وكان صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال: "أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . اللهم إني أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها. رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر. رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر. وإذا أصبح قال ذلك أيضاً"()
وكان إذا رأى ما يحب قال: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى ما يكره قال: الحمد لله على كل حال().
وكان صلى الله عليه وسلم إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر يقول: الحمد لله ثم يقول "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا منقلبون" ثم يقول : الحمد لله ثلاثاً والله أكبر ثلاثاً ، ..."()
وقال صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض والصلاة نور والصدقة برهان، والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبايع لنفسه فمعتقها أو موبقها".
وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نحمد الله على نعمه وآلائه إذا رأينا من ابتلي فقد خرج الترمذي وابن ماجه وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى صاحب بلاء فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً. إلا عوفي من ذلك البلاء كائناً ما كان ما عاش"().
وفي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من تعار من الليل فقال: لا إله إلى الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: اللهم اغفر لي ، أو دعا، استجيب. فإن توضأ قبلت صلاته" (وكان يقول إذا استيقظ الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)()
وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: "اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض. ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك حق، والجنة حق والنار حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت"() .
وحين اشتكى إليه فقراء الصحابة قائلين: ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضل أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون، قال: "أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم" قالوا: بلى يا رسول الله : قال "تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة"()
ولما جاءت فاطمة بنت رسول الله تطلبه خادماً يساعدها على تكاليف الحياة وأعبائها قال لها ولزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنهما "ألا أعلمكما خيراً مما سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما أن تكبرا الله أربعاً وثلاثين وتسبحاه ثلاثاً وثلاثين وتحمداه ثلاثاً وثلاثين ، فهو خير لكما من خادم"() .
وجاء في الترمذي وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان ، وأن غراسها سبحان الله والحمد ولا إله إلا الله والله أكبر"()
وفي الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك"().
وهكذا هي حياة المؤمنين الصادقين مع ربهم لا ينسونه قد ملئت قلوبهم بحبه وعظمته وجلاله ألسنتهم رطبة بذكر الله. لا يأنسون إلا في كنفه وجواره ولا تطمئن قلوبهم إلا بذكره وعبادته ? الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ?[ الرعد:28].
ومن حرص على هذه الأذكار في ليله ونهاره كان من الحامدين لربه والذاكرين له. فاحرصوا رحمكم الله على ذلك وإياكم والغفلة ولا تكثروا الكلام بغير الله فتقسوا قلوبكم.
الخطبة الثانية:
تتعرض الأمة الإسلامية اليوم إلى فتن عظيمة وتواجه تحديات خطيرة تعصف بها تلك الفتن والتحديات وتزلزل النفوس زلزالاً شديداً فأما المؤمنون الصادقون فيقولون هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً.(/2)
وأما المنافقون والذين في قلوبهم مرض فسرعان ما يرتدون وينسلخون عن دينهم كما تنسلخ الحية من قشرتها فيجبنون ويخافون ويظنون بالله ظن الجاهلية، ويقولون ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً.
ومما يعين المؤمن على الثبات على الحق والصبر عليه : معرفته بطبيعة المعركة وحقيقة الصراع .. فإن الصراع هو بين الحق والباطل بين الإسلام والشرك والكفر ولقد كان الكفار يخادعون المسلمين في حربهم للإسلام لكنهم اليوم قد كشفوا عن حقيقتهم التي طالما أخفوها إنهم يريدون القضاء على الإسلام والمسلمين جميعاً لا فرق عندهم بين شخص وشخص ولا بين جماعة وجماعة ولا بين حزب وحزب ولا بين دولة ودولة. الكل عندهم يستحقون القتل والإبادة.. ولقد نبأنا الله من أخبارهم وأبان لنا عن طبيعة عداوتهم وحقيقة أمرهم في آيات بينات كقوله سبحانه ? وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى... ?[ البقرة:120]. وكقوله: ?... وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ... ?[ البقرة:217].
? كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ?[التوبة:8]. ، ? ِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ?[الممتحنة:2].
فإن معرفة المسلم بحقيقة أعدائه تجعله باستمرار حذراً متنبهاً لمكائدهم ساعياً في كشفها وإبطالها.
وهذا يقتضي من المسلمين جميعاً أن يتوحدوا ويكونون يداً على من سواهم ، ولابد كذلك من معرفة زيف الباطل وطبيعته ، وأن الكفار ليسوا على شيء فها نحن اليوم نرى إفلاس الكافرين في كل المجالات، ماذا يريد الكفار من البشر سوى إذلالهم ونهب خيراتهم والسيطرة على مقدراتهم.
أين العدل وأين الحق وأين الأخلاق وأين هي حقوق الإنسان التي طالما تشدقوا بها لا مكان لذلك كله في قاموس الكافرين ، إن البشرية تعيش شقاءً وإرهاقاً بسبب تسلط الكفار وهيمنة سياساتهم عليها إن الناس يتململون من هذا الواقع ويتطلعون إلى من يأخذ بأيديهم لإنقاذهم مما هم فيه من ظلم وظلام ، إن هذا الباطل يحمل بذور فنائه في طياته، ليس له من عناصر البقاء والاستمرار إلا ما يمتلك من آلة عسكرية يظن أنه سيحقق بها ما يريد.
ومن العوامل التي تثبت المسلم على إيمانه الثقة بنصر الله عز وجل وبوعده، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبث عوامل الثقة والنصر في نفوس أصحابه، وكان القرآن يتنزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه، والصحابة يعذبون يبشرهم بالنصر والتمكين وهزيمة المشركين، كما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قوله تعالى: ? سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ?[القمر: 45]. ، وتحقق هذا الوعد الصادق في أول لقاء بين الكفر والإيمان في موقعة بدر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان. فتمسكوا أيها الناس بدينكم وعضوا عليه بالنواجذ، وحذار حذار من الاستجابة للكافرين في التخلي عن ديننا وأخلاقنا وقيمنا وآدابنا التي أكرمنا الله بها . فلا بد من الصبر والمصابرة والثبات حتى نلقى الله وهو راضٍ عنا.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
سنن الترمذي3/341، حديث رقم: 1021، وحسنه الألباني.
سنن الترمذي 5/508، حديث رقم:3458
صحيح مسلم: باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب: الحديث رقم : (2734) عن أنس بن مالك.
سنن أبي داؤود: 2/394، حديث رقم: 3851، وصححه الألباني.
صحيح مسلم: باب فضل سبحان الله وبحمده: الحديث رقم: (2731) عن أبي ذر .
صحيح البخاري: باب: فضل ذكر الله عز وجل: الحديث رقم: (6045) عن أبي هريرة. وصحيح مسلم: باب: فضل مجالس الذكر، رقم:(2689) .
سنن أبي داؤود 2/ 738، حديث رقم:5073، وضعفه الألباني.
مسلم 4/2085، حديث رقم: 2715.
صحيح مسلم: باب التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل: الحديث رقم: (2723)عن عبدالله بن مسعود.
سنن ابن ماجة 2/1250، حديث رقم : 3803، وحسنه الألباني.
سنن أبي داؤود2/40، حديث رقم: 2602، وصححه الألباني.
صحيح مسلم: باب فضل الوضوء: الحديث رقم: (223) عن أبي مالك الأشعري .
سنن الترمذي 5/498، حديث رقم3431، وحسنه الألباني .
صحيح البخاري1/387، حديث رقم: 1103.
(15)ـ البخاري1/377، حديث رقم: 1069، ومسلم: 1/532، حديث رقم: 769.
صحيح مسلم: باب استحباب الذكر بعد الصلاة: الحديث رقم: (595) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .(/3)
( صحيح البخاري: باب: الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمساكين، وإيثار النبي صلى الله عليه وسلم أهل الصفة والأرامل، حين سألته فاطمة وشكت إليه الطحن والرحى: أن يخدمها من السبي، فوكلها إلى الله: الحديث رقم: (2945) ، وصحيح مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب: التسبيح أول النهار وعند النوم، رقم: (2727) .
سنن الترمذي5 /510، حديث رقم: 3462، وحسنه الألباني.
سنن الترمذي5/494، حديث رقم: 3433، وصححه الألباني .(/4)
فضل الذكر
بابٌ مختصر في أحرفٍ مما جاء في فضل الذكر غير مقيّدٍ بوقت
قال اللّه تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أكْبَرُ}[العنكبوت:45] وقال تعالى: {فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وقال تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحينَ لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الصّافّات:143] وقال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]. 1/1 وروينا في صحيحي إمامي المحدّثين: أبي عبد اللّه محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري الجعفي مولاهم، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القُشيري النيسابوري ـ رضي اللّه عنهما ـ بأسانيدهما، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، واسمه عبد الرحمن بن صخر على الأصح من نحو ثلاثين قولاً، وهو أكثر الصحابة حديثاً، قال: .قال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتانِ على اللِّسانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيزَانِ، حَبيبَتَانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظيمِ" وهذا الحديث آخر شيء في صحيح البخاري. 2/2 وروينا في صحيح مسلم، عن أبي ذرّ رضي اللّه عنه
قال: .قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "ألا أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الكَلامِ إلى اللَّهِ تَعالى؟ إِنَّ أحَبَّ الكَلام إلى اللَّه: سُبحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ، وفي رواية: سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أيّ الكلام أفضل؟ قال: "ما اصْطَفى اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ أوْ لعبادِهِ: سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ". 3/3 وروينا في صحيح مسلم أيضاً، عن سَمُرة بن جندب قال:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:" أحَبُّ الكَلامِ إلى اللَّهِ تَعالى أرْبَعٌ: سُبْحانَ اللَّهِ، والحَمْدُ لِلَّهِ، وََلاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، لا يَضُرّكَ بِأَيَّهِنَّ بَدأتَ". 4/4 وروينا في صح
يح مسلم، عن أبي مالك الأشعري رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، والحَمْدُ لِلِّهِ تَمْلأُ المِيزَانَ، وَسُبْحانَ اللَّه والحَمْدُ لِلِّهِ تَمْلآنِ، أَوْ تَمْلأُ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ". 5/5 وروينا فيه أيضاً، عن جُويريةَ أمّ المؤمنين رضي اللّه عنها، أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم خرج من عندها بُكرة حين صلَّى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى، وهي جالسة فيه، فقالَ
: %"مَا زِلْتِ اليَوْمَ عَلى الحالَةِ الَّتي فارَقْتُكِ عليها؟ قالت: نعم، فقال النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم: لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلماتٍ ثَلاثَ مَرَّاتٍ لَوْ وزِنَتْ بِما قُلْتِ مُنْذُ اليَوْمِ لَوَزَنَتُهُنَّ: سُبحانَ اللَّهِ وبِحمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، َوزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِماتِهِ" وفي رواية "سبحانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِماتِهِ". 6/6 وروينا في كتاب الترمذي، ولفظه: %"ألا أُعَلِّمُكِ كَلماتٍ تَقُولينَها: سُبْحانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِماتِهِ، سُبْحانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِماتِهِ، سُبْحانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِماتِهِ". 7/7 وروينا في صحيح مسلم أيضاً، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: %قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "لأَنْ أقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ، والحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِليَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ". 8/8 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي أيوب الأنصاري رضي اللّه عنه، %عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال:"مَنْ قَالَ لا إلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ على كُلّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، كانَ كَمَنْ أعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ". 9/9 وروينا في صحيحيهما، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه %(/1)
أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "مَنْ قَالَ لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ في يَوْمٍ مائَةَ مَرَّةٍ كانَتْ لَهُ عِدْلَ عَشْرِ رِقابٍ، وكُتِبَتْ لَهُ مئة حَسَنَةٍ، ومُحِيَتْ عَنْهُ مئةُ سَيِّئَةٍ، وكانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطانِ يَوْمَهُ ذلكَ حتَّى يُمْسيَ، ولَمْ يَأتِ أحَدٌ بأفْضَلَ مِمَّا جاءَ بِهِ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أكْثَرَ مِنْهُ. قال: ومَنْ قالَ سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ في اليَوْمِ مِئَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَاياهُ وإنْ كانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ". 10
/10 وروينا في كتابي الترمذي وابن ماجه، عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما قال: %سمعتُ رسولَ اللَّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: "أفْضَلُ الذّكْرِ لا إلهَ إلاّ اللَّهُ" قال الترمذي: حديث حسن. 11/11 وروينا في صحيح البخاري، عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه %عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: "مَثَلُ الَّذي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذي لا يَذْكُرُهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ". 12/12 وروينا في صحيح مسلم، عن سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه قال: %
جاءَ أَعْرَابيٌّ إلى رسول اللَّه صلى اللّه عليه وسلم وقال: "علِّمني كلاماً أقوله، قالَ: قُلْ: لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيراً، والحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيراً، وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ العالَمِينَ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ" قال: فهؤلاء لربي، فما لي؟ قال: قُل: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي وَارْحَمْنِي، وَاهْدِني وَارْزُقْنِي". 13/13 وروينا في صحيح مسلم، عن سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه قال: %"كنّا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: أيَعْجِزُ أحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ في يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَة؟ فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدُنَا ألف حسنة؟ قال: يُسَبِّحُ مئة تَسْبِيحَةٍ فَتُكْتَبُ لَهُ ألفُ حَسَنَةٍ، أَوْ
تُحَطُّ عَنْهُ ألْفُ خَطِيئَةٍ" قال الإِمام الحافظ أبو عبد اللّه الحميدي: كذا هو في كتاب مسلم في
جميع الروايات "أو تحط" قال البرقاني: ورواه شعبة وأبو عوانة ويحيى القطان عن موسى الذي رواه مسلم من جهته، فقالوا: "وتُحَط" بغير ألف. 14/14 وروينا في صحيح مسلم، عن أبي ذر رضي اللّه عنه %أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "يُصْبحُ على كُلّ سُلامَى مِنْ أحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وكُلّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بالمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيجْزِىءُ مِن ذلكَ ركْعَتانِ يَرْكَعُهُما منَ الضُّحَى" قلت: السلامى بضمّ السين وتخفيف اللام: هو العضو، وجمعه سلاميات بفتح الميم وتخفيف الياء. 15/15 وروينا في صحيحي
البخاري ومسلم، عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال: %قال لي النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: "ألا أدُّلُّكَ على كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَةِ؟ فقلت: بلى يا رسول اللّه! قال: قُل: لا حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ". 16/16 وروينا في سنن أبي داود والترمذي، عن سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه: %أنه دخل مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوىً أو حصىً تُسَبِّح به، فقال: "ألا أُخْبرُكِ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا أو أَفْضَلُ؟ فَقالَ: سُبْحانَ اللّه عَدَدَ مَا خَلَقَ في السَّماءِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ ما خَلَقَ في الأرْضِ، وسُبْحانَ اللَّهِ عَدَدَ ما بَيْنَ ذلكِ، وسُبحَانَ اللّه عَدَدَ ما هُوَ خالِقٌ، واللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذلكَ، والحَمْدُ لِلَّهِ مثْلَ ذلكَ، ولا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ مثْلَ ذلكَ، ولا حَوْلَ وَلا قُوَّة إلاَّ باللّه مِثْلَ ذَلكَ" قال الترمذي: حديث حسن. 17/17 وروينا فيهما، بإسناد حسن عن يسيرة ـ بضم الياء المثناة(/2)
تحت وفتح السين المهملة ـ الصحابية المهاجرة رضي اللّه عنها: %أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمرهنّ أن يُراعين بالتكبير والتقديس والتهليل، وأن يعقدن بالأنامل، فإنهنّ مسؤولات مستنطقات. 18/18 وروينا فيهما وفي سنن النسائي، بإسناد حسن، عن عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما قال: %رأيتُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعقد التسبيح. وفي رواية "بيمينه". 19/19 وروينا في سنن أبي داود، عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه %أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "مَنْ قَالَ رَضِيتُ باللّه رَبّاً، وبالإِسلام دِيناً، وبمُحَمَّدٍ صلى اللّه عليه وسلم رَسُولاً وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ". 20/20 وروينا في كتاب الترمذي، عن عبد اللّه بن بُسْر ـ بضم الباء الموحدة وإسكان السين المهملة ـ الصحابي رضي اللّه عنه: %أن رجلاً قال: يا رَسُول اللّه! إن شرائع الإِسلام قد كثرتْ عليّ فأخبرني بشيء أتشبث به، فقال: "لا يَزالُ لِسانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعالى". قال الترمذي: حديث حسن. قلت:
أتشبث بتاء مثناة فوق ثم شين معجمة ثم باء موحدة مفتوحات ثم ثاء مثلثة، ومعناه: أتعلَّقُ به وأستمسك. 21/21 وروينا فيه، عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه: %أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل: أيّ العبادة أفضل درجة عند اللّه تعالى يوم القيامة؟ قال: "الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيراً، قُلْتُ: يَا رَسُول اللّه! ومِن الغازي في سبيل اللّه عزّ وجلّ؟ قال: لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ في الكُفَّارِ والمُشْرِكِينَ حتَّى يَنْكَسِرَ ويختضب دماً لكان الذَّاكرون اللَّه أفضل منهُ درجةً". 22/22 وروينا فيه وفي كتاب ابن ماجه، عن أبي الدرداء رضي اللّه عنه قال: %قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "أَلا أُنْبِئُكُمْ بِخَيْرِ أعمالِكُمْ وَأزْكاها عنْدَ مَلِيكِكُمْ، وأرْفَعِها في دَرَجَاتِكُمُ، وخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْر مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ؟ قالوا: بلى، قال: ذِكْرُ اللَّهِ تَعالى". قال الحاكم أبو عبد اللّه في كتابه المستدرك على الصحيحين: هذا حديث صحيح الإِسناد. 23/23 وروينا في كتاب الترمذي، عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال: %قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
"لَقِيتُ إبْرَاهِيمَ صلى اللّه عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بي، فقالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَقْرىء أُمَّتَكَ السَّلامَ، وأخْبِرْهُمْ أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ، وأنها قِيعانٌ، وأنَّ غِرَاسَها: سُبْحَانَ اللَّه، والحَمْدُ لِلَّهِ، ولا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، واللَّهُ أَكْبَرُ" قال الترمذي: حديث حسن. 24/24 وروينا فيه، عن جابر رضي اللّه عنه %عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "مَنْ قالَ سُبْحانَ اللّه العظيم وبِحمْدِهِ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ في الجَنَّةِ" قال الترمذي: حديث حسن. 25/25 وروينا فيه، عن أبي ذرّ رضي اللّه عنه قال: قلت يا رسول اللّه! أيّ الكلام أحبّ إلى اللّه تعالى؟ قال: "ما اصْطَفى اللَّهُ تَعالى لمَلائِكَتِهِ: سُبْحانَ ربِّي وبِحَمْدِهِ، سُبْحانَ رَبي وبِحَمْدِهِ" قال الترمذي: حديث حسن صحيح(/3)
فضل الشام في الإسلام
خليل الصمادي
khsemadi@yahoo.com
الشام كلمة سريانية تعود إلى سام بن نوح الذي استوطن تلك البلاد بعد الطوفان. هذه الأرض تشمل اليوم سوريا (الأصل سيريا أي بلد السريان) و لبنان و فلسطين و الأردن. حكم الساميون الشام منذ عهد نوح إلى اليوم، و عرف عنهم شدة البأس في القتال و حب السفر و سرعة التعلم. و ظلت لغتهم السريانية -بفضل الآراميون و الفينيقيون- اللغة العالمية (أي كالإنكليزية اليوم) سبعة عشرة قرون من القرن السابع قبل الميلاد إلى القرن السابع الميلادي، و لا يعرف أية لغة أخرى دامت كل ذاك العهد. و اخترعوا لها أبجدية أصبحت أساس أبجديات العالم كله. و قد عرف عن أهل الشام تمسكهم الشديد بلغتهم السريانية حتى إذا جاء الإسلام رحبوا به بشدة و ساعدوا العرب ضد الروم، ثم أنهم تحولوا جميعاً إلى الإسلام في سنين قليلة و استبدلوا لغتهم السريانية بالغة العربية فسادت اللغة العربية على سائر اللغات الأخرى لعدة قرون. و من المشهور في التاريخ ما كان من الاستقبال الحافل الذي استقبل به أهلُ الشام عمرَ و ما كان من أن سموه "الفاروق" و هي كلمة سريانيةٌ تعني "المنقذ". لذلك وجد الإسلام بيئة خصبة في تلك المناطق خاصة بالشام حيث بلغت العصبية الإسلامية تحت حكم بني أمية ذروتها.
و لم يمض 26 سنة على فتح دمشق حتى أصبحت عاصمة للخلافة الإسلامية. و كان أهل الشام أشجع الناس في القتال و من حاز على ولائهم فاز فكانوا سبب سيادة بني أمية فذلك سبب قول علي (ر) لشيعته من الفرس و أهل العراق: "من فاز بكم فاز بالسهم الأخيب" و قوله "و الله! لوددت لو أني أقدر أن أصرفكم صرف الدينار بالدراهم عشرة منكم برجل من أهل الشام!". و لم ينجو بلد من الفتن التي تلت مقتل عثمان إلا الشام فكان ذلك قول رسول الله (ص): " ألا و إٍن الإيمان حين تقع الفتن بالشام". على أنه لمّا مات يزيد و رفض ابنه معاوية الثاني أن يستلم الحكم بايعت البلدان عبد الله بن الزبير (ر) حتى إذا مات معاوية و أتى من بعده مروان بن الحكم (ر) لم يبقى من البلدان أحد لم يبايع ابن الزبير (ر) إلا جزءً من الشام فالتقى جيش الشام مع جيش يفوقه أضعافاً مضاعفة قرب دمشق فانتصر أهل الشام و لم تمض إلا سنين قليلة حتى حكمو سائر الأقطار الإسلامية. ثم قاموا بالفتوحات العظيمة و امتدت دولتهم من غرب الصين إلى أواسط فرنسا (أي أكبر دولة شهدها التاريخ حتى ذلك الوقت) دون أن تضعف سيطرة الخلافة في دمشق على الأطراف و ظل الإسلام نقياً من الحركات الراغبة في تحريفه على أنه ما إن انهارت الدولة الأموية و بدأت الدولة العباسية حتى عادت العصبية الشعوبية و اشتدت و كثرت الحركات الهدامة كالزنادقة و الشعوبية و الرافضية …إلخ، و ضعفت الدولة و أخذت تتفتت حتى في زمن الخلفاء الأقوياء كالرشيد.
و قد خرج من الشام الكثير من الفقهاء و المحدثين الكبار أمثال عمر بن عبد العزيز و الإمام النووي و شيخ الإسلام ابن تيميّة و العلامة ابن كثير و كثيرٌ من أمثالهم. كما قد وعد الله تعالى و وعده الحق بأن طائفة من تلك الأمة باقية على الحق منتصرة في دمشق و القدس حتى مجيء الساعة و يسمون بالأبدال كلما مات منهم أحدٌ أبدله الله بآخر. و أخبرنا الحبيب المصطفى (عليه الصلاة و السلام) أن الخلافة ستعود إلى دمشق و سيحكم المهدي (محمد بن عبد الله) منها و يقود العرب للنصر على الروم في حرب ضروس عظيمة تسمى الملحمة الكبرى لم يشهد التاريخ مثلها أبداً. ثم ينزل المسيح (ع) على المنارة البيضاء شرقي دمشق فيكسر الصليب و يقتل المسيح الدجال (أي مهدي الروافض) و يدعو للإسلام فيؤمن له من في الأرض جميعاً. و لولا فضل الشام في الإسلام لما خصها الله بكل هذا.
و فيما يلي غيضٌ من فيضٍ فيما ورد عن الشام في الآيات و الأحاديث الشريفة:
قال أكثر المفسرين في قوله تعالى: {المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} أن البركة تشمل بلاد الشام بأكملها بدليل قول رسول الله (ص): "إن الله تعالى بارك ما بين العريش و الفرات و فلسطين، و خص فلسطين بالتقديس. "
(رواه ابن عساكر)
و قال كثير من المفسرين في قوله تعالى: {و التين و الزيتون و طور سينين و هذا البلد الأمين}؛ التين بلاد الشام (أي سوريا)، و الزيتون بلاد فلسطين {و طور سينين} الذي كلم الله موسى عليه، {و هذا البلد الأمين} مكة.
أما عن الأحاديث النبوية الشريفة فقد روى البخاري
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ و سَلَّمَ قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا.
و روى مسلم(/1)
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ و سَلَّمَ قَالَ: "… إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ"
و أغلب الظن أن هذه المنارة هي المنارة البيضاء في الجامع الأموي. و الحديث يؤكد على أن عاصمة المهدي ستكون في دمشق بإذن الله.
و روى أبو داوود
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ و سَلَّمَ قَالَ إِنَّ فُسْطَاطَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ بِالْغُوطَةِ إِلَى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا دِمَشْقُ مِنْ خَيْرِ مَدَائِنِ الشَّامِ. [و الغوطة هي البساتين المحيطة بدمشق]
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ مُهَاجَرَ إِبْرَاهِيمَ وَ يَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا تَلْفِظُهُمْ أَرْضُوهُمْ تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللَّهِ وَ تَحْشُرُهُمْ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَ الْخَنَازِيرِ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ سَيَصِيرُ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ تَكُونُوا جُنُودًا مُجَنَّدَةً جُنْدٌ بِالشَّامِ وَ جُنْدٌ بِالْيَمَنِ وَ جُنْدٌ بِالْعِرَاقِ قَالَ ابْنُ حَوَالَةَ خِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْكَ بِالشَّامِ فَإِنَّهَا خِيرَةُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ فَعَلَيْكُمْ بِيَمَنِكُمْ وَ اسْقُوا مِنْ غُدُرِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَوَكَّلَ لِي بِالشَّامِ وَ أَهْلِهِ.
و روى الترمذي
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ و سَلَّمَ إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلا خَيْرَ فِيكُمْ لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ.
و عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنْ الرِّقَاعِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ طُوبَى لِلشَّامِ فَقُلْنَا لأَيٍّ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لأَنَّ مَلائِكَةَ الرَّحْمَنِ بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيْهَا.
و روى الدارمي
عَنْ أَبِي فَرْوَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ كَيْفَ تَجِدُ نَعْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ فَقَالَ كَعْبٌ نَجِدُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُولَدُ بِمَكَّةَ وَ يُهَاجِرُ إِلَى طَابَةَ وَ يَكُونُ مُلْكُهُ بِالشَّامِ.
و يؤيد ذلك ما أخرجه أحمد عن أَبَا أُمَامَةَ قَالَ قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا كَانَ أَوَّلُ بَدْءِ أَمْرِكَ قَالَ دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهَا قُصُورُ الشَّامِ.
و أخرج ابن ماجة و الحاكم و صححه و ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: "إِذَا وَقَعَتِ الْمَلاحِمُ خرج بَعْثٌ مِنَ الْمَوَالِي من دِمَشْق هُمْ أَكْرَمُ الْعَرَبِ فَرَسًا وَ أَجْوَدُهُم سِلاحاً يُؤَيِّدُ اللَّهُ بِهِمُ هذا الدِّينَ".
و أخرج السيوطي و الطبراني أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ و سَلَّمَ قَال:
عَقْرُ دارِ الإسلامِ بالشام.
و أخرج أحمد في مسنده:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ و سَلَّمَ إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلا خَيْرَ فِيكُمْ وَ لا يَزَالُ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لا يُبَالُونَ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ يَرْفَعُ اللَّهُ قُلُوبَ أَقْوَامٍ فَيُقَاتِلُونَهُمْ وَ يَرْزُقُهُمُ اللَّهُ مِنْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَ هُمْ عَلَى ذَلِكَ أَلا إِنَّ عُقْرَ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ وَ الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.(/2)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ حَوَالَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ و سَلَّمَ قَالَ سَيَكُونُ جُنْدٌ بِالشَّامِ وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ فَقَالَ رَجُلٌ فَخِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ و سَلَّمَ عَلَيْكَ بِالشَّامِ عَلَيْكَ بِالشَّامِ ثَلاثًا عَلَيْكَ بِالشَّامِ فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ وَ لْيَسْقِ مِنْ غُدُرِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَ أَهْلِهِ قَالَ أَبُو النَّضْرِ مَرَّتَيْنِ فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ.
ذُكِرَ أَهْلُ الشَّامِ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَ هُوَ بِالْعِرَاقِ فَقَالُوا الْعَنْهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ لا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ الْأَبْدَالُ يَكُونُونَ بِالشَّامِ وَ هُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ رَجُلاًً يُسْقَى بِهِمْ الْغَيْثُ وَ يُنْتَصَرُ بِهِمْ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَ يُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ بِهِمْ الْعَذَابُ.
و في سند هذا الحديث ضعف. و قد سألت عنه محدث الشام الشيخ عبد القادر الأرنؤوط فأخبرني أنه ليس للأبدال عدد محدد و إنما لا يعلم عددهم إلا الله.
وأخرج أحمد أيضاً:
أَنَّ أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ خِدْمَتِهِ آوَى إِلَى الْمَسْجِدِ فَكَانَ هُوَ بَيْتُهُ يَضْطَجِعُ فِيهِ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ الْمَسْجِدَ لَيْلَةً فَوَجَدَ أَبَا ذَرٍّ نَائِمًا مُنْجَدِلاً فِي الْمَسْجِدِ فَنَكَتَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ و سَلَّمَ بِرِجْلِهِ حَتَّى اسْتَوَى جَالِسًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ و سَلَّمَ أَلا أَرَاكَ نَائِمًا قَالَ أَبُو ذَرٍّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ أَنَامُ هَلْ لِي مِنْ بَيْتٍ غَيْرُهُ فَجَلَسَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ و سَلَّمَ فَقَالَ لَهُ كَيْفَ أَنْتَ إِذَا أَخْرَجُوكَ مِنْهُ قَالَ إِذَنْ أَلْحَقَ بِالشَّامِ فَإِنَّ الشَّامَ أَرْضُ الْهِجْرَةِ وَأَرْضُ الْمَحْشَرِ وَأَرْضُ الْأَنْبِيَاءِ فَأَكُونُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِهَا قَالَ لَهُ كَيْفَ أَنْتَ إِذَا أَخْرَجُوكَ مِنَ الشَّامِ قَالَ إِذَنْ أَرْجِعَ إِلَيْهِ فَيَكُونَ هُوَ بَيْتِي وَمَنْزِلِي قَالَ لَهُ كَيْفَ أَنْتَ إِذَا أَخْرَجُوكَ مِنْهُ الثَّانِيَةَ قَالَ إِذَنْ آخُذَ سَيْفِي فَأُقَاتِلَ عَنِّي حَتَّى أَمُوتَ قَالَ فَكَشَّرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ و سَلَّمَ فَأَثْبَتَهُ بِيَدِهِ قَالَ أَدُلُّكَ عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ قَالَ بَلَى بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ و سَلَّمَ تَنْقَادُ لَهُمْ حَيْثُ قَادُوكَ وَتَنْسَاقُ لَهُمْ حَيْثُ سَاقُوكَ حَتَّى تَلْقَانِي وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ.
[الشام أرض المحشر والمنشر: أي البقعة التي يجمع الناس فيها إلى الحساب، و ينشرون من قبورهم ثم يساقون إليها، و خصت بذلك لأنها الأرض التي قال الله فيها {باركنا فيها للعالمين}، وأكثر الأنبياء بعثوا منها فانتشرت في العالمين شرائعهم، فناسب كونها أرض المحشر و المنشر]
عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا أنا نائم رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي فظننت أنه مذهوب به فأتبعته بصري فعمد به إلى الشام ألا و إن الإيمان -حين تقع الفتن- بالشام.
رواه أحمد و الطبراني و رجال أحمد رجال الصحيح.
و قد حض رسول الله (ص) أصحابه على الهجرة للشام رغم علمه بكراهيتهم للسكن بها لأن العرب كانت تأنف الزراعة و تحب الرعي، و الشام أرض زراعة و صناعة فكان مما قال:
عليك بالشام؛ هل تدرون ما يقول الله؟ يا شام! يدي عليك، يا شام! أنت صفوتي من بلادي، أدخل فيك خيرتي من عبادي، أنت سيف نقمتي و سوط عذابي، أنت الأنذر و إليك المحشر، و رأيت ليلة أسري بي عمودا أبيض كأنه لؤلؤة تحمله الملائكة؛ قلت: ما تحملون؟ قالوا: عمود الإسلام، أمرنا أن نضعه بالشام، و بينا أنا نائم رأيت كتابا اختلس من تحت وسادتي فظننت أن الله تخلى من أهل الأرض فأتبعته بصري فإذا هو نور ساطع بين يدي حتى وضع بالشام، فمن أبى أن يلحق بالشام فليلحق بيمنه [أي بلاد اليمن] و ليسق من غُدُرِهِ، فإن الله قد تكفل لي بالشام و أهله.(/3)
إنها ستفتح الشام فعليكم بمدينة يقال لها دمشق، فإنها خير مدائن الشام و هي مقيل المسلمين من الملاحم، و فسطاط المسلمين بأرض فيها يقال لها الغوطة [الغوطة هي البساتين المحيطة بدمشق]، و معقلهم من الدجال بيت المقدس، و معقلهم من يأجوج و مأجوج الطور.
و يقول علي (ر) لشيعته من أهل العراق: و الله! لوددت لو أني أقدر أن أصرفكم صرف الدينار بالدراهم عشرة منكم برجل من أهل الشام! فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين! أنا و إياك كما قال الأعشى:
علقتها عرضا و علقت رجلا * غيري و علق أخرى غيرها الرجل
و أنت أيها الرجل علقنا بحبك و علقت أنت بأهل الشام و علق أهل الشام بمعاوية.(/4)
فضل الصحابة - أبو بكر الصديق رضي الله عنه
عبدالملك القاسم
دار القاسم ...
الحمد لله الذي فضل من شاء من عباده، ورفع في الجنة منازل أحبابه، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فإن قراءة سيرة الصحابة والإقتداء بهم، نهجٌ غفل عنه البعض وطواه النسيان عند آخرين. ومعرفة سيرتهم وفضائلهم سببٌ لمحبتهم وتقرب إلى الله بذلك، وقد قال الرسول وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً أنه قال: { خير القرون: القرن الذي جئت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم } [رواه مسلم]. ومن أفضل الصحابة وأجلهم وأكثرهم نفعاً للأمة، الخلفاء الراشدون: أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي اللّه عنهم أجمعين.
وسنتحدث بإيجاز سريع عن الخليفة الأول:
أبوبكر الصديق رضي الله عنه
هو عبدالله بن عثمان بن عامر بن كعب، ويجتمع مع النبي بالصديق، فعن أنس بن مالك أُحداً ومعه أبوبكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال: { اثبت أحداً، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان } [رواه مسلم].
وأبوبكر : { إن من أمنِّ الناس عليَّ في صحبته وذات يده أبوبكر } [رواه الترمذي]. وكان رسول الله قال: قال رسول الله قال: ( أمرنا رسول الله : { ما أبقيت لأهلك؟ } فقلت: مثله، وأتى أبوبكر بكل ما عنده، فقال: { يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟ } قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقه إلى شيء أبداً ).
وكانت أحب نساء الرسول من حين بعثه الله إلى أن مات، فقد صحبه في أشد أوقات الصحبة، ولم يسبقه أحد فيها، فقد هاجر معه واختبأ معه في الغار قال الله تعالى: [التوبة:40]، والصديق وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ، ولم يَسُؤهُ قط، وهو أفضل الأمة بعد النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وهو أول من يدخل الجنة، كما روى أبوداود في سننه أن النبي .. وتأمل في خصال اجتمعت فيه في يوم واحد: قال رسول الله أن يكون مع الرسول ثاني اثنين في الإسلام، فقد كتب له أن يكون ثاني اثنين في غار ثور، وأن يكون ثاني اثنين في العريش الذي نُصب للرسول بالخلافة، وقد كان أمر وفاة الرسول إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ بعد أخذ البيعة قال: ( أيها الناس، إني قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويٌ عندي حتى آخذ الحق له إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل اللّه إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيتُ الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم ).
وهي خطبة شاملة جامعة أتبعها بالعمل لخدمة هذا الدين ونشره، فأنفذ جيش أسامة بن زيد، وبلغ من تكريم أبي بكر لهذا الجيش الذي جهزه الرسول موقفاً لا هوادة فيه ولا ليونة، وقال كلمته المشهورة: ( والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها ). ولما يسر الله عز وجل القضاء على المرتدين انطلقت عينا أبي بكر خارج الجزيرة العربية؛ رغبة في نشر هذا الدين وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فوجَّه الجيوش إلى الجهاد في أرض فارس والروم، وجعل على قائد جبهة الفرس خالد بن الوليد رضي الله عنه، وعلى قائد جبهة الروم أبوعبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه. وكانت أولى المواقع العظيمة موقعة اليرموك التي فتح الله فيها للمسلمين أرض الروم وما وراءها.
ومن أجلِّ أعمال أبي بكر وتوفي في جمادى الآخر سنة 13هـ ودفن بجوار الرسول ، وكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر، وعهد للخلافة من بعده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
اللهم ارض عن أبي بكر، واجزه الجزاء الأوفى؛ جزاء ما قدم للإسلام والمسلمين.(/1)
فضل الصدقة [1]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فهذه أحاديث تربوية في الإنفاق في سبيل الله تعالى لرفع مستوى المسلمين وإنقاذهم مما يمر بهم من حاجات ونكبات , ومما جاء في فضل الصدقة في سبيل الله جل وعلا ما أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ماتصدق أحد بصدقة من طيِّب ولايقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة , فتربُو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل , كما يربِّي أحدكم فَلُوَّه أو فصيله" ([1]) .
وهكذا يتضاعف الأجر للإنسان على إنفاقه مالَه في سبيل الله تعالى أضعافًا كثيرة في الآخرة, فلو نظر الإنسان إلى مشروع تجاري يدفع فيه قليلا من المال ثم يحصل بعد ذلك على الكثير بشكل مضمون لكان كل عاقل يسعى إلى المشاركة في ذلك المشروع, مع أنه كسب دنيوي في حياة قليلة الأمد لا يعرف الإنسان مدة بقائه فيها , فكيف إذا كان الغرض لدفع مبلغ من المال من أجل الله سبحانه لمواساة المحتاجين وكشف الضرر عن المتضررين في مقابل الحصول على أضعاف مضاعفة في دار خلود نعيمها لايمكن تصور عظمته وجلاله ؟
ويبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل المنفقين في سبيل الله تعالى بقوله " الأيدي ثلاثة , فيد الله العليا ويد المعطي التي تليها , ويد السائل السفلى , فأعطِ الفضل ولاتَعْجز عن نفسك" أخرجه أبو داود رحمه الله تعالى من حديث مالك بن نضلة الجشمي رضي الله عنه ([2]) .
فهذا الحديث فيه إشادة كبيرة بالمتصدقين حيث رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلتهم وشرَّفهم بالذكر مع الله تعالى .
وإنما جاز المتصدق تلك الدرجة العالية في الآخرة لأنه قد استعلى على نفسه في الدنيا فكبح جماحها وألزمها إنفاق المال وهي تحب إمساكه , فكان جديرا بالرفعة والتقدم .
أما السائل فإن يده هي السفلى لأنه تحوَّل نحو الاتجاه الآخر , فهناك نقطة يبدأ منها العلو, وفي درجات هذا العلو يسمو المتصدقون على قدر إخلاصهم وبذلهم , وهناك نقطة يبدأ منها السفول, فإذا توجه الإنسان نحو السؤال فإنه يكون قد توجه نحو الانحدار إلى الأسفل فَعَمَلُ السائل والمتصدق متناقضان , فالسائل يأخذ والمتصدق يعطي , فلهذا صارت عاقبتهما التناقض, حيث صار المتصدق في العلو وصار السائل في السفل .
ثم جاء توجيه النبي صلى الله عليه وسلم للمسلم بأن يعطي ما زاد عن حاجته من ماله لمن هم بحاجة إليه من المسلمين وحيث إن إخراج المال يحتاج إلى مجاهدة مع النفس التي تميل نحو إمساك المال والاعتزاز به فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوجه المسلم إلى العزم الأكيد نحو الصدقة , والحزم الشديد في مقاومة رغبات النفس وميولها .
وقد أخذ الصحابة رضي الله عنهم بهذا التوجيه النبوي , وممن اشتهروا بذلك معاذ بن الحارث رضي الله عنهما ([3]) .
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى : وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان ابن عفراء لايدع شيئا إلا تصدق به , فلما وُلد له استشفعت إليه امرأته بأخواله , فكلموه وقالوا له: إنك قد أعَلْتَ فلو جمعت لولدك , قال: أبَتْ نفسي إلا أن أستتر بكل شيء أجده من النار فلما مات ترك أرضا إلى جنب أرض رجل, قال عبد الرحمن – وعليه ملاءة صفراء ماتساوي ثلاثة دراهم - : ما يسرني الأرض بملاءتي هذه , فامتنع ولي الصبيان , فاحتاج إليها جار الأرض فباعها بثلاثمائة ألف([4]) .
فهذا معاذ بن الحارث رضي الله عنهما يتصدق بكل ماوقع تحت يده ماعدا القوت الضروري, وهذا من أعلى أنواع الكرم , وقد كان الدافع له إلى هذا الكرم النادر طلب مغفرة الذنوب والعتق من النار
ولما كان معاذ بن عفراء قد وكل أمر أولاده إلى الله عز وجل ولم يمسك ماله من أجلهم فإن الله تعالى قد عوضهم من بعده بارتفاع قيمة تلك الأرض التي لم تكن تساوي في حياته إلا القليل.
كما كان الصحابة يهتمون بحسن الخاتمة التي هي أثر من آثار الصدقة , ومن ذلك ما روي عن حارثة بن النعمان الأنصاري رضي الله عنه , وذلك فيما أخرجه محمد بن سعد من خبر محمد بن عثمان عن أبيه : أن حارثة بن النعمان كان قد كُفَّ بصره فجعل خيطا في مصلاه إلى باب حجرته ووضع عنده مكتلا فيه تمر وغير ذلك , فكان إذا سلَّم المسكين أخذ من ذلك التمر ثم أخذ على الخيط حتى يأخذ إلى باب الحجرة فيناوله المسكين , فكان أهله يقولون نحن نكفيك, فيقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن مناولة المسكين تقي ميتة السوء" ([5]) .
فهذا الصحابي الجليل كان عظيم الاهتمام بالصدقة ومراعاة المساكين , حيث كان يناولهم الصدقة بنفسه , وفي ذلك مافيه من النشوة والفرح في رؤية علامات السرور والغبطة على وجوه الفقراء فلما كُفَّ بصره لم يجعل ذلك عائقا عن القيام بهذه المهمة الجليلة مكتفيا بسماع أصوات المساكين بالدعاء له الذي يرجو من ورائه الخاتمة السعيدة في الدنيا والظفر برضوان الله تعالى والسعادة في الجنة .(/1)
وهكذا يُخرج الإسلام رجالا يعيشون لمجتمعهم قبل أن يعيشوا لأنفسهم , لأنهم يعتقدون أن بذل المعروف والإحسان للمسلمين يرفع من رصيدهم الأخروي , وهم إنما يعملون للآخرة , فإذا كان المال مطية للوصول إلى السعادة الأخروية فما أهون بذله على نفس المؤمن التقي !! وما أسعد المجتمعات البشرية بالمؤمنين السابقين بالخيرات !!
وللمزيد من بيان أثر الصدقة في حياة المتصدق وأثر الإمساك في حياة الممسك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يضرب لهما مثلا بقوله " مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جُنَّتان من حديد قد اضطرَّتْ أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشِّي أنامله وتعفو أثره , وجعل البخيل كلما همَّ بصدقة قلصتْ وأخذتْ كل حلقة مكانها" قال أبو هريرة رضي الله عنه : فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعه في جيبه , فلو رأيتَه يوسِّعها ولا توسَّع " أخرجه مسلم رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ([6]) .
فهذا تعبير عن شعور المتصدق بالراحة النفسية والطمأنينة والفرح الغامر لما يراه من أثر إنفاقه في حياة الفقراء وقيام المشاريع الخيرية , وعن شعور البخيل الممسك بضيق النفس وبلبلة الفكر, فهو يرى ما للمنفقين من سمعة طيبة ومحبة بين الناس , ويريد أن يكون مثلهم ولكن نفسه الأمارة بالسوء تمنعه من الإنفاق وتزيِّن له الاحتفاظ بالمال فهو يعيش في قلق بسبب فوات السمعة الحسنة التي لاتكون إلا بالإنفاق .
--------------------
([1] ) صحيح مسلم , رقم 1014 , الزكاة (ص702),والفَلُوُّ ولد الفرس سمي بذلك لأنه فلا عن أمه أي فصل, والفصيل ولد الناقة إذا فصل من رضاع أمه .
([2] ) سنن أبي داود , رقم 1649, الزكاة (2/298) ] وأخرج مسلم رحمه الله نحوه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما [صحيح مسلم , رقم 1033 , الزكاة (ص717) .
([3] ) هو معاذ بن الحارث بن رفاعة بن الحارث الأنصاري شهد أبوه بيعتي العقبة وبدرا ,واشتهر معاذ بنسبته إلى أمه عفراء.
([4] ) صفة الصفوة 1/472 .
([5] ) طبقات ابن سعد 3/488 وذكر الحافظ ابن حجر أن هذا الخبر رواه الطبراني والحسن بن سفيان – الإصابة 1/298 رقم 1532 .
([6] ) صحيح مسلم , رقم 1021 , الزكاة (ص 708) .(/2)
فضل الصدقة [2]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فقد سبق لنا في الحلقة السابقة بعض الأحاديث التربوية في مجال الإنفاق في سبيل الله تعالى .
ومما جاء أيضا في فضل الصدقة ما أخرجه مسلم بن الحجاج رحمه الله من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله, ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه ([1]) فلا يرى إلا ما قدم , وينظر أشأم منه ([2]) فلا يرى إلا ما قدم , وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه , فاتقوا النار ولو بشق تمرة " ([3]) .
وهكذا حينما يذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من أهوال يوم القيامة يجعل الصدقة في مقدمة الأعمال التي يقي الله جل وعلا بها صاحبها من النار .
وفي هذا الحديث يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة ولو بالقليل من أموالنا , فإن القليل مع القليل كثير , فلا ينبغي للإنسان أن ينظر إلى قلة ما عنده فيحجم عن الصدقة, فلو أن مائة من الناس لا يستطيع كل واحد منهم أن يتصدق إلا بدرهم فإن مجموع صدقتهم مائة درهم, فهؤلاء يعادلون غنيا يستطيع أن يتصدق بمائة , ولو نظرنا إلى الأغنياء لوجدنا أن عددهم قليل جدا بالنسبة لأفراد المجتمع , فلو فرضنا أن مجتمعا عدد أفراده مائة ألف فإن الواحد منهم لن يعجز عن الصدقة بدرهم في الغالب فيكون مجموع صدقتهم مائة ألف درهم , لكن لو احتقر كل واحد منهم ما عنده من المال فلن يتكوَّن هذا المبلغ الكبير .
وبهذه الطريقة الجيدة في البذل يمكن لكل مجتمع أن يواسي فقراءه وأن يقوم بإنشاء المشاريع الخيرية التي يستفيد منها كل أبناء المجتمع , لكن حينما تكون الأنظار موجهة نحو الأغنياء فقط فقد لا يتوافر منهم المبلغ الكافي لسد حاجات المجتمع وإنشاء المشاريع الخيرية .
ومن ذلك ما أخرجه أبو عبد الله البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو كان لي مثل أحد ذهبا ما يسرني أن لا يمر علي ثلاث وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين" ([4]) .
فهذا مثال للكمال في التعامل مع المال , فإن إنفاق ما زاد عن الحاجة ليس واجبا في الإسلام, لكنه يمثل الكمال في سياسة تصريف المال , حيث يقدم به صاحبه عملا صالحا كثيرا يدخره لنفسه يوم القيامة حينما يظهر ثواب العمل الصالح .
ومن ذلك ما أخرجه أبو عبد الله ابن ماجه رحمه الله تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأكثرون هم الأسفلون إلا من قال هكذا وهكذا" ثلاثا .
وقال البوصيري : إسناده صحيح ([5]) .
فالأكثرون مالاً يريدون أن يكونوا هم الأعلون في الدنيا , اعتزازًا بأموالهم , لكنهم في الآخرة هم الأسفلون ما لم يستقيموا على هدي الإسلام , فيحاسبوا أنفسهم على كسبهم ليكون حلالا , ثم ينفقوا من أموالهم في وجوه الخير والبر , فإذا فعلوا ذلك حموا أنفسهم من الحرام وقدموا لها عملا صالحا يرفع من مقامهم يوم القيامة .
ومن ذلك ما أخرجه أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل امرئ في ظل صدقته حتى يُفصَل بين الناس- أو قال: يحكم بين الناس – " ([6]) .
فهذا ترغيب بليغ في الصدقة , فلو أن إنسانا طُلب منه أن يدفع مبلغا من المال مقابل تظليله من الشمس في يوم شديد الحرارة لسارع إلى دفع ذلك المال , فكيف بشمس الآخرة حينما تدنو من الخلائق فتكون على قدر ميل ؟!
ومما يزيد في الترغيب في الإنفاق ماجاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا" أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ([7]) .
وهل يشك أحد في أن الله تعالى سيستجيب دعاء هذين الملكين عليهما السلام , وإنه لشرف كبير للمنفقين أن يكون الملائكة عليهم السلام معهم بالدعاء , وخسارة كبرى أن يكون الملائكة على الممسكين عن الإنفاق بدعائهم .
وهل إخفاء الصدقة أفضل أم إعلانها ؟
الأصل أن إخفاء الصدقة أفضل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لاظل إلا ظله .. ثم ذكرهم إلى أن قال : "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لاتعلم شماله ماتنفق يمينه" أخرجه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ([8]) . ولقوله صلى الله عليه وسلم " عليكم باصطناع المعروف فإنه يمنع مصارع السوء وعليكم بصدقة السر فإنها تطفئ غضب الرب عز وجل" أخرجه ابن أبي الدنيا من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ([9]) . وذلك في غير الحالات الخاصة التي يستحب فيها إعلان الصدقة مثل ما إذا أصابت المسلمين جوائح وأراد الإنسان بإظهار الصدقة أن يكون قدوة لغيره , أو فيما إذا دعا الإمام للصدقة بشكل معلن .(/1)
ولقد كان الصالحون على مر الأجيال يحرصون على إخفاء صدقتهم لما ذُكر من هذا الثواب الجزيل , ومن الأمثلة على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد من خبر شيبة بن نعامة قال: كان علي بن الحسين عليه السلام يُبَخَّل , فلما مات وجدوه يعول مائة أهل بيت بالمدينة , كما أخرج من خبر أبي حمزة ثابت الثمالي أن علي بن الحسين كان يحمل الجراب فيه الخبز , ويقول : إن صدقة الليل تطفئ غضب الرب عز وجل ([10]) .
ولئن كان قد فات ابن الحسين رضي الله عنهما ماكان يعمل له بعض الناس في الدنيا من جاه وسمعة فلقد ظفر بجاه الآخرة وسمعتها , وشتان ما بين الدارين .
------------------------
([1] ) أي إلى جانبه الأيمن .
([2] ) أي إلى جانبه الأيسر .
([3] ) صحيح مسلم , رقم 1016, الزكاة ,(ص703) .
([4] ) صحيح البخاري , رقم 2389, الاستقراض (5/55) .
([5] ) سنن ابن ماجه , رقم 4131, الزهد (ص1384) .
([6] ) مسند أحمد 4/147- 148 .
([7] ) صحيح البخاري , رقم 1442 , الزكاة (3/304) , صحيح مسلم , رقم 1010 , الزكاة (ص700) .
([8] ) صحيح البخاري , رقم 1423, الزكاة (3/292) .
([9] ) صحيح الجامع الصغير , رقم 3931 . (4) الزهد /166.(/2)
فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
فإن الله تعالى بقدرته وسلطانه بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وخصّه وشرّفه تبليغ الرسالة فكان رحمةً للعالمين وإماماً للمتقين وجعله هادياً للطريق القويم فلزم على العباد طاعته وتوقيره والقيام بحقوقه ومن حقوقه أن الله اختصه بالصلاة عليه وأمرنا بذلك في كتابه الحكيم وسنة نبيه الكريم حيث كتب مضاعفة الأجر لمن صلّى عليه فما أسعد من وفق لذلك فاللهم صل وسلم على نبيك وخليلك محمد ما تعاقب الليل والنهار.
معنى الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم :
قال الله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً )[الأحزاب:56].
قال ابن كثير رحمه الله: ( المقصود من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه تصلي عليه الملائكة ثم أمر الله تعالى العالم السفلي بالصلاة والسلام عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعاً ) أ.هـ.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في جلاء الأفهام: ( والمعنى أنه إذا كان الله وملائكته يصلون على رسوله فصلوا عليه أنتم أيضاً صلوا عليه وسلموا تسليماً لما نالكم ببركة رسالته ويمن سفارته، من خير شرف الدنيا والآخرة ) أ.هـ.
وقد ذُكر في معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أقوال كثيرة، والصواب ما قاله أبو العالية: إن الصلاة من الله ثناؤه على المصلي عليه في الملأ الأعلى أي عند الملائكة المقربين - أخرجه البخاري في صحيحه تعليقاً مجزوماً به - وهذا أخص منه في الرحمة المطلقة - وهذا ترجيح سماحة الشيخ محمد بن عثيمين.
والسلام: هو السلامة من النقائص والآفات فإن ضم السلام إلى الصلاة حصل به المطلوب وزال به المرهوب فبالسلام يزول المرهوب وتنتفي النقائص وبالصلاة يحصل المطلوب وتثبت الكمالات - قاله الشيخ محمد بن عثيمين.
حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم :
أما في التشهد الأخير فهو ركن من أركان الصلاة - عند الحنابلة.
وقال القاضي أبو بكر بن بكير: ( افترض الله على خلقه أن يصلوا على نبيه ويسلموا تسليماً، ولم يجعل ذلك لوقت معلوم. فالواجب أن يكثر المرء منها ولا يغفل عنها ).
المواطن التي يستحب فيها الصلاة والسلام على النبي ويرغب فيها:
1- قبل الدعاء:
قال فضالة بن عبيد: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { عجل هذا! } ثم دعاه فقال له ولغيره: { إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم يصلي على النبي، ثم ليدع بعد بما يشاء } [رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح وأخرجه أحمد بإسناد صحيح وصححه ابن حبّان والحاكم ووافقه الذهبي].
وقد ورد في الحديث: { الدعاء محجوب حتى يصلي الداعي على النبي صلى الله عليه وسلم } [رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات].
وقال ابن عطاء: ( للدعاء أركان وأجنحة وأسباب وأوقات. فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه نجح.
فأركانه: حضور القلب والرقة والاستكانة والخشوع وتعلق القلب بالله وقطعه الأسباب، وأجنحته الصدق، ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ).
2- عند ذكره وسماع اسمه أو كتابته:
قال صلى الله عليه وسلم : { رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ } [رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب من هذا الوجه والحاكم وقال الألباني إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح].
3- الإكثارمن الصلاة عليه يوم الجمعة:
عن أوس بن أوس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا عليّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليّ.. } الحديث [رواه أبو داود بإسناد صحيح وأخرجه أحمد وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي].
4- الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الرسائل وما يكتب بعد البسملة:
قال القاضي عياض: ( ومن مواطن الصلاة التي مضى عليها عمل الأمة ولم تنكرها: ولم يكن في الصدر الأول، وأحدث عند ولاية بني هاشم - الدولة العباسية - فمضى عمل الناس في أقطار الأرض. ومنهم من يختم به أيضاً الكتب ).
5- عند دخول المسجد وعند الخروج منه:
عن فاطمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا دخلت المسجد فقولي بسم الله الرحمن الرحيم والسلام على رسول الله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد واغفر لنا وسهل لنا أبواب رحمتك فإذا فرغت فقولي ذلك غير أن قولي: وسهل لنا أبواب فضلك } [رواه ابن ماجه والترمذي وصححه الألباني بشواهده].
كيفية الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم:(/1)
قال الله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56] فالأفضل أن تقرن الصلاة والسلام سوياً استجابةً لله عز وجل فهذا هو المجزئ في صفة الصلاة عليه الصلاة والسلام.
وعن أبي محمد بن عجرة قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال: { قولوا اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل ابراهيم إنك حميد مجيد } [متفق عليه].
وعن أبي حميد الساعد قال: قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال: { قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد } [متفق عليه].
وفي هذين الحديثين دلالة على الصفة الكاملة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .
فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والسلام عليه:
عن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول وصلوا عليّ فإنه من صلّى عليّ مرة واحدة صلى الله عليه عشراً ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة } [رواه مسلم].
قال صلى الله عليه وسلم : { من صلّى عليّ حين يصبح عشراً وحين يمسي عشراً أدركته شفاعتي } [أخرجه الطبراني في الكبير وحسنه الألباني].
وقال صلى الله عليه وسلم : { من صلّى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً } [رواه مسلم وأحمد والثلاثة].
وعن عبدالرحمن بن عوف قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فأطال السجود قال: { أتاني جبريل وقال: من صلّى عليك صليت عليه ومن سلّم عليك سلمت عليه فسجدت شكراً لله } [رواه الحاكم وأحمد والجهضمي وقال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه وقال الألباني: صحيح لطرقه وشواهده].
وعن يعقوب بن زيد بن طلحة التيمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أتاني آت من ربي فقال: ما من عبد يصلي عليك صلاة إلا صلى الله عليه بها عشراً } فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله أجعل نصف دعائي لك! قال: { إن شئت }. قال: ألا أجعل ثلث دعائي!. قال: { إن شئت }. قال: ألا أجعل دعائي كله قال: { إذن يكفيك الله هم الدنيا والآخرة } [رواه الجهضمي وقال الألباني هذا مرسل صحيح الأسناد].
وعن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { إن لله ملائكة سياحين يبلغونني من أمتي السلام } [رواه النسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال الألباني إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح].
وقال صلى الله عليه وسلم : { من صلّى عليّ واحدةً صلّى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات ورفع له عشر درجات } [رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والنسائي والحاكم وصححه الألباني].
وعن ابن مسعود مرفوعاً: { أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة } [رواه الترمذي وقال حسن غريب رواه ابن حبان].
وعن جابر بن عبدالله، قال: قال النبي : { من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له الشفاعة يوم القيامة } [رواه البخاري في صحيحه].
ذم من لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { رغم أنف رجل ذُكرت عنده فلم يصلّ عليّ، رغم أنف رجل دخل رمضان ثم انسلخ قبل أن يُغفر له، ورغم أنف رجل أدرك أبواه عند الكبر فلم يُدخلاه الجنة } قال عبدالرحمن وهو أحد رواة الحديث وعبدالرحمن بن إسحاق وأظنه قال: { أو أحدهما } [رواه الترمذي والبزار قال الألباني في صحيح الترمذي حسن صحيح].
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { البخيل كل البخل الذي ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ } [أخرجه النسائي والترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع].
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : { من نسي الصلاة عليّ خطئ طريق الجنة } [صححه الألباني في صحيح الجامع].
وعن أبي هريرة قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : { أيّما قوم جلسوا مجلساً ثم تفرقوا قبل أن يذكروا الله ويصلوا على النبي كانت عليهم من الله تره إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم } [أخرجه الترمذي وحسنه أبو داود].
وحكى أبو عيسى الترمذي عن بعض أهل العلم قال: ( إذا صلى الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم مرة في مجلس أجزأ عنه ما كان في ذلك المجلس ).
الفوائد والثمرات الحاصلة بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم :
ذكر ابن القيم 39 فائدة للصلاة على النبي منها:
1- امتثال أمر الله سبحانه وتعالى.
2- حصول عشر صلوات من الله على المصلي مرة.
3- يكتب له عشر حسنات ويمحو عنه عشر سيئات.
4- أن يرفع له عشر درجات.(/2)
5- أنه يرجى إجابة دعائه إذا قدمها أمامه فهي تصاعد الدعاء إلى عند رب العالمين.
6- أنها سبب لشفاعته صلى الله عليه وسلم إذا قرنها بسؤال الوسيلة له، أو إفرادها.
7- أنها سبب لغفران الذنوب.
8- أنها سبب لكفاية الله ما أهمه.
9- أنها سبب لقرب العبد منه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
10- أنها سبب لصلاة الله على المصلي وصلاة الملائكة عليه.
11- أنها سبب لرد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة والسلام على المصلي.
12- أنها سبب لطيب المجلس، وأن لا يعود حسرة على أهله يوم القيامة.
13- أنها سبب لنفي الفقر.
14- أنها تنفي عن العبد اسم ( البخيل ) إذا صلى عليه عند ذكره صلى الله عليه وسلم .
15- أنها سبب لإلقاء الله سبحانه وتعالى الثناء الحسن للمصلي عليه بين أهل السماء والأرض، لأن المصلي طالب من الله أن يثني على رسوله ويكرمه ويشرفه، والجزاء من جنس العمل فلا بد أن يحصل للمصلي نوع من ذلك.
16- أنها سبب للبركة في ذات المصلي وعمله وعمره وأسباب مصالحه لأن المصلي داع ربه أن يبارك عليه وعلى آله وهذا الدعاء مستجاب والجزاء من جنسه.
17- أنها سبب لعرض اسم المصلي عليه صلى الله عليه وسلم وذكره عنده كما تقدم قوله صلى الله عليه وسلم : { إن صلاتكم معروضة عليّ } وقوله صلى الله عليه وسلم : { إن الله وكّل بقبري ملائكة يبلغونني عن أمتي السلام } وكفى بالعبد نبلاً أن يذكر اسمه بالخير بين يدي رسول الله .
18- أنها سبب لتثبيت القدم على الصراط والجواز عليه لحديث عبدالرحمن بن سمرة الذي رواه عنه سعيد بن المسيب في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: { ورأيت رجلاً من أمتي يزحف على الصراط ويحبو أحياناً ويتعلق أحياناً، فجاءته صلاته عليّ فأقامته على قدميه وأنقذته } [رواه أبو موسى المديني وبنى عليه كتابه في "الترغيب والترهيب" وقال: هذا حديث حسن جداً].
19- أنها سبب لدوام محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وزيادتها وتضاعفها، وذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يتم إلا به لأن العبد كلما أكثر من ذكر المحبوب واستحضاره في قلبه واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه فسيتضاعف حبّه له وتزايد شوقه إليه، واستولى على جميع قلبه، وإذا أعرض عن ذكره وإحضار محاسنه يغلبه، نقص حبه من قلبه، ولا شيء أقر لعين المحب من رؤية محبوبه ولا أقر لقلبه من ذكر محاسنه، وتكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه والحس شاهد بذلك.
20- أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه، فإنه كلما أكثر الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وذكره، استولت محبته على قلبه، حتى لا يبقى في قلبه معارضة لشيء من أوامره، ولا شك في شيء مما جاء به، بل يصير ما جاء به مكتوباً مسطوراً في قلبه ويقتبس الهدي والفلاح وأنواع العلوم منه، فأهل العلم العارفين بسنته وهديه المتبعين له كلما ازدادوا فيما جاء به من معرفة، ازدادوا له محبة ومعرفة بحقيقة الصلاة المطلوبة له من الله.
وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر: موقع كلمات(/3)
فضل العشر من ذي الحجة وأحكام الأضحية التحرير*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد،
فإنه من فضل الله علينا ومنته أن جعل لعباده الصالحين مواسم يستكثرون فيها من العمل الصالح، وأمدّ في آجالهم فهم بين غادٍ للخير ورائح، ومن أعظم هذه المواسم وأجلِّها: أيام عشر ذي الحجة.
وقد ورد في فضلها أدلة من الكتاب والسنة منها:
[1] قول الله تعالى: ((والفجر، وليالٍ عشرٍ))، قال ابن كثير رحمه الله: المراد بها عشر ذي الحجة.
[2] قال تعالى: ((ويذكروا اسم الله في أيامٍ معلوماتٍ)) قال ابن عباس: أيام العشر.
[3] عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما العمل في أيام أفضل من هذه العشر. قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء) [رواه البخاري].
[4] عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهنّ من التهليل والتكبير والتحميد) [رواه الطبراني في المعجم الكبير].
[5] كان سعيد بن جبير ـ رحمه الله ـ وهو الذي روى حديث ابن عباس السابق إذا دخلت العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه. [رواه الدارمي بإسناد حسن].
[6] قال ابن حجر في فتح الباري: والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يأتي ذلك في غيره.
[7] قال المحققون من أهل العلم: أيام عشر ذي الحجة أفضل الأيام، وليالي العشر شر الأواخر من رمضان أفضل الليالي.
ما يستحب فعله في هذه الأيام
[1] الصلاة: يستحب التبكير للفرائض، والإكثار من النوافل، فإنها من أفضل القربات، عن ثوبان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد سجدةً إلا رفعك إليه بها درجة، وحط عنك بها خطيئة) [رواه مسلم]، وهذا عام في كل وقت.
[2] الصيام: لدخوله في الأعمال الصالحة، فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر) [رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي]. قال الإمام النووي عن صوم أيام العشر: أنه مستحب استحباباً شديداً.
[3] التكبير والتهليل والتحميد: لما ورد في حديث ابن عمر السابق: (فأكثروا فيهنّ من التهليل والتكبير والتحميد) .وقال الإمام البخاري: (كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما). وقال: (وكان عمر يكبّر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبّرون ويكبّر أهل الأسواق حتى ترتجّ منى تكبيراً).
وكان ابن عمر رضي الله عنه يكبّر بمنى تلك الأيام، وبعد الصلوات وعلى فراشه، وفي فسطاطه، ومجلسه، وممشاه تلك الأيام جميعاً، والمستحب الجهر بالتكبير لفعل عمر وابنه وأبي هريرة رضي الله عنهم. فحريٌّ بنا نحن المسلمين أن نحيي هذه السنة التي هجرت في هذه الأيام، وتكاد تُنسى حتى من أهل الصلاح والخير بخلاف ما كان عليه السلف الصالح.
[4] صيام يوم عرفة: يتأكّد صيام يوم عرفة لغير الحاج لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال عن صوم يوم عرفة: (أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده) [رواه مسلم].
[5] فضل يوم النحر: يغفل عن ذلك اليوم العظيم كثير من المسلمين مع أن بعض العلماء يرى أنه أفضل أيام السنة على الإطلاق حتى من يوم عرفة. قال ابن القيم: (خير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج)، كما في سنن أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم: (أن أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر)، ويوم القر هو يوم الاستقرار في منى، وهو اليوم الحادي عشر، وقيل يوم عرفة أفضل منه، لأن صيامه يكفر سنتين، وما من يوم يعتق الله فيه الرقاب أكثر منه في يوم عرفة، ولأنه سبحانه وتعالى يدنو فيه من عباده، ثم يباهي ملائكته بأهل الموقف، والصواب: القول الأول؛ لأن الحديث الدال على ذلك لا يعارضه شيء.. وسواء كان هو أفضل أم يوم عرفة فليحرص المسلم حاجاً كان أم مقيماً على إدراك فضله، وانتهاز فرصته.
بماذا تستقبل مواسم الخير؟
حريّ بالمسلم أن يستقبل مواسم الخير عامة بالتوبة الصادقة النصوح، وبالإقلاع عن الذنوب والمعاصي، فإن الذنوب هي التي تحرم الإنسان فضل ربه، وتحجب قلبه عن مولاه. كما يستقبل مواسم الخير عامة بالعزم الصادق على اغتنامها بما يرضي الله فمن صدق الله صدقه الله: ((والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا)) [العنكبوت: 69]. وقال تعالى: ((وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم وجنةٍ عرضها السماوات والأرض أُعدّت للمتقين)) [آل عمران:133].(/1)
فيا أخي المسلم احرص على اغتنام هذه الفرصة السانحة، قبل أن تفوتك فتندم ولات ساعة مندم. فإن الدنيا أيام قلائل ونحن في دار العمل وغداً دار الجزاء والحساب والجنة والنار، وكن من الذين عناهم الله عز وجل بقوله: ((إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين)) [الأنبياء:90].
بعض أحكام الأضحية ومشروعيتها
شرع الله الأضحية بقوله تعالى: ((فصل لربك وانحر)) وقوله تعالى: ((والبُدْن حعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير)) [الحج: 36]، وهي سنة مؤكدة ويُكره تركها مع القدرة عليها لحديث أنس رضي الله عنه الذي رواه البخاري ومسلم أن النيي صلى الله عليه وسلم ضحّى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمّى وكبّر.
مم تكون الأضحية؟
[1] الأضحية لا تكون إلا من الإبل والبقر والغنم لقوله تعالى: ((ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام)) [الحج: 34].
[2] ومن شروط الأضحية السلامة من العيوب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعة لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البيّن عورها والمريضة البيّن مرضها، والعرجاء البيّن ضلعها، والعجفاء التي لا تنقي) [رواه الترمذي].
وقت الذبح
بداية وقت الذبح بعد صلاة العيد لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح فإنما هو لحم قدّمه لأهله ليس من النُسُك في شيءٍ) [متفق عليه].
ويسن لمن يحسن الذبح أن يذبح أضحيته بيده ويقول: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عن فلان (ويسمي نفسه أومن أوصاه) فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح كبشاً وقال: (بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعن من لم يضحِّ من أمتي) [رواه أبو داود والترمذي]، ومن لا يحسن الذبح فليشهده ويحضره.
توزيع الأضحية
يسن للمضحي أن يأكل من أضحيته ويهدي الأقارب والجيران ويتصدق منها على الفقراء قال تعالى: ((فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير)) وقال تعالى: ((فكلوا منها وأطعموا القانع والمعترّ)) وكان بعض السلف يحب أن يجعلها أثلاثاً: فيجعل ثلثاً لنفسه، وثلثاً هدية للأغنياء، وثلثاً صدقةً للفقراء. ولا يعطي الجزار شيئاً منها على سبيل الأجرة.
فيما يجتنبه من أراد الأضحية
إذا أراد المسلم أن يضحي ودخل شهر ذو الحجة فإنه يحرم عليه أن ياخذ شيئاً من شعره أو أظفاره أو جلده حتى يذبح أضحيته لحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره) [رواه مسلم وأحمد] وفي لفظ: (فلا يمسّ من شعره ولا بشره شيئاً حتى يضحي)، وإذا نوى الأضحية أثناء العشر أمسك عن ذلك من حين نيته، ولا إثم عليه فيما أخذه قبل النية.
يجوز لأهل المضحي أن يأخذوا في أيام العشر من شعورهم وأظفارهم وأبشارهم.
وإذا أخذ من يريد الضحية شيئاً من شعره أو ظفره وبشرته فعليه أن يتوب إلى الله تعالى ولا يعود إلى ذلك، ولا كفارة عليه، ولا يمنعه ذلك من أداء الأضحية. أما إن أخذ من ذلك شيئاً ناسياً أو جاهلاً أو سقط الشعر بلا قصد فلا إثم عليه، وإن احتاج إلى أخذه فله ذلك ولا شيء عليه مثل أن ينكسر ظفره فيؤذيه فيقصه، أو يحتاج إلى قص شعره لمداواة جرح ونحوه.(/2)
فضل العشر من ذي الحجة
أولاً: فضل العشر عموماً.
- الأعمال التي تستحب فيها:
أ. الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد.
ب. الاجتهاد في سائر الطاعات.
ثانياً: فضل يوم عرفة.
1. كثرة عتق الله تعالى لعباده من النار.
2. أنه اليوم الذي أكمل الله تعالى فيه للأمة دينها.
3. أنه يوم عيد.
4. أن فيه يقع أعظم الأركان الذي به يدرك الحج ألا وهو الوقوف بعرفات.
- الأعمال التي تستحب فيه:
أ. الصيام.
ب. الدعاء.
ثالثاً: فضل يوم النحر.
الفصل الأول: فضل العشر عموما:
1 ـ قال الله تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1، 2].
قال ابن جرير رحمه الله: "والصواب من القول في ذلك عندنا أنها عشر الأضحى لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه"([1]) .
وقال القرطبي رحمه الله: "وإنما نكرت ولم تعرّف لفضيلتها على غيرها، فلو عُرِّفت لم تستقل([2]) بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، فنكرت من بين ما أقسم به للفضيلة التي ليست لغيرها"([3]) .
وقال ابن القيم رحمه الله: "فالزمان المتضمن لمثل هذه الأعمال أهل أن يقسم الرب عز وجل به"([4]) .
وقال ابن كثير رحمه الله: "والليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف"([5]) .
وقال ابن رجب رحمه الله: "ولعشر ذي الحجة فضائل أخر غيرها تقدم، فمن فضائله: أن الله تعالى أقسم به جملة، وببعضه خصوصًا. قال تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ}... وأما الليالي العشر فهي عشر ذي الحجة، هذا الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين من السّلف وغيرهم، وهو الصحيح عن ابن عباس، روي عنه من غير وجه"([6]).
وقال الشوكاني رحمه الله: "هي عشر ذي الحجة في قول جمهور المفسرين"([7]).
وقال ابن سعدي رحمه الله: "وهي على الصحيح ليالي عشر رمضان، أو عشر ذي الحجة؛ فإنها ليال مشتملة على أيام فاضلة، ويقع فيها من العبادات والقربات ما لا يقع بغيرها، ... وفي أيام عشر ذي الحجة الوقوف بعرفة الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان، فإنه ما رُئيَ الشيطان أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة؛ لما يرى من تنزُّل الأملاك والرحمة من الله على عباده، ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة، وهذه أشياء معظمة مستحقة أن يقسم الله بها"([8]) .
2 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر)) فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) ([9]) .
قال ابن رجب رحمه الله: "دل هذا الحديث على أن العمل في أيامه أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده"([10]).
قوله صلى الله عليه وسلم: ((إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) "فهذا الجهاد بخصوصه يفضل على العمل في العشر، وأما بقية أنواع الجهاد فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل وأحب إلى الله عز وجل منهما، وكذلك سائل الأعمال.
وهذا يدل على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره، ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره"([11]).
وقال ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث تفضيل بعض الأزمنة على بعض كالأمكنة، وفضل عشر ذي الحجة على غيرها من أيام السنة"([12]) .
3 ـ وقال تعالى: {وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ * لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الاْنْعَامِ} [الحج: 27، 28].
قال ابن عباس عن الأيام المعلومات: (أيام العشر)([13]).
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: كي يذكروا اسم الله على ما رزقهم من الهدايا والبدن التي أهدوها من الإبل والبقر والغنم، في أيام معلومات، وهن أيام التشريق في قول بعض أهل التأويل، وفي قول بعضهم: أيام العشر، وفي قول بعضهم: يوم النحر وأيام التشريق"([14]).
قال ابن رجب رحمه الله: "وجمهور العلماء على أن هذه الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، منهم ابن عمر وابن عباس والحسن وعطاء ومجاهد وعكرمة وقتادة والنخعي، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه"([15]).
الأعمال التي تستحب فيها:
أ ـ الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)) ([16]).
قال الإمام البخاري رحمه الله: "كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما"([17]).(/1)
وعن يزيد بن أبي زياد قال: رأيت سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهدًا ـ أو اثنين من هؤلاء الثلاثة ـ ومن رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد([18]).
وعن ميمون بن مهران قال: أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم التكبير([19]).
قال ابن القيم رحمه الله: "وهي الأيام العشر التي أقسم الله بها في كتابه بقوله: {وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ} ولهذا يستحب فيها الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد"([20]).
ب ـ الاجتهاد في سائر الطاعات:
كان سعيد بن جبير رحمه الله إذا دخلت العشر اجتهد اجتهادًا حتى ما يكاد يقدر عليه([21]).
وروي عنه أنه قال: (لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر) ([22]) كناية عن القراءة والقيام.
قال ابن رجب رحمه الله: "لما كان الله سبحانه وتعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينًا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادرًا على مشاهدته كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركًا بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته، يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج"([23]).
وقال ابن حجر رحمه الله: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي: الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، ولا يأتي ذلك في غيره"([24]).
([1]) جامع البيان (30/ 169).
([2]) في المطبوع من تفسير القرطبي: تستقبل.
([3]) الجامع لأحكام القرآن (20/ 39).
([4]) التبيان في أقسام القرآن (ص 18).
([5]) تفسير القرآن العظيم (4/539، 540).
([6]) لطائف المعارف ( ص 469 ـ 470).
([7]) فتح القدير (5/613).
([8]) تيسير الكريم الرحمن (7/621 ـ 622).
([9]) أخرجه البخاري في العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق (969) بنحوه. وهذا لفظ الترمذي (757).
([10]) لطائف المعارف (ص 458).
([11]) من كلام الحافظ ابن رجب في اللطائف (ص459).
([12]) فتح الباري (2/460).
([13]) أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم في العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق، وقد وصله عبد بن حميد، وابن مردويه كما في الفتح لابن حجر (2/582) وصحح إسناد ابن مردويه.
([14]) جامع البيان (9/138).
([15]) لطائف المعارف (ص 471).
([16]) أخرجه أحمد (2/75)، والبيهقي في الشعب (3750). قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5446): "إسناده صحيح"، وله شاهد من حديث ابن عباس عند الطبراني في الكبير (3/110)، جوّد إسناده المنذري في الترغيب (2/24)، وقال الهيثمي في المجمع (4/17): "رجاله رجال الصحيح".
([17]) صحيح البخاري كتاب العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق. وقد وصله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في الشافي، والقاضي أبو بكر المروزي في العيدين. كما في فتح الباري لابن رجب (9/8).
([18]) أخرجه الفريابي في أحكام العيدين (ص 119).
([19]) أخرجه أبو بكر المروزي في العيدين، كما في فتح الباري لابن رجب (9/9).
([20]) زاد المعاد (1/56).
([21]) أخرجه الدارمي في سننه (1774)، والبيهقي في الشعب (3752).
([22]) أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/281).
([23]) لطائف المعارف (ص 476).
([24]) فتح الباري (2/460).
الفصل الثاني: فضل يوم عرفة:
ليوم عرفة فضائل كثيرة ومحاسن جمة عفيرة منها:
1 ـ كثرة عتق الله لعباده من النار، وأنه سبحانه يباهي بالحاج فيه ملائكته ويعمهم بالغفران.
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟))([1]) .
قال النووي: "هذا الحديث ظاهر الدلالة في فضل يوم عرفة"([2]).
2 ـ أنه اليوم الذي أكمل الله فيه للأمة دينها وأتم عليها نعمته:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 2] قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة، يوم جمعة([3]) .
3 ـ أنه يوم عيد.
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عِيدُنا أهلَ الإسلام، وهي أيام أكل وشرب))([4]) .
قال ابن القيم رحمه الله: "يوم عرفة يوم عيد لأهل عرفة، ولذلك كُره لمن بعرفه صومه"([5]).
4 ـ أن فيه يقع أعظم الأركان الذي به يدرك الحج ألا وهو الوقوف بعرفات.(/2)
عن عبد الرحمن بن يعمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة))([6]).
قال الترمذي: "والعمل على حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، أنه من لم يقف بعرفات قبل طلوع الفجر، فقد فاته الحج، ولا يجزئ عنه إن جاء بعد طلوع الفجر، ويجعلها عمرة، وعليه الحج من قابل، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق".
وقال النووي: "أي: عماده ومعظمه عرفة"([7]).
وقال المناوي: "أي: معظمه أو ملاكه الوقوف بها، لفوت الحج بفوته"([8]).
وقال السيوطي: "قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في أماليه... فإن قيل قوله صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة)) يدل على أفضلية عرفة؛ لأن التقدير: معظم الحج وقوف عرفة. فالجواب: أن لا نقدر ذلك، بل نقدر أمرًا مجمعًا عليه: وهو إدراك الحج وقوف عرفة، فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه"([9]).
وقال السندي: "والمقصود: أن إدراك الحج يتوقف على إدراك الوقوف بعرفة"([10]).
وقال الشوكاني: "قوله: ((الحج عرفة)) أي: الحج الصحيح حج من أدرك عرفة"([11]).
ولله در ابن القيم حين يصور ذلك الموقف العظيم:
وراحوا إلى التعريف يرجون رحمةً ومغفرة ممن يجود ويُكرم
فلله ذاك الموقف الأعظم الذي كموقف يوم العرض بل ذاك أعظم
ويدنو به الجبار جل جلاله يباهي بهم أملاكه فهو أكرم
يقول عبادي قد أتوني محبةً وإني بهم برٌّ أجود وأرحم
فأُشهدكم أني غفرتُ ذنوبهم وأعطيتُهم ما أمَّلوه وأنعم
فبشراكم يا أهل ذا الموقفِ الذي به يغفر الله الذنوب ويرحم
فكم من عتيق فيه كمل عتقه وآخر يستسعي وربك أرحم
وما رئي الشيطان أغيظَ في الورى وأحقر منه عندها وهو ألأم
وذاك لما قد رآه فغاظه فأقبل يحثو الترب غيظًا ويلطم
وما عاينتْ عيناه من رحمةٍ أتت ومغفرة من عند ذي العرش تقسم
بنى ما بنى حتى إذا ظن أنه تمكَّن من بنيانه فهو مُحكم
أتى الله بنيانا له من أساسه فخر عليه ساقطًا يتهدم
وكم قدْر ما يعلو البناء وينتهي إذا كان يبنيه وذو العرش يهدم
الأعمال المستحبة فيه:
1 ـ الصيام: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تصوم؟. .. وذكر الحديث بطوله، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده...))([12]).
قال النووي: "((صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)) معناه: ذنوب صائمه في السنتين. قالوا: والمراد بها الصغائر، وسبق بيان مثل هذا في تكفير الخطايا بالوضوء, وذكرنا هناك أنه إن لم تكن صغائر، يُرجى التخفيف من الكبائر، فإن لم يكن رُفعت درجات"([13]).
قال ابن القيم رحمه الله: "فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر الذنوب تكفيرًا كاملاً، والناقص بحسبه، وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة. وهما: تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان، وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه. وبهذا يزول الإشكال الذي يورده من نقص حظه من هذا الباب على الحديث الذي فيه: ((إن صوم يوم عرفة يكفر سنتين، ويوم عاشوراء يكفر سنة))([14]) قالوا: فإذا كان دأبه دائمًا أنه يصوم يوم عرفة فصامه وصام يوم عاشوراء، فكيف يقع تكفير ثلاث سنين كل سنة؟ وأجاب بعضهم عن هذا بأن ما فضل عن التكفير ينال به الدرجات. ويا لله العجب. فليت العبد إذا أتى بهذه المكفرات كلها أن تكفر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعض، والتكفير بهذه مشروط بشروط، وموقوف على انتفاء موانع في العمل وخارجه.
فإن علم العبد أنه جاء بالشروط كلها، وانتفت عنه الموانع كلها فحينئذ يقع التكفير. وأما عمل شملته الغفلة أو لأكثره، وفقد الإخلاص الذي هو روحه. ولم يقدره حق قدره. فأي شيء يكفر هذا؟!
فإن وثق العبد من عمله بأنه وفاه حقه الذي ينبغي له ظاهرًا وباطنًا ولم يعرض له مانع يمنع تكفيره، ولا مبطل يحبطه من عجب أو رؤية نفسه فيه. أو يمن به، أو يطلب من العباد تعظيمه عليه، ويرى أنه قد بخسه حقه، وأنه قد استهان بحرمته، فهذا أي شيء يكفر؟!
ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحسر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه"([15]).
2 ـ الدعاء: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) ([16]).
قال ابن عبد البر: "وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره، وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره، ... وفي الحديث أيضًا دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب كله في الأغلب"([17]).(/3)
قال المباركفوري: "قوله: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة)) لأنه أجزل إثابة، وأعجل إجابة، قال الطيبي: الإضافة فيه إما بمعنى اللام، أي: دعاء يختص به، ويكون قوله: ((وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله)) بيانًا لذلك الدعاء، فإن قلت: هو ثناء! قلت: في الثناء تعريض بالطلب"([18]).
([1]) أخرجه مسلم في: الحج، باب: فضل الحج والعمرة (1348).
([2]) شرح مسلم (9/117).
([3]) أخرجه البخاري في الإيمان، باب: زيادة الإيمان ونقصانه (45)، ومسلم في التفسير (3017).
([4]) أخرجه أحمد (4/152)، والترمذي في الصوم، باب: ما جاء في كراهية الصوم أيام التشريق (773)، وأبو داود في الصوم، باب: صيام أيام التشريق (2419). قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (1/434)، وصححه الألباني في صحيح السنن (620).
([5]) زاد المعاد (1/ 61).
([6]) أخرجه أحمد (4/309)، والترمذي في الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (889)، وأبو داود في المناسك، باب: من لم يدرك عرفة (1949)، والنسائي في الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة (3016)، وابن ماجه في المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع (3015)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (468)، وابن خزيمة (2822)، وابن حبان (3892)، والحاكم (1/463).
([7]) شرح مسلم (2/37).
([8]) فيض القدير (3/406).
([9]) في حاشيته على النسائي (5/256).
([10]) في حاشيته على النسائي (5/256).
([11]) نيل الأوطار (2/139).
([12]) أخرجه مسلم في: الصيام (1162)
([13]) شرح مسلم (8/50/ 51).
([14]) رواه مسلم (1162) في الصيام باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم عاشوراء.
([15]) الوابل الصيب (ص 20 ـ 21).
([16]) أخرجه الترمذي في الدعوات، باب: في دعاء يوم عرفة (3585) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وله شواهد من حديث علي وأبي هريرة. قال الألباني في الصحيحة (1503): "وجملة القول: أن الحديث ثابت بمجموع هذه الشواهد، والله أعلم".
([17]) التمهيد (6/41).
([18]) تحفة الأحوذي (10/33).
الفصل الثالث: فضل اليوم العاشر وهو يوم النحر:
عن عبد الله بن قرط الثمالي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر)) ([1]) .
قال ابن تيمية رحمه الله: "أفضل أيام العام هو يوم النحر، وقد قال بعضهم: يوم عرفة والأول هو الصحيح؛ لأن فيه من الأعمال ما لا يعمل في غيره: كالوقوف بمزدلفة، ورمي جمرة العقبة وحدها، والنحر، والحلق، وطواف الإفاضة، فإن فعل هذه فيه أفضل بالسنّة واتفاق العلماء والله أعلم"([2])
قال ابن القيم رحمه الله: "فخير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر"([3]).
([1]) أخرجه أحمد (4/ 1350)، وأبو داود في الحج، باب: في الهدي إذا عطب قبل أن يبلغ (1765). وصححه ابن خزيمة (2866)، وابن حبان (2811).
([2]) مجموع الفتاوى (25/ 288) بتصرف يسير.
([3]) زاد المعاد (1/54).(/4)
فضل القرآن وأهله
الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ، الحمد لله علم القران ، خلق الإنسان ، علمه البيان ، الحمد لله الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، جعل القرآن هداية للناس ، ونبراساً يضيء لهم الطريق ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأكرم ، علم القرآن فكان خير معلم ، فصلوات الله وسلامه عليه ، وعلى آله وأصحابه أجمعين . . أما بعد :
فأحييكم بتحية الإسلام ، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فنحن جميعاً نوظف جميع الإمكانات والطاقات لخدمة هذا الدين العظيم ، إلا وإن من أعظم ما يُخدم به هذا الدين كلام الله عز وجل .
كلمة عن القران :
القرءان هو كلام الله القديم ، كلام الله منزل غير مخلوق ، الذي أنزله على نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم باللفظ والمعنى ، القرآن الكريم كتاب الإسلام الخالد ، ومعجزته الكبرى ، وهداية للناس أجمعين ، قال تعالى : " كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ "، ولقد تعبدنا الله بتلاوته آناء الليل وأطراف النهار ، قال تعالى : " إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ " ، فيه تقويم للسلوك، وتنظيم للحياة، من استمسك به فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، ومن أعرض عنه وطلب الهدى في غيره فقد ضل ضلالاً بعيداً ، ولقد أعجز الله الخلق عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه ، قال تعالى : " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة ممن مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين " ، القرآن مكتوب في المصاحف ، محفوظ في الصدور ، مقروء بالألسنة ، مسموع بالآذان ، فالاشتغال بالقرآن من أفضل العبادات ، ومن أعظم القربات ، كيف لا يكون ذلك ، وفي كل حرف منه عشر حسنات ، وسواء أكان بتلاوته أم بتدبر معانيه ، وقد أودع الله فيه علم كل شىء ، ففيه الأحكام والشرائع ، والأمثال والحكم ، والمواعظ والتأريخ ، والقصص ونظام الأفلاك ، فما ترك شيئا من الأمور إلا وبينها ، وما أغفل من نظام في الحياة إلا أوضحه ، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ ، هُوَ الَّذِي مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ ، فَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَة ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ) ، هُوَ الَّذِي مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " [ أخرجه الدارمي ] ، هذا هو كتابنا ، هذا هو دستورنا ، هذا هو نبراسنا ، إن لم نقرأه نحن معاشر المسلمين ، فهل ننتظر من اليهود والنصارى أن يقرؤوه ، قال تعالى : " وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " ، فما أعظمه من أجر لمن قرأ كتاب الله ، وعكف على حفظه ، فله بكل حرف عشر حسنات ، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم .
كلمة للحفظة :
هنيئاً لكم حفاظ كتاب الله الكريم ، هنيئاً لكم هذا الأجر العظيم ، والثواب الجزيل ، فعن أبِى هريرة رضِى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده » [ أخرجه مسلم ] .
فأنتم أهل الله وخاصته ، أنتم أحق الناس بالإجلال والإكرام ، فعن أبِى موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم ، وحامل القرءان غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط » [ أخرجه أبو داود ] .
أنتم خير الناس للناس ، لقد حضيتم بهذه الخيرية على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم ، فعن عثمانَ بن عفانَ رضيَ اللَّه عنهُ قال : قالَ رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « خَيركُم مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعلَّمهُ " [ أخرجه البخاري ] .(/1)
أنتم يا أهل القرآن أعلى الناس منزلة ، وأرفعهم مكانة ، فلقد تسنمتم مكاناً عالياً ، وارتقيتم مرتقىً رفيعاً ، بحفظكم لكتاب الله ، عن عمرَ بن الخطابِ رضي اللَّه عنهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال : « إِنَّ اللَّه يرفَعُ بِهذَا الكتاب أَقواماً ويضَعُ بِهِ آخَرين » [ أخرجه مسلم ] .
حفاظ كلام الله ، أنتم أعظم الخلق أجراً ، وأكثرهم ثواباً ، كيف لا ، وأنتم تحملون في صدوركم كلام ربكم ، وتسيرون بنور مولاكم وخالقكم ، عن عائشة رضي اللَّه عنها قالتْ : قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « الَّذِي يَقرَأُ القُرْآنَ وَهُو ماهِرٌ بِهِ معَ السَّفَرةِ الكرَامِ البررَةِ ، والذي يقرَأُ القُرْآنَ ويتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُو عليهِ شَاقٌّ له أجْران » [ متفقٌ عليه ] .
أبشروا يا أهل القرآن ، أزف إليكم البشرى ، بحديث نبي الهدى ، والذي يصور فيه حوار القرآن والشفاعة لصاحبه يوم القيامة ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَقُولُ يَا رَبِّ حَلِّهِ ، فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ ، ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ زِدْهُ ، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ ، ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ ، فَيَرْضَى عَنْهُ ، فَيُقَالُ لَهُ : اقْرَأْ وَارْقَ وَتُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً " [ أخرجه الترْمذي وقال : حديث حسن صحيح ] ، ويصدق ذلك حديث أَبي أُمامَةَ رضي اللَّه عنهُ قال : سمِعتُ رسولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يقولُ : « اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإِنَّهُ يَأْتي يَوْم القيامةِ شَفِيعاً لأصْحابِهِ » [ أخرجه مسلم ] .
فيا حفظة كتاب الله ، أينما اتجهتم فعين الله ترعاكم ، فأهل القرآن هم الذين لا يقدمون على معصية ولا ذنباً ، ولا يقترفون منكراً ولا إثماً ، لأن القرآن يردعهم ، وكلماته تمنعهم ، وحروفه تحجزهم ، وآياته تزجرهم ، ففيه الوعد والوعيد ، والتخويف والتهديد ، فلتلهج ألسنتكم بتلاوة القرآن العظيم ، ولترتج الأرض بترتيل الكتاب العزيز ، وليُسمع لتلاوتكم دوي كدوي النحل ، عَن النَّوَّاسِ بنِ سَمعانَ رضيَ اللَّه عنهُ قال : سمِعتُ رسول اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يقولُ : «يُؤْتى يوْمَ القِيامةِ بالْقُرْآنِ وَأَهْلِهِ الذِين كانُوا يعْمَلُونَ بِهِ في الدُّنيَا تَقدُمهُ سورة البقَرَةِ وَآل عِمرَانَ ، تحَاجَّانِ عَنْ صاحِبِهِمَا » [ أخرجه مسلم ] ، وعنِ ابنِ عباسٍ رضيَ اللَّه عنهما قال : قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : «إنَّ الَّذي لَيس في جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ القُرآنِ كالبيتِ الخَرِبِ » [ أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ] .
وكان من وصيته صلى الله عليه وسلم لأمته عامة ، ولِحَفَظَة كتاب الله خاصة ، تعاهد القرآن بشكل دائم ومستمر ، فقال صلى الله عليه وسلم : " تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلُّتاً من الإبل في عقلها " [ أخرجه مسلم ] ، ومن تأمل هذا الحديث العظيم ، ونظر في معانيه ، أدرك عِظَمَ هذه الوصية ، وعلم أهمية المحافظة على تلاوة كتاب الله ومراجعته ، والعمل بما فيه، ليكون من السعداء في الدنيا والآخرة
، فيستحب ختم القرآن في كل شهر ، إلا أن يجد المسلم من نفسه نشاطاً فليختم كل أسبوع، والأفضل أن لا ينقص عن هذه المدة ، كي تكون قراءته عن تدبر وتفكر، وكيلا يُحمِّل النفس من المشقة مالا تحتمل، ففي الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ القرآن في شهر، قلت : أجدُ قوة ، حتى قال : فاقرأه في سبع ، ولا تزد على ذلك " .
وأوصي جميع المسلمين رجالاً ونساءً ، بحفظ كتاب الله تعالى ما استطاعوا لذلك سبيلاً ، وإياكم ومداخل الشيطان ، ومثبطات الهمم ، فاليوم صحة وغداً مرض ، واليوم حياة وغداً وفاة ، واليوم فراغ وغداً شغل ، فاستغلوا هذه الحياة الدنيا فيما يقربكم من الله زلفى ، فأنتم مسؤولون عن أوقاتكم وأعمالكم وأقوالكم ، وإياكم وهجران كتاب الله ، فما أنزله الله إلا لنقرأه ولنتدبر آياته ونأخذ العبر من عظاته ، قال تعالى : " وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً " ، فمن الناس من لا يعرف القرآن إلا في رمضان ، وبئس القوم الذين لا يعرفون القرآن إلا في رمضان ، ومن الناس من لا يتذكر كتاب الله إلا في مواطن الفتن والمصائب ، ثم ينكص على عقبيه ، فأولئك بأسوأ المنازل ، فأروا الله من أنفسكم خيراً ، وجاهدوا أنفسكم ، وألزموها حفظ كتاب الله ، وتدارس آياته ومعانيه ، فالله لا يمل حتى تملوا .
ومن لم يستطع حفظ كتاب الله تعالى ، ومن لم يكن له أبناء في حلقات التحفيظ ، فليبادر قبل انقضاء الأوقات والأعمار ، ثم لا ينفع الندم ، فميدان السباق مفتوح ، ليبلوكم أيكم أحسن عملاً .
كلمة للأولياء :(/2)
وهذه كلمة لأولياء الأمور ، أيها الآباء والأمهات ، استوصوا بالأجيال خيراً، نشئوها على حب كتاب ربها، علموها العيش في رحابه، والاغتراف من معينه الذي لا ينضب، فالخير كل الخير فيه، وتعاهدوا ما أودع الله بين أيديكم من الأمانات، بتربيتها تربية قرآنية، كي تسعدوا في الدنيا قبل الآخرة، فما هانت أمة الإسلام إلا بهجرها لكتاب ربها وبعدها عنه ، ووالله لو تمسكنا بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، لأصبحنا أمة عزيزة ، أمة أبية شامخة .
فالله الله أيها الآباء الكرام ، فالأبناء أمانة في أعناقكم ، ولقد ائتمنكم الله عليهم ، فإياكم وخيانة الأمانة ، فخيانتها صفة ذميمة ، وخصلة دميمة ، مقت الله أهلها ، وأبغض فاعليها ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ " [ متفق عليه ] ، فمن خان الأمانة فقد صنفه الله من المنافقين ، والله توعدهم بأسفل مكان في النار ، فقال تعالى : " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً " ، فكم نرى اليوم من شباب الإسلام وهم يتغامزون ، ويتراقصون ، ويسرقون وينهبون ، ويسهرون ، تركوا الصلاة والصيام ، وعطلوا أغلب الأحكام ، لا يُقدِّرون لإنسان قدره ، ولا يقيمون لجار حقه ، فأي تربية هذه ، وأي أداء للأمانة هذا ، أليس ولي الأمر مسؤولاً عنهم يوم القيامة ؟ بلى والله ، إنه لمسؤول ، قال تعالى : " وقفوهم إنهم مسؤولون " .
وأذكِّر أولياء الأمور بأهمية أداء الأمانة وعدم خيانتها ، فهي منوطة بهم ، وقد حذرهم الله من خيانته أو التساهل في رعايتها ، فقال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون " ، فهذه الأجيال التي بين أيديكم ستسألون عنها يوم تعرضون على ربكم لا تخفى منكم خافية ، وسيتعلق بكم أبناؤكم يوم العرض والحساب ، فإياكم أن يكون أولادكم أعداء لكم ، فقد قال الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم " ، فاحذر أيها الأب المبارك ، أن يكون ولدك عدواً لك في دنياك وأخراك ، وأرع هذه الأمانة بكل إخلاص وصدق ، فالأبناء كالبذرة ، إن اخترت لها مكاناً طيباً نشأت طيبة ، وإن كان غير ذلك فلا تلومن إلا نفسك ، قال تعالى : " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون " [ الأعراف 58 ] ، فإن خنت الأمانة وفرطت فيها ، وتركت الحبل على غاربه لأبنائك ، ولم ترعهم بنصحك ، فوالله لقد أقحمت نفسك مكاناً لا تُحسد عليه أبداً ، واسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : " مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ " [ متفق عليه ] ، فهل تريد أن تموت وأنت غاش لرعيتك ، تاركاً لأمر ربك ، ثم يكون مصيرك النار وبئس المصير .
ولا أنسى أن أهنئ الأولياء الذين عرفوا أهمية الرعاية السليمة الصحيحة لأبنائهم ، وفق كتاب الله تعالى ، ووفق سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقاموا بما أوجب الله عليهم من الرعاية بالأبناء ، وأحاطوهم بالاهتمام والنصح والإرشاد ، فهنيئاً لهم أولئك الأبناء الصلحاء النجباء ، الذين يحملون كتاب الله بين جنباتهم ، وإلى كل أب وأم أدركا عظم المسؤولية الملقاة على عاتقهما ، وأدياها كما يجب ، أُبشرهما بهذا الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه الذي قَالَ فيه رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ ، أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا لَوْ كَانَتْ فِيكُمْ ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهَذَا " ، فهنيئاً لكم أيها الأولياء هذه البشارة النبوية من الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم .
الختام :
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا ، اللهم اجعله شفيعاً لنا ، وشاهداً لنا لا شاهداً علينا ، اللهم ألبسنا به الحلل ، وأسكنا به الظلل ، واجعلنا به يوم القيامة من الفائزين ، وعند النعماء من الشاكرين ، وعند البلاء من الصابرين ، اللهم حبِّب أبناءنا في تلاوته وحفظه والتمسك به، واجعله نوراً على درب حياتهم، برحمتك يا أرحم الراحمين ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
يحيى بن موسى الزهراني(/3)
فضل اللغة العربية
إبراهيم بن محمد الحقيل
من آيات الله البينات على عظيم قدرته ، وحسن إبداعه ، وإتقان خلقه ، اختلاف البشر في أشكالهم ، وألوانهم ولغاتهم ، فرغم أن أصلهم واحد ، فأبوهم آدم وأمهم حواء إلا أنهم انقسموا إلى أجناس وقبائل وألسن وألوان مختلفة لا يعلم عددها إلا الله تعالى ، كما قال سبحانه وتعالى : ] وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ [ ( الروم : 22 ) .
إن اختلاف لغات البشر آية عظيمة ، فهم مع اتحادهم في النوع كان اختلاف لغاتهم آية دالة على ما كَوَّنَه الله تعالى في غريزة البشر من اختلاف التفكير ، وتنويع التصرف في وضع اللغات ، وتبدل كيفياتها باللهجات والتخفيف ، والحذف، والزيادة ، بحيث تتغير الأصول المتحدة إلى لغات كثيرة [1] .
وامتن الله تعالى على الإنسان بأن خلقه ، ثم أتبع ذلك بذكر نعمة قدرته على التعبير عما في نفسه إما بالنطق وهو أكمل ، وإما بالإشارة إذا عجز عن النطق ، وذلك في قوله تعالى : ] الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ [
( الرحمن : 1-4 ) ، فقدَّم جل ثناؤه ذكر البيان على جميع ما توحَّد بخلقه ، وتفرَّد بإنشائه من شمس ، وقمر ، ونجم ، وشجر ، وغير ذلك ، ولمَّا خصَّ الله جل ثناؤه اللسانَ العربي بالبيان علم أن سائر اللغات قاصرة وواقعة دونه [2] .
إرسال الرسل بلغات أقوامهم :
ما ترك الله المكلفين حتى بيَّن لهم السبيل إليه ، فأرسل لهم الرسل ، وأنزل عليهم الكتب ، وعلَّمهم ما يحتاجون العلم به ، كما قال سبحانه : ] رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [ ( النساء : 165 ) وكل رسول بعثه الله تعالى إنما بعثه من نفس قومه ، لا من غيرهم، يعرفونه ويعرفهم ، ويتكلم بلغتهم ، كما في قوله سبحانه : ] وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الَعَزِيزُ الحَكِيمُ [ ( إبراهيم : 4 ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لم يبعث الله نبيًّا إلا بلغة قومه ) [3] .
ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل وأفضلهم ، أُرْسِلَ إلى الناس كافة ، وخُوطِبَ بدعوته العرب والعجم ، بعثه الله تعالى من قريش أوسط العرب وأفصحهم وخوطب الناس بالعربية ؛ لأن أمة العرب أفصح الأمم لسانًا ، وأسرعهم أفهامًا ، وأقدرهم بيانًا ، وألمعهم ذكاءً ، وأحسنهم استعدادًا لقبول الهدى والرشاد [4] .
العربية محفوظة :
أنزل القرآن بلغة العرب ؛ لأنها أصلح اللغات ، جمع معان ، وإيجاز عبارة ، وسهولة جري على اللسان ، وجمال وقع في الأسماع ، وسرعة حفظ [5] ، قال الله تعالى : ] وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [ ( الشعراء : 192-195 ) فوصفه الله تعالى بأبلغ ما يُوصف به الكلام وهو البيان [6] .
وارتبطت اللغة العربية بهذا الكتاب المُنَزَّل المحفوظ ، فهي محفوظة ما دام محفوظًا ، فارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم كان سببًا في بقائها وانتشارها حتى قيل : لولا القرآن ما كانت عربية [7] .
سعة اللغة العربية :
اللغة العربية أوسع اللغات ، وأكثرها بيانًا وإفهامًا بحاجة الإنسان ، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : ( لسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا ، وأكثرهم ألفاظًا ، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي ) [8] .
إن اللغة العربية غنية بثروة لغوية لا قدرة لأحد على أن يحصيها ، لأن هذه الثروة من الضخامة والسعة بحيث لا تسلس قيادها لمن يريد حصرها أو إحصاءها وإن أكثر مواد اللغة العربية غير مستعملة ، وكثير منه غير معروف [9] قال الكسائي : ( قد دَرَس من كلام العرب كثير ) [10] .
وقال أبو عمرو : ( ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير ) وذكر الزبيدي في مختصر العين أن عدة مستعمل الكلام كله ومهمله ستة آلاف ألف وتسعة وخمسون ألفا وأربعمائة ( 6059400 ) والمستعمل منها خمسة آلاف وستمائة وعشرون ( 5620 ) والمهمل ستة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وتسعون ( 6600093 ) ، وذكر عبد الغفور عطار أن المستعمل في العربية في عصرنا الحاضر لا يكاد يزيد على عشرة آلاف مادة مع أن الصحاح للجوهري يضم أربعين ألف مادة ، والقاموس ستين ألف مادة ، والتكملة ستين ألف مادة ، واللسان ثمانين ألف وأربعمائة ، والتاج عشرين ومائة ألف مادة [11] ، حتى قال ابن فارس فأين لسائر الأمم ما للعرب [12] .(/1)
ومع أن المستعمل من مواد اللغة العربية ليس إلا أقل القليل منها فإنها لم تضق عن حاجة الإنسان ، وتجاربه ، وخواطره وعلومه ، وفنونه ، وآدابه ، بل وسعت روافد الحضارة والعلوم غير المعروففة عند العرب في أزهى العصور الإسلامية [13] .
انتشار اللغة العربية :
لقد كان المسلمون في القرون الأولى يفتتحون الدول ، ويُمَصِّرُونَ الأمصار ، وينشرون الإسلام ، والداخلون في الإسلام من غير العرب يتعلمون العربية حتى يعقلوا كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويتعلموا أحكام الإسلام ، فعمت اللغة العربية أقطار الأرض ، وصارت لسان أكثر البشر ولغة التخاطب والعلم الرسمية فيما بين الأمم ، حتى التي لم تدخل في الإسلام ، ولقد عجب مؤرخو أوربة من انتشار هذه اللغة في الأرض ، وغزوها للشعوب الغربية ، قال المؤرخ الغربي رنان : من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب حل سره : انتشار اللغة العربية ، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء ، فبدت فجأة على غاية الكمال سلسة أية سلاسة غنية أي غنًى ، كاملة بحيث لم يدخل عليها منذ ذلك العهد إلى يومنا هذا أدنى تعديل مهم ، فليس لها طفولة ولا شيخوخة ، ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة ، إلى أن قال : فإن العربية ولا جدال قد عمت أجزاء كبرى من العالم ولم ينازعها الشرف في كونها لغة عامة أو لسان فكر ديني أو سياسي أسمى من اختلاف العناصر إلا لغتان : اللاتينية واليوناينة ، وأين مجال هاتين اللغتين في السعة من الأقطار التي عم انتشار اللغة العربية فيها اهـ [14] ، ويقول جورج سرطون : وأصبحت العربية في النصف الثاني من القرن الثامن للميلاد لغة العلم عند الخواص في العالم المتمدن ، وصارت حاملة علم التقدم الصحيح وحافظت على تفوقها وتصدُّرها في المرتبة الأولى بين جميع الألسن الأخرى إلى القرن الحادي عشر على أقل تقدير اهـ [15] .
مفاخرة شباب أوربة بالعربية :
لقد مضى على العربية زمان كان شباب أوربا يفاخرون بتعلمها وينافسون أقرانهم في إتقانها ، حتى أصدرت الكنيسة قرارًا قالت فيه : إن هؤلاء الشبان الرقعاء الذين يبدؤون كلامهم بلغات بلادهم ، ثم يكملون كلامهم باللغة العربية لنعلم أنهم تعلموا في مدارس المسلمين ، هؤلاء إن لم يكفوا عن ذلك فستصدر الكنيسة ضدهم قرارات حرمان [16] . ولم يمض على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم بالعربية ليفهمها النصارى ؛ لأنهم زهدوا في اللغة اللاتينية ، ونشأ لهم غرام بالعربية ، فأخذوا يتقنون آدابها ، ويتغنون بأشعارها ، ويكتبون بها كأبنائها ، ويعجبون ببلاغتها إعجاب أهلها بها [17] .
قارن أيها القارئ ، هذا بحال كثير من أبناء المسلمين اليوم الذين زهدوا في لغتهم لغة القرآن ، وولوا شطرهم إلى الغرب بلغاته المختلفة يلوون ألسنتهم بلغات أجنبية يخلطون بها عربيتهم ؛ ليبرهنوا على أنهم مثقفون ومتحضرون ، في عصر كثر فيه المنهزمون مع أنفسهم ، وقل الواثقون بتراثهم وحضارتهم ، فإلى الله المشتكى ، ونسأله تعالى أن يعصمنا من الزيغ ومن التقليد الأعمى .
المؤامرات على العربية :
اللغة العربية ظلت قوية ثابتة ، وستظل كذلك إلى أن يشاء الله تعالى ، لقد تآمر عليها أعداء كُثُر من الشعوبيين القدماء ، والمستشرقين أيام الاستعمار الأجنبي للبلاد الإسلامية ، حيث حاولوا إلغاء اللغة العربية ، واستبدالها بلغات أجنبية إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل ، ثم ظهر أفراخ الغرب وعملاؤه في بلاد المسلمين ليقوموا بذات المهمة عن طريق إحياء اللغات البائدة من الفرعونية ، والكردية ، والأمازيغية وغيرها ، وتمجيد اللهجات العامية ، والشعر العامي ، وإفساد الذوق العربي بهدم أوزان الشعر ، والولوغ في الطلاسم والرمزية باسم الحداثة والتجديد ، والدعوة إلى إلغاء الإعراب والحركات ، وتسكين أواخر الكلمات ، وكل محاولة منها تفشل بعد الأخرى ، ويُقَيِّضُ الله تعالى رجالاً يُنَافِحُون عن لغة القرآن ، ويَرُدُّونَ كَيْدَ الأعداء .
يقول الكاتب الغربي ميليه : إن اللغة العربية لم تتراجع من أرض دخلتها ، لتأثيرها الناشئ من كونها لغة دين ، ولغة مدنية ، وعلى الرغم من الجهود التي بذلها المبشرون ، ولمكانة الحضارة التي جاءت بها الشعوب النصرانية ، لم يخرج أحد من الإسلام إلى النصرانية [18] .
وجوب تعلم العربية :(/2)
إن لغتنا جزء من ديننا ، بل لا يمكن أن يقوم الإسلام إلا بها ، ولا يصح أن يقرأ المسلم القرآن إلا بالعربية ، وقراءة القرآن ركن من أركان الصلاة التي هي ركن من أركان الإسلام ، ولذا فإن العناية بتعلمها وإتقانها مطلوبة مرغوب فيها من أجل إقامة شعائر الإسلام وفهم نصوص الكتاب والسنة ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( ومعلوم أن تَعَلُّمَ العربية وتعليم العربية فرضٌ على الكفاية وكأن السلف يؤدبون أولادهم على اللحن ، فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي ، ونصلح الألسن المائلة عنه ، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة ، والاقتداء بالعرب في خطابها ، فلو تُرِكَ الناس على لحنهم كان نقصًا وعيبًا ، فكيف إذا جاء قوم إلى الألسنة العربية المستقيمة ، والأوزان القويمة فأفسدوها بمثل هذه المفردات والأوزان المفسدة للسان ، الناقلة عن العربية العرباء إلى أنواع الهذيان الذي لا يَهْذِي به الأقوام من الأعاجم الطماطم العميان ) اهـ [19].
وينبغي لمن دخل الإسلام من الأعاجم أن يتعلم العربية فقد سمع عمر رضي الله عنه رجلاً يتكلم في الطواف بالفارسية فأخذ بِعَضُدِهِ وقال : ابتغ إلى العربية سبيلا [20] قال عطاء : رأى عمر بن الخطاب رجلين وهما يَتَرَاطَنَان في الطواف فعلاهما بالدِّرَّةِ وقال : لا أُمَّ لكما ، ابتغيا إلى العربية سبيلا [21] .
وعلي رضي الله عنه ضرب الحسن و الحسين على اللحن [22] .
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يضرب أولاده على اللحن ولا يضربهم على الخطأ [23] .
_______________________
(1) التحرير والتنوير لابن عاشور (21/73) .
(2) الصاحبي لابن فارس / 19 .
(3) أخرجه أحمد في المسند من حديث أبي ذر رضي الله عنه (5/185) وصحَّحه السيوطي في الجامع الصغير (7357) ثم الألباني في صحيح الجامع (5179) .
(4) التحرير والتنوير (13/187) .
(5) المصدر السابق (13/187) .
(6) الصاحبي / 19 .
(7) فصول في فقه اللغة العربية لرمضان عبد التواب (90) .
(8) الرسالة للإمام الشافعي (42) والمزهر للسيوطي (1/37) وتاج العروس (1/16-17) والصاحبي (36) وقال بعض الفقهاء : كلام العرب لا يحيط به إلا نبي ، قال ابن فارس : وهذا كلام حري أن يكون صحيحًا وما بلغنا عن أحد ممن مضى أنه ادعى حفظ اللغة كلها .
(9) انظر : مقدمة عبد الغفور عطار على الصحاح للجوهري / 23 .
(10) لسان العرب (1/431) .
(11) نزهة الألباء (33) وانظر الصاحبي (36) ومقدمة الصحاح / 23 .
(12) الصاحبي (22) .13) مقدمة الصحاح / 24 .
(14) انظر كتابه : تاريخ اللغات السامية ، ونقله عنه محمد كرد علي في كتابه الإسلام والحضارة الغربية (1/172-173) .
(15) انظر مقالته : العلوم والعمران في العصور الوسطى عن المصدر السابق (1/173) .
(16) عودة الحجاب للشيخ محمد إسماعيل المقدم (2/30) .
(17) انظر : غرائب الغرب لمحمد كرد علي (2/134) والإسلام والحضارة الغربية (1/177) .
(18) انظر كتابه : اللغات في أوربا الحديثة ، عن الإسلام والحضارة العربية (1/177) .
(19) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (32/252) .
(20) أخبار النحويين لعبد الواحد بن عمر /25 .
(21) التمهيد للعطار / 10 عن مجلة الحكمة (11/413) .
(22) الجامع لأخلاق الراوي للبغدادي (2/85) .
(23) الأضداد للأنباري (244) وانظر مجلة الحكمة (11/411) .(/3)
فضل تلاوة القرآن الكريم
محمد سعد عبد الدايم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
أمر الله تعالى بتلاوة القرآن وترتيله ، ومدح الله التالين لكتابه فوصفهم بالإيمان وأنهم هم أصحاب التجارة الفائزة :
قال تعالى (( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ))[1] وقال تعالى (( وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً ))[2] .
وقال سبحانه (( الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ))[3] ، وقال تعالى (( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ ، وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ، يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ))[4] .
ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أمثلة للتالين لكتاب الله
ـ (( عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ ، وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلا رِيحَ لَهَا ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ أَوْ خَبِيثٌ وَرِيحُهَا مُرٌّ ))[5] .
التَّمْثِيل وَقَعَ بِالَّذِي يَقْرَأ الْقُرْآن وَلا يُخَالِف مَا اِشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْر وَنَهْي لا مُطْلَق التِّلاوَة .
والأترجة مِنْ الْفَاكِهَة الَّتِي تَجْمَع طِيب الطَّعْم وَالرِّيح كَالتُّفَّاحَةِ لأَنَّهُ يُتَدَاوَى بِقِشْرِهَا وَهُوَ مُفْرِح بِالْخَاصِّيَّةِ , وَيُسْتَخْرَج مِنْ حَبِّهَا دُهْن لَهُ مَنَافِع وَقِيلَ إِنَّ الْجِنّ لا تَقْرَب الْبَيْت الَّذِي فِيهِ الأُتْرُجّ فَنَاسَبَ أَنْ يُمَثِّلَ بِهِ الْقُرْآن الَّذِي لا تَقْرَبهُ الشَّيَاطِين , وَغِلاف حَبّه أَبْيَض فَيُنَاسِب قَلْب الْمُؤْمِن , وَفِيهَا أَيْضًا مِنْ الْمَزَايَا كِبْر جُرْمهَا وَحُسْن مَنْظَرهَا وَتَفْرِيح لَوْنهَا وَلِين مَلْمَسهَا , وَفِي أَكْلهَا مَعَ الالْتِذَاذ طِيب نَكْهَة وَدِبَاغ مَعِدَة وَجَوْدَة هَضْمٍ , وَلَهَا مَنَافِع أُخْرَى .
ذكر بعض فضائل تلاوة القرآن الكريم ، وفضل من حفظ شيئًا من كتاب الله تعالى :
% أول هذه الفضائل أن أهل القرآن هم أهل الله تعالى :
ـ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ ، قَالَ قِيلَ : مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ ))[6] .
% ومن فضائله أن ثواب تلاوة القرآن أعظم من أنفس أموال الدنيا :
ـ (( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ أَنْ يَجِدَ فِيهِ ثَلاثَ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ ، قَالَ : فَثَلاثُ آيَاتٍ يَقْرَأُ بِهِنَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلاثِ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ ))[7] .
الْخَلِفَات : الْحَوَامِل مِنْ الإِبِل إِلَى أَنْ يَمْضِي عَلَيْهَا نِصْف أَمَدهَا ثُمَّ هِيَ عِشَار .
ـ (( عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ : أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلا قَطْعِ رَحِمٍ ؟ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ نُحِبُّ ذَلِكَ ، قَالَ : أَفَلا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ ، وَثَلاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلاثٍ ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنْ الإِبِلِ ))[8] . . الْكَوْمَا مِنْ الإِبِل : الْعَظِيمَة السَّنَام .
% ومن فضائله أن كل حرف فيه بعشر حسنات :
ـ (( عن ابْن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لا أَقُولُ الم حَرْفٌ ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ ، وَلامٌ حَرْفٌ ، وَمِيمٌ حَرْفٌ ))[9] .
% ومن أعظم فضائله أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالجلوس مع أهل القرآن وإن كانوا أفقر الناس(/1)
ـ (( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ جَلَسْتُ فِي عِصَابَةٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَإِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَسْتَتِرُ بِبَعْضٍ مِنْ الْعُرْيِ وَقَارِئٌ يَقْرَأُ عَلَيْنَا إِذْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ عَلَيْنَا فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَكَتَ الْقَارِئُ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ مَا كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ قَارِئٌ لَنَا يَقْرَأُ عَلَيْنَا فَكُنَّا نَسْتَمِعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ أُمِرْتُ أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ قَالَ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسْطَنَا لِيَعْدِلَ بِنَفْسِهِ فِينَا ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا فَتَحَلَّقُوا وَبَرَزَتْ وُجُوهُهُمْ لَهُ قَالَ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفَ مِنْهُمْ أَحَدًا غَيْرِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ صَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ بِنِصْفِ يَوْمٍ ، وَذَاكَ خَمْسُ مِائَةِ سَنَةٍ ))[10] وفي رواية (( أَبْشِرُوا صَعَالِيكَ الْمُهَاجِرِينَ بِالْفَوْزِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِ مِائَةٍ سَنَةً ))[11] .
% ومن فضائله أنه يورث الإنسان الراحة والذكر الحسن في السماء والأرض :
ـ (( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً جَاءَهُ فَقَالَ أَوْصِنِي فَقَالَ سَأَلْتَ عَمَّا سَأَلْتُ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَبْلِكَ : أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ رَأْسُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَعَلَيْكَ بِالْجِهَادِ فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الإِسْلامِ ، وَعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتِلاوَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ رَوْحُكَ فِي السَّمَاءِ وَذِكْرُكَ فِي الأَرْضِ ))[12] .
% ومن فضائله أن كل آية يحفظها المسلم يرفعه الله بها درجة في الجنة :
ـ (( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ : اقْرَأْ وَاصْعَدْ ، فَيَقْرَأُ وَيَصْعَدُ بِكُلِّ آيَةٍ دَرَجَةً ، حَتَّى يَقْرَأَ آخِرَ شَيْءٍ مَعَهُ ))[13] .
% ومن فضائله أن الماهر بالقرآن يقرنه الله تعالى بأفضل الملائكة :
ـ (( عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَانِ )) رواه البخاري ، وعند مسلم (( الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ ))[14].
السَّفَرَة : الرُّسُل , لأَنَّهُمْ يُسْفِرُونَ إِلَى النَّاس بِرِسَالاتِ اللَّه , وَقِيلَ : السَّفَرَة : الْكَتَبَة .وَالْبَرَرَة : الْمُطِيعُونَ , مِنْ الْبِرّ وَهُوَ الطَّاعَة
وَالْمَاهِر : الْحَاذِق الْكَامِل الْحِفْظ الَّذِي لا يَتَوَقَّف وَلا يَشُقّ عَلَيْهِ الْقِرَاءَة بِجَوْدَةِ حِفْظه وَإِتْقَانه .
وكَوْنه مَعَ الْمَلائِكَة أَنَّ لَهُ فِي الآخِرَة مَنَازِل يَكُون فِيهَا رَفِيقًا لِلْمَلائِكَةِ السَّفَرَة , لاتِّصَافِهِ بِصِفَتِهِمْ مِنْ حَمْل كِتَاب اللَّه تَعَالَى . وعمل بِعَمَلِهِمْ وَسَالِك مَسْلَكهمْ .
وَأَمَّا الَّذِي يَتَتَعْتَع فِيهِ فَهُوَ الَّذِي يَتَرَدَّد فِي تِلاوَته لِضَعْفِ حِفْظه فَلَهُ أَجْرَانِ : أَجْر بِالْقِرَاءَةِ , وَأَجْر بِتَتَعْتُعِهِ فِي تِلاوَته وَمَشَقَّته .
وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الَّذِي يَتَتَعْتَع عَلَيْهِ لَهُ مِنْ الأَجْر أَكْثَر مِنْ الْمَاهِر بِهِ , بَلْ الْمَاهِر أَفْضَل وَأَكْثَر أَجْرًا ; لأَنَّهُ مَعَ السَّفَرَة وَلَهُ أُجُور كَثِيرَة وَلَمْ يَذْكُر هَذِهِ الْمَنْزِلَة لِغَيْرِهِ , وَكَيْف يَلْحَق بِهِ مَنْ لَمْ يَعْتَنِ بِكِتَابِ اللَّه تَعَالَى وَحِفْظه وَإِتْقَانه وَكَثْرَة تِلاوَته كَاعْتِنَائِهِ حَتَّى مَهَرَ فِيهِ
% ومن فضائله أن أفضل الناس هو من يتعلم القرآن ويعلمه :(/2)
ـ (( عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ ، قَالَ وَأَقْرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي إِمْرَةِ عُثْمَانَ حَتَّى كَانَ الْحَجَّاجُ قَالَ وَذَاكَ الَّذِي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا ))[15] .
ـ (( عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ ))[16] .
ـ (( عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن أبيه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خِيَارُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ ، قَالَ وَأَخَذَ بِيَدِي فَأَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا أُقْرِئُ ))[17] .
ـ (( عَنْ دُرَّةَ بِنْتِ أَبِي لَهَبٍ قَالَتْ قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : خَيْرُ النَّاسِ أَقْرَؤُهُمْ وَأَتْقَاهُمْ وَآمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ ))[18] .
% ومن فضائله أن الله تعالى لا يعذب إنسانًا حفظ القرآن وعمل به :
ـ ((عن عصمة بن مالك رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار ))[19] وفي رواية ((مَا مَسَّتْهُ النَّارُ)) [20] .
ـ ((عن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَوْ جُعِلَ الْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ مَا احْتَرَقَ ))[21]
ـ (( عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قال : اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلا يَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ الْمَصَاحِفُ الْمُعَلَّقَةُ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يُعَذِّبَ قَلْبًا وَعَى الْقُرْآنَ ))[22] .
% ومن فضائله أنه يأتي شفيعًا لأصحابه الذين كانوا يعملون به في الدنيا :
ـ (( عن النَّوَّاسَ بْنَ سَمْعَانَ رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ ، وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ ، قَالَ : كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا )) لفظ مسلم ، وعند الترمذي : (( يَأْتِي الْقُرْآنُ وَأَهْلُهُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ ..)) [23] .
ـ (عن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا ، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ )[24](/3)
ـ (( عن بُرَيْدَة بن الحصيب رضي الله عنه قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلا يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ ، قَالَ : ثُمَّ مَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ يُظِلانِ صَاحِبَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ فَيَقُولُ لَهُ : هَلْ تَعْرِفُنِي ؟ فَيَقُولُ : مَا أَعْرِفُكَ ، فَيَقُولُ لَهُ : هَلْ تَعْرِفُنِي ؟ فَيَقُولُ : مَا أَعْرِفُكَ ، فَيَقُولُ : أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ ، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا ، فَيَقُولانِ : بِمَ كُسِينَا هَذِهِ ؟ فَيُقَالُ : بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا ، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلاً ))[25] .
ـ (( عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ فَيَقُولُ لِصَاحِبِهِ أَنَا الَّذِي أَسْهَرْتُ لَيْلَكَ وَأَظْمَأْتُ هَوَاجِرَكَ )) لفظ أحمد وعند ابن ماجه (( وأظمأت نهارك))[26] .
ـ (( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يَقُولُ الصِّيَامُ أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ ، قَالَ : فَيُشَفَّعَانِ ))[27] .
نسأل الله تعالى أن يرزقنا شفاعة القرآن وأن يجعلنا من أهله العاملين به الفائزين برضاه وعظيم ثوابه
% ومن فضائله أن صاحب القرآن رفعه النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم إلى مراتب العلماء :
ـ (( عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : مَنْ أَخَذَ السَّبْعَ الأُوَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فَهُوَ حَبْرٌ ))[28] .
% ومن فضائله أن صاحب القرآن يكرمه الله عز وجل عليه وعلى والديه يوم القيامة بأنواع عظيمة من التكريم :
ـ (( عن معاذ بن أنس رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ نَبَتَ لَهُ غَرْسٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَكْمَلَهُ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَلْبَسَ وَالِدَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَاجًا هُوَ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتٍ مِنْ بُيُوتِ الدُّنْيَا لَوْ كَانَتْ فِيهِ فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهِ ))[29] .
ـ (( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ : يَا رَبِّ حَلِّهِ ، فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ ، ثُمَّ يَقُولُ : يَا رَبِّ زِدْهُ ، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ ، ثُمَّ يَقُولُ : يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ ، فَيَرْضَى عَنْهُ ، فَيُقَالُ لَهُ : اقْرَأْ وَارْقَ وَتُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً ))[30] .
ـ (( عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال : اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ نِعْمَ الشَّفِيعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّهُ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا رَبِّ حَلِّهِ حِلْيَةَ الْكَرَامَةِ فَيُحَلَّى حِلْيَةَ الْكَرَامَةِ يَا رَبِّ اكْسُهُ كِسْوَةَ الْكَرَامَةِ فَيُكْسَى كِسْوَةَ الْكَرَامَةِ يَا رَبِّ أَلْبِسْهُ تَاجَ الْكَرَامَةِ يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ فَلَيْسَ بَعْدَ رِضَاكَ شَيْءٌ ))[31] .(/4)
ـ (( عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ : يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَشْفَعُ لِصَاحِبِهِ يَقُولُ : يَا رَبِّ لِكُلِّ عَامِلٍ عُمَالَةٌ مِنْ عَمَلِهِ وَإِنِّي كُنْتُ أَمْنَعُهُ اللَّذَّةَ وَالنَّوْمَ فَأَكْرِمْهُ ، فَيُقَالُ : ابْسُطْ يَمِينَكَ فَتُمْلأُ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ ، ثُمَّ يُقَالُ ابْسُطْ شِمَالَكَ فَتُمْلأُ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ ، وَيُكْسَى كِسْوَةَ الْكَرَامَةِ ، وَيُحَلَّى بِحِلْيَةِ الْكَرَامَةِ ، وَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ ))[32] .
% والقرآن هو من أعظم القربات التي يتقرب بها إلى الله وأحبها إليه :
ـ (( عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أُذِنَ لِعَبْدٍ فِي شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ يُصَلِّيهِمَا ، وَإِنَّ الْبِرَّ لَيُذَرُّ فَوْقَ رَأْسِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي صَلاتِهِ ، وَمَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ يَعْنِي الْقُرْآنَ ))[33] .
% ومن عظيم فضائله أن الخلق كلهم يكتبون في كل ليلة من الغافلين إلا من قرأ القرآن :
ـ (( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْمُقَنْطِرِينَ ))[34] .
ـ (( عن أبي أُمَامَةَ رضي الله عنه قال : مَنْ قَرَأَ أَلْفَ آيَةٍ كُتِبَ لَهُ قِنْطَارٌ مِنْ الأَجْرِ ، وَالْقِيرَاطُ مِنْ ذَلِكَ الْقِنْطَارِ لا يَفِي بِهِ دُنْيَاكُمْ ، يَقُولُ لا يَعْدِلُهُ دُنْيَاكُمْ ))[35] .
% ومن أعظم فضائله أن البيت الذي يقرأ فيه القرآن تحصل فيه الخيرات والبركات ويحفظ الله تعالى أهل هذا البيت من كل سوء .
ـ (( عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه كَانَ يَقُولُ : إِنَّ الْبَيْتَ لَيَتَّسِعُ عَلَى أَهْلِهِ وَتَحْضُرُهُ الْمَلائِكَةُ وَتَهْجُرُهُ الشَّيَاطِينُ وَيَكْثُرُ خَيْرُهُ أَنْ يُقْرَأَ فِيهِ الْقُرْآنُ وَإِنَّ الْبَيْتَ لَيَضِيقُ عَلَى أَهْلِهِ وَتَهْجُرُهُ الْمَلائِكَةُ وَتَحْضُرُهُ الشَّيَاطِينُ وَيَقِلُّ خَيْرُهُ أَنْ لا يُقْرَأَ فِيهِ الْقُرْآنُ ))[36] .
ـ (( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِابْنٍ لَهُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنِي هَذَا يَقْرَأُ الْمُصْحَفَ بِالنَّهَارِ وَيَبِيتُ بِاللَّيْلِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا تَنْقِمُ أَنَّ ابْنَكَ يَظَلُّ ذَاكِرًا وَيَبِيتُ سَالِمًا ))[37] .
ـ (( عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَرَأَ الآيَتَيْنِ الآخِرَتَيْنِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ ))[38] .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ سورًا من القرآن .. وللحديث بقية إن شاء الله تعالى
هذا وصلي اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، والحمد لله رب العالمين .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] العنكبوت (45) .
[2] المزمل (4) .
[3] البقرة (121) .
[4] فاطر (29) .
[5] رواه البخاري كتاب فضائل القرآن باب إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به (5059) .
[6] رواه أحمد (1184) ، وابن ماجه في المقدمة (211) ، والدارمي في فضائل القرآن (3192) ، والحاكم صححه الألباني في صحيح الجامع (2165) .
[7] رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين باب فضل قراءة القرآن في الصلاة (1335) ، وابن ماجه في الأدب (3772) ، وأحمد (9635) ، والدارمي في فضائل القرآن (3180)
[8] رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه (1236) ، وأحمد (16767) .
[9] رواه الترمذي في فضائل القرآن (2835) وقال : حسن صحيح ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6469) .
[10] رواه أبو داود في العلم باب في القصص (3181) ، وأحمد وروايته هي السابقة .
[11] رواه أحمد من حديث أبي سعيد (11479) ، وقال الزين في المسند (10/303) : إسناده حسن .
[12] رواه أحمد في مسند أبي سعيد t (11349) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2543) .
[13] رواه ابن ماجه في كتاب الأدب باب ثواب القرآن (3770) ، وأحمد في مسند أبي سعيد (10933) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (8121) .
[14] رواه البخاري في تفسير القرآن باب عبس وتولى (4937) ، ومسلم في صلاة المسافرين (1329) ، والترمذي في فضائل القرآن (2829) ، وأبو داود في الصلاة (1242) ، وابن ماجه في الأدب (3769) ، وأحمد (23493- 23644) ، والدارمي في فضائل القرآن (3234) .(/5)
[15] رواه البخاري في فضائل القرآن باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه (5027) ، والترمذي في فضائل القرآن (2832) ، وأبو داود في الصلاة (1240) ، وابن ماجه في المقدمة (207) ، وأحمد (389) ، والدارمي في فضائل القرآن (3204) .
[16] رواه البخاري في فضائل القرآن باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه (5028) ، والترمذي في فضائل القرآن (2833) ، وأحمد (238) .
[17] رواه ابن ماجه في المقدمة باب فضل من تعلم القرآن وعلمه (209) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1/42)،ورواه الدارمي في فضائل القرآن (3205)
[18] رواه أحمد (26165) ، وقال الزين في المسند (17/546) : إسناده صحيح .
[19] رواه البيهقي وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5266) .
[20] رواه أحمد من حديث عقبة (16779) وقال الزين في المسند (13/367) : إسناده حسن .
[21] رواه أحمد (16725)،والدارمي في فضائل القرآن(3176)،والطبراني والطحاوي،وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5282)،وقال الزين في المسند(13/353):إسناده حسن .
[22] رواه الدارمي في فضائل القرآن باب فضل من قرأ القرآن (3185) بسند متصل رجاله ثقات .، وقال الحافظ في الفتح : إسناده صحيح أخرجه ابن أبي داود .
[23] رواه مسلم في صلاة المسافرين باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة (1338) ، والترمذي في فضائل القرآن (2808) ، وأحمد (16979) .
[24] رواه مسلم في صلاة المسافرين باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة (1337) ، وأحمد (21126) .
[25] رواه أحمد في حديث بريدة الأسلمي t (21872) ، والدارمي في فضائل القرآن (3257) ، وقال الزين في المسند (16/477) : إسناده صحيح وقال البوصيري رجاله ثقات
[26] رواه أحمد (21898) ، وابن ماجه (3771) ، وقال الزين في المسند (16/486) : إسناده صحيح .
[27] رواه أحمد (6337) ، ورواه الطبراني والحاكم والبيهقي ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3882) .
[28] رواه أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها (23390) وقال الزين في المسند (17/359) : إسناده صحيح .
[29] رواه أحمد (15091) ، وأبو داود في الصلاة (1241) ، وقال الزين في المسند (12/256) : إسناده حسن .
[30] رواه الترمذي في فضائل القرآن باب ما جاء فيمن قرأ حرفًا من القرآن (2839) وقال : حسن صحيح ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (8030) .
[31] رواه الدارمي في فضائل القرآن باب فضل من قرأ القرآن (3177) ، وهو حسن وانظر ما قبله .
[32] رواه الدارمي في فضائل القرآن باب فضل من قرأ القرآن (3178) وإسناده حسن ويشهد له ما قبله .
[33] رواه أحمد (2174) ، والترمذي في فضائل القرآن (2836) ، وقال الزين في المسند (16/266) : إسناده صحيح .
[34] رواه أبو داود في الصلاة باب تحزيب القرآن (1190) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6439) .
[35] رواه الدارمي في فضائل القرآن باب من قرأ ألف آية (3326) ، وإسناده صحيح .
[36] رواه الدارمي في فضائل القرآن باب فضل من قرأ القرآن (3175) ورجاله ثقات .
[37] رواه أحمد (6325) وقال أحمد شاكر في المسند (6/180) : إسناده صحيح .
[38] رواه البخاري في فضائل القرآن (5051) ، ومسلم في صلاة المسافرين (1340) ، والترمذي في فضائل القرآن (2806) ، وأبو داود في لصلاة (1189) ، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1358) ، وأحمد (16451) ، والدارمي في فضائل القرآن (2254) .(/6)
فضل شهر المحرم وصوم عاشوراء
قال ابن رجب الحنبلي، رحمه الله: " اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل؟ فقال الحسن وغيره: أفضلها شهر الله المحرم، ورجحه طائفة من المتأخرين، وروى وهب بن جرير عن قرة بن خالد عن الحسن، قال: إن الله افتتح السنة بشهر حرام وختمها بشهر حرام، فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم، وكان يسمى شهر الله الأصم من شدة تحريمه، و أخرج النسائي من حديث أبي ذر _رضي الله عنه_ قال:" سألت النبي _صلى الله عليه وسلم_: أي الليل خير وأي الأشهر أفضل؟ فقال: "خير الليل جوفه، وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم"، وإطلاق النبي _صلى الله عليه وسلم_ في هذا الحديث أفضل الأشهر، محمول على ما بعد رمضان، كما في رواية الحسن المرسلة" ا.هـ.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: " أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" .
يرى الشافعية رحمهم الله أن أفضل شهر يُصام كاملاً بعد شهر رمضان شهر الله المحرم؛ لأن بعض التطوع قد يكون أفضل من أيامه كعرفة وعشر ذي الحجة، فالتطوع المطلق أفضله المحرم، كما أن أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل". ولذا قال النووي، رحمه الله: " فإن قيل: في الحديث إن أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم، فكيف أكثر الصيام في شعبان دون المحرم؟
فالجواب: لعله لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر الحياة قبل التمكن من صومه، أو لعله كان يعرض فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه، كسفر ومرض وغيرهما" ا.هـ.
والصحيح أن صوم شعبان أفضل، ولكنه يعد من باب السنة الراتبة، أما المحرم فمن السنن المستحبة غير الراتبة.
قال ابن رجب: "وقد سمى النبي _صلى الله عليه وسلم_ المحرم شهر الله، وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله، فإن الله _تعالى_ لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته، كما نسب محمداً وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء إلى عبوديته، ونسب إليه بيته وناقته، ولما كان هذا الشهر مختصاً بإضافته إلى الله _تعالى_، وكان الصيام من بين الأعمال مضافاً إلى الله _تعالى_، فإنه له _سبحانه_ من بين الأعمال، ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله ، بالعمل المضاف إليه المختص به وهو الصيام، وقد قيل في معنى إضافة هذا الشهر إلى الله _عز وجل_، إنه إشارة إلى أن تحريمه إلى الله _عز وجل_ ليس لأحد تبديله كما كانت الجاهلية يحلونه ويحرمون مكانه صَفَراً، فأشار إلى أنه شهر الله الذي حرمه، فليس لأحد من خلقه تبديل ذلك وتغييره.
فضل يوم عاشوراء:
وهو أفضل يوم في هذا الشهر؛ ففيه حدث عظيم، أظهر الله فيه الحق على الباطل؛ حيث أنجى فيه موسى _عليه السلام_ وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فهو يوم له فضيلة عظيمة، ومنزلة قديمة. فليوم عاشوراء فضل عظيم وحرمة قديمة، فقد كان موسى _عليه السلام_ يصومه لفضله؛ بل كان أهل الكتاب يصومونه، بل حتى قريش كانت تصومه في الجاهلية.
عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قدم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟" فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، و أغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "فنحن أحق وأولى بموسى منكم" فصامه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وأمر بصيامه"، متفق عليه، ولأحمد عن أبي هريرة نحوه وزاد فيه: " وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرا ً" .
وعن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال:" ما رأيت النبي _صلى الله عليه وسلم_ يتحرى صيام يوم فضَّله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان"، متفق عليه.
قال ابن حجر: "هذا يقتضي أن يوم عاشوراء أفضل الأيام للصائم بعد رمضان، لكن ابن عباس أسند ذلك إلى علمه، فليس فيه ما يرد علم غيره، وقد روى مسلم من حديث أبي قتادة مرفوعاً أن صوم عاشوراء يكفر سنة، وأن صيام يوم عرفة يكفر سنتين، وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام عاشوراء، وقد قيل في الحكمة في ذلك إن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى _عليه السلام_، ويوم عرفة منسوب إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ فلذلك كان أفضل" ا.هـ.
وعن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت:" أرسل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة"من كان أصبح صائماً فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطراً فليتم بقية يومه" فكنا بعد ذلك نصومه ونصوِّم صبياننا الصغار، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه حتى يكون عند الإفطار" ، متفق عليه(/1)
وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رجلاً سأل النبي _صلى الله عليه وسلم_ عن صيام يوم عاشوراء، فقال: " إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" رواه (مسلم 1976)، وهذا من فضل الله علينا أن جعل صيام يوم واحد يكفر ذنوب سنة كاملة.
وعن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال:" ما رأيتُ النبي _صلى الله عليه وسلم_ يتحرّى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان" ، رواه (البخاري 1867)، (ومعنى يتحرى، أي: يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه).
*والحكمة من صيامه، أن يوم عاشوراء هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى _عليه السلام_ وقومه من فرعون وجنوده، فصامه موسى شكراً لله _تعالى_، وصامه نبينا _صلى الله عليه وسلم_ وأمر بصيامه.
أما صيام اليوم التاسع، فقد نقل النووي _رحمه الله_ عن العلماء في ذلك عدة وجوه :
أحدها: أن المراد من مخالفة اليهود في اقتصارهم على العاشر.
الثاني: أن المراد به وصل يوم عاشوراء بصوم، كما نهى أن يصام يوم الجمعة وحده.
الثالث: الاحتياط في صوم العاشر خشية نقص الهلال ووقوع غلطٍ، فيكون التاسع في العدد هو العاشر في نفس الأمر.
وأقوى هذه الأوجه هو مخالفة اليهود كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله تعالى_.
وعلى ذلك يكون صيام يوم عاشوراء على مراتب:
*صيام أيام التاسع والعاشر والحادي عشر؛ لحديث ابن عباس مرفوعاً " صوموا يوماً قبله ويوماً بعده"، وهذا أفضل المراتب.
* صيام يومي التاسع والعاشر، ؛ لحديث أبي قتادة عند مسلم أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال في صيام يوم عاشوراء :أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله"، ولحديث ابن عباس عند مسلم أيضاً " لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر" .
* صيام اليوم العاشر والحادي عشر؛ لحديث ابن عباس _رضي الله عنهما_، أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: " خالفوا اليهود صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده" ، أخرجه أحمد وابن خزيمة.
* إفراد العاشر بالصيام ؛ لحديث أبي قتادة عند مسلم " أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال في صيام يوم عاشورا: أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" .(/2)
فضل صيام شهر الله المحرم
عبد اللطيف بن عبد الله التويجري 14/1/1427
13/02/2006
شهر الله المحرّم هو أول شهور السنّة الهجرية وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها :
(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ .. )الآية (36) سورة التوبة
وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : .. السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ ." رواه البخاري 2958
وعن ابن عباس في قوله تعالى : ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) في الشهور كلها، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر، فجعلهن حراما وعظّم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم ، وقال قتادة في قوله " فلا تظلموا فيهن أنفسكم " إن الظّلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها. وإن كان الظلم على كل حال عظيما ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء ، فعظموا ما عظّم الله؛ فإنما تُعَظّم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل . " (يُنظر: تفسير ابن كثير 4/148)
وقد صح الحديث عن النبي ـ r ـ في فضل صيام شهر محرم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ . " رواه مسلم 1163
قال ابن رجب: "وهذا الحديث صريح في أن أفضل ما تطوع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم"، ثم قال: "وقد سمى الرسول – صلى الله عليه وسلم- المحرم شهر الله، وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله، إلى أن قال: ولما كان هذا الشهر مختصاً بإضافته إلى الله تعالى، وكان الصيام من بين الأعمال مضافاً إلى الله تعالى فإنه له من بين الأعمال، ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختص به، وهو الصيام" (يُنظر: لطائف المعارف ـ r ـ ص 77-82).
وقال رحمه الله : (فمن صام شهر ذي الحجة سوى الأيام المحرم صيامها منه، وصام المحرم فقد ختم السَنة بالطاعة وافتتحها بالطاعة، فيرجى أن تكتب له سَنته كلها بالطاعة..) (اللطائف: 59). والله أعلم.(/1)
________________________________________
فضل علم السلف على الخلف
رئيسي :فضائل :
الحمد لله رب العالمين , وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين , وسلم تسليماً كثيراً , أما بعد ,,, فهذه كلمات مختصرة في معنى العلم، وانقسامه إلى علم نافع، وعلم غير نافع، والتنبيه على فضل علم السلف على علم الخلف، فنقول:
قد ذكر الله في كتابه العلم:
تارة: في مقام المدح، وهو العلم النافع.
وتارة: في مقام الذم، وهو العلم الذي لا ينفع.
فأما الأول: العلم النافع: فمثل قوله:{...رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ...[9]}[سورة الزمر] . وقوله:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ...[18]}[سورة آل عمران] . وقوله:{...وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[114]}[سورة طه] . وقوله:{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ...[28]}[سورة فاطر] . وما قصه سبحانه من قصة موسى عليه السلام وقوله للخضر:{...هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا[66]}[سورة الكهف] .فهذا هو العلم النافع .
وقد أخبر عن قوم أنهم أوتوا علماً ولم ينفعهم علمهم: فهذا علم نافع في نفسه لكن صاحبه لم ينتفع به، قال تعالى:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ[175]وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ...[176]}[سورة الأعراف] . وقال تعالى:{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[169]}[سورة الأعراف] .
وأما الثاني: وهو العلم الذي لا ينفع، الذي ذكره الله على جهة الذم له: فقوله:{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[83]}[سورة غافر] . وقوله:{ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ[7]}[سورة الروم] .
ولذلك جاءت السنة بتقسيم العلم إلى نافع، وإلى غير نافع، والاستعاذة من العلم الذي لا ينفع، وسؤال العلم النافع فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [...اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا] رواه مسلم. فالعلم الذي يضر ولا ينفع جهل؛ لأن الجهل به خير من العلم به. فإذا كان الجهل به خيراً منه فهو شر من الجهل.
وأما ما أحدث بعد الصحابة من العلوم التي توسع فيها أهلها وسموها علوماً وظنوا أن من لم يكن عالماً بها فهو جاهل أو ضال فكلها بدعة وهي من محدثات الأمور المنهي عنها . فمن ذلك: ما أحدثته المعتزلة من الكلام في القدر وضرب الأمثال للَّه. ومنها: الخوض في القدر إثباتاً ونفياً بالأقيسة العقلية: كقول القدرية لو قدر وقضى ثم عذب كان ظالماً. وقول من خالفهم إن اللَه جبر العباد على أفعالهم ونحو ذلك. ومنها الخوض في سر القدر. ومن محدثات الأمور ما أحدثه المعتزلة ومن حذا حذوهم من الكلام في ذات الله تعالى وصفاته بأدلة العقول، وقد اتفق السلف على تبديعهم، وتضليلهم، وقد سلك سبيلهم في بعض الأمور كثير ممن انتسب إلى السنة والحديث من المتأخرين.
ومن محدثات العلوم ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية ورد فروع الفقه إليها. وسواء أخالفت السنن أم وافقتها طرداً لتلك القواعد المقررة وإن كان أصلها مما تأولوه على نصوص الكتاب والسنة لكن بتأويلات يخالفهم غيرهم فيها، وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام على من أنكروه من فقهاء أهل الرأي بالحجاز والعراق، وبالغوا في ذمه وإنكاره.
فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث، فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان إذا كان معمولاً به عند الصحابة ومن بعدهم، أو عند طائفة منهم فأما ما اتفق على تركه فلا يجوز العمل به؛ لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به، قال عمر بن عبد العزيز:'خذوا من الرأي ما يوافق من كان قبلكم فإنهم كانوا أعلم منكم'.(/1)
ومما أنكره أئمة السلف الجدال والخصام والمراء في مسائل الحلال والحرام أيضاً، ولم يكن ذلك طريقة أئمة الإسلام، فكل ذلك محدث لا أصل له، وصار ذلك علمهم حتى شغلهم ذلك عن العلم النافع. وقد أنكر ذلك السلف، وورد في الحديث المرفوع: [مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ:{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ[58]}[سورة الزخرف] ] رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد .
وقال بعض السلف:' إذا أراد الله بعبد شراً أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل'. وقال مالك:' أدركت أهل هذه البلدة وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي فيه الناس اليوم' يريد المسائل، وكان يعيب كثرة الكلام والفتيا، ويقول:' يتكلم أحدهم كأنه جمل مغتلم، يقول هو كذا هو كذا بهدر في كلامه'. وقال:' المراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم' . وقال:' المراء في العلم يُقسي القلب، ويورث الضعن' . وكان يقول في المسائل التي يسئل عنها كثيراً:لا أدري ، وكان الإمام أحمد يسلك سبيله في ذلك.
وقد ورد النهي عن كثرة المسائل، وعن أغلوطات المسائل، وعن المسائل قبل وقوع الحوادث، وفي ذلك ما يطول ذكره، ومع هذا ففي كلام السلف والأئمة كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق التنبيه على مأخذ الفقه، ومدارك الأحكام بكلام وجيز مختصر، يفهم به المقصود من غير إطالة ولا إسهاب، وفي كلامهم من رد الأقوال المخالفة للسنة بألطف إشارة، وأحسن عبارة بحيث يغني ذلك من فهمه عن إطالة المتكلمين في ذلك بعدهم، بل ربما لم يتضمن تطويل كلام من بعدهم من الصواب في ذلك ما تضمنه كلام السلف والأئمة مع اختصاره وإيجازه، فما سكت من سكت من كثرة الخصام والجدال من سلف الأمة جهلاً ولا عجزاً، ولكن سكتوا عن علم وخشية للَّه. وما تكلم من تكلم، وتوسع من توسع بعدهم لاختصاصه بعلم دونهم، ولكن حباً للكلام، وقلة ورع، كما قال الحسن-وسمع قوماً يتجادلون- :'هؤلاء قوم ملوا العبادة، وخف عليهم القول، وقل ورعهم فتكلموا'. وقال مهدي بن ميمون:'أنا أعلم بالمراء منك، ولكني لا أماريك' .
وقال إبراهيم النخعي:' ما خاصمت قط' . وقال جعفر بن محمد:' إياكم والخصومات في الدين فإنها تشغل القلب، وتورث النفاق'. وكان عمر بن عبد العزيز يقول:' إذا سمعت المراء فاقصر' . وقال:' من جعل دينه عرضاً للخصومات أكثر التنقل' . وقال:'إن السابقين عن علم وقفوا، وببصر قد كفوا، وكانوا هم أقوى على البحث لو بحثوا' . وكلام السلف في هذا المعنى كثير جداً.
وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا، فظنوا أن من كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك، وهذا جهل محض، وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كأبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت كيف كانوا، كلامهم أقل من كلام ابن عباس، وهم أعلم منه، وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة، والصحابة أعلم منهم، وكذلك تابعوا التابعين كلامهم أكثر من كلام التابعين، والتابعون أعلم منهم. فليس العلم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال، ولكنه نور يقذف في القلب يفهم به العبد الحق ويميز به بينه وبين الباطل، ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد.
فيجب أن يعتقد أنه ليس كل من كثر بسطة للقول وكلامه في العلم كان أعلم ممن ليس كذلك. وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم. فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله.
وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح، وإساءة ظن بهم، ونسبته لهم إلى الجهل وقصور العلم.
وما حدث بعدهم من التوسع لا خير في كثير منه إلا أن يكون شرحاً لكلام يتعلق من كلامهم، وأما ما كان مخالفاً لكلامهم، فأكثره باطل أو لا منفعة فيه. وفي كلامهم في ذلك كفاية وزيادة، فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق إلا وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ، وأخصر عبارة، ولا يوجد في كلام من بعدهم من باطل إلا وفي كلامهم ما يبين بطلانه لمن فهمه وتأمله، ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة، والمآخذ الدقيقة مالا يهتدى إليه من بعدهم ولا يلم يه.
فمن لم يأخذ العلم من كلامهم فاته ذلك الخير كله مع ما يقع في كثير من الباطل متابعة لمن تأخر عنهم. قال الأوزاعي:' العلم ما جاء به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما كان غير ذلك فليس بعلم' . وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم، فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة، وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم، وهو أشد مخالفة لها؛ لشذوذه عن الأئمة، وانفراده عنهم بفهم يفهمه، أو يأخذ مالم يأخذ به الأئمة من قبله.(/2)
فأما الدخول مع ذلك في كلام المتكلمين، أو الفلاسفة، فشر محض، وقل من دخل في شيء من ذلك إلا وتلطخ ببعض أوضارهم، وكان أحمد وغيره من أئمة السلف يحذرون من أهل الكلام وإن ذبوا عن السنة.
والعلم النافع ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة، والتابعين، وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد، والرقائق، والمعارف، وغير ذلك، والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولًا، ثم الاجتهاد على الوقوف في معانيه وتفهمه ثانياً، وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل، ومن وقف على هذا وأخلص القصد فيه لوجه الله عز وجل، واستعان عليه؛ أعانه وهداه، ووفقه، وسدده، وفهمه، وألهمه، وحينئذ يثمر له هذا العلم ثمرته الخاصة به، وهي خشية اللَه كما قال عز وجل:{...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ...[28]}[سورة فاطر] .
قال ابن مسعود وغيره:' كفى بخشية اللَه علمًا، وكفى بالاغترار باللَه جهلًا' . وقال بعض السلف:' ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية'. وقال بعضهم:'من خشي اللَهَ فهو عالم، ومن عصاه فهو جاهل'. وسبب ذلك أن هذا العلم النافع يدل على أمرين:
أحدهما: على معرفة اللَه، وما يستحقه من الأسماء الحسنى، والصفات العلى، والأفعال الباهرة. وذلك يستلزم إجلاله، وإعظامه، وخشيته، ومهابته، ومحبته، ورجاءه، والتوكل عليه، والرضى بقضائه، والصبر على بلائه.
والأمر الثاني: المعرفة بما يحبه ويرضاه، وما يكرهه ويسخطه من الاعتقادات، والأعمال الظاهرة والباطنة، والأقوال.
فيوجب ذلك لمن علمه المسارعة إلى ما فيه محبة اللَه ورضاه، والتباعد عما يكرهه ويسخطه. فإذا أثمر العلم لصاحبه هذا؛ فهو علم نافع، فمتى كان العلم نافعاً، ووقر في القلب، فقد خشع القلب للَّه وانكسر له. وذل هيبة وإجلالاً، ومحبة وتعظيماً.
ومتى خشع القلب للَّه وذلّ وانكسر له؛ قنعت النفس بيسير الحلال من الدنيا، وشبعت به، فأوجب لها ذلك القناعة، والزهد في الدنيا. وكل ما هو فانٍ لا يبقى من المال والجاه، وفضول العيش الذي ينقص به حظ صاحبه عند اللَه من نعيم الآخرة- وإن كان كريماً على اللَه كما قال ذلك ابن عمر وغيره من السلف وروي مرفوعًا-. وأوجب ذلك أن يكون بين العبد وبين ربه عز وجل معرفة خاصة، فإن سأله أعطاه، وإن دعاه أجابه كما قال في الحديث الإلهي: [...وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ –إلى قوله:- وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ] رواه البخاري .
وفي وصيته صلى اللَه عليه وسلم لابن عباس: [ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ...]رواه أحمد والترمذي. فالشأن في أن العبد يكون بينه وبين ربه معرفة خاصة بقلبه بحيث يجده قريباً منه يستأنس به في خلوته، ويجد حلاوة ذكره، ودعائه، ومناجاته، وخدمته. ولا يجد ذلك إلا من أطاعه في سره وعلانيته، كما قيل لوهيب بن الورد: يجد حلاوة الطاعة من عصى، قال:' لا ولا من هَمَّ'.
فالعلم النافع ما عرف بين العبد وربه ودل عليه حتى عرف ربه ووحده وأنس به واستحى من قربه. وعبده كأنه يراه. ولهذا قالت طائفة من الصحابة:' إن أول علم يرفع من الناس الخشوع'.
وقال الحسن:' العلم علمان، فعلم على اللسان فذلك حجة اللَه على ابن آدم، وعلم في القلب فذلك العلم النافع. وكان الإمام أحمد رحمه اللَه يقول عن معروف:' معه أصل العلم، خشية اللَه' .
فأصل العلم باللَه الذي يوجب خشيته، ومحبته، والقرب منه، والأنس به، والشوق إليه. ثم يتلوه العلم بأحكام اللَه، وما يحبه ويرضاه من العبد من قول، أو عمل، أو حال، أو اعتقاد. فمن تحقق بهذين العلمين؛ كان علمه نافعاً، وحصل له العلم النافع، والقلب الخاشع، والنفس القانعة، والدعاء المسموع.
ومن فاته هذا العلم النافع؛ وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي صلي الله عليه وسلم، وصار علمه وبالًا وحجة عليه، فلم ينتفع به؛ لأنه لم يخشع قلبه لربه، ولم تشبع نفسه من الدنيا، بل ازداد عليها حرصاً ولها طلباً، ولم يسمع دعاؤه لعدم امتثاله لأوامر ربه، وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه.
هذا إن كان علمه علماً يمكن الانتفاع به، وهو المتلقى عن الكتاب والسنة، فإن كان متلقى من غير ذلك؛ فهو غير نافع في نفسه، ولا يمكن الانتفاع به بل ضره أكثر من نفعه.
وعلامة هذا العلم الذي لا ينفع: أن يكسب صاحبه الزهو والفخر، وطلب العلو والرفعة في الدنيا، والمنافسة فيها، وطلب مباهاة العلماء، ومماراة السفهاء، وصرف وجوه الناس إليه، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من طلب العلم لذلك فالنار النار.(/3)
وربما ادعى بعض أصحاب هذه العلوم معرفة الله وطلبه والإعراض عما سواه، وليس غرضهم بذلك إلا طلب التقدم في قلوب الناس من الملوك وغيرهم، وإحسان ظنهم بهم، وكثرة اتباعهم، والتعظم بذلك على الناس. ومن علامات ذلك: عدم قبول الحق والانقياد إليه، والتكبر على من يقول الحق خصوصاً إن كان دونهم في أعين الناس، والإصرار على الباطل خشية تفرق قلوب الناس عنهم بإظهار الرجوع إلى الحق، وربما أظهروا بألسنتهم ذم أنفسهم، واحتقارها على رؤوس الأشهاد؛ ليعتقد الناس فيهم أنهم عند أنفسهم متواضعون، فيمدحون بذلك، وهو من دقائق أبواب الرياء .
ويظهر منهم من قبول المدح واستجلابه مما ينافي الصدق والإخلاص، فإن الصادق يخاف النفاق على نفسه، ويخشى على نفسه من سوء الخاتمة، فهو في شغل شاغل عن قبول المدح واستحسانه، فلهذا كان من علامات أهل العلم النافع أنهم: لا يرون لأنفسهم حالاً ولا مقاماً، ويكرهون بقلوبهم التزكية والمدح، ولا يتكبرون على أحد، قال الحسن:' إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المواظب على عبادة ربه، الذي لا يحسد من فوقه، ولا يسخر ممن دونه، ولا يأخذ على علم علَّمَه اللَه أجراً ' .
وأهل العلم النافع كلما ازدادوا في هذا العلم، ازدادوا تواضعاً للَّه، وخشية وانكساراً وذلًا.
ومن علامات العلم النافع: أنه يدل صاحبه على الهرب من الدنيا، وأعظمها الرئاسة، والشهرة، والمدح، فالتباعد عن ذلك، والاجتهاد في مجانبته من علامات العلم النافع، فإذا وقع شيء من ذلك من غير قصد واختيار؛ كان صاحبه في خوف شديد من عاقبته بحيث أنه يخشى أن يكون مكراً واستدراجاً كما كان الإمام أحمد يخاف ذلك على نفسه عند اشتهار اسمه وبعد صيته.
ومن علامات العلم النافع: أن صاحبه لا يدعى العلم، ولا يفخر به على أحد، ولا ينسب غيره إلى الجهل إلا من خالف السنة وأهلها، فإنه يتكلم فيه غضباً للَّه، لا غضباً لنفسه، ولا قصداً لرفعتها على أحد.
وأما من علمه غير نافع: فليس له شغل سوى التكبر بعلمه على الناس، وإظهار فضل علمه عليهم، ونسبتهم إلى الجهل، وتَنَقُّصهم ليرتفع بذلك عليهم، وهذا من أقبح الخصال وأرداها. وربما نسب من كان قبله من العلماء إلى الجهل والغفلة والسهو، فيوجب له حب نفسه، وحب ظهورها إحسان ظنه بها، وإساءة ظنه بمن سلف. وأهل العلم النافع على ضد هذا يسيئون الظن بأنفسهم، ويحسنون الظن بمن سلف من العلماء، ويقرون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم، وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم، والوصول إليها، أو مقاربتها، وما أحسن قول أبي حنيفة- وقد سئل عن علقمة والأسود أيهما أفضل- فقال:' واللَه ما نحن بأهل أن نذكرهم فكيف نفضل بينهم'.
ومن علمه غير نافع إذا رأى لنفسه فضلاً على من تقدمه في المقال، وتشقق الكلام ظن لنفسه عليهم فضلا في العلوم، أو الدرجة عند اللَه لفضل خص به عمن سبق، فاحتقر من تقدمه، واجترأ عليه بقلة العلم، ولا يعلم المسكين أن قلة كلام من سلف إنما كان ورعا وخشية للَّه، ولو أراد الكلام، وإطالته لما عجز عن ذلك. وقال بعض السلف:' إن كان الرجل ليجلس إلى القوم، فيرون أن به عيًّا، وما به من عي، إنه لفقيه مسلم' .
فمن عرف قدر السلف عرف أن سكوتهم عما سكتوا عنه من ضروب الكلام، وكثرة الجدال والخصام، والزيادة في البيان على مقدار الحاجة لم يكن عياً ولا جهلًا ولا قصورًا، وإنما كان ورعًا وخشية للَّه، واشتغالًا عما لا ينفع بما ينفع.
وسواء في ذلك كلامهم في أصول الدين وفروعه، وفي تفسير القرآن والحديث، وفي الزهد والرقائق، والحكم والمواعظ، وغير ذلك مما تكلموا فيه، فمن سلك سبيلهم؛ فقد اهتدى، ومن سلك غير سبيلهم، ودخل في كثرة السؤال والبحث والجدال، والقيل والقال.
فإن اعترف لهم بالفضل، وعلى نفسه بالنقص كان حاله قريباً، وقد قال إياس بن معاوية:' ما من أحد لا يعرف عيب نفسه إلا وهو أحمق' قيل له فما عيبك؟ قال:' كثرة الكلام'. وإن ادعى لنفسه الفضل، ولمن سبقه النقص والجهل؛ فقد ضل ضلالا مبيناً، وخسر خسراناً عظيمًا.
وفي الجملة ففي هذه الأزمان الفاسدة إما أن يرضى الإنسان لنفسه أن يكون عالماً عند اللَه ولا يرضى بأن يكون عند أهل الزمان عالماً. فإن رضي بالأول فليكتف بعلم اللَه فيه. ومن كان بينه وبين اللَه معرفة، اكتفى بمعرفة اللَه إياه. ومن لم يرض إلا بأن يكون عالماً عند الناس دخل في قوله صلى الله عليه وسلم: [ مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ فَهُوَ فِي النَّارِ] رواه ابن ماجة والترمذي-بنحوه- والدارمي . قال وهيب بن الورد:' ربَّ عالم يقول له الناس عالم، وهو معدود عند اللَه من الجاهلين'.(/4)
فإن لم تقنع نفسه بذلك حتى تصل إلى درجة الحكم بين الناس حيث كان أهل الزمان لا يعظمون من لم يكن كذلك، ولا يلتفتون إليه فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وانتقل من درجة العلماء إلى درجة الظلمة، ولهذا قال بعض السلف- لما أريد على القضاء فأباه-:' إنما تعلمت العلم لأحشر به مع الأنبياء لا مع الملوك' فإن العلماء يحشرون مع الأنبياء والقضاة يحشرون مع الملوك.
ولا بد للمؤمن من صبر قليل حتى يصل به إلى راحة طويلة، فإن جزع ولم يصبر؛ فهو كما قال ابن المبارك:' من صبر فما أقل ما يصبر، ومن جزع فما أقل ما يتمتع'. فنسأل اللَه تعالى علماً نافعاً ونعوذ به من علم لا ينفع.
من رسالة:'فضل علم السلف على الخلف' للحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله(/5)
فضيحة العصر - قرآن أمريكى ملفق
الفرقان الحق
فضيحة العصر - قرآن أمريكى ملفق
د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
كلمة سريعة
فى الصفحات التالية دراسة وتفنيد لما يسمَّى بـ " الفرقان الحق " ، وهو عبارة عن مجموعة من السُّوَر تتجاوز الخمسين لفَّقَتْها ، فى الفترة الأخيرة على غرار القرآن الكريم ، بعضُ الجهات التبشيرية المتعاونة مع الصهيونية العالمية بتخطيط أمريكى بغية أن تحلّ مع الأيام فى نفوس المسلمين محل القرآن المجيد. وفى هذه السُّوَر هجومٌ كله إقذاع وفُحْش على سيد الأنبياء والمرسلين ، واتهامٌ بذىء بالكفر والضلال والنفاق له عليه الصلاة والسلام ، وتسفيهٌ لكل شىء جاء به الإسلام من توحيدٍ ونعيمٍ أُخْرَوِىّ وصلاةٍ وصيامٍ وحجٍّ وجهادٍ وطهارةٍ وتشريعاتٍ أسريةٍ … ، وادِّعاءٌ بأن كتاب الله إنما هو وحىُ شيطانٍ إلى شيطان ، وتمجيدٌ للتثليث النصرانى ومداعبةٌ من طَرْفٍ خفى لليهود …
وقد نبَّه عدد من الصحف العربية مؤخرا لهذا الكتاب ، وقدَّم بعضُها عرضًا سريعا له أبرز فيه الغايات التى يهدف ملفقوه إليها. لكن ْ لم يصل إلى علمى أن أحدًا قد حاول أن يدرس دراسةً تحليليةً هذه السُّوَر التى يقدمها ملفقوها إلى القراء بوصفها وحيا إلهيا ، وهذا ما حَفَزنى للقيام بهذه المهمة تبصرةً للأمة بالأخطار التى تتهدد عقيدتها كى تكون على حذرٍ مما يُخَطَّط لها وتأهُّبٍ يقظٍ لما يمكن أن تتمخض عنه الأيام من مصائب ومؤامرات .
وقد استبان لى بعد الدراسة التى قمت بها لتلك النصوص أن أصحابها لم يكونوا بالذكاء الذى تتطلبه مثل هذه المؤامرة ، إذ إن الثقوب فيها كثيرة وشنيعة . وهذا من شأنه أن يؤكد لنا أن الأعداء ، رغم تفوقهم العلمى والاقتصادى والعسكرى ، ليسوا معصومين بل كثيرا ما يقعون فى الأخطاء المضحكة ، وأننا نستطيع أن نضع أيدينا على جوانب ضعفهم وأن نستفيد منها ونحوِّلها إلى نقاط قوة لنا لو صحَّتْ منّا العزيمة وتسلَّحنا بالإخلاص والدأب والصبر والإيمان بالله والثقة بأنفسنا والغيرة على حاضر أمتنا ومستقبلها… كما يؤكد أيضا أن دين الله لا يمكن أن يغلبه غالب مهما تآمر المتآمرون ومهما خطّطوا ومهما رصدوا الإمكانات والجهود . بيد أن هذا لا يعنى أن نغطّ فى نوم عميق ونَنْكِل عن أداء الواجب المَنُوط بنا ، وإلا وَكَلَنا الله للذلة والمهانة واستبدل بنا قومًا غيرنا للتشرف بحفظ دينه والعمل بما فيه من خيرٍ كفيلٍ بإبلاغ من يحرص عليه إلى قمم الذُّرَى العوالى فى القوة والتحضر !
فضيحة العصر
قرأت فى بعض الصحف العربية بأُخَرة عن ظهور كتاب بعنوان
" الفرقان الحق " يهاجم القرآنَ هجوما شرسا، ويسبّ الرسولَ عليه السلام وأتباعَه أجمعين ، وعلى رأسهم الصحابة الكرام ، مع أن رقبةَ أىّ عِلْج من هؤلاء الذين لفقوا الكتاب لا تساوى قُلامةَ ظُفْر مما يطيِّره المقص من أظافر أرجلهم . وجاء فى بعض ما قرأناه من مقالات عن هذا الموضوع أن جهات تبشيرية وصهيونية محترقة تشرف عليها بعض الدوائر الأمريكية وراء هذا العمل الذى يجسد التعاون الوثيق بين هاتين الجهتين الحاقدتين على سيد الأنبياء عليه السلام والتوحيد النقى الذى جاء به فقَشَع العقائد الوثنية للهمجيين المغرمين بدماء البشر وتقريبها لأربابهم المتوحشين ، وكذلك العُنْجُهيّات القبلية اليهودية التى سوَّلَتْ لبنى إسرائيل ولا تزال أن الله ليس إلا ربًّا خاصًّا بهم دون سائر البشر . وكدَيْدَنِى فى مثل هذه الأحوال أخذتُ أسأل هنا وههنا عن السبيل إلى الحصول على نسخة من ذلك الكتاب كى أفهم الموضوع من مصدره الأصلى ، حتى ألهمنى الله أن أبحث عنه فى المِشْباك ( النِّتْ ) حيث وجدته فى موقع تابع لمركز تبشيرى اسمه : " American Center of Divine Love ".(/1)
قلت لنفسى : أقرأ كى ألم بالموضوع قبل أن أكتب عنه حسبما اقترح علىّ بعض من يُولُوننى ظنهم الحَسَن ممن يعرفون اهتماماتى بدراسة مثل هذه الكتب والنشرات ، وقرأت فألفيت أصحاب الموقع يعرضونه على أنه وحى سماوى . أُوحِىَ إلى من ؟ لا أحد يعرف ! متى أُوحِى ؟ لا أحد يعرف ! فى أية ظروف أُوحِى ؟ لا أحد يعرف ! كما وجدته يفيض بالبذاءات فى حق رسولنا الطاهر النبيل الذى لم تنجب الأرض نظيره فى العبقرية والحنان والرحمة والفهم للطبيعة البشرية والحنو على ضعفها والرقة للمستضعفين والمكسورين والمحتاجين والتحمس لبناء حياة إنسانية مجيدة يسودها العمل والإنتاج والابتكار والعدل والمساواة دون تشنجات صبيانية عاجزة أو تهويمات خيالية فارغة أو أحقاد مريضة أو ادعاءات فارغة . باختصار : حياة إنسانية تنهض على دعامتين من المثالية والواقعية على نحو لم تعرف البشرية ولن تعرف له مثيلا ! فمحمد صلى الله عليه سلم ، فى هذا الوحى الشيطانى البذىء ، كافر ومنافق وضال مُضِلّ يفتري الكذب على الله وسارقٌ قاتلٌ زان ٍ، ومصيره جهنم هو ومن آمن به ، وبئس المصير ! وأتباعه كَفَرَةٌ منافقون ضالون لصوصٌ قَتَلَةٌ مثله ، وصلاتهم وصيامهم نفاق ما بعده نفاق ، وحجهم وثنية ، وجنتهم جنة الزنى والخنا والفجور ، والوحى القرآنى ليس وحيا إلهيا ، بل هو وحى تنزّلت به الشياطين الكاذبون على شيطان كاذب مثلهم ! ولم يكد الذين وضعوا هذا الكتاب السفيه ونسبوه تدليسا وافتراء إلى الله يتركون شيئا فى الإسلام إلا خصصوا للهجوم الحاقد البذىء السفيه عليه سورة أو أكثر أرادوا أن يحاكوا بها السور القرآنية ، وهيهات ، رغم أن كل شىء فى ذلك الكتاب تقريبا مسروق من القرآن الكريم بطريقة القص واللزق كما سنوضح لاحقا ، فضلا عن أن مصطلح " السورة " نفسه مسروق من كتابنا المجيد . والانطباع الذى يخرج به على الفور من يقرأ هذا الكتاب هو أن ملفِّقيه مجرمون عُتَاة فى السفالة وقلة الأدب وأنهم تربية شوارع ، ولا يمكن أن يكون كلامهم هذا وحيا إلهيا بحال لأن الألوهية لا يمكن أن تنحدر إلى لغة الصِّيَاعة التى لا يحسنها إلا أرباب السجون المارقون وعصابات الحوارى والمآبين .
وقبل أن نمضى أبعد من ذلك يحسن أن نعرض على القارئ عينة من هذا الوحى المراحيضى كى يستطيع أن يتابعنا فيما يلى عن بينة . تقول مثلا السطور التى سمَّوْها " سورة الأنبياء " : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * يا أيها الذين كفروا من عبادنا الضالين إنكم لتقولون قولا لَغْوًا ما كان شعرا ولا نثرا ولا قولا سديدا ( المقصود بذلك هو القرآن ) * إنْ هو إلا لغوٌ مردَّدٌ ترديدا * يرغِّب التابعين ترغيبا ويهدد المعرضين تهديدا * حَسُنَ وقعا فى نفوس عبادنا الضالين واستمرأه الجاهلون * سمٌّ فى دسمٍ ولكن أكثرهم لا يشعرون فلا يَبْغُون عنه محيدا * وحذرنا عبادنا المؤمنين من الرسل الأفاكين ( يقصدون سيد الرسل والنبيين ) فمن ثمارهم يُعْرَفون . فهل يُجْنَى من الشوكِ العنبُ أو من الَحسَكِ التين * أقوال يرتعد منها عبادنا المؤمنون هَلَعًا من التقتيل ونفورًا من الغزو وأَنَفًا من جنة الزنى والفجور * فإذا سمعوها اقشعرت أبدانهم فَرَقًا واستعاذوا بنا من الشيطان الرجيم * وما دَخَلَ الجنةَ من كرر الصلاة لغوا وأما الذين عملوا بمشيئتنا فأولئك هم عباده المفلحون لهم مقام فى الملكوت ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * إن الظن لا يغنى من الحق شيئا. وما السلام كالقتال وليس من يَلْقَى أخاه المؤمن بغصن الزيتون كمن يُشْرِع عليه سيفا فيقتله ذلك أنه من الكافرين * ونسختم بلَغْوكم قول التوراة والإنجيل الحق فألبستم الحق باطلا وافتريتم أقوالا ما أنزلنا بها من سلطان * وانتحل الوسواس الخناس اسمنا ووسوس فى صدور أوليائه بما ألقى فى رُوعهم من بهت وكفر وهم مصدّقوه فكان بعضهم لبعض ظهيرا * وأَمَرَهم بالمعروف مكرًا منه ونهاهم عن الفحشاء والمنكر والبَغْى قَوْلا إفكًا وحلله لهم تحليلا فكان فعلا مفعولا * وأغوى الجاهلين من عبادنا فاتَّبَعوه وأَبَى الجاهلون إلا ضلالا وكُفُورا * وقد صدَّق عليهم إبليس ظنَّه إذ اتبعوه وأما المؤمنون من عبادنا فما كان له عليهم من سلطان فما أغواهم ولا بدَّد لهم شملا فهم بما أنزلنا موقنون وبحبلنا معتصمون * وما بشرنا بنى إسرائيل برسول يأتى من بعد كلمتنا وما عساه أن يقول بعد أن قلنا كلمة الحق وأنزلنا سنة الكمال وبشرنا الناس كافة بدين الحق ولن يجدوا له نَسْخا ولا تبديلا إلى يوم يُبْعَثون * ولو بشرناهم لما كذّبوا وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه. فأَنَّى نبشِّر بنى إسرائيل برسول ليس منهم وما لسانه بلسانهم وعندهم موسى والأنبياء والمرسلون وقفَّينا على آثارهم بكلمتنا بالحق المبين * وحذّرْنا عبادنا المؤمنين من رسول أفاك تبيَّنوه من ثمار أفعاله وأقواله وكشفوا إفكه وسحره المبين فهو شيطان رجيم لقوم كافرين " .(/2)
هذا هو الكلام الذى تفتقت عنه أذهان بل أستاه هؤلاء المآبين ، وزعموا كفرا أنه وحى من لدن رب العالمين ! على أن لى كلمة فى هذا المقام لا أحب أن تفوتنى ، ألا وهى أن بعض المنتسبين إلى الإسلام يتساءلون فى براءة زائفة : لماذا يصف المسلمون غير المسلمين بأنهم كافرون ؟ ألا يُعَدّ ذلك نفيا للآخر وعدوانا عليه وإهانة له ؟ شُفْ يا أخى الرقة والبراءة ورهافة الشعور التى لا تظهر إلا حين يحاول المسلمون أن يدافعوا بعض دفاع عن دينهم ضد بعض ما يوجَّه لهم ولكتابهم ورسولهم من سباب وشتائم ! وواقع الأمر أن ذلك ليس نفيا للآخر ولا عدوانا عليه ولا إهانة له بحال من الأحوال ، فكل أهل دين يعتقدون أنهم على حق ، وبطبيعة الحال فمن لا يؤمن بدينهم يسمَّى عندهم كافرا دون أن يكون فى هذا افتئات على أحد. ذلك أن هذه هى مصطلحات أصحاب الأديان : مؤمن وكافر ومنافق ... إلخ ، بالضبط مثلما كان الشيوعيون يقولون : تقدمى ورجعى ، وطليعى شريف ورأسمالى متعفن ، ومثلما يقول الحداثيون الآن : التنويرية والظلامية ، والفكر المتحضر والفكر المتخلف ... وهَلُمَّ جَرًّا . وهاهم أولاء مزيِّفو هذه السُّخَامات والسَّخَافات يقولون عن نبينا عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات : أفاك وضال وكافر وكذاب وغير ذلك من الشتائم التى وردت فى النص الذى بين أيدينا وفى غيره من النصوص المشابهة الأخرى ، وما خفى مما لا يجرؤون على ترديده على الملإ ويصلنا رغم ذلك بعضُه لهو أشنع وأبشع ! فيا أيها المؤمنون لا يوسوسنّ لكم الشياطين المنتشرون كالوباء بين أظهركم ممن يحملون أسماء مثل أسمائكم ، ولهم سِحَنٌ كسِحَنكم ، ومكتوبٌ فى هويّاتهم الرسمية أنهم مسلمون مثلكم ، بأضاليلهم التى يجهدون بها أن يَحْرِفوكم عن دينكم ويخوفوكم من التمسك بهَدْى نبيكم بشبهة أنه لا ينبغى فى هذا العصر التنويرى الذى يأخذ على عاتقه الدعوة إلى احترام حقوق الآخر أن نسمى هذا الآخر كافرا! ذلك أنهم يسموننا كفرة ، ولن يَرْعَوُوا عن هذا أبدا حتى لو مزّق الله قلوبهم تمزيقا وبدّلهم قلوبا غيرها. إننا لا نحجر على أحد أن يعتقد فينا ما يشاء ، فهذا حقه ، وليس من حقنا ولا من حق غيرنا أن نتدخل فيما بين المرء وضميره أو نعتدى عليه أو نُكْرِهه على ما لا يحب من عقيدة أو رأى ، لكننا أيضا لا نريد من أحد أن يحجر علينا فى الرد على التهم والشتائم التى توجَّه إلى رسولنا العظيم وأن نبين وجه الوقاحة والبذاءة والبطلان والزيف فيها . ترى هل فى هذا الكلام صعوبة تَعْسُر على الفهم ؟ هم أحرار، ونحن أحرار ، وللناس آذان تسمع ، وأذهان تفكر ، وعقول تميّز وتحكم ، ولهم وحدهم الحق فى اتباع هذا أو ذاك مما نقوله نحن أو يقوله الآخرون .(/3)
وقبل أن ندخل فى تحليل هذا الوحى الشيطانى ونبين ما يقوم عليه ويغَصّ به من تفاهة وقلة عقل وتناقض وتكذيب للكتاب المقدس نفسه الذى زيَّف الشياطين هذا الوحى لتعضيده وإقناع المسلمين بصحته وبطلان الكتاب الذى نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين على سيد الأنبياء والمرسلين ، والذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه دهر الداهرين ، قبل هذا نرى أنه لا بد من إعطاء القراء الكرام فكرة عن ذلك الوحى المسمى زورا وزيفا بـ " الفرقان الحق " ، وما هو فى الواقع سوى " الضلال المبين " بقَضِّه وقَضِيضه ! إن هذا " الضلال المبين " ( وسيكون هذا هو اسمه هنا من الآن فصاعدا ) يشتمل ، حسبما هو موجود فى الموقع المشار إليه آنفا ، على نحو خمسة وأربعين نصًّا يُطْلَق على الواحد منها " سُورَة " تقليدا مفضوحا للقرآن ، وكل من هذه السُّوَر يتكون من عدد من الآيات يتفاوت ما بين عدد أصابع اليد الواحدة أو أصابع اليدين والقدمين لا يزيد عن ذلك . إلا أننى قد لاحظت أن ترقيم هذه السُّوَر غير متسلسل دائما حتى إن أول سورة ، وهى " سورة المحبة " ، قد أخذت الرقم ( 2 ) ، كما أن ترقيم السورة الأخيرة ، واسمها " سورة البهتان " ، هو ( 59 ) ، ومعنى ذلك أن هناك فجوة فى بعض الأحيان بين السورة والتى تليها ، فهل ينبغى أن نفهم من هذا أن هناك سُوَرًا ناقصة ؟ لكن لماذا ؟ وما هى هذه السُّوَر ؟ وأين ذهبت ؟ لا أدرى . كذلك يلاحظ أن أسماء طائفة من سور " الضلال المبين " قد أُخِذَتْ من أسماء سور القرآن الكريم ، مثل " النور والنساء والمنافقين والطلاق " . أى أن من افْترَوْا هذا " الضلال المبين " لم يَسْطُوا فقط على نصوص آيات القرآن ليصنعوا منها هذا الترقيع الرقيع بل سَطَوْا على أسماء بعض سوره الكريمة ، وإن كانوا قد نقلوها من محلها الطاهر الشريف إلى ذلك الكنيف ! أما الأسماء الأخرى التى لم يأخذوها من أسماء سور القرآن الكريم فمنها " الأساطير والغرانيق والجنة والمحرّضين والكبائر والرُّعاة والشهادة والإنجيل "، وإن كانت كلها رغم ذلك فى الهجوم على القرآن : ففى " سورة الأساطير " مثلا يزعمون أن القرآن ما هو إلا أساطير الأولين كما كان وثنيو العرب يقولون قبل أن يكذّبوا أنفسهم بأنفسهم ويؤمنوا به ، وفى " سورة الغرانيق " يدّعون أنه كان فى القرآن آيتان تمجدان الغرانيق ، أى اللات والعُزَّى ومَنَاة ، ثم حُذِفتا فيما بعد. أما "سورة الرعاة " فهى هجاء للصحابة والعرب الأوائل الذين حملوا الإسلام إلى العالمين والذين يحاول أولئك اللصوص السُّطَاة أن ينالوا منهم بالقول بأنهم لم يكونوا متحضرين ولا أغنياء بل كانوا مجرد رعاة ، وكأن التلاميذ الذين كانوا يلتفون حول المسيح كانوا من أصحاب القصور ومن خريجى الجامعات ، ولم يكونوا من صيادى السمك والعُرْج والبُرْص والعُمْى والمخلَّعين والممسوسين والعشّارين والخطاة على حسب ما جاء فى الأناجيل نفسها ! إننا بطبيعة الحال لا نبغى أن ننال من الفقراء والمساكين والمسحوقين ، فنحن لسنا من أغنياء القوم ولا من السادة ، لكننا أردنا فقط أن ننبه هؤلاء المأفونين إلى مدى السخف والسفالة التى ينساقون إليها فى العدوان على ديننا ورسولنا وصحابته الكرام . وبالمناسبة فلم يكن الصحابة جميعا من الرعاة ، بل كان فيهم التجار والزراع والصناع والعلماء والقادة العسكريون ، وكان منهم الأفراد العاديون والرؤساء ، وكان منهم العرب وغير العرب ، كما كان فيهم كثير ممن كانوا هودا أو نصارى ثم أسلموا... وهكذا يستمر هؤلاء الأفاكون المجرمون إلى آخر السُّوَر الشيطانية المفتراة كذبًا على الله .(/4)
وأول ما ينبغى التصدى له فى هذا الوحى الإبليسىّ هو المشاكل الغبية غباء مزيِّفيه التى لا يمكن العثور على مخرج من أىٍّ منها ، بل كلما حاول مخترعوه التخلص من بعض ما جرَّتْهم إليه وجدوا أنفسهم يزدادون تورطا ، شأن البقرة الغبية التى تحاول الانعتاق من الحبل الملتف حول رقبتها ، لكنها بدلا من ذلك تدور فى الاتجاه المعاكس فتجده قد ازداد التفافا حتى خنقها وأودى بحياتها. فكيف كان ذلك ؟ المعروف أولا أن النصارى لا يؤمنون بنبىٍّ بعد المسيح لأنهم يَرَوْن أنه قد أنهى فصول المأساة البشرية بموته على الصليب وتكفيره من ثَمَّ عن الخطيئة البشرية الأولى ، وأنه لم يعد هناك مجال لأى شىء إلا لمجيئه فى آخر الزمان ، هذا المجىء الذى سيكون بداية لألفيَّةٍ سعيدةٍ يعيش فيها الناس فى هناءة وسلام ، فلا خصومات ولا عداوات حتى ولا بين الحيوانات العجماوات ، حتى إن الذئب والحمل ، كما يقال ، سوف تقوم بينهما صداقة ومودة فيلعبان معا ويأكلان معا فى غاية الانسجام والتفاهم ! أما اليهود فهم أصلا فى انتظار المسيح الأول لا يزالون لأنهم لا يؤمنون بأن عيسى بن مريم هو المسيح الذى أتى ذكره فى كتبهم . وهذا الكتاب الذى نحن بصدده ليس هو الكتاب الذى ينتظره اليهود مع مسيحهم المنتظر ، فهم يريدون مسيحا من بيت داود يعيد إليهم مجدهم ويبنى لهم مملكتهم ، أما كتاب " الضلال المبين " فلا يؤدى إلى هذه الغاية على الإطلاق ولا نعرف له صاحبا ، فهو كطفل السِّفَاح الذى لا تجرؤ أمه العاهرة أن تُقِرّ به وتنسبه إلى نفسها . كذلك لا يخفى على القارئ أن غرض كل من الفريقين اللذين اشتركا فى تزييف هذا " البهتان الباطل " يتناقض مع غرض الفريق الآخر . وهكذا يأبى الله العلىّ العظيم إلا أن يوقعهم فى شر أعمالهم . وهذه أولى بركات محمد ودين محمد! وعلى كل حال فها هم أولاء المؤلفون الأغبياء يكذّبون أنفسهم بأنفسهم إذ يعلنون بملء أفواههم فى القىء المنتن الذى وَسَمُوه بـ " سورة الأنبياء " ( ومن أفواههم النجسة ندينهم ) قائلين على لسان رب العزة إننا "ما بشَّرْنا بنى إسرائيل برسول يأتى من بعد كلمتنا وما عساه أن يقول بعد أن قلنا كلمة الحق من بعدى وأنزلنا سنة الكمال وبشرنا الناس كافة بدين الحق ولن يجدوا له نَسْخا ولا تبديلا إلى يوم يُبْعَثون " . إذن فليس هناك نبى يمكن أن يجىء بعد عيسى عندهم ، وإلا للزمهم أن يؤمنوا بمحمد ، الذى زعموا أنه لم تأت به أية بشارة لا فى التوراة ولا فى الإنجيل . ليس هذا فحسب ، بل إن كلمة " الفرقان" نفسها مسروقة من القرآن ، لأن كتابهم المقدس بعهديه العتيق والجديد لم ترد فيه هذه الكلمة ، وإلا لذكرها " فهرس الموضوعات الكتابية " . فكيف إذن يزعمون أن الله قد أنزل هذا الوحى مع أنه لم يأت به نبى ، إذ الوحى لا ينزل هكذا من السماء على غير أحد ، اللهم إلا على سُنّة أنبياء آخر زمن من صنف أولئك الأساقفة الذين شرعت أمريكا أم التقاليع والغرائب ترسِّمهم من اللُّوطِيِّين !
لكن ما هى سُنّة أنبياء آخر زمن هؤلاء ؟ هى سنّة المومس التى تحمل سفاحا ( والمومس لا تحمل بالطبع إلا سفاحا ) ، ولا تريد أن يطّلع الناس على ورطتها وخزيها ، فعندما يَئِين الأوان ويحلّ موعد الوضع تراها تلف الطفل المسكين الذى لا ذنب له فيما اقترفته يدها الأثيمة فى خرقة وتأتى به فى ظلام الليل الدامس إلى باب معبد من المعابد فتتركه هناك أو تلقيه قرب أحد صناديق القمامة ، ثم تنصرف وترقب الموقف من بعيد دون أن يعرف أحد أنها هى صاحبة هذا العار ! إنه شُغْل مومسات كما أقول فى بعض كتبى التى أرد فيها على أمثال هؤلاء النُّغُول ! إن الأنبياء كانوا دائما ما يأتون فى ضحوة النهار ولا يستترون هكذا فى ألفاف الظلمات المتراكبة المتكاثفة المريبة شأن محترفى اللصوص والقتلة الذين يَلْبِدُون للفريسة المسكينة فى حقل من حقول القصب أو الذرة حتى يأخذوها غيلة وغدرا ، ثم بعد أن يرتكبوا جريمتهم الوحشية الخسيسة يعودون لبيوتهم فيمارسون حياتهم لا تُثْقِل ضمائرَهم أيّةٌ من خوالج الندم ، إذ قد ماتت قلوبهم وسَوّسَتْ ضمائرهم. ثم إن الوحى الذى ينزل على الأنبياء لا ينزل دفعة واحدة هكذا بل يتتابع مصاحبا للحوادث والمناسبات التى تجدّ ، مما يجعله تجسيدا للتجارب التى خاضها النبى مع قومه ، أما هذا " الضلال " فقد صيغ مرة واحدة ثم لُفَّ فى خرقة قذرة نجسة وأُلْقِىَ به عند صندوق قمامة فى سكون الليل البهيم مع انقطاع رِجْل السابلة .(/5)
ثم إن ذلك الرِّجْس مخالف فى الواقع لطريقة أهل الكتاب فى تسمية كثير من أسفارهم باسم الأنبياء الذين تُعْزَى إليهم : فهذا سِفْر يشوع ، وهذا نشيد الأناشيد لسليمان ، وهذه نبوة أَشَعْيا ، وهذا إنجيل متى ، وهذه رسالة القديس يعقوب ، وهذه رؤيا القديس يوحنا... وهكذا. وعلى ذلك فإننا نتساءل : أين النبى الذى أتى بهذا الضلال ؟ ما اسمه يا ترى ؟ من أى بلد جاء؟ إلى أى أسرة ينتمى ؟ ما صنعته ؟ ما سيرته ؟ ما أوصافه ؟ ما أخلاقه ؟ ما رأى الناس فيه ؟ ما الذى دار بينه وبين قومه من أخذ ورد ؟ ماذا كانت استجابتهم لما أتاهم به أولا ثم آخرا ؟ ... ترى أية نبوة هذه يا إلهى ؟ إن القوم لا يحسنون التدليس ، وهم برغم ذلك يتصدَّوْن لحرب القرآن ظانّين أنهم قادرون على محوه من النفوس والصحائف على السواء ! يا لهم من مجانين مسعورين ! وللتفكُّه أذكر أن بعض إخواننا الساخرين أجاب على سؤالى الخاص بشخصية هذا النبى المزعوم قائلا : أتريد أن تعرف مَنْ ذلك النبى ؟ قلت : نعم . قال : ولم لا يكون هو الابن الثانى لله ؟ قلت : لقد قالوا إنه ليس له إلا ابن وحيد مات على الصليب . قال : هذا كان من ألفى سنة . أتظن ذلك الإله لم تشتقْ نفسه للذرية مرة ثانية طوال هذه المدة فأراد أن ينجب ابنا آخر ؟ أم تراه ، حتى لو كان قد حدَّد النسل ، واتخذ الاحتياطات اللازمة لعدم الإنجاب ، لم يحدث أن اخترق طفل جديد هذا الحظر وأفسد تلك الاحتياطات كما يحدث لكثير منا فى مثل هذه الظروف ؟ قلت : وهل يصح أن تقيس الآلهة على أوضاع البشر ؟ قال : لست أنا الذى قاسهم ، بل إلههم هو الذى فعل ذلك . أليس هو الذى أنجب مثلما ننجب ؟ فما الذى يمنع أن يكون له ولد ثان وثالث ورابع ... إلى ماشاء الله ؟ إلى جانب بعض البنات أيضا إرضاءً للسِّتّ التى لا بد أن تتطلع إلى أن يكون لها بنت أو أكثر كى يساعدنها فى أعمال المنزل ... ومضى الصديق الساخر كلما حاولت أن أغلق عليه السبيل فتح بدل الباب أبوابا، حتى وجدت أنه لا بد من غلق هذا الحوار الذى لا يؤذِن بنهاية .
ثم إن أولئك النُّغُول يرددون ما جاء فى كتابنا العزيز من أنه ما من نبى أُرْسِل إلا بلسان قومه ، فما معنى نزول هذا " الضلال المبين " بالعربية ، بل بالعربية المسجوعة ؟ معناه أنه نزل للعرب ، لأنهم هم الذين يتكلمون العربية . أليس هذا هو ما تقتضيه العبارة التى قالها النغول والتى سرقوها بنصها من القرآن المجيد ووضعوها فى هذا الموضع الدنس ؟ بَيْدَ أننا قد سمعناهم يقولون بلسانهم ( الذى ستقطعه زبانية الجحيم يوم القيامة إن شاء الله ثم تشويه أمام أعينهم وتحشره فى حلوقهم طعامًا نجسًا لأفواهٍ نجسة ) إن النبوة لا تكون إلا فى بنى إسرائيل ، فليس للعرب فيها إذن أى نصيب ( حقدا منهم على إسماعيل وأمه هاجر ، التى يقولون إنها أَمَة ، وابن الأمَة لا نصيب له عندهم فى البركة النبوية ). وبطبيعة الحال فالعرب لا يمكن أن يكونوا قوم نبىّ من بنى إسرائيل ، إذ إن بنى إسرائيل هم ذرية يعقوب ، أما العرب فهم ذرية إسماعيل كما هو معروف . وهذا إن غضضنا الطرف عن تأكيدهم أن باب النبوة مغلق إلى ما قبل يوم القيامة حسب اعتقاد النصارى، ، وإلى مجىء مسيح اليهود حسب اعتقاد بنى إسرائيل ، وهو فى الواقع ما لا يمكن غض الطرف عنه أبدا ، لكنها طبيعة الجدل المفحم التى أتبعها عادة مع هؤلاء المتاعيس حتى أبين للقارئ الكريم كيف أن الأسداد قد ضُرِبَت عليهم أَنَّى اتجهوا وأَنَّى ارتدُّوا . وهذه ثانية بركات محمد ودين محمد !(/6)
وثالثة هذه البركات المحمدية أن هؤلاء الأبالسة الأغبياء ( وهذه أول مرة يقابل الواحد فى حياته أبالسة أغبياء! لكن ما العمل ، وكل من يقصد دين محمد بِشَرٍّ فإنه لا يُفْلِح أبدا حتى لو كان أبا الأبالسة جميعا ؟ ) ، هؤلاء الأغبياء يَسْطُون على آيات القرآن فى مفارقة غريبة غرابةَ أمرِهم كله وشذوذه ، إذ يتهمونه بأنه وسوسة شيطان إلى شيطان . فإذا كان الأمر كما يقولون فكيف لم يجدوا فى الأرض العريضة كلها ( ولا أقول : فى السماء ، لأن مثل هذا الإجرام لا يمكن أن تصله بالسماء أية آصرة ) إلا هذا الوحى المحمدى الذى يزعمون أنه وحى شيطانى كى يتخذوه وحيا لهم ؟ بالله عليكم أيها القراء مَنِ الشيطانُ هنا ؟ إن المؤمن لينفر من الشيطان ومن كل ما له صلة بالشيطان ولا يفكر مجرد تفكير فى الاقتراب منه أو المرور من الطريق الذى يمكن أن يلقاه فيه . لكن هؤلاء الأبالسة الأغبياء لم يجدوا إلا الوحى القرآنى ليسرقوه ويدّعوه لأنفسهم زاعمين أنه أُنْزِل عليهم من السماء ، مع أن السماء لا يمكن أن ترضى هذا العمل الخسيس . والغريب أن عملهم هذا يزعق بعلوّ حسّه شاهدا عليهم بالسرقة والسطو ، ولكن متى كان لدى هؤلاء المجرمين حياء أو خشية من التى يتحلى بها الآدميون حتى ننتظر منهم أن يستحوا أو يختشوا ؟ إنهم من نفس الطينة التى جُبِل منها أمثالهم سارقو فلسطين والعراق وأفغانستان فى عز الظهر الأحمر ، الذين يزعمون مع ذلك أننا نحن الذين نريد أن نقتلهم وندمر حضارتهم ! والمصيبة أنهم بعد ذلك كله يقولون إن هذا " الضلال المبين " هو من عند الله ، أى أن ربهم لص وكذاب متنفِّج ، وأدنى من الشيطان قدرة على صياغة الكلام والمعانى ، ولذلك يسطو على ما كان هذا الشيطان قد أوحاه ، حسب زعمهم ، إلى محمد ثم يدّعيه لنفسه . ثم إنه مُلْقِيه رغم هذا كله فى قعر الجحيم يوم القيامة لقاء ما استعان به ، وذلك على طريقة الأمريكان ، إذ يظلون يعصرون الحاكم من حكام العالم الثالث حتى يستنزفوه لآخر قطرة فيه ثم ينقلبون عليه آخر الأمر ويجزونه جزاء سِنِمّار ! وهذا دليل آخر على أن مزيفى هذا " الضلال " إنما هم الأمريكان ! إنها نفس الأخلاق المنحطة ، وإن كان الشىء من معدنه غير مُسْتَغْرَب !
ولكن ما مغزى عمل هؤلاء الشياطين ؟ إنه دليل لا يُنْقَض على أنهم يَرَوْن فى أعماق قلوبهم أن أسلوب القرآن معجز ، وإن أنكروا هذا بألسنتهم النجسة ، ولذلك استعانوا به رغم اتهامهم للقرآن كله بأنه من وسوسة الشيطان ! وهنا أيضا لن أفعل شيئا آخر غير الاقتباس من كلامهم ، إذ نجدهم فى الفقرة الأولى من " سورة السلام " يدّعون لبهتانهم هذا أنه وحى معجز . إذن فالقرآن معجز فى رأيهم رغم كل الكذب الذى اقترفوه ضد كتاب الله فى نصوصهم المسروقة كلها تقريبا منه ، وهذا نص ما قالوه : " إنا أنزلناه فرقانًا حقًّا بلسانٍ عربىٍّ بيّن الإعجاز لتتبينوا الضلال من الهدى وتعلموا سوء ما كنتم تفعلون " . ترى ما رأى القارئ الكريم فى ألاعيب هؤلاء النغول الخائبة ؟ إن المسلمين يقولون ، حسبما يقرأون فى كتاب ربهم وحسبما أكده العلماء الأثبات منا ومنهم ، إن أهل الكتاب أساتذة فى العبث بالوحى الإلهى الذى نزل على رسلهم وتحريفه عن مواضعه ، لكنهم دائما ما يتهموننا بأننا نردد كلاما غير صحيح . فهل ، بعد أن بيّنّا ما صنعوه فى هذا " الضلال المبين " ، يمكن لأحد أن يتمارى فيما يتهمهم به القرآن والمسلمون ؟ هل يحتاج بعد اليوم أحد إلى برهان آخر على ذلك العبث والتزييف والتدليس والانتحال ؟ والغريب بعد هذا كله أنهم قد زيَّفوا ، فيما زيفوا من سُوَر ٍ، سورةً بعنوان " الأساطير " تقول أول آية منها للمسلمين : " يا أهل التحريف من عبادنا الضالين " ! لا بل إنهم يتهمون الرسول بأنه قد حرّف الإنجيل نفسه ! إى والله ، الإنجيل نفسه دون أدنى مبالغة ! وهذا ما قالوه فى الفقرة الأولى من "سورة الإيمان " بالحرف الواحد : " وحرَّفْتُم آيات الإنجيل الحق وكتمتم كلمتنا واتبعتم صراطا ذا عِوَج وأوهمتم أتباعكم أنكم على صراط مستقيم " . ولا أدرى بالضبط ما الذى جرى لعقول القوم فأقدموا على هذه الهلاوس التى ليس لها من حل إلا أخذ صاحبها على الفور لمستشفى المجانين خَبْطَ لَزْق ! وصدق المثل القائل : "رمتْنى بدائها وانسلَّتِ" ! الحقّ أن هؤلاء الناس ( هذا إذا تجاوزنا وألحقناهم بالبشر ) لا يعرفون ما يسمَّى فى اللغات بـ " الحياء " !(/7)
على أن سرقتهم لكلمات القرآن وعباراته وتركيباته وصوره وفواصله لا تجعل مع ذلك من " بهتانهم " كلاما معجزا . لماذا ؟ لأنهم يفعلون ما يفعله الخياط الغبى الذى يأتى إلى أفخم الحُلَل والملابس فيقتطع من كل منها مِزْعة ثم يشبك هذه المِزَع بعضها مع بعض . وبطبيعة الحال لن ينتج عن ذلك إلا مرقّعة كمرقّعات الدراويش تبعث على السخرية أو على الرثاء أو عليهما معا! ذلك أن هؤلاء الأوغاد لم ينجحوا قط فى أن يضعوا ما يسرقونه من نصوص القرآن فى مواضعها وسياقاتها ، بل يضعونها فى إطار يختلف عن إطارها الذى نُقِلَت منه ، علاوة على أن أولئك اللصوص لا يحسنون عملية لزق النصوص المسطوّ عليها ، إذ كثيرا ما تأتى متنافرة لا انسجام بينها ، فضلا عن أن الفواصل ( أى نهايات الآيات ) ، التى يسرقونها هى أيضا من القرآن ، لم يتصادف أن جاءت ولو مرة واحدة كما ينبغى أن تأتى الفاصلة الجيدة قارَّةً فى مكانها حاسمةً فى موسيقيتها ومعناها ، بل يشعر القارئ أنهم قد اجتلبوها اجتلابا لا لشىء غير أن يُنْهُوا الآية بسجعة والسلام . كذلك فإنهم إذا أضافوا شيئا من عندهم كما يقع أحيانا لم يجيئوا إلا بكلام ركيك ثقيل الظل وخيم الأنفاس ! والسورة التى أوردتُها فيما مضى من صفحات تشهد على ما أقول . زد على ذلك ما تقوم عليه المسألة كلها من سماجة ليس لها من مثيل ، إذ هم يسطون على القرآن ألفاظا وعبارات وتراكيب وصُوَرا وفواصل وينتحلونه لأنفسهم ثم يستديرون له بعد ذلك كله مُزْرِين عليه زاعمين أنه من وسوسة الشيطان ! فالأمر ، كما تَرَوْنَ ، يجرى على أسلوب " حسنة وأنا سيدك ! " . إنهم أشبه بخادمة لِصَّة دنيئة حقيرة قبيحة سليطة اللسان تسرق من سيدتها بعض ملابسها التى لا تستطيع مع هذا أن ترتديها على ما يقتضيه الذوق الراقى أو حتى الذوق السليم ثم تفتعل مشكلة وتترك العمل عندها ، لتأتى بعد ذلك إلى هذه السيدة نفسها وقد ارتدت ما سرقته منها من ملابس فتختال بها أمام عينيها بُغْية إغاظتها غير واعية بما تثيره فى نفوس الناس المحترمين أهل الذوق الراقى الكريم من تهكم بغبائها وجلافتها ودناءتها فى التصرف واللبس والكلام ، وأنها مهما فعلت واستعرضت وحاولت أن تغيظ سيدتها ليست فى نهاية المطاف غير خادمة لصة حقيرة قبيحة سليطة اللسان ذات ذوقٍ فِجّ متخلف ! ترى هل يفيق هؤلاء اللصوص السفلة إلى مدى الفظاعة التى ارتكسوا فيها حين سرقوا القرآن وانثنَوْا بعد ذلك للمسلمين يشمخون عليهم بفعلتهم الشيطانية ؟ أما أنا فمن معرفتى بهم وبطبائعهم وأساليبهم الساقطة لا أعلّق عليهم أملا ولا أتوقع منهم خيرا ، إذ العاقل لا ينتظر من المرحاض أن يُثْمِر تفاحا وخَوْخا أو أن يُزْهِر وردًا وآسًا ورَيْحَانا !(/8)
على أن المسألة لم تنته فصولا بعد ، بل ما زال فى جراب الحاوى مفاجآت مضحكة ... مضحكة من الغم لا من السعادة ! تعالَوْا نَرَ مثلا كيف يبدأ اللصوص السارقون معظم سُوَر " ضلالهم المبين ". هل رأيتم أحدا قَطّ يبدأ كلاما جديدا له بواو العطف ؟ إن هذه الواو إنما تعنى أن هناك كلاما سابقا وأن الكلام الحالىّ هو امتداد لفظى ومعنوى له ، وهو ما لا وجود له هنا لأن هذه هى بداية السورة . وهل قبل البداية شىء؟ وعلى رغم وضوح المسألة بل نصاعتها فإن هؤلاء اللصوص لا يراعون هذه البديهية فى عالم النحو والكتابة والأساليب ، فتجدهم يقولون مثلا فى مطلع " سورة الطهر " : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * ودعانا الشيطان ( يقصدون الرسول عليه السلام ) بأسماءٍ قُبْحَى غيّبها بأسماء حسنى مكرًا منه ... إلخ " ، وفى مطلع " سورة الرعاة " نقرأ : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * ومَثَلُ الرسول الصالح كمَثَل راع أورد رعيته وِرْدا طهورا ... " ، وفى" سورة المحرِّضين " نطالع : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * ونَهَيْنا عبادنا عن القتل ووصَّيناهم بالرحمة والمحبة والسلام ... " . وعلى نفس الشاكلة تجرى بدايات سُوَر " الإيمان والحق والطهر والزنى والمائدة والمعجزات والضالين والصيام والماكرين والأمّيِّين والصلاة والملوك والهدى " وغيرها . ترى علام يدل هذا ؟ إنه يدل على أن الأمريكان والصهاينة رغم كل تقدمهم العلمىّ والتقنىّ والعسكرىّ والسياسىّ والتخطيطىّ لا يستطيعون أن يحبكوا تآمرهم على القرآن الكريم الذى يُضْرَب بهوان أتباعه وتخلفهم فى العصر الحالىّ الأمثالُ والحكمُ والمواعظ . فعلام يدل هذا مرة أخرى يا ترى ؟ يدل على أنهم فى حربهم للقرآن إنما يحاربون الله ، والله غالب على أمره . ولو كانت حربهم للقرآن حربا لنا نحن العرب والمسلمين لكان القرآن الآن فى خبر " كان " بعد كل تلك الحروب والمعارك الطاحنة التى لم يكفّوا يوما عن شنها عليه طوال الأربعة عشر قرنا الماضية وجنّدوا لها أعتى العقول عندهم من مبشرين ومستشرقين وسياسيين وعسكريين وكل ما يمكن أن يخطر أو لا يخطر على بالك من صنوف العلماء والمتنفذين لديهم . لكن هاهو ذا واحد مثلى لا فى العير ولا فى النفير وليس بين يديه ولا واحد على الألف مما يتصرف فيه أى مستشرقٍ من الكتب والمراجع والمعاجم والموسوعات والدوريات والمعاونين ، هاهو ذا واحد مثلى منقطع عن بلده ومكتبته الخاصة التى كان من الممكن أن تمده على الأقل بالأساسيات التى يحتاجها كـ " فهرس الموضوعات الكتابية " أو
" دائرة المعارف الكتابية " أو حتى " الكتاب المقدس " نفسه الذى استغرق الأمر منى وقتا طويلا واتصالات متعددة كى أحصل على نسخة منه ، أما " فهرس الموضوعات الكتابية " فقد كَلَّفْتُ بموافاتى بما أحتاجه منه بعضَ من أعرف فى أرض الكنانة من خلال نظام الرسائل الفورية بالمِشْباك ، الذى لا أعرف منه أكثر مما يعرف الجاهل بالسباحة عندما يقعد على الشط مكتفيا بغمس قدمه فى الماء ثم يقول إنه قد نزل البحر وعام فيه مع العائمين ! أقول : ها هو ذا واحد مثلى فى هذه الظروف الشحيحة وبهذه الإمكانات الشديدة الضآلة يكرّ على هذا " الضلال " فيُظْهِر عوراته وسوآته بكل بساطة وسهولة . والسبب ؟ السبب هو أننى حين أفعل ذلك إنما أدافع عن القرآن ، أى عن قضية موفَّقة مباركة يسندنى فيها ويقينى من العِثار ربُّ القرآن الذى ابتهلتُ إليه أن يسهّل مهمتى فاستجاب بكرم منه وفضل ، وهو سبحانه أهل الكرم والبر والتوفيق . أما الأمريكان والصهاينة ومن لَفَّ لفَّهم وحذا حَذْوَهم فنبشّرهم بخذلان من الله مبين : " إن الذين كفروا يُنْفِقون أَمْوالَهم ليصُدّوا عن سبيل الله ، فسينفقونها ثم تكونُ عليهم حسرةً ثم يُغْلَبون . والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرون * ليَمِيز اللهُ الخبيثَ من الطيّب ويجعلَ الخبيثَ بعضَه على بعضٍ فيَرْكُمَه جميعا فيجعلَه فى جَهَنَّمَ . أولئك هم الخاسرون " . صدق الله العظيم ! إن الإله الذى لا يعرف كيف يصوغ الكلام ولا يدرى أهو فى أوله أم فى وسطه أم فى آخره لهو إلهٌ سكرانُ أو قد أصابه الخَرَف ! نعوذ بالله من الخرف وآلهة الخَرَف ! لقد كنا نسمع بإله الحرب وبإله الفنون وبإله الحب مثلا ، لكن هذه أول مرة نعرف أن هناك إلها للخَرَف ! ومن يَعِشْ يَرَ! إن مثل هذا الإله لو كان يعيش بين قبائل أفريقيا المتوحشة قديما لقتلوه لانتهاء عمره الافتراضى ، وربما أكلوا لحمه أيضا رغم أنه لحمٌ عجوز لا ينضج بسرعة وليس له حلاوة مذاق اللحم العَجَّالى ، لكن الأمريكان والصهاينة لا يتنبهون لهذا الأمر على وضوحه البالغ فيُبْقُون على هذا الإله المضطرب الذاكرة والعقل الذى يوقعهم فى مآزق محرجة ليس لها من مخرج ! ألم أقل لكم إن من يتصدى للقرآن فإن مصيره إلى البوار ، وبئس القرار ؟(/9)
على أن خيبة هذا الإله لا تقف عند هذا الحد بل تتعداه إلى الوقوع فى الأخطاء اللغوية المزرية! قد يجيبنى بعضهم : وماذا تريد من إله أمريكانى خواجة من أصحاب : " مُشْ فِخِمْتُو يا خبيبى "؟ لكننى أستطيع أن أرد عليهم بأن هذا الإله الخواجة لا بد أنه استعان ببعض العرب فى اختراع هذا الوحى الدنس ، وإلا فهذا دليل آخر على أنه ، رغم كل علمه وقوته وتقدمه ، تفوته أشياء مما تفوت عباد الله اللاأمريكيين كما حدث فى حكاية البلح الأصفر الذى كان لا يزال على شماريخ النخل فى عز الخريف فى صور القبض على صدام حسين الشهيرة . وأما إن كان قد استعان ببعض العرب ، وهو ما أنا موقن منه إيقانا ، فمعناه أن بركة القرآن قد آتت أُكُلَها وسطعت ( كما يسطع العبيرُ وضياءُ الشمس جميعا ) نتائجُها الطيبةُ الطاهرةُ فأفشلت هذا التآمر الخسيس ، وانقلب السحر على الساحر الخائب الموكوس ، رغم كل ما معه من خبث وسلاح وفلوس !
وبعد ، فهذه عينة من الأخطاء اللغوية التى سقط فيها سقوطَ الجرادل صاحبُنا الإلهُ الخواجة وأذيالُه من بنى جلدتنا الذين أخجلونا وشمّتوا الدنيا فينا بجهلهم بلغة القرآن المجيد الجديرة بالحب بل بالعشق بل بالوَلَه حتى ممن يكره كتابَها العزيزَ والرسولَ الذى أُنْزِل عليه هذا الكتاب ضياءً وهدًى للعالمين : " وما كان النجسُ والطمثُ والمحيضُ والغائطُ والتيممُ والنكاحُ والهجرُ والضربُ والطلاقُ إلا كومةُ رِكْسٍ لفظها الشيطان بلسانكم " ( الطهر/ 6 )، وصوابها : " كومةَ ركس " بفتح التاء لأنها خبر " كان" ) ، و" كى يَشْهَدهم الناسَ " ( الصلاة /(/10)
3 ، بفتح سين " الناس " رغم أنها فاعلٌ حقُّه الرفعُ بالضمة ) ، و" ذلكم هم المنافقون " ( نفس السورة والفقرة ، وهى غلطة لا يمكن أن يقع فيها إلا إله أمريكانى من الذين يقولون : " يا خبيبى ! يا خَبّة إينى " ، أما لو كان رب العالمين هو الذى أنزل هذا الكتاب لقال : " أولئك / أولئكم هم المنافقون " ، إذ إن الكاف التى فى آخر اسم الإشارة لا علاقة لها بالمشار إليه ، الذى هو هنا " الكافرون " ، بل تتغير حسب طبيعة من نخاطبه : إفرادا وتثنية وجمعا وتذكيرا وتأنيثا، أما الذى يتغير حسب تغير المشار إليه فهو اسم الإشارة نفسه . ومادام " المنافقون " جمعا فينبغى استخدام " أولئك " لهم . ترى أَفَهِم الأوباشُ أم نُعِيد الكلام من البداية ؟ ولا بأس عندنا من الإعادة ، ففى التكرار للحمير إفادة ! ) ، و" خلقناكم ذكرا وأنثى يتحدان زوجًا فردا " ( الزواج / 3 ، وهو كلام ركيك من كلام الخواجات ) ، و" الإنتقام " ( الإخاء / 11 ، بهمزة تحت الألف ، وهو خطأ شنيع صحته " الانتقام " دون التلفّظ بالهمزة لأنها همزة وصل لا تُنْطَق ) ، و" وصَّيناكم بألا تَدِنُوا " ( الماكرين / 6 ، يقصد " بألا تدينوا " ، وهذا أيضا كلامٌ خواجاتى ) ، و " سلبتم أقواتِهم " ( الماكرين / 7 ، وهو جهلٌ مُدْقِع أستغرب كيف يقع فيه شيطان ، والشياطين ، رغم شِرّيرِيّتهم ، لا يخطئون مثل هذه الأخطاء البدائية . لكن يبدو أنه من أولئك الشياطين الفاشلين الذين منهم أحمد الشلبى مورّط أمريكا فى العراق . على كل حال فالصواب هو فتح تاء " أقواتَهم " لأنها ليست جمع مؤنث سالما كما يظن الأغبياء بل جمع تكسير ، فلذلك تُنْصَب بالفتحة لا بالكسرة )، و" بإسمنا " ( الماكرين / 15 ، وهى مثل الهمزة فى " الانتقام " لا ينبغى أن تُلْفَظ ) ، و " زَنُوا " ( الماكرين / 17 ، من " الزنى " ، وهو خطأ لا يليق صوابه " زَنَوْا " ) ، و "حضيرة " ( مرتين : الرعاة / 13 ، والمحرّضين / 10 ، والصواب ، كما لا يخفى إلا على جاهل قد طمس الله على عينه وجعل على عقله غشاوة ، هو "حظيرة " ، وهو المكان الذى ينبغى أن يوضَع فيه أمام مذْوَدٍ مملوءٍ تبنًا وبرسيمًا هؤلاء الطَّغَامُ الذين يحاولون بغبائهم أن يطفئوا نور الله بأفواههم النَّتِنَة ) ، و " نقول له : كن ، فيكونَ " ( النسخ / 10 ، بفتح نون " يكون " من غير أى داع ، والواجب ضمّها لأن الفعل المضارع لم يسبقه ناصب من أى نوع ) ،و" أشرك بنا من يشاركنا وِلائِنا لعبادنا " (المشركين / 12 ، بكسر همزة " ولاء " ، وحقها الفتح لأن الكلمة مفعول ثان للفعل" يشاركنا ". وهى ، كما يرى القارئ ، غلطة لا يقع فيها إلا جاهل له فى الجهل تاريخ عريق مؤثَّل ) ، و" مؤمنين منافقين " ( الكبائر / 9 ، ولا أدرى كيف يُوصَف المؤمن بأنه منافق ، اللهم إلا إذا جاز لنا أن نقول : فلان قصير طويل ، وطيب شرير ، وذكى غبى ... إلخ ، أو إلا إذا احتُجَّ علينا بأن قائل هذا هو الله ، الذى لا تُرَد له مشيئة ، فهو لا يُسْأل عما يفعل . لكن فات ذلك المجادلَ الشَّكِسَ أن إرادة الله تعالى لا تتعلق بالمستحيلات وأنها فوق السخافات والسفسطات . أما إذا قبل إنه إله أمريكى يحق له أن يفعل أى شىء دون أدنى حرج ، فإننا نبادر بالموافقة ما دام فاعل هذا من ذلك الصنف من الناس الذين وصف رسولنا الكريم واحدا منهم قديما بـ " الأحمق المطاع " ) ، و" وزعمتم أنكم آمنتم بالكتاب وبأهل الكتاب الذين هادوا والنصارى " ( الكبائر / 9 ، والمخاطَبون هنا هم المسلمون . وفى الكلام ركاكة لا يمكن بلعها ولا هضمها، علاوة على أن المسلمين لا يقولون أبدا إنهم آمنوا باليهود والنصارى ، إذ ليس اليهود والنصارى كتابا سماويا ولا نبيا من الأنبياء حتى يكونوا موضوعا للإيمان ، فضلا عن أننا ، على العكس من ذلك ، نؤمن بأنهم حرّفوا كتبهم وعبثوا بها وأنهم ما زالوا مقيمين على العبث والتحريف حتى هذه اللحظة باختراعهم هذا " الضلال المبين " وزَعْمهم أنه كتاب من عند رب العالمين ، ناسين أن الكتب السماوية لا تنزل على أهل الأُبْنَة اللوطيين ، حتى لو رأت أمريكا أن ترسّمهم أساقفةً وقِسّيسِين ) ، و " إنْ هو ( أى القرآن ) إلا خير شِرْعة أُخْرِجَت للكافرين " ( البهتان / 9 ، وهو وحىٌ حلمنتيشىٌّ خَدِيجٌ لا رأس له ولا ذَنَب ، ولا يمكن أن يدور إلا فى اسْت أحد الممرورين المضطربين . لا شفاه الله من دائه بل أخزاه وجعله عبرة لغيره من الكافرين المخبولين ! آمين يا رب العالمين . ومن الواضح أن الجهلاء يريدون أن يقولوا إنه " شرّ شرعةٍ أُخْرِجت للكافرين " ).(/11)
وكما ثبت أن الإله الذى أوحى بهذا " الضلال المبين " هو إله جاهل باللغة التى لفَّق بها كتابه ، فسأثبت للقراء الآن أنه إله جاهل أيضا بالكتب التى يقول إنه أوحى بها قبل هذا ، وأنه إله لا منطق عنده ولا عقل ، وأنه نسّاء كذلك ، إذ لا يستطيع أن يتذكر ما جاء فى القرآن الكريم فينقل الآيات التى فيه خطأً ، مع أنه ، كما قيل لى ، كان يفتح المصحف وهو يفعل ذلك . فهل نقول إنه لا يعرف الكتابة والقراءة جيدا ؟ أم هل نقول إنه يستعين بمن يقرأون له ، لكنهم للأسف يستغلون جهله وأميته فيخدعونه ولا يعطونه المعلومات الصحيحة التى يطلبها منهم ؟ يقول بعد البسملة التثليثية فى أول ما يسمّى بـ " سورة الحق " ، والحق منها ومن مزيفيها براء : " وأنزلنا الفرقان الحق نورًا على نور محقًّا للحق ومبطلا للباطل وإن كره المبطلون * ففضح مكر الشيطان الرجيم ولو تنزَّل بوحى مَلَكٍ رحيم " . بالله هل هذا إله يدرى ما يقول ؟ ما معنى أنه سيفضح مكر الشيطان الرجيم حتى لو جاء به ملاك رحيم ؟ تُرَى كيف يمكن أن يأتى بالوحى الشيطانى ملاك رحيم ؟ هل الملائكة تتصرف من تلقاء نفسها ؟ بل هل يمكن أن يقع منها أى عصيان لأوامر الله ؟ ومثلُ ذلك رقاعةً وسخفًا قولُهم فى الفقرة الثانية من " سورة الطهر " : " ولو كنتم أنبياءَ وأُوتيتُم الحكمة واطلَّعتم على الغيب وأتيتم بالمعجزات دون محبة فلا حول لكم ولا منّة وإنما أنتم مفترون ". كيف بالله يمكن أن يكون إنسانٌ ما نبيًّا مؤيَّدًا بالحكمة وعلم الغيب والمعجزات جميعا ثم يرفض الله تعالى أن يعترف به نبيا؟ فمن الذى أرسله إذن وجعله نبيا وأيده بكل هذه المواهب الإعجازية ؟ إن القوم إنما يصدرون هنا عن الفكر الوثنى ، إذ يتصورون أن هناك إلها آخر يمكن أن يرسل نبيا من لدنه على غير هوى الله فيرفض الله من ثم أن يعترف بنبوته . وفى أول " سورة العطاء " نطالع الآتى : " يا أيها الذين ضلُّوا من عبادنا ، لقد قيل لكم : النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن ... " ، ليعود الإله الغافل فى الفقرة السادسة فيقول بخصوص هذه الآية نفسها :" ورحتم تُضِلّون المهتدين وتفترون علينا الكذب إنه لا يفلح المفترون ". والآن أيدرى القارئ الكريم من أين أتى القرآن بعبارة " النفس بالنفس ... إلخ " ؟ إنها من التوراة ، ونص القرآن هو : " وكتبنا عليهم فيها ( أى على بنى إسرائيل فى التوراة ) أن النفسَ بالنفسِ ، والعينَ بالعيِن ، والأنفَ بالأنفِ ، والأذنَ بالأذنِ ، والسنَّ بالسنِّ ... " ( المائدة / 45 ) ، ولا أحد فى اليهودية أو النصرانية إلا ويؤمن بأن التوراة هى من عند الله . والقرآن لم يقل شيئا آخر غير(/12)
هذا ، فما معنى كل ذلك ؟ معناه ببساطة أن الإله الذى أوحى هذا الكتاب المسمى بـ " الضلال المبين " هو إله لا عقل لديه ولا ذاكرة ! وقد بلغ به فقدان العقل والذاكرة أَنْ وصف هذا التشريع بأنه " حكم الجاهلية " ، فضلا عن أنه لم يحسن نقل الآية كالعادة كما لا بد أن القراء قد لاحظوا ، إذ نَسِىَ ثلاث جمل كاملة هى : " والعَيْنَ بالعين ، والأَنْفَ بالأنف ، والأُذُنَ بالأُذُنِ " ، وهكذا ينبغى أن يكون الإله والوحى الإلهى ، وإلا فلا . تصوَّروا! تصوروا أن يعيب إلهٌ شريعته التى أنزلها فى كتاب له أرسل به رسولا من رسله أولى العزم هو موسى عليه السلام بأنها " حكم الجاهلية " ؟ جاء ذلك فيما يسمَّى : " سورة الحكم " ، ونص كلام هذا الهَرِم الفاقد الذاكرة كما جاء فى الفقرة العاشرة من السورة المذكورة هو : " أَفَحُكْمَ الجاهلية تبتغون بأن النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن إنْ هو إلا سُنَّة الأولين وقد خَلَتْ شِرْعة الغابرين " . ثم يمضى الإله المسكين فى تخبطاته بصورة تدعو إلى الرثاء قائلا فى الفقرة التى تلى ذلك مباشرة : " فلا تنتقموا وتَصَدَّقوا به فهو كفارة لكم إن كنتم مؤمنين " ، جاهلا فى غمرة نسيانه وخَرَفه أن هذا هو ما يقوله القرآن الكريم فى آية سورة " المائدة " التى سبق الاستشهاد بها قبل قليل ، مع فارق مهم هو أن القرآن لا يوجب هذا كما يريد منا مزيفو كتاب " الضلال " بل يكتفى بالحث عليه لمن أراد أن يحرز أجرا عند الله ينفعه يوم القيامة ، وهو ما يتمشى مع أوضاع المجتمعات البشرية التى لا تستطيع أن تُمْضِىَ أمرها دون محاكم وعقوبات ، وإلا لفسد الأمر وعاث المجرمون من أمثال هؤلاء الملفقين بغيا ونهبا وتقتيلا ، إذ ما الذى يردع المجرم عن عدوانه وغَيّه لو أُلْغِيَت العقوبات ؟ إن هذا ما يتمناه كل مجرم له فى الإجرام تاريخ عريق . أما المبالغة فى الأمر بالتسامح والتظاهر به وتصوُّر أن البشر قادرون عليه فى كل الأحوال فهو نفاق رخيص . وليست العبرة بمثل هذه المبالغة ، بل العبرة أن يكون هناك تشريع يحقق العدل ويأخذ لكل ذى حق حقه مع دعوة الناس إلى الصفح ما أمكن ، وهو ما فعله القرآن . أما الكلام الساذج عن إدارة الخد الأيسر لمن يصفعك على خدك الأيمن فهو سذاجة بل بلاهة بل تنطع . وأتحداكم أن تأتوا لى بمن يدعو إلى هذا لأصفعه وأرى ماذا سيفعل ! إنه ما من دولة نصرانية تخلو من المحاكم والعقوبات والسجون ... إلخ مما هو موجود فى كل البلاد ! بل إن الله نفسه يعاقب الأشرار فى الدنيا والآخرة . وعلى اعتقادكم فإنه سبحانه لم يسامح البشرَ إلا بعد أن عاقب ابنه عقابا لم نسمع أن أبا طبيعيا عاقبه ابنه ، بله أن يكون هذا الابن ابنًا بريئًا بارًّا لم يرتكب ذنبا فى حق أحد ! ترى لماذا لم يجر الله على سنة التسامح التى تدعون إليها وتظنون أنكم تتفوقون بها علينا ، مع أننا، مهما صدقنا ادعاءاتكم فينا، لم نقترف عشر معشار ما اقترفتموه فى حقنا وفى حق الآخرين من جرائم وفظاعات وحشية ؟ فلماذا التساخف إذن لمكايدة المسلمين ؟ أما إذا كان الأمر مجرد تنطُّع للمباهاة والسلام ، فإنى على استعداد لعظة الأوباش بألا يكتفوا بإدارة الخد الأيسر لمن يصفعهم على الأيمن بل لا بد من إدارة القفا أيضا ليتلقَّوْا عليه ما لذ وطاب من الضرب واللَّطْس ثم إدارة الأرداف كذلك للاستمتاع ببعض الركلات ، مع كم لكمةً من اللكمات المنتقاة وكم بَصْقَةً من البَصْق الذى يعجبك كى يكون أجرهم عند الله عظيما فى ملكوت السماوات ! وسلِّم لى على التسامح . لو أنكم كنتم صادقين فى هذه المثالية المتنطعة ، فلماذا لا تنسَوْن ما تدَّعون أننا آذيناكم به ولا تزالون حتى الآن تتخذونه ذريعة لسحقنا وسحق أية محاولة منا للنهوض من تخلفنا؟ هذا ، ولم ندخل بعد فى حكاية " من أخذ منك رداءك فأعطه أيضا إزارك " ، وامش بعد ذلك " بلبوصا " تستعرض على الناس فى الشوارع والمجامع سوأتك وأعضاءك التناسلية والإخراجية ، ثم تعال فقابلنى يوم القيامة ! لقد كان من الممكن أن يجوز علينا هذا الكلام لو أننا لم نَخْبُرْكم ونَخْبُر سلوككم وأخلاقكم ! أمّا ، وقد عرفناكم وكان ماضيكم معنا على مدى قرون زفتًا وقَطِرانا ، فكيف يدور فى وهمكم أننا يمكن أن نصدق حرفا مما تقولون ؟ وعلى كل حال فهذا هو نَصّ سورة " المائدة " الذى سلف الحديث عنه قبل قليل : " فمن تصدَّقَ به فهو كفّارة له ". أستغفر الله العظيم! رضينا بالله ربًّا، وبالإسلا م دينًا ، وبمحمد نبيًّا ورسولا ، وتبرَّأْنا من كل دينٍ يخالف دين الإسلام !(/13)
ليس ذلك فقط ، فالواقع أن هذا الإله إلهٌ هجّاصٌ أيضا . ذلك أنه يزعم أنه قد أيّد هذا " الضلال المبين " بالمعجزات حسبما جاء فى الفقرتين الرابعة والخامسة من " سورة المعجزات " . فأين تلك المعجزات يا ترى ؟ أفتونى بعلم أيها العقلاء ! إن النبى الكذاب الضَّلاِلىّ صاحب هذا الكتاب لم يجرؤ على الظهور للناس الذين يزعم أنه أُرسل إليهم ، فكيف يمكن أن يكون قد أتى بمعجزات أراناها فصدّقْنا به وبها ، ونحن لم نتشرف أصلا بطلعته الغبية ؟ إنه يعرف تمام المعرفة أنه لو فقد عقله وأرانا خلقته فليس له عندنا إلا البراطيش ننهال بها على وجهه السمج حتى تتورم خدود العِلْج الزنيم فى عَلْقَة لم يأكل مثلَها حمارٌ فى مَطْلع أو حرامىٌّ فى جامع !
وفى تلك السورة نفسها نقرأ هذا الكلام العجيب الذى لا يمكن أن يصدر عن أمّىّ ، بله رب العالمين الذى خلق العقل والبيان ، فلا يُعْقَل من ثم أن يَتَدَهْدَى لهذا الدَّرْك الأسفل من العِىّ والفَهَاهة واللامنطق ، إذ جاء فى الفقرة الثامنة منها وصفًا لـ " الضلال المبين " الذى يسمونه كذبًا ومَيْنًا بـ " الفرقان الحق " : " صِنْو الإنجيل ورَجْع الصَّدَى وبيان للناس كافة وتذكرة للكافرين ونور ورحمة وبشير ونذير وهدى للضالين لعلهم يتذكرون ويهتدون ". ترى كيف يكون بشيرا للضالين ؟ إن البشارة إنما تكون للمهتدين لا للضالين . لكن من أين يأتى لمخترع هذا " الضلالِ " المنطقُ والبيانُ " وقد طمس الله على بصيرة المزيِّف الدجال ؟ ثم إنه ، بسلامته ، قد حسم الأمر بالنسبة لنا نحن المسلمين ورمانا ، فى الفقرة الثالثة من " سورة المنافقين " ، فى سَقَر ، إذ قال : " وأوردكم جهنم جميعا وإنْ منكم إلا واردها وكان عليه أمرا مقضيا " ، كما أنه يقول فى الفقرة السادسة منها عنا : " وطبع الشيطان على قلوبكم وسمعكم وأبصاركم فأنتم قوم لا تفقهون . لا جَرَمَ أنكم فى الآخرة أنتم الخاسرون " . فكيف يجىء بعد ذلك ويتكلم عن الهداية ؟ والعجيب أنه رغم هذا يعود فى هذه السورة ذاتها فى الفقرة الثامنة قائلا : " يُلْقِى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم يهتدون كلما أوقدوا نار الكفر أطفأناها ويسعَوْن فى الأرض فسادًا فوَيْلٌ للمفسدين " ، مشيرا إلى أنه سوف يأتى علينا يوم نهتدى فيه ، أى نتخلى عن توحيدنا لصالح التثليث الوثنى الذى نفض معظم الناس عندهم فى الغرب أيديهم منه . فكيف يريد هؤلاء المجانين منا أن نأكل ما رماه الغربيون فى صندوق القمامة منذ قرون ؟ إن المجرمين يتخبطون فى المصيدة التى ساقهم بغضهم وكيدهم لمحمد إليها غير مستطيعين التخلص من ورطتهم .
وتعالَوْا ننظر أيضا فى هذا الاضطراب العقلى الذى تعكسه الفقرة حيث نقرأ أننا نحن المسلمين كلما أوقدنا نار الكفر أطفأها الله سبحانه . فها نحن أولاء ، من وجهة نظر هذا الإله المخبول ، نشعل نار الكفر منذ أربعة عشر قرنا ، فلِمَ لَمْ يطفئها ؟ أم سيقال إن عمال المطافئ الذين يشتغلون عنده كانوا مضربين طوال هاتيك القرون عن العمل أو إن أمريكا ضاربةٌ من يومها على مملكته حصارا اقتصاديا يشمل قطع الغيار الخاصة بعربات المطافئ ، فلذلك لا يستطيع تشغيلها بل تقف فى مكانها لا تَرِيم كقطعة الخردة ؟ ثم إنه فى الآية الثالثة عشرة من نفس السورة يعود فيقول : " يا أيها الذين آمنوا من عبادنا ( المقصود هنا النصارى ، وربما اليهود أيضا ) إذا رُفِع لنا دعاء فإنه يستجاب لكم فيهم ولا يستجاب لهم فيكم فأنتم المقسطون وهم المبطلون " . وإننا لنسأل هؤلاء الأوغاد : لماذا ، بدلا من هذه الخَوْتَة ووجع الدماغ وتزييف الكتب الذى تشغلون أنفسكم به ، لا تَدْعُون أنتم وبقية المغفلين أمثالكم لنا بالهداية وتفضونها سيرة وتنصرفون إلى ما يصلح حالكم ، لا أصلح الله لكم حالا ما دمتم تصرون على الكفر والتآمر على عباد الله الموحدين تريدون أن ترجعوهم كفارا بعد أن أنعم الله عليهم بدين التوحيد؟ ألستم تقولون إن الله أوحى لكم هذا الهباب الذى تسمونه " الفرقان الحق " وأكد لكم فيه أن دعاءكم فينا مستجاب ؟ ألستم تريدون لنا أن نؤمن بتثليثكم ؟ بسيطة ! إن الأمر لا يحتاج لأكثر من دعوة ( أو دعوتين إذا لزم الأمر وكان إلهكم نائما نومة القيلولة مثلا أو كان مشغولا بملاعبة ابنه أو مداعبة زوجته ويحتاج من ثَمّ إلى مزيد من التنبيه ) ، وبعدها تجدوننا قد دخلنا فى دينكم وأصبحنا وثنيين مثلكم ، ويرتاح بالكم وتريحوننا من هذه الشتائم التى لا تأتى معنا بنتيجة ؟ صحيح : لم لا تفعلون ذلك ؟ ولكن لا تنسَوْا أن تعطونى الحلاوة إن وفقكم الله ، ولن يوفقكم أبدا لا فى الدنيا ولا فى الآخرة بمشيئته تعالى وحوله وقوته !(/14)
كذلك فهذا الإله الضالّ الُمضِلّ لا يستطيع تذكُّر الآيات القرآنية على وجهها الصحيح فتراه يخطئ فى الاستشهاد بها فى معظم الأحيان رغم حرصه على وضعها بين علامتَىْ تنصيص جريا على أسلوب الباحثين حين يريدون أن يؤكدوا أنهم قد نقلوا النص حرفيا: خذ مثلا قوله فى الاستشهاد ، فى الفقرة الحادية عشرة من " سورة القتل " عندهم ، بالآية السابعة عشرة من سورة " الأنفال " : " ولَمْ تقتلوهم ولكن الله قتلهم "، مع أن بدايتها فى القرآن الكريم بالفاء لا بالواو . كما أنه فى أول " سورة الضالين " يستشهد بسورة" الصَّمَد " القرآنية على غير ما جاءت عليه فى القرآن ، إذ يقول بعد البسملة الوثنية : " وألبس الشيطانُ الباطلَ ثوبَ الحق وأضفى على الظلم جلباب العدل وقال لأوليائه : أنا ربكم الأحد لم أَلِد ولم أُولَد ولم يكن لى بينكم كُفُوًا أحد " . وليس هذا نَصَّ سورة "الصمد" كما نعرفها فى القرآن منذ أُنْزِلت على خير البرية . ثم ما الذى يغيظ أى إله فى قولنا عنه إنه واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، اللهم إلا إذا كان إلها أحمق ؟ فلنتركه لحماقته يهنأ بها كما يحلو له هو ومن يرافئونه على هذا الجنون!
أما فيما يسمى : " سورة الطاغوت " فإنه ، عند مهاجمته لشريعة الجهاد التى يتهمها زورا بالعدوانية والظلم وتقتيل الأبرياء ، ينقل على نحو محرف ما جاء فى سورة " التوبة " من أن " الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتِلون فى سبيل الله فيَقْتُلون ويُقْتَلون وعدًا عليه حقًّا فى التوراة والإنجيل والقرآن " ، إذ يقول :" وافترَوْا على لساننا الكذب : بأنا اشترينا من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيلنا وعدا علينا حقا فى الإنجيل . ألا إن المفترين كاذبون ... " . وواضح أن الأفاكين قد أسقطوا عدة كلمات من الآية القرآنية الكريمة عمْدًا حتى لا يُضْطَّروا إلى الإقرار بأن فى التوراة أمرا ، لا بالقتال دفاعا عن النفس والعِرْض فقط كما فى الإسلام ، بل بالقتل بدافع الكراهية للأمم الأخرى وإبادتها لمجرد الإبادة . وهو ما يعضد قول من قال إن هذا " الضلال المبين " هو ثمرة التعاون الأثيم بين الصهيونية والصليبية ، فلذلك يعملون على إظهار اليهود فى صورة المسالم البرىء. والنص الصحيح لآية سورة التوبة هو : " وَعْدًا عليه حَقًّا فى التوراة والإنجيل والقرآن " . ولم يقتصر الأمر فى السورة على هذا الخطإ ، بل هناك خطأ آخر فى الفقرة العاشرة حيث أوردوا فى وحيهم الشيطانى الآية السابعة عشرة من سورة " الأنفال " التى تبدأ بقوله تعالى : " فلَمْ تقتلوهم ، ولكن الله قتلهم " على النحو التالى : " وما قتلتموهم ولكن الله قتلهم " .
كذلك نجد فى "سورة النسخ " خطأ آخر من ذات النوع ، إذ يقول إلههم المسطول فى الفقرة الثانية عشرة : " وإذا قيل : " هو قولٌ افتراه ( أى الرسول ) " قلتم : " فَأْتُوا بعَشْرِ سُوَرٍ مثله مفتريات إن كنتم صادقين ". وتعليقا على هذا نقول : أوَّلا ليس فى القرآن عبارة " هو قول افتراه ". ثانيا : لم يتخذ ردُّ القرآن على دعوى الكفار بافتراء النبى للقرآن صيغةً واحدةً فى كل مرة ، بل كان يختلف من موضع إلى آخر . ثالثا: العبارة التى أوردها هذا الإله المائق المأفون لم ترد فى القرآن على هذا النحو ، بل نصها فى الآية الثالثة عشرة من سورة" هود " هو : " فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " . وفى " سورة الوعيد " نقرأ فى الفقرة الأولى قولهم : " يا أيها الذين ضلّوا من عبادنا ( والمقصود نحن المسلمين ورسولنا ) : لقد توعدتم عبادنا المؤمنين بلساننا افتراءً فقلتم : " يا أيها الذين أُوتُوا الكتاب آمِنوا بما نزَّلْنا مصدِّقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردَّها على أدبارها ونلعنهم كما لعنَّا أصحاب السبت لَعْنًا " ، مع أن النص القرآنى يقول : " أو نلعنهم " ( بـ " أو " لا بالواو ) ، كما أنه يخلو من المفعول المطلق :" لَعْنًا ". وفوق ذلك فإن هذه الآية موجهة إلى اليهود ، فما معنى تسميتهم فى " الضلال المبين " بـ " عبادنا المؤمنين " ، والنصارى يعدون اليهود كَفَرَةً كُفْرًا لا كفر بعده ولا قبله ؟ أترك المخابيل مع هذه المسألة وحدها يحاولون أن يجدوا لها حلا ، وهيهات ! وإلا لكانوا مكذِّبين بالمسيح وبالأناجيل . ولعل القارئ لم ينس أيضا ما نبّهْنا إليه قبل قليل من إسقاط هذا الإله الخَرِف للجمل الثلاث من آية سورة
" المائدة " التى تتحدث عن القصاص فى التوراة . ونكتفى بهذه الأمثلة ، ومن يُرِدْ غيرها فليرجع بنفسه إلى هذه النصوص الكفرية المتهافتة السخيفة ! ومرة أخرى أرى أن هذا الإسقاط لبعض كلمات الآية القرآنية هو تعضيد لمن يقولون عن تزييف هذا " الضلال المبين " إنه نتيجة الجهود والمؤامرات المشتركة من جانب اليهود والنصارى فى أمريكا مع الاستعانة بطائفة من العرب الأرجاس الأنجاس !(/15)
والطريف المضحك أن كتاب " الضلال المبين " يدور كله من أوله لآخره على المسلمين ونبيهم والكتاب الذى أنزله الله عليه : لا يشتم غيرهم ، ولا يحاول أن يَخْتِل أحدا عن دينه سواهم ، ولا يترك شيئا أىّ شىء فى دينهم دون أن يسفِّهه ويُزْرِىَ به مناديا إياهم فى مفتتح كل سورة تقريبا من سور "ضلالهم المبين" بـ " يا أهل الجهل " أو " يا أهل الظلم من عبادنا " أو " يا أيها الذين ضلُّوا من عبادنا " أو " يا أيها الذين أشركوا من عبادنا الضالين " أو" يا أيها الذين كفروا من عبادنا الضالين " أو " يا أيها المنافقون من عبادنا الضالين " أو " يا أيها المفترون من عبادنا الضالين " أو " يا أهل التحريف من عبادنا الضالين "، وكأن الله سبحانه وتعالى لم تعد له شُغْلَة ولا مَشْغَلَة إلا المسلمون . ولكن لم يا ترى ؟ السبب هو أن المسلمين يوحّدونه ولا ينسبون له ولدا ، سبحانه ! ولأنهم يصلّون له وحده لا يشركون فى عبادتهم له أحدا من خلقه . باختصار : لأنهم لا يتبعون سُنّة الوثنيين فى أىٍّ من عقائدهم أو عباداتهم أو تشريعاتهم . فهذا التوحيد النقى المطلق هو الذى يغيظ ... يغيظ من ؟ لا ، لا يمكن أن يغيظ هذا الإيمانُ الناصعُ الصافى اللهَ سبحانه وتعالى بل إلها أحمق مغفَّلا كهؤلاء الذين يعبدونه وهم يحسبون ، بعقولهم الزَّنِخَة العَطِنة وقلوبهم السوداء العَفِنة ، أنهم يُحْسِنون صنعا! هذا إلهٌ متخلفٌ ينبغى أن يُعْهَد به إلى من يُفَهِّمه ويرشده ويُحَضِّره ويُبَصِّره بمصلحته وما يصحّ وما لا يصحّ فى حقه ، بالضبط كما يفعلون بأولياء العهد فى الدُّوَل الملكية ، إذ يُحْضِرون لهم فى صغرهم أساتذة يعلّمونهم فنون البروتوكول ، حتى إذا جاء عليهم الدَّوْر ليحكموا البلاد كانوا جاهزين لتولى أمور المُلْك ولم يكونوا عارا على بلادهم وأُسَرهم . ولكن يبدو أن هذا الإله لم يجد فى صباه من يأخذ بيده ويعلّمه مقتضيات الألوهية على وجهها الصحيح ، فلذلك نراه يفضّل أن يشرك به عبادُه على أن يُفْرِدوه بالألوهية ويخصّوه بالعبادة والدعاء والتمجيد ! إن هؤلاء الأغبياء ما زالوا سادرين فى أوهامهم التى كانت تجوز على المتخلفين فى العصور الوسطى والتى تخلصت منها أوربا عندما أذَّن فيها المؤذن ببزوغ فجر النهضة ، ناسين أننا الآن فى القرن الواحد والعشرين ! صحّ النوميا أيها المتخلفون !
أو لم تجدوا فى طول الأرض وعرضها على رُحْبها واتساعها من يحتاج إلى الهداية إلا المسلمين ؟ أولم يأتكم نبأ عُبّاد البقر أو عُبّاد النار أو عُبّاد الشيطان أو الشيوعيين مثلا ؟ أَوَقَدْ نَسِيتم ما كنتم تقولونه فى اليهود الذين تتهمونهم بقتل ربكم ؟ ألا يحتاج أىٌّ من هؤلاء أن تُولُوه شيئا من هذا الحنان الزائف الذى تغدقونه علينا بالإكراه والذى تسمونه : " المحبة " ؟ فلنفترض أننا نحن المسلمين ضالون فعلا كما تزعمون كذبًا ومَيْنًا ، أليس ضلالنا هذا أنظف من ضلال هؤلاء الذين ذكرتُهم آنفا؟ إننا على الأقل نعبد الله ونوحّده ولا نشرك به شيئا ، فضلا عن أننا لم نقتل المسيح ولم نطعن أمه فى عِرْضها مما سنتناوله بالتفصيل فيما بعد ، بل نؤمن به نبيًّا من أنبياء الله ونحترمه ونكرّم أمه تكريما لا يكرِّمها إياه أحد من العالمين . فنحن إذن ، على أسوإ الفروض ، أفضل من غيرنا، فلماذا كل هذه البذاءة والسفالة والوقاحة مع رسولنا ومعنا دون الناس أجمعين ؟ ثم تقولون لنا بعد ذلك إن دينكم هو دين المحبة !(/16)
أية محبة تلك التى تسوِّل لكم التطاول علينا واتهامنا مع ذلك كله بأننا نحن المعتدون القاتلون اللصوص السارقون ، فى الوقت الذى تهجمون فيه على بلادنا وتدمرونها تدميرا ، وتقتّلون رجالنا ونساءنا وأطفالنا ، وتسرقون بترولنا ، وتحتلون بلادنا ، وتعذّبوننا وتهينوننا وتنتهكون أعراض نسائنا ، وتضربوننا بالقنابل والصواريخ والطائرات والدبابات والبوارج ... إلخ ؟ إن جنودكم اللوطيين ومجنَّداتكم السحاقيات يعتدون على إخواننا وأخواتنا فى السجون والمعتقلات فى أرض الرافدين ( وهذا مجرد مثال ) بكسر عظامهم ، وإبقائهم عرايا فى صَبَارَّة الشتاء مع غمر الزنازين بالماء الوسخ حتى لا يستطيع المساكين النوم ، وتسليط الكلاب المتوحشة عليهم تنهش خُصَاهم وغراميلهم فينزفون حتى الموت ، فضلا عن إكراههم للأب أن يمارس اللواط مع ابنه والعكس بالعكس ، واغتصاب النساء والفتيات العفيفات اللاتى يفضلن الموت بعد خروجهن من المعتقل على الحياة مع هذا العار ، طالبين منهم ومنهن أن يشتموا الله ورسوله ويرددوا أنهم يؤمنون بالصليب وبيسوع ابن الله ، قائلين إنهم جاؤوا إليهم يحملون رسالة المحبة ، وهم لم يحملوا إلا رسالة اللواط والسحاق والتعذيب والتقتيل والتدمير البربرى الذى لا يترك شيئا يمرّ عليه إلا جعله أنقاضًا وأحجارًا لا يُعْفِى من ذلك مدرسة ولا مصنعا ولا متحفا ولا بيتا ولا مسجدا ؟ أية محبة جئتمونا بها أيها الوحوش ؟ لعنة الله عليكم وعلى ما جئتمونا به ! اغربوا عن وجوهنا ، لا نريد أن نراكم ! أىّ جنون ذلك الذى طوّع لكم أننا يمكن أن نترك توحيدنا الطاهر العظيم وندخل معكم فى تثليثكم وتصليبكم ؟ فلتحتفظوا بهذه المحبة لأنفسكم بدلا من اللهاث وراء إضلال من هداهم الله وعافاهم من هذا الرجس وذلك البلاء ، والعياذ بالله ! لماذا لا توجهون دعوتكم هذه إلى من تركوا منكم دينهم واتخذوا الإلحاد دينا بديلا ، وهم الأغلبية الساحقة فيكم ؟ أنتم تقولون فى " ضلالكم المبين " إننا ذاهبون إلى الجحيم ! ماشٍ ، فلتريحوا إذن أنفسكم ولتوفروا جهودكم وأموالكم وأوقاتكم ، ولتنصرفوا عنا ما دام الأمل فينا مقطوعا. أليس هذا ما يقول به العقل يا من عدمتم العقل ؟(/17)
والآن إلى بعض ما يقوله هؤلاء الأوساخ فينا وفى رسولنا وديننا عقيدةً وعبادةً وتشريعًا : " يا أيها المنافقون من عبادنا الضالين : أَنَّى تشهدون بما لم تشهدوا وترددون ما لا تفقهون . لقد شهدتم إفكا وقلتم بَهْتًا ونُكْرا * وبلَّغتم الناس ما ليس لكم به علم . وأنفذتم جاهليتكم على الراسخين فى العلم والدين القويم فأثقلتم كواهلهم وزرا * وشُبِّه لكم الحق فما فهمتم للتجسد معنى وما فهمتم للبنوة مغزى وما أدركتم للفداء مرمى وما علمتم من أمور الروح أمرا * وعلَّم الأميين أمِّىٌّ كافر فزادهم جهلا وكفرا * وأخرجهم من النور إلى الظلمات وأضلهم قسرا " ( الشهادة/ 1- 6 ) ، " إن الذين يُقِيمون الصلاة فى زوايا الشوارع والمساجد رياءً كى يشهدهم الناس ذلكم هم المنافقون وهم فى الحقيقة لا يُصَلّون * فمن نوى أن يصلى فليدخل داره وليغلق بابه ويصلِّ خفيةً نجزيه علانية بعين العالمين * تكررون الكلام لغوا كعَبَدَة أوثان تظنون أنكم بالتكرار تُسْتَجَابون * إننا نعلم سُؤْلكم قبلما تَسْألون * وترددون الدعاء طمعًا بدخول الجنة فلن تُفْتَح أبواب الجنة للمنافقين . أما الذين يعملون بمشيئتنا فهم الذين يدخلون " ( الصلاة / 3 – 7 ) ، " يا أيها المنافقون من عبادنا : إن صيامكم غير مقبول لدينا وغير ممنون * فما كان الصوم تضوُّرًا لأجَلٍ معلوم * تتخمون صُوَّما أكثر منكم مفاطر وكالأنعام تَطْعَمون * ترهقون أجسادكم ونفوسكم نهما فكأنكم ما طَعِمْتم من قبل ولن تكونوا من بعد طاعمين * وتأكلون السنة فى شهرٍ جشعا لضَعَتكم وتضوُّركم فخيرٌ لكم ألا تصوموا فإنه لا أجر للضعاء والمتضورين * وتكلِّحون وجوهكم وتصعِّرون خدودكم للناس لتَظْهَروا صائمين إنما يفعل ذلك القوم المنافقون " ( الصيام / 3 - 8 ) ، " يا أهل العدوان من عبادنا الضالين : تسفكون دماء البهائم أضحيات تبتغون مغفرة ورحمة من لدُنّا عما اقترفت أيديكم من قتل وزنى وإثم وعدوان * إنما أضحية الحق قلبٌ طهيرٌ يتفجر رحمة ومحبة وسلاما لعبادنا ورفقا بالبهائم فلن ينالنا لحومُها ولا دماؤها ولكن ينالنا تقوى المتقين " ( الأضحى/ 7 – 8 ) ، " وهبط الذين اتبعوا الطاغوت إلى دركٍ سحيقٍ فاشْتَرَوُا الحربَ بالسلام والسلبَ بالإحسان والزنى بالعفة والكفرَ بالإيمان فخسرت تجارتهم وكسبوا عذابا وبيلا * واقترفوا الفحشاء والمنكر والبغى سعيًا وراء جنة الزنى يوعَدونها وَعْدًا غَرورًا وثوابًا إفكًا من الشيطان ، ألا بُعْدًا لجَنّة الكافرين وتَعْسًا لمن بها يُوعَدون * وافترَوْا على لساننا الكذب : " بأنا اشترينا من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الحنة يقاتلون فى سبيلنا وعدًا علينا حَقًّا فى الإنجيل " . ألا إن المفترين كاذبون . فإنا لا نشترى نفوس المجرمين إنما اشتراها الشيطان اللعين * وأشركونا فى عصبة تقتل وتسلب عبادنا وفرضوا لنا فى خمس ما يغنم الغزاة المجرمون * وبرّأهم المنافقون فقالوا : " وما قتلتموهم ولكن الله قتلهم ". ألا إنا لا نقتل عيالنا لنغنم مع القتلة والمعتدين "( الطاغوت / 6 – 1 ) ، " يا أيها الذين كفروا من عبادنا الضالين : لقد جعلتم من جناتنا مواخر للزناة ومغاور للقتلة ومخادع رِجْس للزانيات ونُزُل دعارة للسُّكارَى والمجرمين " ( الكبائر / 1 )... إلخ .(/18)
ومن الواضح أن مَثَلهم حين يتظاهرون بالعيب على دين رب العالمين كَمَثَل المومس التى لا يعجبها عفة الحرائر الشريفات فتذهب تعيبهن قائلةً فى تباهٍ وتشامخٍ كاذبٍ داعرٍ إنها عشيقة لفلان وفلان من أكابر القوم وليست زوجة لرجل لا هو صاحب شهرة ولا ذو منصب كبير من السفلة المجرمين ! ماذا فى إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة والصلاة والصيام ؟ وماذا فى الصلاة فى المساجد بحيث يُزْرِى عليها الكَفَرَة المارقون ؟ ألا يصلون فى الكنائس ؟ أكل من صلى منهم يذهب إلى مخدعه فيصلِّى؟ إن الصلاة فى الإسلام تجوز فى أى مكان : فى الشارع ، وفى الحقل ، وفى المصنع ، وفى ميدان القتال ، وفى السَّفَر ، وفى الحَضَر... ذلك أن الله سبحانه فى كل مكان ، ولا بد من عبادته فى كل حين ، وإلا فلو انتظر الإنسان حتى يعود إلى كِسْر داره ويدخل مخدعه فلن يصلى ركعة واحدة إن شاء الله ، وهذا ما حدث فى بلادكم ، حيث لا تذكرون الله إلا كل أسبوعٍ مرة . وهذا بالنسبة للعجائز وأمثالهم ، أما الشبان والشابات فإنهم لم يعودوا يعبدون الله ولا مرة كل مائة عام ، فقَسَتْ قلوبهم ، فبئس الاقتراح اللعين من القوم الملاعين ! والعبرة فى كل حال بإخلاص النية وتطهير القلب من الرياء ، أما اتهام الآخرين بالنفاق زورا وبهتانا عاطلا مع باطل ، واحتقار عبادة الموحدين وإظهار التنطُّس والاشمئزاز منها ، فهو بعينه الكِبْر وجمود القلب الذى أَصْلَى المسيحُ عليه السلام اليهودَ بسببه قوارصَ الكلمات وقوارضَ اللعنات ! ثم ماذا فى الصيام ؟ أليس فى دينكم صيام أيضا ؟ وماذا فى الأضاحى ؟ إنكم تُظْهِرون الشفقة عليها ، فهل نفهم من هذا أنكم لا تذبحون الحيوانات ولا تتسمَّمون بها ؟ وهل يكره الله من عباده أن يُطْعِموا من أضاحيهم الفقراء والمساكين ؟ فأين المحبة والرحمة التى تصدِّعون رؤوسنا بها ليل نهار ؟ أم إن اللحم لا يصلح إلا إذا كان من جسد المسيح تأكلونه كما يفعل الوثنيون ؟ كيف يا إلهى يأكل الإنسان جسد ربه ويشرب دمه ؟ ومن غبائكم وجهلكم تسمّونه " الخروف " كما أفهمكم يوحنا فى هلاويسه ( رؤيا / 5 / 6 فصاعدا . وفى إنجيل يوحنا أنه" حَمَل " / 1 / 29 ، 36 ) ، فيا لكم من خرفان غبية بليدة تسمِّى ربَّها خروفا يا أكلة الخنزير الذى حرّمته السماء وحلّله لكم ، تقرُّبًا إلى الوثنيين ، بولس اللعين ( كورنتوس 1 / 6 / 12– 13 ، 9 / 19 – 29 ، وكولُسِّى/ 2 كله ) ، ومهّد له الطريقَ قبلا بطرسُ ذو العقل الثخين ( أعمال الرسل / 9 – 16، و 11/ 2 – 10 ) ، والذى يجعلكم تبغضوننا وتحقدون علينا إلى يوم الدين ! إننا حين نذبح الأضاحى إنما نذبحها ليَطْعَم معنا منها المحتاجون والجائعون لا ليتمتع برائحتها الله رب العالمين ، وكأنه إله من آلهة الوثنيين حسبما صورتموه فى " الكتاب المقدس " لديكم ، ولذلك تُتْرَك فلا يأكل منها أحد. وهذا معنى قوله تعالى : " لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ، ولكنْ يناله التقوى منكم " ( الحج / 37 ) ، الذى سرقتموه كعادتكم ونقلتموه إلى " ضلالكم المبين " دون فهم كالحمار الذى يجلس إلى مكتب ويمسك كتابا بحوافره يظن أنه بذلك سيكون من الآدميين الذين يفهمون ، ثم جئتم تَشْغَبون به علينا فى عنادٍ حَرُون . وهذه أول مرة أسمع بإله يضيق صدره بإطعام الفقراء والمساكين . أىّ إله هذا يا ترى ؟ ومن أية جِبِلَّةٍ جُعِل ؟ هذا إلهٌ قاسٍ غليظ القلب والوجدان ، نعوذ بالله منه وممن صنعوه وعبدوه !(/19)
على أن ثمة شيئا خطيرا فات هؤلاء الأوغاد ، ألا وهو أن الإسلام هو الدين الوحيد الذى يشهد كتابه لمريم عليها السلام بالعفة ، فهل من العقل أن يأتى إنسان إلى الشاهد الوحيد الذى يملكه فيسبّه ويتطاول ويتسافه عليه ويكذِّبه ويفترى ضدَّه الأكاذيب ؟ إن ذلك لهو الحماقة بل هو الجنون بعينه ، فضلا عما فيه من قلة أدب ووغادة ! ومعروف ما يقوله ، عن عيسى وأمه ، اليهود الذين يضع الأوغاد الآن أيديهم فى أيديهم ليكونوا علينا إِلْبًا واحدا . إنه عندهم ابن سِفَاح ، وكانوا يعرّضون به قائلين فى وجهه : " لسنا مولودين من زِنًى"( يوحنا / 8 / 42 ). وبطبيعة الحال لا يمكن إبطال هذه التهمة بأدلة قانونية ، إذ المعروف أن المرأة لا تحمل ولا تلد إلا إذا اتصلت برجل : عن طريق الزواج أو من خلال علاقة غير شرعية . ولم تكن مريم قد تزوجت بعد ، فلم يبق أمام الناس إلا الباب الثانى ، اللهم إلا إذا ثبت بدليل غير عادى أنها لم تَزْنِ ، وأين هذا الدليل إلا فى القرآن الكريم ، الذى يتطاول عليه بَغْيًا وعَدْوًا أغبى من عرفت الأرض من المخلوقات ؟ لقد ذكر المولى فى كتابه أن جبريل عليه السلام قد أتاها رسولا من الله ونفخ فى جيبها فحملت بعيسى . لكن أحدا لم يَرَ جبريلَ وهو يفعل ذلك ، فلم يبق إذن إلا تبرئة القرآن الكريم لها ، فضلا عما حكاه عن كلام عيسى فى المهد دليلا على عفتها! والغريب أن هذا الدليل الذى يقول به القرآن لتبرئة مريم غير موجود فى الأناجيل الموجودة فى أيدى النصارى ! فما معنى هذا ؟ معناه أن هؤلاء الحمقى المغفلين يتركون الدنيا كلها ويتفرغون للتطاول والتباذُؤ والتسافُه وإقلال الأدب والحياء على المسلمين ، الذين يمثلون المخرج الوحيد لهؤلاء البهائم من ورطتهم ! وهذا دليل على الخبال الذى هم فيه ، وهو أمر طبيعى جدا ، إذ ما الذى ننتظره لمثل هؤلاء الأباليس ؟ أننتظر أن يوفقهم الله جزاء كفرهم وبغيهم على رسوله والكتاب الذى أنزله عليه نورًا للعيون وهُدًى للقلوب ؟
ولم يكن اليهود هم الوحيدين الذين ينسبون عيسى عليه السلام إلى أب من البشر ، بل كان الناس جميعا يقولون إن أباه هو يوسف النجار. لا أقول ذلك من عندى ، بل تذكره أناجيلهم التى نقول نحن إنها محرفة فيكذّبوننا عنادا وسفاهة ! لقد كتب يوحنا فى إنجيله ( 1 / 5 ) أن الناس كانت تسميه " ابن يوسف " ، وهو نفس ما قاله متى ( 1 / 55 ) ولوقا ( 3 / 23 ، و 4 / 22 ) ، وكان عيسى عليه السلام يسمع ذلك منهم فلا ينكره عليهم . بل إن لوقا نفسه ( 2 / 27 ، 33 ، 41 ، 42 ) قال عن مريم ويوسف بعظمة لسانه مرارًا إنهما " أبواه " أو " أبوه وأمه ". كذلك قالت مريم لابنها عن يوسف هذا إنه أبوه ( لوقا / 2 / 48 ). ليس ذلك فحسب ، بل إن الفقرات الست عشرة الأولى من أول فصل من أول إنجيل من الأناجيل المعتبرة عندهم ، وهو إنجيل متى ، تسرد سلسلة نسب المسيح بادئة بآدم إلى أن تصل إلى يوسف النجار ( " رجل مريم " كما سماه مؤلف هذا الإنجيل ) ثم تتوقف عنده . فما معنى هذا للمرة الثانية أو الثالثة أو الرابعة ...؟ لقد توقعتُ ، عندما قرأت الإنجيل لأول مرة فى حياتى ، أن تنتهى السلسلة بمريم على أساس أن عيسى ليس له أب من البشر ، إلا أن الإنجيل خيَّب ظنى تخييبا شديدا ، فعرفت أنّ من طمس الله على بصيرته لا يفلح أبدا . ثم إنهم بعد ذلك ، ويا للغرابة ، يجدون فى أنفسهم النَّتِنة الجرأةَ على التَّسَافُه على رب العالمين وإيذاء رسوله الكريم فى صحائفَ ملفقة زاعمين أنها وحى من لدن رب العالمين ، وكأن الله سبحانه وتعالى لم يجد فى كونه الواسع العريض غير المآبين الموكوسين ليتخذ منهم أنبياءه وينزّل عليهم وحيه الشريف !(/20)
لكن خيبة هؤلاء السفهاء لا تنتهى عند هذا الحد ، إذ هم يُصِرّون على أنه عليه السلام قد صُلِب ، ويخطِّئون القرآن لنفيه واقعة الصَّلْب ، بل يكفّروننا نحن ورسولنا لهذا السبب ، مع أنهم لو عقلوا لقبلوا أيديهم ظهرًا لبطن ، ثم عادوا فقبلوها بطنًا لظهر ... وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية . لماذا ؟ لأن العهد العتيق الذى لا يصح لهم إيمان إلا به يؤكد أن من عُلِّق على خشبة فهو ملعون من الله ( تثنية الاشتراع / 21 / 22 ) ، وعيسى ، بنَصّ ما جاء فى " أعمال الرسل " ، قد عُلِّق على خشبة ( 5 / 30 ، و10 / 39 ) ، أى صُلِب . ولقد شعر اللعين بولس بالوكسة التى وقع فيها محرِّفو الأناجيل ومزيِّفوها حين قالوا بصلبه عليه السلام فأقرّ ، فى رسالته إلى أهل غلاطية ( 3 / 13 ) ، باللعنة التى وقعت على رأس المسيح بتعليقه على الخشبة ، بَيْدَ أنه سارع إلى لىّ الكلام عن معناه مدَّعِيًا أن تحمُّل ذلك النبى الكريم للّعنة إنما كان من أجل البشر. وبطبيعة الحال هو لم يقل عنه إنه نبى بل إله ! إذن فهم أنفسهم يقرون بأن إلههم ملعون ، وهذا يكفينا ، ولا يهم بعد ذلك أن نعرف السبب الذى صار ملعونا لأجله ، فهو لا يقدم فى الأمر ولا يؤخر! أليس من العار أن يعتقد إنسان أن الرب الذى يؤمن به ويعبده ويبتهل إليه ويطلب منه البركة والخير هو نفسه ملعون ؟ فكيف يطلب منه إذن ما لا يملكه بل ما يحتاج من غيره أن يوفّره له ؟ على رأى المثل : جئتك يا عبد المعين تُعِيننى ، فإذا بك يا عبد المعين تُعَان ! والله إنها لمهزلة ! إنها أول مرة يسمع الواحد فيها بإله ملعون ! ولكن لم لا ، وقد جعلوه خروفا ، كما روَوْا فى أناجيلهم المزيَّفة أنه قد مات على الصليب بعد أن أُهين وضُرِب وشُتِم وبُصِق عليه ووُضِع الشوك على رأسه وسُخِر منه وسُمِّرَت يداه ورجلاه فى الخشب وطُعِن فى خاصرته بالرمح وجعلوا من لا يشترى يتفرّج ، وهو فى حال من العجز تامة لا يستطيع أن يصنع هو ولا أبوه شيئا رغم الآلام التى كانت تعذّبه والصرخات التى كان يرسلها فى الفضاء فى مسامع ذلك الأب القاسى الغبى ؟ أما نحن المسلمين فإننا نرفض الصَّلْب أصلا من جذوره ، ومن ثَمَّ فلا لعنة ولا يحزنون ! وبهذا يتبين للقراء البؤس العقلى الضارب بأطنابه على أولئك الطَّغَام الذين يزعمون أنهم أَتَوْا لهدايتنا ، وهم أضلّ خلق الله ! أترى أحدا قد سمع بمثل هذا البؤس من قبل ؟ ألم أقل إن من يغضب الله عليه لا يفلح أبدا ؟
ومع العَمَى الحَيْسِىّ الذى يسدّ السبيل على هؤلاء الأغبياء نمضى ، فماذا نجد ؟ لقد وردت ، فى الفقرة الحادية عشرة من" سورة الزنى " فى " ضلالهم المبين " ، الكلمة التالية : " ووصينا عبادنا ألا يحلفوا باسمنا أبدا وجوابهم نَعَمْ أَوْ لا . فقلتم بأن من كان حالفا فليحلف باسم الإله أو يصمت . وهذا قول الكفرة المارقين " . وأول شىء نحب أن نقوله هو : ما علاقة الحلف بالله بالكفر ؟ وإذا لم نحلف بالله إذا أردنا أو أُرِيدَ منا أن نُطَمْئِن الآخرين فبأى شىء نحلف ؟ أنحلف بسيدى سِحْلِف ، الذى يأكل ويَحْلِف ؟ أنا لا أضحك ، ولكنى أحاول تجنب انفقاع مرارتى ! وطبعا مفهومٌ من الذى يقصده الأوباش بالكفرة المارقين ! إنه نبينا وسيدنا وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم . نعم سيدهم وتاج رؤوسهم ، وإن كانوا لا يستحقون شرف سيادته عليهم . إن الحَلِف موجود فى كل المجتمعات والعصور والديانات بما فيها شريعة موسى التى أكد المسيح ، حسبما تروى عنه الأناجيل ، أنه ما جاء لينقض أحكامها بل ليتمّمها والتى تنظّم عملية الحلف بتشريعات خاصة به جوازا ووجوبا وحرمة ( تكوين / 25 / 3 ، وخروج / 22 / 1، وعدد / 30 / 2 ). فمن أين جاءت المشكلة إذن ؟ إن المسيح فى نفس العبارة التى يؤكد فيها أنه ما جاء لينقض الناموس ( أى شريعة موسى ) بل ليتمّمه يسارع فى التو واللحظة بنقض كل ما أكده فى هذا الصدد قائلا إنه إذا كان قد قيل للقدماء كذا فإنه هو يغيّره إلى كذا . وكان من بين ما غَيَّرَ حُكْمَه القَسَمُ ، وهذا نَصّ ما قاله فى هذا الصدد : " قد سمعتم أيضا أنه قيل للأولين : لا تحنث بل أَوْفِ للرب بأقسامك ، أما أنا فأقول لكم : لا تحلفوا البتة : لا بالسماء لأنها عرش الله ، ولا بالأرض فإنها موطئ قدميه ، ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك الأعظم ، ولا تحلف برأسك لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة منه بيضاء أو سوداء . ولكن ليكن كلامكم : " نَعَمْ نَعَمْ ، ولا لا " ، وما زاد على ذلك فهو من الشرير " ( متى / 5 / 33 – 37 ). وجاء فى "رسالة يعقوب " ( 5 / 12) : " يا إخوتى ، لا تحلفوا لا بالسماء ولا بالأرض ولا بقَسَمٍ آخر، ولكن ليكن كلامكم نعم نعم ، ولا لا ، لئلا تقعوا فى الدينونة ". وهذا كل ما هنالك . فهل فى هذا الكلام ما يفهم منه أن القسم كفر؟ بطبيعة الحال لا يوجد شىء من هذا لا من قريب ولا من بعيد.(/21)
هذه واحدة ، والثانية هى أن الله نفسه قد صدر عنه القَسَم حسبما روى لنا العهد الجديد نفسه ، فما القول إذن ؟ جاء على سبيل المثال فى " لوقا " ( 1 / 73 - 74 ) : " ... القَسَمَ الذى حلف ( الله ) لأبينا إبراهيم أن يُنْعِم علينا * بأن نَنْجُوَ من أيدى أعدائنا ... " ، ويقول كاتب " أعمال الرسل " ( 2 / 31 ) : " كان ( داود ) نبيا وعلم أن الله أقسم له بيمينٍ أن واحدا من نسل صلبه يجلس على عرشه ... ". بل إننا نقرأ فى " رسالة القديس بولس إلى العبرانيين " ( 6 / 13 – 17 ) : " لأن الله عند وعده لإبراهيم ، إذ لم يمكن أن يُقْسِم بما هو أعظم منه ، أقسم بنفسه * ... * وإنما الناس يُقْسِمون بما هو أعظم منهم وتنقضى كل مشاجرة بينهم بالقَسَم للتثبيت * فلذلك لمّا شاء الله أن يزيد وَرَثَة الموعد بيانا لعدم تحوُّل عزمه أقسم بنفسه " . وهذا ما قلناه قبل قليل ، فلماذا إذن التنطع الكاذب وقلة الأدب والسفاهة مع سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم ؟ كذلك فالملاك ، بنص كلام يوحنا فى " رؤياه " ( 1 / 6 ) ، يقسم بالله " الحى إلى دهر الدهور خالق السماء وما فيها والأرض وما فيها والبحر وما فيه " . ليس ذلك فقط ، بل هذا هو بطرس ، خليفة السيد المسيح كما يقولون وأكبر حوارييه ومؤسس كنيسة روما ، يحلف كذبا ، فى آخر حياة سيده أمام الجمع الذى جاء للقبض عليه ، ثلاث مرات متتالية إنه لا يعرفه ولا علاقة له به قائلا : " إنى لا أعرف الرجل ! " ، رغم أن المسيح كان قد نبَّهه إلى أنه سينكره فى تلك الليلة ثلاثًا قبل أن يصيح الديك ، ومع ذلك وقع كالجردل فى الإثم الذى نبَّهه إليه نبيُّه! ( متى / 26 / 72 – 73 ، ومرقس / 14 / 71 ) مستحقا بأثرٍ رجعىٍّ وَسْم السيد المسيح له قبلا بأنه " شيطان " وأنه لا يفطن إلا لما للناس ولا يفطن لما لله ( مرقس / 8 / 32 ) . فماذا يقول الأوغاد فى هذه أيضا؟ ثم إننا نسألهم : ألا تحلفون كلكم فى حياتكم اليومية وفى المحاكم وعند ممارسة الأطباء منكم الطب وتَوَلِّى الحكّام حُكْم بلادهم ... إلخ ؟ ألا يُقْسِم النصارى فى كل لحظة أمامنا بـ " المسيح الحى " و" العذراء " و " الإنجيل " ؟(/22)
وبعد ، فهل يشجِّع الإسلام على القَسَم كما يوحى كلام هؤلاء المآبين فى " ضلالهم المبين " ؟ كلا على الإطلاق ، ففى القرآن نقرأ قوله تعالى : " ولا تجعلوا الله عُرْضَةً لأيمانكم " ( البقرة / 225 ) ، " واحفظوا أيمانكم " ( المائدة / 89 ) ، " ولا تُطِعْ كلَّ حَلاّف مَهِين " ( القلم / 10 ) ، وفى الحديث مثلا أن الحَلِف إذا كان مَنْفَقَةً للسلعة ، فهو َممْحَقَةٌ للبركة . إذن فما قاله هؤلاء الفجرة التافهون المتنطعون لا يعدو أن يكون زوبعة فى فنجان ! أما نَهْى الرسول عليه السلام الذى ذكره الأوغاد الفَجَرة فى سورتهم المفتراة المزيَّفة عن الحَلِف بالآباء وأَمْره عليه السلام لمن يريد الحَلِف أن يحلف بالله بدلا من ذلك أو فلْيصمت ، فمعناه بكل وضوح لمن يريد أن يعرف الحقيقة لا مجرد الشَّغَب على سيد المرسلين هو محاربة العصبية القبلية التى كانت متفشية بين العرب أوانذاك وما يرتبط بها من التعظُّم بالآباء والأحساب والأنساب ، فأراد الرسول الكريم أن يبين لهم أن البشر جميعا هم خلق الله وعياله وأنه لا فضل لأحد على أحد بنسب أو حسب ، وأن توجُّه المؤمن ينبغى أن يكون لله وحده بوصفه عبدا له ينبغى أن يكون دائما على ذكْرٍ منه . وهذا هو المعنى الذى أراده الرسول عليه السلام ، وهو معنى إنسانى عظيم لمن لم يطمس الله على بصيرته ويريد أن يفهم . وبداية الحديث وختامه يدلان على أنه صلى الله عليه وسلم لا يحبِّذ الحَلِف ، وهذا واضح من استخدام جملة الشرط ، التى تعنى أنه إذا كان لا بد من الحَلِف فليكن باسم الله لا بأسماء الآباء التى من شأنها إحياء النوازع والنعرات الجاهلية لا أن الحلف فى ذاته مرغوب! ولنفترض أن المسيح قد نسخ حكم التوراة فى الأيمان ، فلم لا يكون من حق سيدنا رسول الله أن ينسخ بدوره ما قاله المسيح ؟ وأغلب الظن أن عيسى عليه السلام ، إن صحّ ما ترويه عنه الأناجيل فى هذا الصدد ، قد لاحظ كثرة لجوء اليهود إلى الحَلِف لأكل حقوق الناس بالباطل ، فأراد أن يضع حدا لهذه الظاهرة ، وإن كان فى عبارته ، كما هى العادة فى الكلام المنسوب إليه فى الأناجيل ، مغالاةٌ أراد أن يوازن بها مغالاة اليهود فى المسارعة إلى استغلال اسم الله فى خداع الآخرين ! فكلا النبيين الكريمين أراد أن يعالج ظاهرة نفسية وخلقية ذميمة رآها منتشرة بين معاصريه . وبالمناسبة فإنهم يعيبون محمدا عليه الصلاة والسلام بأنه أتى بالنسخ ويكفّرونه من أجل ذلك ( سورة الرعاة / 8 – 10 ) ، مع أن المسيح ، حسبما ورد فى الأناجيل كما رأينا ، هو الذى ابتكره رغم أنه أنكر أن يكون قد أتى لينقض الشريعة أو يَحُلّ الناموس ! وهكذا نرى أنه ما من شىء يقوله هؤلاء الأغبياء زورًا وبهتانًا إلا فضحهم الله فيه ! وبالمناسبة فعلماء الإسلام لا يقولون كلهم بوقوع النسخ فى القرآن .
وأخيرا نود أن نجلِّىَ جانبا من جوانب العبقرية الإسلامية فى مجال القَسَم ، فعلى عادة الإسلام نراه ينتهز هذه السانحة لاستخلاص كل ما يمكن استخلاصه منها من فوائد ، إذ يفرض كفارة على من يُقْسِم ثم يحنث بيمينه ، إذ يُوجِب عليه عتق أحد الأرقاء أو إطعام عشرة مساكين أو كساءهم ... وهَلُمَّ جَرًّا ، نافعا بذلك المجتمعَ ومساكينَه وفقراءه بأيسر سبيل . فانظر إلى هذه العبقرية الخلاقة التى تنجز أضخم الإنجازات بأقل الإمكانات ، بدلا من التوقف عند لطم الخدود وشق الجيوب على قلة الإمكانات وعدم الفرص كما يفعل كثير من العرب والمسلمين اليوم حتى فى ميدان الكرة كما هو معلوم . والنتيجة هى هذا التخلف الشامل الذى نعانى منه على كل المستويات وفى كل المجالات !(/23)
فهذا عن القَسَم ، ثم ننتقل إلى تعدد الزوجات ، الذى يعده أهل اللواط والسحاق زِنًى وإشراكا بالله ، فكأنهم يؤلهون المرأة ويعدّون من يأخذ معها زوجة أخرى مشركا . ولو أنهم قالوا إن الأفضل الاقتصار على زوجة واحدة ما لم تكن هناك ضرورة لما وجدوا من يخالفهم ، وهذا هو موقف الإسلام ، أما الزعم بأن الزواج بأكثر من واحدة هو زنى وشِرْكٌ فَجُنونٌ مُطْبِقٌ ليس لصاحبه موضع إلا فى مستشفيات الصحة العقلية والنفسية ! ألا يدرك هؤلاء الأغبياء أنهم بهذا يكفّرون أنبياءهم ويَقْرِفونهم بالفحشاء ؟ ألا يعرف هؤلاء المخابيل أن إبراهيم وموسى وسليمان وداود وغيرهم من أنبياء العهد القديم كانوا من أهل التعديد ، بل كان فى حريم بعضهم عشرات النساء ؟ ألا يعى هؤلاء المناكيد أنهم بهذا يلوّثون عيسى نفسه ، الذى ينتمى إلى داود وسليمان ، وكانا من أهل التعديد كما ذكرنا ؟ لكنْ مَتَى كان عند أولئك البلهاء عقل يميّزون به ؟ ألا يذكر كتابهم المقدس " فوق البيعة " أن داود قد رأى زوجة قائده العسكرى أوريّا وهى تستحم عارية فى فناء بيتها المجاور لقصره حين صعد ذات يوم إلى سطح هذا القصر( ولا أدرى لماذا ، إلا أن يكون من أولئك العَهَرة العرابيد الذين يتجسسون على نساء الجيران ، وبالذات اللاتى ليس فى بيوتهن حمّامات فيُضْطَرَرْن إلى الاستحمام عاريات فى فناء البيت " على عينك يا تاجر " ، وكأننا فى فلم من أفلام البورنو والإستربتيز ! ومن يدرى ؟ فربما كان معه منظار مقرِّب حتى تتم المتعة على
أصولها ! ) . المهم أنها وقعت فى عينه وقلبه كما لا أحتاج أن أقول ، فأرسل فأحضرها وزنى بها ( بارك الله فيه ! ) ، ثم لم يكتف بهذا العمل الإجرامى الذى يليق تماما بجدّ الرب الذى يعبده هؤلاء المتاعيس المناحيس ، بل كلف رجاله فى ميدان المعركة أن يخلّصوه من الزوج المسكين بوضعه على خط التَّماسّ مع العدو فى قلب المعمعة ، ونجحت مؤامرته الخسيسة وقَتَل العدوُّ أوريّا ، فألحق داود زوجته بحريمه بعد أن تزوجها وبعد أن مرت أيام المناحة والحداد طبعا ( سفر الملوك الثانى / 16 كله ) . انظروا إلى حرصه الجميل على التقاليد! والله فيه الخير ! وبَتْشاَبَع هذه بالمناسبة هى أم سليمان النبى الملك ! أَنْعِمْ وأَكْرِمْ بهذا النسب الملكى النبوى الإلهى الشريف ! أى أن نسب المسيح ، حسبما يقول كتابهم ، هو نسبٌ عريقٌ فى الفُحْش والإجرام . أما نحن فننزّهه عن ذلك تمام التنزيه لأن أنبياء الله لا يكونون إلا من ذؤابات قومهم شرفًا وفضلا ونبلا . ولعل هذا هو السبب فى أن السيد المسيح ، كما جاء فى " متى " ( 22 /45 ) ، قد نفى أن يكون من ذرية داود ! والله معه حق ، فإن مثل هذا النسب لا يشرّف أحدا ، وإن كنا نحن المسلمين لا نصدّق حرفا من هذه الحكايات وأمثالها مما سطرته أيدى اليهود الفَسَقة الفَجَرة لتشويه كل قيمة نبيلة وشريفة فى الحياة ! ثم هم بعد هذا يتهموننا نحن بالكفر والشرك والضلال ! عجبى ! لو كنت من أصحاب الأصوات الجميلة لفَقَعْتُ بالموّال وقلت : " خسيس قال للأصيل : ...! " ، لكنى للأسف لست حَسَن الصوت .(/24)
ومن المهازل التى لها صلة بقضية تعدد الزوجات نسبةُ كتابهم المقدس إلى الله أولادا من أمهات شتى ، فضلا بطبيعة الحال عن آدم ، الذى لم تكن له أم . ومن هذا الوادى تسمية العهد العتيق للرجال فى بدء الخليقة بـ " بَنِى الله " فى مقابل تسمية النساء بـ " بنات الناس " ( تكوين / 6 / 2 ) ، وقول الله لبنى إسرائيل : " أنتم بنو الرب إلهكم " ( تثنية الاشتراع / 14 / 1 )، وقوله سبحانه لداود : " أنت ابنى . أنا اليوم ولدتك " ( مزامير / 1 / 7 ) . ليس هذا فقط ، بل يجعله بِكْره ( مزامير / 88 / 27 ) ، ليعود بعد ذلك فيقول إن إبراهيم هو بكره ( إرميا / 31 / 9 ) ، ناسيا أنه قد جعل البكورية فى موضع سابق على هذين الموضعين لإسرائيل ( خروج / 4 / 2 )! يا له من إله مسكين ! إنه يذكِّرنا بخَرَاش الذى تكاثرت الظباء عليه فلم يعد يدرى من كثرتها ماذا يصيد منها وماذا يدع . لقد كثر أبناء الله حتى لم يعد يتذكر مَنِ البِكْر منهم ومن ليس كذلك ! معذور يا ناس ! كان " الله " فى عونه ! فإذا كان الإله ، كما يقول كتابهم ، له كل هؤلاء الأولاد الذين جاء بهم من أمهات شتى ، فمعنى هذا أنه هو أيضا كان من المعدّدين مثل من ذكرنا من الأنبياء السابقين ـ فكيف يجرؤون إذن أن يرموا المسلمين ورسولهم وحدهم بالكفر والزنى لنفس السبب ؟ أإلى هذا الحد ينغِّص حقدُكم على سيد الأنبياء والمرسلين ودينه النقى البرىء من الشرك والوثنيات حياتَكم ويخرجكم عن طوركم فلا تستطيعون تفكيرا ولا تحسنون تعبيرا ، بل يأخذكم البِرْسام فتَهْذُون وتَبْذُؤون متصورين أنكم تقدرون على تلطيخ صورته ؟ هيهات ثم هيهات ثم هيهات ... إلى آخر الهياهيت التى فى الدنيا جميعا ! ثم إنكم بعد ذلك لصائرون إلى المكان الذى يليق بأمثالكم ، وأنتم تعرفونه جيدا . ألا وهو مراحيض الغِسْلِين فى قاع سَقَر !
لقد كان التعدد هو شريعة الأنبياء إلى أن حرّف أهل التثليث دينهم وابتدعوا أناجيل ما أنزل الله بها من سلطان ونسبوا للسيد المسيح ، عليه وعلى رسولنا أفضل الصلاة السلام ، أقوالا وتشريعات ينقض هو فى بعضها أحكام التوراة ويفسِّرون هم بعضها الآخر بما ينقض التوراة ، ثم جاء بولس الكذاب اللعين فبَرْجَلَ النصرانية وشَقْلَبَ حالها . لقد ابتدأ حياته فى النصرانية بكذبة بائسة مثله وابتلعها القوم بما يدل على خلوّ رؤوسهم من العقل ، وإلا فهل يصدّق أى شخص عنده مُسْكَة من هذا العقل أنه ، عندما شاهد نورا فى السماء قبل تحوله إلى النصرانية مباشرة وسمع صوتا يسأله لماذا يضطهده ، كان سؤاله لهذا الصوت : من أنت يا رب ؟ ( أعمال الرسل / 9 / 3 – 5 ، و 26 / 14 - 15) . أأنا فى حُلْمٍ أم فى عِلْمٍ يا إلهى ؟ أهذا سؤال يُسْأَل ؟ إن هذا الكذاب قد أجاب فى السؤال على السؤال ، وإذن فما معنى السؤال ؟ لكننا لا ينبغى أن نطرح مثل هذا السؤال ، لأن الأباعد لا يدركون معنى لمثل هذا الجواب أو ذاك السؤال ، وإلا لكانوا قد تركوا النصرانية كلها بسبب بولس وما افتراه من جواب فى هيئة سؤال ! حلوة " من أنت يا رب ؟ " هذه ! دمّها مثل الشربات : شربات الطُّرْشِى ، بل شربات الفسيخ !(/25)
لقد كان جواز تعدد الزوجات هو تشريع الأنبياء كما قلنا ، لكن مؤلف إنجيل متى عزا لعيسى كلاما فهم منه القوم أنه يحرم التعدد ، مع أن الكلام لم يكن فى التعدد قط ، بل فى الطلاق ! يقول متى ( 19 / 3 – 12) : " ودنا إليه الفَرِّيسِيُّون ليجربوه قائلين : هل يحلّ للإنسان أن يطلِّق زوجته لأجل كل عِلَّة ؟ * فأجابهم قائلا : أما قرأتم أن الذى خلق الإنسان فى البدء ذكرًا وأنثى خلقهم وقال : * لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته فيصيران كلاهما جسدا واحدا ؟ * فليسا هما اثنين بعد ، ولكنهما جسدٌ واحد . وما جمعه الله فلا يفرّقه إنسان * فقالوا له : فلماذا أوصى موسى أن تُعْطَى كتابَ طلاق وتُخَلَّى ؟ * فقال لهم : إن موسى لأجل قساوة قلوبكم أذِن لكم أن تطلّقوا نساءكم ، ولم يكن من البدء هكذا * وأنا أقول لكم : من طلَّق امرأته إلا لعلة زنى وأخذ أخرى فقد زنى * فقال له تلاميذه : إن كان هكذا حال الرجل مع امرأته فأجدرُ له ألا يتزوج * فقال لهم : ما كل أحد يحتمل هذا الكلام إلا الذين وُهِب لهم * لأن من الخصيان من وُلِدوا كذلك من بطون أمهاتهم ، ومنهم من خصاهم الناس ، ومنهم من خَصَوْا أنفسهم من أجل ملكوت السماوات . فمن استطاع أن يحتمل فلْيحتمل " . هذا هو نص الكلام الذى ذكروا أن عيسى عليه السلام قد قاله فى تعدد الزوجات وفهموا منه أنه يحرّم هذا النظام الذى أقره الأنبياء جميعا . ومن الواضح أن عيسى عليه السلام ( إن صدّقنا أنه هو قائل هذا النص ) لم يتطرق لموضوع التعدد من قريب أو بعيد ، إذ كان الكلام كله عن الطلاق . وإذا كان قد عرَّج على سبيل الاستطراد إلى موضوع الإضراب عن الزواج ، فهذا أيضا لا علاقة له بالتعدد من قريب أو بعيد . أما قوله : " ذكرًا وأنثى خلقهم " فلا أدرى كيف يمكن أن يؤدى إلى إلغاء التعديد ، إلا إذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلق لكل رجلٍ زوجةً باسمه لا يتزوجها إلا هو ، ولا تموت قبله أو يموت هو قبلها ، وإلا إذا كان عدد الرجال فى كل المجتمعات مساويا تماما لعدد النساء فى كل العصور ، وهذا عكس المشاهد للأسف فى هذه الدنيا الغريبة التى يريد بعض المتهوسين أن يصبّوها فى قوالب من حديد كما كان يفعل أهل الصين مع أقدام بناتهم الصغيرات قديما حتى لا تكبر بل تظل دقيقةً مُسَمْسَمَة ، إذ إن النسبة المئوية لعدد من فى سن الزواج فى المجتمعات كلها تميل دائما لصالح المرأة كما تقول الإحصاءات السكانية . ولا ننس بالذات الحروب ، التى يروح فيها من أرواح الرجال أكثر مما يذهب من أرواح النساء .(/26)
ثم جاء بولس ، الذى قلب كيان النصرانية رأسًا على عقب ، فقال فى رسالته الأولى إلى أهل كورِنْتُس ( 7 / 1 – 2 ) : " أما من جهة ما كتبتم به إلىَّ فحسَنٌ للرجل ألا يَمَسّ امرأة * ولكن لسبب الزنى فلتكن لكل واحدٍ امرأته ، وليكن لكل واحدةٍ رجلها "، وإن فُهِمَ من حديثٍ آخَرَ له أن هذا الحظر إنما هو خاصّ بالشمامسة ( تيموتاوس / 1 / 12 ). وهذا كلام يدل أقوى دلالة على أن هذا الرجل لم يكن يتمتع بأى فهم للطبيعة البشرية : فالإنسان لا يتزوج فقط من أجل ألا يقع فى الزنى ، بل لأن الحياة لا يمكن أن تستمر إلا عن طريق لقاء الذكر والأنثى ، كما أن الحب وممارسة الجنس يشكلان متعةً من أحلى متع الحياة الإنسانية وأعمقها ، متعةً ينبغى على المؤمن أن يشكر المولى عليها لا أن ينظر إليها على أنها بلوى أقصى ما يمكنه تجاهها هو الصبر عليها فى مضض وتأفف . ولو أن نصائح بولس الغبية هذه قد أُخِذ بها لكان فيها نهاية الحياة ! إن هذه النصائح المجنونة إنما تنبع فى الحقيقة من النظرة الدونيّة التى تنظر بها النصرانية ورجال الكنيسة إلى المرأة والجسد الإنسانى ، وهذه النظرة قد ورثتها الكنيسة من العهد العتيق وما يقوله عن قصة الخلق وخروج آدم من الجنة بسبب إغراء حواء له بعصيان النهى الإلهى عن الأكل من الشجرة واستحقاق المرأة من ثَمّ ابتلاء الله لها بعبء الحمل والولادة وإيقاع العداوة بينها وبين الرجل ( تكوين / 3 / 6 – 24 ) ، وهو ما يختلف فيه الإسلام عن النصرانية اختلافًا جِذْرِيًّا ، إذ عندنا أن الذنب الذى أخرج أبوينا من الجنة هو ذنبهما جميعا لا ذنب حواء فقط ، كما أن العلاقة بين الرجل والمرأة هى علاقة السكن والمودة والرحمة كما يقول القرآن المجيد( الروم / 21 ) لا علاقة العداوة والبغضاء. ولقد كانت النتيجة ، وهنا وجه المفارقة ، هو هذا السعار الجنسى الذى اشتهرت به أمم الغرب بعد أن لم تعد تطيق قيود النصرانية التى تعمل على وَأْد التطلعات والغرائز البشرية . ذلك أن غرائز البشر وتطلعاتهم لا يمكن تجاهلها، فضلا عن قهرها أو إلغائها كما يحاول الأغبياء . لكن من الممكن ، ومن المطلوب أيضا ، ترويضها والسمو بها إلى أقصى قدر ممكن ، وهذا ما يفعله الإسلام . ولقد كان رجال الدين النصارى على رأس المنفلتين من هذه القيود الخانقة ، وفضائحهم معروفة للقاصى والدانى فى كل العصور . وهذا أحد الأسباب التى جعلت الأوربيين يكرهونهم ويرَوْن فيهم مثالا للنفاق البغيض ! وما فضائح باباوات روما فى العصور الوسطى واصطحاب بعضهم لعشيقاتهم معهم فى جولاتهم فى أرجاء أوربا لمباركة جموع المؤمنين ، ولا الصلات الجنسية الحرام التى كانت بين بعض آخر منهم وبين أخواتهم بمجهولةٍ لمن عنده أدنى فكرة عن أحوال رجال الدين هناك قبل عصر النهضة الذى تخلص فيه الأوربيون من قيود النصرانية المُعْنِتَة .
وحتى فى موضوع الطلاق لا يعدو الكلام أن يكون عبارات شاعرية ساذجة لا دلالة لها على شىء فى الواقع والحقيقة ، إذ ما معنى أن ما جمعه الله لا يفرّقه إنسان ؟ إن الزواج إنما هو اختيار إنسانى قام أيضا بتوثيقه كائن إنسانى ، فشأنه إذن كشأن أى شىء آخر من شؤون الحياة ، فلماذا أُفْرِد وحده بهذا الوضع دون سائر الأمور الإنسانية ؟ أما إن قيل إن الله هو فى الحقيقة خالق كل شىء ، فإن الرد هو أنه لا مُشَاحّة فى هذا ، لكننا ضد إفراد الزواج بذلك الحكم ، ونرى أن هذا الوضع ينطبق أيضا على عملية الطلاق مَثَله مثَل أى شىء آخر . ثم ما الحكمة فى أن يُعْنِت الله سبحانه وتعالى عبادَه فلا يرضى أن يرحمهم من قيود الزواج إذا ثبت أنه لا أمل فى أن يجلب لطرفيه السعادة ؟ إن كثيرا من البلاد النصرانية قد انتهت إلى أنْ تضرب بهذه الأحكام عُرْض الحائط ، إذ وجدت أنها لا تؤدى إلا إلى التعاسة والشقاء . وفى بعض البلاد يُقْدِم الزوج أو الزوجة فى حالات كثيرة إلى ترك النصرانية جملةً والدخول فى الإسلام ، الذى يجدانه أوفق للطبيعة الإنسانية . فإلى متى هذا الخنوع لبعض الألفاظ الشاعرية التى قد تدغدغ العواطف فى مجال التفاخر الكاذب بمثالية أخلاق دينٍ ما ، لكنها لا تجلب للمتمسكين بها إلا العَنَت والإحباط ؟ إن كثيرا من الأزواج فى المجتمعات النصرانية هم فى الواقع مطلَّقون ، لكنْ طلاقًا غير رسمى ، وهم يسمونه : " انفصالا " . وفى هذه الأثناء التى قد تطول سنين ، كثيرا ما يصعب على الزوج والزوجة ، تحت ضغط الغرائز ، أن يمتنعا عن ممارسة الجنس فى الحرام ، فلماذا كل هذا الإعنات ؟ وحَتَّامَ يستمر هذا العناد والنفاق ؟ إن الطلاق شديد البغض إلى الله كما قال صادقا سيدنا رسول الله ، لكن الظروف قد تضطر الواحد منا إلى فعل ما هو بغيض تجنبا لما هو أفدح وأنكى . ومن هنا كان الطلاق عندنا حلالا رغم كونه بغيضا ، أى أن المسلم لا يُقْدِم عليه إلا إذا سُدَّت فى وجهه جميع السبل الأخرى حسبما يعرف كل من له أدنى إلمام بالشريعة الإسلامية .(/27)
كذلك يسىء الأوغادُ الأدبَ مع سيدنا رسول الله ، إذ يتهمونه بالكفر والقتل وسفك الدماء والمجىء بدين يقوم على إكراه الناس على اعتناقه برهبة السيف وتهديم بيوت عبادتهم . افترَوْا ذلك عليه فى أكثر من سورة من سورهم المزيفة الكاذبة التى أوحى بها الشيطان إليهم فى أدبارهم كـ " سورة القتل " و" سورة الماكرين " و" سورة الطاغوت " و" سورة المحرِّضين " و" سورة الملوك " ، زاعمين أن دينهم يقوم على المحبة والسلام ! وأَوَّلَ كلِّ شىء لا بد أن نلفت الأبصار إلى أن المسيح لم يمض عليه فى النبوة أكثر من ثلاث سنوات ليس إلا ، ومن ثم لا يمكن التحجج بأنه لم يشرع لأتباعه قتال من يعتدون عليهم . كما أنه لم يكن يعيش فى دولة مستقلة ، فضلا عن أن يكون هو الحاكم فيها مثلما هو الحال مع الرسول محمد عليه السلام ، وإذن فقياس الوضعين أحدهما على الآخر خطأ أبلق وأبله معا. وهذا لو أن السيد المسيح ، حسبما تحكى قصةَ حياته الأناجيلُ التى بين أيدينا ، كان فعلا وديعا متسامحا دائما مثلما يحب النصارى أن يعتقدوا ويعتقد الآخرون معهم . فما أكثر الشتائم واللعنات التى كان يرمى بها فى وجوه اليهود بل فى وجوه تلاميذه أيضا ، من مثل قوله لأحد اليهود : " يا مُرَائى " ( متى / 7 / 5 ) ، وقوله لتلاميذه ينصحهم ألا يهتموا بمن لا يستطيعون فهم دعوته : " لا تعطوا القدس للكلاب ، ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وترجع فتمزّقكم " ( متى / 7 / 6 ) ، وقوله لبعض الفَرّيسيّين : " يا أولاد الأفاعى " ( متى / 12 / 3 ) ، وقوله لأهل كورزين وصيدا : " الويل لك يا كورزين ! الويل لك يا بيت صيدا ! " ( متى /11 / 21 ، ولوقا / 10 / 13 ) ، وقوله لمن طلبوا منه آية : " إن الجيل الشرّير الفاسق يطلب آية " ( متى / 12 / 38 ، و 16 / 4 ) ، وقوله عن غير الإسرائيليين ممن يريدون أن يستمعوا لدعوته ليهتدوا بها : " ليس حسنا أن يؤخَذ خبز البنين ويُلْقَى للكلاب " ( متى/ 15 / 26 ) ، وقوله لبطرس أقرب تلاميذه إليه حسبما أشرنا من قبل : " اذهب خلفى يا شيطان " ( متى / 16 / 23 ، ومرقس / 8 / 33 ) ، وقوله لحوارييه : " أحتى الآن لا تفهمون ولا تعقلون ؟ أَوَحَتَّى الآن قلوبكم عمياء ؟ * لكم أعين ، أفلا تبصرون ؟ ولكم آذان ، أفلا تسمعون ولا تذكرون ؟ " ( مرقس/ 8 / 17 ) ، وقوله لبعض الفَرِّيسِيّين : " أيها الجهال ... ويل لكم أيها الفريسيون " ( لوقا / 11 / 39 – 50 ) ، وقوله عن فَرِّيسِىّ آخر : " هذا الثعلب " ( لوقا/ 13 / 32 ). ولا ينبغى فى هذا السياق أن نهمل ما صنعه مع الباعة فى الهيكل حين قلب لهم موائدهم وكراسيّهم وسبّهم وساقهم أمامه حتى أخرجهم من المعبد ( مرقس/ 12 / 15 – 17 ) ، وكذلك قوله لحوارييه : " أتظنون أنى جئت لأُلْقِى على الأرض َسلاما؟ لم آت لألقى سلاما لكنْ سيفا * أتيتُ لأفرِّق الإنسان عن أبيه ، والابنة عن أمها ، والكَنَّة عن حماتها " ( متى / 10 / 34 – 35 ) ، وقوله أيضا فى نفس المعنى : " إنى جئت لألقى على الأرض نارا ، وما أريد إلا اضطرامها " ( لوقا / 12 / 44 ) .(/28)
من هذا يتبين أن الصورة الوديعة تمام الوداعة التى يرسمها النصارى للسيد المسيح ليست حقيقية ، بل هى من مبالغاتهم التى اشتهروا بها . ولست أقول هذا حَطًّا من شأنه عليه السلام ، فهو نبىٌّ كريم لا يكمل إيماننا نحن المسلمين إلا به ، لكنى أريد أن أقول إن الطبيعة الإنسانية لا يمكن أن تتحمل السماحة والصبر إلى أبد الآبدين ، ولا بد أن تأتى على أحلم الحلماء أوقات يضيق منه الصدر ويثور على المجرمين ، وربما غير المجرمين أيضا، مع أن المسيح عليه السلام لم ينفق فى الدعوة ومخالطة الناس فى ميدانها إلا سنواتٍ ثلاثا لا غير . بل إنهم ، فى سِيَره التى ألفوها وأطلقوا عليها : " الأناجيل " ، قد نسبوا إليه بعض التصرفات التى أقلّ ما توصف به أنها تصرفات جافية تفتقر إلى اللياقة تجاه أمه عليها السلام : من ذلك أنه ، بينما كان يعظ فى أحد البيوت ذات يوم ، أُخْبِر أن أمه وإخوته بالخارج يريدون أن يَرَوْه ولا يستطيعون أن يصلوا إليه من الزحام ، فما كان منه إلا أن أجابهم قائلا : " إن أمى وإخوتى هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها " ( لوقا / 8 / 19 – 20 ) ، وحين دعت له امرأة بأنْ " طُوبَى للبطن الذى حملك وللثديين اللذين رضعتهما " ردَّ فى جفاء : " بل طوبى لمن يسمع كلمة الله ويعمل بها " ( لوقا / 11 / 27 –28 ) . وليس لهذا من معنى ، فضلا عن الخشونة التى لا يصح سلوكها تجاه من حَمَلتْنا وربَّتْنا ، إلا أنها لم تكن هى ولا إخوته ممن يسمعون كلمة الله ويعملون بها ! وفى مناسبة أخرى كان هو وأمه فى عرس فى قانا الجليل ، وفرغت الخمر فنبهته إلى ذلك ، فأجابها فى غلظة : " ما لى ولك يا امرأة ؟ " ( يوحنا / 2 / 1- 3 ). إننا بطبيعة الحال لا نصدّق بشىء من ذلك ، فقرآننا يؤكد أنه عليه السلام كان بَرًّا بوالدته غاية البِرّ ( مريم / 32 ) ، فكأن مؤلفى الأناجيل قد تعمدوا أن يشوهوا سيرته وصورته ! على أن المسألة لا تنتهى هنا وحسب ، بل إنهم ليصورونه ، عقب مقتل النبى يحيى ( الذى كان أبوه زكريا يكفل مريم عليها السلام ، والذى تعمّد هو على يديه فى نهر الأردن ) ، كما لو كان بلا قلب أو مشاعر ، إذ نراه بعد علمه بمقتل هذا النبى الكريم تلك القِتْلة المأساوية المعروفة يأخذ أتباعه ويمضى بهم خارج المدينة ليمارسوا حياتهم ويأكلوا كما كانوا يفعلون من قبل ، وكأن شيئا لم يقع ( متى/ 14 / 12 وما بعدها ، ومرقس / 6 / 28 وما بعدها ) ، وهو ما يدل على تحجر الإحساس ، أستغفر الله ! كذلك كان سائرا ذات مرة فى الطريق فجاع ، ورأى شجرة تين هناك ، فدنا إليها لعله يجد فيها تينا يأكله ، فلما لم يجد فيها ثمرا دعا عليها ألا تثمر إلى الأبد فلا يأكل أحد منها شيئا ، فيبست التينة لوقتها ، وكان هذا فى رأيه برهانا على قوة الإيمان ( متى / 21 / 19 وما بعدها ، ومرقس / 11 / 12 وما بعدها ) . وإن الإنسان ليتساءل : كيف يمكن أن يُعَدّ هذا برهانا على قوة الإيمان ؟ وما ذنب التينة يا ترى ؟ وما الفائدة التى تعود على الناس أو الحياة من اليبوسة التى أصابتها ؟ ألم يكن هناك برهان آخر أكثر نفعًا ومعقوليةً يمكن أن يقوم به السيد المسيح الذى يضرب النصارى به الأمثال فى الحلم والوداعة ؟ ثم إن هذا التصرف من السيد المسيح يناقض ما أراده من المثل الذى ضربه فى موقف آخر عن التينة ، وخلاصته أن رجلا كانت له شجرة تين مغروسة فى كَرْمه ظلت لا تثمر ثلاث سنين ، فطلب من الكَرّام أن يقلعها ليستفيد من مساحة الأرض التى تشغلها ، لكن الكرّام استسمحه أن يتركها هذه السنة أيضا على أن يقطعها العام القادم إذا لم تثمر ، فأجابه صاحب الأرض إلى طِلْبته ( لوقا / 13 / 6 – 9 ). ومغزى المثل أن الله يعطى الفرصة للعاصين مرة واثنتين وثلاثا قبل أن يأخذهم بذنوبهم . فلماذا لم يطبق المسيح عليه السلام هذا المبدأ مع التينة ، التى ليس لها مع ذلك عقل الإنسان ولا إرادته ؟ خلاصة القول إننا لو قارنّاه برسولنا الكريم ، عليه وعلى ابن مريم السلام ، لوجدنا أن النبى محمدا كان أحلم وأطول بالا وأوسع صدرا ، وظل هكذا ، لا ثلاث سنوات فقط مثله ، بل ثلاثة وعشرين عاما !(/29)
أما فى المدينة فقد كانت هناك دولة ، ومن ثم كان لا بد أن تجد نفسها منغمسةً فى حروب عاجلا أو آجلا شأن ما يحدث للدول فى كل مكان وزمان ما دمنا نعيش فى دنيا البشر لا فى دنيا الملائكة . أما حكاية " من لطمك على خدك الأيمن فحَوِّل له الآخر " فهذا كلام لا يسمن ولا يغنى من جوع ، ولا يترتب عليه إلا خراب المجتمعات والدول ، وفوز الذئاب والكلاب من البشر بكل شىء ، وذهاب الناس الطيبين فى ستين داهية غير مأسوف عليهم من أحد ! ثم أين هذا الصنف الأبله من الناس الذى تضربه على خده الأيمن فيدير لك الأيسر لتَحِنّ عليه بما لذّ وطاب من الصفع والإهانة كيلا يشكو أحد الخدين من التفرقة بينه وبين أخيه ؟ أَرُونِى نصرانيا واحدا يفعل ذلك ! هذه تشنجات لفظية لا أكثر ! بل إن المسيح نفسه لم يفعل هذا ! حتى الصَّلْب ، الذى يزعمون أنه عليه السلام إنما أُرْسِل إلى الأرض ليتحمله فداءً للبشر الخُطَاة ، ظل يسوّف فيه ويحاول تجنبه ما أمكن ، وعندما وقع أخيرا فى أيدى الجنود وأخذوا يعتدون عليه بالشتم والضرب كان يعترض على ما يوجهونه إليه من أذى . بل إنه ، وهو فوق الصليب ، أخذ يجأر إلى ربه كى يزيح عنه تلك الكأس المرة . وهذا كله قد سجَّله مؤلفو الأناجيل أنفسهم !
وعلى كل حال فإن المقارنة بينه وبين الرسول لا تصح إلا على مستوى الحياة الفردية الشخصية ، أما على مستوى الحُكْم فلا ، لأن عيسى عليه السلام ، كما سبق أن وضّحت ، لم يعش بعد النبوة أكثر من ثلاثة أعوام ، ولم يتولَّ أى منصب إدارى ، فضلا عن أن يكون حاكما يرأس دولة ويدبِّر شؤونها ويمارس الحرب والسياسة ويشرّع للناس ويقضى بينهم كرسولنا الكريم . ترى هل يمكن أن تقوم دولة دون محاكم وقضاة وسجون ؟ وبالمناسبة فقد أخطأ الأغبياء هنا غلطة سخيفة سخافة عقولهم ، إذ ظنوا أن قوله تعالى لرسوله الكريم : " فإن تنازعتم فى شىء فرُدّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " ( النساء / 59 ) يتناقض مع قوله جل شأنه : " أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون " ( الزمر/ 39 ) ، إذ يتساءلون : كيف يأمر الله رسوله فى موضع بالحكم بين الناس ، ثم يقول فى موضع آخر إن الله هو الذى يحكم بين العباد ؟ ومن هنا اتهموا الرسول بأنه قد نسخ بالآية الثانية ما سبق أن قاله فى الآية الأولى ، وسخروا منه وتطاولوا عليه ( سورة المشركين/ 5 –6 ). وفات هؤلاء الأغبياء أن الحكم فى آية " النساء " هو الحكم فى خصومات الدنيا ، وهو من مهمة النبى عليه السلام ، بخلاف الحكم فى آية " الزمر " ، التى تتحدث عن الحساب الأخروى ، وهو من اختصاص الله لا يشاركه فيه أحد . فهذان موضوعان مختلفان تماما كما يرى القراء ، بيد أن البهائم لا يفهمون !(/30)
كلام السخفاء إذن فى تفضيل المسيح على النبى العربى هو كلام تافه لا قيمة له عند كل من له أدنى فهم للحياة والتاريخ والطبيعة البشرية والمجتمعات الإنسانية ! ثم تعالَوْا بنا إلى واقع الحياة ، فماذا نجد؟ لننظرْ إلى الحروب التى خاضها النصارى وتلك التى خاضها المسلمون ونقارن بينهما . وأول ما يلفت النظر بطبيعة الحال أن النصارى قد خاضوا الحروب وقاتلوا وقَتَلوا ولم يديروا خدهم لا اليمين ولا الشمال لأحد ، اللهم إلا كِبْرًا وبَطَرًا وتجبُّرا . ومع هذا فإنهم ما زالوا سادرين فى سخفهم ورقاعتهم وسماجتهم ومحاضرتهم لنا عن التسامح والمسكنة والتواضع وإدارة خدك الأيسر لمن يصفعك على أخيه الأيمن وترك إزارك له أيضا إذا أخذ منك رداءك . لقد أبادوا أمما من على وجه الأرض فلم تبق لها من باقية : حدث هذا فى أمريكا على يد الأوربيين الذين هاجروا إليها فى مطالع العصور الحديثة وظلوا يشنون الغارات على الهنود الحمر أصحاب البلاد وينشرون بينهم الأوبئة التى لم يكن لهم بها عهد حتى أفنَوْهم عن بكرة أبيهم تقريبا ، وذلك بمباركة القساوسة الناطقين باسم المسيح وحاملى رسالة التواضع والمحبة والتسامح وإدارة الخد الأيسر ، والتنازل عن الرداء والإزار معا وسير صاحبهما عاريًا حافيًا كما ولدته أمه ! وحدث هذا أيضا فى أستراليا نحو ذلك الوقت ! ولقد ناب المسلمين والعرب من هذه المحبة جانب ، إذ بعد أن انتصر فرديناند وإيزابلا على بنى الأحمر فى شبه جزيرة أيبريا وأصبحت الأندلس نصرانية ، رأينا هذين الملكين ينقلبان على المسلمين الذين بَقُوا فى بلادهم لم يغادروها مع من غادرها، فيغدران بهم ويُثْخِنان فيهم تقتيلا وتنصيرا ، ضاربَيْنِ عُرْضَ الجدار بالمعاهدات التى تكفل للمسلمين الأمان والحرية الدينية والاحتفاظ بممتلكاتهم لا تُمَسّ ، حتى لم يعد هناك بعد فترة وجيزة فى تلك البلاد مخلوق يوحّد الله . والبركة فى محاكم التفتيش التى أقامها خلفاء السيد المسيح ناشرو دعوة التسامح والتواضع والمحبة على الورق وفى عالم الدعاية الكاذبة الفاجرة لا غير ، أما فى دنيا الواقع فإنها لا تسمن ولا تغنى عند اللزوم من جوع أو قتل أو حرق أو سلخ أو تكسير للعظام أو سَمْل للعيون أو تغريق فى البحر أو مصادرة للأملاك أو ... أو ... أو ... ! فانظر إلى ما فعله المسلمون حين فتحوا تلك البلاد تدرك الفرق بين النفاق النصرانى المتشدق زورا وبهتانا بالمبادئ الخلقية الورقية التى لم تعرف السبيل يوما إلى التطبيق على الأرض ، وبين المثالية الإسلامية الواقعية التى لا تعرف هذه الشقشقات اللفظية ، لكنها لا تنزل أبدا إلى هذا الدرْك الأسفل من القسوة والتوحش مهما خالفت عن أمر دينها ولم تلتزم به كما يحدث فى دنيا البشر أحيانا! إن المسلمين متَّهَمون دائما بأنهم نشروا دينهم بالسيف ، مع أنه لم يثبت قط أنهم أكرهوا شعبا على ترك دينه كما فعل النصارى فى كثير من الدول التى احتلوها مما ذكرنا منه أمثلة ثلاثة ليس إلا .
ولا يكفّ النصارى أبدا عن الكلام فى الجزية وقسوة الجزية حتى ليخيَّل لمن لا يعرف الأمر أن المسلمين كانوا يصادرون أموال الأمم التى يفتحون بلادها مصادرة ، مع أن المبلغ الخاص بالجزية لم يكن يزيد على بضعة دنانير فى العام عن الشخص الواحد ، فضلا عن أنه لم تكن هناك جزية على الأطفال والنساء والشيوخ والرهبان . وفى المقابل كان غير المسلمين يُعْفَوْن من دفع الزكاة على عكس المسلم ، كما كانوا يُعْفَوْن من الاشتراك فى الحرب . وبهذا يكون المسلمون قد سبقوا كالعادة ، ودون شقشقة لفظية أيضا ، إلى مبدإ الإعفاء من الحرب على أساس مما نسميه الآن : " تحرُّج الضمير " ، إذ لمّا كان أهل البلاد المفتوحة غير مسلمين كانت الحرب تمثّل لهم عبئًا نفسيًّا وأخلاقيا أراد الإسلام أن يزيحه عن كاهلهم بطريقة واقعية سمحة . وفضلا عن هذا فإن المسلمين ، فى الحالات التى لم يستطيعوا فيها أن يحموا أهل الذمة ، كانوا يردون إليهم ما أخذوه منهم من جزية ، إذ كانوا ينظرون إليها على أنها ضريبة يدفعها أهل الذمة لقاء قيامهم بالدفاع عنهم .
ومع ذلك كله يُبْدِئ الشياطين مزيفو " الضلال المبين " ويُعِيدون فى مسألة الحروب الإسلامية مدَّعين بالباطل أن المسلمين كانوا يقتلون أهل البلاد التى يفتحونها إلا إذا دفعوا الجزية : " وحَمَل الذين كفروا على عبادنا بالسيف فمنهم من استسلم للكفر خوفَ السيف والرَّدَى فآمن بالطاغوت مُكْرَهًا فسَلِم وضلَّ سبيلا * ومنهم من اشترى دين الحق بالجزية عن يدٍ صاغرًا ذليلا * ... * وزعمتم بأننا قلنا : قاتلوا الذين لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون صُغْرا " ( سورة الجزية / 5 – 6 ، 12 ) .(/31)
والملاحظ أن الشياطين يخلطون عن عمد بين القتال والقتل ، فالآية تقول : " قاتلوا " لا " اقتلوا " ، والفرق واضح لا يحتاج إلى تدخل من جانبى . ومعنى الآية أنه ينبغى على المسلمين أن يهبوا لمقاتلة الروم ، الذين شرعوا فى ذلك الحين يتدخلون فى شؤون الدولة الإسلامية الوليدة متصورين أنها لقمة سائغة سهلة الهضم لن تأخذ فى أيديهم وقتا ، فكان لا بد من قطع هذه اليد النجسة ، وإلا ضاع كل شىء . كما كان لا بد أيضا من أخذ الجزية منهم عن يدٍ وهم صاغرون جزاءً وفاقا على بغيهم واستهانتهم بالمسلمين وتخطيطهم لاجتياح دولتهم دون أن يَفْرُط منهم فى حقهم أى ذنب ! وعلى أية حال فإن النصارى مأمورون بحكم دينهم أن يدفعوا " الجزية " ( هكذا بالنص ) لأية حكومة يعيشون فى ظلها وأن يعطوا ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله ، حسبما قال لهم المسيح حرفيا ( متى / 22 / 17 – 21 ، و 12 / 24 – 25 ، ومرقس / 12 / 14 – 17 ) . كما أن بولس ، الذى يخالف فى غير قليل من أحكامه ما قاله نبيُّه ، قد كرر هنا نفس ما قاله السيد المسيح فأمرهم بالخضوع لأية حكومة تبسط سلطانها عليهم وألا يحاولوا إثارة الفتن ، لأن تسلط هذه الحكومات عليهم إنما هو بقَدَر من الله كما قال لهم ، ومن ثم لا ينبغى التمرد على سلطانها ، بل عليهم دفع الجزية والجبايات دون أى تذمر : " لِتَخْضَعْ كلُّ نفس للسلاطين العالية ، فإنه لا سلطان إلا من الله ، والسلاطين الكائنة إنما رتَّبها الله * فمن يقاوم السلطان فإنما يعاند ترتيب الله ، والمعاندون يجلبون دينونة على أنفسهم * لأن خوف الرؤساء ليس على العمل الصالح بل على الشرير . أفتبتغى ألا تخاف من السلطان ؟ افعل الخير فتكون لديه ممدوحا * لأنه خادمُ الله لك للخير . فأما إن فعلتَ الشر فَخَفْ فإنه لم يتقلد السيف عبثا لأنه خادمُ الله المنتقمُ الذى يُنْفِذ الغضب على من يفعل الشر * فلذلك يلزمكم الخضوع له لا من أجل الغضب فقط بل من أجل الضمير أيضا * فإنكم لأجل هذا تُوفُون الجزية أيضا ، إذ هم خُدّام الله المواظبون على ذلك بعينه * أدُّوا لكلٍّ حقه : الجزية لمن يريد الجزية ، والجباية لمن يريد الجباية ، والمهابة لمن له المهابة ، والكرامة لمن له الكرامة "( رسالة القديس بولس إلى أهل رومية / 13 / 1 – 7 ) .
وهذا الكلام خاص بخضوع النصارى للحكومات الوثنية ، فما بالنا بالحكومات المسلمة المؤمنة الموحِّدة التى لم يسمع أحد أنها فعلت بالنصارى ولا واحدا على الألف مما كانت تلك الحكومات تفعله بهم ؟ أَكُلُّ هذه الضجة لبغضكم القتّال لدين محمد بسبب فضحه لوثنياتكم وتثليثكم وبسبب كَسْبه القلوبَ المتعطشةَ لنور التوحيد واستقامة العقل والضمير ؟
وربما يسأل أحدٌ نفسَه : ولكن لماذا كان حكم النصارى بهذه القسوة مع غيرهم رغم الكلام المعسول عن المحبة والتسامح وما إلى ذلك ؟ والجواب أوَّلا هو أن هذا الكلام المعسول إنما يخص العلاقات الفردية لا الدولية ، فالنصرانية لم يكن لها أية سلطة على عهد السيد المسيح ، الذى رأيناه هو وحوارييه ، على العكس من ذلك ، يحاكَمون على يد أعدائهم وبمقتضى قوانين هؤلاء الأعداء . وحتى على المستوى الفردى قد وجدنا أن مثل هذه المبادئ لا تؤكِّل عيشا .
وإلى جانب هذا فالنصرانية ديانة لا تقوم على العقل ، بل تطلب من الشخص أن يؤمن دون مناقشة أو تفكير . وهذا أمر طبيعى لأنها مؤسسة على التفكير الخرافى ، إذا صح وصف الخرافات بأنها تفكير ، وعلى ذلك فإنها فى الواقع تفتقر إلى هذا التسامح الذى تدّعيه . ومعروف أنه كلما بالغ الشخص فى الحديث عن مزاياه وأزعج الآخرين بها بداعٍ وبدون داعٍ كان ذلك دليلا على كذبه . فهذا هذا ! ومن ثَمَّ فإنها حين وجدت نفسها ذات سيادة ودولة ورأت أنها لا تملك أية تشريعات تتعلق بالحكم والعلاقات الدولية انكفأت إلى العهد العتيق تستلهمه المشورة فلم تجد إلا الحروب والتشريعات اليهودية التى تتسم بالقسوة الوحشية المفرطة فى معاملة الأعداء فى الحرب وبعد الحرب على السواء دون التقيد بأية التزامات أخلاقية أو إنسانية . ولسوف أقتصر هنا على نص واحد من النصوص التى وردت فى العهد العتيق خاصة بالحرب . جاء فى " سفر تثنية الاشتراع " : " وإذا تقدَّمْتَ إلى مدينة لتقاتلها فادْعُها أولا إلى السلم * فإذا أجابتك إلى السلم وفتحت لك فجميع الشعب الذين فيها يكونون لك تحت الجزية ويتعبدون لك * وإن لم تسالمك بل حاربتك فحاصَرْتَها * وأسلمها الرب إلهك إلى يدك فاضرب كل ذَكَرٍ بحدّ السيف * وأما النساء والأطفال وذوات الأربع وجميع ما فى المدينة من غنيمة فاغتنمها لنفسك ، وكُلْ غنيمةَ أعدائك التى أعطاكها الرب إلهك * هكذا تصنع بجميع المدن البعيدة منك جدا التى ليست من مدن أولئك الأمم هنا * وأما مدن أولئك الأمم التى يعطيها لك الرب إلهك ميراثًا فلا تستَبْقِ منها نسمة * بل أَبْسِلْهم إبسالا ... " ( 20 / 10 – 17 ) .(/32)
هذا مثال من التشريعات التى وجدها النصارى تحت أيديهم فطبقوها بمنتهى الدقة والإخلاص ( والمحبة والتسامح والتواضع أيضا من فضلك ! ) متى واتتهم الظروف كما حدث فى أمريكا وأستراليا مثلا ، وكما حدث فى الأندلس عندما سقطت فى أيديهم فنكَّلوا بالمسلمين تنكيلا رهيبا ، وكما حدث كذلك فى فلسطين ، التى امتلخوها من العرب والمسلمين وأعطَوْها لليهود. وكدَيْدَنِهم عملوا على أن يصبغوا هذه الجريمة بصبغة إنسانية فزعموا أنهم إنما يريدون أن يعوّضوا اليهودَ عما ذاقوه من ويلات . على يد من ؟ على يد النصارى أنفسهم ، وليس على أيدى العرب والفلسطينيين ! لكن متى كان الإجرام والتوحش يبالى بمنطق أو عدل أو أخلاق ؟ أما الحرب فى الإسلام فلا تُشَنّ إلا للدفاع عن النفس كما هو معلوم ، وليس بحجة أن الله قد أعطانا بلاد الآخرين والسلام ، استلطافا منه لنا ! أما عند هزيمة العدو فإننا نأسره ولا نقتله ، ثم بعد انتهاء الأعمال القتالية فإما أطلقنا سراح الأسرى دون مقابل ، وإما أخذنا منهم الفدية لقاء تركهم يعودون لذويهم . أما المحو والاستئصال الذى يأمر رب اليهود شعبه به فلا مجال له فى الإسلام ! ومع ذلك كله يظل هؤلاء المناكيد يرددون أكاذيبهم عنا وعن قسوتنا وإكراهنا غيرنا على الدخول فى ديننا ... إلى آخر تلك المفتريات اللعينة . ولكن ما وجه الغرابة فى هذا ، وقد اجترأوا على الله نفسه فصنعوا كلاما سمجا كله كفر وقلة أدب وسفاهة وتطاول على رسول الله ، ثم ادَّعَوْا أنه من عند رب العالمين ؟ هل من يفعل ذلك يمكن أن يطمئن له عاقل ذو ضمير ؟ هل من يفعل ذلك يمكن أن يكون فى قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ؟ وفى النهاية أرجو أن يكون القارئ قد تنبه لحكاية" الجزية " فى النصوص السابقة المأخوذة من الكتاب المقدس بعهديه العتيق والجديد جميعا ، فإنها تكذِّب الأوغاد المجرمين مخترعى الوحى المزيف وناسبيه لرب العالمين كفرًا منهم وإلحادا ، إذ يزعمون أن الرسول هو الذى اخترع " الجزية " من عنده وأنها لم تنزل من السماء!
وكما يُبْدِئ الأوغاد المجرمون ويُعِيدون فى الزعم بأن الإسلام انتشر بالسيف رغم أنهم هم الذين نشروا دينهم بالسيف والكذب والخداع واستغلال السذاجة عند الشعوب البدائية ... إلخ ، فكذلك نراهم يُبْدِئون ويُعِيدون فى الإزراء على الجنة ونعيمها كما صورها القرآن الكريم ، مدَّعين أنها جنة مادية شهوانية لا تليق بالناس المتحضرين أمثالهم من أصحاب الروحانيات والخلق السامى الكريم ! عجيبٌ أمر هؤلاء الأوغاد عجيبٌ عجيب ! أية روحانيات يتحدثون عنها ، وقد نزلوا بربهم من عليائه إلى دنيا البشر المادية فتجسَّد وأكل وشرب وتجرع الخمر وصنعها آية لضيوف حفل قانا الجليل وتبول وتغوَّط وتألم وحزن ولُعِن وشُتِم وضُرِب وأُهِين وحُوكِم وصُلِب ، ثم مات أيضا " فوق البيعة " كيلا يكون أحدٌ أحسن من أحد ؟ أَوَبَعْد أن جسَّدتم الله تواتيكم نفوسكم على التظاهر بالاشمئزاز من جنة المسلمين قائلين إنها جنة مادية ؟ وماذا فى الجنة المادية ؟ ألا تحبون الأكل ؟ ألا تحبون الشرب ؟ ألا تحبون الجنس ؟ ألا تحبون التمتع بالظلال والجمال والهدوء ؟ ألا تحبون أن تستمعوا إلى الأصوات العذبة الجميلة ؟ ألا تحبون راحة البال وسكينة النفس بعد كل هذا القلق الذى اصطليناه فى الدنيا ؟ إن من يقول : " لا " لأى من هذه الأسئلة لهو ثُعْلُبَانٌ كذابٌ أَشِرٌ عريقٌ فى النفاق والدجل ! فما الحال إذا عرفنا أن هذه المتع الفردوسية ستكون متعا صافية مبرَّأة من كل ما كان يتلبَّس بها على الأرض من نقصان ونفاد وملل أو كِظَّة وغثيان أو قلق وآلام وأوجاع وإفرازات وعلل وتعب وكدح وصراع وخوف ، وكذلك من كل ما كان يعقبها من إخراج وتجشؤ وفتور وإرهاق ونوم ومرض ... إلخ ؟ لقد ذكر القرآن المجيد أنه فى العالم الآخر سوف " تُبَدَّل الأرضُ غَيْرَ الأرض والسماواتُ " ( إبراهيم / 48 ) ، وأن أهل الجنة " لا يَمَسّهم فيها نَصَبٌ ، وما هم منها بمُخْرَجين " (الحجر/ 48) ، وأنهم سيَبْقَوْن " خالدين فيها لا يَبْغُون عنها حِوَلا " ( الكهف / 108 ) ، وزاد الرسول الكريم فى أحاديثه الأمر بيانا فأوضح أن هذه المتع ستكون متعا خالصة تماما لا يكدّرها مكدِّر عضوىّ أو نفسىّ . فما وجه التنطع والاشمئزاز الكاذب إذن ؟ لقد لاحظتُ أن الذين يُزْرُون على جنة القرآن هم من أشد الناس طلبا للدنيا وتطلعا إليها وانخراطا فيها وسعارا محموما خلف لذائذها ، ومنهم هؤلاء المبشرون الفَسَقَة العَهَرَة الذين كانوا ولا يزالون يمثلون طلائع الاستعمار والاحتلال الغربى لبلادنا وبلاد كل الشعوب المستضعفة ، ذلك الاستعمار الذى يريد أن يستمتع بطيبات الحياة دوننا ويترك لنا الجوع والفقر والجهل والمرض والقذارة والذلة والتخلف والشقاء !(/33)
أليس مضحكا أن يأتى هؤلاء بالذات ليُظْهِروا النفور من تلك اللذائذ ؟ فمن هم إذن يا تُرَى الذين سُعِروا بحب الجنس على النحو الذى نعرفه فى بلاد الغرب واقعًا مَعِيشًا وأدبا مكتوبا ولوحاتٍ مصوَّرَةً وأفلاما عارية ومسرحياتٍ عاهرة ؟ أفإن جاء الرسول الكريم وقال لنا إنكم ستستمتعون بهذه الطيبات فى الجنة ، لكنْ مصفَّاةً مما يحفّها هنا على الأرض من أكدار وشوائب ، ومصحوبةً بالمحبة بين أهل الجنة ومشاهدتهم لوجه ربهم العظيم ذى الجلال والإكرام وتمتعهم بالرضا الإلهى السامى عنهم وانتشائهم بالتسبيحات الملائكية حولهم ، نَلْوِى عنه عِطْفنا ونشمخ بأنوفنا ونُبْدِى التأفف والتنطُّس ؟ إن هذا ، وَايْمِ الحق ، لَنِفاقٌ أثيم !
سنسمع المنافقين المنغمسين فى شهوات الجسد يتحدثون بتأفف عن هذه اللذائذ التى لا تليق فى نظرهم ببنى الإنسان ، وهم الذين يمارسون اللِّواط والسِّحاق مما ينزل بهذا الجسد وصاحبه أسفل سافلين . وعلى أية حال ما وجه النفور من الجسد وإشباع غرائزه فى اعتدال ؟ أليس هذا الجسد هو أحد الوجهين اللذين تتكون منهما الشخصية الإنسانية ؟ فما الذى يمكن أن يكون فى ذلك من عيب ؟ ترى أمن الممكن أن تقوم الحياة البشرية بعيدا عن الجسد؟ كنت أستطيع أن أفهم وجه الاعتراض لو كنا نقول إن المتع الجسدية هى وحدها المتع التى نريدها ، لأن هذا من شأنه أن يُلْغِىَ الجانب الروحى من الإنسان أو على الأقل يتجاهله بما يسىء إلى هذا الإنسان نفسه .
أمّا ، ونحن لا نقول بهذا ، فلست أجد أىّ مسوِّغ للاعتراض إلا العناد الأحمق والنفاق البغيض ! وعلى كل حال فالقرآن والأحاديث يلحّان صراحةً على أن أطايب النعيم هى مما لم تره عين أو تسمع به أذن أو خطر على قلب بشر . ثم يستوى بعد ذلك أن تكون هذه المتع الفردوسية متعا جسدية روحية معا أو روحية خالصة الروحانية . ونصوص القرآن والسنة تحتمل هذا وذاك لمن يريد ، وإن كان العبد الفقير يرى أنها ستجمع بين الحسنيين بالمعنى الذى شرحتُه ، أى أنها ستكون متعا جسدية روحية ، لكنْ على نحو غير الذى نعرفه فى هذه الدنيا . المهم أنها ستكون متعا خالصة والسلام !
لقد استند الثعالب المنافقون فى إنكارهم هذا إلى ما نُسِب للسيد المسيح من رده على اليهود الذين أرادوا أن يضيّعوا وقته فى الأسئلة السخيفة فقال لهم إن الناس " فى القيامة لا يزوِّجون ولا يتزوجون " ( متى / 22 / 23 – 30 ) ، إذ كان سؤالهم عن امرأة مات عنها زوجها فتزوجها من بعده إخوته الستة واحدا بعد موت الآخر ، فلِمَنْ من هؤلاء السبعة ستكون زوجةً فى القيامة ؟والسؤال ، كما هو جلىٌّ بيِّن ، سؤال سمج سخيف لا يمكن أن يقع إلا فى خيالات المهاويس ولا يراد به إلا التعنت والرغبة فى أن يمسكوا شيئا يتعللون به للتشكيك فى القيامة التى لم يكونوا ، كما جاء فى القصة ، يؤمنون بها لأنهم من طائفة الصَّدُوقِيِّين المنكرين للبعث . وهو أسلوب يبرع فيه أحلاس المجالس والمجامع الذين يعشقون الظهور والرواج عند العامة ، فأراد المسيح أن يقطع عليهم الطريق ولا يعطيهم الفرصة للمضى مع هذا الجدال العقيم ! وبطبيعة الحال لن يكون هناك زواج ولا تزويج ، فنحن لسنا فى الدنيا ، ومن ثم لن نحتاج إلى مأذون أو مسجّل مدنى وشهادات رسمية وما إلى ذلك مما هو معروف هنا فى هذه الحياة الأرضية . وهذا مثل قولنا مثلا إنه لن تكون هناك مطاعم ولا مطابخ فى الآخرة . فهذا شىء ، والخروج من ذلك القول بأنه لن يكون هناك طعام وشراب شىء آخر . وعلى نفس القاعدة فإن قول المسيح إنه لن يكون زواجٌ أو تزويجٌ يوم القيامة لا يعنى أنه لن يكون هناك متع مما يحصِّله الإنسان من الاتصال بالجنس الآخر ، فهذه المتع قد تتم من خلال الزواج ، وقد تتم دون زواج . ومتع الجنة ، كما أشرنا آنفا ، لن يكون فيها شىء من وجع الدماغ الذى شبعنا منه فى الدنيا ، ومن ثم فلا خِطْبة ولا مهر ولا زواج بما يعنيه كل هذا من استعدادات وتكاليف ، فضلا عن أن تكون هناك صراعات بين عدة رجال مثلا على الفوز بامرأة جميلة كل منهم واقع فى غرامها ولا يهنأ له عيش إلا بالزواج منها ، أو بين عدة نساء على الفوز برجل غنى وسيم كلهن مدلَّهات فى هواه فلا تروق لهن الدنيا إلا بالاقتران به .(/34)
ومما يؤيد كلامى أن المسيح نفسه فى الفقرات التى سبقت جوابه على سؤال اليهود ، حين أراد أن يوضح ملكوت السماوات ، وهو ما يقابل الجنة عندنا ، ضرب لمستمعيه مثلا من عُرْسٍ أقامه أحد الملوك لابنه أَوْلَمَ فيه وليمةً " على كيفك " قُدِّمَتْ فيها الذبائح والمسمَّنات ، وحضرها المدعوُّون وقد لبسوا الحلل التى تليق بهذه المناسبة السعيدة . فعلام يدل هذا ؟ وهل يختلف يا ترى عما نقوله نحن عن الجنة ؟ أَوَلَمْ يقل المسيح ( مرقس / 14 / 25 ، ولوقا / 22 / 18) إنه سيشرب عصير الكرمة فى ملكوت الله جديدا ، أى على نحو آخر غير ما كان عليه فى الدنيا ، وهو ما يقوله الإسلام ؟ أولم يقل لتلاميذه إنهم سيأكلون ويشربون معه على مائدته فى الملكوت( لوقا / 22 / 29 – 30 ) ؟ فما الفرق بين الشراب والطعام وبين الجنس ؟ أليست كلها متعا من متع هذه الدنيا التى تتأففون منها نفاقا ورياء ، وأنتم غارقون فيها ، لا إلى أذقانكم فقط كما يقول التعبير المشهور ، بل إلى شُوشَة رؤوسكم ؟ ثم إننا لا ينبغى أن ننسى أن السيد المسيح ، مَثَلُه فى هذا مَثَلُ النبى يحيى ، كان عزوفا عن النساء لأسباب خاصة به قد يمكن أن نجد لها إيماء فى كلامه عليه السلام عن أولئك الذين خصاهم الناس أو خَصَوْا هم أنفسَهم أو كانوا مَخْصِيِّين خِلْقَةً مما مَرَّ بنا من قبل . ثم أين كان آدم وحواء فى بدء أمرهما ؟ ألم يكونا فى الجنة ؟ فماذا كانا يفعلان هناك ؟ يقول كتابكم المقدس إن هذه الجنة كان فيها أشجار حسنة المنظر طيبة المأكل ، وإن الرجل يترك أباه وأمه ويلزم امرأته فيصيران جسدا واحدا ، وإن آدم وزوجه كانا عريانين لا يشعران بخجل ، وإن الله قد ضمن لهما الخلود فيها... إلخ ( تكوين / 2 / 8 – 9 ، 24 ) . فما معنى كل هذا ؟ وماذا كان أبوانا الأوَّلان يعملان فى الجنة ؟ أكانا يكتفيان بتمضية وقتهما فى التأملات الروحانية واضعَيْن أيديهما على خدودهما ليلا ونهارا ؟ كذلك يتحدث بولس فى رسالته الأولى لأهل كورنتس ( 15 / 35 فصاعدا ) عن " الأجساد الأخروية " التى لا تعرف الفساد ولا التحلل والتى يسميها أيضا بـ " الأجساد السماوية " و" الأجساد الروحانية " . وفى السِّفْر المسمَّى بـ " رؤيا القديس يوحنا " وَصْفٌ مفصَّلٌ لكثير من متع الفردوس وعذابات الجحيم ، وكلها مادية كالمتع والعذابات التى نعرفها فى دنيانا هذه ، مع التنبيه بين الحين والحين إلى أن كل شىء من هذه الأشياء سيكون جديدا ولا يجرى عليه ما كان يجرى على نظيره فى الأرض من فساد ونقصان ، وهو ما لا يختلف عما قلناه ، فلم التعنت إذن ومهاجمة الإسلام نفاقا وحقدا ؟
وأَصِل الآن إلى آخر قضية أنوى أن أتناولها فى هذه الدراسة ، وهى التهمة التى وجهها هؤلاء المآفين إلى القرآن الكريم وخصّصوا لها سورة افترَوْها وسمَّوْها : " سورة الغرانيق " ، إشارةً إلى ما يقال من أن سورة " النجم " كانت تحتوى فى البداية على آيتين تمدحان الأصنام الثلاثة : " اللات والعُزَّى ومَنَاة " ، ثم حُذِفتا منها فيما بعد . يريدون القول بأن محمدا ، عليه الصلاة والسلام ، كان يتمنى أن يصالح القرشيين حتى يكسبهم إلى صفه بدلا من استمرارهم فى عداوتهم لدعوته وإيذائهم له ولأتباعه ، ومن ثم أقدم على تضمين سورة " النجم " تَيْنِك الآيتين عقب قوله تعالى : " أفرأيتم اللاتَ والعُزَّى * ومناةَ الثالثةَ الأخرى ؟ " ( النجم /19 – 20 ) على النحو التالى : " إنهنّ الغرانيق العُلا * وإن شفاعتهن لَتُرْتَجَى ". والمقصود من وراء ذلك كله هو الإساءة للرسول الكريم بالقول بأنه لم يكن مخلصا فى دعوته ، بل لم يكن نبيا بالمرة ، وإلا لما أقدم على إضافة هاتين الآيتين من عند نفسه . وهم بهذا يظنون أن محمدا يشبه بولس ، الذى كان يفتخر بأنه يتلون حسب الظروف من أجل إدخال الناس إلى النصرانية بكل سبيل والذى أقدم على إلغاء السبت والختان وأَحَلَّ الخنزير حين رأى أن هذه الأحكام تقوم عقبةً كأداءَ فى طريق الدخول إلى المسيحية ! ونَسُوا أن محمدا نبى من عند رب العالمين ، على عكس بولس ، الذى ما إن دخل المسيحية بكذبته تلك الكبيرة التى لا تدخل العقل ولا تجوز إلا على البُلْه والمعاتيه حتى انطلق كالثور الهائج يقلب كل شىء فيها تقريبا رأسًا على عقب!(/35)
وعلى أية حال فهذه بعض من آيات السورة الشيطانية المذكورة : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * يا أيها الذين كفروا من عبادنا : لقد ضلَّ رائدكم وقد غَوَى * وما نطق عن الهوى إن هو إلا وحىٌ إفكٌ يُوحَى * علَّمه مريد القُوَى * فرأى من مكائد الشيطان الكبرى وهو بالدرك الأدنى * وردَّد الكفر جهرا وتلا : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى . إن شفاعتهن لَتُرْتَجَى * كلما مسه طائف من الشيطان زجر صاحبه فأخفى ما أبدى * وإمّا ينزَغَنَّه من الشيطان نَزْغٌ استعاذ بنا على مسمعٍ جهرا * ... * ومن أظلمُ ممن افترى علينا كذبا ثم قال : " أُوحِىَ إِلَىَّ ". وما أُوحِىَ إليه إلا ما تنزَّلَتْ به الشياطينُ افتراءً ومكرا " (1 - 7 ، 15) .
وهذه الفرية هى مما يحلو للمستشرقين والمبشرين أن يرددوها للمكايدة وإثارة البلبلة ، مع أن أقل نظرة فى سورة " النجم " أو فى سيرة حياته صلى الله عليه وسلم كافية للقطع بأن تلك القصة لا يمكن أن تكون قد حدثت على هذا النحو الذى اخترعه بعض الزنادقة قديما وأخذ أعداء الإسلام يرددونها شأن الكلب الذى وجد عظمة فعض عليها بالنواجذ وأخذ ينبح كل من يقترب منه ! بل إن بلاشير فى ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم قد أقدم على شىء بلغ الغاية فى الشذوذ والخيانة العلمية ، ألا وهو إثبات هاتين الآيتين المدَّعَاتَيْن فى نص ترجمته لسورة " النجم " بزعمهما آيتين قرآنيتين كانتا موجودتين فيها يوما .
وقد تناول عدد من علماء المسلمين قديما وحديثا الروايات التى تتعلق بهاتين الآيتين المزعومتين وبينوا أنها لا تتمتع بأية مصداقية . والحقيقة إن النظر فى سورة " النجم " ليؤكد هذا الحكم الذى توصل إليه أولئك العلماء ، فهذه السورة من أولها إلى آخرها عبارة عن حملة مدمدمة على المشركين وما يعبدون من أصنام بحيث لا يُعْقَل إمكان احتوائها على هاتين الآيتين المزعومتين ، وإلا فكيف يمكن أن يتجاور فيها الذم العنيف للأوثان والمدح الشديد لها ؟ ترى هل يمكن مثلا تصوُّر أن ينهال شخص بالسب والإهانة على رأس إنسان ما ، ثم إذا به فى غمرة انصبابه بصواعقه المحرقة عليه ينخرط فجأة فى فاصل من التقريظ ، ليعود كرة أخرى فى الحال للسب والإهانة ؟ هل يعقل أن تبلع العرب مثل هاتين الآيتين اللتين تمدحان آلهتهم ، وهم يسمعون عقب ذلك قوله تعالى : " ألكم الذَّكَر وله الأنثى ؟ * تلك إذن قسمةٌ ضِيزَى * إن هى إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن تتَّبعون إلا الظن وما تَهْوَى الأنفس . ولقد جاءهم من ربهم الهدى " ؟ إن هذا أمر لا يمكن تصوره ! كما أن وقائع حياته صلى الله عليه وسلم تجعلنا نستبعد تمام الاستبعاد أن تكون عزيمته قد ضعفت يوما ، فقد كان مثال الصبر والإيمان بنصرة ربه له ولدعوته . ومواقفه من الكفار طوال ثلاثة وعشرين عاما وعدم استجابته فى مكة لوساطة عمه بينه وبينهم رغم ما كان يشعر به من حب واحترام عميق نحوه ، وكذلك رفضه لما عرضوه عليه من المال والرئاسة ، هى أقوى برهان على أنه ليس ذلك الشخص الذى يمكن أن يقع فى مثل هذا الضعف والتخاذل !
هذا ، وقد أضفت طريقةً جديدةً للتحقق من أمر هاتين الآيتين هى الطريقة الأسلوبية ، إذ نظرت فى الآيتين المذكورتين لأرى مدى مشابهتهما لسائر آيات القرآن فوجدت أنهما لا تمتان إليها بصلةٍ البتة . كيف ذلك ؟ إن الآيتين المزعومتين تجعلان الأصنام الثلاثة مناطا للشفاعة يوم القيامة دون تعليقها على إذن الله ، وهو ما لم يسنده القرآن فى أى موضع منه إلى أى كائن مهما تكن منزلته عنده سبحانه . ولن نذهب بعيدا للاستشهاد على ما نقول ، فبعد هاتين الآيتين بخمس آيات فقط نقرأ قوله تعالى : " وكم مِنْ مَلَكٍ فى السماوات لا تُغْنِى شفاعتُهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويَرْضَى " . فكيف يقال هذا عن الملائكة فى ذات الوقت الذى تؤكد إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة جديرة بالرجاء من غير تعليق لها على إذن الله ؟ ثم إنه قد ورد فى الآية الثانية من آيتى الغرانيق كلمة " تُرْتَجَى " ، وهى أيضا غريبة على الأسلوب القرآنى ، إذ ليس فى القرآن المجيد أى فعل من مادة " ر ج و " على صيغة " افتعل " . أما ما جاء فى إحدى الروايات من أن نص الآية هو : " وإنّ شفاعتهن لَتُرْتَضَى " ، فالرد عليه هو أن هذه الكلمة ، وإن وردت فى القرآن ثلاث مرات ، لم تقع فى أى منها على " الشفاعة " ، وإنما تُسْتَخْدَم مع الشفاعة عادةً الأفعال التالية : " تنفع ، تغنى ، يملك " .(/36)
كذلك فقد بدأت مجموعةُ الآيات التى تتحدث عن اللات والعُزَّى ومناة بقوله عَزَّ شأنُه : " أ(فـ)ـرأيتم...؟" ، وهذا التركيب قد تكرر فى القرآن إحدى وعشرين مرة كلها فى خطاب الكفار ، ولم يُسْتَعْمَل فى أى منها فى ملاينة أو تلطف ، بل ورد فيها جميعا فى مواقف الخصومة والتهكم وما إلى ذلك بسبيل كما فى الشواهد التالية : " قل : أرأيتم إن أتاكم عذابُه بَيَاتًا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون ؟ " (يونس / 50) ، " قل : أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حلالا وحراما ، قل : آللهُ أَذِنَ لكم أم على الله تفترون ؟ " ( يونس / 59) ، " قل : أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشَهِد شاهدٌ من بنى إسرائيل على مِثلِْه فآمن واستكبرتم ؟ إن الله لا يهدى القوم الظالمين " (الأحقاف / 10) ، " أفرأيتم الماء الذى تشربون ؟ * أأنتم أنزلتموه من المُزْن أم نحن المُنْزِلون ؟ * لو نشاء جعلناه أُجَاجًا ، فلولا تشكرون " ( الواقعة / 68 – 70 ) . فكيف يمكن إذن أن يجىء هذا التركيب فى سورة " النجم " بالذات فى سياق ملاطفة الكفار ومراضاتهم بمدح آلهتهم ؟ وفوق هذا لم يحدث أن أُضيفت كلمة " شفاعة " فى القرآن الكريم ( فى حال مجيئها مضافة ) إلا إلى الضمير " هم " على خلاف ما أتت عليه فى آيتى الغرانيق من إضافتها إلى الضمير "هنّ " .
وفضلا عن ذلك فتركيب الآية الأولى من الآيتين المزعومتين يتكون من " إنّ ( وهى مؤكِّدة كما نعرف ) + ضمير ( اسمها ) + اسم معرّف بالألف واللام ( خبرها ) " ، وهذا التركيب لم يُسْتَعْمَل لـ " ذات عاقلة " فى أى من المواضع التى ورد فيها فى القرآن الكريم ( وهى تبلغ العشرات ) إلا مع زيادة التأكيد لاسم " إنّ " بضميرٍ مثله كما فى الأمثلة التالية : " ألا إنهم هم المفسدون / ألا إنهم هم السفهاء / إنه هو التواب الرحيم / إنك أنت السميع العليم / إنك أنت التواب الرحيم / إنه هو السميع العليم / إنه هو العليم الحكيم / إنه هو الغفور الرحيم / إنى أنا النذير المبين / إنه هو السميع البصير / إننى أنا الله / إنك أنت الأعلى / إنا لنحن الغالبون / إنه هو العزيز الحكيم / وإنا لنحن الصافّون / وإنا لنحن المسبِّحون / إنهم لهم المنصورون / إنك أنت الوهاب / إنه هو السميع البصير / إنه هو العزيز الرحيم / إنك أنت العزيز الكريم / إنه هو الحكيم العليم / إنه هو البَرّ الرحيم / ألا إنهم هم الكاذبون / فإن الله هو الغنى الحميد " . أما فى المرة الوحيدة التى ورد التركيب المذكور دون زيادة التأكيد لاسم " إنّ " بضميرٍ مثله ( وذلك فى قوله تعالى : " إنه الحق من ربك " / هود / 17 ) فلم يكن الضمير عائدا على ذات عاقلة ، إذ الكلام فيها عن القرآن . ولو كان الرسول يريد التقرب إلى المشركين بمدح آلهتهم لكان قد زاد تأكيد الضمير العائد عليها بضميرٍ مثله على عادة القرآن الكريم بوصفها " ذواتٍ عاقلةً " ما داموا يعتقدون أنها آلهة . وعلى ذلك فإن التركيب فى أُولَى آيَتَىِ الغرانيق هو أيضا تركيب غريب على أسلوب القرآن الكريم .
مما سبق يتأكد لنا على نحوٍ قاطعٍ أن الآيتين المذكورتين ليستا من القرآن ، وليس القرآن منهما ، فى قليل أو كثير . بل إنى لأستبعد أن تكون كلمة " الغرانيق " قد وردت فى أى من الأحاديث التى قالها النبى عليه الصلاة والسلام . وينبغى أن نضيف إلى ما مرّ أن كُتُب الصحاح لم يرد فيها أى ذكر لهذه الرواية ، ومثلها فى ذلك ما كتبه ابن هشام وأمثاله فى السيرة النبوية .(/37)
ولقد قرأت فى كتاب " الأصنام " لابن الكلبى ( تحقيق أحمد زكى / الدار القومية للطباعة والنشر / 19 ) أن المشركين كانوا يرددون هاتين العبارتين فى الجاهلية تعظيما للأصنام الثلاثة ، ومن ثم فإنى لا أستطيع إلا أن أتفق مع ما طرحه سيد أمير على من تفسير لما يمكن أن يكون قد حدث ، بناءً على ما ورد من روايات فى هذا الموضوع ، إذ يرى أن النبى ، عندما كان يقرأ سورة " النجم " وبلغ الآيات التى تهاجم الأصنام الثلاثة ، توقَّع بعضُ المشركين ما سيأتى فسارع إلى ترديد هاتين العبارتين فى محاولة لصرف مسار الحديث إلى المدح بدلا من الذم والتوبيخ (Ameer Ali, The Spirit of Islam, Chatto and Windus, London, 1978, P.134 ). وقد كان الكفار فى كثير من الأحيان إذا سمعوا القرآن أحدثوا لَغْطًا ولَغْوًا كى يصرفوا الحاضرين عما تقوله آياته الكريمة ( فُصِّلَتْ / 26 ) ، فهذا الذى يقوله الكاتب الهندى هو من ذلك الباب . ولتقريب الأمر أمثِّل لهذه الطريقة بواقعة كنت من شهودها ، إذ كان رئيس ومرؤوسه يتعاتبان منذ أعوام فى حضورى أنا وبعض الزملاء ، وكان الرئيس يتهم المرؤوس المسكين بأنه يكرهه ، والآخر يحاول أن يبرئ نفسه عبثا لأنه كان معروفا عنه خوضه فى سيرة رئيسه فى كل مكان . وفى نوبة يأس أسرع قائلا وهو يؤكد كلامه بكل ما لديه من قوة : " إن ما بينى وبينك عميق! " ، فما كان من زميل معروف بحضور بديهته وسرعة ردوده التى تحوِّل مجرى الحديث من وجهته إلى وجهة أخرى معاكسة إلا أن تدخل قائلا فى سرعة عجيبة كأنه يكمل كلاما ناقصا : " فعلا ! عميقٌ لا يُعْبَر ". وهنا أمسك الرئيس بهذه العبارة وعدَّها ملخِّصةً أحسن تلخيص للموقف ولمشاعر مرؤوسه المزنوق الذى يحاول التنصل مما يُنْسَب إليه ! ومن ذلك أيضا ما كان بعض أصدقائنا المدرسين يعابث به تلميذاته إذا رآهن قد أسرفن فى التحمس لقاسم أمين وإبراز أهمية الدور التى تؤديه المرأة فى الحياة ، إذ كان ، كلما ردّدن أمامه العبارة المشهورة فى هذا السياق من أن " وراء كل عظيم امرأة " ، يجيبهن مرة : " طبعا وراءه لا أمامه ، فهو صاحب الصدارة والتفوق ، أما هى فتابعة له "، ومرة : " فعلا وراءه ، والزمان طويل " ، ومرة : " وراءه مسوِّدة عيشته " ... وهكذا .
ورغم أننا قد فنَّدنا هذا السخف الساخف فإنّا لنستغرب ذلك الضجيج الذى يُحْدِثه هؤلاء الأوباش حول رسولنا الكريم بسببه . ذلك أنهم يقولون إنه ما من نبى من أنبياء الكتاب المقدس إلا قد ارتكب خطيئة أو أكثر من العيار الثقيل حسبما جاء فى هذا الكتاب ذاته : فإبراهيم تخلى عن زوجته لفرعون مدّعيا أنها أخته وتركها له يفعل بها ما يشاء خوفًا على حياته ، وكان من الممكن أن ينال الملك ما يشتهى منها لولا أن الله قد ضربه هو وأهله ضرباتٍ عظيمة كما يقول مؤلف " سفر التكوين " ( 12 / 11 – 20 ) ، فعرف أن سارة ليست أختا لإبراهيم بل هى زوجته . وموسى يقدم على قتل المصرى بدم بارد وخسّة حقيرة وجبن واضح . وهارون يصنع العجل لبنى إسرائيل ليعبدوه ويرقصوا وهم يطوفون به عراةً أثناء غياب موسى فى الطور عند لقائه بربه . وداود يزنى بامرأة قائده ثم يدبر مؤامرة إجرامية خسيسة لقتله والتخلص منه ليفوز بالزوجة ، وكان له ما أراد . وسليمان ينظم نشيدا كله عهر وإغراء بالفاحشة ، كما ينزل على رغبات زوجاته الوثنيات فيصنع لهن أصناما يعبدنها فى بيته إرضاءً لهن ... إلخ . وهؤلاء المتنطعون يقولون إن وقوع الأنبياء فى الخطايا أمر طبيعى لأنهم بشر . فإذا كان الأمر كذلك فلماذا ، يا أيها المتنطعون ، لا تنظرون بنفس العين إلى غلطة الغرانيق بافتراض أنها وقعت بالفعل ، وبخاصة أنها لا ترقى أبدا إلى ما فَرَط من أىٍّ من أنبياء كتابكم حسبما تقولون أنتم أنفسكم ، فقد حُذِفت الآيتان المذكورتان فى الحال ولم تُسَجَّلا فى القرآن قط ؟ مرة أخرى أكرر أن هذه الرواية هى رواية مكذوبة لا تثبت على محك النقد العلمى : سواء من ناحية السند أو من ناحية المتن والأسلوب كما رأينا ، لكنى أحاول أن أبين للقارئ الفاضل مدى التواء هؤلاء المخابيل وخبث نفوسهم وكيلهم بمكيالين ، وأن أُوقِفَ هؤلاء المخابيل أمام صورتهم فى المرآة ليَرَوْا قبحها ودمامة ملامحها الشيطانية !(/38)
وهنا أحب أن أشير إلى مفارقة غاية فى العجب والغرابة والشذوذ ، فانطلاقا من المفهوم الطاهر للنبوة فى ديننا والإيمان بأن الأنبياء لا يمكن أن يقترفوا مثل هذه الجرائم التى لا تقع إلا من عتاة المجرمين نقوم نحن المسلمين بالدفاع عن أنبياء الكتاب المقدس ضد التهم التى يلصقها هذا الكتاب المحرَّف بهم ، لكن النصارى يردون على هذا الدفاع بالتخطئة مؤكِّدين أن هؤلاء الأنبياء قد ارتكبوا فعلا الخطايا التى تُنْسَب إليهم . ومع ذلك فإنهم عند تناولهم للشبهات الباطلة التى يتعلقون بها للنيل من أخلاق الرسول الأعظم نراهم وقد أخذتهم الحميَّة للأخلاق الكريمة فلا يُبْدُون أى تسامح أو تساهل مع هذه التهم الكاذبة ! أليست هذه مفارقة تحتاج إلى دراسة تحليلية لذلك الالتواء النفسى ؟ ويمكن القارئ أن يرجع مثلا إلى موقع " النور " النصرانى ، ولسوف يجد مقالا بعنوان " عصمة الوحى وخطايا الأنبياء " يتحدث فيه صاحبه عن الخطايا التى اجترحها كل من آدم ونوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط وإخوة يوسف وداود وسليمان وغيرهم مما أشرنا لبعضه آنفا ، مع تسويغ هذه الخطايا بشبهة أنهم بشر ، لكنه عندما يتناول ما يظنه أخطاءً لسيد الأنبياء والمرسلين يحاسبه حسابا عسيرا ، ولا يرضى أبدا بغض البصر أو التسامح تحت أى بند من البنود !
إننى حين أدافع عن سيد النبيين والمرسلين لا أفعل ذلك لمجرد انتمائى لدينه ، بل أفعله إيمانا منى بعظمته وعبقريته وشموخ شخصيته : فقد أتى بمبادئ لا ترقى إليها أية مبادئ فى أى دين أو فلسفة أو مذهب من مذاهب السياسة والتربية والأخلاق . ثم إنه قد وضع تلك المبادئ موضع التطبيق ، وكان توفيقه فى هذا المجال مذهلا ، ولم يقتصر الأمر معه على مجرد الدعوة لها كما هو الحال مع عيسى عليه السلام ، الذى لم يأت ، حسب ما هو مسطور فى سيرته ، إلا ببعض المواعظ والنصائح المغرقة فى الخيال مما لا يؤكِّل عيشا! والواقع أنه لو أخذت البشرية مأخذ الجِدّ ما دعا إليه السيد المسيح حسبما جاء فى الأناجيل لما كانت هناك حضارة ولا تقدُّم ولا تمتُّع بأى من خيرات الحياة ، فكل الكلام المنسوب له عليه السلام تنفير من الغنى والقوة والدفاع عن النفس وتبغيض فى الدنيا وطيباتها ، وهو يقول بصراحة لا تحتمل أى تأويل إن مملكته ليست من هذا العالم . كما ينظر إلى الغرائز البشرية نظرة التوجس بل الكراهية ، مع أن هذه الغرائز هى وقود سفينة الحياة ، ولولا هى لما رامت هذه السفينة موضعَها إلى الأبد! كذلك لم يترك المسيح أية تشريعات تقريبا ، وبالذات فى مجال السياسة والحكم وتنظيم المجتمع . ومن ثم فإننا إذا أردنا أن نقيم دولة على المبادئ التى خلَّفها لم نجد ما يمكن أن يساعد فى هذا المجال ! ولكن لا ينبغى فى ذات الوقت أن ننسى أنه عليه السلام لم يُكْتَب له أن يعيش بعد اختياره نبيًّا إلا لسنوات ثلاث ، وهى فترة غير كافية لإنجاز أى مشروع على الإطلاق ! ومن هنا كان من الظلم البين له مقارنة عمله بما أنجزه الرسول الأعظم رغم احترامنا له وحبنا إياه وإيماننا بنبوته .
لكن صورة المسيح التى تعرضها علينا الأناجيل هى للأسف صورة ظالمة ، إذ تظهره عصبيًّا جافى الطبع لا يستقر فى مكان ، ولا عَمَلَ له إلا إبراءُ المرضى الذين يلهثون خلفه هنا وههنا فى فوضى مزعجة ، وإلا لَعْنُ اليهود وسبُّهم ومخالفتهم فى كل ما يتمسكون به من تشريعات ، مع الزعم فى ذات الوقت بأنه ما جاء لينقض الناموس الذى أتى به موسى عليه السلام ، ثم لا شىء وراء ذلك ! طبعا سيقول النصارى إنه قد أتى إلى العالم ليفتدى البشرية من خطيئتها الأولى ، لكن أحدا من غير السذَّج لا يمكن أن يأخذ هذه المزاعم المصنوعة على غرار وثنيات القدماء وخرافاتهم مأخذ الجِدّ! ومع ذلك فكلُّ إنسانٍ وما يؤمن ! ونحن لا نتدخل فى عقائد غيرنا ، بيد أننا فى الوقت ذاته لا يمكن أن نتسامح مع من يَمَسُّ سيدنا رسول الله بسوء ! أنتم أحرار فى كفركم به يا من لا تؤمنون برسالته ، فهذا اختياركم ، ونحن لا نصادر حق أى إنسان فى الاختيار.لكن هذا شىء ،والتطاول على شخص الرسول الأكرم والقرآن الذى جاء به شىء آخر مختلف تماما.وأرجو أن تكون الرسالة قد وصلت!(/39)
فضيحة بجلاجل للعلمانيين في برنامج الاتجاه المعاكس"
د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
بثت قناة الجزيرة مساء الثلاثاء 5/ 10/ 2004م حلقة من برنامجها الأسبوعى: "الاتجاه المعاكس"، الذى يقدمه د.فيصل القاسم المتخصص فى إشعال الحرائق الفكرية واستخراج ما فى مستكن أفئدة ضيوفه بطريقته المعروفة للمشاهدين. وقد دارت الحلقة حول مدى ترحيب المسلمين بحذف نصوص دينية إسلامية معينة من المناهج الدراسية، وكانت نتيجة تصويت المشاهدين فى صالح الرفض لهذا الحذف بأغلبية ساحقة، بل إنه ليمكن القول بأن الإجماع تقريبا قد صبَّ فى هذا الاتجاه إذا أخذنا فى الاعتبار أن نسبة الـ7% التى صوتت عبر الهاتف بالموافقة يدخل فيها غير المسلمين، سواء من العرب أو من غير العرب أيضا، إذ لا أظن أن هناك مصفاة فنية تمنع من ليسوا عربًا من الاشتراك فى هذا التصويت!
والواقع أن هذه الحلقة بالذات كانت بكل المقاييس "فضيحة بجلاجل" للعلمانيين المتغربين السائرين فى ركاب أعداء هذه الأمة الراقصين على ما يعزفونه لهم من أنغام، النابحين كل شريف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلما شامُوا فى الأمة ضعفا، والمسارعين إلى الدخول فى أوجارهم أذلّةً ضاغين ضارعين إذا استقام ميزان الأوضاع وعادت الأمور لطبيعتها الأصلية. أما كيف كانت "فضيحة بجلاجل" لأولئك الخَلْق فإليك، أيها القارئ، التفصيل:(/1)
لقد ظهر من مناقشات أولئك الخَلْق أنهم لا يحترمون القرآن ولا الحديث، وهما أساسا الدين لهذه الأمة، وبغيرهما لا يكون المسلم مسلما. كما ظهر من هذه المناقشات قدرتهم العجيبة على الكذب والتدجيل دون أن يطرف لهم جَفْن ولا هُدْب، مما يدل على أن هذه الآفة سجية متأصلة فيهم، وأن الواحد منهم "كذاب قرارى" كما يقول المصريون! أو كذاب من الطراز الأول بامتياز كما نقول فى الفُصْحى حماها الله! وفضلا عن هذا وذاك هناك الجرأة الخبيثة على التلاعب بتفسير النصوص الدينية، والقرآنية يالذات، تفسيرا ما أنزل الله به من سلطان. ومن لا يعجبه هذا التفسير العجيب فليشرب من البحر، أو إذا لم يكن قريبا من البحر فليخبط رأسه فى الجدار الذى أمامه أو الذى وراءه (لا يهم! المهم أن يخبطه، والسلام!)، ولا يجشم نفسه تعب القيام من مكانه للذهاب إلى البحر! وهذه الجرأة الوقحة على التلاعب بتفسير النصوص الدينية يرفدها جهل غليظ لا يستحى صاحبه من إعلانه على الناس. ولِمَ يستحى، والأمر إنما يتعلق بالإسلام، وهو دينٌ بلا صاحب، أو هو فى أحسن الأحوال دينٌ ليس لدى أهله قنابل أو صواريخ أو أسلحة نووية كما عند ماما (أو بالأحرى: امرأة بابا) أمريكا ومن لفَّ لِفَّها، دينٌ ها هى ذى الدنيا تستعد لتشييعه إلى مثواه الأخير كما تخيل لهم أوهامهم النجسة مثلهم، ولا عزاء فيه لأحد: لا للسيدات ولا للرجال، ولا حتى للأطفال الصغار؟ ترى هل يستطيع أحد من المسلمين أن يجرؤ على فتح فمه؟ هكذا يفكر أولئك الخلق! وفوق هذا وذاك فالقوم لم يعودوا يخفون شيئا من أهدافهم ونياتهم: فهؤلاء هم المسلمون يُذَبَّحون وتُدَكّ بيوتهم فوق رؤوسهم ورؤوس الذين نفضوهم وتُغْتَصَب حرائرهم وتُلَطَّخ أجساد رجالهم بالخراء ويُكْرَهون على أن يأتى الأب منهم أولاده، والأولاد أباهم، بأوامر اللوطيين والسحاقيات من أبناء وبنات العمّ سام (عَمَى الدِّبَبَة)، وتُسَلَّط الكلاب المتوحشة عليهم تأكل أعضاءهم التناسلية وهم عرايا مقيدون قد أُبْعِد ما بين ساقيهم بآلات حديدية حتى لا يستطيعوا أن يداروها عن الكلاب المتلمظة التى يسلطها عليهم كلاب البشر! رهيب! رهيب! رهيب! ثم يأتى أولئك الخلق فيصيحون بنا أنْ كونوا متحضرين أيها الأغبياء يا من لا تزالون تعيشون وتعششون كالخفافيش فى عصر الظلام الذى كان يعيش فيه محمد وأصحابه البدو المتخلفون! ما لكم تريدون أن ترجعوا عقارب الساعة إلى الوراء، وقد مات ذلك الـ"محمد" منذ أربعة عشر قرنا وشبع موتا، وينبغى أن يلحق به قرآنه وحديثه اللذان لا مكان لهما فى عالم اليوم الذى استولت فيه أمريكا على عرش الألوهية بقوة السلاح كما استولت على بلاد الهنود الحمر بعد أن أبادتهم وجعلتهم أثرا من بعد عين، وحوَّلتهم إلى حكايات تُرْوَى وأفلام تُمَثَّل على الشاشة للتسلية وإدخال السرور على قلوب المشاهدين، ولم يعد هناك مكان لإله محمد يا أيها الحمقى، بل يا أيها البهائم؟ ألا تريدون أبدا أن تفيقوا من هذيانكم وظلامكم وتكونوا، ولو مرة واحدة، قوما متحضرين؟ استيقظوا وافركوا أعينكم وقلوبكم وعقولكم جيدا، فهذا الأوان أوان "الكاوبوى بوش" لا "محمد راعى الجِمَال" يا أيها الصُّمّ البُكْم العُمْى الذين لا يبصرون ولا يسمعون ولا يتكلمون كلاما يفهمه العاقلون! هذا، أيها القراء، هو الأمر باختصار، ومن يرد مزيدا من البيان فليتابع معنا غير مأمور، بل له كل الاحترام، وله كذلك الثواب من رب الثواب: رب محمد بطبيعة الحال كما لا أظننى بحاجة إلى التوضيح، فأنا من أولئك الذين ما برحوا، رغم كل شىء، يؤمنون بمحمد ودين محمد ورب محمد، لا أعرف لى دينًا ولا نبيًّا ولا ربًّا سواه!(/2)
لقد بدأت الحلقة، ولم نكن نعرف مَنْ ضيفاها، ولكن ما إن رأيت د.إبراهيم الخولى حتى شعرت بالسرور، إذ سبق لى أن شاهدته (ولأول مرة فى حياتى) فى الحلقة التى قارع فيها د.محمد أركون العام الماضى فقَرَعه بل أجهز عليه بالضربة القاضية حتى لقد رأيت أركون وقد استولى عليه الذهول عند انتهاء الحلقة، وهو يكاد يضرب كفا بكف (أو ربما ضربهما فعلا) لأن الحلقة قد انتهت دون أن يستطيع شيئا مما ظن أنه فاعله، تصوُّرًا منه أن د. الخولى رجل أزهرى (أى "دقة قديمة")، فهو يقدر أن يضحك عليه بكلمتين من كلامه الذى يترجمه له حواريّه هاشم صالح (الذى كتب عقب حوار بينه وبين أستاذه فى العاصمة الفرنسية قائلا إنه يتطلع إلى اليوم الذى تنتشر فيه الخمارات فى أرجاء البلاد الإسلامية كما تنتشر فى باريس) معلنًا فى جرأة لم أرها ولم أسمع بها فى الغابرين ولا فى المحدثين، ولا أحسب أحدا سوف يُكْتَب له أن يسمع بها فيما يُسْتَقْبَل من الزمان إلى يوم الدين، أن الإسلام قبل أركون ليس هو الإسلام بعد أركون! مَدَدْ يا سيدى أركون! مَدَااااادْ! والحمد لله أنه لم يَدْعُ إلى ترك التقويم الهجرى والميلادى والقبطى والعبرى والفارسى والصينى والجريجورى وتدشين تقويم جديد للعالم كله يحمل اسم شيخ طريقته أركون، فيقال: حدث هذا فى السنة الرابعة والخمسين مثلا أو فى القرن العاشر من ميلادِ (أو من وفاةِ، أو من صدور أول كتابٍ لـ)سيدنا أركون، صلى "الغرب" عليه وسلّم صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين يضعانه فى آخر المطاف يوم القيامة فى المكان الذى يستحق جزاءً وفاقًا على ما صنعت يداه! ولا شك أن هذا منتهى التواضع: من الشيخ الأكبر، ومن الدرويش الأصغر على السواء! لكن الذى حدث هو أن الدكتور الأزهرى قد لقن الشيخ الأكبر درسا لا أظنه هو ولا من وراءه أو أمامه أو عن أيمانه أو عن شمائله من دراويشَ تابعين أو سادةٍ متبوعين سيَنْسَوْنه أبد الآبدين ولا دهر الداهرين! لقد بدأ الدكتور الأزهرى كلامه بالحمد لله والصلاة على النبى واستعاذ بالله من شرور النفس ومن سيئات الأعمال، وأطال فى هذه الديباجة، وأنا أستحثه بينى وبين نفسى أن يدخل فى الموضوع خوفا من أن يقاطعه فيصل القاسم فى الوقت الحرج ويقول له كعادته: "الوقت يداهمنا". لكنى لم أكن أعرف أن كلمات الشيخ ستنزل على رأس الأركون كما تنزل "تعزيمة الرفاعى" على رأس الحَنَش الذى يريد استدراجه من داخل الجدار، فتطيّر صوابه فلا يستطيع حولا ولا طَوْلا، بل يقع فى يده ويستسلم كما يخرج الثعبان من الشق الذى يختبئ فيه رافعًا الراية البيضاء لراقى الثعابين! أعاذنا الله من الثعابين ومن شر الثعابين: من المنسوبين إلى جنس الآدميين، قبل ثعابين الحَيَاوين! قولوا معى بصوتٍ واحد، وعلى قلب رجلٍ مؤمنٍ واحد: آمين، يا رب العالمين! وأسمعونى كذلك الصلاة على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين! المهم أننى من يومها كلما جاءت سيرة الحلقة أجدنى أردد قائلا: "لقد أكل الشيخُ الأزهرى البروفسيرَ السربونى!". لهذا، ولكل هذا، ولا شىء غير هذا، ألفيتُنى أبتهج لمرأى د.الخولى وأتشوق إلى متابعته مرة أخرى وهو يتكلم بطريقته المميزة راسمًا بذراعه ويده اليسرى زوايا قائمة فى الهواء ومشيرًا بسبابته فى حسمٍ وحدّةٍ ناحية الخصم كأنه يفقأ بها عين الباطل اللئيم مضيفا على نحو مفاجئٍ خاطفٍ كلمةَ: "ثمّ"، ومتمهلا قليلا قبل أن يشفعها بالجملة التالية ثم سائر الجمل من بعدها بحروفها التى تبدو وكأنها صادرة جميعها من الحلق، وعلى رأسه طاقيته الداكنة المكبوسة الظريفة التى يكمن فيها السحر والظرف كله! وأشهد أن الشيخ الأزهرى لم يخيب ظنى ولا رجائى هذه المرة أيضا، بل إنى لأعتقد أنه قد تفوق فيها على نفسه. وكان من بركاته أن استفز خَصْمُه مقدِّمَ الحلقة منكرًا ما كان قد قاله قبل الدخول إلى مكان التصوير وأعلن فيه ما تكنه أطواء ضميره من كراهية للإسلام وحملة تجاوزت جميع الحدود على آيات القرآن مما لم يستطع أن يواجه به الجمهور ولا أن يصمد به للشيخ فى الحوار الذى دار بينهما على الهواء أمام الملايين، فما كان إلا أن وجَّه له د. فيصل القاسم بدوره لكمة أخرى جعلته يترنح وهو يتصايح مُنْكِرًا دون جدوى، والقاسم يؤكد بقوة واستخفاف أن كل شىء قاله قبل بدء الحلقة مسجَّل، وأنه لا يفترى عليه فى قليل أو كثير! وهكذا لحق محمد ياسر شرف بأركون (الذى جعله الله سَلَفًا ومثَلاً للآخِرين) غير مأسوف على أى منهما! والدكتور شرفٌ بالمناسبة، حسبما أخبرنى صديقٌ حلبىّ البارحةَ عقبَ انتهاء البرنامج، هو أستاذ سورى كان يشتغل ناظرا لإحدى المدارس الثانوية بدمشق قبل أن يسافر للعيش فى لندن.(/3)
وهكذا بدأت الحلقة، وكانت بداية القصيدة كفرا، إذ لم يترك لنا د.شرف فرصة نستعد فيها لما يقول، بل أخذ يمطرنا من البداية باتهام معلِّمى اللغة العربية والدين فى المدرسة جميعا بالكذب قائلا إن مدرس العربية يكذب على التلميذ زاعما له أنه سوف يبدأ معه من الآن دراسة العربية، أما ما كان يتكلمه قبل ذلك فليس من تلك اللغة فى شىء. ومن ثم فهذا المدرس، حسب زعم د.شرف، يحكم على الفترة التى قضاها الطفل قبل أن يبدأ درس النحو بأنها ضاعت من حياته دون جدوى! ولا أدرى أين يوجد ذلك المدرس خارج أوهام صاحبنا الرديئة السخيفة. لقد درَسْنا القواعد النحوية والصرفية فى المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعة، فلم نقابل مثل هذا الأستاذ. بل إن كثيرا من أساتذة اللغة العربية ليشرحون دروسهم بالعامية. وكل ما يمكن أن يقوله الواحد منهم فى هذا الصدد أن الفصحى هى لغة القراءة والكتابة، أما العامية فللكلام والمطالب اليومية فى البيوت والشوارع والمقاهى والأسواق وما إليها، مثلما قلنا ونقول، وسنظل نقول، إن المنامة للبيت والسرير، بخلاف البدلة، فهى للحفلات والمناسبات الاجتماعية والرسمية الهامة. فأين الكذب هنا؟ والعجيب أن الرجل كان يتكلم بلغة فصحى سليمة إلى حد كبير، ودون تلكؤ أو تلعثم. والفضل بطبيعة الحال، بعد الله، لمدرسى اللغة العربية الذين جازاهم سعادته جزاء سنمار! ترى بأية لغة غير العامية المتخلفة كان سيتكلم لولا فضل هؤلاء الأساتذة الذين يرميهم سيادته بالكذب جريا على أسلوب المثل السائر: "رمتنى بدائها، وانسلَّتِ"؟ ثم لماذا يَقْصِر الاتهام بالكذب على مدرسى اللغة العربية دون سائر المدرسين، وهؤلاء يقعون فيما هو أشد مما يتهم به أولئك زورا وبهتانا؟ ألا يقول مثلا مدرس الكيمياء لتلاميذه إن ذرة الماء تتكون من ذرة أوكسجين وذرتى هيدروجين؟ أوقد عاين أىٌّ منا ذلك؟ إننا لا نعرف ماءً إلا ذلك الذى ينزل من الصنبور أو يجرى فى الترع والقنوات أو يهطل من السماء! لكن الأستاذ المتكلم إنما قصد ذلك قصدًا بغية التحقير من شأن اللغة العربية لأنها لغة القرآن الكريم رغم أن موضوع الحلقة لا تربطه أية واشجة بدروس النحو والصرف! وهذا ما عناه القرآن المجيد حين تحدث عن طائفة من الناس فنبَّه الرسولَ عليه السلام إلى أن من السهل معرفتهم من لحن القول، وهو شىءٌ قريب مما نسميه الآن بـ"فلتات اللسان".
وكما قصد الرجل أن يحقر من لغة القرآن باتهام مدرسيها ضلالاً منه ومَيْنًا بأنهم، حين يعلّمون التلاميذ قواعد النحو والصرف، إنما يمارسون كذبا بشعا عليهم، كذلك قصد الإساءةَ الجِلْفَة الغبية للدين حين اتهم مدرسى الفقه، ضلالاً أيضا منه ومَيْنًا، بأنهم إنما يكذبون أفظع الكذب على التلاميذ حين يقولون لهم إن ما يُغْسَل من أعضاء الجسم فى آخر الوضوء هو الرِّجْلان إلى الكعبين، بينما الذى يحدث فى الواقع هو غسل المشطين إلى الكعبين، وهو خطأ فى زعمه، إذ الرِّجْل عنده إنما هى الساق والفخذ. وهذا كلام فى منتهى الخطورة، فتهمة الكذب والجهل فيه موجهة، فى الحقيقة، لا إلى مدرسى الفقه، بل إلى الرسول والقرآن. ترى من أين أتى مدرسو الفقه بتفسيرهم هذا؟ أليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذن فلو كان هناك كذب وجهل لكان مصدرهما هو الرسول، الذى لم يشأ صاحبنا أن يتهمه اتهاما مباشرا، بل آثر أن يلدغ لدغته السامة على نحو خبيث خفى، فلا يمكن المشاهد اكتشافها إلا فيما بعد عندما يبدأ ذهنه بالعمل، ويكون سعادة الأستاذ قد فَطَّ راجعا إلى لندن! نفس الطريقة الخبيثة التى تحدث عنها أخ له من قبل فى مصر قائلا إن أسلوبه (يقصد أسلوبه فى الكيد للإسلام) هو: اضرب، واهرب قبل أن يتمكنوا من الإمساك بك!(/4)
والواقع أن الكذب والجهل إنما هما نصيب من يتهم الرسول والقرآن بهما، فمعروف أن أول معنى من معانى "الرِّجْل" فى اللغة هو "القدم". وهذا واضح من قولنا: فلان راجل، أو ماشٍ على رجليه، أو مترجِّل عن دابته. ومنه قول القرآن فى الآية الخامسة والأربعين من سورة "النور": "والله خلق كل دابّة من ماء: فمنهم من يمشى على بطنه، ومنهم من يمشى على رِجْلَيْن، ومنهم من يمشى على أربع"، وقوله فى الآية المائة والخامسة والتسعين من سورة "الأعراف": "ألهم أرجلٌ يمشون بها؟". ومنه أيضا قوله عز شانه: " َلأُقَطِّعَنَّ أيديكم وأرجُلكم من خِلاف" (الأعراف/ 124، والشعراء/ 49)، وقوله جل جلاله: "يومَ يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم" (العنكبوت/ 55)، وقوله سبحانه لعبده داود: "اركض برِجْلِك" (ص/ 42)... إلخ. أم ترى الفلحاس يفهم من تلك العبارات أنهم يمشون على أفخاذهم وسيقانهم أو أن العذاب سوف يأتيهم من تحت أفخاذهم وسيقانهم أو أن داود عليه السلام كان يركض على فخذيه وساقيه؟ إن مصير من يفهم مثل هذا الفهم لمعروف، ألا وهو أخذه إلى أقرب مستشفى للأمراض العقلية! وعلى هذا فلا كذب ولا جهل إلا عند الشتّام الهجّام بلا وازع أو لجام! وحتى لو أدخلنا فى معنى "الرِّجْل" الفخذ والساق ، فالمفهوم أن تكون بداية الرِّجْل من القدم لا من الساق أو الفخذ، إذ القدم هى الجزء المنفصل من الرِّجْل، أما الساق والفخذ فهما متصلان بغيرهماـ وعلى ذلك فعندما يقول القرآن: "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين" فليس لذلك من معنى فى حالة الوضوء إلا غسل القدمين من أسفلهما صعودا إلى الكعبين، وإلا فهل يريد حضرته منا، إذا ما أردنا أن نتوضأ ونغسل أرجلنا فى المسجد، أن نخلع سراويلاتنا وتبابيننا ونكشف عن سوآتنا على ملإ من الناس أجمعين؟ وهل تراه هو يفعل ذلك، أقصد: هل كان يفعل ذلك أيام أن كان يصلى ويتوضأ؟ انظروا إلى هذا التنطع الثقيل الظل والروح لتعرفوا إلى أى مدى يتساخف تلامذة الاستعمار والمستشرقين والمبشرين فى حربهم للإسلام!(/5)
وكان الرجل قد أتى للحلقة ليدعو بما يدعو به الأمريكان من وجوب حذف النصوص القرآنية والحديثية التى تحض على الجهاد فى سبيل الله أو تصف من لا يؤمن بمحمد والقرآن بالكفر، من المقررات الدراسية. ومن الواضح أنه، فى النقاش الذى دار بينه وبين د. فيصل القاسم قبل بدء الحلقة، قد أعلن عن نفسه وأهدافه بكل وضوح، أما على الهواء وأمام الجمهور فكان يلف ويدور، ولكن عَلَى من؟ عَلَى بابا؟ لقد كانت اللعبة مكشوفة تماما رغم الزعم الكاذب بأنه لا يريد حذف هذه النصوص، بل مجرد تأجيلها لمرحلة لاحقة. إلا أن هذه البهلوانيات اللفظية والفكرية لم تستطع أن تخفى سوأة نياته وأهدافه، إذ لما سئل: ومتى يمكن للتلاميذ أن يتعلموا هذه النصوص؟ كان جوابه أن قراءتها لا بد أن تقتصر على المتخصصين لا تعدوهم. أى أنه لن يقرأ هذه النصوصَ إلا المشايخ الكبار، ولا سبيل إلى وضعها بين أيدى غيرهم بأية حال، وهو ما يعنى أنها ستتحول إلى نصوص ميتة لا غناء فيها، اللهم إلا لمن يريد أن يبلّها ويتناولها على الرِّيق فتطرد البلغم من صدره، والديدان من أمعائه، وتحمِّر خدوده، وتبرم كعوبه! وسلِّم لى على الجهاد والعزة والكرامة يا أبو كرامة! أما أنتِ يا أمريكا فقد "خلا لك الجوّ، فبِيضِى واصْفِرى، ونقِّرى ما شئت أن تنقِّرى". نعم خلا لك المجال الجوى فى بلاد المسلمين فطِيِرى بطائراتك وأطلقى صواريخك فيه وامرحى على راحتك تماما، واصفرى بقنابلك التى تدمر البيوت على رؤوس من فيها من المساكين الوادعين الذين لم يدوسوا لك على طرَف، وانقرى عيونهم وابقرى بطونهم ولا تأخذك بأحد منهم رحمة، فهم أولاد كلب وخنازير لا يستحقون مصيرا أفضل بل أسوأ من مصير الهنود الحمر! أليسوا أبناء محمد؟ أليسوا قد تخرجوا من مدرسة القرآن؟ اضربى يا أمريكا بكل ما عندك من وحشية وجبروت، فالفرصة الآن سانحة كما لم تسنح لك من قبل، فها هو فريق من أبناء المسلمين أنفسهم ينصرك على بنى قومه، ويمدك بما تريدين أن تعرفيه من أخبارهم، وينشر بينهم التخذيل والإحباط والتيئيس وروح الهزيمة والتشكيك فى القرآن والحديث ونبوة محمد وحضارة العرب والإسلام، ويقوم بدلا منك بالمهام القذرة. ترى ماذا تريدين أفضل من هذا؟ اضربى! اضربى الرجال والنساء والأطفال والبيوت والمدارس والمستشفيات والمصانع والمتاحف والمساجد والمخابئ والحقول والجسور والمطارات والسيارات... اضربى بكل قسوةٍ هؤلاء البهائم الذين لا يفهمون ولا يتحضرون ولا يريدون أن يسلّموا لك رقابهم طواعية كى تجزريهم وتمصمصى عظامهم براحتك دون أن يعكّر عليك الجَزْرَ والمصمصمةَ مجاهدٌ منهم لئيمٌ أو عالمٌ زنيم. ثم ما هذه السحنة العابسة المكرمشة التى يطالعك بها أمثالُ الشيخ إبراهيم الخولى؟ وما هذه اللغة الأزهرية التى أكل عليها الدهر وشرب؟ لماذا لا يتقمَّع ويتقمَّش ويتحذلق بمصطلحاتك الفارغة من المضمون والتى تخترعينها وتغادين بها الدنيا صباح مساء لتبرجلى بها عقول المتخلفين ويبتسم تلك الابتسامات اللزجة السخيفة التى يبتسمها المستر شرف والمسيو أركون؟ لا، لا. اقتلوه هو وأمثاله يَخْلُ لكم وجه الدنيا وبترولها وكل لذائذها. لقد فعلتموها بكل نجاح واقتدار مرة من قبل مع الهنود الحمر، وفعلها الإسبان مع أجدادهم فى الأندلس، وها هى ذى الفرصة مواتية الآن تمام المواتاة لكى تفعلوها كرة أخرى، فهيا هيا يا أبناء العم سام يا سادة العالم، وأَرُوا هؤلاء البهائم النجوم فى عز الظهر الأحمر! ثم لا تنسَوْا فى ذات الوقت أن تتهموا أولئك الجواميس والأبقار بالإرهاب. قولوا لهم: أنتم قتلة! أنتم لا تحترمون إنسانية الآخر. أنتم ما تزالون تؤمنون بدينكم، وهذا يزعجنا وينغص علينا بالنا، أفلا تفهمون؟ إننا سادة العالم، ولا نريد لأحد أن يفتح فمه أمامنا بكلمة. وأنتم لا تكفون عن الكلام، فليس لكم عندنا إلا الإبادة. إننا نعرف أن كثرة كلامكم ليست إلا مظهرا من مظاهر عجزكم عن الدفاع عن أنفسكم فى مواجهتنا، لكننا لا نريد منكم ولا حتى الكلام لأنه مزعج لراحتنا وآذاننا.(/6)
وبالمناسبة فهذه الدعوة إلى حذف بعض النصوص القرآنية التى تزعج اللصوص والقتلة الدوليين المتخصصين فى سرقة الأوطان من شعوبها وإبادة أهليها ليست وليدة اليوم، ولا هذه الجهود الوقحة الآثمة الكافرة لوضع هذه الدعوة الإجرامية موضع التنفيذ هى بنت اللحظة الراهنة، بل قامت الجهات الصهيونية والصليبية العالمية من قبل فى الستينات من القرن الماضى بتحريفات فى مائة ألف نسخة من المصحف الشريف وزعها الأوغاد فى بعض جهات إفريقيا وآسيا بلغت المئات حذفوا فيها حروف النفى من مثل قوله تعالى: "وقالت اليهود: ليست النصارى على شىء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شىء" (البقرة/ 113)، وقوله تعالى: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبَل منه" (آل عمران/ 85)، بل إنهم حذفوا نصوصا أخرى كاملة من المصاحف التى وزعوها فى أرض فلسطين المباركة مثل قوله سبحانه: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يُخْرِجوكم من دياركم أن تَبَرّوهم وتُقْسِطوا إليهم. إن الله يحب المُقْسِطين* إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تَوَلَّوْهم, ومن يتولَّهم فأولئك هم الظالمون" (الممتحنة/ 8- 9). ويعلق د.لبيب السعيد على هذا الإجرام والكفر قائلا إن الهدف من وراء ذلك "هو صرف الأنظار عن جرائم إسرائيل التى ارتكبتها فى حق العرب وإخراجهم من ديارهم" (انظر كتابه "الجمع الصوتى الأول للقرآن أو المصحف المرتل"/ ط2/ دار المعارف/ 372). وهؤلاء المجرمون، إذ يفعلون هذا، إنما يجرون على سنة التحريف التى جَرَوْا عليها فى كتبهم من قديم، فهم لا يأتون شيئا غريبا عن طبائعهم. وهذا يعطينا فكرة عما جُبِلوا عليه من دناءة وخسة لا تليق بمن يزعمون أنهم يريدون تحضرنا وتقدمنا، فهذه الأساليب ليست أساليب الأطهار الشرفاء، ولا هى تلائم التحضر والتقدم فى شىء.
كذلك انبرى د.محمد ياسر شرف هو ومعضِّداه اللذان دخلا على الخط من أوربا فى فاصل من الحِنِّيّة والعطف والتباكى على أهل الكتاب المساكين الملائكة الطيبين الذين كتب عليهم حظهم التعيس أن يعيشوا فى بلاد الإسلام، متهمين المسلمين بأنهم ينفون الآخر ولا يعترفون بحقه فى الاعتقاد على النحو الذى يريد! ولو أن الكلام اقتصر على هذا السخف لهان الأمر ولما بالينا بالرد عليه، فالمسلمون الآن لا يستطيعون أن يقتلوا ذبابة، والأقليات فى بلادهم هى أعز الأقليات فى العالم جانبا هم ودور عبادتهم وأوقافهم ورجال دينهم، بل هى فى بعض الأحيان أعز منهم هم أنفسهم. لكن الطامة العظمى أن المتكلمين قد اندفعوا فى معزوفة من المغالطات الوقحة والاتهامات الحقيرة الموجهة إلى الرسول الكريم والقرآن العظيم الذى جاء به بما لا يمكن أن يكون له من معنى إلا أن محمدا هو مؤلف القرآن وأنه كان شخصا ميكيافيليا فى أخلاقه وسياسته، جريئا على تطويع النصوص والتلاعب بها حسبما يحلو له بما يخدم مصلحته ويتناقض مع كل قيمة أخلاقية كريمة دون أن يَزَعه عن ذلك وازع! كيف ذلك؟
لقد ادعَوْا أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد أثنى على أهل الكتاب فى مكة حين كانت العلاقة بين الفريقين صافية لم تتكدر كما تكدرت لاحقا فى المدينة بعد مهاجَره عليه السلام إليها واحتكاكه باليهود ثم النصارى من بعدهم واشتعال الخلافات والمعارك بينه وبينهم مما كان من نتيجته توالى الآيات التى تلعنهم وتكفّرهم، ناسيا أنه كثيرا ما شهد لهم بالإيمان فى قرآنه أيام مكة قبل أن تتوتر بينهما الأمور. وهو بعينه ما يقوله المستشرقون والمبشرون، أى أن أصحابنا لم يأتوا بشىء من عندهم. وهو كلام قديم لا يكف الدارسون الغربيون عن لَوْكه فى تنطع وسخف ما بعده سخف رغم معرفتهم التامة أنهم يكذبون. وهذا مثل دعوى بوش وبلير بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل رغم معرفتهما التامة أن ذلك كذبٌ أبلق، لكن الهدف البعيد يستحق أن ترتكب أمريكا وبريطانيا له الكذب والقتل والتدمير للعراق وأهل العراق وحضارة العراق، مع تشغيل الإسطوانة المشروخة بأنهم إنما جاؤوا للعراق ليعيدوا إعماره وينشروا فيه الديموقراطية! ومن الطبيعى أن إعادة الإعمار تستلزم أن يكون هناك خراب، ولما لم يكن العراق على أيام صدام خربا كان لا بد من نشر الخراب والدمار فيه حتى يمكن أن يكون هناك إعمار. كذلك فالعراقيون الحاليّون غير مستعدين للديمقراطية، أو لا يستحقونها بالأحرى، ومن ثم فلا بد أيضا من استئصالهم وإفساح الطريق أمام جيل جديد يستطيع أن يتذوق الديمقراطية التى جلبتها له أمريكا: فهذا شىء لزوم الشىء!(/7)
والواقع أن فى كل من الآيات المكية والمدنية ثناءً على أهل الكتاب وتبشيرا لهم بحسن العاقبة، وتكفيرًا لهم كذلك ولعنًا، فليس الأمر إذن كما زعم أصحابنا كذبا ومَيْنا أن الساسة الميكيافيلية هى التى اقتضت أن يمدح محمد أهل الكتاب فى مكة، ثم ينقلب عليهم فيذمّهم فى المدينة! لكن يبقى هناك سؤال مهم، ألا وهو لماذا مدحهم القرآن أحيانا، وذمَّهم أحيانا أخرى؟ وجوابنا أن لكل فرد أو جماعة من البشر عدة جوانب بحيث يمكن أن نمدحهما باعتبار، ونعيبهما باعتبار آخر، وأهل الكتاب لبسوا بدعا بين البشر حتى يمكن استثناؤهم من ذلك. والقرآن حين يمدح أحدا من أهل الكتاب فإنه لا يمدحه بوصفه يهوديا أو نصرانيا بل بوصفه مسلما قد آمن بمحمد وانصاع للحق الذى جاء به، ولم يدفعه التعصب الأعمى لما ألفى آباءه عليه إلى رفض الدعوة النبيلة العظيمة التى أتى بها الرسول من لدن رب العالمين. وسوف أجتزئ ببعض الآيات من كل من الوحى المكى والمدنى للتدليل على ما أقول حتى يسقط الهراء الباطل السفيه الذى يصدّعنا به الباحثون ورجال الدين الغربيون ومن جرى فى ركابهم وتعلق بأذيالهم من بيننا.
لقد ادعى أصحابنا الثلاثة، كما رأينا، أن القرآن الذى نزل بمكة لا يذكر أهل الكتاب إلا بخير، فما رأيهم فى النصوص المكية التالية التى تحمل عليهم حملة شديدة وتدمغهم بأحكام عنيفة؟ قال تعالى: "ومِنَ الذين هادوا حرَّمْنا كل ذى ظُفُر، ومن البقر والغنم حرَّمْنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورُهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم. ذلك جزيناهم ببغيهم، وإنا لصادقون" (الأنعام/ 146). وفى سورة "الأعراف" التالية لسورتنا هذه يحكى القرآن الكريم فى آيات بعد آياتٍ قصة موسى مع بنى إسرائيل، فلم يترك مثلبة إلا ودمدم بها على رؤوسهم ولعنهم وتوعدهم بمصيرٍ فظيعٍ جرّاءَ عنادهم وكفرهم بنبيهم وكتابهم وعصيانهم لربهم وصلابة رقابهم وعقولهم وقلوبهم مما يجده القارئ بدءا من الآية 138 حتى الآية 178، ومثله موجود فى سورة "طه". فما القول فى هذا أيضا؟ كما نجد فى أوائل سورة "الإسراء" نبوءة خاصة بالإفسادين اللذين سيرتكبهما بنو إسرائيل والتأديب الذى قدّره الله عليهم جزاء لهم على الإفساد الأول منهما... إلخ. فما القول فى هذا أيضا؟ كذلك نسمع فى ختام صدر سورة "مريم" حملة على ما انحرف إليه بعض أتباع عيسى من عبادتهم له عليه السلام وُصِفوا أثناءها بالكفر فى عبارة صريحة لا تحتمل لبسا ولا تأويلا: "ذلك عيسى بن مريم قولَ الحق الذى فيه يمترون* ما كان لله أن يتخذ مِنْ وَلَد. سبحانه! إذا قضى أمرا فإنما يقول له: كن، فيكون* وإن الله ربى وربكم، فاعبدوه. هذا صراطٌ مستقيم* فاختلف الأحزاب من بينهم، فويلٌ للذين كفروا من مشهد يوم عظيم"، ومثله موجود فى سورة "الزخرف". فما القول فى هذا أيضا؟ بل إن المسلمين الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة وجدوا أنفسهم، بسبب من هذه الآيات، فى حَرَجٍ أمام النجاشى وحاشيته وبطارقته عندما سُئِلوا، بتحريض من رسولَىْ قريش اللذين لحقا بهم ليؤلبا عليهم الملك ورجاله، عن حقيقة اعتقادهم فى المسيح، لكنهم رضى الله عنهم لم يداهنوا فى دينهم وقرأوا الآيات متوكلين على الله، فلم يخذلهم بل حنَّن عليهم قلب الملك الطيب الذى استطاع بنبل بصيرته أن يرى عظمة دين محمد والذى أرجع الرسولين القرشيين بخُفَّىْ حُنَيْن!
هذا فى جانب الذم، أما فى جانب المدح فإلى القارئ هذه الشواهد التى يمكنه أن يقيس عليها ما لم نذكره. قال سبحانه: "والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أُنْزِل إليك" (الرعد/ 36). فما القول فى هذا؟ وقال أيضا عز شأنه: "وقرآنا فرَقْناه لتقرأه على الناس على مُكْث، ونَزَّلناه تنزيلا* قل: آمِنوا به أو لا تؤمنوا. إن الذين أُوتُوا العلم من قبله إذا يُتْلَى عليهم يخِرّون للأذقان سُجَّدا ويقولون: سبحان ربنا! إنْ كان وعد ربنا لَمفعولا* ويخِرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا" (الإسراء/ 106- 109). فما القول فى هذا أيضا؟ وقال جل جلاله: " ولقد وصَّلْنا لهم القولَ لعلهم يتذكرون* الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون* وإذا يُتْلَى عليهم قالوا: آمنّابه. إنه الحق من ربنا. إنا كنا من قبله مسلمين" (القَصَص/ 51- 53). فما القول فى هذا أيضا؟(/8)
ومثل هذا فى المعنى والتفسير ما نجده من ثناء على بعض أهل الكتاب فى الوحى المدنى من مثل قوله جل جلاله: "وإِنّ مِنْ أهل الكتاب لمََنْ يؤمن بالله وما أُنْزِل إليكم وما أُنْزِل إليهم خاشعين لله، لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا. أولئك لهم أجرهم عند ربهم" (آل عمران/ 199). فما القول فى هذا؟ ولقد استشهد د.شاكر النابلسى (أحدُ من اتصلوا بالبرنامج لمناصرة د.محمد ياسر شرف،) بالآية 114 من سورة "آل عمران" زاعما أنها تمدح أهل الكتاب وتصفهم بأنهم "يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف ويَنْهَوْن عن المنكر"، مع أن الآية السابقة عليها مباشرة تنص نَصًّا على أن الكلام إنما يدور على طائفة منهم فقط لا عليهم كلهم، قائلة عن أفراد هذه الطائفة إنهم "يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون"، بما يعنى أنهم كانوا قد آمنوا بالقرآن وباتوا ليلهم يتلون آيات الكتاب الذى نزل على محمد، ويسجدون لربّ محمد سبحانه وتعالى، فضلا عن أن وصفهم بالإيمان بالله واليوم الآخر لا يدل إلا على شىء واحد لا غير، ألا وهو الإيمان بمحمد ودينه وكتابه، إذ إن رفض الإيمان ولو بنبىٍّ واحد معناه الكفر بالله واستحقاق العذاب المهين حسبما وضحتْ لنا الآيات 150- 152 من سورة "النساء"، كما أن من شروط الإيمان بالآخرة الإيمان بالقرآن كما جاء فى الآية 92 من سورة "الأنعام".(/9)
ويلاحظ القارئ أن د.النابلسى قد مزَّق آية "آل عمران" عن أختها السابقة عليها التى تشير إلى أن أهل الكتاب الذين تمدحهم إنما هم الذين دخلوا فى الإسلام وصاروا من أتباع محمد عليه السلام، وكانوا يقضون ليلهم فى تلاوة كتاب الله. وهذا التمزيق هو شِنْشِنَةٌ معروفة عند كل من يحاربون القرآن استغفالاً منهم للمستمع الذى لا يكون عنده فى مثل هذه الظروف من الوقت ولا من فراغ البال ما يساعده على التنبه لهذا التزوير الجلف! ود.النابلسى، لمن لا يعرف، هو كاتب أردنى مقيم بأمريكا ويناصر ما تفعله أمريكا بالعراق من قتل وتدمير للبيوت والمتاحف والجسور والشوارع، واغتصاب للحرائر وتلطيخ للرجال بالخراء وإجبارهم على أن يفعل الأب منهم بأولاده والأولاد بأبيهم الفاحشة وغير ذلك من بشاعات وفظائع مما انكشف أمره من أهوال سجن أبو غريب، وسرقةٍ لنفط العراق وتهديدٍ لسائر الدول والشعوب العربية بنفس مصير العراق، زاعما أن هذا الإجرام البربرى الوحشى الذى لا يدع شيئا إنسانيا أو حضاريا إلا دمره كما كان يفعل المغول قديما، ليس احتلالا ولا استغلالا، وأن الذين يقولون بغير ذلك إنما هم متشنجون عُمْىٌ لا يستطيعون أن يبصروا الأمل الذى جاءت جيوش الاحتلال الأمريكى المجرم لتحقيقه! ويمكن الرجوع فى ذلك لما كتبه هو نفسه فى مقاله المنشور بالصفحة السادسة عشرة من جريدة "الراية" القطرية يوم الثلاثاء 12 أكتوبر 200 م عن الإرهاب بالعراق. يقصد الكفاح المقدس ضد قوات الشيطان الأمريكى المجرم فى ذلك البلد العزيز. وهو يعزو هذا الإرهاب إلى عدة عوامل على رأسها ما يسميه: "أنظمة التعليم الدينى" فى بلادنا! وعلى نفس الوتيرة يشن هذا الرجل (الذى قرأت أنه فلسطينى يتنكر لأصله) على الكفاح البطولى العظيم لأهل فلسطين هجوما ناريًّا حاقدا متهما العمليات الاستشهادية بأنها انتحار لا معنى ولا موضع له فى حياتنا السياسية المعاصرة، ومدافعا عن إسرائيل وأمريكا فيما تفعلانه بحجة أنهما تعتمدان على الشرعية الدولية، إذ إن قيام إسرائيل على أرض فلسطين يمثل فى نظره تلك الشرعية الدولية، وعلى العرب والمسلمين والفلسطينيين أن يخرسوا فلا يفتحوا أفواههم بكلمة (صحيفة "العراق الجديد" الألكترونية/ 16أكتوبر 2004م بعنوان "هل حقا أن القرضاوى يعتبر داعية وسطيا معتدلا؟"). وهو يرى فى مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذى تدعو إليه أمريكا هذه الأيام ، والذى يهدف إلى تركيع العرب والمسلمين للهيمنة الأمريكية والصهيونية، هِبَةً ثمينة يريد العم سام (عليه السَّام، والموت الزُّؤَام) أن ينشر من خلالها الديمقراطية والحكم الصالح وبناء المحتمع المعرفى. بل لقدوصف أمريكا بأنها رَبَّة هذا الكون، أى هى المسؤولة عن مصلحته، ومن حقها إذن أن تتدخل فى شؤون الدول لتعديل المعوج من أوضاعها بغية القضاء على الإرهاب العالمى (حلقة "الاتجاه المعاكس"بتاريخ الثلاثاء 16/ 3/ 2004م). وفى موضع آخر نراه يكتب مؤكدا بكل قوة أن الدولة التى أقامها الرسول عليه السلام والخلفاء الراشدون لا تصلح لنا الآن لتخلفها عن الآماد التى بلغها تقدم الدولة الحديثة. وهذا الكلام موجود فى جريدة "الحوار المتمدن" اليسارية الألكترونية فى عددها رقم 981 الصادر فى 9/ 10/ 2004م تحت عنوان "الإجابة على سؤال: لماذا دولة الرسول والخلفاء الراشدين لا تصلح لنا الآن ؟". وبالمثل نجده يتغنى بخلال ملك الأردن الرفيعة التى لا يستطيع شعبه المتخلف أن يجاريه فيها (نفس المصدر/ العدد 911/ 31 أغسطس 2004م)، كما لا يعجبه من مشايخ الأزهر على بكرة أبيهم إلا د.محمد سيد طنطاوى، الذى يجلّه غاية الإجلال ويراه المنفتح الوحيد بينهم (نفس المصدر/ العدد971/ 29 سبتمبر 2004م). أرأيت، أيها القارئ الكريم، السر وراء تشنج هذا الفريق كى يشطبوا، من المناهج الدراسية فى أوطان الإسلام، الآيات القرآنية والأحاديث المصطفوية التى تحض المسلمين على المناضلة من أجل عزة دينهم وأوطانهم وأنفسهم؟ إنها "ماما أمريكا" الحنون دائما وأبدا والتى أخذت فى أحضانها الدافئة كاتبنا الفلسطينى بعد الهجرة إليها من السعودية، التى كانت أما حنونا أيضا أيام الاتجاه الفكرى الأول، ولكن "كان زمان" كما تقول كوكب الشرق!(/10)
والعجيب الغريب أن د.النابلسى كان من أعنف المهاجمين للحضارة الغربية التى كان يتهمها بأنها حضارة مادية بحتة، على عكس الإسلام الذى يجمع بين المادى والروحى معا، ومن المنتقدين بقوة للنظام السياسى الغربى متهما إياه بالنفاق واللاإنسانية وازدواج المعايير حتى إنه ليفضل الديكتاتورية التى تنتهجها دول الكتلة الشرقية على الديمقراطية الرأسمالية لصراحتها فى رفض الديموقراطية وعدم التشدق الكاذب بها، كما كان من أشد المتحمسين للإسلام حضارةً وديمقراطيةً وعدالةً اجتماعية، مؤكدا أن الغرب قد أفاد من هذا الدين أعظم إفادةـ، وأن التنمية القائمة على أساس من مبادئ الإسلام خير من نظيرتها الغربية التى تفتقر إلى العنصر الإنسانى، وهو ما تجلى فيما حققته السعودية فى هذا المجال حيث استطاعت أن تختزل مراحل التنمية المتعددة التى كان على الغرب أن يمر بها كلها، وأن سياسة أمريكا الخارجية تقوم على "الظلم والقهر والاستبداد والحمق"، وأن إسرائيل هى جزء لا يتجزأ من نظامها السياسى، بل ولاية من الولايات الأمريكية، وليست مجرد دولة حليفة لها، وأن الشارع العربى يكره أمريكا إدارةً ودولةً وسياسةً ومنهاجًا، وأن شعوب العرب إذا كانت صابرة الآن عليها وعلى ما تفعله بها صبر أيوب فإن ذلك لا يمكن أن يظل قائما إلى الأبد، إذ لا بد يوما أن تثور على الذين أذاقوها كؤوس المذلة والهوان وسلطوا عليها أشقياء الأرض والعابثين فيها، وأنه لا مصداقية للعم سام فى إقامة الحق والعدل والسلام فى منطقتنا! وهو يدعو بكل قوة إلى عدم مهادنة إسرائيل والاستمرار فى حمل البندقية لإرهاقها واستنزافها، معطيا القضية الفلسطينية بعدها الدينى الذى يرى أنه لا يحتمل أى جدال أو تهوين، ومناديا بخروج اليهود من أرض فلسطين التى قدستها السماء إلى أرض الشتات التى جاؤوا منها، وموصيا أمته بالصبر والنفس الطويل، ومحذرا إياها من أن تصير إلى ما صار إليه الهنود الحمر على يد أمريكا، ومعضدا رأى من ينادون بضرورة قيام الوحدة بين الشعوب العربية على أساس إسلامى مستمد من الكتاب والسنة! بل إنه ليصف اللغة العربية بـ"المقدسة"، كما يهاجم عادل إمام هجوما أخلاقيا عنيفا متهما إياه بأنه، بأفلامه التافهة، مسؤول عن إفساد الأجيال الحالية، ومؤكدا أن المال الذى يكسبه من هذه الأفلام هو مال حرام! ويستطيع القارئ أن يرى مصداق ما نقوله فى كتبه: "الزمن المالح" و"محاولة للخروج من اللون الأبيض" و"قطار التسوية والبحث عن المحطة الأخيرة" مثلا التى صدرت له عام 1986م عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" فى بيروت. فما عدا مما بدا؟ هذه مسألة تحتاج إلى من يدرسها ليعرف الأسباب التى أدت إلى هذا التحول المريب فى حياة الرجل الذى سمعناه يصرخ فى حلقة برنامج "الاتجاه المعاكس" المذكورة متهمًا القرآن بالتناقض، زاعما أن التشريعات التى يتضمنها إنما هى أمور خاصة بمحمد وزوجاته ذات طبيعة آنية، ومن ثم لا تصلح لأن تكون تشريعات دائمة لأمة الإسلام!
وعودًا إلى ماكنا فيه نقول إنه حتى آيات سورة "المائدة" الخاصة بالنصارى والتى كثيرا ما يساء تفسيرها عمدا وخبثا أحيانًا، وعن سذاجة من جانب بعض المسلمين الذين لا يفهمون أحيانًا أخرى، هذه الآيات لا تمدح ذلك الفريق من أهل الكتاب بوصفه من أتباع النصرانية التى تسفِّهها كثير من الآيات السابقة عليها بدءا من الآية الرابعة عشرة، بل تمدحه لمسارعته للإيمان بالرسول محمد والآيات التى أنْزِلت عليه، ولخشوع قلبه وفيضان دمعه من شدة الوجد والتأثر بكلمات القرآن المجيد! والآيات موجودة لمن يريد أن يقرأها مفتوح العينين والقلب، وأرقامها هى 82- 86. وتبقى النصوص المدنية التى تحمل على أهل الكتاب، وهذه لا تمثل أية مشكلة، ومن ثم فلست أجد أى داع لإيراد شىء منها.(/11)
والآن، هل تشكِّل هذه الآياتُ التى تصم هؤلاء القوم بالكفر عدوانا على حقوق الإنسان؟ أبدا لا تمثل شيئا من هذا القبيل على الإطلاق، فكل أهل دين ومذهب وفلسفة ونظام، سياسيا كان أو اقتصاديا أو اجتماعيا، يعتقدون أنهم على الحق، وغيرهم على الباطل. وإن أمريكا نفسها التى برعت فى الآونة الأخيرة فى رفع هذه اللافتات والشعارات لتردد جهارا نهارا أن نظامها السياسى وقيمها الاجتماعية وفلسفتها الاقتصادية هى المثال الأعلى الذى يجب على البشر جميعا، شاؤوا أم أبَوْا، أن يعتنقوه، وهاهى قد أتت للعراق لكى تسقيه لنا، لا بالملعقة الصينى التى كان يُضْرَب بها المثل قديما على الترف والدلال، بل بالملعقة الأمريكانى، أقصد بالجزمة الأمريكانى التى لا توقِّر شيئا ولا أحدا فى الدنيا مهما كان قدره! بل إن مسؤوليها ليتسابقون إلى شتم ديننا ورسولنا وربنا، فإذا ما اعترض بعضنا ممن لا يفقهون قيل لهم: هذه حرية تفكير وتعبير! طيب يا أخى، نحن أيضا نحب عيشة الحرية كما عبّر بالنيابة عنا منذ عشرات السنين موسيقار الأجيال! أليس كذلك؟ بلى هو كذلك ونصف وثلاثة أرباع، لكننا قد نسينا شيئًا مهمًّا جدًّا، وهو أننا لسنا أمريكيين، وهنا مربط الفرس (أو الحمار، لا فرق)، وطُظّ فينا وفى موسيقار الأجيال وكل الملحنين والمطربين معه أيضا فوق البيعة! إذن فليس فى الاعتقاد بأننى ناج يوم القيامة، ومن يخالفنى ذاهب فى ستين داهية، ما يمكن أن يكون افتئاتا على أحد، وبالمناسبة فهذا الآخر يعتقد بدوره فِىَّ ما أعتقده فيه. كل ما هو مطلوب ألا يكون مثل هذا الاعتقاد سببا فى عدوان أى منا على الآخر، سواء بالقول أو بالعمل. والمسلمون لا يقولون: "شَكَل للبيع"، فهم يقرأون قرآنهم لأنفسهم، ولا يجبهون به غيرهم. أما إذا آذاهم هذا الغير فى دينهم ولم يحترم رسولهم أو كتابهم فإنهم لا يملكون إلا الرد على هذا التهجم، ولا معنى فى هذه الحالة لاعتبارات المجاملة الزائفة التى تكبلّهم وتذلّهم وتحرّم عليهم أن يدفعوا عن أنفسهم صائلة العدوان. فهل فى الإسلام ما يتعارض مع هذا الكلام المنطقى الإنسانى؟ ولا شَرْوَى نقير! إن الإسلام يحرِّم على أتباعه تحريما قاطعا أن يبدأوا أحدا بالعدوان مهما كانت كراهيتهم له (المائدة/ 8)، بل إنه ليمنعهم حتى من سب الأوثان كيلا يكون ذلك سبيلا إلى سب الذات الإلهية واندلاع الفتنة من ثم، منبِّها المسلمين إلى أن كل قوم يَرَوْن دينهم أحسن الأديان (الأنعام/ 108).فأى خطإٍ فى هذا يا خَلْق هُوه؟ إننا لا نستطيع أن نتناول موسى أو المسيح وأمه عليهم جميعا السلام بكلمة سوء واحدة، على حين أن اليهود والنصارى لا يكفّون عن شتم سيد البشر والنبيين واتهامه بكل منقصة. ومع هذا يُتَّهم المسلمون، ويتظاهر غيرهم بأنهم حملان وديعة. أرأيتم خبثا وكيدا ولؤما كهذا اللؤم والكيد والخبث؟ على أية حال فالسبيل إلى إزالة هذا الخلاف هو أن يحتذى الطرفان الآخران ما يفعله المسلمون، فيكفّوا عن الشتائم البذيئة فى حق الرسول الكريم وقرآنه وأتباعه، ويدخلوا فى الإيمان به مثلما يؤمن المسلمون بموسى وعيسى ومريم ويدفعون عنهم قالات السوء التى يروجها عنهم سفلة البشر، أو على الأقل أن ينصرفوا إلى دينهم يمارسونه كما يحلو لهم دون أن يتطاولوا على شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. ترى هل فى ذلك شىء من الغموض أو الافتئات على أحد(/12)
فطرتنا الإسلامية لها أثر في مواجهة الحداثة
الكاتب: الشيخ د.سعيد بن ناصر الغامدي
مقتطفات من الحوار
• التعصب والقسوة سمة الشرطة والعسكر والمحاربين.
• واجب أهل الأمر والرأي من العلماء والولاة نصح الأمة وتعزيز قواها والتعبير عن إرادتها.
• التخلف والاختلاف قرينان إذا وجد أحدهما وجد الآخر.
هموم دعوية ومفاهيم ظهرت على الساحة العالمية، تستوجب على العلماء والدعاة أن يتعاملوا معها بشيء من الجدية مع قدر من الحذر، وتوظيفها التوظيف الصحيح في الثقافة الإسلامية، من مفهوم (المنهج المادي) إلى مصطلح (العولمة) مروراً بخطر المخططات الخارجية لتمزيق العالم الإسلامي، ودور المساجد والعلماء في هذه المرحلة، وانتهاءً إلى نفق (الحداثة).
تناقض المنهجيات القائمة
السؤال: يقول المفكر الاستراتيجي الأمريكي (هنتنجتون)ما نصه: "إنه طالما ظل الإسلام
وسيظل كما هو الإسلام، والغرب يظل -وهذا غير مؤكد- كما هو الغرب، فإن الصراع الأساس بين الحضارتين وأساليب كل منهما في الحياة سوف يستمر في تحديد علاقتهما في المستقبل!.
برأيكم لماذا يعلن الغرب عن تهديد الإسلام لوجوده في هذا الوقت بالذات ؟
الجواب: ما قاله (هنتنجتون) عن الصراع بين الإسلام والغرب يحمل في طياته لغة استعدائية استفزازية تحريضية، لإيقاد المحرك المعنوي للسياسات العامة الغربية، والموقظ الوجداني لاتجاهات خشي أن تصاب بالاسترخاء بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
وينطوي في الوقت ذاته على رؤية استشرافية حقيقية من جهتين:
الأولى: جهة الغرب النصراني المتحالف -في جملته- مع اليهود ضد المسلمين.
الثانية: جهة التناقض بين منهجين متعاكسين في الاتجاه.
- منهج الإسلام القائم على:
1- الإيمان برب خالق، إله له الأمر والحكم.
2- إنسان مكرَّم مشرف، واجب عليه السير على منهاج خالقه في كل شؤونه ومناشطه وعلاقاته وتصرفاته.
3- كَون مخلوق مسخَّر للإنسان، يعبد الله كما يعبده الإنسان ويؤاخيه الإنسان ويحبه ويرتاده؛ للاستفادة من سنن التسخير الكونية فيه.
- منهج الغرب القائم على أصل مادي وإنكار إلحادي يتمثل في:
1- جحد وجود الرب كلِّية، أو جحد علاقته بالإنسان والكون، أو أنسنة الإله كما يزعم بعضهم.
2- تأليه الإنسان وادعاء قدرته المطلقة على الاستغناء عن رب خالق وإله متصرف، والزعم أن الإنسان قتل الله –حسب تعبير (نيتشه) الذي أصبح شعاراً للعلمانية الليبرالية- تعالى الله عما يقولون.
3- ادِّعاء التطور المطلق والصيرورة الدائمة، بناءً على مادية الكون والإنسان.
مواجهة أهداف مخططات التقسيم
السؤال: يتحدث الكثير من المحللين عن مشاريع لتقسيم المنطقة، ومحاولة بعثرة قيمها؛ لإفراز أجيال جديدة تؤمن بقيم الغرب وإسرائيل -التي هي نواته في المنطقة -كقيم عالمية مشتركة.
من هو المستهدف بنظركم في هذه المشاريع: الإنسان المسلم بكل تاريخه وحضارته، أم النقط والثروة ؟
الجواب: المستهدف من هذه المشاريع وغيرها مما لم يعلن، إضعاف المسلمين وتشتيتهم وإبقائهم في دائرة العجز والضعف والهوان والتبعية.
وإبعادهم عن أي مجال للقوة المعنوية أو المادية، وإزالة مقومات النهضة والاتحاد والقوة، هذه هي الأهداف الكبرى، وتأتي أوجه تنفيذها من خلال الغزو المسلح، أو السيطرة السياسية أو الهيمنة الاقتصادية، أو إشعال الفتن بين المسلمين أو استغلال نقاط ضعفهم.
نعم في بلدان المسلمين من هو أداة لتمرير هذه المقاصد وتسويق هذه المطالب وترويج هذه المشروعات الاستكبارية، ويتمثل هذا في وكلاء التوزيع الغربي من العلمانيين الفكريين والإداريين.
وفي أبناء الإسلام من يقاوم هذه الخطط ويقيم البديل الأصيل، ويكشف زيف وخطورة وكلاء الغرب ومخططاتهم 0
السؤال: مع توغل الأزمات في جسد الأمة، وتدافع العدو لمحاصرتنا... برأيكم ما المطلوب من الجميع اليوم ونحن على قارب واحد، وسفن العدو تبحر إلينا بقوة مذهلة ؟!.
الجواب: الواجب أن يقوم أهل الأمر والرأي -من العلماء والولاة- بواجبهم في نصح الأمة وتعزيز قواها والتعبير عن إرادتها، والاهتمام بعزتها ومكانتها وائتلافها ووحدتها.
كما أن الواجب على الشباب أن يستبصروا وينيروا عقولهم بالعلم النافع والتجربة المؤكدة، ويتحركوا وفق معايير الشرع والعقل والبرهان والمصلحة، وليس بمجرد العاطفة الصادقة، بل عليهم -في حال النوازل والفتن- أن يضبطوا عواطفهم بالعقل الصحيح المستند على الدين المنزَّل، كما يجب على المتعقلين من المسلمين أن يتيحوا مجالا لعواطفهم الإيمانية الصادقة؛ حتى لا يتحولوا إلى مجرد منظرين، أو فلاسفة يتعاملون مع أسخن القضايا ببرود عقلي وشتاء ذهني، ويجب على الطائفتين احترام الأخرى، وإعذارها وتلمس جوانب الخير فيها والبناء عليه، والبعد عن التركيز على العيوب والنواقص وأسباب الافتراق والاختلاف.
توظيف (العولمة) .. ومواجهة الحداثة(/1)
السؤال: مع سطوع نجم العولمة انقسم المسلمون في النظرة تجاهها، فهل بالإمكان استغلال العولمة لإنضاج معرفتنا كمسلين، أم أن العولمة كائن مفترس لا يمكن مواجهته أو التعامل معه بأي طريقة كانت ؟!.
الجواب: العولمة لها -من حيث الجملة- جانبان:
الجانب الأول: فكري اعتقادي أخلاقي سلوكي، منهجي، ضمن إطار سياسي استعبادي استغلالي يقوم على فلسفة (افترس غيرك قبل أن يفترسك)، وعلى مبدأ (إسقاط الخصوصيات) الثقافية والأخلاقية والحضارية، وهذا يجب الحذر منه والتحرز من مخاطره وأمراضه، ومقدماته وتوابعه.
الجانب الثاني: تقني إداري مهاري معلوماتي، وهذا يمكن الاستفادة منه، وإسالة خبراته إلى أودية المسلمين.
ويجب التفريق بين هذين الأمرين تفريق يقوم على معطيات واقعية، وتحركات عملية وتصرفات ميدانية، وتنظيرات معلنة، وخطط مبرمجة، تفريق يعطي كل عاقل -ينتمي لأمته- القدرة على الفصل الحقيقي بين أهواء العصر ومقتضياته.
السؤال: الوقوف بوجه الحداثة كان أحد أهم سمات عملكم،هل يعتقد فضيلة الشيخ أن المجتمعات الإسلامية قد نجحت بوعيها الفطري بحقيقة الإسلام من تضييق الخناق على مثل هذه الأفكار الدخيلة؟
الجواب: لقد كان لرصيد الفطرة في قلوب المسلمين من الأثر ما جعل شبهات الحداثة والعلمنة تعيش في دوائر محدودة، كما كان لوقوف علماء الأمة ودعاتها ومثقفيها وأدبائها ما جعل زيف هذه المستوردات ينكشف بشكل كبير، ولكن هناك من أسباب بقاء هذه (الفيروسات) الفكرية ما نخشى معه انتشار هذه المذاهب الهدامة، واختطافها لبعض أبناء وبنات المسلمين، ومن هذه الأسباب:
1- الجهل بدين الله تعالى.
2- ظلم النفس بالمعاصي والذنوب والآثام.
3- الآلة الإعلامية الضخمة التي تشهر هذه الأمراض وتنشرها ،وتدعو إليها،وتزين أحوال المرضى الفكريين وتحسن من صورتهم.
4- الإحباطات والهزائم.
5- مواقف بعض الدعاة والعلماء والمتدينين التي قد توحي بالتخلف والجمود.
6- ضعف وسائل العرض المشوقة للدين وأحكامه، وآدابه، وضوابطه، ومعاييره،وثقافته.
7- الزهد المذموم في المشاركات الإعلامية،من قبل بعض الدعاة وطلاب العلم، والمثقفين.
8- التقليدية في عرض الأفكار ومناقشة الآراء ،وطرح النتاج الأدبي والثقافي.
حدود الاجتهاد
السؤال: هل فقدت الأمة- بعلمائها وعامتها في مرحلتها التاريخية هذه- الوعي اللازم الذي ينبغي استلهامه لفهم واقعها، ومن ثم القبول بالآخر المسلم؟ وكيف لعقل المسلم أن يتجاوز إشكالية الاختلاف مع المسلم؛ ليفتح أبوابه لإخوانه في كل مكان، ووفق كل اجتهاد مقبول؟!
الجواب: التخلف والاختلاف قرينان، إذا وجد أحدهما وجد الآخر، والبغي بالعلم أمر حذر الله منه، وبين أنه من أسباب فساد الأمم قبلنا (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة:213)
(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (آل عمران:19)
والتعصب والقسوة سمة الشرطة والعسكر والمحاربين، في حين أن اللين واللطف والرفق سمة الدعاة والمصلحين.
كما أن من أظهر صفات الأنبياء عليهم السلام الحب للناس والتسامح معهم والتلطف بهم، وقد قيل في التعصب ( العصبي عنيد أو غبي ).
أما أن كل اجتهاد مقبول فليس هذا على إطلاقه، فهناك اجتهاد مقبول وله شروط ولأصحابه مواصفات، وهناك اجتهاد مردود وباطل، والمطلوب هنا تعلم الطرق التي نستطيع فيها التناصح لا التفاضح، والمجادلة بالتي هي أحسن لا المعاركة بالتي هي أخشن.
وفي التصنيف الظالم والحكم الجائر خدمة للشر وأهله، وتشتيت لقوة أهل الإيمان المعنوية ، وتفتيت لروح التساند الواجب ، وخدمة لأعداء الأمة بإفناء قوة التلاحم المعنوية وأحاسيس الجسد الواحد، وجلب أسباب الهزيمة قال الله تعالى :(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:46)
الثقافة ودور المثقفين(/2)
السؤال: للحضارة الإسلامية أوجه إبداع مازالت تشكل نواة لانطلاق الحضارة الحديثة ؛ إلا أن المفكر يتعجب وهو يرى هذا التاريخ المشرق في كل قيم العدل والخير والإيمان إزاء ضآلة التجربة الفكرية السياسية وعدم نموها. الأمر الذي شكل في عصرنا الحاضر مفتاحاً أساسياً لغزو الفكر الغربي، فمن المسؤول عن تقزيم العلاقة المهمة والتاريخية بين الإنسان الراعي والإنسان الرعية في كنف الدولة الإسلامية على مر التاريخ والعصور المتتالية؟
الجواب: ليس الأمر على إطلاقه بهذه الطريقة، بل كان في الأمة في مدارج تاريخها الطويل إضاءات خيرة من التجارب المتميزة والنادرة في التاريخ في العلاقة بين الراعي والرعية، والتي كانت في سياقها التاريخي – آنذاك – من أندر النوادر ومن أغرب الغرائب حيث كان التعاون والتفاهم والتناصح؛ بل والمطالبة القوية بالإصلاح، بل وعزل الحاكم الفاسد، والعصيان المدني ضده، بل بيع بعض الحكام في السوق، وهناك من المناؤة لظلم الظالمين وفساد الفاسدين واستبداد المستبدين ما لم يوجد في أي أمة أو حضارة مقاربة زمنياً لأهل الإسلام، نعم لم تكن الأمور بالشكل الأمثل ولا بالطريقة الأجود،ولا وفق السنن الصافي الذي كان في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ولكننا لم نكن فقراء معوزين في هذا الجانب كما يحلو لكارهي التاريخ الإسلامي ومبغضي تحكيم شريعة الإسلام من العلمانيين والمتلوثين بكتبهم وأفكارهم، أما على من تقع المسؤولية فهي تقع أولاً على الحكام الجائرين، ثم على العلماء الساكتين، ثم على جماهير المسلمين الخائفين.
السؤال:ما الذي افقد المثقف رغبته في الاضطلاع بدوره الحقيقي في إعادة صياغة المجتمع الإسلامي وقيادته بالشكل الذي يتوافق مع عقيدته وقيمه وتاريخه؟
الجواب: ليس كل المثقفين افتقدوا الرغبة في الاضطلاع بدور حقيقي في إعادة صياغة المجتمع؛ بل هناك سعي حثيث من مثقفي المعسكرين الأساسين في بلاد المسلمين:
1- معسكر دعاة الإسلام وعلمائه ومصلحيه ومثقفيه.
2- معسكر دعاة العلمانية.
كل يسعى للتأثير في المجتمع وقيادته وتوجيهه، والمعارك العاصفة بين الفئتين ما زالت متأججة، بيد أن أهل الدعوة ورواد الصحوة لديهم من مقومات القوة وخصائص النصر والتمكين ما ليس لدى غيرهم من أصحاب الأفكار المستوردة.
ولاشك أن هناك من أهل الإسلام من :
1-أصابه العجز وأثقله الكسل.
2- من أرخاه الإحباط، فلحق بتكايا التواني واستسلم لخدر الأماني.
3-وبعضهم يطلب التغيير بالانفعال والتبديل العاجل ،وينسى أن لله سنناً في الأنفس والمجتمعات ، فيشتعل فجأة ثم يخبو فجأة ،ويعتقد أن التغيير والإصلاح لا يتم إلا بالقوة الجسدية0
4- وهناك من تحول إلى تقويض المنهج وهدم المسلك ، واقتناص العيوب والثغرات، والفرح بالعيوب والعثرات، والله المستعان.
دور المسجد .. وأسس الدعوة
السؤال: بينما تعصف الأزمات بالأمة من كل حدب وصوب؛ يتساءل كثير من الصالحين عن دور المسجد في كل هذه الأحداث، هل فقد مركزه القائد نتيجة ظهور بدائل أخرى للتعبير، أم أن ظروف التعتيم فرضت غيابه في هذا الوقت الحرج للأمة ؟
الجواب: سيبقى المسجد موئل سكينة، ومقام طمأنينة، وحصن إيمان، ومنبع إيقان.
أما الدور الكبير الذي يؤمل، والمنزلة الرفيعة التي كان عليها؛ فهذا أمر مطلوب ومقصد مرغوب. والدعاة والعلماء يقومون بجهود مشكورة في إعادة بعض أدوار المسجد، من: دروس تعليمية، وفتاوى، ونصائح، وجمع تبرعات، ومساعدة محتاجين، وصلح بين المسلمين، وغير ذلك من أوجه الخير المتنامي والحمد لله، وما زال الدرب والمدى واسعاً، والآمال عريضة، وكل آت قريب.
السؤال: أخيراً، كيف تلخص للدعاة الشباب الأسس الرئيسة التي يجب أن يلتزموا بها في طريقهم الشاق في الدعوة إلى الله؟
الجواب: يتم ذلك في تقديري عبر عناصر الخط التربوي المتكامل الموزون ، المستدرك للنقص في الواقع المعاصر، وهي:
1 - تثبيت العقيدة الصحيحة.
2 - الحرص على الصلاة بمعانيها الحقيقية الباطنة والظاهرة ، وسائر الفرائض .
3 - الالتزام بمعنى العبودية الشامل.
4 - الاتباع في أمر الدين بلا ابتداع، والابتكار والابتداع في أمور الدنيا المباحة، فإن من مصائب المسلمين ابتداعهم في الدين ، والبدعة في الدين ضلالة ، و جمودهم في أمور الدنيا ، والجمود فيها جهالة.
5 - الالتزام بأدب الأخوة الإسلامية،وأحاسيس الجسد الواحد .
6 - الفرح بالبذل والتعب اليومي، في أي سبيل مشروع، يحقق للأمة نهضتها وعزها .
7 - التعلم الذي يولد العمل .
8 - الشوق إلى الجهاد، والاستشهاد من دون تهور .
9 - الانضباط بالطاعة .
10 - التقلل من الدنيا، وطلب الخفة .
11 - ترقب الموت، ونسيان الأمل الدنيوي .
12 - حب الله في رجاء يضبطه خوف .
13 - مفاصلة الذين كفروا والذين نافقوا وبغضهم ومعاداتهم .
14 - الصبر على المحن والطاعات، والصبر عن المعاصي ، والصبر على طول الطريق وعنائه .
15 - الفقه في دين الله، والعلم بالواقع .(/3)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .(/4)
فظائع وفضائح اليهود
عبد المحسن بن محمد القاسم
أضيفت بتاريخ : 06 - 12 - 2003 نقلا عن : دار القاسم نسخة للطباعة القراء : 8352
إن الإسلام دين الله المتين، لا يُقبل من أحد دين سواه، جامع بين العلم والعمل، وسط في العبادة والمعتقد، صدق في الأخبار، عدل في الأحكام، وقد ضلّت طوائف عن الصراط المضيء، ممتطية كبرها أو جهلها، تنكبّت طريقاً معتماً، وسلكت وداياً مجدباً، وسنة الله ماضية في كشف ستره عن الظالمين ولو بعد تتابع الدهور، قال عز وجل: { وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } [الأنعام:55].
واليهود أضلّ الملل، لاح في ديانتها العوج والخلل، أبان الله في كتابه أحوالهم تصريحاً وإسهاباً، إيماءاً واقتضاباً، في مئات الآيات ووصفهم وصفاً مطابقاً عادلاً، حذّر منهم، ووضعهم في مقدمة صفوف أعداء المؤمنين: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ } [المائدة:82].
واجهوا الإسلام بالعداء والإباء، واحتضنوا النفاق والمنافقين، وحرضوا المشركين وتآمروا معهم ضد المسلمين، إكتوى المسلمون بنار عداوتهم وكيدهم، تطاولت ألسنة السفهاء منهم على خالقهم، جمع لهم نبيهم بين الأمر والنهي والبشارة والنذارة، فقابلوه أقبح مقابلة، كانوا معه في أفسح الأمكنة وأرحبها وأطيبها هواء، سقفهم الذي يظلهم من الشمس والغمام، وطعامهم السلوى طير من ألذ الطيور، وشرابهم من العسل، ويتفجّر لهم من الحجر اثنا عشرة عيناً من الماء، فكفروا النعم، وسألوه الاستبدال بما هو دون ذلك، طلبوا الثوم والبصل والعدس والقثاء، وهذا من قلة عقلهم وقصور فهمهم، يعتقدون أن الصواب والحق مع من يشدّد ويضيّق عليهم.
عرضت عليهم التوراة فلم يقبلوها، فأمر الله جبريل عليه السلام، فقلع جبلاً من أصله على قدرهم، ثم رفعه فوق رؤوسهم، وقيل لهم إن لم تقبلوها ألقيناه عليكم، فقبلوها كرهاً، قال تعالى: { وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأعراف:171].
ولما بعث نبينا محمد حرّضوا الناس عليه وقاتلوه، آذوه عليه الصلاة والسلام، وتآمروا على قتله والغدر به مراراً، وهمّوا بإلقاء حجر كبير عليه في بني النضير من أعلى بيت كان يجلس تحته، فأتاه خبر السماء، وأهدوا إليه شاة مشوية فيها سم، فلات منها عليه الصلاة والسلام شيئاً، وظلّ متأثراً بما لانه منها حتى توفي، ومكروا به، فسحروه، حتى كان يخيّل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعل، فكفاه الله وخلصه من ذلك.
قوم يشعلون الفتن، ويوقدون الحروب، ويبثّون الضغائن، ويثيرون الأحقاد والعداوات: { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ } [المائدة:64].
يكتمون الحق، ويحرفون الكلم عن مواضعه، أصحاب تلبيس ومكر وتدليس: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [آل عمران:71].
ينقضون العهود، وينكثون المواثيق، قتلوا عدداً من الأنبياء الذين لا تنال الهداية إلا على أيديهم، بالذبح تارة، والنشر بالمناشير أخرى، أراقوا دم يحيى، ونشروا بالمناشير زكريا، وهمّوا بقتل عيسى، وحاولوا قتل محمد مرات، ولا خير فيمن قتل نبياً: { أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } [البقرة:87].
اليهود لنعم الله وآلائه جاحدون، إن أحسنت إليهم أساءوا، وإن أكرمتهم تمردوا.
نجاهم الله من الغرق مع موسى فلم يشكروا الله، بل سألوا موسى إباءً واستكباراً أن يجعل لهم إله غير الله، يعبدون الله على ما يهوون، لأنبيائه لا يوقرون، قالوا لنبيهم: لن نؤمن لك حتى نرى الله بأعيننا جهرة، { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ } [الذاريات:44].
قوم حساد إن رأوا نعمة بازغة على غيرهم سعوا لنزعها، وفي زعمهم أنهم أحق بها، يقول النبي : « إن اليهود قوم حسد » [أخرجه ابن خزيمة في صحيحه: 574 من حديث عائشة رضي الله عنها، رواه ابن خزيمة].
دمروا الشعوب والأفراد بالربا، يستمتعون بأكل الحرام، يستنزفون ثروات المسلمين بتدمير اقتصادهم، وإدخال المحرمات في تعاملهم، يفتكون بالمسلمين لإفلاسهم، ويسعون إلى فقرهم، يتعالون على الآخرين، بالكبر تارة، وبالإزدراء أخرى، يتعاظمون على المسلمين عند ضعفهم، ويذلون عند قوّتهم، في أنفسهم أنهم شعب الله المختار، وغيرهم خدم لهم، إنما خلقوا لقضاء حاجاتهم.(/1)
ألسنتهم لا تتنزه عن الكذب والفحش والبذاء، قالوا عن العظيم سبحانه: ( يده مغلولة )، وقالوا عن الغني تعالى: ( إنه فقير ونحن أغتياء )، ورموا عيسى وأمه بالعظائم، وقالوا عن المصطفى: ( إنه ساحر وكذاب )، تتابعت عليهم اللعنات، وتوالت عليهم العقوبات، افتتنوا بالمرأة ونشروا التحلل والسفور، يقول النبي : « أول فتنة بني إسرائيل في النساء » [أخرجه مسلم في الذكر والدعاء: 2742 من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه].
دعوا الى الإباحية والفساد مع التستر تحت شعارات خداعة كالحرية والمساواة، والإنسانية والإخاء، يفتكون بالشباب المسلم، ويغرونه بالمرأة والرذائل، فتنوا بالمرأة، ويعملون جاهدين لإخراج جيل من المسلمين خواء، لا عقيدة له، ولا مبادئ، ولا أخلاق ولا مروآت، يلوثون عقول الناشئة بتهييج الغرائز والملذات، تارة بالمرئيات، وأخرى بالفضائيات، يحسدون المرأة المسلمة على سترها وحيائها، ويدعونها إلى السفور والتحلل من قيمها، ويزيّنون لها مشابهة نسائهم في ملبسها ومعاملتها، ليحرفوها عن فطرتها، يزينون للشباب والمرأة الشهوات، لينسلخ الجميع عن دينه وقيمه، فيبقى أسيراً للشهوات والملذات، قال الله عنهم: { وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [المائدة:64].
يهدفون لهدم الأسرة المسلمة، وتفكيك الروابط والأسس الدينية والاجتماعية، لتصبح أمة لا حطام لها ولا لجام، ينشرون فيها الرذائل والفواحش ويدمرون الفضائل والمحاسن، { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ } [آل عمران:112].
جبناء عند اللقاء، قالوا لموسى: { فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [المائدة:24]. يفرون من الموت، ويخشون القتال: { لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ } [الحشر:14]، يحبون الحياة، ويفتدون لبقائها، ذهبوا في كفرهم شيعاً لا يحصون. { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ } [الحشر:14]، اختلافهم بينهم شديد، ونزاعهم كليل، الألفة والمحبة بينهم مفقودة إلى قيام الساعة، قال تعالى: { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [المائدة:64].
طمّ بغيهم، وعمّ فسادهم، لا تحصى فضائحهم، ولا تعد قبائحهم، أكثر أتباع الدجال، أمرنا الله بالاستعاذة من طريقهم في كل يوم سبع عشرة مرة فرضاً، أفبعد هذا هم شعب الله المختار أم هم أبناء الله وأحباؤه؟!
وبعد:
فهذه نعوت في كيد الشيطان وتلاعبه بتلك الأمة المغضوب عليها، يعرف بها المسلم الحنيف قدر نعمة الله عليه، وما منّ به عليه من نعمة الهداية، وما اتصف به آباء اليهود بالأمس بسير على ركابه الأحفاد اليوم، ظلم في الأراضي المقدسة، إجلاء من المساكن، تشريد من الدور، هدم للمنازل، قتل للأطفال، اعتداء على الأبرياء، استيلاء على الممتلكات نقض للعهود، غدر في المواعيد، استخفاف بالمسلمين، هتك لمقدساتهم، وإن أمة موصوفة بالجبن والخور وخوف الملاقاة وفزع الاقتتال حقيق بنصر المؤمنين عليهم، واجب على المسلمين مؤازرة إخوانهم في الأراضي المباركة، وتوحيد الصف ونبذ النزاع، مع الإلحاح في الدعاء لهم، ومنذ ميلاد مأساة هذه المحنة من أكثر من نصف قرن، ولهذه البلاد مواقف تحمد عليها في التاريخ لعتق رقّ الأقصى، لينعم المسلمون بالصلاة فيه كما ينعمون بالصلاة في الحرمين.
قال تعالى: { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج:40] فالنصر على الأعداء لن يتحقق إلا براية يستظل فيها المقاتلون براية التوحيد، ولن يكون إلا بالأخذ بالأسباب، والرجوع إلى الله، وتقوية الصلة به سبحانه، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } [محمد:8،7] وبهذا تقوى الأمة، وترهب عدوّها، وإذا انغمست الأمة في عصيانها وغفلتها وبعدها عن خالقها، فالأقصى عنها يقصى.(/2)
فعلينا إصلاح أنفسنا من الداخل بالتسلح بسلاح العقيدة قولاً وعملاً وواقعاً، ولنحذر دسائس اليهود في تدمير المسلمين، وواجب علينا الحفاظ على شبابنا وصونهم من المغريات والمحرمات، والاهتمام بنسائنا، وشغلهنّ بما ينفعهن في دينهن، وعدم تعريضهن للفتن، ومنعهن من التبرج والسفور والاختلاط، وتحصين الجميع بالعلوم الشرعية، وتكثيف ذلك في دور التعليم، مع حسن الرعاية وكمال الأمانة في القيام بهم، وعلينا السعي إلى إصلاح الأسرة المسلمة، وأن لا نهزمها من داخل أروقتها بما تتلقاه مما يعرضه أعداؤها عليها، ففي مراحل التاريخ لا يخلو منه عقد إلا ولليهود في الإفساد يد.
فاتقوا الله وخذوا بأسباب النصر وأصلحوا شبابكم ونساءكم، وأصلحوا بيوتكم، وابتعدوا عن مشابهة أعدائكم، واعتزوا بدينكم تنتصروا على عدوكم، واحذروا مكرهم وغدرهم فإنهم لا يألون جهداً في إضعاف المسلمين وإفساد دينهم وعقيدتهم، { وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [يوسف:21].(/3)
في رمضان لماذا يبكون.. ولا أبكي؟
الكاتب : إبراهيم الحمد
فان من أسباب الفلاح والنجاح في أمور الدين والدنيا أن يصارح الإنسان نفسه ولا يلتمس لها الأعذار حتى لا يفاجئه الموت ثم يندم وحينها لا ينفع الندم.
أخي أختي : ان فضل البكاء من خشية الله عظيم فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل الا ظله_ وذكر منهم:رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه).متفق عليه.
أخي أختي .. سؤال يجول في داخل كثير من المقصرين ونحن جميعا مقصرون نسأل الله أن يعفو عنا عندما نسمع آيات القران تتلى أو أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أو أخبار السلف الصالح نجد كثيرا من الناس ممن رقت قلوبهم يبكون,,
فلماذا هم يبكون ولا أبكي؟؟؟؟
أحاول أن اخشع وابكي فلا استطيع !!!
من بجانبي وأمامي وخلفي يبكون . فما السبب؟!
السبب أخي أختي بينه الله تعالى في قوله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).المطففين.
أي بسبب أعمالهم حجبت قلوبهم عن الخير وازدادت في الغفله.
فهذا هو السبب الحقيقي في قلة البكاء من خشية الله تعالى.
يحيون ليلهم بطاعة ربهم *** بتلاوة وتضرع وسؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم *** مثل انهمال الوابل الهطال
لماذا يبكون؟؟؟
ما الذي جعل هولاء يخشعون ويبكون بل ويتلذذون بذلك ونحن لا نبكي؟!
أنهم ابتعدوا عن المعاصي وجعلوا الاخره نصب أعينهم في حال سرهم وجهرهم عندها صلحت قلوبهم وذرفت دموعهم.
أما نحن فعندما فقدنا هذه الأمور فسدت قلوبنا وجفت عيوننا.
أخي أختي..
اعلم أن الخشية من الله تعالى التي يعقبها البكاء لا تأتي ولا تستمر إلا بلزوم ما يلي والاستمرار عليه:
1- التوبة إلى الله والاستغفار بالقلب واللسان, حيث يتجه إلى الله تائبا خائفا قد امتلأ قلبه حياء من ربه العظيم الحليم الذي أمهله وأنعم عليه ووفقه للتوبه..
ما أحلم الله عني حين املهني***وقد تماديت في ذنبي ويسترني
تمر ساعات أيامي بلا ندم ***ولا بكاء ولا خوف و لا حزن
يا زلة كتبت في غفلة ذهبت***يا حسرة بقيت في القلب تحرقني
دعني أسح دموعا لا انقطاع لها***فهل عسى عبرة منها تخلصني
وهذا الطريق يتطلب وقفه صادقه قوية مع النفس ومحاسبتها.
2- ترك المعاصي والحذر كل الحذر منها.صغيرها وكبيرها ظاهرها وباطنها فهي الداء العضال الذي يحجب القلب عن القرب من الله,وهي التي تظلم القلب وتأتي بالضيق.
3- التقرب الله بالطاعات من صوم وصلاة وحج وصدقات و أذكار وخيرات.
4- تذكر الآخرة ,والعجب كل العجب أخي وأختي أننا نعلم أن الدنيا ستنتهي وان المستقبل الحقيقي هو الاخره ولكننا مع هذا لا نعمل لهذا المستقبل الحقيقي الدائم.
قال تعالى: ( مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً )الاسراء.
5- العلم بالله تعالى وبأسمائه وصفاته وشرعه, وكما قال تعالى:
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء )فاطر.
وكما قيل: من كان بالله اعرف كان لله أخوف.
6- ثم أوصيك بالإكثار من القراءة عن أحوال الصالحين والاقتداء بهم.
أخي وأختي...أن في أيام رمضان أيام الخير و البركة لفرص عظيمة يرجع فيها العبد إلى ربه حين تصفد الشياطين وتفتح أبواب الخير وتكثر الطاعة فعد الى ربك وتقرب منه وتوجه اليه وتخلص من قيود المعاصي و أسوار الخطايا وعندها ستجد العين تدمع والقلب يخشع.(/1)
فلق الصباح
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
رَجِّعْ دَوِيَّكَ في البطاح ودَمْدِمِ ... ... وانهض لَملْحَمةِ الجِهَادِ وأقْدِمِ
رَجِّعْ نِداءَكَ في الوِهَاد وفي الذُّرَى ... ... وبكُلِّ مُنْعَطَفٍ يَحنُّ إِلى كَمِي
واطْرُق بِصَيْحِتِك الفضاء فهاهنا ... ... خَنَقُوْا النداءَ وأطْبَقُوا فوقَ الفَمِ
وارْفَعْ نِداءَكَ في السماء يطُفْ على ... ... أَفْلاكها حُرّاً وَبَيْنَ الأنْجُمِ
مَنْ ذا يُجيبُكَ والدُّنا قَدْ سَكَّرَتْ ... ... أسْمَاعَها والدَّارُ قبضةُ مُجْرِمِ ؟ !
فَارْفَعْهُ للرَّحمن خَفْقة مُوقِنٍ ... ... بالله لا غِرٍّ وَ لا مُتَوهِّمِ
وَاْلجَأْ إِليْه فَلَم تَزَلْ أبْوَابُهُ ... ... مفْتُوحَةً للسَّائِلِ المُتَوسِّمِ
المُشْرَعاتُ عَلَى الرُّبى ما بالُهَا ... ... طُوِيَتْ وما بَالُ الفتَى لْم يَحْزمِ
مَا بالُهُمْ وَقَفُوا وأضْحى زَحْفُهُمْ ... ... كالبرق مِنْ أُفقٍ شحِيحٍ مُظْلِمِ
هَلاَّ نَشَرْتَ الفَجر في جنباتِه ... ... ونشرت مِنْ بَرْقِ العزائم والدَّمِ
فانْهضْ ! فَهَاتِيكَ الرُّبى قد فوَّحتْ ... ... بالعطْرِ مِنْ عَبق الجِهَادِ المُلْهِمِ
أَمجَادُ تاريخ وَوحيُ نُبُوة ... ... وَجَلالُ إِسْراءٍ وَعِزَّةُ مُسْلِمِ
وَرَفيقُ آيَاتٍ تمُوجُ بِساحِهَا ... ... نُوراً فَيَغْمُرُ مِنْ رُبىً أو مَعلَمِ
قُدْسِيَّةُ الأنوار يَخشَعُ عنْدَها ... ... قَلبي ويطْهرُ مِنْ هَوىً أو مأْثَمِ
* * * ... ... * * *
يَا رَبْوةَ الأقْصَى حَنِينُكِ أدْمُعٌ ... ... وأنينُ صَدْرِكِ مِنْ جَوىً لَمْ يُكْتَمِ
تَتَلَفَّتين ! وأَيْنَ إعصارُ الفتى ... ... يُنْجيك مِنْ رَهَقِ الإِسَارِ المُحكَمِ
تَتَلفَّتِين ! وَ كُلُّ يوم ثورْةٌ ... ... عَصفَتْ وَقَيْدُك في الوغَى لَمْ يُحْطمِ
أيْن الفَتَى لله يَدْفَعُ خطوَهُ ... ... وثْباً كَبَارقٍ صَارِم أو لَهْذَمِ ؟!
ويَدُقُّ أبْوابَ الجِنَانِ علَى دَمٍ ... ... حُرِّ وَعهْدٍ في الوَغَى لَم يُثْلَمِ
* * * ... ... * * *
فانْهَضْ إذا أَوْفَيْتَ خُطةَ مُؤمن ... ... وصَدَقْتْ نَهْجَ الفَارِس المُتَرَسِّمِ
وَتَحفَّزَتْ كُلُّ الرُّبى ! يَا حُسْنَها ... ... والغَارُ فَوقَ جَبِيِنهَا والمِعْصَمِ
وازّيَّنَتْ بالزّاحفين كَأنَّهم ... ... فَلَقُ الصَّبَاحِ جَلاَ عَبيرَ العَنْدَمِ
كُلُّ المَيَادِيْنِ التي هَيّجْتَها ... ... هَبَّاتُ خَطَّارٍ ولَهْفْةُ مُعْلَمِ
* * * ... ... * * *
أمَلٌ عَلى أجْفَانِنا وكُبُودِنا ... ... وعَلى مُحَيَّانَا وَفَوقَ المبْسمِ
أمَلٌ كَأَنَّ الفَجْر في بسَمَاته ... ... ورَفيفُهُ بَيْن الطُّيوف الحُوَّمِ
وَنَضُمُّ في أَحْنائِنا شَرَف الهَوَى ... ... والشَّوْقُ بَيْنَ مُجَنَّحِ و مُكَتَّمٍ
لله ما تَهْفُو القُلُوبُ إلى غَدٍ ... ... زَاهٍ عَلى مَرِّ الزَّمَان مُوَسَّمِ
ومَواكِبُ الإِيَمان تَجْلو نَصْرَهَا ... ... لتُعيدَ لأْلأَةَ الفُتُوحِ اليُتَّمِ
وَمَجَامِعُ الدُّنيا تُرَدِّدُ حَوْلها ... ... الله أكْبَر ُ أقبِلي وَتَقَدَّمِي
لا تَنْثَني إِلا وفَتْحٌ مُشْرقٌ ... ... وَكَريمُ عِرْضِكِ في الْوَغَى لْم يُكْلَمِ
دَارُ مَبَاركةٌ وسَاحُ رباطهَا ... ... بَابُ الجنَان وآيةُ الشِّوقِ الظَّمِي
يَا يَومَ أنْ ثَارَتْ هُناك قَوَافِل ... ... تَتَرَى تَشُقُّ منَ العَجَاج الأَقْتمِ
ما صَدَّهُمْ فَقْرُ العَتاد ولا أسَى ... ... ذاكَ الإِسارِ ولا فَدَاحَةُ مُغْرَمِ
مَا صَدَّهُمْ خَدَرُ القَرِيبِ ولَهْوُهِ ... ... وَهَوانُ أحْلامِ الغُفَاةِ النُّوَّمِ
شدُّوا أكُفَّهُمُ كأنَّ زِنَادَها ... ... وقْدُ العَزيمَة في لَهِيب مُضْرَمِ
مَا كَان فِيها لو نظرُتَ سوَى الحَصى ... ... قد أرْعَدَتْ في الأُفْقِ إرْعَادَ الكمِي
وكَأنَّهَا قَصْفُ المَدافَع ولْوَلَتْ ... ... ما بَيْنَ أعْراسِ الجِهَادِ وَمَأْتِمِ
وَحَناجِرٍ خَفَقَتْ كَأَنَّ دَويَّهَا ... ... رَعْدٌ يُجَلْجِلُ أُو زَئِيرُ الضِّرْغَمِ
تركَتْ قِلاعَ الغَاصبين كأنَّها ... ... تَهْوي بِمُنْصَدعِ الجِدَار مُهَدَّمِ
* * * ... ... * * *
أمَلٌ يُدَاعِبُهُ الخَيالُ فَهلْ تُرى ... ... صدَقَ الخيَالُ وَجَدَّ بَعْدَ تَوَهُّمَ ؟!
أمْ أنّهُ بَرْقٌ ! فيا لعَزائمٍ ... ... هبَّتْ على نهْجٍ أدقَّ وَأَحْزمِ
* * * ... ... * * *
يَا خُطَّةَ الإِيَمانِ ! إِنَّ جَلاءَها ... ... بَيْنَ النّزال وبينَ رأْيٍ مُحْكَمِ
شَرَفُ الفَعالِ يُصَانُ بَيْنَ أسنَّةٍ ... ... تَجْلُو عَلَى المَيْدَانِ نَهْجَ المُسْلِمِ
تَمْضِي السنُونَ وَكُلُّ يَوْمٍ خِدْعةٌ ... ... بَيْنَ " الحُلُول " وأَنَّهُ المتَظَلِّمِ
وَنَكَادُ لاَ تَرْضَى هَوَانَ خديعَةٍ ... ... إِلاَّ طَوَينَاهَا بحَلٍّ أشْأَم
يَا أُمَّةَ الإِسلاَمِ دَرْبُكِ مُقْفرٌ ... ... ما بَيْنَ أوهَامٍ تَدُورُ و مَزْعَمِ(/1)
فَدُرُوبُها شَوْكٌ أَشَدُّ عليك مِنْ ... ... خَرْط القَتَادِ ومِنْ مَذاَق العَلْقَمِ
شَرَكُ المُسَاومَة التي تَرْجينها ... ... شَرَكُ يَمُدُّ إِليك نَابَ الأرْقم
هَلاَّ أفَقْتِ عَلى المَيَادين التي ... ... تَهْدي إِلى وَضَح السّبِيِل الأقْوَمِ
حَقُّ الشُعُوبِ يَنَالُه خَطْفُ القَنَا ... ... والرَّأيُ رأيُ المُؤمِنِ المتَقَدِّم
فرِدي حِيَاضَ المَوْتَ حَتى تُوهَبي ... ... عِزَّ الحَيَاةِ وأقْدِمي لا تُحْجِمي
* * * ... ... * * *
23/5/1408هـ
12/1/1988م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· من ديوان عبر وعبرات .(/2)
ففروا إلى الله
أبو رافع
هذه التذكرة دعوة مجانية إلى رضوان الله
حقوق الطبع محفوظة لكل مسلم
الأسم : الإنسان (كل إنسان)
الجنسية : مملكة التراب (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى)
العنوان : كوكب الأرض (الدنيا) ، دار الفناء
جهة الرحلة : دار الخلود
التذكرة : موجهة إلى الذين يخشون أن يتحقق لهم التوازن الضروري بين المادة الروح وبين العمل وأخلاقيات العمل وبين الدين والحياة
الحمولة المصرح بها أثناء الرحلة :
1) سبعة أمتار من القماش الأبيض
2) كل ما تستطيع حمله من الإيمان بالله ، العمل الصالح ، الصلاة ، الصيام ، الزكاة ، الحج ، الصدقة ، التسابيح ، الذكر ، الاستغفار (فلا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار) .
3) صدقةٌ جارية ، علمٌ ينتفع به ، ولدٌ صالحٌ يدعو له
4) لا يسمح باصطحاب أي شيءٍ من متاع الدنيا .
محطة المغادرة
كوكب الأرض (وما تدري نفسٌ بأي ارض ٍ تموت)
محطة الوصول
إما الجنة وإما النار
موعد الرحلة
لكل أجل كتاب (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون) (وجاءت كرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد)
رقم الرحلة
ص/ظ/ع/م/ع
43442
(الصلوات الخمسة الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء)
على السادة المسافرين
على رحلتنا الانتباه إلى ما يلي :
قائد الرحلة :
ملك الموت الذي وكل بكم
قيمة التذكرة
مجانية
موعد الرحلة :
مؤكد ولا داعي لتأكيد الحجز
الأمتعة المسموح بها :
(تزودوا فإن خير الزاد التقوى)
*** تفاصيل الزاد في الصفحات التالية ***
الغرض من الرحلة :
المثول أمام محكمة العدل الإلهية "يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون"
"أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون"
تنبيه
على السادة المسافرين التقيُّد بما يأتي قبل موعد الرحلة حتى تتحقق لهم السلامة إن شاء الله
تنقية القلوب من الذنوب والخطايا بكثرة الاستغفار ، والذكر ، والتسبيح ، والتوبة إلى الله ، والبعد عن صغائر الذنوب وكبائرها ، تنفيذ أوامر الله ، واجتناب ما نهى عنه ، التزود الكامل للرحلة فإن السفر طويل , والاستعداد الكامل للحساب فإنَّ الناقد بصير
وتزودوا فإنَّ خير الزاد التقوى
ومن الزاد : حسن المعاملة (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى) نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب
لا يخطبنَّ أحدكم على خطبة أخيه ، ولا يبيعنَّ على بيع أخيه اللهم أعط منفقاً خلفاً وأعط ممسكاً تلفاً .
وأعلم أنك تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت ، وتستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت ولكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت .
ومن حسن المعاملة
حفظ اللسان عن سيء اللفظ وعن عورات الناس ، الصدق ، الأمانة ، إتقان العمل ، المحافظة على العهد والوعد ، التصدق من مال الله الذي آتاك ، الإحسان إلى الفقير والمسكين والمحتاج ، زيارة المرضى ، حضور الجنازات ، كثرة الدعاء إلى الله في الرخاء قبل الشدة ، المحافظة على فرائض الله ، حسن المعاملة مع الأهل والجيران والأصدقاء والزملاء ، لا تعتدي فالله لا يحب المعتدين ، لا تغش فمن غشنا فليس منَّا ، لا تظلم فالظلم ظلماتٌ يوم القيامة ، لا تنافق فلن ينفعك الناس إلا بما كتب الله لك ، ولن يضروك إلا بما كتب الله عليك ، لا تكتم الشهادة فمن كتمها فإنَّهُ آثمٌ قلبه ، لا تشهد الزور فشاهد الزور في النَّار .
ومن الزاد : حسن المعاشرة
على السيدات المسافرات على الرحلة الانتباه إلى ما يأتي :
النساء نوعان :
إمرأة طاردة :
لأنها عصبية ، قصيرة النظر ، حادة الطبع ، منغلقة على نفسها ، لا تتعلم من تجاربها ، مملة حتى ولو كانت جميلة الشكل .
إمرأة جاذبة :
لأنها هادئة ، ذكية ، بعيدة النظر ، رقيقة اللفظ ، لينة الطبع ، تحسن رعاية زوجها وبيتها ، ذات خلقٍ ودينٍ ، تضحي من أجل من تحب ، جمالها ينبعث من داخلها وليس من شكلها .
ومن حسن المعاشرة أيضاً :
على السادة المسافرين على الرحلة من الرجال الانتباه إلى أنَّهُ من حسن المعاشرة :
حسن المعاملة ، المودة ، الرحمة ، أن تفرح لفرح أهلك وأن تحزن لحزنهم ، وأن تنفق على أهلك بالمعروف ، وأفضل المال هو ما أنفقته على أهلك (الدرهم يغلب ألف درهم) أن تحسن رعاية الأسرة ، أن تحسن إلى الأهل والجيران والأصدقاء والزملاء ، أن تكون أميناً صادقاً مع أهلك ومع الناس (كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته)
على السيدات والسادة المسافرين على الرحلة مراعاة ما يأتي :
رغم كل هذا الزاد ، فلن ينفعك إلا أن يشملك الله برحمته والحمد لله أنَّ أبواب رحمته أوسع من كل تصوُّر :
( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً)
(والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون)(/1)
الحمد لله على عظيم فضله ، الحمد لله على واسع مغفرته ، الحمد لله أنَّهُ هو الرحمن الرحيم ، سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
تنبيه أخير
أيها السيدات والسادة
(اقترب للناس حسابهم وهم في غفلةٍ معرضون)
لأي استفسار (اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)
وداوموا الاتصال بهذا الرقم 43442
(الصلوات الخمس)
الآن إلى اللقاء في محطة الوصول بعد رحلة سعيدة موفقة إن شاء الله(/2)
ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم
قال الأصعمي: ضلَّت لي إبل فخرجتُ في طلبها، وكان البرد شديداً فالتجأتُ إلى جماعة يصلُّون، وبقربهم شيخ ملتفّ بكساء وهو يرتعد من البرد الشديد وينشد:
أيا ربُّ إنَّ البردَ أصبح iiكالحاً
فإن كنتَ يوماً في جهنَّمَ مدخلي ... وأنت بحالي يا إلهي iiأعلمُ
ففي مثلِ هذ اليومِ طابت iiجهنَّمُ
فقال له الأصمعي: "أما تستحي يا شيخ أن تقطع الصلاة، وأنت شيخٌ كبير"!
فأنشد يقول:
أيطمعُ ربي أن أُصلي iiعارياً
فوالله لا صلَّيتُ ما عشتُ iiعارياً
ولا الصبحُ إلا يومَ شمسٍ iiدفيئةٍ ... ويكسوَ غيري كسوةَ البردِ iiوالحرِ؟
عشاءً ولا وقتَ المغيبِ ولا iiالوترِ
وإن غيمت فالويلُ للظهرِ والعصرِ
قال الأصمعي: فأعجبني شعره فنزعتُ قميصاً وجبةً كانا عليَّ ودفعتهما إليه، فاستقبل القبلة جالساً، وجعل يقول:
إليكَ اعتذاري من صلاتي iiجالساً
فما لي ببردِ الماءِ يا ربُّ iiحيلةٌ
ولكنني أٍستغفرُ الله iiشاتياً
وإن أنا لم أفعل فأنت iiمُحكَّمٌ ... على غير طهرٍ مومياً نحوَ iiقبلتي
ورجلاي لا تقوى على ثني iiرُكبتي
وأقضيكها يا ربُّ في يومِ iiصيفتي
بما شِئت من صَفعي ومن نتف لحيتي(/1)
فقد جاء أشراطها
بحث في أشراط الساعة الكبرى
بقلم: عبد الرحمن كيلاني
إنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُه ُوَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنا وَمِنْ سِيِّئاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاشَريكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
{ ياأَيُّها الَّذينَ آمَنوا اتَّقوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ولاتَموتُنَّ إلاَّ وَأَنْتُم مُسْلِمونَ }
{ ياأيُّها النَّاسُ اتَّقوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخّلَقَ مِنها زَوجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثيراً وَنِساءًا واتَّقوا اللهَ الَّذي تَساءَلونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُم رَقيباً }
{ ياأَيُّها الَّذينَ آمَنوا اتَّقوا اللهَ وَقولوا قَوْلاً سَديداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُم ذُنوبَكُمْ ومَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسولَهُ فَقَد فازَ فَوْزاً عَظيمَاً }
أمّا بعد، فإن أحسن الحديث كلام الله عزّ وجلّ، وخير الهدي هديُ محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار.
يقول الله تعالى : { إِقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُم وَهُم في غَفْلَةٍ مُعْرِضونَ * مايَأْتيهِم مِنْ ذِكْرٍ مِن رَبَّهِمْ مُحْدَثٍ إلاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ } (الأنبياء 1-3).
فالنّاس - إلا من رحم الله - هم في غفلة عن الساعة وأماراتها، وعن القيامة وأهوالها، فقد ألهتهم الدّنيا، وهي متاع فانٍ، وغرّهم بالله الغرور. وهذه الغفلة ستلازم البشرية حتّى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها آمن كل من في الأرض، ولكن ذاك يوم لاينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.
وهذه الرسالة تذكرة { لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أو ألْقى السَّمْعَ وهُوَ شَهيدُ } ، عسى الله تعالى أن ينفع بها، وقد قسمتها إلى الفصول التالية:
المسيح الدَّجَّال.
المهدي، محمد بن عبد الله.
نبي الله عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.
يأجوج ومأجوج.
بقية أشراط الساعة. وقد ذكرت طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والدُّخان، والخسف الثلاثة، والنار التي تحشر الناس إلى محشرهم.
هذا، ولابد لي أن أذكر أن مادة هذا البحث كانت قد جمعت من كتب السنة كالصحيحين وغيرهما من كتب السنة المحققة، وأخصّ بالذكر كتب أستاذ المحدثين في وقتنا الحاضر الشيخ العلاّمة محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى وأجزل له الأجر في الدنيا والآخرة.
أسال الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به إخواننا المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
ذو القعدة 1415 هـ
________________________________________
عن حذيفة بن اليمان -رضيَ الله عنهما- قال:
“قامَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فينا مقاماً ما تَركَ فيهِ شيئاً إلى قِيامِ السَّاعة إلاّ ذَكَرَهُ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، و جَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ. وَقَدْ كُنْتُ أَرى الشَّيْءَ قد كُنْتُ نَسيتُهُ فَأَعْرِفُهُ كَما يَعْرِفُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ إذا غابَ عَنْهُ فَرآهُ فَعَرَفَهُ” متّفق عليه.
وعن أبي يَزيدٍ عَمْرِو بنِ أَخْطَب قالَ:
“أَخْبَرَنا رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما كانَ وَبِما هُوَ كائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، فَأَعْلَمُنا أَحْفَظُنا” -وفي رواية - قال: “حَتّى دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ وأَهْلُ النّارِ النّارَ” رواه مسل
لفصل الأول
المَسيح الدَّجَّال
________________________________________
تعريف:
الدجال مشتق من دَجَل. ودَجَلَ الشيءَ غطَّاه. وقال ابن سيده: المسيح الدجال رجل من يهود يخرج في آخر هذه الأمة، سمي بذلك لأنه يدجل الحق بالباطل، وقيل: لأنه يغطي الأرض بجموعه، وقيل: لأنه يغطي على الناس بكفره، وقيل: لأنه يدّعي الربوبية، سمي بذلك لكذبه، وكل هذه المعاني متقارب. قال ابن خالويه: ليس أحد فسر الدجال أحسن من تفسير أبي عمرو قال: الدجال المموِّه. يقال: دَجَلْتَ السيفَ موَّهْتَه وطليتَه بماء الذهب. وجمعه: دجالون ودجاجلة. وقال أبو العباس:سمي دجالاً لتمويهه على الناس وتلبيسه وتزيينه الباطل.[1] وقد عرّفه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه بالكذَّاب.
حديث الجَسَّاسَة[2]
هذا الحديث الشريف ترويه فاطمة بنت قيس، رضي الله عنها، من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث الناس عن الدجال، كما سمعه من الصحابي الجليل تميم الداري الذي كان نصرانياً ثم جاء فأسلم وحدث النبيَّ صلى الله عليه وسلم بحديث يوافق ما كان يحدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الدجال وصفته.
وهنا حق علينا أن نعرف بتميم الداري رضي الله عنه.(/1)
قال الذهبي رحمه الله في »سير أعلام النبلاء« عنه:
»صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو رقية، تيميم بن أوس بن خارجة بن سود بن جذيمة اللخمي، الفلسطيني. وفد تميم الداري سنة تسع فأسلم، فحدث عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على المنبر بقصة الجساسة في أمر الدجال.
ولتميم عدة أحاديث. وكان عابداً، تلاَّءً لكتاب الله. قال ابن سعد: لم يزل بالمدينة حتى تحوّل بعد قتل عثمان إلى الشام. [وقال]: كان وفد الداريين عشرة، فيهم: تميم.
وكان تميم يختم القرآن في سبع.
وعن مسروق: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري، صلى ليلةً حتى أصبح أو كاد، يقرأ آية يرددها ويبكي: { أم حسبَ الذين اجترَحُوا السيئاتِ أن نجعلهم كالذينَ آمنوا وعملوا الصّالحات } [الجاثية 20].
يقال: وجد على بلاطة قبر تميم الداري: مات سنة أربعين. وحديثه يبلغ ثمانية عشر حديثاً، منها في صحيح مسلم حديث واحد.« اهـ كلام الذهبي بتصرف.[3]
* * *
قالَ الإِمامُ مُسْلم في صَحيحه: حَدَّثَنا عبدُ الوارِث بن عبد الصَّمَدبن عبد الوارث - واللَّفظُ لِعبد الوارث بن عبد الصّمَد - حدَّثَنا أبي عن جَدّي عن الحُسَيْنِ بنِ ذََكْوانحَدَّثَنا ابنُ بُرَيدَةحَدَّثَني عامِرُ بنُ شُراحيلالشَّعبي - شَعْبِ هَمْدان - أنَّهُ سَأَلَ فاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍأُخْتَ الضَّحَّاك بنِ قيْس - وكانَتْ مِنَ المُهاجِراتِ الأُوَلِ - فَقالَ: حَدِّثيني حَديثاً سَمِعْتيهِ مِنْ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تُسْنِديهِ إلى أَحَدٍ غَيْرِهِ. فَقالَتْ: إنْ شِئْتَ لأَفْعَلَنْ. فَقالَ لَها: أَجَلٌ، حَدِّثيني. فَقالَتْ: نَكَحْتُ ابْنَ المُغيرَةَ وَهُوَ مِنْ خِيارِ شَبابِ قُرَيْشٍ يَوْمَئِذٍ، فَأُصيب[4] في أَوَّلِ الجِهادِ مَعَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا تَأَيَّمْتُ خَطَبَني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍفي نَفَرٍ مِنْ أَصحابِ رَسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخَطَبَني أُسامَةُ بنُ زَيْدٍ، وَكُنْتُ قَدْ حُدِّثْتُ أَنَّ رَسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: مَنْ أحَبَّني فَلْيُحِبَّ أُسامَةَ. فَلَّما كَلَّمَني رَسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: أَمْري بِيَدِكَ فَأَنْكِحْني مَنْ شِئْتَ. فَقالَ: انْتَقِلي إلى أَمِّ شَريكٍ - وأُمُّ شَريكٍامْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصارِ عَظيمَةُ النَّفَقَةِ في سَبيلِ الله يَنْزِلُ عَلَيْها الضِّيفانُ - فَقُلْتُ: سَأَفْعَلُ. فَقال: لاَ تَفْعَلي، إنَّ أُمَّ شَريكٍ كَثيرَةُ الضِّيفانِ، فَإنَّي أَكْرَهُ أنْ يَسقُطَ عَنكِ خِمارُكِ أَوْ يَنْكَشِفَ الثَّوْبُ عَنْ ساقَيْكِ فَيَرى القَوْمُ مِنْكِ بَعْضَ ما تَكْرَهينَ، وَلَكِنِ انْتَقِلي إلى ابْنِ عَمِّكِ عبدِ الله بنِ عَمْروِ بنِ أُمِّ مَكتوم - وَهُوَ رَجُلٌ من بَني فَهرٍ، فَهْرِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ مِنَ البَطْنِ الذي هي مِنْهُ - فانْتَقَلْتُ إلَيهِ. فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتي سَمِعْتُ نِداءَ المُنادي، مُنادي رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُنْتُ في صَفِّ النِّساءِ التي تَلي ظُهورَ القَوْمِ. فَلَمّا قَضى رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاتَهُ جَلَسَ عَلى المِنْبَرِ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقالَ: لِيَلْزَمْ كُلُّ إنْسانٍ مُصَلاّهُ. ثُمَّ قال: أَتَدْرونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ؟ قالوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقال:(/2)
»إنِّي وَاللَّهِ ما جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ أَوْ لِرَهْبَةٍ ولَكِنْ جَمَعْتُكُمْ لأَنَّ تَميماً الدَّارِيَّكانَ رَجُلاً نَصْرانِيَّاً فَجاءَ فَبايَعَ وَأَسْلَمَ، وَحَدَّثَني حَديثاً وافَقَ الذي كُنْتُ أُحَدِّثُكُم عن مَسيحٍ الدَّجَّالِ. حَدَّثَني أنَّهُ رَكِبَ في سَفينَةٍ بَحْرِيَّةٍ مَعَ ثَلاثينَ رَجُلاً مِنْ لَخْمٍ وجُذامٍ، فَلَعِبَ بِهُمُ المَوْجُ شَهْرَاً في البَحْرِ ثُمَّ أُرْفِؤا إلى جَزيرَةٍ في البَحْرِ حَتّى مَغْرِبَ الشَّمْسِ فَجَلَسوا في أَقْرُبِ السَّفينَةِ، فَدَخَلوا الجَزيرَةَ فَلَقِيَتْهُم دابَّةٌ أَهْلَبُ الشَّعْرِ لا يَدْرونَ ما قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثرَةِ الشَّعْرِ، فَقالوا: وَيْلَكِ ما أَنْتِ؟ فَقالَتْ: أَنا الجَسَّاسَةُ. قالوا: وما الجسَّاسَةُ؟ قالَتْ: أيُّها القَوْمُ انْطَلِقوا إلى هَذا الرَّجُلِ في الدَّيْرِ فَإنَّهُ إلى خَبَرِكُمْ بالأَشْواقِ. قالَ: فَلَمَّا سَمَّتْ لَنا رَجُلاً فَرِقْنا مِنها أن تَكونَ شَيْطانَةً. قالَ: فانْطَلَقْنا سِراعاً حَتَّى دَخَلْنا الدَّيْرَ، فَإذا فيهِ أَعْظَمُ إنْسانٍ رَأَيْناهُ قَطُّ خَلْقاً وَأَشَدُّهُ وَثاقاً، مَجْموعَةً يَداهُ إلى عُنُقِهِ ما بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إلى كَعْبَيْهِ بِالحَديدِ. قُلْنا: وَيْلَكَ ما أَنْتَ؟ قالَ: قَدْ قَدِرْتُمْ عَلى خَبَري، فَأَخْبِروني مَنْ أَنْتُمْ. قالوا: نَحْنُ أُناسٌ مِنَ العَرَبِ رَكِبْنا في سَفينَةٍ بَحْرِيَّةٍ فَصادَفَنا البَحْرُ حينَ اغْتَلَمَ، فَلَعِبَ بِنا المَوْجُ شَهراً ثُمَّ أَرْفأَنا إلى جَزيرَتِكَ هَذِهِ فَجَلَسْنا في أَقْرُبِها فَدَخَلْنا الجَزيرَةَ فَلَقِيَتْنا دابَّةٌ أهْلَبُ كَثيرُ الشَّعْرِ لايُدْرى ما قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعْرِ، فَقُلْنا: وَيْلَكِ ما أَنْتِ؟ قالَتْ: أَنا الجَسّاسَةُ. قُلْنا: وما الجسّاسَةُ؟ قالَتْ: اعْمِدوا إلى هذا الرَّجُلِ في الدَّيْرِ، فَإنَّهُ إلى خَبَرِكُم بالأَشْواقِ. فَأَقْبَلنا إلَيْكَ سِراعاً وَفَزِعْنا مِنْها وَلَمْ نَأْمَنْ أنْ تَكونَ شَيْطانةً. فَقالَ: أخْبِروني عَنْ نَخْلِ بَيْسانَ [5]. قُلْنا: عَنْ أيِّ شَأْنِها تَسْتَخْبِرُ؟ قالَ: أسْأَلُكُم عن نَخْلِها هَلْ يُثْمِرُ؟ قُلْنا لَهُ: نَعَم. قالَ: أَما إنَّهُ يوشِكُ أَنْ لاتُثْمِرَ. قالَ: أَخْبِروني عَنْ بُحَيْرَة الطَّبَرِيَّةِ. قُلْنا: عنْ أَيَّ شَأْنِها تَسْتَخْبِرُ؟ قالَ: هَلْ فيها ماءٌ؟ قالوا: هِيَ كَثيرَةُ الماءِ. قالَ: أمَا إنَّ ماءَها يوشِكُ أنْ يَذْهَبَ. قالَ: أخْبِروني عَنْ عَيْنِ زُغَرَ[6]. قالوا: عَنْ أَيِّ شَأْنِها تَسْتَخْبِر ؟ قالَ: هَلْ في العَينِ ماءٌ؟ وهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُها بِماءِ العَيْنِ؟ قُلنا: نَعَم، هِيَ كَثيرَةُ الماءِ وأَهْلُها يَزْرَعونَ مِنْ مائِها. قالَ: أَخَبِروني عَنْ نَبِيِّ الأُمِّيِّينَ ما فَعَلَ؟ قالوا: قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَنَزَلَ يَثْرِبَ. قالَ: أَقاتَلَهُ العَرَبُ؟ قُلْنا: نَعَم. قالَ: كَيْفَ صَنَعَ بِهِم؟ فَأَخْبَرْناهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلى مَنْ يَليهِ مِنَ العَرَبِ وَأطاعُوهُ. قالَ لَهُم: قَدْ كانَ ذَلِكَ؟ قُلْنا: نَعَم. قالَ: أَما إنَّ ذاكَ خَيْرٌ لَهُم أَنْ يُطيعوهُ، وَإنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي إنِّي المَسيحُ، وإنّي أوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لي في الخُروجِ، فَأَخْرُجُ فَأَسيرُ في الأَرْضِ، فلا أَدَعُ قَرْيَةً إلاّ هَبَطْتُها في أرْبَعينَ لَيْلَةٍ غَيْرَ مَكَّةَ وطَيْبَةَ فَهُما مُحَرَّمَتانِ عَلَيَّ كِلْتاهُما، كُلَّما أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ واحِدَةً أوْ واحِداً مِنْهُما اسْتَقْبَلَني مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتاً يَصُدُّني عنها، وإنَّ عَلى كُلِّ نَقْبٍ مِنْها مَلائِكَةٌ يَحرُسونَها. قالَتْ: قالَ رسولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطعَنَ بِمِخْصَرَتِهِ في المِنْبَرِ -: هَذِهِ طَيبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ، - يَعْني المَدينَةَ - ألا هَلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُم ذَلِكَ؟ فَقالَ الناسُ: نَعَم. فَإنَّهُ أَعْجَبَني حَديثُ تَميمٍ أنَّهُ وافَقَ الذي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ وعَنِ المَدينَةِ وَمَكَّةَ. أَلا إنَّهُ في بَحْرِ الشَّام أو بَحْرِ اليَمَنِ، لا بَل مِنْ قِبَلِ المَشْرِقِ، ما هُوَ مِنْ قِبَلِ المَشْرِقِ، ما هُوَ مِنْ قِبَلِ المَشْرِقِ ما هُو«، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إلى المَشْرِقِ. قالَتْ: فَحَفِظْتُ هَذا مِنْ رَسولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [7].
ولفظة »ما هُوَ« زائدة صلة للكلام ليست بنافية، والمراد إثبات أنه في جهة الشرق.
الدَّجَّال يهوديُّ المِلَّة(/3)
روى الإمامُ مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدريرضي الله عنه قال: قال لي ابنُ صائد- وأَخَذَتْني منه ذمامة [8] -: هذا عَذَرْت الناس، ما لي ولَكم يا أصْحابَ محمّد! ألَمْ يَقُلْ نَبيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّه يهوديٌّ وقَدْ أَسْلَمْتُ! قال: ولا يولَدُ لَهُ، وقد وُلِدَ لي! وقال: إنَّ اللّهَ حَرَّمَ عليهِ مَكَّةَ والمدينَةَ.. الحديث[9].
وابن صائدهذا كان يشكُّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه الدَّجَّال في بادِئ الأمر عندما كان ابن صائد صغيراً، حيث كانت تأتيه الشياطينُ وكان يتكهَّن، ويزعم أنه يرى عرشاً على الماء - أي عرش إبليس[10]-، ثم أسلم بعد ذلك.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فمررنا بصبيانٍ فيهم ابن صياد، ففرّ الصبيانُ وجلس ابنُ صياد، فكأنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كره ذلك، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: »تربتْ يداكَ، أتشهدُ أني رسولُ الله؟« فقال: لا. بل تشهد أني رسول الله؟ فقال عمر بن الخطاب: ذرني يا رسول الله حتى أقتله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »إنْ يكن الذي ترى فلن تستطيعَ قتله«.[11] وفي رواية: أن عمر بن الخطاب انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهطٍ قِبَلَ ابنِ صياد حتى وجده يعلبُ مع الصبيانِ عند أُطُمِ بني مَغالة، وقد قاربَ ابنُ صياد يومئذٍ الحُلُم، فلم يشعرْ حتى ضربَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظهرَه بيده، ثم قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لابن صياد: »أتشهدُ أني رسولُ الله؟« فنظر إليه ابنُ صياد فقال: أشهدُ أنكَ رسولُ الأمِّيِّين. فقال ابنُ صياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسولُ الله؟ فرفضه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال [- صلى الله عليه وسلم -]: »آمنتُ باللهِ وبرسله«، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: »ماذا ترى؟« قال ابنُ صياد: يأتيني صادق وكاذب، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: »خُلِّطَ عليه الأمر«. ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: »إني قد خبَّأْتُ لَكَ خَبيئاً«، فقال ابنُ صياد: هُوَ الدُّخُّ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخْسأْ فلن تَعْدُوَ قدرَك«. فقال عمرُ بن الخطاب: ذرني يا رسولَ الله أضرِبْ عنقه! فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: »إِنْ يَكُنْهُ فلن تُسَلَّطَ عليه، وإن لم يَكُنْهُ فلا خيرَ لك في قتله«.[12]
ومِمَّا يدلُّ أيضاً عَلى أنَّ الدَّجَّالَ يهودي الملَّة هو أنَّه عند خروجِه مِن أصفَهان - وتدعى أصبَهان أيضاً - يتبعُه سبعونَ ألفاً من يهودِها، كما روى الإمام مسلم في الصحيح عن أنس بن مالكعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
»يَتْبَعُ الدَّجَّالَمِنْ يهودِ أصْبَهانَ سَبعونَ أَلْفاً عَليهِمُ الطَّيالِسَةُ«.[13] والطيالسة جمع طلسان أو طيلسان (معرّب)، وهو ضرب من الأوشحة يلبس على الكتف.
ابن صائد وأبو سعيد الخدري
ولأبي سعيد الخدري رضي الله عنه مع ابنِ صائد قصص وأحداث، منها ما رواه الإمام مسلم في الصحيح عنه قال: صحبتُ ابنَ صائد إلى مكّةَ فقال لي: أمَا إنّي قدْ لَقيتُ منَ النّاسِ، يزعُمونَ أنِّي الدَّجَّال! أَلَسْتَ سَمِعْتَ رسولَ اللّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنّهُ لا يولَدُ له؟ قلتُ: بَلى. قالَ: فَقَد وُلِدَ لي. أوَلَيسَ سَمِعْتَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: لا يَدْخُلُ المَدينةَ ولا مَكّةَ؟ قلتُ: بَلى. قالَ: فَقَدْ وُلِدْتُ بِالمَدينةِ وهذا أنا أُريدُ مَكَّةَ. قال: ثمّ قالَ لي في آخِرِ قَوْلِهِ: أمَا واللهِ إنّي لأعْلَمُ مَوْلِدَهُ ومَكانَهُ وأينَ هو. قالَ : فَلَبِسَني[14]. وهذا يدل على أن اليهود يعلمون أين هو ويتوارثون أخباره، أو يعلمه خاصتهم ممن يتعامل مع الشياطين لأن ابن صائد كان ممن تتنَزل عليه الشياطين قبل إسلامه.(/4)
وَرَوى مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدريقال: خَرَجْنا حُجّاجاً أَوْ عُمّاراً ومَعَنا ابْنُ صائد، قال: فَنَزَلْنا مَنْزِلاً فَتَفَرَّقَ النّاسُ وبَقيتُ أنا وَهُوَ، فاسْتَوْحَشْتُ مِنْهُ وَحْشَةً شَديدَةً مِمّا يُقالُ عَلَيْهِ. قال: وجاءَ بِمَتاعِهِ فَوَضَعَهُ مَعَ مَتاعي، فَقُلْتُ: إنَّ الحَرَّ شَديدٌ، فَلَوْ وَضَعْتَه تَحْتَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، قالَ: فَفَعَلَ. قال: فَرُفِعَتْ لَنا غَنَمٌ، فانْطَلَقَ فجاءَ بِعُسٍّ[15]، فَقالَ: إشْرَبْ أبا سَعيدٍ، فَقُلْتُ: إنَّ الحَرَّ شَديدٌ واللَّبَنَ حارٌّ - ما بي إلاّ أنّي أَكْرَهُ أنْ أشْرَبَ عَنْ يَدِهِ - أو قال -: آخُذُ عَنْ يَدِهِ. فَقالَ: أبا سعيدٍ! لَقَد هَمَمْتُ أَنْ آخُذَ حَبْلاً فَأُعَلِّقَهُ بِشَجَرَةٍ ثُمَّ أخْتَنِقَ مِمّا يَقولُ ليَ الناسُ. يا أبا سعيد! مَنْ خَفِيَ عَلَيهِ حَديثُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما خَفِيَ عليكُم معشَرَ الأنْصار؟ أَلَسْتَ مِنْ أعْلَمِ النّاسِ بِحَديثِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَلَيْسَ قَد قالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ كافِرٌ، وأنا مُسْلِمٌ؟ أَوَلَيْسَ قَد قالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عَقيمٌ لا يولَدُ له، وقد تَرَكْتُ ولدي في المدينَةِ؟ أَوَلَيْسَ قدْ قالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَدْخُلُ المَدينةَ ولا مَكَّةَ، وَقَدْ أَقْبَلْتُ مِنَ المَدينَةِ وأنا أُريدُ مَكَّةَ؟ قال أبو سعيد: حَتّى كِدْتُ أنْ أعْذُرَهُ، ثُمَّ قالَ: أمَا واللهِ، إنّي لأعْرفُهُ وأعْرِفُ مَولِدَهُ وأينَ هُوَ الآنَ! قال: قُلْتُ لَه: تَبّاً لَكَ سائِرَ اليَوْمِ.[16]
سبب ومكان خروج الدجال
فأمّا مكان خروجِه فَمِن أرض الفِتن، أرض المَشرق، حيث يتبعه مِن أهلها مَن وصفهم لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي رواه الترمذي والحاكم بسند صحيح عن أبي بكررضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
»إنّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ مِن أرْضٍ بِالمَشرِقِ يُقالُ لَها خُراسان، يَتْبَعُهُ أقوامٌ كَأَنَّ وُجوهَهُم المَجَانُّ المُطْرَقَةُ«.[17] أي وجوههم كالأترسة الممدودة، وهي صفة للتتار والترك.
وأمّا سبب خروجه، فقد روى الإمام مسلم في الصحيح عن أمِّ المؤمنين حفصة بنت عمررضي الله عنهما أنها قالت: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
»إنّما يخرج مِنْ غَضْبَةٍ يَغْضَبُه«. وفي رواية »إنّ أوَّلَ ما يبعَثُهُ على الناسِ غَضَبٌ يغْضَبُهُ«[18].
ونحن لا ندري ما يغضب الدجال: هل هو تحرير بيت المقدس من أيدي اليهود؟ أم هل هو انهيار القوى الصليبية بعد انتصار المسلمين على النصارى – الذين يسيرهم اليهود في العالم-؟ الله تعالى أعلم، لكن نستطيع القول أن ما يغضبه هو أمر في صالح الأمة الإسلامية، فنسأل الله تعالى أن يعجل النصر القريب.
وعندما يخرج الدجال تكون همّته المدينة المنورة - حفظها الله - لسبب الله أعلم به، ولعلها تكون في ذلك الوقت معقلاً للإسلام والمسلمين، كما أخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله:
»إن الإسلام بدأ غريباً وسَيَعودُ كما بَدَأَ، وهُوَ يَأْرِزُ[19]بَيْنَ المَسجِدَيْنِ كما تَأرزُ الحيَّةُ في جُحْرِها«.[20]
روى الإمام مسلم والإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل - رحمهما الله - عن أبي هريرةرضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
»يَأْتي الْمَسيحُمِنْ قِبَلِ المَشْرِقِ وهِمَّتُهُ المدينَةُ حَتّى يَنْزِلَ دُبُرَ أُحُدٍ، ثُمَّ تَصْرِفُ المَلائِكَةُ وَجْهَهُ قِبَلَ الشّامِ وهُناكَ يَهْلِكُ«.[21]
إن عدم استطاعة الدَّجَّال دخول المدينة منقبة من مناقبها الكثيرة، فهي محمية تحرسها الملائكة، كما جاء في الأحاديث الصحيحة.
روى مالكوأحمدوالشيخان عن أبي هريرةقالَ: قالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
»عَلى أنْقابِ[22] المَدينَةِ مَلائِكَةٌ، لا يَدْخُلُها الطاعونُ ولا الدَّجَّالُ«. وَفي رِواية لأَنَسِ بن مالكعند البخاريوالنسائي، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:»لَيْسَ منْ بَلَدٍ إلاّ سَيَطَؤه الدَّجَّالُ، إلاّ مَكَّةَ والمَدينَةَ، ولَيسَ نَقْبٌ مِنْ أنْقابها إلاَّ عَلَيهِ مَلائكَةٌ حافِّينَ تَحْرُسُها، فَيَنْزِلُ بالسَّبْخَةِ[23]، فَتَرْجُفُ المَدينَةُ بِأهْلِها ثلاثَ رَجفاتٍ، يَخرجُ إليهِ مِنها كُلُّ كافِرٍ ومُنافِقٍ«.
لذلك سمَّاها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طيبة وأنّها تنفثُ خبَثَها كما ينفث الكيرُ خبثَ الحَديد.
روى البخاريعن أبي بكرةأنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:
»لا يَدْخُلُ المَدينَةَ رُعبُ المسيحِ، لَها يَومَئذٍ سَبعَةُ أبواب، على كلِّ بابٍ مَلَكان«.[24](/5)
والأحاديث في هذا الشأن كثيرة .
صفة المسيح الدَّجَّال
لقد وصف لنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسيحَ الدَّجَّال وصفاً دقيقاً بأحاديث صحيحة مستفيضة، حتى أنه قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: »إنّي حَدَّثْتُكُم عَنِ الدَّجّالِ حتى خَشيتُ أنْ لا تَعقِلوا ..« الحديث - وسيأتي إن شاء الله -. وذلك لأنّ فتنته عظيمة، كما قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
»يا أيُّها النّاسُ! إنّها لَم تَكُنْ فِتْنَةٌ على وَجْهِ الأرْضِ، مُنْذُ ذَرَأَ الله ذُرِّيَّةَ آدَمَ، أعْظَمَ مِن فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. وإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيَّاً إلاّ حَذَّرَ أُمَّتَهُ الدّجَالَ، وأنا آخِرُ الأَنْبِياءِ وأَنْتُم آخِرُ الأُمَمِ، وهُوَ خارِجٌ فيكُم لا مَحالَة ..« الحديث.
إنَّ أهم ما يميِّز الدَّجَّالَ هو عوَر عينه اليمنى وانطماس اليسرى، وأنه مكتوب بين عينيه كافر. فلْنقرأْ حديثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصفه لنا.
يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
»إنّي حَدَّثْتُكُم عَنِ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشيتُ ألاّ تَعْقِلوا. إنَّ المَسيحَ الدَّجَّالَ رَجُلٌ أفْحَجُ[25]، جَعْدٌ[26]، أعْوَرُ العينِ، لَيْسَتْ بِناتِئةٍ وَلا حَجْراء[27]، فَإنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُم فَاعْلَموا أنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وأنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَموتوا«.[28]
وروى البخاريعن عبد الله بن عمررضي الله عليه عنهما قال: قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
»ما بَعَثَ اللّهُ مِنْ نَبيٍّ إلاّ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ، أَنْذَرَهُ نوحٌوالنَّبِيُّونَ مِنْ بَعْدِهِ، وأَنَّهُ يَخْرُجُ فيكُمْ فَما خَفِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ شَأْنِهِ، فَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْكُم أنَّ رَبَّكُم لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وأنَّهُ أَعْوَرُ العَيْنِ اليُمْنى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عَنِبَةٌ طافِيَةٌ«.[29]
وفي الحديث الذي رواه إبنُ ماجةَ والحاكم - وسيأتي بطوله - يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخبراً عن الدَّجَّال:
»يقول أنا رَبُّكُم. ولا تروا رَبَّكم حَتّى تَموتوا. وإنَّهُ أعْورُ، وإنَّ رَبَّكُم لَيْسَ بَأعْوَرَ، مَكْتوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كافِرٌ، يَقْرَؤهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كاتِبٍ أو غِيْرِ كاتِبٍ ...« الحديث.
وقَدْ رآه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام ووَصَفَهُ بقولِه:
»ثُمَّ أنا بِرَجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ، أعْوَرِ العَيْنِ اليُمْنى كأنَّها عَنِبَةٌ طافِيةٌ، فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذا؟ فَقيلَ لي: المَسيحُ الدَّجَّالُ«.[30]
وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن حذيفة، ورواه الإمام أحمد عن أنس وسمرة وسفينة، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
»إنَّ الدَّجَّالَ مَمْسوحُ العَيْنِ اليُسْرى، عَلَيْها ظَفِرَةٌ، مَكْتوبٌ بَيْنَ عَيْنَيهِ كافِر«.[31]
وعينُه خضراء اللون وهي كالزجاجة، كما روى أحمد وأبو نَعيم بسند صحيح عن أُبَيّ بن كعب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
»الدَّجّالُ عَيْنُهُ خَضْراءُ كالزجاجة«.[32]
وقد شَبَّهَهُ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَبْدِ العُزَّى بن قَطَن، وهو رجل من خُزاعة، فَقال:
».. ثمّ رَأَيْتُ رَجُلاً جَعْداً قَطَطاً، أعْوَرَ العينِ اليُمْنى، كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ بِابْنِ قَطَن، واضِعاً يَدَيْهِ عَلى مَنْكِبَيْ رَجُلٍ يَطوفُ بِالْبَيْتِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذا؟ فَقالوا: المَسيحُ الدَّجالُ...« الحديث[33]
ومن المناسب هنا أن نذكر أن الدَّجَّال سيخرج بعد فتح المسلمين للقسطنطينية الفتح الثاني لها، وأما الفتح الأول فقد تم على أيدي المسلمين تحت قيادة السلطان العثماني محمد الفاتح، رحمه الله.
روى الإمام مسلمعن أبي هريرةأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:(/6)
»لا تَقومُ السّاعَةُ حَتّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأعْماقِ أو بِدابِقٍ[34]، فَيَخْرُجُ إلَيْهِم جَيْشٌ مِنْ خِيارِ أهْلِ الأرْضِ يَوْمَئِذٍ، فَإذا تَصافَّوْا قالَتِ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنا وَبِيْنَ الّذينَ سَبُوا[35] مِنّا نُقاتِلْهُم. فَيَقولُ الْمُسْلِمونَ: لا واللَّهِ، لانُخَلِّي بَيْنَكُم وَبَيْنَ إخْوانِنا. فَيُقاتِلوهُم، فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لايَتوبُ اللَّهُ عَلَيهِم أَبَداً، ويُقْتَلُ ثُلُثُهُم، أفضَلُ الشُّهَداء عِنْدَ اللَّهِ، ويَفْتَتِحُ الثُّلُثُ، لايُفْتَنونَ أبَداً، فَيَفْتَتِحونَ القُسْطَنْطينِيّةَ. فَبَيْنَما هُم يَقْتَسِمونَ المَغانِمَ قَدْ عَلَّقوا سُيوفَهُم بِالزَّيْتونِ، إذْ صاحَ فيهِمُ الشَّيْطانُ: أنّ المَسيحَ قَد خَلَفَكُم في أهْليكُم، فَيَخْرُجونَ، وذلِكَ باطِلٌ، فَإذا جاءوا الشّامَ خَرَجَ« وفي رِواية -: »فَبَيْنَما هُم يَقْتَسِمونَ المَغانِمَ إذْ جاءِهُمُ الصَّريخُ فَقالَ: إنَّ الدَّجَّالَ قَد خَرَجَ ، فَيَتْرُكونَ كُلَّ شَيْءٍ ويَرْجِعونَ...« وسيأتي الحديث بطوله إن شاء الله.
حديث النَّوَّاس بنِ سَمْعان- رضي الله عنه -
قال الإمام مسلمفي صحيحه: حدثنا محمد بن مهرانالرازي (واللفظ له) حدثنا الوليد بن مسلمحدثنا عبد الرحمن ابن يزيدبن جابر عن يحيى بن جابرالطائي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفيرعن أبيه جبير بن نفير عن النواس بن سمعان قال:
»ذَكَرَ رَسولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَذاتَ غَداةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ ورَفَّعَ[36] حَتّى ظَنَنّاهُ في طائِفَةِ النَّخْلِ، فَلَمّا رُحْنا إلَيهِ عَرَفَ ذَلِكَ فينا، فَقالَ: ما شَأْنُكُم؟ قُلْنا: يارَسولَ اللهِ، ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَداةً فَخَفَّضتَ فيهِ وَرَفّعتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ في طائِفَةِ النَّخْلِ! فَقالَ : »غَيرُ الدَّجَّالِ أخْوَفُني عَلَيْكُم؟ إنْ يَخْرُجْ وَأنا فيكُم فَأَنا حَجِيجُهُ دونَكُم، وإنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فيكُم فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ وَاللّهُ خَلِيفَتي عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ.
إنَّهُ شابٌّ، قَطَطٌ، عَيْنُهُ طافِئةٌ، كَأَنّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ العُزَّى بن قَطَنٍ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَليهِ فَواتِحَ سُورَةِ الكَهْفِ.(/7)
إنَّهُ خارِجٌ خَلَّةً[37] بَيْنَ الشّامِ وَالعِراقِ، فَعاثَ[38] يَميناً وعاثَ شِمالاً. يا عِبادَ اللّهِ فَاثْبُتوا. قُلنا: يارسولَ اللّهِ، وما لَبْثُهُ في الأَرْضِ؟ قالَ: أَرْبَعونَ يَوماً، يومٌ كَسَنَةٍ، ويَومٌ كَشَهْرٍ، وَيَومٌ كَجُمُعَةٍ، وَسائِرُ أيّامِهِ كَأَيّامِكُمْ. قُلْنا: يارسولَ اللّهِ، فَذَلِكَ اليومُ الّذي كَسَنَةٍ أَتَكْفينا فيهِ صَلاةُ يَومٍ؟ قالَ: لا، أُقْدروا لَهُ قَدْرَهُ. قُلنا: يارسولَ اللّهِ، وما إسْراعُهُ في الأَرْضِ؟ قالَ: كالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَيَأْتي عَلى القَوْمِ فَيَدْعوهُم فَيُؤْمِنونَ بِهِ وَيَسْتَجيبونَ لَهُ، فَيَأْمُرُ السّماءَ فَتُمْطِرُ، والأرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَروحُ عَلَيْهِم سارِحَتُهُم[39] أطْولَ ما كانَتْ ذُرَاً[40] وأسْبَغَهُ[41] ضُروعَاً وأمَدَّهُ[42] خَواصِرَ. ثُمَّ يَأتي القَومَ فَيَدْعوهُم فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَولَهُ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُم فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيسَ بِأَيْديهِم شَيءٌ مِنْ أمْوالِهِم. وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقولُ لَها أَخْرِجي كُنوزَكِ، فَتَتْبَعُهُ كُنوزُها كَيَعاسيبِ النَّحْلِ. ثُمَّ يَدْعو رَجُلاً مُمْتَلِئاً شَباباً فَيَضْرِبُهُ بالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جِزْلَتَينِ رَمْيَةَ الغَرَضِ[43]، ثُمَّ يَدْعوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ. فَبَيْنَما هُوَ كذلِكَ إذْ بَعَثَ اللّهُ المَسِيحَ ابنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ المَنارَةِ البَيْضاء شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرودَتَيْنِ[44] واضِعاً كَفَّيْهِ عَلى أجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إذا طَأطَأَ رَأسَهُ قَطَرَ، وإذا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمانٌ كَاللُّؤلُؤِ، فلا يَحِلُّ لِكافِرٍ يَجِدُ ريحَ نَفَسِهِ إلاّ ماتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهي حَيْثُ يَنْتَهي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتّى يُدْرِكَهُ بِبابِ لُدٍّ[45]فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَأتي عيسى بنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِم وَيُحَدِّثُهُم بِدَرَجاتِهِم في الجِنَّةِ. فَبَيْنَما هُوَ كَذلِكَ إذْ أَوْحى اللّهُ إلى عيسى أَنّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِباداً لي لا يَدانِ[46] لأحَدٍ بِقِتالِهِم فَحَرِّزْ[47] عِبادي إلى الطُّورِ. ويَبْعَثُ اللّهُ يَأْجوجَ وَمَأْجوجَوَهُم مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلونَ، فَيَمُرُّ أَوائلُهُم عَلى بُحَيرَةِ طَبَرِيّة فَيَشْرَبونَ ما فيها، وَيَمُرُّ آخِرُهُم فَيَقولونَ لَقد كان بِهَذهِ مَرّةً ماءٌ. وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللَّهِ عيسىوأصْحابُهُ، حَتّى يَكونَ رَأسُ الثَّوْرِ لأحَدِهِم خَيراً مِنْ مِائَةِ دينارٍ لأحَدِكُمُ اليَوْم، فَيَرْغَبُ[48] نَبِيُّ اللّهِ عيسى وَاَصْحابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّغَفَ[49] في رِقابِهِم، فَيُصْبِحونَ فَرْسى[50] كَمَوْتِ نَفْسِ واحِدَةٍ، ثُمّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللّهِ عيسى وأصْحابُهُ إلى الأَرْضِ فلا يَجِدونَ في الأرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إلاّ مَلأَهُ زَهَمُهُم[51]ونَتَنُهُم، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عيسى وَأَصْحابُهُ إلى اللَّهِ فَيُرْسِلُ اللّهُ طَيْراً كَأَعْناقِ البُخْتِ[52]فَتَحمِلُهُم فَتَطْرَحُهُم حَيْثُ شاءَ اللَّهُ، ثُمّ يُرْسِلُ اللّهُ مَطَراً لايَكُنّ[53]ُ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، فَيَغسِلُ الأرْضَ حَتّى يَتْرُكَها كَالزَّلَفةِ[54]، ثُمَّ يُقالُ لِلأَرْضِ أَنْبِتي ثَمَرَتَكِ وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ العِصابَةُ مِنَ الرُّمانَةِ ويَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِها[55] ويُبارَكُ في الرَّسْلِ[56]، حَتّى أنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الإبِلِ لَتَكْفي الفِآمَ[57] مِنَ النَّاسِ، واللِّقْحَةَ مِنَ البَقَرِ لَتَكْفي القَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، واللِّقْحَةَ مِنَ الغَنَمِ لَتَكْفي الفَخِذَ[58] مِنَ النَّاسِ. فَبَيْنَما هُمْ كَذَلِكَ إذْ بَعَثَ اللَّهُ ريحاً طَيِّبَةً فَتَأخُذُهُم تَحْتَ آباطِهِم فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وكُلِّ مُسْلِمٍ ويَبْقى شِرارُ النَّاسِ يَتَهارَجونَ[59] فيها تَهارُجَ الحُمُرِ، فَعَلَيْهِم تَقومُ السّاعَةُ«.[60]
في هذا الحديث الجليل ثلاثة أشراط من أشراط الساعة الكبرى وهي: الدَّجّال، وعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، ويأجوج ومأجوج. والحديث أيضاً يروي أحداثاً كثيرة فُصِّلَتْ في أحاديث أخرى سنأتي على ذكرها إن شاء الله تعالى.
إن القسم الأول من حديث النواس بن سمعان يتناول الدَّجَّالوأعماله وقصته مع الشاب الذي يخرج إليه، وأما القسم الثاني فيتناول نزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام وقتلَه الدَّجَّال، وذكر يأجوج ومأجوج. وسنتكلم بالتفصيل إن شاء الله عن كل من هذه الأحداث .
روى ابن ماجة وابن خزيمةوالحاكم والضياء كلهم عن أبي أمامةرضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:(/8)
»يَا أيُّها النَّاسُ! إنَّها لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ عَلى وَجْهِ الأَرْضِ، مُنْذُ ذَرَأَ اللّهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ، أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَإنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيَّاً إلاّ حَذَّرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ، وأنا آخِرُ الأنْبِياءِ وأَنْتُمْ آخِرُ الأُمَمِ وَهُوَ خارِجٌ فيكُم لا مَحالةَ، فَإنْ يَخْرُجْ وأنا بَيْنَ أَظْهُرِكُم فَأنا حَجيجٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَإنْ يَخْرُجْ مِنْ بَعْدِي فَكُلٌّ حَجيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَليفَتي عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَإنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ خَلَّةٍ بَيْنَ الشَّامِ والعِراقِ، فَيَعيثُ يَميناً وَشِمالاً، ياعِبادَ اللَّهِ، أيُّها النَّاسُ، فَاثْبُتوا فَإنِّي سَأَصِفُهُ لَكُمْ صِفَةً لَمْ يَصِفْها إيّاهُ قَبْلي نَبِيٌّ .. يَقُولُ: أَنا رَبُّكُم، وَلا تَرَوْنَ رَبَّكُم حَتّى تَموتُوا، وَإنَّهُ أَعْوَرُ، وَإنَّ رَبَّكُم لَيسَ بِأعْوَرَ، وَإنَّهُ مَكْتوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كافِرٌ، يَقْرَؤهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كاتِبٍ أَوْ غَيْرِ كاتِبٍ، وَإنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنَّ مَعَهُ جَنَّةً وَناراً، فَنارُهُ جَنَّةٌ، وَجَنَّتُهُ نارٌ، فَمَنِ ابْتُلِيَ بِنارِهِ فَلْيَسْتَغِثْ بِاللَّهِ وَلْيَقْرَأْ فَواتِحَ سُورَةِ الكَهْفِ[61]. وَإنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أنْ يُسَلَّطَ عَلى نَفْسٍ واحِدَةٍ فَيَقْتُلُها، يَنْشِرُها بِالْمِنْشارِ حَتَّى تُلْقى شِقَّيْنِ، ثُمَّ يقولُ: أُنْظُروا إلى عَبْدي هذا فَإنِّي أَبْعَثُهُ ثُمَّ يَزْعُمُ أنَّ لَهُ رَبَّاً غَيْري. فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ، وَيَقولُ لَهُ الْخَبيثُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقولُ: رَبِّيَ اللَّهُ وَأَنْتَ عّدُوُّ اللَّهِ، أَنْتَ الدَّجَّالُ، وَاللَّهِ ماكُنْتُ أشَدَّ بَصيرَةً بِكَ مِنِّي الْيَوْمَ.
وَإنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَأمُرَ السَّماءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرُ، وَيَأْمُرَ الأَرْضَ أَنْ تُنْبِتَ فَتُنْبِتُ. وَإنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَمُرَّ بِالْحَيِّ فَيُكُذِّبونَهُ، فَلا يَبْقى لَهُمْ سائِمَةٌ إلاّ هَلَكَتْ. وَإنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَمُرَّ بِالْحَيِّ فَيُصَدِّقونَهُ، فَيَأْمُرُ السَّماءَ أن تُمْطِرَ فَتُمْطِرُ، ويَأْمُرَ الأَرْضَ أن تَنْبِتَ فَتَنْبِتَ، حَتّى تَروحَ مَواشيهِمْ مِنْ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ أَسْمَنَ ماكانَتْ وأَعْظَمَهُ وَأَمَدَّهُ خَواصِرَ وَأَدَرَّهُ ضُروعاً، وَإنَّهُ لايَبْقَى شَيْئٌ مِنَ الأَرْضِ إلاّ وَطِئَهُ أو ظَهَرَ عَلَيْهِ، إلاّ مَكَّةَ والْمَدينَةَ، لايَأْتيهِما مِنْ نَقْبٍ مِنْ أَنقابِها إلاّ لَقيَتْهُ المَلائِكَةُ بِالسِّيوفِ صَلْتَةً، حَتَّى يَنْزِلَ عِنْدَ الكَثيبِ الأَحْمَرِ، عِنْدَ مُنْقَطَعِ السَّبْخَةِ، فَتَرْجُفُ المَدينَةُ بِأَهْلِها ثَلاثَ رَجَفاتٍ، فَلا يَبْقى فيها مُنافِقٌ ولا مُنافِقَةٌ إلاّ خَرَجَ إلَيْهِ، فَتَنْفي الخَبِيثَ مِنْها كَما يَنْفي الكِيْرُ خَبَثَ الحَديدِ، وَيُدْعى ذَلِكَ الْيَومُ يَوْمَ الخَلاصِ.« الحَديث[62].
ورَدَ في الأحاديث السابقة صفة الدجال وكيف أن الأنبياء أنذروا أممهم منه، وفي الحديث السابق وردَ ذكر جنّته وناره.
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
»إنَّهُ أعْوَرُ، مَعَهُ تِمْثالُ الجَنَّةِ والنَّارِ، فَالَّتي يَقولُ إنَّها الجَنَّةُ، هي النّارُ...« الحديث.
ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
»إنَّ مَعَ الدَّجَّالِ إذا خَرَجَ ماءً وناراً، فَأمّا الَّذي يَرى النَّاسُ أنَّها النّارُ فَماءٌ بارِدٌ، وَأَمّا الَّذي يَرى النَّاسُ أنَّها ماءٌ بارِدٌ فَنارٌ تَحْرِقُ، فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ فَلْيَقَعْ في الَّذي يَرى أَنَّها النّارُ ، فَإنَّهُ عَذْبٌ بارِدٌ«.[63]
وروى الإمام البخاريومسلموأحمدوأبو داود عن حذيفةوأبي مسعودعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
»لأَنا أعْلَمُ بِما مَعَ الدَّجَّالِمِنَ الدَّجَّالِ، مَعَهُ نَهْرانِ يَجْرِيانِ، أحَدُهُما رَأيَ العَيْنِ ماءٌ أبْيَضُ، والآخَرُ رَأيَ العَيْنِ نارٌ تَأَجَّجَ. فَإِمَّا أدْرَكَهُنَّ واحِدٌ مِنْكُم فَلْيَأْتِ النَّهْرَ الَّذي يَراهُ ناراً، ثُمَّ لْيَغْمِسْ ثُمَّ لِيُطَأطِئْ رَأْسَهُ فَلْيَشْرَبْ فَإنَّهُ ماءٌ بارِدٌ. وإنَّ الدَّجَّالَ مَمْسوحُ العَيْنِ اليُسْرى عَلَيْها ظَفَرَةٌ[64] غَليظَةٌ، مَكْتوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كافِرٌ، يَقْرَؤهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، كاتِبٍ وَغَيرِ كاتِبٍ«.[65]
وقد حذَّرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى من القرب منه، وذلك لشدة فتنته، فقال:
»مَنْ سَمِعَ بالدَّجَّالِفَلْيَنْأَ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ إنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتيهِ وَهُوَ يَحْسَبُ أنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتْبَعُهُ مِمّا يَبْعَثُ بِهِ الشُّبُهاتِ«[66].
الدجال والشاب المؤمن(/9)
قد مرَّ معنا ذكر الشاب الذي يقتله الدَّجَّال، والذي يخرج إليه من المدينة، ومسالح الدَّجَّال نازلة دبر جبل أُحُدٍ، فَيَتَحَدّاه أمام الناس كلّهم مكذِّباً إياه أنه رب.
روى البخاريومسلم-واللفظ للبخاري- عن الصحابي أبي سعيد الخدريرضي الله عنه قال: حدثنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً طويلاً عن الدَّجَّال، فكان فيما حدّثنا قال:
»يأتي الدَّجَّالُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أنْ يَدْخُلَ نِقابَ المَدينَةِ، فَيَنْزِلُ بَعْضَ السِّباخِ الَّتي تَلي المَدينَةَ، فَيَخْرُجُ إلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ أوْ مِنْ خِيارِ النَّاسِ فَيَقولُ لَهُ: أشْهَدُ أنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذي حَدَّثَنا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَديثَهُ، فَيَقول الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إنْ قَتَلْتُ هذا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ في الأَمْرِ؟ فَيَقولونَ: لا. فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقولُ: وَاللَّهِ ما كُنْتُ فيكَ أَشَدَّ بَصيرَةً مِنِّي اليَومَ. قال: فَيُريدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَلا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ«[67].
وروى الإمام مسلم في الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
»يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فَيَتَوَجَّهُ قِبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ المُؤْمِنينَ، فَتَلْقاهُ المَسالِحُ[68]، مَسالِحُ الدَّجَّالِ، فَيَقولونَ لَهُ: أَيْنَ تَعْمِدُ؟ فَيَقُولُ: أَعْمِدُ إلى هَذا الَّذي خَرَجَ. قال: فَيَقولونَ لَهُ: أَوَ ما تُؤْمِنُ بِرَبِّنا؟ فَيَقولُ: ما بِرَبِّنا خَفاءٌ! فَيَقولونَ: أُقتُلوهُ. فَيَقولُ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ: أَلَيْسَ قَدْ نَهاكُمْ رَبُّكُمْ أَنْ تَقْتُلوا أَحَداً دونَهُ؟ قال: فَيَنطَلِقونَ بِهِ إلَى الدَّجَّالِ، فَإذا رَآهُ المُؤْمِنُ قالَ: ياأيُّها النّاسُ، هَذا الدَّجَّالُ الَّذي ذَكَرَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فَيَأْمُرُ الدَّجّالُ بِهِ فَيُشَبَّحُ[69]، فَيَقولُ: خُذوهُ وَشُجُّوهُ[70]، فَيُوسَعُ ظَهْرُهُ وَبَطْنُهُ ضَرْباً. قال: فَيَقول: أَوَما تُؤْمِنُ بي؟ فَيَقولُ: أَنْتَ الْمَسيحُ الكَذَّابُ. قال: فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُؤْشَرُ بِالْمِئْشارِ مِنْ مَفْرَقِهِ[71] حَتّى يُفَرَّقَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ. قال: ثُمَّ يَمْشي الدَّجَّالُ بَيْنَ القِطْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَقولُ لَهُ: قُمْ، فَيَستَوي قائماً. قال: ثُمَّ يَقولُ لَهُ: أَوَما تُؤْمِنُ بي؟ فَيَقولُ: ما ازْدَدتُّ فيكَ إلاّ بَصيرَةً. قالَ: ثُمَّ يَقولُ: ياأَيُّها النّاسُ، إنَّهُ لايَفْعَلُ بَعْدي بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسٍ. قال: فَيَأخُذُهُ الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ، فَيُجْعَلُ ما بَيْنَ رَقْبَتِهِ إلَى تَرْقُوَتِهِ[72] نُحاساً فلا يَسْتَطيعُ إلَيْهِ سَبيلاً. قال: فَيَاًْخُذُ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَيَقْذِفُ بِهِ، فَيَحْسِبُ النَّاسُ أَنَّما قَذَفَهُ إلى النَّارِ، وَإنَّما أُلْقِيَ في الجَنَّةِ. فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذا أَعْظَمُ النّاس شَهادَةً عِندَ رَبِّ العالَمينَ«.[73]
وبهذه الأحاديثِ التي ذَكرناها تفسر لنا الحديث المختصر الذي رواه مسلم وأحمدعن أبي هريرةرضي الله عنه عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:
»يَأْتي المَسيحُمِنْ قِبَلِ المَشْرِقِ وَهِمَّتُهُ المَدينَةُ حَتّى يَنْزِلَ دُبُرَ أًحُدٍ، ثُمَّ تَصْرِفُ المَلائِكَةُ وَجْهَهُ قِبَلَ الشَّامِ، وهُنالكَ يَهْلِكُ«،[74] أي يَقتله المسيحُ عيسى بن مريمصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
العلامات الدّالّة على خروج الدّجّال
وَهنا يَرِدُ سؤال: هل سيكون قبل خروج الدَّجَّالعلامات تدلُّ على قرب خروجه؟ الجواب: نعم. فقد جاء في الحديث الطويل الذي رواه ابن ماجة وابن خزيمةوالضياء عن أبي أمامةمرفوعاً إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
»وإنَّ قَبْلَ خُروجِ الدَّجَّالِثَلاثُ سَنَواتٍ شِدادٍ، يُصيبُ النَّاسَ فيها جوعٌ شَديدٌ، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ السّماءَ السَّنَةَ الأولى أَنْ تَحْبِسَ ثُلثَ قَطْرِها، وَيَأمُرُ الأرْضَ أَنْ تَحْبِسَ ثُلُثَ نَباتِها، ثُمَّ يَأْمُرُ السَّماءَ في السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَتَحْبِسُ ثُلُثَيْ مَطَرِها، ويَأْمُرُ الأرْضَ فَتَحْبِسُ ثُلُثَيْ نَباتِها، ثُمَّ يَأْمُرُ السَّماءَ في السَّنَةِ الثَّالِثَةِ فَتَحْبِسُ مَطَرَها كُلَّهُ فلا تَقْطُرُ قَطْرَةٌ، ويَأْمُرُ الأَرْضَ فَتَحْبِسُ نَباتَها كُلَّهُ فَلا تَنْبُتُ خَضْراءُ، فَلا يَبْقى ذاتُ ظَلْفٍ إلاّ هَلَكَتْ، إلاّ ما شاءَ اللَّهُ. قيلَ: فَما يُعيشُ النَّاسَ في ذَلِكَ الزَّمانِ؟ قالَ: التَّهْليلُ والتَّكْبيرُ والتَّحْميدُ، وَيُجْزِئُ ذَلِكَ عَلَيْهِم مَجْزَأَةَ الطَّعامِ«.(/10)
وروى الإمام أحمدوأبو داود والحاكمبسند صحيح عن عبد الله بن عمررضي الله عنهما، عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:
»فِتْنَةُ الأَحْلاسِ[75] هَرَبٌ وحَرْبٌ، ثُمَّ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ، دَخَنُها مِنْ تَحْتِ قَدَمِ رَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنِّي، ولَيْسَ مِنّي، إنَّما أوْلِيائي المُتَّقونَ. ثُمَّ يّصْطَلِحُ النَّاسُ عَلى رَجُلٍ كَوِرْكٍ عَلى ضِلعٍ[76]، ثُمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْماء[77]، لا تَدَعُ أحَداً مِن هَذهِ الأمّةِ إلاّ لَطَمَتْهُ لَطْمَةً، فَإذا قيلَ انْقَضَتْ تَمادَتْ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فيها مُؤْمِناً وَيُمْسي كافِراً، حَتّى يَصيرَ النّاس إلى فُسطاطَيْنِ[78]، فُسطاطِ إيمانٍ لا نِفاقَ فيهِ وفُسْطاطِ نِفاقٍ لا إيمانَ فيهِ، فَإذا كانَ ذاكُمُ فَانْتَظِروا الدَّجَّالَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ غَدِهِ«.[79]
وَمِنْ عَلاماتِ خُروجِ الدَّجَّال ما رواه أحمد وأبو داودعن معاذ رضي الله عنه، عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:
»عُمْرانُ بَيْتِ المَقدِسِ خَرابُ يَثْرِبَ، وَخَرابُ يَثْرِبَ خُروجُ المَلْحَمَةِ، وَخُروجُ المَلْحَمَةِ فَتْحُ القُسْطَنْطينِيَّة، وفَتْحُ القُسْطَنْطينِيّة خُروجُ الدَّجَّالِ«.[80]
فَعمران بيت المقدس يكون على أيدي المسلمين بعد تحريره من يهود بإذن الله تعالى. وتكون الأرض المقدسة أرض الخلافة في ذلك الوقت بدليل قولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن حوالة:
»يا ابن حوالةَ! إذا رَأَيْتَ الخِلافَةَ قَدْ نَزَلَتِ الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ فَقَدْ دَنَتِ الزَّلازِلُ والبَلايا والأُمورُ العِظامُ، والسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ لِلنّاسِ مَنْ يَدي هَذِهِ مِنْ رِأْسِكَ«.[81]
خلوّ المدينة من أهلها
ويهاجر المسلمون إلى بلاد الشام لجهاد أعداء الله من يهود ونصارى، ويخرج أهل المدينة من المدينة، لا رغبة عنها بغيرها، وإنما جهاداً في سبيل الله، حتى لايبقى فيها أحد، فتغشاها السباع والعوافي وتبقى كذلك حتى تقوم الساعة.
روى الحاكمبسند صحيح عن أبي هريرةرضي الله عنه، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
»لَتَتْرُكُنَّ المَدينَةَ عَلى خَيرِ ما كانَتْ، تَأْكُلُها الطَّيْرُ والسِّباعُ«.[82] ورواه الشيخانوأحمدبزيادة، قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
»يَتْرُكونَ المَدينَةَ على خَيرِ ما كانَتْ، لا يَغشاها إلاّ العَوافي -يريد عوافي السباع والطير-، وآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ راعِيانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُريدانِ المَدينَةَ، يَنْعِقانِ بِغَنَمِهِما، فَيَجِدانِها وَحْشاً، حَتّى إذا بَلَغا ثَنِيَّةَ الوَداعِ خَرَّا علَى وُجُوهِهما«.[83]
وعن عبد الله بن عمروقال:
»يأتي عَلى النّاسِ زَمانٌ لايَبْقى فِيهِ مُؤْمِنٌ إلاّ لَحِقَ بالشَّامِ«.[84]
هَلاك المَسِيحِ الدَّجَّال
وأما قتل الدَّجَّال فيكون على يد نبي الله عيسى بن مريمعليه الصلاة والسلام - كما مرَّ في حديث النواس المتقدم - بعدما تصرف الملائكة وجهه عند أنقاب المدينة إلى الشام وهناك يهلك عند باب لدّ الشرقي في أرض فلسطين، أعادها الله للمسلمين.
الدجال عند أهل الكتاب
إن بني يهود مذ كذبوا بالمسيح عليه السلام وكفروا به وبرسالته وهم ينتظرون مسيحهم الدجال، والذي يزعمون أنهم سيعيد إليهم مجدهم وحكمهم للأرض المباركة، وعندها ستستسلم الأمم كلها لنبي إسرائيل، شعب الله المحتار.
لقد اختلفت الروايات عن هذه الشخصية وتناقضت، وهذه طبيعة دين اليهود والنصارى. بل إن بعضهم من يعتبر الدجال شخصية أسطورية من اختراع الأحبار وكتّاب الملاحم والأساطير. وبما أن دين أهل الكتاب في »تطور« مستمر فإن بعضهم انحرف كثيراً عن جادة الصواب وقال بأن »الدجال« هو عبارة عن رمز يشير إلى أن كلَّ من عادى ويعادي النصرانية يُعتبر »دجالاً« . وقد تفنن بعضهم وشط في تفننه عندما وصف مثلاً »الخميني« بأنه هو الدجال، (ولنا الحق أن نحتفظ برأينا عن الخميني!) وقد ضمت لائحة »الدجاجلة« بعض زعماء عرب وشخصيات نصرانية. بل إن بعضهم زعم أن أحد البابوات هو الدجال بعينه. فكل ما لا يرضي هوى هؤلاء الضالين يعتبر أنه الدجال الذي أخبرت به كتبهم »المقدسة«.[85]
وقد ذكره الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- الدجال لأقوامهم، فنحن نعلم يقيناً أن موسى وبقية أنبياء بني إسرائيل قد ذكروا لأقوامهم الدجال وفتنته، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا وأنذر قومه الدجال. أنذره نوح والنبيون من بعده.."
حتى بعض كتابات يهود تشير أن الدجال منهم، وأن أبويه يهوديان. وقد ذكر Wilhem Bousset في كتابه أن: »من المحتمل أيضاً أن المسيح الدجال سيظهر من المناطق الشرقية من أرض فارس، حيث [توجد] قبيلة دان من الجنس العبري«.[86](/11)
وقبل الشروع في الكلام عن نزول عيسى بن مريم عليه وعلى أمه السلام، يحسن بنا أن نتكلم هنا عن محمد بن عبد الله المهدي، لأن مجيئه يكون قبل نزول عيسى عليه السلام، حيث يقود الأمة الإسلامية بالعدل والإحسان، ويقيم شرع الله تعالى، وتعود خلافة راشدة بعد أن ملئت الأرض ظلماً وجوراً. ويصلى عيسى بن مريم عليه السلام خلفه، ويحثي المال للناس حثياً ولا يعدّه لهم... إلى آخر تلك الصفات والأعمال التي وردت في أحاديث صحيحة.
________________________________________
الفصل الثاني
________________________________________
[1] لسان العرب: مادة دجل، بتصرف.
[2] حديث الجساسة أخرجه أيضاً الترمذي مختصراً في (الفتن 2179)، وأبو داود في (الملاحم 3767)، وابن ماجة في (الفتن 4064)، وأحمد (25852، 25853، 26066، 26083، 26083) [راجع صحة الأحاديث في صحيح السنن وغيرها).
[3] سير أعلام النبلاء: 2/442
[4] قال العلماء: قولها: فأصيب، ليس معناه أنه قتِل مع النبي صلى الله عليه وسلم ويتأيّمت بذلك، إنما تأيمت بطلاقه البائن، كما ذكر الإمام مسلم في صحيحه حيث روى عن الشعبي أنه سأل فاطمة عن المطلّقة ثلاثاً أين تعتدّ؟ فقالت: طلّقني بعلي - تعني إبن المغيرة - ثلاثاً، فأذن لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن أعتدّ في أهلي، وساق الحديث (شرح النووي لصحيح مسلم 18/82-83) .
[5] بيسان: بلدة في غور نهر الأردن.
[6] زغر: بلدة في الجانب القبلي من الشام. ولعلها أخذت نفس اسم بلدة صوغر المذكورة في التوراة التي بأيدي أهل الكتاب حالياً.
(1) شرح النووي لصحيح مسلم (18/79-83).
[8]وَحْشَة.
[9]المصدر السابق (18/50).
[10]أنظرْ شرح النووي لصحيح مسلم (18/46-57).
[11] المصدر السابق (18/45)
[12] نفسه (18/54)
[13]شرح النووي لصحيح مسلم (18/85-86).
[14]شرح النووي لصحيح مسلم (18/50)، ولَبِسَني: أي حَيَّرَني أو أَغاظَني.
[15]قَدَح كَبير.
[16]المصدر السابق (18/51-52).
[17]المستدرك (4/527).
[18]شرح النووي لصحيح مسلم(18/57-58)
[19]يأرِز: أي يعود وينقبض.
[20]مختصر صحيح مسلم (72).
[21]السلسلة الصحيحة (2457).
[22]أنقاب ونِقاب: جمع نقب ، وهو الفتحة بين الجبال .
[23]السبخة: أرض ذات ملح و نزّ لاتكاد تنبت.
[24]حاشية السندي على البخاري (4/232).
[25]الأفحج: هو الذي تتدانى صدور قدميه ويتباعد عقباه.
[26]جعد: أي شديد جعودة الشعر.
[27]حجراء: أي غائرة.
[28]صحيح الجامع (2459).
[29]الصحيحة (2457).
[30]رواه الشيخان ومالك وأحمد عن ابن عمر.
[31]صحيح الجامع (1606).
[32]الصحيحة (1863).
[33]رواه الشيخان عن ابن عمر.
[34]دابق والأعماق: مكانان من أعمال مدينة حلب؛ وهذا يكون بعد أن يغدر النصارى بالمسلمين بعد هدنة تكون بينهم.
[35]وفي رواية: سُبوا بالضمّ.
[36]قال النووي: في معناه قولان، أحدهما أنه خفّض بمعنى حقّرَ، وقوله: رفَّعَ، أي عظّمه وفَخّمه. فمن تحقيره وهوانه على الله تعالى عوره، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: هو أهون على الله من ذلك، وأنه لايقدر على قتل أحد إلا ذلك الرجل، ثم يعجز عنه وأنه يضمحل أمره ويقتَل بعد ذلك هو وأصحابه. ومن تفخيمه وتعظيم فتنته والمحنة به هذه الأمور الخارقة للعادة .. (شرح النووي لصحيح مسلم 18/63).
[37]أي في طَريق.
[38]أَفْسَدَ.
[39]ماشِيَتُهُم.
[40]أَعْلاها.
[41]أَكثره امتلاءً.
[42]أَسْمًنَهُ.
[43]مقدار رمية الصيد.
[44]أي ثوبين مصبوغين بورس ثم بزعفران.
[45]الّلد: بلدة غرب بيت المقدس، قرب الرملة.
[46]أي: لا قُدرَة.
[47]ضُمَّ.
[48]يَدْعو.
[49]التغف: دود يخرج في أعناق الإبل فيقتلها.
[50]قَتْلَى.
[51]زهمهم: أي دسمهم.
[52]البخت: الإبل.
[53]لايَكُنُّ: لايُعْصَمُ.
[54]كَالمِرْآة.
[55]قِشْرَتها.
[56]اللَّبَن.
[57]جماعة كثيرة.
[58]الأَقارب.
[59]يتجامَعون أمامَ النَّاسِ ولايَكْتَرِثونَ.
[60]شرح النووي لصحيح مسلم (18/63-70).
[61]في الحديث: "من حفظ عشرَ آياتٍ من سورةِ الكهف عُصِمَ من فتنة الدجال" رواه مسلم (المختصر 2098).
[62]صحيح الجامِع (7875).
[63]رواه البخاري عن حُذَيفة، صحيح الجامع (2196).
[64]لحمة من جانب الأَنفِ تغطِّي العينَ.
[65]مختصر صحيح مسلم (2046).
[66]رواه أحمد وأبو داود والحاكم بإسناد صحيح عن عمران بن حصين، المشكاة (5488).
[67]حاشية السندي على صحيح البخاري (4/232).
[68]المسالح: الجنود.
[69]يُمَدُّ عَلَى بَطْنِهِ.
[70]اجْرَحُوهُ في رأسِهِ.
[71]وَسَط رَأْسِهِ.
[72]التَرْقُوَة هي العَظْمُ مابين ثَغرة النَّحرِ والعاتِقِ.
[73]شرح النووي لصحيح مسلم (18/72-73).
[74]صحيح الجامع (7995).
[75]هي الأكسية التي على ظهر البعير، شبهها بها للزومها ودوامها (اللسان).
[76]كورك على ضلع: مثل يضرب، والمعنى: يصطلح الناس على رجل لا نظام له ولا استقامة لأمره (المشكاة 3/ص1487).(/12)
[77]فتنة الدهيماء: أي الفتنة السوداء المظلمة، والتصغير فيها للتعظيم (اللسان).
[78]جاءت هنا بمعنى الفريقين.
[79]المشكاة (5403).
[80]صحيح الجامع (4096 )
[81]رواه الحاكم في المستدرك (4/425 ) وقال : صحيح الإسناد.
[82]المستدرك (4/426).
[83]الصحيحة (2/683)
[84]رواه الحاكم في مستدركه (4/457) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
[85] انظر كتاب: Naming the Antichrist, by Robert C. Full, Oxford Universtiy Press, 1995
[86] The Antichrist Legend, p. 172, by Wilhem Bousset, NY, AMS Press, 1982
الفصل الثاني
المهدي محمد بن عبد الله
________________________________________
لايخفى على كل ذي عقل - فضلاً عن كل ذي دين سليم - أن المهدي التي تقول به فرق الشيعة غير موجود في الواقع، بل إنه لم يولد في التاريخ. وقد ذاقت الأمة ويلات كثيرة بسبب ذلك الإعتقاد الخرافي في المهدي عند الشيعة. بل إنهم جعلوا الإيمان بالأئمة الذين اخترعوهم لأنفسهم ركناً لايتجزّأ من إيمانهم بدينهم وما تمليه عليهم أساطيرهم، والتي هي أشبه بأساطير اليونان والفرس وغيرهم من أمم الجاهلية.
وأما المهدي عند أهل السُّنَّة فهو رجل تلده النساء وتربيه الرجال ويعيش حياته بين الناس، لا في الكهوف - كما تدّعي الشيعة في مهديهم ولايعرفون متى يخرج، وأبشرهم أنه لن يفعل -، وإنّما هو إمام وخليفة من خلفاء المسلمين الذين يقومون بالقسط بين الناس. والذي يميّز محمد بن عبد الله المهدي عن غيره من الخلفاء المهديين هو التقاؤه مع عيسى بن مريمصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن نبي الله عيسى يصلي خلفه، وأن الله يصلحه في ليلة، وأنه يملؤها عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وأنه على يديه يكون الفتح الثاني للقسطنطينية وربما رومية... الخ.
خلافة على منهاج النبوة
ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخلافة التي هي على منهاج النبوة في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمدوالطيالسيعن حذيفة بن اليمانرضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
“تكونُ النُّبُوَّةُ فيكُم ما شاءَ اللَّهُ أنْ تَكونَ، ثُمَّ يَرْفَعُها اللَّهُ إذا شاء أنْ يَرْفَعَها، ثُمَّ تَكونُ خِلافَةً عَلى مِنهاج النُّبوَّةِ، فَتَكونُ ما شاءَ اللّهُ أنْ يَكونَ، ثُمَّ يَرْفَعُها اللّهُ إذا شاء أنْ يَرْفَعَها، ثُمَّ تَكونُ مُلْكاً عاضّاً، فَتَكونُ ما شاءَ اللّهُ أنْ تَكونُ، ثُمَّ تَكونُ مُلْكاً جَبْرِيّاً، فَتَكونُ ما شاءَ اللّهُ أن تَكونَ، ثُمَّ يَرْفَعُها إذا شاءَ أنْ يَرْفَعَها، ثُمَّ تَكونُ خِلافَةً على مِنهاج النُّبوَّةِ”، ثُمَّ سَكَتَ[1].
إنَّ سبب إيراد الحديث السابق هنا هو أن محمد بن عبد الله المهديهو أحد خلفاء مرحلة الخلافة الثانية والتي هي على منهاج النبوة. وقد قسّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تاريخ" هذه الأمّة إلى المراحل التالية:
1- مرحلة حكم النبوة: وكانت في حياته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- مرحلة الخلافة على منهاج النبوة: وهي حكم الخلفاء الراشدين، وكانت من بداية استخلاف أبي بكر رضوان الله عليه وحتى مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن العلماء من أدخل فترة إمارة الحسن بن عليرضي الله عنهما سبط رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها. فهذه ثلاثون سنة كما نصّ بذلك الحديث الصحيح بأن الخلافة ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً.
3- مرحلة الملك العاضّ أو العضوض: وهو الحكم الذي فيه ظلم، وإن تفاوتت نسبة الظلم من حكم لآخر - : وهي مرحلة ما بعد إمارة الحسن بن علي، ويدخل فيه حكم بني أمية وبني العباس والمماليك والعثمانيين الأتراك وغيرهم، وحتى سقوط السلطنة العثمانية في مطلع القرن العشرين الميلادي. وهذا الحكم يشمل كل الدول التي تعاقبت على العالم الإسلامي بكافة مراحل تاريخة خلال هذه الفترة، ويُستثنى من ذلك حكم من كانت خلافته مشابهة للخلفاء الراشدين كخلافة عبد الله بن الزبير وعمر بن عبد العزيزرضي الله عنهما، فَهُما قد عُدَّا من الخلفاء الذين هم من قريش والذين يلوْن أمر هذه الأمة.
4- مرحلة الحكم الجبري: والتي بدأت منذ سقوط الدولة العثمانية إلى عصرنا الحاضر، فنسأل الله تعالى أن ينهيها قريباً بِمَنّه وفضله.
والحكم الجبري هذا يحوي كل أنظمة الحكم التي قامت في العالم الإسلامي، سواء أكانت حكماً ملكياً أو وراثياً أو حِزبياً أو حكم الكفار للمسلمين، كما حصل عقيب الحرب العالمية الأولى، أو جمهورياً أو ديموقراطياً أو غيرها من أنواع الحكم التي تنازع الله عز وجل أحقية الحاكمية والتشريع.
وعندما ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك المراحل التي ستمرّ بها الأمة، ربَطَها بنوع الحكم الذي يحكمها، أفيه ظلم أم هو على منهاج النبوة، أم هو مما تُجبَر الأمة على قبوله، كما هو حالنا اليوم.(/13)
5- مرحلة الخلافة على منهاج النبوة: وهي مرحلة لابد لها من عمل وتحضير وتضحية في سبيل الله تعالى، ونشر العلم واتباع للكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، لأنه لايصلح آخر هذه الأمة إلاّ بما صلح به أولها. وسيكون الدين في بدايتها غريباً، غربته يوم بدأ في مكة بين أسيادها وعبيدها، بين قويّها وضعيفها، وبين نسائها وصغارها. ومصدر هذه المرحلة هم غرباء هذا الدين في هذا الزمان، الذين يحملونه عن وعي وإدراك وفهم وتطبيق، ويتحملون في سبيله أشد المصائب والابتلاءات ثابتين على وصية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما قالَ:
“فَعَلَيْكُم بِسُنَّتي وَسُنّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ المَهْدِيين، عَضّوا عَلَيْها بالنَّواجِذِ، وإيّاكُم وَمُحْدَثاتِ الأُمورِ، فَإنَّ كُلَّ مُحدَثَةٍ بِدْعَةُ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وكُلَّ ضَلالَةٍ في النّار”[2].
وهؤلاء الغرباء هم الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعده، وهم الذين يقاتلون في سبيل الله، ظاهرين على عدوهم وعلى من خالفهم ومن خذلهم، لايضرهم ذلك حتى يأتيَ أمر الله وهم كذلك، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يثبتنا على طريق نبيه الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهج صحابته رضوان الله عليهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المهديودلائل مهديَّته
إنّ أحاديث المهدي في كتب السنة منها ما هو ضعيف -مع شهرته بين الناس-، ومنها ما هو حسن وصحيح، وتعويلنا في هذا البحث إنما هو على الصحيح منها والحسن، كما بيّنه علماء الحديث الشريف.
روى أبو داودوابن ماجة والحاكم عن أمُّ سلمة رضي الله عنها بسند صحيح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
“المَهْدي مِنْ عِتْرَتي مِن وَلَدِ فاطِمَةَ”[3].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
“لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيا إلاّ يَومٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ اليَوْمَ حَتّى يُبْعَثَ فيهِ رَجُلٌ مِنْ أهْلِ بَيْتي، يُواطِئُ اسْمُهُ إسمي، واسمُ أبيهِ اسمَ أبي، يَمْلأُ الأرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَما مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً”[4].
وعن عليرضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
“لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدَّهْرِ إلاّ يَومٌ لَبَعَثَ اللّهُ رَجُلاً مِنْ أهْلِ بَيْتي، يَمْلَؤها عَدْلاً كَما مُلِئَتْ جَوْراً”[5].
وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
“لا تذْهَبُ الدُّنيا ولاتَنْقَضي حَتّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِن أهلِ بَيْتي يُواطِئُ اسمُهُ إسمي”[6].
إذن، المهديمن آل بيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واسمه محمد بن عبد الله، ولا يُعرف ما إذا سَيكون من نسل الحسن بن علي أم الحسين بن علي، فالروايات في ذلك لا تصح، وإن كان ابن تيمية - رحمه الله - قد رَجَّحَ أنه من نسل الحسن معتمداً في ذلك على أثر مروي عن عليٍّ رضي الله عنه، وقد ضعّفه محقق مشكاة المصابيح العلامة الألباني[7].
صفته الخَلْقية ومدّة حكمه
وأما صفته الخَلْقية، فقد بيَّنها رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديثه الآتي: عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
“المَهْدي مِنّي، أجْلى الجَبْهَةِ[8]، أَقْنى الأَنْفِ[9]، يَمْلأُ الأرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كما مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، يَمْلِكُ سَبْعَ سِنين”[10].
وأمّا مدَّة حكمه فقد بيّنها الحديث السابق. وفي الحديث الآخر:
“لَتُمْلأَنَّ الأرضُ جَوْراً وظُلْماً، فإذا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً يَبْعَثُ اللّهُ رَجُلاً مِنّي إسمُهُ إسمي، وإسمُ أبيهِ إسمُ أبي، فَيَمْلَؤها عَدْلاً وقِسْطاً، يَمْكُثُ فيكُم سَبْعاً أو ثَمانِيَاً، فَإنْ أكْثَر فَتِسْعاً”[11].
وهو الذي يصلي خلفه عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، ففي الحديث الذي رواهالشيخانعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
“كَيْفَ أَنْتُم إذا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فيكُمْ وإمامُكُم مِنْكُمْ”[12].
وقال صلى اللهُ عليه وسلم:
“مِنَّا الّذي يُصَلِّي خَلْفَهُ عيسى بنُ مَرْيَم”[13].
وقد روى الإمام مسلم في الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
“لا تَزالُ طائِفَةٌ مِنْ أُمَّتي يُقاتِلونَ عَلى الحَقِّ ظاهِرينَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. قالَ: فَيَنْزِلُ عيسى بْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقولُ أميرُهُمْ: تَعالَ صَلِّ لَنا. فَيَقولُ: لا، إنَّ بَعضَكُم على بَعضٍ أُمَراء تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذهِ الأُمَّةِ”[14].
والمهدي هو المقصود - والله أعلم - في حديثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(/14)
“يَكونُ في آخِرِ أُمَّتي خَليفةٌ يَحْثي المالَ حَثْياً، ولايَعُدُّهُ عَدّاً”. وهو قطعة من حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه.
وفي رواية قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
“مِنْ خُلَفائِكُم خَليفَةٌ يَحْثو المالَ حَثْيَاً ولايَعُدُّهُ عَدّاً”[15].
وهذا إنْ دلّ على شيءٍ فَإنَّما يَدُلُّ علَى كَثْرَةِ الغَنائِمِ والفُتوحاتِ في زِمانهِ وكَثرَةِ المَلاحِمِ بَيْنَ المسلمينَ وأعْدائِهِم[16].
بداية ظهور المهدي
وأما بداية ظهوره فيكون بتهيئته لقيادة الأمة وصلاحه لها. يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
“المَهْديمِنَّا أهْلَ البَيْتِ يُصْلِحُهُ اللّه في لَيْلَةٍ”[17]. أي أن الله تعالى يصلحه لقيادة أمة الإسلام، والله أعلم.
وقد وصفه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصلاح عندما قال:
“وإمامهم رجلٌ صالِحٌ ...” الحديث، وسيأتي.
ثم ينكشف أمر المهدي عند حكّام ذلك الزمان، فيهرب إلى مكّة مع بعض الناس ليحتمي بالبيت، وليس معهم عدة ولاعدد ولامنعة، ويُبعَث خلفه جيش لقتله والتخلص منه، والدليل هو ما رواه الإمام مسلم في الصحيح عن أم سلمة قالت: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
“يَعوذُ عائِذٌ بِالبَيْتِ فَيُبْعَثُ إلَيهِ بَعْثٌ، فِإذا كانوا بِبَيْداءَ مِنَ الأرْضِ خُسِفَ بِهِم. فَقُلتُ: يارسولَ اللّهِ فَكَيْفَ بِمَنْ كانَ كارِهاً؟ قالَ: يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُم، ولَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى نِيَّتِهِ”[18].
وروى مسلم أيضاً عن عبد الله بن صفوان قال: أخبرتني حفصة أنها سمعتِ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
“لَيَؤُمَّنَّ هذا البَيْتَ جَيشٌ يَغزونَهُ، حَتّى إذا كانوا بِبَيْداءَ مِنَ الأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوْسَطِهِم، ويُنادي أَوَّلُهُم آخِرَهُم ثُمَّ يُخْسَفُ بِهِم، فَلا يَبْقى إلاّ الشَّريدُ الَّذي يُخْبِرُ عَنْهُم”[19]. وفي رواية عن يوسف بن ماهك قال: أخبرني عبد الله بن صفوان عن أم المؤمنين أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
“سَيَعوذُ بِهَذا البَيْتِ - يعني الكعبة - قَومٌ لَيسَ لَهُم مَنَعةٌ ولاعَدَدٌ ولاعُدّةٌ، يُبْعَثُ إلَيْهِم جَيشٌ حَتّى إذا كانوا بِبَيْداءَ مِنَ الأرْضِ خُسِفَ بِهِم”. قال يوسف: وأهل الشام يومئذ يسيرون إلى مكة، فقال عبد الله بن صفوان: أما والله ما هو بهذا الجيش[20].
ويروي مسلم عن عبد الله بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت: عَبَثَ رسولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مَنامِهِ، فَقُلْنا: يارسولَ اللّهِ صَنَعْتَ شَيْئاً في مَنامِكَ لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ. فَقال: “العَجَبُ أنّ ناساً مِنْ أُمَّتي يَؤُمُّونَ بِالبَيْتِ بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ لَجَأَ بِالبَيْتِ حَتّى إذا كانوا بِبَيْداءَ خُسِفَ بِهِم”. فَقُلنا: يارَسولَ اللَّهِ، إنَّ الطَّريقَ قد يَجْمَعُ النّاسَ. قال: “نَعَم، فيهُمُ المُسْتَبْصِرُ والمَجْبورُ وَابْنُ السَّبيلِ، يَهْلِكونَ مَهْلَكاً واحِداً ويَصْدُرونَ مَصادِرَ شَتّى، يَبْعَثُهُمُ اللّهُ عَلى نِيّاتِهِم”[21].
فهذا جيش يُبعَث في إثر المهديللتخلص منه وممن معه من المؤمنين، فيلجأون إلى البيت الحرام محتمين به، ويخسَف بهذا الجيش ببيداء من الأرض، وهي بيداء المدينة، وهي الشرف الذي قدّام ذي الحليفة، أي من جهة مكّة، وهي أرض ملساء.
وروى أحمدوالطبراني عن أم سلمة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
“طائِفَةٌ مِنْ أُمَّتي يُخْسَفُ بِهِم، يُبْعَثونَ إلى رَجُلٍ فَيَأتي مَكّةَ، فَيَمْنَعُهُ اللّهُ مِنْهُمْ ويُخْسَفُ بِهِم، مَصْرَعُهُم واحِدٌ وَمَصادِرُهُم شَتّى. إنَّ مِنْهُم مَنْ يَكْرَهُ فَيَجِيءُ مُكْرَهَاً”[22].
وعن امرأة القَعقاع بن أبي حدردالأسلمي رضي الله عنهما قالت: سمعتُ رسولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المِنبر يقول:
“يا هَؤلاءِ! إذا سَمِعْتُم بِجَيْشٍ قد خُسِفَ بِهِ قَريباً فَقَد أَظَلَّتِ السّاعَةُ”[23].
ويُبايَعُ المهديخليفةً للمسلمين بعد ذلك ويجاهد مع المسلمين في سبيل الله تعالى، وتكون خلافة على منهاج النبوّة، وتكون الملاحم بين المسلمين وأعدائهم إلى أن ينزل عيسى عليه الصلاة والسلام.
قتال الروم وفتح القسطنطينية
وفي زمن المهدي يكون الفتح الثاني للقسطنطينية (إستانبول)، وذلك قبل خروج الدَّجَّالونزول عيسى عليه الصلاة والسلام.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن يُسَيْر بن جابر قال: هاجَتْ رِيحٌ حمراءُ بالكوفة فجاء رجل ليس له هِجِّيرى[24]: إلاَّ ياعبدَ اللهِ بنَ مسعود، جاءتِ الساعةُ. قال: فَقَعَدَ وكان مُتَّكِئاً فَقال:(/15)
“إنَّ السّاعَةَ لاتَقومُ حَتَّى لايُقْسَمَ ميراثٌ ولايُفْرَحَ بِغَنيمةٍ. ثمّ قال بيده هكذا - ونحّاها نحو الشام. فقال: عَدُوٌّ يَجْمَعونَ لأَهْلِ الإسْلامِ. قُلتُ: الرُّومَ تَعْني؟ قالَ: “نَعَم، وتَكونُ عِندَ ذاكُمُ القِتالِ رَدَّةٌ[25] شَديدَةٌ، فَيَشْتَرِطُ المُسلِمونَ شُرْطَةً[26] لِلمَوتِ لاتَرجِعُ إلاّ غالِبَةً، فَيَقتَتِلونَ حَتّى يَحْجُزَ بَينَهُمُ اللَّيْلُ، فَيَفِيءُ هَؤلاءِ وهَؤلاءِ كُلٌّ غَيرُ غالِبٍ وتَفْنى الشُّرْطَةُ، ثُمَّ يَشْتَرِطُ المُسلِمونَ شُرْطَةً لِلمَوتِ لاتَرجِعُ إلاّ غالبَةً، فَيَقتَتِلونَ حَتّى يَحْجُزَ بَينَهُمُ اللّيلُ، فَيَفِيءُ هَؤلاءِ وهَؤلاءِ كُلٌّ غَيرُ غالِبٍ وتَفْنى الشُّرْطَةُ، ثُمَّ يَشتَرِطُ المُسلِمونَ شُرْطَةً لِلمَوتِ لاتَرجِعُ إلاّ غالبَةً، فَيَقتَتِلونَ حَتّى يُمْسُوا، فَيَفِيءُ هَؤلاءِ وهَؤلاءِ كُلٌّ غَيرُ غالِبٍ وتَفْنى الشُّرْطَةُ، فَإذا كانَ يَوْمُ الرَّابِعِ نَهَدَ[27] إلَيْهِم بَقِيَّةُ أهْلِ الإسْلامِ فَيَجْعَلُ اللّهُ الدَّبِرَةَ عَلَيْهِم، فَيَقْتُلونَ مَقْتَلَةً - إمّا قالَ: لايُرى مِثلها، وإمّا قال: لَم يُرَ مِثْلُها - حَتَّى إنَّ الطّائِرَ لَيَمُرُّ بِجَنَباتِهِم فَما يُخَلِّفُهُم حَتّى يَخِرَّ مَيِّتاً. فَيَتَعادُّ بَنو الأَبِ كانوا مِائَةً فلا يَجِدونَهُ بَقِيَ مِنْهُم إلاّ الرَّجُلُ الواحِدُ، فَبِأَيِّ غَنيمَةٍ يُفْرَحُ أو أيِّ مِيراثٍ يُقَاسَمُ. فَبَينَما هُم كَذَلِكَ إذْ سَمِعوا بِبَأسٍ هُوَ أكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَجاءَهُمُ الصَّريخُ إنَّ الدَّجَّالَقَد خَلَفَهُمْ في ذَراريِّهِم، فَيَرْفُضُونَ ما في أيْديهِم ويُقْبِلونَ، فَيَبْعَثونَ عَشَرَةَ فَوارِسَ طَليعَةً. قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي لأَعْرفُ أسْماءَهُم وأسْماءَ آبائِهم وألوانَ خُيولِهِم، هُم خَيرُ فَوارِسَ عَلى ظَهرِ الأرْضِ يَوْمَئِذٍ، أو مِنْ خَيرِ فوارِسَ على ظَهرِ الأرضِ يَوْمَئِذٍ”[28].
روى الإمام مسلمفي الصحيح أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
“لاتَقومُ السّاعةُ حَتّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأعْماقِ أوْ بِدابِقٍ، فَيَخْرُجُ إلَيْهِم جَيْشٌ مِنَ المَدينَةِ مِنْ خِيارِ أهْلِ الأّرْضِ يَوْمَئِذٍ، فَإذا تَصافُّوا قالَتِ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنا وَبَيْنَ الَّذينَ سَبَوْا[29] مِنَّا نُقاتِلْهُم. فَيَقولُ المُسْلِمونَ: لا وَاللَّهِ، لانُخَلِّي بَيْنَكُم وَبَيْنَ إخْوانِنا. فَيُقاتِلونَهُم فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لايَتوبُ اللَّهُ عَلَيْهِم أَبَداً، ويُقْتَلُ ثُلُثُهُم أفضَلُ الشُّهَداءِ عِنْدَ اللَّهِ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لايُفْتَنونَ أَبداً، فَيَفْتَتِحونَ القُسْطَنطِينِيَّةَ. فَبَيْنَما هُمْ يَقْتَسِمونَ الغَنائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيوفَهُم بِالزَّيْتونِ إذْ صاحَ فيهِمُ الشَيْطانُ: إنَّ المَسيحَ قَدْ خَلَفَكُم في أهْليكُم. فَيَخْرُجونَ، وذَلِكَ باطِلٌ، فَإذا جاؤوا الشَّامَ خَرَجَ. فَبَيْنَما هُم يُعِدُّونَ لِلْقِتالِ، يُسَوُّونَ الصُّفوفَ، إذْ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَيَنْزِلُ عيسى بنُ مَرْيَمَ فَأَمَّهُم، فَإذا رَآهُ عَدوُّ اللّهِ ذابَ كَما يَذوبُ المِلْحُ في الماءِ، فَلَوْ تَرَكَهُ لانْذابَ حَتّى يَهْلِكَ، ولَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، فَيُريهِمْ دَمَهُ في حَرْبَتِهِ”[30].
في الحديث السابق اختصار في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “فينزل عيسى بن مريم فأمَّهم” فتقديره كما جاء من كلام أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم، قال: "فأمَّكُم بِكِتابِ رَبِّكُم وَسُنَّةِ نَبِيِّكُم"[31]. أي يحكم بهما، ولايحكم بشرع آخر كالذي بعث به إلى بني إسرائيل[32].
لكن قبل قتال المسلمين مع بني الأصفر -الروم- تكون هدنة بينهم، فيغدر الروم، ويأتوننا بثمانين راية، تحت كل راية عشرة آلاف، - وفي رواية: تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً -، وعندئذ تكون الملحمة بين الفريقين ويقضي المسلمون فيها على الروم.
روى أبو داودفي سننه عن رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرفوعاً، قال:
“سَتُصالِحونَ الرُّومَ صُلْحاً آمِناً فَتَغْزونَ وهُم عَدُوَّاً مِن وَرائِكُم، فَتُنْصَرونَ وتَغْنَمونَ وتَسْلَمونَ، ثُمَّ تَرجِعونَ حَتّى تَنْزِلوا بِمَرجٍ ذي تُلولٍ[33]، فَيَرْفَعُ رَجُلٌ مِنْ أهْلِ النَّصْرانِيَّةِ الصَّليبَ فَيَقولُ: غَلَبَ الصَّليبُ. فَيَغْضَبُ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمينَ فَيَدُقُّهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغدُرُ الرُّومُ وتَجْمَعُ لِلْمَلْحَمَةِ”[34].
وفي رواية صحيحة عند أحمد وأبي داود وابن ماجة وابن حبان عن ذي مخمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:(/16)
“سَتُصالِحون الرُّومَ صُلْحاً آمِناً، فَتَغْزونَ أَنْتُم وهُم عَدُوَّاً مِنْ وَرائِكُم فَتَسْلَمونَ وتَغْنَمونَ، ثُمَّ تَنْزِلونَ بِمَرْجٍ ذي تُلولٍ فَيَقومُ رَجُلٌ من الرُّومِ فَيَرْفَعُ الصَّليبَ ويَقولُ غَلَبَ الصَّليبُ! فَيَقومُ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمينَ فَيَقْتُلُهُ، فَيَغْدِرُ القَوْمُ، وتَكونُ المَلاحِمُ، فَيَجتَمِعونَ لَكُم فَيَأْتُونَكُم في ثَمانينَ غايَةٍ مَعَ كُلِّ غايَةٍ عَشْرَةُ آلافٍ”. وفي رِواية أبي مالك الأشجعي: “... ثُمَّ تَكونُ بَيْنَكُم وَبَيْنَ بَني الأَصْفَرِ هُدْنَةٌ، فَيَغْدِرونَ بِكُم، فَيَسيرونَ إلَيْكُم في ثَمانينَ غايَةٍ، تَحْتَ كُلِّ غايَةٍ اثنا عَشَرَ ألْفاً”[35].
وَيكون فُسْطاطُ المسلمين يوم الملحمة بالغوطة، غوطة دمشق، والفسطاط هو المكان التي تجتمع إليه الجيوش لتتهيّأَ لِلقتال.
عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
“إنَّ فُسْطاطَ المُسْلِمينَ يَوْمَ المَلْحَمَةِ بالغوطَةِ إلى جانِبِ مَدينَةٍ يُقالُ لَها دِمَشْقُ، مِنْ خَيرِ مَدائِنِ الشَّامِ”. وفي رواية قال: “فُسْطاطُ المُسْلِمينَ يَوْمَ المَلْحَمَةِ الكُبْرى بِأرْضٍ يُقالُ لَها الغوطَةُ، فيها مَدينَةٍ يُقالُ لَها دِمَشْقُ، خَيرُ منازِلِ المُسْلِمينَ يَوْمَئِذٍ”[36].
وهناك يلتقي المسلمون من بلاد الشام والحجاز وغيرها من أقاليم الإسلام على قتال أعداء الله، لايفرقهم أمر، بل هم على دين الله تعالى مجتمعون، حتى العصبات من بني العم من قبائل العرب من المسلمين يشاركون إخوانهم في القتال.
روى ابن ماجة في سننه بسند حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
“إذا وَقَعَتِ المَلاحِمُ بَعَثَ اللَّهُ بَعْثاً مِنَ المَوالي، هُم أكْرَمُ العَرَبِ فَرَساً وَأَجْوَدُهُ سِلاحاً، يُؤَيِّدُ اللّهُ بِهِمُ الدِّينَ”[37].
فنسأل الله تعالى أن يوحّد أمر هذه الأمّة وصفّها وأن يرفع عنها أمر الجاهلية وتفريق الأعداء بين أبنائها.
ويفتتح المسلمون على إثر هذه الملحمة القسطنطينية ويدخلونها دون أن يرموا بسهم أو يقاتلوا بسلاح وذلك بدليل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
“سَمِعْتُم بِمَدينَةٍ جانِبٌ مِنها في البَرِّ وجانبٌ منها في البَحْر”؟ قالوا: نعَم يارَسولَ اللَّهِ. قالَ: “لا تَقومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزوَها سَبْعونَ أَلْفاً مِنْ بَني إسْحاقَ[38]، فإذا جاؤوها نَزَلوا فَلَم يُقاتِلوا بِسِلاحٍ وَلَم يَرْمُوا بِسَهْمٍ، قالوا: لا إلهَ إلا الله والله أكْبَرُ، فَيَسْقُطُ أَحَدُ جانِبَيْها الَّذي في البَحْرِ، ثُمّ يَقولوا الثَّانِيَةَ: لا إلَهَ إلاّ اللّهُ واللّهُ أكْبَرُ، فَيَسْقُطُ جانِبُها الآخَرُ، ثُمّ يَقولوا الثّالِثَةَ: لا إلَهَ إلاّ اللَهُ واللّهُ أَكْبَرُ، فَيُفْرَجُ لَهُم فَيَدْخُلونَها فَيَغنَمونَ. فَبَيْنَما هُم يَقْتَسِمونَ المَغانِمَ إذْ جاءَهُمُ الصَّريخُ فَقال: إنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ، فَيَتْرُكونَ كُلَّ شَيءٍ ويَرْجِعونَ”[39].
ما يكون من فتوحات المسلمين قبل الدَّجَّال
روى الإمام مسلم في الصحيح عن جابر بن سمرةعن نافع بن عتبة رضي الله عنه قال: كُنّا مَعَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غَزْوَةٍ، قال: فَأتى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمٌ مِنْ قِبَلِ المَغْرِبِ[40]عَلَيهِم ثِيابُ الصُّوفِ فَوافَقوهُ عنِدَ أَكَمَةٍ، فَإنَّهُم لَقِيامٌ وَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعِدٌ. قال: فَقالَتْ لِي نَفْسي: اِئْتِهِمْ فَقُمْ بَيْنَهُم وَبَيْنَهُ لايَغْتالُونَهُ. قال: ثَمَّ قُلْتُ لَعَلَّهُ نَجِيٌّ مَعَهُم. فَأَتَيْتُهُم فَقُمْتُ بَيْنَهُم وبَيْنَهُ. قال: فَحَفَظْتُ مِنهُ أرْبَعَ كَلِماتٍ أَعُدُّهُنَّ في يَدي. قال:
“تَغْزونَ جَزيرَةَ العَرَبِ فَيَفْتَحُها اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، ثُمَّ فارِسَ فَيَفْتَحُها اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ تَغْزونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُها اللَّهُ، ثُمَّ تَغْزونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ اللَّهُ”. قال: فَقالَ نافِع: يا جابِرُ، لا نَرى الدَّجَّالَ يَخرُجُ حَتّى تُفْتَحَ الرُّومُ[41].
ومعلوم أن بلاد الروم اليوم هي أوربا وقلبها إيطاليا، وقد بشّرنا رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّا سنفتح رومية، عاصمة النصرانية اليوم، بعد أن فتح المسلمون عاصمتها الأولى، القسطنطينية.(/17)
روى الإمام أحمد وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: بَينَما نَحنُ حَوْلَ رَسولِ اللَّهِ نَكْتُبُ إذْ سُئِلَ رَسولُ اللَهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ المَدينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلاً، أَقُسْطَنْطِينِيَّةُ أوْ رُومِيَّةُ؟ فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَدينَةُ هِرَقلَ تُفْتَحُ أَوَّلاً”، يَعني القسطنطينية[42].
________________________________________
الفصل الثالث
________________________________________
[1]الصحيحة (1/5).
[2]صحيح الجامع (2549).
[3] صحيح أبي داود (3603).
[4]صحيح أبي داود (3601).
[5]رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح (3602)
[6]صحيح الجامع (7275).
[7]أنظرالمشكاة (5462).
[8]أجلى الجبهة: أي واسعها.
[9]القنا في الأنف: طوله ودقّة أرنبته مع حدب في وسطه.
[10]أبو داود والحاكم بسند حسن، المشكاة (5454).
[11]صحيح الجامع (5073).
[12] مختصر صحيح مسلم (2060)
[13]أبو نعيم عن أبي سعيد بسند صحيح.
[14]مختصر صحيح مسلم (2061)
[15]شرح النووي لصحيح مسلم (18/38).
[16]وانظر صحيح ابن ماجة، الحديث رقم (3299).
[17]أحمد وابن ماجة، صحيح ابن ماجة (3300).
[18]شرح النووي لصحيح مسلم (18/5-6).
[19]نفسه.
[20]انفسه .
[21]شرح النووي لصحيح مسلم (18/16-17).
[22]الصحيحة (4/1924).
[23]رواه أحمد والحميدي، الصحيحة (3/1355).
[24]شَأْن.
[25]صَوْلَة.
[26]الشرطة: طائفة من الجيش تقدم للقتال.
[27]نَهَضَ.
[28]شرح النووي لصحيح مسلم (18/24-25).
[29]وتقرأ أيضاً: سُبُوا.
[30]شرح النووي لصحيح مسلم (18/21-22).
[31]مختصر صحيح مسلم (2060).
[32] أنظر تعليق العلامة الألباني على تحقيقه لمختصر صحيح مسلم.
[33]وهو مرج دابق قرب مدينة حلب.
[34] صحيح أبي داود (3607).
[35] صحيح ابن ماجة (3267).
[36] صحيح أبي داود (3611).
[37]صحيح ابن ماجة (3303).
[38] الرواية المحفوظة: بني إسماعيل، يعني العرب.
[39]مختصر صحيح مسلم (2014)، وانظر حديث أبي هريرة السابق ذكره في قتل عيسى عليه السلام للدجال.
[40]يعني مغرب المدينة المنورة
[41]مختصر صحيح مسلم (2028).
[42]المستدرك للحاكم (4/508)، وهو مخرج في الصحيحة.
الفصل الثالث
المسيح عِيسى بن مَريَم
صلى الله عليه وسلم
________________________________________
يقول الله تعالى رادّاً على اليهود الذين زعموا أنهم قتلوا نبيَّ اللَّهِ عيسى بنَ مريم:
{ وَقَوْلِهِمْ إنَّا قَتَلْنا المَسيحَ عيسى بْنَ مَرْيَمَ رَسولَ اللَّهِ وَما قَتَلوهُ وما صَلَبُوهُ ولَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإنَّ الَّذِينَ اْخْتَلَفوا فيهِ لَفي شَكٍّ مِنْهُ مالَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلوهُ يَقيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزيزاً حَكيماً } [النساء: 157-158].
ويقول عزّوجلّ:
{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذينَ كَفروا .. } الآية [آل عمران: 55].
فرسول الله عيسى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُقتَل ولم يُصلَب، بل سينزل ويقاتل الناس على الإسلام، وسيؤمن به ناس من أهل الكتاب، كما قال اللَّهُ تعالى:
{ وَإِنْ مِنَ أَهْلِ الكِتَابِ إلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ القِيامَةِ يَكونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدَاً } [النساء: 159].
قد ذكرنا في حديث النواس بن سمعانأنَّ عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ينزل عند المنارة البيضاء شرقيِّ دمشق، وأنه لا يحلُّ لكافر يجد ريحَ نَفَسِهِ إلاَّ مات، ونفَسُه ينتهي حيث ينتهي طرفُه، وأنه يقتل الدّجالَ بباب لدّ - في أرض فلسطين - وهنا - إن شاء الله - سنتكلم عن صفاته وجهاده، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
صفته وجهاده
روى الإمام مسلمفي صحيحه في حديث الإسراء، عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
“.. مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بي عَلَى مُوسى بنِ عِمرانَ عَلَيه السَّلامُ، رَجُلٌ آدَمُ[1] طُوالٌ[2] جَعْدٌ[3]، كَأَنَّهُ مِنْ رِجالِ شَنُوءَةَ[4]، وَرَأَيْتُ عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ، مَربوعَ الخَلْقِ إلَى الحُمْرَةِ والبَياضِ سَبِطَ الرَّأسِ[5]..” الحديث[6].
وعند مسلم أيضاً من حديث جابر بن عبد الله وحديث سعيد بن المسيّب قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
“عُرِضَ عَلَيَّ الأنْبِياءُ فإذا موسى ضَرْبٌ مِن الرِّجالِ كَأنَّهُ مِن رِجالِ شَنُوءَةَ، ورِأَيْتُ عيسى بنَ مَريَمَ عليه السلام فإذا أقْرَبُ من رَأيْتُ بِهِ شَبَهَاً عُرْوَةُ ابنُ مَسْعودٍ”، “رَبعَةٌ أحْمَرُ كَأنَّما خَرَجَ مِن ديماسٍ، يعني حَمّاماً...” [7].
وعن عبد الله بن عمررضي الله عنهما أنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:(/18)
“أَراني لَيْلَةً عِندَ الكَعْبَةِ، فَرَأيْتُ رَجُلاً آدَمَ كَأحْسَنِ ما أنتَ راءٍ من أُدْمِ الرِّجالِ، لَهُ لَمَّةٌ كَأحْسَنِ ما أنتَ راءٍ مِنَ اللِّمَمِ[8]قَد رَجَّلَها فَهِيَ تَقْطُرُ ماءً، مُتَّكِئاً عَلى رَجُلَيْنِ أو عَلى عَواتِقِ رَجُلَيْنِ، يَطوفُ بالبَيْتِ، فَسَأَلْتُ مَنْ هَذا؟ فَقيلَ: هذا المسيحُ بنُ مَرْيَمَ..” الحَديث[9].
وروى أحمدوأبو داود عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
“لَيْسَ بَيْني وَبَيْنَ عيسى نَبِيٌّ وإنَّهُ نازِلٌ فَإذا رَأَيْتُموهُ فاعْرِفوهُ: رَجُلٌ مَرْبوعٌ إلى الحُمْرَةِ والبَياضِ، يَنزِلُ بَيْنَ مُمَصَّرَتَينِ[10]، كَأنَّ رَأسَهُ يَقْطُرُ وإنْ لَم يَصُبْهُ بَلَلٌ، فَيُقاتِلُ النّاسَ عَلى الإسْلامِ، فَيَدُقُّ الصَّليبَ، وَيَقْتُلُ الخِنْزيرَ، وَيَضَعُ الجِزْيَةَ، ويُهْلِكُ اللَّهُ في زَمانِهِ المِلَلَ كُلَّها إلاّ الإسْلامَ، وَيُهْلِكَ المَسيحَ الدَّجَّالَ، فَيَمْكُثُ في الأرْضِ أرْبَعينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلّي عَلَيهِ المُسْلِمونَ”[11].
ويصف لنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حالَ المسلمين عند نزوله وماذا يفعل -عليه الصلاة والسلام- فيقول:
“.. وإمامُهُم رَجُلٌ صالِحٌ. فَبَيْنَما إمامُهُم قد تَقَدَّمَ يُصَلِّي بِهِمُ الصُّبْحَ إذْ نَزَلَ عَلَيْهِم عيسى بنُ مَريَمَ الصُّبْحَ، فَرَجَعَ ذَلِكَ الإمامُ القَهْقَرى لَيَتَقَدَّمَ عيسى فَيَضَعُ عيسى يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ ثُمَّ يَقولُ لَهُ: تَقَدَّمْ فَصَلِّ فَإنَّها لَكَ أقيمَتْ، فَيُصَلِّي بِهِم إمامُهُم، فَإذا انْصَرَفَ[12] قال عيسى: افتَحوا البابَ، فَيَفْتَحونَ ووَراءَهُ الدَّجَّالُ مَعَهُ سَبْعونَ ألفَ يَهوديّ، كُلُّهُم ذو سَيْفٍ مُحَلَّىً وَساجٍ، فَإذا نَظَرَ إلَيْهِ الدَّجَّالُ ذابَ كَما يَذوبُ المِلْحُ في الماءِ ويَنطَلِقُ هارِباً.. فَيُدْرِكُهُ عِنْدَ بابِ لُدٍّ الشَّرْقيِّ فَيَقْتُلُهُ، فَيَهْزِمُ اللَّهُ اليَهودَ فَلا يَبْقى شَيءٌ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ عزّ وَجّلَّ يَتَواقى بِهِ يَهودِيٌّ إلاّ أَنْطَقَ اللَّهُ ذَلِكَ الشَّيْئَ، لا حَجَرَ ولا شَجَرَ ولا حائطَ ولا دابَّةً، إلاّ الغَرْقَدَ فَإنَّها مِنْ شَجَرِهِم لاتَنْطِقُ، إلاّ قالَ: ياعَبْدَ اللَّهِ المُسْلِمَ، هذا يَهودِيٌّ فَتَعالَ اقْتُلْهُ. فَيَكونُ عيسى بنُ مَرْيَمَ في أُمَّتي حَكَماً عَدْلاً وإماماً مُقْسِطَاً، يَدُقُّ الصَّليبَ، ويَذْبَحُ الخِنْزِيرَ، ويَتْرُكُ الصَّدَقَةَ فلا يُسْعى على شاةٍ ولا بَعيرٍ، وتُرْفَعُ الشَّحْناءُ والتَّباغُضُ وتُنْزَعُ حُمَّةُ كُلِّ ذاتِ حُمَّةٍ، حَتَّى يُدْخِلَ الوَليدُ يَدَه في الحَيَّةِ فَلا تَضُرُّهُ، وتَضُرُّ الوَليدَةُ الأسدَ فلا يَضُرُّها، ويكونُ الذِّئْبُ في الغَنَمِ كَأَنَّهُ كَلبُها، وتُمْلأُ الأرْضُ مِنَ السِّلْمِ كما يُمْلأُ الإناءُ منَ الماءِ، وتَكونُ الكَلِمَةُ واحِدَةً، فلا يُعبَدُ إلاّ الله، وتَضَعُ الحَرْبُ أوْزارَها، وَتُسْلَبُ قُرَيْشٌ مُلْكَها، وتَكونُ الأرْضُ كَفاثور[13]الفِضَّةِ، تُنْبِتُ نَباتَها بِعَهْدِ آدَمَ، حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّفَرُ عَلى القِطْفِ مِنَ العِنَبِ فَيُشْبِعُهُم، وَيَجْتَمِعَ النَّفَرُ عَلى الرُّمّانَةِ فَتُشْبِعُهُم، ويَكونُ الثَّوْرُ بِكَذا وكَذا مِنَ المالِ، ويَكونُ الفَرَسُ بالدُّرَيْهِماتِ ...” الحديث[14].
وفي قِتال المسلمين لليهود أيضاً يقول النّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
“لا تَقومُ السّاعةُ حَتّى يُقاتِلَ المُسْلِمونَ اليَهودَ فيَقْتُلُهُمُ المُسْلِمونَ، حَتّى يَخْتَبِئَ اليَهودِيُّ وَراءَ الحَجَرِ والشَجَرِ فَيَقول الحَجَرُ أوِالشَّجَرُ: يا مُسْلِم! يا عبدَ اللَّهِ! هذا يَهودِيٌّ خَلْفي، تَعالَ فَاقْتُلْهُ، إلاّ الغَرْقَدُ[15]، فَإنَّهُ مِنْ شَجَرِ اليَهودِ”[16].
روى الشيخانوأحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
“وَالَّذي نَفْسي بِيَدِهِ لَيوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَماً مُقْسِطاً وإماماً عادِلاً، فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، ويَقْتُلُ الخِنْزِيرَ، ويَضَعُ الجِزْيَةَ، ويَفيضُ المالُ حَتّى لا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، وَحَتّى تَكونَ السَّجْدَةُ الواحِدَةُ خَيْراً مِنَ الدُّنْيا وما فيها”[17].
وأخبرنا الصادق المصدوق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ عيسىسيحجُّ البيت الحرام ويعتمر، فقال:
“وَالَّذي نَفْسي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحاءِ حاجَّاً أو مُعْتَمِراً أو لَيُثَنِّيَّهُما[18]”[19].
وَعن زمن المسيح عليه الصلاة والسلام يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(/19)
“طوبَى لِعَيْشٍ بَعْدَ المَسيحِ، يُؤْذَنُ لِلسَّماءِ في القَطْرِ، ويُؤْذَنُ لِلأرْضِ في النَّباتِ، حَتّى لَوْ بَذَرْتَ حَبَّكَ عَلى الصَّفا لَنَبَتَ، وَحَتّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلى الأسَدِ فلا يَضُرُّهُ، ويَطَأَ عَلى الحَيَّةِ فلا تَضُرُّهُ، ولا تَشاحَّ ولا تَحاسُدَ ولا تَباغُضَ”[20].
ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبشِّراً المسلمين الذين يقاتلون مع عيسى عليه السلام - وهم بقية الطائفة المنصورة: “عِصابَتانِ مِنْ أُمَّتي أحْرَزَهُما اللَّهُ مِنَ النَّارِ: عِصابَةٌ تَغْزو الهِنْدَ وَعِصابَةٌ تَكونُ مَعَ عيسى بْنِ مَرْيَمَ”[21].
وفي الحديث الآخر يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
“لا تَزالُ طائِفَةٌ مِنْ أُمَّتي يُقاتِلونَ عَلى الحَقِّ، ظاهِرينَ عَلى مَنْ ناوَأَهُم، حَتَّى يُقاتِلَ آخِرُهُم المَسيحَ الدَّجّالَ”[22].
ونَختم الكلام عن رسول الله عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الحديث الشريف: عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
“يَخْرُجُ الدَّجَّالُفي أُمَّتي فَيَمْكُثُ أرْبَعينَ[23]، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عيسى بْنَ مَرْيَمَ، كأنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعودٍ، فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ. ثُمَّ يَمْكُثُ الناسُ سَبْعَ سِنينَ[24] لَيسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَداوَةٌ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ ريحاً بارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ ، فلا يَبْقى عَلى وَجْهِ الأرْضِ أحَدٌ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أوْ إيمانٍ إلاَّ قَبَضَتْهُ، حَتّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُم دَخَلَ في كَبِدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ حَتّى تَقْبِضَهُ. قالَ: فَيَبْقى شِرارُ النَّاسِ في خِفَّةِ الطَّيْرِ وأحْلامِ السِّباعِ، لايَعْرِفونَ مَعْروفاً ولايُنْكِرونَ مُنْكَراً” الحَديث[25].
________________________________________
الفصل الرابع
________________________________________
[1]أي أسمر لون الجلد.
[2]بمعنى: طويل.
[3]أي جعد الشعر.
[4]اسم قبيلة.
[5]أملس شعر الرأس، ليس بجعد..
[6]شرح النووي لصحيح مسلم (2/227).
[7]المصدر السابق (2/231-232).
[8]اللمم: جمع لمّة، وهي الشعر المتدلي الذي جاوز شحمة الأذن.
[9]شرح النووي لصحيح مسلم (2/233).
[10] أي ثوبين مصبوغين بصفرة.
[11]صحيح أبي داود (3635).
[12]تقديره: "إذا انصرف إلى بيت المقدس والمسلمون فيه محصورون" (أنظر الجامع الصغير).
[13]الفاثور: الطست.
[14]صحيح الجامع الصغير (7875)
[15] شجر عظام من شجر الشوك، واحدته غرقدة.
[16]مختصر صحيح مسلم (2025).
[17]صحيح الجامع (7077).
[18] أي يقرن بين الحجّ والعمرة .
[19]مختصر صحيح مسلم (663).
[20]الصحيحة (1926).
[21]صحيح سنن النَّسائي (2975).
[22]الصحيحة (4/1959).
[23]وقد مر معنا في الحديث أنه يمكث أربعين يوماً : يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كأسبوع ، وسائر أيامه كأيامنا .
[24]أي بعد وفاة عيسى عليه الصلاة والسلام .
[25]شرح النووي على صحيح مسلم (18/75-76).
الفصل الرابع
يَأْجُوج وَمَأْجُوج
________________________________________
يقول اللَّهُ تبارك وتعالى مخبراً عن خروج يأجوج ومأجوج من وراء السَّدِّ:
{ حَتَّى إذا فُتِحَتْ يَأْجوجُ ومَأْجوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ .. } الآية [الأنبياء: 96-97].
ويقول النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
»إنَّ يَأجوجَ ومَأْجوجَ لَيَحْفُرونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ حَتّى إذا كادوا يَرَوْنَ شُعاعَ الشَّمْسِ قالَ الَّذي عَلَيْهِم: إرْجِعُوا، فَسَتَحْفُرُونَهُ غَداً، فَيُعيدُهُ اللَّهُ أَشَدَّ ما كانَ. حَتّى إذا بَلَغَتْ مُدَّتُهُم وأرادَ اللَّهُ أنْ يَبْعَثَهُم عَلى النَّاس حَضَروا، حَتّى إذا كادوا يَرَوْنَ شُعاعَ الشَّمْسِ قال الَّذي عَلَيْهِم: إرْجِعوا، فَسَتَحْفُرُونَهُ غَداً إنْ شاءَ اللَّهُ، واسْتَثْنَوْا، فَيَعودونَ إليهِ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكوهُ، فَيَحْفِرُونَهُ ويَخْرُجونَ عَلى النَّاسِ فَيُنَشِّفُونَ المَاءَ، ويَتَحَصَّنُ النَّاسُ مِنْهُم في حُصونِهِم، فَيَرْمونَ سِهامَهُمْ إلى السَّماءِ فَتَرْجِعُ وَعَلَيْها كَهَيْئَةِ الدَّمِ الَّذي اجْفَظَّ[1]، فَيَقولون : قَهَرْنا أهْلَ الأرْضِ، وَعَلَوْنا أهْلَ السَّماءِ. فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفَاً في أَقْفائِهِم فَيَقتُلُهُم بِها. وَالَّذي نَفْسي بِيَدِهِ إنَّ دَوابَّ الأرْضِ لَتَسْمَنُ وتَشْكَرُ شُكْراً مِنْ لُحومِهِم ودِمائِهِم«.[2](/20)
جاء في حديث النواس بن سمعان أن يأجوج ومأجوج يخرجون ويمرون على بحيرة طبرية فيشربونها، ويوحي الله تعالى لنبيِّهِ عيسى عليه الصلاة والسلام أن يحرِّز بالمؤمنين إلى جبل الطور، لأنّه لا يقدر أحد على قتالهم، ثم يهلكهم الله بالدّودِ يخرج في أعناقهم فيَموتون كفرسى نفس واحدة.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
»تُفْتَحُ يَأْجوجُ وَمَأْجوجُفَيَخرُجونَ كما قالَ اللَّهُ تَعالى: { مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلونَ } فَيَعُمُّونَ الأرْضَ، ويَنْحازُ مِنْهُمُ المُسْلِمونَ حَتى تَصيرَ بَقِيَّةُ المُسْلِمينَ في مَدائِنِهِم وَحُصُونِهِم، ويَضُمُونَ إلَيْهِم مَواشِيَهُم، حَتَّى أَنَّهُمْ لَيَمُرُّونَ بِالنَّهْرِ فَيَشْرَبونَهُ حَتّى ما يَذَرُونَ فِيهِ شَيْئاً، فَيَمُرُّ آخِرُهُم عَلى أَثَرِهِم فَيَقولُ قائِلُهُم: قَدْ كانَ بهذا المَكانِ مَرَّةً ماءٌ. وَيَظْهَرون على الأرْضِ، فَيَقولُ قائِلُهُم: هَؤلاءِ أهْلُ الأرْضِ قَدْ فَرِغْنا مِنْهُم، وَلَنُنازِلَنَّ أَهْلَ السَّماءِ. حَتَّى إنَّ أَحَدُهُم لَيَهُزُّ حَرْبَتَهُ إلى السَّماءِ فَتَرْجِعُ مُخْضَّبَةً بِالدَّمِ. فيقولُون: قَدْ قَتَلنا أهْلَ السَّماءِ. فَبَيْنَما هُم كَذلِكَ، إذ بَعَثَ اللَّهُ دَوابَّ كَنَغَفِ الجَرادِ، فَتَأحُذُ بِأعْناقِهِم فَيَموتُونَ مَوْتَ الجَرادِ يَرْكَبُ بَعْضُهُم بَعْضاً. فيُصْبِحُ المُسْلِمونَ لا يَسْمَعُونَ لَهُم حِسَّاً. فَيقولُونَ: مَنْ رَجُلٌ يَشْري نَفْسَهُ وَ يَنظُرُ ما فَعَلُوا؟ فَيَنْزِلُ مِنْهُم رَجُلٌ قَدْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلى أنْ يَقْتُلوهُ. فَيَجِدُهُم مَوْتى، فَيُناديهِم: أَلا أَبْشِروا، فَقَدْ هَلَكَ عَدُوُّكُم. فَيَخْرُجُ النَّاسُ مِنْ وَيَخْلُونَ سَبيلَ مَواشِيهُم. فَما يَكونُ لَهُم رَعْيٌ إلاّ لُحومُهُم، فَتَشْكَرُ[3]عَلَيْها كَأَحْسَنِ ما شَكِرَتْ مِنْ نَباتٍ أَصابَتْهُ قَطُّ«.[4]
وفي حديث النواس بن سمعان -وقد تقدم- قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
»ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عيسىوأَصْحابُهُ إلى الأرْضِ فَلايَجِدونَ في الأرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إلاّ مَلأَهُ زَهَمُهُم وَنَتَنُهُم، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عيسى وأصْحابُهُ إلى اللَّهِ فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْراً كَأعْناقِ البُخْتِ فَتَحْمِلُهُم فَتَطْرَحُهُم حَيْثُ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَراً لايَكِنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، فَيَغْسِلُ الأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَها كَالزُّلَفَةِ، ثُمَّ يُقالُ لِلأرْضِ أَنْبِتي ثَمَرَتَكِ وَ رُدِّي بَرَكَتَكِ ..« الحديث.
ويكون الزمان الذي قال فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
»طُوبى لِعَيْشٍ بَعْدَ المَسيحِ ..« الحديث.
وعن أعداد يأجوج ومأجوج، يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
»سَيوقِدُ المُسْلِمونَ مِنْ قِسِّيِّ يَأجوجَ ومَأجوجَ وَنُشَّابِهِم سَبْعَ سِنينَ«[5]، وأنهم يشربون بحيرة طبرية كما مرَّ.
________________________________________
الفصل الخامس والأخير
________________________________________
[1]اجفظّ: جمد ونشف.
[2]صحيح الجامع (2276).
[3]تشكَر: تسمن.
[4] صحيح سنن ابن ماجه (3297)، وأنظر الصحيحة (4/1793).
[5]الصحيحة (1940).
لفصل الخامس
بَقِيّة أَشْراطِ السَّاعَة الكُبرى
________________________________________
أشراط الساعة الكبرى -مع نزول عيسى وخروج الدَّجَّال- هي: طلوع الشّمس من مغربها، وخروج الدَّابَّةعلى النَّاس، والدُّخَان، وثلاثة خُسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف في جزيرة العرب، والنار التي تخرج من قعر عدن تسوق النَّاسَ إلى محشرهم.
كان قد مر معنا في حديث النواس بن سمعان أنَّ ريحاً طيبة تأتي فتأخذ روح كل مؤمن ومسلم، ويبقى شرار الخلق يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة. وقبل أن تأتي هذه الريح تطلع الشمس من مغربها، وتخرج الدَّابَّة على الناس تكلِّمهم، ويرفع القرآن من المصاحف والصُّدور، وتُمْحَى آثار الشريعة، ويظهر الدُّخَان، ويكون آخر هذه الآيات نار تخرج من قعر عدن في اليمن تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، إلى محشرهم أرض الشام، تكون معهم حيث كانوا. ولم تذكر الأحاديث شيئاً عن الخسوف الثلاثة المذكورة سابقاً، عدا ما ذكر عن الخسف الذي يحصل للجيش عند البيداء، بيداء المدينة، والذي قد يكون أحد تلك الخسوف الثلاثة، والله تعالى أعلم.
روى الإمام مسلم في الصحيح عن حذيفة بن أسيد الغِفاري قال: إطَّلَعَ النّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنا ونحن نَتَذاكَرُ، فقالَ: ما تَذاكَرونَ؟ قالوا: نَذْكُرُ السّاعةَ. قالَ:(/21)
»إنَّها لَنْ تَقومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَها عَشْرَ آياتٍ، فَذَكَرَ الدُّخَانَ[1]، والدَّجَّالَ، والدَّابَّةَ، وطلوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِها، ونُزولَ عيسىبنَ مَرْيَمَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وثلاثةَ خُسوفٍ: خَسفٌ بالمَشْرقِ، وخَسْفٌ بالمَغْرِبِ، وخَسْفٌ بِجَزيرَةِ العَرَبِ، وآخِرُ ذلِكَ نارٌ تَخْرُجُ مِنْ اليَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إلى مَحْشَرِهِم«. وفي رواية: »وريحٌ تُلْقي الناسَ في البَحْرِ«.[2]
طلوع الشمس من المغرب
يقولُ اللَّهُ تبارك وتعالى:
{ هَلْ يَنْظُرونَ إلاّ أنْ تَأْتِيَهُم المَلائِكَةُ أوْ يَاْتِيَ رَبُّكَ أوْ يَأتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يأتي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لايَنْفَعُ نَفْسٌ إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِروا إنّا مُنْتَظِرونَ } [الأنعام: 158].
روى الإمام مسلم عن أبي ذرّ، أن النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوماً:
»أَتَدْرونَ أَيْنَ تَذهَبُ هَذِه الشَّمْسُ؟ قالوا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ. قالَ: إنَّ هَذِهِ تَجْري حَتَّى تَنْتَهيَ إلى مُسْتَقَرِّها تَحْتَ العَرْشِ فَتَخِرُّ ساجِدَةً، فلا تَزالُ كَذلِكَ حتّى يُقالَ لَها: ارْتَفِعي، إرْجِعي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طالِعَةً مِنْ مَطْلَعِها، ثُمَّ تَجْري لايَسْتَنْكِرُ النَّاسُ مِنْها شَيْئاً حَتَّى تَنْتَهيَ إلى مُسْتَقَرِّها ذاكَ تَحْتَ العَرْشِ، فَيُقالَ لها: ارْتَفِعي، أَصْبِحي طالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ، فَتُصْبِحُ طالِعَةً مِنْ مَغْرِبِها. فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَدْرونَ مَتى ذاكُمْ؟ ذلِكَ حينَ لايَنْفَعُ نَفْساً إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أو كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْراً«.[3]
باب التوبة مفتوح حتّى تطلعَ الشمسُ من مغربها
روى ابن ماجةرحمه الله بسند حسن عن صفوان ابن عسَّالقال: قال رسولُ اللّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
»إنَّ مِنْ قِبَلِ مَغْرِبِ الشَّمْسِ باباً مَفْتوحَاً، عَرْضُهُ سَبْعونَ سَنَةً، فَلا يَزالُ ذَلِكَ البابُ مَفْتوحَاً لِلتَّوْبَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ نَحْوِهِ، فِإذا طَلَعَتْ مِنْ نَحْوِهِ لَمْ يَنْفَعْ نَفْسَاً إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْراً«.[4]
وعند البخاري ومسلم وابن ماجة عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
»لا تَقومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها، فَإذا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِها وَرَآها النَّاسُ آمَنوا جَميعاً، فَذَلِكَ حينَ لايَنْفَعُ نَفْساً إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيراً«.[5]
خروج الدَّابَّة
يقول الله تعالى:
{ وَإذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أخْرَجْنا لَهُمْ دابَّةً مِنْ الأرْضِ تُكَلِّمُهُم أنَّ النَّاسَ كانوا بِآياتِنا لايُوقِنونَ } [النمل: 82].
عن عبد الله بن عمرو قال: حفظتُ مِن رَسولِ اللَهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَديثاً لَمْ أنْسَهُ بَعدُ، سمعتُ رسولَ اللّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
»إنَّ أوَّلَ الآياتِ خُروجاً طُلوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِها وَخُروجُ الدَّابَّةِعَلى النَّاسِ ضُحىً، وَأَيَّهُما كانَتْ قَبْلَ صاحِبَتِها فَالأُخْرى عَلى إثْرِها قَريب«.[6]
وهذه الدَّابَّة تخرج من الأرض فَتَسِمُ الناسَ على أنوفهم، هذا مؤمن وذاك كافر، حتى تأتي الريح الباردة الطيّبة فتأخذ روح كل مؤمن ومسلم.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
»تَخْرُجُ الدَّابَّةُ فَتَسِمُ النّاس عَلى خَراطِيمِهِم، ثُمَّ يُعْمِرْنَ فيكم، حَتّى يَشْتَريَ الرَّجُلُ الدّابَّةَ فَيُقالُ: مِمَّنِ اشْتَريْتَ؟ فَيَقول: مِنَ الرَّجُلِ المُخَطَّمِ«.[7]
الدُّخان والخسوف الثلاثة
اختلف المفسرون والعلماء في آية الدُّخان الكبرى، فيما إذا كانت هي المذكورة في سورة الدُّخان، وهل ظهرت حسب بعض روايات الصحابة كابن مسعود، أم أنَّها لم تظهر بعد. والراجح -والله أعلم- أنها لم تظهر بعد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكرها في نفس الحديث الذي فيه بقية أشراط الساعة، ولم يظهر بعد واحدة من هذه الآيات الكبرى. ثم كيف أنَّ آية الدُّخان -وهي من آيات الساعة الكبرى- قد ظهرت قبل وفاته، صلى الله عليه وسلم، وهو القائل في حديثه الذي رواه ابن ماجه عن عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:(/22)
»يا عوفُ! احْفَظْ خِلالاً سِتَّاً بينَ يَدي السَّاعةِ: إحْداهُنَّ مَوْتي... ثم فتحُ بيتِ المَقدِسِ، ثم داءٌ يظهرُ فيكُم يسْتَشهِدُ اللهُ به ذراريَّكُم وأنفسَكم، ويزَكِّي بهِ أعمالَكُم، ثُمَّ تَكونُ الأموالُ فيكم، حَتَّى يُعْطى الرَّجُلُ مائةَ دينارٍ، فيظلُّ ساخِطاً. وفتنةٌ تكونُ بينكم، لا يبقى بيتُ مُسلمٍ إلاَّ دَخَلَتْهُ، ثم تكونُ بينكم وبينَ بَني الأصفر هُدنةٌ، فيغْدِرونَ بكم، فيسيرونَ إليكم في ثمانينَ غايةٍ، تحتَ كلِّ غاية اثنا عشر ألفاً«.[8]
فهذا الحديث يبين بعض الآيات قبل الساعة الكبرى هي تلك الخلال الست، والتي من بينها، بل أولها موتُه صلى الله عليه وسلم، وآخرها هو مسير الروم إلى المسلمين بعد غدرهم في ثمانين راية. وعلى إثر هذه المعركة بين المسلمين والروم، تفتتح القسطنطينية، ثم يخرج الدجال، ثم ينزل عيسى عليه السلام، إلى آخر الأيات الواردة في الأحاديث. وقد ظهر دخان في زمانه صلى الله عليه وسلم، يوم استعصت قريش وأبت الإسلام فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصيبهم سنين كسنين يوسف عليه السلام، فأصبح أحدهم ينظر إلى السماء فيرى دخاناً من الجوع.[9] وهذا طبعاً لا يمنع من ظهور دخان آخر في نهاية الزمان، لأن الأخبار صحَّت في كلا الأمرين، والله أعلم.
وأما بالنسبة للخسوف الثلاثة التي يظهر أحدها في المشرق، والآخر في المغرب، والثالث في جزيرة العرب، فلم تفصل الأحاديث في أمرها، والله تعالى أعلم.
النَّار الحاشرة
وهي آخر الآيات العشر للسَّاعة الكبرى حيث تخرج من اليمن، من قعر عدن، تُرَحِّل الناسَ، »تَنْزِلُ مَعَهُم إذا نَزَلوا، وَتَقيلُ مَعَهُم حَيْثُ قالوا«.[10]
وفي الحديث الآخر، يقول صلى اللهُ عليه وسلم:
»يُحْشَرُ النَّاسُ على ثَلاثِ طَرائِقَ راغِبِينَ رَاهِبينَ، وَاثْنانِ عَلَى بَعيرٍ، وَثَلاثَةٌ عَلَى بَعيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلى بَعير، وَعَشَرَةٌ عَلى بَعيرٍ، وَتَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ، تَبيتُ مَعَهُم حيثُ باتُوا، وَتَقيلُ مَعَهُم حَيثُ قالوا، وَتُصبِحُ مَعَهُم حيثُ أَصْبَحوا، وَتُمْسي مَعَهُم حَيْثُ أَمْسَوْا«.[11]
وقبل أن تأتي الريح الباردة الطيَبة؛ »يُدْرَسُ الإسْلامُ كَما يُدْرَسُ وَشْيُ الثَّوْبِ، حَتّى لايُدْرَى ماصِيامٌ ولاصَلاةٌ ولانُسُكٌ ولاصَدَقَةٌ، ويُسْرَى عَلى كِتابِ اللَّهِ في لَيْلَةٍ فَلا يَبْقى في الأرْضِ مِنْهُ آيَةٌ، وَتَبْقى طَوائِفُ مِنَ النَّاسِ، الشَّيْخُ الكَبيرُ والعَجوزُ يَقولونَ: أَدْرَكْنا آباءَنا عَلى هَذِهِ الكَلِمَةِ، يقولونَ لا إلَهّ إلاَّ اللَّهُ، فَنَخْنُ نَقولُها«.[12]
ويرجع الناس - بعد الريح الطيبة - إلى دين آبائهم في الجاهلية الأولى، فيعبدون الأصنام والأوثان.
روى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
»لا يَذْهَبُ اللَّيْلُ والنَّهارُ حَتَّى تُعْبَدَ الَّلاتُ والعُزَّى«. فقُلتُ: يا رسول الله، إنْ كُنْتُ لأَظُنُّ حينَ أنْزَلَ اللَّهُ { هُوَ الَّذي أَرْسَلَ رَسولَهُ بِالْهُدْى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكونَ } أنَّ ذَلِكَ تامٌّ! قال: »إنَّهُ سَيَكونُ مِنْ ذَلِكَ ما شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللّهُ ريحاً طَيِّبَةً فَتَوَفّى كُلَّ مَنْ في قَلْبِهِ مَثْقالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمانٍ، فَيَبْقى مَنْ لاخَيْرَ فِيهِ، فَيَرْجِعونَ إلى دِينِ آبائِهم«.[13]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
»لا تَقومُ السّاعَةُ حَتّى تَضْطَرِبَ أَلْياتُ نِساءِ دَوْسٍ حَوْلَ ذي الخَلَصَةِ«[14] وهو وثن كانت تعبده دوس في الجاهلية.
على مَن تقوم الساعة؟
تقوم الساعة على ناس لا يعلمون من الحق والإيمان شيئاً. وقد كتب اللَّهُ تعالى ألاَّ تَقومَ وفي الأرض مؤمن، بل تقوم على شرار الخلق، على ناس لاينكرون منكراً، ولايعرفون معروفاً.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
»لا تَقومُ السّاعَةُ إلاّ عَلى شِرارِ الخَلْقِ«.[15]
وقال أيضاً:
»لا تَقومُ السّاعَةُ حَتّى لا يُقالَ في الأرْضِ اللَّهُ اللَّهُ«،[16] أي لا إله إلاَّ اللَّه، كما جاء في رواية أحمد.
و »تَقومُ السّاعَةُ والرَّجُلُ يَحْلُبُ اللِّقْحَةَ فَما يَصِلُ الإِناءُ إلى فِيهِ حَتّى تَقومَ، والرَّجُلانِ يَتَبايَعانِ الثَّوْبَ فَما يَتَبايَعانِهِ حَتّى تَقومَ، والرَّجُلُ يَلِطُ في حَوْضِهِ فَما يَصْدِرُ حَتَّى تَقومَ«.[17]
فَتَأمّلْ غفلة النَّاس عن السَّاعة وأهوالها -نسأل الله السلامة-، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:(/23)
»كَيَفُ أنْعَمُ وقَدِ الْتَقَمَ صاحِبُ القَرْنِ القَرْنَ وحَنَى جَبْهَتَهُ وأصْغَى سَمْعَهُ، يَنْتَظِرُ أنْ يُؤْمَرَ أنْ يَنْفُخَ فَيَنْفُخُ«. قال المسلِمونَ: فَكَيفَ نَقولُ يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: »قُولوا: حَسْبُنا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكيلُ، وتَوَكَّلْنا عَلى اللَّهِ رَبِّنا«.[18]
ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
»إنَّ طَرْفَ صاحِبِ الصُّورِ مُنْذُ وُكِّلَ بِهِ مُسْتَعِدٌّ يَنْظُرُ نَحْوَ العَرْشِ مَخافَةَ أنْ يُؤْمَرَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْهِ طَرْفُهُ، كَأَنَّ عَيْنَيْهِ كَوْكَبانِ دُرِّيَّانِ«.[19]
ونحن نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، وتوكلنا على اللَّهِ ربِّنا، ونسأل الله تعالى أن يؤمِنَّا يوم الفزع الأكبر { يَوْمَ لايَنْفَعُ مالٌ ولابَنونَ إلاّ مِنْ أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَليمٍ }
________________________________________
[1]أنظر ما أورده ابن كثير في تفسيره لسورة الدخان (4/140-142).
[2]شرح النووي لصحيح مسلم (18/27).
[3]نفسه (1/196).
[4]صحيح سنن ابن ماجة (3289).
[5]المصدر السابق (3278).
[6]مختصر صحيح مسلم (2053).
[7]صحيح الجامع (2927 ).
[8] صحيح ابن ماجة (3267).
[9] راجع تفسير الطبري عند الآية 10 من سورة الدخان.
[10]شرح النووي لصحيح مسلم (18/29).
[11] شرح النووي لصحيح مسلم (17/192).
[12]مستدرك الحاكم (4/473)، وقال: صحيح على شرط مسلم.
[13]مختصر صحيح مسلم (2013).
[14]نفسه (2012).
[15]نفسه (2022).
[16]نفسه (2020).
[17]مختصر صحيح مسلم (2075).
[18]الصحيحة (1079).
[19]الصحيحة (1078)
ملاحق كتاب (فقد جاء أشراطها)
(1)
الأحاديث الضعيفة
________________________________________
بذل المحدِّثون، جزاهم الله خيراً، الأقدمون منهم والمُحدَثون، جهدهم في تمييز صحيح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضعيفه، وكتبوا فيه مجلدات، دلت على رسوخ علمهم، ودقة نظرهم، واتساع معرفتهم برجال الحديث وتاريخهم. وإذا كان قد اختلف بعض المحدثين في الأخذ بالحديث الضعيف، في فضائل الأعمال فقط، إلا أنهم وضعوا شروطاً للعمل به، لا تنطبق على مسائل العقائد والغيبيات والأحكام الشرعية. ولذلك فإنه لا يمكن الاستشهاد بالأحاديث الضعيفة في موضوع الساعة وأشراطها، بخلاف من يحطتب بليل فيجمع في هذا الموضوع ما هب ودب فلا يميز بين صحيح الأحاديث وضعيفها. ولقد قرأت في موضوع الساعة وأشراطها على الشبكة في موقع جمع صاحبه فيه الضعيف والصحيح من الأحاديث وبنى عليها نتائج جاءت متناقضة لتناقض مقدماتها وضعف سندها، مع ادعاءات غير علمية ذكرها في صفحته الرئيسية. وإن كنا نحسن الظن بإخواننا المسلمين، فإن هذا لا يمنع من عنده علم في هذا الموضوع أن يبين الصواب من الخطأ لتعم الفائدة بين المسلمين. لذلك حرصت في هذه العجالة أن أورد ما تيسر لي من هذه الأحاديث التي لا تصح ليكون القارئ على بينة من أمره، حتى إذا ما أتى أمر الله تعالى عرف واهتدى. وسوف أضيف –بإذن الله- ما أستطيع جمعه من الأحاديث الضعيفة كلما سنحت لي الفرصة.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يهدينا ويهدي بنا، آمين. وصلى الله على النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
________________________________________
السفياني
ورد ذكر السفياني –وهو حاكم ظالم حسب الأحاديث- في عدة روايات لا تعدو أن تكون ضعيفة في أحسن أحوالها؛ منها ما رواه الحاكم في مستدركه على الصحيحين (ج4 ص 431 كتاب الفتن والملاحم) قال: حدثنا علي بن حمشاذ العدل، ثنا إيراهيم بن الحسين الهمداني، ثنا عمر بن عاصم الكلبي، ثنا أبو العوام القطان، ثنا قتادة عن أبي الخليل عن عبدالله بن ا لحارث عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- "يبايع لرجل من أمتي بين الركن والمقام كعدة أهل بدر فيأتيه عصائب العراق وأبدال الشام، فيأتيهم جيش من الشام حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم. ثم يسير إليه رجل من قريش[1] أخواله كلب فيهزمهم الله." قال: وكان يقال: "إن الخائب يومئذ من خاب من غنيمة كلب[2]." ولم يعلق عليه الحاكم، وإنما قال الذهبي: قلتُ: أبو العوام عمران ضعّفه غير واحد، وكان خارجياً. وهو مخرج في (الضعيفة للألباني برقم 1965).(/24)
- وروى أبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً إلى مكة فيأتيه ناس من أهل مكة، فيخرجوه وهو كاره، فيبايعونه بين الركن والمقام، ويبعث إليه بعث من الشام، فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة، فإذا رأى الناس ذلك، أتاه أبدال الشام، وعصائب أهل العراق فيبايعونه [بين الركن والمقام]. ثم ينشأ رجل من قريش أخواله كلب، فيبعث إليهم بعث فيظهرون عليهم، وذلك بعث كلب، والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب، فيقسم المال، ويعمل في الناس بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويُلقي الإسلامُ بجرانه إلى الأرض فيلبث سبع سنين، ثم يُتوفّى ويصلي عليه المسلمون." (ضعيف سنن أبي داود للألباني- رقم 921). ومن تأمل هذا الحديث والذي قبله يعلم ما بينهما من التناقض.
- وقال أيضاً: حدثنا سليمان بن بلال عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "المحروم من حرم غنيمة كلب ولو عقالاً. والذي نفسي بيده لتباعن نساءهم على درج دمشق حتى تردّ المرأة من كسر يوجد بساقها." ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (ج4 ص 431-342 كتاب الفتن والملاحم) وعقب الذهبي بقوله: "صحيح." لكن الحديث فيه كثير بن زيد وقد أورده الحافظ الذهبي نفسه في كتابه (ميزان الاعتدال 3/6938) قال: "قال أبو زرعة: صدوق فيه لين. وقال النسائي: ضعيف. وروى ابن الدورقي عن يحيى: ليس به بأس. وروى ابن أبي مريم عن يحيى: ثقة. وقال ابن المديني: صالح، وليس بقوي." اهـ وقد قال عنه الألباني: ضعيف (الصحيحة 4/328).
- وقال أيضاً (ج4 ص468 كتاب الفتن والملاحم): أخبرني محمد بن المؤمل بن الحسن، ثنا الفضل بن محمد بن المسيب، ثنا نعيم بن حماد، ثنا يحيى بن سعيد، ثنا الوليد بن عياش أخو أبي بكر بن عياش عن إبراهيم عن علقمة قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احذر سبع تكون بعدي. فتنة تقبل من المدينة، وفتنة بمكة، وفتنة تقبل من اليمن، وفتنة تقبل من الشام، وفتنة تقبل من المشرق، وفتنة تقبل من المغرب، وفتنة من بطن الشام وهي السفياني." قال: فقال ابن مسعود: منكم من يدرك أولها ومن هذه الأمة من يدرك آخرها. قال الوليد بن عياش: فكانت فتنة المدينة من قبل طلحة والزبير، وفتنة مكة فتنة عبد الله بن الزبير، وفتنة الشام من قبل بني أمية، وفتنة المشرق من قبل هؤلاء. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. فعقب عليه الذهبي بقوله: قلتُ: هذا من أوابد نعيم بن المهدي. وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في (سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم 1870).
المهدي
من أحاديث المهدي الضعيفة التي يتداولها الناس هي:
- "نحن –ولد عبد المطلب- سادة أهل الجنة: أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي." (سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني 4688).
- "المهدي رجل من ولدي، وجهه كالكوكب الدري، اللون لون عربي، والجسم جسم إسرائيلي. يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. يرضى خلافته أهل السماء وأهل الأرض والطير في الجو. يملك عشرين سنة." (الضعيفة 4684).
- "كيف تهلك أمة أنا أولها، وعيسى في آخرها، والمهدي في وسطها." (الضعيفة 2349).
- "إن المهدي لا يخرج حتى تقتل النفس الزكية، فإذا قتلت النفس الزكية، غضب عليهم من في السماء ومن في الأرض، فأتى الناس المهدي، فزفوه كما تزف العروس إلى زوجها ليلة عرسها، وهو يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وتخرج الأرض نباتها، وتمطر السماء مطرها، وتنعم أمتي في ولايته نعمة لم تنعمها قط." (الضعيفة 2155).
- أورد محمد صديق حسن القنوجي، رحمه الله، صاحب كتاب (الإذاعة في أشراط الساعة ص119) الحديث التالي: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يسير ملك المشرق إلى المغرب فيقتله، فيبعث جيشاً إلى المدينة فيخسف بهم، فيعوذ عائذ بالحرم فيجتمع الناس إليه كالطير الواردة المتفرقة، حتى يجتمع إليه ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً فيهم نسوة، فيظهر على كل جبار وابن جبار، ويظهر من العدل ما يتمنى له الأحياء أمواتهم، فيحيا سبع سنين، ثم ما تحت الأرض خير مما فوقها." أخرجه الطبراني في الأوسط، وفي إسناده ليث بن أبي سليم[3]، وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ
- "من أنكر خروج المهدي فقد كفر بما أنزل على محمد، ومن أنكر نزول عيسى بن مريم فقد كفر، ومن أنكر خروج الدجال فقد كفر، ومن لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد كفر، فإن جبريل عليه السلام أخبرني بأن الله تعالى يقول: من لم يؤمن بالقدر خيره وشره فليتخذ رباً غيري." (الضعيفة 1082).(/25)
- "يقتَل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة، ثم لا يصير إلى واحد منهم، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق، فيقتلونكم قتلاً لم يقتله قوم –ثم ذكر شيئاً لم أحفظه- فقال: فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج، فإنه خليفة الله المهدي." وفي رواية: "إذا رأيتم الرايات السود خرجت من قبل خراسان فأتوها ولو حبواً." (الضعيفة 85).
- "المهدي من ولد عمي العباس." (الضعيفة 80).
- "أبشركم بالمهدي، يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلازل، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً، يرضى عنه ساكن السماء، وساكن الأرض، يقسم المال صحاحاً." فقال رجل: ما صحاحاً؟ قال: "بالسوية بين الناس. قال: ويملأ الله قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم غنى، ويسعهم عدله، حتى يأمر منادياً فينادي فيقول: من له في مال حاجة؟ فما يقوم من الناس إلا رجل، فيقول: ائت السدان –يعني الخازن- فقل له: احثُ، حتى إذا جعله في حجرة وأحرره ندم، فيقول: كنت أجشع أمة محمد نفساً، أوعجز عني ما وسعهم. قال: فيرده، فلا يقبل منه، فيقال له: إنا لا نأخذ شيئاً أعطيناه. فيكون كذلك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين، ثم لا خير في العيش بعده، أو قال: لا خير في الحياة بعده." (الضعيفة 1588). وهذا الحديث مع ضعفه تخالف بعضُ جمله أحاديث صحيحة أوردناها في الكتاب. فمثلاً: الجملة الأخيرة تخالف ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "طوبى لعيش بعد المسيح.." الحديث، ووجه التناقض أن المهدي يأتي قبل نزول عيسى، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ويمكث في الأرض أربعين سنة، فلو افترضنا أن المهدي يمكث أقصى المدة وهي تسع سنين ويأتي في نفس وقت نزول عيسى –وهذا غير صحيح بل يكون قبله- فإن المسلمين يسكنون الأرض وبين أظهرهم نبي الله عيسى عليه السلام مدة لا تقل عن إحدى وثلاثين سنة. بل في زمن المهدي –على خلافته الراشدة وعدله القوي- يخرج الدجال، وتكون الفتن العظيمة، والله تعالى أعلم.
- عن علي رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "أمِنَّا المهدي أم من غيرها يارسول الله؟ قال: بل منّا، بنا يتختم الله كما بنا فتح الله، وبنا يستنقذون من الشرك، وبنا يؤلف الله بين قلوبهم بعد عداوة كما ألّف بين قلوبهم بعد عداوة الشرك. قال عليّ: أمؤمنون أم كافرون؟ قال: مفتون وكافر." قال صاحب (الإذاعة في أشراط الساعة ص127) بعد أن أورد هذا الخبر: أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف معروف الحال، وفيه عمرو بن جابر الحضرمي وهو أضعف منه. وقال الشوكاني: هو كذاب، وقال أحمد: روى عن جابر مناكير وبلغني أنه كان يكذب. وقال النسائي: ليس بثقة، وقال: وكان ابن لهيعة شيخاً أحمق ضعيف العقل، وكان يقول: علي في السحاب، وكان يجلس معنا فيبصر سحابة فيقول: هذا علي قد مر في السحاب. اهـ
- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في نفر من المهاجرين والأنصار، وعلي بن أبي طالب عن يساره والعباس عن يمينه إذ تلاقى العباس ورجل، فأغلظ الأنصاري للعباس، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد العباس وبيد علي فقال: "سيخرج من صلب هذا من يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتى التميمي، فإنه يقبل من قبل المشرق وهو صاحب راية المهدي." قال صاحب (الإذاعة..ص129): أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه ابن لهيعة، وعبد الله بن عمر العمي، وهما ضعيفان. قال الهيثمي في مجمع الزاوئد: ولكن الحديث منكر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستقبل أحد في وجهه شيئاً يكرهه، وخاصة عمه العباس الذي قال فيه: إنه صنو أبيه. اهـ
- "ستكون دمشق في آخر الزمان أكثر المدن أهلاً وهي تكون لأهلها معقلاً وأكثر أبدالاً وأكثر مساجد وأكثر زهاداً وأكثر مالاً وأكثر رجالاً وأقل كفاراً، ألا وإن مصر أكثر المدين فراعنة وأكثر كفوراً وأكثر ظلماً وأكثر رياءً وفجوراً وسحراً وشراً، فإذا عمرت أكنافها بعث الله عليهم الخليقة الزائد البنيان والأعور الشيطان والأخرم الغضبان، فويل لأهلها من أتباعه وأشياعه. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) فإذا قتل ذلك الخليفة بالعراق خرج عليهم رجل مربوع القامة أسود الشعر كث اللحية براق الثنايا، فويل لأهل العراق من أشياعه المراق، ثم يخرج المهدي منا أهل البيت فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً." (ضعيف فضائل الشام 18).
الدجال
ومن أحاديث الدجال التي لا تصح:
- "طعام المؤمنين في زمن الدجال طعام الملائكة: التسبيح والتقديس، فمن كان منطقه يومئذ التسبيح والتقديس أذهب الله عنه الجوع، فلم يخشَ جوعاً." (الضعيفة 3825).
- "سيدرك رجلان من أمتي عيسى ابن مريم، ويشهدان قتال الدجال." (الضعيفة 3716).
"من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة تكون؛ فإذا خرج الدجال عصِمَ منه." (2013).(/26)
- "يخرج الدجال في خفّةٍ من الدين، وإدبار من العلم، وله أربعون يوماً يسيحها، اليوم منها كالسنة، واليوم كالشهر، واليوم كالجمعة، ثم سائر أيامه مثل أيامكم. وله حمار يركبه عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعاً، يأتي الناس فيقول: أنا ربكم، و إن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه ك ف ر، يقرأه كل مؤمن، كاتب وغير كاتب، يمرّ بكل ماء ومنهل، إلا المدينة ومكة، حرمهما الله عليه، وقامت الملائكة بأبوابهما." (الضعيفة 1969).
- "يخرج الدجال على حمار أقمر، ما بين أذنيه سبعون عاماً، معه سبعون ألف يهودي، عليهم الطيالسة بالحضر، حتى ينزلوا كوم ابن الحمراء." (الضعيفة1968).
- "لم يسلّط على قتل الدجال إلا عيسى ابن مريم عليه السلام." (الضعيفة 4337).
- "لقيتُ ليلة أسري بي إبراهيمَ وموسى وعيسى، قال: فتذاكروا أمر الساعة، فردوا أمرهم إلى إبراهيم، فقال: لا علم لي بها. فردوا الأمر إلى موسى، فقال: لا علم لي بها. فردوا الأمر إلى عيسى، فقال: أما وجبتها؟ فلا يعلمها أحد إلا الله، ذلك؛ وفيما عهد إلي ربي عز وجل أن الدجال خارج. قال: ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص، قال: فيهلكه الله، حتى إن الحجر والشجر ليقول: يا مسلم! إن تحتي كافراً فتعالَ فاقتله. قال: فيهلكهم الله، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم. قال: فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيطؤون بلادهم، لا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، ثم يرجع الناس إلي فيشكونهم، فأدعو الله عليهم، فيهلكهم الله ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم. قال: فينزل اللهُ عز وجل المطر، فتجرف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر، ثم تنسف الجبال، وتمد الأرض مدّ الأديم، قال: ففيما عهد إلى ربي عز وجل: أن ذلك إذا كان كذلك، فإن الساعة كالحامل المتمّ التي لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادها؛ ليلاً أو نهاراً!" (الضعيفة 4318).
- "لقد أكل الطعام، ومشى في الأسواق." يعني الدجال. (الضعيفة 4313).
- روى الترمذي عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمكث أبو الدجال وأمه ثلاثين عاماً لا يولد لهما ولد، ثم يولد لهما غلام أعور، أضر شيء وأقله منفعة، تنام عيناه ولا ينام قلبه." ثم نعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: "أبوه طوال، ضرب اللحم، كأن أنفه منقار، وأمه امرأة فرضاخيّة طويلة الثديين." قال أبو بكرة: فسمعت بمولود في اليهود بالمدينة، فذهبتُ أنا والزبير بن العوام حتى دخلنا على أبويه، فإذا نعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما. قلنا: هل لكما ولد؟ فقالا: مكثنا ثلاثين عاماً لا يولد لنا ولد، ثم ولد لنا غلام أعور، أضر شيء وأقله منفعة، تنام عيناه ولا ينام قلبه. قال: فخرجنا عن عندهما، فإذا هو منجدل في الشمس، في قطيفة وله همهمة، فكشف عن رأسه، فقال: ما قلتما؟ قلنا: وهل سمعتَ ما قلنا؟ قال: نعم، تنام عيناي، ولا ينام قلبي. اهـ قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة. والحديث ضعفه الألباني في (ضعيف سنن الترمذي رقم 392).
- "لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، وليكونن أئمة مضلّون، وليخرجن على إثر ذلك الدجالون الثلاثة." (الضعيفة 4302).
- "لتقاتلن المشركين حتى تقاتل بقيتكم الدجال، على نهر بالأردن، أنتم شرقيه، وهم غربيه، وما أدري أين الأردن يومنذ من الأرض." (الضعيفة 1297).
- "بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا مرضاً مفسداً، وهرماً مفنداً، أو غنى مطغياً، أو فقراً منسياً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال، فشرّ منتظر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمر." (الضعيفة 1666).
- "اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين، وغلبة العدو، ومن بوار الأيم، ومن فتنة المسيح الدجال." (الضعيفة 1651).
- "لا تقوم الساعة حتى تكون أدنى مسالح المسلمين بـ (بولاء). يا علي! يا علي! يا علي! إنكم ستقاتلون بني الأصفر، ويقاتلهم الذين من بعدكم، حتى تخرج إليهم روقة الإسلام:أهل الحجاز، الذي لا يخافون في الله لومة لائم، فيفتتحون القسطنطينية بالتسبيح والتكبير، فيصيبون غنائم لم يصيبوا مثلها، حتى يقتسموا بالأترسة، ويأتي آت فيقول: إن المسيح قد خرج في بلادكم، ألا وهي كذبة، فالآخذ نادم، والتارك نادم." (الضعيفة 4790)، وهذا يغني عنه حديث فتح القسطنطينية الثاني المذكور في الكتاب.
- "ليدركن المسيح من هذه الأمة أقواماً إنهم لمثلكم أو خير –ثلاث مرات-، ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها." (الضعيفة 4372).
- "الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر." ضعيف (ضعيف سنن أبي داود للألباني – رقم 925).
- "بين الملحمة، وفتح المدينة ست سنين، ويخرج الدجال في السابعة." ضعيف (ضعيف سنن أبي داود – رقم 926).
الدابة(/27)
- "تخرج الدابة، ومعها عصا موسى عليه السلام، وخاتم سليمان عليه السلام، فتختم الكافر بالخاتم، وتجلو وجه المؤمن بالعصا، حتى أن أهل الخوان ليجتمعون على خوان، فيقول هذا: يا مؤمن ، ويقول هذا: يا كافر." (الضعيفة 1108، وضعيف سنن ابن ماجة رقم 881).
- "بئس الشِّعْب جياد –مرتين أو ثلاثاً- قالوا: وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات فيسمعها مَن بين الخافقين." (الضعيفة 3376).
- عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: ذهب بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع بالبادية، قريب من مكة، فإذا أرض يابسة، حولها رمل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تخرج الدابة من هذا الموضع." فإذا فِتْر في شبر. قال ابن بريدة: فحججتُ بعد ذلك بسنين فأرانا عصاً له، فإذا هو بعصاي هذه، هكذا وهكذا. (ضعيف جداً؛ ضعيف سنن ابن ماجة رقم 882).
________________________________________
[1] المفترض أن هذا الرجل هو السفياني.
[2] بطن من قضاعة من القحطانية وهم بنو كلب بن وبرة. كانوا ينزلون دومة الجندل وتبوك وأطراف الشام، ونزل خلق عظيم منهم على خليج القسطنطينية. ومن أمكنتهم عقدة الجوف الشرية. ومن أوديتهم: قراقر. ومن مياههم: عراعر.. وقد اتخذوا في الجاهلية بدومة الجندل صنماً يدعى وداً. ودخلوا في دين النصرانية ثم في الإسلام (مجمع قبائل العرب القديمة والحديثة لعمر رضا كحالة).
[3] قال الذهبي في (ميزان الاعتدال): الليث بن أبي سليم الكوفي الليثي أحد العلماء. قال أحمد: مضطرب الحديث، ولكن حدث الناس عنه. وقال يحيى والنسائي: ضعيف. وقال ابن معين أيضاً: لا بأس به. وقال ابن حبان: اختلط في آخر عمره. وقال الدارقطني:كان صاحب سنة، إنما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاوس ومجاهد حسب...(3/ترجمة رقم 6997).(/28)
فقدان المرونة ... في عالم يتغير
إبراهيم بن علي الدغيري* 25/3/1424
26/05/2003
لا تزال أسئلة التقدم والتخلف تلح على أذهان المهتمين بالشأن الاجتماعي العام ، إذ ينشط هؤلاء دائما لإيجاد مفتاح شفرة النهوض للوصول –بعد ذلك- إلى حل ممكن يتجاوز أزمة الضعف ، ودوار التخلف.
ومع الإيمان العميق بتشعبات شروط النهضة سواء تلك التي تتجه نحو الشرط الفكري أو الشرط البشري أو الشرط الزماني أو المكاني .. ؛ إلا أن هذا لا يمنع من التأكيد على بعض الشروط الجزئية النفسية المهمة التي تمنع من تصور وجود النهوض أصلا .
إن من أهم العوامل النفسية المانعة للتطور لدى مصلحي المجتمع هو افتقادهم المرونة الكافية في التكيف النفسي السريع لمواكبة التطور المذهل للمجتمع ، مما يؤدي بهم لأن يكونوا معايشين للنصوص اللفظية التاريخية القبلية ، محجوبين عن الواقع العملي الآني .
ومن خلال الملاحظة يتبين أن فقدان هذا العامل أدى إلى نتائج غير مرضية، حشر هؤلاء الإخوة المصلحين في زاوية حرجة من خارطة المجتمع ، فما إن تأت نازلة اجتماعية أو ثقافية ؛ حتى تُعلَن -مباشرة- أحكام الرفض والتحذير والخوف والتوجس ، حتى إذا ما استطال الوقت واتخذ الوافد الجديد مكانه الواسع من المجتمع يبدأ أولئك الرافضون برحلة التراجع أسراباً أسراباً، متنازلين عن آرائهم السابقة، ومسايرين للواقع، لا لسبب إلا لأنهم افتقدوا الرؤية والمرونة الكافية لمعايشة الوافد الجديد حين ظهر بصيغته الأولى .
ولست أتحدث هنا عن أمر محرم صار حلالاً؛ وإنما الأمر يتعلق بنوازل محايدة تمت مصادرتها في البداية؛ لأن النفس لا تميل إليها ، أو أن السلف لم يستخدموها ، أو لأنها غزو مبطن لا يعلم خفاياه إلا هم!.
إنه ليخالط المرء الأسى أن تستمر أوجه التشابه في الجمود بين المصلحين الاجتماعيين وبعض الحكام العرب ، إذ كلهم يجمد على أفكاره ويصدر الأحكام ، ثابتا على رؤاه لا يريم ، مؤمنا بعدم المساومة والثبات على المبدأ! حتى إذا ما دارت عجلة التطور، وانطلقت المجتمعات في التقدم، وتغيرت السياسات المحيطة ؛ انتبه فإذا هو وحيد في الساحة يصارع الفراغ ؛ فيحفِّز –حينئذ- جواده للحاق بالركب، ولكن هيهات.
إن عدم المرونة ، والجمود والتحجر ، والتحفز للرد ، والمبادرة نحو المصادرة ، كلها مؤشرات فكرية توحي بأن الرافض للتطور يفكر في موقعه الآني ، دون استخدام مسبار الفكر لاكتشاف ما ورائيات الواقع، والتطلع نحو المستقبل .
أما حين نسمح للمرونة أن تكون دعامة التفكير الأساسية؛ فإننا نستطيع أن نعيش الأزمنة منعتقين من المثبطات الحضارية ، ومتحللين من عقدة النوم على ذراع الماضي وأمجاد القرون الأولى، حين كانت راية الموحدين تفرد جناحيها على مجمل العالم القديم .
واستناداً إلى الرؤية التي تقول" إن الأفعال الحركية الماثلة هي انعكاس للتصورات النظرية الكامنة" ؛ فإنني أرى أن مفتاح الحل هو في تعزيز اللياقة العلمية لقراءة المستقبل ، والتأسيس لغرس مفهوم المرونة الذهنية القابلة للتشكل حسب الحراك الزمني ومواضعات المجتمع ، بعيداً عن التوجس المريب ، والتشكك الحابس ، والمصادرة قبل المبادرة ، وبذلك نحتوي جزءًا من المشكلة، ولا يقع بيننا وبين المجتمع ما وقع للشاعر الصمة القشيري مع زوجته من وحشة حين لم تسايره في تفكيره ورؤاه ، فحل مشكلته معها بالبينونة الكبرى ؛ فولى عنها وهو يقول:
كلي التمر ..
حتى يُصرم النخل ...
واضفري خطامك ..
ما تدرين ما اليوم من أمس .
* أستاذ الأدب العربي بجامعة الإمام محمد بن سع(/1)
فقر المشاعر بين الوالدين والأولاد 1 / 2
محمد بن إبراهيم الحمد 13/2/1426
23/03/2005
تجد من الأولاد من لا يراعى حق والديه, ولا يراعى مشاعرهما؛ فتراه لا يأنف من إبكائهما, وتحزينهما, ونهرهما, والتأفّف والتضجّر من أوامرهما, والعبوس وتقطيب الجبين أمامهما؛ فمن الناس من تجده في المجالس هاشًّا باشًّا حسَن المعشر؛ فإذا دخل المنزل, وجلس إلى والديه انقلب ليثاً هصوراً لا يلوي على شيء؛ حيث تتبدّل حاله, فتذهب وداعته, وتحلّ غلظته وفظاظته.
ومن الأولاد من ينظر إلى والديه شزَراً, قال معاوية بن إسحاق عن عروة بن الزبير - رحمهم الله ورضي عنهم: "ما بَرَّ والدَه مَنْ شَدَّ الطّرفَ إليه".
ومن قلّة المراعاة لمشاعر الوالدين قلّة الاعتداد برأيهما, والإشاحة بالوجه عنهما إذا تحدّثا, وإثارة المشكلات أمامهما, وذمّهما عند الناس، والقدح فيهما، والتبرّؤ منهما، والحياء من الانتساب إليهما.
كل ذلك داخل في العقوق وقلة الرعاية لمشاعر الوالدين, وكأن هؤلاء لم يقرؤوا قوله -تعالى-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء:23-24]
ولم يسمعوا قول النبي-صلى الله عليه وسلم-: -"الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين, وقتل النفس, واليمين الغموس"(1).
فحرِيّ بالولد أن يسعى سعيه في برّ والديه؛ فيحسن إليهما, ويخفض الجناح لهما, ويصغي إلى حديثهما, ويتودّد لهما بكل ما يستطيع من برّ وصلة, ويتجنّب كل ما يفضي إلى العقوق والتكدير.
وليكن له في سلفنا الصالح قدوةٌ؛ فلقد ضربوا أروع الأمثلة في البر، ومراعاة مشاعر الوالدين، وإليك طرفاً من ذلك:
عن أبي مُرَّة مولى أم هانئ بنت أبي طالب: "أنه ركب مع أبي هريرة إلى أرضه بالعقيق، فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته:
عليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أماه!
تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.
يقول: رحمك الله كما ربيتني صغيرًا.
فتقول: "يا بني! وأنت فجزاك الله خيرًا ورضي عنك، كما بررتني كبيرًا"(2).
وهذا ابن عمر -رضي الله عنهما- لقيه رجل من الأعراب بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه.
قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير.
فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وإني سمعت رسول الله -رحمه الله- يقول: "إن أبرَّ البر صلةُ الولدِ أهلَ ودِّ أبيه"(3).
وعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة، فقلت: من هذا؟ قالوا:حارثة بن النعمان، كذلكم البرّ، كذلكم البرّ، وكان أبرّ الناس بأمه" (4).
وعن أبي عبد الرحمن الحنفي قال: رأى كهمس بنُ الحسن عقرباً في البيت فأراد أن يقتلها، أو يأخذها، فسبقته، فدخلت في جحر، فأدخل يده في الجحر؛ ليأخذها، فجعلت تضرّ به، فقيل له ما أردت إلى هذا؟
قال: خفت أن تخرج من الجحر، فتجيء إلى أمي، فتلدغَها.
وهذا أبو الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وهو المسمى بزين العابدين، وكان من سادات التابعين -كان كثير البرّ بأمّه، حتى قيل له: "إنك من أبر الناس بأمك، ولا نراك تؤاكل أمك، فقال: أخاف أن تسير يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه؛ فأكون قد عققتها".
وقال هشام بن حسان: "حدثتني حفصة بنت سيرين، قالت: كانت والدة محمد بن سيرين حجازية، وكان يعجبها الصِّبغ، وكان محمد إذا اشترى لها ثوباً اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد صبغ لها ثياباً، وما رأيته رافعاً صوته عليها، كان إذا كلمها كالمصغي".
وعن بعض آل سيرين قال: "ما رأيت محمد بن سيرين يكلِّم أمَّه قط إلا وهو يتضرع".
وعن ابن عون أن محمداً كان إذا كان عند أمه لو رآه رجل ظن أن به مرضاً من خفض كلامه عندها"(5).
وعن ابن عون قال: "دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه فقال: ما شأن محمد؟ أيشتكي شيئاً ؟ قالوا:لا؛ ولكن هكذا يكون عند أمه".
"روى جعفر بن سليمان عن محمد بن المنكدر: "أنه كان يضع خدَّه على الأرض، ثم يقول لأمَّه: قومي ضعي قدمك على خدّي".
وعن ابن عون المزني: "أن أمه نادته، فأجابها، فعلا صوتُه صوتَها؛ فأعتق رقبتين".
وقيل لعمر بن ذر: "كيف كان برُّ ابنك بك؟ قال: ما مشيت نهاراً قط إلا مشى خلفي، ولا ليلاً إلا مشى أمامي، ولا رقِيَ سطحاً وأنا تحته".
وحضر صالح العباسي مجلس المنصور، وكان يحدّثه، ويكثر من قوله: "أبي-رحمه الله- " فقال له الربيع: لا تكثر الترحّم على أبيك بحضرة أمير المؤمنين، فقال له: لا ألومك؛ فإنك لم تذق حلاوة الآباء".(/1)
فتبسم المنصور، وقال: هذا جزاء من تعرّض لبني هاشم.
ومن البارين بوالديهم بُندار المحدث، قال عنه الذهبي: "جمع حديث البصرة، ولم يرحل؛ براً بأمه".
قال عبد الله بن جعفر بن خاقان المروزي: "سمعت بنداراً يقول: أردت الخروج-يعني الرحلة لطلب العلم - فمنعتني أمي، فأطعتها، فبورك لي فيه".
وقال الأصمعي: حدثني رجل من الأعراب قال: خرجت أطلب أعقّ الناس وأبر الناس، فكنت أطوف بالأحياء، حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبلٌ يستقي بدلو لا تطيقه الإبل في الهاجرة والحر الشديد، وخلفه شابٌ في يده رشاءٌ -حبل- من قدٍّ(6)ملويٍّ يَضْرِبُه بِهِ، وقد شقَّ ظهره بذلك الحبل، فقلت: أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟ أما يكفيه ما هو فيه من مد هذا الحبل حتى تضربه؟
قال: إنه مع هذا أبي، قلت: فلا جزاك الله خيراً.
قال: اسكت فهكذا كان هو يصنع بأبيه، وكذا كان أبوه يصنع بجده، فقلت: هذا أعق الناس.
ثم جُلْتُ حتى انتهيت إلى شاب وفي عنقه زبيل فيه شيخ كأنه فرخ، فكان يضعه بين يديه في كل ساعة، فيزقه كما يُزَقُّ الفرخ، فقلت: ما هذا؟ قال: أبي وقد خرف، وأنا أكفله، قلت: هذا أبرّ العرب.
وكان طلق بن حبيب من العبّاد والعلماء، وكان يقبّل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيت وهي تحته؛ إجلالاً لها.
وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: "مات أبي" فما سألت الله حولاً كاملاً إلا العفو عنه".
|1|2|
(1) رواه البخاري(6675).
(2) رواه البخاري في الأدب المفرد (14)، وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد: "حسن الإسناد".
(3) رواه مسلم (2552)، وأبو داوود (5143).
(4) رواه الإمام أحمد 6/151، وعبد الرزاق في المصنف (20119)، والبغوي في شرح السنة 13/7، وصححه الحاكم 3/208، ووافقه الذهبي.
(5) المحاسن والمساوئ، لإبراهيم البيهقي ص 614 وحلية الأولياء 2/273.
(6) القد: السوط، وهو في الأصل سير يُقَدُّ من جلد مدبوغ
فقر المشاعر بين الوالدَيْن والأولاد 2 / 2
محمد بن إبراهيم الحمد 21/2/1426
31/03/2005
وكما أن هناك من الأولاد من لا يحسن التعامل مع والديه ولا يراعي مشاعرهما فهناك من الوالدين من هو كذلك، فبعضهم يقسو على أولاده قسوة تخرجه عن طوره, فتراه يضربهم ضرباً مبرحاً عند أدنى هفوة, وتراه يبالغ في عتابهم وتوبيخهم عند كل صغيره وكبيره, وتراه يقتّر عليهم مع قدرته ويساره, مما يجعلهم يشعرون بالنقص والحاجة, وربما قادهم ذلك إلى البحث عن المال إما بسرقة, أو بسؤال الناس, أو بالارتماء في أحضان رفقة السوء؛ فيفقدون إنسانيّتهم، وكرامتهم.
ومن الوالدين مَنْ يحرم أولاده من الشفقة والحنان, وإشباع العواطف؛ مما يحدوهم إلى البحث عن ذلك خارج المنزل.
ويشتد الأمر إذا كان ذلك في حق البنات؛ فهن أرقّ شعوراً, وأندى عاطفة؛ فإذا شعرت بفقر من هذا الجانب أظلمت الدنيا في وجهها, وربما قادها ذلك إلى البحث عما يشبع عواطفها؛ ولعل هذا من أعظم أسباب المعاكسات, وضيعة الآداب.
ومما يجرح مشاعر الأولاد: التفريق بينهم, وترك العدل في معاملتهم سواء كان ذلك في العطايا والهبات والهدايا أو بالمزاح, والملاطفة والحنان.
ومما يدخل في هذا القبيل احتقار الأولاد, وذلك بإسكاتهم إذا تكلموا, والسخرية بهم وبحديثهم مما يجعل الواحد منهم, عديم الثقة بنفسه, قليل الجرأة في الكلام والتعبير عن رأيه.
ومما يدخل في ذلك قلة العناية بتربيتهم على تحمل المسؤولية, وعدم إعطائهم فرصة للتصحيح إذا أخطؤوا.
ومن ذلك قلة المراعاة لتقدير مراحل العمر التي يمر بها الولد؛ فتجد من الوالدين من يعامل ولده على أنه طفل صغير؛ مع أنه قد كبر, فهذه المعاملة تؤثر في شعور الولد، وتشعره بالنقص.
ومما يجرحُ مشاعرَ الولدِ دخولُ والدِه في كل صغيرة وكبيرة من أمره إذا تزوّج؛ فتجد من الوالدين من يفرض وصاية عامّة, ويضع سياجاً محكماً على أولاده حتى بعد أن يتزوجوا؛ فتراه يدخل حتى في شؤونهم الخاصة, وربما أتى بيوتهم على غِرّة, وربما فرض عليهم آراءه التي قد تكون مجانبة للصواب.
كل ذلك من الخلل في التربية, ومما يورث الخوف والتردّد, والهزيمة لدى الأولاد.
لذلك كان لزاماً على الوالد أن يراعي تلك الجوانب في التربية, ومما يعينه عليه أمور منها:
1- تنمية الجرأة الأدبية في نفس الولد: وذلك بإشعاره بقيمته، وزرع الثقة في نفسه; حتى يعيش كريماً شجاعاً صريحاً جريئاً في آرائه، في حدود الأدب واللياقة، بعيدًا عن الإسفاف والصفاقة; فهذا مما يشعره بالطمأنينة، ويكسبه القوة والاعتبار، بدلاً من التردّد، والخوف، والهوان، والذلّة، والصَّغار.
2- استشارة الأولاد: كاستشارتهم ببعض الأمور المتعلقة بالمنزل أو غير ذلك، واستخراج ما لديهم من أفكار، كأخذ رأيهم في أثاث المنزل، أو لون السيارة التي سيشتريها الأب، أو أخذ رأيهم في مكان الرحلة أو موعدها، ثم يوازن الوالد بين آرائهم، ويطلب من كل واحد منهم أن يبدي مسوّغاته، وأسباب اختياره لهذا الرأي، وهكذا.(/2)
ومن ذلك إعطاؤهم الحرية في اختيار حقائبهم، أو دفاترهم، أو ما شاكل ذلك; فإن كان ثَمّ محذور شرعي فيما يختارونه بيَّنهُ لهم.
فكم في هذا العمل من زرع للثقة في نفوس الأولاد، وكم فيه من إشعار لهم بقيمتهم، وكم فيه من تدريب لهم على تحريك أذهانهم، وشحذ قرائحهم، وكم فيه من تعويد لهم على التعبير عن آرائهم.
3- تعويد الولد على القيام ببعض المسؤوليات: كالإشراف على الأسرة في حالة غياب ولي الأمر، وكتعويده على الصرف، والاستقلالية المالية، وذلك بمنحه مصروفاً مالياً كل شهر أو أسبوع; ليقوم بالصرف منه على نفسه وبيته.
4- تعويد الأولاد على المشاركة الاجتماعية: وذلك بحثهم على المساهمة في خدمة دينهم، وإخوانهم المسلمين إما بالدعوة إلى الله، أو إغاثة الملهوفين، أو مساعدة الفقراء والمحتاجين، أو التعاون مع جمعيات البر، وغيرها.
5- التدريب على اتخاذ القرار: كأن يعمد الأب إلى وضع الابن في مواضع التنفيذ، وفي المواقف المحرجة، التي تحتاج إلى حَسْمِ الأمر، والمبادرة في اتخاذ القرار، وتحمُّل ما يترتب عليه، فإن أصاب شجّعه وشدّ على يده، وإن أخطأ قوَّمه وسدّده بلطف; فهذا مما يعوِّده على مواجهة الحياة، وحسن التعامل مع المواقف المحرجة.
6- فهْم طبائع الأولاد ونفسياتهم: وهذه المسألة تحتاج إلى شيء من الذوق، وسبْر الحال، ودقّة النظر.
وإذا وُفِّق المربي لتلك الأمور، وعامل أولاده بذلك المقتضى-كان حريّاً بأن يحسن تربيتهم، وأن يسير بهم على الطريقة المثلى.
7- تقدير مراحل العمر للأولاد: فالولد يكبر، وينمو تفكيره، فلا بدّ أن تكون معاملته ملائمة لسنه وتفكيره واستعداده، وألا يُعامل على أنه صغير دائماً، ولا يُعامل -أيضاً- وهو صغير على أنه كبير; فيُطالب بما يُطالب به الكبار، ويُعاتب كما يُعاتبون، ويُعاقب كما يُعاقبون.
8- تلافي مواجهة الأولاد مباشرة: وذلك قدر المستطاع خصوصاً في مرحلة المراهقة، بل ينبغي أن يقادوا عبر الإقناع، والمناقشة الحرة، والحوار الهادئ البناء، الذي يجمع بين العقل والعاطفة.
9-الجلوس مع الأولاد: فمما ينبغي للأب-مهما كان له من شغل-أن يخصص وقتاً يجلس فيه مع الأولاد، يؤنسهم فيه، ويسليهم،ويعلمهم ما يحتاجون إليه، ويقص عليهم القصص الهادفة; لأن اقتراب الولد من أبويه ضروري جدًا; وله آثاره الواضحة، فهذا أمر مجرّب; فالآباء الذين يقتربون من أولادهم; ويجلسون معهم، ويمازحونهم -يجدون ثمار ذلك على أولادهم، حيث تستقرّ أحوال الأولاد، وتهدأ نفوسهم، وتستقيم طباعهم.
أما الآباء الذين تشغلهم الدنيا عن أولادهم -فإنهم يجدون غبَّ ذلك على الأولاد، فينشأ الأولاد وقد اسودّت الدنيا أمامهم، لا يعرفون مواجهة الحياة، فيتنكبون الصراط، ويحيدون عن جادّة الصواب، وربما تسبب ذلك في كراهية الأولاد للوالدين، وربما قادهم ذلك إلى الهروب من المنزل، والانحدار في هاوية الفساد.
10-العدل بين الأولاد: فما قامت السماوات والأرض إلا بالعدل، ولا يمكن أن تستقيم أحوال الناس إلا بالعدل; فمما يجب على الوالدين تجاه أولادهم أن يعدلوا بينهم، وأن يتجنبوا تفضيل بعضهم على بعض، سواء في الأمور المادية كالعطايا والهدايا والهبات، أو الأمور المعنوية، كالعطف، والحنان، وغير ذلك.
11-إشباع عواطفهم: فمما ينبغي مراعاته مع الأولاد إشباع عواطفهم، وإشعارهم بالعطف، والرحمة، والحنان; حتى لا يعيشوا محرومين من ذلك، فيبحثوا عنه خارج المنزل; فالكلمة الطيبة، واللمسة الحانية، والبسمة الصادقة، وما جرى مجرى ذلك - له أثره البالغ في نفوس الأولاد.
12-النفقة عليهم بالمعروف: وذلك بكفايتهم، والقيام على حوائجهم; حتى لا يضطروا إلى البحث عن المال خارج المنزل.
13-إشاعة الإيثار بينهم: وذلك بتقوية روح التعاون بينهم، وتثبيت أواصر المحبة فيهم، وتعويدهم على السخاء، والشعور بالآخرين، حتى لا ينشأ الواحد منهم فرديًا لا همّ له إلا نفسه.
ثم إن تربيتهم على تلك الخلال تقضي على كثير من المشكلات التي تحدث داخل البيوت.
14-الإصغاء إليهم إذا تحدثوا، وإشعارهم بأهمية كلامهم: بدلاً من الانشغال عنهم، والإشاحة بالوجه وترك الإنصات لهم.
فالذي يجدر بالوالد إذا تحدث ولده-خصوصًا الصغير-أن يصغي له تمامًا، وأن يبدي اهتمامه بحديثه، كأن تظهر علامات التعجب على وجهه، أو يبدي بعض الأصوات أو الحركات التي تدل على الإصغاء والاهتمام والإعجاب، كأن يقول: رائع، حسن، صحيح، أو أن يقوم بالهمهمة، وتحريك الرأس وتصويبه، وتصعيده، أو أن يجيب عن أسئلته أو غير ذلك، فمثل هذا العمل له آثار إيجابية كثيرة منها:
أ- أن هذا العمل يعلّم الولد الطلاقة في الكلام.
ب- يساعده على ترتيب أفكاره وتسلسلها.
ج- يدرّبه على الإصغاء، وفهم ما يسمعه من الآخرين.
د- أنه ينمّي شخصية الولد، ويصقلها.
هـ - يقوّي ذاكرته، ويعينه على استرجاع ما مضى.
و- يزيده قرباً من والده .
هذه بعض الأساليب التي تنهض بالمشاعر، وترهف الأذواق لدى الأولاد(/3)
فقر المشاعر في الحياة الزوجيّة (1 / 3)
محمد بن إبراهيم الحمد 18/5/1426
25/06/2005
من البيوت ما يخيّم عليها الصّمت المطبق، ويسودها السكون الموحش؛ فلا تأنس الزوجة فيها بحديث زوجها، ولا هو يأنس بحديثها، ولا يسمع أحدهما من الآخر كلمة حبّ أوعطف أو حنان.
ومن الأزواج من يكثر لوم زوجته، وانتقادها في كل صغيرة وكبيرة ؛ فتراه ينتقد الطعام الذي تعدّه الزوجة، ويعاقبها إذا بكى أولاده الصغار، أو كثر عبثهم، وتراه يبالغ في تأنيبها إذا نسيت أو قصّرت في أي شأن من شؤونه.
وأقبح ما في ذلك أن يعنّفها فيما لا قدرة لها عليه، كأن يلومها إذا كانت لا تُنجب، أو لا تُنجب إلا بنين وحسب، أو بنات وحسب. ويلومها إذا أنجبت ولداً مصاباً ببعض العيوب الخلقية؛ فيجمع بذلك بين ألمها في نفسها وبين إساءته البالغة بقوارصه التي تقضّ مضجعها، وتؤرق جفنها.
وما هذا بمسلك العقلاء؛ ذلك أن كثرة اللوم لا تصدر من ذي خلق كريم، أو طبع سليم، ثم إن ذلك يورث النفرة، ويوجب الرهبة.
َدَعِ العتابَ فربَّ شرْ ... ...
ر هاج أوّله العتاب
فالزوج العاقل الكريم لا يعاتب زوجته عند أدنى هفوة، ولا يؤاخذها بأول زلة.
بل يلتمس لها المعاذير، ويحملها على أحسن المحامل.
وإن كان هناك ما يستوجب العتاب عاتبها عتاباً ليّناً رقيقاً تدرك به خطأها دون أن يهدر كرامتها، أو ينسى جميلها.
ثم ما أحسن أن يتغاضى المرء ويتغافل؛ فذلك من دلائل سموّ النفس وشفافيّتها وأريحيّتها، كما أنه مما يُعلي المنزلة، ويريح من الغضب وآثاره المدمّرة.
وإن أتت المرأة ما يوجب العتاب فلا يحسن بالزوج أن يكرّر العتاب، وينكأ الجراح مرة بعد مرة؛ لأن ذلك يفضي إلى البغضة، وقد لا يبقي للمودة عيناً ولا أثراً.
ومما يعين الزوج على سلوك طريق الاعتدال في عتاب الزوجة أن يوطّن نفسه على أنه لن يجد من زوجته كل ما يريد، كما أنها لن تجد فيه كل ما تريد؛ فلا يحسن به - والحالة هذه - أن يُعاتِب في كل الأمور، وأن يتعقّب كل صغيرة وكبيرة؛ فأيّ الرجال المهذب؟ ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها؟
ثم إن الإنسان لا يستطيع أن يتخلص من كثير من عيوبه؛ فعلامَ نُحمِّل الآخرين فوق ما يطيقون، ونحن عن تلافي كثير من عيوبنا عاجزون؟
ولا يعني ما مضى أن يتساهل الزوج في تقصير الزوجة في الأمور المهمة من نحو القيام بالواجبات الدينية، أو رعاية الآداب المرعية، أو التزام ما تقضي به الصيانة والعفة؛ فهذه أمور يجب أن تُوضع على رأس الأشياء التي لا يُقبل التنازل عنها بحال.
قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: "استوصوا بالنساء؛ فإن المرأة خُلقت من ضِلَع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه"(1).
فالحديث الشريف يعلّم الرجل كيف يسلك في سياسة الزوجة طريق الرفق والأناة؛ فلا يشتدّ ويبالغ في ردّها عن بعض آرائها التي بها عِوَج؛ فإن ذلك قد يفضي إلى الفراق.
كما أنه لا يتركها وشأنها، فإن الإغضاء عن العوج مدعاة لاستمراره أو تزايده.
والعوج المستمر أو المتزايد قد يكون شؤماً على المعاشرة، فتصير إلى عاقبة مكروهة.
وبعد ذلك فقد يقع من الزوج شدة في العتاب، أو إسراف في اللوم؛ فيحسن به إذا وقع منه ذلك أن يبادر إلى الاعتذار، أو الهديّة، وإظهار الأسف، والاعتراف بالخطأ دون أن تأخذه العزة بالإثم؛ فما هو إلا بشر، وما كان لبشر أن يدّعي أنه لم يقلْ إلا صواباً.
فإذا أخذ الزوج بهذه الطريقة قلَّ عتابه، وأراح نفسه، وسما بخُلُقِه، وحافظ على مَشاعِر مُعاشِره.
قال ابن حبان -رحمه الله-: "من لم يعاشرِ الناس على لزوم الإغضاء عما يأتون من المكروه، وترك التوقّع لما يأتون من المحبوب كان إلى تكدير عيشه أقرب منه إلى صفائه، وإلى أن يدفعه الوقت إلى العداوة والبغضاء أقرب منه أن ينال منهم الوداد وترك الشحناء".
[1] رواه البخاري (3331)، ومسلم (1468).
فقر المشاعر في الحياة الزوجيّة (2 / 3)
محمد بن إبراهيم الحمد 18/5/1426
25/06/2005
وكما أن من الأزواج من يكثر انتقاد الزوجة ولومها إذا هي أخطأت أي خطأ - فكذلك تجد من هؤلاء من لا يشكر زوجته إذا هي أحسنت، ولا يشجّعها إذا قامت بالعمل كما ينبغي؛ فقد تقوم الزوجة بإعداد الطعام الذي يَلَذُّ للزوج، وقد ترفع رأسه إذا قدم عليه ضيوف، وقد تقوم على رعاية الأولاد خير قيام، وقد تظهر أمامه بأبهى حلّة، وأجمل منظر، وقد، وقد، وقد...
ومع ذلك لا تكاد تظفر منه بكلمة شكر، أو ابتسامة رضًا، أو نظرة عطف وحنان، فضلاً عن الهدية والإكرام.
ولا ريب أن ذلك ضرب من ضروب الكزازة والغلظة، ونوع من أنواع اللؤم والبخل.
وقد يلتمس الزوج لنفسه العذر بأنه يخشى من تعالي الزوجة وغرورها إذا هو شكرها أو أثنى عليها.
وهذا الكلام ليس صحيحاً على إطلاقه؛ فيا أيها الزوج المفضال، لا تبخل بما فيه سعادتك وسعادة زوجتك، ولا تهمل اللفتات اليسيرة من هذا القبيل؛ فإن لها شأناً جللاً، وتأثيراً بالغاً.(/1)
فماذا يضيرك إذا أثنيت على زوجتك بتجمّلها، وحسن تدبيرها؟ وماذا ستخسر إذا شكرتها على وجبة أعَدَّتها للضيوف؟ أو ذكرت لها امتنانك لرعايتها وخدمتها لبيتك وأولادك - وإن كان ذلك من اختصاصها، وإن كانت لا تقدمه إلا على سبيل الواجب -؟
لكن ذلك من قبيل الكلمة الطيبة التي تؤكد أسباب المودة والرحمة.
إن الزوجة إذا وجدت ذلك من زوجها ستسعد، وتشعر بالنشاط، والاندفاع والإخلاص لخدمته، والمسارعة إلى مراضيه؛ لما تلقاه منه من حنان وعطف وتقدير.
وإذا أصبح قلبها مترعاً بهذه المعاني عاشت معه آمنة مطمئنة، وعاد ذلك على الزوج بالأنس والمسرّات.
وكما أن كثرة اللوم وقلة الشكر يصدر من بعض الأزواج فكذلك يصدر من بعض الزوجات؛ فمن الزوجات من هي كثيرة التسخّط، قليلة الحمد والشكر، فاقدة لخلق القناعة، غير راضية بما آتاها الله من خير.
فإذا سُئلت عن حالها مع زوجها أبدت السّخط، وأظهرت الأسى واللوعة، وبدأت بعقد المقارنات بين حالها وحال غيرها من الزوجات اللائي يحسن إليهن أزواجهن.
وإذا قدم لها زوجها مالاً سارعت إلى إظهار السخط، وندب الحظ؛ لأنها تراه قليلاً مقارنة بما يقدم لنظيراتها.
وإذا جاءها بهدية احتقرت الهدية، وقابلتها بالكآبة، فَتُدْخِل على نفسها وعلى زوجها الهمّ والغمّ بدل الفرح والسرور؛ بحجة أن فلانة من الناس يأتيها زوجها بهدايا أنفس مما جاء به زوجها.
وإذا أتى بمتاع أو أثاث يتمنى كثير من الناس أن يكون لهم مثله قابلته بفظاظة وشراسة منكرة، وبدأت تُظْهِر ما فيه من العيوب.
وبعضهن يحسن إليها الزوج غاية الإحسان، فإذا حصلت منه زلّة، أو هفوة، أو غضبت عليه غضبة نسيت كلّ ما قدّم لها من إحسان، وتنكّرت لما سلف له من جميل.
وهكذا تعيش في نكد وضيق، ولو رزقت حظَّاً من القناعة لأشرقت عليها شموس السعادة.
ومثل هذه المرأة توشك أن تُسلب منها النعم، فتقرع بعد ذلك سنّ النّدم، وتعض أنامل التفريط، وتقلِّب كَفَّيْها على ما ذهب من نعمها.
إن السعادة الحقة إنما هي بالرضا والقناعة، وإن كثرة الأموال والتمتع بالأمور المحسوسة الظاهرة - لا يدل على السعادة؛ فماذا ينفع الزوجة أن تتلقى من زوجها الحليّ والنفائس والأموال الطائلة إذا هي لم تجد المحبة، والحنان، والرحمة، والمعاملة الحسنة؟
وماذا ستجني من جراء تسخّطها إلا إسخاط ربها، وخراب بيتها، وتكدير عيشة زوجها؟
فواجب على المرأة العاقلة أن تتجنب التسخّط، وجدير بها أن تكون كثيرة الشكر؛ فإذا سُئلت عن بيتها وزوجها وحالها أثنت على ربها، وتذكرت نعمه، ورضيت قسمته؛ فالقناعة كنز الغنى، والشكر قيد النعم الموجودة، وصيد النعم المفقودة؛ فإذا لزم الإنسان الشكر درّت نعمه وقَرَّت؛ فمتى لم ترَ حالك في مزيد فاستقبل الشكر.
كيف وقد قال ربنا - عز وجل -: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
بل يحسن بالزوجة أن تشكر ربها إذا نزل بها ما تكرهه؛ شكراً لله على ما قدّره، وكظماً للغيظ، وستراً للشكوى، ورعاية للأدب.
ثم إن الشكوى للناس لا تجدي نفعاً، ولا تطفئ لوعة - في الغالب -.
ولهذا رأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجل فاقته وضرورته فقال:
"يا هذا، والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك".
وإذا عرتك بليّة فاصبر لها ... ...
صبر الكريم فإنه بك أعلم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... ...
تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
وإن كان هناك من حاجة لبثّ الشكوى لمن يعنيهم الأمر؛ طلباً للنصيحة، أو نحو ذلك - فلا بأس، وإلا فلماذا نثير انتباه الذين لا يعنيهم أمرنا، ولا ننتظر منهم أي فائدة لنا، فنفضح أنفسنا، ونهتك أستارنا، ونُبين عن ضعفنا وخورنا في سبيل الحصول على شفقة أو عطف ليس له من نتيجة سوى ازدياد الحسرة وتفاقم المصيبة.
ثم إن من حق الزوج على زوجته أن تعترف له بنعمته، وأن تشكر له ما يأتي به من طعام، ولباس، وهدية ونحو ذلك مما هو في حدود قدرته، وأن تدعو له بالعوض والإخلاف، وأن تظهر الفرح بما يأتي به؛ فإن ذلك يفرحه، ويبعثه إلى المزيد من الإحسان.
كما يحسن بالزوجة أن تستحضر أن الزوج سببُ الولدِ، والولدُ من أجل النعم، ولو لم يكن من فضل الزوج إلا هذه النعمة لكفاه؛ "فمهما تكن الزوجة شقيّة بزوجها فإن زوجها قد أولدها سعادتها، وهذه وحدها مزيّة ونعمة".
أما كفر النعمة، وجحود الفضل، ونسيان أفضال الزوج - فليس من صفات الزوجة العاقلة المؤمنة؛ فهي بعيدة عمّا لا يرضي الله - عز وجل - فجحودُ فضل الزوج سماه الشارع كفراً، ورتب عليه الوعيد الشديد، وجعله سبباً لدخول النار.
قال - عليه الصلاة والسلام -: "رأيت النار ورأيت أكثر أهلها النساء".
قالوا: لم يا رسول الله؟
قال: "يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان؛ لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط"(1).(/2)
وعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله ": "لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه"(2).
وعن أسماء بنة يزيد الأنصارية قالت: "مرَّ بيَ النبي"وأنا وجوارٍ أتراب لي فسلّم علينا، وقال: "إياكنَّ وكفرَ المُنْعمِين"، وكنتُ من أجرئهن على مسألته، فقلت: يا رسول الله، وما كفرُ المنعمين؟
قال: "لعل إحداكنَّ تطول أيْمَتُها من أبويها، ثم يرزقها الله زوجاً، ويرزقها ولداً، فتغضب الغضبة، فتكفر، فتقول: ما رأيت منك خيراً قط"(3).
|1|2|
[1] رواه البخاري (29) ومسلم(907).
[2] رواه النسائي في الكبرى(9135-9136) والبيهقي 7/294، والحاكم 3/78، وقال: "صحيح الإسناد" وقال الهيثمي 2/309: "رواه البزار بإسنادين والطبراني، وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح" وصححه الألباني في الصحيحة (289).
[3] رواه أحمد 6/457، والبخاري في الأدب المفرد(148) والترمذي(2697) وحسنه، والطبراني في الكبير 24/177، والحميدي في مسنده 1/179، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (800).
فقر المشاعر في الحياة الزوجيّة3 / 3
محمد بن إبراهيم الحمد 4/6/1426
10/07/2005
ومن الخلل الذي تقع فيه بعض الزوجات في هذا الباب قلة المراعاة لأحوال الزوج ومشاعره؛ فقد تزعجه بالأخبار السيئة، وتكثر الطلبات منه إذا عاد إلى المنزل منهكاً مكدوداً قد بلغ به الإعياء مبلغه.
وقد تكثر من ترداده إلى السوق؛ ليأتي بما يحتاجه المنزل، فإذا رجع إلى المنزل ذكرت حاجة أخرى، فعاد إلى السوق مرة أخرى، وقد يرجع أكثر من ذلك، وقد يتكرّر هذا منها مرات متعدّدة.
وقد يكون الزوج حادّ المزاج، شديد التأثر لأقل الأشياء المخالفة لذوقه؛ فلا تراعي الزوجة فيه هذه الخصلة، فربما تضحك وهو في حالة غضب أو حزن، وقد يوجِّه لها الخطابَ، فَتُعْرِضَ وتشيح بوجهها عنه، وقد يتكلم بكلمة غضب فتجيبه بعشر كلمات.
وقد تتعمد إغضابه، وإثارته، فما هي إلا أن تتحرك العاصفة، وينفجر البركان، ويحصل ما لا تُحمد عقباه.
ومن قلة المراعاة لأحواله ومشاعره قلة المراعاة لوقت نومه، وأكله، وقراءته، ونحو ذلك.
ومن ذلك قلّة العناية بمخاطبته ومحادثته، فلا تناديه بأحب الأسماء إليه، ولا تخفّض صوتها إذا خاطبته، إلى غير ذلك مما ينافي أدب المخاطبة والمحادثة.
ومن ذلك أن تبدأ بتنظيف البيت، أو مكافحة الحشرات بالمبيدات إذا دخل الزوج المنزل، أو همّ بالنوم، أو الأكل، فتزعجه بالجلبة، وتزكم أنفه بالروائح التي لا تروقه.
فمثل هذه الأعمال تقصير في حقّ الزوج، ودليل على حمق المرأة، وخفّة عقلها، وقلّة ذوقها.
فالذي تقتضيه الحكمة أن تراعي الزوجة أحوال زوجها، ومشاعره، وأن تعمل ما في وسعها لإدخال السرور عليه، وإزالة الهمّ والغمّ عن قلبه، فتفرح لفرحه، وتحزن لحزنه؛ حتى يشعر بأنها تتعاون معه؛ إذ يسرها ما يسره، ويحزنها ما يحزنه.
ولا ينبغي لها أن تظهر بمظهر السرور إذا كان محزوناً، كما ينبغي أن تكظم حزنها إذا رأته مسروراً؛ فإنّ ذلك أدعى لدوام الأُلفة، وأدلّ على كرم نفس الزوجة.
ومما ينبغي لها أن تجمع ما يحتاجه المنزل، وتخصّص وقتاً في الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك، فتكتب ما تحتاجه في ورقة؛ كي يأتي به مرة واحدة بدلاً من كثرة ترداده في حاجات يسيرة.
ولا يعني ذلك أن تكون هذه قاعدة مطّردة؛ فقد تقتضي الحال إرساله أكثر من مرة في اليوم، ولكن تحاول قدر المستطاع أن تختصر ذلك.
ومما ينبغي لها في هذا الصدد أن ترعاه في طعامه، فتصنع له ما يشتهيه، وتنوّع له الطعام كيلا يسأم، وتلاحظ الوقت الذي تقدّم له الطعام؛ فلا تؤخّره ولا تقدّمه إلا بإذنه.
كما يحسن بها أن تراعي أوقات نومه، فتحرص على تهدئة الأطفال؛ ليأخذ راحته الكافية؛ فإذا أخذ قسطه من الراحة انشرح صدره، وهدأت أعصابه، وإلا بقي قلقاً مستفَزاً.
ومما يدخل السرور عليه أن تحرص الزوجة على نظافة المنزل، وأن تُعنى بثياب الزوج؛ كي يظهر بالمظهر اللائق.
وإن كان طالب علم، أو صاحب قراءة وبحث فلتحرصْ على العناية بمكتبته، وكتبه ترتيباً، وتنظيماً، وتنظيفاً.
وإذا مرّت به أزمة، أو مشكلة فلتقفْ معه بالدعاء، والرأي، والتثبيت، ونحو ذلك.
وإذا أرادت مخاطبته خاطبته بأسلوب لبِق جذّاب، يشعر من خلاله باحترامها وتوقيرها له.
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "وعن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: قالت ابنة سعيد بن المسيب: ما كنا نكلّم أزواجنا إلا كما تكلّمون أمراءكم.
وعنه - أيضاً - قال: قالت امرأة سعيد بن المسيب: ما كنا نكلّم أزواجنا إلا كما تكلّمون أمراءكم: أصلحك الله، عافاك الله".
وبالجملة فلتحرص على كل ما يسرّه، وأن تتجنب كل ما يسوؤه وينوؤه.
وإن حصل منها تقصير في حقه فلتبادر إلى الاعتذار، ولتتلطف في ذلك.
وإذا روعيت هذه المشاعر بين الزوجين, وحرص كل منهما على عشرة الآخر بالمعروف - حلّت الأفراح, وزالت أو قلّت المشكلات, وكان لذلك أبلغ الأثر في صلاح الأسرة, وقوة الأمَّة(/3)
فقلت استغفروا ربكم
(فقلت استغفروا ربكم انه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهارا (
- ليلة من ليالي التشريق ( أيام الحج ) وبالقرب من ( البيت العتيق ) ألقيت كلمة عن الاستغفار ومعناه وفضله وأثره وكان كلامي فيه الدليل والمنطق والعقل فلما انتهيت من كلمتي القصيرة ( وهي عادتي ) طلب احد الحاضرين الحديث معي على انفراد فقبلت الحديث معه فبدأ بسرد قصته مع الاستغفار.
- أبو يوسف : أنا تزوجت ولله الحمد ولكن زوجتي تأخرت بالإنجاب فقمت ببذل الأسباب، ما سمعت عن طبيب إلا زرته ثم سافرت بعد ذلك للخارج التمس العلاج والكل يؤكد بقوله ( ما فيك إلا العافية أنت وزوجتك ) فرجعت الكويت وكلي رجاء بالله ( والله على كل شيء قدير ).
- قلت : اسأل الله أن يرزقك الذرية الصالحة يا أبو يوسف وعليك بالدعاء خاصة انك في أيام عظيمة وفي مكان عظيم وأنت اليوم مجاور ( البيت العتيق ).
- أبو يوسف : آمين لكن بعد ما خلصت قصتي.
- قلت : كمل يا أبو يوسف كلي أذن صاغية.
- أبو يوسف : في يوم من الأيام وأنا استمع لإذاعة القرآن الكريم (السعودية) سمعت من يقرأ الآية التي ذكرتها يا شيخ في كلمتك من سورة نوح ( فقلت استغفروا ربكم انه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهارا ).
- فشرح الشيخ الآية وبين أن الاستغفار طريق لجلب الأطفال فعلقت الكلمات في بالي فلما رجعت للمنزل قلت لزوجتي ما سمعت وعزمنا على اخذ العلاج ( الاستغفار ) ليلا ونهارا سرا وعلانية ( تدري يا شيخ ما حصل؟!! ).
- زوجتي حملت بنفس الشهر الذي استغفرنا فيه وجاء ( يوسف ) والحمد لله.
- قلت : ما شاء الله صدق الله وهو خير الصادقين ( والله لا يخلف الميعاد ) وقال تعالى: ( ومن أصدق من الله قيلا ) ( ومن اصدق من الله حديثا ).
- أبو يوسف : شيخ إلى الآن لم تنته قصتي بعد.
- قلت : خلاص جاك الولد ( شنو بعد ).
- أبو يوسف : لما انتهت زوجتي من النفاس قلت لها: استغفري يا أم يوسف للثاني فاستغفرنا مثل الأول فحملت بنفس الشهر وجاء الثاني بحمد الله ولما انتهت من نفاسها الثاني قلت استغفري يا أم يوسف نبي ثالث فاستغفرنا فجاء الثالث ولله الحمد فلما انتهت زوجتي من نفاسها قالت يا أبو يوسف وقف عن الاستغفار ( بنية الأولاد ) شوي حتى يكبر الأولاد وبعدها نرجع نستغفر للرابع بإذن الله.
- قلت : الله يبارك لك بما رزقك ويجعل ذريتك قرة عين خاصة أنك رأيت آية من آيات الله فيك وفي زوجتك وفي ذريتك.
- أبو يوسف : آمين الله يستجيب دعاك لكن يا شيخ ما خلصت بعد من قصتي.
- قلت : ما انتهت الأحداث بعد! أكمل يا أبا يوسف.
- أبو يوسف : بعدما كبر الأولاد قليلا قلت لأم يوسف عندنا ثلاثة أولاد ونرجو من الله أن يرزقنا ( بنت حلوة ) استغفري يا أم يوسف وأنت ترجين بنتا.. فسكت أبو يوسف.
- قلت : الله يرزقك البنت كما رزقك الأولاد يا أخي الكريم.
- أبو يوسف : أبشرك يا شيخ أنا اليوم جئت الحج وزوجتي في النفاس مع بنتها الجديدة .
( انتهت قصة أبو يوسف )
* القصة السابقة فيها عدة أمور لازم نتعرف عليها حتى تكتمل المعاني :
(1) الاستغفار وفضله وآثره.
(2) الاستغفار يؤثر على حسب نية المستغفر أي لأي شيء تستغفر لطلب مال.. ولد.. نجاح.. توبة.. فعلى نية المستغفر يكون الأثر بإذن الله.
(3) يحتاج الاستغفار لنية صادقة ومخلصة لله وأن تدرك معناه وأن تفهم المراد منه فالنية لها أثرها في حياتك كلها.
(4) الله لا يخلف الميعاد وإذا تخلف الأثر فاعلم أن هناك أمرا تسبب به.
(5) الاستغفار كالدعاء إما يأتيك ما طلبت وإما يأتيك غير طلبك وإما يصرف عنك سوءاً بسبب استغفارك أو أن يدخر الله لك ما استغفرت ليوم القيامة فيجازيك جزاء الضعف عنده جل وعلا.
إخوتي الكرام : ( أكثروا من الاستغفار واقضوا حوائجكم بالاستغفار ).
لطفا وليس أمرا ، إن أعجبك محتوى الرسالة أعد ارسالها لمن تعرف ليعم الخير والفائدة ، وجزاك الله خير(/1)
فقه إنكار المنكر
يتناول الدرس أهمية الأمر بالمعروف ومكانته من الدين، ومراتبه، ووسائله الكثيرة والمتنوعة، وعرض لشروط الإنكار باليد، ومن المسئول عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وماهي آداب ذلك، والمصلحة والمفسدة، وما هو دور الشاب المسلم في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولماذا لا نغير؟ وما هي الأسباب التي تمنعنا من إنكار المنكر ؟
الحمد لله, والصلاة والسلام على نبينا محمد, صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدين .. أما بعد
أهمية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في المجتمع المسلم:
أولا: من الخصائص التي اختص الله بها هذه الأمة:} كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [110] { سورة آل عمران . إذاً: سبب خيريتكم: أنكم تأمرون بالمعروف, وتنهون عن المنكر, وتؤمنون بالله. وسبب فشل, وضلال غيركم أنهم: تركوا الأمر بالمعروف, والنهى عن المنكر إلى: الأمر بالمنكر والنهى عن المعروف. ويقول عزوجل: }وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ[71] { سورة التوبة . فهذه صفة المجتمع المسلم, أما المجتمعات الكافرة فقد أصبحت في الوقت الذي تتغنى بما يسمى بحرية الفرد: تحارب جميع صور الفضيلة التي يريد الفرد أن يمارسها.
ثانيا: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في الإسلام جزء من التكافل الذي جعله الله بين المؤمنين: فلو رأيت ـ مثلا ـ رجلا يغرق كان واجب عليك أن تنقذه بما تستطيع حتى لو ترتب على ذلك أن تؤجل عبادة مفروضة قد شرعت بها؛ كأن تكون شرعت في صيام وتحتاج إلى الفطر لإنقاذه؛ فإنك تفطر ...لماذا؟ لأن المحافظة على الإنسان في الإسلام قضية مهمة جداً, وكما أننا مطالبون بالمحافظة على أموال الآخرين وعلى أرواحهم فكذلك نحن مطالبون بالمحافظة على أخلاقهم وعلى أديانهم, فالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ لتحقيق هذا الأمر.
ثالثا: فهو حماية للبيئة من التلوث؛ فإن إتاحة الفرصة لأهل الرذيلة أن يمارسوا رذيلتهم يلوث البيئة العامة, ويجعل الإنسان الذي يريد الصلاح قد لا يستطيع أن يكون كما يجب, لأن العقبات أمامه كثيرة ؛ ولذلك فإن إظهار المنكرات الأخلاقية أو الفكرية في المجتمع سبب لتعريض المجتمع لهزات لا يعلم مداها إلا الله .
رابعا :هو ضمانة دون العقوبات الإلهية التي تصيب المجتمعات في العاجل أو الآجل وقد قص الله علينا قصص بنى إسرائيل حين نهاهم أن يعتدوا في السبت: }وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [164] فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [165] فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ [166]{ سورة الأعراف.
إذاً: }أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ { فإذا حق العذاب على أمة من الأمم؛ فإن الله لا ينجى إلا الذين ينهون عن السوء , فما بالك إذالم يوجد الذين ينهون عن السوء, هل ينجو أحد ؟ لاينجو أحد, ولذلك قال الله: } فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ [116] { سورة هود .(/1)
وعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: [ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا] قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ:[ نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ] رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه وأحمد . الظالم أنواع: قد يكون الظلم بأخذ أموال الناس بالباطل فهذا ظلم, لكن ليس هذا فقط الظلم, حتى الذي يرتكب المعصية: هذا ظالم لنفسه وغيره أيضا, والظلم مع معنى عام يدخل فيه حتى الشرك . ومن أكثر الأحاديث هزاً لقلوب المؤمنين وتخويفاً لهم ما ورد عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ] رواه الترمذي إذاً: يوشك ويقرب أن تصاب الأمة بالعذاب إذا لم تأمر بالمعروف ولم تنه عن المنكر فصمام الأمان بالنسبة للأمة هو أن يكون فيها: }أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ { .
من صور العذاب التي تصيبنا من ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: أن يلبسنا الله شيعا ويذيق بعضنا بأس بعض؛ ولذلك قال الله: } وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [104] { ثم قال في الآية التي بعدها: } وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ [105] { سورة آل عمران .لأن المجتمع إذا ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لابد أن يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف ويعتبر أن هذا الإنسان الذي جاء ليقاوم المنكر, ويقضى عليه إنسان متطرف, يريد أن يقضى على المكاسب الحضارية والمكاسب الوطنية للأمة.
مراتب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ] رواه مسلم والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وأحمد . المطلوب هو أن تغير بيدك إذا استطعت, فإذا عجزت ترجع إلى التغيير باللسان, فإذا عجزت يكفى أن تغير بقلبك وأن يعلم الله تعالى أنك كارة لهذا المنكر وهذا فرض عين على جميع الناس في جميع الظروف والأحوال لا يعذروا بتركه لأن القلب لا سلطان لأحد عليه .و يراعى أن الإسلام جاء بالتدرج في موضوع إنكار المنكر: إذا أمكن أن تكتفي بالتلميح, فهو يغنى عن التصريح ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا] لماذا؟ لأن هذه الكلمة كانت تكفى من رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولايحتاج أن يقول: يا فلان ويا فلان . أما إذا لم يكف, فإنه كان يصرح, وقد ورد هذا في أحاديث عديدة .
وسائل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: كل وسيلة مباحة تؤدى إلى المقصود فهي داخلة في الوسائل بشرطين:
الأول: أن تكون مباحة: فلا تأتى بوسيلة محرمة من أجل النهى عن المنكر؛ لأن النجاسة لا تغسل بنجاسة مثلها .
الثاني: أن تؤدي المقصود : وكذلك لا تأتى بوسيلة لا تؤدى إلى المقصود؛ لأن المقصود إزالة المنكر . وأود أن أنبه على أن الوسائل لا تنحصر,والعرب يقولون:' الحاجة أمّ الاختراع' والمهم عندنا أن تكون ذا قلب يحترق ويسعى في زوال المنكرات, فإذا وجدت هذه الحرارة في قلبك فثق ثقة تامة أن هذا القلب سيرسل تعليمات للعقل؛ للتفكير: كيف تغير؟ وبعد ذلك قد يتفتق ذهنك عن ألف وسيلة في إزالة المنكرات .
من الوسائل: *الكلمة الهادفة: سواء كانت درساً أو محاضرة أو نصيحة بعد الصلاة أو خطبة أو كلمة تلقيها أمام زملاءك؛ لتنبه على منكر من المنكرات وتكون هذه الكلمة بأسلوب مناسب, فلا تكون هذه الكلمة ضرباً في الوجه, بل تدرج في الحديث حتى يتقبلوا كلامك ويدخل في قلوبهم ونفوسهم. إذن الكلمة سلاح لكن ينبغي أن يحسن الإنسان كيف يتسلل إلى قلوب الناس في إنكار المنكر الذي يراه عليهم .(/2)
*الكتاب أو الكتيب الصغير: سواء بأن تكتب كتابا في إنكار أحد المنكرات, أو تساهم في نشره فطالب العلم: يكتب كتيبا صغيراً في معالجة أحد المنكرات ويسعى في طباعته وتوزيعه بين الناس, وإذا لم تكن طالب علم؛ ساهم في نشر الكتاب بالمال حتى يوزع ، أو يباع بالسعر الرخيص . قد تقول: ما عندي مال ، حسناً ساهم في نشر الكتاب, فإذا وزع الكتاب بالمجان خذ هذا الكتب ووزعه في المساجد والمدارس والمؤسسات ... كل إنسان له موقع يؤديه ودور يقوم به بحسب قدراته وإمكانياته.
*الشريط: سواء بإعداد شريط لمعالجة أحد المنكرات الموجودة أو بالمساهمة في نشر هذا الشريط، وترويجه بقدر ما تستطيع.
*الهاتف: يمكن أن تتصل بالهاتف بفلان, وتنكر عليه سواء كان الذي تتصل عليه هو صاحب المنكر, أو كان شخصاً يستطيع أن يغير المنكر: إما بمكانته وجاهه؛ كأن يكون عالماً أو وجيهاً أو مسئولا يستطيع أن يساهم في إزالة المنكر .
الامتناع عن المكان أو المؤسسة التي يوجد فيها المنكر: فبيوت الربا, التي تتاجر بحرب الله تعالى وحرب رسوله: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [278] { سورة البقرة هذه البيوت من أين أثرت, وارتفعت؟ من جيبي وجيبك... هذه المجلة التي تتاجر بأعراض المسلمين ، ما هو الذي ضمن لها الاستمرار والدوام؟ إنها أموال المسلمين وهكذا كل مؤسسات الفساد والانحراف والرذيلة لو أن المسلمين قاطعوها لانتهت من نفسها ووأدت في مهدها .
*التشهير بالمنكر إذا لزم الأمر:والتشهير يأخذ صورا شتى: فإذا كان إنسان مجاهر, مصر, نهيته مرة, وثانية, وثالثة فلم ينته ما بقى إلا أن تشهر به, كيف تشهر به ؟ ليس بالضرورة بأن تعلن على المنبر: هذا فلان ... هذا ليس بلازم لكن اذكر لكم مثالا حكيما في ذلك : في بغداد كان هناك بيت لأحد المترفين يسمع منه صوت الغناء والمزامير, طرقوا عليه الباب ما استجاب: مرة, وثانية.. وثالثة, أصر الرجل, فكان هناك قارئ في بغداد حسن الصوت, مؤثر إذا قرأ بكى وأبكى من حوله, فجاء هذا القارئ وقت ازدحام الناس, وجلس على عتبة الباب الذي يصدر منه صوت الغناء, والغناء مسموع في تلك اللحظة, ثم بدأ يقرأ القرآن بصوت جهوري, فاجتمع الناس للصوت, وامتلأ الشارع وعلا النحيب, والبكاء حتى سمع صاحب البيت وهو داخل منزله, ونظر, فلما رأى الوضع هكذا, نزل وأخرج الطبول وآلات اللهو التي عنده, وأعطاها لهذا الشيخ؛ ليقوم بتكسيرها بيده.
قضية الإنكار باليد:يعنى بتغيير المنكر أو هدمه أو إتلافه أو إحراقه هذا معنى الإنكار باليد,وهو أحد مراتب الإنكار كما في الحديث: [ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ] بل هو أول مراتب الإنكار . والأصل أن الإنكار باليد يكون مهمة الجهة التي فوض إليها إزالة المنكر, لكن قد يحدث في كثير من الأحيان أن هذه الجهة لا توجد أصلا, أو توجد لكن لا تقوم بدورها.
شروط الانكار باليد للأفراد :صرح أهل العلم بأنه يجوز الإنكار باليد بأربعة شروط:
الأول:فقدان السلطة القائمة بالإنكار باليد:فإذا وجد من يقوم بتغيير المنكرات باليد بطريقة مدعومة, ممكنة, قوية, رسمية, فلا داعي لغير ذلك.
الثاني :ظهور المصلحة الراجحة في ذلك: أن يكون في الإنكار مصلحة ظاهرة راجحة على المفسدة . أما إذا ظهر للإنسان أن في الإنكار باليد مفسدة أكبر وأنه قد يجر إلى مفاسد أخرى مثل: تضييق الخناق على الطيبين والصالحين, أو انتشار المنكر أكثر وأكثر, فحينئذ يكون الإنكار باليد ممنوعاً .
الثالث: أن يتعذر غير اليد: يعنى إذا استطعت أن تغير هذا المنكر باللسان, فالحمد لله, ولا تلجأ إلى اليد إلا إذا تعذر الإنكار باللسان.
الرابع وهو مهم جداً: مراجعة العلماء في ذلك: أن يكون المرجع فيه إلى علماء أهل السنة والجماعة, وكثير من الشباب بحكم ما أعطاهم الله من قوة الشباب, وما أنعم الله عليهم به من قوة الإيمان أيضا؛ أصبح الواحد منهم: إذا رأى المنكر فار الدم في عروقه, وقد يغير بيده دون أن يراجع أهل العلم . والواجب في نظري: مراجعة أهل العلم وخاصة أهل العلم الذي يعرف الجميع أنهم فعلا مع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر , مع الإصلاح, مع الدعوة؛ فإن مراجعة هؤلاء تضمن مصالح عديدة: المصلحة الأولى: التيقن من أن هذا الإنكار نفعه أكثر من ضرره لأنه أنا وأنت قد لا نستطيع أن نقدر بالضبط, نظرتنا قاصرة لكن غيرنا يمكن يكون أبعد نظرنا منا.
الثانية: أن الذي ينكر باليد قد يتعرض لضرر في نفسه أو ماله أو بدنه أو أهله أو وظيفته ...وما أشبه ذلك, فهو يحتاج إلى وقوف أهل العلم معه فإذا كان يصدر منهم وعنهم فحينئذ يضمن هذا.(/3)
الثالثة: أن هذا يعطى دعماً لأهل العلم, فإن من أهم وسائل إنكار المنكر: وجود العالم الذي يكون الناس ملتفين حوله سائرين وراءه فيكتسب بذلك نوعاً من المنعة والقوة تمكنه من إنكار المنكرات, فإذا كنت أنا وأنت وفلان وفلان لا نقوم بهذه الأعمال إلا بعدما نرجع إلى العالم؛ أكسبنا العالم قوة وأصبح الآخرون يدركون أن هذا العالم يملك أن يغير أشياء كثيرة لكنه يؤثر أن يغيرها بطريقة سلمية فيكون هذا أفضل له ولهم, وهذا يجعل كلمة العالم مسموعة, وصوته مؤثرا .
من المسئول عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟
هذه قضية في غاية الأهمية, والمجال الطبيعي يتلخص في نظرتي في أحد قناتين أو طريقتين:
الأولى:وهى الجهات والمؤسسات الرسمية التي تقوم بإنكار المنكر .
الثانية: - إذا لم توجد الأولى- هي: أن نسير خلف العلماء الذين يتحملون مسئولية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر . فإذا أغلقت هاتان القناتان, ولم يجد الناس وسيلة, فحينئذ يلجئون إلى اجتهادهم وهم معذورون؛ فحينئذ يحدث اجتهادات قد تصيب وقد تخطئ والإنسان يجتهد حسب ما يستطيع. آداب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:
الرفق: فإنك قلما أغضبت رجلا, فقبل منك فكلما أمكن أن تأمر وتنهى برفق كان هذا هو المتعين عليك .
الحكمة: الحكمة في كل شيء بحسبه كما يقول الشاعر
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى ضر كوضع السيف في موضع الندى
فمن الحكمة أن تستخدم اللين في موضعه, والشدة في موضعها أيضا وأذكر لكم قصة توضح ذلك: الغلام الذي كان بين الساحر والراهب والقصة طويلة لكن الشاهد منها: أن في آخر القصة قال الغلام للملك: [ إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ ثُمَّ ارْمِنِي فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ] رواه مسلم والترمذي وأحمد. هذا العمل الذي قام به الغلام ترتب عليه موته ... لكنه بلا شك في جميع المقاييس من الحكمة؛ لأنه ترتب عليه موت واحد وحياة ألوف مؤلفة من الناس أحياهم الله بالإيمان بعد ما كانوا أمواتاً بالكفر. فالحكمة تعنى وضع الشيء في موضعه, فإذا استدعى الأمر أن تستخدم القوة والشدة, فاستخدمها, أو تستخدم اللين استخدمه تستخدم الكلمة ... الرسالة ... الشريط ... الكتاب كل شيء تضعه في موضعه وقد لا يستطيع الإنسان أن يقدر الحكمة في بعض القضايا فإذا استطاع أن يستنير بغيره, فيستشيره, فتكون أضفت إلى عقلك عقل غيرك.
الحلم: من الممكن أن تواجه بكلمات جارحة, فعود نفسك أن تكون: واسع القلب, بطيء الانفعال واجه الكلمة بابتسامة, برد حسن.
العدل: والعدل يأخذ صورا شتى منها: أن لا تنسى أن الذي وقع في المنكر له حسنات, فلوا أتيته وقلت: يا أخي أنت رجل صالح, وأنا أشهد لك ليس على سبيل المجاملة لكن من باب العدل الذي أمرنا الله به, فإنك محافظ على الصلاة مع الجماعة وهذا هو الذي أرضاني أن أقول لك كذا وكذا. وهذا من أسباب القبول لأنك عادل لكن إذا تجاهلت كل حسنات هذا الإنسان, وأهدرتها ربما لا يقبل منك .
الصبر: فإن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يلقى الأذى: } يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [17] { سورة لقمان.(/4)
قضية المصلحة والمفسدة:لماذا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؟ نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر حتى نحقق المصالح وندفع المفاسد, وإنما بعث الرسل الكرام عليهم السلام من أجل جلب المصالح وتكميلها, وتقليل المفاسد وتعطيلها, فأنت حين تأمر أو تنهى تقصد المصلحة, فلو علمت أن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر يترتب عليه مفسدة حينئذ يكون ممنوعاً عليك . إذاًالقضية: العمل على تحصيل المصلحة الأعظم ودفع المفسدة الأكبر, ولذلك العقل, وهو الشرع أيضا: تحصيل خير الخيرين ودفع شر الشرين, وإلا لا يكاد يوجد في الدنيا مصالح محضة, ولا مفاسد محضة, مائة بالمائة إلا أن المسألة: مسألة موازنة أيهما أعظم؟ إذا كانت المصلحة أعظم حصلها, وإذا كانت المفسدة أعظم ادفعها, ولذلك لابد أن توازن: بين المنكر الصغير والمنكر الكبير, فتبدأ بالأكبر قبل الأصغر, وكذلك إذا ترتب على المنكر منكر أكبر منه تدعه .
الإسرار والإعلان في موضوع المصلحة: هل تنكر سراً أو تنكر علناً؟ كلاهما وارد في الشرع, قد يكون من المصلحة أن تنكر علناً, أو يكون من المصلحة أن تنكر سراً, مثلاً: بعض الصحابة والتابعين كانوا ينكرون علانية ومن الأمثلة:
1] عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أَخْرَجَ مَرْوَانُ الْمِنْبَرَ يَوْمَ الْعِيدِ فَبَدَأَ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا مَرْوَانُ خَالَفْتَ السُّنَّةَ أَخْرَجْتَ الْمِنْبَرَ يَوْمَ عِيدٍ وَلَمْ يَكُنْ يُخْرَجُ بِهِ وَبَدَأْتَ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَكُنْ يُبْدَأُ بِهَا فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : [مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَاسْتَطَاعَ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ بِلِسَانِهِ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ] رواه مسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي وأحمد.
2] و فعل ذلك الإنكار أبوسعيد نفسه , كما ذكر هو فقال:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثًا قَطَعَهُ أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ مَرْوَانَ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمُصَلَّى إِذَا مِنْبَرٌ بَنَاهُ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ فَإِذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَجَبَذْتُ بِثَوْبِهِ فَجَبَذَنِي فَارْتَفَعَ فَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَقُلْتُ لَهُ غَيَّرْتُمْ وَاللَّهِ فَقَالَ: أَبَا سَعِيدٍ قَدْ ذَهَبَ مَا تَعْلَمُ فَقُلْتُ مَا أَعْلَمُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا لَا أَعْلَمُ فَقَالَ إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَجَعَلْتُهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ .رواه البخاري .
كذلك الصحابة فيما بينهم, و لهذا أمثلة منها:
1]عمر رضى الله عنه كم وكم أنكر عليه, وهو على المنبر, ولعل من أصح القصص في ذلك: ما رواه الشيخان أن أبى بن كعب قال لعمر مرة من المرات لما حصل خصومة بين عمر, و أحد الصحابة قال أبى بن كعب لعمر: يا ابن الخطاب لا تكونن عذابا على أصحاب محمد.
2]عثمان بن عفان لما نهى عن متعة الحج, فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهَلَّ بِهِمَا فَقَالَ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ مَعًا فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَرَانِي أَنْهَى النَّاسَ عَنْهُ وَأَنْتَ تَفْعَلُهُ قَالَ لَمْ أَكُنْ أَدَعُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ . رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد . 3]وكذلك ابن عباس أنكر على معاوية لما كان أميرا رضى الله عنهما, فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ طَافَ مَعَ مُعَاوِيَةَ بِالْبَيْتِ فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَ تَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُمَا فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْبَيْتِ مَهْجُورًا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ صَدَقْتَ .رواه أحمد والترمذي وأصله في الصحيحين .(/5)
4] عائذ بن عمرو أنكر على الأمير عبيد الله بن زياد: فعن الْحَسَن أَنَّ عَائِذَ بْنَ عَمْرٍو وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ – يقول له هذا وعبيد أمير على العراق- إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ] فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ فَقَالَ لَهُ : اجْلِسْ فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَهَلْ كَانَتْ لَهُمْ نُخَالَةٌ إِنَّمَا كَانَتْ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ وَفِي غَيْرِهِمْ .رواه مسلم وأحمد .
فكانوا ينكرونها علانية لأنهم رأوا المصلحة في ذلك, وقد يرى الإنسان المصلحة في الإسرار كما إذا رأى أن هذا الإنسان قد تأخذه العزة بالإثم, أو قد يترتب على ذلك مفسدة أكبر من المصلحة, فحينئذ يسر . إذاً المصلحة والمفسدة من القضايا التي تجرى في موضوع الإسرار والإعلان في إنكار بالمنكر.
دور الشاب في إنكار المنكر:
أولا: أن يقوم الشاب بالدور كاملاً أكثر مما يقوم به غيره : بالكلمة أو الكتاب أو الشريط أو المناصحة أو المقاطعة لأماكن الفساد... خاصة: دورك في المنزل, مع زملائك في العمل, في الفصل إذا كنت طالباً .. وهكذا أن يقوم الشاب بدوره خير قيام, وأن يجعل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو الهم والوظيفة التي نذر حياته لأجلها ولست أتردد طرفه عين أننا لوكل واحد منا جعل همه أن يأمر المعروف وينهى عن المنكر لاختفت كثير من المنكرات وظهرت كثير من السنن التي تركت وهجرت .
ثانيا:مواصلة العلماء, فإن العالم له دور كبير جداً في إزالة المنكرات, خاصة المنكرات الراسخة, المتأصلة التي امتدت جذورها في الأرض وتعمقت, وأصبحت من الصعب إزالتها, فهذه تحتاج إلى رجال ذوى قوة ومنعة ومكانة؛ ليقوموا بتغيرها .. ولا يكون ذلك إلا إذا قام الشباب بالالتفاف حول العلماء العالمين, المتبعين للسنة, ومن الالتفاف حولهم: تبليغهم بالمنكرات التي تقع, على الأقل اجعل من نفسك واسطة لإيصال ما يقع من المنكرات للعلماء وتبلغيهم به مع تزويدهم بالوثائق الكافية على صدق ما تقول, وتجعل العالم يرى المنكر كما لو كان رآه بعينه فعلاً حتى يستطيع أن يتكلم بجرأة وقوة وهذا من واجبنا, فكن أنت عين العالم على المجتمع وأذن العالم التي تنصت لما يقال في المجتمع ثم إذا واصلته حينئذ فأنت قمت بدورك وبقى دوره.
ثالثا:المشاركة الرسمية في مجالات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: فلو كان هذا الجهاز – المختص بالأمر بالمعروف - مدعوما بعدد كبير من الشباب, المتدين, الواعي, المدرك؛ لكان هذا الجهاز - مهما كانت العقبات أمامه, ومهما وجد في المجتمع من يمتعض أو يستاء من هذا الجهاز أو يحاربه - أقوى وأكبر من أن يقف أحد في وجهه .. لكن لما حصل الإعراض عن هذا الجهاز من كثير من الصالحين والشباب الجامعي؛ حصلت السلبيات اللاحقة لذلك فعلينا أن ندرك أننا نحن أيضا مسئولون عن هذا التقصير الذي حصل ويجب أن نتداركه بقدر المستطاع.
لماذا لا نغير؟ ما هي الأسباب التي تمنعنا من إنكار المنكر ؟ هناك أسباب كثيرة منها: 1] الخجل: نستحي ...ما تعودنا .. عندنا وهم الخوف من الناس والهيبة .. والخجل لا يزول إلا بالممارسة الفعلية ... جرب وسوف يزول الخجل تدريجياً وتلقائياً.
2]بعض الشباب يقول: أنا عاص فكيف أغير المنكر؟ فأقول: تغير المنكر ولو كنت عاصيا
لولم يعظ الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد
والله سبحانه وبخ بنى إسرائيل بقوله: }كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [79] { سورة النساء فحتى فاعل المنكر يجب أن ينكر.
3] بعض الشباب يقول: أنا لست بعاص لكن أخي عاص فكيف أغير على الناس وهم يرون أخي قد وقع في هذه المعصية؟ وهذا في الواقع ليس بعذر لأنك لست سلطاناً على أخيك تستطيع أن تأمره بالمعروف, أو تلزمه به قصراً , قد أمرت أخاك فلم يأتمر, ونهيته فلم ينته, فحينئذ انتقل إلى غيره ولا تكترث من هؤلاء الذين يعيرونك به؛ لأنهم يعرفون أنه لا سبيل لك عليه: } إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [56] { سورة القصص . لكنهم أرادوا فقط أن يؤذوك بشيء فقالوا: أخوك عاص .
من محاضرة: فقه إنكار المنكر للشيخ/ سلمان العودة(/6)
فقه الأخوة في الله (1/2)
وليد شلبي 28/6/1424
26/08/2003
نعيش في هذه الأيام تحديات شتى لعب أبرزها سيادة المادة في العلاقات الإنسانية ، الأمر الذي يتطلب أن نجدد معه " فقه الأخوة في الله " لنعرفه، ونعمل به على مستويات العمل كلها، باعتباره الوقود الدافع لسفينة العمل الإسلامي، و الروح التي لن نستطيع الصمود بغيرها أمام تحديات العصر الراهنة على جميع أصعدة العمل الإسلامي.
أعني بـ" فقه الأخوة في الله" كيف نتعامل بعضنا مع بعض؟ وكيف يفهم بعضنا بعضاً؟ وكيف يعذر بعضنا بعضاً؟ وكيف يحب بعضنا بعضاً؟ يل وكيف نختلف بعضنا مع بعض، تحت مظلة الحب في الله؟.
إن العمل الإسلامي في حاجة ماسة لهذا الفقه حتى لا يتسع الخلاف بين أفراد الصف الواحد، وحتى لا تضيع جهودنا جميعاً، فالأخوة ليست شعاراً يرفع ولا كلمات تردد، ولكنها عمل وفعل وتطبيق، إنها نظام حياة، وتعاون، وتكامل، وتكافل، إنها المرآة التي يرى كل منا فيها نفسه بصراحة، وشفافية ووضوح، وهي اليد التي تغسل الأخرى.
فإذا وصلنا إلى هذا المستوى؛ نكون قد وضعنا أقدامنا على أول طريق النصر المأمول، ولنا في المصطفى -صلى الله عليه وسلم- القدوة حين بدأ بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار كخطوة أساسية وأولية بعد ترسيخ العقيدة والإيمان في النفوس.
أهمية الأخوة
الأخوة نعمة من الله على عباده المؤمنين لأنها رابطة يتعذر أن نجد مثلها في واقعنا المعاصر، فلا مصلحة ولا نفعاً مادياً من ورائها، إنما هي لله فقط، فهي أخوة بين القلوب و الأرواح برباط وثيق لا يمكن فصمه هو رباط العقيدة .
الأخوة من أوثق عرى الإيمان: وتحقيقها عبادة من أعظم العبادات، قال صلى الله عليه وسلم: " من أحب لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان "، وقال عليه الصلاة والسلام: " من سره أن يجد طعم الإيمان فليحب المرء، لا يحبه إلا لله عز وجل" .
وبها تُستجلب محبة الله تعالى: في الحديث القدسي" وجبت محبتي للمتحابين فيًّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ".
كما أنها سبيل إلى ظل عرش الله تعالى: فمن السبعة الذين يظلهم الله بظله " رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه" .
ويقول سبحانه: (إنما المؤمنون إخوة) وإنما تفيد الحصر والمعنى: ليس المؤمنون إلا أخوة قال تعالى: ( وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم).
يقول صاحب الظلال: "ولقد وقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله، والتي لا تصنعها إلا هذه العقيدة، فاستحالت هذه القلوب النافرة، وهذه الطباع الشموس، إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية، الذلول بعضها مع بعض، المحب بعضها لبعض، المتآلف بعضها مع بعض، بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ، والذي تتمثل فيه حياة الجنة وسمتها البارزة – أو يمهد لحياة الجنة سمتها البارزة (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين). إن هذه العقيدة عجيبة فعلاً، إنها حين تخالط القلوب تلين جاسيها، وترقق حواشيها، وتندي جفافها، وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق، فإذا نظرة العين، ولمسة اليد، ونطق الجارحة، وخفقة القلب؛ ترانيم من التعارف و التعاطف، و الولاء و التناصر، والسماحة و الهوادة، لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب، ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب ....
وهذه العقيدة تهتف للبشرية بنداء الحب في الله، وتوقع على أوتاره ألحان الخلوص له والالتقاء عليه فإذا استجابت وقعت تلك المعجزة التي لا يدري سرها إلا الله ولا يقدر عليها إلا الله.
ولقد من الله على عباده - وهو يدعوهم للوحدة وعدم الفرقة – بهذه النعمة الكبرى (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا)
هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتن الله به على الجماعة المسلمة الأولى، وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائماً.
وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة، وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمة الله إخواناً، تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية، والثارات القبلية، و الأطماع الشخصية، والرايات العنصرية، ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال" [الظلال بتصرف يسير].
حقوق الأخوة
الأخوة في الإسلام ليست من نوافل القول، بل هي أساس وعقيدة راسخة في النفس، قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلمٍ كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة" (رواه البخاري ومسلم).(/1)
وقد روي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن تسلم عليه إذا لقينه، وتجيبه إذا دعاك، وتشمته إذا عطس، وتعوده إذا مرض، وتشهد جنازته إذا مات، وتبر قسمه إذا أقسم عليك، وتنصح إذا استنصحك، وتحفظه بظهر الغيب إن غاب عنك، وتحب له ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك".
و عن أنس- رضي الله عنه – أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أربع من حق المسلمين عليك: أن تعين محسنهم، وأن تستغفر لمذنبهم، وأن تدعو لغائبهم، وأن تجب تائبهم" .
ولقد تكلم ابن تيمية عن (عقد الأخوة) هذا، وبين أن الحقوق التي ينشئها إذا كانت من جنس ما أقره النبي -صلى الله علية وسلم- في أحاديثه لكل مؤمن على المؤمنين فإنما هي: "حقوق واجبة بنفس الإيمان والتزامها بمنزلة التزام الصلاة و الزكاة و الصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله، وهده ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن، وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة " [مجموع فتاوى ابن تيمية 11/ 101].
وسائل تنمية الأخوة
لتنمية الأخوة في الله وسائل كثيرة ومتعددة ونجمل منها هنا:
الحب في الله: فهذا أروع وأعظم أنواع الحب، أن يكون في الله ولله، فلا نفع ولا غرض دنيوياً وراءه، وفي الحديث القدسي: "المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء" (رواه الترمذي).
سلامة الصدر: وسيلة في غاية الأهمية لتقبل ما يبدر عن الآخرين بدون حقد أو ضغينة أو سوء نية، وكذلك لحمل الأقوال والأفعال على معانيها الحسنة.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا تقاطعوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً، لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" (رواه البخاري).
وعن عبد الله بن عمرو " قيل يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قيل صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه و لا بغي، ولا غل ولا حسد" (رواه ابن ماجة).
النصح و التواصي: إن المسلم لا يسير في طريق آمن لكنه يسير في طريق محفوف بالمكاره والمز الق والعقبات والفتن، وشياطين الإنس والجن له بالمرصاد؛ فهو أحوج في مثل هذا الطريق إلى من يأخذ بيده يرشده ويبصّره، ويذكّره إذا نسي، ويعينه إذا ذكر، وصدق الله العظيم إذ يقول: (والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).
ولابد من أن نشير هنا لبعض آداب التواصي والنصح: كأن يكون سراً، وبالحكمة والموعظة الحسنة، وبأسلوب رقيق، يقول بعض السلف" أد النصيحة على أكمل وجه واقبلها على أي وجه".
معرفة الفضل : قال تعالى: (ولا تنسوا الفضل بينكم) فمعرفة المسلم لفضل أخيه، بل ومحاولته البحث له عن فضل تجعله يحبه، ويتقبل منه، ويسمع له بدلاً من أن ينفر منه، ويتجنب لقاءه ، فإذا بحث كل واحد منا عن فضل لأخيه؛ فسوف يزدهر العمل، ويحس بقيمة أخيه وتأثيره و فضله.
المصارحة والمكاشفة: فهي تزيل عن القلب موانع تعطل تيار الأخوة مادامت تؤدى بطرقها السابق ذكرها، فلابد للمسلم من أن يصارح أخاه بما في صدره، فربما وجد عنده إجابة شافية تكفيه مؤونة الإرهاق الذهني والقلق، والتوتر الذي يؤثر حتماً على سلامة الصدر، وكذلك على المسلم أن يصارح بما يعتريه من تساؤلات أو شكوك دون أدنى حرج.
ولنا في الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الأسوة في ذلك، ففي بيعة العقبة الثانية وقف أبو الهيثم بن التيهان يصارح و يكاشف، ويستفسر من الرسول -صلى الله عليه وسلم- عما يجول في نفسه؛ فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال – يعني اليهود – حبالاً ، وإنا لقاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك و تدعنا؟ قال كعب بن مالك: فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: "بل الدم الدم ، و الهدم الهدم، أنا منكم و أنتم مني، أحارب من حاربتم، و أسالم من سالمتم"، فهذه قمة المصارحة و المكاشفة حتى لما يجول في أغوار النفس، وقد تقبلها النبي -صلى الله عليه وسلم- برحابة صدر، وذلك درس في واجبات القيادة لتقبل المصارحة والمكاشفة بسلامة صدر، والعمل على إزالة ما قد يكون قد التبس على أذهان إخوانهم.
التسامح و التراحم: يجب أن يكون ديدن العاملين للإسلام هو التسامح و التراحم حتى لمن ظلمهم، فينبغي أن يعذر بعضنا بعضاً، وأن يسامح بعضنا بعضاً، وأن نتراحم فيما بيننا. وصدق الله العظيم إذ يقول: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) [آل عمران:159]. وفي الحديث "من اعتذر إلى أخيه المسلم فلم يقبل منه كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس" (رواه ابن ماجة) وفي رواية " من تنصل إليه فلم يقبل لم يرد الحوض" ( الطبراني ).
وسائل حماية الأخوة(/2)
إدراك أهميتها: على كل مسلم أن يدرك أهمية الأخوة، وأن يكون كل مسلم عمقاً استراتيجياً لأخيه؛ يحميه، ويؤازره، ويدرك أنه كثير بإخوانه مع إدراك الثواب الجزيل لهذه النعمة.
معرفة فقه الخلاف : نحن يمكن أن نختلف وأن تتباين وجهات نظرنا دون أن يحنق أحدنا على الآخر أو يحمل لأخيه أية ضغينة، بل نتبع القاعدة الذهبية لصاحب المنار التي تقول : " لنتعاون فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه".
استصحاب فقه الأولويات: فقد يكون رأيي صواباً ولكن هناك ما هو أولى منه في مرحلة ما، فإذا عرفنا ذلك عذرنا بعضنا بعضاً، وقوينا من أخوتنا وأعنا بعضنا بعضاً على المهام الموكلة لكل منا.
رفع سقف الخلاف: فينبغي أن نحسن الظن ببعض، وأن تتسع صدورنا للنقد البناء، وأن يعمل كل منا على احتواء الخلاف من جانبه، وكأنه هو المسؤول عن ذلك، وهذا لهدف أسمى وأرفع وأنبل، وهو إثراء روح الأخوة.
رفع مستوى الحوار: لابد من أن يحرص كل منا على نفس أخيه، و ألا يجرحه، وأن يراعي معه أدب الحديث، وألا تكون الأخوة مرادفاً لعدم الحرص في الحديث أو الابتذال فيه، أو زوال الفوارق السنية والاجتماعية، فلا بد من أن نرقى بأسلوب حوارنا، وأن يحترم كل منا الآخر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا".
ثمار الأخوة في الله وآثارها الطيبة
أولاً: على مستوى العمل الجماعي: لاشك في أن روح الفريق ستجعل من كل فرد شعلة نشاط يبذل كل ما في وسعه، ويأخذ بكل الوسائل لإنجاح ما يعد له "مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى".
كما سيعمل على تنفيذ ما أعد له هو وإخوانه؛ فسيكونون جميعاً على قلب رجل واحد لتنفيذ ما اتفق عليه، متناسين أي خلاف قد يكون نشأ في مرحلة ما.
ولا شك في أن أي صف يعمل الجميع به -قيادة وجنوداً- بقلب رجل واحد، متجردين لله ولا يرجون من إنسان جزاء ولا شكوراً، أقدر على تحقيق أهدافه كلها بإذن الله؛ فلقد حقق المسلمون الأوائل ما حققوه لعقيدتهم الراسخة وإيمانهم الوثيق بالله، ثم بأخوتهم التي أرساها المصطفي -صلى الله عليه وسلم- حين آخى بينهم.
كما تعزز الأخوة وحدة الصف بكل معانيها، كما قال تعالى : (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص)، فروح الأخوة ستجعله صفاً واحداً يصعب اختراقه وتدميره.
ثانياً على المستوى الفردي: إن أول المستفيدين من روح الأخوة هو الفرد نفسه، إذ يستشعر أنه ليس وحيداً، وأن معه إخوانه يساعدونه على تقوى الله، وعبادته، وطاعته؛ فقد جاء في الحديث "إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".
كما سيجد فيهم خير الأصحاب؛ فهو إذا ذكر الله أعانوه، وإذا نسي ذكروه.
وعندما يختلط المسلم بإخوانه سيكتسب منهم خبرات، وتجارب متنوعة في شتى المناحي، وسيرتفع بذلك مستوى أدائه في المجالات جميعاً: دعوية، ودنيوية، ومهنية. قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى).
كما سيجد الفرد من بعض إخوانه -ولا أقول كلهم- قدوة حسنة، تقربه من ربه، وتزرع فيه خصالاً، يحاول الوصول إليها دون جدوى، وذلك من خلال معايشته لهم؛ بل سيقتدي بهم في مختلف الأحوال والأوقات؛ فيكتسب قدرات لا تقدر بثمن.
وتعين الأخوة الفرد على الثبات، ذلك أن من يسير في طريق الدعوة إلى الله يكون -بطبيعة الحال- عرضة لملاقاة الأذى، والابتلاء، والفتن، فالطريق محفوفة بالمكارة، مليء بالعقبات، والمسلم في حاجة لإخوانه، وقلوبهم معه، يعينونه على مكاره الطريق، ويتواصون معه بالحق.
ثالثاً: على مستوى المجتمع: المجتمع الذي يكون أعضاؤه على قدر كبير من المحبة و التعاون، ويعرف كل منهم حقوقه وواجباته، يكون في مستوى متميز، حتى لو كان هؤلاء الناس قلة؛ لأنهم سيكونون قدوة، وسيؤثرون في المجتمع، وسيتأثر بهم المجتمع، وسيرتفع مستواه الإيماني والعلائقي والثقافي .. إلخ، مما سيؤثر على إنتاجه في جميع المستويات والجوانب.
هذا المجتمع سيقف في وجه أشد الصعاب، فلقد صمد الصحابة في شعب أبي طالب، وأبلوا بلاءً حسناً، بإيمانهم ثم بأخوتهم الفذة، كما صمد المسلمون في المدينة أمام التحديات الداخلية والخارجية، وجاهدوا أفضل الجهاد.
واجهوا في بدر وأحد و الخندق أكبر التحديات، وكانت أكبر عدة لهم، بعد الله ثم إيمانهم الراسخ هي أخوتهم، ووحدة صفهم وتماسكه؛ فلقد ذاب كل واحد منهم في المجموع، فتشكلت قوة واحدة منهم يصعب اختراقها؛ بل كان النصر حليفها.
كما أن المجتمع المتحاب أفراده سيكون من القوة بمكان ليقف في مواجهة شتى التحديات، أو على الأقل الخروج بأقل الخسائر؛ لأن هذه المجموعات ستشيع هذه الروح في أسرها وجيرانها وأصدقائها من خلال فهمها الصحيح للإسلام، وبعملها به، فما بالنا لو كان المجتمع كله على هذه الدرجة العالية من الأخوة والحب في الله؟.(/3)
رابعاً: على مستوى غير المسلمين : حبنا لبعضنا بعضاً وأخوتنا وروابطنا الإسلامية العظيمة تثير غيظ أعداء الإسلام مهما حاولوا إخفاء ذلك؛ لأن هذا الجانب الروحي قل -إن لم ينعدم- في مجتمعاتهم المادية.
وإذا وجد أعداؤنا أننا على درجة عالية من الحب والأخوة سيهابوننا، أما تفرقنا وتشرذمنا الآن فهو برد وسلام على قلوبهم، قال سبحانه :(لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله).
و إذا رأى أعداؤنا فينا القوة والصلابة العقدية، والأخوة الملتحمة؛ فسيؤثر ذلك حتماً فيهم، ويضعفهم معنوياً، إذ كيف يحاربون مجتمعاً متحاباً متعاوناً على قلب رجل واحد؟
ومن جانب آخر؛ فإن غير المسلمين إذا وجدوا فينا الصورة المشرقة للإسلام ومثله العليا؛ فربما اتجهوا إلينا لأن الإسلام دين الفطرة.
فالواجب علينا إذاً أن نقدم لهم الصورة المشرفة للأخوة الإسلامية كما قدمها أسلافنا، وفتحوا بسلوكهم المتآخي كثيراً من بقاع العالم.
و الخلاصة: إذا ازدهرت شجرة الأخوة وترعرعت ونمت؛ فلابد من أن تنمو شجرة العمل وتزدهر، وتعطي حينها أطيب الثمار. ومن هنا علينا جميعاً -وعلى المخلصين العاملين للإسلام خاصة- أن يعملوا على ازدهار شجرة الأخوة ، وعلى حمايتها، وصيانتها من الهجمات الشرسة التي تعمل على اقتلاعها. إننا في حاجة لهذه الروح وهذا الفقه؛ ليسري في جسد الأمة، فتبعث فيه الحياة بعد طول رقاد.
إن على الدعاة وقادة العمل الإسلامي والمربين العملَ على غرس روح وفقه الأخوة في نفوس إخوانهم من خلال برامح عملية، وكذلك تأصيل هذه الروح وتجذيرها في النفوس، بدلاً من الاهتمام بتوسيع رقعة الانتشار والاهتمام بالكم على حساب الكيف، أو الاهتمام بتوسيع القاعدة على حساب تربيتها.
فلقد انتصر المسلمون في بدر وهم قلة مؤمنة تتمتع بقدر عال من التربية والأخوة، لكنهم انهزموا في حنين على كثرتهم، ذلك أن الكثرة قد تحوي الخَبث الذي سرعان ما ينزوي عندما يواجه محنة أو اختبار.
وأختم بهذه الكلمات الرائعة للشيخ محمد أحمد الراشد في كتابة الرقائق:
"وهكذا تكون الأخوة بين الدعاة هي الركن المهم في تربيتنا بعد الصلاة والتسبيح، وما من جزء من أجزاء الحركة الإسلامية يقذف بنفسه في ميدان العمل العام قبل إحلال معاني الأخوة الإيمانية في أعضائه إلا ذاق وبال تساهله وتفريطه، ولا مناص من أن تدرج بدايته على طرق الإيمان واستغلال دقائق الليل الغالية، ويكون فيه (أدب الأخوة) مترجماً في تناصح وتكافل وتحاب يجمع القلوب ويعلمها التحالم -إن لم يكن الحلم- عند إبطاء المقصر وتجاوز الملحاح، مثلما يعلمها المكافأة و الوفاء والشكر عند إسراع المبادر وعدل خفيض الجناح".(/4)
فقه الإدارة الإيمانيّة في الدعوة الإسلامية
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
1ـ تمهيد:
لعدة قرون والعالم الإسلامي عالة على الغرب في النظم الإدارية، ينقلها نقلاً، أو تُفْرَض عليه فرضاً، مع تصوراتها وفلسفتها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد استقرّ في قلوب كثير من المسلمين أن " الإدارة "، لفظةً ومعنىً، تتعلق بالدوائر الحكومية والشركات وأمثالها، ولا يشعر المسلم بأن " الإدارة " شيء يمسُّه في حياته الشخصية، في نشاطه الذاتي، وفي بيته وأسرته، وفي تجارته ووظيفته. ولا يشعر أنه هو مسؤول عن ذلك، محاسَب عليه بين يدي الله، وأنّه قد ينجح في الدنيا أو يفشل بقدر من الله على سنن ثابتة في الدنيا، من بينها حسن تنظيم عمله وإدارته على أسس إيمانيّة.
ولا نعني بذلك أننا نحن المسلمين يجب أن لا نستفيد من تجارب غيرنا من الشعوب، ولكننا نعني أن لا نكون تبعاً تبعيّة عمياء، لا نفكّر ولا نردّ الأُمور إلى منهاج الله، ولا نتفاعل بعد ذلك مع ما هو خير فنأخذ ما نحتاجه. فالتجربة الإنسانيّة حقٌّ لعباد الله، وعباد الله يتحملون المسؤولية فيما يأخذون أو يدعون، وكيف يأخذون وكيف يدعون.
وما نودّ أن نثيره في هذه العجالة أننا إن أخذنا شيئاً عن أي أمة، فيجب أن نردّه أولاً إلى منهاج الله، ثم نأخذ ما نأخذه دون أن نأخذ فلسفته التي تحتويه، فلنا رؤية مختلفة، نأخذ السلاح مثلاً ونستخدمه في طاعة الله لا في معصيته. وقد نجد المجرمين في الأرض يبدّلون نعمة الله عليهم كفراً، ويستخدمون ما أنعم الله عليهم به في معصية الله، فيفسدون في الأرض فساداً كثيراً ولا يصلحون، ويضعون من النظم الإدارية ما يخدّرون به الناس، وما يؤمِّن به مصالح المجرمين في الأرض.
والإدارة يمكن أن تكون من هذا الميدان الذي يمكن فيه الاستفادة من التجربة البشريّة الصالحة بالشروط التي سبق ذكرها، فلنا نحن المسلمين فقه إسلامي ممتد شامل، وله أسسه وقواعده التي تمتدّ في ميادين الحياة، ومنها ميدان الإِدارة. والإدارة يمكن أن تُسْتَغَلَّ من أجل الفساد والفتنة والجريمة، أو من أجل الصلاح والحق. ومن هنا تتباين إِدارة من إدارة، بتباين الفقه الذي تنطلق منه والهدف الذي تسعى إليه.
نقطة لابد من إثارتها من البداية، ذلك أننا لا نستطيع تغطية هذا الموضوع تغطية عادلة أمينة في عدد من الحلقات أو الصفحات. لذلك نقدم هنا ما يتسع له المقام، مع إعطاء ملامح لبعض القضايا، وإشارات لبعضها الآخر. فكل قضيّة يجب أن تنال من حيث الأساس دراسات منهجيّة مترابطة توفي القضية حقها وترابطها بما سبقها وما يتلوها. ويكمن أن نوصي بالرجوع إلى ثلاثة كتب من أجل تفصيلات أوسع: " فقه الإدارة الإيمانية في الدعوة الإسلامية "، و " الشورى وممارستها الإيمانية "، و" الفقه امتداده وشموله بين المنهاج الرباني والواقع ".
وإذا كنا نحتاج الإدارة في ميادين الحياة المختلفة، فإن من أوسع الميادين التي نحتاج فيها إلى الإدارة الإيمانية هي الدعوة الإسلامية بمفهومها القرآني الواسع وميدانها الشامل الممتد.
وحيث إن موضوعنا هو فقه الإدارة الإيمانية فلابد من أن نبدأ بتحديد معنى الفقه مما يساعدنا على تبيّن أسس الإدارة الإيمانية وفقهها.
2 ـ الفقه في الإسلام امتداده وشموله:
لا نقصد بالفقه فقه الشعائر فحسب، ولا فقه الحدود والمعاملات فحسب، وإنما نقصد الفقه بامتداده وشموله لميادين الحياة كلها، حيث ينطلق المسلم فيها ليُحقِّق المهمّة التي خلقه الله للوفاء بها في الحياة الدنيا، المهمّة التي أوجزها منهاج الله في أَربع مصطلحات عامة، كل واحد منها يًعرِّف المهمّة ذاتها من جانب من جوانبها، حتى تقدّم هذه المصطلحات الأربعة التصوّر الكامل لهذه المهمة، ثم يفصّل منهاج الله ـ قرآناً وسنة ولغة عربية ـ هذه المهمّة تفصيلاً لا يترك لأحد مجالاً أن يتفلّت منها. هذه المصطلحات الأربعة: العبادة، الأمانة، الخلافة، العمارة.
من هنا تبرز القاعدة الأولى، وهي أن الإنسان المسلم خُلِق ليؤدِّي مهمّة في الحياة الدنيا، وأنه على المسلم أن يعي هذه المهمة وعياً كبيراً، وأنه محاسَب عليها، وأنها هي سبيله إلى الجنة إذا مضى على صراط مستقيم. فالعبادة ليست الشعائر وحدها، كما نجد في بعض الكتب، وإنما العبادة هي الوفاء بالمهمة التي خُلِقْنا للوفاء بها في الحياة الدنيا. وبإيجاز آخر هي ممارسة منهاج الله في واقع الحياة البشرية ممارسة قائمة على أسس الإيمان والتوحيد.(/1)
ولا نقصد بالفقه فقه فئة محدودة من الأمة، ولكنه الفقه الممتد في الأمة كلها الفقه الذي يقوم على المسؤولية، فلا مسؤولية دون فقه، ولا فقه دون مسؤولية. ولما كان كلّ مسلمٍ مكلّفٍ شرعاً مسؤولاً في دين الله محاسَباً، فقد امتدّ الفقه مع امتداد هذه المسؤولية. ولذلك جاءت التكاليف الربانيّة التي يحاسَب عليها المسلم محدّدة واضحة في دين الله، وأصبح من واجب المسلم أن يعرف فقه هذه التكاليف الربانيّة وفقه مسؤوليته فيها.
ومن هنا تبرز القاعدة الهامة الثانية ألا وهي المسؤولية الفرديّة الذاتيّة. ومن هنا كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.... " (1) ونشير إلى واحدة من أهم هذه المسؤوليات والتكاليف الربانيّة التي جعلها الله على كل مسلم. تلك هي طلب العلم، وأساسه طلب العلم من منهاج الله ـ قرآناً وسنة ولغة عربيّة. فجاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا التكليف الرباني على كلّ مسلم.
" طلب العلم فريضة على كلّ مسلم " (2)
فجاء هذا التكليف منسجماً مع المهمة التي خلق الإنسان للوفاء بها، ومنسجماً مع المسؤولية الفرديّة.
والحديث الشريف: " بني الإسلام على خمس... " (3)، لا يعني أن الإسلام وتكاليفه الربانيّة اقتصرت على هذه الخمس: الشهادتين والشعائر. كلا ! إن الحديث الشريف شبّه التكاليف الربانيّة والمسؤولية الفرديّة والمهمة التي خُلقَ الإنسان للوفاء بها بالبناء الذي له أساس يقوم عليه. فالأساس هو الأركان الخمسة التي لا يصحّ عمل ولا يُقبل عند الله إلا بها. وعلى هذه الأركان الخمسة تقوم سائر التكاليف الربانيّة كما يقوم البناء على أساسه.
ففي الأمة المسلمة ومجتمعها واجب كلِّ مسلم أن يتدبّر منهاج الله ويطلب العلم منه. كلُّ مسلم يتدبّر فيأخذ قدر وسعه الصادق الذي وهبه الله له، والذي سيحاسَب عليه. الجميع يفكرون، ويتدبرون، ويطلبون العلم، وينهضون إلى المسؤوليات الذاتية، وكلٌّ يأخذ قدر وسعه الصادق، وبذلك تُعْرَف حدود كلّ مسلم. ومن هذا الجو أو المجتمع الذي ينهض فيه الجميع إلى مسؤولياتهم وتكاليفهم الربانيّة عبادة لله ووفاءً بالأمانة التي خُلِقوا لها، ويعرف كلٌّ منهم فقه مسؤولياته في هذا الجو الإيماني المشرق، جو النشاط والعمل تبرز المواهب والقدرات، وتأخذ كل موهبة مكانها العادل ومنزلتها الأمينة، وعلى الأمة المسلمة أن ترعى ذلك، فتنزل كل موهبة منزلتها العادلة الأمينة:
فعن عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن ننزل الناس منازلهم " (4).
والعلماء هم موهبة الأمة المتميّزة بوسعها وإِيمانها وعلمها وخبرتها، لتحال إليهم القضايا المعضلات التي لا يقوى الفرد على الاجتهاد فيها ولا هي في حدود وسعه. ولا يعطل دورُ العلماء مسؤوليةَ الآخرين ولا حقوقهم في حدود مسؤوليتهم ووسعهم واختصاصهم.
لقد أصبح كثير من المسلمين يعتقدون أن أداء الشعائر هي كلُّ ما فرض عليه الإسلام، ومضوا على ذلك، وتركوا الميدان خالياً منهم، فملأ فراغهم دعاة النصرانيّة وغيرهم. فلابد من توعية المسلم إلى فقه هذا الحديث: " بني الإسلام على خمس... "، ولا بد من توعيته بمسؤولياته الفرديّة لينهض إليها بحوافز إيمانية ونيّة صادقة واعية، وزاد حق يعينه على المسيرة والوفاء حتى يملأ الميدان بجنوده الواعين يوفون بالأمانة التي حملوها.
ونوجز هنا أهم المسؤوليات الفرديّة والتكاليف الربانيّة بنقاط محددة (5):
1ـ التفكير تفكيراً نابعاً من الفطرة السليمة ليهتدي به إلى الإيمان والتوحيد. ويظل هذا التفكير على نهجه الإيماني صفة مميّزة للمسلم في مسيرة حياته كلها.
2ـ الشهادتان.
3ـ الشعائر.
4ـ طلب العلم من منهاج الله، ودراسته دراسة منهجية صحبة عمر وحياة، ودراسة كلِّ علم يحتاجه المسلمون على أساس من منهاج الله.
5ـ دراسة الواقع وفهمه من خلال منهاج الله في حدود وسعه الصادق حتى لا يكون إمَّعة، دراسة منهجيّة.
6ـ ممارسة منهاج الله في الواقع البشري في حدود مسؤولياته واختصاصه ووسعه الصادق.
7ـ المساهمة في الدعوة إلى الله ورسوله وتبليغ رسالة الله كما أُنزِلت على محمد صلى الله عليه وسلم تبليغاً أميناً منهجيّاً يتبع نهجاً وخطة.
8 ـ المساهمة في تعهُّد من يُدعى تربية منهجيّة وتدريباً منهجيّاً.
9ـ المساهمة في بناء الجيل المؤمن الذي تتوافر فيه الخصائص الإيمانيّة التي نص عليها الكتاب والسنة، ويتوافر فيه الإعداد الذي أمر الله به.
10ـ المساهمة في الجهاد في سبيل الله بشروطه الربانيّة الكاملة. 11ـ المساهمة في بناء الأمة المسلمة الواحدة التي تكون كلمة الله فيها هي العليا.
12 ـ المساهمة في نشر حضارة الإيمان والتوحيد في الأرض كلها بدلاً من الحضارة الماديّة.
ولقد جاءت نصوص متعددة تلح على هذه المسؤولية الفردية التي تبنى عليها مسؤولية الأمة، وفقه المسؤولية الفردية التي يبني عليها فقه مسؤولية الأمّة تبعاً لذلك.(/2)
وفي الحديث الذي يرويه وابصة رضي الله عنه: "... استفت قلبك ولو أفتاك الناس وأفتوك... " (6) إشارة واضحة إلى المسؤولية الفردية، تضع المسلم أمام القضيّة والواقع ليستفتي قلبه. ومن البداهة أن الحديث يعني: القلب الصادق في إِيمانه، الصادق في علمه في منهاج الله.
والحديث الذي يرويه حذيفة رضي الله عنه: " لا تكونوا إمّعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا. ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا فلا تظلموا. " (7).
ولا ننسى أن كلّ قضيّة عُرِضَت هنا لا تستكمل تصوّرها الإيماني إلا إذا توافر الشرطان الرئيسان لكل عمل في حياة المسلم. وهذان الشرطان هما:
ـ صفاء الإيمان والتوحيد.
ـ صدق النيّة وإخلاصها لله.
أما صفاء الإيمان والتوحيد فنشير هنا إلى نقاط رئيسة عاجلة أهمها: التخلص من العصبيات الجاهليّة التي تقطع أُخوّة الإيمان وتفرّق المسلمين، ليكون الولاء الأول لله والعهد الأول مع الله، والحب الأكبر هو الله ورسوله، ومن هذا تنشأ كل موالاة أو عهد أو حب في الحياة الدنيا، مما يجمع المسلمين على صراط واحد مستقيم، أمّة واحدة وصّفاً واحداً كالبنيان المرصوص. ومن أجل ذلك يظل المؤمن يجاهد في نفسه حتى يرتقي تصوّره الإيماني في صحبة منهجيّة لمنهاج الله صحبة عمر وحياة لا تتوقف. فيصفو بذلك تصوّر الألوهية وتصور الربوبية من خلال الآيات والأحاديث، وتصور عبودية الإنسان لربه وخالقه كذلك.
والناحية الثانية المرتبطة بالأولى هي إخلاص النية لله، لتكون النيّة نيّة واعية يقظة. فمن شروط ذلك أن يحدد المسلم هدفه ويطمئنّ إلى أنه هدف ربّاني، ثم يحدّد الدرب الذي يوصل حقّاً إلى الهدف، حتى لا يجد نفسه بعد حين في ناحية يسير فيها، والهدف في ناحية أخرى، ويحدّد الوسائل والأساليب الضرورية لتحقيق الهدف على الدرب المحدد. الهدف والدرب والأساليب كلها يجب أن تكون ربانيّة، لتصبح النيّة إشراقة في النفس وجمالاً ويقظة في القلب ووعياً.
نخلص من ذلك إلى أن نقرر الأسس الإيمانيّة التي يجب أن تتوافر والتي يقوم عليها الفقه والإدارة وفقه الإدارة. نوجزها كما يلي:
1ـ صفاء الإيمان والتوحيد وصدقهما.
2ـ إخلاص النيّة لله يقظةً ووعياً.
3ـ العلم بمنهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربيّة ـ في صحبة منهجيّة، صحبة عمر وحياة.
4ـ وعي الواقع من خلال منهاج الله: دراسة وبحثاً.
5ـ أن يدرك المسلم أن له مهمّةً في الحياة خُلِقَ للوفاء بها، وأنها هي أساس تكريم الله للإنسان.
6ـ أن يدرك المسلم أن عليه مسؤولية فرديّة فرضها الله عليه، وأنه سَيُحاسَب عليها يوم القيامة.
7ـ أنّ هذه المسؤولية يجب أن يستوعبها وسعه الصادق الذي وهبه الله له، والذي سيحاسِبه عليه، لا الوسع الكاذب الذي قد يدّعيه في أعذار متراخية ليتهرّب من مسؤولياته.
ومن بين هذه الأسس، نودّ أن نلفت النظر إِلى أساسين نعتبرهما ركني الفقه، وكل ركن يشمل قسماً من الأسس السابق ذكرها. هذان الركنان هما:
ـ المنهاج الرباني.
ـ الواقع الذي يُفهَم من خلال المنهاج الرباني.
فلا فقه دون المنهاج الرباني، ولا فقه دون الواقع. ذلك لأن الفقه يتناول قضيّة من قضايا الواقع، فيردها إلى منهاج الله، فيقوم الفقه على الركنين معاً.
فلا يوجد إذن فقه للواقع وفقه لغير الواقع. الفقه كله للواقع، والفقه كُلُّه من منهاج الله، ومنهاج الله والواقع هما ركنا الفقه كله. ولذلك نرى أنه لا يستقيم مصطلح " فقه الواقع " .
ولا بد من أن نحذر من أن يضغط الواقع علينا ، فيدفعنا إِلى تأويل فاسد لبعض الآيات والأحاديث، في محاولة لتسويغ واقع منحرف أو باطل ممتد.
وقد برز في عصرنا الحديث اجتهادات غير قليلة في ميادين متعدّدة انساقت مع واقع منحرف وباطل ممتد، فأحلّت بعض ما حرّم الله، وحرّمت بعض ما أحلَّ الله، أو مضت في تنازلات عن بعض قواعد الإسلام.
إن من بين ما نعانيه من مشكلات اليوم هو جهل الملايين من المسلمين بدينهم وبلغة قرآنهم، وهجرهم لكتاب الله ولسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى انصرف الكثيرون عن مسؤولياتهم الفرديّة كلها أو بعضها، وأصبح الصالح الجاهل يلجأ في أبسط الأمور إلى العالم ليفتي له، دون أن يشعر بأهميّة ما فرض الله عليه من طلب العلم من منهاج الله، ليأخذ قدر وسعه، وليعلم حكم كثير من الأمور التي يسأل عنها، وليرى أن معرفة ذلك لا يأخذ منه جهداً كبيراً، وإنما يساهم في مسيرة أُمة تريد إعلاء كلمة الله، وينهض بالأمانة التي حملها والتي سيحاسَب عليها بين يدي الله.
وقد تجد الرجل يبذل الجهد العظيم ويسهر الليل الطويل لينال أعلى الدرجات العلمية في الطب والهندسة وغيرها من العلوم غير الميسّرة، ويظل جاهلاً بدينه، هاجراً للقرآن الكريم والسنة النبوّية واللغة العربيّة، كأن ذلك أمر لا يعنيه، وكأنه لا يدرك أن الله فرض عليه دراسة الكتاب والسنة وجعل دراستهما ميسّرة لمن صدق في نيّته وعزيمته.(/3)
من هنا نرى أنه لا بد للمسلم أن يعرف ما يعنيه وما لا يعنيه على أساس واضح من منهاج الله وأحكامه. ولا يتوافر ذلك للمسلم إلا إذا استوفى الأسس التي سبق ذكرها من نيّة صادقة وإيمان صاف وعلم بمنهاج الله وغير ذلك، حتى ينال بذلك ما يحسِّن إيمانه، حسب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه " (8)
وهذا الحديث الجامع يكاد يشمل القواعد التي سبق ذكرها كلها. فأنَّى لأحد من المسلمين أن يعرف ما يعنيه وما لا يعنيه على صورة ترضي الله سبحانه وتعالى إذا كان واهي الإيمان خالي الزاد من منهاج الله، غلبته أهواؤه ومصالحه وشهواته. إن ممارسة هذا الحديث العظيم الذي اعتبره العلماء أحد أربعة أحاديث تدور عليها الأحكام، تتطلب توافر الشروط والأسس السابق ذكرها في المسلم وفي المجتمع المسلم.
هذا الحديث يضع قاعدة فقهيّة وإداريّة يتميّز بها الإسلام، من جملة ما يتميّز به، من المناهج البشريّة الوضعيّة. إن هذا الحديث يريد من المسلم أن يكون يقظاً واعياً، تحركه حوافزه الإيمانيّة ومبادراته الذاتيّة. وإنه يريد من المجتمع المسلم أن يكون حياً متفاعلاً، يُقبل الجميع على العلم، فيأخذ كلٌّ قدر وسعه الصادق، ثم يتمايزون بالمواهب المشرقة التي يهبها الله لمن يشاء من عباده. إن هذا الحديث الشريف وسائر قواعد الإسلام، لا يجعل المسلمين قطيعاً يساق، ولا قطيعاً مخدّراً، ولا قطيعاً مكبلاً. فكثير من المبادئ البشريّة الوضعيّة التي يضج بها الإعلام صباحَ مساءَ تحمل من الزخرف الكثير، الزخرف الذي لا تجد منه في الواقع إلا القليل، عمائر ومصانع وشعارات تجرّد الإنسان من فطرته وجوهر إيمانه، وتعطل كثيراً من قواه الإيمانيّة، وتقذف به مع عمائره وأسلحته ومصانعه وعلومه في جهنم إلا من رحمه الله فنجا. في مثل تلك المجتمعات التي تربّى الإنسان على مبادئها المادية، يعرف الإنسان فيها ما يعنيه من حاجات ماديّة، فتنطلق المظاهرات بسبب خفض الأجور، أو تسريح العمال، أو انتشار البطالة، أو حرمانهم من الخمور أو اللهو الفاحش، ولكن لا يشعرون بأنهم فقدوا أهم حاجاتهم، حاجات الإيمان والتوبة إلى الله، والاستعداد لليوم الآخر. وإن البحث العلمي والصناعة والعمائر وكل المظاهر الماديّة يجب أن تكون قوة خادمة للإيمان ومتطلباته، ودافعة إليه، ناشرة الخير والحق، ومانعة للخمور والزنا والفواحش كلها. إن الناس يساقون هناك أفواجاً أفواجاً إلى هلاك محقق، بعد أن فرحوا بزينة عارضة، ولهو كاذب، ومتع زائلة، فيها يبحث الإنسان عما يريده ويعنيه من شهوات ومصالح دنيوية، ومنها تنطلق نظريات الإدارة وفقهها لتحمي مصالح تلك الطبقة المجرمة المستغِلّة المتنعّمة بحقوق ليست لها، ولتصرف العامة عن حقوق لهم وواجبات عليهم، وتنسيهم إياها بالفتنة والتخدير، أو القوة والبطش.
نظريات الإِدارة ستخرج من هذه الأجواء، فيها ضبط ونظام، وقواعد، وقوانين، تحمي هذا كله.
في الإسلام قواعد إيمانيّة تبني الإنسان المؤمن على النحو الذي أمره الله به، وتوفر الوسائل لتحقيق ذلك. إنها تبني الإنسان الذي يعرف مهمته في الحياة، مهمته التي خلقه الله للوفاء بها، ويعرف مسؤولياته، ويعرف ما يعنيه وما لا يعنيه ليرضي ربّه وخالقه الله الذي لا إله إلا هو، طاهراً من الفواحش، بريئاً من الشرك، ومن العصبيات الجاهليّة التي حطمت البشريّة على مدار التاريخ. وإذا كان واقع المسلمين اليوم يشهد خلاف ذلك، يشهد الجهل الذي يعمُّ الملايين، والتيه الذي فيه يغيبون، والعلل والأمراض المتفشيّة، فتلك مسؤولية الإنسان نفسه وليست مسؤولية الإسلام.
إن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان عبثاً:
( أفحسِبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون )
[ المؤمنون: 115 ]
وكذلك لم يترك الله خلقه سدى، بل وفّر لهم الإمكانات التي تعينهم على الوفاء بالمهمة التي خُلِقوا لها:
( أيحسب الإنسان أن يُترَك سدى )
[ القيامة: 36 ]
لقد أنعم على الإنسان نعماً لا تعدُّ ولا تحصى، فبدّلها المجرمون لغير ما أراد الله بها. وكان من أهم ما أنعم الله به على الإنسان الفطرة السوّية السليمة التي يجب أن تكون منطلقة في الحياة على إيمان ونهج ربّاني.
لذلك نقول إن الحقَّ الأول للإنسان هو حماية فطرته التي فطره الله عليها، الحقُّ الذي تجاهلته حضارة العصر الحديث، فادَّعوا حقوقاً للإنسان جعلوها شعاراً وما جعلوها حقّاً يُلتزم، ولم تكن حماية الفطرة من بينها، ولا حماية الأعراض والأرواح !
هذه الأسس والقواعد التي عرضناها، والتي منها ينطلق الفقه والإِدارة الإِيمانيّة، تحتاج أن تكون كذلك من أسس التربية والبناء في الإسلام، ومن أسس التدريب والإعداد، وأن توضع النظريات والمناهج لتحقيق ذلك في واقع الحياة. فتربط الإدارة وفقهها بميدان التربية والتدريب، التربية المنهجية والتدريب المنهجي، ليكون الجيل المؤمن الذي يلتزم عهده مع الله ويوفي به.(/4)
وبذلك يأتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجمع ويؤكد، وذلك في الحديث الذي يرويه عدد من الصحابة رضي الله عنهم:
" من يرد الله به خيراً يفقِّهه في الدين " (9)
ليعرف الإنسان مهمته مسؤوليته ودينه، وليقيم إدارته على أسس فقهية راسخة.
وأخيراً ما هو الفقه:
الفقه هو أولاً معرفة النصّ من الكتاب والسنّة وإدراك معناه ومداه وممارسته، وعلاقته بالقضية المطروحة في أيّ ميدان من ميادين الممارسة الإيمانيّة، كلٌّ في حدود وسعه ومسؤولياته. ويمتد الفقه مع امتداد ميادين الحياة، ومع امتداد المسؤولية الفردية.
وربط الإسلام الفقه بالحكمة وربط الحكمة بالكتاب وآياته:
( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولوا الألباب )
[ البقرة: 269 ]
ومن السهل أن نربط بين هذه الآية وبين الحديث الشريف: " من يرد الله به خيراً يفقِّهه في الدين ". وفي الحديث الشريف:
" لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها " (10).
فارتبطت الحكمة بالقضاء وفقهه وبنشر العلم وامتداده. وما أحوج الإدارة الإيمانية إلى الحكمة والفقه والعلم. وهل يمكن أن نقوم بغير ذلك ؟ !
(1) الحديث: كلكم راع...: عن ابن عمر رضي الله عنه أخرجه أحمد، والشيخان، وأبو داؤد والترمذي، وفي صحيح الجامع الصغير وزيادته ( ط: 3) ـ ( رقم: 4569 ).
(2) الحديث: طلب العلم: عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم. أخرجه ابن عدي في الكامل، والبيهقي، والطبراني في الوسط والصغير. صحيح الجامع الصغير وزيادته: ( رقم: 3913 ).
(3) الحديث: بني الإسلام...: أخرجه أحمد والشيخان والترمزي والنسائي. صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني: ( رقم: 2840). ويراجع كتاب: " الفقه " امتداده وشموله في الإسلام بين المنهاج الرباني والواقع: للمؤلف.
(4) حديث عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله.... : مقدمة صحيح مسلم.
(5) يراجع كتاب " المسؤولية الفردية في الإسلام: أسسها، تكاليفها، تميّزها " للمؤلف.
(6) الحديث: استفت قلبك: أخرجه البخاري: 93/1/7138 .
(7) الحديث: " لا تكونا إمعة... " أخرجه الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه: 28/63/2006 .
(8) الحديث: " من حسن إسلام المرء.. " أخرجه أحمد ـ الفتح: 1/19،88/257. وأخرجه الطبراني في الكبير وفي الوسط، والترمذي، وابن ماجه.
(9) الحديث " من يرد الله به خيراً.. " أخرجه أحمد والشيخان عن معاوية والترمذي عن ابن عباس، وابن ماجه عن أبي هريرة.
(10) الحديث: لا حسد... " البخاري: 93/3/7141.(/5)
فقه الائتلاف الطريق إلى الوفاق
الشيخ محمد سيد حاج*
المقدمة
إن من الضرورات الملحة في عصرنا هذا الذي هو عصر التكتلات والتحالفات، أن تجتمع كلمة المسلمين، وأن يتكتل أهل الإسلام، وأن يتحالف المسلمون للحفاظ على دينهم وعقيدتهم وقيمهم، بل وأموالهم ومكتسباتهم، ولكن الملاحظ مع خطورة المرحلة التي يمر بها العالم الإسلامي، ومع وجود كيد أعدائه، ومع قناعة الجميع بضرورة الوحدة واجتماع الكلمة ونبذ الفرقة، إلا أنها في طور الأماني والأحلام، وأحياناً حبيسة التنظير والأوراق والسطور، ولا ننكر أنه توجد عقبات، ولكن هذا لا يمنع أن نأخذ الموضوع مأخذ الجد والقيام بمبادرات فاعلة وقوية.
و لذلك لما عهد إليّ الأخوة الكرام الكتابة في موضوع العمل الإسلامي بين الافتراق والاتفاق فأجبتهم للكتابة عبر الائتلاف.
المحور الأول: فقه الائتلاف لماذا؟
(1) كثيراً ما تطرح قضية الاتفاق والوحدة الإسلامية، كل ذلك في الإطار النظري المتفق عليه، لكن الخطوة الأهم أن ننفذ للحديث عن أسباب الائتلاف والسبيل إليه.
(2) كما أن فقه الائتلاف هو الفقه الغائب، الذي يؤسس للوحدة الإسلامية عبر الإلفة والوئام، ويجعل هذا أصلاً مرعياً يُتحرى ويحرص عليه "حيث إن الإسلام يدعو إلي الإلفة والتحاب والتراحم والتعاطف، فكل ما أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين"(1)، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "من القواعد العظيمة التي هي جماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وإصلاح ذات البين. وأهل هذا الأصل هم أهل السنة والجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفُرقة"(2). وكذلك نصوص القرآن والسنة كثيرة في هذا الباب، فهي تحث عليه، كقوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم...)(3).
وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))(4) ، وقوله: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان))(5) ، و قوله: ((المؤمن مرآة المؤمن والمؤمن، أخو المؤمن يكف عليه ضيعته، ويحطه من ورائه))(6).
كما أن هذا الموضوع فيه رعاية لأصول أهل السنة والجماعة، الذين يحرصون ــ علماً وعملاً ــ على الائتلاف، ويهتمون بأمر المسلمين من أهل القبلة وذلك واضح في الآتي:
(1) القيام بالنصيحة لهم، والحرص على هدايتهم، والشفقة عليهم.
(2) محاربة البدع، ونشر السنة؛ رحمة بأهل القبلة.
(3) الصلاة خلف المبتدع الذي لم يخرج ببدعته عن الإسلام، والتفريق بين تركها هجراً لهم وبين صحة الصلاة خلفهم، ومراعاة المصالح والمفاسد فيها(8)، "وكذلك التفريق في هجر المبتدع بين الداعي إلى بدعته والساكت عنها"(9).
(4) التعاون مع أهل البدع الذين لم يخرجوا ببدعهم عن الإسلام في المجالات التي لا خلاف فيها في دائرة الحق، "فإن كل طائفة معها حق وباطل؛ فالواجب موافقتهم فيما قالوا من الحق، ورد ما قالوه من الباطل، ومن فتح الله له هذا الطريق فقد فتح له من العلم والدين كل باب ويسر عليه من الأسباب"(10)، والتعاون "مع أهل البدعة على أن لا يؤدي إلى حصول مفسدة أعظم، أما إذا حصلت مصلحة أعظم من مفسدة بدعته أو لورود مفسدة أكبر حصل التعاون"(11)، كما ينبغي ألا يتخذ المبتدع هذا التعاون ذريعة لنشر بدعته، ومن ذلك الجهاد مع الإمام المبتدع "كما كان الإمام أحمد بن حنبل يرى الجهاد مع المأمون والمعتصم"(12).
كل هذا الذي ذكرنا أمثلة على رعاية أهل السنة بمنهج وسط لقضية الائتلاف وفقهه.
المحور الثاني: مدخل عبر فقه الخلاف
(1) من أكبر إشكالات الساحة ليس وقوع الخلاف فيها، ولكن تملُّك الخلاف واستغراقه للمسلم؛ مما ينسيه المعاني الجامعة، والكليات العامة، والقواعد الأصيلة، والقضايا المشتركة؛ ومن هنا تضطرب الموازين، وتختل المعايير، وتختلط المواقف، وهذا خلل في فهم الإسلام، وخلل في تربية المسلم تؤدي إلى التظالم والتباغض والبراء من المخالف، وإن كان أحب إلى الله من الموافق، واتباع الظن "مثلما يقع بين أهل الأهواء الخارجين عن السنة والجماعة، والتفرق والاختلاف والطعن والتشهير بدل الاجتماع والائتلاف والموالاة في الله، مما يؤدي إلى شك كثير من الناس وطعنهم في كثير مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من روايات وآراء"(13).
(2) حتمية الخلاف لا تعني الاستسلام له والاسترسال معه، ولأن الشرع يحض على الائتلاف ويحرص عليه، ثم إذا وقع الخلاف في مسائل الاجتهاد أمر بالأدب عند الخلاف؛ صيانة لأصل الوحدة والائتلاف، "فإن السلف تنازعوا في مسائل علمية اعتقادية مع بقاء الجماعة والإلفة"(14).
(3) تحديد مساحات الخلاف بدقة: فكثيراً ما يقع الخلاف دون أن يحصل تحديد لمسائله، ولو حُدِّدت المسائل تحديداً علمياً للمصطلحات لربما حصل اتفاق، لذلك لا بد من تحديد مساحات الخلاف بدقة هل هو:
(أ) اختلاف تنوع كالاختلاف في التفسير والقراءات وما يحتمله النص.(/1)
(ب) اختلاف تضاد سائغ ومعتبر، "كسماع الميت ــ تعذيب الميت ببكاء أهله ــ ورؤية المنافقين لربهم يوم القيامة ثم يحتجب عنهم"(15).
(ج) اختلاف تضاد غير سائغ "في أصول الإيمان ــ مواضع الإجماع ــ مخالفة نص ظاهر الدلالة والحجة"(16)، "كما أن التأويل السائغ الذي يعذر به المرء ما كان سائغاً في لسان العرب وكان له وجه في العلم"(17).
(4) الوقوف على أسباب الخلاف يساعد على الائتلاف من خلال معرفة الخلاف وأسبابه لتفاديها والابتعاد عنها، وخاصة الخلاف الذي يؤدي إلى الفرقة.
إن أسباب الخلاف والفرقة ترجع إلى سبب واحد في الغالب، وهو عدم الأخذ بالشريعة كلها علماً وفهماً وعملاً، فإما في المفاهيم التي لم تستوعب القطعي من الاجتهادي في الشريعة، أو لخلل في التزكية يفضي إلى الأهواء والعصبية.
التفصيل في أسباب الخلاف:
(أ) العصبية:
(لرأي أو شيخ أو حزب أو قبيلة أو...) وهذا أكبر إشكالات العمل الإسلامي الذي يجعل الحزب أو الجماعة أو المجموعة أو الشيخ هو الإسلام كله وغيره خارج عن الإسلام، بل لا يرى الفرد أخطاء جماعته أو شيوخه، ولكنه يترصد أخطاء الآخرين ممن ليس معه في حزبه أو جماعته.
إن التقوقع حول جماعة أو شيخ أو حزب أو مذهب لدرجة التعصب هذا مما مقته الشارع؛ لأنه يؤدي إلى رد الحق وعدم العدل والإنصاف، الذي يقوم على النظر الشرعي الصحيح، بأن يُحَب الرجل بقدر ما فيه من طاعة، ويُبغَض بقدر ما فيه من معصية، وأن يقبل المسلم الحق، وأن ينشد الحكمة التي هي ضالته، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "... فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه، أو طائفته، أو الرياء ليُعظّم هو ويُثنى عليه، أو لغرض من دنيا؛ لم يكن لله ولم يكن مجاهداً في سبيل الله"(18).
(ب) فقدان جسور الثقة بين الأطراف:
واقع العمل الإسلامي أنه قائم على جماعات وطوائف، لكل منها دورها في مسيرة الإسلام، لكن الصعوبة في التقاء هذه الجماعات، لأنها تتعامل مع فكرة وحدة العمل الإسلامي بشيء من التشكك وفقدان الثقة وخوف الاستقطاب والتذويب، مع قناعتها بضرورة الوحدة الإسلامية في المرحلة القادمة، وأحياناً تخشى القيادات من قواعدها، والشيوخ من شبابهم الذين حولهم ممن لا يريدون الوحدة حتى لا ينفضوا عنهم.
(ج) الجهل:
والذي يفضي إلى عدم التفريق بين ما هو قطعي وبين ما هو اجتهادي.
و الجهل بآداب الإسلام وأخلاقه في التعامل مع المخالف، والجهل بالعواقب، ومن تأمل سير السلف الصالح وجد فيها من الأخلاق، وتقدير المسائل قدرها، فهم لا يجاملون في الحق، ولا يعنفون في مسائل الاجتهاد.
(د) التباين في المواقف القائمة على المصالح والمفاسد:
هذا باب يقع الخلاف فيه كثيراً؛ لأنه يقوم على التقدير، والتباين والاختلاف في تقدير البشر أمر لا بد منه، وضابط ذلك أن يكون من أهل العلم؛ ليكون له وجه من العلم، وأن لا يؤدي إلى فرقة وإلى نقض عرى الأخوة الإسلامية التي هي أصل والموقف المختلف عليه طارئ، ومن ذلك الاختلاف في الوسائل المشروعة، أما اختلاف الأهداف فاجتماع أهله متعذر وحتى ولو اجتمعوا أجساداً فسيتفرقون مناهج وأفهاماً.
(هـ) أسباب فقهية:
كاختلاف الفقهاء في حجية بعض المصادر مثل (العرف، وعمل أهل المدينة، والمصلحة المرسلة، والاستحسان، والاستصحاب..إلخ)، أو اختلافهم في ثبوت النص حيث يصح عند بعضهم حديث ولا يصح عند آخرين، أو اختلافهم في دلالة النص وفهمه بعد سلوك طريق الفهم الصحيح، "كما أن مجالات الشريعة قابلة للأنظار ومجال للظنون، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها فالنظريات عريقة في إمكان الاختلاف فيها"(19).
"ومن جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموماً معيباً ممقوتاً فهو مخطئ ضال مبتدع"(20).
المحور الثالث: كيف نضيِّق الخلاف؟
إننا نسعى لائتلاف الصف المسلم، وتوحد العمل الإسلامي، واجتماع كلمة المسلمين ضد خصومهم من أعداء الملة والأمة، وفي سبيل ذلك لا بد من أمور وهي:
(1) استحضار أن الأصول والغايات والطريق والمقاصد واحدة:
إن النظر إلى الكليات دون الجزئيات، وإلى الغايات والمقاصد وتعظيمها،وقدرها القدر الصحيح، عاصمٌ بإذن الله من الفرقة، حتى ولو وقع الخلاف. ولذلك يقول ابن القيم: "اختلاف الصحابة لم يضر؛ لأن الأصل الذي بنوا عليه واحد، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والقصد واحد، وهو طاعة الله ورسوله، والطريق واحد، وهو النظر في أدلة القرآن والسنة وتقديمها على كل رأي وقياس وذوق وسياسة"(21).(/2)
إننا بحاجة أن نٌذكِّر بعضنا أن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وأن ما يوحدنا أكثر مما يشتتنا، وهنا لا بد أن نُذكِّر بأن جماعة أو طائفة إن اختلفنا معها فإنَّ كلياتهم ومقاصدهمٍ بالجملة على خير، وإن حصل بعض الخلل والانحراف في مسائل فلا بد من رعاية قصدهم وأهدافهم وغاياتهم وعدم تضييعها، بل والاستفادة من مقاصدهم وأهدافهم في نصحهم وتقويمهم وتصحيح أخطائهم.
(2) الخروج من الخلاف إحتياطاً:
إن قاعدة الخروج من الخلاف جُعلت سداً لباب الفرقة وتمهيداً للائتلاف، ومثال ذلك إذا كان الخلاف بين التحريم والجواز، فالاجتناب أفضل خروجاً من الخلاف، وإذا كان بين الاستحباب وعدمه فالخروج من الخلاف بالفعل. ومن أمثلة ذلك ما جاء في كراهية المالكية للبسملة في الصلاة "وكان المازري المالكي يبسمل سراً في الفرض، فيقول: مذهب مالك من لم يبسمل في الصلاة لا تبطل صلاته، ومذهب الشافعي من لم يبسمل في الصلاة بطلت صلاته. وصلاة متفق عليها خير من صلاة قال أحدهما ببطلانها"(22).
(3) تجنب أسباب الخلاف:
بعض الخلاف المثار وخاصة بين الطلاب أكثر مما هو بين الشيوخ، وذلك لبعدهم عن تحديد مسائل الخلاف بدقة؛ لأن فائدة تحديد الخلاف أنه يضيق الخلاف في حدود ضيقة، وقد يؤدي تحديد الخلاف إلى اتفاق ومثال ذلك:
(أ) تحديد المصطلحات والمفاهيم أولاً قبل الخلاف.
(ب) تحديد التعريف بالمسألة أولاً قبل الخلاف في حكمها.
كما أنه علينا ألا نختلف حول المثال كثيراً قبل الحديث عن القاعدة لأن الاتفاق حول القاعدة يضيق ويهون الاختلاف حول المثال. وكذلك الاختلاف حول الشخص قبل الفكرة مشكلة؛ إذ أنه إذا تم الاتفاق حول الفكرة والمبدأ فالأشخاص أمرهم هين.
(4) الاقتصار على الشريعة المباركة ومصادرها الصحيحة:
و ذلك بلا شك يضيق الخلاف والفرقة، ويؤدي إلى الوحدة والائتلاف، لأن وحدة المصادر أقوى، كما أن رجوع الجميع إلى الشريعة يعصمهم، حيث يقول تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)(23)، كما أن الأخذ بمقاصد الشريعة أيضاً يضيق الخلاف.
المحور الرابع: معالم في طريق الائتلاف
(1) النظر فيما هو متفق عليه:
وإعطاؤه مساحة أكبر من الخلاف "لننظر إلى اتفاقنا حول أصول الإسلام، وأركان الإيمان، والقبلة الواحدة، وحجية القرآن والسنة، وحب الصحابة وإجلالهم، وتحريم المحرمات الظاهرة واعتقاد حرمتها، وإلى غير ذلك كثير...".
(2) النظر إلى العدو المتربص الشامت:
بكل فصائلهم وأجنحتهم ومذاهبهم، ولربما وقف العلمانيون مع النصارى لحرب الإسلام والمسلمين، فأين أهل القبلة وأصحاب الملة والشرعة القويمة؟ وإن العدو يفرح بعداء بعضنا لبعض؛ لأنه بذلك يرتاح من توجيه سهامنا له، ولأنه يفرح بتمزيقنا وحالقة ديننا، وعندها فلا نقف ضد المد الإلحادي، ولا الانحراف العقدي، والعبث الأخلاقي.
(3) الدعائم الأخلاقية:
في تقديري أهم ما يدفع الائتلاف للأمام مع العلم وبعد النظر وتلمح العواقب هو رعاية الأخلاق والتجرد واكتساب الخلق مع المعرفة. وتفصيل ذلك في الآتي:
(أ) الإخلاص والتجرد من حظوظ النفس:
وعلينا أن نعلم، أيها الإخوة، أننا إن أردنا وحدة إسلامية حقيقية علينا أن نتعامل معها ومع بعضنا بصفاء وشفافية، لأن بعض الناس ينادي إلى وحدة إسلامية فإذا بادر غيره من الجماعات أو الأفراد لذلك تجده لا يستجيب، بل قد يترك من هم أقرب إليه في الأصول والمصادر ويتفق مع من هم أبعد منه، وهذا قد يولد حساسية وتشككاً حول مصداقية هذه الوحدة الإسلامية.
(ب) البعد عن التعصب المهلك:
و لقد كان من أخلاق السلف تمني جريان الحق على قلب ولسان خصومهم، وكما أنهم ما كانوا ينظرون إلى القائل إنما ينظرون إلى القول. وتأمل كلام الشنقيطي في أضواء البيان: "إننا ننظر إلى ذات القول لا إلى قائله، لأن كل كلام فيه مقبول ومردود، إلا كلامه صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الحق حق ولو كان قائله حقيراً"(24).
ومن البعد عن التعصب الاعتراف بالخطأ، وذلك له أثر فاعل في تقريب وجهات النظر، وإعطاء الآخر شعوراً بالصدق والتجرد وطلب الحق.
(ج) إحسان الظن:(/3)
من أكبر الدعائم الأخلاقية في الائتلاف بين المسلمين إحسان الظن، الذي يؤدي إلى احتمال اجتهاد الآخرين، وتقبل آرائهم، بعيداً عن الطعن في النوايا، والحديث عن المقاصد، وهذه آفة العمل الإسلامي والدعوي بين الفصائل المختلفة، بل أحياناً إذا وقع الخلاف داخل فصيل واحد يتضخم ويكبر بسبب سوء الظن، فقد يكون الخلاف اجتهادياً وتقديرياً، ولكن سوء الظن يصوره أنه خلاف كبير، والغرض منه تدمير الدعوة أو هدم الإسلام، أو أنه مرتبط بجهات مشبوهة، إلى غير ذلك من المطاعن والملاعن القائمة على سوء الظن عياذاً بالله تعالى. ومن تأمل في منهج القرآن في تربية المجتمع المسلم يجد الحث على حسن الظن في قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرً..)(25)، وقوله في الحجرات: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم)(26). وقوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث). ومن المعالم التربوية المهمة في هذه القضية لما بركت القصواء في طريقها إلى مكة قال عنها الصحابة رضوان الله عليهم: خلأت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما خلأت القصواء، وما ذاك لها خلق، ولكن حبسها حابس الفيل))(27). قال ابن حجر رحمه الله: "وفيه جواز الحكم على الشئ بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها"(28)، لقد دافع النبي صلى الله عليه وسلم عن القصواء بما عرف عنها من خلق قديم أفلا نلتمس العذر للدعاة والفضلاء؟
(د) عدم تصيد الأخطاء وتضخيمها:
وهذا نتيجة طبعية لسوء الظن، وإن الأخطر من ذلك الفرح بالزلة، لتُملأ الدنيا بها ضجيجاً، مع الترصد وهذا هو الذي يفضي إلى تضخيم الأخطاء. "وأما البحث عن الهفوات وتصيدها فذنوب مضافة أخرى، والرسوخ في الإنصاف بحاجة إلى قدر كبير من خلق رفيع ودين متين"(29).
(4) إنصاف أهل القبلة:
وذلك بالدعاء لهم، وحبهم بالجملة، والشفقة عليهم إذا أخطأوا، وأخذهم بالظاهر، كما أن الأصل فيهم السلامة ((إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس، ولا لأشق بطونهم))(30). كما أن إنصاف المسلمين يكون بسلامة الصدر تجاههم، وصيانة القلوب من الغل والغش والحسد والبغضاء تجاههم جميعاً. ومن الإنصاف المطلوب إغفال هفوات من غلب خيره على شره مع إعمال فقه النصيحة.
(5) التوازن والتوسط في الأمور:
التوازن في الحب، والتوازن في البغض، يساعد على الائتلاف؛ لأنه إعمال لقاعدة: أن الجماعة أو الطائفة والرجل قد يجتمع فيهم الخير والشر وموجبات الحب وموجبات البغض، فيكون الحب بقدر ما فيهم من طاعة، ويبغضوا بقدر ما فيهم من معصية. كما أن التوازن يساعد على النظر الصحيح في تقويم الأخطاء بدون تهوين ولا تهويل، والتوازن في الأمور يجعل المسلم يقبل الحق من الحبيب ومن البغيض، والتوازن في الأمور يجعل عند المسلم القابلية والمرونة في التعامل مع المخالف له في باب التعاون على البر التقوى.
المحور الخامس: توصيات ومقترحات
أشعر بأننا بحاجة ماسة إلى النفاذ إلى برامج عملية لإنزال فقه الائتلاف بيننا؛ لتحصيل الاتفاق في العمل الإسلامي، وهذا يحتاج إلى قدر كبير من الصبر على هذه الفكرة، والصمود عليها، وعدم اليأس من تحقيقها، كما تحتاج الفكرة إلى قدر كبير من الشفافية والصفاء والوضوح؛ لنحصل على وحدة إسلامية حقيقية فاعلة، كما علينا أن نستصحب الواقع الموجود في ساحة العمل الإسلامي من وجود كيانات تخشى التذويب أو التجاوز أو تتوجس خيفة على كيانها وجماعتها.
أقترح وأوصي بالآتي:
(1) إدارة حوار واسع وواضح بين الفصائل والجماعات والأفراد المهتمين بهذا الأمر:
وذلك لإيجاد برنامج حد أدنى، يتفق عليه من النواحي الفكرية والمنهجية، وأن يقود هذه المبادرة العلماء وطلاب العلم والدعاة والمختصون في شكل حوار مثمر ومتأني. وهذا مفيد في أن هذا الحوار الشفاف قد يخرج بالشكل المتفق عليه بين الجميع لوحدة العمل الإسلامي وصور التعاون فيه، وقد يخرج بوثيقة فكرية وكليات منهجية وثوابت شرعية يتفق عليها لتكون دستوراً للجميع في المرحلة القادمة.
(2) نشر أدب الخلاف وفقه الائتلاف وثقافة الوفاق في المرحلة القادمة:
إن من أكبر معوقات الائتلاف هو وجود طلاب حول كل شيخ من الشيوخ وهم الأقرب إلى قلبه ومنهجه، وكذلك في الجماعات، ويظل ارتباط الشيخ بطلابه وآرائه أكبر من جماعة المسلمين ومصلحة الأمة. وكذلك الجماعات فقد تكون قياداتها واعية، ولكن قواعدهم وطلابهم يعتبرون هذا تضييعاً للقضية، ونوعاً من أنواع المداهنة للباطل وإلى غير ذلك من الألفاظ الثورية.
والتعامل مع هذه القضية من أوجه:
(أ) على الشيوخ والقيادات العلمية والدعوية أن يربوا أفرادهم على التوازن، وفقه الخلاف، وفقه الائتلاف من أول الأمر؛ حتى لا ينقلبوا عليهم في مسائل خلافية.(/4)
(ب) علينا جميعاً أن نؤثر على الساحة الدعوية، وأن نشكل الجميع، طالما أنهم موجودون في الساحة، وهنا سيحمل الطلاب والقواعد شيوخهم وقياداتهم على الائتلاف.
(3) بناء جسور الثقة بعمل اجتماعي كبير:
قد تبدو الهوة ــ لأول مرة ــ كبيرة بين الفصائل والتيارات الموجودة؛ لأسباب ترجع للتباين المنهجي، مع تباين المواقف، مع الإشكالات والصدام ولو بالكلام في الواقع، وترميم هذه الهوة تحتاج إلى عمل اجتماعي من زيارات ولقاءات وجلسات أنس ومودة تبني شيئاً من الثقة قبل البدء في أي حوار أو نقاش أو مشروع. ويجب أن يكون هذا عفوياً وفي نفس الوقت مرتباً ليؤدي إلى النتيجة المطلوبة.
(4) التنسيق خطوة نحو الائتلاف:
وأعني بذلك علينا ــ ونحن نتعامل مع واقعنا ــ أن نتفق على أولويات العمل الإسلامي في المرحلة القادمة، ثم تقسم المهام على الجميع، وهذا يحفظ لكل فصيل أو جماعة أو تيار خصوصيته، كما يشغلهم بواجب المرحلة، ويساعد على بناء الأمة، واستثمار جهودهم، وهذا يتطلب مبادرة فكرية تطرح على الجميع وتقسم حسب الطاقات والإمكانات المتاحة والموجودة.
وختاماً أشكر الله تعالى أن يسر لنا هذا الملتقى، ثم أشكر القائمين على أمره، الحادبين على مصلحة الأمة، جزاهم الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
----------
(1) الشاطبي في الاعتصام 2/232.
(2) الفتاوى الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية 28/21.
(3) سورة الفتح: 29.
(4) صحيح البخاري رقم 6011، وصحيح مسلم رقم 2586.
(5) صحيح البخاري رقم 481، وصحيح مسلم رقم 2585.
(6) أبو داود رقم 4918.
(7) راجع منهاج السنة النبوية 1/63.
(8) الفتاوى الكبرى 6/53.
(9) طريق الهجرتين ص 286.
(10) راجع مجموع الفتاوى 28/212.
(11) مناقب الإمام أحمد ص 323.
(12) الفتاوى الكبرى بتصرف 22/356ــ360.
(13) الفتاوى الكبرى 19/123.
(14) الفتاوى الكبرى 6/53.
(15) الرسالة للشافعي.
(16) ابن حجر في الفتح 12/376.
(17) منهاج السنة 5/256.
(18) الشاطبي في الاعتصام2/168.
(19) الفتاوى الكبرى 11/15.
(20) الصواعق المرسلة 2/519.
(21) فقه الائتلاف، إعداد محمود محمد الخزندار ص 29.
(22) سورة آل عمران: 103.
(23) أضواءالبيان 1/6.
(24) سورة النور: 12.
(25) سورة الحجرات: 12.
(26) رواه البخاري في كتاب الشروط باب 15 حديث رقم 2731.
(27) الفتح 5/420.
(28) تصنيف الناس بين الظن واليقين، للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ص 78.
(29) صحيح البخاري، كتاب المغازي، حديث 62.(/5)
فقه الائتلاف.. الطريق إلى الوفاق
الشيخ محمد سيد حاج*
المقدمة
إن من الضرورات الملحة في عصرنا هذا الذي هو عصر التكتلات والتحالفات، أن تجتمع كلمة المسلمين، وأن يتكتل أهل الإسلام، وأن يتحالف المسلمون للحفاظ على دينهم وعقيدتهم وقيمهم، بل وأموالهم ومكتسباتهم، ولكن الملاحظ مع خطورة المرحلة التي يمر بها العالم الإسلامي، ومع وجود كيد أعدائه، ومع قناعة الجميع بضرورة الوحدة واجتماع الكلمة ونبذ الفرقة، إلا أنها في طور الأماني والأحلام، وأحياناً حبيسة التنظير والأوراق والسطور، ولا ننكر أنه توجد عقبات، ولكن هذا لا يمنع أن نأخذ الموضوع مأخذ الجد والقيام بمبادرات فاعلة وقوية.
و لذلك لما عهد إليّ الأخوة الكرام الكتابة في موضوع العمل الإسلامي بين الافتراق والاتفاق فأجبتهم للكتابة عبر الائتلاف.
المحور الأول: فقه الائتلاف لماذا؟
(1) كثيراً ما تطرح قضية الاتفاق والوحدة الإسلامية، كل ذلك في الإطار النظري المتفق عليه، لكن الخطوة الأهم أن ننفذ للحديث عن أسباب الائتلاف والسبيل إليه.
(2) كما أن فقه الائتلاف هو الفقه الغائب، الذي يؤسس للوحدة الإسلامية عبر الإلفة والوئام، ويجعل هذا أصلاً مرعياً يُتحرى ويحرص عليه "حيث إن الإسلام يدعو إلي الإلفة والتحاب والتراحم والتعاطف، فكل ما أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين"(1)، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "من القواعد العظيمة التي هي جماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وإصلاح ذات البين. وأهل هذا الأصل هم أهل السنة والجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفُرقة"(2). وكذلك نصوص القرآن والسنة كثيرة في هذا الباب، فهي تحث عليه، كقوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم...)(3).
وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))(4) ، وقوله: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان))(5) ، و قوله: ((المؤمن مرآة المؤمن والمؤمن، أخو المؤمن يكف عليه ضيعته، ويحطه من ورائه))(6).
كما أن هذا الموضوع فيه رعاية لأصول أهل السنة والجماعة، الذين يحرصون ــ علماً وعملاً ــ على الائتلاف، ويهتمون بأمر المسلمين من أهل القبلة وذلك واضح في الآتي:
(1) القيام بالنصيحة لهم، والحرص على هدايتهم، والشفقة عليهم.
(2) محاربة البدع، ونشر السنة؛ رحمة بأهل القبلة.
(3) الصلاة خلف المبتدع الذي لم يخرج ببدعته عن الإسلام، والتفريق بين تركها هجراً لهم وبين صحة الصلاة خلفهم، ومراعاة المصالح والمفاسد فيها(8)، "وكذلك التفريق في هجر المبتدع بين الداعي إلى بدعته والساكت عنها"(9).
(4) التعاون مع أهل البدع الذين لم يخرجوا ببدعهم عن الإسلام في المجالات التي لا خلاف فيها في دائرة الحق، "فإن كل طائفة معها حق وباطل؛ فالواجب موافقتهم فيما قالوا من الحق، ورد ما قالوه من الباطل، ومن فتح الله له هذا الطريق فقد فتح له من العلم والدين كل باب ويسر عليه من الأسباب"(10)، والتعاون "مع أهل البدعة على أن لا يؤدي إلى حصول مفسدة أعظم، أما إذا حصلت مصلحة أعظم من مفسدة بدعته أو لورود مفسدة أكبر حصل التعاون"(11)، كما ينبغي ألا يتخذ المبتدع هذا التعاون ذريعة لنشر بدعته، ومن ذلك الجهاد مع الإمام المبتدع "كما كان الإمام أحمد بن حنبل يرى الجهاد مع المأمون والمعتصم"(12).
كل هذا الذي ذكرنا أمثلة على رعاية أهل السنة بمنهج وسط لقضية الائتلاف وفقهه.
المحور الثاني: مدخل عبر فقه الخلاف
(1) من أكبر إشكالات الساحة ليس وقوع الخلاف فيها، ولكن تملُّك الخلاف واستغراقه للمسلم؛ مما ينسيه المعاني الجامعة، والكليات العامة، والقواعد الأصيلة، والقضايا المشتركة؛ ومن هنا تضطرب الموازين، وتختل المعايير، وتختلط المواقف، وهذا خلل في فهم الإسلام، وخلل في تربية المسلم تؤدي إلى التظالم والتباغض والبراء من المخالف، وإن كان أحب إلى الله من الموافق، واتباع الظن "مثلما يقع بين أهل الأهواء الخارجين عن السنة والجماعة، والتفرق والاختلاف والطعن والتشهير بدل الاجتماع والائتلاف والموالاة في الله، مما يؤدي إلى شك كثير من الناس وطعنهم في كثير مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من روايات وآراء"(13).
(2) حتمية الخلاف لا تعني الاستسلام له والاسترسال معه، ولأن الشرع يحض على الائتلاف ويحرص عليه، ثم إذا وقع الخلاف في مسائل الاجتهاد أمر بالأدب عند الخلاف؛ صيانة لأصل الوحدة والائتلاف، "فإن السلف تنازعوا في مسائل علمية اعتقادية مع بقاء الجماعة والإلفة"(14).
(3) تحديد مساحات الخلاف بدقة: فكثيراً ما يقع الخلاف دون أن يحصل تحديد لمسائله، ولو حُدِّدت المسائل تحديداً علمياً للمصطلحات لربما حصل اتفاق، لذلك لا بد من تحديد مساحات الخلاف بدقة هل هو:
(أ) اختلاف تنوع كالاختلاف في التفسير والقراءات وما يحتمله النص.(/1)
(ب) اختلاف تضاد سائغ ومعتبر، "كسماع الميت ــ تعذيب الميت ببكاء أهله ــ ورؤية المنافقين لربهم يوم القيامة ثم يحتجب عنهم"(15).
(ج) اختلاف تضاد غير سائغ "في أصول الإيمان ــ مواضع الإجماع ــ مخالفة نص ظاهر الدلالة والحجة"(16)، "كما أن التأويل السائغ الذي يعذر به المرء ما كان سائغاً في لسان العرب وكان له وجه في العلم"(17).
(4) الوقوف على أسباب الخلاف يساعد على الائتلاف من خلال معرفة الخلاف وأسبابه لتفاديها والابتعاد عنها، وخاصة الخلاف الذي يؤدي إلى الفرقة.
إن أسباب الخلاف والفرقة ترجع إلى سبب واحد في الغالب، وهو عدم الأخذ بالشريعة كلها علماً وفهماً وعملاً، فإما في المفاهيم التي لم تستوعب القطعي من الاجتهادي في الشريعة، أو لخلل في التزكية يفضي إلى الأهواء والعصبية.
التفصيل في أسباب الخلاف:
(أ) العصبية:
(لرأي أو شيخ أو حزب أو قبيلة أو...) وهذا أكبر إشكالات العمل الإسلامي الذي يجعل الحزب أو الجماعة أو المجموعة أو الشيخ هو الإسلام كله وغيره خارج عن الإسلام، بل لا يرى الفرد أخطاء جماعته أو شيوخه، ولكنه يترصد أخطاء الآخرين ممن ليس معه في حزبه أو جماعته.
إن التقوقع حول جماعة أو شيخ أو حزب أو مذهب لدرجة التعصب هذا مما مقته الشارع؛ لأنه يؤدي إلى رد الحق وعدم العدل والإنصاف، الذي يقوم على النظر الشرعي الصحيح، بأن يُحَب الرجل بقدر ما فيه من طاعة، ويُبغَض بقدر ما فيه من معصية، وأن يقبل المسلم الحق، وأن ينشد الحكمة التي هي ضالته، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "... فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه، أو طائفته، أو الرياء ليُعظّم هو ويُثنى عليه، أو لغرض من دنيا؛ لم يكن لله ولم يكن مجاهداً في سبيل الله"(18).
(ب) فقدان جسور الثقة بين الأطراف:
واقع العمل الإسلامي أنه قائم على جماعات وطوائف، لكل منها دورها في مسيرة الإسلام، لكن الصعوبة في التقاء هذه الجماعات، لأنها تتعامل مع فكرة وحدة العمل الإسلامي بشيء من التشكك وفقدان الثقة وخوف الاستقطاب والتذويب، مع قناعتها بضرورة الوحدة الإسلامية في المرحلة القادمة، وأحياناً تخشى القيادات من قواعدها، والشيوخ من شبابهم الذين حولهم ممن لا يريدون الوحدة حتى لا ينفضوا عنهم.
(ج) الجهل:
والذي يفضي إلى عدم التفريق بين ما هو قطعي وبين ما هو اجتهادي.
و الجهل بآداب الإسلام وأخلاقه في التعامل مع المخالف، والجهل بالعواقب، ومن تأمل سير السلف الصالح وجد فيها من الأخلاق، وتقدير المسائل قدرها، فهم لا يجاملون في الحق، ولا يعنفون في مسائل الاجتهاد.
(د) التباين في المواقف القائمة على المصالح والمفاسد:
هذا باب يقع الخلاف فيه كثيراً؛ لأنه يقوم على التقدير، والتباين والاختلاف في تقدير البشر أمر لا بد منه، وضابط ذلك أن يكون من أهل العلم؛ ليكون له وجه من العلم، وأن لا يؤدي إلى فرقة وإلى نقض عرى الأخوة الإسلامية التي هي أصل والموقف المختلف عليه طارئ، ومن ذلك الاختلاف في الوسائل المشروعة، أما اختلاف الأهداف فاجتماع أهله متعذر وحتى ولو اجتمعوا أجساداً فسيتفرقون مناهج وأفهاماً.
(هـ) أسباب فقهية:
كاختلاف الفقهاء في حجية بعض المصادر مثل (العرف، وعمل أهل المدينة، والمصلحة المرسلة، والاستحسان، والاستصحاب..إلخ)، أو اختلافهم في ثبوت النص حيث يصح عند بعضهم حديث ولا يصح عند آخرين، أو اختلافهم في دلالة النص وفهمه بعد سلوك طريق الفهم الصحيح، "كما أن مجالات الشريعة قابلة للأنظار ومجال للظنون، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها فالنظريات عريقة في إمكان الاختلاف فيها"(19).
"ومن جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموماً معيباً ممقوتاً فهو مخطئ ضال مبتدع"(20).
المحور الثالث: كيف نضيِّق الخلاف؟
إننا نسعى لائتلاف الصف المسلم، وتوحد العمل الإسلامي، واجتماع كلمة المسلمين ضد خصومهم من أعداء الملة والأمة، وفي سبيل ذلك لا بد من أمور وهي:
(1) استحضار أن الأصول والغايات والطريق والمقاصد واحدة:
إن النظر إلى الكليات دون الجزئيات، وإلى الغايات والمقاصد وتعظيمها،وقدرها القدر الصحيح، عاصمٌ بإذن الله من الفرقة، حتى ولو وقع الخلاف. ولذلك يقول ابن القيم: "اختلاف الصحابة لم يضر؛ لأن الأصل الذي بنوا عليه واحد، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والقصد واحد، وهو طاعة الله ورسوله، والطريق واحد، وهو النظر في أدلة القرآن والسنة وتقديمها على كل رأي وقياس وذوق وسياسة"(21).(/2)
إننا بحاجة أن نٌذكِّر بعضنا أن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وأن ما يوحدنا أكثر مما يشتتنا، وهنا لا بد أن نُذكِّر بأن جماعة أو طائفة إن اختلفنا معها فإنَّ كلياتهم ومقاصدهمٍ بالجملة على خير، وإن حصل بعض الخلل والانحراف في مسائل فلا بد من رعاية قصدهم وأهدافهم وغاياتهم وعدم تضييعها، بل والاستفادة من مقاصدهم وأهدافهم في نصحهم وتقويمهم وتصحيح أخطائهم.
(2) الخروج من الخلاف إحتياطاً:
إن قاعدة الخروج من الخلاف جُعلت سداً لباب الفرقة وتمهيداً للائتلاف، ومثال ذلك إذا كان الخلاف بين التحريم والجواز، فالاجتناب أفضل خروجاً من الخلاف، وإذا كان بين الاستحباب وعدمه فالخروج من الخلاف بالفعل. ومن أمثلة ذلك ما جاء في كراهية المالكية للبسملة في الصلاة "وكان المازري المالكي يبسمل سراً في الفرض، فيقول: مذهب مالك من لم يبسمل في الصلاة لا تبطل صلاته، ومذهب الشافعي من لم يبسمل في الصلاة بطلت صلاته. وصلاة متفق عليها خير من صلاة قال أحدهما ببطلانها"(22).
(3) تجنب أسباب الخلاف:
بعض الخلاف المثار وخاصة بين الطلاب أكثر مما هو بين الشيوخ، وذلك لبعدهم عن تحديد مسائل الخلاف بدقة؛ لأن فائدة تحديد الخلاف أنه يضيق الخلاف في حدود ضيقة، وقد يؤدي تحديد الخلاف إلى اتفاق ومثال ذلك:
(أ) تحديد المصطلحات والمفاهيم أولاً قبل الخلاف.
(ب) تحديد التعريف بالمسألة أولاً قبل الخلاف في حكمها.
كما أنه علينا ألا نختلف حول المثال كثيراً قبل الحديث عن القاعدة لأن الاتفاق حول القاعدة يضيق ويهون الاختلاف حول المثال. وكذلك الاختلاف حول الشخص قبل الفكرة مشكلة؛ إذ أنه إذا تم الاتفاق حول الفكرة والمبدأ فالأشخاص أمرهم هين.
(4) الاقتصار على الشريعة المباركة ومصادرها الصحيحة:
و ذلك بلا شك يضيق الخلاف والفرقة، ويؤدي إلى الوحدة والائتلاف، لأن وحدة المصادر أقوى، كما أن رجوع الجميع إلى الشريعة يعصمهم، حيث يقول تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)(23)، كما أن الأخذ بمقاصد الشريعة أيضاً يضيق الخلاف.
المحور الرابع: معالم في طريق الائتلاف
(1) النظر فيما هو متفق عليه:
وإعطاؤه مساحة أكبر من الخلاف "لننظر إلى اتفاقنا حول أصول الإسلام، وأركان الإيمان، والقبلة الواحدة، وحجية القرآن والسنة، وحب الصحابة وإجلالهم، وتحريم المحرمات الظاهرة واعتقاد حرمتها، وإلى غير ذلك كثير...".
(2) النظر إلى العدو المتربص الشامت:
بكل فصائلهم وأجنحتهم ومذاهبهم، ولربما وقف العلمانيون مع النصارى لحرب الإسلام والمسلمين، فأين أهل القبلة وأصحاب الملة والشرعة القويمة؟ وإن العدو يفرح بعداء بعضنا لبعض؛ لأنه بذلك يرتاح من توجيه سهامنا له، ولأنه يفرح بتمزيقنا وحالقة ديننا، وعندها فلا نقف ضد المد الإلحادي، ولا الانحراف العقدي، والعبث الأخلاقي.
(3) الدعائم الأخلاقية:
في تقديري أهم ما يدفع الائتلاف للأمام مع العلم وبعد النظر وتلمح العواقب هو رعاية الأخلاق والتجرد واكتساب الخلق مع المعرفة. وتفصيل ذلك في الآتي:
(أ) الإخلاص والتجرد من حظوظ النفس:
وعلينا أن نعلم، أيها الإخوة، أننا إن أردنا وحدة إسلامية حقيقية علينا أن نتعامل معها ومع بعضنا بصفاء وشفافية، لأن بعض الناس ينادي إلى وحدة إسلامية فإذا بادر غيره من الجماعات أو الأفراد لذلك تجده لا يستجيب، بل قد يترك من هم أقرب إليه في الأصول والمصادر ويتفق مع من هم أبعد منه، وهذا قد يولد حساسية وتشككاً حول مصداقية هذه الوحدة الإسلامية.
(ب) البعد عن التعصب المهلك:
و لقد كان من أخلاق السلف تمني جريان الحق على قلب ولسان خصومهم، وكما أنهم ما كانوا ينظرون إلى القائل إنما ينظرون إلى القول. وتأمل كلام الشنقيطي في أضواء البيان: "إننا ننظر إلى ذات القول لا إلى قائله، لأن كل كلام فيه مقبول ومردود، إلا كلامه صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الحق حق ولو كان قائله حقيراً"(24).
ومن البعد عن التعصب الاعتراف بالخطأ، وذلك له أثر فاعل في تقريب وجهات النظر، وإعطاء الآخر شعوراً بالصدق والتجرد وطلب الحق.
(ج) إحسان الظن:(/3)
من أكبر الدعائم الأخلاقية في الائتلاف بين المسلمين إحسان الظن، الذي يؤدي إلى احتمال اجتهاد الآخرين، وتقبل آرائهم، بعيداً عن الطعن في النوايا، والحديث عن المقاصد، وهذه آفة العمل الإسلامي والدعوي بين الفصائل المختلفة، بل أحياناً إذا وقع الخلاف داخل فصيل واحد يتضخم ويكبر بسبب سوء الظن، فقد يكون الخلاف اجتهادياً وتقديرياً، ولكن سوء الظن يصوره أنه خلاف كبير، والغرض منه تدمير الدعوة أو هدم الإسلام، أو أنه مرتبط بجهات مشبوهة، إلى غير ذلك من المطاعن والملاعن القائمة على سوء الظن عياذاً بالله تعالى. ومن تأمل في منهج القرآن في تربية المجتمع المسلم يجد الحث على حسن الظن في قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرً..)(25)، وقوله في الحجرات: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم)(26). وقوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث). ومن المعالم التربوية المهمة في هذه القضية لما بركت القصواء في طريقها إلى مكة قال عنها الصحابة رضوان الله عليهم: خلأت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما خلأت القصواء، وما ذاك لها خلق، ولكن حبسها حابس الفيل))(27). قال ابن حجر رحمه الله: "وفيه جواز الحكم على الشئ بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها"(28)، لقد دافع النبي صلى الله عليه وسلم عن القصواء بما عرف عنها من خلق قديم أفلا نلتمس العذر للدعاة والفضلاء؟
(د) عدم تصيد الأخطاء وتضخيمها:
وهذا نتيجة طبعية لسوء الظن، وإن الأخطر من ذلك الفرح بالزلة، لتُملأ الدنيا بها ضجيجاً، مع الترصد وهذا هو الذي يفضي إلى تضخيم الأخطاء. "وأما البحث عن الهفوات وتصيدها فذنوب مضافة أخرى، والرسوخ في الإنصاف بحاجة إلى قدر كبير من خلق رفيع ودين متين"(29).
(4) إنصاف أهل القبلة:
وذلك بالدعاء لهم، وحبهم بالجملة، والشفقة عليهم إذا أخطأوا، وأخذهم بالظاهر، كما أن الأصل فيهم السلامة ((إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس، ولا لأشق بطونهم))(30). كما أن إنصاف المسلمين يكون بسلامة الصدر تجاههم، وصيانة القلوب من الغل والغش والحسد والبغضاء تجاههم جميعاً. ومن الإنصاف المطلوب إغفال هفوات من غلب خيره على شره مع إعمال فقه النصيحة.
(5) التوازن والتوسط في الأمور:
التوازن في الحب، والتوازن في البغض، يساعد على الائتلاف؛ لأنه إعمال لقاعدة: أن الجماعة أو الطائفة والرجل قد يجتمع فيهم الخير والشر وموجبات الحب وموجبات البغض، فيكون الحب بقدر ما فيهم من طاعة، ويبغضوا بقدر ما فيهم من معصية. كما أن التوازن يساعد على النظر الصحيح في تقويم الأخطاء بدون تهوين ولا تهويل، والتوازن في الأمور يجعل المسلم يقبل الحق من الحبيب ومن البغيض، والتوازن في الأمور يجعل عند المسلم القابلية والمرونة في التعامل مع المخالف له في باب التعاون على البر التقوى.
المحور الخامس: توصيات ومقترحات
أشعر بأننا بحاجة ماسة إلى النفاذ إلى برامج عملية لإنزال فقه الائتلاف بيننا؛ لتحصيل الاتفاق في العمل الإسلامي، وهذا يحتاج إلى قدر كبير من الصبر على هذه الفكرة، والصمود عليها، وعدم اليأس من تحقيقها، كما تحتاج الفكرة إلى قدر كبير من الشفافية والصفاء والوضوح؛ لنحصل على وحدة إسلامية حقيقية فاعلة، كما علينا أن نستصحب الواقع الموجود في ساحة العمل الإسلامي من وجود كيانات تخشى التذويب أو التجاوز أو تتوجس خيفة على كيانها وجماعتها.
أقترح وأوصي بالآتي:
(1) إدارة حوار واسع وواضح بين الفصائل والجماعات والأفراد المهتمين بهذا الأمر:
وذلك لإيجاد برنامج حد أدنى، يتفق عليه من النواحي الفكرية والمنهجية، وأن يقود هذه المبادرة العلماء وطلاب العلم والدعاة والمختصون في شكل حوار مثمر ومتأني. وهذا مفيد في أن هذا الحوار الشفاف قد يخرج بالشكل المتفق عليه بين الجميع لوحدة العمل الإسلامي وصور التعاون فيه، وقد يخرج بوثيقة فكرية وكليات منهجية وثوابت شرعية يتفق عليها لتكون دستوراً للجميع في المرحلة القادمة.
(2) نشر أدب الخلاف وفقه الائتلاف وثقافة الوفاق في المرحلة القادمة:
إن من أكبر معوقات الائتلاف هو وجود طلاب حول كل شيخ من الشيوخ وهم الأقرب إلى قلبه ومنهجه، وكذلك في الجماعات، ويظل ارتباط الشيخ بطلابه وآرائه أكبر من جماعة المسلمين ومصلحة الأمة. وكذلك الجماعات فقد تكون قياداتها واعية، ولكن قواعدهم وطلابهم يعتبرون هذا تضييعاً للقضية، ونوعاً من أنواع المداهنة للباطل وإلى غير ذلك من الألفاظ الثورية.
والتعامل مع هذه القضية من أوجه:
(أ) على الشيوخ والقيادات العلمية والدعوية أن يربوا أفرادهم على التوازن، وفقه الخلاف، وفقه الائتلاف من أول الأمر؛ حتى لا ينقلبوا عليهم في مسائل خلافية.(/4)
(ب) علينا جميعاً أن نؤثر على الساحة الدعوية، وأن نشكل الجميع، طالما أنهم موجودون في الساحة، وهنا سيحمل الطلاب والقواعد شيوخهم وقياداتهم على الائتلاف.
(3) بناء جسور الثقة بعمل اجتماعي كبير:
قد تبدو الهوة ــ لأول مرة ــ كبيرة بين الفصائل والتيارات الموجودة؛ لأسباب ترجع للتباين المنهجي، مع تباين المواقف، مع الإشكالات والصدام ولو بالكلام في الواقع، وترميم هذه الهوة تحتاج إلى عمل اجتماعي من زيارات ولقاءات وجلسات أنس ومودة تبني شيئاً من الثقة قبل البدء في أي حوار أو نقاش أو مشروع. ويجب أن يكون هذا عفوياً وفي نفس الوقت مرتباً ليؤدي إلى النتيجة المطلوبة.
(4) التنسيق خطوة نحو الائتلاف:
وأعني بذلك علينا ــ ونحن نتعامل مع واقعنا ــ أن نتفق على أولويات العمل الإسلامي في المرحلة القادمة، ثم تقسم المهام على الجميع، وهذا يحفظ لكل فصيل أو جماعة أو تيار خصوصيته، كما يشغلهم بواجب المرحلة، ويساعد على بناء الأمة، واستثمار جهودهم، وهذا يتطلب مبادرة فكرية تطرح على الجميع وتقسم حسب الطاقات والإمكانات المتاحة والموجودة.
وختاماً أشكر الله تعالى أن يسر لنا هذا الملتقى، ثم أشكر القائمين على أمره، الحادبين على مصلحة الأمة، جزاهم الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
----------
(1) الشاطبي في الاعتصام 2/232.
(2) الفتاوى الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية 28/21.
(3) سورة الفتح: 29.
(4) صحيح البخاري رقم 6011، وصحيح مسلم رقم 2586.
(5) صحيح البخاري رقم 481، وصحيح مسلم رقم 2585.
(6) أبو داود رقم 4918.
(7) راجع منهاج السنة النبوية 1/63.
(8) الفتاوى الكبرى 6/53.
(9) طريق الهجرتين ص 286.
(10) راجع مجموع الفتاوى 28/212.
(11) مناقب الإمام أحمد ص 323.
(12) الفتاوى الكبرى بتصرف 22/356ــ360.
(13) الفتاوى الكبرى 19/123.
(14) الفتاوى الكبرى 6/53.
(15) الرسالة للشافعي.
(16) ابن حجر في الفتح 12/376.
(17) منهاج السنة 5/256.
(18) الشاطبي في الاعتصام2/168.
(19) الفتاوى الكبرى 11/15.
(20) الصواعق المرسلة 2/519.
(21) فقه الائتلاف، إعداد محمود محمد الخزندار ص 29.
(22) سورة آل عمران: 103.
(23) أضواءالبيان 1/6.
(24) سورة النور: 12.
(25) سورة الحجرات: 12.
(26) رواه البخاري في كتاب الشروط باب 15 حديث رقم 2731.
(27) الفتح 5/420.
(28) تصنيف الناس بين الظن واليقين، للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ص 78.
(29) صحيح البخاري، كتاب المغازي، حديث 62.(/5)
فقه الاستشارة
مقدمة
أهمية الموضوع
تعريف المشاورة
الشورى في القرآن
الشورى في السنة
صفحة من التاريخ
أهداف الاستشارة وآثارها
أسباب الفردية وعدم الاستشارة
أركان الشورى
معالم في الشورى
تقديم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله، وصحبه أجمعين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(1) [ سورة آل عمران، الآية: 102 ].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(2) [ سورة النساء، الآية: 1 ].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)(3) [ سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71 ].
أما بعد:
فمن خلال معايشتي للقرآن الكريم، والوقوف مع آياته، والتفكر بما فيه من دروس ومعالم، وقفت أمام موضوع تكرر ذكره في القرآن الكريم، أمرا وخبرا وممارسة، وذلكم هو موضوع المشاورة والشورى.
وقد قمت بحصر المواضع التي ورد فيها هذا الأمر، ثم تأملت فيها، ورجعت إلى كلام المفسرين وغيرهم، ومن ثم رأيت أن الموضوع مناسب لأن يفرد برسالة تكون زادا للدعاة وطلاب العلم، وبخاصة مع الحاجة الماسة لذلك.
وهذا الموضوع يدخل تحته عدة موضوعات، وهي: الشورى على مستوى الدولة، والتشاور بين الدعاة وطلاب العلم، والاستشارة من أفراد المجتمع المسلم لعلمائهم وعقلائهم، في أمورهم الخاصة والعامة، وحيث إن موضوع الشورى المتعلقة بالدولة المسلمة -وهي التي من واجبات الإمام الشرعية- قد بحثها العلماء قديما وحديثا، وفصلوا فيها بما لا أرى أن الحاجة تدعو إلى تكراره وإعادته، ولأهمية موضوع التشاور بين الدعاة وطلاب العلم فيما يتعلق بقضايا الأمة وشئونها، أحببت أن يكون مدار هذا البحث حول هذا الجانب، دون أن يكون مقتصرا عليه، وإنما سأتناول أصل موضوع الشورى، وأركز البحث حول تأصيله، وبيان حدوده، ومعالمه وآثاره.
وهذا سيكون دافعا للدعاة وطلاب العلم لممارسة الشورى لما سيتضح -بمشيئة الله- من مكانتها وآثارها، وسلبية الفردية وخطورتها.
ونتيجة لذلك -أيضا- سيدرك الفرد أهمية الشورى وثمارها، مما يدعوه إلى مزاولتها في أموره الخاصة والعامة. وقد أسميت هذا البحث: (فقه الإستشارة). وجعلته في عدة مباحث كما يلي:
1- أهمية الموضوع وأسباب البحث فيه.
2- تعريف المشاورة.
3- الشورى في القرآن.
4- وشاورهم في الأمر.
5- وأمرهم شورى بينهم.
6- أهداف الاستشارة وآثارها.
7- أسباب الفردية وعدم الاستشارة.
8- أركان الشورى.
9- معالم في الشورى.
10- الخاتمة.
ونظرا لأن الموضوع من موضوعات فقه القرآن، فقد ربطته ربطا مباشرا بالقرآن الكريم، حيث استخرجت أغلب فصوله ومباحثه منه، وعالجت الموضوع في ضوئه، مستدلا -أيضا- بما ورد في السنة المبينة للقرآن الكريم والشارحة له، إضافة إلى فعل الصحابة الذين نزل عليهم القرآن، وهم خير من فهمه وطبقه، والتزم به قولا وعملا.
وأسأل الله -جل وعلا- أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين، فما أحوجنا إلى الالتزام بالكتاب والسنة، ومنهج سلف هذه الأمة، حقيقة لا ادعاء، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أهمية الموضوع
أهمية الموضوع وأسباب البحث فيه:
وقبل بيان أهمية الموضوع أبين أن إطار البحث هو في مبدأ المشاورة من حيث المكانة والأهمية والأثر، دون أن أدخل في موضوع الشورى المتعلقة بالإمام والدولة. بل إن هدف البحث هو في الشورى بين الدعاة وطلاب العلم، وضرورة التشاور فيما بينهم، في أمورهم العامة والخاصة.
وتبرز أهمية هذا الموضوع من خلال ما يلي:
1- إن الله -سبحانه- أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستشير أصحابه، وأثنى على المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم، وجعل من شروط فطام الصبي أن يكون عن تراض وتشاور، وأن يأتمروا بينهم بمعروف.
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 102.
(2) - سورة النساء آية: 1.
(3) - سورة الأحزاب آية: 70-71.(/1)
2- ذكر الله -جل وعلا- في القرآن الكريم أن فرعون -ومن هو في جبروته وطغيانه؟- قد مارس الشورى في أكبر قضية واجهته في ملكه؛ وهي قضية موسى -عليه السلام- فاستشار قومه ماذا يفعل تجاه ذلك؟ (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)(1) [ سورة الأعراف، الآية: 110 ] وملكة سبأ استشارت قومها في قضيتها مع سليمان -عليه السلام- (مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)(2) [ سورة النمل، الآية: 32 ] وعزيز مصر يأخذ رأي قومه في رؤيا رآها. (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ)(3) [ سورة يوسف، الآية: 43 ].
3- بيّن الله في سورة يوسف ممارسة إخوة يوسف للشورى مرتين، عند محاولة التخلص من يوسف، وعند حدوث مشكلة السرقة (خَلَصُوا نَجِيّاً)(4) [ سورة يوسف، الآية: 80 ].
4- ممارسة الرسول صلى الله عليه وسلم للشورى حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه " ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه " (5)
5- حرص الصحابة -رضي الله عنهم- وبخاصة الخلفاء الأربعة على الاستشارة فيما يعرض لهم.
6- الآثار الإيجابية للشورى، تكسبها أهمية خاصة، وبخاصة إذا أدركنا الآثار السلبية الكبيرة للفردية وعدم التشاور.
7- ما مرت به الأمة من أحداث ومواقف -وبخاصة في العصر الحاضر- أوقعها فيها أفراد وجماعات، لم يقدروا خطورة ما صنعوا، وجسامة ما فعلوا، ومن أبرز أسباب ذلك: انفرادهم بالفعل دون مشورة لإخوانهم، ودون بحث عن الرأي الأصوب في مثل هذه المواقف والأحداث، وكأن الأمر يعنيهم وحدهم.
8- إن بعض الناس يعمل العمل وحده، فإذا جاءت النتيجة على غير ما توقع، ووقع في مشكلة لا يدري أين المخرج منها، جاء باحثا عن الحل مدعيا الاستشارة، وهو في الحقيقة -كما قال أحد مشايخنا- يستنجد لا يستشير، لأن الاستشارة يجب أن تكون قبل الفعل لا بعده (6).
9- لو استغنى أحد عن الاستشارة والمشورة لاستغنى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: قيل: إن الله أمر بالمشاورة نبيه صلى الله عليه وسلم فغيره أولى بالمشورة (7) وصدق الشاعر: (8)
عقل الفتى ليس يغني عن مشاورة ... كحدة السيف لا تغني عن البطل
10- قال الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله-: إن الله -تعالى- ذكرها في سورة الشورى بين فرضين الصلاة والزكاة. فقال: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)(9)(10) [ سورة الشورى، الآية: 38 ].
ومفهوم كلام الشيخ أن هذا دليل على مكانة الشورى وأهميتها. ومن خلال ما سبق تتضح أهمية الشورى، وأن هذا الموضوع جدير بالبحث والتوضيح؛ لرسم حدوده ومعالمه، وبيان أسسه وقواعده.
تعريف المشاورة:
المشاورة: مصدر شاور، والاسم: الشورى والمشورة -بفتح الميم وضم الشين- أصلها مفعلة -بضم العين.. فوقع فيها نقل حركة الواو إلى الساكن-.
* قيل: المشاورة مشتقة من شار الدابة إذا اختبر جريها عند العرض على المشتري.
وفعل شار الدابة مشتق من المشوار، وهو المكان الذي تركض فيه الدواب، وأصله معرب (نشخوار) بالفارسية، وهو ما تبقيه الدابة من علفها.
* وقيل: مشتقة من شار العسل، أي: جناه من الوقبة، لأن بها يستخرج الحق والصواب، وإنما تكون في الأمر المهم المشكل، من شئون المرء في نفسه، أو شئون القبيلة، أو شئون الأمة (11).
* وقال ابن الجوزي: يقال: إنه من شرت العسل، وأنشدوا
وقاسمها بالله حقا لأنتم ... ألذ من السلوى إذا ما نشورها.
* قال الزجاج: يقال شاورت الرجل مشاورة وشورا، وما يكون من ذلك اسمه المشورة، وبعضهم يقول: المشورة. ويقال: فلان حسن الصورة والشورة، أي: حسن الهيئة واللباس.
* ومعنى قولهم: شاورت فلانا: أظهرت ما عنده وما عندي. وشرت الدابة: إذا امتحنتها، فعرفت هيئتها في سيرها. وشرت العسل: إذا أخذته من مواضع النحل. وعسل مشار:
* قال الأعشى:
كأن القرنفل والزنجبيل ... باتا بفيها وأريًا مشارا
والأرى: العسل (12).
ومن خلال ما سبق يتضح أن الشورى والمشاورة والمشورة والاستشارة والتشاور متقاربة في المعنى والمدلول، ولذا فأي لفظ استخدمت منها فهو يدل على ما سواه.
الشورى في القرآن:
__________
(1) - سورة الأعراف آية: 110.
(2) - سورة النمل آية: 32.
(3) - سورة يوسف آية: 43.
(4) - سورة يوسف آية: 80.
(5) - رواه الترمذي "1714". وابن حبان "2872". ضعيف لانقطاعه كما في فتح الباري (5 / 393).
(6) - وهذا هو مدلول قوله -تعالى-: " وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ". [سورة آل عمران، الآية: 159]. كما سيأتي -إن شاء الله-.
(7) - السياسة الشرعية ص158.
(8) - انظر: جواهر الأدب 2 / 431 والبيت لأبي بكر المقري.
(9) - سورة الشورى آية: 38.
(10) - انظر: مصنفة النظم الإسلامية ص246.
(11) - انظر: التحرير والتنوير 4 / 146.
(12) - انظر: زاد المسير 1 / 486، وانظر لكل ما سبق: لسان العرب مادة (شار).(/2)
وردت الشورى في القرآن الكريم في عدة مواضع، وبصيغ متعددة، وسأذكر هذه المواضع مبينا ما ذكره المفسرون حولها (1) حيث إن هذا البحث مستمد من القرآن الكريم، ومعالجتي لهذا الموضوع في ضوئه، إذ هو من فقه القرآن. وسأبدأ بالأدلة القولية، ثم أذكر الأدلة العملية، دون التزام بترتيبها في المصحف، وسأذكر أقوال المفسرين فيما يتعلق بالشورى عند ذكر كل آية.
الموضع الأول
قوله تعالى " فبما رحمة من الله لنت لهم "
قال -تعالى- في سورة آل عمران: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(2) [ سورة آل عمران، الآية 159 ].
هذه الآية جاء الأمر فيها بالمشاورة صريحا واضحا. (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(3)
* قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية:
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله أمر -تعالى ذكره- نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم، وما المعنى الذي أمره أن يشاورهم فيه؟ فقال بعضهم: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(4) [ سورة آل عمران، الأية: 159 ] بمشاورة أصحابه في مكايد الحرب، وعند لقاء العدو، تطييبا منه بذلك لأنفسهم، وتألفا لهم على دينهم، وليروا أنه يسمع منهم، ويستعين بهم، وإن كان الله - عز وجل - قد أغناه بتدبيره له أموره وسياسته إياه، وتقويمه أسبابه عنهم.
ثم ذكر أقوال العلماء في ذلك، ومن ذلك ما رواه عن قتادة حيث قال:
أمر الله - عز وجل - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور، وهو يأتيه وحي السماء، لأنه أطيب لأنفس القوم، وإن القوم إذا شاور بعضهم بعضا، وأرادوا بذلك وجه الله عزم لهم على أرشده.
* ثم قال الإمام الطبري: "وقال آخرون: بل أمره بذلك في ذلك -وإن كان له الرأي وأصوب الأمور في التدبير- لما علم في المشورة -تعالى ذكره- من الفضل".
وروي عن الضحاك بن مزاحم قوله: ما أمر الله - عز وجل - نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشورة إلا لما علم فيها من الفضل.
* وقال الحسن: "ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم".
* قال الطبري: وقال آخرون: "إنما أمر الله بمشاورة أصحابه فيما أمره بمشاورتهم فيه، مع إغنائه بتقويمه إياه، وتدبيره أسبابه عن آرائهم، ليتبعه المؤمنون من بعده فيما حزبهم من أمر دينهم، ويستنوا بسنته في ذلك، ويحتذوا المثال الذي رأوه يفعله في حياته من مشاورته في أموره -مع المنزلة التي هو بها من الله- أصحابه وأتباعه في الأمر، ينزل بهم من أمر دينهم ودنياهم، فيتشاوروا بينهم، ثم يصدروا عما اجتمع عليه ملؤهم، لأن المؤمنين إذا تشاوروا في أمور دينهم متبعين الحق في ذلك، لم يخلهم الله -تعالى- من لطفه، وتوفيقه للصواب من الرأي، والقول فيه.
* ثم قال الطبري:
"وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: إن الله - عز وجل - أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه، ومكايد حربه، تألفا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرة التي يؤمن عليه معها فتنة الشيطان، وتعريفا منه أمته ما في الأمور التي تحزبهم من بعده ومطلبها، ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا فيما بينهم، كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم يفعله."
فأما النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله كان يعرفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه، أو إلهامه إياه صواب ذلك.
وأما أمته فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله في ذلك على تصادق وتآخ للحق، وإرادة جميعهم للصواب، من غير ميل إلى هوى، ولا حيد عن هدى، فالله مسددهم وموفقهم (5).
* وقال ابن الجوزي في تفسيره لهذه الآية:
اختلف العلماء لأي معنى أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه -مع كونه كامل الرأي، تام التدبير- على ثلاثة أقوال:
أحدها: ليستن به من بعده، وهذا قول الحسن وسفيان بن عيينة.
__________
(1) - سأذكر أقوال المفسرين حول الآيات دون شرح أو تعقيب إلا نادرا، ثم بعد انتهاء هذا المبحث سأذكر عدة مباحث مستمدة مما ذكر من أقوال المفسرين وغيرهم، في ضوء تلك الآيات.
(2) - سورة آل عمران آية: 159.
(3) - سورة آل عمران آية: 159.
(4) - سورة آل عمران آية: 159.
(5) - انظر لكل ما سبق: تفسير الطبري 4 / 152، 153.(/3)
الثاني: لتطييب قلوبهم، وهو قول قتادة، والربيع، وابن إسحاق، ومقاتل، قال الشافعي -رحمه الله-: نظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم " البكر تستأمر فيها نفسها " (1). إنما أراد استطابة نفسها، فإنها لو كرهت كان للأب أن يزوجها (2) وكذلك مشاورة إبراهيم -عليه السلام- لابنه حين أمر بذبحه.
الثالث: للإعلام ببركة المشاورة، وهو قول الضحاك.
وقال ابن عاشور في تفسيره للآية:
(وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(3) [ سورة آل عمران، الآية: 159 ] أل في الأمر للجنس، والمراد بالأمر: المهم الذي يؤتمر له، ومنه قولهم: أمْر أمِر. وقال أبو سفيان لأصحابه -في حديث هرقل-: لقد أمِر أمْر ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر. وقيل: أريد بالأمر أمر الحرب، فاللام للعهد.
وظاهر الأمر أن المراد المشاورة الحقيقية التي يقصد منها الاستعانة برأي المستشارين، بدليل قوله -تعالى- عقبه: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(4) [ سورة آل عمران، الآية: 159 ] فضمير الجمع في قوله: (وَشَاوِرْهُمْ). عائد على المسلمين خاصة، أي: شاور الذين أسلموا من بين من لنت لهم، أي: لا يصدك خطل رأيهم فيما بدا منهم يوم أحد عن أن تستعين برأيهم في مواقع أخرى.
* ثم قال: وقد دلت الآية على أن الشورى مأمور بها الرسول صلى الله عليه وسلم فيما عبر عنه بالأمر، وهو من مهمات الأمة ومصالحها في الحرب وغيره، وذلك في غير أمر التشريع (5).
وأختم ما ذكره المفسرون حول هذه الآية بهذا الكلام لسيد قطب حيث قال:
(وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(6) [ سورة آل عمران، الآية 159 ] "وبهذا النص الجازم يقرر الإسلام هذا المبدأ، وهو نص قاطع، لا يدع للأمة المسلمة شكا في أن الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه، أما شكل الشورى، والوسيلة التي تتحقق بها، فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير، وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها، وكل شكل، وكل وسيلة تتم بها حقيقة الشورى -لا مظهرها- فهي من الإسلام".
* ثم قال كلاماً مهما أذكره -مختصرا-:
"لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة، فقد كان من جرائها ظاهريا وقوع خلل في وحدة الصف المسلم. اختلفت الآراء قبل معركة أحد، فرأت مجموعة أن يبقى المسلمون في المدينة محتمين بها، وتحمست مجموعة أخرى، فرأت الخروج للقاء المشركين، وكان من جراء هذا الاختلاف ذلك الخلل في وحدة الصف، إذ عاد عبد الله بن أبي بثلث الجيش (كما وقعت الهزيمة في المعركة)."
ولقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة، أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف، وأمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة. (هكذا قد يبدو لنا الأمر)، ولكن الإسلام كان ينشئ أمة، ويربيها، ويعدها لقيادة البشرية، وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمة وإعدادها للقيادة الرشيدة أن تربى بالشورى، وأن تدرب على حمل التبعة، وأن تخطئ لتعرف كيف تصحح خطأها، وكيف تحمل تبعات رأيها وتصرفها، فهي لا تتعلم الصواب إلا إذا زاولت الخطأ، والخسائر لا تهم إذا كانت الحصيلة هي إنشاء الأمة المدربة، المدركة، المقدرة للتبعة.
إن وقوع تلك الأحداث، ووجود تلك الملابسات لم يلغ هذا الحق، لأن الله -سبحانه وتعالى- يعلم أنه لا بد من مزاولته في أخطر الشئون، ومهما تكن النتائج، ومهما تكن الخسائر، فهذه كلها جزئيات، لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة، المدربة بالفعل على الحياة، المدركة لتبعات الرأي والعمل، الواعية لنتائج الرأي والعمل، ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي في هذا الوقت بالذات (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(7) [ سورة آل عمران، الآية: 159 ].
إن حقيقة الشورى هي تقليب أوجه الرأي، واختيار اتجاه من الاتجاهات المعروضة، فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد انتهى دور الشورى، وجاء دور التنفيذ، التنفيذ في عزم وحسم، وفي توكل على الله (8).
* * وبعد: فقد أطلت في تفسير هذه الآية، لأنها أصل في تشريع الشورى، وما بعدها من آيات يدور حول معناها، وإن كان لكل آية مدلوها الذي تتميز به عن غيرها.
الموضع الثاني: قوله تعالى " والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة"
__________
(1) - رواه مسلم "2 / 1037، رقم 1421" وأبو داود "2098" والترمذي "1108" والنسائي "3260 - 3262، وابن ماجة "1870" عن ابن عباس.
(2) - المسألة خلافية بين العلماء، وانظر: ما قاله النووي في شرحه لهذا الحديث، في شرح صحيح مسلم، وغيره من كتب الفقه.
(3) - سورة آل عمران آية: 159.
(4) - سورة آل عمران آية: 159.
(5) - انظر: التحرير والتنوير 4 / 147.
(6) - سورة آل عمران آية: 159.
(7) - سورة آل عمران آية: 159.
(8) - انظر: في ظلال القرآن 1 / 501.(/4)
قال -تعالى- في سورة الشورى: مبينا بعض صفات المؤمنين، ومثنيا عليهم في ذلك: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)(1) [ سورة الشورى، الآية: 38 ].
* قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(2) [ سورة الشورى، الآية: 38 ] وإذا حزبهم أمر تشاوروا فيما بينهم.
* قال ابن زيد: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ)(3) الأنصار (وَأَقَامُوا الصَّلاةَ)(4) وليس فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(5) ليس فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا (6).
* وقال القرطبي: كان الأنصار قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أمرا تشاوروا فيه، ثم عملوا عليه، فمدحهم الله -تعالى- به (7).
* وقال: ابن كثير: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(8) [ سورة الشورى، الآية: 38 ] أي لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه، ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها، كما قال -تبارك وتعالى-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(9) [ سورة آل عمران، الآية: 159. ] ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها؛ ليطيب بذلك قلوبهم، وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب رضي الله عنه الوفاة حين طعن، جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر (10).
* وقال القاسمي: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(11) [ سورة الشورى، الآية: 38 ] أي لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه، وذلك من فرط تدبيرهم، وتيقظهم، وصدق تآخيهم في إيمانهم، وتحابهم في الله -تعالى- (12).
* وقال سيد قطب: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(13) [ سورة الشورى، الآية: 38 ] والتعبير يجعل أمرهم كله شورى، ليصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة، وهو نص مكي، كان قبل قيام الدولة الإسلامية، فهذا الطابع إذن أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين، إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها، ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم بعد (14).
* وقال الأستاذ عدنان النحوي: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(15) [ سورة الشورى، الآية: 38 ] هي جزء من آية، فلا يستحب أن تؤخذ من دون الآية بتمامها، فستفقد بريقا وروحا ومعان.
والآية جزء من مجموعة من الآيات، قد لا تبدو علاقتها مع الشورى للنظرة الأولى، ولكنها تربط صفات المؤمنين ربط تكامل وتناسق، فإذا أخذت الآية وحدها اختفت ظلال وقواعد.
* وهذه المجموعة من الآيات جزء من سورة سميت الشورى، وقد لا تبدو علاقتها بالشورى لأول وهلة، ولكن التدبر، والتمحيص، وفهم أسلوب القرآن الكريم في البناء والتربية يكشف لنا عظمة ترابط الكلمات مع الآية، والآية مع مجموع الآيات، والمجموعة مع السورة كلها، والسورة كلها مع منهاج الله.
وهنا نجد البون الشاسع بين أن نأخذ الكلمات الثلاث وحدها، وبين أن نأخذها في أجواء منهاج الله على إيمان وعلم وتدبر (16).
الموضع الثالث: قوله تعالى "فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما"
قال -تعالى- في سورة البقرة: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا)(17) [سورة البقرة، الآية: 233 ].
وقال -سبحانه- في سورة الطلاق: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى)(18) [ سورة الطلاق، الآية: 6 ].
هاتان الآيتان في موضوع إرضاع الصبي، ووجوب التشاور حول فطامه، ومن يرضعه ومقدار الأجرة لذلك؟!!
* قال الطبري في آية البقرة: قال بعضهم: عني بذلك: فإن أراد فصالا في الحولين عن تراض منهما وتشاور، فلا جناح عليهما.
* قال قتادة: إذا أرادت الوالدة أن تفصل ولدها قبل الحولين، فكان ذلك عن تارض منهما وتشاور، فلا بأس به.
* وقال مجاهد: التشاور فيما دون الحولين، ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى، وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى.
* ثم قال الطبري: فإن أرادا فصالا في الحولين عن تراض منهما وتشاور، ولا تشاور بعد انقضائه، وإنما التشاور والتراضي قبل انقضاء نهايته (19).
__________
(1) - سورة الشورى آية: 38.
(2) - سورة الشورى آية: 38.
(3) - سورة الشورى آية: 38.
(4) - سورة الشورى آية: 38.
(5) - سورة الشورى آية: 38.
(6) - تفسير الطبري 25 / 37.
(7) - انظر: تفسير القرطبي 16 / 36.
(8) - سورة الشورى آية: 38.
(9) - سورة آل عمران آية: 159.
(10) - انظر: تفسير ابن كثير 4 / 118.
(11) - سورة الشورى آية: 38.
(12) - انظر: تفسير القاسمي 14 / 249.
(13) - سورة الشورى آية: 38.
(14) - في ظلال القرآن (5 / 3165).
(15) - سورة الشورى آية: 38.
(16) - انظر: ملامح الشورى في الدعوة الإسلامية ص45.
(17) - سورة البقرة آية: 233.
(18) - سورة الطلاق آية: 6.
(19) - انظر: تفسير الطبري 2 / 506.(/5)
* وقال ابن كثير في سورة الطلاق الآية (6). (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ)(1) أي: ولتكن أموركم فيما بينكم بالمعروف من غير إضرار ولا مضارة (2).
* وقال سيد قطب في آية البقرة: "فإن شاء الوالد والوالدة، أو الوالدة والوارث أن يفطما الطفل قبل استيفاء العامين، لأنهما يريان مصلحة للطفل في ذلك الفطام، لسبب صحي أو سواه فلا جناح عليهما، إذا تم هذا بالرضى بينهما، وبالتشاور في مصلحة الرضيع الموكول إليهما رعايته، المفروض عليهما حمايته" (3).
* قال عدنان النحوي في آية سورة الطلاق: "وظلال هذه الكلمات من خلال الآية الكريمة توحي بضرورة التشاور بين الزوجين رعاية لحق المولود، حتى يتم الأمر بينهما على أساس من الحقوق المحددة الواضحة في هذه الآية الكريمة" (4).
الموضع الرابع: قوله تعالى "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله "
قال -تعالى- في سورة النور: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)(5) [ سورة النور، الآية: 62 ].
* قال ابن كثير: إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلى الله عليه وسلم من صلاة جمعة، أو عيد جماعة، أو اجتماع في مشورة، ونحو ذلك، أمرهم الله -تعالى- ألا يتفرقوا عنه والحالة هذه إلا بعد استئذانه ومشاورته (6).
* وقال الطبري: (عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ) (7) يقول: على أمر يجمع جميعهم من حرب حضرت، أو صلاة اجتمع لها، أو تشاور في أمر نزل (لَمْ يَذْهَبُوا)(8) يقول: لم ينصرفوا عما اجتمعوا له من الأمر، حتى يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. (9).
وقال سيد قطب: والأمر الجامع: الأمر المهم الذي يقتضي اشتراك الجماعة فيه، لرأي أو حرب أو عمل من الأعمال العامة، فلا يذهب المؤمنون حتى يستأذنوا إمامهم، كي لا يصبح الأمر فوضى، بلا وقار ولا نظام (10).
الموضع الخامس : قوله تعالى "إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة"
قوله -تعالى- عن إخوة يوسف: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ)(11) [سورة يوسف، الآيات: 8-10. ] ثم قال بعد ذلك: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(12) [ سورة يوسف، الآية: 15 ].
وفي قصة السرقة التي ذكرها الله في آخر السورة، وبعد أن بذلوا محاولاتهم لأن يطلق يوسف سراح أخيهم، فلما عجزوا ماذا حدث؟ قال الله -تعالى-: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)(13) [ سورة يوسف، الآية: 80 ].
فهده الآيات مثال عملي على مزاولة الشورى، وهي منهج قد ألفوه، فقد تشاوروا عندما أرادوا التخلص من يوسف، وتشاوروا عندما وقعوا في مشكلة السرقة.
* قال الطبري: قال إخوة يوسف بعضهم لبعض: اقتلوا يوسف، أو اطوحوه في أرض من الأرض.
* ثم قال: قال ابن إسحاق في قوله -تعالى-: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ)(14) [ سورة يوسف، الآية: 10 ] ذكر لي -والله أعلم- أن الذي قال ذلك منهم روبيل الأكبر من بني يعقوب، وكان أقصدهم فيه رأيا (15).
* وقال ابن كثير: فصرفهم الله عنه بمقالة روبيل فيه، وإشارته عليهم بأن يلقوه في غيابة الجب (16).
* قال الطبري في قوله: (وَأَجْمَعُوا)(17) يقول: وأجمعوا رأيهم وعزموا على أن يجعلوه في غيابة الجب(18).
* وقال ابن كثير: إنهم اتفقوا كلهم على إلقائه في أسفل ذلك الجب (19).
__________
(1) - سورة الطلاق آية: 6.
(2) - انظر:. تفسير ابن كثير 4 / 383.
(3) - انظر: في ظلال القرآن 1 / 254.
(4) - انظر: ملامح الشورى ص58.
(5) - سورة النور آية: 62.
(6) - انظر: تفسير ابن كثير 3 / 306.
(7) - سورة النور آية: 62.
(8) - سورة النور آية: 62.
(9) - انظر: تفسير الطبري 18 / 175.
(10) - انظر: في ظلال القرآن 4 / 2535.
(11) - سورة يوسف آية: 8-10.
(12) - سورة يوسف آية: 15.
(13) - سورة يوسف آية: 80.
(14) - سورة يوسف آية: 10.
(15) - انظر: تفسير الطبري 12 / 155.
(16) - انظر: تفسير ابن كثير 2 / 470.
(17) - سورة يوسف آية: 15.
(18) - انظر: تفسير الطبري 12 / 160.
(19) - انظر: تفسير ابن كثير 2 / 471.(/6)
ومن خلال ما سبق يتضح أن الأمر كان بينهم شورى، حيث اختلفوا أولا، ثم اتفقوا ثانيا على الرأي الذي أبداه روبيل، أما في قصة السرقة التي وردت في السورة، فقد أخبر -سبحانه- عنهم بقوله: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً)(1) [ سورة يوسف، الآية: 80 ].
* قال ابن الجوزي: (خَلَصُوا نَجِيّاً)(2) أي اعتزلوا الناس، ليس معهم غيرهم، يتناجون ويتناظرون ويتشاورون (3).
* وقال ابن إسحاق: (خَلَصُوا نَجِيّاً)(4) أي: خلا بعضهم ببعض، ثم قالوا: ماذا ترون؟ (5).
* وهكذا نجد إخوة يوسف -عليهم السلام - يتشاورون في قضية أخيهم ابتداء وانتهاء، مع أن تشاورهم الأول كان على أمر سوء (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً)(6) [ سورة الأنفال، الآية: 44 ] وتشاورهم الثاني للخروج من مشكلة ليست من صنيعهم وفوجئوا بها. (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)(7) [ سورة يوسف، الآية: 76 ].
الموضع السادس : قوله تعالى "قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري"
قال -تعالى- في سورة النمل، في ذكر ملكة سبأ وقصتها مع سليمان -عليه السلام-:
(قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)(8) [ سورة النمل، الآية: 32 ].
قال الطبري: قالت ملكة سبأ لأشراف قومها: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي)(9) [ سورة النمل، الآية: 32 ] تقول: أشيروا علي في أمري الذي قد حضرني من أمر صاحب هذا الكتاب الذي ألقي إليّ، فجعلت المشورة فتيا.
(مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)(10) [ سورة النمل، الآية: 32 ] تقول: ما كنت قاضية أمرا في ذلك حتى تشهدون، فأشاوركم فيه.
* قال ابن زيد: دعت قومها تشاورهم (11).
* وقال ابن الجوزي: قوله -تعالى-: (أَفْتُونِي فِي أَمْرِي)(12) أي: بينوا لي ما أفعل وأشيروا علي، قال الفراء: جعلت المشورة فتيا، وذلك جائز لسعة اللغة.
ثم قال: (حَتَّى تَشْهَدُونِ)(13) أي: تحضرون، والمعنى: إلا بحضوركم ومشورتكم (14)
* وقال ابن كثير: في تفسيره لهذه الآيات: لما قرأت عليهم كتاب سليمان استشارتهم في أمرها، وما قد نزل بها. ولهذا قالت: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)(15) [سورة النمل، الآية: 32] أي: حتى تحضرون وتشيرون(16).
قال سيد قطب: وهي تستشير الملأ من قومها في هذا الأمر الخطير، ثم قال: وواضح أنها لا تريد المقاومة والخصومة، ولكنها لا تقول هذا صراحة، إنما تمهد له بذلك الوصف، ثم تطلب الرأي بعد ذلك والمشورة (17).
* وقال القاسمي في معنى الآية: (حَتَّى تَشْهَدُونِ)(18) أي: لا أبت أمرا إلا بمحضركم ومشورتكم، ولا أستبد بقضاء إلا باستطلاع آرائكم، والرجوع إلى استشارتكم (19).
الموضع السابع: قوله تعالى " قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم"
قال -تعالى- عن قصة فرعون مع موسى: (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ)(20) [سورة الأعراف، الآيات: 109 - 111] وفي سورة الشعراء: (قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)(21) [ سورة الشعراء، الآيات: 34 - 36. ].
* قال الإمام الطبري: قال فرعون للملأ: (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)(22) [ سورة الأعراف، الآية: 110 ].
* يقول: فأي شيء تأمرون أن نفعل في أمره، بأي شيء تشيرون فيه (23).
* وقال ابن الجوزي: قال ابن عباس: ما الذي تشيرون به عليّ (24).
__________
(1) - سورة يوسف آية: 80.
(2) - سورة يوسف آية: 80.
(3) - انظر: زاد المسير 4 / 266.
(4) - سورة يوسف آية: 80.
(5) - انظر: تفسير الطبري 13 / 33.
(6) - سورة الأنفال آية: 44.
(7) - سورة يوسف آية: 76.
(8) - سورة النمل آية: 32.
(9) - سورة النمل آية: 32.
(10) - سورة النمل آية: 32.
(11) - انظر: تفسير الطبري 19 / 153.
(12) - سورة النمل آية: 32.
(13) - سورة النمل آية: 32.
(14) - انظر: زاد المسير 6 / 169.
(15) - سورة النمل آية: 32.
(16) - انظر: تفسير ابن كثير 3 / 362.
(17) - انظر: في ظلال القرآن 5 / 2639.
(18) - سورة النمل آية: 32.
(19) - انظر: في تفسير القاسمي 13 / 4665.
(20) - سورة الأعراف آية: 109-111.
(21) - سورة الشعراء آية: 34-36.
(22) - سورة الأعراف آية: 110.
(23) - انظر: تفسير الطبري 9 / 16.
(24) - انظر: زاد المسير 3 / 238.(/7)
* وقال ابن كثير: فلما تشاوروا في شأنه، وائتمروا فيه اتفق رأيهم على ما حكاه الله عنهم في قوله -تعالى-: (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ)(1)(2) [ سورة الأعراف، الآية: 111 ].
الموضع الثامن: قوله تعالى "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك"
قال -تعالى- في سورة الأنفال: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)(3) [ سورة الأنفال، الآية: 30 ].
* قال قتادة ومقسم: تشاوروا فيه ليلة وهم بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأوثقوه بالوثاق، وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه (4).
* وقال السدي: اجتمعت مشيخة قريش يتشاورون في النبي صلى الله عليه وسلم (5).
وقال ابن زيد: اجتمعوا فتشاوروا في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (6).
قال ابن الجوزي: قال أهل التفسير: لما بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وأمر أصحابه أن يلحقوا بالمدينة، اتفقت قريش أن يعلو أمره، وقالوا: والله لكأنكم به قد كر عليكم بالرجال، فاجتمع جماعة من أشرافهم ليدخلوا دار الندوة فيتشاوروا في أمره (7).
الموضع التاسع: قوله تعالى "يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون"
قال -تعالى- في سورة يوسف حكاية عن العزيز عندما رأى الرؤيا، حيث جمع ملأه، ثم قال لهم: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ)(8) [ سورة يوسف، الآية: 43 ].
وهذه الآية وإن كانت في الرؤيا، ولكنها تدل على الشورى، حيث جمع أشراف قومه وحكماءهم، ولم يقصر الأمر على من يعبر الرؤيا (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ)(9) [ سورة يوسف، الآية: 44 ] مما يدل على أنه إذا جاءه أمر مهم جمع الملأ من قومه فشاورهم، وهذه الرؤيا من الأمور المهمة عنده -وهي كذلك-، وفي قولهم: (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ)(10) [ سورة يوسف، الآية: 44 ] ما يفهم أنهم قالوا: ليس هذا من اختصاصنا، حيث إن مهمتنا إبداء الرأي في غير الرؤيا، فلها أهلها.
* قال ابن الجوزي: فدعا أشراف قومه، فقصها عليهم (11).
قال الزجاج: والملأ الذين يرجع إليهم في الأمور ويقتدي برأيهم (12)
وقال القاسمي: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ)(13) [ سورة يوسف، الآية: 43 ] خطاب للأشراف من قومه (14).
وقد وفق في استشارته حيث وجد في الملأ من دله على من يعبر له رؤياه، وهذا من ثمرات الاستشارة.
النجوى من صور الشورى
الموضع العاشر:
وردت آيات كثيرة في التناجي والنجوى، وإن كانت النجوى ليست خاصة بالشورى والمشاورة، ولكن المشاورة صورة من الصور التي تتم عن طريق النجوى، كما قال -سبحانه- عن قوم فرعون عندما تشاوروا في موسى بناء على طلب فرعون. (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)(15) [ سورة الشعراء، الآية: 35 ] قال -سبحانه- مبينا لحالهم في تشاورهم.
(فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى)(16) [ سورة طه، الآية 62 ].
وكما قال عن إخوة يوسف: (خَلَصُوا نَجِيّاً)(17) [ سورة يوسف، الآية: 80 ] ولذلك أمر الله أن تكون النجوى بالخير، والتناجي بالبر والتقوى. قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(18) [سورة المجادلة، الآية: 9 ].
وكما ذكرت فإن هذه الآية ليست خاصة في الشورى، بل هي أعم من ذلك، ولكن الشورى تدخل فيها من باب أولى (19).
وقبل أن أتجاوز المواضع التي وردت في القرآن الكريم دالة على الشورى، أذكر موضعين أشار إليهما بعض المفسرين، مع أن الدلالة ليست مسلمة بإطلاق، وبخاصة في الموضع الأول، وسأذكر بعض ما قيل حول هذين الموضعين: الموضع الأول:
__________
(1) - سورة الأعراف آية: 111.
(2) - انظر. تفسير ابن كثير 2 / 236.
(3) - سورة الأنفال آية: 30.
(4) - انظر: تفسير الطبري 9 / 228.
(5) - انظر: تفسير الطبري 9 / 228.
(6) - انظر: تفسير الطبري 9 / 228.
(7) - انظر: زاد المسير 3 / 346.
(8) - سورة يوسف آية: 43.
(9) - سورة يوسف آية: 44.
(10) - سورة يوسف آية: 44.
(11) - انظر: زاد المسير 4 / 229.
(12) - انظر: زاد المسير 4 / 229.
(13) - سورة يوسف آية: 43.
(14) - انظر:- تفسير القاسمي 9 / 3545.
(15) - سورة الشعراء آية: 35.
(16) - سورة طه آية: 62.
(17) - سورة يوسف آية: 80.
(18) - سورة المجادلة آية: 9.
(19) - انظر: تفصيل ذلك في كتاب ملامح الشورى ص66.(/8)
قال -تعالى- في سورة البقرة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ)(1) [سورة البقرة، الآية: 30 ].
* قال ابن عاشور: وقول الله هذا موجه إلى الملائكة على وجه الإخبار، ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنساني، على وجه يزيل ما علم الله أنه في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس، وليكون كالاستشارة لهم تكريما لهم، فيكون تعليما في قالب تكريم، مثل إلقاء المعلم فائدة للتلميذ في صورة سؤال وجواب، وليسنّ الاستشارة في الأمور، ولتنبيه الملائكة على ما دق وخفي من حكمة خلق آدم، كذا ذكر المفسرون، وعندي -الكلام لابن عاشور- أن هذه الاستشارة جعلت لتكون حقيقة مقارنة في الوجود لخلق أول البشر، حتى تكون ناموسا أشربته نفوس ذريته، لأن مقارنة شيء من الأحوال والمعاني لتكوين شيء ما تؤثر تآلفا بين ذلك الكائن وبين المقارن (2).
* وقال في تفسيره لقوله -تعالى-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(3) [ سورة آل عمران، الآية: 159 ].
هذا والشورى ما جبل الله عليه الإنسان في فطرته السليمة، أي: فطره على محبة الصلاح، وتطلب النجاح في المساعي، ولذلك قرن الله -تعالى- خلق أصل البشر بالتشاور في شأنه إذ قال للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)(4) [ سورة البقرة، الآية: 30 ].
إذ قد غني الله عن إعانة المخلوقات في الرأي، ولكنه عرض على الملائكة مراده؛ ليكون التشاور سنة في البشر، ضرورة أنه مقترن بتكوينه، فإن مقارنة الشيء للشيء في أصل التكوين يوجب إلفه وتعارفه، ولما كانت الشورى معنى من المعاني لا ذات لها في الوجود جعل الله إلفها للبشر بطريقة المقارنة في وقت التكوين (5). الموضع الثاني:
قال -تعالى- في سورة الصافات: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(6) [ سورة الصافات، الآية 102 ].
قال الإمام الطبري: فإن قال قائل: أو كان إبراهيم يؤامر ابنه في المضي لأمر الله، والانتهاء إلى طاعته؟ قيل: لم يكن ذلك منه مشاورة لابنه في طاعة الله، ولكنه كان منه ليعلم ما عند ابنه من العزم، هل هو من الصبر على أمر الله على مثل الذي هو عليه، فيسر بذلك أم لا!! وهو في الأحوال كلها ماض لأمر الله (7).
وقال ابن كثير: وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلده وعزمه في صغره على طاعة الله -تعالى- وطاعة أبيه (8).
قال القاسمي: قال الرازي: الحكمة في مشاورة الابن في هذا الباب، أن يطلع ابنه على هذه الواقعة ليظهر له صبره في طاعة، الله فتكون فيه قرة عين لإبراهيم، حيث يراه قد بلغ في الحلم إلى هذا الحد العظيم، وفي الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية، ويحصل للابن الثواب في الآخرة، والثناء الحسن في الدنيا (9).
إن هاتين الآيتين قد تبدو الشورى في ظاهر سياقهما، ولكن عند النظر في تفسيرهما، ندرك أنه لا شورى فيهما، لأن الاستشارة الحقيقية هي استخراج الرأي للإفادة منه من قِبَل المستشير، وذلك بالعمل به إن كان صوابا، وليس من هذا شيء في هاتين الآيتين كما ذكر المفسرون.
فالموضع الأول: الله غني عن رأي أحد من المخلوقين.
والموضع الثاني: قد جاء الأمر فيه من الله، وليس بعد أمر الله أمر ولا خيار (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(10) [ سورة الأحزاب، الآية: 36 ].
دلالات يخرج منها المتأمل لآيات الشورى في القرآن الكريم
وبعد:
وبعد أن ذكرت آيات الشورى ومواضعها في القرآن الكريم، وبينت أقوال المفسرين حول هذه الآيات، أجد أن هناك عدة دلالات يخرج منها المتأمل لهذه الآيات أوجزها فيما يلي:
__________
(1) - سورة البقرة آية: 30.
(2) - انظر: التحرير والتنوير 1 / 400.
(3) - سورة آل عمران آية: 159.
(4) - سورة البقرة آية: 30.
(5) - انظر: تفسير التحرير والتنوير 4 / 150.
(6) - سورة الصافات آية: 102.
(7) - انظر: تفسير الطبري 23 / 79.
(8) - انظر: تفسير ابن كثير 4 / 15.
(9) - انظر: تفسير القاسمي 14 / 5050.
(10) - سورة الأحزاب آية: 36.(/9)
1- إن نزول قوله -تعالى-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(1) [ سورة آل عمران، الآية: 159 ] بعد وقعة أحد، وما حدث فيها وقبلها من أحداث، له دلالته الكبرى على مكانة الشورى، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه قبل غزوة أحد، هل يقاتلون وهم داخل المدينة، أو يخرجون خارج المدينة؟ فكان رأي بعض الصحابة أن يبقوا داخل المدينة، ورأى آخرون -وأكثرهم من الشباب الذين يتقدون حماسا- أن يكون القتال خارج المدينة لأسباب ذكرها هؤلاء، كما أن أولئك ذكروا أسبابا للبقاء.
وقد حدثت بعد ذلك أحداث لها صلة مباشرة بالشورى، أهمها:
(أ) رجوع عبد الله بن أبي بن سلول إلى المدينة، وتبعه ثلث الجيش، بعد أن خرجوا منها احتجاجا على أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأي الشباب، وتركه لرأي الشيوخ (2) ومعلوم ما لهذا التصرف في هذا الوقت الحرج جدا من آثار حسية ومعنوية، يصعب حصرها، ويطول ذكرها.
(ب) وقوع الهزيمة في أحد مما قد يستغله البعض في القدح في نتيجة الشورى، ويجعل ذلك بسببها.
في هذا الوقت، وفي ظل هذه الأوضاع تنزل آية الشورى قاطعة الطريق على أي محاولة للتشكيك في مبدأ الشورى أو النيل منه، وما حدث مع ضخامته لا يعدو أن يكون حادثة عين لا تقدح في الأصل، لأن حوادث الأعيان تنتهي بانتهاء آثارها، أما الأصل والمنهج فله صفة الاستمرار والشمول (3).
2- ورود الشورى في القرآن جاء في عدة صيغ، فمرة بصيغة الأمر، ومرة بصيغة الخبر، وأخرى على شكل قصة، أو في سياق حدث من الأحداث.
إن تكرار الشورى، وتنوع عرضها يدل على ما لهذا الأسلوب من أثر في رسم المنهج وبيانه، وأهمية ترسيخ هذا المبدأ في حياة الناس، وعامة شئونهم.
3- إن ثناء الله -جل وعلا- على الأنصار لممارستهم للشورى قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك في قوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(4) [ سورة الشورى، الآية: 38 ] يرسم للدعاة منهجا في مواجهة الأحداث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا ما كان يفعله الأنصار قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك فعلوه بعد انتقاله للرفيق الأعلى، حيث استمر المهاجرون والأنصار وغيرهم يمارسون الشورى، وبخاصة عند الأحداث المهمة.
4- مما يستدعي الوقوف والتأمل: ممارسة الشورى من قبل الكفار، كما ذكر الله -جل وعلا- في كتابه الكريم عن فرعون، وملكة سبأ، ومشركي قريش، وغيرهم، وهذا له دلالات عدة، من أهمها أن الكفار أيضا يشتركون في معرفة أهمية المشاورة، وآثارها على الأمم عاجلا وآجلا.
وسياق بعض الآيات يدل على أن القضية ليست قضية عين، بل منهج حياة، وممارسة مستمرة، حيث قالت ملكة سبأ: (مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)(5) [ سورة النمل، الآية: 32 ] فهى لن تقطع بأي أمر من الأمور دونهم، ويبدو أن هذا هو منهجها قبل هذه الحادثة.
ودار الندوة التي اجتمعت فيها قريش للتآمر على الرسول صلى الله عليه وسلم حيث تشاوروا في ذلك، يدل اسمها على أنها خصصت مكانا للاجتماع، والتشاور في الأمور التي تهم قريشا وتغشاها.
الشورى في السنة
مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة وأبي بكر رضي الله عنهما
وشاورهم في الأمر:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير صحابته في مكة، ثم لما قدم المدينة استمر في مشورته لهم، وبعد أحد نزل قوله -تعالى-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(6) [ سورة آل عمران، الآية: 159 ] وهذه الآية ليس فيها ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يستشير صحابته (7) بل هي أشبه بقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا)(8) [ سورة النساء، الآية: 136 ] وبخاصة إذا علمنا الظروف التي نزلت فيها هذه الآية، حيث كانت بعد غزوة أحد، وقد سبقها استشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في شأن الغزوة، وحدث ما حدث كما سبق بيانه.
وقد استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشورته لأصحابه؛ وتوالت الأدلة القولية والعملية التي تؤكد ذلك، مع أن الأدلة العملية -وهي الأهم هنا- بلغت حدا جعل أبا هريرة رضي الله عنه يقول: ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه (9).
وقد روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من نبي إلا وله وزيران من أهل السماء، ووزيران من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر " (10).
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 159.
(2) - انظر: فقه السيرة ص370.
(3) - انظر: في ظلال القرآن 1 / 501.
(4) - سورة الشورى آية: 38.
(5) - سورة النمل آية: 32.
(6) - سورة آل عمران آية: 159.
(7) - وبخاصة أنه ثبت أن رسول الله كان يستشير صحابته قبل ذلك، وأقرب مثال على ذلك استشارتهم في أحد، وقبلها في بدر.
(8) - سورة النساء آية: 136.
(9) - سبق تخريجه ص8.
(10) - رواه الترمذي "3680" وهو حديث ضعيف انظر ضعيف الجامع "5223".(/10)
ولذلك قال علي رضي الله عنه مترحما على عمر رضي الله عنه بعد أن طعن: ما خلفت أحدا أحب إلي من أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبت أني كثيرا كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر " (1).
ولا شك أن كثرة لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبيه كان لأمور مهمة وعظيمة، ومن ذلك التشاور المستمر في شئون الأمة، وما يجد فيها، ويؤكد ذلك وقائع السيرة وروايتها.
بل إن الأمر أوسع من ذلك، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله " (2).
وبهذا ندرك أن قوله -تعالى-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(3) [ سورة آل عمران، الآية: 159 ] أصبح منهج حياة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده اقتداء به، وتصديقا لقوله -تعالى-: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(4) إذ مدح الله الأنصار -رضي الله عنهم- لممارستهم الشورى في حياتهم حتى قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وتوضيحا لما تم إجماله سأذكر بعض وقائع السيرة من مشورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه في أزمنة مختلفة.
ونظرا لأن المراد هو بيان أن الشورى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أصبحت حقيقة واقعة، ومنهج حياة، وليس المراد هو حصر وقائع الشورى، وذكر تفصيلاتها ودقائقها، فلن ألتزم بحصر تلك الوقائع، ولن أفصل فيها تفصيلا يخرج عن الهدف الذي سيقت له، بل سأذكرها بما يشبه الإجمال، وليس المراد هو التحقيق من صحة كل رواية بذاتها -حيث إن بعض ما يرد قد لا يخلو من ضعف وبخاصة في تفاصيله لا في أصله- ولكن مجموع ما سأذكره من وقائع وشواهد -وبعضها في الصحيحين- يحقق الغرض الذي سيقت من أجله، وهذه مسألة لا بد من التنبه لها ومراعاتها، وتبرز قضية المشاورة من خلال مما يلي:
1- مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم لخديجة -رضي الله عنها- منذ بعثته حتى وفاتها (5)
2- استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه في مكة، ومن أبرز الوقائع في ذلك حادثة الهجرة، واتخاذ الترتيبات لذلك (6).
مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في غزوة بدر
3- ما حدث في بدر من مشاورة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته في عدة مواضع أهمها:
(أ) استشارته لأصحابه قبل اتخاذ قرار المواجهة مع قريش، فعندما أتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عيرهم استشار الناس بعد أن أخبرهم بقدوم قريش، فقام عدد من الصحابة من المهاجرين كأبي بكر والمقداد بن عمرو، وأشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يمضي لما أراه الله، فهم موافقون لأي قرار يتخذه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد رأي الأنصار -تنفيذا لما تم الاتفاق عليه في بيعة العقبة-. فقال: " أشيروا علي أيها الناس " فقام سعد بن معاذ، وتكلم عن الأنصار، وكان مما قال: " فامض لما أردت فنحن معك " فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر بعد أن سمع من المهاجرين والأنصار، ولم يخالف في ذلك أحد منهم(7).
(ب) عندما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر، وقبل الوصول إلى الماء جاء الحباب بن المنذر، وأشار على رسول الله أن يغير المكان إلى مكان أفضل منه من الناحية الحربية، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَبِل مشورته (8).
__________
(1) - رواه البخاري "7 / 26، رقم 3677"، ومسلم "4 / 1858، رقم 2389" كلاهما عن ابن عباس.
(2) - أخرجه البخاري (13 / 201، رقم "7198" -فتح-) والإمام أحمد (3 / 39 و88) والنسائي (4202) عن أيى سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3) - سورة آل عمران آية: 159.
(4) - سورة الشورى آية: 38.
(5) - انظر: فقه السيرة ص91 و 128.
(6) - انظر: فقه السيرة ص170 و172.
(7) - خرج الألباني هذا الحديث، وأشار إلى رواياته وأسانيده، وبين درجة كل منها، والخلاصة صحة أصل الاستشارة -وهو ما يهمنا هنا- ومن أراد المزيد من التفصيل فليرجع إلى فقه السيرة للغزالي بتخريج الألباني ص239.
(8) - وقد ضعف الألباني هذه القصة بعد ذكره لرواياتها، وانظر فقه السيرة ص340.(/11)
(ج) وقمة الاستشارة في هذه الغزوة استشارته في أسارى بدر، فقد روى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار الناس يوم بدر في الأسارى فقال: " إن الله قد أمكنكم منهم " فأشار عليه عدد من الصحابة بعدة آراء، وهي تدور على: إطلاق سراحهم، أو الفداء، أو القتل. وكان ممن أشار بالعفو مع الفداء: أبو بكر، وأشار عمر بضرب أعناقهم. وقد أخذ صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر، فأخذ منهم الفداء، وأطلق سراحهم، ونزل القرآن موافقا لرأي عمر حيث قال -سبحانه-: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(1)(2) [ سورة الأنفال، الآيتان: 67، 68 ].
مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في غزوة أحد
4- استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته قبل غزوة أحد، هل يقاتلون من داخل المدينة، أم يخرجون إلى خارجها، وقال: أشيروا علي:
وقد أشار عدد من الصحابة بأن يبقوا داخل المدينة، فإن دخلت قريش عليهم قاتلوهم في الأزقة، ورموهم من فوق الصياصي والآطام، وقد كانت المدينة شبه محصنة، وكان هذا رأي كبار الصحابة، وهو رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يعزم عليهم.
ولذلك قال بعض الفتيان ممن لم يشهدوا بدرا، وكانوا يتشوقون للجهاد ليبلوا كما أبلى أصحاب بدر، حيث إنهم لم يشهدوها، فقد قال هؤلاء: اخرج بنا إلى عدونا، وأيدهم بعض كبار الصحابة كحمزة، وسعد بن عبادة، والنعمان بن ثعلبة، وغيرهم.
وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي هؤلاء، وعندما لبس لامته ودرعه، خشي أولئك أنهم استكرهوه، فعادوا إلى رأيه، فأبى صلى الله عليه وسلم بعد أن عزم على الخروج، فخرج (3).
مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في قصة الإفك وغزوة الخندق
5- إستشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد في قصة الإفك، وبخاصة ما يتعلق بعائشة -رضي الله عنهم أجمعين--. فأما أسامة فأثنى خيرا، ثم قال: يا رسول الله، أهلك ولا نعلم منهم إلا خيرا. وأما علي فقال: يا رسول الله، إن النساء لكثير، وسل الجارية فإنها تصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة يسألها... الحديث (4).
6- وفي غزوة الخندق كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح بينه وبين عيينة بن حصن على ثلث ثمار المدينة على ألا يقاتلوا مع الأحزاب، وقبل إكمال إجراءات العقد والإشهاد عليه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة وسعد بن معاذ يستشيرهما في ذلك، فقالا: أمرا تحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: لا، بل شيء أصنعه لكم، فذكر سعد بن معاذ أنهم لا يرون ذلك، وأيده سعد بن عبادة، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيهما، وألغى الكتابة مع عيينة بن حصن (5).
مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الحديبية
7- وفي الحديبية شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته في أكثر من مرة ومنها:
(أ) لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة قاصدا مكة محرما، ووصل إلى غدير الأشطاط جاءه رجل فقال له: إن قريشا قد جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك، وصادوك، ومانعوك، فقال صلى الله عليه وسلم أشيروا أيها الناس علي: أترون أن نميل على عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟ أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا قاتلناه؟ فأشار عليه أبو بكر بالخيار الثاني، فقال صلى الله عليه وسلم " فامضوا على اسم الله تعالى " الحديث (6).
(ب) ذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استدعى عمر- رضي الله عنه-، وطلب منه أن يذهب إلى قريش لإخبارها بقصد الرسول صلى الله عليه وسلم من مقدمه إلى مكة، فأشار عليه عمر أن يرسل عثمان بن عفان لأسباب ذكرها، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأيه وأرسل عثمان رضي الله عنه (7).
__________
(1) - سورة الأنفال آية: 67-68.
(2) - وهذه الاستشارة صحيحة حيث ثبتت في صحيح مسلم وغيره انظر: صحيح مسلم 5 / 156 وتفسير ابن كثير 2 / 325 وفقه السيرة ص254.
(3) - ورد هذا الحديث بطرق وروايات متعددة، وقد حققها الألباني وحكم بصحة الحديث، ومن أراد تفصيل ذلك فليرجع إلى فقه السيرة للغزالي، بتخريج الألباني ص169.
(4) - انظر: تفسير ابن كثير 3 / 269، وهذا الحديث صحيح رواه البخاري ومسلم وغيرهما وانظر: فقه السيرة ص316.
(5) - انظر: سيرة ابن هشام وملامح الشورى للنحوي ص214.
(6) - أخرجه البخاري (7 / 518، رقم 4178، 4179) عن المسور بن مخرمة، ومروان ابن الحكم.
(7) - انظر: سيرة ابن هشام وفقه السيرة ص363.(/12)
(جـ) لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب مع سهيل بن عمرو، أمر الصحابة أن يحلوا بالحلق بعد النحر، فما قام منهم رجل واحد، وقال ذلك ثلاث مرات، فلم يفعلوا، فدخل على أم سلمة -رضي الله عنها- وذكر لها ما لقي من الناس، فأشارت عليه أم سلمة أن يخرج ثم ينحر بدنه -ولا يكلم أحدا منهم- ثم يدعو حالقه فيحلقه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل ما أشارت به أم سلمة من النحر والحلق، فلما رأى الصحابة ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما (1)
صفحة من التاريخ
نماذج من الشوري في حياة الصحابة رضي الله عنهم
وأمرهم شورى بينهم ذكرت عند تفسير قوله -تعالى-: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(2) [سورة الشورى، الآية: 38] أن هذه الآية نزلت في الأنصار قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، حيث كانوا يتشاورون فيما بينهم، وهذه الآية وإن كانت نزلت في الأنصار، فإن مدلولها أعم من ذلك، حيث إن الصحابة -رضوان الله عليهم- استمروا يمارسون الشورى بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الأمر يعدو على الحصر، وسأشير إلى بعض تلك الوقائع بإيجاز، مبينا أن الشورى كانت قبل هجرته صلى الله عليه وسلم وفي أثناء حياته في مكة والمدينة -كما سبق- وكذلك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فهي منهج حياة مارسها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقا ولاحقا، وهذا معنى قوله -تعالى-: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(3) [سورة الشورى، الآية: 38 ].
ونأتي الآن إلى ذكر بعض هذه الشواهد:
1- اجتمع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في سقيفة بني ساعدة، وتشاوروا فيمن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد مداولة مشهورة اتفق رأيهم على تولية أبي بكر رضي الله عنه فبايعوه على ذلك، في صورة من صور الشورى الرائعة، التي سجلها التاريخ بأحرف من ذهب (4).
2- لما أراد أبو بكر غزو الروم دعا عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأبا عبيدة بن الجراح، وعددا من المهاجرين والأنصار، وأخبرهم عما أراد، وبين لهم وجهة نظره في ذلك، ثم قال: وهذا رأيي الذي رأيته، فليشر عليّ أمرؤ برأيه.
فأشار عمر برأيه، وكان مما قال في ختام كلامه: "سرّب إليهم الخيل في أثر الخيل، وابعث الرجال بعد الرجال، والجنود تتبعها الجنود، فإن الله ناصر دينه ومعز الإسلام بأهله".
ثم تكلم عبد الرحمن بن عوف، وكان مما قال: "ما أرى أن نقتحم عليهم اقتحاما، ولكن نبعث الخيول فتغير في قواصي أرضهم، ثم ترجع إليك، وهكذا".
* ثم قال أبو بكر: ما ترون.
فقال عثمان بن عفان: "إني أرى أنك ناصح لأهل هذا الدين، شفيق عليهم، فإذا رأيت رأيا تراه لعامتهم صلاحا فاعزم على إمضائه، فإنك غير ظنين".
فقام أغلب من في المجلس، وأيدوا ما قاله عثمان في تفويض الأمر إليه (5).
3- بعد أن انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. ارتد بعض العرب، وامتنع آخرون عن أداء الزكاة، فتشاور الصحابة في ذلك، وكان لعمر رضي الله عنه رأي معروف، وخالفه في ذلك أبو بكر رضي الله عنه وثبت أبو بكر على رأيه بعد ذكر الأدلة على صحة ما ذهب إليه، فشرح الله صدر عمر واتفقت كلمة الصحابة على حرب المرتدين، وقتال مانعي الزكاة.
* ولولا هذه الشورى، والمحاورة المدعومة بالدليل لحدث شرخ كبير يصعب رتقه، في وقت كانت الأمة في أمس الحاجة إلى وحدة الكلمة، ورص الصفوف (6).
4- وقد كان عمر رضي الله عنه يستشير كثيرا، ويجمع أهل بدر للمعضلات، قال سعد بن أبي وقاص: ما رأيت أحدا أحضر فهما، ولا ألب لبا، ولا أكثر علما، ولا أوسع علما من ابن عباس، ولقد رأيت عمر بن الخطاب يدعوه للمعضلات ثم يقول: جاءتك معضلة، ثم لا يجاوز قوله، وإذا أهم الأمر عمر بن الخطاب دعاه وقاله له: غص غواص.
* وذكر البيهقي أن عمر كان يدعو الفتيان، فيستشيرهم.
* وعند البيهقي -أيضا- قال ابن سيرين: إن عمر بن الخطاب كان يستشير، حتى إن كان ليستشير المرأة، فربما أبصر في قولها الشيء الحسن فيأخذ به (7). قال ابن عاشور: وكان عمر يكتب لعماله يأمرهم بالتشاور، ويتمثل لهم في كتبه بقول الشاعر:
خليلي ليس الرأي في صدر واحد ... أشيرا علي بالذي تريان (8)
وقد استشار عمر ابنته حفصة -رضي الله عنها- في مقدار المدة التي تصبر فيها المرأة عن زوجها.
وكذلك أشارت عليه أن يستخلف من بعده.
__________
(1) - انظر: صحيح البخاري وفقه السيرة ص363.
(2) - سورة الشورى آية: 38.
(3) - سورة الشورى آية: 38.
(4) - انظر: كتب السيرة. فالواقعة مشهورة.
(5) - انظر: حياة الصحابة 1 / 651، وملامح الشورى، ص265.
(6) - انظر: كتاب "أبو بكر الصديق" لمحمد رضا ص75 وما بعدها، وملامح الشورى.
(7) - انظر: لكل ما سبق ملامح الشورى ص303.
(8) - انظر: تفسير التحرير والتنوير 4 / 150.(/13)
* وآخر مظهر من مظاهر الشورى في حياة عمر رضي الله عنه اختياره لأهل الشورى، وإسناد أمر الخلافة إليهم، وانتقل إلى الدار الآخرة، وأمر المسلمين شورى بينهم. -فرضي الله عنه وأرضاه- (1).
5- واستمرت الشورى في خلافة عثمان وعلي -رضي الله عنهما-، وسيرتهما تزخر بالشواهد على ذلك، سواء أكان ذلك فيما يتعلق بالفتوحات، أم بإسناد الولايات، أم ما يجد من أحداث كانت تستدعي الشورى، بصوره فردية أو جماعية، فقد كان عثمان يستشير عليا في كثير من الأمور التي تواجه الخلافة الراشدة، وتحتاج إلى الرأي السديد والموقف الحازم، وهو ما اشتهر به أبو الحسن -رضي الله عنهم- أجمعين.
وكذلك كان علي في خلافته، وبخاصة بعد مواجهته للفتن والقلاقل التي كانت تحتاج إلى محض الرأي وصدق المشورة، وقد كان علي يستشير كثيرا من الصحابة، وبخاصة السابقين إلى الإسلام.
ومن خلال ما سبق يتضح لنا جليا معنى قوله -تعالى-: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(2) [ سورة الشورى، الآية: 38 ].
أهداف الاستشارة وآثارها
البحث عن الحق والصواب
أهداف الاستشارة وآثارها:
هناك أهداف نسعى لتحقيقها من خلال الاستشارة، وإذا تحققت المشاورة على وجهها الصحيح فإن لها من الآثار الإيجابية ما لا يخفى.
وللتداخل بين الأهداف والآثار فسأذكرهما معا دون تمييز لهما، وبخاصة أن ما سأذكره قد يكون هدفا وأثرا في آن واحد، وسأقتصر على أهم الأهداف والآثار غير مستقص لذلك (3).
1- إن الاستشارة إذا توافر فيها ركنا الإخلاص والمتابعة فهي عبادة لله، يرجو العبد فيها ثواب الله، لأن الله قد أمر بها وشرعها، وفعلها رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان كذلك فهو أمر مشروع متعبد به، سواء أكان عبادة واجبة أم مندوبة (4).
2- البحث عن الحق والصواب ضمن المنهج الشرعي، والوصول إلى أقرب الوسائل الملائمة للأمر المتشاور فيه. قال ابن الجوزي عند تفسيره لقوله -تعالى-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(5) [ سورة، آل عمران، الآية: 159 ].
قال علي رضي الله عنه "الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه".
* وقال بعض الحكماء: "ما استُنبط الصواب بمثل المشاورة، ولا حُصنت النعم بمثل المواساة، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر".
* قال ابن الجوزي: "ومن فوائد المشاورة أنه قد يعزم على أمر، فيبين له الصواب في قول غيره".(6).
* وقال قتادة: "وإن القوم إذا شاور بعضهم بعضا، وأرادوا بذلك وجه الله عزم لهم على أرشده" (7).
* وقال الحسن: "ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم" (8).
* وقال الطبري: "فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله في ذلك على تصادق وتآخ للحق، وإرادة جميعهم للصواب، من غير ميل إلى هوى، ولا حيد عن هدى، فالله مسددهم وموفقهم" (9).
3- تأليف القلوب وجمع الكلمة، وسد منافذ الشر، والقيل والقال، وأدعى لقبول الأمر الناتج عن تشاور.
* قال الطبري: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(10) [سورة آل عمران، الآية: 159] بمشاورة أصحابه في مكايد الحرب، وعند لقاء العدو، تطييبا منه بذلك أنفسهم، وتألفا لهم على دينهم(11).
* قال قتادة: أمر الله - عز وجل - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور، وهو يأتيه وحي السماء، لأنه أطيب لأنفس القوم(12).
* وقال ابن إسحاق: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(13) [ سورة آل عمران، الآية: 159 ] أي: لتريهم أنك تسمع منهم وتستعين بهم، وإن كنت عنهم غنيا تؤلفهم بذلك على دينهم (14).
* وقال ابن الجوزي: أمر الله نبيه بمشاورة أصحابه، مع كونه كامل الرأي، تام التدبير على ثلاثة أقول:
* وذكر الأول ثم قال: الثاني: لتطيب قلوبهم، وهو قول قتادة والربيع وابن إسحاق ومقاتل، قال الشافعي: نظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم " البكر تستأمر في نفسها " إنما أراد استطابة نفسها، فإنها لو كرهت كان للأب أن يزوجها، وكذلك مشاورة إبراهيم -عليه السلام- لابنه حين أمر بذبحه (15).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وقد قيل: إن الله أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم لتأليف قلوب أصحابه، وليقتدي به من بعده، وليستخرج منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحي (16).
__________
(1) - انظر: ملامح الشورى ص347 وأخبار عمر ص433.
(2) - سورة الشورى آية: 38.
(3) - انظر: ملامح الشورى للنحوي ص32.
(4) - اختلف العلماء في حكم الاستشارة أواجبة أو مندوبة؟! وقد ذكر ابن عاشور خلاف العلماء في ذلك. وفصل فيه، ورجح ما رآه. انظر: التحرير والتنوير 4 / 148.
(5) - سورة آل عمران آية: 159.
(6) - انظر: زاد المسير 1 / 488.
(7) - انظر: تفسير الطبري 4 / 152، 153.
(8) - انظر: تفسير الطبري 4 / 152، 153.
(9) - انظر: تفسير الطبري 4 / 152، 153.
(10) - سورة آل عمران آية: 159.
(11) - تفسير الطبري 4 / 152.
(12) - تفسير الطبري 4 / 152.
(13) - سورة آل عمران آية: 159.
(14) - انظر: تفسير الطبري 4 / 125.
(15) - انظر: زاد المسير 1 / 488.
(16) - السياسة الشرعية ص108.(/14)
قال ابن عاشور: وعن الشافعي أن هذا الأمر للاستحباب، ولتقتدي به الأمة، وهو عام للرسول صلى الله عليه وسلم وغيره، تطييبا لنفوس أصحابه، ورفعا لأقدارهم (1).
4- القضاء على الفردية والارتجال، وتجنيب الأمة آثار المواقف والقرارات الفردية.
إن الشورى علاج حاسم في مواجهة المواقف الارتجالية والقرارات الفردية، فالشاعر يقول:
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به ... رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها
إن هناك فرقا بين أن يتخذ الإنسان قرارا يخصه وحده، أو يتخذ قرارا يؤثر على غيره.
ومن هنا رأينا أن الله -سبحانه- جعل اتخاذ قرار يتعلق بصبي رضيع لا يملكه فرد واحد، وإن كان أقرب الناس إليه، وهو والده أو والدته، وجعل رفع الجناح مشروطا بالتشاور والتراضي بين الوالدين، (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا)(2) [ سورة البقرة، الآية: 233 ].
* فإذا كان هذا ما يتعلق بصبي رضيع، فكيف بما يتعلق بشئون الأمة وأحوالها، أيجوز أن ينفرد به أي فرد من المسلمين؟
5- تنسيق الجهود وتجميعها، والإفادة من الطاقات وعدم تبديدها، والقضاء على الازدواجية والتداخل. وهذا أمر واضح وبيّن، ولذلك قال -سبحانه-: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)(3) [سورة الأنفال، الآية: 46] فالشورى وسيلة للاجتماع، واستثمار الطاقات، وباب من أبواب التعاون على البر والتقوى، الذي أمر الله به: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)(4) [ سورة المائدة، الآية: 2 ].
* قال سيد قطب -يرحمه الله- في تفسيره لقوله- تعالى-: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(5) [ سورة الشورى، الآية: 38 ] ومع أن هذه الآيات مكية، نزلت قبل قيام الدولة الإسلامية في المدينة، فإننا نجد فيها أن من صفة هذه الجماعة المسلمة: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(6) مما يوحي بأن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظاما سياسيا للدولة، فهو طابع أساسي للجماعة كلها، يقوم عليه أمرها كجماعة (7).
6- التدريب والإعداد، واكتشاف المواهب والطاقات:
أخرج البيهقي أن عمر رضي الله عنه كان إذا نزل الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يقتفي حدة عقولهم (8).
* وقال سعد بن أبي وقاص: "إذا أهم الأمر عمر بن الخطاب دعا ابن عباس وقال له: غص غواص"(9).
* قال الأستاذ عدنان النحوي:
فمن خلال مداولة الرأي وبيان الحجة، يبرز مستوى الإيمان والعلم، وتتمايز المواهب والقدرات، وتعرف المعادن والرجال، فالشورى محك، يكاد يكشف أطراف النية، ومنثور الموهبة، وحدود الطاقة. وقال: ولقد تدرب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدريبا واسعا من خلال الممارسة، والصحبة على هذه الأمور، في مجالس الشورى، فلما أصبح الأمر في أيديهم سهل عليهم الأمر، ومدرسة الشورى من أعظم مدارس الإسلام عطاء في التدريب، والإعداد، والتربية والبناء (10).
7- الشورى غنهما لك وغرمها على غيرك
* قال ابن الجوزي: "ومن فوائد المشاورة أن المشاور إذا لم ينجح في أمره، علم أن امتناع النجاح محض قدر فلم يلم نفسه" (11).
فإذا بذل الإنسان وسعه وطاقته في تحري الصواب فلم يوفق له، فقد اجتهد، وهو مأجور -إن شاء الله-، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وإن وفق للأمر بعد اجتهاده -والشورى من وسائل الاجتهاد- فله أجران، فإذا هو غانم غير غارم على أي حال. ولذلك قال الشاعر (12)
إن المشاور إما صائب غرضا ... أو مخطئ غير منسوب إلى الخطل
* وقال الآخر: (13)
وأكثر من الشورى فإنك إن تصب ... تجد مادحا أو تخطئ الرأي تعذر
ومن غنم الاستشارة نضوج الرأي واستوائه فقد قيل: "من شاور الرجال شاركهم في عقولهم".
وهو يؤدي إلى أصالة الرأي، وهو من النضج والاستواء، وذلك عاصم -بإذن الله- من الوقوع في الخطأ، والتصرف غير المحمود، قال الشاعر: (14)
أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل
__________
(1) - انظر: التحرير والتنوير 4 / 148.
(2) - سورة البقرة آية: 233.
(3) - سورة الأنفال آية: 46.
(4) - سورة المائدة آية: 2.
(5) - سورة الشورى آية: 38.
(6) - سورة الشورى آية: 38.
(7) - انظر: الظلال 5 / 3165.
(8) - انظر: ملامح الشورى ص303.
(9) - انظر: ملامح الشورى ص303.
(10) - انظر: ملامح الشورى ص33.
(11) - انظر: زاد المسير 1 / 488.
(12) - البيت لابن أبي بكر المقري كما في جواهر الأدب 2 / 432.
(13) - البيت لعبد الله فكري كما في جواهر الأدب 2 / 443.
(14) - البيت لأبي إسماعيل الطغرائي، كما في جواهر الأدب 2 / 438.(/15)
** ومن خلال ما سبق يتضح لنا ما للشورى من ثمار وآثار إيجابية، فهي مفتاح كل خير، ومغلاق كل شر إذا تمت ممارستها وفق الضوابط الشرعية، والأصول المرعية، ولو لم يكن فيها إلا أنها تسد بابا من أبواب الإشاعة المؤذية، والاتهامات الباطلة، والفتنة المرجفه، لو لم يكن لها إلا ذاك لكفى بها خيرا، ولعز مطلبها وفاز طالبها، ورخص -مهما غلا- ثمنها، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أسباب الفردية وعدم الاستشارة
الكبر وحب السيطرة
أسباب الفردية وعدم الاستشارة
لماذا يعزف كثير من الناس عن الاستشارة، ويستأثرون بالأمر وحدهم دون مشاورة من حولهم، وتجد أن أغلب قراراتهم -إن لم تكن كلها- تتسم بالفردية؟ إن هناك أكثر من سبب لهذا الأمر، وقد يجتمع في المرء عدة أسباب، وقد يتصف بواحد منها، أو يطرأ له أحدها فيحول بينه وبين الاستشارة.
وسأذكر أهم هذه الأسباب، وبالذات الأسباب المباشرة دون غيرها من الأسباب غير المباشرة، وسأوضح كل سبب حسب ما يقتضيه المقام. والله الموفق والمعين.
1- الكبر والإعجاب بالنفس: الكبر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بطر الحق وغمط الناس " (1)
فالمتكبر بسبب بطره للحق وغمطه للناس لا يستشير، ومثاله فرعون الذي قال لقومه: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)(2) [سورة غافر، الآية: 29] إن إعجاب المرء بنفسه لا يتيح له فرصة ليرى الناس على حقيقتهم، فالغرور يملكه فيصمه ويعميه، ويودي به إلى الاستخفاف بغيره، ومن ثم الاستخفاف بآرائهم وإمكاناتهم.
* إن الكبر والإعجاب أصل الداء وموطن البلاء، وما أصيب بهما أحد إلا هلك. إما في دنياه، أو في آخرته، أو فيهما معا، ولذلك ورد في الحديث: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر " (3). وقد ذم الله الكبر فقال -سبحانه-: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)(4) [ سورة النحل، الآية: 3 ] وفي سورة غافر: (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ)(5) [سورة غافر، الآية: 27] وصدق الله العظيم. (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ)(6) [ سورة غافر، الآية: 56 ].
2- حب السيطرة والتفرد: وهذا يختلف عن الإعجاب والتكبر، وإنما هو مرض آخر، فقد يشعر الإنسان أن استشارته لغيره قد تفقده بعض امتيازاته، سواء الحسية أو المعنوية، فيبقي القرار بيده، وينفرد بالأمر دون غيره، وهذا نوع من التسلط الذي يبتلي به بعض الناس غير مدرك لآثارة السلبية في العاجل والآجل.
3- الشعور بأن الاستشارة ضعف في الرأي وعدم قدرة على اتخاذ القرار:
* فهناك من يتصور أن الاستشارة ضعف، حيث تقول له نفسه الأمارة بالسوء: إنك لو كنت قادرا على اتخاذ القرار لما استشرت غيرك، بل توسوس له أن الناس سيقولون ذلك، ويلمزونه به.
وقد أدرك الشاعر هذا الجانب فقال (7)
ولا تحسب الشورى عليك غضاضة ... مكان الخوافي قوة للقوادم
والحقيقة التي تخفى على الكثيرين: أن الاستشارة قوة لا ضعف، وحكمة لا طيش.
ويكفي للدلالة على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس استشارة لأصحابه، وهل يدعي مسلم أنه أقوى من رسول الله صلى الله عليه وسلم حسا أو معنى؟ بل هل يتصور أن مسلما يسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضعف لأنه كان كثير المشاورة لأصحابه؟ حاشاه من ذلك!!.
وقل نحو ذلك عن أبي بكر أو عمر -رضي الله عنهما-، وهما من هما في القوة، والصلابة، ورجاحة العقل.
4- عدم إدراك فوائد الاستشارة وخطورة الفردية:
إن للمشاورة فوائد جمة، سبق ذكر أهمها، وهذه الفوائد قد تخفى على بعض الناس، فلا يدرك قيمة الشورى، ويتصور أن ما يذكر حول أهميتها قد يكون مبالغا فيه، ويزداد الأمر خطورة إذا لم يدرك خطورة الفردية والاستقلال بالأمر دون غيره، ولا يعلم الآثار المترتبة على الفردية في القرار، وبخاصة إذا كان الأمر المعني لا يتعلق به وحده، وإنما هو من أمور المسلمين العامة، التي قد يتعدى أثر ضررها إذا وقع، ويصعب حصره والحد منه.
* ونظرة متأنية لواقع المسلمين اليوم، وما تقدم عليه بعض الجماعات من مواقف غير محسوبة النتائج يدرك ما أعنيه.
5- ضعف ثقته بالناس ومن حوله:
وقد يكون هذا الأمر ناشئا عن أسباب حقيقية، وقد يكون وهما وشكا ووسوسة -وهو الأغلب-. وإذا ضعفت ثقة الإنسان بمن حوله فلن يأتمنهم على أموره، ولن يثق في مشورتهم وآرائهم.
__________
(1) - أخرجه الإمام مسلم (1 / 93، رقم 91) والإمام أحمد (1 / 385 و427) وأبو داود "4092" كلهم عن ابن مسعود.
(2) - سورة غافر آية: 29.
(3) - أخرجه مسلم (1 / 93، رقم 91)، وأبو داود (4092) والترمذي (1999) والإمام أحمد (1 / 385، 427).
(4) - سورة النحل آية: 23.
(5) - سورة غافر آية: 27.
(6) - سورة غافر آية: 56.
(7) - انظر: التحرير والتنوير 4 / 151.(/16)
إن عدم الثقة إن كان ناشئا عن أسباب واقعية كالخيانة -مثلا-، وسطحية الرأي، ونحو ذلك فهذا أمر يعذر فيه الذي لا يستشير هؤلاء، ولكننا نقول له: هب أن هذه الصفة وجدت في بعض الناس، فلن تعدم ثقةً رزينا عاقلا، بعيد النظر، عميق التفكير، أما أن تعمم هذا الأمر على كل الناس فلا يسلم لك ولا يجوز.
أما إذا كان عدم الثقة بسبب صفة اتصف بها ذلك الإنسان، ولا علاقة لهذه الصفة بالرأي، كأن يكون فقيرا، أو من عائلة دون عائلة الأول، أو أقل مرتبة ممن يحتاج إلى الاستشارة، فنقول له: هذه أسباب وهمية لا تبرر عدم استشارته أو سوء الظن فيه، ولذلك قال الشاعر (1)
لا تحقر الرأي يأتيك الحقير به ... فالنحل وهو ذباب طائر العسل
وكذلك قال الهدهد لسليمان -عليه السلام-: (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ)(2) [سورة النمل، الآية: 22] ولم ينكر عليه سليمان -عليه السلام- مقولته، مع أن الهدهد من أضعف الطيور وأقلها شأنا وقيمة، وثبت صحة ما قاله، بل جاء بأمر جلل عظيم، كان له ما بعده كما في سورة النمل.
6- الاستهتار والاستخفاف:
وهذا يختلف عن الكبر والإعجاب، مع أن بينهما تداخلا، ولكن الذي أعنيه هو عدم المبالاة، وسوء تقدير الأمور، فقد يتصور بعض الناس أن هذا الأمر الذي أقدم عليه يعتبر أمرا هينا، لا أثر له في حياة الناس، أو أنه يكون ضعيف الإحساس، بحيث لا يبالي بما يترتب على هذا الأمر من خطورة قد تجر إلى مصائب يصعب تلافيها وتداركها، وهو كذلك مستخف بالناس، لا يعنيه من عنتهم شيء، ولو كان هو السبب في هذا العنت والمشقة، وهو كما قال -تعالى- واصفا فرعون: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ)(3) [سورة الزخرف، الآية: 54].
إن من اتصف بصفة الاستخفاف والاستهتار لن يلجأ إلى الشورى، بل ليس أهلا لأن يكون من أهلها مستشيرا أو مشيرا.
7- التساهل والتسويف حتى يحل الأمر:
ومن الأسباب أن بعض الناس يرغب في الاستشارة، ويعرف قيمتها وأثرها، بل قد يعزم عليها، ولكنه يسوف ويؤجل، وكل يوم يقول: سأستشير غدا أو بعد غد، وهكذا يماطل نفسه حتى يضيق الوقت، ويصبح أمام واقع لا خيار له في اتخاذ القرار، وقد يتخذ قرارا خاطئا يندم عليه لتفريطه، وتهاونه، وتسويفه، وعدم استشارته.
8- العجلة والخفة وعدم رباطة الجأش: العجلة من الشيطان، ما صاحبت شيئا إلا أثرت فيه (4) ونعني بالعجلة ما كانت في أمرٍ الأصل فيه التريث والتأني.
والعجلة والخفة تفوت على الإنسان فرصة الاستشارة، فيستعجل في تصرفه، مما قد يوقعه في سلبيات لا حصر لها، ومثل ذلك الطيش، وعدم رباطة الجأش عند مواجهة الأحداث، فيندفع الإنسان دون تبصر للعواقب. والتأني هو من سمات العقلاء، وقد حث عليه الشعراء (5)
تأن ولا تضق للأمر ذرعا
تأن فحيثما المرء تأنى ... فكم بالنجح يظفر من تأنى
ينل نجحا ويدرك ما تمنى
* والحماقة من خوارم الحكمة، وهما مما استعصى أمر علاجها على الحكماء:
لكل داء دواء يستطب به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها (6)
9- الهوى:
الهوى يعمي ويصم، وما صاحب شيئا إلا شانه، وما نزع من شيء إلا زانه.
* وقد ذم الله الهوى في آيات كثيرة من كتابه، فصاحب الهوى لا يبحث عن القول السديد والرأي الرشيد، وإنما يتبع هواه حيث قاده، قال -سبحانه-: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ)(7) [سورة النجم، الآية: 23 ] وقال: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ)(8) [سورة القصص، الآية: 50] وقال: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ)(9) [ سورة القصص، الآية: 50 ] وقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)(10) [ سورة محمد، الآية: 16 ].
وقال صلى الله عليه وسلم " إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك " الحديث (11).
ودوافع الهوى وأسبابه كثيرة جدا، وقَلَّ أن يسلم منها أحد، ولكن بالإخلاص والتجرد، ومغالبة النفس، وكثرة الدعاء، وتذكر الآخرة، يعان المسلم على ذلك. (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)(12) [ سورة النازعات، الآيتان: 40، 41 ].
__________
(1) - هذا البيت لأبي بكر المقري كما في جواهر الأدب 2 / 432.
(2) - سورة النمل آية: 22.
(3) - سورة الزخرف آية: 54.
(4) - هناك أمور مخصوصة ليست من العجلة، كتعجيل دفن الميت، وقول موسى، عليه السلام، " وعجلت إليك رب لترضى ". /1 سورة طه، الآية: 84 /1. ونحو ذلك.
(5) - انظر: جواهر الأدب 2 / 478.
(6) - انظر: جواهر الأدب 2 / 488.
(7) - سورة النجم آية: 23.
(8) - سورة القصص آية: 50.
(9) - سورة القصص آية: 50.
(10) - سورة محمد آية: 16.
(11) - أخرجه أبو داود "4341" والترمذي "3060" وابن ماجة "4041" وهو حديث ضعيف راجع السلسلة الضعيفة "1025".
(12) - سورة القصص آية: 40-41.(/17)
هذه أهم موانع الاستشارة، واللجوء إلى الفردية في الرأي والمواقف، وعلى المرء أن يكون حذرا من تلبسه بواحدة من تلك الصفات والموانع، وعليه بالمبادرة إلى التخلص مما يجد أنه قد تلبس به أو حام حوله، وليعلم أن الفردية في الرأي لا تأتي بخير، وأن الشورى لا تأتي بشر أبدا، بل إنها لا تأتي إلا بخير إذا كانت على وجهها الصحيح، ويجب أن تكون كذلك، ويكفي في المشاورة أن غنمها لك وغرمها على غيرك، ومن شاور الرجال شاركهم في عقولهم.
* قال ابن عبدالبر (1) الشورى محمودة عند عامة العلماء، ولا أعلم أحدا رضي الاستبداد، إلا رجل مفتون مخادع لمن يطلب عنده فائدة، أو رجل فاتك يحاول حين الغفلة، وكلا الرجلين فاسق.
* قال ابن عاشور: ومثل أولهما قول عمر بن أبي ربيعة:
واستبدت مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد
ومثل ثانيهما قول سعد بن ناشب:
إذا همّ ألقى بين عينيه عزمة
ولم يستشر في أمره غير نفسه ... ونكّب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
أركان الشورى:
للشورى أركان ثلاثة، ولكل ركن من هذه الأركان ضوابطه وشروطه.
أما أركان الشورى فهي:
الأول: المستشير.
الثاني: المستشار.
الثالث: الأمر المتشاور فيه.
أما ضوابط هذه الأركان فهي تختلف من ركن لآخر، وتفصيلها كما يلي:
الركن الأول: المستشير
أن يكون صادقا في استشارته
هناك أمور يجب أن يلتزم بها المستشير ليصل إلى الثمرة التي يرجوها من استشارته، وبخاصة أن الاستشارة عبادة، يرجو خيرها فى الدنيا، وثوابها في الآخرة، وأهم هذه الأمور ما يلي:
1- أن يكون صادقا في استشارته، متجردا عن الهوى، باحثا عن الحق أينما كان، حيث إن بعض الناس قد يستشير، ولكنه ليس جادا في هذا الأمر، بل قد تكون استشارته لهوى أو غرض في نفسه، غير البحث عن الرأي السديد، والقول الصائب المفيد، قال الطبري: وأما أمته صلى الله عليه وسلم فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله في ذلك على تصادق وتآخ للحق، وإرادة جميعهم للصواب، من غير ميل إلى هوى، ولا حيد عن هدى، فالله مسددهم وموفقهم (2).
* وقال قتادة: "وإن القوم إذا شاور بعضهم بعضا، وأرادوا بذلك وجه الله عزم لهم على أرشده" (3).
2- ألا يكون قد اتخذ قراره -فضلا عن البدء فيه- ثم يستشير تحلة قسم، وحتى يقول: قد شاورت فلانا وفلانا، وهذا وإن كان داخلا في الأول، فله خصوصية أخرى.
* قال -سبحانه-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(4). [سورة آل عمران، الآية: 159] قال ابن عاشور: فإذا عزمت بعد الشورى، أي تبين لك وجه السداد فيما يجب أن تسلكه فعزمت على تنفيذه، سواء كان على وفق بعض آراء أهل الشورى، أم كان رأيا آخر، لاح للرسول صلى الله عليه وسلم سداده، فقد يخرج عن آراء أهل الشورى رأي، وفي المثل: (ما بين الرأيين رأي).
وقال: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(5) والتوكل حقيقة الاعتماد، ثم قال ابن عاشور: فقوله: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(6) [سورة آل عمران، الآية: 159] دليل على جواب إذا، وفرع عنه، ولو كان التوكل هو جواب إذا لما كان للشورى فائدة، لأن الشورى -كما علمت- لقصد استظهار أنفع الوسائل لحصول الفعل المرغوب، على أحسن وجه وأقربه، فإن القصد منها العمل بما يتضح منها، ولو كان المراد حصول التوكل من أول خطور الخاطر لما كان للأمر بالشورى من فائدة (7).
* قال الإمام البخاري: والمشاورة قبل العزم والتبين، لقوله -تعالى-: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(8)(9).
وهنا أمر لا بد من بيانه: وذلك لو أن إنسانا عزم على أمر وأراد المضي فيه، ثم بدى له أن يستشير، هل يمنع عزمه السابق من الاستشارة بناء على ما ذكر؟ والجواب واضح، وهو أن هذا العزم لا يمنعه، ولكن لا بد من أن يضرب عن عزمه السابق (10) ثم يستشير، ويعزم على أنه إن بدى له من الاستشارة رأي أفضل مما رأى أن يذهب إليه لا يمنعه عزمه السابق من ذلك.
وإذا لم يبد له شيء جديد في مشاورته فله الحق في الرجوع إلى رأيه الأول والاستمرار فيه.
3- ألا تكون استشارته لأشخاص اختارهم ليقولوا له ما يحب، لا ما يجب، وهذه مسألة قل أن يسلم منها أحد، وللهوى دخل فيها.
والنفس قد جبلت على حب سماع قول من يوافقها لا من يخالفها.
* ولا يعني هذا -أيضا- أن يختار من الناس من يخالفونه، وإنما المراد أن يبحث عمن تتوافر فيه صفات المستشار، وهو الذي يقول الحق ضمن ضوابطه الشرعية كما سيأتي.
__________
(1) - انظر: التحرير والتنوير 4 / 150.
(2) - انظر: تفسير الطبري 4 / 153.
(3) - انظر: تفسير الطبري 4 / 152.
(4) - سورة آل عمران آية: 159.
(5) - سورة آل عمران آية: 159.
(6) - سورة آل عمران آية: 159.
(7) - انظر: تفسير التحرير والتنوير 4 / 151.
(8) - سورة آل عمران آية: 159.
(9) - انظر: صحيح البخاري كتاب الاعتصام 9/38 طبعة دار الشعب، ومصنفة النظم الإسلامية ص249.
(10) - مجرد الصدق في الاستشارة والبحث عن الأفضل إضراب عما سبق.(/18)
* ولذلك فقليل من الناس من لا يستشير، ولكن القليل -أيضا- من يستشير على الوجه الصحيح، فليست العبرة بالاستشارة وإنما بكيفيتها. ولذلك فعلى المستشير أن يبحث عمن يقول له ما يجب لا ما يحب أو يبغض، وأن يحذر من الهوى وحظوظ النفس.
* ومما يتصل بهذا الموضوع -أيضا- ألا يكون المستشارون من عقلية واحدة، وتفكيرهم متقارب، لأن رأيهم سيكون متقاربا، ومنطلقهم في المشورة متجانسا،.
* ولذلك يحسن التنويع في المستشارين؛ بيئة، وتربية، وتخصصا، بل وسنا وتجربة. فإن هذا يثري الاستشارة، وبخاصة إذا كان الأمر ذا أهمية وله ما بعده.
* وهذه مسألة تغيب عن البال، وقد لا ينتبه لسلبية مخالفتها، وإيجابية تحقيقها.
4- أن يختار لكل أمر ما يناسبه كما وكيفا، وذلك أن كل أمر يختلف عن غيره -غالبا-، فهناك أمر يحتاج إلى عدد قليل، وآخر إلى عدد كثير، لأن الاستشارة قد تكون للأمر ذاته فقط، وقد تكون للأمر ذاته، ولأمور تتعلق بالمستشارين، فالأول قد لا يحتاج إلا إلى عدد محدود مما يؤدي إلى الغرض، والثاني قد يحتاج إلى توسيع الاستشارة وتكثير العدد.
* وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستشير أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما-، وأحيانا يستشير الأنصار، وفي بعض الأمور يستشير المهاجرين، وقد يستشير المهاجرين والأنصار جميعا، وقد يخصص أفرادا مراعيا الأمر ذاته، كما استشار السعدين في ثمار المدينة. وهكذا يختار صلى الله عليه وسلم لكل أمر ما يناسبه عددا ونوعا (1).
* قال النحوي: ولم تكن الشورى لدى عمر مجلسا محددا فحسب، لقد كانت مجلسا هنا وهناك، مع هؤلاء وهؤلاء، يتحدد على ضوء الواقع والحاجة، والخطورة والأهمية (2).
5- أن يطلع المستشار على جميع جوانب الموضوع وملابساته.
وهذا أمر قد يغفل عنه بعض المستشيرين، فيطلعون المستشار على جزء من الموضوع أو بعض جوانبه، وهذا له أثره في إبداء الرأي والمشورة.
* إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وكيف يتصور الإنسان شيئا لم يطلع على جميع ملابساته وجوانبه، ومن ثم كيف يستطيع أن يأتي بالرأي الملائم والمناسب.
* وعدم اطلاع المستشار على جميع جوانب الموضوع له أسباب كثيرة، منها عدم تقدير تأثير ذلك من قبل المستشير، ومنها -وهذا هو الأخطر- أن يعلم أنه لو أطلعه على جميع جوانب الموضوع لأعطاه رأيا لا يرغب فيه، لأن استشارته أصلا لم تكن صادقة، بل لأجل أن يقول: استشرت فلانا وفلانا. وقد يكون في الموضوع جوانب سرية لا يرغب أن يطلع أحدا عليها، وهذا لا يبرر تصرفه، وهو يخالف الأمانة -أيضا- إلا إذا قصد استشارته في جزئية معينة ولم يرد أن يستشيره في كل الموضوع، فهذا أمر آخر.
والخلاصة: أن اطلاع المستشار على جميع جوانب الموضوع شرط لصحة رأيه، وذكره من عداد المستشارين، وإلا فلا.
6- وأخيرا هناك أمران بعد الاستشارة يجب على المستشير مراعاتهما، وهما:
الأول: أن يحذر من التردد بعد الاستشارة، وعليه بالعزم. قال -سبحانه-: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(3) [ سورة آل عمران، الآية: 159 ].
* قال الطبري: فإذا صح عزمك بتثبيتنا إياك، وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك، فامض لما أمرناك به، على ما أمرناك به، وافق ذلك آراء أصحابك، وما أشاروا به عليك، أو خالفها، وتوكل -فيما تأتي من أمورك وتدع، وتحاول أو تزاول- على ربك، فتثق به في كل ذلك (4).
* ومن أقوى الأدلة في ذلك بعد هذه الآية قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد، حيث عزم بعد الاستشارة، ورفض التردد أو التراجع؛ لما يفضي إليه ذلك من مفاسد جمة.
الثاني: الأمانة وذلك بأن لا يفشي ما قاله المستشارون؛ وأن يكون كتوما، إلا إذا أذنوا بذلك (5). * كما أن من الأمانة أن ينقل آراءهم بدقة، من غير زيادة ولا نقص ولا تحريف، إذا لم يترتب على نقل مشورتهم مفسدة، فإن المجالس بالأمانات كما في الحديث (6).
الركن الثاني: المستشار:
وهو الأساس من هذه الأركان، وذلك أن مشروعية الشورى تدور حوله، إما لأخذ ما لديه من رأي في الأمر المتشاور فيه، أو لتطييب نفسه ومراعاته تحقيقا لمصلحة ودفعا لمفسدة، إلى غير ذلك من الأمور المتعلقة به.
ولأهمية هذا الركن فسأتناوله من جانبين:
أولا: الصفات التي يجب أن تتوافر فيه.
ثانيا: ما يجب على المستشار.
الجانب الأول: تكون مراعاته من قبل المستشير قبل استشارته له في مدى تحققه فيه.
أما الجانب الثاني: فتجب مراعاته من قبل المستشار أثناء استشارته وبعدها.
أولا: صفات المستشار:
__________
(1) - انظر: مبحث (وشاورهم في الأمر).
(2) - انظر: ملامح الشورى ص346.
(3) - سورة آل عمران آية: 159.
(4) - انظر: تفسير الطبري 4 / 153.
(5) - قد يكون الإذن بالتصريح أو بالقرائن المعتبرة.
(6) - أخرجه أحمد وأبو داود عن جابر -رضي الله عنه-، وحسنه الألباني في صحيح الجامع ص (1133).(/19)
نظرا لما للمستشار من أثر في الأمر المتشاور فيه، وحيث إن رأيه معتبر في القضية المطروحة، وبما أن كثيرا من الناس لا يدركون الصفات والشروط التي يجب أن تتوافر فيمن يستشيرون، ولذلك لو سألت بعضهم: هل استشرت قبل أن تقدم على عملك (1) ؟ سيقول لك نعم، بل أكثر من واحد، وإذا سألته من استشرت؟ تفاجأ بأنه استشار من ليس أهلا لذلك، ولذلك جاء الرأي معوجا كصاحبه:
من غرس الحنظل لا يرتجي ... أن يجتني السكر من غرسته (2)
وكما قال الآخر:
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل
لذلك كله، وحيث لم أطلع على من كتب في الموضوع بصورة متكاملة، وإنما وجدت إشارات من هنا وهناك، أفدت منها في هذه الصفات (3) وللحاجة الماسة إلى تدوين هذه الصفات، فقد بذلت جهدي، واستثمرت وقتي، واستشرت إخواني ومشايخي، فجاءت حصيلة أشعر أنها تستحق التدوين، (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)(4) [ سورة يوسف، الآية: 76 ] وألخص هذه الصفات فيما يأتي:
1- التقوى والورع:
الاستشارة أمانة، فالمستشار مؤتمن، ولا أمانة لفاسق ماكر مخادع، قال الشاعر (5)
ولا تبغ رأيا من خئون مخادع
فمن يتبع في الخطب خدعة خائن ... ولا جاهل غر قليل التدبر
يعضد بنان النادم المتحسر
إنك عندما تنشد رأيا من أحد، فإنك تلجأ إليه في أمر له خصوصيته وقيمته، ورأيه قد يكون فاتحة خير لك، وقد يكون عكس ذلك، فإذا لم يكن الرجل تقيا، يراقب الله فيما يقول ويسمع، فقد يعطيك رأيا يأتي بخلاف ما أردت، وقد تكون له أهداف تخالف أهدافك، فيضرك من حيث أردت أن ينفعك.
* والتقوى أعم وأشمل مما ارتسم في أذهان كثير من الناس عن التقوى في معناها الخاص، وإنما المراد هو التقوى والورع بمعناهما الشرعي الشامل.
2- العلم المناسب لمثله:
قال الإمام البخاري: وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء أهل العلم (6). والاستشارة سؤال، والله -جل وعلا- يقول: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(7) [سورة النحل، الآية: 43] وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ما رأيت أحدا أحضر فهما، ولا ألب لبا، ولا أكثر علما من ابن عباس- رضي الله عنهما-، ولقد رأيت عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يدعوه للمعضلات، ثم يقول: جاءتك معضلة، ثم لا يجاوز قوله (8)..
* وإذا أهم الأمر عمر دعاه، وقال له: غص غواص (9). والمراد بالعلم هنا العلم المناسب للقضية المطروحة، والأمر المتشاور فيه، حيث يكون المستشار من أهل ذلك الأمر، لأن الجاهل قد يقوده إلى الطريق المعوج، كما قال الشاعر (10).
ولا تبغ رأيا من خئون مخادع
ومن يتبع في أمره رأي جاهل ... ولا جاهل غر قليل التدبر
يقده إلى أمر من الغي منكر
وأصل العلم ورأسه وذروة سنامه العلم الشرعي، وإذا أطلق العلم فهو المراد بذلك، وغيره من العلوم لا بد من تخصيصه، فمشاورة العلماء دليل على العقل وبعد النظر، لأنهم الرءوس وغيرهم الذنب، قال الشاعر (11).
العلم زين وتشريف لصاحبه
كم سيد بطل آباؤه نجب ... فاطلب هديت فنون العلم والأدبا
كانوا الرؤس فأمسى بعدهم ذنبا
وقال الآخر يخاطب طالب العلم (12).
فلعل يوما إن حضرت بمجلس ... كنت الرئيس وفخر ذاك المجلس
3- التجربة:
روى البخاري في الأدب المفرد: لا حكيم إلا ذو تجربة (13).
* إن التجربة رصيد ضخم تصقل مواهب المرء، وتزيده خبرة وحنكة، ومن خلال تجربته يستطيع أن يقوم الأمور، ويزنها بميزانها من خلال ما مر به من تجارب وأحداث..
* إن التجربة فرع عن العلم، وهي مدرسة عريقة، يتخرج منها عقلاء الرجال، وهي علم مكتسب، يفوق العلم الملقن أحيانا..
* والعلم الشامل هو الذي يجمع بين التلقي والتجربة والاكتساب،..
واستشارة قليل التجربة كاستشارة الجاهل، لها آثارها وسلبياتها، ولذا قال الشاعر (14).
ولا تستشر في الأمر غير مجرب ... لأمثاله (15) أو حازم متبصر
وقال الآخر:
ألم تر أن العقل زين لأهله ... ولكن تمام العقل طول التجارب
4- الأمانة والكتمان
__________
(1) - وبخاصة إذا كان العمل الذي قام به يفتقر إلى الحكمة وبعد النظر.
(2) - انظر: جواهر الأدب 2 / 433، والبيت لعلي الرضا.
(3) - من ذلك بعض كتب التفسير، وملامح الشورى للنحوي.
(4) - سورة يوسف آية: 76.
(5) - انظر: جواهر الأدب 2 / 242، والبيتان لعبد الله فكري.
(6) - انظر: صحيح البخاري كتاب الاعتصام.
(7) - سورة النحل آية: 43.
(8) - انظر: ملامح الشورى ص303.
(9) - انظر: ملامح الشورى ص 303.
(10) - انظر: جواهر الأدب 2 / 443، والبيتان لعبد الله فكري.
(11) - انظر: جواهر الأدب 2 / 450،451.
(12) - انظر: جواهر الأدب 2 / 450،451.
(13) - ضعفه الألباني في ضعيف الجامع ص (907) والمشكاة رقم (5056).
(14) - انظر: جواهر الأدب 2 / 443، والبيت لعبد الله فكري.
(15) - أي سبقت لك تجربته، ومن جربته فهو ذو تجربة.(/20)
روى أهل السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المستشار مؤتمن" (1).
والأمانة فرع عن التقوى والورع، وأفردتها لأهميتها وأثرها في الشورى..
والكتمان أمانة، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان " (2).
ولذا فمن المهم أن نبحث عن الأمين الكتوم لنفضي له بأمورنا، وأخص شئوننا. إنه لا يستشار إلا في أمر ذي بال، له ما بعده، والأمانة في مثل هذا الأمر لها مكانتها من عدة وجوه أهمها:.
1- أن يكون أمينا في مشورته، حيث يعطيك الرأي الصادق، غير خائن ولا مستهتر..
2- أن يكتم عنك ما استشرته فيه، إلا إذا أذنت له في ذلك.
* ومن القصص التي تروى في هذا الجانب قصة شريح القاضي مع ابنه، حيث كانت بين الابن ورجل خصومة، فجاء الابن يستشير والده في مقاضاة ذلك الرجل، ويسأل والده: هل الحق لي فأقاضيه؟ وإن لم يكن لي صالحته!! فقال له والده: أرى أن تقاضيه، فلما تقاضيا عند شريح حكم على ابنه، وأثبت الحق للرجل.
* وعندما سأله ابنه: كيف ذاك وقد أشرت علي بمقاضاته؟ قال له: إني خشيت أن يضيع حق ذلك الرجل..
*و الحق أن شريحا كان ناصحا لابنه، فضلا عن نصحه لذلك الرجل، لأن أخذ الحق في الدنيا أهون من أخذه في الآخرة.
* ويقابل هذه القصة قصة أخرى حدثت منذ سنوات قريبة، حيث عزم أحد الناس على إقامة مشروع تجاري في منطقة من المناطق، وكان النظام لا يسمح بتعدد المشروع في منطقة واحدة، واختار منطقة ليس فيها مثيل لهذا المشروع، فذهب يستشير أحد التجار الذين أنشأوا مشروعا مماثلا في منطقة أخرى،..
* فرحب به التاجر، وطلب منه أوراق المشروع ليبدي ملحوظاته عليها، على أن يراجعه بعد عدة أيام، ففرح هذا الرجل، وسلمه أوراق المشروع. فذهب التاجر من الغد إلى الجهات المعنية، وسجل المشروع باسمه.
* وبعد عدة أيام جاءه صاحب المشروع فأعطاه أوراقه، وقد كتب عليها ملحوظاته، فشكره الرجل وانصرف. وعندما ذهب للجهة المعنية لتسجيل المشروع فوجئ أن المشروع مسجل، ومن قِبَل من؟ سجله هذا التاجر الذي ائتمنه واستشاره، ولم يكن أمينا!! فإذا كانت الأمانة مطلوبة في أمور الدنيا، فإنها في أمور الدين والدعوة آكد وأهم، وقليل ما هم..
5- العقل والرزانة وسداد الرأي:
* العقل زينة الرجال، وما أوتي الإنسان بعد الإسلام والعلم خيرا من العقل..
والعقل يكسو المرء مهابة وجلالا. وسداد الرأي دليل على الرزانة والعقل، قال الشاعر (3).
لولا العقول لكان أدنى ضيغم
ولربما طعن الفتى أقرانه ... أدنى إلى شرف من الإنسان
بالرأي قبل تطاعن الأقران
وقال الآخر (4).
العقل حلة فخر من تسربلها
والعقل أفضل ما في الناس كلهم ... كانت له نسبا تغنى عن النسب
بالعقل ينجو الفتى من حومة الطلب
ومنزلة العقل كبيرة، ولذلك وردت الآيات الكثيرة تنعي على الذين لم يؤمنوا، وتسمهم بأنهم لا يعقلون (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(5) [سورة البقرة الآية: 44] (أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(6) [ سورة الأنبياء، الآية: 67] (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(7) [ سورة البقرة، الآية: 171 ] والآيات في هذا كثيرة جدا.. وخلاصة القول:
إن من أهم صفات المستشار وسماته أن يكون عاقلا رزينا، ومن شاور الرجال شاركهم في عقولهم، فهل تريد أن تشارك في عقل ضعيف، أو عقل رزين مكتمل؟! وصدق الشاعر (8).
وإن باب أمر عليك التوى ... فشاور لبيبا ولا تعصه
وقال الآخر (9).
وعقل ذي الحزم مرآة الأمور بها ... يرى الحقائق والمجهول مجهول
6- التخصص:
مما تجدر العناية به أن يكون المستشار متخصصا في الأمر المتشاور فيه، إذا كان هذا الأمر مما يقتضي التخصص (10).
*وذلك لأن الاستشارة نوع من الاستفتاء، والله- جل وعلا- يقول: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(11) [ سورة النحل، الآية: 43. ].
* وقد استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين في قضية ثمار المدينة..
__________
(1) - أخرجه أبو داود "5128" والترمذي "2823" وابن ماجة "3745" عن أبي هريرة، وأخرجه الترمذي أيضا عن أم سلمة وابن ماجة عن ابن مسعود، وصححه الألباني في صحيح الجامع " 6700".
(2) - أخرجه الطبراني في المعجم الكبير والأوسط، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات (2 / 166)، وضعفه الشوكاني في الفوائد المجموعة. وصححه الألباني.
(3) - انظر: جواهر الأدب 2 / 453.
(4) - انظر: جواهر الأدب 2 / 453.
(5) - سورة البقرة آية: 44.
(6) - سورة الأنبياء آية: 67.
(7) - سورة البقرة آية: 171.
(8) - البيت لعبد الله بن جعفر الطالبي وانظر: جواهر الأدب 2 / 424.
(9) - انظر: جواهر الأدب 2 / 454.
(10) - لأن هناك أمورا عامة لا تحتاج إلى ذلك.
(11) - سورة النحل آية: 43.(/21)
* واستشار عمر- رضي الله عنه- حفصة- رضي الله عنها- في مقدار صبر المرأة عن زوجها، وأخذ بقولها..
* والتخصص وإن كان فرعا عن العلم، ولكنه أخص منه. ولا يلزم أن يكون مقياس التخصص هو الحصول على شهادة متخصصة، بل إن من تفرغ لشيء فقد تخصص فيه، فالبناء متخصص في البناء، والمزارع متخصص في الزراعة، وهكذا..
7- المعايشة للقضية المطروحة والتفاعل معها:
هناك من الناس من يتصف بعدم الإحساس واللامبالاة، وقد تأتي قضية تشغل بال الكثيرين، وتجد التفاعل معها من قطاع كبير من الناس، بينما هناك آخرون كأن الأمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد. ومثل هذا النوع من الناس لا يصلح للاستشارة في مثل هذه القضايا العامة.
* إن معايشة القضية والتفاعل معها جزء من تصورها وإدراك أبعادها، وهذا من لوازم إبداء الرأي فيها..
* إن كون المستشار يعيش في واد والمستشير يعيش في واد آخر قدح في الاستشارة، وضعف في الرأي..
* أما القضايا الفردية الخاصة، فالأمر أوسع من ذلك، ولا يلزم فيها ما يلزم في غيرها، لأننا لا نستطيع أن نلزم الناس أن يعيشوا قضايانا الخاصة، وشئوننا الفردية..
8- الجدية والحزم:
الجدية والحزم من سمات الرجال، والجدية في الرأي فرع عن الجدية العامة للإنسان، فإذا كان جادا في جميع شئونه وأحواله، فإنه سيكون جادا حازما في رأيه ومشورته، وإذا كان عابثا لاهيا متهاونا، فلا تعجب من اعوجاج رأيه وضعف مشورته:.
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام (1)
ولذلك فعلى المستشير أن يكون عارفا بمن يستشير، حتى لا يؤتى على حين غرة:
ولا تستشر في الأمر غير مجرب ... لأمثاله أو حازم متبصر (2)
وقال الآخر (3)
ولا تعاشر سوى حزم أخا ثقة ... واربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وقال الثالث (4)
ولا تستشر غير ندب حازم يقظ ... قد استوى فيه إسرار وإعلان
وبعد:
هذه أهم الصفات التي يجب أن تتوافر في المستشار، وقد لا تجتمع كلها في فرد واحد، بل قد يندر ذلك، ويتم التغلب على هذا الأمر بتعدد المستشارين، بحيث تجتمع هذه الصفات في مجموعهم، وإن لم تتوافر في آحادهم.
* مع أن بعض الأمور لا يلزم أن تتوافر لها جميع هذه الصفات، بل إن وجود أغلبها كاف لإنجاح الأمر المتشاور فيه، والوصول إلى الرأي الناضج والقول السديد، وبعض هذه الصفات يكمل بعضا، بحيث لو تخلفت صفة كفت عنها الأخرى.
* مع الإشارة إلى أن الأمور المتشاور فيها ليست كلها على درجة واحدة من الأهمية والتأثير، ولذا يجب إنزال الأمور منازلها، وعدم تضخيم قضية على حساب قضايا أخرى، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء، وخير الأمور أوسطها.
ثانيا: ما يجب على المستشار:
وهي الأمور التي تجب مراعاتها من قِبَل من يستشار في أمر من الأمور، حيث إن المستشير ما لجأ إلى المستشار إلا ثقة فيه، ورغبة في مساعدته على أمر أشكل عليه، وحرصا على مشاركته له في علمه وعقله وبعد نظره، فيجب أن يكون عند حسن ظنه. ولذلك فإن هناك أمورا يجب أن يعنى بها من يستشار قبل المشورة وأثناءها وبعدها، وأجملها فيما يلي:
1- الصدق في الرأي ومحض النصح والتجرد: إن على المستشار أن يكون صادقا في مشورته، مخلصا في نصيحته، متجردا عن الهوى والأغراض الصارفة عن قول الحق.
* ومن الصدق في الرأي أن يقول له ما يعتقد أنه الحق، ولا يجامله في ذلك، فإن بعض المستشارين يقول للمستشير ما يحب لا ما يجب، وبخاصة إذا كان ذا منصب أو مكانة، وهذا من الخيانة والغش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من غشنا فليس منا " (5).
* والغش أنواعه كثيرة جدا، ومن أسوأ أنواع الغش: الغش في الرأي، وصديقك من صدَقك لا من صدّقك؛ وإذا وجد المستشار أنه يصعب عليه أن يقول رأيه الصريح في المسألة فليعتذر، فهو خير له وللمستشير.
2- التأني وعدم التسرع: مما يجب على المستشار ألا يتعجل الرأي، وعليه بالتأمل، وطول التفكير، وتقليب الأمور على جميع وجوهها، حتى يتضح له الحق، ويتبين الصواب. إن العجلة من الشيطان، وما ندم من تأنى وصبر:
اصبر قليلا وكن بالله معتصما ... لا تعجلن فإن العجز بالعجل (6)
وقال الآخر (7).
تأن ولا تضق للأمر ذرعا
تأن فحيثما المرء تأنى ... فكم بالنجح يظفر من تأنى
ينل نجحا ويدرك ما تمنى
__________
(1) - البيت لأبي الطيب المتنبي.
(2) - انظر: جواهر الأدب 2 / 443، والبيت لعبد الله فكري.
(3) - انظر: جواهر الأدب 2 / 445، والبيت لأحمد الهاشمي.
(4) - انظر: جواهر الأدب 2 / 431، والبيت لأبي الفتح البستي.
(5) - أخرجه مسلم رقم (101،102).
(6) - انظر: جواهر الأدب 2 / 478.
(7) - انظر: جواهر الأدب 2 / 478.(/22)
والتأني مسألة نسبية، تختلف من أمر لآخر، فبعض الأمور تحتاج إلى الأيام والليالي، وأخرى يكفيها ساعات، وقد تكون أقل من ذلك. والمهم هو أن يبتعد عن العجلة القادحة، وألا ينطق برأيه إلا بعد تقليب الأمور على جميع الوجوه والاحتمالات، وما أحسن ما قال الشاعر (1)
ومن الرجال إذا استوت أخلاقهم
حتى يحل بكل واد قلبه ... من يستشار إذا استشير فيطرق
فيرى ويعرف ما يقول فينطق
إن بعض الناس يعطي الرأي قبل أن ينتهي المستشير من كلامه، وهذا مع أن فيه سوء أدب، فهو يدل على العجلة، والخفة، وضعف الرأي، وليس كما يتصور البعض ذكاء وسرعة بديهة، فاحذر أن تكون "بادي الرأي".
3- تصور الأمر على حقيقته: وهذا يستلزم مناقشة المستشير واستيضاحه، وعدم الاكتفاء بما يقول، إلا إذا بين لك أنه لم يخف شيئا، أو علمت ذلك بالقرائن والشواهد.
* وقد بينت أن من الواجب على المستشير أن يوضح الأمر على حقيقته، وعدم الاقتصار على جزء منه، ولكن بعض المستشيرين لا يفعل، ذلك لأسباب تختلف من فرد لآخر.
* ومن هنا فإن على المستشار أن ينتبه لهذه المسألة، وأن يستوضح الأمر، ويعرف القضية من جميع جوانبها وملابساتها، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والرأي حكم قاطع له ما بعده. ولقد رأينا بعض الآراء تنسب لبعض الأفراد مما تكون محل استغراب وتعجب!! فإذا سئل عن هذا الرأي بين لك أنه لم يصور له الأمر كما ظهر، وإنما أعطي جزءا من الموضوع فأبدى رأيه فيه، ثم اتضح أن القضية خلاف ذلك.
4- الأمانة والكتمان: ذكرت أن من صفات المستشار الكتمان والأمانة، وهذا الأمر ذكرته هناك من أجل مراعاته من قبل المستشير، وهنا أذكر هذا الأمر لأهميته، ومن أجل مراعاته من قبل المستشار، فالمستشار مؤتمن، كما ورد في الحديث الذي رواه أهل السنن (2)
* وكما أنه يجب على المستشير أن يكتم رأي من استشار إلا إذا أذن له، فكذلك يجب على المستشار أن يكتم الأمر المتشاور فيه إلا إذا أذن له المستشير:
والسر فاكتمه ولا تنطق به ... فهو الأسير لديك إذ لا ينشب (3)
والأمانة أعم من الكتمان، فكل ما يتعلق بها يجب مراعاته والأخذ به؛ لأن المستشار مؤتمن..
5- الاستشارة: ومما تجدر الإشارة إليه، أن على المستشار إذا استشير في أمر ذي أهمية، ولم يتضح له الأمر فيه، وكان يعرف من الرجال من له قدرة على إبداء الرأي في هذا الأمر المهم، وقد لا يتمكن المستشير من الوصول إليهم، فإنه يحسن أن يستأذن صاحب الأمر في استشارة من يراه من هؤلاء، فإذا أذن له استشار من يتوسم فيه القدرة على تقدير الأمر، وإبداء الرأي فيه (4) مع الحرص على مراعاة الضوابط والشروط التي سبق ذكرها. وأرى أن يقتصر مثل هذا الأمر على الموضوعات والقضايا التي لها أهميتها وتأثيرها، مع أمن عدم حدوث سلبيات من جراء ذلك.
الركن الثالث: الأمر المتشاور فيه:
وهذا من الأهمية بمكان، وقد غلط في هذا الباب أناس كثيرون، حتى وصل الأمر عند بعض القوم إلى التشاور في شريعة الله أتطبق أم لا؟! وإن كانت هذه الشورى ليست من الإسلام في شيء، وإن زعم أصحابها خلاف ذلك!!
ويمكن أن نحدد الأمر المتشاور فيه بالضوابط التالية:
1- لا يجوز التشاور في أمر فيه نص من كتاب أو سنة، قال الله- تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(5) [ سورة الأحزاب، الآية: 36 ] والتشاور نوع من الخيرة المنفية هنا.
* وقال الإمام البخاري: "وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء أهل العلم في الأمور المباحة، ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب والسنة لم يتعدوه إلى غيره" (6).
* وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد قيل: إن الله أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم لتأليف قلوب أصحابه، وليقتدي به من بعده، وليستخرج منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحي" (7).
* وقال شيخ الإسلام ابن تيمية- أيضا-: "وإذا استشارهم، فإن بيّن له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع المسلمين، فعليه اتباع ذلك، ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك، وإن كان عظيما في الدين والدنيا. قال الله- تعالى -: (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)(8)(9) [ سورة النساء، الآية: 59. ].
__________
(1) - انظر: جواهر الأدب 2 / 427، والبيتان لصالح بن عبد القدوس.
(2) - سبق تخريجه ص78.
(3) - انظر: جواهر الأدب 2 / 428، والبيت لصالح بن عبد القدوس.
(4) - مع الحرص على ألا يتسلسل الموضوع، وإنما تقدر الأمور بقدرها.
(5) - سورة الأحزاب آية: 36.
(6) - انظر: صحيح البخاري، كتاب الاعتصام، ومصنفة النظم الإسلامية ص250.
(7) - انظر: السياسة الشرعية ص 158.
(8) - سورة النساء آية: 59.
(9) - انظر: السياسة الشرعية ص158.(/23)
* وقال البخاري- أيضا-: "فإذا عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن لبشر التقدم على الله ورسوله؛ لأنها قد صارت مسألة نص، ومسألة مشروعية لا شورى فيها" (1).
* ويدخل في هذا الواجب والمحرم والمندوب والمكروه، لأنها أمور مشروعة، قال الدكتور مصطفى كمال وصفي: "وذلك لأن الواجب واجب بحكم شرعي، وكذا المندوب أو الحرام أو المكروه، كل ذلك حكمه بدليل شرعي، فيكون اتباعه مسألة مشروعة، وهذه المسائل يجب تطبيق الشرع فيها" (2).
2- لا يجوز التشاور في الأمور الاجتهادية الفقهية، إلا إذا كان بحث المسألة علميا من قِبَل أهل الاختصاص يعتبر تشاورا، وبعض أهل العلم لا يعده من قبيل التشاور..
* قال الدكتور مصطفى وصفي: "وأما المسائل الشرعية التي فيها نص، أو التي يطبق فيها النص بالقياس، أو فيها إجماع عند من قالوا به، أو تحقق مصلحة شرعية، أو درء مفسدة (3) فهذه تتم بطريق الاستدلال الشرعي، والاجتهاد المقرر في أصول الفقه على درجة الدقة، وليس على وجه الشورى بسعتها، وحرية التقدير فيها." والاجتهاد ليس شورى، وشتان بين الأمرين (4). وقال: "ولا تكون من المباحات التي تجري فيها المشورة لدى خفاء الضرر والمصلحة فيها، لأن استيضاح المصلحة هو اجتهاد، يجب أن يجري بطرق الاجتهاد الشرعية" (5). وهذه المسألة خلافية بين العلماء. قال الدكتور مصطفى وصفي: "ومع ذلك فقد جرى البعض على التوسع، واعتبار المداولة في الاجتهاد شورى، ثم قال: وما تحرجنا إلا للحرص على مجال تطبيق قواعد الاستدلال، والاجتهاد في مجالها، وإخضاع أمور المشروعية لأحوال الاجتهاد، ضبطا لتطبيق الشريعة" (6).
* وأقول: لا شك أن تداول المسألة بين العلماء المجتهدين للوصول إلى الحكم الشرعي نوع من الشورى، ولكنه من الشورى المقيدة، أو الشورى الخاصة، وليست من الشورى التي عنيتها في هذا البحث، وهي الشورى التي أعم من ذلك، ولا مشاحة في الاصطلاح.
3- ومن خلال ما سبق فإن الشورى تكون في الأمور المباحة، التي يستوي فيها طرفا الحكم، فلا هي واجبة أو مندوبة، ولا هي حرام أو مكروهة. قال الإمام البخاري: وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها (7).
* وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد قيل: إن الله- تعالى- أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم ليستخرج منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحي، من أمر الحروب، والأمور الجزئية، وغير ذلك" (8).
وقال: "وإن كان أمرا تنازع فيه المسلمون، فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه، ووجه رأيه، فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عمل به" (9).
والخلاصة:
إن الشورى تكون في الأمور العامة، والأمور المستجدة، مما لا يدخل تحت ما أشير إليه سابقا من الأمور الشرعية التي لا شورى فيها.
ومن ذلك: الوسائل المباحة، والأساليب المتاحة، ولكل أمر ضوابطه التي تلائمه. والله أعلم.
معالم في الشورى:
بينت فيما مضى الأبواب الرئيسية في الاستشارة، وهناك مسائل مهمة لم ترد فيما سبق، ولا بد من بيانها استكمالا للموضوع، وحيث إنها ليست في موضوع واحد من موضوعات الشورى، فقد جعلت لها عنوانا خاصا أسميته: معالم في الشورى.
1- النصيحة بينها وبين الشورى عموم وخصوص، وذلك أن بعض أنواع النصيحة من المشورة، حيث إن النصيحة قد تكون من باب التذكير لأمر يعلمه الإنسان، كتذكير الإنسان بالله، ونهيه عن المحرمات- مع علمه بها- ونحو ذلك.
وقد تكون من باب التعليم، كبيان الحلال من الحرام لرجل قد وقع في الحرام وهو لا يعلم، فإن هذا من التعليم، وهو نصح له.
__________
(1) - انظر: صحيح البخاري، كتاب الاعتصام، ومصنفة النظم الإسلامية ص250.
(2) - انظر: مصنفة النظم الإسلامية ص250.
(3) - هذا مقيد بالمصلحة والمفسدة الشرعية، لا مطلق المصلحة والمفسدة لأن الشورى لم تشرع إلا لتحقيق المصلحة ودرء المفسدة.
(4) - مصنفة النظم الإسلامية ص251.
(5) - مصنفة النظم الإسلامية ص251.
(6) - انظر: مصنفة النظم الإسلامية ص252.
(7) - انظر: صحيح البخاري، كتاب الاعتصام. ومصنفة النظم الإسلامية ص250.
(8) - انظر: السياسة الشرعية ص158.
(9) - انظر: السياسة الشرعية ص158.(/24)
* ومن النصح أن تدل إنسانا على أمر فيه نجاة له، وقد خفي عليه هذا الأمر، فهذه نصيحة ومشورة. وقد وردت النصيحة في القرآن والسنة، فنوح -عليه السلام- يقول لقومه: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ)(1) [ سورة الأعراف، الآية: 62 ] وهود -عليه السلام- يقول: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ)(2) [ سورة الأعراف، الآية: 68 ] إلى غير ذلك من الآيات. وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو رقية تميم بن أوس الداري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " (3).
* وفي الحديث الصحيح- أيضا- قال الصحابي الجليل: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وعلى النصح لكل مسلم" (4)..
* ومن خلال ما سبق تتضح أهمية النصيحة ومشروعيتها، ومن النصيحة التي وردت في القرآن، وهي من المشورة الصادقة، نصيحة الرجل من آل فرعون لموسى -عليه السلام-،فبعد أن أخبره أن الملأ يتشاورون في قتله، نصحه وأشار عليه بالخروج: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)(5) [ سورة القصص، الآية:20. ] وقد أخذ موسى بنصيحته ومشورته. (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(6) [ سورة القصص، الآية: 21 ] ونجد مقابل ذلك النصيحة الكاذبة والمشورة الموبقة، عندما أشار إبليس على أبينا آدم -عليه السلام- أن يأكل هو وزوجته من الشجرة، وعندما رأى منهما عدم الاستجابة الفورية لمشورته أقسم لهما -كاذبا- إنه ناصح لهما )وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ)(7) [سورة الأعراف، الآيتان: 21، 22. ].
* وبهذا يتضح لنا أن من أنواع النصيحة وأقسامها: أن تشير على إنسان في أمر من الأمور التي ترى فيه خيرا له، ولو لم يطلب منك أن تشير عليه، فإن هذا من باب النصح له، والشفقة عليه، وهو داخل في باب التعاون على البر والتقوى.
* ومثل ذلك ما أشار به الحباب بن المنذر في بدر، فعندما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر قبل الماء، جاءه الحباب فقال له:
أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟
* فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بل هو الرأي والحرب والمكيدة". قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم تغور ما وراءه من القليب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد أشرت بالرأي " (8).
من أشير عليه بأمر أن يتقي الله فيما يقال له
2- إذا أشار عليك إنسان برأي - وأنت لم تستشره- ورأيت فيه خيرا، فخد بمشورته ونصحه، كما فعل موسى -عليه السلام-.
* وإن كنت عزمت على أمر، فأشير عليك بخير منه، فدع رأيك، وأتِ الذي هو خير، فقد كتب عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- رسالة لعبد الله بن قيس- رضي الله عنه- قال فيها:
* لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس، فراجعت فيه نفسك، وهديت لرشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
*الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس من كتاب ولا سنة، واعرف الأشباه والأمثال، ثم قس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق فيما ترى (9).
__________
(1) - سورة الأعراف آية: 62.
(2) - سورة الأعراف آية: 68.
(3) - أخرجه مسلم (1/ 74، رقم 55) وأبو داود "4944" والنسائي " 4200" وأحمد (4 / 102) عن تميم الداري وأخرجه الترمذي "1927" عن أبي هريرة.
(4) - أخرجه البخاري (1/ 166، رقم 57- فتح). ومسلم (1 / 75، رقم 56).
(5) - سورة القصص آية: 20.
(6) - سورة القصص آية: 21.
(7) - سورة الأعراف آية: 21-22.
(8) - قال الألباني في تخريجه لأحاديث فقه السيرة ص240: رواه ابن هشام عن ابن إسحاق قال: فحدثت عن الرجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب، وهذا سند ضعيف لجهالة الواسطة بين ابن إسحاق والرجال من بني سلمة، وقد وصله الحاكم، وفي سنده من لم أعرفه، قال الذهبي في تلخيصه: قلت: (حديث منكر)، ورواه الأموي من حديث ابن عباس، كما في البداية، وفيه الكلبي وهو كذاب.
(9) - انظر: أخبار عمر ص182، والوثائق السياسية ص327، وملامح الشورى للنحوي ص331.(/25)
إن بعض الناس يصعب عليه أن يتراجع عن رأيه، وقد يعتبر ذلك ضعفا ومسبة، وليس هذا الأمر بصحيح، وما قاله عمر- رضي الله عنه- ومن مثل عمر في القوة وسداد الرأي- عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه وقد وافقه القرآن أو وافق القرآن قبل نزوله مرارا، وما قاله عمر عين الحكمة والبصيرة، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير " (1).
واليمين عزيمة وقسم، ومع ذلك أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى الأفضل حتى لو لم يكن باطلا، فكيف إذا كان الأمر دائرا بين الحق والباطل. وهذه مسألة ضل فيها كثير من الناس.
فعلى المرء إذا أشير عليه بأمر أن يتقي الله فيما يقال له، ولا يأخذه الكبر، ولا يحقرن أحدا، فإن الهدهد قال لسليمان -عليه السلام-: " أحطت بما لم تحط به ". سورة النمل، الآية: 22. وقد سمع منه سليمان، وأخذ بما قال، كما في سورة النمل.
والشاعر يقول:
لا تحقر الرأي يأتيك الحقير به ... فالنحل وهو ذباب طائر العسل (2)
ولا تغرنك الأشكال والأجسام. واقرأ هذه الدرر:
ترى الرجل النحيف فتزدريه
ويعجبك الطرير فتبتليه
فما عظم الرجال لهم بفخر
ضعاف الطير أطولها جسوما ... وفي أثوابه أسد هصور
فيخلف ظنك الرجل الطرير
ولكن فخرهم كرم وخير
ولم تطل البزاة ولا الصقور
3- الاختلاف من طبيعة البشر. ويجب ألا نضيق بالخلاف، وما جاءت الشورى إلا معالجة لهذا الأمر، ومن تصور أن اختلاف المدارك والأفهام يمكن أن يزول فقد تطلب شططا، وتبعا لذلك حدث الاختلاف في أمور كثيرة. (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ)(3) [ سورة هود، الآيتان: 118،119] والمهم في مسألة التشاور أن تلتزم بآداب الشورى وضوابطها، وما يتوصل إليه بعد ذلك فهو خير، سواء اتفق الجميع على القضية المطروحة أم اختلفوا، وأخذ بأرجح الآراء وأرشدها وأقربها للحق.
*وقد اختلف الصحابة -وهم خير القرون- في أمور كثيرة، ولكن هذا الاختلاف لم يخرجهم عن المنهج السوي والطريق القويم.
4- هل الشورى ملزمة أو معلمة
اختلف العلماء في هذه المسألة قديما وحديثا، وقد احتج كل فريق ببعض الأدلة العامة.
* وبما أن هذه القضية ليست من أسس هذا البحث، فلن أقف عندها، لأن بسطها يحتاج إلى تأصيل ومناقشة ليس هذا مكانها.
* وهي من مسائل الاجتها د التي لم يرد فيها نص قاطع، ولم يجمع المسلمون على قول فيها، فهي مما يسوغ الاختلاف فيه، وقد يتفق قوم على أنها معلمة، وآخرون على أنها ملزمة، وقد يختلف الحكم من حال إلى حال، ومن بلد إلى بلد، ومن عصر إلى عصر، تبعا لاختلاف الفتوى باختلاف الزمان والمكان، ومراعاة للمصالح والمفاسد، وفق الضوابط الشرعية التي حررها العلماء وحدودها.
5- استشارة المرأة
المرأة لها مكانتها في الإسلام، ولها منزلتها التي شرعها الله لها.
* واستشارة المرأة منهج شرعي في حدود اختصاصها وقدرتها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستشير أزواجه، فقد استشار خديجة في مكة، وكانت نعم المعين له، وهي التي دلته بل وذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل (4).
* واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش في قضية الإفك حيث سألها عن عائشة فلم تقل إلا خيرا (5).
* واستشار أم سلمة في الحديبية عندما أمر الصحابة بالإحلال فلم يفعلوا، فأشارت عليه بأن يخرج ولا يكلم أحدا، وينحر ثم يحلق فسيفعلون، وهكذا كان، حيث كان رأيها السديد مخرجا من مشكلة أهمت رسول الله صلى الله عليه وسلم (6).
* وعمر- رضي الله عنه- استشار حفصة، وأخذ برأيها في قضية صبر المرأة عن زوجها (7).
* وأشارت عليه في قضية الاستخلا ف، وسمع منها (8).
* ورأي المرأة أحيانا قد يكون خيرا من رأي بعض الرجال، ومن أقوى الأدلة على ذلك رأي ملكة سبأ- بلقيس-، قال الحسن- يرحمه الله-: فوضوا أمرهم إلى علجة تضطرب ثدياها، فلما قالوا لها ما قالوا كانت هي أحزم رأيا منهم، وأعلم بأمر سليمان، وأنه لا قبل لها بجنوده وجيوشه، وما سخر له من الجن والإنس والطير (9).
* ولذا يحسن استشارة المرأة في حدود اختصاصها، وبخاصة فيما يتعلق بشئون المرأة، في الدعوة وغيرها، وهذا لا يمنع من استشارتها في بعض المسائل العامة استشارة فردية، وفق الضوابط الشرعية، ودون توسع في ذلك، وفي حدود الحاجة إليها.
__________
(1) - أخرجه مسلم (3 / 271، رقم "1650" وأحمد (2 / 361) والترمذي "1530" عن أبي هريرة وأخرجه البخاري بمعناه عن أبي موسى الأشعري (13 / 537، رقم 7555).
(2) - انظر: جواهر الأدب 2\425، والأبيات للعباس بن مرداس.
(3) - سورة آية: 118-119.
(4) - انظر: فقه السيرة ص91، والقصة في البخاري.
(5) - انظر: تفسير ابن كثير 3 / 270، والحديث صحيح متفق عليه.
(6) - انظر: فقه السيرة ص363، والقصة عند البخاري وأحمد.
(7) - انظر: ملامح الشورى ص328.
(8) - انظر: ملامح الشورى ص349.
(9) - انظر: تفسير ابن كثير 3 / 362.(/26)
6- استشارة الكافر:
استشارة الكافر مسألة مهمة، وقد توسع كثير من المسلمين في هذا الباب، حيث تجد أن كثيرا من المستشارين في بعض شئون المسلمين المالية والاقتصادية والسياسية بل والعسكرية من الكفار.
* وأغرب من ذلك أنك تجد من الكفار من يستشار في الأمور الاجتماعية الخاصة، التي لا شأن لهم بها، ولا علم لهم فيها، لاختلاف الدين والبيئة والطبيعة. وهناك من يمنع هذا الأمر بتاتا، من باب سد الذرائع، ويقول: "إن استشارة الكافر فرع عن الاستعانة به"، وكلام العلماء في ذلك معروف (1).
*و الذي أعلمه أنه لا تجوز استشارة الكافر إلا ضمن الضوابط التالية:
1- أن تكون هناك حاجة ماسة إليه، بحيث لا يتيسر من المسلمين من يقوم مقامه.
2- أن يؤمن ضرره على المسلمين.
3- أن يكون ذلك في مسائل الدنيا لا الدين.
* وقد توصلت إلى هذه الضوابط من خلال دراستي لكلام العلماء في حكم الاستعانة بالكفار، والضوابط التي ذكرها المجيزون لذلك (2).
*وكذلك كلام العلماء في حكم الزواج من الكتابيات، والشروط التي ذكرت في هذا الباب (3).
* وأؤكد أن الأصل الاستغناء عنهم، وعدم اللجوء إليهم، ولكل حالة ما يناسبها.
7- موضوع الأقلية والأكثرية في الشورى:
يختلف هذا الأمر من قضية لأخرى، فهناك قضايا لا عبرة للأقلية والأكثرية فيها، وإنما العبرة بأصالة الرأي، ولو كان المشير واحدا:
أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل
*ولذلك نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقصر الشورى على أبي بكر وعمر- رضي الله عنهما- لقوة رأييهما.
*وكما استشار السعدين دون غيرهما في ثمار المدينة. وأبو بكر- رضي الله عنه- كان يقصر الشورى على عمر أحيانا. وعمر- رضي الله عنه- كان يستشير عليا أو ابن عباس- رضي الله عنهم- دون أن يوسع دائرة الشورى.
* وأحيانا تكون الأكثرية معتبرة -مع عدم إغفال نوعية المستشارين- وذلك يرجع لعدة أمور، كأن يكون الأمر من الأهمية بما لا يكفي فيه رأي الفرد والفردين والثلاثة.
وأحيانا يكون ذلك لمراعاة حال المستشارين، كتأليف قلوبهم، ونحو ذلك من الاعتبارات الشرعية المطلوبة.
* وكان صلى الله عليه وسلم يستشير الأنصار فقط، وأحيانا المهاجرين، وقد يستشير المهاجرين والأنصار، لمقاصد شرعية يعلمها صلى الله عليه وسلم. وكان أبو بكر يستشير كبار الصحابة، وقد يحصر هذا في عدة أفراد، وأحيانا يوسع ذلك لتشمل عددا كبيرا منهم، كما في حروب الردة وغيرها.
*و عمر قد يقصر الشورى على أهل بدر، وقد يتوسع في ذلك لتشمل المهاجرين والأنصار وغيرهم. ونجد مثل ذلك في سيرة عثمان وعلي- رضي الله عنهم أجمعين-.
* وعلى كل الأحوال فليست العبرة بالقلة والكثرة وحدها، وإنما العبرة- أيضا- بالكيفية، فسواء قل العدد أو كثر في ضوء الاعتبارات التي أشرت إليها سابقا، فإن توافر الصفات المطلوبة في المستشار هي الأساس، بحيث تتوافر هذه الصفات في آحادهم أو في مجموعهم كما سبق، والمستشير يجب أن يعنى بهذه المسألة عناية خاصة، ولا ينخدع بكثرة الناس وجمهورهم، فالله- جل وعلا- يقول: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)(4) [ سورة الأنعام، الآية: 116. ] وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الناس كالإبل المائلة لا تجد فيها راحلة " (5).
ويقول الشاعر (6) :
والناس ألف منهم كواحد ... وواحد كالألف إن أمر عنى
وهذه قضية مهمة، ومسألة تغيب عن بال الكثيرين، فاظفر بها تربت يداك.
8- وسائل الاستشار ة وأخذ الرأي متعددة ومتنوعة، وليست مقصورة على وسيلة واحدة.
*فمن وسائلها الاستشارة المباشرة، وقد تكون لفرد أو جماعة، منفردين أو مجتمعين.
* ومن صورها الرسائل والمكاتبات لذوي الرأي.
* ومن وسائلها- أيضا- الاستبانات العلمية المدروسة.
وتتعدد الوسائل وتختلف باختلاف الزمان والمكان، ويراعى في ذلك أمور عدة، كالأمر المتشاور فيه، ونوعيات المستشارين، وتخصصاتهم، وأماكن وجودهم، إلى غير ذلك من الاعتبارات المرعية.
* وليست العبرة بالوسيلة، وإنما العبرة بالمضمون، فكل وسيلة مشروعة تؤدي إلى تحقيق الغرض، فيمكن استخدامها، والمهم هو مراعاة الضوابط الشرعية في الوسائل والغايات، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
9- رأي العامة:
__________
(1) - انظر: كتاب د. عبد الله الطريقي في حكم الاستعانة بالكافر.
(2) - لأن المسألة خلافية بين العلماء، وانظر: تفصيل ذلك في كتاب د. عبد الله الطريقي في حكم الاستعانة.
(3) - انظر: تفصيل ذلك في كتب أحكام القرآن عند تفسير قوله- تعالى-: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " سورة المائدة، الآية: 5.
(4) - سورة الأنعام آية: 116.
(5) - أخرجه البخاري (11 / 341، رقم "6498" فتح) وأخرجه مسلم (4 / 1973، رقم" 2547") كلاهما عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(6) - انظر: جواهر الأدب 2 / 417، والبيت لعبيد بن الأبرص الأسدي.(/27)
هناك قضية تتعلق بالشورى في أحد جوانبها، وهي ما يمكن أن نسميه: برأي العامة، أو الجمهور.
* وذلك أن بعض الدعاة قد يتخذ موقفا تكون نتائجه سلبية، مما يستغرب مثله من مثله. وإذا سألت هذا الداعية كيف اتخذت هذا الموقف؟ وهل استشرت في ذلك؟ وهل كان موقفك هذا عن دراسة وروية؟! وتفاجأ أن الجواب كما يلي:
إن الناس هم الذين طلبوا مني ذلك، ومن الناس؟ إنهم جمهور ذلك الداعية، أو خليط من الناس، اتصلوا بهذا الداعية مباشرة، أو عبر وسائل الاتصال المتعددة، واقترحوا عليه هذا العمل، بل قد لا يخلوا الأمر من الإلحاح أو الإحراج، مما يجعل الداعية تحت ضغط خاص من هذا الجمهور، ورويدا رويدا يستجيب الداعية لإلحاحهم، ويخضع لمطلبهم.
وقد شغلني هذا الموضوع طويلا، وبخاصة أن بعض الدعاة لا يدرك خطورة هذا الأمر وأبعاده.
وعندما جاءت "أزمة الخليج" فوجئنا أن بعض المحسوبين على الدعوة يتخذون مواقف تؤيد العراق في غزوه للكويت، وهؤلاء وإن كانوا قلة- والحمد لله- ولكن مواقفهم كانت محل استغراب جمهور الدعاة وطلبة العلم.
* وكانت المفاجأة أشد وقعا، عندما صرح أحدهم أنه اتخذ هذا الموقف استجابة لرأي الجمهور من أتباعه، وخضوعا لمشورته.
* وإبان اهتمامي بهذه المسألة والبحث في شرعيتها، نشرت جريدة (المسلمون) موقفا للدكتور جعفر شيخ إدريس. وملخصه:
إن فضيلته ألقى محاضرة في رابطة الطلاب العرب في أمريكا عن أحداث الخليج، ويبدو أن رأيه في الأحداث لم يعجب عددا من الحاضرين، فقاطعوه واحتجوا على موقفه (1) فأجابهم فضيلته بهدوئه المعهود:
أنتم لا ترضون للعالم أن يكون عالم سلطة، وأنا لا أرضى لنفسي أن أكون عالما تسيره العامة.
* وقد أعجبتني هذه الإجابة، ووجدت فيها ضالتي، وتدل على عمق تفكيره وبعد نظره.
*وبعد عدة أيام التقيت مع فضيلة شيخنا العلامة محمد بن عثيمين، وذكرت له إجابة الدكتور جعفر، وطلبت رأيه فيها.
فقال: إن ما ذكره الشيخ صحيح، وأنا أقول- الكلام للشيخ محمد- العلماء ثلاثة:
عالم دولة، وعالم عامة (2) وعالم ملّة.
* والعالم الحقيقي هو عالم الملّة، الذي ينطلق من الشرع في أقواله وأفعاله ومواقفه.
وهذه الإجابة من فضيلة الشيخ محمد إجابة عالم ملّة.
* ومرت الأيام، وبدأت أعد بحثا في تفسير سورة الحجرات، وإذا بي أقف عند قوله- تعالى-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)(3) [ سورة الحجرات، الآية: 7. ].
فقلت- سبحان الله- !! هذا ماكنا نبغ.
* ورجعت إلى بعض كتب التفسير لأتبين مدلولها ومعناها بصورة أشمل، فإذا ابن كثير يقول: فإنه أعلم بمصالحكم، وأشفق عليكم منكم، ورأيه فيكم أتم من رأيكم لأنفسكم، لو أطاعكم فيما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحرجكم (4)..
* بينما وجدت أن سيد قطب قد فسر الآية تفسيرا يدل على أن هذه الآية نص في القضية التي تحدثت عنها حيث قال:
ويبدو أنه كان من بعض المسلمين اندفاع عند الخبر الأول الذي نقله الوليد بن عقبة، وأشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعجل بعقابهم، وذلك حمية من هذا الفريق لدين الله، وغضبا لمنع الزكاة. وتنزل هذه الآية، وفيها يخبرهم الله- تعالى- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو أطاعهم فيما يعنّ لهم أنه خير لعنتوا، وشق عليهم الأمر (5).
* ومن خلال هذه الآية وتفسيرها يتضح الأمر، فإذا كانت طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض صحابته، وهم خير القرون، وأعدل الناس وأزكاهم، إذا كانت طاعته لهم، واستجابته لمشورتهم (6) في كثير من الأمر تسبب لهم العنت والمشقة، فكيف بطاعة عامة الناس وجمهورهم في القرون المتأخرة، مع قلة العلم والتجربة والتقوى، فالله المستعان.
__________
(1) - لست بصدد الحديث عن الموقف، وإنما المهم- هنا- ما يتعلق بموضوعنا.
(2) - أي تسيره العامة، وليس المراد أنه يفيد العامة ويبذل علمه لهم، فهذا مطلوب ومشروع، بل يجب أن يكون العالم كذلك، وهكذا كان العلماء قديما وحديثا.
(3) - سورة الحجرات آية: 7.
(4) - انظر: تفسير ابن كثير 4 / 210، وذكر ابن كثير أن رأيهم ضعيف بالنسبة لمراعاة مصالحهم.
(5) - انظر: في ظلال القرآن 6 / 3341.
(6) - هذا لا يعارض ما سبق من الأمر بمشورتهم، لأن هناك فرقا بين أن يستشيرهم ويختار من يناسب لذلك، وبين أن يشير عليه بعضهم دون استشارة، مما قد تخفى بعض الأمور على المشير مما يعلمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ولذلك نجد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يأخذ بمشورة بعض الصحابة في قتل عبد الله ابن أبي، بل وحاطب بن أبي بلتعة- رضي الله عنه- حيث خفي على المقترحين بعض الأسباب والنتائج والعواقب.(/28)
* وبهذا يتضح خطورة هذا النوع من الشورى، لتخلف ضوابط الاستشارة التي سبقت، والأمر يحتاج إلى اعتدال وتوازن وحكمة، فلا يرد كل ما جاء من مثل هؤلاء، فهذا له سلبياته التي لا تخفى، ولا ينساق المرء معه دون روية وتبصر بالعواقب مما يخفى على مثل هؤلاء، فيحصل العنت والمشقة.
10- آداب الاستشارة:
للاستشارة آداب يجب أن تراعى، من المشير والمستشير.
* وقد أشرت إلى بعضها عند الحديث في أركان الشورى، كالأمانة، والكتمان، ونحو ذلك.
* ومن الآدا ب التي تجدر الإشارة إليها هنا، احترام كل واحد منهما للآخر، ومن ذلك عدم تسفيه أي واحد منهما لصاحبه، سواء لشخصه أو لرأيه أو للأمر الذي يتشاور فيه.
ومن ذلك أن ينصت المستشار حتى يفرغ المستشير من عرض قضيته، وبعد ذلك ينصت المستشير للمشير حتى ينتهي من إبداء رأيه.
* ومن الآداب التي يجب أن يراعيها المستشير أن يختار الوقت المناسب لعرض موضوعه، لأن لذلك تأثيرا على المستشار والأمر المتشاور فيه.
كما أن على المستشار أن يحسن عرض رأيه، وبخاصة إذا كان لذلك الرأي تأثير على نفسية المستشير، وعليه بالتدرج في الحديث حتى يصل إلى مقصوده دون أذى لصاحبه.
ولأضرب لذلك مثلا يوضح المراد:
لو أن شخصا جاءك واستشارك في الزواج من امرأة تعرفها، وأثناء عرضه لموضوعه عرفت مدى حبه للزواج منها، بل ورغبته الشديدة في ذلك، وكأنه ينتظر منك إشارة ليتقدم لخطبتها. ورأيت أن زواجه منها غير مناسب فيحسن ألا تفاجئه بهذا الرأي، بل عليك أن تختار الوقت والأسلوب المناسبين لإبلاغه برأيك، دون مجاملة أو كتمان..
واسلك مثل ذلك في أي قضية أخرى، ولكل حالة ما يناسبها.
11- أختم هذه (المعالم) بهذه البصيرة، فأقول: ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وغيره عن فاطمة بنت قيس، حيث خطبها ثلاثة من الصحابة، فاستشارت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيمن تتزوج منهم، فقال لها: " أما معاوية فرجل ترب، وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء، ولكن أسامة بن زيد " (1).
ففي هذا الحديث نجد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أشار على هذه الصحابية بأن تنكح أسامة، وذكر لها سبب ذلك فيما يؤخذ على معاوية وأبي جهم.
وهنا نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتصر في الحديث عن الرجلين بما يلزم لتوضيح الأمر المتشاور فيه، ولم يتعد ذلك بكلمة واحدة.
ومن الملحوظ أن البعض إذا استشير في أحد من الناس، أطلق لسانه في الحديث عنه بما له علاقة بالموضوع، وبما ليس له علاقة بذلك.
بل قد يتعدى الأمر إلى الحديث عن أهله مما لا يلزم ذكره، إذ لا ضرورة إلى ذلك لبيان الأمر المتشاور فيه.
وهذه المسألة تساهل فيها كثير من الناس، مع أنها من الغيبة المحرمة، وأعراض الناس مكفولة مصونة، لا تستحل إلا في نطاق ضيق حدده الشارع وبينه، في مسائل معدودة محددة (2).
والشيطان له مداخل معروفة في مثل هذا الأمر، فيجب أن نكون على حذر، فكل كلمة مدونة على صاحبها (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(3) [ سورة ق، الآية: 18] (لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)(4) [ سورة الكهف، الآية: 49] (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ)(5) [ سورة المجادلة، الآية: 6. ].
وجواز الحديث في أصل الموضوع لا يبيح الاسترسال فيه، ويجب أن تكون الإجابة بقدر الحاجة والضرورة. وهذه من المسائل الدقيقة، التي تخفى على بعض الناس، وتحتاج إلى تقوى وورع، يعصم صاحبه من الزلل والخطل.
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأصلي وأسلم على من أعطي جوامع الكلم، وآله وصحبه.. وبعد:
فأجد من المناسب أن أختم هذه الرسالة بكلمتين:
الكلمة الأولى: أوجهها إلى مشايخنا وعلمائنا وقرة أعيننا، أذكرهم فيها بالمسئولية الملقاة على عواتقهم تجاه هذه الأمة عموما، والصحوة خصوصا، فهم القدوة والقادة، فطلاب العلم عنهم يصدرون، والدعاة إياهم يقصدون، والشباب بهم يقتدون، والأمة تنتظر ماذا يقولون، وماذا يفعلون.
* ومن هذا المنطلق فمسئوليتهم عظيمة، والأمانة ثقيلة جسيمة، ومن مقتضيات هذه المسئولية أن يفتحوا صدورهم وبيوتهم لطلاب العلم والدعاة ورواد الصحوة، يعلمونهم، ويوجهونهم، ويشيرون عليهم، ويستمعون إلى مشكلاتهم، وشئونهم وشجونهم، وعليهم أن يتحملوا بعض الهنات من بعضهم، فما جاءوهم إلا محبة وثقة وتقديرا. وقد يخطئ المرء ولو كان بصيرا!!
__________
(1) - أخرجه مسلم (1480) ومالك في الموطأ (2 / 580) والشافعي في الرسالة رقم (856).
(2) - ذكر ذلك النووي وفصل في هذه المسألة في كتابه رياض الصالحين، انظر رياض الصالحين تحقيق الألباني ص489 (باب ما يباح من الغيبة).
(3) - سورة ق آية: 18.
(4) - سورة الكهف آية: 49.
(5) - سورة المجادلة آية: 6.(/29)
* إن هذه البلاد تميزت بميزة لم أجد لها في بقية البلدان مثيلا، ولا نظيرا، ألا وهي قوة الصلة بين العلماء وطلاب العلم، وبين شباب الصحوة وجمهور الأمة، فكلمة العلماء هي الفصل، ومكانتهم هي الأصل، وأعراضهم دونها المهج والأرواح. والأمة بخير ما دامت هذه السمة والمكانة مرعية من جانب الوجود والعدم،.
* فمراعاتها من جانب الوجود بالقيام بحقوق هذه المسئولية تعليما وتوجيها وصدعا بالحق، ومراعاتها من جانب العدم بحمايتها من كيد الكائدين، وإغلاق الباب على الحاسدين والموتورين، من المنافقين والعلمانيين وأعداء هذا الدين.
الكلمة الثانية: أوجهها لإخواني طلاب العلم والدعاة، ولأحبائي شباب هذه اليقظة المباركة، وأوجزها فيما يلي:
1- أن تستمر صلتهم بالعلماء والمشايخ، وألا يسمعوا فيهم قول حاسد أو شانئ.
2- أن يستشيروا علماءهم، وعنهم يصدرون، ومن الحق الذي لديهم يغرفون، ومن بحور علمهم يرتوون، وأن يحذروا الاستغناء أو الاستعلاء، فهما مهلكان.
3- في الوقت الذي أؤكد فيه على وجوب استشارة العلماء -وما كتبت هذه الرسالة إلا من أجل ذلك- فإني أنبه إلى وجوب احترام العلماء، وتقدير ظروفهم، وعدم الإثقال عليهم، وذلك يقتضي الالتزام بآداب الاستشارة، وألا يستشاروا إلا في الأمور ذات البال والشأن، محافظة على أوقات العلماء، وتقديرا للأولويات، فإن الحكمة وضع الشيء في موضعه. وكذلك عليهم أن يختاروا الأوقات المناسبة، والأحوال الملائمة، وأن يحسنوا عرض ما لديهم، وبهذا نحقق معنى الحكمة ومدلولها، وهي: فعل ما ينبغي، كما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، فإذا عرفت فالزم.
* أقول هذا لأنني ألحظ أن بعض المحبين لا يراعون هذه المعاني، مما يسبب إثقالا على العلماء، وإزعاجا للمشايخ، وآثار ذلك لا تخفي.
4- وأخيرا فعلى طلاب العلم أن يلتمسوا الأعذار لمشايخهم وعلمائهم، وألا يكون اعتذار العلماء سببا للصد عنهم، فضلا عن الوقيعة فيهم، فما اعتذروا إلا لعذر، فاحملوهم على أحسن المحامل، لتدوم المودة، وتقوى الصلة، وتتحقق القدوة، والله هو الموفق والمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(/30)
فقه الاعتكاف
تنبيه مهم
(مختصر في ( فقه الاعتكاف
ما هو الاعتكاف؟
وقت الاعتكاف
ما أقل الاعتكاف؟
متى يدخل المعتكف؟
متى زمن الخروج؟
شروط صحة الاعتكاف؟
مسألة اعتكاف المستحاضة
مكان الاعتكاف
أولاً: تنبيه مهم
أصل هذه الرسالة درس ألقاه/ ناصر بن سليمان العمر، ليلة العشرين من رمضان عام 1423هـ، وتم نسخه ونشره لتعم الفائدة ولذلك قد يلحظ بعض العبارات التي تناسب الدروس لا التأليف، والحرص على سرعة إخراجه قبل رمضان عام 1425هـ أدى إلى ذلك، على أن يراعى هذا الأمر مستقبلاً – إن شاء الله –.
بسم الله الرحمن الرحيم
ثانياً: مقدمة مختصر في ( فقه الاعتكاف)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فهذا مختصر في فقه الاعتكاف، ابتدأته بذكر مقدمة، وإيضاح، أما المقدمة فتعلمون أن العشر الأخير من رمضان هو أفضل وقت للاعتكاف لذلك أحببت تقديم هذا المختصر على عجالة من الأمر يشمل أبرز المسائل الفقهية المتعلقة بالاعتكاف، دون الخوض في الخلافات، وما أذكره بعضه من المسائل المجمع عليها، ومعظمه من المسائل المختلف فيها، فأذكر منه ما ترجح لدي بعد رجوعي لفتاوى العلماء من السابقين واللاحقين وهو في النهاية اجتهاد مني حسب ما اطلعت عليه، وأسأل الله سبحانه وتعالى أجر الاجتهاد، وسأذكر بإذن الله ثمرات الاعتكاف. لماذا نعتكف؟ لأن الفقهاء اهتموا كثير وبدقة متناهية بالأسئلة عن حكم الاعتكاف، وعن بعض مسائل الاعتكاف: هل يجوز أن أخرج؟ أو لا يجوز أن أخرج؟ ومن أخرج بعض بدنه هل يبطل اعتكافه؟ أو لا يبطل اعتكافه؟ هذه أسئلة مهمة، لكن الثمرة لماذا نعتكف؟ هذا هو السؤال المهم الذي سيكون في آخر الرسالة وهو الغاية من الاعتكاف، ومن خلال إطلاعي على كتب العلماء وجدت أفضل من جمع مسائل الاعتكاف وذكر أقوال العلماء والخلاف فيها والتزم بذكر الراجح هو الدكتور / خالد بن علي المشيقح حفظه الله، فقد ألف كتاباً اسمه (فقه الاعتكاف)، هذا الكتاب صاحبته منذ عدة سنوات وأعجبني بدقته وطريقة ترجيحه، وأحسن عندما سماه فقه الاعتكاف، فأنصح باقتناء هذا الكتاب، وأن يكون معك في أثناء اعتكافك؛ لأنه لابد أن يعرض لك مسألة من مسائل الاعتكاف فتجد أن الشيخ غالباً أجاب عليها، وقد أفدت منه في هذه الرسالة فائدة كبرى.
ثالثاً: ما هو الاعتكاف؟
الاعتكاف لغة: ملازمة الشيء والمواظبة والإقبال والمقام عليه خيراً كان أو شراً، هذا من ناحية اللغة. والدليل قوله تعالى (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ)(الأنبياء: من الآية52) مع أنها أصنام وسمى فعلهم عكوفاً، وأيضاً (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً)(طه: من الآية97) هذا كلام موسى عليه السلام للسامري، مع أنه في الشر وسمي اعتكافاً.
أما من الناحية الشرعية: فقد قال الفقهاء هو لزوم مسجد لطاعة الله تعالى، لكن شيخ الإسلام قال: هو لزوم مسجد لعبادة الله جل وعلا – لماذا ياشيخ الإسلام؟– قال: إن الطاعة هي موافقة المأمور سواء كان واجباً أو مستحباً أو مباحاً وتصير طاعة بالنية، أما إذا قلنا لعبادة الله فهو التذلل والخضوع وهو الذي يليق بالاعتكاف، قال تعالى: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) أي متذللون خاضعون وقوله:(الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً) متذللاً عابداً خاضعاً والفرق بينهما يسير، والاعتكاف مشروع بالكتاب والسنة وآثار الصحابة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى:(أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ)(البقرة: من الآية125) وأيضاً نجد (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ )(البقرة: من الآية187) وغيرهما من الآيات.
أما السنة: فالسنة العملية والقولية أيضاً، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وفي حديث أبي سعيد الخدري أنه كان يعتكف في العشر الأول ثم تحرى ليلة القدر في الأوسط ثم أخبر وأعلم أنها في ليالي العشر الأواخر، فكان يعتكف في العشر الأواخر وحث الصحابة على الاعتكاف في العشر الأواخر.
أما آثار الصحابة: فكثيرة والرجوع إلى الكتب يبين ذلك لمن أراد مزيد بيان ودليل.
أما الإجماع: فقد حكى الإجماع كثير من العلماء والفقهاء.(/1)
فائدة: هل ورد في الاعتكاف حديث يبين فضل الاعتكاف؟ كأن يقول من اعتكف فله كذا، الجواب: لا يوجد حسب ما أعلم بل حسب ما قال الإمام أحمد رحمه الله لا يوجد حديث صحيح فيه مقدار أجر المعتكف، يقول أبو داود رحمه الله: قلت لأحمد تعرف في فضل الاعتكاف شيئاً قال: لا، إلا شيئاً ضعيفاً، ومن ذلك حديث أبي الدرداء مرفوعاً (( من اعتكف ليلة كان له أجر أو كأجرة عمرة، ومن اعتكف ليلتين كان له كأجر عمرتين))، أما دليل المشروعية فقد ورد في أحاديث كثيرة جداً، اعتكاف النبي – صلى الله عليه وسلم – كما روت عائشة وروى الصحابة وما ذكره أيضاً في حديث أبي سعيد رضي الله عنه وغيرها من الأحاديث.
حكم الاعتكاف سنة للرجل والمرأة لأدلة مشروعيته وحكي إجماعاً إلا ما ذكر عن مالك أنه كره الاعتكاف كما ذكر بعض المالكية، فحكم الاعتكاف أنه مسنون إلا ما أوجبه المرء على نفسه بالنذر، لما قال عمر رضي الله عنه للنبي – صلى الله عليه وسلم – إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة وفي رواية يوماً في المسجد الحرام قال له النبي – صلى الله عليه وسلم – ((أوفِ بنذرك)).
أما ما لم يكن نذراً فالصحيح عدم الوجوب فهو مسنون للرجل والمرأة على القول الصحيح، أما الرواية عن الإمام مالك فقد اختلف أيضاً من نقل عنه، بعضهم قال أن مالك لم يقل بالكراهة وبعضهم كابن رشد قال أن الإمام مالك قال بالكراهة، ومع ذلك فقوله مرجوح إن صحت النسبة إليه، أما المرأة فجمهور العلماء على أن الاعتكاف مشروع لها أي مسنون إلا ما روي عن القاضي من الحنابلة أنه كره اعتكاف المرأة الشابة وهذا فيه نظر، لأن أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – اعتكفن ومعلوم أن عدداً منهن شابات كعائشة، وأم سلمة، وحفصة، كن شابات في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – ومع ذلك اعتكفن. فالقول أن اعتكاف الشابة مكروه لا دليل عليه.
رابعاَ: وقت الاعتكاف
جمهور العلماء على أنه في كل وقت مسنون في رمضان وفي غيره، إلا قولاً لبعض المالكية أنه مسنون في رمضان وجائز في غيره، والقول الراجح هو أنه مشروع في رمضان وغيره وأفضله في رمضان وآكده في العشر الأواخر من رمضان.
خامساً: ما أقل الاعتكاف؟
اختلف العلماء على عدة أقوال، منهم من قال أقل الاعتكاف عشرة أيام، ومنهم من قال يوم وليلة، ومنهم من قال يوم أوليلة، ومنهم من قال لحظة، وأرجح الأقوال وهو الذي تؤيده الأدلة أن أقله يوم أو ليلة، لحديث عمر قال: (( أوفِ بنذرك))، قال:"نذرت أن أعتكف ليلةً" وفي رواية "يوماً"، وهما صحيحتان. فنقول أن أقل الاعتكاف يوم أو ليلة لأنه أمر تعبدي، وهذا أقل ما ورد فيه، أما ما قاله بعض العلماء أنه لحظة فهذا لا نستطيع أن نقول إنه اعتكاف ولا دليل عليه، لكننا نقول لو انتظر الصلاة فهو مشروع ومأجور، لحديث "وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط"، لكن لا نسميه اعتكافاً، فرق بين أن نقول أن انتظار الصلاة مشروع؛ أي الجلوس في المسجد لانتظار الصلاة مسنون، ولك أجر في ذلك، وبين أن نسميه اعتكافاً، الاعتكاف الذي نتحدث عنه، هو الاعتكاف الذي له أحكام وله شروط وله آداب، فنقول: أعدل الأقوال وأوضحها وأقواها وهو الذي يؤيده الدليل أن الاعتكاف أقله يوم أو ليلة، لحديث عمر رضي الله عنه، أما أكثره فلا حد له كما نذرت امرأة عمران أن ما في بطنها محرراً وهي مريم عليها السلام أي وهبتها للمسجد أي نذرتها لتبقى في المسجد فتقبل الله منها كما في سورة آل عمران ( إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(آل عمران: من الآية35) (َفتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً)(آل عمران: من الآية37) فتبين لنا أنها كانت معتكفة في المسجد بدليل أول الآية أن أمها نذرتها لله وما معنى أن تنذرها لله أي جعلتها في المسجد لخدمة المسجد وبيت المقدس وتقبل الله منها (كلما دخل عليها زكريا المحراب) معناه أنها موجودة في المسجد، فممكن أن ينذر الإنسان نفسه لله، يبقى في البيت الحرام أو يبقى في المسجد، لكن بشرط أنه لا يفرط في واجب ولا يقع في محرم بأن يتعدى في شيء من ذلك، كما نص العلماء.
سادساً: متى يدخل المعتكف؟(/2)
فيه قولان قويان في هذه المسألة، قول جمهور العلماء على أنه يدخل قبل مغرب يوم عشرين أي قبل غروب الشمس من يوم عشرين، حتى تكون فعلاً اعتكفت العشر الأواخر لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – حث على العشر الأواخر ومن دخل المسجد بعد غروب الشمس لا يصدق عليه أنه اعتكف العشر الأواخر كاملة، وفيه قول آخر وهو أنه يدخل معتكفه بعد صلاة الفجر من يوم الواحد والعشرين، واستدل هؤلاء بحديث عائشة رضي الله عنها ( أن النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر صلى الصبح ثم دخل معتكفه) لكن هنا وقفة، حيث إنه لو دخل بعد الصبح فقد فاتته ليلة الواحد والعشرين ومن فاتته ليلة كاملة لايصدق عليه أنه اعتكف عشر ليالي وخاصة أن الاعتكاف عشر ليالي ما قال عشرة أيام، الاعتكاف ربط بالليالي يقول اعتكف عشر ليالي تسع ليالي، والذي لم يدخل إلا بعد صلاة الصبح كيف نقول عنه أنه اعتكف عشر ليالي، أو نقول اعتكف العشر الأواخر، وقد ترك ليلة كاملة بل هذه الليلة ورد فيها أحاديث كثيرة أنها قد تكون ليلة القدر، كيف نجمع بين حديث دخل معتكفه بعد صلاة الصبح، وبين حديث أبي سعيد في العشر الأواخر وغيره من الأحاديث أنه كان يعتكف العشر الأواخر، الجمع يسير وبين وسهل، مع أن القول الثاني قال به علماء كبار لهم شأن أنه لا يدخل إلا بعد الفجر، والقول الأول قال به جمهور العلماء دليلهم أوضح وكلما أمكن إعمال الأدلة جميعاً أولى من إعمال دليل وإهمال الثاني قال العلماء: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يدخل المسجد قبل غروب الشمس في يوم العشرين ويصلى الليل في المسجد ولكن يدخل معتكفه أي خباءه الذي وضعه ونصبه في المسجد بعد صلاة الصبح بعد أن يصلى بالناس الفجر يدخل خباءه، ويسمى المعتكف أي من باب الخاص كما ورد أن "الحج عرفة" مع أنكم تعلمون أن الحج ليس فقط في عرفة، من ذهب إلى عرفة فقط ولم يطف بالبيت ولم يسع ولم يرم الجمرات ولم يذهب إلى مزدلفة ما صح حجه، لكن قال النبي – صلى الله عليه وسلم – "الحج عرفة"، أي هو أعظم أركان الحج، فكذلك الخباء الذي يوضع في المسجد للاعتكاف، وإلا فالاعتكاف عموماً في المسجد، إذن فالنبي – صلى الله عليه وسلم – كان يدخل قبل غروب الشمس ليلة الواحد والعشرين أي يوم العشرين، ويدخل معتكفه بعد صلاة الصبح في يوم الواحد والعشرين، بهذا نجمع بين الأدلة وينتهي الإشكال والحمد لله، هذا هو القول الراجح.
سابعاً: متى زمن الخروج؟
جمهور العلماء على أنه يستحب له أن لا يخرج من المسجد إلا لصلاة العيد، ولكن لو خرج بعد غروب الشمس من آخر يوم من رمضان فقد تم اعتكافه هذا بالإجماع حتى على قول الجمهور، لكن جمهور العلماء أخذاً من فعل السلف يقولون الأفضل أن يبقى إلى أن يخرج من مسجده إلى صلاة العيد ليصل عبادة بعبادة، وهكذا فعل جمهور من السلف ومع ذلك إن خرج بعد الغروب فلا حرج عليه.
ثامناً: شروط صحة الاعتكاف؟
سأذكر شروطاً متفقاً عليها وشروطاً راجحة وشروطاً مرجوحة.
أولاً: ركن الاعتكاف شيء واحد، بعض العلماء جعل الأركان أربعة أو خمسة، والصحيح أن ركن الاعتكاف ركن واحد، وهو اللبث في المسجد، أي لزوم المسجد لطاعة الله جل وعلا، ولعبادته، وهذا الركن لابد أن يدور معنا في كثير من الأحكام وهو قاعدة مهمة تنفعنا في بيان أن من خرج عن هذا الركن فقد وقع إما في التقصير أو وقع في إبطال الاعتكاف فنقول ركن الاعتكاف شيء واحد على القول الصحيح وهو: اللبث في المسجد.
ثانياً: أما شروط الاعتكاف المتفق عليه، فأذكر الآن حسب ما لدي خمسة شروط: وهي (الإسلام، والعقل، والتمييز، والنية، وأن يكون في مسجد). وشرط أن يكون في مسجد قد يقول قائل لا حاجة إليه هنا لأنه ركن، لكن ذكره بعض العلماء من باب التأكيد حتى لا يجلس إنسان في مصلى في بيته أو في مصلى آخر ويقول اعتكفت.
أما المختلف فيها والراجح اشتراطها فهي: الطهارة من الحيض والنفاس والجنابة هذا شرط على الراجح وأيضاً إذن السيد للرقيق وإذن الزوج للزوجة هذه شروط راجحة.
ثالثاً: المختلف فيها وهي مرجوحة: فالصوم أي لا يصح الاعتكاف إلا بصوم، هذه أكثر مسائل الاعتكاف خلافاً، والراجح أنه يجوز الاعتكاف بدون صوم، واشتراط الصوم لا يوجد دليل صحيح صريح على اشتراطه، واستدل القائلون بعدم اشتراطه، بحديث عمر ( أنني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام) ومعروف أن الليل ليس مكاناً للصيام استقلالاً وإنما قد يكون تبعاً، كمن واصل الصيام، فما دام صح اعتكاف الليل والليل ليس مكاناً للصيام استقلالاً دل ذلك على أنه لا يشترط الصوم في الاعتكاف.
تاسعاً: مسألة اعتكاف المستحاضة
المستحاضة اختلف العلماء هل تعتكف؟(/3)
اختلف العلماء في هذه المسألة والصحيح جواز اعتكاف المستحاضة كما ثبت عن عائشة رضي الله تعالى عنها في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري، تقول عائشة رضي الله عنها ( اعتكفت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – امرأة من أزواجه مستحاضة فكانت ترى الصفرة والحمرة فربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي) رواه البخاري أي حتى لا تلوث المسجد، إذن المستحاضة كما أنه يجوز لها الصلاة ويجوز لها الصيام ويجوز أن يقربها زوجها فكذلك يجوز لها أن تعتكف بشرط أن تتحفظ، حتى لا تؤذي و لا تلوث المسجد، ويلحق بالمستحاضة ما في معناها كمن به سلس البول والمذي والودي ومن به جرح يسيل، لكن يشترط لكل هؤلاء أن لا يلوثوا المسجد.
عاشراً: مكان الاعتكاف
ذكرنا أن المسجد يعتبر شرطاً لصحة الاعتكاف ولا يصح في غيره، بل قد حكي إجماعاً، قال القرطبي: أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد، وقال في المغني: لا نعلم في ذلك خلافاً، وقال ابن رشد: اتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف إلا محمد بن عمر بن لبابة فأجازه في كل مكان وهو قول ضعيف، لكن بالنسبة للرجل لا يصح أن يعتكف إلا في مسجد تقام فيه جماعة حتى لا تفوته الجماعة، إلا إن كان من أهل الأعذار، فإن كان من أهل الأعذار ممن لا تجب عليه صلاة الجماعة؛ فيجوز له أن يعتكف في المسجد وإن لم تقم فيه الجماعة، أما المرأة فشرط المسجد واجب أيضاً لكن يجوز لها أن تعتكف في مسجد لا تقام فيه الجماعة.
مسألة: هل يصح أن تعتكف المرأة في مسجد بيتها؟
الصحيح وهو قول جمهور العلماء أنه لا يجوز للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها أي مصلى بيتها فليس مكاناً للاعتكاف، إن استطاعت أن تعتكف في المسجد مع شرط أمن الفتنة فيجوز لها أن تعتكف، و إلا فهي في سعة من أمرها، ولا تعتكف في مصلاها، هذا على القول الراجح، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما استأذنه أزواجه أذن لهن بالاعتكاف، ولو كان يشرع بالبيت لدلهن على ذلك، كما دل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل لها، فعدم بيان النبي – صلى الله عليه وسلم – مشروعية الاعتكاف في البيت بل وإذنه للنساء بالاعتكاف في المسجد دليل على أن البيت ليس مكاناً للاعتكاف، ولو كان مكاناً للاعتكاف كما كان مكاناً للصلاة، لدل عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – هذه مسألة مهمة لأن بعض النساء كما بلغني تعتكف في مصلى بيتها فنقول هذا غير صحيح والقول في هذا ضعيف.
مسألة: المسجد الذي يصح فيه الاعتكاف.
يصح الاعتكاف في المصلى الذي يصلي فيه الناس، ويصح في سطح المسجد، ويصح في رحبة المسجد، ويصح في منارات المسجد، ويصح في الغرف الملحقة بالمسجد وتعد داخل حوش المسجد، وتصح كذلك في مكتبة المسجد أو مستودع المسجد مادام داخل سور المسجد وملحق بالمسجد وليس منفصلاً عنه، فكل هذه يصح فيها الاعتكاف، ولا شك أن أفضلها هو في داخل المسجد إلا إن كان يحول دون ذلك حائل، أو لا يستطيع أن يعتكف الإنسان الاعتكاف الصحيح في داخل المسجد، وإلا فهو أفضلها خروجاً من الخلاف، وباقي الأماكن مشروعة مع أن في بعضها خلافاً.
الحادي عشر : أفضل المساجد للاعتكاف
أفضلها المسجد الحرام، ثم المسجد النبوي، ثم المسجد الأقصى أسأل الله جل وعلا أن يحرره من اليهود، وأن يمكننا من الصلاة فيه محرراً مطهراً من هؤلاء الأنجاس الأرجاس، فهذه أفضل المساجد ومرتبة حسب الترتيب كما ورد في الأحاديث الصحيحة في فضل هذه المساجد، ثم مسجد جامع ثم مسجد غير جامع أكثر جماعة، قال العلماء ثم ما لا يحوجه لكثرة الخروج أو طول الخروج كيف؟ لو أن بجانب بيتك مسجداً وعدد الجماعة فيه قليل، وهناك مسجد يبعد عن بيتك كثيراً لكن الجماعة فيه كثيرة، هل نفضل المسجد الذي فيه جماعة كثيرة لكثرة الجماعة على المسجد الذي بجوار بيتك، قال العلماء: أفضل المساجد بعد المساجد الثلاثة وبعد المسجد الجامع، ما لايحوجك إلى كثرة الخروج أو طول الخروج، فإذا كان الذي بجانب بيتك ومنزلك وإن كان أقل جماعة وتحتاج أن تخرج من المسجد إما للأكل أو الشرب كما سيأتي أو للوضوء فنقول اعتكف في هذا المسجد الأقرب إلى بيتك لأنه لا يحوجك إلى طول الخروج، ولا إلى كثرة الخروج، لأن أهلك يخدمونك، أما إن كنت لا تحتاج فالأفضل ما كان أكثر جماعة، وأفضلها مساجد الجمعة.
مسألة: ما حكم الخروج من المسجد؟
الخروج من المسجد على ثلاثة أقسام:
1- نوع لا يحتاج إلى الاشتراط، حيث يشرع الخروج من المسجد وأنت معتكف ولا يقطع الاعتكاف و لايحتاج إلى اشتراط، ضبطه العلماء بقاعدة يسيرة جداً، قالوا: ما لابد للإنسان منه شرعاً أو طبعاً، كالأكل أو الشرب وقضاء الحاجة والعلاج الذي يحتاج إليه حتى لو لم يشترط، وهذا ليس على سبيل الحصر فالقاعدة هي المهمة أما الأمثلة قد ترد أمثلة أخرى.(/4)
2- وقسم يجوز ولا يقطع الاعتكاف إذا اشترطه الإنسان فإن لم يشترطه وخرج بطل اعتكافه وانقطع الاعتكاف فيحتاج إلى أن يستأنف وذكر العلماء فيه قاعدة قالوا: كل قربة غير واجبة: مثلاً زيارة المريض، واتباع جنازة، إن اشترطت فيجوز لك الخروج لعيادة المريض الفلاني أو أن تتبع جنازة. وإن لم تشترط فلا يجوز لك الخروج على القول الراجح، وينقطع الاعتكاف إلا إذا خرجت لغيره، ومررت مروراً حيث يكون في طريقك كما كانت تفعل عائشة – رضي الله عنها –.
بقي سؤال لطيف وهو كيف أشترط أنه إن توفي فلان أحضر جنازته؟ والجواب: كأن تعرف إنساناً في المستشفى والعلم عند الله ولكن قد تكون هناك أمارات على حاله فتشترط، وأسهل من هذا أن تقول: أنا أعتكف وأشترط أنه إن توفي أحد ممن أريد أن أحضره فلا أسقط اعتكافي تعمم ولا تحدد شخصاً معيناً، في هذه الحالة يصح اعتكافك وتخرج إلى تلك الجنازة، فإن لم تشترط ينقطع الاعتكاف وتعود وتستأنف ولا شيء في ذلك إلا إذا كان اعتكافاً واجباً.
3- ما لا يصح الاعتكاف معه سواء اشترطت أو لم تشترط قالوا وهو ما ينافي الاعتكاف كالبيع والشراء، يقول إنسان أنا اشترط أني أداوم في الوظيفة أو أشترط أني أبيع وأشتري هذا لا يجوز، أما طلب العلم أجازه بعض العلماء.
الثاني عشر: مبطلات الاعتكاف
أولاً: الجماع وهذا محل إجماع كما ذكر ابن المنذر وابن حزم وابن هبيرة ذكروا الإجماع في ذلك.
ثانياً: مباشرة الزوجة والأمة بشهوة، فإن كان لغير شهوة لم يبطل اعتكافه باتفاق الأئمة لحديث عائشة في ترجيل شعر النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو معتكف.
ثالثاً: إنزال المني بالمباشرة أو تكرار النظر أو الاستمناء.
رابعاً: الحيض والنفاس.
خامساً: ذهاب العقل بسبب شرب مسكر.
سادساً: الردة.
سابعاً: قطع نية الاعتكاف لا العزم على الخروج أو التردد فيه، وهذه تحتاج إلى توضيح، إذا قطعت نية الاعتكاف ولو أنت في المسجد بطل اعتكافك، لكن لو قلت سأخرج إن شاء الله بعد المغرب لكنك تغيرت رأيك ولم تخرج هذا لا يبطل الاعتكاف، ينتبه لهذا الفرق بين المسألتين، أو ترددت أخرج أو لا أخرج، هذا التردد لا يخرجك بناء على القاعدة (أن اليقين لا يزول بالشك)، أنت معتكف يقيناً فلا يزول إلا بيقين فإذا قطعت نية الاعتكاف وقلت أنا الآن قطعت اعتكافي ولو أنت في المسجد بطل اعتكافك، أما إذا قلت سأخرج بعد ساعة أو ساعتين وعزمت على ذلك لكنك لم تخرج غيرت هذه النية فلا يبطل اعتكافك، أو ترددت هل أخرج أو لا أخرج هذا التردد قالوا لا يبطل الاعتكاف.
ثامناً: الموت لحديث ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث).
ولا يبطل الاعتكاف لا بالاحتلام، ولا الإنزال بسبب التفكر أحياناً بعض الناس يفكر ومع التفكير يحتلم، فالصحيح أنه لا ينقطع اعتكافه لأنه لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أيضاً الغيبة والنميمة مع إثمهما وعظم جرمهما فلا يبطلان الاعتكاف، لكن تنقص من قدر الاعتكاف ويأثم صاحبها.
ذكر العلماء هذه القاعدة وهي: يشترط لبطلان الاعتكاف أن يكون عالماً ذاكراً مختاراً، فإن كان جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً لم يبطل اعتكافه لأنه من باب التروك وما كان من باب التروك يعذر فيه بالجهل والنسيان والإكراه بخلاف ماكان من باب الأوامر وأمكن تداركه.
الثالث عشر: قضاء الاعتكاف
القول الراجح عدم وجوب قضاء الاعتكاف المسنون إذا قطعه لعذر أو لغير عذر، ولكن يستحب له ذلك لقضاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اعتكافه عندما قطعه حيث قضاه في شوال وهذا هو اختيار شيخ الإسلام وقال به جمهور من العلماء.
أما الواجب فيجب قضاؤه لأن الذمة لم تبرأ بعد لو كان نذراً ثم قطعه فنقول له أعد الاعتكاف، وهنا مسألة دقيقة جداً، من نذر أن يعتكف عشرة أيام متتابعة ثم اعتكف خمسة أيام وأبطل اعتكافه هل يعيد العشرة؟ قضى خمسة أيام ثم أبطل اعتكافه أي خرج من المعتكف هل يعيد عشرة أيام أو خمسة أيام؟ ننظر إن كان أبطله لعذر مشروع فيعتد بخمسة الأيام ومتى مازال هذا العذر يرجع ويكمل الاعتكاف، أما إن كان أبطله لغير عذر مشروع فنقول عليه أن يعيد عشرة الأيام، أما لو قال أنا علي عشرة أيام، ولم يحددها، لم يقل: متتابعة، ولا غير متتابعة، فنقول كل يوم اعتكفه سقط من ذمته وبرئت به ذمته وعليه قضاء الباقي، واليوم الذي خرج فيه ولم يكمله عليه بقضاؤه لأنه لم يكتمل.
السؤال الأخير في هذه الجزئية، هل يقضي الولي عن موليه؟(/5)
لو أن رجلاً توفي والده وعليه نذر هل يقضي عنه أو لا، جمهور العلماء قالوا لا يقضي عنه لعدم الدليل، والإمام أحمد رحمه الله قال يقضي عنه وليه إن كان نذراً يستحب له القضاء لا وجوباً، لحديث (( من مات وعليه صيام صام عنه وليه)) قال والاعتكاف أقرب ما يكون إلى الصيام حيث يلحق بالصيام لا بالصلاة، وقول الإمام أحمد له وجاهته، وإن لم يفعل يطعم عن كل يوم مسكيناً أو أنه كما ذكر بعض العلماء عليه كفارة يمين لأن كفارة النذر كفارة يمين كما ورد في الأحاديث الصحيحة.
الرابع عشر: الحكمة من الاعتكاف
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (( لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً على جمعيته على الله تعالى ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإن شعث القلب لا يلم إلا بالإقبال على الله تعالى، وكان فضول الطعام والشراب وفضول مخالطة الأنام وفضول الكلام وفضول المنام مما يزيده شعثاً ويشتته في كل واد ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى أو يضعفه أو يعوقه أو يوقفه اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب ويستفرغوا من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه ولا يضره ولا يقطعه عن المصالح العاجلة والآجلة وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه والخلوة به والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته فيستولي عليه بدلها ويصير الهم كله به والخطرات كلها بذكره والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه فيصير أنسه بالله بدلاً من أنسه بالخلق فيعده بذلك بأنسه به يوم الوحشة في القبور حيث لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه فهذا هو مقصود الاعتكاف الأعظم)).
الخامس عشر: بماذا يشتغل المعتكف؟
قاعدة ذكرها الشيخ عبد العزيز بن باز وأشار إليها ابن القيم رحمهما الله جميلة جداً تبين لك هل أنت معتكف اعتكافاً صحيحاً أو أن اعتكافك دخله الخلل والنقص، قالوا أن روح الاعتكاف، (هو الاشتغال بالخالق عن المخلوقين).(/6)
فالمعتكف يشتغل بالذكر والدعاء والاستغفار والتوبة النصوح وفي قراءة القرآن والتدبر فيه وفي الصلاة والتفكر والتأمل والنظر في طريقه وسيره إلى الله والتفكر من أعظم مقاصد الاعتكاف، ونحن نعيش في منعطف خطير وكثرة الأعمال وكثرة الأشغال وكثرة السير في الحياة قد لا تعطي الإنسان فرصة ليعلم هل هو يسير المسير الصحيح أو لا؟ تأمل الآن في واقع الشباب بارك الله فيهم وفيكم وأصلحهم الله حيث يقومون بأعمال لو جلسوا وتفكروا وتدبروا لعلموا خطأ الطريق الذي يسيرون فيه، يأتي الاعتكاف وتتفرغ من أمور الدنيا بل تتفرغ من بعض الأعمال ولو كانت في طاعة الله كالأعمال الدعوية وطلب العلم، لتخلو بنفسك وتخلو بربك وتتأمل وحدك هل أنت سائر إلى الله كما ينبغي، هل طريقك صحيح؟ لو وقف الإنسان مع نفسه وخلا بذاته يتفكر ويتدبر بعيداً عن مشاكل الحياة وتزاحم أمورها عليه بعيداً عن قرنائه وأصدقائه بل بعيداً عن الكلام في الأشخاص والمناهج والقدح في هذا والجرح في ذاك لو وقف الإنسان وقفة تأمل وتدبر والتجأ إلى ربه ليهديه السبيل الأقوم، لهداه الله سبحانه إلى الطريق الصحيح، طريق النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه الكرام، فالاعتكاف فرصة عظيمة لمن أداه على وجهه ليتدبر ويتفكر ويتأمل ومن ثم يمتليء بشحنة إيمانية عظيمة وزاد لمواصلة الطريق إلى الله لمواصلة حياته ودعوته بعزيمة وإخلاص وقوة، الأزمات الموجودة في الأمة الآن هل لها من خلاص؟ من منا يستطيع أن يصل إلى هذا الطريق؟ التفكير الذي يكون في خلوة الاعتكاف قد يدلك فعلاً على مخرج لهذا الواقع المر الذي تعيشه الأمة (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ )(سبأ: من الآية46) كفار قريش لما لم يؤمنوا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – لأنهم قالوا: وجدنا آباءنا على أمة فماذا حدث (فإنا على آثارهم مقتدون) دعاهم الله تعالى فقال: (إنما أعظكم بواحدة) ماهي هذه الواحدة يارب؟ (أن تقوموا لله مثنى وفرادى) أن تقوموا لله مثنى وفرادى تتفكروا: هل ما عليه آباؤكم صحيح أو غير صحيح؟ فالله جل وعلا كما في هذه السورة العظيمة سورة سبأ يدلنا على مخرج من الأزمات، وفي سورة الأعراف (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ)(لأعراف: من الآية184) دعاهم الله إلى التفكر، وكذلك نحن الآن لابد أن نتأكد أننا نسير السير الصحيح، فكل إنسان محاسب عن عمله أمام الله سبحانه وتعالى، نعم نستفيد من علمائنا نقتدي بهم ونستفيد ممن سبقنا، لكن كل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم –كثير من الناس أغلقوا عقولهم عند بعض العلماء، وعلى بعض طلاب العلم، بل سمعت بعضهم يأخذ من بعض صغار طلاب العلم ويترك الأخذ من كبارهم، ليست هناك عصمة لا لكبار طلاب العلم ولا صغارهم، ولسنا مطالبين بتقديس فرد من الناس أبداً بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بل لا يجوز ذلك إنما نأخذ الحق ممن ما جاء به، الشيء الذي لا يقبل ولا يليق بالعاقل ولا بالداعية أن يغلق عقله عن كبار العلماء ودعاة الحق ولو أخطأوا، ويفتح عقله وقلبه لصغار طلاب العلم وصغار الدعاة لا يليق هذا، استفد من هؤلاء صغاراً أو كباراً خذ ما عندهم من الحق لكن لا تغلق عقلك عن الآخرين، رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول لأبي هريرة لما جاء يخبره عن قصته مع الشيطان كان يسأله ما فعل ضيفك البارحة عندما كان يأخذ من التمر الذي كان يحرسه أبو هريرة رضي الله عنه، وآخر مرة قال الشيطان لأبي هريرة: ألا أدلك على كلمة تحرسك فدله على آية الكرسي فجاء يخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – ماذا قال له النبي – صلى الله عليه وسلم – هل قال له دعك من هذا الشيطان ؟ أتأخذ كلام الشيطان، قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ((صدقك وهو كذوب))، مع أنه كذوب وهو إبليس ومع ذلك أصبح حديث أبي هريرة في قصته مع الشيطان من أعظم الأدلة على فضل آية الكرسي وحمايتها للمسلم، سبحان الله كيف يريد بعضهم أن تغلق عقلك وتغلق قلبك عن عالم من العلماء، يقول أحدهم: إن فلاناً يقول لا تذهبوا للشيخ فلان ولا للشيخ فلان وقعوا في بعض الأخطاء و الاجتهادات مع أنهم ليسوا مبتدعة ولا أصحاب أهواء، فكيف يحذر منهم؟ كيف نتيح لأحد من الناس كائناً من كان أن يغلق عقولنا عن باب ويفتحها على أبواب، كيف تسمح يا أخي أن تغلق عقلك وقلبك ضد عالم وداعية وإمام من أهل السنة ولو أخطأ وتفتحه لآخر قد يكون نكرة، بل كيف تغلق الأبواب وتقول اخرجوا مع النوافذ، يغلق العقل عن علماء ودعاة أمة ويفتح لطلاب علم صغار، لم يتضلعوا بالعلم ولم تحنكهم التجربة، ولذلك تقع مصائب وكوارث ونحن نعيش هذه الأيام بعض المصائب وبعض الفتن أسأل الله أن ينجينا منها، فالخلوة والاعتكاف يعطيك فرصة للتفكر والتدبر، ستموت وحدك وتقبر وحدك وتبعث وحدك وتحاسب وحدك وتعبر الصراط وحدك.(/7)
مما يجب أن يشتغل به المعتكف المبادرة إلى الصلاة في أول وقتها، والمناجاة والرقي بالمستوى الإيماني، ومحاسبة النفس على تقصيرها، تهيئة النفس للقيام بواجب الدعوة والعلم والجهاد.
السادس عشر: ماذا يحذر المعتكف؟
ترك الخلطة والابتعاد عنها إلا في الصلاة مع الناس وما لابد منه، وتحقيق معنى الخلوة والاعتكاف، والتقليل من الطعام والشراب والأخذ بقدر الحاجة، بعض المعتكفين هداهم الله رأيت موائدهم كأنهم في مناسبة، نقلوا موائد البيت إلى المسجد ولا ينبغي لهم ذلك، بل رأيت بعض الشباب يعتكفون في المساجد وكأنهم في مركز صيفي، وهذا ليس اعتكافاً، وعليك التقليل من النوم وأن يكون بقدر الحاجة، وتقليل الكلام إلا فيما يعنيه، من حكمة الاعتكاف، واعتزال النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو الذي تحتاجه الأمة يعتذر حتى عن أصحابه فلنا فيه قدوة فتترك الكلام إلا قدر الحاجة، وأخيراً البعد عن الهزل والضحك ومالا ينفعه.
سؤال في هذا الموضوع، هل تستطيع يا أخي الكريم أن تعيش هذه الأيام وأنت معتكف بدون أن ترتكب معصية؟
الجواب نعم، لأنني أقول لك هل يليق بك أن تعصي الله وأنت في بيته وفي رمضان بل في العشر الأواخر منه وأنت معتكف لايليق بك ذلك.
السابع عشر: ثمرات الاعتكاف
ثمرات الاعتكاف عظيمة جداً وهنا يأتي السؤال الذي سألته قبل قليل، لماذا نعتكف لماذا ننقطع عن أهلنا ونترك بعض مشاغلنا، أحكام الاعتكاف ماذا يحل وماذا لا يحل وماذا يبطل الاعتكاف إن لم تكن لها ثمرة فلا قيمة لها. أختصر وأقول ثمرات الاعتكاف أو بعض ثمرات الاعتكاف من أهمها:
أولاً: الإخلاص والتعويد والتربية على الإخلاص لأنك في معتكفك لايراك أحد إلا الله جل وعلا، فالإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأنت في معتكفك تصلي وتصوم وتذكر الله جل وعلا وتقرأ القرآن تربي نفسك على الإخلاص وهذا كما تعلمون ركن من أركان كل عمل صالح (( من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه))
ثانياً: التربية على التخلص من فضول الكلام والطعام والنوم والخلطة وتعويد النفس على ذلك.
ثالثاً: التربية على العبادة وخاصة قيام الليل وقراءة القرآن والاستغفار والذكر والمناجاة.
رابعاً: تقوية الصلة بالله تعالى واللجوء إليه ومناجاته.
خامساً: التفكر والتعود على الاستخدام الأمثل لنعمة العقل وخاصة في زمن الفتن والمحن.
سادساً:ابن القيم يقول ((فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حيث لا أنيس له إلا ذاك )) أي أن الاعتكاف يهيئك لوحدتك في القبر، ومن هذا المعنى أقول: كثير من الناس إذا ابتلي وفرض عليه الانفراد ضعف وانهار، والاعتكاف يعود المسلم على مواجهة الشدائد بل يصبح يتلذذ بذلك، وأعرف أناساً فرض عليه الانفراد عدة سنوات فلم يهنوا ولم يخضعوا ولم يجبنوا أسأل الله أن يثبتنا وإياهم، بل حرموا من الأهل والولد فلم يزدهم ذلك إلا قوة وثباتاً، الاعتكاف يعودك على الثبات وهناك أناس عندما فرض عليهم الانفراد وابتلوا عدة أيام ضعفت قواهم وفي هذه الحالة لا يحقق أهدافه التي يسعى إليها، لأن الإنسان مدني بطبعه كما يقول ابن خلدون يحب الناس يحب الخلطة يحب الاجتماع تعود على العيش مع والديه وزوجته و أبنائه و إخوانه وأصدقائه من الشباب وعلى جيرانه، فلما عزل عن الناس لم يستطيع أن يثبت، الاعتكاف يربيك على الثبات وهو درس عظيم أسأل الله أن يحفظنا وإياكم وأن يجنبنا وإياكم الابتلاء، فالاعتكاف يعودك على هذا الأمر يصبح سهلاً عليك في أي موضع كنت وفي أي حال كنت.
فعود نفسك على قلة الطعام على قلة الأكل على قلة النوم على الانفراد عن الناس لأن غالب من يبتلى يصاب في هذا النوع، الحرمان تحرم من نوع من الطعام الحرمان من النوم أحياناً الحرمان من الناس الحرمان من فضول الحاجات، الاعتكاف يربي عندك هذه الخصلة على الانفراد على الحرمان من أشياء كثيرة في حياتك لأنك قد تعودت على ذلك إذا اعتكفت الاعتكاف الصحيح.
سابعاً: من ثمرات الاعتكاف مراجعة النفس ومحاسبتها في أمور الدين والدنيا في أمور العبادة وغيرها، وليعوض جوانب التقصير في حياته وخاصة في أمور العبادة كلنا الآن نشكو من التقصير في العبادة من قراءة القرآن ومن الصلاة وغيرها في الاعتكاف تعوض شيئاً من ذلك.
ثامناً: التربية على الاستخدام الأمثل للوقت وعدم تضييع الثواني فضلاً عن الدقائق والساعات أعرف بعض إخوانكم ممن يعتكف الدقيقة عنده تعادل ساعة في الأيام العادية والساعة تعادل يوماً لأنك بين ذكر واستغفار وقراءة القرآن وتفكر والنظر في بعض مسائل العلم إن احتجت إليها فتصبح الدقيقة لها قيمة هذه حياتك، إذا كنت استطعت أن تجلس عشرة أيام استثمرتها هذا الاستمثار الأمثل فكذلك في بقية حياتك تتعود على الاستخدام الأمثل والاستثمار الأمثل للدقائق والثواني.
تاسعاً: من ثمرات الاعتكاف التربية الجادة والأخذ بعزائم الأمور.(/8)
عاشراً: أحياء سنة عظيمة من أعظم السنن التي هجرها كثير من الناس وهي سنة الاعتكاف.
قبل سنوات ما كان يعتكف إلا بعض كبار السن أما الآن فقد أحييت هذه السنة، وانتشر في المساجد إحياء هذه السنة فإذا اعتكفت يا أخي فأنت تحيي سنة عظيمة كاد أن يهجرها كثير من الناس.
الحادي عشر: من ثمرات الاعتكاف ترك المعاصي أو التقليل منها.
الثاني عشر: وهو درس مهم وثمرة مهمة وذلكم التربية على الصبر ومجاهدة النفس وعدم اتباع الهوى والشيطان ونحن في هذه الأزمة التي تعيش فيها هذه الأمة نحتاج إلى التربية على الصبر نحتاج إلى التربية على مجاهدة النفس نحتاج إلى التربية على التخلي عن كثير من الأمور والعادات التي كسبناها ولا حاجة إليها فالاعتكاف يربي فيك هذه الخصلة.
وهنا وقفة مهمة بعض الإخوان يقول أنا لا أستطيع أن اعتكف العشر الأواخر يا أخي الكريم اعتكف خمس ليالي اعتكف على الأقل كل ليلة من ليالي الأوتار لعلها توافق ليلة القدر اعتكف من ليلة السابع والعشرين إلى التاسع والعشرين على حسب طاقتك وظروفك، فهي أيام قليلة وتخرج بهذه الثمار بل أكثر من هذه الثمار؛ لأن ما ذكرته ليس على سبيل الحصر فربما تخرج بفوائد وثمرات لم يعرفها غيرك ولذلك لو التقيت بالمعتكفين بعد انتهاء الاعتكاف وجلسوا يتدارسون ماذا استفادوا من الاعتكاف؟ كل واحد يعطي فائدة قد لا يجدها الآخر، إما لظرف مر به أو بسبب عمله أو تجربته أو حياته يكتشفه مالا يكتشفه الآخرون، أعرف بعض كبار السن من سنوات طويلة قد تصل إلى عشرين أو ثلاثين سنة لم يتركوا الاعتكاف مرة واحدة، والنبي – صلى الله عليه وسلم – لم يترك الاعتكاف حتى مات، منذ بدأه – صلى الله عليه وسلم – حتى مات إلا إذا كان خارج المدينة، بل السنة التي تركها في رمضان بسبب قضية أزواجه قضاه في شوال – صلى الله عليه وسلم –، وصية ونصيحة: أنصح بعض الشباب أن يتخلوا عن كثير من أنواع الاعتكاف التي أراها من تجمعات وحفلات ومطاعم وأحاديث بل غيبة ونميمة وهزل وضحك ويقولون نحن معتكفون، وكثير من مظاهر الاعتكاف رأيتها في الحرم وهو أفضل مكان يعتكف فيه ومع ذلك يفتقد إلى ضوابط الاعتكاف المشروع، ما تسمعه وما تراه من بعض الشباب هداهم الله ليس هو الاعتكاف، إذا اعتكف أحد منكم فليعتكف الاعتكاف الصحيح وإن وقع منه تقصير أو خطأ فليعد إلى الله سبحانه وتعالى ويلح عليه أن يتقبل منه هذا الاعتكاف.
ثم في آخر المطاف اسأل نفسك ماذا استفدت بماذا خرجت؟ وأنصح الواحد منكم أن يكون عنده قلم وورقة أي فكرة تأتيه في الاعتكاف يقيدها إياك إياك أن تقول أنا أحفظها لن أنساها ساعات وتنساها أو بعد ما تتعدى الاعتكاف بأيام تنساها، كان الإمام البخاري وهو في فراشه فتأتيه الفكرة فيقوم فيوقد السراج فيكتب هذه الفكرة أو هذه الفائدة ثم يطفيء السراج فينام ثم تأتيه الفكرة فيقوم يوقد السراج فيسجل هذه الفكرة ثم ينام، أحياناً يكرر هذا العمل عشرين مرة في الليلة الواحدة، أي فكرة سجلها لا تقل: لا تنفع قد يأخذها واحد آخر ويطورها وينميها قد يكون في هذه الفكرة اليسيرة حل مشكلة من مشكلات الأمة الصعبة، فنصيحتي أن تجعل عندك دفتراً وأنت في معتكفك وسجل فقد تخرج بثروة لا تقدر بثمن، أولا ً تعود نفسك على ذلك في الدروس والمحاضرات، فعودوا أنفسكم على ذلك.
ومن ثمرات الاعتكاف في العشر الأواخر الحرص على ليلة القدر كما ذكر العلماء ولذلك اختارها النبي – صلى الله عليه وسلم – ونص على ذلك، فألحوا على الله واجتهدوا بالدعاء لكم ولأسركم ولعوائلكم ولإخوانكم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ولإخوانكم المأسورين الذين ينتظرون منكم الدعاء، ينتظرون منكم مناجاة تناجون ربكم أن يفك أسرهم، وأن يفرج كربتهم وأن يعيدهم إلى أهلهم غانمين سالمين، إخوانكم في فلسطين الآن ينتظرون دعاءكم وينتظرون مواقفكم وينتظرون تبرعاتكم وزكواتكم فألحوا على الله في هذه الأيام المباركة، يا أخي الكريم ليلة واحدة أفضل من 83 سنة والله أعلم بمقدار هذه الخيرية، وهذه ليلة واحدة مضمونة لو واظبت على العشر الأواخر بل قد تكون تسع ليالي مضمون لك موافقتها، إذا قمت إيماناً واحتساباً وصدقت مع الله، كيف نضيع هذه الفرص، ثلاث فرص جاءتنا في رمضان والمحروم من حرمها، "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، والخسران الذي تمر عليه كل هذه الفرص الثلاث ولا يغفر له، ثلاث فرص قد تحصل عليها جميعاً بإذن الله إذا صدقت (إيماناً واحتساباً) فاصدقوا مع الله وتوبوا إلى الله وعودوا إلى الله وجاهدوا أنفسكم
أسأل الله أن يتقبل مني ومنكم وأن يوفقنا لليلة القدر وأن يتقبل منا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(/9)
فقه البكاء في القرآن والسنة
د. محمد عمر دولة*
(ويَخِرُّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا) [الإسراء 109]
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد،
1) فإنّ العرب قومٌ قد فاض وجدانهم بحنين الشعراء، ولواعج الرثاء؛ فكانوا يُهرَعون إلى البكاء؛ تعبيراً عن مشاعرهم عند فِقْدانِ الخِلاّن، أو مُفارَقة الأوطانِ، أو تذكُّرِ سالفِ الأزمانِ، كما قال امرؤ القيس:
2) والبكاءُ تعبيرٌ نبيلٌ عن شعورٍ أصيلٍٍ، كما ذكر عمر بن عثمان قال: دخل المنصور أمير المؤمنين قصراً، فرأى في جداره مكتوباً:
وتحته مكتوبٌ:"إيه إيه". فقال المنصور:"أيّ شيءٍ (إيه إيه)؟ فقال له الربيع ـ وهو يومئذ تحت يد أبي الخصيب الحاجب ـ يا أمير المؤمنين إنه لمّا كتب البَيْتَ؛ أحبّ أن يُخبِر أنه يبكي، فقال له قائله: اللهَ ما كان أظرفَه؛ فكان هذا أول ما ارتفع به الربيع".[4]
3) وقد عبّر الأدباء عن توارد البكاء والضحك على قلب الإنسان؛ تبعاً لتوارد الأفراح والأحزان، على نحو ما ذكر المفسّرون. وهو معنىً مطروقٌ في الشعر العربي، كما قال دِعْبَل الخزاعي:
وما أحسنَ ما قيل:
4) وما أحسنَ تعبيرَ صاحب الظلال عن البكاء بأنه "حالةٌ معروفةٌ في النفس البشريّة، حين يبلغ بها التأثّرُ درجةً أعلى من أن يَفِيَ بها القولُ؛ فيفيض الدمعُ ليؤدّي ما لا يؤدّيه القول، وليُطلِق الشحنة الحبيسة من التأثّر العميق العنيف".[7]
5) وقد نظم القُشَيري رحمه الله في هذا المعنى شعراً بديعاً، فقال:
6) وإنّ وراءَ فيضِ المدامِعِ: آلاماً وفواجعَ، وآمالاً لَوامِعَ، وهموماً هَوامِعَ[9]؛ تقض المضاجع! كما روى الدّارمي أنّ أيوب السختياني بكى عندما قرأ قول أم أيمن:(ولكنّي أبكي على خبر السماء انقطع!)؛ قال حمّاد بن زيد: "خنقتْ العَبْرةُ أيوبَ حين بلغ ها هنا".[10]
7) وقد يهيّج الدمعَ عَبْرةٌ دافِقَةٌ، أو عِبْرَةٌ فائقةٌ، أو عِبارةٌ رائِقَةٌ، كما قال الجُنَيْد:"كنتُ بين يدي السّري ألعب، وأنا ابن سبعِ سنين، فتكلّموا في الشكر، فقال: يا غلام ما الشكر؟ فقلتُ: أن لا يُعصى الله بنعمه؛ فقال: أخشى أن يكون حظُّك من الله لسانَك؛ قال الجنيدُ: فلا أزال أبكي على قوله)![11]
8) والبكاءُ فطرةٌ بشريّةٌ؛ كما ذكر أهل التفسير، فقد قال القرطبي في تفسير قول الله تعالى:(وأنّه هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى)[النجم 43]:" أي قضى أسباب الضحك والبكاء. وقال عطاء بن أبي مسلم: يعني أفرح وأحزن؛ لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء...وقيل: أضحك من شاء في الدنيا بأن سَرَّه وأبكى من شاء بأن غَمَّه...وقال محمد بن علي الترمذي: أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدنيا. وقال بسام بن عبد الله: أضحك الله أسنانهم وأبكى قلوبهم. وأنشد:
9) ولعلّ في قول العرباض بن سارية رضي الله عنه ـ وهو أحد البكّائين[13] ـ (وَعَظَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب)[14]؛ ما يدلّ على وشيجةٍ رابطةٍ بين القلوب الواجفة والعيون الذارفة؛ فبكاء العين ـ لعمري ـ علامةٌ على حُرقة الجَنان وحسرة الوجدان!
10) ورحم الله أهل الأمثال ما أصدقَ قولَهم:"عينٌ عَرَفَتْ؛ فذَرفَتْ"![15] فالبكاء بابٌ واسعٌ، وعلمٌ نافعٌ. وهو يشمل أنواعاً كثيرةً، منها: ما يلي:
الأوّل: بكاء الوفاء:
1) فالبكاء وثيقُ الصّلةِ بالوفاء، كما قال الأصمعي:"إذا أردتَ أن تعرف وفاءَ الرجل ووفاءَ عهده؛ فانظر إلى حنينِه إلى أوطانه، وتشوّقِه إلى إخوانِه، وبكائِهِ على ما مضى من زمانِه!"[16]؛ وقال محمد بن داود:"ذكروا أنّ متمّم بن نُوَيْرَة كان لا يمرّ بقبرٍ، ولا يُذكَرُ الموتُ بحضرته إلا قال: يا مالك! ثم فاضتْ عَبْرتُه؛ ففي ذلك يقول:
2) وقد ذكر المفسِّرون هذا المعنى عند الكلام عن حال يعقوب عليه الصلاة والسلام حينما غاب عنه ولداه بعد فقدان يوسف:(وتولّى عنهم وقال يا أسفا على يوسف)[يوسف 16] قال ابن كثير:"أي أعرض عن بنيه؛ وقال متذكِّراً حزنَ يوسف القديم الأوّل (يا أسفا على يوسف)؛ جَدّد له حزنُ الابْنَيْنِ الحزنَ الدّفين"![18]
3) ورحم الله علي بن أفلحَ ما أحسنَ قولَه:
الثاني: بكاء الشوق والحنين:
1) فالبكاء ـ لعمري ـ بريدُ العشاقِ، ورسولُ الأشواقِ، كما قال السعديّ رحمه الله في تفسير قول الله تعالى:(وقال يا أسفا على يوسف وابيضّتْ عيناه من الحزن فهو كظيم)[يوسف 84]:"أي ظهر منه ما كَمَنَ من الهمّ القديم، والشوق المُقيم"![20]
2) وروى أبو داود في كتاب (الجهاد) باب (في الرجل يغزو وأبواه كارهان) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:(جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: جئتُ أبايعك على الهجرة، وتركتُ أبوَيَّ يبكيان؛ قال: ارجعْ؛ فأضْحِكْهما، كما أبْكَيْتَهما)![21](/1)
3) ورحم الله الحافظ الذهبي ما ألطفَ ما ذكره عند ترجمة ابن عمر من (تذكرة الحفاظ) فقال: "ما ذكر ابن عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قطّ إلا بكى![22] وما مرّ على ربعهم إلا غمض عينيه! "[23]
4) ولله درّ العجّاج حيث قال:
5) وما أحسنَ قولَ المتنبّي:
الثالث: بكاء المكر والخداع:
1) وهو نوعٌ مذمومٌ؛ لما فيه من التدليس، كما قال القرطبي في تفسير قوله تعالى:(وجاؤوا أباهم عشاءً يبكون)[يوسف 16]:"قال علماؤنا: هذه الآية دليلٌ على أن بكاء المرء لا يدلّ على صدق مقاله؛ لاحتمال أن يكون تصنّعاً... وقد قيل: إن الدمع المصنوع لا يخفى؛ كما قال حكيم:
2) وقد عبّر الشعراء من قديم الزمان عن هذا المعنى الذي ذكره القرطبي، كما قال امرؤ القيس في المعلّقة:
الرابع: بكاء الإنابة إلى الله:
فالبكاءُ وإن كان جِبِلّةً بشريّةً؛ ولكنّ المؤمن الواعي يُعطي هذه الفطرة الإنسانيّة أبعاداً معرفيّةً ومعانيَ تعبّديّةً، كما قال صاحب الظلال في تفسير:(إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون)[يوسف 86]:"في هذه الكلمات يتجلّى الشعور بالألوهيّة في هذا القلب الموصول؛ كما تتجلّى هذه الحقيقة ذاتها بجلالها الغامر ولألائها الباهر... وهذه قيمة الإيمان بالله ومعرفته سبحانه هذا اللون من المعرفة: معرفة التجلّي والشهود، وملابسة قدرته وقَدَره، وملامسة رحمته ورعايته، وإدراك شأن الألوهيّة مع العبيد الصالحين؛ إنّ هذه الكلمات (وأعلم من الله ما لا تعلمون) تجلو هذه الحقيقة بما لا تملك كلماتنا نحن أن تجلوها وتعرض مذاقاً يعرفه من ذاق مثله؛ فيدرك ماذا تعني هذه الكلمات في نفس العبد الصالح يعقوب"![28]
الخامس: بكاء الخوف من الله:
1) وهذا البكاءُ ثمرةُ العلمِ النافع،كما قال القرطبي في تفسير قوله تعالى:(وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ)[الإسراء 109]:" هذه مبالغةٌ في صفتهم ومدحٌ لهم؛ وحُقَّ لكلّ من توسّم بالعلم وحصّل منه شيئاً أن يجري إلى هذه المرتبة؛ فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذلّ. وفي مسند الدّارميّ أبي محمد عن التَّيْميّ قال: من أُوتيَ من العلم ما لم يبُْكِهِ لخليقٌ ألا يكون أُوتي علماً؛ لأن الله تعالى نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية. ذكره الطبري أيضاً..."[29]
2) وليت شعري كيف ينام العبد قريراً وهو يقرأ قول عباد الله الصالحين: (إنّا نخاف من ربِّنا يوماً عبوساً قمطريراً)[الإنسان 10]؟! وقد ترجم البخاري في كتاب الرقاق (باب البكاء من خشية الله عز وجل)! ورُبَّ دمعةٍ من مُذْنِبٍ مِعْثارٍ تحرِّم عليه النّار، وتُظلُّه في ظلّ الملِكِ الجبّار! كما روى البخاري في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعةٌ يظلّهم الله في ظلّه...)، وفيه (ورجلٌ ذكر الله ففاضتْ عيناه)، وفي أبواب المساجد (ذكر الله خاليا).
3) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وقد ورد في البكاء من خشية الله على وفق لفظ الترجمة حديث أبي ريحانة رفعه (حرّمتُ النار على عينٍ بكتْ من خشية الله) الحديث أخرجه أحمد والنسائي وصحّحه الحاكم، وللترمذي نحوه عن ابن عباس ولفظه (لا تمسّها النار) وقال: حسن غريب، وعن أنس نحوه عند أبي يعلى، وعن أبي هريرة بلفظ (لا يلج النارَ رجلٌ بكى من خشية الله) الحديث وصحّحه الترمذي والحاكم".[30]
4) وقد أشار الألبيري رحمه الله إلى هذه المعاني في نصيحته النافعة لولده، فقال:
السادس: بكاء الندم والشعور بالتفريط في جنب الله:
1) فدموعُ التائبين في جُنْحِ الليلِ تروي الغليل، وتشفي العليل، كما قال شيخ المفسِّرين أبو جعفر الطبري في تأويل قوله تعالى: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ) [النجم 59-61]: "لا تبكون مما فيه من الوعيد لأهل معاصي الله؛ وأنتم من أهل معاصيه، (وأنْتُمْ سامِدُونَ) يقول: وأنتم لاهون عما فيه من العِبَر والذِّكْر، مُعْرِضُون عن آياته!"[31]
2) وإنّ بكاء المذنبين ـ لاسيما في ساعات الأسحارـ يُذْهِب الأكدار، ويطهّر الأوزار! ومن هذا الباب ما كان في قصّة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم حينما خُلِّفوا يوم تبوك قال (فأما صاحباي فاستكانا في بيوتهما يبكيان! وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق...حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة الناس مشيتُ حتى تسوّرتُ جدار حائط أبي قتادة ـ وهو ابن عمّي وأحبّ الناس إليّ ـ فسلّمتُ عليه، فوالله ما ردّ عليّ السلام. فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أُحِبّ الله ورسوله؟ فسكت، فعدتُ له فنشدتُه فسكت، فعدتُ له فنشدتُه؛ فقال: الله ورسوله أعلم؛ ففاضت عيناي!"[32](/2)
3) ومنه كذلك بكاء عائشة؛ ندماً على ما كان منها مع عبد الله بن الزبير حينما هدّدها بأن يحجر عليها؛ فنذرتْ ألا تكلّمه أبداً؛ كما روى البخاري في كتاب (الأدب) باب (الهجرة) أنّ المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث دخلا عليها (يقولان: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عمّا قد علمتِ من الهجرة؛ فإنه لا يحِلّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ؛ فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج؛ طفقتْ تذكّرهما وتبكي، وتقول: إنّي نذرتُ، والنذر شديدٌ؛ فلم يزالا بها حتى كلّمتْ ابنَ الزبير؛ وأعتقتْ في نذرها ذلك أربعين رقبةً، وكانتْ تذكر نذرها بعد ذلك؛ فتبكي حتى تبلّ دموعُها خمارَها"![33]
4) ولله درّ الصنعاني حيث شطّر أبيات المتنبي:
السابع: بكاء المعرفة بالله والتفكّر في آلائه:
1) وقد قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ): "وفيض العين من الدمع: امتلاؤها منه، ثم سيلانه منها:كفيض النهر من الماء، وفيض الإناء؛ وذلك سيلانه عن شدّة امتلائه... وقوله: (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقّ) يقول: فيضُ دموعِهم؛ لمعرفتهم بأن الذي يُتلَى عليهم من كتاب الله الذي أنزله إلى رسول الله حقّ!".[34]
2) وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى:(وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ):" هذه أحوال العلماء...كما قال تعالى:(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر23]. وقال:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)[الأنفال 2].[35]
3) وقال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الإسراء 109]: "يقول تعالى ذكره: ويخرّ هؤلاء الذين أوتوا العلم ـ من مؤمني أهل الكتابين من قبل نزول الفرقان ـ إذا يُتْلَى عليهم القرآن لأذقانهم يبكون؛ ويزيدهم ما في القرآن من المواعظ والعِبَرِ خُشوعا؛ يعني خُضوعاً لأمر الله وطاعته، واستكانةً له. حدثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا مِسْعر، عن عبد الأعلى التيميّ: أنّ من أُوتِيَ من العلم ما لم يُبْكِهِ لخليقٌ أن لا يكون أُوتيَ عِلْماً ينفعه؛ لأنّ الله نعت العلماء فقال:(إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ للأَذْقانِ...) الآيتين".[36]
4) وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى:(ويخرّون للأذقان يبكون)[الإسراء 109]:"أي خضوعاً لله عز وجل، وإيماناً وتصديقاً بكتابه ورسوله".[37]
الثامن: بكاء الحزن والشكوى:
1) وقد قرّر أهل التفسير هذا المعنى في تفسير قول الله تعالى: (فلْيَضْحكوا قليلاً ولْيَبْكوا كثيراً)[التوبة 82]، حيث ذكروا أنّ"البكاء كنايةٌ عن حزنهم في الآخرة...والمعنى أنّ فرحَهم زائلٌ، وأنّ بكاءهم دائم!"[38]
2) وبيّن المفسِّرون في قصّة يعقوب عليه الصلاة والسلام مع أبنائه حينما تولى عنهم (وقال يا أسفى على يوسف وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون)[يوسف 84-86] أنّ "الحزن سبب البكاء الكثير".[39]
3) وقال القرطبي:"الأسف شدّة الحزن على ما فات؛ وإنما ابيضّت عيناه من البكاء، ولكن سبب البكاء الحزن؛ فلهذا قال: (مِنَ الْحُزْنِ)".[40]
4) وقد أخرج البخاري في كتاب (الأذان) باب (إذا بكى الإمام في الصلاة) قول عبد الله بن شداد:(سمعتُ نشيجَ عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ (إنما أشكو بثِّي وحزني إلى الله).[41]
التاسع: بكاء الفرح والسرور:
1) ومن هذا الباب ما ذكره بعض المفسِّرين عند قول الله تعالى:(وإذا سمعوا ما أُنزِل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق)[المائدة 83]قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: "ففاضت أعينهم؛ من انفعال البهجة بأن حضروا مشهد تصديق عيسى فيما بشّر به، وأن حضروا الرسولَ الموعودَ به؛ ففازوا بالفضيلتين!"[42]
2) ومنه كذلك ما جاء في قصّة كعب بن مالك رضي الله عنه لما سمع (صوت صارخ أَوْفَى على جبل سَلْعٍ بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبْشِرْ! قال: فخررتُ ساجداً وقد عرفتُ أنه جاء بفَرَجٍ!) وعند أبي عائذ (فخرّ ساجداً يبكي؛ فرحا بالتوبة!)[43](/3)
3) وكذلك شأن أبي هريرة رضي الله عنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو كفر والدته قال (فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقلت: يا رسول الله إني كنتُ أدعو أمي للإسلام، فتأبى عليّ فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره)؛ فدعا لها النبي صلى الله عليه وسلم فهداها الله للإسلام قال:(فأتيته وأنا أبكي من الفرح! قال: قلتُ: يا رسول الله أبْشِرْ قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة).[44]
4) وقد روى البخاري في مناقب عمر رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:(بينا أنا نائمٌ رأيتني في الجنة؛ فإذا امرأة تتوضّأ إلى جانب قصرٍ، فقلتُ: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر؛ فذكرتُ غيرته؛ فولّيتُ مُدبراً؛ فبكى عمر وقال: أعليكَ أغار يا رسول الله؟!)، قال ابن حجر: "بكاءُ عمر يحتمل أن يكون سروراً، ويحتمل أن يكون تشوُّقاً أو خشوعاً!"[45]
العاشر: بكاء الشكر والامتنان:
1) ومن ذلك بكاء أُبيّ رضي الله عنه لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأنّ الله أمره أن يقرأ عليه (لم يكن الذين كفروا) قال: آلله سمّاني لك؟ قال: الله سماك لي؛ قال: فجعل أبيّ يبكي, قال النووي:"أما بكاؤه فبكاءُ سرورٍ واستصغارٍ لنفسه عن تأهيله لهذه النعمة وإعطائه هذه المنزلة. والنعمة فيها من وجهين: أحدهما كونه منصوصاً عليه بعينه؛ ولهذا قال (سمّاني؟) معناه: نصّ عَلَيَّ بعيني أو قال: اقرأْ على واحدٍ من أصحابك قال: سمّاك؛ فتزايدت النعمة. والثاني: قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنها منقبةٌ عظيمةٌ لم يشاركه فيها أحدٌ من الناس, وقيل: إنما بكى خوفاً من تقصيره في شكر هذه النعمة".[46]
2) ورحم الله الشاطبي حيث قال:
الحادي عشر: بكاء الرحمة والشفقة:
1) ومن أروع ما جاء في السنة من ذلك حديث الشفاعة، ولله درّ مسلم بن الحجاج حيث أورده في كتاب (الإيمان) باب (دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمّته، وبكائه شفقةً عليهم)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: (ربِّ إنهنّ أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه منّي) الآية، وقال عيسى عليه السلام: (إن تعذِّبْهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)، فرفع يديه وقال: (اللهمّ أمتي أمتي؛ وبكى)![47]
2) وقد أحسن النووي رحمه الله في عقده ترجمةً نفيسةً في (رياض الصالحين): باب(جواز البكاء على الميّت بغير ندبٍ ولا نياحة)، ذكر فيه حديث الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد سعد بن عبادة ومعه عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم؛ فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا، فقال: ألا تسمعون؟ إنّ الله لا يعذّب بدمع العين ولا بحزن القلب؛ ولكن يعذّب بهذا أو يرحم، وأشار إلى لسانه).
3) وأورد حديث أسامة بن زيد الذي رواه الشيخان (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رُفِع إليه ابنُ ابنتِه وهو في الموت؛ ففاضتْ عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمةٌ جعلها الله تعالى في قلوب عباده؛ وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)!
4) وذكر حديث أنس عند البخاري ـ وشاركه مسلم في بعضه ـ (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم رضي الله عنه، وهو يجود بنفسه؛ فجعلتْ عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان؛ فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنتَ يا رسولَ الله؟! فقال: يا ابنَ عوف إنها رحمةٌ، ثم أتبعها بأخرى فقال: إنّ العين تدمع، والقلب يحزن؛ ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا، وإنّا لفراقِك يا إبراهيم لمحزونون)![48]
الثاني عشر: بكاء الخضوع والاستكانة:
1) وقد قال ابن كثير في تفسير:(وإذا تُتْلى عليهم آياتُ الرحمن خرُّوا سُجَّداً وبُكِيّاً)[مريم 58]:"سجدوا لربّهم؛ خضوعاً واستكانةً وحمداً وشكراً على ما هم فيه من النّعم العظيمة... فلهذا أجمع العلماء على شرعيّة السجود ها هنا؛ اقتداءً بهم، واتباعاً لمنوالهم!"[49]
2) ورحم الله أمير المؤمنين عمر، حيث سجد عند قول الله عز وجل: (وإذا تُتْلى عليهم آياتُ الرحمن خرُّوا سُجَّداً وبُكِيّاً)[مريم 58] وقال:(هذا السّجود؛ فأين البُكِيُّ؟!).[50]
3) وقال رضي الله عنه حينما وجد النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر يبكيان عند نزول قول الله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يُثخِن في الأرض)[الأنفال 67]، فقال: يا رسولَ الله أخبرْني من أيّ شيءٍ تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدتُ بكاءً بكيتُ؛ وإن لم أجدْ تباكيتُ لبكائكما)![51]
الثالث عشر: بكاء التعزية:(/4)
1) ومن ذلك بكاء الصّدّيق رضي الله عنه لما أخبر بوصول خبر الإفك إلى عائشة كما جاء في رواية هشام بن عروة قالت عائشة:(فاستعبرتُ وبكيتُ؛ فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ، فقال لأمي: ما شأنها؟ فقالت :بلغها الذي ذُكِرَ مِن شأنها؛ ففاضت عيناه!)[52]
2) ومن ذلك بكاء الأنصاريّة؛ تعزيةًً لعائشة،كما قالت عائشة: (فبينا أبواي جالسان عندي وأنا أبكي؛ فاستأذنتْ عليَّ امرأةٌ من الأنصار فأذنتُ لها؛ فجلستْ تبكي معي)![53]
3) ومن هذا الباب قول الخنساء ترثي صخراً:
الرابع عشر: بكاء مراقبة لله تعالى:
1) ولله درّ النووي ما أحسنَ قولَه عن البكاء "إنه صفة العارفين، وشعار عباد الله الصالحين؛ قال الله تعالى (ويخِرُّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا)"[55]
2) وقد فاز النبي صلى الله عليه وسلم من هذا بالحظ الأكبر، وحاز على النصيب الأوفر؛ لمكان فقهه صلى الله عليه وسلم، كما روى الشيخان عن أنس قال:(خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبةً ما سمعتُ بمثلها قط، فقال: لو تعلمون ما أعلم؛ لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا؛ فغطّى أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوهَهم ولهم خنينٌ). قال النووي:"الخنينُ ـ بالخاء المعجمة ـ هو البكاء مع غُنّةٍ وانتشاق الصوت من الأنف".[56]
3) ورحم الله البخاري حيث جعل هذا الحديث الجليل ترجمةً له في كتاب (الرقاق) (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:(لو تعلمون ما أعلم؛ لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرا)، قال ابن حجر: "المراد بالعلم: هنا ما يتعلّّق بعظمة الله وانتقامه ممّن يعصيه، والأهوال التي تقع عند النزع والموت وفي القبر ويوم القيامة!"[57]
الخامس عشر: بكاء تدبّر القرآن:
1) وقد روى البخاري في كتاب (التفسير) عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأْ عليَّ؛ قلتُ: أقرأ عليك، وعليك أُنزِل؟! قال: فإنّي أُحِبّ أن أسمعه من غيري؛ فقرأتُ عليه سورة النساء، حتى بلغتُ: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا)، قال: أمْسِكْ؛ فإذا عينان تذرفان)![58]
2) وكذلك كان أبو بكر رضي الله عنه كما قالت عائشة: (إنّ أبا بكر رجلٌ رقيقٌ) وفي رواية (أَسِيفٌ) وفي روايةٍ: (كان أبو بكر رجلا بكّاءً؛ لا يملكُ عينيه إذا قرأ القرآن)![59]
3) ورحم الله ابن القيّم ما أصدقَ قولَه:"إذا قسا القلب؛ قحطت العين"![60]
السادس عشر: بكاء التحسر على فوات الخير:
1) كما حكى القرآنُ عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم:(الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلتَ لا أجد ما أحملكم عليه تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَناً ألا يجدوا ما يُنفقون)[التوبة 92]. فقد ذكر ابن كثير أنّ هذا البكاءَ دليلٌ على حِرْصِهم على محبّة الله ومحبّة رسوله صلى الله عليه وسلم.[61] وقال صاحب الظلال:"إنها لصورةٌ مؤثّرةٌ للرغبة الصّحيحة في الجهاد، والألم الصادق للحرمان من نعمة أدائه...بمثل هذه الروح انتصر الإسلام؛ وبمثل هذه الروح عزّت كلمته، فلننظرْ أين نحن من هؤلاء؟ ولننظرْ أين روحنا من تلك العصبة؟ ثم لنطلب النصر والعزّة إذا استشعرنا من أنفسنا بعض هذه المشاعر!"[62]
2) ومن هذا الباب ما رواه البخاري في (مواقيت الصلاة) باب (تضييع الصلاة عن وقتها) عن الزهري قال:(دخلتُ على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلتُ له: ما يُبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركتُ إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعتْ).[63]
3) ومنه ما جاء في حديث الإسراء، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سلم على موسى عليه السلام (فردّ، ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح؛ فلما تجاوزتُ بكى، قيل له: ما يُبكيك؟ قال: أبكي لأنّ غلاماً بُعث بعدي يدخل الجنّة من أمّته أكثر ممّن يدخلها من أمتي!) قال النووي: "المقصود أنه إنما بكى؛ حزناً على قومه، وعلى فوات الفضل العظيم والثواب الجزيل؛ بتخلُّفهم عن الطاعة؛ فإنّ من دعا إلى خيرٍ وعمل الناس به كان له مثلُ أجورِهم كما جاءت به الأحاديث الصحيحة؛ ومثل هذا يُبكَى عليه ويُحزَن على فواته!"[64](/5)
4) ومن هذا الباب بكاء ابن عباس رضي الله عنهما تحسُّرا على وصيّة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى ابن المسيّب عن ابن عباس أنه قال:(يوم الخميس، وما أدراك ما يوم الخميس؛ ثم بكى حتى خضب دمعُهُ الحصباءَ)[65] وقال:(لما حُضِر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي البيت رجالٌ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلمُّوا أكتبْ لكم كتاباً لن تضلّوا بعده. فقال بعضهم: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن؛ حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا: فمنهم من يقول: قرِّبوا يكتبْ لكم كتاباً لا تضلّوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك؛ فلما أكثروا اللغو والاختلاف؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا).[66] قال عبيد الله بن عبد الله:(فخرج ابن عباس يقول: إنّ الرزيّة كلَّ الرزيّة ما حال بين رسول الله وبين كتابه).[67] قال ابن حجر: "ولمسلم عن سعيد بن جبير: (ثم جعل تسيل دموعُه؛ حتى رأيتُها على خَدَّيْه كأنها نظام اللؤلؤ)؛ وبكاء ابن عبّاس يحتمل لكونه تذكّر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتجدّد له الحزن عليه، ويحتمل أن يكون انضاف إلى ذلك ما فات في مُعتقَده من الخير الذي كان يحصل لو كُتِبَ ذلك الكتابُ؛ ولهذا أطلق في الرواية الثانية أنّ ذلك (رزيّةٌ)، ثم بالغ فيها؛ فقال: (إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة)".[68]
5) وقد أحسن ابن القيّم رحمه الله حين قال: "اعرفْ قدرَ ما ضاع؛ وابْكِ بكاءَ مَن يدري مقدارَ الفائت"![69]
السابع عشر: بكاء الحزن على ذهاب الأخيار:
1) وقد ترجم البخاري في (الرقاق): باب(ذهاب الصالحين)! كما روى في كتاب (المناقب) باب (باب علامات النبوّة في الإسلام) عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نعى جعفراً وزيداً قبل أن يجيء خبرُهم، وعيناه تذرفان!)[70]
2) وبكت فاطمة رضي الله عنها حينما أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بقُرب أجله، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة في شكواه الذي قُبض فيه، فسارّها بشيءٍ؛ فبكتْ، ثم دعاها فسارّها بشيءٍ؛ فضحكتْ. فسألنا عن ذلك، فقالت: سارّني النبي صلى الله عليه وسلم أنّه يُقبض في وجعه الذي تُوُفِّي فيه؛ فبكيتُ، ثم سارّني فأخبرني أنّي أوّل أهله يتبعه؛ فضحكتُ"![71]
3) وقد كان للصّدّيق رضي الله عنه من ذلك سبقٌ كثيرٌ، وخيرٌ وفيرٌ؛ كما روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد على المنبر فقال: إنّ عبداً خيّره الله بين ما عنده، وبين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء فاختار ما عند الله؛ فبكى أبو بكرٍ وقال :فديناك بآبائنا وأمّهاتنا...فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر وكان أبو بكر ٍأعلمنا به). وروى مالك في الموطأ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا أدري ما تُحْدِثون بعدي) فبكى أبو بكر ثم بكى فقال: أئنّا لكائنون بعدك؟)[72].
4) ومن ذلك ما رواه الشيخان عن أنس قال:(قال أبو بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها. فلما انتهيا إليها بكتْ؛ فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خيرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم! فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أنّ ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أبكي أنّ الوحي قد انقطع من السماء. فهيّجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها)! قال النووي:"فيه زيارة الصالحين وفضلها.. والبكاء حزنا على فراق الصالحين والأصحاب وإن كانوا قد انتقلوا إلى أفضل مما كانوا عليه"[73]
الثامن عشر: بكاء الوفاء للعظماء:
1) وقد أشار بعض المفسّرين إلى هذا المعنى عند تفسير قول الله تعالى:(فما بكت عليهم السماء والأرض) [الدخان29] فقال صاحب الظلال:"هو تعبيرٌ يُلقي ظلال الهوان، كما يُلقي ظلال الجفاء، فهؤلاء الطغاة المتعالون لم يشعرْ بهم أحدٌ في أرضٍ ولا سماء! ولم يأسف عليهم أحدٌ في أرضٍ ولا سماء! ...ولو أحسّ الجبّارون في الأرض ما في هذه الكلمات من إيحاءٍ؛ لأدركوا هوانهم على الله، وعلى هذا الوجود كلِّه؛ ولأدركوا أنهم يعيشون في هذا الكون منبوذين منه، مقطوعين عنه، لا تربطهم به آصرةٌ وقد قُطِعتْ عنهم آصرةُ الإيمان"![74]
2) وأشارت السنة إلى هذا المعنى أحسنَ إشارة، كما جاء في حديث ابن ماجه في كتاب (الجنائز) عن ابن عمر (أنّ النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بنساء عبد الأشهل يبكين هلكاهنّ يومَ أُحُد؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكنّ حمزةَ لا بواكيَ له!)؛ فجاء نساء الأنصار يبكين حمزة!)[75]
3) وقد تمثّل الشعراء هذا المعنى[76] كما قال مالك بن الرّيب في يائيّته المشهورة:
التاسع عشر: بكاء الشعور بالظلم:(/6)
1) ومن أشهر ما في هذا الباب حديث عائشة رضي الله عنها في فتنة الإفك، حيث قالت:(بكيتُ ليلتين ويوماً لا يرقأ لي دمعٌ، ولا أكتحل بنومٍ؛ حتى إنّي لأظنّ أنّ البكاء فالق كبدي)![78]
2) وحديث الصدّيق رضي الله عنه حينما قال له عليٌّ رضي الله عنه: (استبددتَ علينا بالأمر... حتى فاضتْ عينا أبي بكر؛ فلما تكلّم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إليَّ أن أصل من قرابتي!)[79]
3) وحديث عليٍّ مع حمزة رضي الله عنهما، كما روى البخاري ومسلم أنّ حمزة قام وهو سكران[80] إلى ناقتين لعليٍّ؛ (فجبَّ أسنمتَهما، وبقر خواصرَهما، ثم أخذ من أكبادِهما؛ قال عَلِيٌّ: فنظرتُ إلى منظرٍ أفظعني!) وفي روايةٍ:(فلم أمْلِكْ عَيْنَيَّ حين رأيتُ ذلك المنظر منهما!)، قال النووي رحمه الله:"هذا البكاء والحزن الذي أصابه؛ سببه ما خافه من تقصيره في حق فاطمة رضي الله عنها، وجهازها والاهتمام بأمرها، وتقصيره أيضا بذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولم يكن لمجرّد الشارفَيْنِ من حيث هما من متاع الدنيا!"[81]
4) وذكر ابن حجر من فوائد الحديث: "أنّ البكاء الذي يجلبه الحزن غيرُ مذمومٍ، وأنّ المرء قد لا يملك دمعَه إذا غلب عليه الغيظ، وفيه ما رُكِّب في الإنسان من الأسف؛ على فَوْت ما فيه نفعُهُ وما يحتاج إليه".[82]
العشرون: بكاء الشفقة من سوء الخاتمة:
1) وقد جاء في السنة النبويّة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(لما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحِجْر قال:لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسَهم أن يُصيبكم ما أصابهم؛ إلا أن تكونوا باكين. ثم قنّع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، وأسرع المشيَ حتى أجاز الوادي).[83] ولله درّ النووي حين ترجم لهذا الحديث (باب البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين ومصارعهم، وإظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتحذير من الغفلة عن ذلك).[84]
2) مسلم في كتاب (الإيمان) باب (كون الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الحج والهجرة) عن ابن شماسة المهريّ قال: حَضَرْنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت؛ فبكى طويلاً، وحوّل وجهَه إلى الجدار؛ فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟!)[85]
3) روى مالك في آخر كتاب الجامع من الموطأ حديث عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (حين خرج من المدينة التفت إليها فبكى ثم قال: يا مزاحم أتخشى أن نكون ممن نفت المدينة؟)[86]؛ لأنّ المدينة تنفي خَبَثَها كما جاء في الحديث مع أنه رضي الله عنه من مِسْكِها وعَنْبَرِها!
4) ورحم الله المحدّث الفقيه الحسن بن صالح بن حيّ؛ فقد قيل له: "صِفْ لنا غسل الميّت؟ فما قدر عليه من البكاء"![87]
5) ولقد أحسن القحطاني حين قال:
6) وحُقَّ لكلّ عاقلٍ لبيبٍ أن يُكثر البكاء والنحيب على زلات الأعمال وعثرات الأقوال، ويتفكّر في سوء المآل؛ ويتحسّر على فسادِ الحالِ، متمثّلا قولَ من قال:
----------
[1] في بعض الروايات:(دمعةٌ مُهراقة).
[2] قال أبو زيد:"الناقف: الذي يشقّ الحنظل؛ فتدمع عينه من مرارته" [جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي ص 117تحقيق علي محمد البجاوي].
[3] الصبابة: رقّة الشوق [المرجع السابق ص 118].
[4] المرجع السابق ص 190.
[5] ديوان دعبل الخزاعي ص 249. دار الكتاب اللبناني. بيروت. ط3.
[6] لقد ضيّعتني يا أبي. نوال بنت عبد الله. دار القاسم. ط1. 1420 هـ.
[7] في ظلال القرآن لسيّد قطب 7/962.
[8] طبقات الشافعيّة الكبرى للتاج السبكي 5/161. ط1. عيسى البابي الحلبي. 1386 هـ. وذكر ابن خلّكان أنّ البيتين لذي القرنين بن حمدان كان القشيري يتمثّلهما. قال: "كان أبو القاسم القشيري كثيراً ما يُنشد لبعضهم..." وفيّات الأعيان 3/207. دار الفكر. وقد ورد هنا (كيف نكرّر)، وفي الطبقات (حين نكرّر).
[9] قرّر ابن فارس أنّ "الهاء والميم والعين يدلّ على سيلان شيءٍ" [معجم مقاييس اللغة 6/67]، وذكر ابن منظور من معاني (همع): البكاء والإمطار، يقال:"همعت عينه: إذا سالت دموعها... وسحابٌ هَمِعٌ: ماطرٌ بنَوْئه" لسان العرب 8/376. دار صادر. ط6. 1417 هـ.
[10] سنن الدارمي 1/40.
[11] سير أعلام النبلاء للذهبي 14/68. مؤسسة الرسالة. ط7. 1410 هـ.
[12] الجامع لأحكام القرآن 17/116-117.
[13] هو أبو نَجيح السُّلمي, من أهل الصّفّة, وهو أحد البكّائين الذين نزل فيهم قول الله تعالى (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولَّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون). [تهذيب الكمال في أسماء الرجال. لأبي الحجاج المزّي 19/550-551].
[14] رواه أبو داود في كتاب السنة، باب (في لزوم السنة).[سنن أبي داود ص 726. دار الكتب العلميّة. ط1. 1422 هـ].
[15] قال أبو الفضل الميداني:"يُضرَب لمن رأى الأمر؛ فعرف حقيقته" مجمع الأمثال لأحمد بن محمد الميداني 1/627. دار مكتبة الحياة.(/7)
[16] المجموع المنتخَب من المواعظ والأدب. جمع زامل صالح الزامل ص 236.
[17] الزهرة لابن أبي داود 2/539. مكتبة المنار. الأردن. ط2. 1406هـ .
[18] تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/633.
[19] مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن. لابن الجوزي. ص 129. دار الكتب العلميّة. ط1. 1416 هـ.
[20] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان ص 404.
[21] سنن أبي داود ص 404.
[22] وذكر هذه العبارة الدارمي في سننه 1/40.
[23] تذكرة الحفاظ للذهبي 1/38
[24] ذكره ابن منظور في مادة (كرس)، وقال:"المُكْرَس: الذي قد بعرتْ فيه الإبل، وبوّلت؛ فركب بعضُه بعضاً" [لسان العرب 6/193].
[25] ديوان المتنبي 1/6.
[26] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي9/145. وراجع كذلك 8/229-230.
[27] قال أبو زيد القرشي:"أي إلا لتجرحي قلباً معشَّراً، أي: مكسَّراً" جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي ص 123.
[28] في ظلال القرآن لسيّد قطب رحمه الله 13/2016.
[29] الجامع لأحكام القرآن 10/341-342.
[30] فتح الباري 13/106.
[31] جامع البيان عن تأويل آي القرآن 27/82.
[32] كتاب المغازي من البخاري [فتح الباري 8/454].
[33] فتح الباري 12/115-116.
[34] جامع البيان عن تأويل آي القرآن. لأبي جعفر الطبري 7/5.
[35] الجامع لأحكام القرآن. للقرطبي 6/258-259.
[36] جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري15/181
[37] تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/94.
[38] التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور10/282. دار سحنون للنشر والتوزيع. تونس.
[39] التحرير والتنوير13/43.
[40] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 9/248.
[41] فتح الباري بشرح صحيح البخاري. لابن حجر 2/441.
[42] تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور 7/10.
[43] فتح الباري 8/463.
[44] رواه مسلم في فضائل أبي هريرة [شرح النووي 16/52].
[45] فتح الباري 7/400.
[46] شرح النووي على مسلم 16/21.
[47] شرح النووي على مسلم 3/78.
[48] رياض الصالحين ص 363-364. المكتب الإسلامي. ط1418.
[49] المرجع السابق.
[50] تفسير القرآن العظيم 3/171.
[51] شرح النووي على مسلم 12/86-87.
[52] فتح الباري 9/405.
[53] فتح الباري 8/200.
[54] الزهرة لابن داود 2/584.
[55] التبيان في آداب حَمَلة القرآن للنووي 45-46
[56] رياض الصالحين للنووي ص 201.
[57] فتح الباري 13/116.
[58] فتح الباري 9/124.
[59] فتح الباري 7/637.
[60] الفوائد لابن القيّم ص 111. دار الكتب العلمية، ط6، 1420 هـ .
[61] تفسير القرآن العظيم. لابن كثير 2/500. جمعيّة إحياء الإسلامي. ط5. 1420 هـ.
[62] في ظلال القرآن. لسيّد قطب 10/1685-1686.
[63] فتح الباري 2/195.
[64] شرح النووي على مسلم 2/224، وراجع قريباً منه في فتح الباري 7/613.
[65] حديث ابن عباس رواه البخاري في سبعة مواضع من الصحيح، وهذا اللفظ في كتاب الجهاد والسّير فتح الباري 6/283.
[66] هذا اللفظ في كتاب المغازي. فتح الباري 8/477.
[67] هذه الرواية في كتاب العلم. الفتح 1/281.
[68] فتح الباري 8/477.
[69] المرجع السابق ص 90.
[70] فتح الباري 7/338.
[71] فتح الباري 8/481.
[72] قال ابن عبد لبر: مرسل عند جميع الرواة, لكن معناه يستند من وجوه صحاح كثيرة [الموطأ بتعليق فؤاد عبد الباقي ص 462].
[73] شرح النووي على مسلم 16/10.
[74] في ظلال القرآن لسيد قطب 25/3214.
[75] قال العلامة د.بشار عوّاد:"إسناده حسن من أجل أسامة بن زيد الليثي؛ فهو حسن الحديث إلا عند المخالفة كما حققناه في تعقباتنا على الحافظ ابن حجر في (التقريب)، وبالغ البوصيري فضعّف هذا الحديث به" سنن ابن ماجه 3/109-110. كتاب الجنائز. باب ما جاء في البكاء على الميّت. تحقيق د.بشار عوّاد. دار الجيل بيروت. ط1. 1418 هـ .
[76] منهم لبيد في رائيّته المشهورة:
حيث قال:
[ديوان لبيد بن ربيعة العامري ص 24. دار صادر. بيروت].
[77] جمهرة أشعار العرب ص 143.
[78] فتح الباري 8/200.
[79] فتح الباري 8/277.
[80] وذلك قبل تحريم الخمر. وكان عليٌّ رضي الله عنه يسعى إلى إعداد جهاز فاطمة رضي الله عنها.
[81] شرح النووي على مسلم 13/146. دار إحياء التراث العربي. ط3.
[82] فتح الباري 6/321.
[83] رواه البخاري ومسلم.
[84] رياض الصالحين ص373
[85] شرح النووي على مسلم 2/137.
[86] الموطأ ص 889.
[87] ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي 1/497. دار المعرفة. بيروت.
[88] نونيّة القحطاني ص 91.
[89] موارد الظمآن لدروس الزمان. عبد العزيز المحمد السلمان 4/431. ط25. 1415 هـ وفيه: (وأرى رجال الحيِّ غير رجالها)، والصواب: (وأرى نساء الحيِّ غير نسائها).(/8)
فقه الصلاحية للولاية العامة
د. إبراهيم عبد الصادق محمود*
تمهيد:
بما أنّ الوظيفة العامة (الولاية العامة) هي البنية الأساسية التي يقوم عليها التنظيم الإداري في سائر النظم السياسية، والإدارية، والاجتماعية – قديمًا وحديثًا – فهي عنصر شديد الارتباط بمفهوم الدولة، في كل زمان ومكان، لكونها تجسيدًا لمظهر السلطة العامة في المجتمع. والدولة الإسلامية ليست استثناء.
معنى الولاية العامة:
ذهب الفقهاء في تعريف الولاية العامة بأنها: "صلاحية أو استحقاق شرعي، أسبغه الشارع على كل مكلف من أفراد المسلمين، وأن هذا الاستحقاق أو تلك لصلاحية نابعة من تكليف الشارع للمسلمين بإقامة أحكام الدين، بما تتضمنه من تدبير المصالح العامة، وراجعة إليه(1)" ثم إنّ هذا الاستحقاق وتلك لاصلاحية منوطة بوصفي "الإسلام والتكليف، والكفاية" وأنه بالنسبة لموضوع الولاية ككل يعتبر أمرًا واجبًا، وفرضًا على الكفاية، ينبغي على كل فرد "قادر" من المسلمين أن يقوم به، وفقًا للقواعد التي يقتضيها موضوع الولاية نفسه، طبقًا لأحكام الشريعة، ومن ثمّ تدخل فيما يسمية الفقهاء بأهلية المقارنة للتكليف دون أهلية الوجوب التي لا يشترط فيها التكليف، فتصح من "الصبي" ونحوه استنادًا إلى أنّ الوجوب خبر ليس للعبد فيه اختيار حتى يعتبر فيه العقل والتمييز، وإنما يعتبر التمييز، والتمكّن في وجوب الأداء، وذلك حكم وراء أصل الوجوب(2).
وفرع الفقهاء على ذلك تعريفًا آخر للولاية بأنها: "القدرة الشرعية على التصرف النافذ الصحيح، وهذه القدرة تثبت إذا توافرت في المولّى صفات الاهلية، من البلوغ، والعقل، والرشد، والاختيار(3) على أنّ التصرف العام "الولاية العامة" ينبغي أنْ يكون مقيدًا بالشرعية بحيث يكون من جهة ذات اختصاص، ومستندًا على القدرة على النفاذ، مستهدفًا تحقيق المصلحة العامة فلا يحل للموظف العام كما يقول الإمام القرافي: "التصرف إلا بجلب مصلحة أو درء مفسدة، في حدود مضمون عقد الولاية بحيث يكون معزولاً فيما سوى ذلك"(4) علمًا بأنّ سائر الولايات في النظام الإسلامي تنبثق عن منصب الإمامة (رئاسة الدولة).
هذا وقد قسّم العلماء الولاية بعدة اعتبارات(5):
• ولاية ذاتية، وولاية مكتسبة.
• عامة، وخاصة.
• ولاية على النفس أو ولاية على المال... الخ.
• قاصرة ومتعدية.
ثم وجهوا القول في كل قسم منها حسب مقتضى الحال.
والذي يهمنا في هذا البحث هو "الولاية العامة" من حيث إنّها – كما يقول الدبوسي – مُكْنة شرعية(6) لمباشرة نشاط معين، أو تصرف عام، لتحقيق جانب من جوانب التكليف العام، أو الوفاء بأحد المقاصد الشرعية، وذلك لا يتم إلاّ بتوافر قدر من السلطة العامة – حسب الاصطلاح القانوني المعاصر – أو المُكنة، والسلطان، والقدرة على النفاذ في الاصطلاح الفقهي.
ولن نخوض في هذا البحث في تفصيل الولاية العامة، إلاّ من حيث أهميتها، وارتباطها بالموظف العام، الذي يتعلق بحثنا بجانب من جوانب هذا الارتباط، وهو "صلاحية" المرء ليصبح موظفًا عامًا يستطيع النهوض بأعباء تلك الولايات، ولن نخوض كذلك في تفصيل شرائط الموظف العام، ولا في كيفية قيامه، بما يُكلف به من حصص أعمال، وسلطات، ولا عن طبيعة علاقته بالدولة، أو مركزه وصحة تصرفاته، وشرعية أفعاله، ولا الضمانات والحقوق التي كفلها له النظام الإسلامي، لأنّ كل جانب من هذه الجوانب يصلح أن يكون بحثًا مستقلاً(7).
الولاية العامة والوظيفة العامة:
لا مراء أنّ مفهوم "الوظيفة العامة" يلتقي مع مفهوم "الولاية العامة" في إطار أنّ كلاّ منهما ينطبق على سلطة الحكم، والتدبير، أي الاستحقاق الشرعي للتصرف، وفق ضوابط وحدود تهدف إلى تحقيق مصالح عامة على النحو الذي يكيفه النظام، في ضوء فلسفته وأهدافه، وقد استعملها "ابن تيمية" وغيره من العلماء بهذا المعنى وتشمل جميع الولايات، ومراتب الحكم(8) من الإمامة العظمى، حتى أصغر الولايات، أو الوظائف العامة، كما نسميها في هذا العصر(9).(/1)
ولعله من المناسب الإشارة في هذا المقام، إلى أنّ فقهاء المسلمين يميلون إلى استعمال مصطلح "ولاية" عوضًا عن لفظ "سلطة" السائد في مجال الوظيفة العامة، ولعل مرد ذلك نفورهم مما ينطوي عليه لفظ "سلطة" من إيحاء بالتسلط، الذي يأباه نظام الإسلام بطبيعته، بكل معانيه من "طغيان أو استبداد" ...الخ(10). فالأشبه بروحه هو مصطلح الولاية أو "أولو الأمر" لما فيها من معنى الرعاية والاهتمام، فصاحب الولاية "وال" وراع" ومن يلي أمرهم "رعية" تقع عليه رعايتهم، وهذا ما أكده المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام بقوله: "كلكم راعٍ وكُلُّكُم مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَتِهِ فَالإمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهلِ بَيتِهِ وَهوَ مَسئُولٌ عَنْ رَعِيَتِهِ، وَالمَرأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيتِ زَوجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِدِهِ وَهوَ مَسئُولٌ عَنْهُ، أَلاَ فَكُلْكُمْ رَاعٍ وَكُلْكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَتِهِ"(11)، والراعي كما يقول "العلقمي" فيما نقله "المنذري" في حاشية "عون المعبود": "هو الحافظ، المؤتمن، المعتزم صلاح ما أؤتمن فيه، والقيام بمصالحه"(12).
ولا شك أنّ كل ولاية تستلزم "سلطانًا، أو قدرة ومُكنة، لإنفاذ القرارات والتأثير على المرؤوسين، وهذا ما يفهم من مثل قوله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)(13) وقوله: (إنما سلطانه على الذين يتولونه)(14) وقوله: (ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا فلا يسرف في القتل)(15). فسلطان ولي الدم، ليس مطلقًا، بل هو مقيد بعدم الإسراف في القتل وكذلك سلطان ولي الأمر، ومن يوليهم شؤون الأمة، بتطبيق أحكام الشرع(16).
ويبقى بعد ذلك مفهوم الولاية محتفظًا بتميزه في الدلالة على معنى "الرعاية والتوجيه" الذي يمثله روح الإسلام في العلاقة بين الراعي، والرعية أو الوالي ومن يلي أمرهم، فالولاية رعاية، ومسؤولية، وتجرُّد، وكفاية، وانضباط، وانفعال بما تتضمنه من دلالات وقيم أخلاقية(17).
الوظيفة والموظف العام:
إن الموظف العام المنوط به الاضطلاع بأعباء تلك الولايات العامة، لا يقل أهمية عن الوظيفة نفسها. بل إنّ أهميته تزداد كلما تنوعت حاجات المجتمع وتعقدت أساليب العمل وتداخلت الاختصاصات وتشابكت المصالح وازداد الطلب على الولايات العامة وعلى نواتجها من السلع والخدمات والامتيازات ولاسيما بعد أن تجاوزت الدولة في العصر الحديث وظيفتها المألوفة إلى مباشرة مناشط اقتصادية واجتماعية وعملية تتنامى يومًا بعد يوم بهدف تحقيق رفاهية المجتمع وإشباع حاجاته المتطورة والمتعاظمة كمًا وكيفًا.
ومن هنا تتضح شدة الارتباط بين الوظيفة والموظف العام وبين الدولة وبنشاط الاجهزة الإدارية النوعية، ثم إنّ مفهوم الوظيفة العامة يختلف باختلاف مفهوم الدولة وأهدافها، وطبيعتها، ولكن رغم ذلك فهنالك قدر من التماثل في موقع الوظيفة العامة، ومكانتها في بنية الكيان التنظيمي للدولة، وفي أهمية كفاية الوظيفة والموظف العام، وإنّ الخلاف ربما ينحصر في درجة أهمية كل عنصر من عناصر الولاية العامة. ومستوى الكفاية المهنية والأخلاقية، تبعًا لاختلاف فلسفة نظام الدولة ولا سيما الدولة الإسلامية المرتكزة على مبدأ "الشرعية والمشروعية" وبين الدول الأخرى التي لا تعوِّل على "الدين" بمفهومه الشامل في الإسلام، الذي يربط بين الدنيا والآخرة، وبين الأرض والسماء، وبين العقيدة والعبادة، ويعتبر كل فعل للإنسان وجهًا من وجوه "التعبد" متى قصد به وجه الله تعالى. وعليه فيمكنه أن يتعبد من خلال إحسان أدائه لأعمال وظيفته، وتحقيقه الصالح العام وفق مقاصد الشرع وغاياته.
على أنّ معيار التفرقة بين نظام وآخر في هذا السياق هو مدى استناد الوظيفة العامة على مبدأ "الصلاحية" والفاعلية القائمة على معيار موضوعي منضبط لشغل تلك الولايات بالكفايات المؤهلة، لأجل ذلك انصب اهتمام الباحثين في هذا المجال على هذا المعيار وكيفية تحقيقه في واقع الحياة، وجعل القاعدة العلمية القائلة: (وضع الرجل المناسب في المكان المناسب) حقيقة ماثلة، وموجهًا لسياسة التوظيف. وهي القاعدة التي طبقها نظام الإسلام منذ أول عهده على نحو غير مسبوق، بينما لم تتوصل النظم الوضعية إلى نظام "الجدارة" إلاّ بعد سلسلة ممتدة من تاريخ التجربة والخطأ، انتقالاً من نظام احتكار الوظائف إلى نظام "الغنائم" وحتى نظام الجدارة.
ولعل هذه المحاولة في بحث موضوع "الصلاحية" للولايات العامة يعد إضافة لتجربة التأصيل التي يضطلع بها وطننا الحبيب في سبيل بسط الدين في الواقع الإنساني المعاصر، بتوظيف كل الإرث البشري النافع في خدمة الإنسان فإلى تفاصيل المحاولة.
الصلاحية للولايات العامة
أولاً: معنى الصلاحية العامة:(/2)
الصلاحية، مصدر صناعي من "صلح" وتدل على معناها المعجمي "النفع، والمناسبة"، "والصلاح"، والاستقامة، والسلامة من العيب والصلاحية، كذلك الاتساق في عمل ما. والصلاحية للعمل، حسن التهيؤ له(18).
أما "الصلاحية" في الاصطلاح الفقهي، فيراد بها: الأهلية الجامعة لخصال الكفاية، لولاية الوظيفة العامة، بإحراز شرائطها الموضوعية، والفنية، ومواءمة قدراته لمتطلبات الولاية العامة(19).
ثانيًا: مشروعية الصلاحية، بهذا المعنى:
لو تم اختيار للولايات العامة، بمعزل عن قاعدة "الصلاحية" فقد انخرم مبدأ حيوي من مبادئ المشروعية الإسلامية في الإدارة، ومن مقاصد الشارع في صلاح الرعية ورعاية مصالحها العامة، وهو باب واسع من أبواب السياسة الشرعية، حسبما وصفها "ابن عقيل" الحنبلي بقوله: "السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد"(20). حتى أنّ من يحيد عن قاعدة الصلاحية في الاختيار للولايات العامة يوصف بـ"الخيانة". وقد تظاهرت الأحاديث النبوية الشريفة لتأكيد هذا المعنى: منها:
[1] قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: "إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"(21). فكان إسناد الأمر، إلى غير ذوي الصلاحية، والكفاية مدعاة لاختلال الأحوال لدرجة تفضي إلى انفراط النسق الكوني، وفساده، وقيام الساعة، لعظم جرمه، وشدة وقعه(22).
[2] وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: "من ولي من أمر المسلمين شيئًا فولى رجلاً، وهو يجد من هو أصلح منه فقد خان الله ورسوله، والمسلمين"(23). والصلاحية في كل ولاية بحسبها، وبحسب المتاح من ذوي الكفايات النسبية(24) والمطلوب هو استفراغ الجهد للوصول إلى أفضل الموجودين، وفقًا لمقتضيات السياسة الشرعية، في تحقيق المصلحة العامة الراجحة(25).
ثالثًا: طبيعة الصلاحية:
استقر رأي الفقهاء على أن "الصلاحية" وصف يقوم بالمرء، فيصبح بموجبه متصفًا بأهلية خاصة تجعله قادرًا على الفعل (حقيقة، أو حكمًا) وهي تقوم في البشر – كما يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور – بحظوظ متفاوتة بحسب التفاوت في المواهب، والقدرات، والصفات مما يؤثر تحايزًا بين أصحابه، متقاربًا، أو متباعدًا، في آثار تلك الصفات، بترقب المنافع منهم، وتوقع المضار، فيفضي لا محالة إلى تفاوت وفروق لابد من اعتبارها في تكييف الصلاحية، بحسب كل حال، ولا عبرة للمساواة المطلقة – التي دعت إليها بعض النظم – لكونها تنافي الواقع وطبائع الأشياء(26).
ولعل من المناسب الإشارة هنا إلى أنّ نظام "الجدارة" في النظم الوصفية المعاصرة بوصفه معيارًا للمفاضلة بين المتقدمين أو المرشحين للوظائف العامة، ومقدمة لإصلاح سياسة التوظيف ولدت بعد مخاض طويل من المحسوبية، والمحاباة والنظرة الذاتية، وتكريس نظام الغنائم الحزبي البغيض، ولا يزال نظام "الجدارة" يترنح في سبيل تحقيقه في الواقع الاجتماعي والإدراي(27) على نحو ما تحقق من تطبيق لنظام الصلاحية في الولايات العامة في الإدارة الإسلامية، لأن فكرة الصلاحية تنبثق عن مضمون عقدي تشريعي تعبّدي يشكل سياجاً مهمًا لحمايته وصيرورته في واقع الحياة التي هي وجهة من وجوه التعبد والقربى إلى الله تعالى، وأمانة ينبغي أن تؤدي حسب مقتضيات الشرع ومآلاته.
حتى أنّ جمهور الفقهاء: ذهبوا إلى تأكيد أهمية حرص ولي الأمر على دقة اختيار أعوانه واصطفائهم على أساس: "الاقتدار، والكفاية، والعلم دون محاباة ولا إيثار، فإنّ الأثرة بالأعمال، والمحاباة بها جماع من شعب الجور والخيانة، وإدخال الضرر على الناس، ولا صلاح لأمور الولاة إلاّ بصلاح من يستعينون به على أمورهم، ويختارونه لكفاية ما غاب عنهم"(28) وإنّ تصرف ولي الأمر بما يخالف شرط الصلاحية في تولية الوظائف يقع معيبًا لتجاوزه دائرة الاستحقاق، وفعل المصلحة التي ندب من أجلها(29) لأنّ الوالي يرتهن فعله بالمصلحة العامة ولا مصلحة للأمة في اختيار غير الصالحين للولايات، لذا اختلف الفقهاء فيما لو كانت ولاية ناقص الأهلية تنفذ أحكامها، أو لا – كما سنوضح فيما بعد – ومن ذلك ما نقله ابن نجيم "الحنفي" في آخر الفن الثالث من الأشباه والنظائر بقوله: "إذا ولّى الحاكم مدرسًا ليس بأهل لم تصح ولايته، لأنّ فعله مقيد بالمصلحة، وخصوصًا إن كان المقرر عن مدرّس أهل فإنّ الأهل لم ينعزل".
وصرح "البزازي" في "الصلح" بقوله "إنّ الحاكم إذا أعطى غير المستحق، فقد ظلم مرتين: بمنع المستحق، وإعطائه غير المستحق"(30)، وقد اعتبر الشاطبي تولية غير الأكفياء من الأقرباء، وأهل الثقة، دون ذوي الصلاحية، بدعة محرّمة في الدين(31).
رابعًا: الصلاحية ومبدأ المساواة:(/3)
معلوم أنّ النظام الإداري الإسلامي، قد اهتم بتحديد الشروط والمعايير الموضوعية، والضوابط اللازمة لشغل الولايات العامة، وقد استجمع العلماء تلك الشروط والمقومات فيما عرف بـ "الصلاحية" ونرى قبل الخوض في بحث مكونات الصلاحية، وأبعادها أنه لابد من التقديم بين يديها بمقدمة تنهض عليها عملية الكشف عن الصلاحية، ونعني بذلك "مبدأ المساواة" لأنّ هذا المبدأ من شأنه أن يوسع الوعاء الذي تختار منه الكفايات ذات الصلاحية، للولايات العامة بمختلف صنوفها، ومجالاتها.
وقد قرر الإسلام مبدأ المساواة بين الناس في المنشأ والمصير، ولا تفاضل بينهم إلا بالتقوى، وهو معيار موضوعي لا ذاتي (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(32). ومن ثم فإنّ جميع المسلمين متساوون في إمكانية تقليدهم الوظائف العامة طبقًا لكفايتهم، وعلمهم، وقدرتهم، ليس لسبب آخر سوى الصلاحية(33). ولا تعني المساواة هنا، أن يستوي العالم والجاهل، والحاذق والخامل، بل إنّ المساواة تتحقق بتمكين كل من تؤهله حاله، من فرص التنافس مع نظرائه الذين تساوت لديهم الشروط المطلوبة في الوظيفة، لتتم المفاضلة بينهم على أساس عادل، وفق مقتضيات المصلحة العامة وهذا النوع من المساواة هو المعروف عند علماء الإدارة اليوم بالمساواة القانونية تفريقًا لها عن "المساواة الحسابية" التي تفترض أحقية كل الناس في التقدم للأعمال، من أحرز الشروط، ومن لم يحرزه سواء(34)، وهذا منافٍ لطبائع الأشياء وحكمة العدل، لقوله تعالى: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وقوله عليه الصلاة والسلام لأبي ذر عندما طلب الولاية: "يَا أَبَا ذَرْ إِنّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَة، وَإِنََّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَة إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِهَا وَأَدَّىَ الَّذِي عَلَيهِ فِيهَا"(35). وعلى كل حال، فإنّ المبدأ الأساسي في هذا المجال، أنّ المسلمين جميعًا يصلحون لتولي الوظائف العامة في الدولة.. وإذا كانت الأعراف والمصالح قد اقتضت تحديد بعض الشروط النوعية لولاية الوظائف، فإنّ هذا التحديد لا يخل بمبدأ المساواة العامة(36) سيما وانّ الفقهاء قد اشترطوا – بوجه عام – فيمن يتولّى وظيفة من الوظائف العامة في الدولة أن يكون متصفًا بالعدل، والأمانة، والكفاية، كما اشترطوا شروطًا خاصة، تتعلق بطبيعة كل وظيفة على حده، بحيث لو خرج المرء عن تلك الشروط، أصبح غير لائق لتولّيها وهذا ترتيب يقتضيه العدل، وحسن السياسة، "ولا يكتنف العدل (رذيلتان) كما يقول الإمام الغزالي .. بل رذيلة الجور المقابلة له، إذ ليس بين الترتيب وعدم الترتيب وسط" فالمساواة التي سعت الشريعة إلى تحقيقها مساواة مقيدة بأحوال يجري فيها التساوي، وليست مثل المساواة المطلقة التي تسعى إليها بعض النظم، فيما يسمونه المساواة "الفعلية" في التوظيف، والتي كادت تُودي بكافية الوظيفة العامة، لأنّ خِلقة البشر جاءت على التفاوت في المواهب والأخلاق فما كان للشريعة أن تدعو إلى مساواة تدحض جميع الفروق، والمميزات والحقوق الكائنة بين البشر، مما له أثر في صلاح العالم، في أجزائه ومجموعه، إذ لو دعت إلى ذلك لدعت إلى ما لا يطيقه البشر، ولا يتفق مع طبائع الأشياء – كما قدمنا – بل الذي لا يتفق مع طبائع الأشياء هو إقرار التفاوت وفق فروق تحتمهاه طبيعة التكوين الخلقي، أو الاكتساب وذلك ما تقرره الآيات الكريمة من مثل قوله تعالى: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم)(37)، وقوله تعالى: (نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم)(38)، وقوله تعالى: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا)(39).
خامسًا: مكونات الصلاحية:
بما أنّ من أهداف النظام الإسلامي رفع مستوى الحكم والإدارة حتى يعم الرخاء العباد والبلاد، وأنّ ذلك لا يتأتى إلاّ بكفاية الوظيفة العامة، بالحرص على اجتذاب ذوي الكفاية والخبرة، والأمانة والتقوى. فإنّ الصلاحية هي الأساس الذي تبنى عليه عملية الاختيار للولاية العامة. وتعتمد الصلاحية على صفتين أساسيتين تشكلان كل فضيلة من فضائلها وهما: القوة والأمانة (إن خير من استأجرت القوي الأمين)(40) تقرر ألا توكل الولايات العامة إلاّ إلى المستحقين (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)(41) وكذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها"(42).(/4)
ويلاحظ أنّ كلتا الصفتين تشيران إلى أحد مجالين – يعرفهما الفكر الإداري المعاصر – لا على أنهما متصلتان، ولكن التصور الإسلامي لا يكاد يفصل بينهما على الإطلاق، فالقوة تعبّر عن المعنى المادي للصلاحية بينما تعبر "الأمانة" عن المعنى الأخلاقي، الذي يقوم عليه النموذج الإسلامي، إذا لا يقبل الإسلام الفصل بين الحياة الخاصة، والحياة العامة، للموظف العام، فمن لا يصلح في الحياة الخاصة، فلا موضع له في الولايات العامة، وإنّ شروط الولاية العامة، تحقيق مواصفات الصلاحية للولاية الخاصة(43) فوراء كل جهد مادّي، مغزى أخلاقي كما أنّ المجال المادي هو المحك العملي لاختيار فضيلة الأخلاق، فإنّ: (الدين المعاملة)(44).
ذلك لأنّ القوة المادية المنغلقة عن ضمانة الأخلاق، هي طغيان في الأرض وفساد كبير، وهذا ما نراه في عالمنا المادّي اليوم، أمّا المجتمع الإسلامي فمنهي عن الفساد والإفساد لقوله تعالى: (ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين)(45) وقوله تعالى: (ولا تطيعوا أمر المفسدين الذي يفسدون في الأرض ولا يصلحون)(46)، وهكذا، فإنّ القوة الغاشمة التي لا تتقيد بالقيم والأخلاق ولا تلتزم بالتوجيهات الدينية، لا يكون فعلها إلاّ فسادًا أو إفسادًا، يوصف بأنه "طغيان" بدلالة قوله تعالى: (الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد)(47).
فالمراد بالقوة في تدبير شئون الأمة، ومصالح الناس – كما يقول ابن تيمية(48): "ترجع إلى العلم بالعدل، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام، أمّا الأمانة، فترجع إلى خشية الله، والاعتصام إليه، وإلتزام الحق، وحسن الأداء، والتضحية في سبيل الخير العام".
وعلى ذلك فمن الممكن أن يتفرع عن كل من هاتين الصفتين، خصائص وصفات كثيرة ملازمة لها، أو مترتبة عليها، تشكل في جملتها المكونات: الفعلية، والنفسية، والأخلاقية والقدرات والمهارات الفنية، اللازمة لصلاحية المرء لتولي الوظائف العامة في الدولة الإسلامية.
وسنعرض فيما يلي لبعض المفردات التي تشتمل عليها صفتا "القوة، والأمانة" فيما يتصل بموضوعها.
المطلب الأول: القوة
ويتفرع عنها عدة أمور هي:
الأمر الأول: قوة الإيمان:
فالإيمان بمفهومه الإسلامي، عقيدة وعمل، أي يقين يسنده سلوك يوافقه، فلا ينفك أحدهما عن الآخر وهو كما وصفه الإمام الغزالي: اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان(49).
فلا بد أن يكون الموظف العام في الدولة الإسلامية مؤمنًا بعقيدة الإسلام الشاملة، وما ينبثق عنها، وبأهداف المجتمع المكلف، الموصوف بالمسؤولية، والرسالية، ليعمل على تحقيقها من خلال وظيفته، بوصفه قدوة ومظهرًا عامًا لسلطة الدولة – اللهم إلاّ في بعض ولايات التنفيذ، التي لا تتميز بالمظهر الديني المباشر، فقد رأى بعض الفقهاء جواز تولية أهل الذمة والعهد، مراعاة لتخصصهم فيها وحذقهم لها(50)، على نحو ما سنفصله فيما بعد.
الأمر الثاني: القدرات العقلية والمهارات الفكرية:
ونقصد بها "المَلَكَة" التي تمكِّن صاحبها من إدراك حقائق الأشياء، والوقائع المختلفة، والربط بينهما، ربطًا يتماشى مع منطق الإسلام، ومنهجه. وهذه "الملكة" موهبة واستعداد يمكن تنميته، وتهذيبه، بوساطة: التوجيه، والتدريب، والتعلُّم، والممارسة السليمة، حتى تصل إلى أرفع المستويات، كما تحقق ذلك في زمن قياسي في دولة صدر الإسلام، إذا تخرّج في مدرسة النبي عليه الصلاة وأتم التسليم، وخلفائه، صفوة من رجال الحكم، والإدارة على أرفع مستوى من الكفاية.
ومعلوم أنّ الإسلام، قد دعا إلى العلم، والتعلم في أول ما نزل من قرآن، إذا أشار إلى أدوات "العلم، والتعلم" من القلم، والقراءة، كما أشار إلى غير ذلك من أدوات في آيات أخرى: كالقرطاس، والدواة، والكتاب ...الخ(51). كما لا تفتأ آيات القرآن الكريم تنوّه وتشيد بالذين "يعلمون، ويعقلون، ويتفكرون، ويتدبّرون، من أولي الألباب" ويشيد بفضلهم، وعلو مكانتهم وتسامي درجاتهم (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)(52)، (إنما يخشى الله من عباده العلماء)(53) فلن تكون الخشية الحقيقية لله، إلاّ من العلماء من عباده، على سبيل الحصر.فالعلم، واكتساب المهارة الفكرية، ليس أمرًا ثانويًا، في نظر الإسلام، بل كان من الواجبات المضمّنة في صلب العقيدة على كل ذوي الأهلية والعقلية (فاعلم أنه لا إله إلاّ الله)(54) وأنّ طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة(55)، ويرى العلماء أنّ "أل" في العلم استغراقية، تستوعب سائر ضروب العلوم والمعارف في كل زمان ومكان بحسب ما يحقق للمسلمين مصلحة عامة راجحة، فما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب.(/5)
ثم إنّ الإسلام من فرط اهتمامه بالعقل (وهو وسيلة العلم) بنى عليه التكاليف الشرعية، فلا مسؤولية عند غيابه، لأجل ذلك حرّم تعاطي كل ما من شأنه أن يؤدي إلى حجبه، أو تدميره وإتلافه، من مسكرات، ومخدرات، ونحوها حتى إنّ الإنسان لا يجوز له الاقتراب من العبادات إلاّ بتمام وعي وإدارك ليعلم ما يقوله فيها من شعائر وأحكام (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون)(56).
لذلك اهتم الفقهاء بصفة "العلم" كشرط من شروط ولاية الوظائف العامة. ولا سيما ذات المستوى القيادي منها (كالوزارة، والقضاء، ونحوها) فاتفقوا على ضرورة اتصاف متولِّيها بالعلم، واليقظة، ورجاحة العقل، وحسن التدبير(57). إذ أنّ حسن الأداء فرع عن العلم بمحتوى الوظيفة العامة، وأساليب مباشرة مسؤولياتها على نحو يحقق أهدافها وغاياتها، بأمثل الوجوه، وأقل التكاليف، حيث أنّ أعمال الوظائف العامة ما هي إلا سلسلة متصلة من عمليات اتخاذ القرارات، مما يستوجب توافر القابلية العقلية للموظف العام(58) وهي تمثل إحدى دعامتين لهذه العملية، أمّا الدعامة الثانية فهي الحصول على المعلومات والبيانات الصحيحة، التي ينبني عليها كل قرار سليم، أو حكم رشيد(59) وهذا هو مجال التفاضل الحقيقي بين الموظف الناجح وغيره.
الأمر الثالث: قوة البدن وسلامته:
والمراد به، قوة البدن وسلامته، من كل ما يعوق عن النهوض بأعباء الولاية، تعتبر أيضًا من لوازم القوة والكفاية، لذلك أوردها الفقهاء ضمن شروط "الصلاحية"، فاهتموا بها وأفاضوا في بحثها، واستقصائها – خاصة فيمن يرشح لمنصب رئاسة الدولة – كما اجتهدوا في تقسيم الشروط المتصلة بها، إلى ما يمنع عقد الولاية ابتداء، وما يمنع عقدها واستدامتها(60) على أنّ المعتمد في كل ذلك ألاّ تكون الإصابة، أو العلة مما يؤثر في الرأي والتدبير، أو يؤدّي إلى العجز عن القيام بما يلزم من حقوق الأمة في النهوض بالأعمال(61).
وهذا ما اهتدت إليه نظريات الإدارة الحديثة باشتراط ما يعرف بـ"اللياقة البدنية، وكمال الصحة" في طلاب الوظائف العامة، حيث تتوسل إلى فحصها، والتأكد من سلامتها بوسائل عدة – ليس هنا مجال سردها –.
الأمر الرابع: الكفاية:
ولعلها تقابل ما اصطلح عليه علماء الإدارة المعاصرون باسم "المهارة العامة، إذا ليس كل شخص يصلح لها، فلا يصلح لها سوى ذوي الخبرات الفنية والمهارات النوعية المتميزة، والقدرات والمواهب العالية والدليل على ذلك – كما قدمنا – قوله تعالى: (إن خير من استأجرت القوي الأمين)(62) فيفهم من هذا أنّ غير القوي، وغير الأمين ليس فيهما خير يؤهلهما لولاية شؤون خير أمة أخرجت للناس، أو تدبير مصالحها، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.."(63)، ثم تصرفه صلى الله عليه وسلم مع صاحبه "أبي ذر" عندما طلب الولاية. هذا بالرغم من صلاح "أبي ذر" وتقواه وأنه من السابقين الأولين في الإسلام، ومع ذلك لما لم تكون لديه المؤهلات التي تجعله في رأي من يملك سلطة التعيين، صالحًا لولاية الوظائف العامة، لم يجبه إلى طلبه ولا يقدح هذا في شيء من مكانته، وصلاحيته لأمور أخرى سوي الولاية العامة. ثم إنّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يختار عماله، وولاته من الصالحين لها من أصحابه، بحسب ما يقتضيه حال كل وظيفة من واقع معرفته لقدراتهم وإمكاناتهم، فتحقق في عهده تطبيق مبدأ (وضع الرجل المناسب في المكان المناسب) ويشهد على ذلك كتب السيرة، والتاريخ، والتراتيب الإدارية.
وهكذا مضت سنة الراشدين من بعده، فلم تكن الولايات تمنح إلاّ لذوي الكفايات، حتى جاءت الفتن بعد ذلك من وراء الحياد عن هذه السنة في تولية الموظفين العموميين. ولعل مما يؤكد الخلفاء على تولية الأصلح، ما أثر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه شدة حرصه على تطبيق هذه القاعدة، حتى أنه كان يفرغ جهده في الانتقاء، والتولية، ثم إذا وقع على من هو أصلح منه وأقوى نحاه، واستبدل به الأصلح. من ذلك قوله: "إني لأتحرّج أن أستعمل رجلاً، وأنا أجد من هو أقوى منه"(64) ولا شك أن موقفه مع "شرحبيل" قوي الدلالة في ذلك، حيث عزله، وتساءل الناس عن الأسباب، فقام فخطب الناس، فقال: أيها الناس إني والله ما عزلت "شرحبيل" عن سخط، ولكنّ رجلاً أقوى من رجل"(65).(/6)
ونحو ذلك ما حفظه لنا التاريخ من رسالة الخليفة الرابع إلى "الأشتر النخعي" حين ولاه مصر، تلك الرسالة التي تعدّ غرة جبين الأدب الإداري في الفكر الإسلامي إذ يقول: "... ثم انظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختيارًا، ولا تولهم محاباة وإثرة، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة، والقدم في الإسلام فإنهم أكرم أخلاقًا، وأصح أعراضًا، وأقل في المطامع إشرافًا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرًا.."، لأجل ذلك اهتم الفقه الإسلامي بدراسة أمر "الصلاحية" لولاية الوظائف العامة، دراسة مستفيضة، انطلاقًا من تلك القواعد التي أرساها القرآن، وطبّقها النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه، بدقة وحرص. وقد تركوا لنا آراء متعددة، وبدائل شتّى في كيفية مواجهة الواقع المتغير للمسلمين، فيما لو لم يجدوا أكفياء تتوافر فيهم كل الشروط المطلوبة وكيفية التعامل إذا وجدت المهارة، والكفاية الفنية لدى أمرئ اتصف بالفجور؟ فهل من الجائز اختياره، أو ينبغي الاقتصار على الأتقياء، والعزوف عمن سواهم، حتى لو أفضى إلى إلحاق ضرر محقق بمصالح المسلمين العامة؟ هذه أسئلة شغلت تفكير الفقهاء في كل الأزمنة. إذ "القوة والأمانة" قلّما تجتمعان في شخص واحد، أو تلازمانه في كل الأحوال بذات المستوى، لذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "اللهم إليك أشكو جلد الفاجر وعجز الثقة"(66).
فذهب الفقهاء إلى القول: إنّ ولي الأمر ليس عليه إلاّ السعي لاستعمال أصلح الموجودين من أهل زمانه، فقد لا يكون في موجوده من هو أصلح لتلك الولاية، فيختار الأمثل فالأمثل، في كل منصب بحسبه، فإذا فعل ذلك فقد أدّى الأمانة وقام بالواجب، وصار في هذا الموضع من أئمة العدل، والمقسطين عند الله تعالى، وإن اختل بعض الأمور بسبب غيره إذا لم يكون إلا ذلك(67) لقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم)(68) وقوله تعالى: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها)(69).
فمن أدّى الواجب المقدور عليه فقد اهتدى، لقوله صلى الله عليه وسلم: "...وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"(70).
ولو تكافأ في شروط الولاية اثنان فأكثر، قال الماوردي: "قدم لها اختيارًا اسنّهما، وإن لم تكن زيادة السن مع كمال البلوغ شرطًا، فإن ولّى أصغرهما سنًا جاز. ولو كان أحدهما أعلم، والآخر أشجع، روعي في الاختيار ما يوجبه حكم الوقت(71)، وهذا بعينه ما قرره الإمام "القرافي" بقوله: "يجب أن يقوم في كل ولاية من هو أقدر بمصالحها على من هو دونه"(72).
أما إذا كانت المفاضلة بين رجلين أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة، قدّم أنفعهما لملك الولاية وأقلهما ضررًا فيها، فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أمينًا ورعًا، فقد سئل الإمام أحمد بن حنبل عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، أحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يُغزي؟ فقال: أمّا الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأمّا الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزي مع القوي الفاجر"(73). لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر"(74).
وهذا كما نلاحظ أمر، تقتضيه الضرورة، أما فيما سوى ذلك، فلا يجوز اللجوء إلى تقديم الفاجر، إلاّ في حالة "الاستيلاء" متى استتب له الأمر، وقامت له الشوكة، درءً للمفاسد.
ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى أمر لا يستقيم أمر الكفاية بدونه وهو "الحزم" فهو معيار الكفاية، بحيث لو تخلّف لما نفذ لذوي الولايات أمر من الأمور، ولا نهض لهم تدبير، والمراد بالحزم، في عرف الفقهاء، كما يقول "الطرطوشي": "إنفاذ الأمور، وترك الونى، مع الثبات على الحق متى ظهر، وعدم التردد في اتخاذ القرارات، أو تنفيذها بقوة وعزم(75). والاعتدال في السلوك وقوة النفس، والتوازن، وهي بلا شك من لوازم الوظائف القيادية – على الخصوص – لتَعصِمَهَا من الغلو أو التطرف جهة الإفراط، أو التفريط، ومثل هذا الموظف لم يُخِرجَهُ غضبه من الحق، وإذا رضي لم يُدخِله رِضَاهُ في باطل، وإذا قدِر كفّ وعفّ"(76) مصداقًا لقوله عليه الصلاة والسلام: "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"(77).(/7)
ولعل خير مثال على حزم القادة – في هذا المجال – موقف الخليفة الأول أبي بكر في التمسك بقراره في قتال أهل الردة، وقبل ذلك بإنفاذه جيش أسامة بن زيد رغم معارضة عدد من كبار الصحابة، ذلك الموقف الذي كانت له آثار جانبية في تاريخ الأمة، ما كان أحد يدري، كيف ستكون النتيجة لولا حزم أبي بكر في موقفه على ما رآه حقًا وصوابًا(78) وبخاصة في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ الدولة الإسلامية التي أعقبت وفاة القائد الأعظم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. على أنّ مساك هذه الخصائص وعمادها "الحكمة" التي بها جودة الاستنباط، وحسن التدبير، والتصرّف (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا)(79). ومعلوم أنّ الحنكة، وحذق المهنة لا يتيسران إلاّ بالدُرْبة، والمراس، "فالحدث الصغير في أية صناعة، أو مهنة، أو عمل – كما يقول الإمام الشاطبي – هو من لم يتحنّك فيها، ولم يرتّضْ رياضة تُبلغه مبالغ الراسخين فيها من ذوي الكفايات، فهو حديث العهد بالصناعة، الذي لم يحذقها، ولم يستكمل الأمر بعد، وإن كان ابن ثمانين سنة(80)، لذلك فإنّ الإدارة الإسلامية تؤمن بمبدأ التخصص، والاقتدار في ناحية من نواحي الحياة العلمية، والعملية، حتى تستوفى الأمة حاجتها، وذلك واجب كفائي، أعظم خطرًا من الواجب العيني. فهذا عمر بن الخطاب يوزع العمل بين الكفاة من أصحابه، فيقول: "أيها الناس، من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل الفقه، فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال، فليأتني، فإنّ الله جعلني خازنًا وقاسمًا"(81)، وقد أصبح هذا الأسلوب في التخصص هو الاتجاه السائد في العصر الحديث، بعد أن تشعبت مجالات العلوم، والمعارف والمهن، والحرف...الخ.
بعد أن فرغنا من الشق الأول من شقّي "الصلاحية" ننتقل لدور الشق الآخر المتعلق بـ"الأمانة" حتى تكتمل أهل مقومات الصلاحية.
المطلب الثاني: الأمانة
وهي صفة – كما سبق أن ذكرنا – تتعلق بالجانب الأخلاقي من الصلاحية والذي تفقد الممارسة باختلاله مضمونها الروحي الذي تمتاز به الإدارة الإسلامية. فبفضل هذا العامل الحيوي يستشعر الموظف العام مسئوليته أمام الله، الذي (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض)(82)، ولا يفلت من مراقبته أحد، حتى لو تمكّن من الإفلات من مراقبة الناس، وضوابط القانون، وإجراءاته. وهذا الشعور هو الذي يعمق الضمير الديني، والوجدان الأخلاقي، الذي يسعى الإسلام إلى تأسيسه في وجدان كل مسلم، ولا سيما ذوي الولايات العامة، ويولد لديهم خاصية "المراقبة الذاتية" لكي يتحقق بذلك التوازن، والاستقرار النفسي، وبذلك تنصلح الرّعية، وتنبت لديها دواعي الطاعة، والالتزام، والاقتداء، وتحري مرضاة الله في المثوى، والمنقلب.
ويتفرع عن هذه الصفة الجامعة، صفات وخصائص عدة ذات أهمية بَالِغة لفاعلية الوظيفة والموظف العام في الدولة الإسلامية. وقد تناولها الفقهاء بكثير من الدراسة والبيان منها.
1/ العدالة:
وقد عرّف الفقهاء العدالة بأنها: "صفة توجب مراعاتها الاحتراز عما يخل بالمروءة عادة، في الظاهر"(83) ، وذهب "السيوطي" إلى القول بأنها "مَلَكَة" تعصم صاحبها من الوقوع في المعاصي(84)، ثم أولوها عناية كبيرة، واشترطوها في كل من يتصدى لتولّي الوظائف العامة، أو الإدلاء بالشهادات، اشترطوها لتكون وازعًا من الخيانة، أو الانحراف، أو التقصير، أو الجنوح بالولايات، وحقوق الناس، عن أهدافها، سواء تعاظم شأن تلك الولايات حتى بلغت منصب رأس الدولة، أم كانت دون ذلك حتى مرتبة الشهادة، والرواية، والفتوى..الخ، إذ "الفاسق" الذي تنقصه صفة العدالة ليس جديرًا بالتقديم والتولية، لفقدانه ما يعصمه عن ارتكاب الآثام، والاستهتار بحقوق الناس، ومصالحهم، لخلوه من الوازع الديني(85).
فذهب الجمهور إلى منع تولية الفاسق الوظائف العامة ولا سيما (الإمامة، والوزارة، والقضاء) من حيث الابتداء سوى ما أثر عن الأحناف من القول بصحة تقليد الفاسق مع أنه لا ينبغي أن يقلد، كما يجب عزله، إذا طرأ عليه الفسق، عقب اختيار صحيح، حسبما يقول صاحب الهداية(86): "وما يشترط لأهلية الشهادة، يشترط لأهلية القضاء والفاسق للقضاء، حتى قُلد يصح، إلاّ أنه لا ينبغي أن يقلد، كما في حكم الشهادة، فإنه لا ينبغي أن يقبل القاضي شهادته، ولو قبل جاز عندنا، ولو كان القاضي عدلاً ففسق، لا ينعزل، ويستحق العزل، وهذا ظاهر المذهب..".
فتصح عندهم ولاية الفاسق مع الكراهة، ووجه ذلك أنّ الصحابة صلّوا خلف بني أمية، وقبلوا الولاية منهم، مع شيوع فسق بعضهم. أما في حالة طروء الفسق، فإنه يكون مستحقًا للعزل، إذا لم يستلزم ذلك فتنة. وهذا ما أكده "الكمالان"(87). غير أنّ الثلاثة (أبو حنيفة، وأبو يوسف ومحمد) لا يجيزون قضاء الفاسق، على ما ذكره صاحب الهداية بقوله: "وعن علمائنا الثلاثة في النوادر، أنه لا يجوز قضاؤه"(88).(/8)
أما المالكية فيذهبون إلى القول بمنع ولاية الفاسق ابتداء، ولكنهم يفرقون في دوام الولاية، فلا يجوز عزل "الإمام" بالفسق ما لم يصل درجة الكفر، وعندئذ يجب عزله، أمّا غير "الإمام" فيجوز عزله متى زال عنه وصف العدالة، لأنه يخشى من عزله فتنة، وذلك ما قرره الشيخ "الصاوي" بقوله: "...اعلم أنّ تلك الشروط إنما تعتبر في ولاية الإمام الأعظم، ابتداء لا في دوام ولايته، إذا لا ينعزل بعد مبايعة أهل الحل والعقد له بِطُرُوّ فسق، غير كفر.. وإنما لم ينعزل بالفسق ارتكابًا لأخف الضررين، لما في عزله من عِظم الفتن، بخلاف غيره (من والٍ، وقاضٍ، ونحوهما) فينعزل لزوال وصفه، لأنه لا يُخشى من عزله فتن، كما يخشى من عزل الإمام..."(89).
أمّا الشافعية فيمنعون انعقاد ولاية الفاسق واستدامتها. قال الماوردي: "إذا قام الإمام بما عليه، وجب على الرعية حقان: الطاعة، والنصرة، ما لم يتغير حاله، والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما: جرح في عدالته، وهو الفسق، فهو على ضربين: أحدهما ما تابع فيه الشهوة، والثاني ما تعلق فيه بشبهة، فأما الأول منهما فمتعلق بأفعال الجوارح، وهو ارتكابه المحظورات، وإقدامه على المنكرات، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة، ومن استدامتها، إلا إذا تعذرت العدالة بحيث لا يوجد عَدْلٌ، وقع الاختيار على أقلهم فسوقًا(90).
أما الحنابلة، فقد ذهبوا كذلك إلى القول باشتراط العدالة في من يلي الوظائف العامة، ابتداء، فلا تنعقد الولاية بانعدامها، إلاّ في حالة الاستيلاء، كما نقل أبو يعلي الفراء في رواية لـ عبدوس بن مالك القطّان عن الإمام أحمد قوله: "...ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسُمي أمر المؤمنين، لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يبيت ولا يراه إمامًا، بَرًا كان أو فاجرًا"(91) وعلى ذلك فهم يشترطون العدالة في الابتداء، ويتجاوزونها في الاستدامة، متى دعا إلى ذلك داعي الضرورة، ودرء الفتنة.
وخلاصة القول أنّ العدالة مطلب ضروري من مطالب الولايات العامة في الفقه الإسلامي لتفادي مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة". التي تقوم عليها الإدارة الحديثة، وهو مبدأ ترفضه قيم الإسلام وتعاليمه التي تتمسك بشرف الوسائل للوصول إلى الغايات النبيلة.
2/ العدل:
العدل هو الشق الثاني من صفة الأمانة، فالذي عليه فيها حسب نص الحديث الشريف السابق بيانه، هو العدل والإنصاف واجتناب الظلم والجور، فالعدل هو الترجمة العملية لصورة العلاقة بين الموظف العام ومرؤوسيه، ورعاياه، وبين سائر المواطنين، حسبما تنظمها تعاليم الإسلام وتشريعاته، بحيث يحرص الموظف العام على كفالة الحقوق، ورعاية المصالح، وفق الضوابط الشرعية دون إفراط أو تفريط.
والمسلمون مأمورون بالعدل دينًا، ومنهيون عن الظلم والتظالم، ولعل العدل هو المبرر الأساس لإقامة الوظائف العامة في المجتمع، للفصل في شؤون الناس وقضاياهم، وهو الذي عليه مدار الصلاحية في الولايات العامة، ابتداء وديمومة، ولعل من أقوى الشواهد على أهمية صفة العدل في الوظائف العامة، ما جاء في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام إذ بعد اختياره للناس إمامًا، بسبب صلاحيته، واجتيازه الابتلاء (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إمامًا)(92) طلب الولاية لذريته (قال ومن ذريتي) فكانت الإجابة الحاسمة من رب العزة: (لا ينال عهدي الظالمين)(93). وهذه الآية تمنع توريث الولايات العامة، كابرًا عن كابر، حتى لا تؤول بذلك إلى الضعفاء أو الظلمة، فينتشر الفساد في البر والبحر، (والله لا يحب الفساد)(94) وإنما تقوم الولاية على الاختيار والاصطفاء المستند على الصلاحية الفعلية التي يكشف عنها الاختبار الموضوعي كما وضح في صدر هذه الآية (وإذ ابتلى إبراهيم ربه)... فقد وقع الاختبار قبل الاختيار، "والتخلية قبل التحلية" فكان النجاح الذي أهله ليكون إمامًا للناس، وهكذا فلا ينبغي أن تستند الولايات إلاّ لأهلها وفق هذه المعايير المنضبطة.(/9)
ومما استقر في فقه الولاية العامة في النظام الإسلامي أنّ الموظف العام لا يظلم، لأنه بذلك يعارض صفة من صفات الله تعالى العدل، كما يخالف ما أمر به من بسط العدل والقسط. وهناك نماذج حية في هذا الباب ضرب بهاه القادة والولاة – في الدولة الإسلامية – مُثلاً رائعة في العدل والتجرد حتى في الحالات التي يكون فيها رئيس الدولة نفسه طرفًا فيها، وفي الطرف الآخر أحد رعاياها (من المسلمين أو غيرهم) نزولاً عند الأمر بالعدل والتزامًا بالمنهج الإلهي القويم (وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون)(95) ولعل ما سجله الصديق أبوبكر في أول خطاب وجهه إلى الامة بعد اختياره للخلافة، مُعلنًا بذلك سياسته العادلة: "القوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له"(96)، ويعزز هذا الاتجاه ما شهد به رسول قيصر الروم عندما جاء إلى المدينة المنورة، فسأل عن عمر فوجده ينام تحت شجرة وهو يتوسد دِرّته، فقال رسول قيصر، قولته المشهورة: "...رجل تكون جميع ملوك الأرض، لا يقر لهم قرار من هيبته، وتكون هذه حالته؟ ولكنك عدلت فأمنت فنمت يا عمر"(97).
كل هذا، لأن العدل في المفهوم الإسلامي، موصول بنظرته الكلية الشاملة، التي لا تفصل بين العقيدة والسلوك بل تعتبر السلوك مظهرًا جوهره العمل، المتسم بالصلاح، لذلك نُلاحظ أنّ النظرة الإسلامية للظلم لا تقتصر على الظلم الاجتماعي وحده وإنما تمتد إلى صميم العقيدة نفسها فيصف الله سبحانه الشرك بأنه ظلم بل ظلم موصوف بكونه عظيمًا، لأنّ الإيمان هو الحق والعدل، (فماذا بعد الحق إلا الضلال)(98) فيقول الله تعالى على لسان لقمان (لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم)(99) بهذا التوكيد، المؤيد بـ (الألف واللام) ومثل ذلك قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن)(100).
سادسًا: شروط خاصة للصلاحية للولايات العامة:
هناك بعض الشروط اشتجرت فيها كلمة الفقهاء لكونها ذات خصوصية لأعراض الولاية العامةولكن بحثها ضروري لكشف صورة الصلاحية التي تناولناها فيما تقدم، ونشير إلى أربعة منها على الخصوص (ولاية المفضول، ولاية النساء، ولاية غير المسلمين، طلب الولاية) والدارس للوظيفة العامة لا بد أن يضع في حسابه اعتبارات الزمان والمكان وأحوال الناس، على نحو يقتضي رؤية جديدة لوصف الوظائف من جهة، وتوصيف المؤهلات المطلوبة فيمن يتقدمون لولايتها، على أن تكون تلك الرؤية منسجمة مع مقتضيات السياسة الشرعية، بمفهومها الواسع(101) دون حاجة إلى التقيد الصارم، والخضوع التام لاختلافات الفقهاء الأقدمين، التي ربما تكون دواعيها، مبرراتها قد زالت، أو تعدّلت، أو ربما اقتضت الضرورة، واعتبارات الواقع الماثل اختلاف زاوية النظر إليها، وفق معطيات جديدة، تستوجب اجتهادات جديدة، توخيًا للمصلحة العامة الراهنة، تأكيدًا لصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، بفضل ما يتمتع به نظامه من مرونة، وتكامل، وشمول، لكونه من عليم خبير(102) في ضوء ما تقدم نستطيع مناقشة شروط الأهلية الخاصة على النحو التالي:
1. ولاية المفضول:
والمراد به اختيار الأقل كفاية وصلاحية للولاية العامة، مع وجود الأقدر، لأسباب ذاتية. أمر يوجب الإثم، ويستلزم الحرمة – كما أشرنا سابقًا – .
وأنّ الأصل هو تولية الأصلح، و"أنّ منع تولية المفضول هو الذي صار إليه معظم أهل السنة" كما قال الإمام الجويني(103) ولكنهم اختلفوا في الآثار المترتبة على تولية المفضول، هل يستقر على ولايته، وتُمضى أحكامه، أو يعزل عن الولاية؟ وهل يُعزل المفضول كلما ظهر فاضل؟ أو أنّ ظهور الفاضل لا يقدح في الاختيار السابق؟.
ذهب الأحناف إلى القول بأنه "إذا وجدت الشروط في جماعة بحيث يصلح كل منهم للإمامة، فالأولى بالولاية افضلهم، فإن ولي المفضول مع وجود الفاضل صحّت الإمامة، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل الشورى في السنة على أن يولّي الإمامة أيهم اتفقوا عليه، ومعلوم أنهم لم يكونوا سواء في الفضل، فعُلم من جعل الأمر على التخيير بين ولاية مفضول وفاضل، ومن القول بالتوقف والقول بتفضيل علي انّ الأفضلية مطلقًا ليست إلاّ شرط كمال، لا شرط صحة(104) والمطلوب هو توافر الحد الأمثل من شروط الولاية، وأنّ غيره يفوقه في تلك الشروط.
ويرى المالكية أيضًا في الراجح من المذهب جواز تقليد المفضول في وجود الفاضل، والأفضل، وهذا ما نقله "الدسوقي" في حاشيته بقوله "..والمذهب المعتمد أنه لا يشترط الأمثل، بل يصح تولية من هو دونة، مع وجوده حيث كان عالمًا، بل قال بعضهم: يصح تولية غير العالم، حيث تشاور العلماء(105) جريًا على قاعدة تسهيل أمور الناس، حتى لا تتعطل مصالحهم، إذا أن وجود الأمثل في كل حال، أمر متعذر.(/10)
أما الشافعية فلهم قولان في نفاذ تولية المفضول على المختار هو الجواز، فيما عدا منصب الإمامة. حكاه ابن أبي الدم عن: القاضي حسين، وإمام الحرمين الجويني(106)، لأن زيادة الفضل مبالغة في الاختيار، وليست معتبرة في الشروط. وبذلك يلتقي الشافعية في أحد قوليهم في انعقاد ولاية المفضول، مع رأي الأحناف والمالكية السابق بيانه.
أما الحنابلة فيمنعون ولاية المفضول إلاّ لقيام مانع، أو خوف فتنة، أو أن يكون الفاضل غير خبير بشئون السياسة، نقله ابن مفلح المقدسي(107).
وخلاصة القول أنّ القاعدة الثابتة في النظام الإسلامي هي ولاية الأصلح، ولكنه إذا حدث أن وقع الاختيار على المفضول في أكثرية الفقهاء عدم الجواز، لدرجة القول بعزله وتولية الفاضل إذا أمنت الفتنة، لما فيه من مفسدة، وتفويت مصلحة، وليس لولي الأمر تفويت المصالح من غير معارض(108).
وهكذا ذهب جمهور الفقهاء إلى صحة الاختيار وانعقاد الولاية للمفضول بعد تمامها، لأنّ الناس متفاوتون في الطبائع، وقضية التفاوت في الصلاح والجدارة، مسألة نسبية، متباينة تختلف باختلاف الأنظار(109) بحيث وقع الاختيار صحيحًا على المفضول فلا يجب عزله بظهور الأفضل، والعلة في ذلك واضحة، إذ أنّ ظهور الأفضل محتمل في كل آن، فلو جاز العدول إلى الأفضل في كل مرة لأدى ذلك إلى حال من عدم الاستقرار الوظيفي واضطراب هيكل الجهاز الإداري للدولة، مما يؤدي بالضرورة إلى الفوضى التي لا يرضى عنها الشارع الحكيم(110).
وقبل أن ننتقل من موضوع ولاية المفضول، تجدر الإشارة إلى الجدل الكثيف الذي دار بين الفقهاء حول جواز إجبار الأكفياء الممتنعين عن ولاية الوظائف العامة. إذا أيد البعض ذلك مستندًا إلى ضرورة صيانة المصالح العامة على سبيل السياسة الشرعية، التي تجيز لولي الأمر ذلك، لأنّ امتناع الأكفياء، من شأنه أن يضعف كفاية الولاية العامة، ويهدد مصالح الأمة بالضياع، كما استندوا إلى موقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من بعض اصحابه حين أبوا تولي الوظائف العامة حيث شدد عليهم في ضرورة قبولها.
أمّا القائلون بعدم جواز الإجبار على الولايات العامة فقد أسسوا مقولتهم على أنّ التولية نوع من العقود التي يشكل "الرضا" أهم عناصرها، حسبما اشار الماوردي بقوله: وإن امتنع عن الإمامة، لم يجبر عليها، لأنها مراضاة واختيار، لا يداخله إجبار..(111) كما أنّ من يُكره على الولاية لا يُنتظر منه استنفاد الجهد في سبيلها، ولا تكون له القابلية التامة للعطاء والبذل، وحسن الأداء، وقد يقل حماسه للعمل إلى الحد الذي يؤدي إلى تدني الإنتاج، وضعف الكفاية الإنتاجية.
2. ولاية غير المسلمين للوظائف في الدولة الإسلامية:
علماء الشريعة مجمعون على عدم جواز ولاية غير المسلمين الوظائف ذات الصبغة الدينية مثل (رئاسة الدولة، القضاء بين المسلمين، وزارة التفويض، الجهاد، إمارة الحج، الحسبة..الخ) والتي يكون لمن يليها سلطان على المسلمين بوصفهم ذاك، لما في ذلك من تناقض بين هدف الوظيفة العامة في الإسلام، وبين السبل المؤدية إلى ذلك الهدف، ولما فيه من تمكين لغير المسلمين على المسلمين، وذلك أمر منهي عنه شرعًا لقوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا)(112) والولاية العامة أعظم سبيل، ولأن ولاية غير المسلمين تجعل لهم قدرًا من العزة، والجاه، والسلطان، ولزوم الطاعة (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)(113) ثم إنّ الأمة مأمورة بأداء الأمانات إلى أهلها وغير المسلمين ليسوا أهلاً للولاية العامة المذكورة فلا يجوز اتخاذهم أولياء من دون المؤمنين (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء)(114)، (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين)(115) وغير ذلك من الآيات التي تمنع ولاية لغير المسلمين على المسلمين.
وعلى ذلك مضى الجمهور، كما قرر صاحب "الهداية" بقوله: "ولا يجوز أمان ذمي لأنه متهم، وكذا لا ولاية على المسلمين(116).
أما فيما عدا ذلك الوظائف ذات الصبغة الدينية المباشرة، فقد ذهب بعض العلماء، وفي مقدمتهم "الماوردي" إلى القول بجواز ولاية أهل الذمة، والعهد لوظائف: وزارة التنفيذ، والقضاء بين أهل ملتهم، وبالتالي كل ما سوى ذلك من الوظائف الطابع الفني، المهني، التخصصي، التنفيذي، التي لا هيمنة فيها على شؤون المسلمين كالخلافة، والتفويض، والمظالم، والحسبة..الخ لأن شرط الإسلام فيها معتبر(117).
وتستند حجة القائلين بتولية أهل الذمة والعهد قطاعًا من الوظائف العامة في الدولة الإسلامية، إلى أنّ من أحرز شرائط الكفاية من رعايا الدولة، يعد إضافة للثروة القومية، لا ينبغي إغفالها، ولا شك أن الذميين لهم ما للمسلمين من حقوق عامة، تستوجبها صفة المواطنة كما يقررها الفقه الإسلامي، وهو أمر تقتضيه فضيلة التسامح التي تميز بها الإسلام(118).(/11)
غير أنّ إمام الحرمين "الجويني" عارض هذا الرأي معارضة شديدة، ووصفه بأنه "عثرة ليس لها مُقيل" بل وصف "الماوردي" لكون زعم هذا الرأي بالخلو من التحصيل، واستطرد قائلا: "إنّ الثقة لابد من رعايتها، وليس الذمي موثوقًا به في أعماله، وأقواله، وتصاريف أحواله، وروايته مردودة، وكذلك شهادته، فكيف يقبل قوله فيما يسنده، ويعزيه إلى المسلمين؟ فمن لا تقبل شهادته باقة بقل(119) كيف يتنصب وزيرًا، ومبلغًا عن الإمام وسفيرًا(120) وهكذا يشتد الخلاف في ولاية أهل الذمة لمنصب وزارة التنفيذ، وأضرابها من الوظائف القيادية في الدولة الإسلامية، أمّا الولايات العُلا وذات الصفة الدينية فلا خلاف بينهم في عدم جواز ولايتها لغير المسلمين.
أمّا الولايات المدنية، فلا تتعارض ولا يهتم لها، مع الحكم العام الوارد في المنع، ولا سيما لمن انفرد منهم بالكفاية النوعية من أهل الذمة، مما يحتاج إليه المجتمع من باب فروض الكفاية، لأنّ العلم بالتدبير، وحذق المهنة من الأمور التي لا يمكن الالتفات عنها، ويمكن أن توضع ضوابط دقيقة لكيفية ممارسة هؤلاء لسلطاتهم الموصوفة في عقود العمل، والقوانين ذات الصلة، لأنها بتطبيق الرقابة الشعبية والإدارية، يمكن كشف أي انحراف قد يجنح إليه الموظفون العموميون "المسلم منهم، والذمي على السواء"(121).
ويؤيد هذا المذهب ما نلمحه في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً)(122). فقد قيدت هذه الآية النهي عن اتخاذ غير المسلمين بطانة، بقيود، هي إظهار البغضاء للمسلمين، وعملهم على إفساد أمرهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ومفهوم المخالفة أما من لم تظهر عداوتهم للمسلمين، فيجوز الاستعانة بهم في شؤون الدولة، وتقليدهم الوظائف التي لا ينطبق عليها هذا الاحتراز(123) لأجل ذلك نص الفقهاء على جواز تقليد الذميين وظائف الجزية والخراج (أي تحصليها)(124).
وقد سارت الدولة الإسلامية في اتباع سياسة استخدام غير المسلمين في وظائف الجهاز الإداري، وبخاصة في المستويات الدنيا من السلم الوظيفي، منذ أخريات عهد الخليفة عمر بن الخطاب، حيث أصبح ذلك أمرًا ملحوظًا(125)، لا سيما بعد اتساع رقعة الدولة الإسلامية ودخول مجتمعات جديدة فيها، الأمر الذي أدى إلى توافر كوادر من ذوي التخصص والمهارة من أهل الذمة، واقتصرت توليتهم في الغالب على وظائف التنفيذ، ولكن ما لبث ذلك أن أصبح إشكالية بعد ضعف الدولة، حيث استولى بعض أهل الذمة على الوظائف العُلا والقيادية (بالقوة) مما أدّى إلى اضطراب الأوضاع، وجعل الفقهاء يبحثون في التكييف الشرعي لولاية المستولي، وولاية الفاجر، وبذل الطاعة لهم والقتال معهم.
ومهما يكن من أمر، فإنّ الإسلام قد منح أهل الذمة حقوقًا كثيرة، وكفل لهم حياتهم، وأموالهم، وممارسة شعائرهم الدينية، بل أعطاهم الحق في ممارسة حقوقهم السياسية على نحو غير مسبوق، وإن كان الإسلام قد فرق بينهم وبين المسلمين في بعض الحقوق، فإنّ ذلك لا يرتبط بشخصيتهم الذاتية، وإنما يرتبط بمنطق المشروعية الإسلامية، وبتحقيق المصالح العامة التي يرعاها. ومن المعروف أنّ الحكم والإدارة في النظام الإسلامي ذو هدف ديني، وكل من يتولى ولاية من الولايات العامة عليه أن ينفذ أحكام الشرع، وغير المسلمين ليسوا أهلاً لذلك، ولا يجبرون عليه ما داموا كذلك(126). ومثل هذا التفريق موجود في كافة النظم – ولا سيما المذهبية منها – كما نراه اليوم، حيث يكون اعتناق العقيدة المذهبية (أي الأيدلوجية) للدولة هو معيار الصلاحية، لتولي الوظائف العامة، وارتقاء المناصب كيفما كانت مستوياتها، أو موقعها في هيكل الجهاز الإداري للدولة(127).
3. ولاية النساء للوظائف العامة:
اتفقت كلمة الفقهاء، على عدم جواز تولية المرأة رياسة الدولة (الخلافة)، لصفة فيها لقوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض)(128). ورياسة الدولة لكونها أصل الولايات العامة، من أهم دواعي القوامة على كافة شئون الأمة، بتدبير أمورها وحماية حدودها، وقيادة جيوشها، وإمامة صلواتها، وبسط الدين وسياسة الدنيا، على أقوم نهج، مما لا يقوى عليه تكوين المرأة وبنيتها، وكذلك لقوله: صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"(129).
قال بن حزم: "هذا بمثابة النص في موضوعنا"(130).
وبعد اجماع الفقهاء على عدم جواز ولايتها منصب الإمامة العظمى (رياسة الدولة) اختلفوا في جواز ولايتها القضاء. فذهب الأكثرية إلى عدم ولايتها إياه، بينما ذهب آخرون إلى القول بجواز ذلك فيما تقبل شهادتها فيه(131).(/12)
أما ما عدا الإمامة والقضاء (في الحدود والدماء) ووزارة التفويض، والإمارة فلا مانع من أن تلى النساء الوظائف العامة، متى ناسبت طبيعتها، ولاءمت قدراتها ومواهبها، واتفقت ظروف العمل مع تعاليم الإسلام العامة. إذ أنّ أساس كل ولاية هو القدرة على أدائها ممن هو أهل لقيام المصحلة به(132) وعليه فإنّ استحقاق المرأة لولاية أي منها رهين بقدرتها على القيام بها أفضل من غيرها(133).
والعرف السائد يمكنه تحديد نوعية الوظائف الملائمة، وبخاصة بعد أن تطورت أساليب مباشرة الوظائف، وأداء الأعمال، بسبب التقدم العلمي والتقني، وغيره بدرجة جعلت التمايز بين الوظائف لا تحكمه القدرة المادية البشرية وحدها، بل تدخل فيها متغيرات كثيرة ينبغي لدارس الوظيفة في الوقت الحاضر أخذها في الاعتبار، إذ أصبحنا نرى اليوم أنّ المرأة تستطيع بوساطة التكنولوجيا العسكرية إدارة أعقد المعارك وأخطرها بذات الدقة التي يستطيعها الرجل، وبذلك أصبحت قادرة على توجيه أعمال لم تكن أهلاً لها فيما سبق، الأمر الذي يثير تساؤلاً جدِّيًا عما إذا كانت للمرأة ولاية تلك الوظائف ونحوها، ولمَ لاَ؟ إذا توافرت لديها المُكْنة، وتحققت بولايتها لها المصحلة العامة(134).
ولكن هناك من يعارض هذا الرأي بشدة بحجة أنّ العلة في منع المرأة من ولاية الوظائف العامة على وجة الإطلاق هو الأنوثة، لأن النهي المستفاد من الحديث الشريف، (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)(135) ينص عليها، وهو يمنع كل امرأة في أي عصر من العصور أن تتولى أي شيء من الولايات العامة، المذكورة وهذا العموم تفيده صيغة الحديث، وأسلوبه كما يفيد المعنى الذي من أجله كان هذا المنع، وواضح أن الأنوثة ليس من مقتضاها عدم العلم، وإحراز المعرفة، ولا عدم الذكاء والفطنة، حتى يكون شيء من ذلك العلة، لأن الواقع يدل على خلاف ذلك. وعلى هذا فإن اقتدار المرأة على القيام بأعباء وظيفة ما لا يلغي علة المنع، بل تبقى قائمة.
وهذا الذي ذهب إليه أصحاب الراي من تعميم المنع على سائر الولايات أعلاها وأدناها يحتاج إلى دراسة وبحث من علمائنا المعاصرين، وفق مقتضيات الظروف والأحوال.
4. طلب الولاية:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ ولاية الوظيفة العامة، تعتريها الأحكام الشرعية الخمسة:
[أ] الوجوب: وذلك عندما ينفرد من تتوافر فيه شروط الصلاحية ولا يوجد سواه في الناحية، أو البلد، فيجب عليه قبول التولية، بل يجوز لوليّ الأمر إجباره، كما سنوضح فيما بعد.
[ب] الاستحباب: وذلك عندما يوجد هناك صالحون للولاية غيره، ولكنه أفضلهم.
[ج] التخيير: عندما يستوي جميع من توافرت فيهم شروط الصلاحية.
[د] الكراهة: وتكون إذا كان هو صالحًا للولاية، ولكن هناك من هو أصلح منه.
[هـ] الحرمة: وتكون عندما يكون عاطلاً عن شروط الصلاحية، ومع ذلك يزاحم غيره من الأكفياء، بسبب هوىً في نفسه أو طمع في استغلال الوظيفة لتحقيق أغراض خاصة.
غير أن بعض العلماء شدّدوا في منع طلب الولاية استنادًا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّا لا نُولي عَمَلنا هَذا مَن كَان لَهُ طَالِبًَا"(136) وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن سَأل القَضاء وكِّل إلى نَفْسِه ومَن أُجبِر عَلَيهِ يُنزِل الله عليه مَلَكًا فيسدده"(137)، ويؤكد الإمام الشوكاني هذا المذهب بقوله: "قال العلماء إنه لا يولى من يسأل الولاية.. فإنه يوكل إليها، ولا تكون معه إعانة.. وإذا لم تكن معه إعانة، لا يكون كفؤًا، ولا يولى غير الكفء لأنّ فيه تهمة.. وبالجملة إذا كان طالب الولاية مسلوب الإعانة، يُوَرَّطْ فيما دخل فيه، وخسر الدنيا والآخرة، فلا تحل تولية من كان كذلك"(138).
ولكن أكثرية العلماء على وجوب طلب الولاية ممن انفرد بالصلاحية، والكفاية، دون غيره، كما يجب على ولي الأمر.. عندئذ.. توليته، لأنّ الالتفات عنه في هذه الحالة يكون نوعًا من اتباع الهوى، وخيانة الأمانة.
ويرى هؤلاء أنّ القول – السابق – بمنع طلب الولاية، ليس على إطلاقه، بل هو عقيدة يمثل ما عند الطبراني من حديث زيد بن ثابت: نعم الشيء الإمارة، لمن أخذها بحقها، وجلّها، وبئس الشيء الأمارة لمن أخذها بغير حقها.
قال الحافظ: وهذا يقيد ما أطلق في الذي قبله، ويقيّد أيضًا ما أخرجه مسلم عن أبي ذر في طلبه الولاية (والذي سبق بيانه).. قال النووي هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية ولا سيما لمن كان فيه ضعف، وهو من دخل بغير أهلية، فإنه يندم، وأما من كان أهلاً، وعدل فيها فأجره عظيم كما تظاهرت به الأخبار، ولكن الدخول فيها خطر عظيم، ولذلك امتنع الأكابر عنها(139).
ويقيد إطلاق المنع كذلك، بطلب (سيدنا يوسف، وسيدنا سليمان) الولاية، فيما حكاه القرآن الكريم في قوله تعالى: (اجعلني على خزائن الأرض إنى حفيظ أمين)(140) وقوله تعالى: (وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي)(141).(/13)
غير أن أصحاب الرأي الأول، أجابوا على هذا بأنه يحتمل أن يكون منع الطلب في غير الأنبياء، ذلك لوثوق الأنبياء بأنفسهم بسبب العصمة وأيضًا لا يعارض الثابت في شرعنا، ما كان في شرع غيرنا، فيمكن أن يكون الطلب في شرع يوسف عليه السلام، سائغًا، وأما سؤال سليمان، فخارج عن محل النزاع، إذ محله سؤال المخلوقين لا سؤال الخالق، وسليمان عليه السلام إنما سأل الخالق(142).
ولكن الفيصل في طلب الولاية أو عدم طلبها، هو توافر شروط الكفاية والعلم بها، وإحراز شرائطها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا لمن أخذها بحقها، وأدّى الذي عليه فيها". ويجوز أن يعرف بالمتصف بالصلاحية للولايات من يعرفه من الناس، لدى ذوي السلطة والتولية(143).
وقد اتفق الفقهاء على حرمة طلب الولاية إذا كان في الناحية من هو أصلح منه، ويكره للإمام توليته مع أنه لو ولاّه انعقدت ولايته، وإنّ لم يكن في الناحية أصلح منه، يستحب له الطلب، وإذا انفرد وجب عليه الطلب(144). غير أنّ البعض قد خطّأ القول بتصحيح ولاية المفضول، إذا كان هناك من هو أصلح منه، لحرمة الطلب في هذه الحالة، حيث إذا جاز الطلب أو صح، فطلب الجائز الصحيح، كيف يكون حرامًا؟ وهما قولان في مذهب الشافعية، والأصح عندهم كراهة الطلب، مع انعقاد التولية، على ما نقله "ابن أبي الدم"(145).
بل إنّ الشافعية، والمالكية، يذهبون إلى أبعد من ذلك إلى القول باستحباب طلب الولاية ولزومه، لمن أحرز الشروط، ووثق من نفسه الكفاية والعدل، أو خاف ضياع حق له أو لغيره، حتى أنه يجوز له أن يبذل عوضًا ماليًا عليها، إذا دعا الحال ويعدونه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأمّا بذل المال في طلب ما لم يجب فحرام قطعًا – عندهم – لأنّ ذلك يكون نوعًا من الرشوة قال ابن عابدين: "والقضاة إذا تولّوا بالرّشا، أحكامهم باطلة"(146).
ويتضح مما تقدم أن طلب ولاية الوظائف العامة جائز لمن أحرز الشروط المعلنة طبقا للمؤهلات والخبرات والمهارات المطلوبة.
ولعل ما يتم اليوم من تقدم المرشحين بطلباتهم لجهات الاختصاص مما يدخل في هذا الباب من الجواز، ولا غبار عليه، حيث أن تحديد أكثر المتقدمين ملاءمة وصلاحية لا يتأتى إلا بعد الفحص والكشف والمعاينة والاختبار وإجراء المقايسات المختلفة، وكلها أمور لاحقة لإجراءات تقديم التوظيف، ومن ثم فإن طلب الأكفياء لدى إدارات القوى العاملة في هذا الزمان مما يدخل في نطاق الجواز، وهو غير معيب من الوجهة الشرعية، متى توافرت الضمانات والشروط الموضوعية.
والله ولى التوفيق،،،
--------------------------------------------------------------------------------
* أستاذ السياسة الشرعية بكلية الشريعة والقانون (جامعة أمدرمان الإسلامية)، وكلية المعلمين (تبوك).
(1) الإمام الشافعي: الرسالة طبعة دار التراث، القاهرة، 1975م، ص 197. ابن رجب الحنبلي: القواعد في الفقه الإسلامي، القاهرة 1972م، ص 166. الغزالي: الوجيز في فقه الإمام الشافعي، القاهرة، 1917م، ص 237.
(2) أصول السرخسي: طبعة دار الكتاب العربي، القاهرة، 1954م، 2/333.
(3) الخوارزمي: شرح الهداية، الحلبي وأولاده، القاهرة 3/68.
(4) الإمام القرافي: الفروق، (الفرق 223) مطبعة إحياء الكتب، القاهرة 1346هـ، ابن عابدين: الحاشية: القاهرة، 1966م، 4/382.
(5) ابن عابدين: قرة عيون الأخبار، بولاق، القاهرة 1299هـ 1/41-42، حمدي عبد لامنعم: ديوان المظالم، دار الشروق، القاهرة 1983م، ص 24.
(6) الدبوسي: تأسيس النظر، الخانجي، القاهرة، 1319هـ، ص 18.
(7) انظر: بحث د.إبراهيم عبد الصادق "الاختيار للوظيفة العامة، دراسة مقارنة، رسالة دكتوراه في السياسة الشرعية، بكلية الشريعة والقانون، جامعة الأزهر، 1983م.
(8) استخدم العلماء لفظ "وظيفة" في الفقه الإسلامي للدلالة على ما يقدر للإنسان ويربط له من طعام أو رزق وقد يراد بها الخراج أو العشر وهو من قبيل "المجاز" من تسمية الشيء باعتبار ما يؤول إليه، وهذا المفهوم خارج عن موضوعنا، انظر: دور الحكام شرح غرر الأحكام لـ"ملة خسرو"، القاهرة، 1294هـ، 1/376. غير أنّ الفقهاء استخدموا لفظ الوظيفة بمعناها المتعارف عليه اليوم "السلطة العامة"؛ ولعلهم أول من أضفى عليها هذا المعنى. انظر: القلقشندي: مآثر الإنافة في معالم الخلافة، بيروت 1984م 1/74. وابن خلدون: المقدمة، طبعة دار الشعب، القاهرة، ص 195. وقد استخدم ابن خلدون ألفاظًا بديلة عن لفظ "وظيفة" السائد عنده مثل الخطط، المراتب..الخ.
(9) ابن تيمية: السياسة الشرعية، المرجع السابق، ص 17.
(10) د. محمد عبد المنعم خميس: الإدارة في صدر الإسلام، القاهرة، 1972م، ص 57.
(11) أخرجه البخاري في كتاب الأحكام برقم 6605. وانظر: المرجع السابق.
(12) سنن أبي داود مع حاشية عون المعبود "هامش"، بيروت 1319هـ، 3/91.
(13) سورة الحجر، الآية (42).
(14) سورة النحل، الآية (100).
(15) سورة الإسراء، الآية (33).(/14)
(16) د. إبراهيم عبد الصادق، المرجع السابق، ص 9.
(17) د. إبراهيم عبد الصادق، نفس المرجع.
(18) انظر: المعجم الوسيط، من منشورات مجمع اللغة العربية بالقاهرة، 1972م، 1/52.
(19) الماوردي: الأحكام السلطانية، القاهرة، 1966م، ص 6.
(20) ابن عقيل الحنبلي (أبو الوفاء علي): كتاب الفنون، دمنهور، 1991م، 1/267. انظر ابن القيم: الطرق الحكيمة، المرجع السابق ص 3 وما بعدها.
(21) أخرجه البخاري في الرفاق برقم 6015، وأحمد في مسند المثرين برقم 8374. وفي لفظه (تويد) بدلاً من (أسند).
(22) ابن أبي الربيع (شهاب الدين أحمد بن محمد "ت 642"): سلوك المالك في تدبير الممالك تحقيق د. حامد ربيع، القاهرة، 1983.
(23) صحيح البخاري، المرجع السابق 23/17.
(24) ابن تيمية: السياسة الشرعية، في إصلاح الراعي والرعية، القاهرة 1976م، ص 27.
(25) الماوردي: قوانين الوزارة، إسكندرية 1978م، ص 28.
(26) الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية، تونس، 1366هـ، ص 44-45.
(27) د. حمدي أمين عبد الهادي: نظرية الكفاية في الوظيفة العامة، ص 282، 288، 289، انظر: د. سليمان الطحاوي: مبادئ علم الإدارة العامة، القاهرة، 1965م.
(28) أبو حنيفة النعمان (الشيعي): دعائم الإسلام في ذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام، طبعة دار المعارف، القاهرة، 1969م، 1/369، 370. انظر: تذكرة ابن حمدون، مكتبة الخانجي القاهرة، 1937م، ص 39-40.
(29) عبد الله جمال الدين: تعريب السياسة الشرعية، القاهرة، 1318هـ، ص 15-17.
(30) ابن القيم: الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية، القاهرة 1318هـ، ص 15-17.
(31) الشاطبي: الاعتصام، مطبعة المنار، القاهرة، 1914م، 2/239.
(32) سورة الحجرات الآية (13).
(33) السمرقندي (أبو الليث) تحفة الفقهاء، دمشق 1959م، 3/642.
(34) د. حمدي أمين عبد الهادي: نظرية الكفاية في الوظيفة العامة، المرجع السابق، ص 230.
(35) أخرجه مسلم في الإمارة برقم 3404.
(36) الإمام الغزالي (أو حامد): ميزان العمل، تحقيق د. سليمان دنيا، القاهرة، 1964م، ص 273.
(37) سورة الأنعام، الآية (165).
(38) سورة يوسف، الآية (76).
(39) سورة الزخرف، الآية (32).
(40) سورة القصص، الآية (26).
(41) سورة النساء، الآية (58).
(42) سبق تخريج الحديث، وانظر: أبو عبيد القلم بن سلام: الأموال، القاهرة، 1975م، ص 11.
(43) ابن أبي الربيع: سلوك المالك، المرجع السابق، ص 83.
(44) صحيح البخاري: مرجع سابق 17/359.
(45) سورة القصص، الآية (77).
(46) سورة الشعراء، الآيتان (151-152)
(47) سورة الفجر، الآيتان (11-12).
(48) ابن تيمية: السياسة الشرعية، ص 26.
(49) الإمام الغزالي: التبر المسبوك في نصيحة الملوك، القاهرة، 1967م.
(50) الماوردي: الأحكام السلطانية، مرجع سابق، ص 27. قوانين الوزارة، ص 114. انظر: الإمام الغزالي: سر العالمين وكشف ما في الدارين، القاهرة، 1909م، ص 22.
(51) سورة العلق، الآيات (3-5)، وسورة الأنعام، الآية (7).
(52) سورة الزمر، الآية (9).
(53) سورة فاطر، الآية (28).
(54) سورة محمد، (19).
(55) من طرف حديث أخرجه الترمذي في المقدمة برقم 220، ولفظه: (طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب).
(56) سورة النساء، الآية (43).
(57) ابن حزم الأندلسي: الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج/4.
(58) د. إبراهيم عبد الصادق: الاختيار للوظيفة العامة في النظام الإسلامي، دراسة مقارنة، رسالة دكتوراه، بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة، 1983م ص 120.
(59) محمود شيث خطاب: بين العقيدة والقيادة، بيروت، 1974م، ص 429.
(60) الماوردي: الأحكام السلطانية، مرجع سابق، ص 19-20.
(61) ابن خلدون: المقدمة، مرجع سابق، 2/522، 720.
(62) سورة القصص، الآية (26).
(63) أخرجه مسلم في القدر برقم 4816. وانظر: ابن حجر العسقلاني: بلوغ المرام، حديث رقم 1554 (القاهرة).
(64) د. سليمان الطماوي: عمر بن الخطاب وأصول السياسة والإدارة الحديثة، مرجع سابق ص 214، 273-275.
(65) ابن قتيبة الدينوري: الإمامة والسياسة، القاهرة، 1967م، ص 46-51.
(66) عبد الله جمال الدين: تعريب السياسة الشرعية، المرجع السابق، ص 20.
(67) ابن تيمية: مرجع سابق، ص 16.
(68) سورة التغابن، الآية (16)
(69) سورة البقرة، الآية (286).
(70) أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة برقم 6744.
(71) الماوردي: الأحكام السلطانية، مرجع سابق، ص 7.
(72) القرافي: الفروق، (الفروق 96) مكتبة إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1346هـ انظر: حاشية ابن عابدين، القاهرة، 1966م 5/364.
(73) ابن تيمية: السياسة الشرعية، مرجع سابق ص 16.
(74) أخرجه البخاري في المغازي برقم 3882.
(75) أبوبكر الطرطوشي: سراج الملوك، القاهرة، 1306هـ، ص 114، 153. انظر طاش كبرى زادة: مفتاح السعادة، القاهرة، 1/409.(/15)
(76) خالد محمد خالد: معجزة الإسلام عمرو بن عبد العزيز، القاهرة، 1977م، ص 95.
(77) أخرجه الشيخان: البخاري في الأدب برقم 5649، ومسلم في البر والصلة والآداب برقم 4723.
(78) الطبري: تاريخ الأمم، القاهرة، 1939م، 2/460 وما بعدها. انظر: سيرة ابن هشام: القاهرة، 1974م، 3/153.
(79) سورة البقرة، الآية (269).
(80) الشاطبي: الاعتصام، مرجع سابق، 2/260.
(81) محمد كرد علي: الإدارة الإسلامية في عز العرب، القاهرة، 1968م، ص 43.
(82) سورة سبأ، الآية (3).
(83) معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية، دار الفضيلة، القاهرة، 2/483.
(84) السيوطي: الأشباه والنظائر، القاهرة 1959م، ص 384. انظر: أحكام القرآن للجصاص، القاهرة، 1374هـ، 2/256.
(85) د. إبراهيم عبد الصادق: الاختيار لولاية الوظائف العامة في النظام الإسلامي مرجع سابق، ص 128.
(86) الخوارزمي: الكفاية في شرح الهداية طبعة الحلبي، القاهرة، 1304هـ.
(87) المسامرة (لكمال الدين بن أبي شريف) شرح المسايرة (للكمال بن الهمام)، مطبعة السعادة، القاهرة، 1347هـ، 2/166-167.
(88) الهداية: مرجع سابق، 3/154-155.
(89) الشيخ الصاوي: بُلْغة السالك لأقرب المسالك، القاهرة، 1978م، 3/362-364.
(90) الماوردي: الأحكام السلطانية، مرجع سابق ص 18. انظر: العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، القاهرة، 1969م، 1/77.
(91) أبو يعلي الفراء: الأحكام السلطانية، القاهرة، 1966م، ص 20.
(92) سورة البقرة، الآية (124).
(93) سورة البقرة، الآية (124).
(94) سورة البقرة، الآية (205).
(95) سورة الأنعام، الآية (153).
(96) الطبري (ابن جرير): تاريخ الملوك مرجع سابق، 2/260.
(97) الإمام الغزالي: التبر المسبوك مرجع سابق، ص 21.
(98) سورة يونس، الآية (32).
(99) سورة لقمان، الآية (13).
(100) سورة الأنعام، الآية (82).
(101) الإمام الأكبر الشيخ عبد الرحمن تاج: السياسة الشرعية والفقه الإسلامي، ط/1، القاهرة، 1953م، ص 10-11، 20-26.
(102) د. إبراهيم عبد الصادق: مرجع سابق، ص 138.
(103) الإمام الجويني: الإرشاد إلى قواطع الأدلة، القاهرة، 1950م، ص 430. انظر: غياث الأمم، الجويني أيضًا، اسكندرية، 1981م ص 80.
(104) الكمالان: المسامرة شرح المسايرة، مرجع سابق، 2/279 – 280. انظر: تحفة الفقهاء للسمرقندي، مرجع سابق، 3/625. الكاساني: بدائع الصنائع، القاهرة، 7/3-4.
(105) حاشية الدسوقي: مرجع سابق، 4/113.
(106) ابن أبي الدم: مرجع سابق، ص 36-37. انظر: الماوردي في الأحكام السلطانية، مرجع سابق، ص 8. والوجيز للغزالي، مرجع سابق، 2/233.
(107) ابن مفلح المقدسي: الآداب الشرعية والمنح المرعية، مرجع سابق، 1/305.
(108) العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام مرجع سابق، ص 80-81.
(109) د. محمد فاروق النبهان: نظام الحكم في الإسلام، الكويت، 1974م، ص 475.
(110) د. محمد رأفت عثمان: رياسة الدولة في الفقه الإسلامي، القاهرة، 1980م، ص 213-214.
(111) الماوردي: الأحكام السلطانية، مرجع سابق، ص 7.
(112) سورة النساء، الآية (141).
(113) سورةا لمنافقون، الآية (8).
(114) سورة المائدة، الآية (51).
(115) سورة آل عمران، الآية (28).
(116) شرح الهداية: مرجع سابق، 2/755.
(117) الماوردي: الأحكام السلطانية، مرجع سابق، ص 27-28. انظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلي الفراء، مرجع سابق، ص 32. واللاذري: فتوح البلدان، المطبعة السلفية، القاهرة، ص 293.
(118) د. إبراهيم عبد الصادق، مرجع سابق، ص 151.
(119) البقل: جمعه بقول: وهي جميع النباتات العشبية التي يتغذى بها الإنسان (من فصيلة الخضروات)، و"الباقة" هي الحزمة (والمراد لا تقبل شهادته في حزمة خضر). انظر: المنجد، بيروت، 1964م، ص 45-55.
(120) الإمام الجويني: غياث الامم، مرجع سابق، ص 114-115.
(121) الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة، دار الفكر، بيروت، 2/149 -150.
(122) سورة آل عمران، الآية (118).
(123) الطبري: جامع البيان، القاهرة، 7/254.
(124) الماوردي، الأحكام السلطانية، مرجع سابق، ص 126. انظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلي، مرجع سابق، ص 124.
(125) البلاذري: فتوح البلدان، مرجع سابق، ص 163.
(126) د. محمد فاروق النبهان: نظام الحكم الإسلامي، مرجع سابق، ص 218-219.
(127) د. مصطفى كمال وصفي: المشروعية في الدولة الإشتراكية، مقال بمجلة العلوم الإدارية، العدد الثاني، القاهرة، 1966م، ص 130.
(128) سورة النساء، الآية (34).
(129) أخرجه البخاري في المغازي برقم 4073، وانظر: الترمذي: السنن ج/9، ص 119، المطبعة السلفية المدينةالمنورة.
(130) ابن حزم الأندلسي: المحلّى، بيروت، 8/135.
(131) الجويني: الإرشاد، مرجع سابق، ص 137. ابن أبي الدم: أدب القضاء، مرجع سابق، ص 21-22. ابن قدامة: المغني، مصدر سابق، 11/308. القلقشندي: مآثر الإنافة، بيروت، 1980م، 1/31-32.(/16)
(132) القرافقي: مرجع سابق، 2/197. العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام، مرجع سابق، 1/50-53. د. عبد الحليم العيلي: الحريات العامة في الفكر السياسي في الإسلام، دار الفكر العربي، القاهرة، 1974م.
(133) د. إبراهيم عبد الصادق، مرجع سابق ص 156.
(134) الشيخ عبد العام عطوة: محاضرات في نظام القضاء في الإسلام لطلاب الدراسات العليا لكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر، 1972م.
(135) سبق تخريجه.
(136) صحيح البخاري (الشرح الكرماني)، مرجع سابق، 10/96، 24/197.
(137) أخرجه الترمذي في الأحكام برقم 1245.
(138) الإمام الشوكاني (محمد بن علي): نيل الأوطار، القاهرة، 1344هـ، 9/159.
(139) الشوكاني: نيل الأوطار مرجع سابق 9/159. انظر: شرح كنز الدقائق، للزيلعي، القاهرة، 1314هـ، 4/176.
(140) سورة يوسف، الآية (55).
(141) سورة ص، الآية (35).
(142) الشوكاني: مرجع سابق، 9/159.
(143) أبو بكر الحصاص: أحكام القرآن، مرجع سابق، 3/214.
(144) الإمام النووي: نهاية المحتاج، القاهرة، 8/236.
(145) ابن أبي الدم الحموي (شهاب الدين علي): أدب القضاء، تحقيق د. محمد مصطفى الرحيلي، دمشق، 1975م، ص 38.
(146) حواشي الشرواني: القاهرة، 1315هـ، 10/102-103. انظر: حاشية الدسوقي، لابن عرفة، القاهرة، 1894م، 4/130. بلغة السالك لأقرب المسالك: 3/264. الشاطبي: الاعتصام، مرجع سابق، 2/239.
* أستاذ السياسة الشرعية بكلية الشريعة والقانون (جامعة أمدرمان الإسلامية)(/17)
فقه الصيام نزهة للخاطر ...
الشيخ محمد الهدار ـ صحيفة أخبار بنغازي / الشبكة ...
الحمد لله الذي جعل الصيام جُنة , ورياضة للنفوس المطمئنة ، وسببا موصلا للجنة ، أحمده على نعمه وأسأله المزيد وأصلي وأسلم على خيرته من خلقه سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الوعد والوعيد , ثم أما بعد ...
تعريف وبيان :
مما لا شك فيه أن الصيام معناه لغة : الإمتناع ,فكل من امتنع عن شيء فهو صائم عنه أما بالنسبه لمعناه الشرعي : فهوالإمتناع عن شهوتي الفرج والبطن من طلوع الفجر إلى الليل بنية ؛ قال تعالى :) فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ). وقال تعالى ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) الآية دلت على أن الجماع في نهار رمضان حرام .
حكم صوم رمضان :
وقد أجمع العلماء على أن الصيام منه ما هو ركن واجب , ومنه ما هو واجب غير ركن , ومنه ما هو مستحب ومنه ما هو حرام ومنه ما هو مكروه , فأما الصوم الذي هو ركن واجب فهو صيام شهر رمضان والدليل على كونه ركنا قوله صلى الله عليم وسلم : ( بني الإسلام على خمس , شهادة ألا آله إلا الله وأن محمد رسول الله وإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا ) . ودليل وجوبه قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) ، ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القران هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه )) الآيات ..
على من يجب الصوم :
هذا وقد أجمع العلماء على أن الصيام يجب على المسلم العاقل البالغ الصحيح المقيم , ويجب أن تكون المرأة طاهرة من الحيض والنفاس , وعليه فلا يجب الصيام على الكافر ولا والمجنون ولاو الصبي ولا المريض مرضا يؤثر على حالته الصحية إن هو صام وكذلك لا يجب على المسافر سفر قصر في غير معصية كما أنه لا يجب على حائض ولا نفساء ولا شيخ كبير أو عجوز مسنة ولا حامل ولا مرضع ، لكن بعض هؤلاء لا صيام عليهم مطلقا ، وإن صاموا لا ينعقد صيامهم ولا يصح منهم ، بل يعتبرون آثمين شرعا ؛ فالكافر لا يصح منه الصيام إلا بدخوله في الإسلام ، والمجنون لا يصح منه الصيام ، ولا يعد آثما لأنه مرفوع عنه القلم والحائض والنفساء لا يصح منهما الصيام وإن صامتا وقعتا في الإثم ، أما بالنسبة للصبي وإن كان لا يجب عليه الصيام إلا أنه ينبغي لوليه أن يأمره به ليعتاد من الصغر مادام مستطيعا له وقادرا عليه ، أما بالنسبة للمريض مرضا مزمنا فلا يجب عليه الصيام وعليه أن يفدي عن كل يوم والفدية هي إطعام مسكين ، أما المريض مرض غير مزمن فعليه الفطر في حال مرضه وبعد زوال المرض عليه أن يقضي ما فاته من الصيام ، وكذا الحائض والنفساء ، أما بالنسبة للحامل والمرضع إن خافتا على نفسيهما أو ولديهما أو على الاثنين معا فلا يجب عليهما الصيام ويجوز لهما الإفطار وعليهما القضاء بعد زوال العذر ، ومن العلماء من يلزمهما بالفدية مع القضاء والمسألة فيها سعة ، أما بالنسبة للشيخ الكبير وكذا المرأة العجوز ويلحق بهما أصحاب المهن الشاقة الذين لا يجدون متسعا من الرزق غير ما يزاولون من أعمال فهؤلاء جميعا يرخص لهم في الفطر إذا كان الصيام يجهدهم ويشق عليه مشقة شديدة في جميع فصول السنة ، وعليهم أن يطعموا عن كل يوم مسكينا ، كما جاء في فقه السنة للسيد سابق رحمه الله .
الصوم والسفر :(/1)
أما بالنسبة للمسافر سفر قصر مباح فيجوز له الفطر وقد اختلف العلماء في أيهما أفضل في حقه الفطر أم الصوم ؟ فقال أحمد وبعض العلماء الفطر أفضل , وقال جمهور من العلماء ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي إن الصيام أفضل لمن قوي عليه والفطر أفضل لمن لا يقوى عليه ,,قلت ,, المرجح لدي الخيار للمسافر نفسه فإن رأى الفطر أنسب لحاله أفطر , وإن رأى الصوم أنسب لحاله صام ودليلي على ذلك ما رواه الشيخان واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ( غزونا مع رسول الله لست مرت من رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم وفي رواية لمسلم ووافقه البخاري وأبوا داوود عن حميد قال ( سئل أنس رضي الله عنه عن صوم رمضان في السفر , فقال : سافرنا مع رسول الله في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ) وفي رواية للشيخين وأبي داود واللفظ لمسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت سئل حمزة بن عمر الأسلمي رسول الله صلى لله عليه وسلم عن الصيام في السفر فقال : إن شئت فصم وإن شئت فافطر ) الحديث , وهذا كله محمول على عدم المشقة فإن كانت هناك مشقة فيتعين الفطر حينئذ لقوله صلى الله عليه وسلم (ليس من البر أن تصومو ا في السفر ) وذالك لما رأى رجلا قد اجتمع الناس عليه وقد ظلل عليه , فقال ماله ؟ قالوا رجل صائم , فقال الحديث فالنهي عن الصيام في السفر وذالك بالنظر لقرينة الحال ..
مفسدات الصوم :
هذا وليكن معلوما أن الصوم يفسد بالأكل والشرب , وكل ما يدخل للمعدةعن طريق الفم أو الأنف عمدا ويجب القضاء والكفارة عمن أفسد صومه بالجماع العمدي واختلف العلماء فيما عداه ؛ فقال المالكية بالقضاء والكفارة في الجميع ، ووافقهم بعض الفقهاء ، ويلحق بالمفسدات السابقة تعمد القيء لما رواه أهل السنن وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من ذرعه القيء -أي غلبه - فليس عليه قضاء , ومن استقاء عمدا فليقض ) ، واعلموا أيها الأفاضل أن الإبر العضلية وما في حكمها وما يدخل في الأذن والعين من الأدوية وكذا البخاخ الذي يستعمله مرضى الربو (الآزما ) كل هذه الأشياء لا تبطل الصوم وقال مالك - رحمه الله - في مثل هذه الأشياء ,كما الكحل في العين , ودهن الرأس بالزيت , أو صبغه بالحناء , قال كما روى عنه اشهب : ما كان الناس يتشددون في مثل هذه الأشياء , ويعني بالناس علماء عصره ، وخصوصا فقهاء المدينة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم .
الأكل والشرب ناسيا :
أما بالنسبة لمن أكل أو شرب ناسيا فيرى كثير من أهل العلم أنه يتم صومه ولا يلزمه قضاء ولا كفارة لما رواه الشيخان من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا نسى أحدكم وهو صائم فأكل أو شرب , فليتم صومه ؛ فإنما أطعمه الله وسقاه ) قال ابن حجر في الفتح : فذهب الجمهور إلى عدم الوجوب - أي القضاء - وعن مالك يبطل صومه وعليه القضاء قال عياض هذا هو المشهور عنه ، وهو قول شيخه ربيع , وجميع أصحاب مالك , لكن فرقوا بين الفرض والنفل وقال الداودي ـ وهو من المالكية - : لعل مالكا لم يبلغه الحديث . قلت : ومما ينبغي أن يعلم استحبابه عدم المبالغة في المضمضة والاستنشاق في أثناء الصيام واعلموا أن وضع الدواء السائل في الأنف يفطر إن وصل منه شيء للحلق فالحذر الحذر من ذلك إلا لضرورة قصوى فمن اضطر لذلك وجب عليه القضاء ، ويجوز استخدام السواك للصائم وهو المتمثل في عود الآراك فقد روى البخاري عن ابن ربيعة , ( قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم ما لا أحصي ولا أعد ) قال ابن حجر في الفتح وصله أحمد وأبو داود والترمذي وأخرجه ابن خزيمه في صحيحه , هذا بشأن السواك أما بالنسية للمعجون الخاص بالأسنان وما في حكمه فهذا لا يصح فعله أثناء الصيام لأنه يتحلل ويجد الصائم طعمه في لعابه ، فوجب الاحتراز من ذلك .
ويجوز الاستحمام والانغماس في الماء أثناء الصوم كما تجوز المضمضة لشدة العطش مع التحرز من أن ينزل منها شيء إلى الجوف ، روى أحمد ومالك وأبو داوود باسناد صحيح عن أبي بكر عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه حدثه فقال : ( لقد رأيت الرسول- صلى الله عليه وسلم - يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر ) الحديث . ومما يجوز فعله للصائم القبلة لمن قدر على ضبط نفسه , والأولى تركها .. أكتفي بذالك وللحديث بقية إن شاء الله ...(/2)
فقه المرور وآدابه في الإسلام
د.مسفر بن علي القحطاني
الأستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر لعمر انطلق بنا لنزور أم أيمن كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما دخلا عليها، بكت. فقالا:" ما يبكيك فما عند الله خير لرسوله". قالت:" ابكي أن وحي السماء انقطع". فهيجتهما على البكاء فجعلت تبكي ويبكيان معها [1].
لقد كان وحي السماء للحياة أشبه بسريان الروح في الجسد الميت الخاوي أو كالنور الساطع الدفيء يشع ويضيء في غياهب الظلام الدامس كما قال الله عز وجل:"ولقد أوحينا إليك روحا من امرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا " [الشورى52] إن بكاء الصحابة لنقطاع الوحي لم يقل عن بكائهم لفقد شخص النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان ذلك الوحي بالنسبة لهم كالبلسم الشافي من كل أمراض ومشكلات المجتمع؛ تأتي المرأة الواهنة لتشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها في مشكلة خاصة لم يعلم بها أحد، فينزل الوحي معالجاً لها ومصلحاً لهما، كما في قوله تعالى "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير"[المجادلة1] فضلاً عن دور الوحي في تنظيم حياة الناس في جميع المجالات وحل جميع مشكلاتهم الصغرى والكبرى.
ولعلنا في هذا المقام أن نسلط الضوء على دور الشريعة الإسلامية في تنظيم شأن من شؤون الحياة وهو المتعلق بمرور الناس في الطرقات والحقوق والآداب التي أمر بها الإسلام للمارة وأهل الطريق.
والنصوص الشريعة في هذا الباب عديدة و مستفيضة نورد منها على سبيل المثال:
ما جاء في قوله تعالى:"وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما"[الفرقان63]
وقوله تعالى:"وإذا سمعوا اللغو اعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا نبتغي الجاهلين " [القصص55]
وقوله تعالى:" ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً. ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا . كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها " [الإسراء36، 37]
كما بين النبي صلى الله عليه وسلم بعض حقوق الطريق وآداب المرور في عدة توجيهات منها:
ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إياكم والجلوس في الطرقات " قالوا يا رسول الله مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه " قالوا وما حقه قال:" غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " [2]
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر بعض أبواب الخير قوله: "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك الرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة" [3] .
إن مصادر الشريعة الموثقة قد طفحت بأمثال هذه النصوص مؤكدة هذه الحقوق، ومرشدة إلى هذه الأخلاق.
وسنؤكد على بعض آداب الطريق وحقوق المارة من خلال النقاط التالية:
1- المشي والركوب على هون :
فعباد الرحمن: هم خلاصة البشر يمشون في الطريق هوناً، لا تصنُّع ولا تكلف، ولا كبر ولا خيلاء، مشية تعبر عن شخصية متزنة، ونفس سوية مطمئنة تظهر صفاتها في مشية صاحبها. وقارٌ وسكينةٌ، وجدٌّ وقوةٌ من غير تماوتٍ أو مذلة، تأسياً بالقدوة الأولى محمد صلى الله عليه وسلم فهو غير صخَّابٍ في الأسواق ، حين يمشي يتكفَّأ تكفؤاً، أسرع الناس مشية وأحسنها وأسكنها، هكذا وصفه الواصفون، تلك هي مشيةُ أولي العزم والهمة والشجاعة، يمضي إلى قصده في انطلاقٍ واستقامةٍ لا يُصعر خده استكباراً، ولا يمشي في الأرض مرحاً. لا خفق بالنعال، ولا ضرب بالأقدام، لا يقصد إلى مزاحمة، ولا سوء أدب في الممازحة، يحترم نفسه في أدب جمٍّ، وخلقٍ عالٍ لا يسير سير الجبارين، ولا يضطرب في خفة الجاهلين. إنه المشي الهون المناسب للرحمة في عباد الرحمن، وحين يكون السير مع الرفاق فلا يتقدم من أجل أن يسير الناس خلفه، ولا يركب ليمشي غيره راجلاً.
ولا يختلف الحال عمن ركب سيارته فإن عليه السير باعتدال واطمئنان من غير تهور أو مزاحمة .
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :"السرعة المقيدة عند الجهات المختصة الأصل أنه يجب على الإنسان أن يتقيد بها لأنها أوامر ولي الأمر وقد قال الله تعالى :"يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم "[النساء 59]" [4]
2- غض الصوت:(/1)
أما غض الصوت وخفضه فهو من سيما أصحاب الخلق الرفيع، وذلك في الطريق، وأدب الحديث أولى وأحرى. إنه عنوان الثقة بالنفس، وصدق الحديث، وقوة الحجة يصاحب ذلك حلم وصفح، وإعراض عن البذاءة من القول، والفحش من الحديث تجنباً لحماقة الحمقى، وسفاهة السفهاء.ولا يرفع صوته من غير حاجة إلا سيء الأدب ضعيف الحجة، يريد إخفاء رعونته بالحدة من الصوت، والغليظ من القول. وسائق السيارة يلزمه غض صوته فلا يرفع صوت المذياع أو مسجل السيارة ليسمع من في الشارع ويؤذي المارة من حوله ، كما يلزمه أن يراعي غيره عند استخدام منبه السيارة فلا يستعمله إلا عند الحاجة مراعاة لشعور إخوانه المسلمين .
3-غض البصر :
فذلك حق لأهل الطريق من المارة والجالسين.. تحفظ حرماتهم وعوراتهم، فالنظر بريد الخطايا، وإنك لترى في الطرقات والأسواق من يُرسل بصره محمَّلاً ببواعث الفتنة، ودواعي الشهوة، وقد يُتبع ذلك بكلمات وإشارات قاتلة للدين والحياء مسقطة للمروءة والعفاف.كماينبغي على راكب السيارة مراعاة حرمات الناس وعوراتهم أثناء الوقوف عند الإشارات المرورية لقرب السيارات بعضها من بعض ، كما ينبغي الحذر من المعاكسات التي أصبحت ظاهرة مرضية ومنكراً علنياً في كثير من الأسواق والمجمعات التجارية .
4-كف الأذى :
وكف الأذى عن الطريق من أبرز الحقوق. والأذى كلمة جامعة لكل ما يؤذي المسلمين من قول وعمل، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس)) [5] .
وحينما طلب أبو برزة – رضي الله عنه – من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه شيئاً ينتفع به قال: ((اعزل الأذى عن طريق المسلمين)) [6] .
وفي خبر آخر: ((بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخَّره، فشكر الله له؛ فغفر له)) [7] .
وإذا كان هذا الثواب العظيم لمن يكف الأذى، فكيف تكون العقوبة لمن يتعمد إيذاء الناس في طرقاتهم ومجالسهم، ويجلب المستقذرات، وينشر المخلفات في متنزهاتهم، وأماكن استظلالهم.
روى حذيفة بن أسيد – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من آذى المسلمين في طرقهم؛ وجبت عليه لعنتهم)) [8].
وفي حديث أبي هريرة: ((اتقوا اللعَّانين)) قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: ((الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلِّهم)) [9].
5-الطريق ملك للجميع :
وهو من المرافق العامة ، للجميع الانتفاع به بما لا يضر الآخرين باتفاق الفقهاء ، ومنفعته الأصلية : المرور فيه ، لأنه وضع لذلك ، فيباح لهم الانتفاع بما وضع له ، وهو المرور بلا خلاف ، وكذلك يباح للجميع الانتفاع بغير المرور مما لا يضر المارة ، كالجلوس في الطريق الواسعة لانتظار رفيق أو سؤال إن لم يضر المارة ، وإن لم يأذن الإمام بذلك لاتفاق الناس في سائر الأزمان والأعصار على ذلك ، وهذا أيضا محل اتفاق بين الفقهاء ، فإن ضر المارة أو ضيق عليهم لم يجز لخبر : "لا ضرر ولا ضرار" [10] .
كما ذهب الفقهاء إلى حرمة التصرف في الطريق النافذة ويعبر عنه ب ( الشارع ) بما يضر المارة في مرورهم ، لأن الحق لعامة المسلمين ، فليس لأحد أن يضارهم في حقهم ، ويمتنع عند جمهور الفقهاء بناء دكة - وهي التي تبنى للجلوس عليها ونحوها - في الطريق النافدة وغرس شجرة فيها وإن اتسع الطريق ، وأذن الإمام ، وانتفى الضرر ، وبنيت للمصلحة العامة؛ لمنعهما الطروق في محلهما ، ولأنه بناء في غير ملكه بغير إذنه ، وقد يؤذي المارة فيما بعد ، ويضيق عليهم ، ويعثر به العاثر ، فلم يجز ، ولأنه إذا طال الزمن أشبه موضعهما الأملاك الخاصة ، وانقطع استحقاق الطروق .[11]
يتضح مما سبق تشديد الفقهاء ومنعهم من أي تصرف قد يضر المارة ويمنع استحقاقهم للطريق ؛ لأنه حق للجميع ولهذا نُهي عن الصلاة في قارعة الطريق مع أنها أعظم عبادة ، كما مُنع المسلم من التعريس على الطريق [12]. كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم :"إذا عرستم فاجتنبوا الطريق فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام" [13]
ولهذا لا ينبغي لأصحاب السيارات قطع طريق نافذ لأغراض شخصية ولا تضييقه على المارة ولا منع أحد من التصرف فيه؛ بل يضمن شرعا إن تعمد إيذاء أحد من أصحاب الطريق .
6-الطريق أمن وآمان :
يعتبر قطع الطريق وإخافة السبيل وترويع الآمنين من أكبر الكبائر وهي من الحدود باتفاق الفقهاء ، وسمى القرآن مرتكبيها : محاربين لله ورسوله وساعين في الأرض بالفساد وغلظ عقوبتها أشد التغليظ فقال عز وجل :"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض"[المائدة33] ونفى النبي صلى الله عليه وسلم انتسابهم للإسلام فقال علية الصلاة والسلام :"من حمل علينا السلاح فليس منا " [14](/2)
كذلك لا يجوز استخدام السلاح أو حمل ما يزعج الناس أو يخفهم ولو لم يقصد الاعتداء ،كمن يمشي في طريق الناس أو في أسواقهم وهو يحمل سيفاً خارجاً من غمده أو خنجراً مظهراً حدّه أو معه مسدس أو بندقية محشوة رصاصاً لأنه لا يضمن الإضرار بغيره قصد ذلك أو لم يقصده قال علية الصلاة والسلام :"إذا مر أحدكم في مجلس أو سوق وبيده نبل فليأخذ بنصلها ثم ليأخذ بنصلها ثم ليأخذ بنصلها .." [15]
7- حزام الأمان سبب في النجاة والاطمئنان:
كلنا موقنون أن السلامة والحفظ هي بيد الله عز وجل " فالله خير حافظ وهو أرحم الراحمين " ولكن الشرع أمر بأخذ الأسباب والعمل على وفقها لا الاعتماد عليها ، وقد ثبت بالتجربة القطعية أن حزام الأمان يخفف من فداحة المصيبة أثناء الحادث ويحمي السائق من هول الاصطدام .
ولا ننسى أن هناك أحزمة معنوية أخرى تقي بإذن الله عز وجل أخطار كثيرة بشرط أن تطبق بصدق عقيدة وقوة يقين ، مثل : دعاء الركوب ودعاء السفر وملازمة الأذكار أثناء قيادة السيارات .
8- الأنظمة المرورية ملزمة شرعاَ:
إن هذه الأنظمة وضعها الإمام لتنظيم سير الناس على هذه الطرق، وحفظ أرواحهم من الهلاك، وبناءاً على المصلحة العظيمة المترتبة عليها فإن إلزام ولي الأمر بها مشروع جرياً على قاعدة (تصرفات الإمام بالرعية منوطة بالمصلحة ) [16] والمصلحة هنا معتبرة فهي لم تخالف نصاً من الكتاب أو السنة ومنفعتها لعموم الناس حقيقية لا وهمية وهي إن لم تكن من الضروريات فلا تنزل أبداً عن رتبة الحاجيات.
يقول سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله :"لا يجوز لأي مسلم أن يخالف أنظمة الدولة في شان المرور لما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى غيره . والدولة _ وفقها الله _ إنما وضعت ذلك حرصاً منها على مصلحة الجميع ورفع الضرر عن المسلمين فلا يجوز لأي احد أن يخالف ذلك وللمسئولين عقوبة من فعل ذلك بما يردعه وأمثاله " [17]
كما أفتى فضيلة الشيخ ابن جبرين بحرمة مخالفة أنظمة المرور في قوله :"لا تجوز مخالفة أنظمة ولوائح المرور التي وضعت لتنظيم السير ، ولتلافي الحوادث وللزجر عن المخاطر والمهاترات، وذلك مثل الإشارات التي وضعت في تقاطع الطرق ،واللافتات التي وضعت للتهدئة أو تخفيف السعة ...فعلى هذا من يعرف الهدف من وضعها ثم يخالف السير على منهجها عاصيا للدولة فيما فيه مصلحة ظاهرة ويكون متعرضا للأخطار وما وقع منه فهو اهل للجزاء والعقوبة ،وتعتبر ما تضعه الدولة على المخالفين من الغرامات ومن الجزاءات واقعا موقعه ". [18]
وقد سبق أن أصدر مجمع الفقه الإسلامي قراره رقم 75/2/د8 بوجوب الالتزام بأنظمة المرور والمنع من مخالفتها .
8-دراسات واحصاءات تبين خطر الحوادث المرورية على الفرد والمجتمع :
أظهرت دراسة أعدها مجلس التعاون الخليجي ونشرت في تاريخ 3/9/2000م أن المملكة العربية السعودية تعد واحدة من أكثر بلدان العالم التي تشهد حوادث مرورية مميتة، وأظهرت الإحصائيات الرسمية في المملكة أن 4 آلاف شخص قُتلوا وأصيب 32 ألفاً آخرون نتيجة حوادث السيارات على مدى العام الماضي فقط، مما يُعدّ واحداً من أعلى نسب حوادث المرور في العالم.
وبلغت الحوادث التي وقعت العام الماضي 1423هـ3055649 حادثا مروريا نتج عنها 3913 حالة وفاة و 28379إصابة 10 % من المصابين أصبحوا معاقين . ويعتبر مجموع من قتل جرّاء الحوادث المرورية خلال العشر السنوات الماضية أكثر من 30 ألف قتيل .
وعن حجم الخسائر المالية التي تتسبب فيها هذه الحوادث المرورية؛ ذكرت الدراسة السابقة أنها تقدر بـ 21 مليار ريال سعودي سنوياً، أي ما يعادل 6 مليارات ونصف المليار دولار تقريباً؛ مما يعني أن السعودية تفقد 4% سنوياً من الناتج المحلي نتيجة لهذه الحوادث.
واختتمت الدراسة بالقول إنه خلال 30 عاماً وقع في المملكة العربية السعودية حوالي مليون ونصف المليون حادث مروري، وهي نسبة عالية جداً في بلد لا يتجاوز عدد سكانه 18 مليون نسمة [19].
10-الجناية في الحوادث المرورية:
إن موضوع الجناية في حوادث المرور في وسائل النقل المعاصرة من الموضوعات الفقهية التي تحتاج إلى دراسة متقنة وبحث دقيق في نوازلها الجديدة وذلك بالنظر إلى الظروف المعاصرة التي تنوعت فيها صور الحوادث وجزئياتها ، وكثرت واقعاتها للتوسع في استخدام الوسائل الجديدة السريعة السير .. فأضحت واقعاً مشكلاً أمام القضاء لما يترتب على تلك الحوادث المرورية من ضمانات وجنايات وأضرار بالغة في الأرواح والأموال ؛ مما جعلها من نوازل العصر الملحّة في معرفة أحكامها ورأي الشرع في مستجداتها .(/3)
وفقهاؤنا الأوائل قد تحدثوا في أحكام الكثير من حوادث السير مع بساطة وسائلها في عصرهم إلا أن ما دوّنوه في كتبهم ومصنفاتهم يعتبر للفقيه المعاصر قواعد ومنارات تدله على مناط الأحكام ووجه الاستنباط في أمثال نوازل المرور المعاصرة كحكم الالتزام بأنظمة المرور ، ومدى مسئولية السائق عما تحدثه سيارته أو مركبته من ضرر ، وحكم ما تسببه البهائم من حوادث للسير في الطرقات وغيرها ؟
الحكم الشرعي : ـ
بحث مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي بعض الأحكام المتعلقة بحوادث المرور المعاصرة ، وبعد اطلاعه على البحوث التي وردت إليه بهذا الشأن واستماعه للمناقشات العلمية التي دارت حوله ، وبالنظر إلى تفاقم حوادث السير وزيادة أخطارها على أرواح الناس وممتلكاتهم ، واقتضاء المصلحة سن الأنظمة المتعلقة بترخيص المركبات بما يحقق شروط الأمن كسلامة الأجهزة وقواعد نقل الملكية ورخص القيادة والاحتياط الكافي بمنح رخص القيادة بالشروط الخاصة بالنسبة للسن والقدرة والرؤية والدراية بقواعد المرور والتقيد بها وتحديد السرعة المعقولة والمحمولة ، قرر المجمع ما يلي :-
(( أولاً :
أ - أن الالتزام بتلك الأنظمة التي لا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية واجب شرعاً ، لأنه من طاعة ولي الأمر فيما ينظمه من إجراءات بناءً على دليل المصالح المرسلة ، وينبغي أن تشتمل تلك الأنظمة على الأحكام الشرعية التي لم تطبق في هذا المجال .
ب- مما تقتضيه المصلحة أيضاً سن الأنظمة الزاجرة بأنواعها ، ومنها التعزير المالي لمن يخالف تلك التعليمات المنظمة للمرور لردع من يُعرِّض أمن الناس للخطر في الطرقات والأسواق من أصحاب المركبات ووسائل النقل الأخرى أخذاً بأحكام الحسبة المقررة .
ثانياً :
الحوادث التي تنتج عن تسيير المركبات تطبق عليها أحكام الجنايات المقررة في الشريعة الإسلامية ، وإن كانت في الغالب من قبيل الخطأ ، والسائق مسؤول عما يحدثه بالغير من أضرار ، سواء في البدن أم المال إذا تحققت عناصرها من خطأ وضرر ولا يعفى من هذه المسؤولية إلا في الحالات الآتية :-
أ ـ إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها وتعذر عليه الاحتراز منها ، وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان .
ب ـ إذا كان بسبب فعل المتضرر المؤثر تأثيراً قوياً في إحداث النتيجة .
ج ـ إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه فيتحمل ذلك الغير المسؤولية .
ثالثاً :
ما تسببه البهائم من حوادث السير في الطرقات يضمن أربابها الأضرار التي تنجم عن فعلها إن كانوا مقصرين في ضبطها ، والفصل في ذلك إلى القضاء .
رابعاً :
إذا اشترك السائق والمتضرر في إحداث الضرر كان على كل واحد منهما تبعة ما تلف من الآخر من نفس أو مال .
خامساً :
أ ـ مع مراعاة ما سيأتي من تفصيل ، فإن الأصل أن المباشر ضامن ولو لم يكن متعدياً ، وأما المتسبب فلا يضمن إلا إذا كان متعدياً أو مفرطاً .
ب ـ إذا اجتمع المباشر مع المتسبب كانت المسؤولية على المباشر دون المتسبب إلا إذا كان المتسبب متعدياً والمباشر غير متعد .
ج ـ إذا اجتمع سببان مختلفان كل واحد منهما مؤثر في الضرر ، فعلى كل واحد من المتسببين المسؤولية بحسب نسبة تأثيره في الضرر ، وإذا استويا أو لم تعرف نسبة أثر كل واحد منهما فالتبعة عليهما في السواء . والله أعلم )) [20] .
وقد قامت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية ببحث أحكام حوادث السيارات وتوصلت إلى جملة من الأحكام لا تختلف في عمومها عن قرار المجمع [21] .
تقرير الاستدلال على حكم هذه النازلة : ـ
نجد أن الأحكام التي قررها المجمع بشأن حوادث السير مبنية في مجملها على دليل المصلحة المرسلة وبعض القواعد والضوابط الفقهية التي يمكن للقاضي والمفتي إدراج الكثير من النوازل المرورية المعاصرة ضمنها .
وبالنظر التفصيلي في القرار نلحظ ما يلي :-
أولاً : أن المصلحة المرسلة هي دليل الالتزام بالأنظمة المرورية التي لا تخالف أحكام الشريعة لما في الالتزام بها وطاعة ولي الأمر فيما ينظمه من إجراءاتها من حفظ لمقصود الشرع في الأنفس والأموال ولو اقتضى الأمر إلى سن العقوبات الزاجرة لمن يخالف تلك الأنظمة المصلحية [22].
والعمل بالمصلحة المرسلة حجة عند الأكثر من أهل العلم [23].(/4)
ثانياً : أن من القواعد المهمة التي تضبط حقوق الناس في حوادث المرور ؛ قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا ضرر ولا ضرار )) [24] وهذا الحديث يقرر قاعدة كلية هي من مبادئ الشريعة الإسلامية من رفع الضرر وتحريم الإضرار بالغير، وهذا الحديث إذا تأملنا فيه لا يكتفي بتحريم إضرار الغير فقط ، بل يشير إلى وجوب الضمان على من سببه ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين هذا الأصل بصيغة النهي الذي يدل على التحريم فقط ، بل إنه صلى الله عليه وسلم ذكره بصيغة نفي الجنس ، وفيه إشارة لطيفة إلى أنه كما يجب على الإنسان أن يجتنب من إضرار غيره ، كذلك يجب عليه ، إن صدر منه شيء من ذلك ، أن ينفي الضرر عن المضرور الذي أصابه ، إما بردّه إلى الحالة الأصلية إن أمكن ، وإما بتعويضه عن الضرر وأداء الضمان إليه ، ليكون عوضاً عما فاته [25].
ومما يدل على وجوب تعويض المصاب ؛ أحكام الديات المبسوطة في كتب الفقه والحديث ومن جملتها فيما يخصّ موضوعنا ، حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن ناقةً له دخلت حائطاً لرجل فأفسدت فيه ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار ، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها [26].
وهذا الحديث من أصرح الأدلة على أن من سبّب ضرراً لآخر فإنه ضامن لما أصابه، فالسائق للمركبات الناقلة مسؤول عما يحدثه بالغير من أضرار نتيجة الحوادث المرورية التي تقع به سواء كان الضرر في البدن أم المال بشرط تحقق عناصر الضمان ؛ وجملتها كما قرّره الفقهاء : أن الضمان يتحقق بأمور ثلاثة :-
التعدي والضرر وإفضائه إلى الإضرار بنفسه أو سببه المباشر [27].
أما إذا وقع الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها أو لسبب خطأ الغير وتعديه فإنه لا يضمن قياساً على راكب البهيمة فإنه يضمن جناية يدها وفمها ووطئها برجلها ولا يضمن ما نفحت برجلها أو بذنبها لأنه لا يمكنه أن يمنعها منه ، وكذا من نفّر البهيمة أو نخسها ضمن وحده جنايتها دون المتصرف فيها لأنه المتسبب [28]. وحديث: (( العجماء جرحها جبار ))[29] محمولٌ على من لا يدّ له عليها وليس لها قائد أو راكب [30] .
ثالثاً : ما تسببه البهائم من حوادث السير في الطرقات فيضمن أربابها الأضرار التي تنجم عن فعلها إن كانوا مقصرين في ضبطها لعموم قضاء النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الحوائط بحفظها في النهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها [31] ؛ لتفريطهم في حفظها .
وما يترتب على إهمال هذه البهائم من مفاسد وأضرار وحوادث مفجعة جعلت من السائغ شرعاً أن يتحمل أربابها الضمان والمسئولية الناجمة عنها لضررها ولمخالفة أصحابها الأنظمة واللوائح الآمرة بحفظها [32] .
رابعاً : في حالة اجتماع المباشرة والتسبب في وقوع الحادث ، فإن هناك بعض القواعد الفقهية التي قررها الفقهاء لمعرفة الضامن في الحادث هل هو المباشر أو المتسبب ؟ ومن تلك القواعد :-
- (( المباشر ضامن ، وأن لم يكن متعدياً )) [33] .
- (( المسبب ضامن إن كان متعدياً )) [34] .
- (( إذا اجتمع المباشر والمسبب ، أضيف الحكم إلى المباشر ))[35] .
وقد ابتنى على هذه القواعد تحديد الضمان والمسؤولية الجزئية الواقعة عند حصول حوادث السير المشتركة [36] .
وختاماً: أسأل الله عز وجل أن يقينا شر الحوادث والأضرار، وأن ينعم علينا بالأمن والإيمان، وأن يهدي ضالنا ويصلح شبابنا ويرحم موتانا. إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
-----------------
[1] رواه مسلم(4492)
[2] رواه مسلم (2121)
[3] رواه الترمذي في السنن وحسنه(891) وحسنه الألباني في السلسلة (572)
[4] فتاوى وتوجيهات في الا جازة والرحلات ص 80
[5] رواه مسلم (1914)
[6] رواه مسلم (2618)
[7] رواه مسلم(654)
[8] رواه الهيثمي في المجمع1/204 وصححه الألباني في صحيح الترغيب(148)
[9] رواه مسلم(269)
[10] أخرجه مالك في الموطأ2/745
[11] انظر : حاشية ابن عابدين 5/380 ، حاشية السوقي 3/368 ، نهاية المحتاج5/342 ، كشاف القناع 4/168
[12] التعريس : هو النزول اخر الليل .
[13] رواه مسلم(3552)
[14] رواه البخاري (6366)
[15] رواه مسلم(4739)
[16] انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص 233.
[17] فتاوى اسلامية 4/536
[18] مجلة الدعوة (1625)
[19] انظر : مجلة الإقتصاد الإسلامي (266) ومجلة شباب (13).
[20] مجموع قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثامنة عام 1414هـ قرار رقم ( 71 ) ص 162 – 164 .
[21] انظر : مجلة البحوث الإسلامية العدد ( 26 ) 1409 هـ ص 27 – 77 .
[22] انظر : الاستصلاح والمصلحة المرسلة للزرقا ص 51 ؛ مجلة البحوث الإسلامية العدد ( 26 ) ص 65 و 66 .
[23] انظر :المستصفى 1/320،شرح الكوكب المنير4/433، البحر المحيط5/215.
[24] سبق تخريجه .
[25] انظر : الضرر في الفقه الإسلامي للدكتور أحمد موافي 1 / 330 – 340 ، 2 / 983 – 1030 .(/5)
[26] أخرجه أبو داود رقمه ( 3564 ) ، وأخرجه ابن رقمه ( 2332 ) .
[27] انظر : الفروق للقرافي 4 / 28 و 29 ؛ قواعد ابن رجب ص 274 – 278 ؛ مجلة الأحكام الشرعية للشيخ أحمد القاري تحقيق د . عبد الوهاب أبو سليمان ود . محمد إبراهيم أحمد علي ص 443- 446 .
[28] انظر : فتح القدير 10 / 352 –356 ؛ الكافي لابن عبد البر 2 / 408 ؛ مغني المحتاج 5 / 364 ؛ المغني 12 / 544 ؛ ،نيل المآرب 3 / 258 ؛ الإنصاف 6 / 235 – 242 ؛ نيل الأوطار 7 / 64 .
[29] أخرجه البخاري رقمه ( 6913 ) ، وأخرجه مسلم رقمه ( 1710 ) 3 / 1334 .
[30] انظر : المغني 12 / 544 .
[31] سبق تخريجه.
[32] وقد صدر من مجلس هيئة كبار العلماء ثلاثة قرارات بشأن حوادث المواشي لا سيما الإبل في دورة المجلس التاسعة ، والثانية والعشرون ، والسابعة والثلاثون وقد نظمت الحكومة لوائح للوقاية من ضرر المواشي على الطرق .
[33] انظر القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا ص 435 – 454 .
[34] المرجع السابق ص 455 .
[35] انظر : الفروق للقرافي 4 / 28 ؛ الأشباه والنظائر للسيوطي ص 297 ؛ الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 190 ؛ القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا ص 447 ؛ القواعد الفقهية للندوي ص 385 ؛ الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية للبورنو ص 325 .
[36] انظر تطبيقات هذه القواعد في بحث : القاضي العثماني وبحث الشيخ عبد القادر العماري في مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد الثامن 2 / 177 – 314 ؛ الضرر في الفقه الإسلامي للدكتور أحمد موافي 2 / 983 – 1008 ؛ مجلة البحوث الإسلامية العدد ( 26 ) ص 27 – 77 .(/6)
فقه المصالح والمفاسد
د. عبد العزيز القارئ 15/1/1424
18/03/2003
إن الله تعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها(1 ).
فقاعدة : ( جلب المصلحة ودفع المفسدة ) إذن هي مدار الشريعة كلها، فمن لم يفقه هذه القاعدة فلا علم له بالشريعة ؛ لأن الشريعة إنما جاءت لجلب المصالح للناس ولدفع المفاسد عنهم، فما أمرت بشيءٍ أو أباحته إلا وفيه مصلحة محققة، ولا نهت عن شيءٍ ومنعته إلا وفيه مفسدة محققة، وقد يكون في الشيء مصالح ومفاسد، ولكنها تمنعه لرجحان المفسدة، أو تبيحه لرجحان المصلحة.
ونصوص الكتاب والسنة حافلة بما يبين ذلك، فشريعتنا الإسلامية والحمد لله ليست جامدة، وأحكامها ليست طلاسم لا يعقل معانيها أحد، ولا يعلم عللها فقيه ؛ ولذلك كان معظم الأحكام إنما ثبت بالقياس، ويثبت بالقياس في كل عصر حيثما تتجدد الحوادث، ولو كنا مأمورين بالتوقف عند ظواهر النصوص فلا نتجاوزها بالاستنباط إلى عللها ومعانيها إذن لوقع الناس في الحرج ؛ لأن النصوص محدودة، والحوادث غير محدودة.
قال تعالى : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ ) [ 157 / الأعراف ]. فها هنا علَّلَ لتحليل الحلال بأنه من الطيبات ؛ أي الأشياء النافعة، و علَّلَ لتحريم الحرام بأنه من الخبائث، والخبيث هو الضار، يُفهَم هذا التعليل من الوصف.
ومن أبلغ الأمثلة على الموازنة بين المصالح والمفاسد قوله تعالى في الخمر والميسر : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) [ 219 / البقرة].
المراد بالإثم هنا الضرر لأنه ذُكر في مقابل النفع ؛ فإذن حُرِّمت الخمر والميسر لغلبة الأضرار فيهما على المنافع.
وهكذا كل شيءٍ أو فعلٍ أو قولٍ فيه مصالح وفيه مفاسد ينبغي فيه الموازنة بينهما، والحكم بناءاً على نتيجة هذه الموازنة.
وهذا أمر لا يعقله إلا العالِمُون ؛ فيحتاج إلى فقهاء عقلاء حكماء، وإلا فكم من مصلحةٍ توهَّمَهَا أناسٌ وهي مفسدة ؛ فلا ينبغي أن يتصدى للحكم في ذلك من لا بضاعة عنده من فقه الشريعة، ولا من لا قريحة عنده من الفقهاء.
ومن يشتغل بالفقه درجات :
أولها : حامل الفقه غير الفقيه ( الرواة ).
ثانيها : حامل الفقه الفقيه ( الفقهاء ).
ثالثها : حامل الفقه الأفقه ( أهل الاستنباط ).
والفقه أنواع : منه فقه الأحكام، ومنه فقه التطبيق، ومنه فقه السياسة الشرعية.
وليس كل من فَقِه الأحكام يفقه كيف يُنَزِّلها في مواقعها، فهذا فقهٌ برع فيه بعض الفقهاء، وليس كل فقيه في الأحكام وفي التطبيق يتقن الفقه السياسيّ، وليس كل من يتقن الفقه السياسيّ نظرياً يتقنه عملياً، فالفقيه السياسي أَنْدَرُ من الكبريت الأحمر، وأَنْفَسُ من الذهب الإبريز.
من أعظم ميزات الفقيه السياسي أنه ذكي، ذو بصر نافذ وبصيرة وقّادة، الفقيه الساذج لا يتعدى بصرُه أرنبةَ أنفه، والفقيه السياسي يقرأ ما وراء السطور، ويتعدى بصره الحاضر إلى المستقبل، ويُقدِّر العواقب، ويعرف أحوال الناس، ويواكب التطورات، ويحسب حساب المتغيرات، فهو لذلك لا يُخدَع، ومجالُ السياسة مجالُ خداعٍ ومكرٍ..
والآن ونحن في عصر بَلَغَ فيه ( المكر السياسي ) ذروته، يُدَار فيه العالم بخطط " استراتيجية " مُحْكَمَةٍ، يتظافر عليها دراسةً وتحليلاً وتخطيطاً أَبَالِسَةٌ محَنّكون، ويساعدهم في ذلك هذا التطور (المعلوماتي ) الهائل، وتنفذ تلك الخطط بدقة بالغة وعلى مراحل مدروسة..
قبل عشرات السنين وهم يدربون قواتهم على القتال في أجواءَ صحراويةٍ تشبه أجواءَ الصحاري العربية في الخليج وفي الجزيرة العربية وفي العراق، وهاهم وقد وصلت قواتهم إلى هذه المناطق الهامة من العالم..
في مثل هذه الأزمنة نحن بأمس الحاجة إلى الفقيه والأفقه، فالرواة لا يُغْنُونَ شيئاً، ونحن بأمس الحاجة إلى العقليات الفقهية السياسية الذكية، أما العلماء السَّاذجُون فلا يُغْنُونَ شيئاً، وأما الوعاظ والخطباء الفارغون فإن كثرتهم من علامات الفشل..
ويا ليت في الأمة فقيهاً واحداً ذا عقليةٍ " استراتيجية " في السياسة الشرعية ؛ إذن أكون أول من يبايعه خليفةً على المسلمين، وقائداً لهم غيرَ مُنَازَع.
إن المصالح العليا للمسلمين في كل زمان ومكان، ومن باب أولى في زماننا هذا، والتي يجب أن تكون أهدافاً " استراتيجية " للدعوة الإسلامية، وللحركات الإسلامية، ولكلّ نشاطٍ إسلاميّ، هي الآتي :
1) عبادة الله تعالى بحريةٍ، دون عائق أو مانعٍ، بإقامة الصلوات، وغيرها من الشعائر الدينية، وبالتزام الآداب الإسلامية.
2) تَمَكُّن المسلمين مع ذلك من تطبيق الأحكام الضرورية من الشريعة الإسلامية كالأنكحة وما يتبعها من مسائل الطلاق والرضاع ونحو ذلك، وتمكُّنُهم من الدعوة إلى الإسلام.(/1)
3) تمكُّنُ المسلمين من تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في سائر مجالات حياتهم ومرافق مجتمعهم، وتَمكُّنهم من الدعوة إلى الإسلام.
4) دولة إسلامية شرعية يستظلون بظلها ويعيشون تحت حمايتها، تحكم بشرع الله وتسوس أهلَ قُطْرِها به، وتُعِدُّهم للجهاد.
5) خلافةٌ إسلامية يجتمع المسلمون جميعاً تحت رايتها، ويدينون لها بالطاعة وترفع علمَ الدعوة والجهاد.
هذه المصالح العليا، أو الأهداف " الاستراتيجية " مُرَتَّبةٌ تصاعدياً، بمعنى : أنه ما لم يتحقق الهدف الأول والثاني فلا معنى للمطالبة بالباقي والسعي من أجل تحقيقه، وبمعنى أن الاهتمامَ الأشدَّ والأولَ ينبغي أن يكون لهما، وبمعنى أنه في بعض الظروف أو في بعض الأمكنة إذا كان لا يتسنَّى غيرهما، وكان السعي من أجل الأهداف الباقية يعطلهما فإن من الحمق والسفه والجهل بالمصالح والمفاسد التفريط بهما.
كثيرون يخطئون في سُلَّم " الأولويات " فيضيّعون مصالح الأمة، فمن أجل تحقيق الهدف الأخير أو الذي قبله يتسبّبُون بضياع جميع الأهداف والمصالح العليا، ويجلبون الخرابَ والدمارَ وانتهاك الحرمات على المسلمين.
التّدرُّج في تحقيق تلك المصالح العليا يُستفاد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، ومن طبيعة الشريعة التي نزلت بالتدريج.
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن هذا الدين متينٌ فأَوْغِلُوا فيه برفقٍ) وفي رواية : ( إن هذا الدين متين فأوْغِلْ فيه برفقٍ فإن المُنْبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)(2 ).
وهذه الرواية وإن لم تصح فإن معناها صحيح دلت عليه نصوص أخرى ثابتة، ومعناها كما قال ابن الأثير : " يريد أنه بقي في طريقه عاجزاً عن مقصده لم يَقْضِ وطرَهُ وقد أَعْطَبَ ظهره " (3 ).
ونذكر أمثلة تطبيقية من هذا الفقه :
في البلاد الغربية اليوم ( أمريكا وأوروبا واستراليا ) وغيرها أعداد كبيرة من المسلمين يمثلون جاليات تُعَدُّ بالملايين، وهم أقليات وسط بحر خِضَمّ من مجتمع كافرٍ ؛ لكنه يتيح لهم مساحات من الحرية قد لا تتوافر لهم في أماكن أخرى، فلهم الحرية في ممارسة شعائرهم الدينية، بل وفي تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على أنفسهم في ( الأحوال الشخصية ) كما يسمونها، بل وتُتَاح لهم الفرصة لممارسة شيءٍ من الأنشطة السياسية كتشكيل أحزاب أو مجالس تُمَثِّلُهُم في ( البرلمان ) أو لدى السلطات الحكومية ؛ لكنهم لا يُتَاح لهم أكثرُ من ذلك.
فإذا وُجد من يُطالب بإقامة دولةٍ إسلامية هناك، أو يدعو لإقامة الخلافة، أو يدعو للجهاد، فما بالك بمن يمارسه، ينبغي أن يُضْرَبَ على يده لحمقه وسفهه، ولأنه بجهله سيُضيِّع على المسلمين جميع مصالحهم العليا المذكورة من أولها إلى آخرها، وربما هدّد وجودهم وسلامَتَهم.
فإذا طُولِبْنا بدليل شرعي على هذا التأصيل، ولم يُكْتَفَ فيه بالبداهة العقلية فإنا نُذكّر هذا المُطالِب المسكين بوضع المسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحبشة لما هاجروا إليها في المرتين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وعاشوا في كنف النجاشي ملك الحبشة وتحت حكمه وسلطانه وهو نصراني – قبل أن يسلم – ولم يَضِرْهُم ذلك فهو ملك عادل
لا يُظلَم عنده أحدٌ كما قال صلى الله عليه وسلم (4 ).
المثال الثاني : في عام 1406هـ زُرْتُ " سنغافورة " وكان في استقبالي أحد الدعاة من أهل البلد، من خريجي الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وكان من ضمن البرنامج زيارة مدرسةٍ واسعةٍ للمسلمين، فيها جميع المراحل من روضةِ الأطفالِ إلى الثانوية، وكان موقعها في وسط الحي التجاري حيث تحيط بها ناطحات السحاب من كل جهة، وعجبت من ذلك كيف أمكنهم شراء هذه الأرض في منطقة يُقَدَّر المتر فيها بما لا قِبَلَ لهم به، فأخبرني الداعية بأن الأرض من أوقاف المسلمين، وبأن الحاكم خيّرهم بين بيع هذه الأرض بثمن سخي، أو يبنونها وينتفعون بها ؛ إذ لا يصح أن تبقى أرضاً مهملة لا يُنتفع بها وهي في هذا الموقع، يقول الداعية : فاخترنا بناء هذه المدرسة المتواضعة عليها فإذا بالحاكم يساعدنا على ذلك بأن اقتطع من رواتب الموظفين المسلمين نسبة لهذا المشروع وساعدنا على جمع التبرعات من باقي المسلمين وسهّل لنا الإجراءات الرسمية حتى أتممنا هذا البناء..(/2)
وجمعوا لي المدرسين والمدرسات في قاعة المحاضرات، المدرسات جلسن في آخر القاعة وكن مسلمات مؤدبات محجبات، وألقيت فيهم كُلَيْمَةً بينت لهم فيها أهمية الرسالة التي يؤدونها، وهي احتضان ناشئة المسلمين في هذا البلد وتعليمهم دينهم وتربيتهم على آدابه وشريعته، وعندما فَتَحْت المجال للأسئلة، فُوجِئْتُ بمُدَرِّسَةٍ تسأل عن السبيل لإقامة حكومة إسلامية في "سنغافورة "، ولما سألت مرافقي الداعية السنغافوري المُحَنَّك عن سبب هذا السؤال أجابني بأنه تدور الآن مثل هذه الأفكار بين شباب المسلمين في " سنغافورة" منذ وصل إليها مبعوثان : واحد من " أفغانستان " حدثهم بأحاديث الجهاد وحرضهم عليه، والآخر من " إيران " حدثهم عن الثورة " الخمينية " والحكومة الإسلامية، فوجّهْتُ لهم نصيحة بألاّ يشغلوا أذهانهم لا بالجهاد ولا بالحكومة الإسلامية، وبألا يغتروا بمن جاءهم من " أفغانستان " يحدثهم عن الجهاد فإنه جاهل أخطأ في القياس، ولا بالإيراني الذي جاء يحدثهم عن الثورة الإسلامية فإنه عدو رافضي، وبينت لهم أن الواجب عليهم وقد هيأ الله لهم حكومة عادلة – وإن كانت كافرة – أن يشتغلوا بتعليم المسلمين شرائع الإسلام وآدابه، خاصة الناشئة منهم، وأما واجبهم نحو غير المسلمين من " السنغافوريين " فهو الدعوة بالحسنى إلى الإسلام، وأما الجهاد والخلافة أو الحكومة الإسلامية فليسا مطلوبين منهم، وهم أقلية وسط مجتمع بوذي كافر، فلو فكروا في مثل هذه الأمور وسعوا إليها ربما يُقْضَى عليهم بسببها مع عدم القدرة على تحقيقها.
المثال الثالث : زارني قبل بضع سنين في منزلي بالمدينة النبوية عدد من طلاب الجامعة بالمدينة النبوية، وهم من جنوب أفريقيا، وطرحوا مسائل وإشكالات اختلفوا فيها، وطلبوا مني بيان الحكم الشرعي فيها ونصيحتي بشأنها، من أهمها :
أن رئيس جنوب أفريقيا إذ ذاك " نلسون مانديلا " جَمَعَ زعماء المسلمين في بلده وطلب منهم تشكيلَ " حزبٍ " يمثِّل المسلمين في " البرلمان " حتى يطالب هذا الحزب بسنِّ القوانين الإسلامية الخاصة بالمسلمين في المسائل التي لا يمكنهم تطبيق قوانين الدولة فيها، مثل أحكام الأسرة : الزواج والطلاق ونحو ذلك، واختلف زعماء المسلمين في اقتراح هذا الرئيس النصراني العاقل العادل وكان عدد منهم يرفض ذلك بحجة أنه لا يجوز الخضوع لحكم الكافر، ولا دخول برلمانه، ولا الاشتراك في انتخاباته، وفريق آخر أحسن عقلاً وجدوا أن في تنفيذ اقتراح الرئيس " مانديلا " مصلحة للمسلمين ؛ وأيَّدْتُ أنا هذا الرأي وقلت لهم : المصلحة في ذلك واضحة وراجحة، ولا يمكنكم أصلاً أن تقولوا : لا نخضع لحكم الكافر لأنكم فعلاً تحت حكمه، وما دام هذا الحاكم الكافر عادلاً ويُمَكِّنكم من ممارسة شعائركم الدينية، بل وتطبيق بعض أحكام الشريعة الإسلامية فلا ضرر ولا ضير من قبول حكمه والانضواء تحت سلطانه، وأنتم في هذا مثل الصحابة تحت حكم النجاشي النصراني العادل – قبل أن يسلم -.
إن فقه المصالح والمفاسد، والقدرة على الموازنة بينهما في غايةٍ من الأهمية في حياة المسلمين اليوم.
المثال الرابع : وهنا نصل إلى مَحَطِّ الرَّحْلِ فنقول : المسلمون اليوم لا يخفى حالهم من الضعف والتفرق، ومن تفشّي الآفات بينهم : الجهل، والفقر، والكفر، والقهر، والظلم والجور، فقد جثمت على صدورهم قيادات سياسية هم من جلدتهم ويتكلمون بألسنتهم، لكنهم لا يُمثِّلونهم، بل هم وكلاءُ للاستعمار الغربي الذي رحل بجيوشه، وبقي بوكلائه، فالعالم الإسلامي لا زال مُستَعْمَراً لكن بالوكالة، وقد ألحق هؤلاء الوكلاء العملاء الذين نصّبَهُم الاستعمارُ حكاماً أضراراً فادحة بشعوبهم الإسلامية، فهي مثخنةٌ بجراحاتٍ بالغة أضعفت كيان الأمة وكادت تمسّ روحَهَا بضررٍ شديد، وهناك حركةٌ إصلاحية شاملة تحاول تضميدَ جراح الأمة، وترميم ما فسد من بنائها، وتقويةَ روحها المضعضعة، تتمثَّل هذه الحركة الإصلاحية في حركات الدعوة الإسلامية الواعية الشاملة التي يحمل لواءها العلماء، وقد أثّرت هذه الدعوة الإصلاحية في حالة الأمة فبدت بوادر عافيتها في هذه الصحوة العامّة التي امتدّت من مشرق العالم الإسلامي إلى مغربه، وبدا أن محاولات الترميم والإصلاح ظهرت آثارها في كيان الأمة المريض ؛ ولولا مناوأة أولئك الحكام الوكلاء العملاء لأنجَزَتْ حركةُ الإصلاح أهدافها، فالصحوة الإسلامية الآن لا ينقصها إلا قيادة على مستوى الأمة، تُزيحُ أولئك الوكلاء العملاء وتتسلّم القيادة بدلاً منهم..
فهل والأمة في هذه المرحلة لم تبرأ بعد من كل عللها ولا زالت في مرحلة النقاهة وهي بلا قيادة، هل من الحكمة أن نقذف بها في أَتُونِ معركةٍ لا قِبَل لها به ؟! هل من الحكمة إنشاب القتال مع العدو الآن ؟ فما بالك وقد فُتِحَتْ سائرُ الجبهات، أي تمَّ إنشابُ القتال مع سائر الأعداء في وقت واحد..(/3)
حتى لو اضطر المسلمون في بعض الأماكن وفي بعض الحالات إلى القتال فإنه ينبغي ألا يتجاوز موقف الدفاع عن النفس، والذب عن الديار والحرمات، كما حصل في أفغانستان ضد الغزو الروسي، جاهد الأفغانُ الروسَ وطردوهم من بلادهم، لكن لم نسمع أنهم هاجموا روسيا نفسها، وما كانوا بحاجة إلى ذلك لأمرين : أولهما أنهم مَرَّغُوا أنفَهَا في تراب أفغانستان، والآخر أنه لم يكن بمقدورهم نقل المعركة إلى خارج أفغانستان ولا من مصلحتهم ذلك..
الجهاد فريضة قائمة إلى يوم القيامة، وحاجة المسلمين إليه شديدة، وحاجتهم إليه اليوم أشد، وقد وقعت الواقعة وبدأت أمريكا الحرب على هذه الأمة الإسلامية مباشرة، وقد كانت قبل الآن تحاربها من وراء ستار وبواسطة " الوكلاء "..
لكن إدارة الجهاد وفقهه وسياسته والتخطيط له " استراتيجياً " و " تكتيكياً " والالتزام فيه بآداب الشريعة وأحكامها – فإن الجهاد له أحكام وآداب – كل ذلك يوجب أن يكون للمجاهدين – بقياداتهم وشبابهم – " مرجعية عليا " من العلماء الربانيين، علماءِ الصحوة، لابد من مشاورة العلماء والرجوع إليهم للسلامة من الأخطاء، وقد تكون الأخطاء أحياناً فادحةً ومميتةً، وأضرارها على الأمة كبيرة، ومفاسدها راجحة.
وهنا مسألة في غاية الأهمية نُعَجِّلُ ببيانها شفقةً على شبابنا، فنقول :
تفجير الوضع بين المسلمين، بحيث يؤدي إلى اقتتال المسلمين، وأن يسفك بعضهم دماءَ بعض، هذا هو ما يسمى في عُرْفِ " السُّنَّة " بـ " الفتنة "..
فإن حرمة دم المسلم من أعظم الحرمات شأناً، ورد في الأثر أن المسلم ما يزال في فسحةٍ من دينه حتى يصيب دماً حراماً(5 )، وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضُكم رقاب بعض ) (6 )، وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ) (7 )، فإذا كان مع ذلك هناك التباسٌ في الأمور، وشدةٌ في الاختلاف بين الناس، وليس للمسلمين جماعةٌ ولا إمام، فهي فتنة عمياء : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ستكون فتنٌ القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرّفَ إليها تستشرفه، ومن وجد ملجئاً أو معاذاً فليَعُذْ به ) متفق عليه(8 ).
وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم : ( فكسِّروا فيها قسِيَّكم وقَطِّعوا أوتاركم واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دُخِلَ على أحدٍ منكم فليكن كخير ابني آدم ) (9) وفي رواية قالوا : فما تأمرنا ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ( كونوا أحْلاَسَ بيوتكم ) (10 ) أي الزموا بيوتكم ولا تشاركوا في الفتنة.
فإن كان الناس مجتمعين على إمام مهما كان ظالماً فاسقاً فالخروج عليه هو ما يسميه الفقهاء بالبغي، ومقترفوه هم البغاة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن منازعة ولاة الأمر وحرّم الخروج عليهم وإن بغوا وظلموا ما داموا يصلون، ويقيمون الصلاة..
قال صلى الله عليه وسلم : ( يكون أمراء تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، فقالوا : يا رسول اله ألا نقاتلهم ؟ قال : ( لا،
ما صلوا )(11 ).
وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه : " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وألا ننازع الأمر أهله وإن بغوا وأن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم "(12).
أئمة الجور من ولاة المسلمين هذا هو منهج أهل الحق حيالهم، يطيعونهم في المعروف ولا يتابعونهم على المنكر ولا يرضون بجورهم، ولا ينزعون يداً من طاعة لكن يناصحونهم ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، ويقولون بالحق ويبينونه للناس لا يخافون في الله لومة لائم، ويصبرون على ما يصيبهم في ذلك..
هذا هو ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وأقوال السلف وأفعالهم، وهذا هو ما تقتضيه قاعدة المصالح والمفاسد ؛ لأن المفاسد المترتبة على الخروج على ولاة الجور والفسق أعظم من مفاسد جورهم وفسقهم ؛ ولهذا قال الفقهاء : " ليلة في ظل حاكم ظالم، خير من ألف ليلة بلا حاكم ".
فليس لأحد كائناً من كان أن يشعل نيران البغي والخروج بين المسلمين، ومن فعل فإنه يبوء بإثم كل المفاسد العظمى المترتبة على ذلك من انتهاك الحرمات، وسفك الدماء المعصومة، وانفلات حبل الأمن، وضياع مصالح المسلمين العليا..(/4)
وهذه النظرة من الفقهاء واقعية، المقصود منها رعاية مصالح الناس ودرء المفاسد العظمى عنهم بالصبر على ما دونها من المفاسد، وهذا يوافق أيضاً قاعدة ارتكاب أخف الضررين، فتحريمهم للخروج في مثل هذه الأحوال نظر منهم لما فيه صالح المسلمين، وليس إقراراً لجور الحاكم وفسقه، وليس إقراراً بشرعيته ولا أهليته، فقد تكون شرعيته سقطت ومع ذلك لا يبيحون الخروج عليه إذا كانت الأمور منضبطة بولايته، والكلمة مجتمعة على طاعته، وتطبق هذه القاعدة حتى على الوالي الذي ظهر كفره واستبانت ردته، أو حصل منه ما يوجب سقوط حقه في الطاعة كتعطيله للصلاة، أو لأحد أركان الإسلام، لأن مسألة سقوط شرعيته منفكة عن مسألة الخروج عليه، والذي يقرر هذه أو تلك هم " أهل الحل والعقد "، أعني علماء الأمة الربانيين الذين يقولون الحق ولا يخافون لومة لائم..
هذه الأمور الخطيرة والمسائل الكبار ليست مسؤولية الأفراد ولا المجموعات إنما هي مسؤولية من ذكرنا، فإن لم يكن أهل الحل والعقد قادرين على أن يحلُّوا أو يعقِدوا، فكُنْ حِلْسَ بيتك حتى يقدروا، كن حينئذ من القاعدين حتى يأذن الله بالفرج ؛ لأنه لا خير في الخروج وحمل السلاح في مثل هذه الأحوال، القاعدون فيها خيرٌ من القائمين..
إن الصبر حينئذ، والاشتغال بالدعوة والإصلاح، والهداية والبيان وتعليم الناس دين الله، خيرٌ وأحسن تأويلاً..
قال الحسن البصري رحمه الله : " والله لو أن الناس إذا ابتُلُوا من قِبَل سلطانهم صبروا ما لَبِثُوا أن يرفع الله عز وجل ذلك عنهم، وذلك أنهم يفزعون إلى السيف فيوكَلُون إليه، والله ما جاءوا بيوم خيرٍ قط، ثم تلا : ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ) [ 137/ الأعراف ](13 ).
فإذا قيل : فمتى نجاهد إذن ؟
أقول : الجهاد والقتال لا يكون إلا تحت راية إمام شرعي، أي دولة إسلامية تتبنَّى الجهاد، وقد كانت وَمَضَتْ لأهل أفغانستان ومن كان بها من المجاهدين وَمْضَةٌ مضيئة أتاحتْ لهم فرصةً ثمينة، هي تأسيس دولةٍ شرعيةٍ مجاهدةٍ ؛ وهي حكومة " الطالبان "، فليتهم عرفوا كيف يحافظون عليها ولم يستعجلوا حتى تقوم على ساقيها، وتجمع كلمة قومها وتصلح من حالهم، فإذا ما تم لها ذلك تبدأُ بجيرانها فتساعدهم على التحرُّر من حُكْم الكَفَرةِ من الصينيين الشيوعيين، وأذناب الروس وبقاياهم، كما قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً ) [123/التوبة] وإذ قد وقع ما وقع وقضى الله أمراً كان مفعولاً فقد وجب على أهل " أفغانستان " جهاد " الدّفع " مرة أخرى، لإنفاذ بلادهم من الاحتلال؛ ولإعادة حكم الإسلام، وحتى يتمكّنوا من ذلك عليهم أن يكفوا عن مقاتلة العالم أجمع.
وجهاد " الدفع " قائم اليوم في عدد من بلاد العالم الإسلامي : مثل فلسطين، وكشمير، والشيشان.. فالواجب على من يقدر نصرةُ إخوانه المُعتدَى عليهم بدلاً من أن يفتح جبهاتٍ جديدة لا قِبَل للمسلمين بها وهم في هذه الأحوال من الضعف والتفكك وغياب القيادة.
وفيما سوى ذلك على المؤمن أن يصبر عن القتال ويشتغل بالدعوة، لقد صبر الصحابة ثلاث عشرة سنة على طغيان المشركين وقهرهم، وأحياناً عندما كانت تضيق صدور بعضهم فيواجهون النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال : إلى متى ؟! كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالصبر، كما أُمِر هو بالصبر فصبر صلى الله عليه وسلم، ولما اشتد عليه إيذاء المشركين وقهرهم قال له ربه عز وجل : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ) [35/ الأحقاف ].
أي لا تستعجل لهم العقوبة.
المقالة التالية
أزمة القيادات في العالم الإسلامي
(1 ) من عبارات شيخ الإسلام ابن تيمية [ مجموع الفتاوى 13/96 ].
( 2) انظر مجمع الزوائد [ 1/62 ].
( 3) النهاية [ 1/92 ].
( 4) انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/321 [ طبعة الحلبي 1375هـ ].
( 5) تفسير ابن كثير ( 1/571 ).
(6 ) متفق عليه : انظر اللؤلؤ والمرجان / لمحمد فؤاد عبد الباقي / ص14.
( 7) نفس المصدر / ص811.
(8 ) نفس المصدر / ص809.
(9 ) أبو داود [ السنن 4/99-101 ].
(10 ) نفس المصدر.
( 11) الشريعة للآجري / ص38.
( 12) الشريعة للآجري / ص39.
(13 ) الشريعة للآجري / ص38.(/5)
فقه المعاملات المالية ( 1 )
د. فتحي عقوب
تمهيد
المبحث الأول في بيان المراد بفقه المعاملات المالية
المعاملات : جمعُ معاملةٍ، وهي مصدر عَامَلَ على وزن فَاعَلَ، وفَاعَلَ صيغةٌ تدلُّ على المُشاركة كثيراً : ضَارَبَ، وقَاتَلَ ونحوها ([1]). والتعاملُ بمعنى المعاملة أيضاً. قال في تاج العروس : وعاملتُه في كلام أهل الأمصار يُرادُ به : التَّصرُّفُ من البيع ونحوه ([2]).
وأما في اصطلاح الفقهاء فإنهم يُطلِقونَ هذه الكلمة "معاملات" على التصرفات يُقصدُ بها في الأصل قضاء مصالح العباد كالبيع والكفالة والحوالة ونحوها ([3]). ويشمل هذا المعنى الذي استعمله عامَّةُ الفقهاءِ أيضاً أبوابَ السَّلَم والإجارة والوكالة والشركة والصُّلح والمزارعة والمُساقاة والجعالة والضَّمان والعارية ونحوها من الأبواب والمسائل التي تدخل تحتها وهي كثيرة جداً. وغالباً ما يُقصد بهذا المصطلح – على هذا المعنى – المعاملات المالية بشكل خاصٍّ، فلا يدخل فيها فقه النكاح والطلاق ونحوها.
ومن جهةٍ أخرى يُطلقُ لفظ "المعاملات" بمعنى آخر وهو : مقابل العبادات، وهذا استعمالٌ مُنتشرٌ ومَشهورٌ في كتب فقه المذاهب المعتبرة ([4]). والفرق بين المعنيين هو أن المعنى الثاني أشملُ وأعمُّ من السابق؛ حيث يشمَلُ هذا المعنى الواسع معاملات أخرى أكثر كالنكاح والطلاق ونحوها. إلا أن أكثر الفقهاء قد تعودوا إفراد النكاح وما يتبعهُ من أبواب بقسمٍ خاصٍّ به. وبهذا أصبح مصطلح "المعاملات" خاصَّاً بما عدا النكاح وتوابعه.
ولكن عند دراستنا لفقه المعاملات المالية يجب أن نلاحظَ بعض الأمور :
1- أن التفريق بين العبادات والمعاملات في تقسيمات الفقهاءِ لكتبهم ومصنَّفاتهم لا يَعني انتفاءَ معنى التعبُّد في المعاملات واختصاصه بالعبادات المَحضَةِ، لأن كل الأحكام الشرعية في أبواب المعاملات أو العبادات مقصودٌ بها التعبُّد لله تعالى والتقرُّب إليه بالتزام تعاليم الشريعة في كل تصرفات الإنسان وأعماله ومقاصده مهما كانت، إلا أن هذا التعبُّدَ إما أن يكون مَحضاً، وهو ما سمَّاه الفقهاء بقسم العبادات، وإما أن يكون تعبداً يَظهر فيه تحقيق مصلحة العباد في العاجل أي في الدنيا، ولكن المآل والعاقبة واحدةٌ فكلها أحكامٌ شرعيةٌ من عند الله فلا ينبغي التقليل من شأن هذا أو ذاك.
2- هذا الاصطلاحات المذكورة؛ "المعاملات" و " العبادات" لا أثر لها في الأحكام الشرعية، فاختلاف التقسيمات في أبواب الفقه هو من باب الترتيب والتنظيم فقط، ولا أثر له في الأحكام الشرعية.
3- أنَّ أحكام النكاح وتوابعه وأبواب الشهادات والجنايات بأنواعها والحدود وأحكامها والفرائض والوصية ونحوها لا تدخلُ في موضوع دراستنا "فقه المعاملات المالية" رغم وجود معنى التعامل فيها لأنها ليست تصرفات مالية وهذه هي فائدة التقييد بـ"المالية" أي أن أغلب هذه الموضوعات التي سندرسها هنا يكون أحد العوضين فيها مالاً أو منفعةً ([5]).
وأما "المالية" فكما هو ظاهرٌ أي نسبةً إلى المال، والمالُ في اللغة هو : كلُّ ما يُقتنى ويُملَك من كلِّ شيءٍ سواءٌ كان عيناً أو منفعةً ([6]).
وأما في اصطلاح الفقهاء فقد اختلفوا في تحديد معناه على رأيين :
- الرأي الأول : ذهب الجمهور إلى أن المالَ " هو كل ما له قيمةٌ يُلزَمُ مُتلِفَه بضمانه" ([7]).
- الرأي الثاني : ذهب الحنفية إلى أن المالَ هو " كلُّ ما يُمكنُ حيازته وإحرازه ويُنتفعُ به عادةً " ([8]).
ولكن السؤال هنا : ما هو الفرقُ بين التعريفين، وما هو أثر هذا الاختلاف وثمرته الفقهية ؟..
من خلال التعريفينِ السابقينِ – للجمهور والحنفية – نجدُ أن العلماء متفقين على أنَّ الأشياء المادية (المحسوسة) التي يُمكنُ إحرازُها والانتفاعُ بها تُعتبرُ مالاً. وأما الأمور المعنوية كالحقوق كحق الحضانة وحق الشِرب، أو المنافع كالعلم وسُكنى الدَّار واستعمال السيَّارة ولبس الثياب ونحوها فإنها تُعتبر مالاً على رأي الجمهور لأنها يُنتفَعُ بها ويُمكنُ حيازتُها بحيازة أصلها ومصدرها، ولأن المنافع هي المقصودة من الأعيان وهي الغاية منها ولولاها لما صارت الأعيان أموالاً لذلك فهي أموالٌ، وأمَّا على تعريف الحنفية فإنَّ الحقوق المعنويةَ والمنافعَ ليست من الأموال لأنها لا يُمكنُ إحرازُها وحيازتُها عندهم.
ومن الجدير بالذكر هنا الإشارةُ إلى تقسيمات الفقهاء للأموال؛ لأننا نحتاج لهذه التقسيمات أثناء دراستنا لكثيرٍ من مسائل فقه المعاملات المالية، ومن أهم تلك التقسيمات ما يلي ([9]) :
أولاً : ينقسم المال إلى مُتَقوَّم وغير مُتَقوَّم، وهذا تقسيمٌ باعتبار إباحة الانتفاع وحرمته :
1- المالُ المُتَقوَّم : هو ما كان في حِيازة الإنسان وأباح الشارعُ له الانتفاع به كالبيوت والسيارات والطعام والثياب والكُتُبُ عند أصحابها.(/1)
2- المال غير المُتَقوَّم : هو ما لم يُحْرَز بالفعل كالطيرِ في السماء والمعادن في الأرض أو ما لا يُباحُ الانتفاعُ به شرعاً مثلُ الخمر والخنزير بالنسبة للمسلم.
ومن ثمار هذا التقسيم هي أن المال المُتَقوَّم يصحُّ العقدُ عليه، والتصرُّفُ فيه بالبيع والهبة والوصية والشركة ونحوها، أم المال غير المُتَقوَّم فلا يجوز فيه شيءٌ من ذلك، وكذلك مَن أتلفَ مالاً مُتَقوَّما لغيره وجب عليه ضمان مثله أو قيمته لأنه محميٌّ من الشارع، وأما المال غير المُتَقوَّم فلا يَضمن متلفُه.
ثانياً : ينقسمُ المالُ إلى عقارٍ ومنقول، وهذا التقسيم باعتبار استقراره في محله وعدم استقراره :
1- العَقَار : هو ما لا يُمكنُ نَقْلُهُ بحالٍ من الأحوال، كالبيوت والأراضي.
2- المنقول : هوما يُمكنُ نقله وتحويلُه من مكان إلى مكان سواءٌ تغيَّرت هيأتُه (صفته الظاهرة) أم لم تتغير، مثل العروض التجارية وأنواع الحيوانات والمَكيلات والموزونات ونحوها. إلا أن مذهب المالكية في المنقول هو ما لا تتغير هيئتُه بنقله وتحويله كالأرض مثلاً.
ومن فوائد هذا التقسيم وثمراته أنَّ حقَّ الشُّفعة يجري في العقار دون المنقول إلا عند قليل من الفقهاء، وكذلك حقوق الجوار والارتفاق تتعلق بالعقار دون المنقول، وكذلك يجوز للوصي أن يبيع المنقول من أموال الصغار بحسب ما يراه من المصلحة، ولكن ليس له أن يبيع العقارات من أموالهم إلا بمُسوِّغٍ (سببٍ) شرعيٍّ لذلك.
ثالثاً : تقسيم المال إلى مِثْلي وقِيمي، وهذا باعتبار تماثل أجزاء المال وعدم تماثلها :
1- المال المِثْلي : هو ما له نظيرٌ ومِثلٌ في الأسواق من غير تفاوتٍ بين أجزائه أو آحاده يُعتدُّ به في التعامل. وهو أربعة أنواع :
- المَكيلات : أي التي تُقدَّر بالكيل، كالقمحِ والشَّعير والزيوت ونحوها.
- الموزونات : أي التي تُقدَّر بالوزن، كالذهب والحديد ونحوها.
- العدديات : أي التي تُقدَّر بالعدد، إذا كانت متقاربة كالبيض والجوز ونحوها.
- الذرعيات : أي التي تُقدَّر بالذراع أو المتر أوغيرها كالأقمشة ونحوها.
2- المال القِيمي : هو ما لا مِثلَ له في الأسواق أو له نظيرٌ ولكن بتفاوتٍ كبيرٍ لا يُتسامَحُ به عادةً.كالبيوت والحيوانات والأحجار الكريمة ونحوها.
ومن فوائد هذا التقسيم وآثاره، أن المال المثلي يثبتُ دَيناً في الذمة بأن يكون ثمناً في البيع عن طريق تعيين جنسه ووصف، بخلاف المال القيمي فإنه لا يثبتُ ديناً في الذمة، كما أن الضمان في إتلاف المال يكون بمثله أما في القيمي فيكون بقيمته.
رابعاً : المال الاستعمالي والمال الاستهلاكي، باعتبار بقاء عينه بالاستهلاك أو عدم بقائها :
1- المال الاستعمالي : وهو الذي يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، كالبيوت والأراضي والسيارات ونحوها. وهذا ما يُعرف في الاصطلاح الاقتصادي بالسلع المعمِرة (Durable Goods).
2- الاستهلاكي : وهو الذي لا يُمكن الانتفاع به إلا باستهلاك عينه، كأنواع الطعام والشراب والنفط والورق ونحوها. وهذا ما يُعرف في الاقتصاد الحديث بالسلع غير المعمِرة (Nondurable Goods).
وتظهر فائدة هذا التقسيم وثمرته بأن كلاً من النوعين المذكورين يَقبلُ نوعاً مُعيَّناً من العقود؛ فالمال الاستهلاكي يَقبلُ العقود التي غرضُها الاستهلاك فقط لا الاستعمال كالقرض والإعارة ونحوها، أما المال الاستعمالي فإنه فيقبلُ العقودَ التي هدفها الاستعمال دون الاستهلاك كالإجارة والإعارة ونحوها.
* * *
([1]) الفيومي، المصباح المنير ، ص 430.
([2]) الزبيدي، تاج العروس، مادة "عمل"، 8/36.
([3]) أشار لهذا المعنى ابن عابدين محمد أمين بن عمر في حاشيته؛ انظر : 4/500.
([4]) انظر مثلاً : ابن عابدين، الحاشية، 4/500. والشاطبي، الموافقات، 1/284. وابن القيم، إعلام الموقعين، 1/384. والشربيني، مغني المحتاج، 3/2. وغيرها من كتب الفقه المتأخرة وكتب الأصول.
([5]) وقد سبقت الإشارةُ إلى معنى ومفهوم المال وتعريفه وأنه يشمل العين والمنفعة معاً على رأي الجمهور فكلها تُسمَّى مالاً .
([6]) ابن منظور، لسان العرب، مادة "مول"، 13/223.
([7]) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 258. والزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، 4/42. وهذا يتفق في المعنى مع تعريفات المالكية والحنابلة للمال.
([8]) ابن عابدين، الحاشية، 4/3. ونحوه عند : ابن نُجيم، البحر الرائق، 2/227.
([9]) انظر هذه التقسيمات في : الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، 4/43-51. أحمد إبراهيم بك، المعاملات الشرعية المالية، ص 12-35. وحميش والشوَّاط، فقه العقود المالية، ص 15-18.(/2)
فقه المقاومة
الكاتب: الشيخ د.علي بن عمر بادحدح
إن المقاومة كلمة قليلة الاستخدام بمعناها المتعارف عليه، وإذا أرجعنا الكلمة إلى أصلها الثلاثي(قوم) وجدنا أنه: أصل يدل على معنيين : أحدهما يدل على انتصاب وعزم (1) ، وقام يقوم قياماً : انتصب ، والقوام: نظام الأمر وعماده وملاكه الذي يقوم به (2)، والقوام : العدل والاعتدال (3)، وكل هذه المعاني تدور حول الأخذ بالأمر وتحقيقه بعزم، وأدائه بعدل واعتدال، وهي معانٍ حميدة ، غير أن المقاومة بالاصطلاح الشائع قد تأخذ بشيء يسير من هذه المعاني أو تتضمنها، إلا أن مفهومها مرتبط بالمدافعة ورد الأذى ، والدفع أصل يدل على تنحية الشيء (4) ،أي إزالته لما فيه من السوء والأذى ودَفَع الشيء : نحاه وأزاله بقوة (5).
قاومه في المصارعة وغيرها : قام له ، وهذا أقرب شيء يدل على الربط بين الأصل اللغوي والمعنى الشائع ، فالقيام استعداد للمقاومة والمدافعة وأخذ بأسبابها ، والانتصاب ثبات في وجه المعتدي وصد العدوان، والمقاومة: مفاعلة، تدل على وجود أكثر من طرف وفيها معنى المغالبة : " غالب مغالبة وغلاباً:حاول كل واحد منهما أن يغلب الآخر" (7)، ويمكننا القول إذن أن المقاومة: " قيامٌ وانتصاب لدفع العدوان وإقامة العدل والاعتدال ومنع الجور والاعتساف ".
وبعيداً عن المعنى اللغوي و اشتقاقاته واستعمالاته ومرادفاته ؛ فإن المقاومة معنى معروف ، ودلالته قديمة في الحياة الإنسانية، والمقاومة الشريفة هي التي تدافع عن الحق في وجه الباطل، وتنافح عن العدل في سطوة الظلم، وتناصر الضعيف المهضوم، وتصاول القوي الغشوم، هذه المقاومة ذات معانٍ عظيمة ، ودلالات سامية ، ولها بالنفس والروح تعلق ، ولها في الفكر والعقل تألق، فهي مشاعر نفسية ورؤية فكرية قبل أن تكون حركة عملية أو أسباباً مادية وهذه وقفات مع فقه المقاومة .
المقاومة فطرة وحياة
في الكائن الحي المتحرك غريزة وفطرة أصيلة تجعله يقاوم كل ما يوجه له مما يسوؤه أو يضره بطريقة تلقائية ، فاليد - على سبيل المثال - ترفع لاشعورياً في وضع دفاعي عندما ترى أي شيء سوف يسقط على الإنسان ، فالإنسان السوي تكمن المقاومة في أعماقه فطرة مستكنة وغريزة مستقرة، حتى وإن كانت أسبابها معدومة، ألا ترى الهرة كيف تبدي مخالبها وتكشر عن أنيابها وتتنمر إذ أحدق بها الخطر.
والمقاومة من أجلِّ دلائل الحياة فلا يقاوم إلا حي متحرك نابض بالحياة حساً ومعنى ، وأما الجماد فلا مقاومة عنده ، فالحجر تقلعه أو تقذفه لا يملك من أمره شيئا، والشجرة قد تقطعها أو تحرقها فلا تقاوم ولا تمانع، ومن فقد المقاومة فكأنما فقد الحياة، وصار هو والجماد أشباه.
المقاومة ثقة وقوة
إن المقاوم عنده ثقة بالنفس تدفعه إلى المقاومة، فلديه مقومات داعمة مبنية على إدراك لحقيقة القوة النفسية المعنوية، فالمرء قد يواجه الصعاب وهو صفر اليدين من أسباب المادة ؛لأن بين جنبيه نفساً عظيمة أبية، وروحاً حية زكية، ويدرك العقلاء أن القوة المعنوية أعظم قدراً وأبقى أثراً، وأن المهزوم في أعماق نفسه لا تنفعه القوة المادية مهما عظمت لأن الحقيقة أن نفسه محتلة وأن عدوه قد حلّ في نفسه وقلبه وروعه.
المقاومة عزة وإباء
إن الذي وثق بنفسه وقوّى عزمه وضع الأساس الصحيح للمقاومة التي تأبى الذل، وتعاف الهوان، وتأنف من الخنوع، لا تجتمع المقاومة مع الذلة أبداً، ومن يرضى الذل يفقد مقومات الوجود الإنساني لأنه يرضي أن يكون مستباحاً لكل طامع، وغرضاً لكل معتدٍ، ومستسلماً أمام أي قوة، كرامته مهانة، وشرفه مدنس، فماذا بقي له؟ وهل حياته وحركته يستحق معها أن يوصف بأنه إنسان وإن لم تكن لديه كرامة ولا شرف؟ وحسب المقاومة أنها تحافظ على كينونة العزة والإباء ليبقى الإنسان جديراً بإنسانيته، قادراً على الاستعلاء على الأعداء، ولو لم يملك ما لديهم من وسائل الاعتداء.
المقاومة حق وعدل
إن الحياة الحرة والقوة المعنوية والعزة النفسية كلها تنشد العدل والإنصاف، وترفض الظلم والاعساف، والمقاومة حفاظ على الحقوق وصيانة لها، وتضحية في الذود عنها، والتخلي عن الحق، أو الرضا باستلابه دون مقاومة خلل تموت به الكرامة، أو مرض تتمكن به الخيانة، فالمقاومة تلازم بين الحق وأصحابه ومالكيه، والحقوق والملكيات لا تسقط بالتقادم، ولا تلغى بفرض الأمر الواقع، بل تبقى ما بقي في أصحاب الحقوق عرق ينبض، ونَفس يتردد، وما ضاع حق وراءه مقاوم.
المقاومة عراقة وأصالة(/1)
إن الحقوق المعنوية أعظم قدراً وأكبر أهمية لدى الإنسان من الحقوق المادية، فالاعتداء على المقومات الأساسية للأمة ( الدين، اللغة، التاريخ) أشد وأعظم من نهب ثروتها واحتلال أرضها، لأن المال يسترد، والأرض تستعاد، لكن العدوان على الدين و اللغة والتاريخ، أخطر وأفظع لأنه يأتي البناء من قواعده، ويمسخ الأمة من هويتها، ويلغي ذاكرتها، وينسخ ثقافتها، ويزيل حضارتها، فالمقاومة للحفاظ على المقومات هي مقاومة للحفاظ على العراقة والأصالة التي هي صبغة الأمة ومزيتها.
المقاومة فداء وتضحية
إن المقاومة للحفاظ على المقومات والمقدسات تستنفر كل القوى، وتستنفد كل الإمكانات، ولا يدخر لأجلها مال ولا جهد بل تبذل لأجلها الأرواح، وهذا في الحق الإنساني فضلاً عن النهج الإسلامي والمبدأ الإيماني، فالمقاومة إذن ليست كلمة عادية، وليست عملاً محدوداً في دائرة الماديات، إنها تعني الكثير مما ذكر ومما سيأتي ذكره؛ ولذا فإن مقاومة العدوان تعني الكثير وتعطي الكثير.
------------------------------------------
-1معجم ابن فارس5/43
- 2تاج العروس 17/591،594)
-3المصباح المنير 26 )
-4معجم ابن فارس 2 / 288
-5المعجم الوسيط ص 289
6- المعجم الوسيط ص 658(/2)
فقه المنهج في التعامل مع الظاهرة الإسلامية
كمال السعيد حبيب 26/6/1424
24/08/2003
المقصود بالظاهرة الإسلامية هنا الأشكال والتعبيرات التي تستلهم الإسلام كمنهج للحياة ، وهذه الظاهرة يمكن أن تكون اجتماعية مثل توجه أعداد كبيرة من النساء والفتيات المسلمات لارتداء الحجاب والنقاب ونبذ الأزياء ذات الطابع الغربي ، وأيضاً توجه قطاع من الناشطين الإسلاميين للعمل الأهلي الخيري وذلك للتعبير عن تطبيق ظاهرة التكافل بين المسلمين ، وإحياء سنة إخراج الزكوات والصدقات من الأغنياء للفقراء ، ومثال الظاهرة الإسلامية في المجال الاجتماعي توجه قطاعات الشباب المسلم لإحياء تقاليد الزواج الإسلامي حيث ينزعون إلى فصل الرجال عن النساء وعدم الاختلاط المسف بينهم، وهو ما يحدث عادة في الأفراح غير الإسلامية ، وإلى جانب المجال الاجتماعي هناك المجال الفكري والثقافي، حيث يسعى قطاع من الباحثين والعاملين في الحقل العلمي والأكاديمي لمحاولة بناء أنظمة من المعرفة والعلم تستلهم المناهج الإسلامية، وهو ما عرف بأسلمة العلوم ومناهجها، وفي المجال الدعوي هناك جماعات وجمعيات إسلامية تخصصت في مجال الدعوة والأخذ بيد الناس من حمأة الغفلة والضياع إلى نور الهداية والحق والالتزام الإسلامي، وفي المجال النقابي عبر النقابيون الإسلاميون عن أنفسهم في العمل النقابي والطلابي واستطاعوا تقديم خدمات كبيرة في هذا القطاع، وفي المجال السياسي خاض الإسلاميون الانتخابات النيابية في بلدانهم واستطاعوا تحقيق وجود هام لهم في المجالس النيابية كما في اليمن ومصر والأردن. وفي سبيل السعي الإسلامي لتحقيق الإسلام كمنهج للحياة في الواقع استلهمت بعض الحركات المناهج العنيفة ضد حكومات بلدانها التي لا تحكم بالشريعة الإسلامية وتستلهم التقاليد الغربية في الحكم والسياسة ، كما استطاعت بعض الحركات السياسية التي تستلهم الإسلام أن تصل إلى السلطة في بعض البلدان مثل إيران والسودان.
وفي فترة السبعينيات التي شهدت ما عرف باسم "الإحياء الإسلامي" والذي أصبح موضوعاً للبحث في مراكز الأبحاث السياسية والاجتماعية والاستراتيجية الغربية لفهم التحول الكبير في العالم الإسلامي، والذي يمثل في التقديرات الغربية تهديداً للمصالح الغربية على مستوي القيم والأفكار وعلي مستوي التواجد والنفوذ، واندفعت جهات البحث المختلفة في الغرب للتقصي والبحث والتنقيب والتحليل، وافتقدت مراكز البحث هذه للرؤية المنهجية في تحليلها للظاهرة الإسلامية الجديدة، فلم يكن لديها ما أطلقنا عليه فقه المنهج في التعامل مع الظاهرة الإسلامية .
غياب المنهج في التحليل الغربي:
أولا: اتضح غياب المنهج في التحليلات الغربية، وذلك عبر تركيز الباحثين الغربيين على الحركات السياسية التي تناصب السلطات العداء في بلدانها، سواء أكان ذلك عن طريق المواجهة المسلحة أو المنازعة السياسية، وبدت الأبحاث الغربية وكأنها تغذي نزعات المواجهة والصراع بين هذه الحركات ونظمها السياسية .
ثانيا : استخدام الباحثين الغربيين لمناهج التحليل الكمي ذات الطابع الجزئي، وهو ما جعلهم يتحدثون عن عدة مئات من الجماعات الإسلامية داخل البلد الواحد دون التمييز بين الأوزان النسبية لهذه الجماعات داخل بلدانها، ودون التمييز أيضا بين مناهجها وأفكارها.
ثالثاً : استخدام مناهج التحليل الغربي، والتي تركز بشكل أساسي علي الجوانب المادية ذات الطابع الوضعي، فعزت معظم التحليلات الغربية الظاهرة الإسلامية إلى أسباب اقتصادية ونفسية واجتماعية، وربطت بين الوضع الطبقي للفاعلين الإسلاميين وبين توجهاتهم الإسلامية ، كما ركزت على فجوة التوقعات وعلى قضايا الحرمان النسبي الاجتماعي، وهي كلها نظريات غربية تسعي لتفسير الانفجارات الاجتماعية والثورات والانقلابات أو أعمال العنف السياسي مثل المظاهرات وما يصاحبها من أعمال تدمير وتحطيم في العادة ، ورغم أهمية المناهج الوضعية في تفسير حركات العنف السياسي والاجتماعي؛ لكنها تظل قاصرة في سعيها لتفسير وتحليل وفهم الظاهرة الإسلامية.
الحاجة إلى المنهج في التحليل الإسلامي :
إذا كان الغربيون قد غاب عنهم المنهج؛ فإن مناهج التحليل التي تنتمي للظاهرة الإسلامية ذاتها افتقدت هذا المنهج هي الأخرى وذلك علي النحو الآتي:
أولا: المنهج هو طريقة للفهم وإطار للتفسير العلمي بطريقة تعكس التكافؤ بين الظاهرة موضوع البحث والطرق المستخدمة في فهمها؛ فإذا كانت الظاهرة الإسلامية لا يصلح لدراستها مناهج التحليل الغربية المادية فإنه لا يعني ذلك إهمال الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والنفسية من جانب مناهج التحليل الإسلامي، ذلك لأن العلوم الحديثة ومناهج العلوم الاجتماعية خاصة تعطي الباحثين والمحللين من منظور إسلامي أدوات لا غناء عنها لفهم الظاهرة الإسلامية وتفسيرها وتحديد طرق التعامل معها وترشيدها.(/1)
ثانيا: هناك ما يمكن أن نعتبره آلية داخل المنهج الإسلامي ذاته هي التي تنتج ما نسميه نحن كمتخصصين في العلوم الاجتماعية بـ"الظاهرة الإسلامية"، وهذه الآلية قابلة دائما للتكرار كلما تحققت شروطها، فعلي المستوي الفردي هناك جدل بين فطرة الإنسان التي فطر الناس عليها وبين الدين، بحيث يجد الفرد المسلم نفسه دائماً يستجيب لنداء الفطرة في جدلها الدائم وحتى الصامت واللاوعي مع المنهج الإسلامي ، وبالطبع هناك جانب اختيار من الله سبحانه للإنسان بحيث يوجهه ويهديه دائماً، وعلى المستوي المجتمعي والسياسي هناك جدل بين المنهج الإسلامي وبين المجتمع والسلطة، بحيث يسعى المسلم إلى محاولة العودة بالمجتمع والأمة والسلطة إلى المنهج القرآني أو منهج الله الذي أراده لعباده.
ثالثا: في الخبرة الإسلامية دائما كانت حركات الإحياء والإصلاح والتجديد تعبيراً عن مجتمعها وليست مفارقة له. خذ عندك مثلاً حركات التجديد الفقهي ممثلة في الأئمة الأربعة؛ فسوف تجد أنها تعبر عن الأئمة في حفظها للدين وتوسيع طرائق فهمه وبيان الجانب المقاصدي فيه كان المجددون تعبيراً عن المجتمع ولم يكونوا مفارقين له ،كل حركات التجديد والإصلاح في الخبرة الإسلامية كانت تعبر عن التيار الرئيس للجماعة المسلمة، وهو ما عرف باسم "أهل السنة والجماعة" ، فلم تكن حركات الإحياء والتجديد فرقة أو طائفة؛ وإنما كانت هي الأمة وحاميتها وحاضنة تطورها ونموها.
رابعاً: لم تكن حركات الإصلاح والإحياء منفصلة عن واقع مجتمعاتها وأمتها؛ وإنما كانت تضعه في حسبانها، والأحكام والاجتهادات الفقهية المتصلة بمعالجة التغيير في المجتمعات الإسلامية جزء من الحكم أو الاجتهاد الفقهي هو قراءة الواقع، بحيث يكون تنزيل الحكم الفقهي في موضعه الصحيح من الواقع هو الاجتهاد الصواب، لذا من المهم أن ترتبط حركات الإحياء بعلماء الأمة وثقاتها من المجتهدين والمجددين .
خامساً : الاندفاعات غير المحسوبة في مواجهة السلطات الحاكمة؛ في بلدان هذه الحركات ذات الأغلبية المسلمة يؤدي إلى نتائج خطيرة وكارثية على الحركات الإسلامية الإحيائية، ولذا فإن الاندفاع غير العاقل يؤدي إلي نتائج خطيرة تتعدي آثارها إلي الأمة كلها، كما أن إغراء استخدام القوة وتصور أن يختصر المسافات لتحقيق الحلم الإسلامي بقيام السلطة الإسلامية هو نوع من الخداع لأصحابه، لذا فتركيز الظاهرة الإسلامية علي العمل المجتمعي والأهلي والابتعاد عن استعجال الموجهة مع سلطات بلدانه هو المنهج الصواب الذي يجعل من الظاهرة الإسلامية عنصر إثراء وإضافة لأمتها وليست خصما منه.
وأخيراً؛ فإن القيمة أو الفكرة الإسلامية هي أهم بكثير من التنظيمات والحركات والأطر التنظيمية، بحيث لا يجوز التضحية بأية حال بالفكرة أو القيمة الإسلامية لحساب التنظيم ولوائحه وحساباته ومنازعاته، كما لا يجب أن يتحول العمل التنظيمي إلى مغنم لأهله حتى لو كان علي حساب المسلمين من خارج التنظيم ، إن القيمة الإسلامية أبقى وأهم من التنظيم والولاء للأمة كلها مقدم علي الولاء لأهل الثقة المنتمين. إن عظمة الإسلام في قيمه وسقوط المؤسسات الإسلامية لم تؤثر في الفكرة الإسلامية وظل الإسلام دائما وأبداً ديناً يدخله كل يوم مسلمون جدد، وقيمة أية حركة بالحفاظ على مبادئها وقيمها ودهس المبادئ والقيم لصالح ضرورات الواقع واستمرار التنظيم هو كارثة كبيرة.
الظاهرة الإسلامية كما أنها بحاجة إلى منهج صحيح لفهمها من الباحثين الغربيين؛ فهي تفتقر إلى فقه للواقع والتاريخ والفقه والخبرة من أهلها.(/2)
فقه النفرة في سبيل الله
مع الآية الكريمة
(( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِينفرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لّيِتَفَقَّهُوا فِي الدّيِنِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِليْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحذَرُونَ )) [ التوبة : 122 ]
...
...
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
... ...
...
هذه الآية الكريمة من سورة التوبة نراها مليئة بالتوجيه الممتد مع الزمن مهما كانت أسباب النزول . فقد تنزل الآية الكريمة مع حادثة ولكن حكمها وحكمتها لا تنحصر في الحادثة فقط . وإنما تمثل قاعدة من الحق المطلق الماضي مع الزمن كله .
وعند العودة إلى كتب التفسير نجد أن المفسرين اختلفوا في المعنى المقصود من هذه الآية . فقال بعضهم : إنها نزلت لتبين أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يعذر أولئك الذين بعثهم رسوله صلى الله عليه وسلم إلى البادية ، فلما سمعوا قوله سبحانه وتعالى : ((ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ... )) ، انصرفوا عن البادية إلى المدينة خشية أن يكونوا ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال بعضهم : كان يكفي أن ينفر من كل حي أو قبيلة طائفة منهم للجهاد ، وتبقى طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ليتفقهوا بصحبتهم لرسول الله ، ويعلموا ما نزل من القرآن ، ثم يبلغوا الذين نفروا للجهاد عند عودتهم بما نزل من القرآن الكريم . و هذا التأويل ينطبق في حالة السرايا التي يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال بعضهم : كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم عصابة من كل حي من العرب يسألونه عما يريدونه من دينهم . فيفقههم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرهم ويعلمهم ، فيعودون إلى قومهم ينذرونهم بعذاب الله إن كفروا ويبشرونهم بالجنة إن آمنوا .
وقال بعضهم : إن هذه الآية تكذيب للمنافقين الذين أزْرَوا بأعراب المسلمين وعابوا عليهم تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما كان للمنافقين أن يفعلوا ذلك ، لأن هؤلاء الأعراب كانوا ممن عذرهم الله .
وقال آخرون : إن معنى هذه الآية أن تنفر طائفة لتتفقه في الدين من خلال نفرتهم وجهادهم العدو ، حتى إذا عادوا أنذروا قومهم بخطر العدو حتى يستعدوا لهم ويحذروهم . ويكون الفقه بما يرون من آيات الله في الجهاد والنصر الذي ينزل على عباده المؤمنين .
وحين مراجعة مختلف أقوال المفسّرين نجد أن معظمهم يربط التفسير بحادثة أو واقع معين أو مرحلة معينة .
ونعتقد أن تفسير أي آية يجب أن يرتبط بالخط العام للسورة التي هي فيها ، والآيات التي قبلها والتي بعدها ، ويستفاد من الأحداث والوقائع المرتبطة بها ، لنخرج من ذلك كله بصورة واضحة من التفسير والمعنى الذي نحتاجه في واقعنا اليوم وفي كل واقع آخر ، في ممارسة إيمانية وتطبيق إيماني .
نؤمن أن الآيات تمثل ما نسميه " الحق المطلق " الذي يحتاجه كل زمان ومكان ، إنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، إنه تنزيل من حكيم حميد :
(( إنَّ الذين كفرُوا بالذّكْرِ لمَّا جاءهُم وإِنَّهُ لكتابٌ عزِيزٌ . لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِنْ خلْفِهِ تنزيلٌ مِنْ حكيمٍ حميدٍ )) [ فصلت : 42،41 ]
وكذلك :
(( قل يا أيها النَّاس قد جاءكم الحق من ربكم فمنِ اهتدى فإِنما يهتدي لنفسه ومن ضلَّ فإِنَّما يضلُّ عليها وما أنا عليكم بوكيل )) [ يونس : 108 ]
سورة التوبة ، ولها أسماء متعددة . فتسمى "براءة " ، وتسمى "الفاضحة " ، وتسمى " الحافرة " (1) .
وسورة التوبة من أواخر ما نزل على رسول صلى الله عليه وسلم . ولقد نزل أول هذه السورة لما رجع من غزوة تبوك وهمَّ بالحج .
تتحدث السورة من أولها عن العلاقة والموقف من المشركين ، وتحدد ذلك تحديداً حاسماً ، ينهى المسلمين عن أن يُخدعوا بأفواه المشركين ، فهم المعتدون الظالمون المجرمون أبداً ما داموا على شركهم .
وتضع السورة قواعد فاصلة في الفكر وفي العلاقات وفي أسس الإيمان والتوحيد ، الأسس التي يبنى عليها الفكر والرأي والفقه والموقف ، فتشرق من خلال ذلك معاني الآيات :
(( أم حسبتُم أن تُتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتَّخذوا من دُون الله ولا رسوله ولا المُؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون )) [ التوبة : 16 ]
هو الابتلاء والتمحيص في تحديد المواقف والعمل ، مع مشركين ظالمين أبداً :
(( لا يرقُبُون في مُؤمنٍ إِلا ولا ذمَّةً وأولئك هُمُ المعتدون )) [ التوبة : 10 ]
وكذلك :(/1)
(( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين . الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون . يبشرهم ربهم برحمةٍ منه ورضوانٍ وجناتٍ لهم فيها نعيم مقيم . خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم )) [ التوبة : 19ـ 22 ]
وتتوالى الآيات الكريمة لتقرر حقائق مطلقة يجب ممارستها في واقع حياة المؤمنين وفي علاقاتهم مع أبنائهم وآبائهم وأزواجهم ، وكذلك في تجارتهم ومختلف شؤون حياتهم :
(( قُل إِن كان آباؤكم وأبناؤكم وإِخوانكم وأزواجُكم وعشيرتُكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين )) [ التوبة : 24 ]
قواعد إيمانية متتالية وأسس راسخة : تُحدِّد طبيعة الصلات مع الآباء والأبناء وغيرهم ، وتُحرِّم موالاتهم ، والإيمان يجعل الولاء الأول لله وحده ومنه تنبع أي موالاة في الحياة الدنيا ، والإيمان يجعل الحب الأكبر لله ولرسوله لا يعدله حب آخر أبداً ، ولا يعدله حب الآباء والأبناء والزوجات والتجارة والمساكن وكل متاع الدنيا .
إذا لم يلتزم المؤمنون هذه القواعد الأساسية في واقع الحياة ، فليتربصوا ولينتظروا عذاباً من الله ينزل على الذين فسقوا عن أمره وخالفوا هذه الأسس .
كل آية ترسي قاعدة هامة من قواعد الإيمان ، قاعدة يجب ممارستها وتطبيقها . وتتوالى الآيات في سورة التوبة وفي غيرها من السور لترسي هذه القواعد والأسس نهجاً متماسكاً مترابطاً ، على أساسه ومن خلاله تفهم الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ، في جو من التناسق والترابط دون تضارب أو تعارض .
ونأخذ قبسات أخرى ليمتد بنا نهج السورة وقواعد الإيمان المترابطة المتناسقة :
(( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يُحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينُون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطُوا الجِزْيةَ عن يدٍ وهم صاغرون )) [ التوبة : 29 ]
قواعد ربانية متماسكة مع ما قبلها ومع ما بعدها ، في نهج متكامل يبني أمة مسلمة واحدة ، قوية عزيزة ، العزة فيها لله ولرسوله وللمؤمنين ، تعرف متى تقاتل ، ومن تقاتل ، وكيف تقاتل . وكأن هذا النهج بنيان إذا نُقض أساس من أسسه تبدأ تنهار أسس أخرى ، ويتعرض البناء كله للخطر !
وكذلك :
(( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل . إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيءٍ قدير . )) [ التوبة : 39،38 ]
وكذلك :
(( انفروا خِفافاً وثِقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خيرٌ لكم إِن كنتم تعلمُونَ )) [ التوبة : 41 ]
نعم ! كيفُ يُحمَى البناء إذا لم يكن له أهل يحمونه ؟! وكيف تقوم العزة إذا لم يقم لها جنود الرحمن يعلونها في الأرض ظلاً ندياً يستظل فيه المستضعفون ويفيء إليه المظلومون ؟ !
وتمتد الآيات الكريمة تعرض صورة النفاق والمنافقين الموجودين بين المؤمنين . وتكشف الآيات الكريمة سماتهم وخصائصهم التي تفضحهم ، وتحدد الموقف منهم ، وتدرس نفسياتهم وما يخفون فيها ، ومواقفهم التي يخذلون بها المؤمنين في ساعات النفرة ولحظات الشدة ، كما حدث في عزوة تبوك ، حيث كانوا هم المتخلفين الذين أخفوا نفاقهم بما قدموا من أعذار كاذبة ، حتى بيّن الله لنا كذبهم وبيّن الثلاثة الذين تخلفوا واعترفوا بأنه لم يكن لهم عذر ، فصدقوا الله ورسوله ، ونزل بحقهم العقاب في الدنيا ، وتُرِك المنافقون ، بعد أن فُضِحوا ، لعذاب الله في الآخرة ، ورُفضت أموالهم ، ومات من مات منهم وهم كافرون .
وتعدد السورة نماذج أهل المدينة ومن حولها من الأعراب ، نموذجاً نموذجاً ، ثم تعرض السورة الصورة المشرقة للمهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان على صراط مستقيم . ثم تتحدث السورة عن الثلاثة الذين خُلِّفوا واعترفوا بذنبهم ، وينكشف بذلك صورتان : صورة المنافقين الذين كذبوا بأعذارهم فلم يعاقبوا ، وصورة الثلاثة الذين خُلّفوا وصدقوا باعترافهم بذنبهم ، فعوقبوا وكانوا صادقين . ثم يختم هذا العرض بالقاعدة الإيمانية الكبيرة بقوله تعالى :
(( يا أيها الذين آمنوا اتّقوا الله وكُونوا مع الصادقين )) [ التوبة : 119 ]
كانت هذه الآية الكريمة خاتمة المشهد الذي استغرق معظم السورة ، مشهد المتخلفين المنافقين الذي تُرِكوا لأعذارهم الكاذبة ولعقابهم عند الله ، والثلاثة الذين خُلِّفوا وصدقوا ، وجَاءت الخاتمة : (( ... اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )) . من خلال هذه المشاهد المتتالية ، والقواعد الربانية المتماسكة تأتي الآية الكريمة :(/2)
(( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون )) .
وقبل هذه الآية الكريمة جاءت الآيات الكريمة التي تبين أن الله سبحانه وتعالى تاب على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ، وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا . وكذلك تأتي الآيات التي تبيِّن أنه ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه . ثم يأتي قوله سبحانه وتعالى بعد الآية موضوع الدراسة والبحث :
(( يَا أَيُّها الَّذين آمنوا قاتِلُوا الَّذيِنَ يَلُونَكُم مِنَ الكُفَّارِ وليجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ )) [ التوبة : 123 ]
فمحور سورة التوبة هو النَّفْر في سبيل الله لنشر الدعوة الإسلامية ومجاهدة الكافرين والمشركين الذين يصدون عن سبيل الله .
والنّفْر في سبيل الله نهج يحمل أهدافه الربانية . وهذا النهج لا يحتاج أن ينفر المؤمنون كلهم فرداً فرداً ، ولكنه يفرض شروطاً أساسية يجب توافرها في واقع المؤمنين :
• أولاً :
أن يكون جميع المؤمنين مستعدين للنفر إذا صدر إليهم الأمر ، قادرين عليه إلا من عذر الله ، وأعدوا العدة من تدريب وبناء ورباط وقوة يرهبون بها عدو الله . كل مؤمن مكلف في دين الله أن يكون مقاتلاً مستعداً للجهاد في سبيل الله ، ليكون المؤمنون جميعهم أمة واحدة وصفاً واحداً كالبنيان المرصوص يحمل رسالة الله إلى الناس كافة :
(( إِنَّ الله يُحبُّ الَّدِين يُقَاتِلُون في سبيله صفَّاً كأنهم بُنيان مَّرْصُوصٌ )) [ الصف : 4 ]
وفي جميع الآيات الكريمة التي تتحدث عن الجهاد ، يتوجه الخطاب إلى المؤمنين كافة دون استثناء أحد منهم :
(( تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كُنتم تعلمون )) [ الصف : 11 ]
وكذلك :
(( قاتلُوهم يُعذبهم الله بأيديكم ويُخزهِم وينصُركُم عليهم ويشفِ صُدُور قوْمٍ مؤمنين )) [ التوبة : 14 ]
(( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون . وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج مّلَّة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شُهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النّصير )) [ الحج 77 ، 78 ]
ويرتبط الجهاد حيناً بالإيمان والتقوى ، وحيناً بالشعائر ، وحيناً بمنع الفتنة ، ويمتد في حياة المؤمنين حتى يكون ذروة سنام الإسلام كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه معاذ رضي الله عنه ، والذي جاء فيه :
" ..... ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه . قلت : بلى يا رسول الله ! قال : رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله " [ رواه الترمذي وقال حسن صحيح ] 2
وكذلك في سورة التوبة نفسها :
(( إن عدَّة الشُهٌور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حُرُمٌ ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة واعلموا أن الله مع المتقين )) [ التوبة : 36 ]
• ثانياً :
أن ينفر من المؤمنين ما يكفي لبلوغ النصر وحماية دار الإسلام وحرمات المسلمين وثرواتهم . فقد يكون الواجب أن ينفر المؤمنون كلهم :
(( انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إِن كنتم تعلمون )) [ التوبة : 41 ]
وقد يكفي أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة كما في الآية موضع البحث :
" وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ... " !
وهذا أقل ما يجب على الأمة المسلمة أن تفعله في ميادين الجهاد الممتدة في الأرض والزمن .
وحين تنفر فئة من كل فرقة ، فإن الباقين جاهزون ، قادرون ، يمكنهم النزول إذا تطلبت المعركة ذلك ، أو إذا اشتد الخطر على المسلمين .
وعندئذ يصبح ميدان الجهاد ميدان فقه . وهذه نقلة عظيمة للفقه في الإسلام ، حتى يمتد الفقه ومفهومه إلى ميادين الحياة كلها ، ابتداءً من حياة الفرد إلى الأسرة والبيت ، إلى الوظيفة إلى التجارة ، و إلى ميادين الدعوة والتربية والجهاد والحكم وغير ذلك . (3)
فهذه الآية الكريمة تبين لنا هذه النقلة العظيمة في الفقه ، حين تنص :(/3)
" ... فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ... " . فمعنى الآية واضح جليُّ محكم تدل عليه اللغة العربية وترابط الضمائر : " فلولا نفر من كل فرقة ... ليتفقهوا ... " . فالذين يتفقهون هم الذين ينفرون إلى الجهاد ، حيث يرون آيات الله في الواقع ، ويرون سنته وفضله ونعمته على المؤمنين الصادقين المتقين المجاهدين بالنصر ، وحين يرون العبرة بعد العبرة والعظة بعد العظة ، في ميدان القتال . حتى إذا رجع هؤلاء المجاهدون إلى قومهم حدثوهم بخطر الأعداء على دين الله ، على الإسلام ، على المسلمين ، ليأخذوا حذرهم فوراً ويظلُّوا على استعداد دائم لينفروا ، وليُعدُّوا كل عدة لازمة للميدان .
إن هذا المعنى للآية الكريمة متناسق كل التناسق مع الآيات قبلها وبعدها ، ومتناسق مع نهج سورة التوبة وموضوعها وخطها ، ومتناسق مع أسس الإيمان والتوحيد ، وقواعد منهاج الله ، وتؤكده لنا قواعد اللغة العربية .
وكذلك ، فإننا بهذا التصور نكون مطالبين بممارسة هذه الآية الكريمة في واقعنا ، في كل واقع ، وبخاصة في واقعنا اليوم .
هذا هو حكم الإسلام وفقهه الجلي المشرق ، الفقه الذي يجب أن يظل مشرقاً في حياة الأمة ، ليعرف كل مسلم مسؤولياته الفردية التي سيحاسبه الله عليها يوم القيامة .
ونخرج من هذه الآية الكريمة ومن السور كلها ، بقاعدة رئيسة يؤكدها منهاج الله في سورة بعد سورة ، وحديث بعد حديث . هذه القاعدة هي أن المؤمنين أمة واحدة ، لهم رابطة واحدة ، تنشأ الحقوق والواجبات من هذه القاعدة العظيمة ، القاعدة الربانية المؤكدة في سور عدة بإلحاح وتكرار حتى لا يتفلت منها المؤمنون ، فينهاروا ويذلوا ، ويصبحوا غثاءً كغثاء السيل .
في واقعنا اليوم ، واقع المسلمين ، جميع المسلمين ، علينا أن نردَّ واقعنا إلى منهاج الله ، كما يأمرنا الله سبحانه وتعالى ، وأن نبحث عن أخطائنا وزللنا على أساس من ميزان واضح دقيق هو منهاج الله ، فنعالج أخطاءنا وعيوبنا على نفس الأساس والميزان ، عسى أن يتقبل الله توبتنا وأوبتنا ، ويمدنا بنصر من عنده .
هذا هو السبيل الوحيد ، ولا أرى سبيلاً سواه ، سوى المضي من هزيمة إلى هزيمة وهوان إلى هوان إذا خرجنا عنه وانحرفنا عن الصراط المستقيم . ونرى من خلال هذه الآيات وآيات أخرى مترابطة في كتاب الله أن الجهاد في سبيل الله نهج ممتد متكامل ، يجب تطبيقه بتكامله . ففيه البناء والتماسك وإعداد القوة التي ترهب عدو الله . وهو نهج له أهدافه ورسالته العظيمة في الحياة الدنيا ، حين يحمل رسالة الله ليبلغها للناس كافة على مدى العصور ، فحينئذ يكون الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير ابن عطية : المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز : لأبي محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي .
(2) الترمذي : 41/8/2616 .
(3) يراجع كتاب " الفقه امتداده وشموله بين المنهاج الرباني والواقع " ، للمؤلف .
...
...(/4)
فقه النهضة .. هل يُعتبر خيار المرحلة القادمة لعلاج التطرّف؟
د. مسفر بن علي القحطاني * 3/5/1426
10/06/2005
يشكّل التطرف الفكري أزمة حقيقيّة للفكر . . فضلاً عن أزماته الأخرى إذا تجسد في أرض الواقع، ولكي نبحث عن مخرج لهذه الأزمة الفكرية يجب أن نحلّل الأسباب، ونتتبع الجذور التي أدّت إلى هذا التطرّف في مجتمعاتنا الإسلامية على وجه الخصوص, ونظرا ً لأهمية هذا التحليل، ودوره المرتقب في تشخيص العلاج المناسب كان الواجب أن يتولى هذا الدور العظيم مؤسسات متنوعة بجهود جماعية منظمة لا أفراد أو خبراء مهما بلغ تكوينهم الفكري. ومع تلك الأهمية من وجهة نظري فإنني لا أعفي نفسي من التنظير حول بعض مفاهيم الفكر المتطرف المحلي, ربما كان المسوّغ لذلك المعايشة الواقعية والتتبع التأريخي لمسيرته في مجتمعنا السعودي.
وبإجمال مبتسر -يكفي للإشارة حول هذه القضية الشائكة- ؛ أرى أن الممارسات الفكرية المنافية للموضوعية مهما صغرت لا ينبغي أن يُستهان بها حتى لو كانت آثارها المبدئية ضعيفة, فقد تنمو مع مرور الزمن لتصبح أكثر بعداً عن الوسطيّة والموضوعيّة معلنة نشأة التطرف بكل أطيافه الفكرية.
فالتعصب للأفراد أو المذاهب أو الجماعات يجعله لا يرى الحق إلا من خلالها، ويصادر بالتالي عقله، ويفكر بمنطق غيره، ويرفض كل رأي يخالف ما تعصب عليه من رأي أو طريقة؛ مما يزيد هوّة الافتراق في المجتمع، وربما يؤول الوضع إلى تنازع واقتتال بين أفراد المجتمع الواحد.
إن المبالغات التي أصبحت سمة للفكر المتطرّف تجعله يبالغ في ذم من يخالفه إلى درجة الإسقاط والإقصاء، وفي المقابل المدح والثناء على من يوافقه لدرجة التقديس والتنزيه عن الأخطاء.
وهذا ما قد يؤدي في المستقبل إلى نشوء عقليات لا تنظر للحقائق إلا من خلال النظر العاطفي المجرد. وهذا ما أورث الأمة الكثير من الفتن والرزايا والثورات المسلحة, أو ساهم في بناء عقليات لا تنظر للقضايا أو الواقع أو حتى الشرع إلا من بُعد واحد، وتصرّ على أن هذا الجزء هو الحقيقة المطلقة. مع أن رؤية نصف الحقيقة شرٌّ من الجهل بها؛ لأنها توجد إنساناً يظن أنه يعرف كل شيء وهو لم يعرف إلا الجزء الذي يجعله مسماراً في آلة كبيرة دون أن يعرف شيئاً عن تلك الآلة.
وأهم ما يساعد على نشوء هذه العقليات ذات البُعد الواحد سواء أكانوا من المتطرفين أو من غيرهم؛ فقر البيئة الطبيعية أو الثقافية بمعنى ضعف الخلفية العلمية والمنطقية لتحليل المشكلات وعلاج الأزمات؛ فيكون تفكيره لا يخرج عن ذلك الإطار الضيق الذي يشكّل حصيلته المعرفية وخبراته الحياتية، ولهذا ألزم العلماء من يجتهد في أحكام الشريعة أن تتحقق فيه الكثير من الشروط العلمية والفكرية ليستجمع أدوات النظر الصحيح والمعرفة الشاملة.
إن عقلية البعد الواحد يصعب عليها أن تحاور في هدوء، أو تسمع النقد المقابل دون تشنج؛ لأنها اعتادت أن تنظر لنفسها نظرة اعتدال وكمال واحتكار للحق والصواب، وكل من خالفها لن يعدو أن يكون ناقص فقه أو دين.
إن تبسيط الأمور العظيمة والمشكلات المزمنة دون العمق في النظر والتحليل المنطقي لها سمّة لأهل التطرّف والغلوّ, بالإضافة إلى الانغلاق التام نحو الاستفادة من الثقافات أو العلوم الأخرى المعنية في ذلك. وهذا لن يزيد قضايانا إلا إشكالاً ورجعية.
إن هذه الممارسات الفكرية -وإن ظلت في الخفاء أو لم تسهم في إثارة عنف أو تدمير في الواقع- لا ينبغي لنا تجاهلها أو الغضّ عنها. فمعظم النار من مستصغر الشرر، والواجب على مؤسسات المجتمع المختلفة أن تعيد صياغة الذهن وتنمية الوعي بالتفكير الموضوعي, وتعميق الحوار وتعليم أدب الاختلاف والإسهام بإيجاد مناهج تعليمية تطوّر هذا النمط من التفكير والتعليم.
فالتطرّف الفكري أصاب الكثير من المجتمعات على مستوى العالم، ولكن آثاره تختلف من مجتمع إلى آخر حسب مستوى الوعي لدى الأفراد والمسؤولين ؛ ولهذا لا ينمو إلا في مناخات العقول ذات البعد الواحد.
إن علاج ظاهرة التطرّف في المجتمعات الإسلامية تشكل أولوية لدى صنّاع القرار، وذلك للآثار الخطيرة الناجمة عنها على مستوى الفرد أو الدولة، ولا خلاف في أهمية الاحتياطات الأمنية لتضييق انتشار هذا الفكر والحدّ من خطره، إلا أن عجلة التنمية ودولاب النهضة لا ينبغي أن يتوقف إلى حين القضاء عليها، وإشاعة فقه النهضة والمدنية يعتبر من الضروريات في المرحلة التي نعيشها هذه الأيام، مما يجعل الكل يسعى للبناء وينظر للمستقبل، ويتنافس مع الآخر في مدارج الحضارة والتقدم.(/1)
لقد مرّت كثير من الشعوب بأزمات فكرية وتقاطعات عنيفة في الرؤى والتوجهات الاجتماعية والسياسية، ولكن خيار التقدم والنهضة لم يكن ضحية لهذه الخلافات، بل نجدهم يسارعون في الانسجام والاتفاق عما يهدّد حضارتهم أو يسلُب تقدمهم. ومن الأمثلة على ذلك في وقتنا المعاصر دولتا الهند والصين فلا أعتقد أن دولاً تزخر بالأعراق والأديان والخلافات المذهبية والظروف الاقتصادية الصعبة في ظل انفجار سكاني رهيب ما يوجد في هذين البلدين، ومع ذلك فقد بلغ النمو الاقتصادي في الهند عام 2003م ما نسبته 8% وهو معدل مرتفع وفق المؤشرات الاقتصادية العالمية.
أما في الصين فقد أنجزت خلال الخمسين عاماً الماضية إنجازات هائلة تجاوزت بذلك كل الظروف الاستثنائية؛ فقد بلغ الناتج القومي عام 2000م ألف مليار دولار، وبلغ احتياطها من العملات الصعبة 60 مليار دولار، لتحتل المرتبة الثانية في العالم، كما ودّع (200) مليون فرد الفقر خلال العشرين سنة الماضية أي ما يساوي عدد سكان أمريكا مجتمعين.
إن إشاعة فقه النهضة والدخول في خيارات التنمية هو ما ينبغي إثارته في كل أطروحاتنا حول التطرف وأزمته الراهنة، وأعتقد أن هذا هو ميدان العمل والحرث والإنتاج لنخبنا المثقفة، بدلاً من التمحور في أبراج التنظير العاجيّة, وتسويق الحلول الآنية. فهل نعتبر فقه النهضة مشروعنا القادم للخروج من أزمة التطرّف وإشكالاتها المتعددة؟
________________________________________
* رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية
جامعة الملك فهد للبترول و المعادن(/2)
فقه الواقع
مقدمة
تعريف فقه الواقع وأساسه
مقومات فقه الواقع
الآثار الجانبية لفقه الواقع
مصادر فقه الواقع
بين يدي هذه الرسالة
أقدم هذه الرسالة المختصرة لمشايخي الفضلاء من علماء الأمة، الذين حملوا أمانة العلم والرسالة، اعترافا بفضلهم وجهادهم في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، يبصرون الأجيال، ويصدعون بكلمة الحق، ينطلقون من عقيدة صافية، وعلم غزير، ووعي بالواقع المعاصر.
وهي كذلك لإخواني من طلاب العلم، الذي نهلوا من المنبع الصافي على أيدي علمائنا الأجلاء، وهم الساعد الأيمن، والعين الساهرة، والدرع الواقي، يواصلون المسيرة، ويذبون عن الحمى.
وهذه الرسالة لبنة في هذا البناء الشامخ، ومعلما من معالم الطريق. وآمل من كل قارىء أن يعي هذه الحقائق:
1- أن لحوم العلماء مسمومة، وسنة الله في منتقصهم معلومة، وعلى أولئك الذين يتتبعون المثالب، ويبحثون عن المعايب أن يتقوا الله، وبخاصة ما يتعلق بعلماء الأمة وقادة الأجيال، وأذكرهم بما قاله العلامة سماحة شيخنا الفاضل "عبد العزيز بن عبد الله بن باز"، جوابا على اتهام العلماء بأنهم لا يفقهون الواقع، حيث قال: (الواجب على المسلم أن يحفظ لسانه عما لا ينبغي، وألا يتكلم إلا عن بصيرة) فالقول بأن فلانا لم يفقه الواقع هذا يحتاج إلى علم، ولا يقوله إلا من عنده علم -حتى يستطيع الحكم بأن فلانا لم يفقه الواقع- أما أن يقول هذا جزافا، ويحكم رأيه على غير دليل، فهذا منكر عظيم لا يجوز، والعلم بأن صاحب الفتوى لم يفقه الواقع يحتاج إلى دليل، ولا يتسنى ذلك إلا للعلماء (1).
2- أن مما هو مقرر في قواعد الشريعة أن (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) و(الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، ولذا فعلى من يتصدى للحكم على الواقع، والخوض في غماره، أن يكون ملما بهذا الواقع، مدركا لأسراره، عالما بأصوله وفروعه، وإن لم يتخصص فيه فعليه بالرجوع إلى المتخصصين، انطلاقا من التوجيه الرباني (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(2) [ سورة الأنبياء، آية: 7 ]
3- إن كان يسع طالب العلم ألا يتعلم كثيرا من العلوم الدنيوية كالطب والاقتصاد والهندسة، فإنه لا يسعه ألا يلم بفقه الواقع إلماما عاما وإن لم يتخصص فيه، والفرق بين هذا العلم وغيره، أن فقه الواقع من علوم الشريعة التي يبنى بعضها على بعض، أما تلك فمن علوم الدنيا، مما لا يلزم الفقيه علمها ودراستها، بخلاف فقه الواقع، الذي لا يستغني عنه طالب العلم؛ للحاجة إليه في الكثير من مسائل الفتوى المعاصرة.
4- هذه الرسالة خلاصة جهد وبحث وعناء، التقيت من أجلها بعدد من طلاب العلم والعلماء، وناقشتهم وناقشوني، وسألتهم ووجهوني، وأفدت من ملحوظاتهم وأفكارهم. ولا أدعي أنها تسلم من ملحظ، أو وجهة نظر، أو خطأ، ولكن حقي على إخوتي الكرام، أن يدلوني على ما يرون من وجهة نظر أو تصويب، لتداركه في طبعة أخرى بإذن الله، وألا يحملوا العبارة أكثر مما تحتمل، بل عليهم أن يحملوها المحمل الحسن، ما داموا يجدون لها في الخير محملا (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ)(3) [ سورة هود آية: 88 ]. مع شكري لهم سلفا، ودعائي لي ولهم بالتوفيق والإخلاص والسداد.
5- قد يقول بعض الأخوة أثناء قرائتها: لو قدم هذا لكان أحسن، ولو أخر هذا لكان يستحسن، ولو حذف هذا لكان أصوب، ولو زيد هذا لكان يستصوب، فأقول لهم: هذه أمور فنية، واصطلاحات اجتهادية، وقديما قال العلماء: لا مشاحة في الاصطلاح.
وأخيرا:
إن تجد عيبا فسد الخللا ... جل من لا عيب فيه ولا.....
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(4) [سورة آل عمران، آية: 102 ]
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(5) [سورة النساء، آية: 1]
__________
(1) - انظر مجلة رابطة العالم الإسلامي العدد (313).
(2) - سورة الأنبياء آية: 7.
(3) - سورة هود آية: 88.
(4) - سورة آل عمران آية: 102.
(5) - سورة النساء آية: 1.(/1)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)(1) [ سورة الأحزاب، آية: 70 ]
أما بعد:
فإن المتأمل في واقع الأمة الإسلامية في العصور المتأخرة يتألم لما آلت إليه الحال، وما وصلت إليه من مستوى يندى له الجبين، وقد قلبت النظر في هذا الواقع متلمسا الأسباب، وباحثا عن سبل العلاج، محاولا المساهمة في الخروج من هذا الوضع إلى المكانة التي تليق بنا، نصحا للأمة، وإبراء للذمة.
وتوصلت إلى أن هناك أسبابا عدة يضيق المجال بذكرها وتعدادها، ومن أبرزها بعد الأمة حكاما ومحكومين عن هدي الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، وعن هذا السبب نشأت أسباب عدة، ساهمت في الوضع الذي نعيشه، وجعلتنا في مؤخرة الركب -إن كنا مع الركب- بعد أن كنا السادة والقادة، وحماة البيضة والدار (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)(2) [ سورة آل عمران، آية: 110 ].
أصبحنا عالة على أعدائنا، وهما على أمتنا، وأدرك أعداؤنا سر تأخرنا، ومكمن مصيبتنا، وأساس بليتنا، فعاثوا فى الأرض فسادا، يتآمرون ويخططون، ونحن في غفلة عما يكاد لنا، انشغلنا بأنفسنا عن عدونا، وبدنيانا عن ديننا، فلا ديننا يبقى ولا ما نعمّر).
ولا أريد أن أحمل أعداءنا كل مصائبنا ومآسينا )أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(3) [ سورة آل عمران آية 165 ]. فمنا الداء وعندنا الدواء بإذن الله، و " ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله" (4).
ومن هذا المنطلق وجدت أن جهلنا بواقعنا سبب رئيسي من أسباب مصيبتنا، وأيقنت أن فقه الواقع علم هجره الكثير من طلاب العلم ورواد الصحوة.
وفقه الواقع علم أصيل، تبنى عليه كثير من العلوم والأحكام، وفي ضوئه تتخذ المواقف المصيرية.
ومن خلال قرءاتي اليسيرة، واهتماماتي الخاصة بهذا العلم لم أجد من أصّل له، أو أفرده في رسالة أو مصنف.
فبدأت أجمع شتات الموضوع من بطون الكتب، وعقول الرجال، وتجارب العلماء والدعاة، فتكونت لدي حصيلة علمية، شعرت أن طلاب العلم في حاجة إليها، فشرعت ألقيها عليهم ضمن الدرس الأسبوعي، ثم ألقيتها في محاضرة عامة، وألح علي كثير من طلاب العلم بأن أصدرها في رسالة تجمع شتاتها، ويبقى دوام نفعها بإذن الله.
وها أنذا قد فعلت، فما كان فيها من خير فمن الله وحده، وما شابها من نقص وضعف فمني والشيطان، وأستغفر الله.
وتشتمل هذه الرسالة الموجزة على الفصول التالية:
1- تعريف فقه الواقع.
2- أساس هذا العلم.
3- مقومات فقه الواقع.
4- الآثار الإيجابية لفقه الواقع.
5- ضوابط ومحاذير.
6- مصادر هذا العلم.
7- خاتمة.
تعريف فقه الواقع
هو علم يبحث في فقه الأحوال المعاصرة، من العوامل المؤثرة في المجتمعات، والقوى المهيمنة على الدول، والأفكار الموجهة لزعزعة العقيدة، والسبل المشروعة لحماية الأمة ورقيها في الحاضر والمستقبل.
أساس هذا العلم
يتصور بعض طلاب العلم أن فقه الواقع علم جديد، وثقافة حديثة، وهذا قصور في التصور، ونقص في العلم؛ لأن أساسه في القرآن، والسنة، وكلام سلف الأمة. ففي سورة الأنعام يقول - سبحانه وتعالى-: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)(5) [ سورة الأنعام آية: 55 ] ومن فقه الواقع استبانة سبيل المجرمين، ومعرفة أهدافهم ومخططاتهم
__________
(1) - سورة الأحزاب آية: 70.
(2) - سورة آل عمران آية: 110.
(3) - سورة آل عمران آية: 165.
(4) - انظر رسالة" قل هو من عند أنفسكم" للشيخ عبد العزيز الجليل.
(5) - سورة الأنعام آية: 55.(/2)
لهذا جاءت كثير من الآيات مفصلة ومبينة سبيل أعداء الله، وفاضحة لمآربهم وغاياتهم، ولنأخذ سورة واحدة تؤكد لنا هذه الحقيقة وتجليها: إنها سورة التوبة، ومن أسمائها (الفاضحة) لأنها فضحت المنافقين، وكشفت عن خداعهم وتضليلهم ومؤامراتهم، يقول -سبحانه وتعالى-: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)(1) [سورة التوبة، آية: 49] (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ)(2) [سورة التوبة آية: 56] (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ)(3) [سورة التوبة آية: 62] (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ)(4) الآية [ سورة التوبة آية: 67 ].
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)(5) [ سورة التوبة آية: 107 ] وهذه الآية من أعظم الآيات التي فضحت المنافقين، وكشفت دسائسهم، واستغلالهم لهذا الدين بإقامة المساجد تلبيسا وخداعا، وسترا لمؤامراتهم.
ونجد في ختام هذه السورة: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)(6) [ سورة التوبة آية: 127 ].
ونجد كذلك في سورة البقرة، والأحزاب، والمنافقون ما يكشف عن المنافقين وغاياتهم.
أما اليهود والنصارى والمشركون فالآيات التي عن واقعهم كثيرة جدا، وهي من صميم فقه الواقع الذي يبينه الله -جل وعلا- لنبيه وللمؤمنين، ولنأخذ بعض الآيات في ذلك قال سبحانه: ) وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(7) [ سورة البقرة آية: 76 ]. (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)(8) [سورة البقرة: 120]. (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(9) [سورة البقرة آية: 146].
وهذه الآيات تكشف واقع اليهود، وفساد طويتهم، ونجد في النصارى قوله تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)(10) [سورة المائدة آية: 14].
وعن المشركين يقول سبحانه: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(11) [ سورة التوبة آية: 19 ]. وقال قبلها: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ)(12) [سورة التوبة آية: 17].
ونجد في بيان علاقة المنافقين بأهل الكتاب: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ)(13) الآيات [سورة الحشر آية: 11]. والآيات في هذا الباب كثيرة جدا، وما ذكرته للإشارة والاستدلال على عناية القرآن بفقه الواقع، لا للحصر.
أما السنة فقد حفلت بكثير من الوقائع والشواهد، التي تدل على عناية المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا الجانب.
فها نحن نراه صلى الله عليه وسلم يوجه المستضعفين من صحابته بالهجرة إلى الحبشة، وهذا برهان ساطع على معرفته صلى الله عليه وسلم بما يدور حوله، وأحوال الأمم المعاصرة له.
__________
(1) - سورة التوبة آية: 49.
(2) - سورة التوبة آية: 56.
(3) - سورة التوبة آية: 62.
(4) - سورة التوبة آية: 67.
(5) - سورة التوبة آية: 107.
(6) - سورة التوبة آية: 127.
(7) - سورة البقرة آية: 76.
(8) - سورة البقرة آية: 120.
(9) - سورة البقرة آية: 146.
(10) - سورة المائدة آية: 14.
(11) - سورة التوبة آية: 19.
(12) - سورة التوبة آية: 17.
(13) - سورة الحشر آية: 11.(/3)
فلماذا لم يرسل الصحابة إلى فارس أو الروم أو غيرهم؟ ولماذا اختار الحبشة؟ يبين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: " إن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد " (1).
وها نحن نرى المرحلية في الدعوة ملائمة للواقع الذي تعيشه، ونجده صلى الله عليه وسلم يختار المدينة مكانا لهجرته، ويتعامل مع جميع الأطراف الموجودة فيها وحولها بأسلوب يناسب أحوالها. وعندما أرسل صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له: " إنك تأتي قوما أهل كتاب " (2) وهذا من إدراكه صلى الله عليه وسلم واقع كل بلد وما يحتاج إليه؛ ولذلك قال له: " فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله.... " (3) الحديث.
وكذلك نلمس عمق هذا العلم في غزواته، ورسائله إلى الأمم والملوك والقبائل. وكذلك يبرز هذا الجانب في استقباله للوفود، وتعامله معهم، وإنزاله للناس منازلهم.
إن لم يكن هذا هو من الذروة في فقه الواقع فأين يكون؟ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)(4) [سورة الأحزاب، آية: 21].
ومن أقوى الأدلة على عناية الكتاب والسنة بفقه الواقع قصة فارس والروم، وفيها يبرز اهتمام الصحابة أيضا بهذا العلم، وإدراكهم لأهميته، والقصة كما وردت في سورة الروم، أنه قامت حرب بين فارس والروم، فانتصر الفرس على الروم، وهنا حزن المسلمون لهذ الأمر، فقام أبو بكر رضي الله عنهوراهن أحد المشركين على انتصار الروم على الفرس، وحدد لذلك أجلا قصيرا.
فأخبر أبو بكر رضي الله عنهالرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فأقره، وأمره بزيادة مدة الأجل إلى عشر سنين، ففعل أبو بكر، وجاءت الآيات في سورة الروم (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(5) [سورة الروم الآيات: 1 ـ 5]
ويبرز فقه الواقع في هذه القصة فيما يلي:
1ـ أن القصة بين فريقين كافرين، ومع ذلك خلدها القرآن الكريم؛ لأثرها المباشر على حياة المسلمين.
2ـ اهتمام المسلمين بهذه القضية، وحزنهم عندما انتصرت فارس، وفرحهم عندما انتصر الروم.
3ـ معايشة أبى بكر لهذه الأحداث، والمراهنة على انتصار الروم.
4ـ إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر بل طلبه أن يمد في الأجل لأن (البضع) إلى عشر سنوات. والقضية ليست قضية سياسية بحتة كما يتصور كثير من الناس، بل هي قضية مبدأ، فانتصار الملحدين على أهل الكتاب يؤثر على المسلمين، وانتصار أهل الكتاب دليل على انتصار الحق على الباطل، وهو مؤذن بانتصار المسلمين على أهل الكتاب بعد ذلك؛ لأنهم هم الذين على الحق.
وهنا يأتي السؤال الذي أوجهه إلى طلاب العلم فأقول: إنني أرى أن روسيا وأمريكا تمثلان دور فارس والروم في الماضي، فهل كنا ندرك ما كان يجري بين الدولتين أيام الحرب الباردة؟ أو أننا نقول: هذه أمور لا تعنينا. ثم هل أدركنا وحللنا مرحلة الوفاق بعد ذلك، وأثر هذا الأمر على المسلمين؟ أو أننا نقول: الكفر ملة واحدة.
وعندما انهارت المنظومة الشيوعية، هل فرحنا بذلك فرحا عمليا، مبنيا على النتائج الحالية، وتوقع المستقبل المشرق بإذن الله؟ ثم هل نحن ندرس الآن قضية الصراع بين القوى؟ وأنه بعد أن كان بين الشرق والغرب، ثم انتصر الغرب على الشرق، سيكون الصراع بين الغرب النصراني والشرق المسلم.
وهنا سينتصر الإسلام في النهاية -بإذن الله- كما انتصر الروم النصارى على الفرس الوثنيين، ثم انتصر الإسلام على أهل الكتاب، وكذلك فقد انتصر الغرب النصراني على الشرق الملحد، وسينتصر المسلمون -بإذن الله- على أهل الكتاب: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(6) [سورة يوسف آية: 21].
وأخيرا: فبعد أن بينت أسس هذا العلم في الكتاب والسنة أشير إلى اهتمام السلف به، فهذا أبو بكر -كما بينت في قصة فارس والروم- يعني بهذه القضية عناية خاصة، وها هم الصحابة يتابعون هذه الأحداث متابعة ذات معنى، ويحزنون ويفرحون، بناء على ما يعلمونه من تأثير للهزيمة والانتصار في حياة المسلمين حاضرا ومستقبلا.
وعمر بن الخطاب يقول: "لست بالخب ولا الخب يخدعني" لست بالماكر المخادع -وحاشاه عن ذلك- ولكنه لا يمكن أن يخدعه الماكر المراوغ.
فالمسلم كيس فطن، واع مدرك لما حوله.
__________
(1) - انظر فقه السيرة للغزالي، فقد صحح الألباني هذا الحديث.
(2) - متفق عليه- البخاري8/267، ومسلم(2583).
(3) - متفق عليه- البخاري8/267، ومسلم(2583).
(4) - سورة الأحزاب آية: 21.
(5) - سورة الروم آية: 1-5.
(6) - سورة يوسف آية: 21.(/4)
والعلماء من سلف هذه الأمة كانوا خيرمثال لحسن تعاملهم مع واقعهم، فالإمام أحمد بن حنبل في فتنة القول بخلق القرآن، وشيخ الإسلام بن تيمية في موقفه من التتار، وابن القيم فيما دونه عن فقه الواقع وحاجة المفتي إليه، والعز بن عبد السلام في مواقفه الخالدة من النصارى ومن حالفهم.
كما أن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ذكر في تفسيره أن فقه المسلم لواقعه من لوازم معرفة (لا إله إلا الله) على معناها الصحيح، ولم لا ؟ وبفقه الواقع يكتمل مبدأ تحقيق الولاء والبراء، وهذا المبدأ أصل من أصول عقيدة التوحيد التي جاءت بها (لا إله إلا الله).
وبعد:
ومن خلال ما سبق تبين لنا أساس هذا العلم، وأهميته من خلال الكتاب والسنة وفقه سلف الأمة، فحري بالعلماء خصوصا، وطلاب العلم عموما أن يدركوا هذه الحقيقة، ويتعاملوا معها تحقيقا لمفهوم (لا إله إلا الله)، والتزاما بمنهج الكتاب والسنة، واستبانة لسبيل المجرمين.
مقومات فقه الواقع
لكل علم أصوله وقواعده التي يبنى عليها، وبدون تلك الأصول والقواعد يصبح علما لا هوية له، وفنا يخضع للأهواء والأمزجة، وفقه الواقع له أصوله ومقوماته التي عنها ينبثق ومنها ينطلق، وهذه المقومات تصونه من استباحة المدعين، وتعين الراغبين في التخصص فيه، والتعمق في بحوره. وبمقدار اكتمال هذه المقومات تتكامل شخصية المنتمي إليه، وحسب تخلف أي واحد منها ينثلم العلم ويضعف صاحبه. (1).
وسأذكر كل مقوم مع إلقاء الضوء عليه، بما يزيل الغموض أو اللبس، ومن الله أستمد العون والتوفيق.
أولا: القناعة بأهميته (2)
لا يمكن أن يتخصص في هذا العلم من يتصور أن فقه الواقع مجرد مزيد من الثقافة، أو أن الأمة ليست بحاجة إليه. البوابة الرئيسية للولوج فيه: القناعة التامة بأهميته وضرورته، وأن تعلمه فرض كفاية.
على طالب العلم أن يدرك أن من أسباب تخلف الأمة في عصرها الحاضر جهلها بواقعها، وغفلة بعض طلاب العلم عما يكيده الأعداء ويخططون له، فالمنافقون وأسيادهم ينقضون الإسلام عروة عروة -ضمن تخطيط محكم رهيب- ونحن في غفلة من استبانة سبيل المجرمين، حتى استحكمت العلمنة في كثير من بلاد المسلمين.
ترى لو تنبه الدعاة والعلماء لهذا الأمر منذ عهد الاستعمار هل يحقق الأعداء ما حققوه في عالمنا الإسلامي؟ لأن الوعي يقود إلى العمل، والعمل يدرأ المخاطر بإذن الله.
انشغل بعض طلاب العلم والدعاة في قضايا مهمة -ولا شك- ولكنهم غفلوا عن قضايا أكثر أهمية، ومنها فقه الواقع، فخلا الجو لأعدائنا، وأصبحوا كما قال الشاعر:
خلا لك الجو فبيضي وأصفري ... ونقري ما شئت أن تنقري
ومن هنا فالمقوم الأول أن نقتنع بأهمية هذا العلم وأثره في حياة المسلمين، وحاجة الأمة إليه حاضرا ومستقبلا.
ثانيا: التأصيل الشرعي
من الملحوظ في واقعنا أن أكثر المعنيين بفقه الواقع ممن لم يدرسوا العلوم الشرعية ولم يتخصصوا فيها، بل إن عباقرة العلم السياسي المعاصر -حسب ما تنشر وسائل الإعلام- من غير المسلمين، ولذا نلحظ في أحداث الخليج مثلا تسابق وسائل الإعلام إلى استطلاع رأي هؤلاء، وكأنهم الحجة وإليهم المنتهى، وهذا سببه عزوف كثير من طلاب العلم عن التخصص في هذا الجانب، بل إن بعضهم لديه قناعة أن هذا الأمر لا يعنيه، حتى رأينا من طلاب العلم من يفسر الحديث المشهور " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " أي بأن يترك أمور السياسة وفقه الواقع لغيره.
بل إن هناك من إذا أراد أن يثني على أحد طلاب العلم، عدد من محاسنه وصفاته العلمية أنه لا يتدخل فيما لا يعنيه -يقصد الأمور السياسية- وهذا تفسير للحديث على غير ما ورد له، وحمل له على غير محمله، وهناك فرق بين أن يتدخل المسلم في عمل غيره -مما لا يعنيه-، وبين أن يفقه حدود هذا العمل وأصوله وضوابطه، وبعبارة أدق، فرق بين أن تتدخل في تنفيذ هذا العمل الذي لم تكلف به، وبين أن تقول كلمة الحق إذا تجاوز صاحب العمل حدوده التي شرعها الله، ولن تستطيع أن تدرك هذا إلا إذا فهمت واقعك.
ومن هنا رأينا أن أكثر من يتعاطى هذا العلم يعتمد على الأسباب المادية، ويحلل الأحداث ويتوقع النتائج بعيدا عن الأسباب الشرعية، لأن (فاقد الشيء لا يعطيه) وما بني على خطأ فمآله إلى خطأ.
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل
ولذا فإن أقوى مقوم من مقومات فقه الواقع هو التأصيل الشرعي، وأحق الناس في هذا الجانب هم العلماء وطلاب العلم.
ولا يستلزم أن يكون المتخصص في فقه الواقع أحد خريجي كلية الشريعة، وإنما لا بد أن يكون لديه من العلم الشرعي ما يحتاج إليه في تخصصه، مما لا يعذر بجهله من فرض العين أو الكفاية.
ولنأخذ لذلك مثلا:
__________
(1) - هذه المقومات التي سأذكرها ليست على سبيل الحصر، ولكنها خلاصة البحث والاستقراء، وفوق كل ذي علم عليم.
(2) - يرى بعض طلاب العلم أن هذا مدخل للعلم وليس مقوما، ولكن لا مشاحة في الاصطلاح.(/5)
لو قامت حرب بين فئة مؤمنة وفئة كافرة، فإن المعني بفقه الواقع ممن يفتقد العلم الشرعي سيحلل الأحداث، ويتوقع النتائج معتمدا على الأسباب المادية فقط، فسيبدأ في إحصاء الجيوش، وما لدى كل فريق من عدة وعتاد، والظروف الجغرافية، وهلم جرا، بينما المتخصص في ذلك ممن يملك الدليل الشرعي سيبين أهمية الأسباب المادية، وأن الله قد أمرنا بالأخذ بها (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)(1) ولكنه يعلم أن الأسباب المادية ليست إلا وسيلة من وسائل النصر المشروعة، وأن هناك من الأسباب الشرعية ما تتضاءل أمامه الأسباب المادية، فيبني تحليله وتوقعه ضمن هذا الإطار (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(2) [سورة آل عمران، آية 173]. (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)(3) [سورة الشعراء، آية (61)]. (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)(4) [سورة محمد، آية (7)].
وخير مثال حي معاصر الجهاد الأفغاني، كم كان سيصمد المجاهدون الأفغان في توقعات الخبراء الماديين؟ وكيف صمدوا في تحليل الفقهاء الشرعيين؟ ولماذا لم يحققوا الانتصار النهائي بعد سنوات من الجهاد؟ لا يدرك تفسير هذا إلا العلماء الربانيون.
ولنأخذ مثلا آخر: وهو أحداث الخليج، فقد تابعت ما كتبه كثير من الخبراء والمحللين في تقييمهم للأحداث ونتائجها، ولفت نظري التخبط والاضطراب في هذا الأمر؛ ولم أجد له سببا سوى البعد عن التحليل الشرعي، والاعتماد على الأسباب المادية بمعزل عن الرؤية الشرعية.
لهذا كله أقول: إن من أول ما يجب أن يعتني به المتخصص في هذا الفن أن يبني علمه على أسس شرعية، مستمدة من الكتاب والسنة، وأخص علم العقيدة، فبدونه لن نفقه مبدأ الولاء والبراء، وعليه تبنى العلاقات بين الأمم والشعوب، وبعلم العقيدة نفهم حدود الإيمان وضوابطه، والخوف، والرجاء، والتوكل، وحقيقة النصر والهزيمة، ومن كتاب الله ندرك سبل المجرمين وأساليبهم، وما يجب تجاه ذلك، ومن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم نبني أسس التعامل مع الواقع الذي نعيشه، دون إفراط أو تفريط، مما يمكن للدعوة ويجنبها المزالق.
وأشير إلى أن هذا لا يمنع من أن نفيد من المتخصصين في العلوم السياسية وغيرها، ممن لم يبن علمه على أصول إسلامية، ولكن بعد عرضها على الأصول والضوابط والمنطلقات الشرعية (5). وبهذا تتكامل الرؤية ويتحقق الهدف.
ثالثا: سعة الاطلاع وتجدده
يختلف هذا العلم عن كثير من العلوم، فهناك بعض الفنون يستطيع طالبها أن يتقنها في فترة محددة، ثم ينتقل إلى غيرها، بينما بعض أنواع العلوم يحتاج المتخصص إلى الاستمرار في متابعتها، وملاحقة الجديد فيها. فمثلا: علم الفرائض علم مهم جدا، بل قيل إنه نصف العلم، ومع ذلك فيستطيع طالب العلم أن يتقنه في فترة محددة، ثم يبدأ في الإفادة منه وتطبيقه، وليس فيه مجال للتوسع إلا في مسائل فرعية، وكذلك علم النحو، فلم يترك المتقدم للمتأخر شيئا، فما علينا إلا أن نتقن ما دوّنه أسلافنا، ولذلك باءت محاولات التجديد فيه بالفشل، وحق لها ذاك.
أما علم فقه الواقع فيحتاج إلى شيئين مهمين:
أ- سعة الاطلاع: نظرا لتشعب هذا العلم وشموله، فيحتاج المتخصص فيه إلى كثير من الفنون، سواء العلوم الشرعية كالعقيدة والفقه، أو العلوم الاجتماعية كالتاريخ، أو العلوم المعاصرة كالسياسية والإعلام، وهلم جرا. وإذا قصر في أي علم من هذه العلوم أو غيرها مما يحتاج إليه، فسينعكس ذلك سلبا على قدرته على فقه الواقع، وتقويم الأحداث، والحكم عليها.
ب- التجدد والاستمرار: فهذا العلم يحتاج إلى قدرة فائقة على المتابعة، والبحث في كل جديد، فهو يختلف عن كثير من العلوم - كما بينت آنفا -، لذا يلزم المتخصص أن يكون لديه دأب لا يكل في متابعة الأحداث، ودراسة أحوال الأمم والشعوب، فلو انقطع عنه فترة من الزمن أثر على تحصيله، وقدرته في فهم مجريات الأحداث وتقويمها. فهو أشبه بالطبيب الذي يلزمه أن يتابع كل جديد في مهنته، فلو أن طبيبا تخرج في الجامعة منذ عشر سنوات، بقي يعالج الناس من خلال دراسته الماضية، دون النظر لما استجد من مخترعات في وسائل العلاج، وما اكتشف من أدوية، لأصبح طبيبا متخلفا عن الركب، فجديد اليوم يصبح قديما في الغد وهكذا.
__________
(1) - سورة الأنفال آية: 60.
(2) - سورة آل عمران آية: 173.
(3) - سورة الشعراء آية: 61.
(4) - سورة محمد آية: 7.
(5) - وهو من باب "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" صحيح الجامع 1/600 رقم 3131 مع الضوابط التي ذكرها العلماء في هذا الباب.(/6)
ولا أبالغ إذا قلت: إن الذي ينقطع عن متابعة الأحداث بضعة أشهر يحتاج إلى فترة مكثفة ليتمكن من ملاحقة الأحداث من جديد، وبخاصة في عصرنا الحاضر، الذي أصبح فيه العالم كقرية، ما يقع فيه شرقه يؤثر يوميا في غربه، وإذا وقع حادث ذو بال في أمريكا أثر على أسواق اليابان في اليوم نفسه، وارتفاع الأسهم في (وول ستريت) بلندن، يؤثر على قيمة الفول في البرازيل.
ومن هنا أصبح لزاما على طالب هذا العلم أن يعي هاتين الحقيقتين، وهما سعة الاطلاع وتنوعه، والتجديد والاستمرار فيه، وإلا:
إذا لم تستطع شيئا شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
رابعا: القدرة على الربط والمقارنة والتحليل
هناك عناصر أساسية للوصول إلى حقائق الواقع وتوقع المستقبل، وهي:
1- جمع الأخبار والمعلومات.
2- المقارنة والربط بين الأحداث.
3- تحليل المعلومات والوصول إلى نتائجها.
أما الأول فمسألة آلية يستطيعها كثير من العامة.
وأما الثاني والثالث فتحتاج إلى عاملين أساسيين:
الأول: الموهبة.
ثانيا: الاكتساب.
فلو ضعف أحد العاملين أمكن تداركه بالثاني.
ومن هنا فإن قضية المقارنة والربط ثم التحليل مسألة مهمة وأساسية، وبدونهما تكون النتائج خاطئة، وهذان العنصران لا بد أن يبنيا على أساس متين من التأصيل العلمي والتجربة العملية، مع قدر من الموهبة والذكاء يساهم في تحقيق المناط وتخريجه وتنقيحه.
وبهذا ندرك سر الاضطراب في نتائج كثير ممن يتولون تقويم الأحداث وتحليلها، حيث إنهم يفتقدون القدرة الجبلّية أو المكتسبة للخوض في غمار هذا العلم والغوص في أعماقه. وكثير من الناس يلتبس لديهم الأمر بين من لديه قدرة على جمع المعلومات ومتابعة الأخبار، وبين من يستطيع المقارنة والربط والتحليل والتمحيص.
فيجب ألا نخلط بين العامل في المختبر الذي يستقبل العينات من المرضى، وبين المتخصص الذي يتولى فحصها وتحليلها، والوصول إلى النتيجة من خلالها.
وموضوع الربط والمقارنة والتحليل عملية معقدة متشابكة، تخضع لعدة اعتبارات ومجموعة عوامل، تختلف من واقع لواقع، ومن حدث لحدث، ومن زمن لزمن.
ولست هنا في سبيل بيان ذلك وشرحه، وإنما أردت أن أؤكد على أهمية هذا المقوم، وعدم الغفلة عنه، ومدى تأثيره سلبا أو إيجابا على فقه الحاضر، ورؤية المستقبل، و " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " (1).
خامسا: التفاعل الإيجابي مع الواقع
من أجل أن تفقه الواقع لا بد أن تعيش هذا الواقع، أن تكون عنصرا متأثرا ومؤثرا فيه.
والذي يعيش على هامش الحياة لا يستطيع أن يدرك أبعاد هذا العالم وما يجري فيه.
ولهذا فمن لوازم هذا العلم أن تتفاعل مع الأحداث تفاعلا إيجابيا، تفرح لكل خبر مفرح، وتحزن لمآسي المسلمين ومصائبهم، ولا تتوقف عند مجرد التأثر فرحا أو حزنا، وإنما يجب أن تكون مؤثرا في هذا الواقع، أي عنصرا عاملا متحركا، متجاوبا مع الأحداث، حسب الحاجة والطاقة.
ولذا فالطبيب الذي يقبع في بيته بعد تخرجه في كلية الطب، لا يفتح عيادة، ولا يكشف على المرضى، ولا يجري العمليات، ولا يتابع المستجدات في علم الطب، ويعالج الناس بالهاتف أو بالمراسلة لا يمكن أن يكون طبيبا ناجحا، وإن أصاب مرة أخطأ مرات، وقد يكون علاجه مهلكا للمريض.
فكذلك المعتزل لحياة المسلمين، البعيد عن شئونهم وشجونهم، لا يتأثر ولا يؤثر، هذا مهما كتب وحلل وناقش فسيبقى تحليله باردا ساذجا، غير واقعي في كثير من مضامينه:
من يهن يسهل الهوان عليه
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى ... ما لجرح بميت إيلام
كيما يصح به وأنت سقيم
سادسا: حسن اختيار المصادر
مشكلة فقه الواقع تباين مصادره، وتعارضها، فمصادر الفقه كتب الفقه وأصوله، ومصادر اللغة كتب اللغة، أما مصادر فقه الواقع - سيأتي بيانها في آخر هذه الرسالة - فإنها متعددة متنوعة متباينة، فمن مصادر إسلامية، إلى مصادر مادية، ومن مراجع قديمة، إلى مراجع معاصرة، ومن أخبار المسلمين، إلى أخبار الكفار والملحدين، وهكذا دواليك.
وبهذا يعيش المتخصص في هذا العلم في حيرة من أمره، كيف يختار هذه المصادر ويتعامل معها؟
والذي يرعى الغنم يكتسب بعض طباعها، وراعي الإبل تظهر عليه بعض صفاتها، فكيف بمن يتلقى الأفكار ويعايش العقول؟ فقد يكون ضحية لمصادره التي اختارها، وبالتالي سينعكس ذلك على فقهه للواقع، وتقويمه لمجريات الأحداث، ولذا أصبح حسن اختيار المصادر مهمة صعبة وأساسية، بل هو مقوم من مقومات هذا العلم، فتحتاج إلى دقة وعناية، فكم رأينا بعض المتأثرين ببعض وسائل الإعلام الغربية، حتى أصبح بوقا لها، يبث أفكارها ويردد أهدافها، دون وعي منه أو شعور.
ثم إن هناك أمرا آخر وهو: نظرا لكثرة مصادر هذا العلم وتنوعها لا يستطيع المتخصص الإحاطة بها، فيحتاج إلى حسن الاختيار توفيرا للجهد، واكتفاء بالأحسن عن الحسن، والفاضل عن المفضول، والأهم عن المهم.
وبعد:
__________
(1) - متفق عليه، البخاري 1/150، 151 ومسلم (1037).(/7)
فهذه هي مقومات فقه الواقع، من أقامها انقاد له هذا العلم وتمكن منه، ومن قصر فيها انعكس ذلك على علمه وإدراكه، وهذه المقومات للمتخصص وغيره. أما المتخصص فمن أجل أن تساعده على إتقان هذا الباب والتضلع فيه. وأما غيره فحتى يعرف من أين يلتقى هذا العلم، ويميز بين الجيد والرديء، والخطأ والصواب، فما كل بيضاء شحمة، ولا كل سوداء تمرة، وكم مدع لهذا العلم وهو لا يحسنه:
والدعاوى إن لم يقيموا عليها ... بينات فأصحابها بها أدعياء
الآثار الإيجابية لفقه الواقع
هناك آثار إيجابية عظيمة لفقه الواقع، فمن الخطأ تصور القضية مجرد مزيد من الثقافة، أو إشباع غريزة حب الاستطلاع، فالموضوع أهم من ذلك وأخطر، بل لا أعدو الحقيقة إذا قلت: إن مستقبل الأمة قد يتوقف على مدى فقه الواقع والتعامل معه، فقد تتخذ مواقف مصيرية - لم تبن على أسس علمية - تؤدي بحياة الأمة إلى مهاوي الردى، وكم من موقف اتخذ في حياة أمتنا المعاصرة، لم يستمد من شريعتنا أذاقنا الذل والهوان.
وهذه الآثار التي سأذكرها تبين لنا أهمية هذا العلم، وضرورة عناية طلاب العلم به والتعمق فيه.
أولا: إحكام الفتوى وإتقانها
أشار ابن القيم -رحمه الله- إلى أهمية فقه الواقع للمفتي، (1) والحكم على الشيء فرع عن تصوره، كما قرر العلماء.
والمفتي يجب أن يعنى بهذه المسألة عناية خاصة، وبالذات في الفتاوي المتعلقة بالمسائل المستجدة المعاصرة، ولذا نجد عدم ثقة كثير من الناس في بعض الفتاوى الصادرة من بعض طلاب العلم، لأنها لم تبن على فقه دقيق للواقع المعاصر.
بينما نجد أن الفتاوى التي تصدر من علمائنا مبنية على تصور تام للأوضاع الجارية، وفقه عميق للمستجدات، تكتسب أهمية قصوى، ولا تدع مجالا لطاعن أو مخالف.
ولذا فإن الفتوى تحتاج - في كثير المسائل - إلى فقه الأصول، وفقه الفروع، وفقه الواقع، وإذا اختل ركن من هذه الأركان تداعت الفتوى، وانهدّ جانبها.
ولا شك أن الفتوى إذا كانت محكمة ومتقنة لها أثر إيجابي في حياة الأمة حاضرا ومستقبلا، ولن يتم ذلك إلا باستكمال شروط الفتوى التي حددها العلماء، ومنها اكتمال التصور عن المسألة، وهو فقه الواقع في المسائل المعاصرة.
ثانيا: الدعوة إلى الله بحكمة وعلى بصيرة
من الملفت للنظر في عصرنا الحاضر وقوع بعض الجماعات الإسلامية والدعاة إلى الله في أخطاء أساسية في منهجهم، وأسلوب دعوتهم.
وإذا تأملنا في أسباب ذلك نلمس أن أغلب هؤلاء على صنفين:
إما دعاة لديهم إدراك لواقعهم، ولكنه لم يبن على أصول شرعية متكاملة، نظرا لتقصير هؤلاء الدعاة في بناء دعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة، فوقعوا في أخطاء فادحة، دفع أتباعهم ثمنها غاليا، ولم يحققوا أهدافهم التي أعلنوها، وهي إقامة حكم الله في الأرض، نظرا للخلل في المنهج.
وآخرون لديهم علم شرعي، ومنهجهم سليم في الجملة، ولكنهم لا يفقهون الواقع، ولا يتعاملون مع المرحلة التي يعيشونها، فتخبطوا في أسلوب دعوتهم، وتعجلوا الشيء قبل أوانه، ولا يفرقون بين المنهج والأسلوب، وإن كان الأسلوب فرعا عن المنهج، فكانت النتيجة سلبية، وذات أثر محدود.
ومن أجل التخلص من هذه السلبيات والأخطاء، لا بد أن تكون الدعوة إلى الله مبينة على أسس شرعية، مستمدة من الكتاب والسنة وفقه سلف الأمة، ومن ذلك فقه الواقع ضمن المقومات التي ذكرتها، وبهذا نجنب الدعوة وأتباعها المزالق والمخاطر والانحراف، ونحقق قول ربنا (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)(2) [سورة النحل، الآية: (125)].
ثالثا: الوصول إلى النتائج السليمة واتخاذ المواقف الصحيحة
المواقف التي لا تبنى على النتائج السليمة المستمدة من المقومات الصحيحة، آثارها خطيرة على الفرد والمجتمع، والمجتمع الإسلامي يتخبط في مواقفه منذ سنوات طويلة ولا يزال، ومن أسباب هذا التخبط المقدمات التي بنيت عليها هذه المواقف، فأكثرها مواقف انفعالية أو وقتية، تفتقر إلى الدراسة والتحليل، وأحيانا تكون مبنية على دراسة قاصرة، تكون نتائجها غير سليمة، فيتخذ القرار الخاطئ.
وفقه الواقع يحول دون الفوضى والتخبط، ويصبح لدى من يملك القرار تصورا متكاملا عن القضية، مما يمكنه من اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، دون قصور أو ارتجال.
رابعا: التربية الشاملة المتكاملة
مما يلحظ على كثير من الجماعات المعاصرة عدم شموليتها واهتماماتها الجزئية، فهذه جماعة تعني بالتربية الروحية، وأخرى بالتربية الفكرية، وثالثة تربي أفرادها تربية عسكرية، والرابعة تعني بالتربية الإسلامية السياسية، وهلم جرا.
__________
(1) - انظر كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين.
(2) - سورة النحل آية: 125.(/8)
وقد تأملت في أسباب ذلك فاتضح لي أن أهم سبب لهذا الواقع: تصور كل جماعة أن الخلل في الأمة سببه قصورها في هذا الجانب دون غيره، فجعلت هدفها الأساسي: استكمال هذا النقص وسد الخلل، وكما ذكرت في الأثر الثالث: ما بني على مقدمة خاطئة فنتيجته خاطئة.
والمتأمل لواقع الأمة الإسلامية المعاصرة يدرك أن سبب تأخر أمتنا وتخلفها ناتج من عوامل عدة: روحية، وعلمية، وسياسية، وجهادية، وعقدية، واقتصادية، وهذا التصور الشمولي للواقع يجعل الدعاة يرسمون منهج دعوتهم بشمولية متكاملة، بعيدا عن التجزئة والفردية.
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي صحابته، ويبني المجتمع المسلم، مجتمعا متكاملا، بعيدا عن روحية الصوفية، وسياسة العلمانيين: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً)(1) [سورة المائدة: آية: (3)].
خامسا: بعد النظر وحسن التخطيط
إن أمتنا بأمس الحاجة إلى التخطيط الدقيق، الذي يبني مجدها، ويقيها - بإذن الله - مصارع السوء، وكل تخطيط لا يبنى على فهم عميق لمجريات الأحداث، وتصور متكامل للواقع في جميع جوانبه، سيكون تخبطا لا تخطيطا.
والأوضاع التي مرت بها بلاد المسلمين، والمحن التي نعيشها كشفت عن تأخرنا عن أعدائنا في كثير من أمورنا، حتى أصبحنا عالة عليهم في كثير من شئون حياتنا.
وفي الوقت الذي يخطط فيه أعداؤنا لما بعد مائة سنة أو تزيد، نجد الفشل الذريع في تخطيط المسلمين لعشر سنوات أو أقل من ذلك.
وفقه الواقع في جوانبه المتعددة يعطي تكاملا في الرؤية، وبعدا في النظر، وهي من بدهيات التخطيط الدقيق لمستقبل الأمة، وتطلعات الأجيال.
وهذا التخطيط يشمل جميع مناحي الحياة: الدعوية، والعلمية، والاقتصادية، والعسكرية، وغيرها، حتى نكون كما أراد لنا ربنا (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(2) [سورة آل عمران، الآية: (110)] أمة قوية البنيان مرهوبة الجانب، تخضع لها الأمم والممالك، وتذل لها الجبابرة والملوك (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)(3) [سورة المنافقون، آية: (8)].
وبهذا نحمي المسلمين، ونوجد المهابة لهم في نفوس أعدائهم، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم " نصرت بالرعب مسيرة شهر " (4) وصدق الله العظيم: (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)(5) [سورة الأنفال، آية: (60)].
سادسا: إبطال كيد الأعداء، وفضح خططهم
لقد فضح القرآن الكريم خطط المشركين (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)(6) [سورة الطارق، الآيات: (15 - 17)]. وكشف عن مكائد اليهود والنصارى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)(7) [سورة البقرة، آية: (120)]. (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ)(8) [سورة البقرة، آية: (76)].
وأماط اللثام عن دسائس المنافقين: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)(9) [سورة النساء، الآية: (142)]. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ)(10) [سورة البقرة، الآية: (11-12)].
ومن ثمرات فقه الواقع كشف سبل المجرمين بشتى أشكالهم وأنواعهم، وكشف خططهم مؤذن بإبطال كيدهم، ورد تدبيرهم إلى نحورهم، والعناية بهذا الجانب حماية للمسلمين، ورد لكيد الظالمين (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)(11) [سورة الأنعام، آية: (55)].
سابعا: حماية العلماء
وفقه الواقع حماية للعلماء من وجهين:
1- فالعلمانيون يكيدون لعلماء الأمة، ويسعون لتشويه صورتهم أمام العامة، بما يثيرونه من قضايا، وما يطرحونه من خلافات في مسائل علمية، مما يظهر أمام العامة وكأنه تناقض في الفتوى، وضعف في العلم، وهم يراهنون على إبعاد العامة عن علماء الأمة، لأنهم يدركون أن العلماء هم السد المنيع ضد مؤامراتهم ومخططاتهم، فإذا ظفروا بالعامة كسبوا الرهان، ففقه الواقع كشف لهؤلاء، وفضح لمآربهم، وحماية بالتالي لعلماء الإسلام ودرع الأمة.
__________
(1) - سورة المائدة آية: 3.
(2) - سورة آل عمران آية: 110.
(3) - سورة المنافقون آية: 8.
(4) - صحيح الجامع 1/240 رقم 1056.
(5) - سورة الأنفال آية: 60.
(6) - سورة الطارق آية: 15-17.
(7) - سورة البقرة آية: 120.
(8) - سورة البقرة آية: 76.
(9) - سورة النساء آية: 142.
(10) - سورة البقرة آية: 11-12.
(11) - سورة الأنعام آية: 55.(/9)
2- وفقه الواقع حماية للعلماء من الخاصة، فعندما تكون الفتوى مبنية على تصور للواقع، وعلم بفروع المسألة وأصولها، لا يدع مجالا لطاعن أو مخالف، مما يكسب الفتوى احترامها وقوتها، وتتلقى بالقبول من لدن طلاب العلم والعامة، وهذا ولا شك يقوي صلة طلاب العلم بعلمائهم، ويقطع الطريق على من يستغل الأخطاء والعثرات لإبعاد شباب الأمة عن علمائها، وبهذا نحمي جانب العلماء، ونزيد من مكانتهم في نفوس العامة والخاصة، لتكون لهم الريادة والقيادة العلمية في توجيه الأمة، وتبصيرها في شئون دينها ودنياها، كما كانوا - وسيظلون بإذن الله - على مر الأجيال وتعاقب العصور.
ثامنا: الشعور بالمسئولية والتغلب على المعوقات
عندما نغفل عن واقعنا، ونكتفي بتلمس ظواهر الأمور دونما إدراك لحقائقها، قد نغفل عما يكاد لهذه الأمة ويحاك لها، وبالتالي سننشغل عن العمل الإيجابي الجاد، وقد ينصرف طالب العلم إلى أمور جانبية ظنا منه أن الأمور تسير على خير، وأن ليس هناك ما يكدر صفوها، أو يهدد كيان الأمة ومستقبلها.
ولكن عندما نفقه الواقع على حقيقته، دون إفراط أو تفريط، سندرك جهود الأعداء في الداخل والخارج لضرب الأمة في أعز ما تملكه، وهو دينها، وهنا نكون على مستوى المسئولية، وتزول الغشاوة التي تضعف رؤيتنا، وتنتهي المعاذير التي يرددها كثير من الناس، بدعوى أن الأمور بخير، وأننا أحسن من غيرنا، ونحن -ولا شك- بحمد الله وفضله أحسن من غيرنا، ولكن استمرار هذا القول، دون عمل أي جهد للمحافظة على هذا "الخير" و"الحسن" قد يؤدي إلى فقدانه وزواله (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(1) [سورة إبراهيم، آية: (7)]
وفقه الواقع بالتالي عامل مساعد للتغلب على المعوقات التي تواجهنا عندما نقوم بما أوجب الله علينا، فإدراكنا لقوله تعالى: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)(2) [سورة العنكبوت، الآيتان: (1-2)] وفقهنا لقوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ)(3) [سورة التوبة، آية: (16)]. ومعرفتنا بما لاقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من عقبات في طريق دعوتهم، كل ذلك سيزيد من إيماننا بأن العاقبة للمتقين، مهما طال الطريق وتعددت المعوقات.
وفي الوقت نفسه ففقهنا لما عليه أعداؤنا، وما يكابدونه من مشاق في تحقيق أهدافهم الباطلة ومآربهم الخبيثة، يزيد من تحملنا في سبيل أهدافنا السامية، وغاياتنا النبيلة (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)(4) [سورة آل عمران، آية: (140)]. (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)(5) [سورة النساء، آية: (104)].
وبهذا تتحول المشاق والعقبات إلى لذة تتنعم بها، بدل العنت والشقاء، كما تلذذ أسلافنا بالجهاد في سبيل الله، وبهذا نكون أو لا نكون.
ومن يتهيب صعود الجبال ... يعش أبد الدهر بين الحفر
تاسعا: رفع مستوى الأمة ثقافيا وسياسيا
أمتنا كانت هي الأمة الرائدة والقائدة، هي أمة الحضارة التي أخرج الله بها الناس من الظلمات إلى النور، كانوا رعاة غنم فأصبحوا قادة الأمم، وهذا منطق القرآن الكريم: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(6) [سورة آل عمران، آية: (110 )].
أما اليوم فإننا " غثاء كغثاء السيل " تداعى علينا الأعداء من كل جانب كتداعي الأكلة إلى قصعتها، ونحن في قاموس الأمم: العالم المتخلف، والعالم النامي، والعالم الثالث، إلى غير ذلك من التسميات التي يندى لها الجبين.
وإدراكنا لهذا الأمر، والعمل الإيجابي للخروج منه بداية الطريق للعودة إلى أصالتنا ومكانتنا، وهو الخطوة الأولى للخروج من أزمتنا، ونحن نملك -ولله الحمد- مقومات العز والسؤدد، ومقاليد القيادة، والسيادة، والريادة.
وما زلنا عالة على غيرنا في ثقافتنا، وسياسيتنا، وكثير من شئون حياتنا. (7)
ونحن بأمس الحاجة إلى إعادة ثقتنا بأنفسنا، ومن ثم تعود ثقة الناس بنا، في مجالات عدة: ثقافية، واجتماعية، وسياسية، واقتصادية، وبالتالي ترتفع مكانتنا، ويعلو شأننا، ونصبح كما أراد الله لنا (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(8) [سورة آل عمران، آية: (110)].
ضوابط ومحاذير
__________
(1) - سورة إبراهيم آية: 7.
(2) - سورة العنكبوت آية: 1-2.
(3) - سورة التوبة آية: 16.
(4) - سورة آل عمران آية: 140.
(5) - سورة النساء آية: 104.
(6) - سورة آل عمران آية: 110.
(7) - الذي ينظر إلى عدد المبتعثين من البلاد الإسلامية إلى بلاد الغرب والشرق حيث يعدون بمئات الآلاف أو يزيدون، يدرك ما أعنيه.
(8) - سورة آل عمران آية: 110.(/10)
نظرا لتعدد مصادر هذا العلم وتنوع مجالاته، فإن هناك أخطاء قد يقع فيها بعض المنتسبين إليه، مما يدعو إلى وضع بعض الضوابط، والتنبيه إلى بعض المحاذير، صيانة لهذا العلم من الدخلاء عليه، وحماية لطلابه من الانحراف والتشتت.
أولا: الالتزام بالأصول الشرعية والمنطلقات العقلية في وصف الواقع، وتوقع النتائج ورؤية المستقبل
من أهم ما يجب على المتخصص في هذا العلم أن ينتبه إلى أسلوب تلقي الأخبار وتوقع النتائج، فقد تجتمع لديه معلومات مهمة، لا يخضعها لضابط الشرع أو منطق العقل، فيزل في تحليلاته وتوقعاته.
لذا فإن الاعتماد على الأسباب المادية وحدها قد يؤدي بالمحلل للأحداث إلى أخطاء لا تغتفر.
ومن هنا فعلى الفقيه بالواقع أن يلتزم بهذا الضابط، ويبتعد عن التهويل والمبالغة، وعليه أن يعطي كل ذي حق حقه، ويضع الأمور في نصابها. ويعرض ما لديه من معلومات وحقائق على ميزان الشرع، ومنطلق العقل، والعقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح.
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
ثانيا: التثبت في نقل الأخبار وتلقيها
لابد من التثبت لسببين:
1- أن التثبت منهج شرعي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)(1) [سورة الحجرات، آية: (6)].
2- أن بعض مصادر فقه الواقع من قِبَل أناس لا تنطبق عليهم شروط العدالة، سواء كانوا كفارا أم فساقا، وخطورة بناء الحقائق على مصادر مجهولة أو مشكوك في مصداقيتها، أمر يفرض علينا التثبت، وعدم الخفة والاستعجال، حتى لا تكون النتائج عكس ما توقعنا، وخلاف ما ظننا.
وأنبه إلى خطأ الاعتماد على وكالة "يقولون"، فلها سوق رائجة، وتجد قبولا لدى الكثيرين، كما أن أسلوب: "حدثني الثقة عمن يثق به" طريق لا يعتمد عليه في إثبات الحقائق وإيجاد البراهين، ولا يعدو أن يكون خبرا قابلا للصدق والكذب، وأنبه طلاب العلم خاصة إلى ضرورة تحري الصدق في كل ما يسمعون أو يحدثون، حتى لا ينسب إليهم ما هم في غنى عنه.
ثالثا: الاعتدال والتوازن في التلقي
مصادر فقه الواقع متعددة ومتنوعة - كما أسلفت -، والاعتماد على مصدر دون الآخر خلل في البناء، وخطأ في النتيجة، فمصادر هذا العلم هي الكتاب والسنة، وتراث السلف وتاريخ الأمة، والمصادر المعاصرة - كما سيأتي تفصيلها-، وبعض الراغبين في هذا العلم يعتمدون على المصادر المعاصرة مع تقصير في غيرها من المصادر، بل إن بعضهم يعتمد على بعض المصادر الإعلامية كالصحف مثلا، ويمضي وقته يتابع هذه ويقرأ تلك، مما يشكل خللا في تصوره، وقدرته على فهم مجريات الأحداث، واستخلاص النتائج، والتوازن في التلقي أساس مهم لبناء فقه مؤصل، مبني على الشمول والحقائق.
والاعتدال سمة العلماء الربانيين، و " أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل " والاعتدال في الأشياء معين على الديمومة والبقاء، وسبيل من سبل الإتقان والإحكام و " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه " (2) فلا زيادة ولا نقصان، ولا غلو ولا جفاء (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)(3) [سورة البقرة، الآية: (143)]. والاعتدال مطلب شرعي، ومنطق عقلي: كلا طرفي قصد الأمور ذميم.
رابعا: حسن التعامل وتجنب المخاطر والمزالق
المتابع للواقع قد تدفعه الأحداث إلى مواقف لا يتبين أثرها إلا بعد حين، وقد تمر ظروف يجد المسلم نفسه في وضع لا يحسد عليه، من سوء الأحوال، وتفرق الأمة، ويرى المصائب تتوالى عليه من كل جانب، وهنا يأتي دور التأصيل الشرعي في معالجة الأمور وتحديد المواقف، ويبرز فقه المصالح والمفاسد، ودفع أحد الضررين بأخفهما، والتأمل فيما يترتب على الموقف من نتائج، بعيدا عن الحماس غير المنضبط، والاندفاع غير مدروس النتائج.
وأشير في هذا الموضع إلى مسألة مهمة، وهي أننا بأمس الحاجة إلى الحماس، ولكن هذا الحماس يجب أن يخضع للعقل، والعقل يجب أن يلتزم بقواعد الشرع، فإذا انفلت الحماس من ضوابط العقل أضر بصاحبه ومن حوله، والعقل إن لم يحكم بالشرع أدى إلى انحراف وضلال.
إذن الحماس مهم، ولكن العقل أهم منه، والعقل قوي، ولكن الشرع أقوى منه وأبعد نظرا، فإذا اجتمع الحماس مع العقل في ضوء الشرع كانت النتائج حميدة، والمواقف سليمة، وإذا اختل ركن منها، ضعف الطالب والمطلوب.
والحكمة في التعامل مع الواقع هي ما أعنيه وأقصده، وهي الدرع الواقي من المزالق، فلا إفراط ولا تفريط (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(4) [سورة النحل، آية: (125)]. (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)(5) [سورة البقرة، آية: (269)].
خامسا: عدم الجزم والقطع في توقع المستقبل
__________
(1) - سورة الحجرات آية: 6.
(2) - صحيح الجامع 1/383 رقم 1880.
(3) - سورة البقرة آية: 143.
(4) - سورة النحل آية: 125.
(5) - سورة البقرة آية: 269.(/11)
من الأمور التي يحتاج إليها المتخصص في فقه الواقع النظر في المستقبل وتوقع الأحداث، وذلك من أجل التخطيط للأمة، وتبصيرها بما يحاك لها من قِبَل أعدائها.
وبما أن ما يقع في المستقبل من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، والبشر لا يملكون إلا التوقع والاحتمال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره الله -جل وعلا- بأن يقول: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)(1) [سورة الأعراف، آية: (188)].
فإن مما يجب أن يلحظه المتخصص في هذا العلم عدم الجزم والقطع بما يحدث في المستقبل، وبخاصة أن الأدلة التي يبنى عليها هذا الأمر تدور بين ظنية الثبوت وظنية الدلالة، ويندر وجود دليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة في مثل هذه الأحوال، ولو وجد هذا الدليل فإنه يبقى في دائرة الاحتمال من حيث إمكان الوقوع، لأن الوحي قد انقطع، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً)(2) [سورة لقمان، آية: (34)]. وحتى أدلة السنن الإلهية الثابتة، التي قد نبني عليها توقعاتنا، تطبيقها على محلها يحتاج إلى تثبت، وعدم جزم ويقين.
ومن هنا فعلى طالب العلم أن يعنى بهذه المسألة، ويضع الاحتمالات في ضوء ما لديه من حقائق وأدلة، ثم يتعامل مع كل احتمال بما يناسبه، حتى لا يفاجأ بوقوع خلاف ما توقع وجزم به وقطع، وهنا يكون الأثر سلبيا، والنتيجة خاطئة.
سادسا: الحذر من الإعجاب بالكفار والمنحرفين
من الأمور التي يجب أن ينتبه لها طلاب العلم، وهم يقرءون مذكرات بعض السياسيين، أو تحليلات بعض المفكرين، أن يأخذهم الإعجاب بهؤلاء المحللين والسياسيين إذا كان من غير المسلمين، أو من الفساق والمنحرفين.
وفرق بين أن نفيد من علمهم وتجاربهم، وبين أن نعجب بشخصياتهم إعجابا قد يؤدي إلى الاقتداء، كما حدث لكثير من أبناء المسلمين الذين تربوا في الغرب، فهذا نجده معجبا بأستاذه هنري كيسنجر، يحذو حذوه في فكره وسياسته، وآخر معجبا بهيجل، وثالثا بأركون وهكذا دواليك.
أما الإفادة مما لديهم مما ينفع المسلمين، فهذا مطلب شرعي، فهذا أبو هريرة أفاد من الشيطان، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " صدقك وهو كذوب " والحكمة ضالة المؤمن، أني وجدها فهو أحق بها.
ويحسن كذلك عدم الإكثار من ذكرهم والاستشهاد بأقوالهم إلا عند الحاجة إليها. حتى لا يلتبس الأمر على العامة، فيشعرون أن ذلك تزكية لهم أو إعجاب بهم.
هذه أهم الضوابط التي أحببت التنبيه عليها، ليكون طلاب العلم على وعي بها، وإدراك لما قد يجر إليه إغفالها أو نسيانها.
مصادر فقه الواقع
ذكرت أن من مقومات هذا العلم: حسن اختيار المصادر، وهذا أمر في غاية الأهمية فما هي مصادره الأساسية:
لن أذكر هنا أسماء الكتب والمراجع كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، وإنما سأبين أصول موارد فقه الواقع، وأنواع هذه الموارد، وطالب العلم هو المعني باختيار آحادها، بما يناسب الأمر الذي يعنى فيه.
أولا: القرآن الكريم وتفسيره
هذا هو المصدر الأول والأساس، وبدونه يحدث الخلل وقصور النظر.
فكتاب الله هو الهادي إلى كل خير، والمعين على فهم كل قضية، فلو أخذنا مثلا قضية معاصرة، وأردنا تحليلها، والتأمل في حقيقتها ومآلها، فمن خلالها يتضح لنا الأمر:
فقضية الصراع مع اليهود، قضية معاصرة مزمنة، نجد أقوى المصادر لفهم أبعادها ومجرياتها كتاب الله، وذلك من خلال ما يلي:
1- الآيات التي تحدثت عن طبيعة اليهود وحقيقتهم وأخلاقهم، حتى مع خالقهم جل وعلا.
2- الآيات التي خلدت سيرتهم مع موسى -عليه السلام- منذ أن أرسل إليهم، وحتى قصة التيه، وفيها من العبر ما يعدو على الحصر.
3- تاريخ اليهود مع أنبيائهم (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)(3) [سورة البقرة، آية: (87)].
4- موقف اليهود من العهود والمواثيق التي أخذها الله عليهم، والتي أخذها أنبياؤهم، فتاريخهم حافل بنقص العهود والغدر والخيانة (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ)(4) [سورة البقرة، آية: (100)].
5- وآخر المطاف موقفهم من الإسلام، وصاحب الرسالة محمد صلى الله عليه وسلم (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(5) [سورة البقرة، آية: 75]. إلى آخر الآيات. وقد قام المفسرون بجلاء هذه القضية بما يشفي الغليل، وإن شئت فارجع إلى ما ذكره سيد -رحمه الله - عن اليهود في أول سورة الصف. وعلى الذين يتصدون لمعالجة قضية فلسطين أن يرجعوا للقرآن أولا.
__________
(1) - سورة الأعراف آية: 188.
(2) - سورة لقمان آية: 34.
(3) - سورة البقرة آية: 87.
(4) - سورة البقرة آية: 100.
(5) - سورة البقرة آية: 75.(/12)
وهكذا نجد أيضا بيان القرآن الكريم لقضية قديمة جديدة، ماضية معاصرة، ألا وهي قضية النفاق والمنافقين، وأساليبهم وخططهم، وما الأسلوب الأمثل لمعالجة أحوالهم ومكرهم (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(1) [سورة المنافقون، آية: (4)]، إذن فالقرآن الكريم هو المعين الذي لا ينضب، والمورد العذب الزلال، فيه خبر من قبلنا، ونبأ ما بعدنا، وتفصيل ما بيننا (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)(2) [سورة الأنعام، الآية (55)].
ثانيا: السنة النبوية
هذا هو المصدر الثاني، فرسول الله -صلى الله عليه- وسلم لا ينطق عن الهوى " إن هو إلا وحي يوحى "، فلو أمعنا النظر في سيرته صلى الله عليه وسلم في السلم والحرب، ورسائله للملوك والقياصرة، واستقباله للوفود، وعقده للصلح والمعاهدات، لتجلت لنا الحقيقة التي لا مراء فيها، بأنه صلى الله عليه وسلم أوتي الحكمة كاملة (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)(3) [سورة البقرة آية: (269)]. ونحن في عصر أحوج ما نكون فيه إلى الحكمة بمعناها الشرعي وهي "وضع الشيء في موضعه" (4).
ونجد في السنة من القواعد الشرعية ما يعين على فهم الواقع، واتباع الأسلوب الأمثل في معالجة قضاياه ومستجداته.
وخذ مثلا: أحاديث الفتن، وبيان الفتن التي تعصف بنا، ويوجهنا - بأبي وأمي هو - إلى سبل النجاة منها، وتلافي أسبابها.
وخذ مثلا سيرته صلى الله عليه وسلم في المنافقين، والموقف الحازم تجاه مكائدهم ودسائسهم، فنحن بأمس الحاجة إلى تلك السيرة في زمن استشرى فيه النفاق.
ثالثا: سير السلف
إن دراسة سير السلف الصالح من القادة والعلماء والمصلحين، نبراسا يضيء الطريق، ويعين على فهم الواقع، ومواجهة الأزمات، والخروج من المحن.
إن تجارب هؤلاء القدوة تراث ضخم، يعطي سعة في الأفق، وبعدا في الرؤية، وتصورا متزنا للمستقبل، وقدرة على تخطي الصعاب، بعون الله وتوفيقه.
تأمل موقف أبي بكر رضي الله عنهمن مانعي الزكاة، وأسلوبه مع المرتدين، وانظر إلى سيرة عمر رضي الله عنهوكيف قاد الأمة وساسها، ووقف سدا منيعا تجاه الفتن ومثيريها، وتبصر في قوله: "لست بالخب ولا الخب يخدعني".
وهكذا نجد في سيرة عثمان، وعلي، ومعاوية -رضي الله عنهم -، كما في سيرة عمر بن عبد العزيز، وهارون الرشيد -رحمهما الله تعالى-.
وتمعن في مواقف الأئمة كأحمد بن حنبل، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، والمجدد محمد عبد الوهاب، وغيرهم من العلماء والمصلحين، وانظر في فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم، ورسائل الشيخ عبد الله بن حميد، تجد سعة الأفق، وبعد النظر، وفقه الأحداث والنوازل.
رابعا كتب العقيدة والفقه
وهي المصدر لدراسة علوم الشريعة المستمد من الكتاب والسنة، وهي عماد المقوم الثاني من مقومات فقه الواقع، فمن خلال كتب العقيدة ندرك حدود الولاء والبراء، وأثر الأسباب المادية في الأحداث، ومدى مشروعية الأخذ بالأسباب، مما يعين على تفسير الأحداث، وفي كتب الفقه ندرك حقوق أهل الذمة، ومنطلقات الجهاد، وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى غير ذلك مما يعتبر دعامة أساسية في فهم الواقع، والحكم عليه، وشرعية التعامل معه.
خامسا: دراسة التاريخ وفقه السنن
من لا يعرف الماضي لن يفقه الحاضر، ومن لا ماضي له لا حاضر له ولا مستقبل، والله -سبحانه وتعالى- أمرنا بالتأمل في أحوال من قبلنا، والسير في الأرض فقال سبحانه: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(5) [سورة الروم، آية: (9)]. وقال سبحانه: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)(6) [سورة آل عمران، آية: (137)].
وقال سبحانه: (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(7) [سورة النحل، آية: (36)]. والآيات في هذا كثيرة معلومة.
وقص علينا القرآن أحداث الأمم ممن سبقنا: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً)(8) [سورة طه، آية: (99)]. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: " كان فيمن قبلكم " ثم يذكر لهم قصص بعض السابقين.
__________
(1) - سورة المنافقون آية: 4.
(2) - سورة الأنعام آية: 55.
(3) - سورة البقرة آية: 269.
(4) - انظر رسالة الحكمة في الدعوة إلى الله للدكتور زيد الزيد.
(5) - سورة الروم آية: 9.
(6) - سورة آل عمران آية: 137.
(7) - سورة النحل آية: 36.
(8) - سورة طه آية: 99.(/13)
ودراسة التاريخ تبين سنن الله في الأمم والمجتمعات (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)(1) [سورة فاطر، آية: (43)]. (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)(2) [سورة الأحزاب، آية: (62)].
ومن خلال ما سبق تتضح أهمية دراسة التاريخ، ففقه الحاضر مستمد من فقه الماضي، وتوقع المستقبل مبني على السنن الجارية.
والمتخصص في فقه الواقع يجب أن يعنى بدراسة التاريخ، وأخص تاريخ أمتنا الإسلامية، فهو رصيد ضخم زاخر، فيه العبر والعظات، وقل أن يمر حدث معاصر إلا وله شبيه في الماضي، مما يعين على فهمه وتحليله.
ولنأخذ مثلا واحدا، فالأحداث التي تعيشها أمتنا اليوم شبيهة بما كان يجري في الأندلس من وجوه عدة، بل إن مقدمة هذه الأحداث، والأسباب التي سبقتها، كانت تؤذن بحدوث ما حدث، والذين درسوا أحوال المسلمين في الأندلس كانوا يتوقعون حدوث شيء ما منذ فترة - أي قبل وقوع الأحداث- وهكذا كان، وهذا ليس تنجيما، ولا ضربا في الخيال، وإنما هو ثمرة من ثمار دراسة التاريخ، وفقه السنن.
لذا فإن هذا المصدر جدير بالعناية والاهتمام، وأصل من أصول فقه الواقع ومصدر من مصادره:
اقرأ التاريخ إذ فيه العبر ... ضل قوم ليس يدرون الخبر
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى)(3) [سورة يوسف، آية: (111)].
سادسا: المصادر السياسية
وأعني بها ما كتبه السياسيون المعاصرون والمتقدمون من كتب تتعلق بالجوانب السياسية، وهي على أنواع:
1- مذكرات السياسيين التي كتبها رجال قضوا سنوات طويلة في غمار السياسة ودهاليزها، فسجلوا تاريخ حياتهم، وخلاصة تجاربهم.
2- الكتب التي تبحث في موضوعات سياسية كالعلاقات الدولية، وعلاقة السياسة بالاقتصاد، ومهمات السفراء، ونحو ذلك.
3- الكتب التي تتحدث عن خفايا السياسة وأساليبها، ودور المنظمات الدولية، ككتاب لعبة الأمم، والميكيافيلية، ومنظمة الأمم المتحدة، وعصبة الأمم، ومجلس الأمن.
سابعا: المصادر الإعلامية
وهي من أهم المصادر المعاصرة، سواء أكانت مسموعة أو مقروءة أم مرئية، من أبرزها:
1- الصحف والمجلات والدوريات.
2- نشرات وكالات الأنباء العالمية.
3- الإذاعات.
4- التليفزيون.
5- الأشرطة والوثائق،إلى غير ذلك من الوسائل الإعلامية المعاصرة.
وأنبه في ختام هذا الفصل ما يلي:
1- إن معايشة الواقع تأثرا أو تأثيرا من أبرز المصادر العملية، التي تثري حياة الإنسان وتصقل مواهبه، فمدرسة الحياة هي أقوى المدارس وأعمقها.
2- أهمية التوازن في التلقي من هذه المصادر، وترتيب الأولويات، والبداءة بالأهم قبل المهم.
3- أهمية تلقي هذا العلم على يد المتخصصين، وعدم الاعتماد على المصادر وحدها، وبخاصة في بداية الطريق، والدورات المتخصصة وسيلة إيجابية للتخصص في هذا العلم وسلامة السير فيه بعيدا عن المزالق والمخاطر.
4- هناك كتب وبحوث ومجلات تعنى بفقه الواقع، وتحدثت عن الواقع مباشرة، كواقعنا المعاصر للأستاذ محمد قطب، وأيعيد التاريخ نفسه للأستاذ محمد العبده، وجاء دور المجوس لعبد الله الغريب، والدويلات الطائفية وغيرها، مما يساعد على استيعاب الواقع، وجودة التخصص فيه.
الخاتمة
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاما على عباده الذين اجتبى واصطفى، أما بعد:
فها نحن بعد هذه الرحلة المباركة مع فقه الواقع نصل إلى الحقيقة التي لا مراء فيها، وهي أن هذا العلم أصل من أصول دعوتنا، وأساس لكثير من الأحكام والمواقف، فحري بطالب العلم أن يعطيه حقه من الرعاية والعناية، ويعتبره ركنا من أركان العلم، ودعامة من دعائمه.
والحذر الحذر أن يعتبر تعلمه نفلا أو اختيارا، فالأعداء متيقظون، يعملون ليل نهار للإفساد في الأرض، ويزعمون أنهم يصلحون، فإذا غفلنا عنهم، وتركنها لهم الساحة يعبثون فـ:
متى يكمل البنيان يوما تمامه ... إذا كنت تبني وغيرك يهدم
وإذا تهاونا في هذا العلم، وتركناه لغيرنا، فسيستخف بنا الأعداء، بالأمة عموما، وبطلاب العلم خصوصا، كما هو حال المنافقين والعلمانيين وديدنهم في كل مجلس ومنتدى، وستظل أمتنا تتخبط في مواقفها، عالة على أعدائها، وذهابا لريحها وقوتها، فلا تخطيط للمستقبل، ولا ثبات في المواقف، ولا منهج في الولاء.
وإغفال هذا العلم يضعف صلة القاعدة من طلاب العلم بالقيادة من العلماء والدعاة والمصلحين، ويتيح الفرصة للمنافقين والعابثين في تدمير الأمة وتغريبها، والسير بها خلف أعدائها في كل حال وحين.
__________
(1) - سورة فاطر آية: 43.
(2) - سورة الأحزاب آية: 62.
(3) - سورة يوسف آية: 111.(/14)
وبهذا يدب اليأس والقنوط في نفوس المؤمنين، وينزوي الغيورون طلبا للسلامة، وتجنبا للفتنة، وتترك الأمة للمفسدين في الأرض، وهذا غاية منى العلمانيين، ومحط رحالهم، وهنا قل على الأمة العفاء، إلا أن يتداركها الله برحمة منه وفضل، والله ذو فضل عظيم.
وأخيرا أهمس في أذن كل طالب علم، أن يضع يده في أيدي علمائه، وألا يقطع أمرا دونهم، ولا يسمع فيهم كلام الوشاة والحساد والمغرضين، وأن يعلم أن "لحوم العلماء مسمومة، وسنة الله في منتقصهم معلومة" (1) فخذ بهذا والزمه تكن من المفلحين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلاة وسلاما على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) - انظر رسالة لحوم العلماء مسمومة، للكاتب.(/15)
فقه الولاء والبراء في ضوء الحروب الصليبية
د. محمد عمر دولة*
الحمد لله الكبير المتعال، القائل في كتابه العزيز: ((ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإنّ جندنا لهم الغالبون)) [سورة الصافات: 171-173]، والقائل جل جلاله: ((وكان حقاً علينا نصر المؤمنين)) [سورة الروم: 47]. والصلاة والسلام على إمام المجاهدين، وسيّد المرسلين, القائل: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق لا يضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس) [رواه أحمد والشيخان]. وبعد.. فهذه أيامٌ مِن أيامِ الله, أيامٌ نلمس فيها فتناً وحروباً ودماءً, ولكننا نلمح فيها بشائر عزٍّ للإسلام، وضياءٍ للحقِّ، وتوكّلٍ على الله, ونستشرف يقظةً للأمة وجهاداً وبلاءً. فهي أيامٌ فاصلة, كما كانت بدر فارقةً بين استضعاف الكُفَّار للمسلمين, وانتصار أهل الإسلام على من ظلمهم وعاداهم من الكافرين ((يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)) [سورة الأنفال: 41]، وهذا وعد الله الذي لا يتخلّف، وسنته التي لا تتبدّل ((يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفِّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم)) [سورة الأنفال: 29].
أولاً: واقع الأمة الإسلامية:
إنّ لهذه الأيام وشيجةً تصلها بسنن الله الماضية في الأمم السالفة, ولها ـ بإذن الله ـ بشائر في نهضة هذه الأمة القاهرة للملل الكافرة. فقد تحوّلت هموم الشباب المسلم إلى العلم والدعوة والجهاد, فتحلّقوا حول علماء الأمة، الذين حاول الأعداء طمسَ دورهم في تربية المسلمين وتزكيتهم ((والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون)) [سور يوسف: 21].
فقد فشلت خطط الظالمين في تجفيف ينابيع التدّين الموجَّهة إلى مناهج التعليم ووسائل الإعلام لإفساد شباب الأمة، وإشغالهم بسفاسف الأمور، والتحم علماء الأمة الأبرار ـ والرائد لا يكذب أهله ـ بشبابها الأخيار،
على الرغم من الحملات الضارية من الغزو الثقافي, والترسانة الضاربة مِن التدخُّل الاستعماري عند سقوط الخلافة الإسلامية. فقد كان أعداء الأمة يطمعون أن لا تقوم للإسلام قائمة بعد ما قضوا على الخلافة الجامعة للمسلمين, واستعاضوا عنها بسياسة تابعةٍ لهم, نابعةٍ من المنظومة الفكرية الاستعمارية (والمغلوب مُولع بتقليد الغالب) كما قال ابن خلدون, وقد تمثّل ذلك في الدساتير العلمانية للدول الإسلامية, والأحكام الوضعية المناقضة لهوية الأمة وشريعتها الربّانية.
ولا شكَّ أنّ نجاح الأعداء ـ على مدى عقود من القرن الماضي ـ في إفراغ العالم الإسلامي من كلّ نَبْض إسلامي حقيقي راجعٌ إلى إبعاد الإسلام ـ كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي ـ من حياة المسلمين؛ ليصبح الدين مجرّد شعائر قاصرة في ظل الشريعة الغائبة. فإنّ أمة الإسلام لا تحيا إلا بشرائعها وشعائرها معاً (وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب) [رواه البخاري]؛ فإنه يقود الحياة كلَّها بقيم الإسلام ومبادئه وأخلاقه في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية والإعلام، ((قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له)) [سورة الأنعام: 162]، ((قل أغير الله أبغي رباً وهو ربُّ كل شيء)) [سورة الأنعام: 164]، ((ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)) [سورة الملك: 14]. وقد كان طبيعياً ـ بعد غياب الإسلام بأنظمته الشرعية وهويّته الحضارية ـ أن تضعف مكانة الأمة, وتضمحلّ شعاراتها, وتتساقط راياتها, فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير!! بالرايات العميّة والقوانين الوضعية والأنظمة الجاهلية قومية كانت أو علمانية أو إلحادية!!(/1)
ولا شكّ أنّ الأعداء قد أوشكوا أن يصيبوا الأمة في مقتل يوم أن أوهنوا في قلوب المسلمين عقيدة الولاء والبراء, حتى كاد المسلم والكافر أن يكونا في رأيهم سواءً, بل ملأ الرويبضات عقيدة الأمة الإسلامية ـ في التعليم والإعلام وغير ذلك ـ بالضآلة النفسية تجاه القوة المادية الغربية, وأشعروهم بالضّحالة الفكرية للمسلين في مقاومة نظريات الكافرين والعلمانيين, فأولئك هم المسؤولون عن هزائم المسلمين في حروبهم الخاسرة؛ لأنّ فيهم (قابلية الاستعمار) بتعبير مالك بن نبي, وروح الهزيمة والصّغار, فهم عوامل النكسة العربية ومعاول الهدم في صرح الحضارة الإسلامية؛ لأنهم يعيشون اغتراباً عن الأمة, وانحيازاً إلى أعداء الملة فهم بتعبير بعض المؤلِّفين بمثابة (جُزُر في أوطانهم). وما ظنّك بعامة العلمانيين؟ إذا كان عميد الأدب العربي [كما سمّاه المستغربون، وإلاّ ففي أترابه من هو خيرٌ منه فكراً وأسلوباً، منهم أديب الإسلام مصطفى صادق الرافعي رحمه الله. والأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة سنين خدّاعة، يُتّهم فيها الأمين، ويُؤتمن الخائن، ويُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق...). رواه الطبراني، والحاكم في الكُنى، وابن عساكر، كما في كنز العمّال: 38511.] طه حسين ـ رمز الثقافة المنبتّة عن الأمة ـ ينادي بأعلى صوته: "لو أننا هممنا الآن أن نعود أدراجنا، وأن نحيي النظم العتيقة لما وجدنا إلى ذلك سبيلاً, ولوجدنا أمامنا عِقاباً لا تُجاز ولا تذلّل, عقاباً نُقيمها نحن, وعِقاباً تُقيمها أوروبا؛ لأننا عاهدناها أن نسايرها ونجاريها في طريق الحضارة)! [مستقبل الثقافة في مصر الجزء الأول: 36-37]فقد حاز سبع هزائم: الأولى: أنه لا يقدر أن يحيي نُظُم الإسلام ((ومن يُهِنِ الله فما له من مكرم))!! [سورة الحج: 18] الثانية: أنه يراها عتيقةً ما عادت صالحة للذين يُبدّلون ويغيّرون ويلبسون لكل مناسبة لَبوساً!! الثالثة: أنه لا يقدر أن يَهِمَّ بذلك مجرّد الهمِّ، وكفى بذلك همّاً وغمّاً!! الرابعة: أنه يعترف بتبعيّته، ولا يستنكف من عبوديته للغرب!! الخامسة: أنه يَرعى عهده مع أوربا ولا يراعي عهده مع الله في إحياء النظم العتيقة!! السادسة: أنه يخشى أوربا؛ لأنها وضعت أمامه عِقاباً لا تُجاز ولا تُذلّل!! السابعة: ـ وهي عار الدهر! ـ أنه ذلّل نفسه لخدمة أوربا, وأذلّها لعز الكافرين! وذلك ظاهر في قوله "عِقاباً نُقيمها نحن" فاستعماره عميق في داخله, واستلابه عتيق يملأ عليه أرجاء فؤاده!
فالحقيقة ـ التي لا يُمارِي فيها عاقلٌ منصف ـ أنّ الذين ضيّعوا الحضارة الإسلامية وعطّلوا نهضة الأمة هم العلمانيّون الذين أحسن وصفهم العلامة أحمد شاكر فالواحد منهم قد "استولى المبشرون على عقله وقلبه, فلا يرى إلا بأعينهم, ولا يسمع إلا بآذانهم, ولا يهتدي إلا بهديهم, ولا ينظر إلا على ضوء نارهم يحسبها نوراً, ثم هو قد سمّاه أبواه باسم إسلامي, وقد عُدّ من المسلمين ـ أو عليهم ـ في دفاتر المواليد وفي سجلات الإحصاء, فيأبى إلا أن يدافع عن هذا الإسلام الذي أُلبِسَه جنسيةً ولم يعتقده ديناً, فتراه يتأوّل القرآنَ ليُخضعه لما تعلّم من أُستاذيه، ولا يرضى من الأحاديث حديثاً يخالف آراءهم وقواعدهم, يخشى أن تكون حجتهم على الإسلام قائمة!!" [حراسة الفضيلة للشيخ بكر أبو زيد: 160]، وما أصدق ما وصفهم به الأديب الكبير كامل كيلاني بـ (المجدِّدينات)، مبيّناً أنّ هذا (جمع مخنث سالم!) [المرجع السابق]، وصدق الله العظيم القائل: ((ولا تكونوا من المشركين. من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون)) [سورة الروم: 31-32].
فوالله ما ضيّع فلسطينَ ـ بعد أن فتحها عمر رضي الله عنه وحرّرها صلاح الدين ـ إلا هؤلاء العلمانيون, وما أسَرَ اليهود فلسطين الغراء من أيدينا, إلا بسبب ضعف الولاء والبراء في قلوبنا. نسأل الله أن يردّنا إلى رشدنا.
ثانياً: مكانة الولاء والبراء في القرآن الكريم:
إنّ دارس الكتاب العزيز, يرى أنّ الآيات الشريفة المتعلّقة بهذا الموضوع كثيرة جداً، بحيث يتبيّن لكل عاقل عظمة هذه القاعدة في دين الله. فليس الولاء والبراء قضيةً فرعية أو من باب الآداب أو فضائل الأعمال أو المسائل الخلافية التي يعذر فيها بعضنا بعضاً. ولكنه ركنٌ من أركان العقيدة, وأساسٌ من أُسُس الإيمان، وقاعدةٌ من قواعد الإسلام، من تركها فقد ترك الدين, ومن أخذ بها فقد هُدي إلى صراطٍ مستقيم.(/2)
[1] فقد فرض الله على المسلمين أن يتولى بعضهم بعضاً, وأن ينصر بعضهم بعضاً ((إنما المؤمنون إخوة)) [سورة الحجرات: 10]، ((إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون. ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون)) [سورة المائدة: 55]، قال الحافظ ابن كثير: "هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت رضي الله عنه حين تبرأ من حلف اليهود, ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين؛ ولهذا قال تعالى: ((كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي إنّ الله قوي عزيز. لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون)) [سورة المجادلة: 21-22]، فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلحٌ في الدنيا والآخرة, ومنصورٌ في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال تعالى في الآية الكريمة: ((ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون))" [تفسير القرآن العظيم: 2/105].
وقال سبحانه وتعالى: ((إنّ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض)) [سورة الأنفال: 72]، قال ابن كثير رحمه الله :"أي كل منهم أحقُّ بالآخر من كل أحد؛ ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، كلُّ اثنين أخَوَانِ" [تفسير القرآن العظيم: 2/433].
[2] حسم القرآن مسألة انتساب اليهود والنصارى إلى موسى وعيسى عليهما السلام؛ لئلا يغترَّ المسلمون بكون أولئك من (أهل الكتاب)؛ فبيّن عز وجل كفر اليهود والنصارى وتحريفهم الكتب السماوية, وبراءة أنبياء الله منهم ((لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة)) [سورة المائدة: 73]، ((وقالت اليهود عزيرٌ ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنّى يؤفكون)) [سورة التوبة: 31]. وأظهر الله تعالى كذبهم في دعوى النسبة الإبراهيمية, فقال جل جلاله: ((ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين)) [سورة آل عمران: 67]، ((وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين)) [سورة البقرة: 135], كما صرَّح عز وجل بأن الإسلام ناسخٌ لما قبله من الأديان؛ فلا يقبل الله دينا سواه ((إنّ الدين عند الله الإسلام)) [سورة آل عمران: 19]، ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)) [سورة آل عمران: 85]. وهذا ـ لعمري ـ ركنٌ عظيم من قاعدة الولاء والبراء؛ لأنه تحريرٌ للمفاهيم الشرعية من تلبيس العلمانيين, ودفعٌ لشبهات المنافقين الذين يريدون نقض عُرى الإسلام وإرضاءَ الكافرين بالدعوة إلى الإبراهيمية ووحدة الأديان ((إنّ أولى الناس بإبراهيم لَلَّذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين)) [آل عمران: 68].
[3] نهى القرآن عن اتخاذ الكافرين أولياء؛ لأنهم أعداء الله ورسوله والمؤمنين, فقال عز وجل: ((لا يتخذِ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء)) [سورة آل عمران: 28]، قال ابن جرير:"قد برئ من الله وبرئ الله منه؛ لارتداده عن دينه ودخوله في الكفر"، وقال ابن كثير:"نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين, وأن يتّخذوهم أولياء يُسِرّون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعّد على ذلك فقال تعالى: ((ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيءٍ)) أي: ومن يرتكب نهي الله في هذا فقد برئ من الله كما قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تُلقون إليهم بالمودة)) إلى أن قال: ((ومن يفعله منكم فقد ضلَّ سواء السبيل)) [سورة الممتحنة: 1] وقال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين. أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً))" [تفسير القرآن العظيم: 1/466]، وليت شعري ما عذر المسلمين عند الله في موالاة الكافرين الذين وصفهم رب العالمين بأنهم: ((لا يرقُبون في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمّةً وأولئك هم المعتدون))؟! [سورة التوبة: 10].(/3)
[4] حَكَم الله جل جلاله بالكفر على من والى الكافرين وظاهرهم على المسلمين، فقال تبارك وتعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض. ومن يتولهم منكم فإنه منهم إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين)) [سورة المائدة: 51]، قال ابن جرير:"ومن تولاّهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملّتهم؛ فإنه لا يتولى متولٍّ أحداً إلا وهو به ـ وبدينه وما هو عليه ـ راضٍ. وإذا رضيه ورضيَ دينه فقد عادى ما خالفه وسَخَطَه وصار حكمُه حكمَه"، قال عز وجل: ((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنّ كثيراً منهم فاسقون)) [سورة المائدة: 80-81]. وقال تبارك وتعالى: ((بشّر المنافقين بأنّ لهم عذاباً أليماً. الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. أيبتغون عندهم العزة فإنّ العزة لله جميعاً)) [سورة النساء: 138-139] وقال عز وجل: ((يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من أهل الكتاب يرُدّوكم بعد إيمانكم كافرين)) [سورة آل عمران: 100]، وهذا من صميم الولاء والبراء يشهد لذلك قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردّوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين. بل الله مولاكم وهو خير الناصرين)) [سورة آل عمران: 149-150].
[5] أبان الله تعالى مقدار العداوة التي يُكنّها الكفّار للمسلمين، والتي لا يمكن أن تخالطها محبّة؛ لأنها عداوة في الدين، كما قال الشاعر:
وأوضح تبارك وتعالى لعباده المسلمين أنّ الكفار لن يرضوا عنهم حتى يفارقوا دينهم الحق ويكونوا أتباعاً للدين الباطل فقال سبحانه: ((ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتّبع ملتهم)) [سورة البقرة: 120]، وقال عزّ وجلّ: ((ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً)) [سورة النساء: 89]، وقال جلّ جلاله: ((ودّ كثير من أهل الكتاب لو يرُدّونكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيَّن لهم الحقّ)) [سورة البقرة: 109]. ومن ثَمّ جاءت الآيات تفضح الذين يُلقون إليهم بالمودة, والذين يسارعون فيهم, والذين يخشونهم, والذين يبتغون عندهم العزّة؛ لتنزع هذه الآيات من قلوب المسلمين تلكم العواطف الكاذبة والصداقات الباطلة ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتُّم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر قد بيّنا لكم الآيات إن كنتم تعقلون. ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كلِّه وإذا لقوكم قالوا آمنّا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ. قل موتوا بغيظكم إنّ الله عليم بذات الصدور)) [سورة آل عمران: 118-119].
فيتبين مما سبق أنّ هذا الأمر عظيمٌ وجليل، أمر إيمانٍ وكفر, كما قال ابن كثير في تفسير قول الله تعالى: ((إلاّ تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير)) [سورة الأنفال: 73]، "أي: إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين. وإلاّ وقعت فتنةٌ في الناس وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين؛ فيقع بين الناس فسادٌ منتشرٌ عريضٌ طويل" [تفسير القرآن العظيم: 2/435].
فينبغي على المسلم أن يحتاط لدينه وأن يراجع أمره، وأن يُخلص الولاء للمسلمين والبراء من المشركين. وصدق الله العظيم: ((قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده)) [سورة الممتحنة].
ثالثاً: مكانة الولاء والبراء في السنة النبوية:
لقد جاءت نصوص السنة واضحةً جليَّةً في عقيدة الولاء والبراء، ويمكن بيان الهدْي النبويِّ في المعالم التالية:
[1] حدّد النبي صلى الله عليه وسلم الأُخوّة في الدّين رابطاً بين المسلمين كما جاء في صحيح مسلم: (المسلم أخو المسلم)، وجاء في الصحيحين: (كونوا عباد الله إخواناً).(/4)
[2] رتّب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وجوب المحبّة والنصرة والتأييد بحيث (لا يُسلمه ولا يظلمه) (ولا يخذله) كما في حديث الصحيحين، وجاء في أحمد والترمذي: (والذي نفسي بيده لا تؤمنوا حتّى تحابّوا)، وفي الصحيحين: (لا يؤمن أحدكم حتى يحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه). وورد في أبي داود: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم، ويُجير عليهم أقصاهم، وهم يدٌ على مَن سواهم)، و(المؤمن أخو المؤمن يكفّ عنه ضيعته، ويحوطه من ورائه)، وفي مسلم: (المسلمون كرجل واحد إذا اشتكى رأسه اشتكى كلّه، وإذا اشتكى عينه اشتكى كلّه)، وفي الصحيحين: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً). قال الحافظ ابن رجب: "إنّ الأخ من شأنه أن يوصل لأخيه النفع، ويكفّ عنه الضر. ومن أعظم الضرر الذي يجب كفّه عن الأخ المسلم: الظلم" [جامع العلوم والحكم: 441]. وقال يحيى بن معاذ الرازي: "ليكن حظّ المؤمن منك ثلاثة: إن لم تنفعه فلا تضرّه، وإن لم تُفرحه فلا تَغُمّه، وإن لم تمدحه فلا تذمّه" [المرجع السابق: 446].
[3] قرّر النبي صلى الله عليه وسلم أن الولاء والبراء من العقائد التي لا يصح إسلام العبد إلا بها، ومن أعظم الشواهد على صدق الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم: (أوثق عُرى الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله) [رواه أحمد].
وكفى بذلك دليلاً على خطورة هذا الأمر وضرورة أن يعالج المسلم ما يعتريه في ذلك من خللٍ ويهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً)) [سورة الأحزاب: 21].
رابعاً: مظاهر الولاء للكفار في زماننا : [أفاد ذلك الشيخ: عبد الحي يوسف في دروس تفسير آيات الأحكام في رمضان 1421هـ، وذلك بتصرف يسير]
[1] الرضا بكفر الكافرين، وعدم تكفيرهم [وقد أفتى علماء الإسلام في لجنة الفتوى والبحوث بجامعة القرآن الكريم بكفر من قال بإيمان اليهود والنصارى]، أو الشك في كفرهم، أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الباطلة، أو السماح لهم بترويج كفرهم والدعوة إليه ونشره بين المسلمين. ويدخل في ذلك ما يسمّى بمؤتمرات حوار الأديان التي تهدف إلى إزالة الفوارق بين الإسلام والديانات المحرّفة, وتجاوز الخلاف العقدي بين المسلمين وغيرهم.
[2] التولِّي العام، واتخاذهم أعواناً وأنصاراً، ومداهنتهم على حساب الدين. قال تعالى: ((ودّوا لو تُدهن فيُدهنون)) [سورة القلم: 9]. ومن ذلك مشاركتهم في أعيادهم أو تهنئتهم بها, قال تعالى: ((والذين لا يشهدون الزور)) [سورة الفرقان: 72] أي أعياد المشركين. ومنه أيضا زيارة الكنائس والمعابد الشركيَّة التي يُسبُّ فيها الله تعالى ويُكفَر به.
[3] طاعتهم فيما يشيرون به وتوليتهم أمور المسلمين مع أنّ التولية شقيقة الولاية, لذلك كانت توليتهم المناصب نوعاً من توليهم، وقد حكم الله أنَّ من تولاهم فإنه منهم قال الإمام ابن حزم: "صحّ أنّ قول الله تعالى: ((ومن يتولّهم منكم فإنه منهم)) إنما هو على ظاهره فإنه كافرٌ من جملة الكفار, وهذا حقٌّ لا يختلف فيه اثنان من جملة المسلمين". أخرج الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:"قلت لعمر رضي الله عنه: لي كاتب نصراني. قال: مالك قاتلك الله! أما سمعت قول الله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء)) [سورة المائدة: 51]، ألا اتخذت حنيفاً ـ مسلماً ـ . قلت: يا أمير المؤمنين! لي كتابته وله دينه. قال: لا أُكرمهم إذ أهانهم الله, ولا أُعزّهم إذ أذلّهم الله, ولا أُدنيهم وقد أقصاهم الله". وأقرب مثال على عاقبة ذلك ما حدث بنيجيريا ((فاعتبروا يا أولي الأبصار)) [سورة الحشر: 2].
[4] تعظيمهم وإطلاق الألقاب عليهم, وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقال للمنافق: يا سيّد [رواه أبو داود بإسناد صحيح، كما في رياض الصالحين بتخريج الألباني], والكافر من باب أولى, ونهى أيضاً عن ابتداء الكافرين بالسلام, قال صلى الله عليه وسلم: (لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام) [رواه مسلم].
[5] التآمر معهم، وتنفيذ مخططاتهم، والدخول في أحلافهم وأحزابهم وتنظيماتهم, والتجسس من أجلهم، ونقل عورات المسلمين وأسرارهم إليهم، والقتال في صفهم.
خامساً: شواهد تاريخية على خطورة الغفلة عن الولاء والبراء:(/5)
لقد أقام الله الحجة على المسلمين بتنبيههم إلى ضرورة أخذ الاحتياط من الكفّار المعتدين، فقد أمر المسلمين أن لا يركنوا إلى الظالمين فإنهم لا أيْمان لهم ولا إيمان، ومنع مجالسة الخائضين في دين الله بالاستهزاء، وذلك دأْب الكافرين والمنافقين، وأبان سبحانه حقيقةً في منتهى الأهمية وغاية الخطورة وهي أن الكفر شرٌّ مستطير، وشأن الباطل الاعتداء كما قال رب العالمين: ((والكافرون هم الظالمون)) [سورة البقرة: 254]. وشرع تعالى من الأحكام ما يذكّرهم بذلك كما في صلاة الخوف، وأوجب أخذ الحذر والاحتياط من مهاجمة الكفّار لهم ((هم العدوّ فاحذرهم)) [سورة المنافقون: 4]، ((يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم)) [سورة النساء: 71]، ((ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلةً واحدة)) [سورة النساء: 102].
وهذا كلّه يقوّي في نفس المسلمين البراء من المشركين، ويجعلهم مستعدّين لمقارعتهم في كلّ حين، أما الغفلة عن ذلك فمن أكبر المصائب، إذ تؤدي إلى أن تحلّ بأهل الإسلام أعظم النوائب.
ولنضرب على ذلك مثلين:
[1] الغفلة عن الخطر المغولي المهدد للأمة:
فقد قصّر المسلمون في القرن السابع الهجري في الإعداد للجهاد في سبيل الله, والتأهُّب لحماية الأمّة من خطر التتار الدّاهم، لاسيما بعدما رأوْا جرائم المغول ضدّ كلّ الملل، حتى لُقِّب هولاكو بـ (مبيد الأمم). ولكن كلّما ضَعُفت في المسلمين روح الولاء والبراء، وشغلتهم الدنيا، وفرّقتهم الأهواء؛ تسلّط عليهم الأعداء. وما شأن الأندلس ببعيد، فقد ضيّعها ملوك الطوائف الغارقون في الشهوات، حين غفلوا عن عداوة النصارى لهم؛ فما شعروا إلاّ بسنابك الخيل تدكُّ عروشهم، كما قال ابن رشيق:
وهكذا حدث في بغداد، فقد حكى الذهبي هذه الهجمة بقوله: "قصد الطاغية هُولاكو بغداد بجيوشه.. ودخل التتار بغداد واقتسموها.. وبقي السيف يعمل أربعة وثلاثين يوماً، وقَلَّ من سَلِم. فبلغت القتلى ألفَ ألفٍ وثمانمائة ألف وزيادة.. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون" [دول الإسلام للذهبي: 2/159-160]، وقال أيضاً: "حتى اشتد الوباء بالشام ـ ولا سيما بدمشق وحلب ـ لفساد الهواء" [العبر في أخبار من عبر للذهبي: 3/171].
فهذه الغفلة عن عداوة الكفّار للمسلمين قد نكبت الأمّة بأعظم مصابٍ حلَّ بها حتى فُجع أفذاذ المؤرخين منذ مطلع القرن السابع، وشقَّ على بعضهم أن يصوّر ما أَلَمّ بأمّة الإسلام. فقد كتب ابن الأثير صفحاتٍ مبكيةً حكى فيها نكبة المسلمين ونكستهم في تلك الأيام، حتى تمنّى أن لم يكن حاضراً تلك النائبة العظيمة، فقال رحمه الله: " لقد بقيتُ ـ عدّة سنين ـ مُعْرِضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدّم رِجلاً وأؤخر أخرى. فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فياليت أمّي لم تلدني! ويا ليتني مِتُّ قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً!" [الكامل في التاريخ: 12/358].
[2] خيانة الشيعة الروافض للأمة الإسلامية، وتحالفهم مع التتار والصليبيين لحرب المسلمين:(/6)
وقد كان ذلك دلالةٌ بيّنةٌ على كفرهم وخلوِّ قلوبهم من ولاء المسلمين ومعاداة الكافرين، بل كانوا برآء من المسلمين أولياء للكافرين. وكذلك المسلمون ـ بحمد الله ـ برآء منهم. وما الذي يُرجى ممّن يكفّر الصحابة الكرام ويُظهر العداوة لأهل السنّة؟ فقد استَعْدَوا المغول على المسلمين، واستَدْعَوْهم إلى حاضرة الإسلام ومدينة السلام بغداد؛ فما خرجوا منها حتى جعلوها خراباً. فقد خان الروافض أمة محمد صلى الله عليه وسلم بثمنٍ بخسٍ وكانوا فيها من الزاهدين قال الذهبي: "ثارت فتنةٌ مهولةٌ ببغداد بين أهل السنة والرافضة؛ أدّت إلى نهبٍ عظيمٍ وخراب, وقتل عِدة من الرافضة؛ فغضب لها وتنمّر ابن العلقمي الوزير وجسّر التتار على العراق ليشتفي من السنة". وبيّن أنّ هذا الوزير الرافضي: "قرّر مع هولاكو أموراً فانعكست عليه وعضّ يده ندماً... فمات غبناً وغمّاً لا رحمه الله" [دول الإسلام: 2/159، والعبر: 3/277]، "فقد خدع السلطان وأوهمه بأنّ هولاكو سيصالحه "فأخرجه وأكابر الوقت؛ فضُربت رقاب الجميع" [المرجعان السابقان]. وذلك شأن الروافض دائماً فإنّ أصول اليهود حيّة فيهم، لا تنقضي عنهم صفات المكر والخديعة والكيد والخيانة للمسلمين وعدم النظر في العواقب, فقد حكى ابن الأثير أنّ الإسماعيلية ـ وهم من غلاة الرافضة الباطنية ـ استدعوا المغول لقتال جلال الدين الخوارزمي وكشفوا لهم عن نواحي ضعفه [الكامل في التاريخ: 9/283]. وجاء في [النجوم الزاهرة] لابن تغري بردي أنه لما قُتل جلال الدين الخوارزمي "دخل جماعة على الأشرف موسى" وكان حاكم أهل السنة فهنئوه بموته. فقال: تهنئوني به وتفرحون! سوف ترون غِبَّه! والله لتكوننّ هذه الكسرة سبباً لدخول التتار إلى بلاد الإسلام. ما كان الخوارزمي إلا مثل السُدِّ الذي بيننا وبين يأجوج ومأجوج" قال ابن تغري بردي: "فكان كما قال الأشرف" [النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: 6/277].
ورحم الله العلامة محمد كرد علي فقد قال في [خطط الشام]: "الغريب أن شيعة جبل عاملة كانوا من حزب الصليبيين على المسلمين إلاّ قليلاً، كما كان هوى الموارنة مع الصليبيين ويعملون عندهم أدلاّء وتراجمة" [خطط الشام: 2/14، نقلاً عن أيعيد التاريخ نفسه؟ لمحمد العبدة: 40]، قال الذهبي: "وضاع أمر الإسلام بدولة بني بويه وبني عبيد الرافضة، وتركوا الجهاد، وهاجت نصارى الروم وأخذوا المدائن" [سير أعلام النبلاء 16/232، نقلاً عن أيعيد التاريخ نفسه؟: 67]، وقد فضح هؤلاء الباطنية على أيدي علماء الإسلام من أمثال ثابت بن سنان في [تاريخ أخبار القرامطة]، وعلي بن نصر في: [الرد على الباطنية]، وقد خصّهم أبو شامة بكتاب سمّاه: [كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد]، وقال الحافظ ابن كثير: "جلس أميرهم أبو طاهر ـ لعنه الله ـ على باب الكعبة وهو يقول: "أنا الله، أنا أخلق الخلق وأفنيهم"، قال ابن كثير: "ولم يعجّل الله سبحانه وتعالى بعقوبةٍ على هؤلاء الملحدين كما عجّلها على أصحاب الفيل وهم نصارى، وهؤلاء شرٌّ من اليهود والنصارى والمجوس" [البداية والنهاية: 11/160].
ومن اطلع على تاريخ الحروب الصليبية ـ لا سيما [كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية] ـ عرف دور الروافض والباطنية في حرب الإسلام؛ ولذلك عقد الحافظ أبو شامة فصولاً عدةً في بيان كيدهم ومكرهم وعداوتهم للمسلمين، فهم الذين حاولوا قتل صلاح الدين مرتين [مختصر كتاب الروضتين: 188-191]، وكشف رحمه الله كذبهم وزورهم فقال: "كثرت الرافضة واستحكم أمرهم.. وأفسدت عقائد طوائف من أهل الجبال الساكنين بثغور الشام كالنصيرية والدرزية والحشيشية ـ نوع منهم ـ وتمكن دعاتهم منهم لضعف عقولهم وجهلهم ما لم يتمكنوا من غيرهم. وأخذت الفرنج أكثر البلاد بالشام والجزيرة إلى أن منّ الله على المسلمين بظهور البيت الأتابكي وتقديمه مثل صلاح الدين، فاستردوا البلاد وأزالوا هذه الدولة عن رقاب العباد.. يدّعون الشرف، ونسبتُهم إلى مجوسي أو يهودي حتى اشتهر لهم ذلك بين العوام فصاروا يقولون الدولة الفاطمية والدولة العلوية وإنما هي الدولة المجوسية أو اليهودية الباطنية الملحدة" [مختصر كتاب الروضتين: 157].(/7)
ولك أن تقارن موقف المخلصين من أهل السنة بمواقف الرافضة الباطنية فقد حكى أبو شامة عن زنكي ـ والد نور الدين ـ أنه استعان بالسلطان محمد السلجوقي لمّا هاجم النصارى مدينة حلب فقيل له في ذلك فقال: "إن هذا العدو قد طمع فيّ، وإن أخذ حلب لم يبق بالشام إسلام، وعلى كل حالٍ فالمسلمون أولى بها من الكفار" [كتاب الروضتين: 1/35، نقلاً عن أيعيد التاريخ نفسه: 104. فأين هذا الموقف المشرف من المواقف المخزية التي صدرت عن الدول المنتسبة إلى الإسلام في هذه الحملة الصليبية الجديدة على العالم الإسلامي بدءاً بأفغانستان، حفاظاً على عروشهم وخيانةً لأمة الإسلام]. وأمّا شاور الذي كان حاكماً على مصر في دولة الرافضة فقد استنجد بالنصارى حتى لا يجعل لنور الدين على مصر سبيلاً! [وما أشبه الليلة بالبارحة! فهاهي دولة الرافضة تعلن عداوتها ومنابذتها لإمارة أفغانستان الإسلامية وتدعم بالمال والسلاح والرجال الأحزاب الشيعية المتحالفة مع الجيوش الصليبية، وتفتح أجواءها لهم بعد أن ظلت زمناً طويلاً تخدع عوام المسلمين بشعارات: الموت لأمريكا.. الشيطان الأكبر ((ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعضٍ فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون))].
وخلاصة القول في أمر النكبات ـ التي تصيب الأمة عند غفلتها عن الولاء والبراء ـ أنّ ذلك مرتبط بما يسبقه من الإعداد لجهاد الأعداء, وهو راجع بدوره إلى قلة الفقه بالولاء والبراء ((إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم))، ورحم الله أبا الوفاء بن عقيل حيث قال: "إذا أردتَ أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان, فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع, ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك! وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة" [الآداب الشرعية لابن مفلح: 1/255].
سادساً: بين الأمس واليوم:
ها هم كفار اليوم يجلبون على هذه الأمة التي كتب الله لها الغلبة والسعادة والفوز في الدّارين؛ يريدون أن يردّوها عن دينها ويحاربوا طليعتها المجاهدة؛ لأنها قائمة على الحق ممسكة بـ (ذروة سنام الإسلام), يحبون أن يحولوا بين رايتهم الظافرة وبين الأمة التي أقضَّت مضجعها المعارك الخاسرة, وطال عهدها بأيام العزة والحماسة حين كانت تترنّم بأناشيد الجهاد وكان شعارها:
فعدوّ اليوم هو عدوّ الأمس, ونفاق اليوم هو نفاق الأمس يتمثّل في تلك القلوب المريضة ((فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم)) [سورة المائدة: 52]، وتلك العزائم الخائرة ((فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حِدادٍ أشحةً على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم)) [سورة الأحزاب: 19]، وتلك النفوس الحائرة المترددة ((مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء)) [سورة النساء: 143]، ((الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نسْتحوذْ عليكم ونمنعكم من المؤمنين)) [سورة النساء: 141].
والروافض هم الروافض في التآمر والتخاذل والتحالف مع الكافرين! والمجاهدون هم المجاهدون (لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم) فالحزم هو الحزم ((الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)) [سورة آل عمران: 173]، والعزم هو العزم ((ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً)) [سورة الأحزاب: 22].
نسأل الله تعالى أن يقوّي فينا عقيدة الولاء والبراء؛ فننحاز إلى صفوف المجاهدين الصالحين استجابة لأمر الله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)) [سورة التوبة: 119], ونبرأ من الكافرين, ونحيي في نفوسنا معاني العزة بالله والجهاد في سبيله كما قال مَن قبلنا:
فإنه لا إيمان ولا عزة ولا جهاد إلا بالولاء والبراء؛ فحينما تحقق الأمة ذلك تنشد بين الورى:
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
التعقيب على ورقة الولاء والبراء
د. عبد الله عبد الحي:
[1] تقسيم الولاء إلى مراتب بعضها:
أ - كبيرة: مثل (اتخاذهم بطانة, ومداهنتهم والتذلل لهم, والمبالغة في تعظيمهم ورفع شأنهم, والدخول في سلطانهم بدون حاجة, والتشبّه بهم في أخلاقهم وشعائرهم, والإقامة بينهم لمن يستطيع إعلان دينه مع قدرته على الهجرة).
ب - أقلّ من ذلك مثل (ميل القلب غير الإرادي إلى الزوجة الكتابية, وكذلك مدحهم والثناء عليهم بدون مسوّغ, والعمل لديهم مع وجود الإهانة والاحتقار).
ج - مباحة: مثل (معاملة غير المحاربين بالحسنى, والإهداء إلى المسالمين منهم تأليفاً لقلوبهم على الإسلام, وكذلك الإقامة ببلاد الكفار لغرض صحيح مثل طلب العلم مع القدرة على أداء الفرائض).
[2] التحذير من التساهل في شأن الولاء والبراء.
الشيخ مدثر أحمد إسماعيل:(/8)
من النقاط التي طرحها:
[1] تعريف الولاء بأنه محبة ومودّة وقرب, وتعريف البراء بأنه بُغضٌ وعداوةٌ, وهما من أعمال القلوب.
[2] ذكر مقتضياتهما من النصرة والمعاونة والجهاد.
[3] ضرورة تحرير الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين من الولاءات الجاهلية كالقومية والعلمانية وغيرها.
[4] التأكيد على خطورة الحملة الصليبية الفكرية ممثّلة في المبشّرين والمستشرقين وأعوانهم من العلمانيين.(/9)
فقه وآداب وأحكام الصيام
بسم الله الرحمن الرحيم
معاشرَ الأئمَّةِ والخطباء والوعاظ، إخوانَنا المربِّين والناصحين والمرشدين، معاشرَ المسلمين:
يسرُّ المنبرَ سرورًا عظيمًا أن يُهدي لكم بمناسبة شهر رمضان المبارك هَدِيَةً، نسأل الله تعالى أن تنال إعجابَكم، وأن تحظى بالقبول لديكم.
بين يديكم مجموعةٌ من البحوث العلمية القيِّمة، تناولت جميعَ الأحكام والآدابِ والمخالفات المتعلقة بهذا الشهر الكريم، على وجه البسط والتفصيل، قائمة على الدليل والتعليل.
والمنبر من وراء ذلك يهدف إلى توفير مادةٍ علمية تفصيلية متكاملة شاملة لكلِّ ما يتعلَّق بشهر رمضان، بحيث لا يبقى للخطيب في منبره ولا للواعظ في محرابه إلا أن يَجْتَبِي المختار، ويجتني الثمار.
ونهيب بإخواننا أئمةِ المساجد وغيرِهم من الدعاة اهتبالَ فرصةِ إقبال المسلمين في رمضان بتذكيرهم بالكثير مما لا يسعهم جهلُه من أمور دينهم، وأن لا يقتصروا في وعظهم على ما يتعلق برمضان
البشارة بقدوم رمضان: أولا: البشارة لغة:
البشارة لغة:
قال الزجاج: "معنى يبشرك: يسرك ويُفْرحك، بشرت الرجل أبشره: إذا فرّحته، وبَشَر يبشر: إذا فرح".
وقال: "ومعنى يبشرك من البشارة".
وقال: "وأصل هذا كله أن بشرة الإنسان تنبسط عند السرور، ومن هذا قولهم: فلان يلقاني ببشرٍ، أي بوجه منبسط عند السرور"().
قال الجوهري: "والبشارة المطلقة لا تكون إلاَّ بالخير، وإنما تكون بالشرّ إذا كانت مقيّدة به، كقوله تعالى: {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21]. وتباشر القوم إذا بشّر بعضهم بعضاً.
والتباشير: البشرى، وتباشير الصبح: أوائله، وكذلك أوائل كل شيء".
قال: "والبشير: المبشِّر، والمبشِّرات: الرياح التي تبشر بالغيث"().
البشارة والتهنئة بقدوم شهر رمضان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرم)) ([1]).
وما يُروى في الباب من حديث سلمان رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان، فقال: ((أيها الناس قد أظلّكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، ...)) الحديث: فلا يصح([2]).
وحديث أبي هريرة المتقدم أصلٌ في تبشير وتهنئة الناس بعضهم بعضاً بقدوم شهر رمضان. قال ابن رجب: "كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟! كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟! كيف لا يبشر العاقل بوقتٍ يغل فيه الشيطان؟! من أين يشبه هذا الزمان زمان؟!"([3]).
([1]) أخرجه النسائي (4/129) في الصوم، باب: فضل شهر رمضان، بسند صحيح، عن بشر بن هلال قال: حدثنا عبد الوارث عن أيوب عن أبي قلابة به. وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1992).
([2]) ابن خزيمة (1887) ك: الصيام، باب فضائل شهر رمضان إن صح الخبر. من طريق علي بن حجر السعدي ثنا يوسف بن زياد ثنا همام بن يحيى عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب به. وأخرجه الحارث في مسنده (321) وانظر: المطالب العالية، (1047) ك: الصوم، باب فضل شهر رمضان من طريق عبد الله بن بكر حدثني بعض أصحابنا رجلٌ يقال له: إياس، رفع الحديث إلى سعيد بن المسيب به، وعند البيهقي في الشعب (3608) عن عبد الله بن بكر السهمي ثنا إياس بن عبد الغفار عن علي بن زيد به، والمحاملي في أماليه (293) من طريق الحسين ثنا سعيد بن محمد بن ثواب ثنا عبد العزيز بن عبد الله الجدعاني ثنا سعيد بن أبي عروبة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب به. والحديث مداره على علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، انظر: التقريب (4768)، تهذيب الكمال (2/434)، المجروحين لابن حبان (2/78) ط السلفي.
([3]) لطائف المعارف (ص279).
إظهار الفرح والسرور بقدوم رمضان:
الفرح بمواسم الطاعات والحزن على فواتها أمر متفق عليه عند السلف.
قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:58].
قال هلال بن يساف: "بالإسلام وبالقرآن"([1]).
وعن أيفع الكلاعي رضي الله عنه قال: لما قدم خراج العراق إلى عمر رضي الله عنه، خرج عمر رضي الله عنه ومولى له، فجعل يعد الإبل، فإذا هو أكثر من ذلك، فجعل عمر رضي الله عنه يقول: الحمد لله. وجعل مولاه يقول: هذا والله من فضل الله ورحمته. فقال عمر رضي الله عنه: كذبت، ليس هذا، هو الذي يقول: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، وهذا مما تجمعون([2]).(/1)
قال القاسمي: "{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ} يعني القرآن الذي أكرموا به {وَبِرَحْمَتِهِ} يعني الإسلام، {فَبِذَلِكَ} أي فبمجيئهما {فَلْيَفْرَحُواْ} أي لا بالأمور الفانية القليلة المقدار، الدنيئة القدر والوقع، {هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} أي من الأموال وأسباب الشهوات، إذ لا ينتفع بجميعهما ولا يدوم، ويفوت به اللذات الباقية، بحيث يحال بينهم وبين ما يشتهون. والفاء داخلة في جواب شرط مقدر، كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فبهما فليفرحوا"([3]).
وصوم رمضان أحد أركان الإسلام.
قال ابن رجب: "بلوغ شهر رمضان وصيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه، ويدل عليه حديث الثلاثة الذين استشهد اثنان منهم، ثم مات الثالث على فراشه بعدهما، فرؤي في المنام سابقاً لهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أليس بعدهما كذا وكذا صلاة، وأدرك رمضان فصامه، فوالذي نفسي بيده، إن بينهما لأبعد مما بين السماء والأرض)) خرّجه الإمام أحمد وغيره([4]).
من رُحِم في شهر رمضان فهو المرحوم، ومن حُرم فهو المحروم، ومن لم يتزود فيه لمعاده فهو ملوم([5]).
وفي الباب حديث ضعيف، وهو ما رواه أبو مسعود الغفاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ وأهلَّ رمضان، فقال: ((لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنَّت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان))([6]).
([1]) تفسير الطبري (7/125).
([2]) تفسير ابن أبي حاتم (6/1960).
([3]) تفسير القاسمي (9/46).
([4]) أخرجه أحمد في المسند (2/333)، وابن ماجه (3925) في تعبير الرؤيا، باب تعبير الرؤيا، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3171).
([5]) لطائف المعارف (ص280).
([6]) أخرجه ابن خزيمة (1886) في الصوم، باب ذكر تزين الجنة، لشهر رمضان. وفيه جرير بن أيوب البجلي، قال عنه البخاري في التاريخ الكبير (2/215): "منكر الحديث" . وكذا قال أبو زرعة وأبو حاتم كما في الجرح والتعديل (2/503)، وفيه عن يحيى بن معين: "جرير بن أيوب البجلي ليس بشيء".
المستبشرون بقدوم رمضان:
الذين يفرحون بحلول شهر رمضان صنفان:
1. أهل الطاعة والإيمان:
يفرحون بما في رمضان من أنواع الطاعات، وما أعدّه الله لأهلها من الأجر والثواب ومن ذلك:
الصوم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))([1]).
قال ابن حجر: "قوله: ((إيمانا)) أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه، ((واحتساباً)) أي طلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه"([2]).
صلاة التراويح:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))([3]).
قال النووي: "والمراد بقيام رمضان صلاة التراويح"([4]).
قيام ليلة القدر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يقم ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))([5]).
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان))([6]).
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((تحروا ليلة القدر)) أي احرصوا على طلبها واجتهدوا فيه"([7]).
العمرة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأة من الأنصار: ((ما منعك أن تحجي معنا؟)) قالت: كان لنا ناضح فركبه أبو فلان وابنه - لزوجها وابنها – وترك ناضحاً ننضح عليه. قال: ((فإذا كان رمضان اعتمري فيه، فإن عمرة في رمضان حجة))([8]). وفي لفظ: ((فإن عمرة في رمضان تقضي حجة أو حجة معي))([9]).
قال ابن العربي: "حديث العمرة هذا صحيح، وهو فضل من الله ونعمة، فقد أدركت العمرة فضيلة الحج بانضمام رمضان إليها"([10]).
وقال ابن الجوزي: "فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كما يزيد بحضور القلب وبخلوص القصد"([11]).
تلاوة القرآن:
عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلّ ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة([12]).
2. أهل الغفلة واللهو والعصيان:
يفرحون بما في رمضان من ألوان المباحات واللهو والمحرمات، ومن ذلك:
المأكولات والمشروبات الرمضانية:
فتمتلئ الموائد امتلاءً عجيباً من ذلك، ولا يكاد يسلم من هذا الأمر إلا من رحم ربك، وقليل ما هم.(/2)
ولا يخفى ما في هذا الأمر من مناقضة لحكمة تشريع الصوم من تقليل الطعام الذي يساعد على صفاء النفس وسمو الروح؛ حتى يخف الجسد وينشط لصلاة التراويح، وعلى العكس حين يمتلئ المسلم من هذه الأطعمة ؛ فإن صلاة العشاء، تثقل عليه، ناهيك عن صلاة التراويح، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((ما ملأ آدميٌّ وعاءً شراً من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه))([13]).
فوازير رمضان، والأفلام والمسلسلات الرمضانية:
وهذه فيها ألوان من المعاصي من سماع الأغاني المحرَّمة، وإطلاق البصر في رؤية ما حرَّم الله، وتضييع أشرف الأوقات فيما حرَّم الله.
مباريات كرة القدم التي تقام في هذه الشهر الفضيل.
اختلاط الجنسين في الأسواق:
فبعض ضعاف النفوس يرون شهر رمضان موسماً للغزل والمعاكسات، وممارسة ما حرّم الله، وفي هذا انتكاس أيُّ انتكاس . وحال الأسواق اليوم يندى لها الجبين، فعلى أولياء الأمور أن يتقوا الله في بناتهم، ويراقبوهنّ ويحافظوا عليهن.
فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع، ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عند رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته))([14]).
([1]) أخرجه البخاري (1901) في الصوم، باب:من صام رمضان إيماناً واحتساباً، واللفظ له. ومسلم (760) في صلاة المسافرين وقصرها، باب:الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح.
([2]) فتح الباري (4/251).
([3]) أخرجه البخاري (37) في الإيمان، باب:تطوع قيام رمضان من الإيمان. ومسلم (759) في صلاة المسافرين وقصرها، باب:الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح.
([4]) شرح مسلم (6/39).
([5]) البخاري (35) في الإيمان،باب قيام ليلة القدر من الإيمان. ومسلم (760) في صلاة المسافرين وقصرها،باب:الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.
([6]) أخرجه البخاري (2017) في فضل ليلة القدر،باب:تحرِّي ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر.
([7]) شرح مسلم (5/58).
([8]) أخرجه البخاري (1782) في الحج،باب: عمرة في رمضان.
([9]) أخرجه البخاري (1863) في الحج،باب: حج النساء.
([10]) انظر: فتح الباري (3/604).
([11]) المصدر نفسه.
([12]) أخرجه البخاري (9) في بدء الوحي، باب بدء الوحي.
([13]) أخرجه الترمذي (2380) في الزهد، باب:ما جاء في كراهية كثرة الأكل . وقال:"هذا حديث حسن صحيح". وصححه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 5236)، والحاكم في المستدرك (4/331)، والألباني في صحيح سنن الترمذي (1939).
([14]) البخاري (893) في الجمعة، الجمعة في القرى والمدن.
من أماني السلف الصالح بلوغ شهر رمضان:
قال معلى بن الفضل: "كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم"([1]).
وقال يحيى بن أبي كثير: "كان من دعائهم: اللهم سلِّمني إلى رمضان، وسلِّم لي رمضان، وتسلَّمه مني متقبلاً"([2]).
([1]) لطائف المعارف (ص280).
([2]) المصدر السابق.
أخطاء يقع فيها بعض الناس في استقبال شهر رمضان:
1. اغتنام آخر شعبان في الإكثار من الأكل والشرب:
إذا العشرون من شعبان ولَّت فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغارٍ فإن الوقت ضاق عن الصغار([1])
2. التسخط من قدوم شهر رمضان لمشقة الصيام:
قيل: إنه كان للرشيد ابن سفيه، فقال مرةً:
دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ولا صمت شهراً بعد آخر الدهر
فلو كان يعديني الأنام بقدرة على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر
فأخذه داء الصرع، فكان يُصرع في كل يوم مرات متعددة، ومات قبل أن يدركه رمضان آخر([2]).
هذا حال الجهال، وإلا فإن الأكياس كانت السنَة كلها عندهم رمضان.
3. التلهف في شراء مؤن رمضان من المأكولات والمشروبات:
مر جابرٌ على عمر بلحم اشتراه بدرهم نقال: فقال له عمر: ما هذا؟! قال: اشتريته بدرهم، قال: كلما اشتهيت شيئاً اشتريته، لا تكون من أهل هذه الآية: { أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف:20]"([3]).
ودخل عمر على ابنه عبد الله وإذا عندهم لحم، فقال: ما هذا اللحم؟! فقال: اشتهيته، قال: أوكلما اشتهيت شيئاً أكلته، كفى بالمرء سرفاً أن يأكل ما اشتهاه([4]).
وباع قوم من السلف جارية لهم، فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له، ويستعدون بالأطعمة، وغيرها، فسألتهم، فقالوا: نتهيأ لصيام رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا رمضان؟! لقد كنت عند قومٍ كل زمانهم رمضان، ردّوني عليهم([5]).
([1]) لطائف المعارف (ص276).
([2]) لطائف المعارف (ص276).
([3]) مصنف ابن أبي شيبة (5/140)، الزهد لابن أبي عاصم (1/124).
([4]) الزهد لابن أبي عاصم (1/123).
([5]) لطائف المعارف (ص278).
أبيات شعرية([1]):
جاء شهر الصيام بالبركات فأكرم به من زائرٍ هو آت(/3)
أني رمضان مزرعة العباد لتطهير القلوب من الفساد
فأدّ حقوقه قولاً وفعلاً وزادك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها تأوّه نادماً يوم الحصاد
* * *
إذا رمضان أتى مقبلاً فأقبل فالخير يستقبل
لعلك تخطئه قابلاً وتأتي بعذر فلا يقبل
* * *
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيره أيضاً شهر عصيان
واتل القرآن وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرآن
واحمل على جسدٍ ترجو النجاة له فسوف تضرم أجساد بنيران
كم كنت تعرف ممن صام في سلفٍ من بين أهل وجيران وإخواني
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم حياً فما أقرب القاصي من الداني
([1]) جميع هذه الأبيات مأخوذة من لطائف المعارف (ص279-282).
فضائل شهر رمضان
1. فيه أنزل الله القرآن
قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].
قال ابن كثير: "يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم"([1]) .
قال محمد رشيد رضا: "إن الحكمة في تخصيص هذا الشهر بهذه العبادة هي أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، أفيضت على البشر فيه هداية الرحمن ببعثة محمد خاتم النبيين عليه السلام، بالرسالة العامة للأنام، الدائمة إلى آخر الزمان"([2]) .
قال ابن سعدي: "... هو شهر رمضان، الشهر العظيم، الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم،وهو القرآن الكريم،المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية"([3]) .
([1]) تفسير القرآن العظيم (1/221).
([2]) تفسير المنار (2/158).
([3]) تيسير الكريم الرحمن (1/ 222 ـ 223).
2. فيه تفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتصفد الشياطين:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء رمضان فُتّحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)) ([1]) .
قال أبو الوليد الباجي: "يحتمل أن يكون هذا اللفظ على ظاهره، فيكون ذلك علامة على بركة الشهر وما يرجى للعامل فيه من الخير"([2])
وقال ابن العربي: "وإنما تفتح أبواب الجنة ليعظم الرجاء، ويكثر العمل، وتتعلق به الهمم، ويتشوق إليها الصابر، وتغلق أبواب النار لتجزى([3]) الشياطين، وتقل المعاصي، ويصد بالحسنات في وجوه السيئات فتذهب سبيل النار"([4]).
وقال القاضي عياض: "قيل: يحتمل على الحقيقة، وأنّ تفتّح أبواب الجنة وتغليق أبواب النار، علامة لدخول الشهر، وعظم قدره، وكذلك تصفيد الشياطين؛ ليمتنعوا من أذى المؤمنين وإغوائهم فيه"([5]) .
([1]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: هل يقال رمضان (1898)، ومسلم في الصيام، باب: فضل شهر رمضان (1079).
([2]) المنتقى شرح الموطأ (2/75).
([3]) كذا في المطبوع، ولعلها: لتخزى.
([4]) عارضة الأحوذي (3/198).
([5]) إكمال المعلم (4/5).
3 ـ أن الله اختصه بفريضة الصيام الذي هو من أفضل الأعمال المقربة إليه سبحانه وتعالى، وأجلها، فهو سبب لمغفرة الذنوب والآثام.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) ([1]) .
قال ابن بطال: "قوله: ((إيمانًا)) يريد تصديقًا بفرضه وبالثواب من الله تعالى على صيامه وقيامه، وقوله: ((احتسابًا)) يريد بذلك ليحتسب الثواب على الله، وينوي بصيامه وجه الله"([2]) .
وقال الطيبي: "يعني بالإيمان الاعتقاد بحقية فرضية صوم هذا الشهر، لا الخوف والاستحياء من الناس من غير اعتقاد بتعظيم هذا الشهر، والاحتساب طلب الثواب من الله الكريم"([3]) .
وقال المناوي: "وفيه فضل رمضان وصيامه، وأن تنال به المغفرة، وأن الإيمان وهو التصديق والاحتساب وهو الطواعية شرط لنيل الثواب والمغفرة في صوم رمضان، فينبغي الإتيان به بنية خالصة وطوية صافية امتثالاً لأمره تعالى واتكالاً على وعده"([4]) .
([1]) أخرجه البخاري في الإيمان، باب: صوم رمضان احتسابًا من الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في صيام رمضان وهو التراويح (760).
([2]) شرح البخاري (4/21).
([3]) الكاشف عن حقائق السنن شرح مشكاة المصابيح (4/137).
([4]) فيض القدير (6/160).
4 ـ فيه ليلة هي خير من ألف شهر، وهي ليلة القدر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لما حضر رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد جاءكم رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرِم)) ([1]) .
([1]) أخرجه النسائي في الصيام، باب: فضل شهر رمضان (2105)، وأحمد (2/230)، وعبد الرزاق (7383)، وله شاهد من حديث أنس عند ابن ماجه في الصيام، باب: ما جاء في فضل شهر رمضان (1644)، وحسّنه المنذري في الترغيب (2/99)، وقال الألباني في صحيح الترغيب (999): "صحيح لغيره".
5 ـ أن فيه استجابة الدعاء، والعتق من النار:(/4)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله عتقاء في كل يوم وليلة لكل عبد منهم دعوة مستجابة)) ([1]) .
([1]) أخرجه أحمد (2/254)، وأبو نعيم في الحلية (8/257)، وقال الهيثمي في المجمع (10/216): "ورجاله رجال الصحيح"، وله شاهد عند ابن ماجه في الصيام، باب: فضل شهر رمضان (1643)، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (604): "رجال إسناده ثقات".
6 ـ أن العمرة فيه تعدل أجر حجة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار: ((ما منعك أن تحجّي معنا؟)) قالت: كان لنا ناضح فركبه أبو فلان وابنه ـ لزوجها وابنها ـ وترك ناضحًا ننضح عليه. قال: ((فإذا كان رمضان اعتمري فيه؛ فإن عمرةً فيه تعدل حجة)) ([1]) .
قال ابن بطال: "قوله: ((كحجة)) يريد في ثواب، والفضائل لا تدرك بالقياس، والله يؤتي فضله من يشاء"([2]) .
وقال النووي: "أي: تقوم مقامها في الثواب، لا أنها تعدلها في كل شيء، بأنه لو كان عليه حجة فاعتمر في رمضان لا تجزئه عن الحجة"([3]) .
وقال الطيبي: "أي: تقابل وتماثل في الثواب؛ لأن الثواب يفضل بفضيلة الوقت"([4]) .
([1]) أخرجه البخاري في الحج، باب: عمرة في رمضان (1782)، ومسلم في الحج، باب: فضل العمرة في رمضان (1256) واللفظ له.
([2]) شرح البخاري (4/438).
([3]) شرح مسلم (9/ 2).
([4]) الكاشف عن حقائق السنن المعروف بـ "شرح المشكاة" (5/219).
وفي فضائل رمضان أحاديث كثيرة ضعيفة. انظرها في مبحث: "أحاديث لا تثبت في شهر رمضان وصيامه".
أولاً: إثبات دخول رمضان بالهلال.
أولاً: إثبات دخول رمضان بالهلال.
1ـ دليله: عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رمضان فقال: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن أغمي عليكم فاقدروا له))([1]).
قال ابن عبد البر: "فيه أنّ الله تعبَّد عباده في الصوم برؤية الهلال لرمضان، أو باستكمال شعبان ثلاثين يوماً"([2]).
وهو قول الحنفية([3]) والمالكية([4]) والشافعية([5]) والحنابلة([6]).
2 ـ عدد الشهود في هلال شهر رمضان:
اختلف العلماء في عدد الشهود الذين يثبت بهم دخول رمضان على أقوال:
القول الأول: يكتفى بشهادة عدل واحد.
وهو قول الحنابلة والأصح عند الشافعية.
قال الشافعي: "فإن لم تر العامة هلال شهر رمضان، ورآه رجل عدل، رأيت أن أقبله للأثر والاحتياط"([7]).
وقال النووي: "في المسألة قولان:
أصحهما باتفاق الأصحاب يثبت بعدل، وهو نصّه في القديم، ومعظم كتبه في الجديد للأحاديث الصحيحة في ذلك.
والثاني: نصّه في البويطي: "لا يثبت إلا بعدلين"([8]).
ثم قال بعد ذلك: "فالحاصل أن المذهب ثبوته بالعدل"([9]).
وقال المرداوي عند قول صاحب المقنع (ويقبل في هلال رمضان قول عدل واحد): "هذا المذهب نصَّ عليه، وعليه جماهير الأصحاب"([10]).
أدلة هذا القول:
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته؛ فصام وأمر الناس بصيامه ([11]).
2- عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال؛ يعني رمضان، فقال: ((أتشهد أن لا إله إلا الله؟)) قال: نعم. قال: ((أتشهد أنّ محمدًا رسول الله؟)) قال: نعم. قال: ((يا بلال، أذن في الناس فليصوموا غدًا))([12]).
القول الثاني: يشترط شهادة عدلين.
وهو قول المالكية، وقول للشافعية.
قال في المدونة: "أرأيت استهلال رمضان هل تجوز فيه شهادة رجل واحد في قول مالك؟ قال: قال مالك: لا تجوز فيه شهادة رجل واحد، وإن كان عدلاً. قلت: فشهادة رجلين؟ قال: هي جائزة في قول مالك"([13]).
دليل هذا القول:
عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنّه خطب في اليوم الذي يشك فيه؛ فقال: ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وساءلتهم، وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين، فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا))([14]).
القول الثالث: إن كان بالسماء علة يقبل شهادة الواحد، وإن لم يكن بالسماء علة فلا بد أن يكون الشهود جمعاً غفيراً.
وهذا هو قول الحنفية.
ودليله:
أن التفرد من بين الجم الغفير بالرؤية مع توجههم طالبين لما توجه هو إليه، مع فرض عدم المانع وسلامة الأبصار، وإن تفاوتت الأبصار في الحدة ظاهر في غلطه، قياساً على تفرد ناقل زيادة من بين سائر أهل مجلس مشاركين له في السماع، فإنها ترد، وإن كان ثقة"([15]).
الترجيح:
الراجح في المسألة والله أعلم قبول شهادة الواحد.
قال ابن حزم: "قد صح في الدين قبول خبر الواحد، فهو مقبول في كل مكان؛ إلا حيث أمر الله تعالى بأن لا يقبل إلا عدد سماه لنا".
وقال أيضاً في الكلام على حديث عبد الرحمن بن زيد المتقدم : "وليس فيه إلا قبوله اثنين ، ونحن لا ننكر هذا ، وليس فيه أن لا يقبل واحد"([16]).(/5)
وقال ابن القيم: "الصحيح قبول شهادة الواحد مطلقاً؛ كما دل عليه حديثا ابن عمر وابن عباس، ولا ريب أن الرؤية كما تختلف بأسباب خارجة عن الرائي؛ فإنها تختلف بأسباب من الرائين؛ كحدة البصر وكلاله، وقد شاهد الناس الجمع العظيم يتراءون الهلال فيراه الآحاد منهم، وأكثرهم لا يرونه، ولا يعد انفراد الواحد بالرؤية من بين الناس كاذباً"([17]).
3 ـ عدد الشهود في هلال شوال وسائر الشهور:
جمهور أهل العلم وأكثرهم على أنه لا يقبل في شهود هلال شوال إلا شهادة رجلين وأن شهادة رجل واحد غير مقبولة. ولم يخالف فيه إلا أبو ثور وابن حزم.
قال الترمذي: "ولم يختلف أهل العلم في الإفطار أنّه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين"([18]).
وقال النووي: "وأمّا الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء إلاَّ أبا ثور فجوَّزه بعدل"([19]).
واحتج الجمهور بحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب المتقدم، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا))([20]).
وحديث أمير مكة الحارث بن حاطب قال: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك الرؤية، فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما([21]).
وذهب ابن حزم إلى ما قال به أبو ثور؛ وهو عدم التفرقة بين الهلالين، وأنه يكفي فيه قول واحد.
قال ابن حزم: "ولو صح عنده بخبر واحد أيضاً كما ذكرنا فصاعداً أنّ هلال شوال قد رؤى فليفطر أفطر الناس أو صاموا، وكذلك لو رآه هو وحده"([22]).
وحجته حديث ابن عمر السابق.
وقال في جوابه على الجمهور: "فإن تعلق من فرَّق بين هلال رمضان، وهلال شوال بهذين الخبرين، وقال: لم يرد إلاَّ في هلال رمضان؟
لنا: ولا جاء نص قط بالمنع من ذلك في هلال رمضان، وأنتم أصحاب قياس، فهلاَّ قستم هلال شوال على هلال رمضان؟
فإن قالوا: إنّ الشاهد في هلال رمضان لا يجر إلى نفسه، والشاهد في هلال شوال يجر إلى نفسه.
قلنا: فردوا بهذا الظن بحينه شهادة الشاهدين في شوال أيضاً؛ لأنهما يجران إلى أنفسهما كما تفعلون في سائر الحقوق.
وأيضاً فإن من يكذب في مثل هذا لا يبالي قُبل أو رُد"([23]).
وقال في رده على الجمهور احتجاجهم بحديث الحارث بن حاطب: "ليس فيه إلا قبوله اثنين، ونحن لا ننكر هذا، وليس فيه أن لا يقبل واحد"([24]).
وقال الشوكاني: "وأما حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وحديث أمير مكة فهما واردان في شهادة دخول رمضان، أما حديث أمير مكة؛ فظاهر لقوله فيه: (نسكنا بشهادتهما)، وأمّا حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب؛ ففي بعض ألفاظه: (إلا أن يشهد شاهدا عدل)، وهو مستثنى من قوله ((فأكملوا عدة شعبان)) فالكلام في شهادة دخول رمضان، وأمّا اللفظ الذي سيذكره المصنف أعني قوله: ((فإن شهد مسلمان فصوموا وأفطروا)) فمع كون مفهوم الشرط قد وقع الخلاف في العمل به، هو أيضاً معارض بما تقدم من قبوله صلى الله عليه وسلم لخبر الواحد في أول الشهر، وبالقياس عليه في آخره، لعدم الفارق؛ فلا ينتهض مثل هذا المفهوم لإثبات هذا الحكم به، وإذا لم يرد ما يدل على اعتبار الاثنين في شهادة الإفطار من الأدلة الصحيحة؛ فالظاهر أنه يكفي فيه واحد؛ قياساً على الاكتفاء به في الصوم، وأيضاً التعبد بقبول خبر الواحد يدل على قبوله في كل موضع؛ إلاَّ ما ورد الدليل بتخصيصه بعدم التعبد فيه بخبر الواحد؛ كالشهادة على الأموال ونحوها، فالظاهر ما قاله أبو ثور"([25]).
4ـ شروط الشهود:
أ- الإسلام.
ب- العقل.
ج- العدالة.
قال النووي: "وأما الكافر والفاسق والمغفل، فلا يقبل قولهم فيه بلا خلاف"([26]).
وقال ابن نجيم: "ويشترط العدالة في الكل؛ لأنّ قول الفاسق في الديانات التي يمكن تلقيها من العدول غير مقبول؛ كالهلال ورواية الأخبار؛ ولو تعدد كفاسقين فأكثر"([27]).
وقال في بيان العدالة المقصود بها عند الحنفية: "وحقيقة العدالة: ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة، والشرط أدناها، وهو ترك الكبائر والإصرار على الصغائر، وما يخل بالمروءة"([28]).
وقال النووي: "ولا خلاف في اشتراط العدالة الظاهرة فيمن نقبله"([29]).
وقال البهوتي: "ويقبل فيه – أي هلال رمضان – وحده خبر مكلف لا مميز عدل نصاً"([30]).
حكم شهادة المرأة والعبد:
اختلف العلماء في قبول شهادة المرأة والعبد على قولين:
القول الأول: أنها تقبل؛ لأن صوم رمضان أمر ديني فأشبه رواية الأخبار. وبه قال الحنفية([31]).
القول الثاني: أنها لا تقبل؛ لأن طريقها طريق الشهادة، بدليل أنه لا يقبل من شاهد الفرع مع حضور شاهد الأصل. وبه قال المالكية والشافعية([32]).
حكم شهادة المستور([33]):
اختلف العلماء في قبول شهادة المستور على قولين:
القول الأول: أنه لا تقبل شهادته ؛ لأنه لم تظهر عدالته لنا. وهو قول للحنفية والشافعية([34]).
القول الثاني: أنه تقبل شهادته ؛ لأنه يُسامح فيه كما يُسامح في العدد احتياطاً. وهو قول الحنفية والأصح عند الشافعية([35]).
5 ـ صوم المنفرد وإفطاره:(/6)
ذهب جماهير العلماء إلى أنَّ من رأى هلال رمضان وحده يلزمه صومه؛ وإن لم تقبل شهادته، وكذا لو رأى هلال شوال وحده لزمه الفطر؛ وإن لم تقبل شهادته.
وهو قول الأئمة الأربعة وابن حزم.
قال المرغيناني: "ومن رأى هلال رمضان وحده صام، وإن لم يقبل الإمام شهادته لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته))([36])، وقد رأى ظاهراً، وإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة"([37]).
وقال أيضاً: "ومن رأى هلال الفطر وحده لم يفطر احتياطاً في الصوم"([38]).
وقال الدردير: "يجب على من انفرد برؤية رمضان الصوم وإظهاره، – ولا يجوز فطر – أي إظهار فطر شخص – منفرد بشوال – أي برؤيته؛ لئلا يتهم بأنه ادعى ذلك كذباً ليفطر، وأما نيّة الفطر فتجب عليه – إلا بمبيح – للفطر في الظاهر؛ كسفر وحيض؛ لأن له أن يعتذر بأنه إنما أفطر لذلك"([39]).
وقال النووي: "من رأى هلال رمضان وحده لزمه الصوم، ومن رأى هلال شوال وحده لزمه الفطر، وهذا لا خلاف فيه عندنا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) رواه البخاري ومسلم.
قال أصحابنا: ويفطر لرؤية هلال شوال سراً؛ لئلا يتعرض للتهمة في دينه وعقوبة السلطان"([40]).
وقال المرداوي عند قول ابن قدامة في المقنع (ومن رأى هلال رمضان وحده، ورُدَّت شهادته؛ لزمه الصوم): "وهذا الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب"([41]).
وقال عند قول ابن قدامة (وإن رأى هلال شوال وحده لم يفطر) :"هذا المذهب، نقله الجماعة عند أحمد، وعليه أكثر الأصحاب"([42]).
وقال ابن حزم: "ومن صح عنده بخبر من يصدقه؛ من رجل واحد أو امرأة واحدة، عبد أو حر أو أمة أو حرة فصاعداً أنّ الهلال قد رؤى البارحة في آخر شعبان ففرض عليه الصوم، صام الناس أو لم يصوموا، وكذلك لو رآه هو وحده. ولو صح عنده بخبر واحد أيضاً كما ذكرنا فصاعداً أن هلال شوال قد رؤى فليفطر أفطر الناس أو صاموا، وكذلك لو رآه هو وحده، فإن خشي في ذلك أذى؛ فليستتر بذلك"([43]).
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أن الصيام والفطر يكون مع الناس.
فقال رحمه الله: "يصوم مع الناس ويفطر مع الناس، وهذا أظهر الأقوال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون))([44]) رواه الترمذي.
قال: "وأصل هذه المسألة أنّ الله سبحانه وتعالى علَّق أحكاماً شرعية بمسمى الهلال والشهر، كالصوم والفطر والنحر، فقال تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ} [البقرة:189].
فبيَّن سبحانه أنّ الأهلة مواقيت للناس والحج، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ a أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ b شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ} [البقرة:183، 185]، أنه أوجب صوم شهر رمضان وهذا متفق عليه بين المسلمين، لكن الذي تنازع الناس فيه أن الهلال هل هو اسم لما يظهر في السماء، وإن لم يعلم الناس به، وبه يدخل الشهر؟ أو الهلال اسم لما يستهل به الناس، والشهر لما اشتهر بينهم؟
على قولين:
فمن قال بالأول يقول: من رأى الهلال وحده فقد دخل ميقات الصوم، ودخل شهر رمضان في حقه، وتلك الليلة هي في نفس الأمر من رمضان، وإن لم يعلم غيره، ويقول من لم يره إذا تبين له أنه كان طالعاً قضى الصوم، وهذا هو القياس في شهر الفطر، وفي شهر النحر، لكن شهر النحر ما علمت أن أحداً قال: من رآه يقف وحده دون سائر الحاج وأنه ينحر في اليوم الثاني ويرمي جمرة العقبة ويتحلل دون سائر الحاج، وإنما تنازعوا في الفطر، فالأكثرون ألحقوه بالنحر، وقالوا: لا يفطر إلا مع المسلمين، وآخرون قالوا: بل الفطر كالصوم، ولم يأمر الله العباد بصوم واحد وثلاثين يوماً، وتناقض هذه الأقوال يدل على أنّ الصحيح هو مثل ذلك في ذي الحجة.
وحينئذ فشرط كونه هلالاً وشهراً شهرتُه بين الناس واستهلال الناس به حتى لو رآه عشرة، ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد لكون شهادتهم مردودة، أو لكونهم لم يشهدوا به، كان حكمهم حكم سائر المسلمين، فكما لا يقفون ولا ينحرون ولا يصلون العيد إلا مع المسلمين، فكذلك لا يصومون إلاَّ مع المسلمين، وهذا معنى قوله: ((صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون))، قال أحمد: "يد الله على الجماعة".(/7)
وعلى هذا تفترق أحكام الشهر: هل هو شهر في حق أهل البلد كلهم أو ليس شهراً في حقهم كلهم؟ يبيِّن ذلك في قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة:185]. فإنّما أمر بالصوم من شهد الشهر، والشهود لا يكون إلا لشهر اشتهر بين الناس حتى يتصور شهوده والغيبة عنه"([45]).
وهذا الرأي الذي اختاره شيخ الإسلام رحمه الله هو الأقرب، والله أعلم.
6ـ هل الرؤية في بلد ملزمة لبلد آخر:
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنّ الرؤية في بلد يشق بها الصيام في البلد الآخر من غير اعتبار باختلاف المطالع.
وهو قول الحنفية والمالكية والحنابلة على الصحيح عندهم، وبعض الشافعية.
قال ابن نجيم الحنفي: "ولا عبرة باختلاف المطالع – فإذا رآه أهل بلدة، ولم يره أهل بلدة أخرى؛ وجب عليهم أن يصوموا برؤية أولئك، إذا ثبت عندهم بطريق موجب، ويلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب"([46]).
قال ابن شاس: "وإذا رؤي الهلال في بلد؛ لزم غيرهم الصوم، والقضاء إن فات من غير تفصيل"([47]).
وقال المرداوي: "لا خلاف في لزوم الصوم على من رآه، وأما من لم يره فإن كانت المطالع متفقة؛ لزمهم الصوم أيضاً، وإن اختلفت المطالع؛ فالصحيح من المذهب لزوم الصوم أيضاً، قدَّمه في الفروع والفائق والرعاية، وهو من المفردات"([48]).
القول الثاني: أنه لا يجب الصوم على أهل البلد الآخر. وهو الصحيح عند الشافعية.
قال النووي: "إذا رأوا الهلال في رمضان في بلد ولم يروه في غيره، فإن تقارب البلدان فحكمهما حكم بلد واحد، ويلزم أهل البلد الآخر الصوم بلا خلاف، وإن تباعدا فوجهان مشهوران في الطريقتين: أصحهما: لا يجب الصوم على أهل البلد الآخر، وبهذا قطع المصنف والشيخ أبو حامد والبندنيجي وآخرون، وصححه العبدري والرافعي والأكثرون، والثاني: يجب، وبه قال الصيمري وصححه القاضي أبو الطيب والدارمي وأبو علي السنجي وغيرهم"، ثم قال: "والصحيح الأول"([49]).
قال: "وفيما يعتبر به البعد والقرب ثلاثة أوجه: أصحها، وبه قطع جمهور العراقيين والصيدلاني وغيرهم أنّ التباعد يختلف باختلاف المطالع كالحجاز والعراق وخراسان، والتقارب أن لا يختلف كبغداد والكوفة والري وقزوين، لأنّ مطلع هؤلاء مطلع هؤلاء، فإذا رآه هؤلاء فعدم رؤيته للآخرين لتقصيرهم في التأمل أو لعارض بخلاف مختلفي المطالع.
والثاني: الاعتبار باتحاد الأقاليم واختلافه، فإن اتحد فمتقاربان وإلا فمتباعدان، وبهذا قال الصيمري وآخرون، والثالث: أن التباعد مسافة القصر والتقارب دونها، وبهذا قال الغوراني وإمام الحرمين والغزالي والبغوي وآخرون من الخرسانيين"([50]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالصواب في هذا - والله أعلم - ما دل عليه قوله: ((صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون))([51])، فإذا شهد شاهد ليلة الثلاثين من شعبان أنه رآه بمكان من الأمكنة قريب أو بعيد وجب الصوم، وكذلك إذا شهد الرؤية نهار تلك الليلة إلى الغروب فعليهم إمساك ما بقي سواءً كان من إقليم أو إقليمين"([52]).
ثم قال: "فالضابط أنّ مدار هذا الأمر على البلوغ لقوله: ((صوموا لرؤيته))([53]) فمن بلغه أنه رؤي، ثبت في حقه من غير تحديد بمسافة أصلاً، وهذا يطابق ما ذكره ابن عبد البر في أن طرفي المعمورة لا يبلغ الخبر فيهما إلا بعد شهر فلا فائدة فيه، بخلاف الأماكن الذي يصل الخبر فيها قبل انسلاخ الشهر فإنها محل الاعتبار"([54]).
وهذا الذي اختاره شيخ الإسلام رحمه الله هو أحسن الأقوال في المسألة، والله أعلم.
وقد أصدر المجمع الفقهي الإسلامي قراراً في هذه المسألة، وهذا نصه:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
لقد درس المجمع الفقهي الإسلامي مسألة اختلاف المطالع في بناء الرؤية عليها، فرأى أن الإسلام بني على أنه دين يسر وسماحة تقبله الفطرة السليمة والعقول المستقيمة لموافقته للمصالح، ففي مسألة الأهلة ذهب إلى إثباتها بالرؤية البصرية لا على اعتمادها على الحساب كما تشهد به الأدلة الشرعية القاطعة، كما ذهب إلى اعتبار اختلاف المطالع لما في ذلك من التخفيف على المكلفين مع كونه هو الذي يقتضيه النظر الصحيح، فما يدعيه القائلون من وجوب الاتحاد في يومي الصوم والإفطار مخالف لما جاء شرعاً وعقلاً.(/8)
أما شرعاً: فقد أورد أئمة الحديث حديث كريب وهو: (أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها، فاستهل علي شهر رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكن رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أَوَلا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) [رواه مسلم في صحيحه]([55]).
وقد ترجم الإمام النووي على هذا الحديث في شرحه على مسلم بقوله: (باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم، وأنّهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم) ولم يخرج عن هذا المنهج من أخرج هذا الحديث من أصحاب الكتب الستة أبي داود والترمذي والنسائي في تراجمهم له([56]).
وناط الإسلام الصوم والإفطار بالرؤية البصرية دون غيرها لما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له)) [رواه البخاري ومسلم([57])في صحيحيهما].
فهذا الحديث علَّق الحكم بالسبب الذي هو الرؤية، وقد توجد في بلد كمكة والمدينة، ولا توجد في بلد آخر، فقد يكون زمانها نهاراً عند آخرين فكيف يؤمرون بالصيام أو الإفطار.
أفاده في بيان الأدلة في إثبات الأهلة.
وقد قرر العلماء من كل المذاهب أن اختلاف المطالع هو المعتبر عند كثير، فقد روى ابن عبد البر الإجماع على ألا تراعى الرؤية فيما تباعد من البلدان كخراسان من الأندلس أو لكل بلد حكم يخصه، وكثير من كتب أهل المذاهب طافحة بذكر اعتبار اختلاف المطالع للأدلة القائمة من الشريعة بذلك، وتطالعك الكتب الفقهية بما يشفي الغليل.
وأما عقلاً فاختلاف المطالع لا اختلاف لأحد من العلماء فيه، لأنّه من الأمور المشاهدة التي يحكم بها العقل، فقد توافق الشرع والعقل على ذلك فهما متفقان على بناء كثير من الأحكام على ذلك التي منها أوقات الصلاة ومراجعة الواقع تطالعنا بأنَّ اختلاف المطالع من الأمور الواقعية.
وعلى ضوء ذلك قرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي أنَّه لا حاجة إلى الدعوة إلى توحيد الأهلة والأعياد في العالم الإسلامي؛ لأن توحيدها لا يكفل وحدتهم كما يتوهمه كثير من المقترحين لتوحيد الأهلة، وأن تترك قضية إثبات الهلال إلى دور الإفتاء والقضاء في الدول الإسلامية، لأنّ ذلك أولى وأجدر بالمصلحة الإسلامية العامة، وأنَّه الذي يكفل توحيد الأمة وجمع كلمتها هو اتفاقهم على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع شؤونهم، والله ولي التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
نائب الرئيس
محمد علي الحركان
...
رئيس مجلس المجمع الفقهي
عبد الله بن حميد
7 ـ إغمام الهلال:
اختلف العلماء فيما إذا حجب الهلالَ شيء ليلة الثلاثين من شعبان:
القول الأول: أنه يكون يومَ ثلاثين من شعبان ولا يلزم صومه لأنه يوم شك. وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية.
قال المرغيناني: "وإذا غم عليهم أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً ثم صاموا لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً))([58])، ولأن الأصل بقاء الشهر فلا ينتقل عنه إلا بدليل ولم يوجد"([59]).
قال الدردير: "وإن غيمه السماء ليلة الثلاثين، ولم ير الهلال فصبيحته يوم شك، وأما لو كانت مصحية لم يكن يوم شك لأنه إذا لم تثبت رؤيته كان من شعبان جزماً"([60]).
قال الشيرازي: "ولا يجب صوم رمضان إلاّ برؤية الهلال فإن غم عليهم وجب عليهم أن يستكملوا شعبان، ثم يصوموا"([61]).
القول الثاني: وجوب صوم الثلاثين من شعبان بنية رمضان. وهو قول الحنابلة.
قال المرداوي عند قول ابن قدامة في المقنع (وإن حال دون منظره غيم أو قتر ليلة الثلاثين وجب صيامه بنية رمضان في ظاهر المذهب): "وهو المذهب عند الأصحاب ونصروه، وصنفوا فيه التصانيف، وردوا حجج المخالف، وقالوا: نصوص أحمد تدل عليه، وهو من مفردات المذهب"([62]).
قال ابن عبد البر: "وروي عن ابن عمر في معنى ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) شيء لم يتابعه على تأويله ذلك فيما علمت إلا طاوس وأحمد بن حنبل، وروي عن أسماء مثله وعن عائشة نحوه، وذلك أن ابن عمر كان يقول: إذا لم ير الهلال ولم يكن في السماء غيم ليلة الثلاثين من شعبان، وكان صحواً أفطر الناس ولم يصوموا، وإن كان في السماء غيم في تلك الليلة أصبح الناس صائمين([63]) وأجزأهم من رمضان إن ثبت بعد أن الشهر تسع وعشرون، وربما كان شعبان حينئذ تسعاً وعشرين"([64]).(/9)
ثم قال: "هذا الأصل ينتقض على من أصَّله لأنّ من أغمي عليه هلال رمضان فصام على فعل ابن عمر، ثم أغمي عليه هلال شوال لا يخلو أن يكون يجري على احتياطه خوفاً أن يفطر يوماً من رمضان أو يترك احتياطه، فإن ترك احتياطه نقض ما أصّله، وإن جرى على احتياطه صام واحداً وثلاثين يوماً، وهذا خلاف ما أمر الله به عند الجميع"([65]).
وقال ابن القيم: "وكان إذا حال ليلة الثلاثين دون منظره غيم أو سحاب، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً ثم صامه، ولم يكن يصوم يوم الإغمام ولا أمر به، بل أمر بأن تكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غم، وكان يفعل كذلك، فهذا فعله، وهذا أمره، ولا يناقض هذا قوله: ((فأكملوا العدة)) والمراد بالإكمال إكمال عدة الشهر الذي غم كما قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: ((فأكملوا عدة شعبان)) وقال: ((لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة))، والذي أمر بإكمال عدته هو الشهر الذي يغم، وهو عند صيامه وعند الفطر منه، وأصرح من هذا قوله: ((الشهر تسعة وعشرين فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة))، وهذا راجع إلى أول الشهر بلفظه، وإلى آخره بمعناه، فلا يجوز إلغاء ما دل عليه لفظه، واعتبار ما دل عليه من جهة المعنى"([66]).
ثم قال: "وقال: ((لا تقدموا رمضان))، وفي لفظ: ((لا تقدموا بين يدي رمضان بيوم أو يومين إلا رجلاً كان يصوم صياماً فليصمه))([67])، والدليل على أنّ يوم الإغمام داخل في هذا النهي حديث ابن عباس يرفعه: ((لا تصوموا قبل رمضان، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حالت دونه غمامة فأكملوا ثلاثين))([68])، ذكره ابن حبان، فهذا صريح في أنّ صوم يوم الإغمام من غير رؤية ولا إكمال ثلاثين صومٌ قبل رمضان"([69]).
وقال أيضاً: "الثاني: أنّ الصحابة كان بعضهم يصومه، وكان بعضهم لا يصومه، وأصح وأصرح من روي عنه صومه عبد الله بن عمر، قال ابن عبد البر: وممن روي عنه كراهة صوم يوم الشك عمر وعلي وابن مسعود وحذيفة وابن عباس وأبو هريرة وأنس، قلت: المنقول عن علي وعمر وعمار وحذيفة وابن مسعود المنع من صيام آخر يوم من شعبان تطوعاً، فأمّا صوم يوم الغيم احتياطاً على أنّه إن كان من رمضان فهو فرضه، وإلاّ فهو تطوع فالمنقول عن الصحابة يقتضي جوازه، وهو الذي كان يفعله ابن عمر وعائشة"([70]).
ثم قال أخيراً: "وهذا أعدل الأقوال في المسألة، وبه تجتمع الأحاديث والآثار، ويدل عليه ما رواه معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهلال رمضان: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين يوماً))([71]) فدل على أن ابن عمر لم يفهم من الحديث وجوب إكمال ثلاثين بل جوازه، فإنه إذا صام يوم الثلاثين فقد أخذ بأحد الجائزين احتياطاً، ولو فهم كما يقوله الموجبون لأمر أهله وغيرهم، ولم يكن يقتصر على صومه في خاصة نفسه ولا يأمر به، وبيَّن أنّ ذلك هو الواجب على الناس"([72]).
هذا الذي اختاره ابن القيم ورجَّحه، وحققه هو أحسن الأقوال، والله أعلم.
([1]) أخرجه البخاري: الصيام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)) (1906)، ومسلم: الصيام (1080).
([2]) التمهيد (2/39).
([3]) البحر الرائق (2/459).
([4]) مواهب الجليل (2/379).
([5]) تحفة المحتاج (3/372).
([6]) شرح منتهى الإرادات (2/338).
([7]) الأم (2/94).
([8]) المجموع (6/284).
([9]) المصدر نفسه.
([10]) الإنصاف (3/274).
([11]) صحيح؛ رواه الدرامي: الصوم، باب الشهادة على رؤية هلال رمضان (1691)، وأبو داود: الصيام، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان (2322)، والدارقطني: الصيام (2/156)، والحاكم: الصوم (1541)، وصححه ابن حزم في المحلى (4/164)، والحاكم في المستدرك، والألباني في الإرواء رقم (908).
([12]) أخرجه أبو داود في الصيام، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان رقم (2340)، والترمذي في الصوم، باب ما جاء في الصوم بالشهادة رقم (691)، والنسائي في الصيام، باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان رقم (2112)، وابن ماجه في الصيام، باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال رقم (1652)، وأعله النسائي بالإرسال (4/438) ط المعرفة، وقال الترمذي: "وأكثر أصحاب سماك رووا عن سماك عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً" (3/74-75) وأخرجه الحاكم في المستدرك في الصوم رقم (1543)، وقال: "صحيح، ولم يخرجاه"، قال الألباني: "وفيه نظر، فإنّ سماكاً مضطرب الحديث، وقد اختلفوا عليه، فتارة رووه موصولاً، وتارة مرسلاً". ورجح ضعفه كما في الإرواء (4/15) رقم (907).
([13]) المدونة (1/174).(/10)
([14]) أخرجه أحمد في المسند (4/321) والنسائي في الصغرى: الصيام، باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان (2115)، والدارقطني، الصيام، باب الشهادة على رؤية الهلال (2/167) وصححه الألباني في الإرواء (4/16) رقم (909) وفي صحيح الجامع الصغير (3705)، وفي صحيح سنن النسائي (1997).
([15]) انظر: البحر الرائق (2/465-468).
([16]) المحلى (4/164).
([17]) الطرق الحكمية (ص128).
([18]) جامع الترمذي (3/75).
([19]) شرح صحيح مسلم للنووي (3/190).
([20]) تقدم تخريجه.
([21]) رواه أبو داود في الصيام باب شهادة رجلين على رؤية هلال شوال (2338) والدارقطني في الصيام باب الشهادة على رؤية الهلال (2/167) والبيهقي في الصيام باب من لم يقبل على رؤية هلال الفطر إلا شاهدين عدلين (4/247) وقال الدارقطني: "هذا إسناد متصل صحيح"، وصححه النووي في المجموع (6/284)، والألباني في صحيح أبي داود (2/445).
([22]) المحلى (4/163).
([23]) المحلى (4/164).
([24]) المحلى (4/164).
([25]) نيل الأوطار (4/222-223).
([26]) المجموع (6/284).
([27]) البحر الرائق (2/465).
([28]) البحر الرائق (2/465).
([29]) المجموع (6/284).
([30]) شرح منتهى الإرادات (2/343).
([31]) البحر الرائق (2/465).
([32]) مواهب الجليل (2/382) والمهذب مع المجموع (6/284).
([33]) المستور هو من ظاهره السلامة، ولم يعدل، انظر: تحفة المحتاج (3/379).
([34]) البحر الرائق (2/465) المجموع (6/284).
([35]) البحر الرائق (2/465) المجموع (6/284).
([36]) تقدم تخريجه في مبحث إثبات دخول رمضان بالهلال.
([37]) الهداية مع فتح القدير (2/248).
([38]) الهداية مع فتح القدير (2/252).
([39]) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي للدردير (1/241).
([40]) المجموع (6/290).
([41]) الإنصاف (3/277).
([42]) الإنصاف (3/278).
([43]) المحلى (4/163).
([44]) صحيح، رواه الترمذي في الصيام باب ما جاء في الصوم يوم تصومون برقم (697)، والدارقطني في الصيام (2/164)، والبيهقي في الصيام باب القوم يخطئون في رؤية الهلال (4/252) وقال الترمذي: "حديث حسن غريب" (3/80)، وصححه الألباني في الإرواء (4/11) برقم (905).
([45]) مجموع الفتاوى (25/114-118).
([46]) البحر الرائق (2/471).
([47]) عقد الجواهر الثمينة (1/355).
([48]) الإنصاف (3/173).
([49]) المجموع (6/280).
([50]) المجموع (6/280).
([51]) تقدم تخريجه في فقرة (5).
([52]) مجموع الفتاوى (22/105).
([53]) تقدم تخريجه.
([54]) مجموع الفتاوى (25/107).
([55]) أخرجه مسلم في الصيام برقم (1087).
([56]) أخرجه أبو داود في الصيام باب إذا رؤي الهلال في بلد قبل الآخرين بليلة برقم (2332)، والترمذي في الصوم باب ما جاء لكل أهل بلد رؤيتهم برقم (693)، والنسائي في الصيام باب اختلاف أهل الآفاق في الرؤية برقم (2110).
([57]) تقدم تخريجه في فقرة (1).
([58]) تقدم تخريجه في فقرة (1).
([59]) الهداية (1/129) الكتب العلمية.
([60]) الشرح الصغير (1/241).
([61]) المهذب مع المجموع (6/275).
([62]) الإنصاف (3/269).
([63]) أخرجه أحمد في المسند (2/5) برقم (4488) وأبو داود: الصيام، باب: الشهر يكون تسعاً وعشرين (2319) كلاهما من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر، وأصله في مسلم: الصيام (1080) بدون فعل ابن عمر.
([64]) التمهيد (2/347).
([65]) التمهيد (2/349).
([66]) زاد المعاد (2/41).
([67]) أخرجه الشافعي في مسنده (ص187) وأصله في البخاري في الصيام باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين برقم (1914).
([68]) أخرجه الترمذي في الصيام، باب ما جاء أن الصوم لرؤية الهلال والإفطار له برقم (688)، والنسائي في الصيام باب إكمال شعبان ثلاثين برقم (2129)، وابن حبان في الصوم ذكر خبر ثان يصرح بالزجر عن صوم يوم الشك رقم (3594) وقال الترمذي: حسن صحيح.
([69]) زاد المعاد (2/41).
([70]) زاد المعاد (2/45).
([71]) أخرجه البخاري: في الصيام، باب هل يقال رمضان، برقم (1898)، ومسلم: في الصيام برقم (1080).
([72]) زاد المعاد (2/47).
ثانياً: إثبات دخول رمضان باستكمال شعبان ثلاثين يوماً:
وقد تقدم قول ابن عبد البر: "إن الله تعبد عباده في الصوم برؤية الهلال لرمضان أو باستكمال شعبان ثلاثين يوماً"([1]).
وتقدم دليله في مبحث إثبات دخول رمضان بالهلال.
([1]) التمهيد (2/39).
حكم صيام رمضان
دليل الكتاب:
فقوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
قال ابن جرير: "قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ} أي فرض عليكم الصيام"([1]) .
وقال الجصاص: "أوجب علينا فرض الصيام بهذه الآية"([2]).
وقال ابن بطال: "أي: فرض عليكم كما فرض على الذين من قبلكم"([3]) .
وقال ابن العربي: "قوله: {كُتِبَ} أي: فرض وألزم"([4]) .(/11)
وقال القرطبي: "... ذكر أيضًا أنه كتب عليهم الصيام وألزمهم إياه وأوجبه عليهم، ولا خلاف فيه"([5]) .
وقال ابن كثير: "يقول تعالى مخاطبًا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرًا لهم بالصيام... وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم فلهم فيه أسوة حسنة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعل أولئك"([6]) .
وقال السعدي: "يخبر تعالى بما مَنَّ الله به على عباده، بأنه فرض عليهم الصيام، كما فرض على الأمم السابقة؛ لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان"([7]) .
وقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
قال ابن كثير: "هذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر، أي: كان مقيمًا في البلد حين دخل رمضان وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة"([8]) .
([1]) جامع البيان (3/409).
([2]) أحكام القرآن (1/ 214).
([3]) شرح البخاري (4/6).
([4]) أحكام القرآن (1/61).
([5]) الجامع لأحكام القرآن (2/272).
([6]) تفسير القرآن العظيم (1/219).
([7]) تيسير الكريم الرحمن (1/220).
([8]) تفسير القرآن العظيم (1/377).
دليل السنة:
فقد وردت أحاديث كثيرة تدل على وجوب صيام رمضان وفرضيته، ومنها:
1. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)) ([1]) .
2. وقوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث جبريل المشهور: ((الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً))([2]).
3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بارزًا للناس، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله، وتؤمن بالبعث الآخر)) قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: ((الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان)) قال: يا رسول الله, ما الإحسان؟ قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إن لا تراه فإنه يراك))([3]).
4. وعن أبي هريرة أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دُلّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: ((تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان))، قال: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا شيئًا ولا أنقص منه، فلما ولّى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا))([4]).
5. وعن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دويّ صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خمس صلوات في اليوم والليلة)). فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: ((لا، إلا أن تطوع)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وصيام رمضان)) قال: هل علي غيره؟ قال: ((لا، إلا أن تطوع))... قال: فأدبر الرجل فقال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفلح إن صدق))([5]).
6. وعن أبي جمرة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن وفد بن عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من القوم؟)) أو ((من الوفد؟)) قالوا: ربيعة، قال: ((مرحبًا بالقوم ـ أو الوفد ـ، غير خزايا ولا ندامى)) فقالوا: يا رسول الله، إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فَمُرْنا بأمر فصْل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة، قال: فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده، وقال: ((أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس))([6]).
([1]) أخرجه البخاري في الإيمان، باب الإيمان وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس)) (8)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام (16).
([2]) أخرجه مسلم في الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان (8).
([3]) أخرجه البخاري في تفسير القرآن، باب: قوله: {إن الله عنده علم الساعة} (4777)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان (9).
([4]) أخرجه البخاري في الزكاة، باب وجوب الزكاة (1397)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة (14).
([5]) أخرجه البخاري في الإيمان، باب: الزكاة من الإسلام (46)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام (11).(/12)
([6]) أخرجه البخاري في الإيمان، باب: أداء الخمس من الإيمان (53)، ومسلم في: الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله تعالى (17).
الإجماع:
فقال ابن عبد البر: "وأجمع العلماء على أن لا فرض في الصوم غير شهر رمضان"([1]) .
وقال ابن حزم: "اتفقوا على أن صيام نهار رمضان على الصحيح المقيم العاقل البالغ الذي يعلم أنه رمضان وقد بلغه وجوب صيامه... فرضٌ"([2]) .
كما نقل الإجماع جماعة من أهل العلم، كالكاساني([3])، والنووي([4])، وابن قدامة([5])، وابن تيمية([6]) وغيرهم.
قال أبو العباس ابن تيمية: "صيام رمضان فرض في الجملة، وهذا من العلم العام الذي توارثته الأمة خلفًا عن سلف، وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع"([7]) .
([1]) التمهيد (2/148).
([2]) مراتب الإجماع (ص 39).
([3]) انظر: بدائع الصنائع (2/75).
([4]) انظر: المجموع (6/252).
([5]) انظر: المغني (4/324).
([6]) انظر: شرح العمدة (1/28 ـ الصيام).
([7]) انظر: شرح العمدة (1/26 ـ الصيام).
أنواع الصوم :
أولاً: الصوم الواجب:
1. صوم رمضان:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:18].
وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].
قال الطبري: "{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ} فرض عليكم الصيام"([1]).
وقال ابن عبد البر: "... وأجمع العلماء على أن لا فرض في الصوم غير شهر رمضان..." ([2]).
وقال ابن تيميمه: "... صيام رمضان فرض في الجملة، وهذا من العلم العام الذي توارثته الأمة خلفاً عن سلف، وقد دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع"([3]).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)) ([4]).
وجاء في حديث جبريل قوله: ((... الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً))([5]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: ((تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان)) قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئاً ولا أنقص منه. فلما ولّى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سرّه أن ينظر إلى رجلٍ من أهل الجنة فلينظر إلى هذا))([6]).
وعن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دويّ صوته ولا نفقهُ ما يقول، حتى دنا ؛ فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خمس صلوات في اليوم والليلة)) فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: ((لا إلا أن تطوّع)). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وصيام رمضان)) قال: هل عليّ غيره؟ قال: ((لا إلا أن تطوّع))، قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: ((لا إلا أن تطوّع)). قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفلح إن صدق))([7]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من القوم؟ – أو من الوفد؟)) قالوا: ربيعة، قال: ((مرحباً بالقوم – أو بالوفد – غير خزايا ولا ندامى)). فقالوا: يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام وبيننا وبينك هذا الحي من كفّار مُضر، فَمُرْنا بأمرٍ فصل نُخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة. وسألوه عن الأشربة فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: ((أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس)). ونهاهم عن أربع: عن الحنتم، والدباء، والنقير، والمزفت – وربما قال: النقير – وقال: ((احفظوهن، وأخبروا بهن من وراءكم))([8]).
2. قضاء أيام رمضان:
قال تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185].
قال الطبري: "... ومن كان مريضاً أو على سفر في الشهر فأفطر، فعليه صيام عدة الأيام التي أفطرها، من أيام أخر غير أيام شهر رمضان"([9]).(/13)