ لإنكار وجوده[65]. كذلك فهو لا يستبعد أن يكون نداء إبليس للرسول عليه السلام أثناء المعراج نداء حقيقيا جسديا[66].
إلا أنه للأسف يفسِّر العذاب الذى ذكرت بعضُ الأحاديث أن أبا طالب سوف يُعَذَّبه فى الآخرة، وهو غليان دماغه من ضحضاح النار الذى سيبلغ كعبيه، بأنه رمز على أن معاناته ستكون معاناة عقلية بسبب تأكده أن ابن أخيه نبى صادق وأن دينه هو الدين الصحيح، ثم عدم إيمانه به رغم ذلك[67]. ولا شك أن القول بالرمز هنا هو تأويل للعذاب الذى ورد فى الحديث النبوى الكريم، وأغلب الظن كذلك أن أسد ينظر إلى ألوان العقوبات التى شاهدها الرسول صلى الله عليه وسلم فى رحلة المعراج على أنها عقوبات غير جسدية، إذ اتخذها دليلا على أن هذا المعراج وكذلك الإسراء كان بالروح لا بالجسد[68].
الهوامش
[1] Muhammad Asad, The Road to Mecca, PP. 292- 295. وهذا الكلام يجده القارئ فى ص 308- 311 من الترجمة العربية لهذا الكتاب.
[2] Muhammad Asad, Sahih al-Bukhari- The Early Years of Islam, P. 241, n. 5.
[3] انظر الهامشين المذكورين فى ص 204، 205 من ترجمته للقرآن الكريم.
[4] انظر ص 5/ هـ 10، وص9/ هـ 26، وص 177/ هـ 34، وص 204/ هـ 10، وص 386/ هـ 31.
[5] انظر ص 206/ هـ 20، وص 375- 376/ هـ 31، 33، وص 384/ هـ 16 مثلا.
[6] انظر ص 733- 734/ هـ 24- 25، وص 752/ هـ 31.
[7] الكهف/ 50.
[8] الأعراف/ 7، وص 76.
[9] الحجر/ 27.
[10] النحل/ 50. ومثله قوله تعالى عنهم أيضا: "لا يسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون" (الأنبياء/ 27)، "لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون" (التحريم/ 6).
[11] البقرة/ 26.
[12] انظر ترجمة أسد للقرآن/ ص 9/ هـ 16.
[13] طه/ 2- 3.
[14] الشعراء/ 77.
[15] الزخرف/ 26- 27.
[16] الانشقاق/ 22- 25.
[17] انظر ص 44/ هـ 52.
[18] ص 666/ هـ 1.
[19] انظر ص 692/ هـ 67.
[20] وهذا الاعتقاد هو مرحلة أخرى من المراحل التى كان يتطور خلالها تصورى للملائكة والشياطين.
[21] الموضع السابق
[22] انظر ص 909/ هـ 16.
[23] غافر/ 49، والملك/ 8.
[24] التحريم/ 6.
[25] وهى الحواس السبع الخارجية، إلى جانب حاسة إدراك المكان وحاسة الجوع والعطش وغيرهما من الإحساسات الداخلية، وهو كلام لا رأس له ولا ذيل كما ترى.
[26] Malik Ghulam Farid, The Holy Qur'an, P. 1281, n. 3169.
[27] الأحقاف/ 29- 32.
[28] الجن/ 1 وما بعدها.
[29] انظر ص 775 فى ترجمة الآية 29 من سورة "الأحقاف"، وهـ 39 الخاص بالآية المذكورة.
[30] الحجر/ 18، والصافات/ 10، والجن/ 8- 9، والملك/ 5.
[31] ص 899 فى ترجمة الآية المذكورة، وهـ 3 فى التعليق عليها. والمراد بـ "القدرات السحرية الخفية" التنجيم والسحر وقراءة الطالع وادعاء معرفة الغيب...إلخ.
[32] Malik Ghulam Farid, The Holy Qur'an, P. 1080, n. 733..
[33] المرجع السابق/ ص 1267/ هـ 3137.
[34] السابق/ ص 1268/ هـ 3142.
[35] انظر مثلا ص 444/ هـ41، وص 686/ هـ 23، وص 972/ هـ 3.
[36] ص827/ هـ 26 .
[37] ص 938/ هـ 8.
[38] ص 939/ هـ 14.
[39] انظر ص 904/ هـ 7.
[40] ص 948/ هـ 2.
[41] يس/ 79.
[42] القيامة/ 3- 4.
[43] طه/ 55.
[44] يس/ 51.
[45] الانفطار/ 4- 5.
[46] الإسراء/ 49- 50.
[47] النور/ 24.
[48] يس/ 66.
[49] الجاثية/ 28.
[50] إبراهيم/ 15- 16.
[51] الحج/ 21.
[52] النساء/ 56.
[53] الصافات/ 64- 67.
[54] الزخرف/ 71.
[55] يس/ 56.
[56] الواقعة/ 15- 23.
[57] كما جاء فى الآية 25 من سورة "يونس"، والآية 46 من سورة الحجر، والآية 34 من سورة "ق".
[58] كما جاء فى الآية 15 من سورة "آل عمران"، والآية 72 من سورة "التوبة"، والآية 20 من سورة "الحديد".
[59] كما جاء فى الآية 43 من سورة "الأعراف"، والآية 47 من سورة "الحجر".(/8)
[60] يقول أسد نفسه إن النصرانية تنظر إلى عالم المادة على أنه شيطانى فى أساسه، بينما عالم الروح إلهى خير، أما الإسلام فلا يفرق بين مطالب الجسد ومطالب الروح (محمد أسد/ الإسلام على مفترق الطرق/ ترجمة د. عمر فروخ/ دار العلم للملايين/ 28، 30).
[61] انظر ابن رشد/ فَصْل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال/ تحقيق محمد عمارة/ ط 2/ دار المعارف/ 49- 50.
[62] انظر كتابه "الفِصَل فى الملل والأهوال والنِّحَل"/ 4/ 80- 81.
[63] ص 40. وانظر كذلك الحديث الذى يتحدث عن بيت القصب الذى سيكون لخديجة، رضى الله عنها، فى الجنة (ص129- 130).
[64] ص 163- 164. وهذا الاختلاف هو من الأمور التى تلفت النظر.
[65] ص 163/ هـ 3.
[66] ص 185.
[67] ص 184/ هـ 2.
[68] ص 185.(/9)
فكر محمد أسد كما لا يعرفه الكثيرون (5)
مقارنة محمد أسد بين القرآن
والكتاب المقدس
د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
على شاكلة كثير ممن ترجموا القرآن إلى اللغات الأوربية من مسلمين ومستشرقين يُكْثِر محمد أسد من المقارنة بين القرآن المجيد والكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى فى الموضوعات المشتركة بينهما، وأحيانا ما يكتفى بهذه المقارنة لا يتعداها إلى إبداء رأيه فيما يختلف الكتابان فيه، لكنه عادة ما يزيد فينتصر للقرآن. ولقد تكرر عنده الحديث فى مواضع مختلفة عما أصاب الكتاب المقدس من عبث وتحريف طبقا لما قاله القرآن، وكذلك الحديث عن حفظ الله عز شأنه كتابه إلى أبد الآباد من أن تناله يد الإفساد.
ومنذ الصفحات الأولى من الترجمة نراه يتهم اليهود بالعبث بالتوراه وكتمان ما ورد فيها من ذكر نبوة محمد عليه السلام، مؤكدا أن النقد النصوصى للكتاب المقدس قد أثبت صحة التهمة القرآنية لهم بذلك، ومستشهدا على ما يقول بما ورد فى سفر "إرميا" (13/ 26)، ونصه: "أفسدتم كلام الله الحى"، وبما جاء فى مواضع أخرى من العهد القديم من نصوص مختلفة تذكر عنادهم وتمردهم كما فى سفر "الخروج" (32/ 9، و33/ 3، و34/ 9) و"التثنية" (9/ 6- 8، 23- 24،27) مثلا
1.
وانطلاقا من هذه النقطة نجده، فى تعليقه على الآية 101 من سورة "البقرة"، ونَصُّها: "ولما جاءهم رسول من عند الله مصدِّقٌ لما معهم نَبَذَ فريقٌ من الذين أوتوا الكتابَ كتابَ الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون"، يقول إن "كتاب الله" المذكور هنا هو التوراة، وإن اليهود، بإهمالهم ما جاء فى سفر "التثنية" (18/ 15، 18) من نبوءاتٍ تبشِّر بمجىء النبى العربى، قد نبذوا فعلا كل ما نزل من وحى على موسى طبقا لكلام الزمخشرى ومحمد عبده2.
أما بالنسبة للنصارى وموقفهم من النبوءة الواردة فى الإنجيل عن محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يؤكد أن قوله تعالى على لسان المسيح عليه السلام: "... ومبشِّرًا برسولٍ يأتى من بعدى اسمه أحمد"3 يجد مصداقه فى ذِكْر إنجيل يوحنا للفارقليط فى عدة مواضع. ثم يوضح قائلا إن كلمة "Parakletos" المشار إليها هى بالتأكيد تحريف لكلمة "Periklytos"، ومعناها "المحمود كثيرا"، وهو ما يساوى كلمة "محمد/ أحمد"، التى هى الترجمة الدقيقة للكلمة الآرامية "Mawhamana"، إذ كانت الآرامية (كما يقول) هى اللغة السائدة فى فلسطين على عهد عيسى عليه السلام وبعده بقرون، كما أن اسم "محمد" قد ورد بنصه العربى فى إنجيل برنابا، الذى ترفضه الكنيسة الآن بعد أن كانت تقرّه حتى عام 496م عندما حرَّمه البابا جلاسيوس، وإن كان من غير المستطاع فى الظروف الراهنة التأكد من صحته بسبب ضياع النص الأصلى، إذ الموجود فى أيدينا حاليا إنما هو ترجمة إيطالية ترجع إلى أواخر القرن السادس عشر الميلادى4.
وعلى العكس من ذلك نراه، فيما يخص القرآن الكريم، يؤكد أن قوله تعالى: "إنا نحن نزَّلنا الذكر، وإنا له لحافظون"5 قد تبين صدقه بما لا يدع مجالا للشك، إذ ثبت أن النص القرآنى وصل إلينا عن النبى محمد خاليا من أى تعديل أو إضافة أو حذف، وأنه ما من كتاب آخر، أيًّا كانت صفته، قد بقى سليما طيلة هاتيك القرون جميعا. أما بالنسبة للقراءات المختلفة لبعض ألفاظ القرآن المجيد فهى لا تعدو أن تكون اختلاقا فى ضبط بعض الحروف لا يمس المعنى عادة6. وقد كرر هذا الكلام عند تفسيره لـ"الكتاب المكنون" فى سورة "الواقعة"، ولـ"اللوح المحفوظ" فى سورة "البروج"، إذ قال إنهما إشارة إلى حفظ القرآن الكريم من كل عبث، إضافةً كان أو حذفًا أو مسخًا، لأن الله قد تكفل بحفظه إلى الأبد7.
أما المواضع التى قارن فيها بين ما جاء فى القرآن ونظيره فى الكتاب المقدس فهى كثيرة، ولكننا نجتزئ ببعضها عن سائرها: فمن ذلك تعقيبه على الآية 135 من سورة "البقرة"، التى تذكر "مقام إبراهيم"، بأن رحلة خليل الرحمن إلى الحجاز ليست بالأمر الذى يصعب أن يقوم به بدوى يستعمل البعير فى تنقلاته. ثم يمضى محاولا إثبات أن رواية العهد القديم التى تقول إن البَرِّيَّة التى ترك فيها أبو الأنبياء زوجته وابنه هى بَرِّيّة "بئر سبع"، ورواية القرآن التى تقول إنه إنما ذهب بهما إلى الحجاز، لا تتناقضان، قائلا إن برِّيَّة "بئر سبع" كانت تعنى عند العبرانيين الذين كانوا يسكنون المدن آنئذ أقصى جنوب فلسطين وما وراءها من الصحراء العربية حتى الحجاز نفسه8.(/1)
وبالنسبة لقوله عز من قائل فى آخر آية القصاص من سورة "المائدة": "فمن تصدَّق به (أى تنازل عن القِصَاص تقرُّبًا إلى الله سبحانه) فهو كفارة له"9 يقول كاتبنا إن النسخة الحالية للعهد القديم تخلو من هذا الحكم، إذ ليس فيها إلا العين بالعين، والسن بالسن...إلخ، أما العفو والتسامح فإنها لا تذكره. وهو لا يستبعد أن هذا الحكم كان موجودا فى التوراه الأصلية، ثم عَفَتْه يد العبث أو الإهمال المتعمد10. كذلك من المعروف أن القرآن يسمى والد إبراهيم عليه السلام: "آزَر"، على حين يدعوه العهد القديم: "تارح". وقد حاول محمد أسد أن يجد حلا لهذه المسألة قائلا إن اسم والد إبراهيم فى التلمود هو "Zarah"، وعند المؤرخ الكنسى يوزبيوس بامفلى11:"Athar"، ورغم أن أيا من هذا وذاك لا يصلح، كما يقول، أن يكون حجة يعتمد عليها فى تفسير القرآن فمن الممكن القول بأن "آزر" هو تعريب لـ"Zarah" أو "Athar"
12.
وكان محمد لطفى جمعة قد تناول هذا الموضوع فى تفسيره للقرآن الكريم (الذى تركه محفوظا ونشره ابنه الأستاذ رابح لطفى جمعة فى التسعينات من القرن الماضى) وأشار إلى أن الاسم الموجود فى التلمود هو "آثر"، وكان رأيه، مع ذلك، أنه ما دام العهد القديم يقول إنه "تارح"، فإن "آزر" لم يكن أبًا حقيقيا له بل عَمًّا، وبخاصة أن إبراهيم قد دعا ربه أن "اغفر لى ولوالدىَّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب"13 بما يدل على أن ذلك الأب كان مؤمنا ما دام خليل الله قد قرنه مع المؤمنين، بينما كان آزر وثنيا بنص الآية التى ورد فيها اسمه حيث يقول له إبراهيم مستنكرا: "أتتخذ أصناما آلهة؟"14. وهذه، فى الواقع، مغالاة من لطفى جمعة بقيمة الكتاب المقدس من ناحية الوثاقة التاريخية التى لا يستحقها، فضلا عن أن ذكر إبراهيم لوالده مع المؤمنين لا يدل على أنه كان مؤمنا مثلهم، بل كل ما فى الأمر أنه عليه السلام، بعد أن بُحَّ صوته فى محاولة هدايته، قال له: "سلام عليك! سأستغفر لك ربى..."15، وهو ما أشار إليه القرآن فى قوله جل جلاله: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إياه، فلما تبيَّن له أنه عدو لله تبرَّأ منه"16. ثم إن العهد القديم ليس بالحجة التى يصح الاعتماد عليها، وبخاصة إذا قام تعارض بينه وبين القرآن17. وبالمناسبة فقد أشار أيضا كل من سيل ورودويل، وهما من مترجمى القرآن إلى الإنجليزية، إلى أن يوزبيوس يسمى والد إبراهيم: "آثر"، كما ذكر محمد حميد الله العالم الهندى الذى ترجم القرآن إلى الفرنسية أن "تارح" تكتب باليونانية: "Thara"، كما قد تكتب أيضا: "Athar"، وأنه من هنا جاءت "آزر"18. وأغلب الظن أن محمد أسد قد رجع إلى هؤلاء وهو يُعِدّ ترجمته التى بين أيدينا.
وفى حادثة الطوفان نجد كاتبنا يعلن موافقته لمولاى محمد على (القاديانى) على أن رواية القرآن التى تقول إن ذلك الطوفان لم يغرق الأرض كلها بل جزءا منها فقط هى الرواية الصحيحة، إذ جاء فيه قول رب الجلال: "وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا" بما يعنى أنه لم يشمل كل أرجاء المعمور بل أغرق المكذبين من قوم نوح فحسب، على عكس ما نقرؤه فى العهد القديم من أنه شمل الدنيا جميعا وأهلك كل شىء فيها19.
ولأسد فى هُود عليه السلام رأىٌ لستُ أستطيع أن أذكر أنى لقِيتُه عند أحد غيره، وهو أن ذلك النبى الكريم قد يكون هو النبى "عابر" المذكور فى سفر "التكوين" وأن أصداء اسمه موجودة فى اسم "يهوذا" ابن يعقوب عليه السلام. ذلك أن من المحتمل عنده أن يكون "هُود" هو الأب الأول للعبرانيين، وأن تكون معظم القبائل السامية، بما فيها العبرانيون أنفسهم، قد نزحت من جنوب الجزيرة العربية20.(/2)
ويكتفى كاتبنا، عند المقارنة بين رواية العهد القديم والقرآن الكريم لموقف هارون من عبادة بنى إسرائيل للعجل، بالإشارة إلى الخلاف الحاد بينهما دون أن يبدى رأيه فى الرواية اليهودية التى تَنْسُب إلى هارون عليه السلام أنه هو الذى صنع العجل لقومه كى يعبدوه وأنه شاركهم أيضا فى هذه العبادة21. ونفس الشىء يفعله عند تعليقه على قول القرآن عن موسى، حينما عاد فوجد قومه يعبدون العجل، إنه "ألقى الألواح" (أى ألواح الشريعة التى تلقاها من ربه على الجبل)، وهو القول الذى يخالف ما جاء فى العهد القديم من أن موسى إنما "كسر اللوحين" ولم يرمهما فقط22، وكذلك فى معجزة يد موسى إذ وُصِفَتْ يده فى العهد القديم بأنها بيضاء من البَرَص، أما فى القرآن فهى "بيضاء من غير سوء" كما جاء فى الآية 22 من "طه"23. وبالمثل نراه يشير إلى الخلاف بين رواية القرآن الكريم لموقف يعقوب عليه السلام من رؤيا يوسف التى رأى فيها نفسه وقد سجدت له الشمس والقمر وأربعة عشر كوكبا، وبين رواية العهد القديم للموقف ذاته، إذ بينما يذكر القرآن أن يعقوب قد فهم دلالة الحلم على أن يوسف سيصبح ذا سلطان وأن أبويه وإخوته سينحنون له، نرى كِتَاب اليهود، على العكس من ذلك، يُنْطِق الوالدَ بعبارات التوبيخ للابن بما يُفْهَم منه أن الرؤيا لم تكن فى نظره إلا انعكاسات لرغبة يوسف الكامنة فى نفسه فى التسلط عليه وعلى أمه وإخوته. وقد اكتفى أسد بذكر هذا الخلاف دون أن يعقب بشىء24.
بقيت مسألتان مهمتان تتصلان بهذا الموضوع، وإن لم تدخلا فى صميمه: الأولى قول محمد أسد إن "السامرى" المذكور فى قصة موسى من سورة "طه" قد يكون اسمه مأخوذا من الاسم المصرى القديم: "Shemer" بمعنى "الغريب"، ثم أُخِذ منه اسم طائفة السامرية الذين ظهروا فيما بعد بين بنى إسرائيل. وقد يؤكد مصريةَ السامرى، كما يقول، أنه هو الذى اتخذ العجل لبنى إسرائيل تأثرا بعبادة العجل أبيس فى بلاده التى خرج منها مع اليهود25. وهذا النقطة تحتاج إلى فضل بيان لأن أسد قد اكتفى بلمسها لمسا دون أن يطلعنا على الأسباب التى حملته على إثارتها فى ترجمته. وحقيقة الأمر أن المستشرقين والمبشرين، كعادتهم فى المسارعة الفِجَّة إلى اتهام النص القرآنى بأنه من تأليف محمد عليه السلام، قد صوبوا إصبع الإٍتهام إلى قصة السامرىّ كما وردت فى القرآن قائلين إن مدينة السامرة لم تظهر فى التاريخ إلا بعد السامرى بقرون، فكيف يُنْسَب السامرىّ إليها قبل أن توجد؟ وقد قدمت طائفة من المفسرين والمترجمين المسلمين عددا من الردود المفحمة على هذا الاعتراض الأهوج، ومن بينهم أبو الأعلى المودودى ومحمد حميد الله مما يمكن القارئ أن يجده مبسوطا مفصلا فى كتابى "سورة طه - دراسة لغوية أسلوبية مقارنة" فى الفصل الخاص بالمقارنة بين قصة موسى فى القرآن والعهد القديم. والرأى الذى تبناه أسد هنا هو أحد الآراء التى طرحها أولئك المفسرون المسلمون، وبالذات حميد الله.
ومثل ذلك تماما قول أسد إن هامان المذكور فى عدة مواضع من القرآن الكريم بوصفه أقرب مستشارى فرعون إليه ليس هو هامان الذى يتحدث عنه سفر "أستير" فى العهد القديم. وهو يرى أن اسم كبير مستشارى فرعون ليس "اسم علم" بل "اسم جنس" بمعنى "كاهن آمون: Ha-Amen"، إذ كانت عبادة آمون سائدة إبّانئذ فى مصر. ويقوِّى هذا الرأىَ عنده أن فرعون قد طلب منه أن يبنى له صرحا يصعد فيه إلى السماوات ليطَّلع إلى إله موسى، مما يمكن أن يكون إيماء إلى وظيفة كبير الكهنة بوصفه كبير مهندسى المبانى فى ذلك الحين26. والملاحظ أن أسد قد اجتزأ هنا أيضا بهذا الذى ذكرناه دون أن يتطرق بشىء إلى خلفية الموضوع. والواقع أنه ليس بين القرآن والعهد القديم تناقض بالضرورة فى هذه المسألة، فوجود "هامان" فى بلاد فارس على أيام الملك أحشويرش لا يمنع من وجود "هامانٍٍ" آخر قبل ذلك فى بلاد الأهرام. من هنا فإن ما قاله أسد فى هذا الموضوع لا يدخل فى باب المقارنة بين الكتابين لأنهما لا يتكلمان عن ذات الشخص، بيد أن فريقا من المستشرقين أَبَوْا كعادتهم إلا أن يثيروها جَذَعَة فيتهموا القرآن الكريم بأنه يخلط بين الفترات والشخصيات التاريخية المختلفة بما يدل على أنه مجرد معلومات استقاها محمد من هنا ومن ههنا ممن لا علم لهم بما يتحدثون عنه، وليس وحيا إلهيا. فإشارة أسد هى رد غير مباشر على أولئك المستشرقين27.(/3)
والمسألة الأخرى هى قوله إن الذبيح فى قصة خليل الرحمن المعروفة هو إسماعيل عليه السلام28، وذلك رغم أن القرآن لم يصرح بذلك بل ترك المسألة غُفْلاً، وإن كانت هناك إشارات فى آيات سورة "الصافات" التى تتحدث عن هذه المسألة وفى مواضع أخرى من القرآن تومئ بقوة إلى أن الذبيح هو فعلا إسماعيل، لا إسحاق كما يقول اليهود رغم ما جاء فى كتابهم من أن الله كان قد أمر إبراهيم أن يضحى بابنه الوحيد29، وهو ما لا يمكن أن يَصْدُق إلا على إسماعيل، إذ ظَلَّ عليه السلام هو ابن إبراهيم الوحيد عدة سنوات قبل أن يرزقه الله بعد ذلك بإسحاق، الذى لم يكن وحيد أبيه فى يوم من الأيام. على أنه ينبغى المسارعة إلى القول بأن علماء المسلمين غير مُجْمِعين على أنه هو إسماعيل30. فنص أسد فى ترجمته إذن، وهو اليهودى الأصل، على أن الابن الذى أمر الله سبحانه نبيه إبراهيم بالتضحية به هو إسماعيل لا إسحاق هو من الأهمية بمكان وثيق.
وبطبيعة الحال فإن موقف أسد من العهد القديم فى مثل هذه المواضع إنما هو الموقف الطبيعى والمنطقى، إذ هو مسلم، والمسلم يؤمن بأن كتاب اليهود والنصارى قد أصابه التحريف والعبث: يؤمن بذلك من خلال الدراسات التى خضع لها الكتاب المقدس، كما يؤمن به من خلال آيات القرآن المتكررة التى تؤكد وقوع هذا التحريف. وقد تبيَّن ذلك بكل جلاء فى تفسيره لوصف المولى سبحانه لقرآنه بأنه قد أنزله بالحق "مصدِّقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه"31 بأن القرآن هو المعيار الذى تقاس به صحة كتب اليهود والنصارى32. ومع ذلك فإن بعض الدارسين يفهم، من إشارة القرآن الكريم إلى هيمنته على الكتب التى قبله، أن المقصود هو شهادة لها بالحفظ من التحريف والتبديل. وقد فسرها د. محمد عمارة بما يعنى أن القرآن مُؤْتَمَن على تلك الكتب أو شاهد على صدقها33. وفى "تفسير المنار" نجد محمد رشيد رضا، رحمه الله، ينبه بقوة إلى هذا الخطإ مؤكدا عدم اتساقه مع ما يقوله القرآن المجيد فى هذا الصدد34.
الهوامش:
[1] انظر ص 10/ هـ 33، وص 17- 18/ هـ 62، وص 18/ هـ 66. وانظر أيضا ص 66/ بقية هـ 3 حيث يؤكد أن الكتاب المقدس قد تعرض لعبث هائل متعمد فى أغلب الأحيان مما أثبتته الدراسات الموضوعية، وكذلك ص 479/ هـ 27، وص 488/ هـ 9، وص573/ هـ 85.
[2] ص21/ هـ81. وانظر كذلك ص77/ هـ 53، وص 80/ هـ 70.
[3] الصف/ 6.
[4] ص 816/ هـ 6.
[5] الحجر/ 9.
[6] ص 383/ هـ 10. وانظر أيضا ص 153- 154/ هـ 66 حيث يؤكد استحالة العبث بالنص القرآنى. وهذه الفكرة موجودة فى ترجمته لـ"صحيح البخارى" (
Sahih al- Bukhari-The Early years of Islalm, P. 3, n.3).
[7] انظر ص 834/ هـ 27، وص 943/ هـ 11.
[8] ص 26/ هـ 102.
[9] المائدة/ 45.
[10] ص 153/ هـ 62.
[11] الذى عاش فى القرنين الثالث والرابع للميلاد.
[12] ص 183/ هـ 66.
[13] إبراهيم/ 41.
[14] الأنعام/ 74.
[15] مريم/ 47.
[16] التوبة/ 114.
[17] انظر مناقشتى له فى هذه النقطة فى كتابى "كاتب من جيل العمالقة- د. محمد لطفى جمعة - قراءة فى فكره الإسلامى"/ عالم الكتب/ 1419هـ- 1999م/ 117- 121.
[18] Sale, The Koran, P.95, n.1, Rodwell, The Koran, Dent & Co., London, 1909, P. 323, n. 3, and Muhammad Hamidullah, Le Saint Coran, Beyrouth, 1973, P. 174.
[19] ص 1212/ هـ 47.
[20] ص 213/ هـ 48. والملاحظ أن محمد أسد يجعل اللغات السامية مجرد فروع لغوية عربية قديمة بما فيها العبرية والفينيقية (ص 689/ هـ 49)، وإن كان قد فرق بين العربية واللغات السامية الأخرى فى ترجمته لـ"صحيح البخارى" (ص 5- 6/ هـ 12).
[21] انظر ص 225/ هـ 117، وص 480/ هـ 76.
[22] انظر ص 225/ هـ121.
[23] انظر ص 472/ هـ 15، وكذلك ص 219/ هـ 85.
[24] انظر ص 337/ هـ 9.
[25] انظر ص 479/ هـ 70.
[26] ص 590/ هـ 6.
[27] يجد القارئ معالجة مستفيضة لهذه القضية فى كتابى "سورة طه- دراسة لغوية أسلوبية مقارنة" فى الفصل الخاص بـ"قصة موسى بين القرآن الكريم والعهد القديم".
[28] انظر ص 688/ هـ 38، 43.
[29] تكوين / 22/ 2.
[30] ومن الذين يقولون إنه "إسحاق" إمام المفسرين الطبرى. وقد تناولتُ رأيه هذا بالمناقشة المسهبة وانتهيت، من خلال استنطاق ما بين السطور فى القرآن الكريم، إلى أن الذبيح هو إسماعيل (انظر كتابى "من الطبرى إلى سيد قطب-دراسات فى مناهج التفسير ومذاهبه"/ دار الفكر العربى/ 1421هـ- 2000م/ 68- 72).
[31] المائدة/ 48.
[32] ص135/ هـ 64.
[33] انظر كتابه "الإسلام والوحدة الوطنية"/ كتاب الهلال/ العدد 338/ فبراير 1979م/ 45- 46.
[34] انظر "تفسير المنار"/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ سلسلة "التراث للجميع"/ العدد 29/ 340. وقد تناولت هذه النقطة بالتفصيل فى كتابى "سورة المائدة- دراسة أسلوبية فقهية مقارنة"/ مكتبة زهراء الشرق/ 1420هـ- 2000م/ 106- 107.(/4)
فكر محمد أسد كما لا يعرفه الكثيرون (2)
(ليو بولد فايس)
كما لا يعرفه الكثيرون (2)
موقفه من مسألة عصمة الأنبياء
د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
ومن القضايا ذات الأهمية الشديدة التى تناولها أسد فى ترجمته التفسيرية للقرآن الكريم بشريةُ الرسل ومدى انعكاسها على أخلاقهم وسلوكهم، فهو دائم الإشارة إلى هذه البشرية، وهى مما لا يُشَاحّ فيه أحد، إذ إن رسل الله وأنبياءه كانوا كلهم بشرا. هكذا تكلم التاريخ، أما إذا قال أصحاب بعض الأديان إن نبيهم إله أو ابن إله فهو كلام لا يؤبه به، وإن كان لكلٍّ أن يعتقد ما يشاء، وحسابه على الله. كما أن القرآن قد كرر القول مرارا بأن الرسل والأنبياء كانوا جميعا بشرا من البشر، فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون وينجبون ويَغْشَوْن الأسواق، ثم فى النهاية يموتون. إذن فلا خلاف مع محمد أسد فى هذا البتة، إلا أنه لا يتوقف عند هذا الحد، بل دائما ما يجعل إشارته إلى بشرية الرسل والأنبياء منطلقا للقول بأنهم، أيضا مثل سائر البشر، معرضون للخطإ كلما سنحت الفرصة. ويبدو لى بقوة أن أبواب الأخطاء كلها مفتوحة عنده أمامهم مثل أى إنسان آخر.
فعلى سبيل المثال يقول، عند تعليقه على قوله تعالى: "وما أرسلنا مِنْ قَبْلِك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى أَلْقَى الشيطانُ فى أمنيّته، فينسخ الله ما يُلْقِى الشيطانُ ثم يُحْكِم الله آياتِه، والله عزيز حكيم"، إن إلقاء الشيطان فى أمنيّة النبى والرسول معناه ألا يكون هدفهما الأخذ بيد أمتهما فى معراج الرقى الروحى، بل إحراز القوة والتأثير الشخصى. ثم يمضى فيستشهد بقوله عز من قائل: "وكذلك جعلنا لكل نبى عدوًّا شياطينَ الإنس والجن"[1]دون أن يوضح صلة هذه الآية بما نحن فيه. أتُراه يريد أن يقول إن للشياطين من إنس وجن تأثيرا على الرسل والأنبياء حتى إنهم ليَحْرِفونهم عن مسارهم الذى حددته لهم السماء إلى التطلع لغايات شخصية؟ لكن أىُّ نبى أو رسول يا تُرَى استطاعت الشياطين أن توسوس له بوضع مطامحه فى القوة والنفوذ الشخصى فوق الغاية النبيلة التى انتدبه لها رب العزة والجلال؟ ها هو ذا القرآن الكريم بين أيدينا، وليس فيه شىء من ذلك على الإطلاق، أما إذا كان العهد القديم ينسب إلى أنبياء الله ورسله مثل هذه التطلعات وغيرها مما يشوه صورة النبوة ويلطخها فهذا ليس برهانا على صحة هذه الدعوى الخطيرة، لأن كتب اليهود مجرحة تجريحا شديدا حسبما ذكر القرآن فى أكثر من موضع، وكذلك حسبما أثبتت الدراسات النقدية التى تناولتها، سواء تلك التى قام بها علماء المسلمين أو علماء الغرب أنفسهم. وعلى أية حال فالذى يهمنا فى هذا المجال هو القرآن لأنه هو الذى يستند إليه أسد فى تقرير ما قال.
وفى كلمته التمهيدية التى يقدم بها لسورة "القصص" يقول إن "معظم قصة موسى فى تلك السورة تصور الجانب البشرى الخالص فى حياته، أو بتعبير آخر تصور الدوافع وألوان الحيرة والأخطاء التى تشكل جزءا من الطبيعة البشرية، وهو ما يبرزه القرآن إبرازا رغبة منه فى مقاومة أى ميل عند المتدينين إلى عَزْو أية صفات شبه إلهية إلى أحد من رسل الله". وبعد قليل يعقِّب على اقتتال المصرى والإسرائيلى وتدخّل موسى عليه السلام ووَكْزه للمصرى الوكزةَ التى قضت عليه دون قصد منه، فيقول إن "الآيتين 16-17 من هذه السورة تومئان إلى أن الإسرائيلى لا المصرى هو المخطئ. والظاهر أن موسى قد تقدم لمساعدة الإسرائيلى بدافع من الميل الغريزى نحو ابن جلدته دون اعتبار للصواب والخطإ فى هذه القضية، وإن كان قد تبين له أنه اجترح إثما فظيعا، لا بقتله إنسانا بريئا فقط رغم أنه قتلٌ غير مقصود، بل بإقامته تصرفه كذلك على أساس من التحيز العنصرى"[2].
وفى أحد الهوامش التى خصصها للتعليق على قصة يونس عليه السلام وإبَِاقه إلى الفُلْك المشحون حين لم يجد من قومه آذانا صاغية، نراه يختم كلامه بقوله إن الهدف من هذه القصة فى القرآن هو تفهيمنا أنه ما دام قد "خُلِق الإنسان ضعيفا" كما جاء فى سورة "النساء"، فإن الأنبياء أنفسهم غير محصَّنين ضد أى من ألوان الضعف المركوزة فى الفطرة البشرية. وهو ما يعنى بوضوح أنهم عليهم السلام يمكن أن يرتكبوا أى شىء مما يقع فيه البشر هانَ أو عَظُم. وقد كرر المعنى ذاته فى تفسيره لقوله جل جلاله مخاطبا نبيه محمدا عليه السلام: "ليغفرَ لك الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر"، إذ يؤكد أن الإنسان مهما ارتقى فى معراج الخُلُق وكان حميد السجايا فإنه عرضة للوقوع فى الخطإ بين الحين والحين، وأن الآية تشير من طرْفٍ خفىٍّ إلى أن التحرر من الأخطاء مقصور على الله سبحانه[3].(/1)
وفى ضوء هذا نستطيع أن نفهم قوله بصدد الحديث عن الخَصْمين اللذين تسوَّرا المحراب على داود عليه السلام وشكا أحدهما الآخر إليه بأنه طلب منه نعجته الوحيدة التى لا يملك سواها كى يضمها إلى قطيعه المكوَّن من تسع وتسعين نعجة...إلخ، إذ تساءل قائلا: هل الأنبياء معصومون من الذنوب والخطايا كما يقول علماء المسلمين القدامى أو لا؟ ثم يجيب بأن هؤلاء العلماء يذكرون أن داود قد أحب امرأة قائدة العسكرى أوريا ورسم خطة للتخلص منه لكى يخلو له وجه الزوجه، إذ أمر بأن يوضع فى مكان مكشوف على خط المواجهة مع الأعداء حيث قُتِل، وعندئذ تزوج داود المرأة وأنجب منها سليمان، وإن أنكروا فى ذات الوقت أن يكون قد زنى بها إنكارا شديدا. ومن الواضح هنا أيضا أن أسد مع عدم عصمة الأنبياء.
وهو يرى أن قوله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: "ألم نشرح لك صدرك* ووضعنا عنك وِزْرك* الذى أنقض ظهرك* ...؟" يشير بكل وضوح إلى الأخطاء التى اقترفها عليه السلام قبل البعثة. ولكن أية أخطاء يا ترى تلك التى اقترفها النبى آنذاك؟ هنا يسكت أسد. ولست أوافقه على أن معنى "الوزر" فى الآيات الكريمة أخطاء ارتكبها الرسول فى الجاهلية، إذ لو كان الأمر كذلك فلماذا تُنْقِض هذه الأخطاء ظهره، وهو لم يكن مكلفا آنئذ ولا آخذه الله عليها فى أى موضع من القرآن ولا اتخذها أحد من قومه تُكَأَةً للنيل من سمعته أو للتشويش على أخلاقه ونبوته؟ علاوة على أن مَنَّ الله عليه بشرح صدره وطمأنته إياه بأنه ما من عُسْر إلا ومعه يُسْر إنما يشير بالأحرى إلى ضيق صدره عليه السلام بشىء من قبيل فتور الوحى عليه فى أول الدعوة أو معاندة المشركين له أو ما إلى ذلك. أى أن الوزر هنا وزر نفسى لا أخلاقى. أما إذا كان المقصود بشرح الصدر دلالته المادية بمعنى شقه واستخراج نصيب الشيطان منه وغسله بالثلج أثناء طفولته الأولى فى بادية بنى سعد كما جاء فى بعض الروايات، فإن ذلك ينسف ما قاله محمد أسد عن الرسول من أساسه، إذ معناه أنه عليه السلام قد أصبح محميا تماما من الوقوع فى الذنوب والآثام.
وعلى أية حال فإنه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون قد وقعت منه أخطاء مما يتحدث عنها الكاتب، وإلا لاتخذها المشركون حين جاءهم بالدين الجديد سلاحا من أسلحة الحرب النفسية التى شنوها عليه منذ اللحظة الأولى. ترى لو كانت هناك أخطاء من ذلك النوع أكانوا يتركونها ويتهمونه بما يعلمون هم قبل غيرهم أنه باطل، وهو أنه ساحر ومجنون وكذاب ويكتتب قصصه عن الأنبياء السابقين وأممهم من بعض الرقيق المكى من أهل الكتاب؟ أيعقل أن يكون فى يد إنسان عُمْلة سليمة فيلقى بها فى عُرْض الطريق ويتخذ بدلا منها نقودا زُيُوفا؟ ترى لو كان النبى عليه السلام قد زنى أو حتى قبَّل امرأة مجرد تقبيل أو شَرِب الخمر أو لَعِب المَيْسِر أو تابع قومه فى عبادة الأصنام أو التضحية لها أو عُرِف عنه الكذب مثلا، أكان قومه يسكتون عن ذلك؟ إن كل ما قالوه فى بشريته لا يتعدى إنكارهم عليه أنه كان يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق وأن له زوجا وذرية، إذ كانوا يريدونه مَلَكًا لا بشرا، وهذا كل ما هنالك، فهل يصح أن يقول مسلم فى الرسول ما لم يقله المشركون؟
ولْيلاحظ القارئ أننى قد تجنبت الخوض فى الجدال النظرى البحت حول عصمته صلى الله عليه وسلم وسلكتُ، بدلا من ذلك، المنهجَ التاريخى والنفسى واستنطقتُ النصوص ذاتها فلم يصادفنا، لا فيما وصلنا عن سيرته ولا فى الآيات التى تحدثتْ عنه أو إليه، أىٌّ من تلك الذنوب المزعومة. ثم هل كان من الممكن أن يصفه القرآن رغم ذلك بأنه "على خُلُقٍ عظيم" كما جاء فى الآية الخامسة من سورة "القلم"؟
كذلك لو كان داود عليه السلام قد صنع بأوريا هذا الذى ادُّعِىَ عليه أكان الله سبحانه تارِكَه دون مؤاخذة، وهو الذى عرَّض يونسَ عليه السلام لتلك التجربة المرعبة المؤلمة، تجربة ابتلاع الحوت له وبقائه فى بطنه أياما وليالى، لمجرد غضبه من قومه وإباقه إلى الفلك المشحون بسبب صلابة رقابهم ولجاجهم فى الكفر والطغيان؟ إن التآمر على قتل إنسان برىء طمعا فى زوجته الجميلة ليس بالأمر الهين الذى يمكن أن تُعَدِّىَ عنه السماء بمثل هذه البساطة، وإلا فالعفاء على الأخلاق بل على النبوة ذاتها! والمضحك فى الأمر أن من قبلوا من علماء المسلمين على داود هذه الدعوى السخيفة بل المجرمة كانوا حرصاء فى ذات الوقت على أن يبرئوه من تهمة الزنا، وكأن قتل الأبرياء بدم بارد وتخطيط مسبق ودون خالجة من ضمير ليس بشىء بجانب هذه التهمة!(/2)
إن القصة القرآنية تقول إن الأخ الغنى لم يأخذ من أخيه الفقير نعجته فعلا، بل كل ما فى الأمر أنه سأله ضمَّها إلى نعاجه. فهذا كل ما هنالك، وإذن فلو أن هذين الخصمين ملاكان أرسلهما الله إلى داود، كما جاء فى بعض كتب التفاسير، لينبهاه على سبيل التلميح إلى الجريمة التى ارتكبها، فأى جدوى من هذا التصرف ما دام قد سبق السيفُ العَذَل وتمت الجريمة ولم يعد من سبيل لتداركها؟ إن هذا عبث لا تليق نسبته إلى المولى عز وجل، الذى كان قادرا على أن ينبه نبيه فى هذه الحالة تنبيها مباشرا يمنع الجريمة قبل وقوعها بدلا من تركه يقترفها ثم عتابه له بعد فوات الأوان؟ ثم إذا كان الأنبياء يمكن أن يجترحوا جريمة القتل والتآمر على هذا النحو، فما الفرق بينهم إذن وبين عتاة المجرمين؟ إن الإنسان العادىّ لا ينحط إلى هذه الدركة، فكيف يَتَدَهْدَى إلى مثلها الأنبياء والمرسلون، الذين اصطفاهم الله على سائر خلقه وصنعهم على عينه وجعلهم من الأخيار أُولِى الأيدى والأبصار وزودهم بالحكمة والتقوى على أحسن حال؟ وفضلا عن ذلك فالقرآن نفسه يقول عن داود عليه السلام فى سورة "ص" ذاتها: "وإن له عندنا لَزُلْفَى وحُسْنَ مآب"، فكيف يمدحه الله سبحانه هذا المديح العظيم ويأتى بعضنا فيتهموه تلك التهمة الشنيعة جريا وراء اليهود الملاعين الذين لم يتركوا نبيا ولا رسولا إلا افترَوْا عليه أشنع ضروب البهتان فى كتبهم؟ أنكذِّب القرآن ونصدق العهد القديم؟ كذلك فالآية التى تلى قصة الخصمين تحضّه عليه السلام أن يحكم بين الناس بالحق ولا يتَّبع الهوى، وهو ما يرجِّح أن تكون القصة متعلقة بالتسرع فى الحكم لأحد المتخاصمين قبل الاستماع إلى الطرف الآخر، لا بمسألة أوريا وزوجته. ولو افترضنا بعد هذا كله أن لهذه القصة ظلا من الحقيقة، ولا إخال، فإن أقصى ما يمكن قوله هو أن داود ربما سمع مثلا بجمال زوجة قائده فحدثته نفسه قائلة: لماذا لم يُكْتَب له أن يرى تلك المرأة قبل أن يتزوجها أوريا فيتخذها هو لنفسه زوجة؟
أما يونس فأىُّ خطإٍ ارتكبه حين ضاق صدره بعد إذ رأى من قومه لَدَدًا فى الكفر وتماديا فى العناد والإنكار فتركهم ومضى على وجهه؟ إن هذه ليست سُبَّة أخلاقية، لا ولا هى تهاون فى تأدية الواجب. وكل ما يمكن التعليق به على تصرفه ذاك هو أن الله لم يأذن له بهجرة قومه، وإلا فإن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم قد ترك هو أيضا بلده إلى بلد آخر رجاء أن يكون حظ الدعوة فيه أحسن، لكنه مع ذلك لم يُقْدِم على هذه الخطوة إلا بعد إذن الله له.
ونأتى إلى وَكْزَة موسى، التى ينبغى ألا يفوتنا أنها كانت قبل النبوة وكانت مجرد وَكْزَة أراد بها عليه السلام أن يدفع العدوان أو ما ظنه عدوانا على ابن جلدته فى بلدٍ كان الاضطهاد والعسف يتناوشان بنى إسرائليل فيه لا لشىء إلا لضعفهم وهوانهم وقلة حيلتهم آنئذ، لكن كانت للأقدار مشيئة أخرى، إذ مات المصرى بسببها. وأغلب الظن أنها كانت "القشة التى قصمت ظهر البعير". أى أن أسباب الموت كانت مهيَّأة لطَىّ صفحة ذلك الرجل من الوجود، كأن يكون مصابا بأزمة قلبية مثلا أو تكون الوكزة قد أفقدته توازنه فسقط دماغه على أرض حجرية...إلخ، فجاء وَكْز موسى فى ذلك الوقت مصادفة واتفاقا ليكون هو العامل الظاهرى الذى أودى بحياته. ولنلاحظ أن موسى قد أنَّبه ضميره على الفور ولذَّعه تلذيعا، فأخذ يستغفر ربه ويبتهل إليه نادما أشد الندم رغم أنها ليست سقطة أخلاقية كما قلنا.
ورغم كل ما أبدأ فيه محمد أسد وأعاد فإنه هو نفسه، فى حديثه عن عبوس رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتاه ابن أم مكتوم يسأله فى بعض أمور دينه أثناء انشغاله بمحاولة إقناع بعض المشركين فى مكة لهدايتهم إلى الإسلام، يقول إن ما لا يزيد عن كونه مجرد هفوة تافهة من أى إنسان آخر فى مثل هذه المسألة المتعلقة بالمجاملات الاجتماعية يُعَدّ مع ذلك فى حق الأنبياء ذنبا عظيما يستوجب العتاب. ثم يمضى قائلا إن معاتبة القرآن للرسول على مسمع من الدنيا كلها على ذلك النحو إنما هو دليل على أنه تنزيل من رب العالمين وأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى. وهذا هو الذى أتفق فيه مع محمد أسد، وهو هو نفسه ما صاغه علماؤنا القدامى رضى الله عنهم عندما قالوا: "حسنات الأبرار سيئات المقربين".(/3)
هذا، وقد صدرت عن قلم الكاتب عبارة مهمة لا أدرى كيف لم يستصحبها دائما معه بدلا من هذا الإلحاح المستمر على فكرة الضعف البشرى الأخلاقى الذى لا يفلت منه الرسل والأنبياء وإمكان وقوعهم فى أى ذنب من الذنوب التى يقترفها البشر، ألا وهى قوله، بصدد التعليق على الآية التى تقول: "ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له. سُنَّةَ الله فى الذين خَلَوْا من قبل، وكان أمر الله قَدَرًا مقدورا"، إن الكلام هنا إنما يدور على الأنبياء الذين تتوافق فيهم جميعا، بما فيهم الرسول عليه السلام، رغائبهم الشخصية مع إسلامهم أنفسَهم إلى الله، وهو ذلك الانسجام الروحى والفطرى الذى يميز صفوة خلق الله وقدَرهم المقدور كما تقول خاتمة الآية. ترى أين كان ذلك الكلام الجميل من قبل؟ إن هذا هو أَحْجَى ما يقال عن أنبياء الله ورسله وأقربه إلى حديث القرآن المجيد عنهم، أما تصويرهم بصورة الضعفاء المهتزين الذين لا يتمالكون أنفسهم من الوقوع فى أى من الذنوب والآثام بمجرد تهيؤ الدواعى لذلك فلا ينسجم مع القرآن، الذى يرفع الرسل والأنبياء مكانا عَلِيًّا ويُثْنِى عليهم أجزل الثناء ويرى فيهم نموذجا فذا لا يُطال رغم بشريتهم التى يؤكدها فى ذات الوقت، بل ينسجم مع اتجاه العهد القديم، الذى ينسب إليهم الزنا والقتل والدياثة ومقارفة الفاحشة مع المحارم والكذب والغدر والتحايل على الله والجلافة فى مخاطبته والإغضاء عن عبادة الأوثان فى بيوتهم...إلى آخر ما سوَّد به اليهودُ الملاعينُ صفحاتِ كتبهم التى يزعمون أنها وحى إلهى، ملطخين بذلك الصورَ النبيلة لتلك الصفوة من عباد الله.
وقد رجعتُ، بعد الفراغ من كتابة ما تقدم، إلى "الفِصَل فى المِلَل والأهواء والنِّحَل" لابن حزم لأسترجع ما قالت الفرق الإسلامية فى هذا الموضوع، فوجدته يذكر أنهم اختلفوا فى ذلك: فقالت طائفة إن الرسل عليهم السلام يعصون الله فى جميع الكبائر والصغائر عمدا حاشا الكذب فى التبليغ، بل إن بعض هؤلاء قد جوَّزوا عليهم الكفر أيضا، كما جوَّزوا أن يكون فى أمة محمد عليه السلام من هو أفضل منه. وفى رأى ابن حزم أن هذا كله كفر وشرك وردة عن الإسلام. وهناك من جوَّزوا عليهم الصغائر فقط بالعمد، أما الكبائر فلا. أما الذى تدين به أمة الإسلام من سنة ومعتزلة وخوارج وشيعة ونجارية (كما قال العلامة الأندلسى) فهو أنه لا يَجُوز البتةَ أن يقع من نبىٍّ معصيةٌ أصلا لا كبيرة ولا صغيرة. وهذا رأيه هو أيضا، وإن قال إنه قد تقع من الأنبياء الهفوة عن غير قصد، كما قد يقع منهم قَصْدُ الشىء يريدون به وجه الله تعالى والتقرب منه فيوافق خلافَ مراده عز وجل، إلا أنه تعالى لا يقرّهم على شىء من هذين الوجهين أصلا بل ينبههم على ذلك ويبيّنه، وربما عاتبهم عليه. وهذا الذى ذهب إليه ابن حزم هو نفسه ما وصلتُ إليه من تحليل النصوص القرآنية تقريبا، ويسعدنى أن ينسجم رأيى مع رأى هذا العلامة العظيم، وإن كنت لا أستطيع أن أُقْدِم على تكفير محمد أسد فى مثل هذا خشية أن يكون مخطئا فى اجتهاده لا يبغى إهانة الأنبياء أو التطاول عليهم والتحقير من شأنهم عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، ولكنى فى ذات الوقت لا أهضم وقوعه فى هذا الخطإ الأبلق.(/4)
وفى النهاية أود أن أضيف أننا لا نجد هذا الرأى الغريب لأسد فى الأنبياء فى الكتب التى تُرْجِمَتْ له إلى العربية. لقد لمس مثلا بشريةَ الرسول عليه الصلاة والسلام فى موضعين من كتابه "الطريق إلى الإسلام"، وهذا ما قاله فى الموضع الأول: "ومع ذلك فإنه (أى الرسول عليه السلام) لم يدَّع يوما إلا أنه بشر، ولم ينسب المسلمون إليه الألوهية قط كما فعل الكثيرون من أتباع الأنبياء الآخرين بعد وفاة نبيهم. والحق أن القرآن نفسه يزخر بالأقوال التى تؤكد إنسانية محمد: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل. أفإن مات أو قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم؟". وكذلك فإن القرآن الكريم قد دلل على عجز النبى المطلق تجاه العزة الإلهية بقوله تعالى: "قل: لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله. ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء. إنْ أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون". ولا ريب فى أن من حوله لم يحبوه مثل هذا الحب إلا لأنه لم يكن سوى بشر فحسب، ولأنه عاش كما يعيش سائر الناس: يتمتع بملذات الوجود البشرى ويعانى آلامه". وهو تقريبا نفس ما نقرؤه فى الموضع الثانى حيث يقول إنه عليه السلام كان "كائنا بشريا مليئا بالرغبات والدوافع الإنسانية وبوعى حياته الخاصة، وفى الوقت عينه أداة طيعة لتلقى رسالته"[4]. والنصان، رغم حرصهما على إبراز بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يتطرقان إلى مسألة العصمة النبوية، بل لانلمح فى عباراتهما ما يوحى بأن المؤلف كان يرى أنه عليه السلام عرضة للوقوع فى الذنوب والآثام كأى شخص عادى. فهل هذا دليل على أن فكره قد تطور بعد ذلك إلى القول بأن الأنبياء يذنبون ويأثمون كغيرهم من البشر؟ أم هل كانت هذه الفكرة من صلب عقيدته أوانذاك لكنها، لسبب أو لآخر، لم تَشُقّ طريقها إلى الظهور فى ذلك الكتاب؟
الهوامش:
[1] الأنعام/ 112.
[2] ص 591/ هـ 15.
[3] ص 785/ هـ 2 .
[4] محمد أسد/ الطريق إلى الإسلام/ ترجمة عفيف البعلبكى/ دار العلم للملايين/ 1981م/ 297، 303.(/5)
فكر محمد أسد كما لا يعرفه الكثيرون (3)
(ليو بولد فايس)
كما لا يعرفه الكثيرون (3)
موقفه من مسألة عصمة الأنبياء
د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
ومن القضايا ذات الأهمية الشديدة التى تناولها أسد فى ترجمته التفسيرية للقرآن الكريم بشريةُ الرسل ومدى انعكاسها على أخلاقهم وسلوكهم، فهو دائم الإشارة إلى هذه البشرية، وهى مما لا يُشَاحّ فيه أحد، إذ إن رسل الله وأنبياءه كانوا كلهم بشرا. هكذا تكلم التاريخ، أما إذا قال أصحاب بعض الأديان إن نبيهم إله أو ابن إله فهو كلام لا يؤبه به، وإن كان لكلٍّ أن يعتقد ما يشاء، وحسابه على الله. كما أن القرآن قد كرر القول مرارا بأن الرسل والأنبياء كانوا جميعا بشرا من البشر، فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون وينجبون ويَغْشَوْن الأسواق، ثم فى النهاية يموتون. إذن فلا خلاف مع محمد أسد فى هذا البتة، إلا أنه لا يتوقف عند هذا الحد، بل دائما ما يجعل إشارته إلى بشرية الرسل والأنبياء منطلقا للقول بأنهم، أيضا مثل سائر البشر، معرضون للخطإ كلما سنحت الفرصة. ويبدو لى بقوة أن أبواب الأخطاء كلها مفتوحة عنده أمامهم مثل أى إنسان آخر.
فعلى سبيل المثال يقول، عند تعليقه على قوله تعالى: "وما أرسلنا مِنْ قَبْلِك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى أَلْقَى الشيطانُ فى أمنيّته، فينسخ الله ما يُلْقِى الشيطانُ ثم يُحْكِم الله آياتِه، والله عزيز حكيم"، إن إلقاء الشيطان فى أمنيّة النبى والرسول معناه ألا يكون هدفهما الأخذ بيد أمتهما فى معراج الرقى الروحى، بل إحراز القوة والتأثير الشخصى. ثم يمضى فيستشهد بقوله عز من قائل: "وكذلك جعلنا لكل نبى عدوًّا شياطينَ الإنس والجن"[1]دون أن يوضح صلة هذه الآية بما نحن فيه. أتُراه يريد أن يقول إن للشياطين من إنس وجن تأثيرا على الرسل والأنبياء حتى إنهم ليَحْرِفونهم عن مسارهم الذى حددته لهم السماء إلى التطلع لغايات شخصية؟ لكن أىُّ نبى أو رسول يا تُرَى استطاعت الشياطين أن توسوس له بوضع مطامحه فى القوة والنفوذ الشخصى فوق الغاية النبيلة التى انتدبه لها رب العزة والجلال؟ ها هو ذا القرآن الكريم بين أيدينا، وليس فيه شىء من ذلك على الإطلاق، أما إذا كان العهد القديم ينسب إلى أنبياء الله ورسله مثل هذه التطلعات وغيرها مما يشوه صورة النبوة ويلطخها فهذا ليس برهانا على صحة هذه الدعوى الخطيرة، لأن كتب اليهود مجرحة تجريحا شديدا حسبما ذكر القرآن فى أكثر من موضع، وكذلك حسبما أثبتت الدراسات النقدية التى تناولتها، سواء تلك التى قام بها علماء المسلمين أو علماء الغرب أنفسهم. وعلى أية حال فالذى يهمنا فى هذا المجال هو القرآن لأنه هو الذى يستند إليه أسد فى تقرير ما قال.
وفى كلمته التمهيدية التى يقدم بها لسورة "القصص" يقول إن "معظم قصة موسى فى تلك السورة تصور الجانب البشرى الخالص فى حياته، أو بتعبير آخر تصور الدوافع وألوان الحيرة والأخطاء التى تشكل جزءا من الطبيعة البشرية، وهو ما يبرزه القرآن إبرازا رغبة منه فى مقاومة أى ميل عند المتدينين إلى عَزْو أية صفات شبه إلهية إلى أحد من رسل الله". وبعد قليل يعقِّب على اقتتال المصرى والإسرائيلى وتدخّل موسى عليه السلام ووَكْزه للمصرى الوكزةَ التى قضت عليه دون قصد منه، فيقول إن "الآيتين 16-17 من هذه السورة تومئان إلى أن الإسرائيلى لا المصرى هو المخطئ. والظاهر أن موسى قد تقدم لمساعدة الإسرائيلى بدافع من الميل الغريزى نحو ابن جلدته دون اعتبار للصواب والخطإ فى هذه القضية، وإن كان قد تبين له أنه اجترح إثما فظيعا، لا بقتله إنسانا بريئا فقط رغم أنه قتلٌ غير مقصود، بل بإقامته تصرفه كذلك على أساس من التحيز العنصرى"[2].
وفى أحد الهوامش التى خصصها للتعليق على قصة يونس عليه السلام وإبَِاقه إلى الفُلْك المشحون حين لم يجد من قومه آذانا صاغية، نراه يختم كلامه بقوله إن الهدف من هذه القصة فى القرآن هو تفهيمنا أنه ما دام قد "خُلِق الإنسان ضعيفا" كما جاء فى سورة "النساء"، فإن الأنبياء أنفسهم غير محصَّنين ضد أى من ألوان الضعف المركوزة فى الفطرة البشرية. وهو ما يعنى بوضوح أنهم عليهم السلام يمكن أن يرتكبوا أى شىء مما يقع فيه البشر هانَ أو عَظُم. وقد كرر المعنى ذاته فى تفسيره لقوله جل جلاله مخاطبا نبيه محمدا عليه السلام: "ليغفرَ لك الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر"، إذ يؤكد أن الإنسان مهما ارتقى فى معراج الخُلُق وكان حميد السجايا فإنه عرضة للوقوع فى الخطإ بين الحين والحين، وأن الآية تشير من طرْفٍ خفىٍّ إلى أن التحرر من الأخطاء مقصور على الله سبحانه[3].(/1)