فتنة المنافقين وأثرها على الدعوة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وبعد.
فلقد كانت فتنة المنافقين من أشدِّ الفتن التي تعرض لها المسلمون في تاريخهم الطويل، ذلك لأنهم يُظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والزندقة، فينخدع الناس بظواهرهم ولا يأخذون حذرهم منهم، مما يهيئ للمنافقين الجو المناسب في المكر بالمسلمين، والكيد لهم وهم لا يشعرون، وهذا بعكس الكافر الواضح، حيث يؤخذ الحذر منه ويجاهد، ولا يُمكَّن له بين المسلمين.
لهذا كان خطر المنافقين في الصف المسلم أخطر بكثير من الكفار المجاهرين للمسلمين بالعداء، ولقد ظهر كيد المنافقين في عهدٍ مبكر مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، حيث عانى منهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون الأمرين، وذلك مما يثيرونه من البلابل والكيد والتخاذل... الخ.
وما موقف رأس المنافقين وتخذيله يوم أحد، وكذلك إتيانه بالإفك على أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- بخافٍ على أحد، ومن أجل ذلك كان عذاب المنافقين أشد من الكفار .
قال تعالى: (( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا )) (النساء:145)
ولقد جاءت آيات عديدة في فضحهم والتحذير من شرهم، ومن أراد الوقوف على هذه الآيات فليقرأ صدر سورة البقرة، وسورة التوبة، وسورة المنافقين وغيرها.
ومن أوضح الآيات التي حذرت من شرهم قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ))(آل عمران:118) .
وكذلك ما وصفهم به فى قوله تعالى: (( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ))(البقرة:9) .
وإن أثر المنافقين لم يتوقف على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل كان ممتدًا طيلة التاريخ الإسلامي، مرورًا بدورهم في قتل الفاروق ?، وما تلا ذلك من الفتن الطاحنة بعد مقتل عثمان ?، حيث كان الباطنيون المنافقون هم من وراء ذلك كله، كما أنهم كانوا هم الذين حرضوا التتار المغول في اجتياح عاصمة الخلافة الإسلامية في ذلك الوقت، وكانوا بطانة سوءٍ للخليفة العباسي، فمهدوا لهذه المأساة العظيمة التي لم يمرُ على المسلمين مثلها في الذل وكثرة القتلى، حتى قال المؤرخ ابن الأثير وهو يرويها: يا ليت أمِّي لم تلدني.
هذا وهو لم يشهد هذه الفواجع العظيمة بل هاله مجرد سماعها.
واستمر أثر المنافقين حتى ظهر في عصرنا الحاضر بأشكالٍ وأنماط خبيثة ماكرة لم يسبق لها نظير، حتى خيف على خاصة المسلمين ودعاتهم وعلمائهم من الانخداع بها فضلاً عن عامتهم وجهلتهم، وفيما يلي ذكر بعض هذه المكائد، لعلنا نحذرها ونقطع الطريق على أهلها.
1- ما يقوم به الباطنيون الرافضة من نفاقٍ وخداعٍ لبعض من يجهل عقيدتهم وتاريخهم من أبناء المسلمين، وذلك بما يظهرونه من حبٍ خادع لأهل السنة، أو أنهم تخلوا عن عقائدهم الباطلة من سب الصحابة، وقولهم بتحريف القرآن وادعاء العصمة لأئمتهم... الخ.
وهذا كله تقية ونفاق، ليحققوا من خلاله امتصاص العداء الذي يكنهُ الموحدون لهم، ويكسبوا عواطف المسلمين بهذا الخداع، وهذا واضحٌ بما تتبناه دولة الرافضة اليوم من تقاربٍ مع أهل السنة جماعات وأفرادا، ومما يزيد الأمر فتنةً وخطرًا، انخداع بعض أهل السنة بما يظهرونه من تأييد لبعض القضايا الإسلامية السُّنية، كالقضية الجهادية في فلسطين، ووقوف الحزب الشيعي المسمى ( حزب الله ) أمام اليهود في الجنوب اللبناني، وصموده أمامهم، في وقتٍ تخاذل فيه أكثر المسلمين أمام اليهود واستسلموا للسلام المهين، وهذا فتنة بلا شك([1]).
ولكن كل هذه الأمور لا يصح أن تنطلي على المسلم الواعي بعقيدته وعقيدة الرافضة، وذلك أنهم لم يغيروا من عقيدتهم شيئًا، وإنما هذا هو شأنهم في كل وقت يشعرون فيه بمنابذة الناس لهم، وهم ينتظرون اليوم الذي يتمكنون فيه، فيعلنون فيه عقائدهم الباطنية، ولا يرقبون بعد ذلك في مؤمنٍ لا يوافقهم إلاً ولا ذمة ، فخذوا حذركم أيها المسلمون، وإن أخطر ما في هذا النفاق أن يوجد من بعض الحركات الجهادية والجماعات الإسلامية، من ينخدع بهم ويدخل في تحالفات معهم، أو يقبل المعونات منهم، وفي هذا خطر على مستقبل الدعوة والجهاد، واحتواء المنافقين لهم وحرفهم لمسيرتها.(/1)
2- ومن صور الخداع والتلبيس التي قد ينخدع بها بعض السذج من الناس، ويسقطون في فتنتها: ما يرفعهُ المنافقون في أكثر بلدان المسلمين، في وجه أهل الخير والإصلاح من أنهم دعاةُ شر وإرهاب وفساد، وما تجلبه وسائل الإعلام المختلفة، وتدندن به على وصفهم ورميهم بهذه الأوصاف الظالمة، حتى تأثرت بذلك بعض الأدمغة المخدوعة، فسقطت في فتنتهم، ورددت معهم هذا الظلم والخداع، وبالتالي تعرض أهل الخير للأذى والنكال، باسم المصلحة الشرعية ومكافحة الإرهاب والفساد؛ وذلك بعد أن تهيأت أذهان المخدوعين من المسلمين لهذا الخداع والتلبيس.
3- اهتمام الحكومات العلمانية ببعض المناسبات الإسلامية، كالاحتفال بمولد الرسول وهجرته - صلى الله عليه وسلم -، أو ليلة النصف من شعبان، أو الإسراء والمعراج، إلى آخر هذه المناسبات التي لا أصل للاحتفال بها شرعَا، وإنما هي من البدع المحرمة؛ ومع ذلك ينخدع بهذا التلبيس كثير من دهماءِ المسلمين، وتتحسن صورة أولئك المنافقين الذين يضللون الناس بهذا الخداع، ويبدون في أعين المخدوعين أنهم يحبون الإسلام ويغارون عليه، وهم أبعد ما يكونون عن الإسلام وأهله، وهل يحبُ الإسلام ويعتز بالانتماء إليه من يرفض الحكم به والتحاكم إليه؟ ويبدل شرع الله المطهر بنحاتات الأفكار وزبالات الأذهان الجاهلة الظالمة؟ لا، والله! إنَّ مثل هذا يكذب في ادعائه حبَّ دين الإسلام؛ قال تعالى: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )) (آل عمران:31) فهل يعي هذا المخدوعون المضلَّلون؟
ومما يدخلُ في هذه الصورة أيضًا من صور التلبيس، ما يقوم به بعض المنافقين المحادِّين لشرع الله- عز وجل - من إقامة بعض المؤتمرات أو الندوات الإسلامية، ويدعون إليها بعض العلماء والدعاة، فيستجيب من يستجيب، ويرفض من يرفض، وكل هذا من ذر الرماد في العيون، وتخدير دعاة المسلمين بمثل هذه الصروح الخبيثة، التي هي أشبه ما تكون بمسجد الضرار الذي بناه المنافقون في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وادعوا أنَّه للصلاة، وإيواء المسافرين في الليلة الشاتية المطيرة، فأكذبهم الله- عز وجل - وفضح نياتهم بقرآنٍ يتلى إلى قيام الساعة، نهى فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن دخوله والقيام فيه، بل أُمر بتحريقه قال تعالى: ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ )) (التوبة : 107 ـ 108)
فهل آن الأوان أن نعي مثل هذه الفتنة والخداع، فلا نستجيب لمثل هذه الدعوات، ولا نقومُ في مثل هذه المؤتمرات أبداً؟ بل قد آن الأوان إلى أن تفضح مثل هذه اللافتات، ويحذر الناسُ من شرها والوقوع في فتنتها؛ ويبين لهم أنها ضربٌ من الخداع، وصورة من صور النفاق الماكر الخبيث.
4- إظهارهم لفسادهم بمظهر الإصلاح وإرادة الخير بالأمة، كما قال الله عز وجل عنهم: (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)) (البقرة:11).
يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن هذه الآية: إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع، بل يضيفون إليهما السفه والادعاء: (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ )) ،لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد، بل تجاوزوه إلى التبجح والتبرير : (( قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ )) .
والذين يفسدون أشنع الفساد، ويقولون إنهم مصلحون، كثيرون جداً، في كل زمان يقولونها؛ لأنَّ الموازين مختلة في أيديهم؛ ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم، والذين لا يخلصون سريرتهم لله، يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم؛ لأنَّ ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية ) [2].ا.هـ.(/2)
ومما يدخل في هذه الصورة من صور الخداع والتلبيس، ما يستخدمه منافقو زماننا من تحريفٍ لنصوص الشريعة، وتأويلات باطلة لها، في تسويغ فسادهم ومواقفهم الجائرة؛ فهم مع جهلهم بأحوال الشريعة، نراهم يخوضون فيها بلا علم إلا ما أشربوا من أهوائهم؛ فنراهم يسوِّغون الترخص بل التحلل من الشريعة بقواعد التيسير ورفع الحرج، وتغير الفتوى بتغير الحال والزمان، إلى آخر هذه القواعد التي هي حق في ذاتها، لكنهم خاضوا فيها بجهلٍ وهوى، فاستخدموها في غير محلها، فهي حقٌ أريد بها باطل، ومع جهلهم بالشريعة وظهور القرائن التي تدل على خبث طويتهم، إلاَّ أنَّ هناك من ينخدعُ بهذه الشبه والتحريفات الباطلة؛ ومن عجيب أمر القوم!! أنهم يرفضون الحكم بما أنزل الله- عز وجل - والتحاكم إليه، ولا يذعنون له، ومع ذلك نراهم في أحيانٍ قليلة يرجعون إلى بعض الأدلة الشرعية، ليمرروا ويبرروا من خلالها بعض فسادهم أو مواقفهم الباطلة؛ فما حاجتهم إلى الشرع في هذه المرة وهم كانوا يكفرون به من قبل؟ إنه الهوى والخداع والتلبيس على الناس، قال تعالى في فضحِ هذا الصنف من الناس: (( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) (النور: 48 ـ 50) .
فينبغي لكل مسلم أن يحذر من شبه المنافقين وخداعهم، وأن يقول لهؤلاء الذين يسوِّغون فسادهم بتحريف الأدلة الشرعية، ادخلوا في السلم كافة، وحكِّموا في الناس شرع الله - عز وجل -، وارفضوا ما سواه؛ أما أن تنحُّوا شرع الله- عز وجل - عن الحكم، حتى إذا كان لكم هوى في تمرير فسادكم بشبهةِ دليل رجعتم إليه؛ فهذا الذي قال الله- عز وجل - عن أهله: (( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) (البقرة : 85) .
5- خداعهم لبعض المتحمسين لشرع الله وتطبيقه؛ وذلك بدعوتهم إلى مشاركاتٍ وطنية، ومجالس نيابية، يتعاون الجميع فيها على ما فيه صالح الوطن والمواطن كما زعموا!! فيستجيبُ بعض الدعاة لهذا، وتجمعهم مع المنافقين الرافضين لشرع الله- عز وجل - مظلةٌ واحدة، فيعرض الإسلاميون فيها مطالبهم، كما يعرض العلمانيون والرافضة والشيوعيون مطالبهم الكفرية؛ ومعلومٌ ما في ذلك من مداهنةٍ وتعاون على الإثم والعدوان، واستجابةً لداعي الخداع والتلبيس الذي يتولى كبره المنافقون، الذين يريدون من استجابة الإسلاميين لهم، إضفاءَ صفة الشرعية على مجالسهم ونظمهم التي يحكمون بها؛وبالتالي يتخدر الناس، ويستنيم المطالبون بتحكيم شرع الله – عز وجل - ما دام أن للمسلمين صوتاً في هذه المجالس النفاقية الماكرة، ويا ليت أن هناك مصلحة قطعية يمكن تحقيقها للمسلمين، تربو على المفاسد التي تنشأ من المشاركة، إذن لهان الخطب؛ لكن الحاصل من هذه التجارب هو العكس؛ حيث إنَّ المستفيد الأول والأخير هم العلمانيون المنافقون، وقد لا يكون المشارك من المسلمين غافلاً عن هذا الخداع، ولكنهُ يدخلُ بغرض إقامة الحجة والدعوة إلى تطبيق الشريعة ومعارضة كل ما يخالفها، ولكن هل هذا ممكن؟ وهل يسمح أهل الكفر والنفاق بذلك ؟!!
الذي يغلب على الظن أن أعداءَ الشريعة لن يسمحوا إلاَّ بالكلام فقط؛ وإذا تجاوز الإسلاميون ذلك إلى العمل، وتجاوزوا الخطوط الحمراء المرسومة لهم جاء دور الحديد والنار؛ وما تجربة الجزائر وتركيا عنا ببعيدتين.
6- فتنة المنافقين داخل الصف الإسلامي:
وهذا شأن المنافقين في كل زمان؛ فعندما تخفق جهودهم في الوقوف في وجه أهل الخير والصلاح، وعندما ينشط الدعاة ويظهر أثرهم في الأمة؛ فإنَّ المنافقين يلجئون إلى وسيلةٍ ماكرةٍ وفتنةٍ شديدة ألا وهي التظاهر بالحماس للدعوة والدخول في أوساط الدعاة، مظهرين التنسك والغيرة على الدين، والحرص على العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى ينخدع بكلامهم المعسول بعض الطيبين من الدعاة، فتحصل الثقة بهم، حتى إذا تمكنوا من مراكز التوجيهِ والدعوة، بدءوا فتنتهم الكبرى على الدعوة وأهلها؛ مع استمرارهم في إظهار الخير والحماس لهذا الدين، وتسويغ ما يقومون به من الممارسات بالحرص على مصلحة الدعوة وتميزها وصلابتها.
ومن أخطر صور الفتن التي تنشأ من هذا الصنيع ما يلي:
أ- فتنة التفريق وإثارة العداوات بين دعاة الإسلام:(/3)
وهذه من أعظم فتن المنافقين داخل الصف الإسلامي، وفي أوساط الدعوة إلى الله - عز وجل -، وقد فضح الله- عز وجل - المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار، وأظهر أهدافهم الخبيثة بقوله سبحانه: (( وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ )) (التوبة : 107) قال المفسرون لهذه الآية: ( أنهم كانوا جميعاً يصلون في مسجد قباء؛ فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم، فيؤدي ذلك إلى الخلاف وافتراق الكلمة ) [3] .ا.هـ.
وهذا الضربُ من الفتن لا يحتاج إلى تدليل، فالواقعُ شاهد بذلك، ومع أن للافتراق أسباباً كثيرة كالجهل والهوى... إلخ؛ إلاَّ أنَّ أثر المنافقين الذين يدخلون في صفوف الدعاة لا يجوز إغفالهُ والتهوين من شأنه، وكون الفرقة تحصلُ بين أهل طريقتين مختلفتين في الأصول، فإنَّ هذا الأمر واضح ومعقول ومقبول، أمَّا أن يفترق أهل الطريقة الواحدة - طريقة أهل السنة والجماعة وطريقة سلف الأمة -، فهذا أمرٌ لا يعقل ولا يقبل، ولا يكون إلا وهناك يد خبيثة خفية وراء هذا الافتراق؛ فينبغي على الدعاة الحذر من هذه الأيدي، والتفتيش عنها وفضحها، وتطهير الصف المسلم منها.
ب - فتنة التخذيل والتشكيك:
وهذه أيضاً من أعمال المنافقين المندسين في الصف المسلم، حيث يسعون إلى بث فتنةِ التخذيل، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وذلك بدعاوى وشبهٍ شرعيةٍ خادعة، مؤداها توهين عزائم الدعاة وإضعاف هممهم، وبثِّ الخوف في النفوس من الباطل وأهله، وتهويل قوة الأعداء وخططهم، بصورة تبث اليأس في النفوس الضعيفة.
ج - فتنة الإيقاع بالدعوة والدعاة:
لا تقف مساعي المنافقين في إيصال الشر والأذى للدعوة وأهلها عند حد، فمن هذه المساعي الخبيثة التي يقومون بها داخل صفوف الدعاة بعد إظهار الحماس، وبعد كسب الثقة والسماع لأقوالهم، كما قال تعالى : (( وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ )) (المنافقون: 4) .
وتحت ستار الغيرة على الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله- عز وجل -، فإنهم يبدءون في دفع بعض الدعاة إلى مواجهات مع الباطل وأهله، والزج بالدعوة في أعمالٍ خطيرة، تفتقد المستند الشرعي من جهة، وتؤدي بالدعوة وأهلها إلى الضمور والانكماش من جهة أخرى، إن لم يُقض عليها قضاءً مبرماً، وهذا هو ما يريده المنافقون المخادعون، الذين قال الله- عز وجل - عن أمثالهم: (( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) (التوبة:47) .
يقول الإمام البغوي - رحمه الله تعالى- عند تفسير هذه الآية: (( لَوْ خَرَجُوا )) يعني المنافقين (( فِيكُمْ )) أي معكم(( مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً )) ،أي: فسادًا وشرًّا، ومعنى الفساد: إيقاع الجبن والفشل بين المؤمنين بتهويل الأمر، (( وَلَأَوْضَعُوا ))، أسرعوا، (( خِلالَكُمْ ))، وسطكم بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم بالنميمة، ونقل الحديث من البعض إلى البعض. وقيل: (( وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ )) أي: أسرعوا فيما يخلُّ بكم.((يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ )) ، أي: يطلبون لكم ما تفتنون به، يقولون: لقد جُمع لكم كذا وكذا، وإنكم مهزومون، وسيظهر عليكم عدوكم ونحو ذلك، وقال الكلبي: يبغونكم الفتنة يعني: العيب والشر. وقال الضحاك: الفتنة الشرك، ويقال: بغيته الشر والخير أبغيه بُغاءً إذا التمسته له، يعني: بغيت له.
((وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ )) ، قال مجاهد: معناه وفيكم محبُّون لهم يُؤدون إليهم ما يسمعون منكم، وهم الجواسيس. وقال قتادة: معناه وفيكم مُطيعون لهم، أي: يسمعون كلامهم ويطيعونهم. ((وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) [4]. ا.هـ.
____________
[1] انظر مقالات حزب الله رؤية معايرة- المنشور في مجلة البيان العدد (241) وما بعده، للأستاذ : عبد المنعم شفيق، ليظهر لك الوجه الآخر لعلاقة حزب الله باليهود وحقيقة المعركة بينهما.
[2] في ظلال القرآن عند الآية (11) من سورة البقرة.
[3] تفسير البغوي 4 / 93 ط . دار طيبة .
[4] تفسير البغوي 4 / 56 ط . دار طيبة .(/4)
فتنة النساء
الحمد لله رب العالمين،- والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم- تسليماً كثيراً.
مربنا في أول سورة آل عمران قوله تعالى: (( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ)) .
والميل إلى النساء أمر طبعي ركبه الله- عز وجل في غريزة الإنسان، وما دام أنه في الحلال كالزوجة وما ملكت اليمين، وأنه لم يصد عن طاعة الله- عز وجل-، ولم يدفع إلى فعل محرم؛ فإنه أمر لا يعاب عليه الإنسان، بل هو من الأمور المطلوبة في غض البصر وتحصين الفرج وبقاء النسل، والتقوي بذلك على طاعة الله عز وجل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (( حبب إلي من الدنيا: النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة)) [1].
وقد فصل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
الفرق بين الحب في الله والحب مع الله تفصيلاً يكشف حقيقة المحبة، ومتى تكون فتنة؟ ومتى لا تكون؟! قال- رحمه الله تعالى-: (والفرق بين الحب في الله والحب مع الله، وهذا من أهم الفروق، وكل أحد محتاج بل مضطر إلى الفرق بين هذا وهذا، فالحب في الله هو من كمال الإيمان، والحب مع الله هو عين الشرك، والفرق بينهما: أن المحب في الحب تابع لمحبة الله، فإذا تمكنت محبته من قلب العبد أوجبت تلك المحبة أن يحب ما يحبه الله، فإذا أحب ما أحبه ربه ووليه كان ذلك الحب له وفيه؛ كما يحب رسله وأنبياءه وملائكته وأوليائه لكونه- تعالى- يحبهم، ويبغض من يبغضهم لكونه- تعالى- يبغضهم.
وعلامة هذا الحب والبغض في الله: أنه لا ينقلب بغضه لبغيض الله حباً، لإحسانه إليه، وخدمته له، وقضاء حوائجه، ولا ينقلب حبه لحبيب الله بغضاً إذا وصل إليه من جهته ما يكره ويؤلمه، إما خطأً وإما عمداً، مطيعاً لله فيه أو متأولاً، أو مجتهداً أو باغياً نازعاً تائباً.
والدين كله يدور على أربع قواعد : حب، وبغض، ويترتب عليهما: فعلٌ وترك، فمن كان حبه، وبغضه، وفعله،وتركه لله، فقد استكمل الإيمان؛ بحيث إذا أحب أحب لله، وإذا أبغض أبغض لله،وإذا فعل فعل لله، وإذا ترك ترك لله، وما نقص من أصنافه هذه الأربعة نقص من إيمانه ودينه بحسبه، وهذا بخلاف الحب مع الله فهو نوعان: [نوع] يقدح في أصل التوحيد: وهو شرك، ونوع يقدح في كمال الإخلاص ومحبة الله، ولا يخرج من ا لإسلام.
فالأول :
كمحبة المشركين لأوثانهم وأنداد هم قال تعالى: (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)) [البقرة:165] .
وهؤلاء المشركون يحبون أوثانهم وأصنامهم آلهتهم مع الله كما يحبون الله، وهذه محبة تأله وموالاة، يتبعها الخوف والرجاء، والعبادة والدعاء، وهذه المحبة هي محض الشرك الذي لا يغفره الله.
ولا يتم الإيمان إلا بمعاداة هذه الأنداد وشدة بغضها، وبغض أهلها ومعاداتهم ومحاربتهم؛ وبذلك أرسل الله جميع رسله، وأنزل جميع كتبه، وخلق النار لأهل هذه المحبة الشركية، وخلق الجنة لمن حارب أهلها وعاداهم فيه وفي مرضاته؛ فكل من عبد شيئاً من لدن عرشه إلى قرار أرضه فقد اتخذ من دون الله إلهاً وولياً، وأشرك به كائناً ذلك المعبود ما كان، ولا بد أن يتبرأ منه أحوج ما كان إليه.
والنوع الثاني :
محبة ما زينه الله للنفوس من النساء والبنين، والذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث، فيحبها محبة شهوة، كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، فهذه المحبة ثلاثة أنواع: فإن أحبها لله توصلاً بها إليه، واستعانة على مرضاته وطاعته أثيب عليها، وكانت من قسم الحب لله توصلاً بها إليه، ويتلذذ بالتمتع بها، وهذا حال أكمل الخلق الذي حبب إليه من الدنيا النساء والطيب، وكانت محبته لهما عوناً له على محبة الله وتبليغ رسالته والقيام بأمره.
وإن أحبها لموافقة طبعه وهواه وإرادته، ولم يؤثرها على ما يحبه الله ويرضاه، بل نالها بحكم الميل الطبيعي، كانت من قسم المباحات؛ ولم يعاقب على ذلك، ولكن ينقص من كمال محبته لله والمحبة فيه.
وإن كانت هي مقصودة ومراده، وسعيه في تحصيلها والظفر بها، وقدمها على ما يحبه الله ويرضاه منه، كان ظالماً لنفسه متبعاً لهواه.
فالأولى: محبة السابقين.
والثانية: محبة المقتصد ين.
والثالثة: محبة الظالمين.
فتأمل هذا الموضع وما فيه من الجمع والفرق؛ فإنه معترك النفس الأمارة والمطمئنة، (( والمهدي من هداه الله )) [2].أ.هـ
والحاصل : أن فتنة النساء فتنة عظيمة حذر منها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) [3]
وكذلك ما رواه أبو سعيد الخدري- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون؛ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء )) [4].
والآثار عن السلف في التحذير من فتنة النساء كثيرة منها ما يلي:(/1)
عن أشعث بن سليم قال: سمعت رجاء بن حيوة، عن معاذ بن جبل قال: ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم، وستبتلون بفتنة السراء، وأخوف ما أخاف عليكم: فتنة النساء إذا تسورن الذهب، ولبسن رباط الشام، وعصب اليمن، فأتعبن الغني، وكلفن الفقير ما لا يجد [5] .
وعن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: ما يئس الشيطان من شيء إلا أتاه من قتل النساء، وقال لنا سعيد وهو ابن أربع وثمانين سنة، وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعش بالأخرى: ما من شيء أخوف عندي من النساء [6].
وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا إبراهيم بن الحسن الباهلي، حدثنا حماد بن زيد قال: قال يونس بن عبيد: ثلاثة احفظوهن عني: لا يدخل أحدكم على سلطان يقرأ عليه القرآن، ولا يخلون أحدكم مع امرأة يقرأ عليها القرآن، ولا يمكن أحدكم سمعه من أصحاب الأهواء [7] .
وقال عباس الدوري: كان بعض أصحابنا يقول: كان سفيان الثوري كثيراً ما يتمثل بهذين البيتين:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الوزر والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار
والفتنة بالنساء تأخذ صوراً مختلفة أهمها ما يلي:
1- إطلاق النظر إلى الأجنبيات من النساء، وما يعقب ذلك من السقوط في حبائلهن والإصابة منهن بسهام إبليس اللعين، وعندئذ تكون الفتنة والعشق المحرم والمحبة المحرمة التي تملا قلب المفتون، ولا يكون فيه بعد ذلك محل لمحبة الله- عز وجل- ومرضاته وأعظم بها من فتنة.
2- النظر إلى صورهن الجميلة، سواء في تلفاز، أو فيديو، أو مجلة، أو كتاب، وما يعقب ذلك من الافتتان بهذه الصور وانشغال القلب بها، ولقد ظهر في عصرنا اليوم من وسائل عرض النساء وصورهن الخليعة، وشبه العارية، ما لم يظهر في أي عصر مضى، وأصبحت الفتنة بهن عظيمة وشديدة؛ لذا وجب على أهل الغيرة والإيمان أن يحموا أنفسهم وأولادهم وبيوتهم من شر هذه الوسائل المفسدة، وأن لا يفتنهم الشيطان بها مهما كان المسوغ لذلك، قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ... الآية)) [التحريم:6] .
3- وقد تكون الفتنة ممن يجوز النظر إليها كالزوجة وما ملكت اليمين، وذلك بشدة التعلق بها، والافتتان بصورتها، مما يجعل الزوج أسيراً لها بل عبداً، عياذاً بالله. وهنا تقع الفتنة- وبخاصة إذا كانت المرأة قليلة دين وحياء- فتطلب من زوجها الأسير ما يوقعه في المحرمات، أو يترك به الواجبات الدينية إرضاءً لهواها.
ولا يقع في ذلك إلا من ضعفت محبة الله في قلبه، واستولت عليه محبة الشهوات؛ فقدم مرادها على مراد الله- عز وجل-، ومثل هذا يخشى عليه من الوقوع في المحبة الشركية، التي قال الله عز وجل في أهلها: (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ...الآية)) [البقرة:165] [8].
4- الافتتان بقراءة القصص الغرامية، وقصص الحب والعشق والجنس؛ مما يؤدي إلى إثارة الغرائز وثوران الشهوة، التي تؤدي بدورها إلى الوقوع في المحرم ومقارفة النجاسات، كل هذا من الفتن التي يجب على المسلم أن يفر منها، ويعتقد حرمتها، فإن ما أوصل إلى الحرام فهو حرام.
5- ما يتعرض له إخواننا الأطباء أو نحوهم من مخالطة النساء- الطبيبات، أو الممرضات أو المريضات- كل هذا من الفتن التي يجب على المسلم الحذر منها والفرار منها، وأن لا يسمح المسلم لنفسه مهما كان دينه وتقواه أن يخلو بهن، أو يلين الكلام معهن، أو ينظر إليهن من غير حاجة.
6- ومن الفتن بهن اليوم ما ابتلي به كثير من بيوت المسلمين من الخادمات الأجنبيات، اللاتي جئن بلا محارم- الكافرات منهن والمسلمات- وما نشأ عن ذلك من مصائب وجرائم، كل ذلك بسبب التساهل في جلبهن إلى البيوت، والترخص في التعامل معهن وكأنهن من ملك اليمين؛ سواءً في حجابهن أو اختلاطهن بالرجال الأجانب، أو خروجهن من البيوت مع أنهن أجنبيات حرائر!
7- التساهل في السفر إلى بلا الكفر والفحش والنجاسة من غير حاجة أو ضرورة، ومعلوم ما يتعرض له المسلم في تلك الديار من الفتن العظيمة، ومنها فتنة النساء وعريهن، وتهتكهن وإغرائهن، والمطلوب من المسلم أن يفر بدينه من الفتن لا أن يفر إليها.
8- التباغض والتشاحن بل وتقاطع الأرحام من أجل النساء، كما هو الحال في الشقاق بين زوجة الرجل وأمه أو أبيه، وميل الرجل مع زوجته لفتنته بها.
9- ومن صور الافتتان بالنساء في عصرنا الحاضر ما ينادي به علمانيو زماننا ممن يدعون تحرير المرأة، وتبني حقوقها، وذلك بالمطالبة بمساواتها بالرجل، والعمل جنبا إلى جنب مع الرجل، وإخراجها من منزلها، وممارستها لجميع الأعمال بدون استثناء، كقيادة السيارة وأعمال الجيش والشرطة، والقضاء... إلخ.(/2)
وقد تمت هذه الفتنة في كثير من بلدان المسلمين، وما زال أهل الفتنة والفساد يسعون في إخضاع بقية بلدان المسلمين لهذه الفتنة العمياء.(( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)) [الأنفال:30].
كما يطرح هؤلاء المفتونون الدعوة إلى السفور وترك الحجاب كلما سنحت لهم الفرصة.
ومن المجالات التي يتبناها أهل الفتنة لإفساد المرأة وفق الناس بها: إقامة ما يسمى بالجمعيات النسائية، والنوادي النسائية، والحفلات العائلية المختلطة، والمطاعم المختلطة، والحدائق المختلطة، وغير ذلك مما يغري المرأة بهجر بيتها، وإهمال حقوق زوجها وأولادها، واختلاطها بجليسات السوء، بل وجلساء السوء أيضاً.
10- ومن صور الافتتان بالنساء أيضاً تلك الأزياء الغريبة على ديننا وعاداتنا، مما تلقفه كثير من نساء المسلمين، وقلدن فيها الغرب الكافر، والشرق الملحد، هذه الأزياء التي تخالف الشرع وتخرم المروءة، وتخدش الحياء، وتفتن الرجال: من ثوب قصير، أو مشقوق، أو شفاف، أو بنطال يحجم العورة، والمرأة بطبيعتها ناقصة عقل ودين.
وقد لا يستغرب خضوعها لبيوت الأزياء وأربابها، وبخاصة تلك المرأة التي لم تنل حظاً من التربية والتقوى، ولكن المستغرب أن يرضى زوج المرأة أو والدها، أو أخوها، بوقوع موالياتهم في هذه الفتنة فيفتن ويفتن .
11- فتنة الهاتف، وما يجر من الفتنة بالنساء وخضوعهن في القول، وما يعقب ذلك من فساد في الأعراض، وخراب للبيوت، وكم من هتكٍ للأعراض كانت بدايته من فتنة الهاتف.
__________________
[1] النسائي. ك. العشرة 17 61 وصححه الألباني في صحيح النسائي (3680).
[2] الروح لابن القيم: ص 253، 254.
[3] البخاري ك النكاح (5096) (فتح 19 41) مسلم في الذكر والدعاء (2740).
[4] مسلم ك. الذكر والدعاء (2742).
[5] صفة الصفوة 1/ 497 .
[6] صفة الصفوة 2/80.
[7] سير أعلام النبلاء6/ 293.
[8] انظر كلاماً نفيساً لشيخ الإسلام في كتاب العبودية حول استعباد المرأة لزوجها : ص ه 4. مكتبة المدني.(/3)
فتنة مسايرة الواقع
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فإن من علامة توفيق الله عز وجل لعبده المؤمن أن يرزقه اليقظة في حياته الدنيا ؛ فلا تراه إلا حذراً محاسباً لنفسه خائفاً من أن يزيغ قلبه ، أو تزل قدمه بعد ثبوتها ، وهذا دأبه في ليله ونهاره يفر بدينه من الفتن ، ويجأر إلى ربه عز وجل في دعائه ومناجاته يسأله الثبات والوفاة على الإسلام والسُّنَّة غير مبدل ولا مغير .
وإن خوف المؤمن ليشتد في أزمنة الفتن التي تموج موج البحر والتي يرقق بعضها بعضاً ، وما إدخال زماننا اليوم إلا من هذه الأزمنة العصيبة التي تراكمت فيها الفتن ، وتزينت للناس بلبوسها المزخرف الفاتن ، ولم ينج منها إلا من ثبته الله عز وجل وعصمه . نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم .
وأجدها فرصة أن أتحدث عن فتنة شديدة تضغط على كثير من الناس فيضعفون أمامها ، ألا وهي فتنة مسايرة الواقع وضغط الفساد ومسايرة العادات ، ومراعاة رضا الناس وسخطهم ، وهي فتنة لا يستهان بها ؛ فلقد سقط فيها كثير من الناس وضعفوا عن مقاومتها ، والموفق من ثبته الله عز وجل كما قال تعالى : (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ ) [إبراهيم : 27] .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذه الآية : ( تحت هذه الآية كنز عظيم ، من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم ، ومن حرمه فقد حرم ) [1] .
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال له ربه تبارك وتعالى : ( ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) [الإسراء : 74] فسواه من الناس أحوج إلى التثبيت من ربه تعالى ، وفي هذا تأكيد على أهمية الدعاء وسؤال من بيده التثبيت والتوفيق وهو الله سبحانه وتعالى .
ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع والتقليد الأعمى :
إن فتنة مسايرة الواقع والتأثر بما عليه الناس لتشتد حتى تكون سبباً في الوقوع في الشرك الموجب للخلود في النار عياذاً بالله تعالى؛ وذلك كما هو الحال في شرك المشركين الأولين من قوم نوح وعاد وثمود والذين جاؤوا من بعدهم من مشركي العرب ، فلقد ذكر لنا القرآن الكريم أنهم كانوا يحتجون على أنبيائهم عليهم السلام عندما واجهوهم بالحق ودعوهم إلى التوحيد وترك الشرك بأنهم لم يسمعوا بهذا في آبائهم الأولين ، وكانوا يتواصون باتباع ما وجدوا عليه آباءهم ويحرض بعضهم بعضاً بذلك ويثيرون نعرة الآباء والأجداد بينهم . وسجل الله عز وجل عن قوم نوح عليه الصلاة والسلام قولهم : (مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ ) [المؤمنون : 24] .
وقال تعالى عن قوم هود : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ ونَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) [الأعراف : 70] ، وقال تبارك وتعالى عن قوم صالح : (قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُواً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) [ هود : 62] .
وقال سبحانه وتعالى عن قوم فرعون : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) [يونس : 78] ، وقال عن مشركي قريش : ( وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) [البقرة : 170] والآيات في ذلك كثيرة ، والمقصود التنبيه إلى أن تقليد الآباء ومسايرة ما عليه الناس وألفوه لهو من أشد أسباب الوقوع في الكفر والشرك ، وقد بين الحق للناس ؛ ولكن لوجود الهوى وشدة ضغط الواقع وضعف المقاومة يُؤْثِرُ المخذول أن يبقى مع الناس ، ولو كان يعتقد أنهم على باطل وأن ما تركه وأعرض عنه هو الحق المبين ، وإلا فما معنى إصرار أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يموت على عقيدة عبد المطلب الشركية مع قناعته بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله والحق معه لولا الهوى ومسايرة ما عليه الآباء وخوفه من مصادمتهم وتضليلهم ؟ نعوذ بالله تعالى من الخذلان .(/1)
وإذا جئنا لعصرنا الحاضر وبحثنا عن أسباب ضلال علماء الضلال الذين زينوا للناس الشرك والخرافة والبدع الكفرية رأينا أن من أهم الأسباب مسايرتهم للناس، وميلهم مع الدنيا ومناصبها، وظنهم أنهم بمصادمة الناس سيخسرون دنياهم وجاههم بين الناس، فآثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وسايروا الناس مع اعتقادهم ببطلان ما هم عليه، وكذلك الحال في سائر الناس المقلدين لهم في الشرك والخرافة والسحر والشعوذة لو بان لأحدهم الحق فإنه يحتج بما عليه أغلب الناس، فيسير معهم ، ويضعف عن الصمود أمام باطلهم إلا من رحم الله من عباده الذين لا يقدِّمون على مرضاة الله تعالى شيئاً، ولا يتركون الحق لأجل الناس، ولا يسايرونهم على ما هم عليه من ضلال وفساد؛ بل يتذكرون قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من التمس رضا الله في خط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ) [2] .
والأصل في مسايرة الناس على ضلالهم وتنكبهم الحق هو الهوى المتغلب على النفوس بحيث يطمس البصيرة، حتى ترى المتبع لهواه يضحي بروحه في سبيل هواه وباطله وهو يعلم نهايته البائسة ، ومن كانت هذه حاله فلا تنفعه المواعظ ولا الزواجر كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى : ( فكذلك صاحب الهوى إذا ضل قلبه وأُشرب حبه لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ولا يكترث بمن خالفه ) [3] .
أما ما يتعلق بما دون الكفر من فتنة مسايرة الواقع فهي كثيرة ومتنوعة اليوم بين المسلمين، وهي تترواح بين الفتنة وارتكاب الكبائر أو الصغائر ، أو الترخص في الدين، وتتبع زلات العلماء لتسويغ المخالفات الشرعية الناجمةعن مسايرة الركب وصعوبة الخروج عن المألوف، واتباع الناس إن أحسنوا أو أساؤوا . ومَنْ هذه حاله ينطبق عليه وصف الإمَّعة الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وحذَّر منه ؛ حيث قال : (لا تكونوا إمَّعة تقولون : إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا ؛ ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساؤوا فلا تظلموا ) [4] .
قال الشارح في تحفة الأحوذي : (الإمعة هو الذي يتابع كل ناعق ويقول لكل أحد أنا معك ؛ لأنه لا رأي له يرجع إليه ، تابعاً لدين غيره بلا رؤية، ولا تحصيل برهان ) .
والفتنة بمسايرة الواقع وما اعتاده الناس كثيرة في زماننا اليوم لا يسلم منها إلا من رحم الله عز وجل وجاهد نفسه مجاهدة كبيرة ؛ لأن ضغط الفساد ومكر المفسدين وترويض الناس عليه ردحاً من الزمان جعل القابض على دينه اليوم المستعصي على مسايرة الواقع في جهاد مرير مع نفسه ومع الناس كالقابض على الجمر، ولعل هذا الزمان هو تأويل قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر ) [5] .
وإن مما يعين العبد على هذه المشقة الشديدة والصبر العظيم هو عظم الأجر الذي يناله هذا القابض على دينه المستعصي على مسايرة الناس وضغط الواقع وما ألفه الناس ، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( فإن من ورائكم أيام الصبر . الصبر فيه مثل قبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله وزادني غيره قال : يا رسول الله أجر خمسين منهم ؟ قال : أجر خمسين منكم ) [6] .
وفيما يلي ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع في زماننا اليوم ، وأخص بها فئة الدعاة وأهل العلم وما يجب أن يحذروه من هذه الفتنة :
إن أهل العلم والدعاة إلى الله عز وجل لمن أشد الناس تعرضاً لفتنة المسايرة ؛ وذلك لكثرة الفساد وتنوعه وتسلط شياطين الإنس والجن على أهل الخير بالإيذاء والوسوسة وتأويل الأمور .. إلخ مما قد يعرض العالم أو الداعية إلى التنازلات والمداهنات إرضاءاً للناس أو اتقاءاً لسخطهم أو رضىً بالأمر الواقع سواء ذلك بتأويل أو بغير تأويل ، وإن سقوط العالِم أو الداعية في هذه الفتنة ليس كسقوط غيره ؛ ذلك أن غيره من عامة الناس لا تتعدى فتنته إلى غيره ، وذلك بخلاف العالم أو الداعية ؛ فإن فتنته تتعدى إلى غيره ؛ لأن الناس يرون فيه القدوة والشرعية .
إن الدعاة إلى الله عز وجل وأهل العلم هم نور المجتمعات وصمام الأمان بإذن الله تعالى فإذا وقع منهم من وقع في مسايرة الواقع والرضا بالأمر الواقع فمَنْ للأمة ينقذها ويرفع الذل عنها ؟ هذا أمر يجب أن يتفطن له كل منتسب إلى الدعوة والعلم ، ويتفقد نفسه ويحاسبها ويسعى لإنجاء نفسه وأهله بادئ ذي بدء حتى يكون لدعوته بعد ذلك أثر على الناس وقبول لها عندهم، أما إذا أهمل الداعية نفسه، وسار مع ما ألفه الناس وصعب عليه الصمود والصبر فإن الخطر كبير على النفس والأهل والناس من حوله .(/2)
إن المطلوب من الداعية والعالِم في مجتمعات المسلمين هو تغيير المجتمعات وتسييرها إلى ما هو أحسن لا مسايرتها ومداهنتها ، فهذه والله هي مهمة الأنبياء والمصلحين من بعدهم ، وهذه هي الحياة السعيدة للعالِم والداعية ، وإلا فلا معنى لحياة الداعية والعالم ولا قيمة لها إذا هو ساير الناس واستسلم لضغوط الواقع وأهواء الناس .
إن العالم والداعية لا قيمة لحياتهما إلا بالدعوة والتغيير للأحسن ، ولا شك أن في ذلك مشقة عظيمة ؛ ولكن العاقبة حميدة بإذن الله تعالى في الدارين لمن صبر وصابر واستعان بالله عز وجل . وفي ذلك يتحدث أحد الدعاة المخلصين عن رجل العقيدة الذي يسعى لتغيير الواقع وتسييره في مرضاة الله عز وجل وليس مسايرته في مرضاة النفس والناس فيقول : ( وأهم شيء في الموضوع تكوين رجل العقيدة، ذلك الإنسان الذي تصبح الفكرة همه : تقيمه وتقعده ، ويحلم بها في منامه ، وينطلق في سبيلها في يقظته، وليس لدينا بكل أسف من هذا النوع القوي والعبقري ؛ ولكن لدينا نفوس متألمة متحمسة مستعدة بعض الاستعداد، ولا بد للنجاح من أن ينقلب هؤلاء إلى مُثُلٍ قوية تعي أمرها ، وتكمل نقصها ليتم تحفزها الذي ينطلق من عدم الرضا بالواقع والشعور بالأخطار التي تتعاقب ، وينتهي باستجابة لأمر الله ونداءات الكتاب الحكيم ومراقبة وعد الله ووعيده، والتأسي بسيرة الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه ولا بد لنا من وصف عاجل وتحديد مجمل لرجل العقيدة .
إن السلوك الأول الفطري الذي يأتي به المخلوق إلى هذه الدنيا هو السلوك الغريزي ، وهذا السلوك يظل لدى الإنسان فعالاً مؤثراً حياة المرء كلها .
وفي مجتمع كمجتمعنا لا يليق بشخص محترم أن يحمل حاجاته إلى منزله مع أن ذلك مما يثاب المرء عليه ، وفي مجتمع كمجتمعنا لا بد من التبذير ولا بد من الترف ؛ فالأرائك في المنزل لا يحسن أن تكون من خشب رخيص وفراش بسيط ؛ بل لا بد من المغالاة بأثمانها فهذا تبذير للأموال ووضعها في غير موضعها والتبذير محرم في عرف الشرع ، ولكن سخط المجتمع أكبر عند بعض الناس من الحلال والحرام وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ) [7] .
ويتحكم المجتمع في الأزياء تحكُّماً يقارب عبادة الوثن .
كثيرون أولئك الذين يعيشون من أجل رضا الناس والخوف من سخطهم ، لا يستطيعون التفلت من هذه القيود حياتهم كلها ، وهذا المستوى يرتبط بالمستوى الغريزي الأول ؛ ذلك أن الإنسان اجتماعي بفطرته يعيش مع الناس ويحرص على رضاهم .
وقليلٌ أولئك الذين يستطيعون أن يتجاوزوا هذا المستوى، يتخطونه إلى مستوى أعلى هو مستوى العقيدة، فيعيشون لعقيدة ويمضون في سلوكهم بما تملي به عليهم عقيدتهم سواء سخط الناس أم رضوا ، وليس فوق هذا المستوى حين يندفع المرء بوحي عقيدته وإيمانه غير مبالٍ برضا راضٍ أو سخط ساخط ، ليس فوق هذا المستوى مستوى أرفع منه [8] .
من خلال ما سبق بيانه عن رجل العقيدة ندرك أن أبرز صفاته أنه يعيش لعقيدته ويمضي في سلوكه بما تملي عليه هذه العقيدة غير مبالٍ بسخط الناس ولا رضاهم ولا بعاداتهم وتقاليدهم المحرمة، يغير واقع الناس ولا يسايره، يؤثر فيه ولا يتأثر، هذا ما ينبغي أن يكون عليه رجال العقيدة والدعوة والعلم ، ولكن الناظر اليوم في واقع الأمة وما تعرضت له من التبعية والتقليد والمسايرة يجد أن الصفات المذكورة في رجل العقيدة والمشار إليها سابقاً لا تكاد توجد اليوم إلا في فئة قليلة من الداعين إلى الله عز وجل نسأل الله عز وجل أن يبارك في أعمالهم وأوقاتهم ، أما السواد الأعظم فقد تأثر بشكل أو بآخر بفتنة مسايرة الواقع، ما بين مقل ومكثر وما أبرئ نفسي .
ومن صور هذه الفتنة التي يجب أن يحذرها المسلمون عامة والمصلحون وأهل العلم خاصة ما يلي :
1- مسايرة الواقع وما ألفه الناس من عادات اجتماعية وأسرية
وذلك أنه قد ظهرت في حياة الناس ومن سنوات عديدة كثير من العادات والممارسات الاجتماعية المخالفة للشريعة والمروءة بفعل الانفتاح على حياة الغرب الكافر وإجلاب الإعلام الآثم على تزيينها للناس فوافقت قلوباً خاوية من الإيمان فتمكنت منها وأُشربت حبها وكانت في أول الأمر غريبة ومستنكرة ،ولكن النفوس ألفتها وسكنت إليها مع مرور الوقت وشدة الترويض وقلة الوازع ، ومن أبرز هذه العادات والممارسات :(/3)
ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين اليوم من الخدم والخادمات حتى صار أمراً مألوفاً وصلت فتنته إلى بيوت بعض الدعاة وأهل العلم ، مع أن بعض هؤلاء الخدم كفرة أو فَسَقَة ، وأكثر الخادمات هن بلا محارم ، وخضع الناس للأمر الواقع ، وأصبحت ترى من ابتُلي بهذا الأمر يتعامل مع الخادمات وكأنهن إماء غير حرائر ولا أجنبيات ، يتبرجن أمامه وقد يخلو بهن ، وكذلك الحال مع الخادمين والسائقين ؛ حيث قد ينفردون بالنساء اللاتي يتسامحن بكشف زينتهن أمام هؤلاء الخدم، وكأنهم مما ملكت اليمين ، وكل هذا ويا للأسف بعلم ولي الأمر من زوج أو أب أو أخ ، وإذا نُصح الولي في ذلك قال : نحن نساير الواقع وكل الناس واقعون في هذا ، ومن الصعب مقاومة ضغط الأهل والأولاد ومطالبهم وإلحاحهم على مسايرة أقاربهم وجيرانهم ! !
ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين من أدوات اللهو والأجهزة الجالبة للفساد كالتلفاز وغيره، وكذلك ما امتلأت به البيوت من صور ذوات الأرواح من غير ضرورة حتى أصبحت هذه المقتنيات أمراً مألوفاً لا يمكن الانفكاك عنه، ومن ينكره من أولياء الأمور يعترف بضعفه أمام رغبات الزوجة والأولاد وسخط المجتمع من حوله ، فيستسلم لمثل هذه المنكرات مسايرة للواقع وإرضاءاً للناس الذين لن يُغْنوا عنه من الله شيئاً، وكفى بذلك فتنة .
ما ظهر في السنوات الأخيرة في بعض الدول من انتشار قصور الأفراح والفنادق وما يحصل فيها من منكرات وبخاصة في أوساط النساء كالتبرج الفاضح والغناء المحرم المصحوب بأصوات النساء المرتفعة ، ناهيك عن المفاخرة والمباهاة في الملابس والمآكل ... إلخ . ومع ذلك فلقد أصبحت أمراً مألوفاً يُشَنَّع على من يخرج عليه أو يرفضه ويقاطعه ، حتى أصبح كثير من الناس أسيراً لهذه العادات مسايراً للناس في ذلك إرضاءاً لهم أو اتقاءاً لسخطهم .
مسايرة النساء في لباسهن وتقليدهن لعادات الغرب الكافر في اللباس والأزياء وصرعات الموضات وأدوات التجميل حتى أصبح أمراً مألوفاً لم ينج منه إلا أقل القليل ممن رحم الله عز وجل من النساء الصالحات المتربيات في منابت صالحة تجعل رضا الله عز وجل فوق رضا المخلوق، أما أكثر الناس فقد سقط في هذه الفتنة فانهزمت المرأة أمام ضغط الواقع الشديد ، وتلا ذلك انهزام وليها أمام رغبة موليته، واستسلم هو الآخر ، وساير في ذلك مع من ساير حتى صرنا نرى أكثر نساء المسلمين على هيئة في اللباس والموضات ينكرها الشرع والعقل وتنكرها المروءة والغيرة ، وكأن الأمر تحول والعياذ بالله تعالى إلى شبه عبودية لبيوت
الأزياء ، يصعب الانفكاك عنها .
وعن هذه العادات والتهالك عليها وسقوط كثير من الناس فيها يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى : (هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفراً .هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضاً، وتكلفهم أحياناً ما لا يطيقون من النفقة، وتأكل حياتهم واهتماماتهم، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم ، ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها : أزياء الصباح ، وأزياء بعد
الظهر ، وأزياء المساء ، الأزياء القصيرة ، والأزياء الضيقة ، والأزياء المضحكة ! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف إلى آخر هذا الاسترقاق المذلّ : من الذي يصنعه ؟ ومن الذي يقف وراءه ؟ تقف وراءه بيوت الأزياء ، وتقف وراءه شركات الإنتاج ! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها ! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها ! ) [9] .
مسايرة الناس في ما اعتادوه اليوم في التوسع في المساكن والمراكب والمآكل
بشكل يتسم بالترف الزائد بل بالمباهاة والمفاخرة حتى ضعف كثير من الناس عن مقاومة هذا الواقع ؛ فراح الكثير منهم يرهق جسده وماله، ويحمِّل نفسه الديون الكبيرة وذلك حتى يساير الناس ويكون مثل فلان وفلان، والمشكل هنا ليس التوسع في المباحات وترفيه النفس ؛ فقد لا يكون بذلك بأس إذا لم يوقع في الحرام ، لكن ضغط الواقع وإرضاء الناس ومسايرة عقول النساء والأطفال يدفع بعض الطيبين إلى تحميل نفسه من الديون الباهظة وذلك ليكون مثل غيره في المركب أو المسكن ، ولن ينفعه مسايرة الناس من الأقارب والأباعد شيئاً إذا حضره الموت وديون الناس على كاهله لم يستطع لها دفعاً .(/4)
2- مسايرة الناس فيما يطرحونه من استفتاءات حول بعض المخالفات الشرعية المعاصرة . وذلك من قِبَلِ بعض أهل العلم الذين قد يرون مسايرة الواقع ، ويفتون ببعض الأقوال الشاذة والمهجورة ، أو يحتجون بقواعد الضرورة أو رفع الحرج أو الأخذ بالرخص ... إلخ ، ولا يخفىما في ذلك من السير مع أهواء الناس والرضا بالأمر الواقع ، والتحلل من أحكام الشريعةشيئاً فشيئاً ، والمطلوب من أهل العلم والفتوى في أزمنة الغربة أن يعظُوا الناس ويرشدوهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر بدل أن يحسِّنوا لهم الواقع ويسوِّغوا صنيعهم فيه .
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى : ( المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً ) [10]ويقول أيضاً : ( إن الترخُّص إذا أُخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حرياً بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه ... فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقَّة الحرجة ،وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها وطلب الطريق إلى الخروج منها ) [11] .
وقد لا يكون المفتي قاصداً مسايرة واقع الناس أو الميل مع أهوائهم ؛ لكنه يغفل عن مكر بعض الناس وخداعهم، وذلك في طريقة استفتاءاتهم وصياغتها صياغة تدفع المفتي من أهل العلم إلى إجابته بما يهوى، وعن هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : ( يحرم عليه أي على المفتي إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصودة ؛ بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم ، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم ، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم ، يؤازره فقهه في الشرع ، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاع ، وكم من مسألة ظاهرها جميل وباطنها مكر وخداع وظلم ! فالغر ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه ، وذو البصيرة ينفذ إلى مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم ، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقوذ ، وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق ! وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل ! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك ) [12] .
3- مسايرة واقع الأنظمة ببعض التنازلات التي تضر بالدعوة وأهلها :
وهذا من أخطر ما يتعرض له أهل الدعوة والعلم والإصلاح، وبخاصة حينما يكثر الفساد وتشتد وطأته على الناس ويبطؤ نصر الله عز وجل ويتسلط الظالمون على عباد الله المصلحين ، حينئذ يجتهد بعض المهتمين بالدعوة والإصلاح ، ويظهر لهم أن التقارب مع أرباب الأنظمة والسلطان والالتقاء معهم في منتصف الطريق قد يكون فيه مصلحة للدعوة وتخفيف شر عن المسلمين ، وكل ما في الأمر بعض التنازلات القليلة التي يتمخض عنها بزعمهم مصالح كبيرة ! ! وليس المقام هنا مقام الرد والمناقشات لهذه الاجتهادات، فيكفي في فشلها وخطورتها نتائجها التي نسمعها ونراها عند من خاضوا هذه التنازلات ورضوا بالأمر الواقع ؛ فلا مصلحة ظاهرة
حققوها بتنازلاتهم، ولا مفسدة قائمة أزالوها؛ ولقد حذَّر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن الركون للظالمين المفسدين أشد التحذير ؛ وذلك في قوله تعالى : ( وإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ) [الإسراء : 73 - 75] .
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأولها :
محاولة فتنته عما أوحى الله إليه ، ليفتري عليه غيره ، وهو الصادق الأمين .
لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى منها : مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم ، ومنها :
مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرمه الله ،
ومنها : طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء .
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصِّلها ، ليذكِّر بفضل الله على الرسول صلى الله عليه وسلم في تثبيته على الحق ، وعصمته من الفتنة . ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلاً ، وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين هذه ، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات دون أن يجد له نصيراً منهم يعصمه من الله .(/5)
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً ، محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلاً عن استقامة الدعوة وصلابتها ، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة ، ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته ؛ لأنه يرى الأمر هيناً ؛ فأصحاب السلطان لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلية ، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق .
وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة ، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها ! ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق ، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً ، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيلاً، لا يملك أن يقف عند الذي سلم به أول مرة ؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء ! [13] .
4- مسايرة ركب الغرب في بعض ميادين من قِبَلِ دعاة العصرانية من أبناء المسلمين :
إن الحديث عن العصرانية والعصرانيين يطول ويطول [14] ولكن يكفي أن نذكر هنا ما يتعلق بموضوعنا وهو الحديث عن فتنة المسايرة ولا أحسب العصرانيين من بني قومنا إلا وقد ركسوا في هذه الفتنة وظهرت عليهم في أجلى صورها، وهم لا يعترفون بأنها مسايرة ؛ ولكنهم يسمونها تجديداً وتطويراً يناسب العصر ، وتحت هذا المسمى يقضون على كثير من الثوابت الشرعية ويتحللون من شرع الله عز وجل باسم التطوير وهو في الحقيقة مسايرة للواقع الغربي وتقليد أعمى وانبهار بإنجازاته المادية بل الهزيمة النفسية أمامه ؛ والغريب في أمر هؤلاء أنهم يرفضون التقليد ويشنعون على من يقلد سلف الأمة ويتبعهم ، وعلى من يبقى على الموروث لا يتجاوزه ولا يطوره ، ثم هم في الوقت نفسه يسقطون في تقليد الغرب ومحاكاته بصورة لا تدع مجالاً للريب والشك ؛ وهم الذين يتشدقون بالعقلانية ورفض التقليد ! ! ويعرِّف الدكتور الزنيدي العصرانية بقوله : (هي التأقلم مع المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في كل عصر، وربط الإنسان في فرديته وجماعيته بها في دائرة التصور البشري ) [15] .
ويتحدث الأستاذ محمد حامد الناصر عن بعض شذوذات العصرانيين في ميادين الفقه فيقول : ( لقد خرج العصرانيون علينا بفقه غريب شاذ يريد تسويغ الواقع المعاصر لإدخال كثير من القيم الغربية في دائرة الإسلام ؛ ذلك أن موقفهم من النصوص الشرعية عجيب ؛ فإذا كانت الآية واضحة الدلالة والأحاديث النبوية المتواترة قالوا : إن هذه النصوص كانت لمناسبات تاريخية لا تصلح لعصرنا الحاضر، وإذا كانت أحاديث آحاد قالوا لا يؤخذ من خبر الآحاد تشريع ولا تبنى عليه عقيدة ، أو ألغوا بعض الأحاديث الصحيحة بحجة أنها سُنَّة غير تشريعية ،ثم يتهمون الفقهاء بالجمود وضيق الأفق ! !
إن هذه التجاوزات لو أخذ بها لن تترك من ثوابت الإسلام إلا وحاولت مسخه أو تشويهه .
ومن شذوذاتهم :
1- رفضهم تطبيق الحدود التي فيها رجم أو قتل أو قطع عضو إلا بعد الإصرار والمعاودة والتكرار ، ويأتون بِشُبَهٍ من هنا وهناك .
2- إباحتهم الربا في البنوك بحجة الحفاظ على اقتصاد البلاد وأن الربا المحرم عندهم هو الربح المركب .
3 - موقفهم من المرأة ، والدعوة إلى تحريرها بزعمهم ، ودعوتهم لها إلى محاكاة المرأة الغربية في عاداتها، وإلى الثورة على الحجاب الشرعي وتعدد الزوجات ، يقول محمد عمارة : ( إن تعدد الزوجات وتتابع الزواج واتخاذ السراري والجواري من سمات عصر الإقطاع والدولة الإقطاعية ) والترابي يقصر الحجاب على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم راحوا يسوغون الاختلاط بين الرجال والنساء بعد أن زينوا للمرأة الخروج من بيتها .
5- أحكام أهل الذمة :
كما يرى العصرانيون أن أحكام أهل الذمة كانت لعصر غير عصرنا وهي الآن لا تناسب عصرنا ! ! ) [16] .
ولكن الأستاذ الناصر يوضح مفهومهم للتجديد والتطوير قائلاً : ( إن مزاعم التجديد التي رفع هؤلاء لواءها كشفت الحقيقة جلية وهي أن التجديد لديهم يعني تطوير الدين على طريقة عصرنة الدين عند اليهود والنصارى ) .
ولذلك فإن التجديد عندهم يعني : هدم العلوم المعيارية : أي علوم التفسير المأثور وأصوله ، وعلم أصول الفقه ، وعلم مصطلح الحديث .
ويعني : رفض الأحاديث الصحيحة جزئياً أو كلياً بحجة ضرورة ملاءمتها لعقولهم ولمصلحة الأمة، وظروف العصر الحاضر .
ويعني : رفض السنة غير التشريعية أي : فيما يخص شؤون الحكم والسياسة وأمور الحياة والمجتمع عموماً .
التجديد عندهم يعني : الانعتاق من إسار الشريعة إلى بحبوحة القوانين الوضعية ، التي تحقق الحرية والتقدم ، ولذلك هاجموا الفقه والفقهاء بلا هوادة .
- الاجتهاد والتجديد عندهم يعني : تحقيق المصلحة وروح العصر [17] .(/6)
مما سبق يتبين خطر هذه البدعة الجديدة وأن أصلها مسايرة الواقع والانهزامية أمام ضغطه مصحوباً ذلك بالجهل بالإسلام أحياناً ، وبالهوى والشهوة أحياناً كثيرة .
الآثار الخطيرة لمسايرة الواقع وسبل النجاة منها :
إن لمسايرة الواقع وما ألفه الناس من المخالفات الشرعية من الآثار الخطيرة على المساير في دينه ودنياه ما لو انتبه لها الواحد منهم لما رضي بحاله التي أعطى فيها زمامه لغيره وأصبح كالبعير المقطور رأسه بذنب غيره ، ومن أخطر هذه الآثار ما يلي :
1- الآثار الدنيوية : وذلك بما يظهر على المساير من فقدان الهوية وذوبان الشخصية الإسلامية ، وبما يتكبده من معاناة في جسده ونفسه وماله وولده ، وهذه كلها مصادر عنت وشقاء وتعاسة بخلاف المستسلم لشرع الله عز وجل الرافض لما سواه المنجذب إلى الآخرة فلا تجده إلا سعيداً قانعاً مطمئناً ينظر : ماذا يرضي ربه فيفعله ، وماذا يسخطه فيتركه غير مبالٍ برضى الناس أو سخطهم .
2- الآثار الدينية : وهذه أخطر من سابقتها ؛ وذلك أن المساير لواقع الناس المخالف لشرع الله عز وجل يتحول بمضيِّ الوقت واستمراء المعصية إلى أن يألفها ويرضى بها ويختفي من القلب إنكارها ، وما وراء ذلك من الإيمان حبة خردل . كما أن المساير لركب المخالفين لأمر الله عز وجل لا تقف به الحال عند حد معين من المسايرة والتنازل والتسليم للواقع ، بل إنه ينزل في مسايرته خطوة خطوة ؛ وكل معصية تساير فيها الناس تقود إلى معصية أخرى ؛ وهكذا حتى يظلم القلب ويصيبه الران أعاذنا الله من ذلك ؛ ذلك أن من عقوبة المعصية معصية بعدها ، ومن ثواب الحسنة حسنة بعدها ؛ وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى [18] : وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما يبين أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى ، وكذلك السيئة الثانية قد تكون من عقوبة الأولى ، قال تعالى : (ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وإذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * ولَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيما) [النساء : 66 - 68] وقال تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) [العنكبوت : 69] وقال تعالى : ( والَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بَالَهُمْ * ويُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ) [محمد : 4 - 6] ، وقال تعالى : (ثم كان عاقبة الذين أساؤٍوا السوأى ) [الروم : 10] ، وقال تعالى : ( كِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ) [المائدة : 15 ، 16]، وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ويَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ويَغْفِرْ لَكُمْ ) [الحديد : 28] ، وقال تعالى : (وفِي نُسْخَتِهَا هُدًى ورَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ) [الأعراف : 154] .
وما أجمل ما قاله سيد قطب رحمه الله تعالى في النقل السابق حيث قال : ( ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق ، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً لا يملك أن يقف عند ما سلَّم به أول مرة ؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء ) .
الآثار الدعوية :
إن الداعية الذي تظهر عليه مظاهر مسايرة الواقع يفقد مصداقيته عند نفسه وعند الناس ، وإن لم يتدارك نفسه فقد ييأس ويخسر ويترك الدعوة وأهلها ؛ إذ كيف يساير الواقع من هو مطالب بتغيير الواقع وتسييره ؟ ! وكلما كثر المسايرون كثر اليائسون والمتساقطون ؛ وهذا بدوره يؤدي إلى ضعف الدعوة وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
سبل النجاة أو الوقاية من هذه الفتنة :
إنه لا ينجِّي من الفتن صغيرها وكبيرها ما ظهر منها وما بطن إلا الله عز وجل وقد قال لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم : ( ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) [الإسراء : 74] فأول سبيل من سبل النجاة هو سؤال الله عز وجل وصدق العزيمة والأخذ بأسباب الثبات ومنها :
1- فعل الطاعات وامتثال الأوامر واجتناب النواهي كما قال عز وجل : ( ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً) [النساء : 66] فذكر سبحانه في هذه الآية أن شدة التثبيت تكون لمن قام بفعل ما يوعظ به من فعل الأوامر وترك النواهي ، ويشير الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى إلى أثر الطاعة في الثبات فيقول : (فالخلق كلهم قسمان : موفق بالتثبيت ، ومخذول بترك التثبيت . ومادة التثبيت وأصله ومنشؤه من القول الثابت وفعل ما أُمِر به العبد ، فبهما يثبِّت الله عبده ؛ فكل ما كان أثبت قولاً ، وأحسن(/7)
فعلاً كان أعظم تثبيتاً قال تعالى : ( ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً ) فأثبت الناس قلباً أثبتهم قولاً ، والقول الثابت هو القول الحق والصدق ) [19] .
2- مصاحبة الدعاة الصادقين الرافضين للواقع السيئ والسعي معهم في الدعوة إلى الله تعالى وتغيير الواقع السيئ في نفوسهم وأسرهم ومجتمعاتهم ، واعتزال أهل الدنيا الراكنين إليها والمسارعين فيها والمتبعين لكل ناعق ، وترك مخالطتهم إلا لدعوتهم أو ما تدعو الحاجة إليه ؛ لأن المجالسة تؤول إلى المؤانسة والمجانسة .
3- التفقه في الدين والبصيرة في شرع الله عز وجل لأن المسايرة عند بعض الناس تنبع من جهل بالشريعة وأحكامها ومقاصدها ، مع أن أكثر المسايرين المخالفين للشريعة إنما يدفعهم إلى المسايرة الهوى والضعف .
والمقصود : أن من كانت مسايرته بسبب جهله بالشرع فإن في العلم الشرعي دواءه ومنعه من المسايرة بإذن الله تعالى . وينبغي على طالب العلم الشرعي والمستفتي في دينه أن يسأل أهل العلم الراسخين فيه الذين يجمعون بين العلم والورع ومعرفة الواقع ، وأن يحذر من أهل العلم الذين يسيرون على أهواء الناس وتلمس الرخص والآراء الشاذة لهم .
4- إفشاء المناصحة وإشاعتها بين المسلمين وبخاصة بين أهل الخير لأن السكوت على المخالفات وضعف المناصحة بين المسلمين من أسباب التلبس بالمنكرات ومسايرة الناس فيها .
_____________
(1) بدائع التفسير ، 3/17 .
(2) رواه الترمذي ، ح/ 2338 .
(3) الموافقات للشاطبي ، 2/ 268 .
(4) تحفة الأحوذي ، 6/145 ، رقم الحديث (2075) وقال الترمذي حسن غريب .
(5) رواه الترمذي ، ح/ 2186 .
(6) أخرجه أبي داود ، ح/ 3778 ، والترمذي في تفسير القرآن 2984 ، وأخرجه ابن ماجة في الفتن 4004 .
(7) رواه الترمذي ، ح/ 2338 .
(8) في سبيل الدعوة الإسلامية ، للعلامة محمد أمين المصري ، ص 39 43 (باختصار) .
(9) في ظلال القرآن ، 2/ 1219 .
(10) الموافقات ، 2/ 128 .
(11) المصدر السابق ، ص / 247 .
(12) إعلام الموقعين ، 4/ 229 .
(13) في ظلال القرآن ، 3/ 245 .
(14) من أراد التوسع في هذا الموضوع وكيف نشأ ومن هم رموزه فليرجع إلى كتاب : (العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب) ، للأستاذ محمد حامد الناصر .
(15) العصرانية في حياتنا الاجتماعية ، ص 22 .
(16) العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب (بتصرف واختصار) .
(17) المصدر السابق ، ص 353 ، 354 .
(18) الفتاوى ، 14/245 .
(19) بدائع التفسير ، 1/17 .
مجلة البيان / العدد - 147التاريخ- ذو القعدة /1420 هـ .(/8)
فتنة مسايرة الواقع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،،،
فإن من علامة توفيق الله لعبده المؤمن أن يرزقه اليقظة؛ فلا تراه إلا حذراً محاسباً لنفسه، خائفاً من أن يزيغ قلبه، وهذا دأبه في ليله ونهاره يفر بدينه من الفتن، ويجأر إلى ربه في دعائه يسأله الثبات، والوفاة على الإسلام والسُّنَّة، غير مبدل ولا مغير.
وإن خوف المؤمن ليشتد في أزمنة الفتن التي تموج موج البحر، والتي يرقق بعضها بعضاً، وما إخال زماننا اليوم إلا من هذه الأزمنة العصيبة التي تراكمت فيها الفتن، وتزينت للناس بلبوسها المزخرف الفاتن، ولم ينج منها إلا من ثبته الله .
وأجدها فرصة أن أتحدث عن فتنة شديدة تضغط على كثير من الناس فيضعفون أمامها، ألا وهي فتنة مسايرة الواقع، وضغط الفساد، ومسايرة العادات، ومراعاة رضا الناس وسخطهم، وهي فتنة لا يستهان بها؛ فلقد سقط فيها كثير من الناس، وضعفوا عن مقاومتها، والموفق من ثبته الله كما قال:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ...[27] }[سورة إبراهيم] . يقول ابن القيم رحمه الله: 'تحت هذه الآية كنز عظيم، من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم، ومن حرمه فقد حرم'[ بدائع التفسير، 3/17].
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال له ربه :{ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً[74]}[سورة الإسراء] . فسواه من الناس أحوج إلى التثبيت من ربه، وفي هذا تأكيد على أهمية الدعاء، وسؤال من بيده التثبيت وهو الله سبحانه.
ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع والتقليد الأعمى:
إن فتنة مسايرة الواقع والتأثر بما عليه الناس لتشتد حتى تكون سبباً في الوقوع في الشرك الموجب للخلود في النار؛ وذلك كما هو الحال في شرك المشركين الأولين من قوم نوح، وعاد، وثمود، والذين جاءوا من بعدهم من مشركي العرب، فلقد ذكر لنا أنهم كانوا يحتجون على أنبيائهم عليهم السلام عندما دعوهم إلى التوحيد وترك الشرك بأنهم لم يسمعوا بهذا في آبائهم الأولين، وكانوا يتواصون باتباع ما وجدوا عليه آباءهم، ويحرض بعضهم بعضاً بذلك، ويثيرون نعرة الآباء والأجداد بينهم، وسجل الله عن قوم نوح عليه السلام قولهم:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ[24]}[سورة المؤمنون] . وقال عن قوم هود:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ ونَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا...[70] }[سورة الأعراف] . وقال عن قوم صالح:{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُواً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا...[62]}[سورة هود] . وقال سبحانه عن قوم فرعون:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا...[78]}[سورة يونس] . وقال عن مشركي قريش:{وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا...[170]}[سورة البقرة] . والآيات في ذلك كثيرة، والمقصود التنبيه إلى أن تقليد الآباء، ومسايرة ما عليه الناس وألفوه لهو من أشد أسباب الوقوع في الكفر والشرك، وقد بين الحق للناس؛ ولكن لوجود الهوى، وشدة ضغط الواقع، وضعف المقاومة يُؤْثِرُ المخذول أن يبقى مع الناس، ولو كان يعتقد أنهم على باطل، وأن ما تركه هو الحق المبين، وإلا فما معنى إصرار أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يموت على عقيدة عبد المطلب الشركية مع قناعته بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله والحق معه لولا الهوى، ومسايرة ما عليه الآباء، وخوفه من مصادمتهم وتضليلهم؟! نعوذ بالله تعالى من الخذلان.
وإذا جئنا لعصرنا الحاضر، وبحثنا عن أسباب ضلال علماء الضلال، الذين زينوا للناس الشرك والخرافة، والبدع الكفرية؛ رأينا أن من أهم الأسباب: مسايرتهم للناس، وميلهم مع الدنيا ومناصبها، وظنهم أنهم بمصادمة الناس سيخسرون دنياهم وجاههم بين الناس، فآثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وسايروا الناس مع اعتقادهم ببطلان ما هم عليه.
وكذلك الحال في سائر المقلدين لهم لو بان لأحدهم الحق؛ فإنه يحتج بما عليه أغلب الناس، فيسير معهم، ويضعف عن الصمود أمام باطلهم إلا من رحم الله من عباده، الذين لا يقدِّمون على مرضاة الله شيئاً، ولا يتركون الحق لأجل الناس، ولا يسايرونهم على ما هم عليه من ضلال وفساد؛ بل يتذكرون قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ] رواه الترمذي .(/1)
والأصل في مسايرة الناس على ضلالهم وتنكبهم الحق هو الهوى المتغلب على النفوس، بحيث يطمس البصيرة، حتى ترى المتبع لهواه يضحي بروحه في سبيل هواه وباطله وهو يعلم نهايته البائسة، ومن كانت هذه حاله، فلا تنفعه المواعظ، ولا الزواجر كما قال الشاطبي رحمه الله: 'فكذلك صاحب الهوى إذا ضل قلبه، وأُشرب حبه لا تعمل فيه الموعظة، ولا يقبل البرهان، ولا يكترث بمن خالفه'[ الموافقات للشاطبي، 2/ 268].
أما ما يتعلق بما دون الكفر من فتنة مسايرة الواقع فهي كثيرة ومتنوعة اليوم بين المسلمين، وهي تترواح بين الفتنة، وارتكاب الكبائر، أو الصغائر، أو الترخص في الدين، وتتبع زلات العلماء لتسويغ المخالفات الشرعية الناجمة عن مسايرة الركب، وصعوبة الخروج عن المألوف، واتباع الناس إن أحسنوا أو أساءوا. ومَنْ هذه حاله ينطبق عليه وصف الإمَّعة الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وحذَّر منه؛ حيث قال: [لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا] رواه الترمذي. و'الإمعة هو الذي يتابع كل ناعق، ويقول لكل أحد أنا معك؛ لأنه لا رأي له يرجع إليه، تابعاً لدين غيره بلا رؤية، ولا تحصيل برهان'[ تحفة الأحوذي].
والفتنة بمسايرة الواقع وما اعتاده الناس كثيرة في زماننا اليوم لا يسلم منها إلا من رحم الله، وجاهد نفسه مجاهدة كبيرة؛ لأن ضغط الفساد، ومكر المفسدين، وترويض الناس عليه ردحاً من الزمان؛ جعل القابض على دينه اليوم المستعصي على مسايرة الواقع في جهاد مرير مع نفسه ومع الناس كالقابض على الجمر، ولعل هذا الزمان هو تأويل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ] رواه الترمذي.
وإن مما يعين العبد على هذه المشقة، والصبر العظيم: هو عظم الأجر الذي يناله هذا القابض على دينه، المستعصي على مسايرة الناس، وضغط الواقع، وما ألفه الناس، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: [ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ] قَالَ-أي الراوي- يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ قَالَ: [أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ] رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة.
وفيما يلي ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع في زماننا اليوم، وأخص بها فئة الدعاة، وأهل العلم، وما يجب أن يحذروه من هذه الفتنة:
إن أهل العلم والدعاة إلى الله لمن أشد الناس تعرضاً لفتنة المسايرة؛ وذلك لكثرة الفساد وتنوعه، وتسلط شياطين الإنس والجن على أهل الخير بالإيذاء والوسوسة وتأويل الأمور.. إلخ مما قد يعرض العالم أو الداعية إلى التنازلات والمداهنات؛ إرضاءًا للناس، أو اتقاءاً لسخطهم، أو رضىً بالأمر الواقع سواء ذلك بتأويل، أو بغير تأويل.وإن سقوط العالِم، أو الداعية في هذه الفتنة ليس كسقوط غيره؛ ذلك أن فتنته تتعدى إلى غيره؛ لأن الناس يرون فيه القدوة والشرعية.
إن الدعاة إلى الله وأهل العلم هم نور المجتمعات وصمام الأمان، فإذا وقع منهم من وقع في مسايرة الواقع، والرضا بالأمر الواقع؛ فمَنْ للأمة ينقذها ويرفع الذل عنها؟! هذا أمر يجب أن يتفطن له كل منتسب إلى الدعوة والعلم، ويتفقد نفسه ويحاسبها، ويسعى لإنجاء نفسه وأهله بادئ ذي بدء حتى يكون لدعوته بعد ذلك أثر على الناس، وقبول لها عندهم، أما إذا أهمل الداعية نفسه، وسار مع ما ألفه الناس، وصعب عليه الصمود والصبر؛ فإن الخطر كبير على النفس، والأهل، والناس من حوله.
إن المطلوب من الداعية والعالِم في مجتمعات المسلمين هو تغيير المجتمعات وتسييرها إلى ما هو أحسن لا مسايرتها ومداهنتها، فهذه والله هي مهمة الأنبياء والمصلحين من بعدهم، وهذه هي الحياة السعيدة للعالِم والداعية، وإلا فلا معنى لحياة الداعية والعالم، ولا قيمة لها إذا هو ساير الناس، واستسلم لضغوط الواقع، وأهواء الناس.(/2)
إن العالم والداعية لا قيمة لحياتهما إلا بالدعوة والتغيير للأحسن، ولا شك أن في ذلك مشقة عظيمة؛ ولكن العاقبة حميدة في الدارين لمن صبر وصابر واستعان بالله . وفي ذلك يتحدث أحد الدعاة المخلصين عن رجل العقيدة الذي يسعى لتغيير الواقع وتسييره في مرضاة الله عز وجل وليس مسايرته في مرضاة النفس والناس فيقول: 'وأهم شيء في الموضوع تكوين رجل العقيدة؛ ذلك الإنسان الذي تصبح الفكرة همه: تقيمه وتقعده، ويحلم بها في منامه، وينطلق في سبيلها في يقظته، وليس لدينا بكل أسف من هذا النوع القوي والعبقري؛ ولكن لدينا نفوس متألمة متحمسة مستعدة بعض الاستعداد، ولا بد للنجاح من أن ينقلب هؤلاء إلى مُثُلٍ قوية تعي أمرها، وتكمل نقصها ليتم تحفزها الذي ينطلق من عدم الرضا بالواقع، والشعور بالأخطار التي تتعاقب، وينتهي باستجابة لأمر الله، ونداءات الكتاب الحكيم، ومراقبة وعد الله ووعيده، والتأسي بسيرة الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه، ولا بد لنا من وصف عاجل، وتحديد مجمل لرجل العقيدة.
إن السلوك الأول الفطري الذي يأتي به المخلوق إلى هذه الدنيا هو السلوك الغريزي، وهذا السلوك يظل لدى الإنسان فعالاً مؤثراً حياة المرء كلها. وفي مجتمع كمجتمعنا لا يليق بشخص محترم أن يحمل حاجاته إلى منزله مع أن ذلك مما يثاب المرء عليه، وفي مجتمع كمجتمعنا لا بد من التبذير ولا بد من الترف؛ فالأرائك في المنزل لا يحسن أن تكون من خشب رخيص وفراش بسيط؛ بل لا بد من المغالاة بأثمانها، فهذا تبذير للأموال، ووضعها في غير موضعها، والتبذير محرم في عرف الشرع، ولكن سخط المجتمع أكبر عند بعض الناس من الحلال والحرام وقد قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخِطَ الله عَلْيهَ وَأَسْخَطَ عَلْيهَ النَّاسَ] سبق تخريجه. ويتحكم المجتمع في الأزياء تحكُّماً يقارب عبادة الوثن.
كثيرون أولئك الذين يعيشون من أجل رضا الناس والخوف من سخطهم، لا يستطيعون التفلت من هذه القيود حياتهم كلها، وهذا المستوى يرتبط بالمستوى الغريزي الأول؛ ذلك أن الإنسان اجتماعي بفطرته يعيش مع الناس ويحرص على رضاهم. وقليلٌ أولئك الذين يستطيعون أن يتجاوزوا هذا المستوى، يتخطونه إلى مستوى أعلى هو مستوى العقيدة، فيعيشون لعقيدة، ويمضون في سلوكهم بما تملي به عليهم عقيدتهم سواء سخط الناس أم رضوا، وليس فوق هذا المستوى حين يندفع المرء بوحي عقيدته وإيمانه غير مبالٍ برضا راضٍ أو سخط ساخط، ليس فوق هذا المستوى مستوى أرفع منه'[ في سبيل الدعوة الإسلامية، للعلامة محمد أمين المصري- باختصار].
من خلال ما سبق بيانه عن رجل العقيدة ندرك أن أبرز صفاته أنه يعيش لعقيدته، ويمضي في سلوكه بما تملي عليه هذه العقيدة غير مبالٍ بسخط الناس ولا رضاهم، ولا بعاداتهم وتقاليدهم المحرمة، يغير واقع الناس ولا يسايره، يؤثر فيه ولا يتأثر، هذا ما ينبغي أن يكون عليه رجال العقيدة والدعوة والعلم،
ولكن الناظر اليوم في واقع الأمة، وما تعرضت له من التبعية والمسايرة؛ يجد أن الصفات المذكورة في رجل العقيدة، والمشار إليها سابقاً لا تكاد توجد اليوم إلا في فئة قليلة من الداعين إلى الله ، نسأل الله أن يبارك في أعمالهم وأوقاتهم، أما السواد الأعظم فقد تأثر بشكل، أو بآخر بفتنة مسايرة الواقع، ما بين مقل ومكثر .
ومن صور هذه الفتنة التي يجب أن يحذرها المسلمون عامة والمصلحون وأهل العلم خاصة ما يلي:
1- مسايرة الواقع وما ألفه الناس من عادات اجتماعية وأسرية مخالفة للشريعة والمروءة، كانت في أول الأمر غريبة ومستنكرة، ولكن النفوس ألفتها،ومن أبرز هذه العادات والممارسات:
ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين من أدوات اللهو والأجهزة الجالبة للفساد كالتلفاز وغيره، وكذلك ما امتلأت به البيوت من صور ذوات الأرواح من غير ضرورة حتى أصبحت هذه المقتنيات أمراً مألوفاً لا يمكن الانفكاك عنه، ومن ينكره من أولياء الأمور يعترف بضعفه أمام رغبات الزوجة والأولاد وسخط المجتمع من حوله، فيستسلم لمثل هذه المنكرات مسايرة للواقع، وإرضاءاً للناس الذين لن يُغْنوا عنه من الله شيئاً، وكفى بذلك فتنة.
ما ظهر في السنوات الأخيرة في بعض الدول من انتشار قصور الأفراح والفنادق وما يحصل فيها من منكرات، وبخاصة في أوساط النساء كالتبرج الفاضح، والغناء المحرم المصحوب بأصوات النساء المرتفعة، ناهيك عن المفاخرة والمباهاة في الملابس والمآكل... إلخ. ومع ذلك فلقد أصبحت أمراً مألوفاً يُشَنَّع على من يخرج عليه، أو يرفضه ويقاطعه، حتى أصبح كثير من الناس أسيراً لهذه العادات مسايراً للناس في ذلك إرضاءاً لهم، أو اتقاءاً لسخطهم.(/3)
مسايرة النساء في لباسهن وتقليدهن لعادات الغرب الكافر في اللباس والأزياء وصرعات الموضات، وأدوات التجميل حتى أصبح أمراً مألوفاً لم ينج منه إلا أقل القليل من النساء الصالحات المتربيات في منابت صالحة تجعل رضا الله فوق رضا المخلوق، أما أكثر الناس فقد سقط في هذه الفتنة فانهزمت المرأة أمام ضغط الواقع الشديد، وتلا ذلك انهزام وليها أمام رغبة موليته، واستسلم هو الآخر، وساير في ذلك مع من ساير حتى صرنا نرى أكثر نساء المسلمين على هيئة في اللباس والموضات ينكرها الشرع والعقل، وتنكرها المروءة والغيرة، وكأن الأمر تحول إلى شبه عبودية لبيوت الأزياء، يصعب الانفكاك عنها.
مسايرة الناس في ما اعتادوه اليوم في التوسع في المساكن والمراكب والمآكل بشكل يتسم بالترف الزائد بل بالمباهاة والمفاخرة: حتى ضعف كثير من الناس عن مقاومة هذا الواقع؛ فراح الكثير منهم يرهق جسده وماله، ويحمِّل نفسه الديون الكبيرة، وذلك حتى يساير الناس، ويكون مثل فلان وفلان، والمشكل هنا ليس التوسع في المباحات وترفيه النفس؛ فقد لا يكون بذلك بأس إذا لم يوقع في الحرام، لكن ضغط الواقع، وإرضاء الناس، ومسايرة عقول النساء والأطفال يدفع بعض الطيبين إلى تحميل نفسه من الديون الباهظة، وذلك ليكون مثل غيره في المركب أو المسكن، ولن ينفعه مسايرة الناس من الأقارب والأباعد شيئاً إذا حضره الموت وديون الناس على كاهله لم يستطع لها دفعاً.
2- مسايرة الناس فيما يطرحونه من استفتاءات حول بعض المخالفات الشرعية المعاصرة وذلك من قِبَلِ بعض أهل العلم الذين قد يرون مسايرة الواقع، ويفتون ببعض الأقوال الشاذة والمهجورة، أو يحتجون بقواعد الضرورة، أو رفع الحرج، أو الأخذ بالرخص... إلخ، ولا يخفى ما في ذلك من السير مع أهواء الناس والرضا بالأمر الواقع، والتحلل من أحكام الشريعة شيئاً فشيئاً، والمطلوب من أهل العلم والفتوى في أزمنة الغربة أن يعظُوا الناس، ويرشدوهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر بدل أن يحسِّنوا لهم الواقع ويسوِّغوا صنيعهم فيه. يقول الشاطبي رحمه الله: 'المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً'[ الموافقات، 2/ 128] ويقول أيضاً: 'إن الترخُّص إذا أُخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حرياً بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه... فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقَّة الحرجة، وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها، وطلب الطريق إلى الخروج منها'[ الموافقات، 2/ 247].
وقد لا يكون المفتي قاصداً مسايرة واقع الناس، أو الميل مع أهوائهم؛ لكنه يغفل عن مكر بعض الناس وخداعهم، وذلك في طريقة استفتاءاتهم، وصياغتها صياغة تدفع المفتي من أهل العلم إلى إجابته بما يهوى، وعن هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : 'يحرم عليه-أي على المفتي- إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب أو تحليل محرم، أو مكر، أو خداع أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده؛ بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ و أزاع، وكم من مسألة ظاهرها جميل، وباطنها مكر وخداع وظلم! فالغر ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينفذ إلى مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقوذ، وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق! وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك'[إعلام الموقعين، 4/ 229].
3- مسايرة واقع الأنظمة ببعض التنازلات التي تضر بالدعوة وأهلها:وهذا من أخطر ما يتعرض له أهل الدعوة والعلم والإصلاح، وبخاصة حينما يكثر الفساد، وتشتد وطأته على الناس، ويبطؤ نصر الله ويتسلط الظالمون على عباد الله المصلحين، حينئذ يجتهد بعض المهتمين بالدعوة والإصلاح، ويظهر لهم أن التقارب مع أرباب الأنظمة والسلطان والالتقاء معهم في منتصف الطريق قد يكون فيه مصلحة للدعوة وتخفيف شر عن المسلمين، وكل ما في الأمر بعض التنازلات القليلة التي يتمخض عنها بزعمهم مصالح كبيرة!!(/4)
وليس المقام هنا مقام الرد والمناقشات لهذه الاجتهادات، فيكفي في فشلها وخطورتها نتائجها التي نسمعها ونراها عند من خاضوا هذه التنازلات ورضوا بالأمر الواقع؛ فلا مصلحة ظاهرة حققوها بتنازلاتهم، ولا مفسدة قائمة أزالوها؛ ولقد حذَّر الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن الركون للظالمين المفسدين أشد التحذير؛ وذلك في قوله تعالى:{وإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَينا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً [73] ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً [74] إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً[75]}[سورة الإسراء] .
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأولها: محاولة فتنته عما أوحى الله إليه، ليفتري عليه غيره، وهو الصادق الأمين،لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى:
منها:مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم، ومنها:
مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرمه الله.
ومنها: طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء.
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصِّلها، ليذكِّر بفضل الله على الرسول صلى الله عليه وسلم في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة. ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلاً، وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين هذه، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات دون أن يجد له نصيراً منهم يعصمه من الله.
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً، محاولة إغرائهم لينحرفوا-ولو قليلاً- عن استقامة الدعوة وصلابتها، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة، ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته؛ لأنه يرى الأمر هيناً؛ فأصحاب السلطان لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلية، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق.
وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها، ولو بالتنازل عن جانب منها! ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً، وفي إغفال طرف منها-ولو ضئيلاً- لا يملك أن يقف عند الذي سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء!
4 - مسايرة ركب الغرب في بعض ميادين من قِبَلِ دعاة العصرانية من أبناء المسلمين:
إن الحديث عن العصرانية والعصرانيين يطول، ولكن يكفي أن نذكر هنا ما يتعلق بموضوعنا وهو الحديث عن فتنة المسايرة، ولا أحسب العصرانيين من بني قومنا إلا وقد أركسوا في هذه الفتنة، وظهرت عليهم في أجلى صورها، وهم لا يعترفون بأنها مسايرة؛ ولكنهم يسمونها تجديداً وتطويراً يناسب العصر، وتحت هذا المسمى يقضون على كثير من الثوابت الشرعية، ويتحللون من شرع الله باسم التطوير وهو في الحقيقة مسايرة للواقع الغربي، وتقليد أعمى، وانبهار بإنجازاته المادية، بل الهزيمة النفسية أمامه؛ والغريب في أمر هؤلاء أنهم يرفضون التقليد، ويشنعون على من يقلد سلف الأمة ويتبعهم، وعلى من يبقى على الموروث لا يتجاوزه ولا يطوره، ثم هم في الوقت نفسه يسقطون في تقليد الغرب، ومحاكاته بصورة لا تدع مجالاً للريب والشك؛ وهم الذين يتشدقون بالعقلانية ورفض التقليد!!
ويعرِّف الدكتور الزنيدي العصرانية بقوله:'هي التأقلم مع المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في كل عصر، وربط الإنسان في فرديته وجماعيته بها في دائرة التصور البشري'. ويتحدث الأستاذ محمد حامد الناصر عن بعض شذوذات العصرانيين في ميادين الفقه فيقول: 'لقد خرج العصرانيون علينا بفقه غريب شاذ، يريد تسويغ الواقع المعاصر لإدخال كثير من القيم الغربية في دائرة الإسلام؛ ذلك أن موقفهم من النصوص الشرعية عجيب؛ فإذا كانت الآية واضحة الدلالة، والأحاديث النبوية المتواترة قالوا: إن هذه النصوص كانت لمناسبات تاريخية لا تصلح لعصرنا الحاضر، وإذا كانت أحاديث آحاد؛ قالوا: لا يؤخذ من خبر الآحاد تشريع، ولا تبنى عليه عقيدة، أو ألغوا بعض الأحاديث الصحيحة بحجة أنها سُنَّة غير تشريعية، ثم يتهمون الفقهاء بالجمود وضيق الأفق!! إن هذه التجاوزات لو أخذ بها لن تترك من ثوابت الإسلام إلا وحاولت مسخه أو تشويهه. ومن شذوذاتهم:
1- رفضهم تطبيق الحدود التي فيها رجم، أو قتل، أو قطع عضو إلا بعد الإصرار والمعاودة والتكرار، ويأتون بِشُبَهٍ من هنا وهناك.
2- إباحتهم الربا في البنوك بحجة الحفاظ على اقتصاد البلاد، وأن الربا المحرم عندهم هو الربح المركب.(/5)
3 - موقفهم من المرأة، والدعوة إلى تحريرها بزعمهم، ودعوتهم لها إلى محاكاة المرأة الغربية في عاداتها، وإلى الثورة على الحجاب الشرعي وتعدد الزوجات، يقول محمد عمارة: 'إن تعدد الزوجات وتتابع الزواج، واتخاذ السراري والجواري من سمات عصر الإقطاع والدولة الإقطاعية' . والترابي يقصر الحجاب على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ثم راحوا يسوغون الاختلاط بين الرجال والنساء بعد أن زينوا للمرأة الخروج من بيتها.
4- أحكام أهل الذمة: كما يرى العصرانيون أن أحكام أهل الذمة كانت لعصر غير عصرنا وهي الآن لا تناسب عصرنا!!'.
ولكن الأستاذ الناصر يوضح مفهومهم للتجديد والتطوير قائلاً: 'إن مزاعم التجديد التي رفع هؤلاء لواءها كشفت الحقيقة جلية، وهي أن التجديد لديهم يعني تطوير الدين على طريقة عصرنة الدين عند اليهود والنصارى'. ولذلك فإن التجديد عندهم يعني: هدم العلوم المعيارية: أي علوم التفسير المأثور وأصوله، وعلم أصول الفقه، وعلم مصطلح الحديث.
ويعني: رفض الأحاديث الصحيحة جزئياً أو كلياً بحجة ضرورة ملاءمتها لعقولهم ولمصلحة الأمة، وظروف العصر الحاضر.
ويعني: رفض السنة غير التشريعية أي: فيما يخص شؤون الحكم والسياسة، وأمور الحياة والمجتمع عموماً.
التجديد عندهم يعني: الانعتاق من إسار الشريعة إلى بحبوحة القوانين الوضعية، التي تحقق الحرية والتقدم، ولذلك هاجموا الفقه والفقهاء بلا هوادة.
الاجتهاد والتجديد عندهم يعني: تحقيق المصلحة وروح العصر.
مما سبق يتبين خطر هذه البدعة الجديدة، وأن أصلها مسايرة الواقع، والانهزامية أمام ضغطه مصحوباً ذلك بالجهل بالإسلام أحياناً، وبالهوى والشهوة أحياناً كثيرة.
الآثار الخطيرة لمسايرة الواقع وسبل النجاة منها:
1- الآثار الدنيوية: وذلك بما يظهر على المساير من فقدان الهوية، وذوبان الشخصية الإسلامية، وبما يتكبده من معاناة في جسده ونفسه وماله وولده، وهذه كلها مصادر شقاء بخلاف المستسلم لشرع الله، الرافض لما سواه، المنجذب إلى الآخرة فلا تجده إلا مطمئناً ينظر: ماذا يرضي ربه فيفعله، وماذا يسخطه فيتركه، غير مبالٍ برضى الناس، أو سخطهم.
2 - الآثار الدينية: وهذه أخطر من سابقتها؛ وذلك أن المساير لواقع الناس، المخالف لشرع الله يتحول بمضيِّ الوقت، واستمراء المعصية إلى أن يألفها، ويرضى بها، ويختفي من القلب إنكارها، وما وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.
كما أن المساير لركب المخالفين لأمر الله لا تقف به الحال عند حد معين من المسايرة والتنازل والتسليم للواقع، بل إنه ينزل في مسايرته خطوة خطوة؛ وكل معصية تساير فيها الناس تقود إلى معصية أخرى؛ وهكذا حتى يظلم القلب ويصيبه الران؛ ذلك أن من عقوبة المعصية معصية بعدها، ومن ثواب الحسنة حسنة بعدها؛ وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [الفتاوى، 14/245]:'وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما يبين أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، وكذلك السيئة الثانية قد تكون من عقوبة الأولى، قال تعالى:{ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً [66] وإذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً [67] ولَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً[68]}[سورة النساء] . وقال تعالى:{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا...[69]}[سورة العنكبوت] .
وقال تعالى:{والَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [4] سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بَالَهُمْ [5] ويُدْخِلُهُمُ الجنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ[5]}[سورة محمد] . وقال تعالى:{ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى...[10]}[سورة الروم] '.
وما أجمل ما قاله سيد قطب رحمه الله : 'ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها-ولو يسيراً- لا يملك أن يقف عند ما سلَّم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء'.
3- الآثار الدعوية:إن الداعية الذي تظهر عليه مظاهر مسايرة الواقع يفقد مصداقيته عند نفسه وعند الناس، وإن لم يتدارك نفسه، فقد ييأس ويخسر، ويترك الدعوة وأهلها؛ إذ كيف يساير الواقع من هو مطالب بتغيير الواقع وتسييره؟! وكلما كثر المسايرون؛ كثر اليائسون والمتساقطون؛ وهذا بدوره يؤدي إلى ضعف الدعوة، وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
سبل النجاة أو الوقاية من هذه الفتنة: قد قال لنبيه:{ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً[74]}[سورة الإسراء] . فأول سبيل من سبل النجاة هو سؤال الله، وصدق العزيمة، والأخذ بأسباب الثبات ومنها:(/6)
1- فعل الطاعات، وامتثال الأوامر واجتناب النواهي: كما قال عز وجل:{ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً [66]}[سورة النساء] . فذكر سبحانه في هذه الآية أن شدة التثبيت تكون لمن قام بفعل ما يوعظ به من فعل الأوامر، وترك النواهي، ويشير الإمام ابن القيم رحمه الله إلى أثر الطاعة في الثبات فيقول: 'فالخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت. ومادة التثبيت وأصله ومنشؤه من القول الثابت، وفعل ما أُمِر به العبد، فبهما يثبِّت الله عبده؛ فكل ما كان أثبت قولاً، وأحسن فعلاً؛ كان أعظم تثبيتاً قال تعالى:{ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً [66]}[سورة النساء] .فأثبت الناس قلباً أثبتهم قولاً، والقول الثابت هو القول الحق والصدق'[بدائع التفسير، 1/17].
2- مصاحبة الدعاة الصادقين، الرافضين للواقع السيئ: والسعي معهم في الدعوة إلى الله، وتغيير الواقع السيئ في نفوسهم وأسرهم ومجتمعاتهم، واعتزال أهل الدنيا الراكنين إليها، والمسارعين فيها، والمتبعين لكل ناعق، وترك مخالطتهم إلا لدعوتهم، أو ما تدعو الحاجة إليه؛ لأن المجالسة تؤول إلى المؤانسة والمجانسة.
3 - التفقه في الدين، والبصيرة في شرع الله: لأن المسايرة عند بعض الناس تنبع من جهل بالشريعة وأحكامها ومقاصدها، مع أن أكثر المسايرين المخالفين للشريعة إنما يدفعهم إلى المسايرة الهوى والضعف.
والمقصود: أن من كانت مسايرته بسبب جهله بالشرع، فإن في العلم الشرعي دواءه، ومنعه من المسايرة بإذن الله . وينبغي على طالب العلم الشرعي، والمستفتي في دينه أن يسأل أهل العلم الراسخين فيه، الذين يجمعون بين العلم والورع ومعرفة الواقع، وأن يحذر من أهل العلم الذين يسيرون على أهواء الناس، وتلمس الرخص، والآراء الشاذة لهم.
4 - إفشاء المناصحة وإشاعتها بين المسلمين وبخاصة بين أهل الخير: لأن السكوت على المخالفات، وضعف المناصحة بين المسلمين من أسباب التلبس بالمنكرات، ومسايرة الناس فيها.
من :'فتنة مسايرة الواقع' للشيخ/ عبد العزيز بن ناصر الجليل(/7)
فتنة وبلاء
الله سبحانه وتعالى يقدّر ويفعل ما يشاء، ولولا الفتن والبلاء ما استطعنا أن نميّز الصادق من الكاذب ولا الحق من الباطل، ولكن سنة الله وإرادته في خلقه أن يبتليهم بالسراء والضراء،
والعسر واليسر، والمنشط والمكره، والغنى والفقر، وإدالة الأعداء عليهم في بعض الأحيان، ونحو ذلك من الفتن التي تصب فيما بعد في بحر فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة، والشهوات المعارضة للإرادة.
وهنا المحك الحقيقي، أمامك طريقان واضحان: الحق والباطل، فمن وقفت أمام الشبهات ثابتةً ثبات الجبال لا تتزلزل بما عندها من قوة إيمان، دل ذلك على خير وقوة إيمان وصدق عقيدة.
ومن صمدت في مواجهة الشهوات، بردِّها، وعدم خوضها امتثالاً لأمر الله ورسوله كانت تلك المؤمنة الصادقة.
أما من مالت نفسها للشبهات والشهوات تلعب بها من كل جانب حتى تصرفها عن أمور دينها وواجباتها، فهي العاصية المبتلية، المفتونة بدنياها.
وهذا ابتلاء من الله ليعلم من تشكر ومن تكفر، وما الجنة إلا لمن شكرت، والنار لمن كفرت والعياذ بالله.
وفي وقت الفتن والنوازل والكوارث والمحن، يبرز دور التوحيد، ولذلك إذا انقطعت في مكان لا ماء فيه ولا طعام زاد التوحيد في قلبك : ?فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون?.
تلفّت يمنةَ ويسرةَ فهل ترين إلا مبتلى؟ وهل تشاهدين إلا منكوباً؟!
أيها الشامت المعير بالدهر **** أأنتَ المبرأُ الموفور؟!
كم من المصائب، وكم من الصابرين، فلست أنت وحدك المصابة بل مصابك أنت بالنسبة لغيرك قليل، كم من مريض تأثّر بنار العدو، وكم من أسير يذوق مر الحياة، وكم من أرملة فقدت رضيعها وزوجها وبيتها، كم وكم؟.
آن لك أن تتعزين بهؤلاء، وأن تعلمي علم اليقين أن هذه الحياة سجن للمؤمن، ودار للفتن والبلاء.
ورددي دائماً)لاحول ولاقوة إلا بالله ) وأبشري بزوال البلاء، وإجابة الدعاء، والنصر على الأعداء.
هذا مقال كتبته لكم لعلكم تستفيدوا منه فالفتن والمصائب أصبحت من أمامنا ومن خلفنا وعن يميننا وعن شمالنا، والله المستعان وعليه التكلان، والمقال هذا لـ د.عائض القرني .
وأخيراً أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم عند البلاء من الصابرين وعند النعماء من الشاكرين آمين.
مشاركة للأخت أم عمر - نقلا عن منتدى حوارات.
http://muslema.comالمصدر(/1)
فتنة الغرب وجرائمهم
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
صَفّاً بأَلْوانِ الضَّلالِ وأوعَبُوا
عَجبَاً ! حُشُودُ المجْرِمين تَجمّعُوا
مالاً يُمَدُّ و أُعطياتٍ تُنْهَبُ
جَادُوا لإفسادِ الخليقةِ كُلِّها
خَدَراً بَهَا يَسْري وفِيْهِ تُغَيَّبُ
سَعْياً إلى نَهْبِ الشُّعوبِ إذا هَوَتْ
أفعى تجوُلُ بِها ويَلْدَغُ عَقْرَبُ
دَفَعُوا أمَامَهَمُ " العُيُونَ "! كأنّما
فَمخَالِبٌ نشَبَتْ عَليكَ وأنْيُبُ
أو أنّهم هَوْلُ الوُحُوشِ إِذا عَدَوْا
عِمرانَها ! تَهْوي بها و تُخرَّبُ
وقُوَى تجوَّلُ في المرابعِ تدَّعي
فِيْها تَصِيدُ التَّائهين وتجْذبُ
وبَنَوا " مَواخِيرَ " الخَنَا وتجمَّعُوا
تَطْغى وعِلمَانيَّةٌ تَتَحَبَّبُ
ما بين ألْوانِ الحَداثةِ فِتْنَةٌ
يُغْري ! وأَهواءُ النُّفُوسِ تُرَغِّبُ
فَتَنُوا القُلوبَ بِزُخْرُفٍ كَذِبٍ بِها
اُمَماً تُضَلُّ " بسِحْره " وتُرَحِّبُ
كمْ مِنْ شِعارٍ زَيَّنُوهُ لِيخْدَعوا
تَلْقى بِها عَدْلاً ولا هي تَقْرُبُ
هذي " دِمُقْراطيَّةٌ " كَذَبَتْ فَلا
أيْنَ الأَمَانيْ الزَّاهياتُ ؟! تكذِّبُ !
أيْنَ " المساواةُ " التي زَعَمُوْا لنا ؟!
إلاّ انفلاتَ هَوىً يُضِلُّ ويَصْخَبُ
حُرِّيَّة ؟! لا ! لنْ ترى حُرِّيّةً
تطْغَى و" جِنْسٍ " في المرابِعِ يُلْهِبُ
إلا انْفِلاتَ " مَصَالحٍ " و" مَطَامِعٍ "
أمَلٌ ! ومِيْزانٌ يَجيءُ ويَذهَبُ
وهَوىً يُبَدَّلُ في النّفُوس فيَخْتفي
ــهٍ مُجْرمٍ يَعْلُو هَوَاهُ ويَغْلِبُ
يَتَبَدَّل " الميزانُ " بَيْنَ يَدَيْ سَفِيـ
أبَداً على شَرَهٍ يَثُورُ فَيَنْهَبُ
المجْرِمُونَ هواهُمُ مُتَبَدِّلٌ
ـمَانيّةٌ تَغْزو العُقولَ وتُذْهِبُ
هذي " دِمُقْراطيّة " طَلَعَتْ و " عَلْـ
هام ٍ تَهُزُّ هَوى الضَّعيفِ وتَسْلُبُ
عجَباً ! و " أُسْلوبيَّةٌ "جَاءتْ بأَو
سَ المالِ يَعْبُدُ ! فِتْنَةٌ وتَعَصُّبُ
هذا اشتراكيٌ يَضجُّ وذاكَ رَأ
تَنْمو وتهْدُرُ بالضلال وتَحْطُبُ
كَثُرَتْ شِعَاراتُ الضَّلالِ ولم تَزَلْ
بِخَليطِ أَلْغَازٍ ووهْمٍ يَكْذبُ
والنّاسُ حَيْرى والقلوبُ مَليئَةٌ
لَيْسَتْ لنا صِلَةٌ بِهَا أو مَذْهَبُ
كلُّ الشِّعاراتِ التي وفَدَتْ لنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/1)
فتوى الشيخ أحمد شاكر مفتي مصر في التعاون مع أعداء الاسلام
فتوى الشيخ / أحمد محمد شاكر رحمه الله
مفتي مصر في التعاون مع اعداء الاسلام
هذه الفتوى لها اكثر من مائة سنة
قال الشيخ أحمد شاكر في كتابه كلمة الحق صـ 126- 137ـ تحت عنوان ( بيان إلى الأمة المصرية خاصة وإلى الأمة العربية والإسلامية عامة )"
أما التعاون مع الإنجليز, بأي نوع من أنواع التعاون, قلّ أو كثر, فهو الردّة الجامحة, والكفر الصّراح, لا يقبل فيه اعتذار, ولا ينفع معه تأول, ولا ينجي من حكمه عصبية حمقاء, ولا سياسة خرقاء, ولا مجاملة هي النفاق, سواء أكان ذلك من أفراد أو حكومات أو زعماء. كلهم في الكفر والردة سواء, إلا من جهل وأخطأ, ثم استدرك أمره فتاب واخذ سبيل المؤمنين, فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم, إن أخلصوا لله ، لا للسياسة ولا للناس.
وأظنني قد استطعت الإبانة عن حكم قتال الإنجليز وعن حكم التعاون معهم بأي لون من ألوان التعاون أو المعاملة, حتى يستطيع أن يفقهه كل مسلم يقرأ العربية, من أي طبقات الناس كان, وفي أي بقعة من الأرض يكون . وأظن أن كل قارئ لا يشك الآن, في أنه من البديهي الذي لا يحتاج إلى بيان أو دليل: أن شأن الفرنسيين في هذا المعنى شأن الإنجليز, بالنسبة لكل مسلم على وجه الأرض, فإن عداء الفرنسيين للمسلمين, وعصبيتهم الجامحة في العمل على محو الإسلام, وعلى حرب الإسلام, أضعاف عصبية الإنجليز وعدائهم, بل هم حمقى في العصبية والعداء, وهم يقتلون إخواننا المسلمين في كل بلد إسلامي لهم فيه حكم أو نفوذ, ويرتكبون من الجرائم والفظائع ما تصغر معه جرائم الإنجليز ووحشيتهم وتتضاءل, فهم والإنجليز في الحكم سواء, دماؤهم وأموالهم حلال في كل مكان, ولا يجوز لمسلم في أي بقعة من بقاع الأرض أن يتعاون معهم بأي نوع من أنواع التعاون, وإن التعاون معهم حكمه حكم التعاون مع الإنجليز: الردة والخروج من الإسلام جملة, أيا كان لون المتعاون معهم أو نوعه أو جنسه . وما كنت يوما بالأحمق ولا بالغر, فأظن أن الحكومات في البلاد الإسلامية ستستجيب لحكم الإسلام, فتقطع العلاقات السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية مع الإنجليز أو مع الفرنسيين .
ولكني أراني أبصر المسلمين بمواقع أقدامهم, وبما أمرهم الله به, وبما أعدّ لهم من ذل في الدنيا وعذاب في الآخرة إذا أعطوا مقاد أنفسهم وعقولهم لأعداء الله . وأريد أن أعرفهم حكم الله في هذا التعاون مع أعدائهم, الذين استذلوا وحاربوهم في دينهم وفي بلادهم, وأريد أن أعرفهم عواقب هذه الردة التي يتمرغ في حمأتها كل من أصر على التعاون مع الأعداء.
ألا فليعلم كل مسلم في أي بقعة من بقاع الأرض أنه إذ تعاون مع أعداء الإسلام مستعبدي المسلمين, من الإنجيليز والفرنسيين وأحلافهم وأشباههم, بأي نوع من أنواع التعاون, أو سالمهم فلم يحاربهم بما استطاع, فضلا عن أن ينصرهم بالقول أو العمل على إخوانهم في الدين, إنه إن فعل شيئا من ذلك ثم صلى فصلاته باطلة, أو تطهر بوضوء أو غسل أو تيمم فطهوره باطل, أو صام فرضا أو نفلا فصومه باطل, أو حج فحجه باطل, أو أدى زكاة مفروضة, أو أخرج صدقة تطوعا, فزكاته باطلة مردودة عليه, أو تعبد لربه بأي عبادة فعبادته باطلة مردودة عليه, ليس له في شيء من ذلك أجر بل عليه فيه الإثم والوزر . ألا فليعلم كل مسلم: أنه إذا ركب هذا المركب الدنيء حبط عمله, من كل عبادة تعبد بها لربه قبل أن يرتكس في حمأة هذه الردة التي رضي لنفسه, ومعاذ الله أن يرضى بها مسلم حقيق بهذا الوصف العظيم يؤمن بالله وبرسوله .
ذلك بأن الإيمان شرط في صحة كل عبادة, وفي قبولها, كما هو بديهي معلوم من الدين بالضرورة ، لا يخالف فيه أحد من المسلمين . وذلك بأن الله سبحانه يقول: } ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين { . وذلك بأن الله سبحانه يقول: } ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون { . وذلك بأن الله تعالى يقول: } يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء, بعضهم أولياء بعض, ومن يتولهم منكم فإنه منهم, إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين { .(/1)
وذلك بأن الله سبحانه يقول ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوّل لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم ) .
إلا فليعلم كل مسلم وكل مسلمة أن هؤلاء الذين يخرجون على دينهم ويناصرون أعداءهم ، من تزوج منهم فزواجه باطل بطلاناً أصلياً ، لا يلحقه تصحيح ، ولا يترتب عليه أي أثر من آثار النكاح ، من ثبوت نسب وميراث وغير ذلك ، وأن من كان منهم متزوجاً بطل زواجه كذلك وأن من تاب منهم ورجع إلى ربه وإلى دينه ، وحارب عدوه ونصر أمته ، لم تكن المرأة التي تزوجها حال الردة ولم تكن المرأة التي ارتدت وهي في عقد نكاحه زوجاً له ، ولا هي في عصمته ، وأنه يجب عليه بعد التوبة أن يستأنف زواجه بها فيعقد عليها عقداً صحيحاً شرعياً ، كما هو بديهي واضح . ألا فليحتط النساء المسلمات ، في أي بقعة من بقاع الأرض ليتوثقن قبل الزواج من أن الذين يتقدمون لنكاحهن ليسوا من هذه الفئة المنبوذة الخارجة عن الدين ، حيطةً لأنفسهن ولأعراضهن ، أن يعاشرن رجالاً يظنونهن أزواجاً وليسوا بأزواج ، بأن زواجهم باطل في دين الله ، ألا فليعلم النساء المسلمات ، اللائي ابتلاهن الله بأزواج ارتكسوا في حمأة هذه الردة ، أنه قد بطل نكاحهن ، وصرن محرمات على هؤلاء الرجال ليسوا لهن بأزواج ، حتى يتوبوا توبة صحيحة عملية ثم يتزوجوهن زواجاً جديداً صحيحاً .
ألا فليعلم النساء المسلمات ، أن من رضيت منهن بالزوج من رجل هذه حالة وهي تعلم حاله ، أو رضيت بالبقاء مع زوج تعرف فيه هذه الردة فإن حكمها وحكمه في الردة سواء .
ألا إن الأمر جد ليس بالهزل, وما يغني فيه قانون يصدر بعقوبة المتعاونين مع الأعداء , فما أكثر الحيل للخروج من نصوص القوانين, وما أكثر الطرق لتبرئة المجرمين, بالشبهة المصطنعة ، وباللحن في الحجة . ولكن الأمة مسؤولة عن إقامة دينها ، والعمل على نصرته في كل وقت وحين ، والأفراد مسؤولون بين يدي الله يوم القيامة عما تجترحه أيديهم ، وعما تنطوي عليه قلوبهم .
فلينظر كل امرئ لنفسه ، وليكن سياجاً لدينه من عبث العابثين وخيانة الخائنين . وكل مسلم إنما هو على ثغر من ثغور الإسلام ، فليحذر أن يؤتى الإسلام من قبله . وإنما النصر من عند الله ، ولينصرن الله من ينصره " أهـ كلامه رحمه الله .(/2)
فتوى الشيخ القرضاوي نظرة أصولية
د.فهد بن سعد الزايدي الجهني (*) 25/2/1426
04/04/2005
إن أخطر مجالٍ يتحدث فيه متحدث أو يكتب فيه كاتب هو مجال التحليل والتحريم في دين الله والقول على الله ؛أو بمعنى آخر هو مجال الفتوى في شرع الله، ولعظم الفتوى وخطورتها كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله (فقد تولاها الله بنفسه قال الله:"ويستفتونك قل الله يفتيكم" ثم تولاها رسوله صلى الله عليه وسلم ثم صحابته...)
وإن الحديث في مسائل العلم والفقه يحتاج إلى التأهيل الشرعي الذي ُيمَكن صاحبَه من الخوض فيها، فإذا توفرت هذه المقدمة وهي شرطُ صحةٍ للدخول في مسائل العلم ،فإن المتحدث أو الكاتب (وحديثي في أهل العلم فقط) يحتاج إلى كثيرٍ من الدقة في عباراته ،وقبل ذلك التجرد والتحرر من كل مؤثرٍ نفسي أو ضغطٍ خارجي،ولا يُناقش ويُرجح ويختار إلا من خلال القواعد العلمية المعتبرة فقط!
ومما يلاحظ مما قد يغيب عن بعض المشتغلين بالدعوة والفتوى سدد الله خطاهم على طرق الحق؛ عدم الانتباه أو الغفلة عن بعض الفروقات العلمية الدقيقة التي بينها "علماء أصول الفقه" في حديثهم عن الاجتهاد والفتوى وأحكامهما، ومن ذلك:
اعتقاد أن المسائل التي لا يجوز مخالفتها أو أحداث قول جديد فيها؛هي (المسائل القطعية أو ما تُعورف حديثاً عليها بالثوابت) وماعدا ذلك من المسائل فإنه يجوز إحداث قول جديد فيها،وبناءً على هذا " التأصيل" فكُل مسألةٍ من مسائل الشرع إذا لم يتوفر فيها صفة القطعيات والثوابت فتجوز المخالفة فيها!دون الانتباه للتفريق بين المسائل الاجتهادية أو الخلافية التي لم يدل عليها دليل صريح صحيح يبين الراجح ويرفع الخلاف، وبين المسائل الخلافية التي اختلف فيها العلماء؛ لكن وجد نصٌ أو نصوصٌ صريحة تدل على صحة أحد الأقوال فيها، أو حُكي الإجماع فيها ونقله
الأئمة في كتبهم المعتمدة.فهل تستويان؟
قلت :وهذا محل لبسٍ عند كثيرين، فتأمل!
وقد بيَّنَ الإمامُ ابن القيم وغيُره من العلماء كالإمام الشوكاني رحم الله الجميع،محل اللَبس ،قال ابن القيم رحمه الله ( وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد،كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم )! ثم بيَّن وجلَّى وجه الصواب؛ قال: (والصواب ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فسوغ فيها – إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به – الاجتهاد لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها).
!ذاً : هناك مسائل اجتهادية بان فيه القول الراجح الأقرب للسنة المدلل عليه بنصٍ صحيح صريح، أو حَكى الإجماع فيها غير واحدٍ من أعلام الأمة الذين لنقلهم للإجماع مكانته وثقله!كالأئمة ابن المنذر وابن عبد البر وابن قدامة وقبلهم الإمام الشافعي رحم الله الجميع. ثم ذكر أمثلةً لمسائل وقع فيها الخلاف بين أهل العلم ،إلا أن جمهور العلماء رجحوا قولاً ما تيقنوا صحته بالنظر للأدلة المعتبرة ،ومن هذه الأمثلة قوله رحمه الله( والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف؛وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها كثير مثل: كون الحامل تعتد بوضع الحمل، وأن ربا الفضل حرام، والمتعة حرام،وأن المسلم لا يقتل بالكافر، وأن المسح على الخفين جائز...)
فهل نقول: أن الحامل تعتد أبعد الأجلين، وأن ربا الفضل حلال،ونكاح المتعة حلال، والمسح على الخفين غير جائز !!لورود الخلاف في هذه المسائل أو لأنها ليست من الثوابت؟؟
سؤال عريض ليسمح لي فضيلة الداعية والعالم المعروف الشيخ د. يوسف القرضاوي –حفظه الله- أن أوجَهَهُ إليه، رغبةً في الفائدة والمناقشة العلمية المبنية على التقدير؛ والرغبة للوصول للحق.
فالشيخ الجليل صرح – كما نشر منسوباً إليه في ملحق الرسالة في 26/11/1425هـ من أن مسألة (دية المرأة في القتل الخطأ ) ليست من الثوابت،ولم يثبت فيها إجماع، لذلك لا مانع من الاجتهاد فيها،والوصول لقول جديد وهو: أن دية المرأة تساوي دية الرجل!
وحديثي منصبٌ على التأصيل – وهو المهم – لا على التفريع ،فهذه المسألة أعرضها كنموذج فقط،لأنها متفرعة على هذا الأصل الذي صدر عنه الشيخ حفظه الله.
فهل يطلق الشيخ هذا الكلام على عواهنه؟ أم يُقيدهُ وَيجعلهُ أكثر دقةً وعلمية ؟ وإلا لزم منه ما سبق أن ذكرته سابقاً من الخروج بأقوال شاذةٍ ومهجورة،بحجة أن هذه المسائل ليست من الثوابت! فهو تأصيل غريب يحتاج مِن مثلهِ حفظه الله لضبطٍ وإعادة نظر ، وفق الله الجميع للحق.(/1)
ولا مانع من أن نميل على هذا الفرع الفقهي بشيء من الإيضاح بالقدر الذي يخدم المقصد من هذه المشاركة ،فهذه المسألة خلافية ولكن جمهور أئمة المذاهب وأصحابهم بل وصحابة رسول الله كما نقل ذلك غير واحدٍ من الأئمة ،متفقون على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، في دية النفس،أما الجراح فهي كالرجل كما أشار إليه غير واحدٍ من العلماء.
بل حكى ونقل الإجماع على هذا القول أئمة الإسلام ،وفي مقدمتهم الإمام الكبير الشافعي رحمه الله!حيث نص في "الأم" على ذلك، فقال في فصل "دية المرأة":(لا أعلم مخالفاً من أهل العلم قديماً ولا حديثاً في أن دية المرأة نصف دية الرجل ...إلى أن قال (مبيناً مستند الإجماع لما سئل عنه )فإن قال قائل: فهل في دية المرأة سوى ما وصفت من الإجماع أمرٌ متقدم -يعني عمل للسلف- ..ثم ذكر الخبر ..) الأم (6/137) ، ونقل الإجماع الإمام الفقيه ابن قدامة المقدسي في موسوعة الفقهية العظيمة(المغني) حيث قال ما نصه(قال ابن المنذر، وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل) وذكر القول الآخر ونسبة لابن علية والأصم ووصفه بأنه (قول شاذ!) وبين وجه شذوذه بقوله ( وهذا قولٌ شاذ ،لمخالفته إجماع الصحابة، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ..ثم ساق مستند الإجماع..) أنظر المغني (12/56)
وكذلك الإمام الفقيه المفسر القرطبي المالكي في تفسيره، حيث قال:( وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل) تفسير القرطبي (3/92) وانظر كذلك: التشريع الجنائي الإسلامي للدكتور الشيخ عبد القادر عودة رحمه الله (2/182) فقد قرر ما عليه الجمهور.
فهل يُعقل أن يكون هذا الإجماعُ المشهور من غير مستند؟ كما قال فضيلة الشيخ القرضاوي! ولو كان كذلك للزم منه :أن هؤلاء الأئمة دلسوا على الأمة! وحاشاهم والله؛ ما علمنا عليهم من سوء!
وقد أورد أئمة الحديث والفقه آثاراً بأسانيد صحيحة تنص على فتوى الصحابةٍ وجَريان عملهم على هذا الأمر وقد أمُرِنا باتباع هديهم ، أنظر : إرواء الغليل للمحدث الألباني رحمه الله (7/306).
ومع هذه النقولات من أئمة العلم والفتوى والحديث، فإن طبيعة المسألة تستوجب من الفقيه -مهما كان قدره- أن يناقش هذه الإجماعات مناقشةً علميةً أصولية ً متأنيةً دقيقة ، لا أن ينفي وجودها ويُهون من شأنها!! فإذا كان هذا شأن العلماء الكبار من الذين يقتدي الناس بهم، فكيف الحال مع صغار الطلبة ؟ وكيف نشدد عليهم باحترام العلماء وفقههم وترجيحاتهم ناهيك عن إجماعاتهم، ثم لا يفاجأون بمن يطرح
هذه كله جانباً ولا يعول عليه ولا يقدره قدره !!
أما تمسك به الشيخ حفظه الله من عموم الآية وأن لفظ مؤمن نكرة في سياق الشرط فتعم،فالتوجيه صحيح ونسلم به؛ ولكن النتيجة ليست في محل النزاع! فلا نزاع في أن من قتل امرأة عمداً أنه يقتص منه، ومن قتلها خطأً فعليه الدية، ولكن الخلاف في "مقدار الدية" وليس في وجوبها! والسياق القرآني في آية القتل الخطأ في سورة النساء؛ نبه عددٌ من المحققين إلى أن فيه إشارةٌ إلى قول الجمهور، حيث قال الإمام الجصاص الحنفي رحمه الله؛ في تعليقه على قوله تعالى:"وديةٌ مسلمةٌ إلى أهله": (أن دية المرأة لا يطلق عليها اسم الدية وإنما يتناولها الاسم مقيداً، ألا ترى أنه يقال دية المرأة نصف الدية، وإطلاق اسم الدية إنما يقع في المتعارف المعتاد وهو كمالها) أحكام القرآن (2/336) وهو توجيه دقيق يستحق الاعتبار ولا شك. فتأمّل.
أما ما ذكره بعض من تحدثوا في المسألة نفسها وفي العدد نفسه من الملحق، من أن الظروف تغيرت ولجنة حقوق الإنسان لا تفرق بين المرأة والرجل !
فالسؤال الذي يجب أن يجعله كلُ متحدثٍ في الشرع نصب عينيه: متى كانت رغبات البشر وأهواؤهم التي لا يمكن انضباطها، ومتى كانت التنظيمات واللجان العالمية!
مناطاً شرعياً تناط به الفتوى وتبنى عليه الأحكام الشرعية؟؟ سبحانك هذا بهتانٌ عظيم !وأين العلم والفقه والنظر المجرد من كل هوى وضغوط؟ وبماذا سيجيب ربهُ غداً إذا وقف بين يديه للسؤال والحساب!ما أضعف المسؤول وما أعظم السائل...!
وإن اعتبار المآل ومراعاة الحال له قدْرهُ وتأثيره في "الفتوى" ولكن ليس على حساب الدليل الشرعي والقواعد الشرعية المعتبرة! وإلا لضاعت أحكام الدين واندرست معالمه!
ومما جاء عن فقهاء الأمة المعاصرين وفقهم الله في مجمع الفقه الإسلامي بجدة في دورته الحادية عشرة في باب ضبط الفتوى ما نصه: (يجب الحذر من الفتاوى التي لا تستند إلى أصلٍ شرعي، ولا تعتمد على أدلة معتبرةٍ شرعاً، وإنما تستند إلى مصلحةٍ موهومةٍ ملغاةٍ شرعاً نابعة من الأهواء والتأثر بالظروف والأحوال والأعراف المخالفة لمبادئ وأحكام الشريعة ومقاصدها، وأيضاً: مراعاة المتصدرين للفتيا لضوابط الإفتاء التي بينها العلماء...) وهو كلامٌ في غاية التحرير والضبط، فتأمل وقارِن !(/2)
وهناك مسألة أخرى مهمة تتفرع عن التأصيل الذي نبهت إليه وهو (التفريق بين المسائل الخلافية التي يسوغ الاجتهاد فيها والتي لا يسوغ) وهي مسألة: الإنكار في مسائل الخلاف..وهي تحتاج إلى إيضاحٍ، لأنها مظنة زلل عند البعض.. وأسأل الله الإعانة على ذلك.
وزبدة القول: أن الفرع الفقهي الذي أثار هذه المداخلة ليس هو المقصود، وإنما المقصود تصحيح "التأصيل" والتنبيه إلى بعض الفروقات العلمية الدقيقة التي نبه إليها العلماء ،ولم ابتدع جديداً، بل كلامهم وعلمهم رحمهم الله مبثوث ميسر لكل مدققٍ راغبٍ في إعطاء المسائل حقها من الروية والاهتمام.
وعموماً : فإن العالم المتمكن إذا اجتهد فهو بين الأجر والأجرين، ولا يحط الخطأ من قدره، ولا غضاضة أبداً في مناقشته، ولا نعرف معصوماً لا يُردُ قولُه إلا سيدنا محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم.. وما أردت من هذه المشاركة إلا الفائدة لي ولأخوتي، ثم التنبيه لأهمية الانتباه للقواعد الأصولية في ضبط الفتوى. فإن العلم والفتوى وكذلك المكلفين عموماً أمانةٌ في أعناق العلماء، سنسأل عنها يوم القيامة، وأسأل الله التوفيق والثبات لكل مجتهدٍ حريصٍ على بيان الحق، وما توفيقي إلا بالله.
(*) أستاذ أصول الفقه المساعد بجامعة الطائف(/3)
فتوى الطلاق
الكاتب: الشيخ راشد آل حفيظ الدوسري
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد :
فهذا تلخيص لهذه المسألة من كلام أهل التحقيق ،كشيخ الإسلام ابن تيمية (1)، وتلميذه العلامة ابن القيم (2)، والعلامة الشيخ الفقيه محمد بن صالح العثيمين(3) – رحمهم الله جميعاً – فأقول مستعيناً بالله :
لقد قرر شيخ الإسلام – رحمه الله – بأنه لا فرق بين قوله : أنت طالق ثلاثاً وبين قوله : أنت طالق ، ثم أنت طالق ، ثم أنت طالق ، سواءً نوى التأكيد أم لا ، وسواءً نوى الثلاث أم لا ، وذلك كما في مجموع الفتاوى 33 / 7 ، 8 ، 67 ، 71 ، 73، 76 – 77 ، والاختيارات صـ 256 ــ ، ط القديمة ،صـ 367 ـ، ط دار العاصمة .
وقال القرطبي في تفسيره 3 / 129 :
(( ولا فرق بين أن يوقع ثلاثاً مجتمعتين في كلمة ، أو متفرقة في كلمات )) .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين – رحمه الله – :
(( ليس بين ذلك فرق لا من حيث اللغة ، ولا من حيث الدليل ، ولا من حيث أقوال العلماء )) ا.هـ من رسالته في الطلاق الثلاث ( مخطوطة ) صـ 13 ــ .
قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في الفتاوى 33 / 8 : -
(( وهذا القول – يعني عدم وقوع الثلاث بكلمة أو كلمات إلا طلقة واحدة – منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مثل الزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان ، وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم : مثل طاووس وخلاس بن عمر ومحمد بن إسحاق ، وهو قول داود وأكثر أصحابه ويروى ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر بن محمد ، ولهذا ذهب إلى ذلك من ذهب من الشيعة ، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد بن حنبل )) .
ثم قال – رحمه الله – :
(( وهو الذي يدل عليه الكتاب والسنة ، فإن كل طلاق شرعه الله في القرآن في المدخول بها إنما هو الطلاق الرجعي ... )) ا.هـ
والأدلة على ذلك ما يلي :
أولاً : قوله تعالى : (( الطلاق مرتان )) سورة البقرة ، الآية رقم ( 229 ) .
والطلاق المعتد به ما كان طلاقاً للعدة على وجه مباح مأذون ، فيه ومن طلق ثلاثاً متتابعة فقد وقعت الثانية لغير العدة ، لأنها لا تستأنف بها العدة ، وهذا الطلاق مردود لقوله – صلى الله عليه وسلم – : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) أخرجه مسلم ، في الأقضية ، برقم ( 1718 ) .
ثانياً : قوله تعالى : (( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء )) سورة البقرة ، الآية رقم ( 228 ) .
والقائلون بوقع الثلاث المتعاقبات يقولون إنها لا تستأنف العدة بالطلقة الثانية وهذا دليل على أنها ليس بطلاق وإلا لزم استئناف العدة بها أو مخالفة القرآن بإثبات طلاق بعد الدخول لا عدة فيه .
ثالثاً : قوله تعالى : (( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة )) سورة الطلاق ، الآية الأولى .
فالطلاق المأمور به ما كان في استقبال العدة ، أما الطلاق التابع لطلاق آخر من غير رجعة بينهما لا تستقبل به العدة فلا يكون مأموراً به ، وقد دل الحديث على أن من عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله فهو رد .
رابعاً : حديث (( كان الطلاق الثلاث على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ... )) ، أخرجه مسلم في الطلاق ، برقم ( 1472 ) .
وهذا الحديث عام فيشمل طلاق الثلاث المتتابعات ، والطلاق بكلمة واحدة .
خامساً : حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – في طلاق ركانة لزوجته ثلاثاً في مجلس ، وفيه قوله – صلى الله عليه وسلم – : (( فإنما تملك واحدة فراجعها إن شئت فراجعها )) ، أخرجه الإمام أحمد برقم ( 2387 ) ، 1 / 265 ، وأبو داود في الطلاق برقم ( 2196 ) ، و أبو يعلى ، والحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاراته ، التي هي أصح من صحيح الحاكم ، كما قاله شيخ الإسلام – رحمه الله – في الفتاوى 33 / 13 .
وقال– رحمه الله – : إسناده جيد ، وله شاهد من وجه آخر رواه أبو داود .ا.هـ من الفتاوى 33 / 85 .
وقال ابن القيم – رحمه الله – حكم الأئمة بهذا السند بعينه في حديث تقدير العرايا وأخذوا به وعملوا بموجبه ا.هـ من إغاثة اللهفان 1 / 287 – 288 ، وزاد المعاد 5 / 264 .
وقال – رحمه الله – : (( وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه )) ا.هـ من الإعلام 3 / 31
فظاهر حديث كانة أدل على عدم وقوع الثلاث المتعاقبات منه على المجموعة بلفظ واحد بلا تكرار ، وذلك من ثلاثة وجوه :
الأول : أنه هذا هو المتبادر إلى الذهن .
الثاني : أنه لو كان هناك فرق بين كونها بكلمة واحدة ، أو كلمات لا ستفصل النبي – صلى الله عليه وسلم – منه ، ولبَيَّن له ذلك .
الثالث : أنه لو كان بكلمة واحدة لذكر ، لأنه أخص من كونه في مجلس واحد ، ولا يترك الأخص إلى ما هو أعم .
وقد اعترف كثير من الموقعين للثلاث بأن الطلاق المذكور يشمل ما وقع متعاقباً .(/1)
سادساً : قوله – صلى الله عليه وسلم – : (( من عملا عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) أحرجه مسلم ، في الأقضية برقم ( 1718 ) .
فقوله : (( عملاً)) نكره في سياق الشرط فيعم كل عمل يكون تارة موافقاً وتارة مخالفاً ، وهذا احتراز من العمل الذي لا يقع إلا على وجه محرم فقط كالظهار ، فإنه يعمل به وإن لم يكن عليه أمر الله ورسوله ، فإذا وقع – يعني العمل الذي يوافق تارة ويخالف تارة – على الوجه الذي ليس عليه أمر الله ورسوله فهو رد ، والطلاق من الأعمال .
فإن قيل : هذا يقتضي أنه إذا جمع الثلاث بأي صيغة فإن الطلاق لا يقع أصلاً ؛لهذا الحديث .
فالجواب : أن الأحاديث دلت على وقوع الطلاق واحدة – كحديث ابن عباس وحديث ركانة – اعتباراً بأصل الطلاق وإلفاءً للوصف المحرم .
سابعاً : قوله – صلى الله عليه وسلم – : (( كل شرط ليس في كتاب فهو باطل ، وإن كان مئة شرط ، قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق )) ، أخرجه البخاري برقم ( 2168 ) ، ومسلم ، برقم ( 1504 ) .
فإن قلنا : إن الحديث يعم كل ما التزم به الإنسان وألزم به نفسه ، فإنه يشمل العقود، والفسوخ ، والشروط التي يشترطها أحد المتعاقدين ، ومن الفسوخ الطلاق ، فإنه فسخ وحل لقيد الزوجية أو بعضه ، وإن قلنا : إن الشروط هنا خاصة بما يشترطه أحد المتعاقدين ، فإنه يقاس عليها العقود ، والفسوخ قياساً جلياً ، لا تفاقهما في العلة ، وهي وقوع ذلك على وجه لا يوافق كتاب الله .
فإن قيل : إذا نوى الثلاث بهذا اللفظ : (( أنت طالق ، وطالق ، وطالق )) وأرادها فهل يقع كما نواه ؟
فالجواب : بأن ذلك مشروط بموافقة الشرع ، فإذا خالف الشرع فهو مردود ، فلا بد هنا إن تكون الطلقة الثانية بعد رجعة صحيحة ، والمرأة مستقبلة للعدة ، وهكذا الطلقة الثالثة ، فكما أنه إذا طلقها وهي حائض لا يقع الطلاق على الصحيح – مع أنه قد نواه وأراده فكذلك هنا لمخالفة الشرع في المسألتين ، فإذا وجد ما نع ، أو فات شرط ، فلا طلاق ، حتى وإن كرره ونواه .
ثم بعد ذلك نقول : إن الله إذا حرم الشي فإن المقصود به عدم إيجاده وعدم تصحيحه ، إن كان له حكم بصحة وفساد ، فإذا نفذنا الطلاق الثلاث مع قولنا بتحريمها ، فنخشى أن يكون هذا خلاف مقصود الشارع ، لأن تنفيذه إيجاد له ، والمقصود من التحريم خلاف ذلك .
بهذا يتضح لنا جلياً : أن الطلاق الثلاث لا يقع إلا واحدة ، سواءً كان بكلمة واحدة ، أو بكلمات ، وأنه لا فرق بين الصورتين ، هذا ما اختاره شيخ الإسلام (4) – أعلم أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد فقهاء الصحابة رضي الله عنهم – وتلميذه العلامة ابن القيم (5)، والعلامة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي (6)(7) وتلميذه العلامة الشيخ محمد بن عثيمين (8) – رحمة الله على الجميع – والله أعلم .
وإلى هنا انتهى ما أردناه ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)انظر مجموع الفتاوى 33 / 7 – 98 ، 130 ، 156 .
(2)انظر إغاثة اللهفان ، ط . المعرفة ، 1 / 283 – 338 ، وزاد المعاد ، ط . الرسالة ، 5/ 247 – 271 ، والإعلام ، ط. الجيل ، 3/ 30 – 50 ، وتهذيب السنن ، ط . المعرفة ، 3 / 124 – 128 .
(3)انظر رسالته في الطلاق الثلاث ، مخطوط ، وشرحه للزاد والبلوغ المسجل عن طريق الأِشرطة .
(4)انظر هامش ( 1 ) .
(5)انظر هامش ( 2 ) .
(6)انظر المختارات الجلية ، ط . مركز ابن صالح ، صـ 173 – 174 ـ ، والأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة ، وهي الرسائل الشخصية العلمية المرسلة من الشيخ / عبد الرحمن بن ناصر السعدي إلى تلميذه الشيخ / عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل ، ط . دار المعالي ، ودار ابن الجوزي صـ 93 ــ .
(7)قال العلامة الشيخ / محمد بن عثيمين : كان شيخنا عبد الرحمن بن سعدي – رحمه الله – يفتي بذلك سراً ا.هـ
(8)انظر هامش ( 3 ) .(/2)
فتوى حول اغتيال الحكام
السؤال :
ما الحكم في اغتيال الحكام العرب في ظل خنوعهم و رفضهم فتح أبواب الجهاد ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إن استحلال الدم – أي دم – أمر في غاية الخطورة ، لذلك وجب التأني و التريث عند البحث في مسألة كهذه المعروضة في السؤال ، و فيما يلي بعض ما لا يسعني كتمانه ، و لا يسع السائل إغفاله :
أوّلاً : لا فرق في الحكم بين حاكم عربي أو غير عربي يحكم بلاد المسلمين ، إذ إنّ العبرة بحاله لا بلسانه ، فإذا كان الحاكم كافراً كفراً بواحاً يخرج صاحبه من الملّة ، فيشرع الخروج عليه و خلعه بلا خلاف بين أهل العلم ، فقد روى الشيخان و غيرهما عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أنّه قَالَ : دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم فَبَايَعْنَاهُ فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَ الطَّاعَةِ فِى مَنْشَطِنَا وَ مَكْرَهِنَا وَ عُسْرِنَا وَ يُسْرِنَا وَ أَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَ أَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ ، قَالَ : « إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ » .
ثانياً : إذا ظهر من الحاكم الكفر البواح ، و انتفى المانع من تنزيل الحكم عليه ( كالاشتباه و الإكراه و نحو ذلك ممّا قرّره أهل العلم ، و أفتى أهل العلم بكفره أصلاً ، أو ردّته بعد إيمان ، فقد شرع الخروج عليه ، و حُكِم بإراقة دمه كفراً أو حدّاً .
ثالثاً : تراعى في هذا الباب مصلحة الأمّة ، و حكمة الداعية في الإنكار و التغيير ، فلا يصار إلى خروج يؤدي إلى إراقة دماء المسلمين ، و يغلب على الظن وقوع مفسدة تفوق المصلحة المرجوّة منه أو تُعادلها .
رابعاً : التعليل المذكور في السؤال أعلاه من الخنوع ليس مكفّراً في ذاته ، ما لم يكن مظهراً من مظاهر موالاة الكافرين و معاداة الموحّدين ، كما لا يكفر الحاكم إذا امتنع عن فتح الحدود أمام الشعوب الإسلاميّة المتعطّشة للجهاد في سبيل الله ، القادرة عليه ( عدداً و عُدّةً و استعداداً ) ما لم يسقط وجوب الجهاد بالكلّيّة ، و يتخذ حظره سياسةً رسميّة لا رجعة عنها و لو بعد حين ، أمّا إن اعتقد سقوط الجهاد مطلقاً ، فقد خرج من الإسلام بالكلّية ، خروجاً يشرع معه الخروج عليه .
خامساً : إراقة الدم بالاغتيال أو غيره من مظاهر الخروج على الحاكم سواءٌ في الحكم الشرعي ، فإذا كان الخروج مشروعاً فلا يتغيّر حكمه بتغيّر آليّاته ، و إذا كان محرّماً فهو حرام بأيّ آليّة كان .
و أخيراً – أخي الدكتور السائل _ أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً لخير القول و العمل ، و أن يعصمنا من الحَيف و الضلالة و الزلل .
« اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِى إِلَيْكَ غَيْرَ » .
« اللَّهُمَّ إني أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِى الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِى الْغَضَبِ وَالرِّضَا وَالْقَصْدَ فِى الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَلِذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَمِنْ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ » .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته(/1)
فتوى حول الحساب و الصراط
السؤال :
أخبرني أحدهم أن المرور على الصراط المستقيم ليس نهاية الحساب .... فقبل أن يدخل الناس الجنه يسألون عن الناس الذين قاموا بغيبتهم فيؤخذ من حسناتهم و تعطى لمن اغتابوه ... ثم يرمى في النار, فهل هذا صحيح ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إن حساب الله تعالى للناس يوم القيامة يبدأ بنصب الموازين ، قال اللَّهِ تعالى : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ ) الآيَةَ .
و بعد ذلك يكون المرور على الصراط الذي ينصب على متن جهنّم و يجوزه العباد على حسب أعمالهم ، فمنهم من يوبقه عمله فتلقفه كلاليبه و تلقي به في النار جزاءً وِفاقاً ، و من جازه دخل الجنّة ، فقد روى الشيخان و أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلّم قال : « يُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَىْ جَهَنَّمَ ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ ، وَ لاَ يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلاَّ الرُّسُلُ ، وَ كَلاَمُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ . وَفِى جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ » . قَالُوا نَعَمْ . قَالَ « فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو » .
و لا أعلم دليلاً على أنّ الحساب يكون بعد جواز الصراط ، و لا أحداً ذهب إلى هذا القول من أهل العلم .
أما المقاصة لحقوق العباد فهي حق ، و هي غاية العدل ، فقد روى مسلم و الترمذي و أحمد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ » . قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ . فَقَالَ : « إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِى قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّارِ » .
و ليس في هذا الحديث ما يدل على كون ذلك بعد جواز الصراط ، فمن زعم ذلك فعليه الدليل .
و الله تعالى أعلم .(/1)
فتوى حول ظاهرة الإرجاء
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
دار الوطن
صورة المطوية
فتوى رقم (21436) وتاريخ 8/4/1421هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من عدد من المستفتين المقيدة استفتاءاتهم بالأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (54121) وتاريخ 7/11/1420هـ. ورقم (1026) وتاريخ 17/2/1421هـ. ورقم (1016) وتاريخ 7/2/1421هـ. ورقم (1395) وتاريخ 8/3/1421هـ. ورقم (1650) وتاريخ 17/3/1421هـ. ورقم (1893) وتاريخ 25/3/1421هـ. ورقم (2106) وتاريخ 7/4/1421هـ.
وقد سأل المستفتون أسئلة كثيرة مضمونها: ( ظهرت في الآونة الأخيرة فكرة الإرجاء بشكل مخيف، وانبرى لترويجها عدد كثير من الكتاب، يعتمدون على نقولات مبتورة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، مما سبب ارتباكاً عند كثير من الناس في مسمى الإيمان، حيث يحاول هؤلاء الذين ينشرون هذه الفكرة أن يُخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، ويرون نجاة من ترك جميع الأعمال، وذلك مما يسهل على الناس الوقوع في المنكرات وأمورالشرك وأمور الردة، إذا علموا أن الإيمان متحقق لهم ولو لم يؤدوا الواجبات ويتجنبوا المحرمات ولو لم يعملوا بشرائع الدين بناءً على هذا المذهب.
ولا شك أن هذا المذهب له خطورته على المجتمعات الإسلامية، وأمور العقيدة والعبادة.
فالرجاء من سماحتكم بيان حقيقة هذا المذهب، وآثاره السيئة، وبيان الحق المبني على الكتاب والسنة، وتحقيق النقل عن شيخ الإسلام؛ حتى يكون المسلم على بصيرة من دينه.
وفقكم الله وسدد خطاكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ).
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجاب بما يلي:
هذه المقالة المذكورة هي مقالة المرجئة الذين يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان، ويقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب والنطق باللسان فقط، وأما الأعمال فإنها عندهم شرط كمال فيه فقط، وليست منه، فمن صدق بقلبه ونطق بلسانه فهو مؤمن كامل الإيمان عندهم ولو فعل ما فعل من ترك الواجبات وفعل المحرمات، ويستحق دخول الجنة ولو لم يعمل خيراً قط، ولزم على ذلك الضلال لوازم باطلة منها حصر الكفر بكفر التكذيب والاستحلال القلبي.
ولا شك أن هذا قول باطل وضلال مبين مخالف للكتاب والسنة وما عليه أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً، وأن هذا يفتح باباً لأهل الشر والفساد للإنحلال من الدين وعدم التقيد بالأوامر والنواهي والخوف والخشية من الله سبحانه، ويعطل جانب الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسوي بين الصالح والطالح، والمطيع والعاصي، والمستقيم على دين الله والفاسق المتحلل من أوامر الدين ونواهيه، مادام أن أعمالهم هذه لا تخل بالإيمان كما يقولون.
ولذلك اهتم أئمة الإسلام قديماً وحديثاً ببيان بطلان هذا المذهب والرد على أصحابه، وجعلوا لهذه المسألة باباً خاصاً في كتاب العقائد، بل ألفوا فيها مؤلفات مستقلة كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية: ( ومن أصول أهل السنة والجماعة: أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ).
وقال في كتاب الإيمان: ( ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان، فتارة يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون: قول وعمل ونية واتباع السنة، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح وكل هذا صحيح ).
وقال رحمه الله: ( والسلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان، ولا ريب أن قولهم بتساوي إيمان الناس من أفحش الخطأ، بل لا يتساوى الناس في التصديق ولا في الحب ولا في الخشية ولا في العلم، بل يتفاضلون من وجوه كثيرة ).
وقال رحمه الله: ( وقد عدلت المرجئة في هذا الأصل عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، واعتمدوا على رأيهم وعلى ما تأولوه بفهمهم للغة، وهذه طريقة أهل البدع ). انتهى.
ومن الأدلة على أن الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان وعلى زيادته ونقصانه بها، قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4].(/1)
وقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون:1-9].
وقول الرسول : { الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان }.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الإيمان أيضاً: ( وأصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد. وما كان في القلب فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه. ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه، وهي تصديق لما في القلب ودليل عليه وشاهد له، وهي شعبة من الإيمان المطلق وبعض له ).
وقال أيضاً: ( بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان علم بالاضطرار أن طاعة الله ورسوله من تمام الإيمان. وأنه لم يكن يجعل كل من أذنب كافراً. ويعلم أنه لو قدر أن قوماً قالوا للنبي : نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك، ونقر بألسنتنا بالشهادتين، إلا أننا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه، فلا نصلي ولا نصوم ولا نحج، ولا نصدق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم، ولا نفعل شيئاً من الخير الذي أمرت به. ونشرب الخمر، وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك ونأخذ أموالهم، بل نقتلك أيضاً ونقاتلك مع أعدائك، هل كان يتوهم عاقل أن النبي يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم أهل شفاعتي يوم القيامة، ويرجى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار. بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به، ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك ). انتهى.
وقال أيضاً: ( فلفظ الإيمان إذا أطلق في القرآن والسنة يراد به ما يراد بلفظ البر وبلفظ التقوى وبلقظ الدين كما تقدم. فإن النبي بين أن الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. فكان كل ما يحبه الله يدخل في اسم الإيمان. وكذلك لفظ البر يدخل في جميع ذلك إذا أطلق، وكذلك لفظ التقوى، وكذلك لفظ الدين أو دين الإسلام. وكذلك روي أنهم سألوا عن الإيمان فأنزل الله هذه الآية: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ [البقرة:177] الآية ) إلى أن قال: ( والمقصود هنا أنه لم يثبت المدح إلا على إيمان معه العمل، لا على إيمان خال من عمل ).
فهذا كلام شيخ الإسلام في الإيمان، ومن نقل عنه غير ذلك فهو كاذب عليه.
وأما ما جاء في الحديث أن قوماً يدخلون الجنة لم يعملوا خيراً قط، فليس هو عاماً لكل من ترك العمل وهو يقدر عليه. وإنما هو خاص بأولئك لعذر منعهم من العمل، أو لغير ذلك من المعاني التي تلائم النصوص المحكمة وما أجمع عليه السلف الصالح في هذا الباب.
هذا واللجنة الدائمة إذ تبين ذلك فإنها تنهى وتحذر من الجدال في أصول العقيدة لما يترتب على ذلك من المحاذير العظيمة، ونوصي بالرجوع في ذلك إلى كتب السلف الصالح وأئمة الدين المبنية على الكتاب والسنة وأقوال السلف، وتحذر من الرجوع إلى الكتب المخالفة لذلك، وإلى الكتب الحديثة الصادرة عن أناس متعالمين لم يأخذوا العلم عن أهله ومصادره الأصيلة. وقد اقتحموا القول في هذا الأصل العظيم من أصول الاعتقاد، وتبنوا مذهب المرجئة ونسبوه ظلماً إلى أهل السنة والجماعة، ولبسوا بذلك على الناس، وعززوه عدواناً بالنقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - وغيره من أئمة السلف بالنقول المبتورة، وبمتشابه القول وعدم رده إلى المحكم من كلامهم. وإنا ننصحهم أن يتقوا الله في أنفسهم، وأن يثوبوا إلى رشدهم ولا يصدعوا الصف بهذا المذهب الضال، واللجنة أيضاً تحذر المسلمين من الاغترار والوقوع في شراك المخالفين لما عليه جماعة المسلمين أهل السنة والجماعة.
وفق الله الجميع للعلم النافع، والعمل الصالح، والفقه في الدين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
[اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء]
الرئيس/ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ.
عضو/ عبدالله بن عبدالرحمن الغديان.
عضو/ بكر بن عبدالله أبو زيد.
عضو/ صالح بن فوزان الفوزان.(/2)
فتوى حول قروض الإسكان
السؤال :
المصارف هنا توزع فى قروض عقارية لشراء أو بناء منزل و ذلك عن طريق رهن أي شى بالمقابل و المشكلة هنا أن هناك 2 % فائدة و مدة ترجيع هذا القرض طويلة جداً 65سنة فهل هذه المدة كما يقولون فى المصرف خدمات مصرفية مع العلم لا توجد طريقة الى البناء الا هذه والمرتب لا يتجاوز 250 دينار افيدونا بارك الله فيكم .
السؤال :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
لا أدري إن كان الاثنان في المائة يُدفَع مرّة واحدة خلال مدة العقد التي قد تزيد عن ستّين سنة ، أو يُدفعان مرّةً كلّ سنةٍٍٍ ، فإن كانا يٌدفَعان مرّةً واحدةً لِقاء خدمات مُحدّدةٍ معلومة ، لا يؤثّر فيها تأخر السداد ، فقد يكون الأمر لقاء خدمات حقيقيّة ، و مع ذلك فلا بدّ من التأكد قبل إجراء العقد ، و لا بأس في العقد في هذه الحال و الله أعلم .
أمّا إن كان المبلغ الزائد عن قيمة المنزل ، يُدفَع سنوياً ، أو أنّه يزيد في حال التأخّر عن السداد ، أو كانت هناك زيادة أخرى - مهما كان مقدارها – يدفعها المقترض مقابل الأجل ؛ فهذه الزيادة رِبَويّة و لا أثر لتسميتها فوائد أو رسوم خدمات أو غير ذلك ، إذ إنّ العبرة في العقود بالمقاصد و المعاني ، لا بالألفاظ و المباني كما هو مقرّر عند أهل العلم .
و على من أراد الحصول على قَرضٍ لبناء مسكن أو غير ذلك أن يحتاط من الربا ، و لا يتوسّع في باب الضرورات ، لأنّ الضرورة تُقدّر بقَدَرِها ، و لا يُقدم على طَلبِ قرض بالصيغة المذكورة في السؤال إلا إذا كان لا يستطيع تأمين مسكن يؤويه و أهله و بنيه بأيّ وسيلة مشروعة .
و من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه .(/1)
فتوى حول كذب المخطوبة على خطيبها
السؤال :
انا فتاة قد تزوجت جديدا و قامت علاقتي مع زوجي على الصدق و الصراحة ، والحمد لله كنا من الناجحين ، و حتى الآن نحن ملتزمون بدين الله .
و لقد تعرفنا على بعض عن طرق الساحة و ببعض المداخلات تم التعارف بالله تعالى وتحت طلب أريد شريكا و طلب الماني يبحث عن زوجة تم الاتفاق والحمد لله تزوجنا وكانت علاقتنا لله تعالى فكنت ابحث عن طريق للجنة وقد اعتبرت انني بزواجي بهذا الرجل الملتزم الذي يخاف على أولاده من الضياع و بظروف الحياة التي تجبره على البقاء ببلاد الكفر ، قد أجاهد بهذه العلاقة والتي أساسها هو الني من الجنة والفوز العظيم والحمد لله رب العالمين .
ولكن حصل أثناء التعارف بعض التعتيم ربما أصفه كذلك فقد كنا نتقارب من بعض عن طريق التعارف الكتابي والوصف ، والحمد لله كنا من الصادقين بإذن الله و لكن حصل و أثناء الحديث أخبرته بأنني اعتمرت رغم أنني لم اذهب للعمرة ولكن لم يكن بالامكان أن اكتب له كيف انني اظن نفسي أعمرت ، وبتتابع الحديث لم يكن هناك مجال لاخباره وخرجنا عن الموضوع ، ولكن بعد الزواج والذي حصل خلال أسبوعين فقط ، والحديث المتتابع تعرضنا لهذه النقطة وبسؤاله لي عن العمرة أخبرته بأنني لم اذهب ولكنني بالقراءة لبعض السور ومتابعة مناسك العمرة ظننتني بإذن الله قد نلت ثواب المعتمر ولكن هذا لا يكفي عني الذهاب للمدينة ومكة المكرمة .
وهنا هاج وقال بأنني قد كذبت عليه وحسبت لي كذبه ولكن الله وحده يعلم بأنني لم يكن بقصدي وبالتوضيح له قال بانني علي الاستفتاء فلجئت اليكم ولعل الله يرشدنا لخير ما يكون ، لقد مررت بضيق شديد فالله وحده يعرف ما بالقلوب ، لا اريد بعد ما وصلت اليه من درجة قرب للحبيب العظيم ان تكون هناك غلطة ولو صغيرة وبعون الله اريد ان ترشدوني هل احتسبت على كذبه وان كان ما العمل للتكفير عنها وجزاكم الله خيرا
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
من توفيق الله تعالى للأخت السائلة أن امتنّ عليها بأمرين
أوّلهما : توفيقها للاقتران بزوج صالح يغار على حرمات الله ، و يغضب لله و ليس لهوىً في نفسه ، بدليل إنكاره الكذب عليها حينما ظنّ وقوعها فيه .
و ثانيهما : أنّهما كوّنا معاً أسرةً طيّبةً ترد خلافاتها إلى الشرع الحنيف طلباً لحكمه ، و لا يتعجّل أيٌّ منهما باتخاذ حكم في حقّ صاحبه إلاّ بعد الرجوع إلى أهل العلم ، و هذه نعمة كبرى ، و صمّام أمان يحفظ الأسرة من التفكك و الاختلاف .
و لا بدّ للأخوين الكريمين أن يحمدا الله تعالى على توفيقه لهما إلى هذا الخير العميم .
ثمّ أقول لهما مجيباً على السؤال الوارد أعلاه :
أولاً : فيما يتعلّق بموضوع التعارف عبر وسائل الإعلام أو الاتصالات ( الانترنت ) بقصد الزواج - لا غير – فهذا أمر محمود في ذاته و لا يُذم فاعله من حيث المبدأ ، و لكن له مساوئ قد يقع فيها من اعتمد عليه في البحث عن زوج أو زوجة ، لأن سوء الفهم فيه كثير الوقوع ، و لا يمكن للباحث من خلاله أن يتأكد من صفات من تعرّف عليه ، و فيما وقع للأخت السائلة مثال على ذلك .
ثانياً : أيّاً كان الأمر فإن مجرّد قراءة مناسك و أحكام العمرة في كتاب لا يعتبر أداءً للعمرة على وجه الحقيقة ، و لا ينال صاحبه ثواب المعتمر .
ثالثاً : إن كنتِ تعرفين أن ما فعلتيه ليس اعتماراً ، و ليس لك به أجر العمرة ، حينما قلت ذلك لزوجك ، فإنّ هذا من الكذب ، و الكذب كبيرة كفّارتها التوبة إلى الله تعالى ، و الندم على ما فات ، و العزم على عدم العودة إليه مرّةً أخرى .
أمّا إن كان الأمر ملتبساً عليك ، و لم تكوني تعرفين الحقيقة ، فهذا خطأ منك ، و أنت معذورة بجهلك بالحكم الشرعي ، و لا شيء عليك إن شاء الله ، و لكن عليك أت تحتاطي في المستقبل ، كي لا تقعي ثانيةً في مثل هذا الخطأ ، الذي قد يدمّر حياتك ، و يقضي على سعادتك .
رابعاً : أوصي نفسي و أخي الذي وفّقه الله تعالى للاقتران بالأخت السائلة ، بالحلم و الأناة و الصبر ، و مراعاة ضعف المرأة ، و التجاوز عن هفواتها ، فقد روى ابن ماجة و الدارمي و الترمذي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَ أَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِى » ، قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ .(/1)
و أخيراً : أوصي الأخت السائلة أن تحسن إلى زوجها ، خاصّة و أنّها أقدمت على الاقتران به بنيّة الجهاد ، و الوقوف إلى جانبه فيما يحتاجها إليه في غربته ، و هذا مقصد شريف ينبغي للأخت أن لا تعدِل عنه ، و قد روى الإمام أحمد و غيره بإسناد صحيح عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الْجَنَّةَ مِنْ أَىِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ » .
و اللهَ أسأل لكما و لجميع المسلمين التوفيق لخيري الدنيا و الآخرة(/2)
فتوى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله في رؤية خادم الحجرة النبوية
أما بعد: فقد اطلعت على كلمة منسوبة إلى الشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف بعنوان:" هذه وصية من المدينة المنورة عن الشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف" قال فيها:
( كنت ساهراً ليلة الجمعة أتلو القرآن الكريم، وبعد تلاوة قراءة أسماء الله الحسنى، فلما فرغت من ذلك تهيأت للنوم، فرأيت صاحب الطلعة البهية رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الذي أتى بالآيات القرآنية، والأحكام الشريفة؛ رحمة بالعالمين سيدنا محمد –صلى الله عليه وسلم-فقال: يا شيخ أحمد، قلت: لبيك يا رسول الله، يا أكرم خلق الله. فقال لي: أنا خجلان من أفعال الناس القبيحة، ولم أقدر أن أقابل ربي، ولا الملائكة؛ لأن من الجمعة إلى الجمعة مات مائة وستون ألفاً على غير دين الإسلام، ثم ذكر بعض ما وقع فيه الناس من المعاصي، ثم قال: فهذه الوصية رحمة بهم من العزيز الجبار. ثم ذكر بعض أشراط الساعة، إلى أن قال: فأخبرهم يا شيخ أحمد بهذه الوصية؛ لأنها منقولة بقلم القدر من اللوح المحفوظ، ومن يكتبها ويرسلها من بلد إلى بلد، ومن محل إلى محل، بني له قصر في الجنة، ومن لم يكتبها ويرسلها حرمت عليه شفاعتي يوم القيامة، ومن كتبها وكان فقيراً أغناه الله، أو كان مديوناً قضى الله دينه، أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية، ومن لم يكتبها من عباد الله اسود وجهه في الدنيا والآخرة. وقال: والله العظيم ثلاثاً هذه حقيقة، وإن كنت كاذباً أخرج من الدنيا على غير الإسلام، ومن يصدِّق بها ينجو من عذاب النار، ومن يكذب بها كفر). هذه خلاصة ما في الوصية المكذوبة على رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ولقد سمعنا هذه الوصية المكذوبة مرات كثيرة منذ سنوات متعددة، تنشر بين الناس فيما بين وقت وآخر، وتروج بين الكثير من العامة، وفي ألفاظها اختلاف، وكاذبها يقول: إنه رأى النبي –صلى الله عليه وسلم- في النوم فحمّله هذه الوصية، وفي هذه النشرة الأخيرة التي ذكرنا لك أيها القارئ زعم المفتري فيها أنه رأى النبي –صلى الله عليه وسلم- عندما تهيأ للنوم، فالمعنى: أنه رآه يقظة!
زعم هذا المفتري في هذه الوصية أشياء كثيرة، هي من أوضح الكذب، وأبين الباطل، سأنبهك عليها قريباً في هذه الكلمة –إن شاء الله-، ولقد نبهت عليها في السنوات الماضية، وبينت للناس أنها من أوضح الكذب، وأبين الباطل، فلما اطلعت على النشرة الأخيرة ترددت في الكتابة عنها، لظهور بطلانها، وعظم جراءة مفتريها على الكذب، وما كنت أظن أن بطلانها يروج على من له أدنى بصيرة، أو فطرة سليمة، ولكن أخبرني كثير من الإخوان أنها قد راجت على كثير من الناس، وتداولها بينهم وصدقها بعضهم، فمن أجل ذلك رأيت أنه يتعين على أمثالي الكتابة عنها، لبيان بطلانها، وأنها مفتراة على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حتى لا يغتر بها أحد، ومن تأملها من ذوي العلم والإيمان، أو ذوي الفطرة السليمة والعقل الصحيح، عرف أنها كذب وافتراء من وجوه كثيرة.
ولقد سألت بعض أقارب الشيخ أحمد المنسوبة إليه هذه الفرية، عن هذه الوصية، فأجابني: بأنها مكذوبة على الشيخ أحمد، وأنه لم يقلها أصلا، والشيخ أحمد المذكور قد مات من مدة، ولو فرضنا أن الشيخ أحمد المذكور، أو من هو أكبر منه، زعم أنه رأى النبي –صلى الله عليه وسلم- في النوم أو اليقظة، وأوصاه بهذه الوصية، لعلمنا يقينا أنه كاذب، أو أن الذي قال له ذلك شيطان، ليس هو الرسول –صلى الله عليه وسلم-؛ لوجوه كثيرة منها:
1- أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- لا يُرى في اليقظة بعد وفاته –صلى الله عليه وسلم-، ومن زعم من جهلة الصوفية أنه يرى النبي –صلى الله عليه وسلم- في اليقظة، أو أنه يحضر المولد أو ما شابه ذلك، فقد غلط أقبح الغلط، ولبس عليه غاية التلبيس، ووقع في خطأ عظيم وخالف الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم؛ لأن الموتى إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة لا في الدنيا، ومن قال خلاف ذلك فهو كاذب كذباً بينا، أو غالط ملبس عليه، لم يعرف الحق الذي عرفه السلف الصالح، ودرج عليه أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأتباعهم بإحسان، قال الله –تعالى-:" ثم إنكم بعد ذلك لميتون*ثم إنكم يوم القيامة تبعثون" [المؤمنون:15-16]، وقال النبي –صلى الله عليه وسلم-:"أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة وأنا أول شافع وأول مشفع". مسلم (2278) والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.(/1)
2- الوجه الثاني: أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- لا يقول خلاف الحق، لا في حياته ولا في وفاته، وهذه الوصية تخالف شريعته مخالفة ظاهرة، من وجوه كثيرة –كما يأتي- وهو –صلى الله عليه وسلم- قد يُرى في النوم، ومن رآه في المنام على صورته الشريفة فقد رآه؛ لأن الشيطان لا يتمثل في صورته، كما جاء بذلك الحديث الصحيح الشريف، ولكن الشأن كل الشأن في إيمان الرائي وصدقه وعدالته وضبطه وديانته وأمانته، وهل رأى النبي –صلى الله عليه وسلم- في صورته أو في غيرها؟ ولو جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم-حديث قاله في حياته، من غير طريق الثقاة العدول الضابطين لم يُعتمد عليه، ولم يُحتج به، أو جاء من طريق الثقاة الضابطين، ولكنه يخالف رواية من هو أحفظ منهم، وأوثق مخالفة لا يمكن معها الجمع بين الروايتين، لكان أحدهما: منسوخاً لا يُعمل به، والثاني: ناسخ يُعمل به، حيث أمكن ذلك بشروطه، وإذا لم يمكن الجمع ولا النسخ وجب أن تطرح رواية من هو أقل حفظاً، وأدنى عدالة، والحكم عليها بأنها شاذة لا يعمل به.
فكيف بوصية لا يعرف صاحبها، الذي نقلها عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ولا تعرف عدالته وأمانته، فهي والحالة هذه حقيقة بأن تطرح ولا يلتفت إليها، وإن لم يكن فيها شيء يخالف الشرع، فكيف إذا كانت الوصية مشتملة على أمور كثيرة تدل على بطلانها، وأنها مكذوبة على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومتضمنة لتشريع دين لم يأذن به الله!.
وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-:"من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار". البخاري (109) ومسلم (2) وقد قال مفتري هذه الوصية على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ما لم يقل، وكذب عليه كذباً صريحاً خطيراً، فما أحراه بهذا الوعيد العظيم وما أحقه به إن لم يبادر بالتوبة، وينشر للناس كذب هذه الوصية على رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؛ لأن من نشر باطلاً بين الناس ونسبه إلى الدين لم تصح توبته منه إلا بإعلانها وإظهارها، حتى يعلم الناس رجوعه عن كذبه، وتكذيبه لنفسه؛ لقول الله – عز وجل-:"إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ*إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" [البقرة:159-160]. فأوضح –سبحانه وتعالى- في هذه الآية الكريمة: أن من كتم شيئاً من الحق لم تصح توبته من ذلك إلا بعد الإصلاح والتبيين، والله –سبحانه- قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النعمة ببعث رسوله محمد –صلى الله عليه وسلم-، وما أوحى الله إليه من الشرع الكامل، ولم يقبضه إليه إلا بعد الإكمال والتبيين، كما قال –عز وجل-:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي"[المائدة:3].
ومفتري هذه الوصية قد جاء في القرن الرابع عشر، يريد أن يلبس على الناس ديناً جديداً، يترتب عليه دخول الجنة لمن أخذ بتشريعه، وحرمان الجنة ودخول النار لمن لم يأخذ بتشريعه، ويريد أن يجعل هذه الوصية التي افتراها أعظم من القرآن وأفضل، حيث افترى فيها: أن من كتبها وأرسلها من بلد إلى بلد، أو من محل إلى محل بُني له قصر في الجنة، ومن لم يكتبها ويرسلها حرمت عليه شفاعة النبي –صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة. وهذا من أقبح الكذب ومن أوضح الدلائل على كذب هذه الوصية، وقلة حياء مفتريها، وعظم جرأته على الكذب؛ لأن من كتب القرآن الكريم وأرسله من بلد إلى بلد، أو من محل إلى محل، لم يحصل له هذا الفضل إذا لم يعمل بالقرآن الكريم، فكيف يحصل(/2)
فتوى في العلاج من السحر
السؤال :
هل ما يعتقده البعض من أن رش قليل من الماء و الملح على منزل المسحور لكي يفك السحر أو الحسد أو غيرها صحيح ؟
الجواب :
السحر حقّ لا مراء في إمكانيّة وقوعه ، فقد ذكره الله تعالى في كتابه فقال : ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ) [ البقرة : 102 ] .
و قد ابتلي به البشر مسلمهم و كافرهم ، و بَرّهم و فاجرهم ، و لم يسلم منه حتى رسول الله صلى الله عليه و سلّم ، فقد روى الشيخان و النسائي و ابن ماجة و أحمد عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ : سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ بَنِى زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ ( اليهودي ) ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيءَ وَ مَا فَعَلَهُ ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَ هْوَ عِنْدِي لَكِنَّهُ دَعَا وَ دَعَا ، ثُمَّ قَالَ : « يَا عَائِشَةُ ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِى فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ ؛ أَتَانِى رَجُلاَنِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِى ، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : مَا وَجَعُ الرَّجُلِ ؟ فَقَالَ : مَطْبُوبٌ ( أي مسحور ) . قَالَ : مَنْ طَبَّهُ ؟ قَالَ : لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ . قَالَ : فِي أَيِّ شَيءٍ ؟ قَالَ : فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ ، وَ جُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ . قَالَ : وَ أَيْنَ هُوَ ؟ قَالَ : فِى بِئْرِ ذَرْوَانَ » . فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ فَقَالَ : « يَا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ ، أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ » . قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أَسْتَخْرِجُهُ ؟ قَالَ : « قَدْ عَافَانِى اللَّهُ ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا » . فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ .
و في سلسلة الأحاديث الصحيحة ، للعلامة الألباني برقم 2761 كان رجل [ من اليهود ] يدخل على النبي ، [ و كان يأمنه ] ، فعقد له عقداً ، فوضعه في بئر رجل من الأنصار ، [ فاشتكى لذلك أياماً ، و في حديث عائشة : ستة أشهر ) ] ، فأتاه ملكان يعودانه ، فقعد أحدهما عند رأسه ، و الآخر عند رجليه ، فقال أحدهما : أتدري ما وجعه ؟ قال : فلا ن الذي [ كان ] يدخل عليه عقد له عقدا ، فألقاه في بئر فلان الأنصاري ، فلو أرسل [ إليه ] رجلاً ، و أخذ [ منه ] العقد لوجد الماء قد صفر [ فأتاه جبريل فنزل عليه بـ المعوذتين ) ، و قال : إن رجلا من اليهود سحرك ، و السحر في بئر فلان ، قال : [ فبعث رجلا و في طريق أخرى : فبعث عليا ) [فوجد الماء قد اصفر ] فأخذ العقد [ فجاء بها ] ، [ فأمره أن يحل العقد و يقرأ آية ] ، فحلها ، [ فجعل يقرأ و يحل ] ، [ فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة ] فبرأ ، و في الطريق الأخرى : فقام رسول الله كأنما نشط من عقال ) .
و في ما تقدّم بيانٌ للداء و الدواء ، فإذا تعرّض الإنسان للسحر فليعلم أنّ الذي أنزل الداء قد أنزل دواءه ، فقد روى ابن ماجة و أحمد و غيرهما بإسناد صحيح عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا » و زاد أبو داوود في آخره « وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ » و هي زيادة ضعيفة .
و عليه فلا دواء للسحر إلا بالعودة إلى الله تعالى ، و الإقلاع عن الذنوب ، و الإكثار من الذكر ، و تلاوة القرآن الكريم ففيه الشفاء لمن التمسه فيه ، قال تعالى : ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) [ الإسراء : 82 ] .
و لو عولج المريض بالرقى الشرعيّة القائمة على الكتاب و السنّة و حسْب ، بعيداً عن الشعوذة و الدجل ، فلا بأس ، و في ذلك الخير إن شاء الله ، و ممّا يُرقى به المبتلى بالسحر أو العين أو غير ذلك من الأمراض فاتحة الكتاب ، و آية الكرسي ، و خواتيم سورة البقرة ، و سورة الإخلاص ، و المعوّذتان ، و نحو ذلك من آيات الذكر الحكيم .(/1)
أمّا علاج السحر بسحرٍ مثله ، كما يفعل بعض العوام إذا ابتلوا من السحر بشيء ذهبوا إلى ساحرٍ أو مشعوِذٍ يلتمسون عنده الدواء ، و على يديه الشفاء ، فهذا من الكبائر ، و لا يجوز بحالٍ من الأحوال ، لأنّه يقوم على تصديق الساحر ، و اعتقاد النفع أو الضر فيه ، و قد روى البخاري و أبوداود و أحمد و الدارمي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « مَنْ أَتَى كَاهِناً فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ » .
و روى البخاري أيضاً عن ابْنُ مَسْعُودٍ معلّقاً ( إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ) .
و يدخل في ذلك ما تعارف عليه الناس ممّا لا دليل عليه في الشرع المطهّر ، كتعليق التمائم الشركيّة ، أو الحبّة الزرقاء اعتقاداً في ردّها للعين أو حلّها للسحر ، و كذا رشّ الماء و الملح في أنحاء بيت المسحور ، و الله أعلم .
و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّنا محمّد و آله و صحبه أجمعين .(/2)
فتوى في جمع الصلاة للضرورة
السؤال
أعمل طبيبة ، و أثناء عملي داخل وحدة العناية المركزة تفوتني بعض الصلوات أحياناً ، فهل يجوز لي جمع هذا الوقت مع الوقت الاحق و كيف ؟ ولكم جزيل الشكر و بارك الله في مساعيكم .
الجواب :
ليس لجمع الصلاة سوى عذرين متفقٍ عليهما ؛ هما السفر و المطر ، أمّا فيما سوى ذلك فالضرورات تقدّر بقدرها ، و ما جاء في الجمع بدون عذر فهو منسوخ و الله أعلم .
و قد روى الشيخان و أصحاب السنن و مالك و أحمد و غيرهم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أنه قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : « الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا » .
و الحالة المذكورة في السؤال يحكم عليها بمقدار الضرورة و حسْب ، فإن أمكن أن تؤدي الطبيب أو الممرض أو غيرهما الصلاة لوقتها قياماً أو قعوداً أو إيماءاً ، و لو كان ذلك في غرفة العمليات أو العناية المركّزة ، فليس لهم تأخير الصلاة عن وقتها ، و كذلك الحال إذا وُجد بديل مناوب يشرف على المريض ريثما تؤدى الصلاة المكتوبة .
و لا شك أنّ رعاية المريض أمانة يجب القيام بها أحسن قيام ، و القاعدة الفقهيّة تقول : دَرءُ المفاسد أَوْلى من جلب المصالح ، فإذا شعر الطبيب المناوب أثناء أدائه الصلاة أن المريض في خطر ، أو يحتاج لتدخّله فليقطع الصلاة و ليُسعف مريضه ، ثمّ يؤدّي الصلاة لاحقاً .
أمّا إذا تعذّر ذلك كلّه و اضطر الطبيب لتأخير الصلاة عن وقتها ، فلا بأس في ذلك ، إذ إن الضرورات تبيح المحظورات ، و عليه أن يؤدّي الصلاة فور زوال العذر ، و ليس له أن يؤخّر عدّة صلوات ثمّ يؤدّيها مجتمعة مع صلاة العشاء أو بعدها ، كمن يؤدّي الصلوات الخمس مرّةً واحدة ، و هذا شائع عند الأطباء و غيرهم ممّن يعملون في بعض بلدان أوروبا التي يطول فيها الليل ، و يَقْصُر النهار ، و الله المستعان .
و جمع الصلوات يكون بين الظهر و العصر فيؤخّر الظهر إلى وقت العصر ، أو يقدّم العصر إلى وقت الظهر .
و يكون أيضاً بين المغرب و العشاء فيؤخّر المغرب إلى وقت العشاء ، أو يقدّم العشاء إلى وقت المغرب .
أمّا صلاة الفجر فلا تجمع مع غيرها تقديماً و لا تأخيراً ، و من نام عنها أو نسيها أداها حينما يذكرها ، و من اضطر إلى تأخيرها قضاها حين زوال العذر .
و الله تعالى أعلم و أحكم .(/1)
فتوى في حكم بطاقات الاعتماد
السؤال :
نرجو إبداء الرأي الشرعي حول إصدار البنك بطاقة الاعتماد المعروفة عالمياً باسم ( فيزا ) لعملائها مع ملاحظة ما يلي :
أولا : تصدر الشركة بطاقات بلاستيكية بناء على رغبة أحد عملائها بشروط محددة تحمل اسم عميلها و شعار شركة ( فيزا ) و اسم الشركة المصْدرة للبطاقة .
ثانيا : يقوم العميل عند حاجته لبضاعة أو خدمة بإبراز هذه البطاقة لدى المتاجر و المحالّ التي تقبل التعامل بهذه البطاقة و يحصل على ما يريده و تدفع الشركة قيمتها بعد اطلاعها على الفاتورة الموقعة من العميل المتضمنة استلامه البضاعة أو الخدمة و بيان قيمتها و تسجل الشركة المبلغ على حساب عميلها الذي استلم البطاقة منها و ترسل له كشف حساب يسدده خلال مدة معلومة ( غالباًًً ما تكون 56 يوما ) .
ثالثا: في حالة تأخر حامل البطاقة عن الدفع ، فان البنك يقوم باحتساب نسبة ربوية زائدة على قيمة المشتريات .
فإذا علمت أنّ باستطاعتي تسديد كافة المبالغ قبل نهاية المهلة ، هل يجوز لي استصدار بطاقة من هذه البطاقات ، أم تدخل في الحرمة لوجود احتمال الوقوع في الربا ؟
و جزاكم الله خيراً .
الجواب :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، و بعد
فإنّ موضوع التعامل ببطاقات الاعتماد أو الائتمان ( و منها : فيزا و ماستر كارد و أميريكان إكسبريس و غيرها ممّا اتّحد وصفُه و اختلف مُسمّاه ) من الأمور المصرفيّة المعقّدة غاية التعقيد ، و من أسباب ذلك أنّ شروط إصدارها قد تختلف من مصرف إلى مصرف ، أو باختلاف النظام النقدي من بلد إلى بلد ، أو الاختلاف في حدّ الصرف و مهلة السداد بين عميل و عميل ، و حسب سعة ذات يده أو ضيقها ، و مقدار ما يودعه في المصرف ، و قد عُرضت هذه المسألة على مجامع و لجان فقهيّة عديدة فلم يحظ أيٌّ من آرائها على إجماع .
و إليك خلاصة ما أراه فيصلاً بين الحلال و الحرام في هذه المسألة :
أوّلاً : إذا كان تعاملك مع مصرف إسلامي معروف بتحكيم الشرع في تعاملاته الاقتصاديّة ، من خلال لجنة شرعيّة ترسم سياساته ، و توجّه تعاملاته ، فالأمر فيه سعة إذ إنّ هذه المصارف لا ترتّب على عملائها زيادةً ربويّةً و إن تأخّروا في تسديد ما بذمتهم من ديون لها ، بل غاية ما تلجأ إليه هو الاقتطاع التلقائي من حساب العميل لاستيفاء الدين الثابت في ذمّته من جرّاء الشراء أو السحب النقدي بواسطة بطاقته الائتمانيّة ، فإن لم يفِ رصيده بدَينه أوقِفَت بطاقته لحين السداد .
ثانياً : المعروف عن المصارف الإسلاميّة أنّها تقبض مبلغاً رمزيّاً مقطوعاً على كلّ عمليّة سحب نقدي بواسطة بطاقة الاعتماد ، و هذا المبلغ إن كان محدداً مهما اختلف المبلغ المسحوب فلا بأس ، لأنّه من باب الجعالة ، و يأخذ حُكم أجرة تحويل المال أو إيصاله من بَلَدٍ إلى بَلد ، أمّا إن اشترط المصرف نسبةً مئويّةً تتأثر بالمبلغ المسحوب زيادةً و نُقصاناً ، فهذه صورة من صور الربا ، و لا يجوز التعامل بها ألبتّة ، و الله أعلم .
ثالثاً : الغالب في تعاملات المصارف و شركات الاستثمار الربويّة أنّها تشترط لإصدار بطاقات الاعتماد لعملائها واحداً – على الأقل – من الأمور الثلاثة التالية :
• إمّا أن يكون لديه حسابٌ جارٍ يتم الإيداع فيه بشكل دَوريٍّ دائم كالراتب الشهري ، أو الدخل المستمر ( و من أمثلته الإيجار و عائد الضمان الاجتماعي و النفقة المُلزِمة ) .
• أو أن تكون لديه وديعة استثماريّة محدودة الأجل في المصرف ، بحيث لا يحق له السحب منها إلاّ بعد مضيّ الأجل المتفق عليه ، و أقلّه – فيما أعلم – ثلاثة أشهر .
• أو أن يحبس مبلغاً من حساب التوفير ( أو الادّخار ) العائد له لدى المصرف ، فلا يكون له حق التصرّف فيه بالسحب أو التحويل إلاّ بعد إجازة قسم البطاقات الائتمانيّة للعمليّة , أو مضي أجل على إنتهاء صلاحيّة بطاقته ، أو إلغاء اشتراكه فيها ، أو توقيفها بسبب السرقة أو الضياع .
و يهدف المصرف من اشتراط توفر أحد هذه الأمور أو أكثر ضمان استرداد حقّه ، في حال تأخر العميل عن السداد أو تهرّبه منه أو تنكّره له .
و عليه فإن أوّل الشروط للحصول على البطاقة من مصرف رِبَوي هي التعامل مع ذلك المصرف بفتح حسابٍ أو أكثر فيه ، و إيداع مبلغ نقدي لا يقل عن الرصيد المتاح لمستخدم البطاقة في ذلك الحساب ، و هذا حرام لا يجوز إلاّ لمضطر ، و الضرورة تقدّر بقَدَرها ، و لا يجوز التوسّع فيها بحال .
أضف إلى ذلك أنّ المصرف يُفرّق بين تعاملات عميله بالبطاقة ، حيث يشترط نسبةً مقطوعة محددة على كلّ عمليّة سحب نقدي يجريها العميل ببطاقته ( و هي تتراوح غالباً بين رُبع العُشر و نِصفِه ) و هذا عين الربا .
أمّا في عمليّات الشراء فغالباً ما يقتصر المصرف على اقتطاع المبلغ المصروف بدون زيادةٍ و نقصان ، و لا مُراباة في ذلك .(/1)
و بناءً على ما تقدّم فلو كان الحصول على البطاقة مشروعاً ( و هذا ما لا أتوقّعه من مصرف يتعامل بالربا ) ، و ليس فيه حُرمةٌ أو ما يترتب على عمليّة محرّمة ؛ فلحاملها أن يستخدمها في عمليات الشراء فقط ، شريطة أن لا يتأخّر في السداد عن المدّة المسموح بها ، و أن لا يؤدي ذلك إلى سداد أي مبالغ زائدة عن المبلغ الذي أنفقه ثمناً لمشترياته ، أو للخدمات الأخرى ( غير السحب النقدي ) .
و ليحذر المتعاملون مع المصارف الربويّة من الوقوع تحت طائلة حرب أعلنها الله تعالى عليهم ما لم يبادروا بالتوبة ، فقد قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) [ البقرة ] .
و لا يظن أحدٌ منهم أنّ تنازله عن الزيادة الربويّة لصالح المصرف أو إخراجها في وجه من وجوه البر و الصلة بدون توبةٍ ، يخرجه من المحظور ، و يبيح له متابعة تعامله مع ذلك المصرف ، لأنّ التعامل بالربا أو المساعدة عليه أو المساهمة فيه سواءٌ في الحرمة ، فقد روى مسلم و الترمذي و أحمد عَنْ جَابِر بن عبد الله رضي الله عنه ، قَال : لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ ( هُمْ سَوَاءٌ ) .
هذا و اللهَ أسأل أن يغنيني و السائل و المسلمين بحلاله عن حرامه ، و بطاعته عن معصيته ، و بفضله عمّن سواه .
و الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات .(/2)
فتوى في قضيّة شراكة
السؤال :
دخل معى شخص برأس المال في مشروع تجاري ، و أعطانى المال على أساس الشراكة ، وقال لي : إنّ المشروع في حال نجاحه أو فشله فسيكون لي ، و بالفعل بدأت الإعداد للعمل ، و حدث خلاف بيننا فلمّح لي بأنّه يريد ماله فهل له الحق في ذلك ؟
أم أن هذا المال يعتبر هبةً ؟ مع العلم أنَّه لم يكن بيننا شهودٌ و لا عقود مكتوبة و لا موثّقة يمكن الرجوع إليها عند الخلاف .
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
هناك تناقض واضحٌ في صياغة هذا السؤال ، حيث قال السائل في البدايةِ : إنّه أخذ المال على أساس الشراكة ، ثمّ قال لاحقاً : إنّ شريكه أخبره أنّ المشروع سيكون في حال فشله أو نجاحه ملكاً للسائل ، و عليه فلا يمكن إعطاء حكمٍ فصلٍ في المسألة لعدم ضبط السؤال .
و لكن يحسُنُ بنا توضيح الحكم في كلتي الصورتين على حدةٍ تعميماً للفائدة ، فنقول و بالله التوفيق :
إذا كان المال قد دُفِع بنيّة الشراكة ، بحيث يساهم أحد الشريكين بماله ، و الآخَر بجهده و كدّه فهذا عقدٌ صحيح ، و هو عقد مضاربةٍ ، فإن ربحت الشركة فالربح يُقسَم بينهما على ما اتّفقا عليه عند العقد ، و إن خسرت بغير تفريط من المضارب فالخسارة كلّها على رأس المال ، و ليس على المضارب بجهده منها شيء .
و إن لم يكونا قد حددا نسبة الأرباح لكلّ منهما رُجِع في تحديد ذلك إلى عُرف الناس ، و ما جَرت عليه عاداتهم في مثل هذه الحال ، لأنّ القاعدة الفقهيّة تقول : ( العادة مُحكَّمةٌ ) .
أمّا قول السائل : إنّه لا يوجد بينهما اتفاقيّات أو عقود مكتوبة ، فالكتابة ليست شرطاً في صحّة العقد ، و ما دام الشريكان قد اتّفقا على شيءٍ لزمهما شرعاً الوفاء و الالتزام به ، و إن لم يكُن مكتوباً أو مسجّلاً عند الجهات الرسميّة ، لما رواه البخاري معلّقاً و أبو داود و الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : « الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ » ، و القاعدة الفقهيّة تقول : ( المشروط عُرفاً كالمشروط شرطاً ) .
و الذي يَظهَر لي أنّ قول أحد الشريكين للآخَر : المشروع لك إن رَبح و إن خَسر ، قولٌ مُبهَم يحتاج إلى تفصيل ليُعرَف مراد قائله منه ، فقد يكون أراد تمليك شريكه المال فعلاً ، و أجراهُ مجرى الهبة ، و قد يكون مُرادُه مجرّد تشجيع صاحبه على العَمَل ، فلا بُدّ من استبيان قصده قبل الحُكم عليه .
فإن كان أراد جعله هبةً لشريكه ، فلا يصح له الرجوع في هبته ، لما رواه الشيخان و غيرهما عن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ، أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلّم قال : ( إن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه ) .
و إن كان مراده مجرّد تشجيع صاحبه و حثّه على العمل ، فالمال ماله ، و له الحقّ في فسخ الشرِكة و استرداده متى شاء .
هذا و الله أعلم و أحكم ، و لو رَجَع السائل و شريكه إلى القضاء الشرعي في بلَدهما لفضّ النزاع(/1)
فتوى في مسألة إيجار
السؤال :
إنّ مالك أحد المحال التجاريّة قاضى المستأجر لإجباره على إخلاء المحل ، و حكم القاضي له بذلك ، و أصدر صكاً ( قراراً من المحكمة ) يلزم المستأجر بالإخلاء ، و لكن المالك عَدَل عن رأيه بعد صدور القرار ، و أعاد تأجير المحلّ للمستأجر السابق نفسه ، و اتفق معه على عدم إلزامه بتنفيذ قرار المحكمة بالإخلاء ، أو المطالبة بتنفيذه لاحقاً ، و لكنّه ( المالك ) نكث بعد ذلك و طالب المستأجر بإخلاء المحلّ مُجَدّداً ، فما حُكم الشرع في هذه الواقعة ؟
الجواب :
أقول مستعيناًً بالله تعالى :
إنّ الله تعالى أمرنا بالوفاء بالعقود ؛ فقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) [ المائدة : 1 ]
قال ابن كثير في تفسيره : يَعْنِي الْعُهُودَ و هي مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَ مَا حَرَّمَ وَ مَا فَرَضَ وَ مَا حَدَّ فِي الْقُرْآن كُلّه وَ لا تَغْدِرُوا وَ لا تَنْكُثُوا ... وَ قَالَ زَيْد بْن أَسْلَمَ : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ؛ هِيَ سِتَّة : عَهْد اللَّه وَ عَقْد الْحَلِف وَ عَقْد الشَّرِكَة وَ عَقْد الْبَيْع وَ عَقْد النِّكَاح وَ عَقْد الْيَمِين .اهـ.
و لا يشترط أن يكون العقد مكتوباً ليجب الوفاء به ، بل هو واجب على كلّ حال ، و لذلك سوى العلماء في الحكم بين العقد و العهد ، فروى البخاري قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : ( العقود العهود , ما أحل وحرم ) ، و قال الحافظ ابن حَجَر في الفتح : يعني بالعهود , ما أحل الله و ما حرم و ما فرض و ما حد في القرآن , و لا تغدروا و لا تنكثوا ، و أخرج الطبري عن غيره ـ غير ابن عبّاس ـ أن العقود المذكورة في الآية هي التي يتعاقدها الناس . انتهى ما جاء في الفتح مختصراً .
و روى البخاري و أبو داوود و الترمذي – و اللفظ له - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ صُلْحاً حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَلَّ حَرَاماً وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطاً حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَلَّ حَرَاماً » .
قلت ُ : ما دام المؤجّر و المستأجر قد اتفقا على تجديد العقد ، و عدم إخلاء المحلّ أو المطالبة به ، فالواجب عليهما الالتزام بما اتفقا عليه ، و إن كان ثمّةَ شهود أو حجّة موثّقة - كتابيّاً – فبوسع المستأجر الرجوع إلى القضاء الشرعي في بلاده لإنصافه .
هذا و بالله التوفيق ، و منه نلتمس العون و السداد .
و صلّى الله و سلّم على نبيّنا محمّد و آله و صحبه أجمعين .(/1)
فتوى لفتاة بصدد الزواج
السؤال :
أنا فتاة ابلغ من العمر 22 عاما أنهيت دراستي منذ شهور قليلة و منذ أن أنهيتها و أنا مصابة بالاكتئاب و الإحباط الدائم ، و لا اعرف لحياتي أهمية ، و أصبحت يائسة من الحياة ولديّ مشاكل أخرى في الزواج فإن أمي متوفاة و جدتي تريدني أن أتزوج من أي إنسان يتقدم لي ، و لكنني أريد أن أتزوج بإنسان بصفات معينة ، و هذه الصفات لا يتوفر أي منها في من يتقدمون إلي ، و أشعر أنني سأندم إذا تزوجت من الذين يريدني أهلي أن أتزوجهم ، و أني سأقابل فيما بعد أشخاصا أتمنى لو كنت تزوجت منهم ، و أخشى ان تضعف مقاومتي و صبري فأندم يوم لا ينفع الندم .
و قد فكرت مؤخّراً أن أرسل رسالة بمواصفاتي إلى بريد الجمعة في مجلة الأهرام لكي أرضي نفسي و أهلي ولكن الأهل لن يوافقون على زواجي بهذه الطريقة فهل أجربها أم امتنع عن ذلك ؟ و هل في ذلك ما يسيء إلى كرامتي و أهلي ؟
و هل يوجد حل لمشاكلي ؟ أو أيُّ مضادات للاكتئاب تنصحونني بها ؟
الجواب :
أختي الكريمة !
أنتِ تحتاجين إلى نصيحة أكثر من حاجتك إلى الفتوى ، فمشكلتك في معظمها من الوهم و الخيال الخاطئ ، و لذلك بأنصحك بالتقرب إلى الله تعالى بفعل الطاعات ، و اجتناب السيئات حتى تستشعري حلاوة الإيمان و تطردي اليأس و الاكتئاب الذين تعانين منهما ، فالمرء كلّما تقرب إلى الله أكثر كان الشيطان عنه أبعد ، و لا يزال العبد يتقرّب إلى الله بالنوافل حتى يحبه الله ، كما في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : « إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ » . و من أحبّه الله فحاشاه أن يتخلّى عنه طرفة عين ، و عليه فإني أوصيك بعدّة أمور ينفعك الله بها في دينك و دنياك :
الأمر الأوّل : المواظبة على الفرائض ، و الإكثار من تلاوة القرآن الكريم لأنّ فيه الشفاء لأمراض القلوب و النفوس ، قال تعالى : ( و ننزّل من القرآن ما هو شفاء و رحمة ) .
الأمر الثاني : دعي اليأس و التشاؤم ، فإن ذلك لن يغير من الواقع قيد أنملة ، و أقبلي على الحياة بالتفاؤل و القناعة ، و اعلمي أن اليأس و القنوط من صفات الكافرين ، فقد قال تعالى : ( إنّه لا ييأس من رَوح الله إلا القوم الكافرون ) [ يوسف : 87 ] .
الأمر الثالث : فيما يتعلّق بالزواج أنصحك بطاعة أهلك في هذا الأمر و الاستئناس برأيهم و آراء من تثقين في دينه و عقله ممّن حولك من أهل الخير ، و ما أكثرهم ، و اعلمي أن الإنسان قلا لا ينال كلّ ما يريد في الحياة الدنيا ، إذ إنّها دار ممرّ و ليست دار مقرّ ، فإذا تقدّم لك ذو خُلُق و دين فلا تردّيه ، و هذه وصيّة نبويّة كريمة فقد أخرج أحمد و ابن ماجة و الترمذي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أنّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ » .
الأمر الرابع : موضوع التعارف عبر وسائل الإعلام أو الاتصالات ( الانترنت ) بقصد الزواج - لا غير - أمر محمود في ذاته و لا يُذم فاعله من حيث المبدأ ، و لكن له مساوئ قد يقع فيها من اعتمد عليه في البحث عن زوج أو زوجة ، لأن الغش فيه كثير ، و لا يمكن للباحث من خلاله أن يتأكد من صفات من تعرّف عليه ، و قد سمعنا و اطلعنا على الكثير من حالات التلاعب و العبث بالأعراض من هذا الباب ، إذ إنّ الأمر قد يبدأ بالحلال و حسن النوايا ، و لكنّه لا يلبث أن يتحوّل إلى التوسّع في المحرّمات أو مقارفة المحرّمات و العياذ بالله ، فلا تقدمي – أيتها الأخت الكريمة – على شيئ من ذلك ما لم يكن بمعرفة ولي أمرك أو من يحرص على مصلحتك من المحارم و يقف إلى جانبك عن وعي و دين ، و ثقي بالله و بوعده ، فهو عند ظنّ عبده به ، فقد روى الترمذي و ابن ماجة و أحمد و الحاكم عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أنّه قال : سمعت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: ( قال الله - تبارك وتعالى - : أنا عند ظن عبدي بي ، فليظن بي ما شاء ) . قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ، و لم يخرجاه .
فحسّني ظنّك بالله , و أقبلي على الحياة بتفاؤل و أمل , و لا تردّي خاطباً مرضيّاً في دينه و خلقه , و إن لم يكن ذا سعة في دنياه ، فإن الله هو الرزاق ذو القوّة المتين .
و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّه الأمين و آله و صحبه أجمعين .
و الحمد لله ربّ العالمين .(/1)
فتوى لموظف في الجمارك
السؤال:
أنا موظف أعمل في دائرة الجمارك و بالتحديد في دائرة التخمين حيث نقوم في بعض الأحيان بتخمين مشروبات روحية وغيرها من البضائع الواردة للبلد هل العمل في هذه الدائرة حرام ؟
الجواب :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، و بعد
فأقول مستعيناً بالله تعالى :
إنّ الأصل في الأعمال و الأعيان الإباحة , ما لم يرد الدليل على حُرمتها , و لا يمكنني الإحاطة بظروف عمَلِ السائل من جميع الجوانب ، أمّا ما ورد في سؤاله فظاهره أن الأصل في العمل المذكور السلامة من المحظورات الشرعيّة ، و عليه فلا يمكن إطلاق التحريم على العمل في مصلحة الجمارك ، أمّا إن كُلّف بأعمال محرّمة كالسكوت عن المنكر أو الخوض و المشاركة فيه ( و من صُوَر ذلك تمرير المخدرات و المسكرات و سائر المحرّمات كالدخان و لحم الخنزير و ما إلى ذلك ) أو إيقاع ظلم ببعض المورّدين أو المصدّرين أو المستهلكين ، أو أكل أموال الناس بالباطل ؛ فيصير عَمَله في هذه الأمور محرّماً ، و عليه أن يلتمس رزقه في مجال آخر ، و لا يستمرّ في عمله هذا إلا مضطراً .
و إن وَسِعَه أن لا يباشر العمل فيما حرّم الله بنفسه ، و أمكنه أن ينتقل إلى قسم آخر ، أو يقصر عمَلَه في المباح ، أو لا ينصاع إلى من يأمره بالحرام ، فليستمر في عمله راشداً إن شاء الله .
و على كلّ حال ينبغي لمن وجد نفسه في مكان تنتهك فيه حرمات الله ، و يستحل فيه الحرام ، أو يُحرّم الحلال ، أن يبذل قُصارى جهده في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و عدم السكوت عليه ، بل يتعيّن عليه إنكاره و لو بقلبه ، و ذلك أضعف الإيمان .
و العلم عند الله .(/1)
فتيات التربية الإلكترونية
لم تعد مصادر التربية وزرع الأخلاق محصورة على فئة معينة تنحصر في الأب والأم والمعلم، بل ـ وفي هذا العصر تحديدًا ـ لعبت التقنية دورًا كبيرًا ومهمًا في هذا المجال،
وأضيف إلى تلك الفئات مصادر تربوية أخرى تتمثل في الفضائيات والأفلام والمسلسلات، فكان لها الأثر الأكبر في التوجيه التربوي للناشئة، ثم تتابعت العوامل الخارجية التي زاحمت ليكون لها دور في هذا التوجيه، وهكذا حصلت ثورة الاتصالات وما تبعها من إفرازات جبارة وهائلة تمثّلت في الإنترنت وسهولة الاتصال المباشر الحر والمفتوح مع أي شريحة من المجتمع كانت، ومهما كان التباين في الأعمار أو الأجناس حتى اختلط الحابل بالنابل، وتداخلت الثقافات، وامتزجت المبادئ حسنها مع سيئها، وجميلها مع قبيحها؛ فقد أصبح الباب مشرّعًا على مصراعيه أمام الجميع ليأخذوا من بعضهم ما شاءوا، فيُستدرج الصغير إلى ثقافات الكبير، وتتلقى المراهقة حكايات المطلقة، ثم ما لبثت أن توغلت التقنية بقوة لتداهم البيوت وعبر الإنترنت ببرامج وتقنيات جديدة تتابعت وتسارعت تسارع النار في الهشيم، إذ تجاوزت غرف الحوار عبر الإنترنت مسألة الحوارات المكتوبة بين الأطراف إلى إمكانية ظهور صورة أحدهم للآخر، عبر تقنية [البالتوك] لتمثل وتجسد ما كانت عليه بغايا الجاهلية ممن يُعرفن بصاحبات الرايات الحمراوات، فأصبحت غرف [البالتوك] مواخير لفعل الفاحشة، وحظيرة لتعليم الزنا والعياذ بالله.
وفي الخط الموازي لهذه التطورات الإلكترونية عبر الإنترنت هناك تسارع مرعب لتقنية الاتصالات الحديثة عبر أجهزة الهواتف المحمولة، حتى أنتجت لنا هواتف تحمل تقنية التصوير الفوتوغرافي والفيديو إلى مدة تصل إلى ثلاث ساعات أي بمعدل شريط فيديو كامل.
هذا التسارع التقني كان إحدى البوابات الرئيسة والعملاقة التي ساهمت في تدهور القيم، وانفلات الأخلاق، كما أنها ـ أيضًا ـ أصبحت تمثل سببًا قويًا من أسباب انهدام الأسر وانهيار وتفكك بيوت المسلمين.
وهذا الاستعمال السيئ لتلك التقنيات جعلها مدخلاً جديدًا من مداخل الشيطان، الذي سول بها لكثير من الضحايا التربية الإلكترونية الخاطئة أن يسيئوا استخدامها بشكل تكون عاقبته وخيمة على الضحية عاجلاً وعلى المستخدم آجلاً.. وراح شرها يستشري في المجتمع، فلم تعد تخلو مدارس أو جامعات أو أسواق أو حفلات زفاف من وجود متربصين عابثين وعابثات ممن يمتلكون هذه الأجهزة لكي يقوموا بتصوير المحارم والفتيات والنساء في أوضاع مختلفة تنبئ عن عدم تنبه الضحية إلى أن هناك من يتربص بها؛ ثم تكون الفاجعة عندما تلتقي فنون هذه التقنيات سويًا ويتم تفريغ هذا المشهد من جهاز الاتصال الهاتفي إلى جهاز الاتصال الإلكتروني ثم القيام بنشره عبر الطريقين: رسائل الهاتف المحمول، وشبكة الإنترنت حتى تجد الضحية نفسها أمام آلاف بل ملايين المتصفحين.
هذه الصورة المأساوية سيجد المتصفح للإنترنت مثيلاً لها عشرات، بل مئات القصص التي يندى لها الجبين، ولم يتعد الأمر مسألة التصوير عن بعد، أو التصوير المتعمد، بل لقد أصبح هتك الحرمات وإذلال الأسر المسلمة عبر تصوير اغتصاب فتياتهن من المصائب الكبرى الجديدة والدخيلة على مجتمعاتنا الإسلامية، وإننا أمام جرائم كهذه من الخطأ أن يُقال بأنه مرض موجود في مجتمعاتنا العربية بالأصل، وأن التقنية هي التي ساعدت على ظهوره بهذا الحجم، فما يحدث من جرائم اغتصاب لفتيات أو حتى لأطفال صغار ـ كما حصل ـ هو أمر خارج عن المألوف، وهو سابقة خطيرة ستمثل تهديدًا جادًا، ومنعطفًا حادًا لمجتمعاتنا الإسلامية؛ إذ إنه وسيلة هدّامة لا تهدم الأسرة فحسب؛ بل تهدم المجتمع بأكمله إذا ما أصبحت ديدن المنحرفين ومريضي النفوس والشواذ في المجتمع ممن انسلخوا عن المبادئ والأخلاق، حتى وإن تعاطف الكثيرون مع بعض تلك القضايا الإنسانية ممن وقعن في شراك الاغتصاب والابتزاز كما حصل في إحدى الحوادث، وشُكلت من أجلها جماعة تبنت لها موقعًا على الإنترنت أطلقت على نفسها [جماعة سيوف الأعراض] تنادي بجملة واحدة تقول: 'لن نرضى بأقل من رأس الفاعل وأعوانه'؛ فإن كانت هذه الجماعة قد نشأت مطالبة برأس مجرم واحد من هؤلاء ممن ذاع صيته وتناقلته الصحف والمجلات، فكم مجرم وكم جماعة سوف تفرزها لنا التربية الإلكترونية الخاطئة!! وهل ستكون [جماعة سيوف الأعراض] نواة لمنظمة كبرى توازي في مهامها مهام جماعة التوحيد والجهاد في العراق، أو جماعة أنصار الإسلام في جزيرة العرب، أو جماعة الشباب المؤمن في اليمن، أو جماعة التكفير والهجرة في مصر، لتصبح جميع قضايانا الإسلامية والتربوية تُحل بواسطة جماعات متخصصة في معالجة كل علة تنبت في بلادنا؟! مع الفارق طبعًا في توجه كل جماعة ومدى صدقها.(/1)
إن قضايا الفساد الجنسي التي باتت اليوم تشكل هاجسًا قويًا لدى متصفحي الإنترنت مع كونها شكلت منعطفًا سيئًا لولادة خلق سيئ، إلا أنها ليست وحدها ما نشر في المواقع الإلكترونية, وفي رسائل الهواتف المحمولة، فإن ما تزخر به تلك التقنيات من تصوير لبنات وأعراض المسلمين بغرض اللهو والعبث أمر يفوق التصور الطبيعي للعقل، فلم تعد الرذيلة أمرًا صعب المنال، ويحتاج الوصول إليه قطع المسافات أيامًا وليالي، بل هي ساعات ودقائق ولحظات حتى يتكفل أحدهم بأن يهدي أخاه أو صديقه رسالة عبر الهاتف لا يستغرق انتقالها سوى لحظات من الثانية، وثمنٍ بخسٍ من النقود..
وهذا النوع من القضايا يضعنا أمام هالة من التساؤلات حول خطر هذه الأخلاق الوليدة في مجتمعاتنا نتيجة ولادة هذه المبتكرات، وتضعنا أمام تفكير جاد حول انعكاسات ونتائج التربية الإلكترونية الحديثة، والتي كان أثرها المباشر نابعًا من ذلك العالم المجهول الذي اقتحمت مجتمعاتنا أسواره بغتة دون سابق إنذار أو تهيئة ولن يكون علاجها مختصًا بجانب دون آخر، ولن يردعها فتوى شرعية، بل إن فتوى عاجلة تحرم اقتناء هاتف يمتلك خاصية التصوير ليس هو العلاج الصائب وليست كهذه الفتاوى العاجلة هي ما ينتظرها مراهق عابث، أو شابٌ طائش، كما أن لغة التحريم المطلق دائمًا ما توقع مصداقية العالم أو المفتي في حرج، عندما يكتشف جوانب الصلاح والفائدة في تلك التقنية فيصدر فتوى استدراكية عن جواز اقتناء ذلك الجهاز بضوابط معينة، كما أنه وفي ظل عصر بات العالم فيه قرية صغيرة، نكون قد أعلنا على أنفسنا الحكم بالتوقف عن مجاراة الحياة إن أعلنّا عصياننا على كل مخترعات أو تقنيات تصل إلينا، ونكون قد رفعنا بأنفسنا راية الاستسلام عن مواكبة هذا العصر؛ لأن القادم حتمًا سيكون أصعب وأشد نكالاً، وإن كل تقنية أو مخترع تم اكتشافه لا يمكن إلا وأن يجمع جوانب الخير والشر، وهذه حكمة الله حتى فيمن خلقه ـ سبحانه وتعالى ـ وهو الإنسان ذاته، فهو أيضًا وعاء يحمل نفسًا خيّرة، ونفسًا شريرة، كما أنه ليس من العقل أيضًا أن نتوقع بأن العلاج يكمن في عقار كيميائي ووصفه سحرية بها سيتوقف مسلسل العبث بأعراض الناس، وتصيّد عوراتهم؛ لأن سنة الله في الكون تأبى إلا أن يبقى الصراع بين الحق والباطل ما دامت الحياة، وأن تستمر المعركة بين الإنسان والشيطان ما بقيت السماوات والأرض، فنكون قد تعدّينا حدود العقل والنقل والمنطق إن أردنا أن نبحث عن علاج جذري لهذه الظاهرة لكي نجتثها ونستأصلها؛ فمجتمعات الطهر والنقاء لن تكون إلا في الجنة، أما في الدنيا فهي ساحة صراع لا ينتهي إلا بانتهائها..
ولهذا.. فإننا أمام ما يحصل الآن من فوضى أخلاقية أنتجتها التربية الإلكترونية، يجب علينا أن ننظر إلى الجزء الممتلئ من الكأس لنرى بأن ما حدث سيكون محركًا ودافعًا لتمسك الأسرة المسلمة بعفتها، والاحتراز على حياتها من مداخل الشيطان، فإن الله إن أراد بعبده خيرًا أدخله الجنة رغم أنفه، وهيأ له أسباب دخولها، وهكذا بنات المسلمين إن شاء الله فرب حدث عابر يتطاير خبره ومأساته ليدخل كل بيت حتى يحرّك في فتياتنا غيرة وعودة للالتزام بحجابهن، والحفاظ على أخلاقهن، ما لم تستطع تحريكه مئات الندوات الاجتماعية، والمؤتمرات التربوية
بقلم: عبد الفتاح الشهاري
الإسلام اليوم(/2)
فتياتنا بين التغريب والعفاف
المقدمة
أحبتي في الله
التغريب
مظاهر التغريب
وسائل التغريب
عفوية أم تخطيط ؟
تساؤل وبيان
موقف عقلاء وعاقلات الغرب
العلاج
قنوات العفاف
المقدمة (1)
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (آل عمران:102).
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً" (النساء:1).
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً" (الأحزاب:70، 71).
أما بعد:
فياأيها الإخوة: يطيب لي أن نلتقي في هذه السطور مع موضوع طالما غفل عنه الكثير، موضوع يمس كل فرد في هذه الأمة، فما منا إلا وهو بين أم، أو زوج، أو أخت، أو بنت، أو قريبة، بل كل مسلمة على هذه الأرض لها من وشائج الصلة ما يجعلها مدار اهتمام المسلم، إنه موضوع أمهات المستقبل ومربيات الليوث القادمة، إنه يتحدث عن بناتنا بين العفاف والتغريب.
أيها الإخوة:
أكتب إليكم بقلم المحب المشفق الناصح المنذر. أكتب هذه الكلمات لأسباب عدة أوجزها فيما يلي:
أولاً: نبه المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى خطورة المرأة إذا حادت عن سبيلها وضلت طريقها، ونبه أيضاً إلى أنها ثغرة قد ينفذ منها العدو.
إخوتي: قد يصمد الرجل أمام أعتى عدو وأقواه، يصمد في المعارك والحروب، ولكن هذا الرجل العملاق، هذا الرجل الهمام يفاجأ أنه كثيراً ما ينهار أمام المرأة بمغرياتها وفتنها.
وصدق من قال:
يصرعن ذا الجسم (2) حتى لا حراك به
هي الضلع العوجاء لست تقيمها
أتجمع ضعفاً واقتدارا على الهوى ... وهن أضعف خلق الله أركانا
ألا إن تقويم الضلوع انكسارها
أليس غريباً ضعفها واقتدارها
وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم :"ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب الرجل الحازم من إحداكن ".
كم من رجل معروف بقوة الشخصية وشدة الشكيمة يعجز الرجال عن إقناعه، يتسلل من يعرف خفايا الأمور إلى إحدى نسائه، أمًّا أو بِنْتا أو زَوْجًا، فيصبح الممنوع ممكناً، والمستحيل معقولاً.
وقضية المرأة وأثرها على الرجل عجيبة، فإن أثرها ذو جانب نفسي، ولذلك نبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فقال:" اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " (3).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم :"ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" (4) وفي الحديث الذي يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ".
ولا شك أن هؤلاء النسوة لسن نساء العفاف والطهر والإيمان، فإن هؤلاء النسوة مما يستعان بهن على العصمة من الفتنة، وتاريخنا حافل بأمثال هذه النماذج الشامخة، فما خديجة وعائشة وفاطمة وأسماء، وبقية أمهات المؤمنين، ونساء الصحابة والسلف الصالح إلا أعظم دليل على ذلك، ولنضرب صفحاً عن قصص الشهيرات منهن كأمثال خديجة وغيرها، ولنذكر مثالين: الأول، في عهد الصحابة. والثاني: من القرون التي بعده.
الأول: عن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: إنه لا ينبغي أن أتزوج مشركاً، أما تعلم يا أبا طلحة أن آلهتكم ينحتها عبد آل فلان، وإنكم لو أشعلتم فيها ناراً لاحترقت؟ قال: فانصرف وفي قلبه ذلك ثم أتاها، وقال: الذي عرضت علي قد قبلت. قال: فما كان لها مهر إلا الإسلام(5). قال ثابت البُناني: فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهراً من أم سليم.
فلله در تلك الأيادي التي ربت أنساً وأمثاله.
__________
(1) - أصل هذه الرسالة محاضرة ألقاها فضيلة الشيخ ناصر العمر، وقد أذن لنا مشكورا بإخراجها، ونشرها، حتى يتم النفع بها.
(2) - بيت جرير, يصرعن ذا اللب.
(3) - رواه مسلم.
(4) - متفق عليه.
(5) - إسناده صحيح، انظر سير أعلام النبلاء 2/306.(/1)
الثاني: روى محمد بن سويد الطحان، قال: كنا عند عاصم بن علي (الحافظ المحدث)، ومعنا أبو عبيد وإبراهيم بن أبي الليث وجماعة، وأحمد بن حنبل يضرب، فجعل عاصم يقول: ألا رجل يقوم معي فنأتي هذا الرجل فنكلمه (أي: المعتصم)، قال: فما يجيبه أحد، ثم قال ابن أبي الليث: أنا أقوم معك. قال: وجاء كتاب ابنتي عاصم من واسط، وفيه: يا أبانا إنه بلغنا أن هذا الرجل (المعتصم) أخذ أحمد بن حنبل فضربه على أن يقول: القرآن مخلوق، فاتق الله ولا تجبه، فو الله لئن يأتينا نعيك أحب إلينا من أن يأتينا أنك أجبت" (1).
فبأمثال هؤلاء والله ملكنا الدنيا، شرقها وغربها.
وكلماتنا ستكون أكثر تركيزاً عن اللاتي تفرقت بهن السبل، وضللن طريقهن، وإلا فالأصل هن نساء العفاف والطهر، والشاذ غيرهن.
ثانياً: تساهل كثير من الناس وغفلتهم عما يجري داخل بيوتهم ومجتمعهم.
من الملاحظ -أيها الإخوة- أن كثيراً من الرجال والقائمين على البيوت فيهم الخير، وفيهم الطيبة والصلاح، ولكنهم يغفلون كثيراً وكثيراً عما يجري داخل بيوتهم، فكم لطمة خد، ولحظات إغماء من الرجال قد جاءت حسرة، ولات ساعة مندم.
ثالثاً: _وهو سبب رئيس_ ما يقوم به العلمانيون والمنافقون، والمستغربون تبعاً لأسيادهم من اليهود والنصارى، من تنفيذ مخططاتهم، وتغريب المرأة، وسلخها عن دينها.
أحبتي في الله:
إن الذي يجري في عالمنا الإسلامي أمر رهيب كما تحدث بذلك العلماء، وأخص منهم الأستاذ الجليل محمد قطب، في كتابه الرائع (واقعنا المعاصر)، الذي بين فيه ما يخطط له اليهود والنصارى، وما ينفذ بأيدي العلمانيين والمنافقين والمستغربين (أمر مدهش)، وكثير من أهل الخير والصلاح من دعاة وطلبة علم غافلون عما يجري، فضلاً عن العامة، ولهذا وصلت الحال في كثير من الدول الإسلامية إلى حال يندى لها الجبين.
رابعاً: هل الواقع الذي نعيشه في مجتمعنا ونراه صباح مساء من حال قضية المرأة هو الواقع الذي كان عليه سلفنا قبل مدة قصيرة ربما تقل (في بعضها) عن عشرين سنة؟
تساءلوا بعقل لا بعاطفة وأجيبوا على أنفسكم!! إن كل عاقل لبيب يعلم أن ذلك المجتمع في عمومه لا يمكن مقارنته، بل ولا تستساغ المقارنة مع مجتمعنا اليوم (2).
إن ما يجري وما نراه أمر كما سأبينه بعد قليل، نخشى والله من عقوبة تعم الصالح والطالح، إلا أن يتداركنا الله برحمته. إن ما يجري وما يرى أمر خطير، كما سأبينه بعد قليل، أخشى أن يجر علينا عقوبة تعم الصالح والطالح، إلا أن يتداركنا الله برحمته.
خامساً: هذا المجتمع -وكل مجتمع قام على الدين ونور الرسالة- هو مجتمع طيب، من هذا البلد انبثق نور الهدى فاستنارت به الأرض بأسرها، فحملته بقية الأمة إلى شرق الأرض وغربها، (وفي تاريخ الأمة) فرسخ في قلوبنا (عقيدة) هي أنه كلما ضعفت علاقة المجتمع بالدين والشرع حل فيه الضعف والهوان والفقر، وكلما أعاد النظر مرة أخرى وزادت صلته بدينه وبعقيدته عاد لقوته، وهيمنته، وسيطرته، وبسط الرحمة على الأرض.
من أجل الحفاظ على مجتمعنا، هذا المجتمع الطيب المبارك، ومن أجل أن تعود بقية مجتمعات الأمة إلى الأصل الذي به منحنا الخيرية. أكتب محذراً هذا المجتمع ومذكراً لإخوتي في المجتمعات الأخرى حتى تتبين لهم سنة الله التي أدركتهم، ومنبهاً لهم أن هذا يصبح مثلاً لحالهم فيما مضى، فمن أدرك طريق الهبوط قد يستدل به على طريق الصعود.
وقبل أن أشرع في الموضوع أود أن أعرِّف التغريب؛ لئلا تضيق الأفهام عند لفظه فتظن أن البلاء من الغرب فقط.
التغريب
هو: مجموعة الأفكار والمفاهيم والممارسات المتلقاة من الكفار، والتي يقصد بها صرف الأمة المسلمة عن دينها.
واشتقاقها من الغرب لغالبية دورهم في هذا المجال، وإلا فالكفر ملة واحدة،
وأنبه -أخي القارئ- إلى أنني سأركز على قضية التغريب تركيزاً رئيساً، وأختصر في قضية العفاف لسببين:
السبب الأول: أن الأصل في مجتمعنا هو العفاف، وكل بيت من بيوتنا -والحمد لله- يدرك معنى العفاف وأبعاده، ولذلك سيكون تعرضي له من باب الاختصار والذكرى والتنبيه.
السبب الثاني: أن الطبيب يذكر لمريضه مواطن المرض، وليس بالضروري أن يذكر مواطن العافية، فإنه إذا شرح لمريضه بأنه مريض ووصف له العلاج، فإذا اقتنع المريض بمرضه ووجد العلاج عند الطبيب فذاك، وإن لم يجد فسيبحث عن العلاج عند غيره.
إخوتي:
مهمتي هنا أن أقنع الكثير ممن يقرأ هذه الأحرف أن المرض يدب في أوصال مجتمعنا، فإذا اقتنع وأدرك هؤلاء وأولئك هذه القضية سهل عليهم -بإذن الله- تلقي العلاج والبحث عنه. هذه مسألة أحببت أن تكون مدخلاً لموضوعنا، فأقول والله المستعان.
مظاهر التغريب
__________
(1) - تاريخ بغداد 12/248، 249، وسير أعلام النبلاء 9/264.
(2) - انظر كتابنا مقومات السعادة الزوجية لبيان المعاملة الواجبة لمن قال فيهن قدوتنا صلى الله عليه وسلم (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي).(/2)
ما هي مظاهر التغريب التي نراها تنخر في المجتمع المسلم ؟ إنها مظاهر عدة اختصرها وأوجزها فيما يلي:
أولاً: السفور
هذا الأمر أصبح عاديًّا عند كثير من فتياتنا وبناتنا، والالتزام بالحجاب لم يعد كما أمر الله ، بل ولا كما كنا نعهده في بعض مجتمعاتنا.
ألستم ترون معي المشاهد المخزية المتكررة يومياً، إن من يدخل أسواقنا اليوم قد يرى امرأة محجبة كبيرة في السن وبجوارها فتاة متبرجة، (وإن كانت كاسية)، تلبس الثوب الرقيق، الثوب الذي يصف البشرة، تلبس الغطاء الفاتن، ومن هذه يا ترى؟ إن هذه ابنة تلك _سبحان الله_! هذه المرأة كيف كانت، وكيف أصبحت؟ كيف أصبح أمراً مألوفاً عند هذه المرأة المحافظة المتحجبة أن تسير معها، وأن يكون في بيتها هذه الفتاة الكاسية العارية؟!
لا تتصوروا -أيها الأحبة- أن السفور هو في كشف الوجه فقط -لا- قد يكون كشف الوجه في بعض المجتمعات من أسهل أنواع السفور، وهو خطير ولا شك.
إن السفور أن تغطي المرأة وجهها، ولكنها تمشي وكأنها في صالة عرض لجسمها.
إن السفور أن تلبس الثوب الضيق والعباءة الجذابة منظراً وقصراً، والحجاب الذي يخضع أهل القلوب المريضة.
إن السفور أصبح في كثير من البيوت أمراً غير مستنكر، وهذا ما يزيد الطين بلة _كما يقولون_.
ثانياً: الاختلاط
إن هذا الأمر قد مسخ الفطر، وأفسد الأخلاق في كثير من مجتمعات المسلمين ولا ريب، ففي كثير منها اختلط حابلها بنابلها، وهذه مجتمعات تحتاج إلى نظرة أطول ووقفة أعمق.
ولكن بعضاً ممن لا ينظرون إلى هذا الأمر بشمول يظنون أن الاختلاط لا يكون إلا في المدارس أو الجامعات! أقول لهؤلاء: رويدكم رويدكم، فقد أبعدتم النجعة.
لا شك أن الاختلاط في الجامعات والمدارس جد خطير، ومرحلة متقدمة من المرض، ولكن هناك مجالات أخرى لا تقل خطورة، فالاختلاط في الأسواق أسوأ من الاختلاط في المدارس والجامعات أحياناً، وتجتمع مفاسد الاختلاط في المستشفيات بين الأطباء والطبيبات، بين المرضى والممرضات، بين المريضات والممرضين.
ولا يقل الاختلاط في الحدائق، وبعض الأعراس والمناسبات الاجتماعية، والمطاعم خطورة عن سابقيه.
إن هناك مظاهر كثيرة من الاختلاط تنذر بسخط الجبار -جل جلاله- فإياكم أن تأخذكم الغفلة، وتقولوا: إن الاختلاط تجل عنه مجتمعاتنا.
زعم السفور والاختلاط وسيلة
كذبوا متى كان التعرض للخنا ... للمجد قوم في المجانة أغرقوا
شيئاً تعز به الشعوب وتسبق
ثالثاً: الخلوة
أيها الأحبة:
كم ثلث الشيطان (1) رجلاً وامرأة قد اختليا _سبحان الله_ أيصحب الشيطان فتياتنا؟ نعم، إن هذا الأمر أصبحنا نراه صباح مساء.
ألستم ترون رجالاً قد صحبوا فتيات ونساء في سياراتهم، وواضح من شكل جلوسها وهيئة سائقها أنهما أجنبيان عن بعضهما. إنها صورة من صور الخلوة.
وصورة أخرى؛ إنها بين الخدم والسائقين ونساء البيوت.
أليست هذه خلوة؟ الخلوة هل يرضاها ذو غيرة وشهامة، فضلاً عن أن يكون ذا دين؟
بعض النساء ترفض أن تذهب مع السائق وحدها، بينما تأذن لابنتها أن تخرج مع السائق وحدها.
وهذا -كما قال الأستاذ محمد قطب- امتناع عن الخروج عادة لا عقيدة، لو كان امتناع الأم عقيدة لمنعت ابنتها، ولكنها العادة.
رابعاً: تحديد النسل
هذه الفرية التي بدأت تدب في مجتمعنا، وبدأنا نسمع من جعل تحديد النسل هدفاً من أهدافه.
_سبحان الله، سبحان الله_!! أسمع وتسمعون أن الرئيس الفرنسي يدعو لزيادة النسل، حتى وإن كان عن طريق غير مشروع، وهي دولة تعدادها بعشرات الملايين، ومساحتها وثرواتها لا تقارن بكثير من بلاد المسلمين.
وإن من زار أماكن صرف العلاج في أي بلد مسلم فسيرى عجباً، إن أقل الذي يعرض تكلفة هو وسائل تحديد النسل، بل إن في بعض هذه البلاد يكون من ضمن المعونات التي تقدمها الدول النصرانية لها كميات هائلة من تلك الوسائل. لماذا؟ لأن أعداءنا هم الذين يصنعونها، وهم الذي يصدرونها إلينا لأغراض في نفوسهم..
ذكرت إحدى الصحف المحلية أن رجلاً اتفق هو وزوجته على الاكتفاء بأولاد ثلاثة أو اثنين، فذهب بها إلى المستشفى لعمل عملية يوقف نسلها، وبعد نجاح العملية ذهب الزوج وأولاده لزيارتها، وبعد أن اطمأنوا على أن العملية قد نجحت خرج هو وأولاده، وفي أحد الشوارع وقع لهم حادث توفي على إثره جميع الأولاد.
وكأني بها عقوبة عاجلة قبل الآجلة، والله يمهل ولا يهمل، وإن في ذلك لعبرة.
خامساً: التغريب في اللباس
هل ما تلبسه كثير من بناتنا ونسائنا هو اللباس الشرعي الذي ارتضاه الله ورسوله لنا؟ أبداً وعزة ربنا.
إنه يخرج من دور الأزياء -وإن شئت فارفع الهمزات وأبدل الياء نونا- أتلك الدور في بلاد المسلمين؟ إنها الدور الباريسية الخليعة، والبيوت اللندنية المنحلة.
__________
(1) - إشارة لحديث: "ما خلا رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما" رواه أحمد والترمذي وصححه شيخنا ابن باز.(/3)
والمدهش المحزن أن بعض نسائنا في بعض بلاد المسلمين قد تفصل الأزياء قبل أن تفصل في فرنسا وبريطانيا وغيرها.
إن الأزياء مظهر من مظاهر التغريب ووسيلة من وسائله؛ ولذلك جاء شاعرنا ليقول متحدثاً عن الأزياء وعن اللباس الذي يرى على نساء المسلمين، وأصبح أمراً غير مستنكر حتى لدى بعض الموسومين بالخير، فتراه يلبس بنته إلى حد الركبتين، ويقول: إنها صغيرة:
إن الرماح إذا عدلتها اعتدلت ... ولا تلين إذا كانت من الخشب
ويقول غيره:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا ... على ما كان عوده أبوه
وها هو شاعرنا يقول:
لحد الركبتين تشمرينا
كأن الثوب ظل في صباح
تظنين الرجال بلا شعور ... بربك أي نهر تعبرينا
يزيد تقلصا حيناً فحينا
لأنك ربما لا تشعرينا
إن هذه الأزياء لا تخلو من أمور تجعلها في زاوية الحظر الشرعي، فمثلاً:
التعري الفاضح في بعض هذه الأزياء، ومن أراد التحقق من هذا اللون من ألوان الانحلال فليكاشف مجلات الأزياء ومشاغل الخياطة.
محبة النساء الكافرات والإعجاب بهن، وهذا قادح في كمال عقيدة المسلم والمسلمة.
التشبه باليهود والنصارى وغيرهم، وهذا باب أوسع من أن يبسط.
التشبه بالرجال في اللباس، ولا نزال نسمع بالأزياء الولادية.
هذا فضلاً عن انتهاب ثروات الأمة، وجعل بعض نسائها تلهث وراء هذه الأزياء وتنسى مهمتها الأساس.
سادساً: قضية العادات الاجتماعية
حتى هذه القضية لم تسلم من التغريب، فكثيراً ما يطرق أسماعنا عبارات مثل: أعياد الميلاد للأولاد، وغيرها من الممارسات الدخيلة.
يقول أحد الفضلاء: اتصلت بي امرأة يبدو من حديثها أنها امرأة صالحة، تقول: أنا امرأة ملتزمة أريد أن أقيم حفلاً بمناسبة بلوغ ابني سنة أو سنتين، وهو حفل -كما تقول هي- ملتزم لا محرمات فيه، فما الحكم؟ سبحان الله! من أين جاءتنا هذه العادة، إطفاء شمعة، أو شمعتين، أو ثلاثة، أو عشر.
كثير من العادات والمناسبات محتاجة لأن توزن بميزان الشرع.
سابعاً: قضايا تتعلق بالزواج والتعدد
قضايا الزواج تغيرت وتبدلت، فالزواج الشرعي أدخل عليه ما هو منه براء - الحب قبل الزواج، اختلاء الخاطب بمخطوبته، الخاتم -الدبلة- التي تحفظ عهد الخاطبين -كما يزعمون-، وهناك أمور أخرى تبكي من كان له قلب، وتجعل العقد الشرعي أمراً رسمياً لا غير -والله المستعان- حتى التصورات العامة حول هذا الموضوع لم تسلم، فلا زواج للفتاة إلا بعد الخامسة والعشرين أو أكثر، ولا شاب يتزوج إلا بعد الثلاثين، بدعوى تكوين نفسه.
أما قضية التعدد فهي قضية مؤسفة محزنة، بدأنا نسمع من يناقش وهو متكئ على أريكته، ما رأيك في التعدد؟ _أعوذ بالله_ كيف نبدي رأياً في قضية حسمها القرآن الكريم، وانظر إلى الإجابة، هذا يؤيد، وهذا يعارض، وهذا يؤيد بشروط، وهلم جرا. وتنشر الصحف هذه المناقشات، وهي قضية حسمها القرآن الكريم، والنقاش فيها من حيث الأصل خطير يخشى على دين من يناقشها، وهناك فرق بين أن نناقش هل فلان يناسبه التعدد أم لا؟ وبين أن نناقش أصل القضية.
ثامناً: عمل المرأة في غير مجالها
وهذا المظهر من مظاهر التغريب التي تتفاوت مجتمعات المسلمين في ابتلائها به، فمن غارق فيها، وعائم يقاوم الغرق.
بدأنا نسمع من يتحدث عن قضية عمل المرأة في المصنع، وامتلاء مدارس البنات، فلماذا لا تعمل في المصنع مع المحافظة على العادات الإسلامية؟! هذه الكلمة التي أصبحت كالطابع تقال في كل مناسبة، وتمرر خلالها كثير من المخططات؛ لأن الخيرين طيبون.
وطيبتهم هنا ليست الطيبة الشرعية، فإنهم إذا سمعوا مثل هذا الكلام اطمأنوا، وإذا علموا أن مصنعاً يريد أن تختلط فيه النساء بالرجال، وقال أهله: نحن نحافظ على عاداتنا وتقاليدنا، ونحافظ على عفة المرأة، أجابوا بالرضا والطمأنينة، فما دامت هي معزولة، فما الذي يمنع.
وكما قال محمد قطب: "بطيء ولكنه أكيد المفعول" خطواتهم في هذه المجالات بطيئة ذكية، "ولكنه أكيد المفعول"،أي: أنه سيغرب المجتمع شاؤوا أم أبوا.
هذه بعض مظاهر التغريب، ولكن ما هي الوسائل التي أوصلت مجتمعاتنا إلى أن تشوه وجهها بتلك المظاهر؟
وسائل التغريب
ما هي الوسائل التي استخدمها الأعداء لتغريب المجتمع الإسلامي ؟
أهي رشاش وبندقية، أم مدفع ودبابة، أم هي حاملة طائرات وصواريخ؟ لو كانت كذلك لكانت أسهل وأهون، ولكن المتربصين بالأمة يعرفون مقوماتها الذاتية -التي تكفل لها بعد حفظ الله وتأييده- النصر في كل معركة مع الباطل. لذا استخدموا ما هو أخطر وأفسد وأشد فتكاً بالفتاة مما ذكر، لقد استخدموا الحرب مع تلك المقومات لدى محاضن الجيل المسلم، فما هي وسائلهم، وكيف كانت نتائجها؟
وسأقتصر في عرضي لها على أهمها:
أولاً: الإعلام
الإعلام يتحمل جريرة ما يجري في قضية تغريب المرأة المسلمة، وسأثبت هذا -بإذن الله- بالأرقام والإحصائيات، عن طريق المسلسلات والأغاني والأفلام، ووسائل الإعلام المقروءة.
أ) الصحف:(/4)
وهي نوع من الإعلام ذي الجرعات المنتظمة. أتعلمون كم يدخل إلى سوقنا في الشهر من الصحافة الماجنة التي تغرب المرأة؟ يدخل إليها أكثر من 40 صحيفة أسبوعياً أو شهرياً في غلافها فتاة لا تتكرر أبداً.
وبلغ عدد الصحف التي تدخل إلى سوقنا شهرياً ما يزيد على خمسة ملايين نسخة شهرياً، وعندما ذكرت هذا الرقم في مناسبة جاء من يقول لي: لعل فيه مبالغة و_سبحان الله_! تقع في يدي إحصائية جديدة قبل أيام قلائل، من مؤسسة تصدر مجلات لا تخفى عليكم، ويظهر الرقم كالآتي:
إحدى المجلات التي تصدر عن هذه الشركة -واحدة فقط- وهي مجلة قصد بها تغريب المرأة، توزع شهرياً أربعمائة وأربعين ألف نسخة، والعجيب أن هذه الإحصائية تقول: هذا هو العدد الذي يشترى، لا العدد الذي يوزع، ولها مجلة أخرى توزع ثلاثمائة وثلاثين ألفاً في شهر واحد، من مؤسسة واحدة تصدر مجلتين، توزع قرابة ثمانمائة ألف لفتياتنا.
إذن، اسمحوا لي عندما أذكر لكم -أيها الأحبة- أنه يوزع خمسة ملايين نسخة، فهو رقم متواضع، وأنا متأكد أنه يزيد على هذا الرقم بكثير، ولكنني أتيت بالمؤكد الذي لا يقبل الشك.
من يشتري خمسة ملايين نسخة في شهر واحد؟ أهم غير المسلمين الموجودين بيننا، أم هي العمالة الوافدة من الشرق والغرب؟ إن نسبة من يقرأ العربية بينهم لا تذكر.
فمن الذي يقرؤها ويبتاعها؟ إنهم أبناؤنا وبناتنا.
ب) الأفلام:
أما الأفلام -فالله المستعان- كيف أتحدث عن الأفلام؟ كيف أتحدث عن هذه القضايا؟ واستمعوا إلى الأرقام؛ فإن حديث الأرقام اليوم أبلغ من حديث الألفاظ؛ ولأجل ألا يكون للمبالغة أي مجال.
في البداية انظروا إلى هذا التقرير من اليونسكو -ولقد تعجبت كيف تصدر اليونسكو هذا- تقول: "إن إدخال وسائل إعلام جديدة -وبخاصة التلفزيون- في المجتمعات التقليدية أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين، وممارسات حضارية كرسها الزمن" اليونسكو تعترف أن وسائل الإعلام غربت أمتنا، إذن يكفي هذا التقرير لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
يقول الدكتور حمود البدر: إنه تبين من خلال إحدى الدراسات التي أجريت على خمسمائة فيلم طويل أن موضوع الحب والجريمة والجنس يشكل 72% منها، وتبين من دراسة أخرى حول الجريمة والعنف في 100 فيلم وجود 68% مشهد جريمة أو محاولة قتل، بل وجد في 13 فيلماً فقط 73 مشهدا للجريمة.
ويقول الدكتور نشار -وهو أمريكي الجنسية-: تبين من دراسة مجموعة الأفلام التي تعرض على الأطفال أن 29.6% تتناول موضوعات جنسية -والقائل أمريكي- 27.4% تتناول الجريمة، 15% تدور حول الحب بمعناه الشهواني العصري المكشوف - هذه أفلام للأطفال!!!
ويقول الدكتور هوب أمرولر -وهو أمريكي أيضاً-: إن الأفلام التجارية التي تنتشر في العالم تثير الرغبة الجنسية في موضوعاتها، كما أن المراهقات من الفتيات -وهذا له علاقة مباشرة بموضوعنا- يتعلمن الآداب الجنسية الضارة- من الذي يقول ضارة؟ إنه أمريكي! إذا كانت هذه ضارة في عقل هذا الأمريكي كيف بميزان الشرع، ثم يتابع: وقد ثبت للباحثين أن فنون التقبيل والحب والمغازلة والإثارة الجنسية والتدخين يتعلمها الشباب من خلال السينما والتلفزيون.
جـ- الدعاية:
هذا البلاء الذي امتلأت به صحافتنا وإعلامنا بسبب سوء التعامل معها.
قام الدكتور سمير حسين بإعداد دراسة حول برامج الإعلانات في التلفزيون، كما يراها المشاهد والمعلنون توصل فيها إلى ما يلي:
98.6% من الأطفال يشاهدون الإعلانات بصفة منتظمة، ويطمئن الآباء لهذه التوجهات لدى أبنائهم، وستعلمون الأرقام المدهشة بعد قليل.
96% قالوا: إن هناك إعلانات يحبونها؛ ولذلك تجدهم يحفظون نص الدعاية المعلن عنها.
ولهذا يقول الدكتور محسن الشيخ: من أخطر البرامج المقدمة من خلال الشاشة الصغيرة هي الإعلانات التجارية؛ لأنها قصيرة ومسلية، وتحمل رسالتها بسرعة إلى الأوتار العقلية فتوقظها.
قد تقولون: وما علاقة الإعلانات والدعاية بقضية المرأة؟
تأملوا ما يأتي ففيه الإجابة: نوقشت رسالة ماجستير في دولة عربية مهمة بعنوان (صورة المرأة في إعلانات التلفزيون) اعتمد الباحث فيها على تحليل مضمون 356 إعلاناً تلفزيونياً بلغ إجمالي تكرارها 3409 مرات، أي: تسع مرات خلال 90 يوما فقط. توصل الباحث إلى ما يلي:
1) استخدمت صورة المرأة وصوتها في 300 إعلان من 356 إعلاناً. نسبة رهيبة جداً!
2) 42% من الإعلانات التي ظهرت فيها المرأة لا تخص المرأة، أي: ليست بالضرورة أدوات تجميل أو أزياء، فلا تعجب إذا رأيت دعاية لإطارات سيارات بجوارها امرأة.
3) 76% من الإعلانات اعتمدت على مواصفات خاصة في المرأة، كالجمال والجاذبية.
4) 51% من الإعلانات تعتمد على حركة جسد المرأة.
5) 12% من الإعلانات استخدمت فيها ألفاظ جنسية.
بئست الحال التي تكون فيها المرأة مهانة إلى هذا القدر. هذه هي الصحافة، وهذه هي الأفلام، وتلك هي الدعاية.
ثانياً: التعليم(/5)
التعليم!! إذن نحن ضد التعليم -لا، كلا وحاشا- نحن نريد التعليم، ونطالب بالتعليم، ولكننا نطالب بالتعليم الحقيقي، لا التعليم المزيف.
إن التعليم سلاح ذو حدين، إن كان في الخير فهو خير، وإن كان في الشر فهو كذلك.
التعليم الآن: هل هو التعليم الإسلامي في مجتمعنا الإسلامي؟ هل المرأة الآن تدرس في الابتدائية أو المتوسطة أو الثانوية -فضلا عن الجامعة- ما تحتاج إليه في أمور دينها ودنياها؟
ارجعوا إلى مناهج التعليم في العالم الإسلامي؛ لتروا المدهش في هذه القضية، عن طريق التعليم جاءنا الأدب السمج في القصة والمسرحية والقصيدة التي تعني بالحب المبتذل وغيره.
أيها الأحبة:
باسم التعليم عزفت المرأة عن الزواج حتى تكمل تعليمها، أتعلمون أنه في جامعة من جامعاتنا ستة آلاف فتاة، لم يتزوج إلا أربعمائة فتاة.
وباسم التعليم وجد في عينة درست من مائة وعشر فتيات تخرجن من كلية الطب، لم يتزوج منهن إلا إحدى عشرة طبيبة.
قد كنت أرجو أن يقال طبيبة
فقل للتي كانت ترى في قدوة
وكل مناها بعض طفل تضمه ... لقد قيل ماذا نالني من مقالها
هي اليوم بين الناس يرثى لحالها
فهل ممكن أن تشتريه بمالها
هل فتياتنا استخدمن التعليم لتعلم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما يحتجن إليه في حياتهن، أم لقراءة خمسة ملايين صحيفة شهرياً؟ نحن نعرف أن في الأمة خير عظيم في نسائها وفتياتها، ولكننا نتحدث عن أرقام ووقائع ترونها وتبصرونها.
ماذا نرجو من فتاة تعيش خمس سنوات تتعلم الأدب الإنجليزي، وقصص شكسبير، وقصص الحب والغرام؟ ماذا تتوقعون أن تتخرج الفتاة بعد ذلك؟
إن التعليم وسيلة من وسائل التغريب إذا لم يستخدم في مجاله الصحيح، وقضية التعليم قضية طويلة، ولمن أراد المزيد فأحيله على كتاب شيخنا الأستاذ محمد قطب (واقعنا المعاصر)، ولقد صدر فضل المرأة في رسالة مستقلة بعنوان (قضية تحرير المرأة).
ثالثاً: الابتعاث
إذا كان الابتعاث غرب كثيراً من أبنائنا فكيف تتصورون ببناتنا؟ لقد جر الابتعاث على أمتنا الويلات، حتى أصبحنا نرى هياكل نعرفها، ومخابر أجنبية عنا.
وهذه الوسيلة لا تحتاج إلى أرقام، فحقيقتها أكبر من الأرقام، ووضوحها أشد من الشمس في رابعة النهار.
رابعاً: اللباس والأزياء والزينة والعطور
هذه القضية يكفي أن أقرأ فيها هذا النص عليكم: يقول هاري فورد اليهودي: "إن اليهود من أجل تحقيق غاياتهم قد سيطروا على ثلاثة أمور منها الأزياء".
الأزياء يعترف اليهود أنها واحدة من ثلاث وسائل لتغريب فتياتنا.
قضية اللباس، كما قالت شاعرة غيورة:
يا بنت عمي التي حادت بملبسها
آذيت بالملبس المبتور فاطمة
إبليس راض وحزب الله في غضب ... عن المقاييس آذيت المقاييس
بنت النبي كما آذيت بلقيس
على التي فاخرت في حب إبليس
هذه هي الأزياء، وكثير من الأحباب الطيبين لا يتصور أن امرأته أو بنته حين تقف أمام الخياط يبذل لها مادة غربية، يغرب فيها أخلاقها، يقول: ثوب، ماذا فيه؟ نعم، قد لا يكون قصيراً، ولكنه أسوأ من القصير، ثوب عجيب، ضيق مشقق، مفتوح الصدر، قصير الكمين، ماذا تريدون أكثر من ذلك " كاسيات عاريات " العنوهن فإنهن ملعونات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها.
وأما عن التشبه، فحدث عن البحر ولا حرج، ويكفي في هذا " من تشبه بقوم فهو منهم ".
أما العطور، فكل يوم تأتينا صرعة من صرعات العطور، تبتذل المرأة فيها أيما ابتذال، وتنهب جيوب بناتنا ونسائنا لتنقل إلى خزائن الناهبين.
إن من تمعن في وسائل الإعلام فسيجد من الدعاية للعطور ما يحيره، ويجعله يتساءل لماذا تفجرت الدعاية للعطور فجأة؟ هل هذا يعني أن وسائل التغريب الأخرى قد سبقته فهو يحاول اللحاق بها أم ماذا؟
خامساً: محلات الكوافير والتجميل
هذه الأماكن من المواضع الغريبة على المجتمع المسلم، فعن القصات لا تسأل، وسل عن أي العاهرات التي تنعت بها هذه القصة لتعلم إلى أين وصل الحال ببعض _وأقول: بعض فتياتنا_.
إن تلك المآسي المنعوتة بالكوافيرات؛ لتوحي لنا إلى أي مدى وصلت حفيدات الفاتحين، وسليلات المجد من الصين إلى الأندلس. يحق لنا أن نبكي بدل الدموع دماً إذا رأينا الفرق بين امرأة تقص ظفائرها لتكون لجاماً لخيل الله المسرجة، وامرأة تقص ظفائرها لتكون أشبه بالغانية.
سادساً: إدمان الخروج من المنزل وتصويره بأنه سجن
تعددت وسائل الخروج من المنزل، حتى كأنه قد حكم على فتياتنا وبناتنا ونسائنا أن تخرج من المنزل.
التي لا تدرس تدرس، والتي لا تدرس تعمل، والتي لا تعمل تخرج إلى المستشفى، والتي لا تخرج إلى المستشفى تخرج إلى السوق، أو تخرج إلى أقربائها، ولا يظن قارئ أننا ندعو إلى أن توضع المرأة خلف أسوار، وتوصد دونها الأبواب، كلا وحاشا، ولكن يجب أن يقتصر الخروج لما لا بد منه، ولقد أرشد الله -جل جلاله- خيرة نساء الأمة -أمهات المؤمنين- "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى" (الأحزاب: من الآية33).(/6)
وكما قال محمد قطب: "صور الأعداء لبناتنا أن البيت سجن، وأن البيت انتقاص من الحرية".
أعرض عليكم مثالاً واحداً فقط يعرف الجميع أن المرأة في الماضي إذا أرادت أن تخرج إلى السوق لا تخرج إلا لضرورة، وإذا خرجت ورأت بعض الرجال انزوت في جانب الطريق إذا كان الطريق ضيقاً، أما الآن فما الذي يحدث؟ الرجل الصالح هو الذي لا يخرج إلا لضرورة، وإذا خرج وقابلته الفتيات انزوى حتى يخلو له الطريق؛ ولذلك أصبح المرء لا يستطيع أن يخرج بأهله إلى السوق.
إن قضية الأسواق وأوضاعها مأساة من مآسي الأمة.
سابعاً: الاصطياف في الخارج
أصبح السفر إلى الخارج للترفيه والتفرج والسياحة موضة يتسابق فيها كثير من بيوت المسلمين، وما إن يرجع هؤلاء حتى يتسابقون في أيهم أكثر مروراً بالبلدان، وتالله لقد تسابقوا في إضاعة الدين والدنيا.
يخرج الرجل مع بناته فيسلخ حياءهن كما تسلخ الأضحية، وليته عاد بالجلد، ولكنه قد نسيه هناك.
ثامناً: الخدم والسائقون
أعود قليلاً إلى الأرقام:
ذكرت مجلة اليمامة أنه يوجد في بيوتنا سبعمائة وخمسون ألف خادمة، وعدد النساء العاملات في التدريس والطب وغيره ثلاثون ألفا فقط، وهذه دراسة أعدتها إحدى الجامعات.
أيها الأحبة:
إنها دراسة تنسف كل المقارنات، وهي أبلغ من حديث الكلمات.
إنني أخشى أن يتربى جيل تصعب عليه لغة القرآن الكريم، وتلتبس عليه مفاهيمه، فتسأله عن مكة ويجيبك عن مانيلا، وأولادنا هم شباب وفتيات الأمة،
أما السائق -هذا المحرم الجديد- فيقف القلم عن الحديث عن مآسيه.
تاسعاً: محاولة التأثير على المرأة وحديث الذئاب عن حقوقها
يطرح من يلبس لبوس الراعي ويستبطن قلب الذئب مسائل حول حقوق المرأة، فمرة يطرحون قيادة المرأة للسيارة، ومرة قضية الجلوس في البيت، ومرة قضية الحرية، وأخرى حول الزواج قبل التعليم، وخامسة المجتمع يتنفس برئة واحدة، وما علموا أن المرأة في البيت كالدم للجسم، فهي محاضنه، وسادسة نصف المجتمع معطل... إلى آخر الأفكار التي تطرح، ومعروف ماذا يجري بعدها.
عفوية أم تخطيط ؟
إن ما ذكرته لكم لم يأت عفواً، ولم يأت بين عشية وضحاها، إنه مخطط تتقاصر عنده مخططات الحروب وميادين القتال. إنه إفساد وتغريب لأمتنا، وهذه هي الأدلة والبراهين، لا العواطف والتخمين.
يقول اليهود في بروتوكولات حكماء صهيون: "علينا أن نكسب المرأة، ففي أي يوم مدت إلينا يدها ربحنا القضية".
ويقول يهودي آخر: "لا تستقيم حالة الشرق -أي لهم- إلا إذا رفعت الفتاة الحجاب". هل توقف عند هذا المكر فقط؟ لا. إلا إذا رفعت الفتاة الحجاب عن وجهها وغطت به القرآن الكريم.
وقال أحد قادة الماسونية: "كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوها في حب المادة والشهوات".
وربما قال قائل: هذا حديث اليهود والنصارى، فما شأننا نحن؟ وللإجابة على هذا التساؤل أقدم بمقطوعة جميلة للمنفلوطي يقول فيها:
"ذهب فلان إلى أوربا، وما ننكر من أمره شيئا، فلبث فيها بضع سنين، ثم عاد وما بقي مما كنا نعرفه منه شيئاً".
واستمعوا إلى هذه الحقيقة التي تزيل ذلك التساؤل.
عقد المؤتمر الإقليمي الرابع للمرأة في الخليج والجزيرة العربية في 15 / 2 / 1986م في إحدى دول الخليج، وكان التركيز على قضية ما يسمى بتحرير المرأة، وهو -والله- استعبادها لشهوات المتنكرين لدينهم وأمتهم، وأصدر بعضاً من القرارات، منها:
1) لا بد من مراجعة قوانين الأحوال الشخصية في ضوء التحولات الاقتصادية والاجتماعية لدول المنطقة، ومحاولة الدفع باتجاه دراسة قانون الأحوال الشخصية العربية الموحد -قانوني علماني-.
سبحان الله! حتى الأحوال الشخصية لا يريدونها على ضوء الإسلام، في حين أن دولاً علمانية أخرى لم تتجرأ على هذا التشريع.
2) التأكيد على أهمية وضرورة النظر في الكتب والمناهج التربوية عند تناولها لقضية المرأة بما يضمن تغيير النظرة المتخلفة لأدوارها في الأسرة والعمل!
أسألكم بالله أيها الإخوة: هل فهمتم من هذه الفقرة غير النظرة الإسلامية؟ وليهنأ حكماء صهيون والمستعمرون بهذه النماذج من أفراخهم.
ثم تتابع هذه الدراسة التي لم تصغها أيد متوضئة بقولها:
إن القوانين والأنظمة التي كانت تخضع لها الأسرة قبل ألف عام لا تزال تطبق على العلاقات الأسرية في عصرنا الحاضر!! دون النظر إلى مدى ملاءمتها لنا!
وهذه العبارة هي التي كشفت اللثام عن قلوبهم المريضة، فما هي الأنظمة والقوانين قبل ألف عام؟ إنها الشريعة الربانية الإسلامية المرفرفة على أرض الله.
وهذه قرارات ليست حبراً على ورق، إنما حبر على عقول.
وتقول نوال السعداوي: إن نجاح تحقيق التنمية الحقيقية في بلادنا العربية يحتاج إلى تحرير ثقافي، ويحتاج إلى تحرير النساء من سيطرة الرجال بمثل ما يحتاج إلى تحرير البلاد العربية من سيطرة الغرب.(/7)
إن هذه مخططات وقرارات، ونحن نائمون غافلون عن هذا الميدان. يقول أحد دعاة الاختلاط في جامعة الكويت: ولعل الدرس الأكبر الذي ينبغي الخروج به من هذه التجربة كويتياً وخليجياً أن الوقوف ضد حركة التبديل الاجتماعي هو جهد باطل، وطاقة مبددة، ووقت مهدور، والتاريخ لا يرفق بالذين يرفضون الصعود في معارك القوة.
وأقول: إن الواقع شاهد في معارك القوة هذه، والله المستعان.
إذن، أيها الإخوة: هذه مخططات تجري وتنفذ على أيدي من يدعون الإسلام. يتكلمون بلغتنا، وينتسبون إلى بني جلدتنا، وبعضهم قد يصلي في مساجدنا، مخططات كانت تحاك في الليل، أما الآن فتدار في وضح النهار، وتنفذ أمام الأبصار، وهذه هي القضية وهي قضية خطيرة جداً، وأؤكد أن أساليبهم بطيئة، لكنها أكيدة المفعول.
تساؤل وبيان
أيها الأحبة:
نقول لهؤلاء الذين يدعون إلى تغريب فتياتنا: تعالوا لنتناقش بأدلة الواقع إن كنتم لا تنصاعون إلى نصوص الشريعة.
إنني أسأل كل من يريد أن يغرب فتياتنا: هل هؤلاء النساء في الغرب يعشن في سعادة وراحة وطمأنينة؟
إنني أدع الإجابة لكل ذي لب وعقل نقي من شوائب الفتنة، وذلك بعد أن يقرأ مآسيهم، وأحببت أن يكون الحديث بمنهج مقنع، وأن يشهد شاهد من أهلها.
نشرت مجلة التايم أن ستة ملايين زوجة في أمريكا يتعرضن لحوادث الضرب من جانب الزوج كل عام.
وأن ألفين إلى أربعة آلاف امرأة يتعرضن للضرب الذي يؤدي إلى الموت.
وأن رجال الشرطة يقضون 33% من وقتهم للرد على مكالمات حوادث العنف المنزلي.
ونشر مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي عام 1979م أن 40% من حوادث قتل النساء بسبب المشكلات الأسرية، وأن 25% من محاولات الانتحار التي قد تقدم عليها الزوجات يسبقها نزاع عائلي.
وذكر تقرير للشرطة الأمريكية عام 1978م أن 40% من إصابات رجال الشرطة و20%. من حوادث قتل رجال الشرطة في أوربا وأمريكا تقع بسبب وجودهم في أماكن حدوث نزاع عائلي.
أين السعادة لنساء أوربا وأمريكا؟
إن هناك 75% من نساء ألمانيا يشعرن بالخوف خارج المنزل عند حلول الظلام، وترتفع النسبة في بعض المدن إلى 85%، وقد خصصت بلدية لندن حافلات خاصة بالنساء من الساعة السادسة مساء إلى منتصف الليل بسبب الاعتداء عليهن.
يقول الرئيس الفرنسي السابق ديستان: لقد كشفت وزيرة شؤون المرأة النقاب عن الحقوق المزعومة للمرأة التي طرقت جميع أبواب الرجل، حتى أفسد ذلك المجتمع الفرنسي وفكك عرى الأسرة.
بلغ عدد المواليد غير الشرعيين في بريطانيا عام 1986م مائة وواحداً وأربعين ألف مولود، وهذه هي الإحصائية الرسمية.
نشرت جريدة الشرق الأوسط في 19 / 10 / 1410هـ مقالاً قالت في مقدمته: في أحدث دراسة بريطانية أذيعت أمس عن العلاقات الاجتماعية وظاهرة تصاعد نسبة الطلاق التي بلغت 70% بين النساء البريطانيات.
وعن مفهوم الخيانة الزوجية اعترفت 70% من المشاركات في الدراسة أنهن يدركن عقب الزواج بأشهر قليلة خيانة أزواجهن لهن مع أخريات.
بلغت نسبة الاغتصاب في أمريكا 35% من الجرائم عام 1984م، وهذه الإحصائية المسجلة رسمياً، وأكثر منها لم يصل إلى الشرطة ولم يسجل، أما حالات الرضا فتعد على الأصابع.
أيها الإخوة:
هذه هي الحالة التي يريد المستغربون والعلمانيون والمنافقون أن نصل إليها _أخزاهم الله وأذلهم ورد كيدهم في نحورهم_.
موقف عقلاء وعاقلات الغرب
قبل أن أسرد شيئاً من أقوالهم وأقوالهن أقدم هذه الحادثة: "ذهبت فتاة نمساوية إلى المركز الإسلامي بألمانيا وتبرعت بعشرة آلاف مارك، ورغبت في الزواج من شاب مسلم؛ لأنها تقول: لم يعد لنا ثقة بالرجال النصارى؛ لأنهم يعتدون على النساء".
وتقول الكاتبة آرنون: لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم خير وأخف بلاء من اشتغالهن بالمعامل؛ حيث تصبح المرأة ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة.
وتقول إحدى أساتذة الجامعات في بريطانيا وهي تودع طالباتها بعد أن قدمت استقالتها: ها أنا قد بلغت سن الستين من عمري، ووصلت فيها إلى أعلى المراكز، نجحت وتقدمت في كل سنة من سنوات عمري، وحققت عملاً كبيراً في نظر المجتمع، لقد حصلت على شهرة كبيرة، وعلى مال كثير، ولكن هل أنا سعيدة بعد أن حققت كل هذه الانتصارات؟ تجيب هي على نفسها فتقول: لا، إن وظيفة المرأة الوحيدة هي أن تتزوج وتكون أسرة، وأي مجهود تبذله بعد ذلك لا قيمة له في حياتها بالذات.
وتقول الدكتورة -أيبرين-: إن سبب الأزمات العائلية في أمريكا، وسر كثرة الجرائم في المجتمع هو أن الزوجة تركت بيتها لتضاعف دخل الأسرة فزاد الدخل وانخفض مستوى الأخلاق، ثم تواصل قولها: إن التجارب أثبتت أن عودة المرأة إلى الحريم (1) هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الذي يسير فيه.
__________
(1) - لفظ أصله إسلامي يعني فصل الرجال عن النساء. وكان كثير الاستخدام في العهد الإسلامي العثماني.(/8)
وقال أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي: إن المرأة تستطيع أن تخدم الدولة حقاً إذا بقيت في البيت الذي هو كيان الأسرة.
وقالت لاديكون: علموا النساء الابتعاد عن الرجال، أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد.
أما الممثلة والغانية المشهورة بريجيت باردو فقد سألها صحفي: لقد كنت في يوم من الأيام رمزاً للتحرر والفساد.
فأجابته قائلة: هذا صحيح، كنت كذلك، كنت غارقة في الفساد الذي أصبحت في وقت ما رمزاً له، لكن المفارقة أن الناس أحبوني عارية، ورجموني عندما تبت، عندما أشاهد الآن أحد أفلامي السابقة فإنني أبصق على نفسي، وأقفل الجهاز فوراً.
كم كنت سافلة، ثم تواصل قائلة: قمة السعادة للإنسان الزواج، ثم تقول: إذا رأيت امرأة مع رجل ومعها أولاد، أتساءل في سري: لماذا أنا محرومة من مثل هذه النعمة.
فقل للتي كانت ترى في قدوة
وكل مناها بعض طفل تضمه ... هي اليوم بين الناس يرثى لحالها
فهل ممكن أن تشتريه بمالها
أيها الأحبة:
هذا هو التغريب، وهذه وسائله، ونتائجه، ومآله، ولكن ما هو العلاج؟
العلاج
إن العلاج هو شطر العنوان الثاني إنه العفاف.
العفاف الذي توضحه وتبينه الآيات التي تأتي، وفي الاقتصار عليها كفاية، ومن أصدق من الله قيلاً.
يقول _تعالى_ لخيرة نساء الأمة: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى" (الأحزاب: من الآية33).
ويقول _تعالى_: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ" (الأحزاب: من الآية59).
ويقول _عز من قائل_: "قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ" (النور: من الآية30)، ثم ينتقل السياق إلى المؤمنات طالبات العفة والصيانة "وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا" (النور: من الآية31).
ويقول الحكيم الخبير: "يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ" (الأحزاب: من الآية32).
ويقول: "وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ" (الأحزاب: من الآية53).
الله أكبر. أطهر لقلوب من؟ إنها قلوب زوجات الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وقلوب خير الأمة، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بحالنا؟ وكيف بنسائنا؟ وكيف برجالنا؟! والله المستعان.
قنوات العفاف
أولاً: كلمة إلى المسؤولين
أقول لهم: اتقوا الله أيها المسؤولون، يا من توليتم أمورنا، وصارت الأمة أمانة في أعناقكم، أنتم مسؤولون أمام الله _جل وعلا_: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" ويقول الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
أيها المسؤولون عن بناتنا، أيها المسؤولون عن إعلامنا، أيها المسئولون عن أمورنا: اتقوا الله فينا، أدوا أمانة الله كما ائتمنكم عليها، وإلا فستتعلق بكم الأمة يوم القيامة، ويقولون: يا رب هؤلاء خانوا الأمانة، فاقتص لنا منهم.
ثانياً: كلمة إلى المصلحين من دعاة وعلماء وطلبة علم
أيها الأحبة: إن مخططات الأعداء وكيد الكائدين أكبر من أن نختلف عليها إلى مسائل لم يفاصل عليها سلف هذه الأمة وخيارها، كما يجب أن نحرص على سلامة المنهج في هذا الشأن وشأننا كله "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً" (الأنفال: من الآية25).
ثالثا: كلمة إلى المجتمع
إنني أتساءل كيف دخلت كثير من العادات السيئة إلى مجتمعنا، كيف انسقنا وراءها بدون نظر ولا روية؟ المناسبات الدخيلة، والعادات المستهجنة، وما قضية الأسواق المتردية، وما الخدم والسائقون إلا أمثلة على ذلك.
أيها المجتمع:
لا بد أن تحمي نفسك من مؤامرات أعدائك "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ" (الأنفال: من الآية24).
رابعاً: كلمة إلى كل قيم
إنها دعوة لأن يصون كل قيم من تحت يده من زوجة أو بنت أو أخت، أو ممن ولاه الله أمر رعية، فهن -والله- أغلى وأثمن من جواهر الدنيا وكنوزها، والمتربصون بنا كثر: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ" (التحريم: من الآية6).
وأدعوه إلى أن يؤدي حق القوامة التي أودعها الله إياه، وأن يقتنع بأن للمرأة دوراً يجب أن تؤديه في مجتمعها وبيتها، وعليه أن يعدها لذلك.
خامساً: كلمة إلى العفيفة(/9)
إلى التي تعلم عظم الأمانة الملقاة عليها، إلى من يقفن على ثغرة من ثغور المسلمين، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلهن، إلى اللائي ترخص عليهن النفوس والأموال في سبيل الله، وإلى اللاتي ينشدن:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال
أقول لك أختي الكريمة: إن هناك واجبات عليك لمواجهة كل المتآمرين ضد دينك وعفافك وكرامتك وحيائك، ومن تلك الواجبات:
أ- العلم الشرعي:
أقول للعفيفات من فتيات الأمة: عليكن بالعلم الذي ينير بصائركن، فما سما رجال ومجاهدو هذه الأمة إلا بوجود قيادات للتموين الداخلي، فحين كان الرجال على الثغور كانت النساء نعم المعلمات لأطفالهن، بل ولقد كان في الأمة قيادات علمية نسوية يشار إليها بالبنان، فما عائشة ولا أم سلمة إلا أمثلة ساطعة على ذلك.
إننا نريد العلم الحقيقي، لا العلم المزيف، نريد العلم بالله وبشرع الله، ونريد اعتناء بسير الصحابيات وسلف هذه الأمة اللاتي يمثلن مشاعل من نور للسائرين على الطريق.
وإنه لمما يعلم أن المرأة تقبل من المرأة؛ لأن كلا منهما تمثل أحاسيس وشعور الأخرى، فإذا تحدثت أو كتبت فالقبول منها أكبر.
ب- العمل بذلك العلم:
إن كل فتاة تعلمت وعلمت وفطنت لمؤامرة الأعداء عليها ثم تنساق وراء تلك المؤامرة ليخشى عليها أن تكون ممن يلحق بها الوعيد لمن لم يعمل بما علم (1). جـ- أن تكون المرأة داعية:
وإن من الواجبات على الفتاة أن تكون داعية في بيتها وفي مجتمعها وفق ضوابط الشرع وأوامره، فكم سمعنا عن منارات يهتدى بها في ليل التغريب من فتيات صالحات ونساء قانتات كن سبباً في صلاح بيوتهن وأخواتهن _وفقهن الله للسداد والصواب_ "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً_ (فصلت: من الآية33).
وصدق من قال في هذه الأمور السابقة:
والعلم زين وتقوى الله زينته
وحجة الله يا ذا العلم بالغة
تعلم العلم واعمل ما استطعت به
وعلم الناس واقصد نفعهم أبدا
وإن تكن بين قوم لا خلاق لهم
فإن عصوك فراجعهم بلا ضجر ... والمتقون لهم في علمهم شغل
لا المكر ينفع فيها لا ولا الحيل
لا يلهينك عنه اللهو والجدل
إياك إياك أن يعتادك الملل
فأمر عليهم بمعروف إذا جهلوا
واصبر وصابر ولا يحزنك ما فعلوا
د- ممارسة التربية الصالحة:
إن التربية الصالحة ليست كلمات تتلا، ولا عصا ترفع، إنها حياة كاملة فيها اللين والرقة، كما أن فيها الشدة والحزم، وصدق شاعر النيل حين قال:
الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعباً طيب الأعراق
نحن نريد الأمهات كخديجة وعائشة وأمهات المؤمنين _رضي الله عنهن أجمعين_، نريد كأم سليم وبنتي عاصم.
نريد من نسائنا أن يعددن أبناء الأمة للجهاد في سبيل الله، ولحمل راية الإسلام مهما واجهوا من متاعب ومصاعب.
وإن الأم التي تبكي وجلاً وخوفاً كلما ذكر الجهاد، لا يمكن أن تخرج يديها مثل أبناء الخنساء.
هـ. القدوة الحسنة:
وإنني أذكر أنه لا تربية بغير قدوة، فإن من تلهث وراء وسائل التغريب ليست أهلاً لأن تكون قدوة لأبناء كابني عفراء اللذين انقضا على أبي جهل كالصقرين، فكانا سبباً في قتله.
و- الوعي بمخططات الأعداء:
إن كل عفيفة تملك علماً لا بد لها من وعي تتقي به -بعد حفظ الله- مخططات أعدائها، وأسأل الله أن أكون قد وفقت لعرض شيء من مخططاتهم، فما الأزياء ولا بعض مظاهر الإعلام إلا حبائل ينصبها أعداؤنا لنا، فلتكوني أختي العفيفة سداً منيعاً ضد هذه المخططات بوعيك والتزامك.
ز- المحافظة على الوقت:
صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه "
فإن من علمت أنها سيسألها الله عن كل لحظة من لحظات عمرها حري بها أن تقف وقتها على _رضى الله تعالى_، وما ينفعها في دنياها وأخراها.
ح- التخلق بخلق الحياء:
إذا كان الحياء في الرجال جميل فهو في النساء أجمل، فهو التاج الذي تعتز به كل امرأة سوية، وفقدانه هدم لكيان أخلاق المرأة ومسخ لفطرتها.
وإن الواقع ليشهد مظاهر تنم عن خلع هذا التاج عن جبين مجموعة من النساء، فإن من يعلو صوتها في ممرات المستشفيات والأماكن العامة، ومن تزاحم الرجال في أماكنهم لهي بائعة لهذا اللباس.
فالله الله أن تعدمي الخير أيتها العفيفة، فإن الحياء لا يأتي إلا بخير.
الرضا بما أعطاها الله:
أقول لأختي المسلمة: عليك بالرضا بما أعطاك الله، فهو الخالق، وهو العالم بما يصلح لخلقه، وإن هذا الرضا من تمام العبودية له _جل شأنه_.
__________
(1) - للاستزادة يراجع كتاب اقتضاء العلم للعمل للحافظ الخطيب البغدادي بتحقيق شيخنا الألباني.(/10)
وأكتفي بهاتين الآيتين في هذا الباب ومن أصدق من الله قيلاً: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً" (الأحزاب:36)، وقول الحكيم الخبير: "وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً" (النساء:32).
وختاماً
إن ما بين هذه السطور من آيات بينات، وأحاديث شريفة، وحقائق جلية، وأرقام واضحة إنما هو عمل أريد به أن أضع الأمة أمام مسؤولياتها؛ لندرك سوياً الخطر المحدق بنا، وأن سنة الله لا تتغير ولا تتبدل حين توجد في الأمة دواعيها.
ومن تفكر في الأمم حوله أدرك أن الذنوب سبب لأخذ الله _تعالى_ وبطشه "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونًَ (النحل:112).
وقوله _عز من قائل_: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً"(الإسراء:16).
وما هذه الوقفات إلا جهد مقل مناه أن يرى أمته قد علت راياتها، واستقامت على طريق الهدى مجتمعاتها.
أليست الأرض أرض الله؟ والعبد عبد الله؟ والشرع شرع الله؟ فلا مكان في أرض الله لعبد الله إلا شرع الله.
اللهم احفظ فتيات المسلمين من كيد الكائدين وتربص المتربصين، واجعلهن بالصحابيات مقتديات، وعن الضلال معرضات، وللكتاب والسنة مقتفيات.
اللهم أقر أعيننا برؤية زرع الإسلام وقد استوى على سوقه، يعجب الزراع لنغيظ به الكفار، إلهنا إله الحق.
ناصر بن سليمان العمر(/11)
فتَّشتُ عن قومي
للشاعر الإسلامي الغيور عبد الرحمن صالح العشماوي/ الرياض
عِقْدٌ ، لآلِئُه تُنضَّدْ ... ... من حَبِّ أَلماس وعَسجَدْ
لنظامه سلك جميلٌ ... ... وبريقُ واسطة كفرقدْ
قمرٌ تحيط به نجومٌ ... ... بضيائها حُبِّي توقَّدْ
مِنْ فوقه وجناتُ حُسْن ... ... لَوْنُ الجمال بها تَورَّدْ
وفَمٌ يكاد يقول قلَبي: ... ... هذا هو السِّحْرُ المؤكَّدْ
قمرٌ توعَّدني بهجر ... ... فعشقتُه لمّا توعَّدْ
ناديته فازورَّ عنَّي ... ... وعن استجابته تردَّدْ
ومضى وراءَ الغيم حتَّى ... ... رَحَلَ الفضَاءُ به و أَبْعَدْ
وبقيتُ وحدي ، كم مُحب ... ... فقد السَّعادةَ حين أَوْحَدْ
أين الطريقُ إليه ، ما لي ... ... لا أُبصر الدَّرْبَ الممهدْ ؟!
ما لي أرى حُلُمَ الرَّوابي ... ... مثْلَ السرابِ إذا تبدّدْ؟!
أَنَّى اتَّجَهتُ رايتُ وجهاً ... ... يوحي بأنَّ القلبَ جَلْمَدْ
أَيئِسْتُ ؟ لا – والله – لكنْ ... ... واجهتُ ما لا كنتُ أَعْهدْ
فتشْتُ عن قومي لعلِّي ... ... ألقى بهم أمنًا وأَسْعَدْ
فرأيتُ ليلاً مُدْلَهمَّاً ... ... وحبَال أَوْهام تُعقَّدْ
ورأيت حَقْلَ الوعي أمسى ... ... بمناجل التَّضليل يُحْصَدْ
حتى سمعتُ أنينَ قلبي ... ... تشتدُّ زَفْرَتُه و تصعَدْ
أوَّاه من عَرَب أراهم ... ... في عصرنا الوجْه المُجَعَّدْ
وأرى لهم جَفنًا قريحاً ... ... من طول غَفْوَتِه تَرمَّدْ
أوَّاه من عرب ، عليهم ... ... راياتُ سوء الحالِ تُعْقَدْ
تَرَك الرَّجالُ رِماحَ عَلْوى ... ... تشكو إلَى السيفِ المهنَّدْ
واستثقلوا دينًا حنيفًا ... ... بصلاحه الأَكوانُ تَشْهدْ
من عهد آدَمَ و هو دينٌ ... ... حقٌّ ، به الرَّحَمنُ يعبَدْ
نادى إليه الرُّسْلُ حتَّى ... ... خُتمُوا بسيدنا محمَّدْ
أوَّاه من عَرب ، أُحيطوا ... ... بعدوِّهم ، والسيفُ مُغْمَدْ
أبوابهم فُتِحَتْ ؛ ولكنْ ... ... فُتِحَتْ لمغرور (معمَّدْ)
ولوجه حاخام غريب ... ... في كفِّه شوك وغَرْقَدٌ
من حوله شارونُ ، أَرْغَى ... ... في وجه أقصانا وأزْبَدْ
مُدَّتْ له الأيدي ولكن ... ... لما رأى الأيدي توعَّد
أواه من عَثَرات قوم ... ... طُرُقَاتُهم بالذلِّ تُوْصَدْ
عَرَباتُهم تمشي سراعاً ... ... لكنَّها من غير مِقْوَدْ
زهدوا ؛ ولكنْ في المعالي ... ... وكذلك المخدوع يزْهدْ
جُرْحٌ (تَأَفْغَنْ) ذات يوم ... ... وعلى مآسينا تمدَّدْ
صُليتْ به كشميرُ نارًا ... ... في جمرها لَهبٌ (تَهنَّدْ)
لمَّا (تَبَلْقَنَ) مستبدّاً ... ... ورأى تخاذُلَنا (تَبَغْدَدْ)
في الرافدين له نزيفٌ ... ... يجري هناك ولا يضمَّدْ
قالوا: السلام، فقلتُ: هذا ... ... شعبٌ من الأَقصى يشرَّدْ
أرضٌ مباركةٌ تعاني ... ... وأمامَ أعينكم تُهوَّدْ
وعلى العراقِ تُشَنُّ حَرْبٌ ... ... تُوحي بأنَّ الوجه أسودْ
وعباء ةُ الإنصافِ صارتْ ... ... كفَناً عليه دَمٌ مُجمَّدْ
أين السَّلام من احتلال ... ... معني العدالة فيه يفقَدْ؟
أسلامُ شاتيلا وصَبْرا ... ... أسلام رنتيسي وأحمدْ؟!
أسلام صاروخ عنيف ... ... نَسَفوا به كرسيَّ مُقْعَدْ؟
أسلام مولود رضيع ... ... في وجهه الرَّشَّاشُ عَرْبَدْ؟
قالوا: السلام، فقلتُ: أهلاً ... ... هاتوا له معنى يحدَّدْ
ردُّوا به وطناً سليباً ... ... و ابنوا به كوخاً لمُبْعَدْ
أين السلام ؟ ونحن نلقى ... ... غضباً من الباغي (مُعَنْقَدْ)؟!(/1)
فجر في موستار (1)
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
مَضَتْ هَزَعاتُ اللَّيلِ والفجْرُ مُقْبِلٌ
ولمْ تُقْطَع الجولاتُ فِيهِ وتُحْسَمِ
كَأَنَّ النَّدَى يا فَجْرُ دَمْعٌ تَصُبُّهُ
ثَكالى عَلَى أَطْلالِ بيتٍ مُهَدَّمِ
كِأَنَّ الشَّذى أَغْفى على الورْدِ وانطوَى
وخَلَّفَ من عِطْرِ الدّمَاءِ لَدَيْهِمِ
تَسلَّلَ نُورُ الفَجْرِ في رَعَشاتِه
تَسَلُّلَ مَذْعور الفؤادِ مُلثَّمِ
يُرَوِّعه كَيْدُ يُدَارُ وفِتْنَةٌ
تُثَارُ بِلَيْلٍ واسِعِ الشَرِّ مُظْلِمِ
يُسَابِقُ أَهْوالَ الرَّدى وزُحُوفَها
لِيُوقظَ من طِفْلٍ وشَيْخ وأَيّمِ
ومن أُسْرَةٍ لمَّ السَُبَاتُ جُفونَها
بُعَيدَ شَتَاتٍ في الميادينِ مُقحَمِ
وقَد غَابَ عَنْهُمْ والِدٌ لمْ تَزَلْ لهُ
هُنَالِكَ في الميْدَانِ جَوْلاتِ مُلْحِمِ
تَمُوجُ المَنَايَا حَولَهُمْ و مَكائِدٌ
وتبْتَلِعُ الأَمَواجُ وثْبَةَ ضيَئَمِ (2)
* * *
* * *
وأقْبَلَ صرِبيُّ لئيمٌ كأَنَّهُ
تَدَقُّقُ أَرْجْاسٍ ووحْلٍ ومأْثَمِ
ومِنْ حَولِهِ ، لو كُنْتَ تَشْهَدُ عُصْبَةٌ
تُجَمِّعُ مِن بَاغٍ طَغَى ومُزَنَّمِ (3)
كَأَنَّكَ لو أَبْصَرتَ هَوْن غُرُورِهِمْ
تَرَى قَزَمأً في ثَوبِ أيْهَم أَجْسَمِ (4)
فَفُزِّعَ مَنْ في البَيْتِ مِنْ هول حِقْدِه
وهَبُّوا وقَدْ أَفْضَى الجَبَانُ إِليْهِمِ
تَرَى طِفْلَةً لمْ تَبْلُغِ السَّبْعَ رُوِّعَتْ
تَمُرُّ بِعينَيْها تَدُورُ عَلَيْهِمِ
عَلَيْهَا رِداءٌ أَحَمَرٌ لمْ يَزَلْ لَهُ
بَقايا حَدِيثٍ للطفولِة مُنْعَمِ
وأصْداءُ أَشْوَاقِ الطُفُولَةِ لم يَزلْ
تَمُوجُ عَلَيْهِ في رجَا وتوسُّمِ
ومِنْ خَلْفِهَا أُمُّ حَنَتْ لِتَضُمَّها
وشَيْخٌ تَشَكّى يا لِضَعْفي ومَهْرمي
وطِفْلٍ رضِيعٍ كَادَ يَزْحَفُ نَحْوَهُمْ
ويَصْرَخُ يَا دُنْيَا اشْهَدِي وتَكَلَّمي
ولما رَأَتْ ذاتُ الرِّدَاءِ رَجَاءَها
وأَشواقَهَا لم تُوقِظِ الخيْرَ فِيهِمِ
تَرَاجَعَتِ الآمَالُ وارتَدَّ خَطْوُهَا
تَشَبَّثُ بالأُم الحَنونِ و تَحْتَمي
فَصَوَّبَت الدُّنْيا الرَّصَاصَ إِلَيْهِمِ
تَدَفَّقَ في رأسٍ وصَدْرٍ و مِعْصَمِ
وأَبلى النِّظام العالميُّ بخنجَرٍ
لِيَطْعَنَ في ظَهْرٍ وجيدٍ وأَعظِمِ
يَدُورُ عدوُّ الله بالنارِ بَيْنَهُمْ
لِيُفْرِغَ من حِقدٍ شَديدٍ عَليْهمِ
تساقَطَتِ الأُمُّ الحَنونُ وأَفْلَتَتْ
يَدَاها وأَهْوَتْ فِي بِحَارِ مِن الدّمِ
وطِفْلَتُهَا أَهوتْ تَصُبُّ دمَاءها
عَلَيْهَا ، وطِفْلٌ قد تَناثَر فِيهمِ
وشيخٍ تَهَاوَى ! يَالأَشلاءِ أُمّةٍ
تَهَاوَتْ بِهِ ! يَا لِلْحُطَامِ المُكَوَّمِ
ومَجْدٍ تَهَاوَى ! بين أَطْلاَلِهِ تَرَى
بَقِيَّةَ تاريخٍ ودَمْعَةَ يُتَّمِ
* * *
* * *
ولم يبْقَ إِلا قِطْعَةٌ مِنْ رِدَائِها
عَلَيَها بَقايَا من حَدِيثٍ ومِن دَمِ
كَأَنَّكَ لو أَصْغَيْتَ تَسْمَعُ صَيْحَةً
تَضِيْعُ بِدُنيا مُجْرِمينَ ونُوَّمِ
وسَالَتْ دِمَاءُ ! فالتقى النُّورُ عِنْدَهَا
وعِطرٌ وأَنداءٌ وطلعةُ مُسْلِمِ
ليبْزُغَ مِنْها الفَجْر يَنْشُر من هُدَىً
ويجْلُوَ مَيْدانَ الشَّبابِ المعَلَّمِ
وَدَوَّى مَعَ الفَجْرِ الأَذانُ وأَوَّبَتْ
هِضَابُ وعادَتْ بالدُّعَا والتَرَحُّمَ
كَأَنَّهُمُ أَهْوَوْا إلى الله سُجَّداً
يُجِيبُونَ أَشْوَاقَ النِّداءِ المُحوِّمِ
وَقَدْ خَشَعَتْ كُلُّ البِطَاحِ ورجَّعَتْ
صَدَاهُ الرُّبى يَا للنِّداءِ المُعظَّمِ
ودَوَّتْ به : الله أَكْبَرُ ! رَدّدي
إذنْ يَا رَوابي مِنْ هُداهُ وَ عَلِّمي
* * *
* * *
1413هـ
1993م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ملحمة البوسنة و الهرسك .
(1) موستار : عاصمة الهرسك . وهي من أجمل مدن يوغوسلافيا بعد دوبروفنيك . وتشتهر بمسجد كرادوزبيك الذي أنشيْ في القرن السادس عشر الميلادي ، وبجمال مبانيها ومساجدها ونوافيراها وجسرها الذي عمره أكثر من 400 سنة .
(2) ضَيئَم : الشديد .
(3) مُزَنّم : دعيّ لئيم ، ملحق بقومه .
(4) أيْهَمَ : من لا عقل له ولا فهم(/1)
(فخر وشكوى)
الشريف الرضي
هو أبو الحسن محمد بن الطاهر، شاعر عباسي، ولد في بغداد، وتلقى العلوم فيها، ونظم الشعر منذ حداثته، وكان أبوه نقيب الأشراف الطالبيين، فصارت إليه النقابة وأبوه حيّ، عرف بالهيبة والعفة ورفعة المنزلة، إلى عزة في النفس وشرف في النسب.
وشعره طويل النفس، قوي النسج، واضح التعابير، فيه متانة وسهولة ورصانة، تبيّن فيه شخصية صاحبه وما يكتنفها من نبل وإباء وطموح، وشكوى من الدهر والناس.
والنص التالي من قصيدة قالها في الفخر والشكوى:
ولولا العلى ما كنت في الحبّ iiأرغبُ
من الدهر مفتولُ الذراعين، iiأغلب
فلي، من وراء المجد، قلبٌ iiمدرّب
وأني إلى غُرِّ المعالي iiمحبّب
ولكن أوقاتي إلى الحلم iiأقربُ
ويُعجم فيَّ القائلون، وأُعربُ
لواعجَ ضِغنٍ أنني لستُ iiأغضب
ولا أنطقُ المُوراءَ، والقلبُ iiمُغضَبُ
فُضالاتِ ما يعطي الزمانُ، iiويَسلُب
زماني، وصرْفُ الدهرِ نِعم المؤدّبُ ... 1 - لغيرِ العُلى مني القِلى iiوالتجنّبُ
2 - ملكتُ بحلمي فرصةً ما iiاسترقّها
3 - فإن تك سنّي ما تطاول iiباعها
4 - فحسبيَ أني في الأعادي مبغّضٌ
5 - وللحلم أوقاتٌ، وللجهلِ iiمثلُها
6 - يصولُ عليَّ الجاهلون iiوأعتلي
7 - يَرونَ احتمالي غُصّةً، iiويَزيدُهم
8 - ولا أعرفُ الفحشاءَ إلا iiبوصفها
9 - ولستُ براضٍ أن تمسَّ عزائمي
10 - غرائبُ آدابٍ حباني iiبحفظها
الهوامش:
(1) القِلى: البغض والكراهية.
(2) استرقّها: ملكها واستعبدها – الأغلب: الأسد.
(6) يُعجم: يُبهم القول – أعرب: أفصح وأبين.
(7) الغصّة: ما يعترض في الحلق من عظم ونحوه، ويؤلم صاحبه – الضغن: الحقد.
(8) العوراء: الكلمة القبيحة.
(9) الفضالات: جمع فضالة وهي ما زاد عن الحاجة (المفضلة)(/1)
فداك أبي وأمي يا أعز الناس - [ كيف تنصر نبيك فعلا ؟]
سفالة وانحطاط وكراهية طاغية
هذا هو العنوان الأمثل لما يحدث الآن تجاه المسلمين ...
نحن في هذا اللقاء لن نقوم بالرد على هذه الجريدة الدانمركية, فهي أقل من ذلك كما أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أرفع من ذلك ولكن سنلقي الضوء على الأسباب التي أدت بنا إلى هذا المستوى من الذلة والمهانة المستوى الذي جعل أعداءنا يرسمون النبي صلى الله عليه وسلم وفي عمامته قنبلة وكأنه إرهابي المستوى الذي جعلهم يرسمون مسلما يسجد وكلب يفعل به الفاحشة والعياذ بالله وكأن السجود يفعله المسلمون لهذا السبب الوضيع.
من هذه الأسباب أيها الأحبة :
1- الضعف الشديد الذي عليه المسلمون الآن :
وهذا الضعف بسبب بعدنا عن كتاب الله عز وجل وعن سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وانغماسنا في الدنيا والشهوات والملذات فأغلب المسلمون الآن إلا من رحم الله يجعلون الدين في المرتبة الثانية بعد العمل والزوجة والأولاد فتجد الأب يثور ويغضب إذا حصل ولده على درجات منخفضة في أحد المواد, وعندما يعلم أن ابنه لم يصلي العصر على سبيل المثال كل ما يفعله هو أن يوبخه قليلا.
2- عدم احترام المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم بالصورة الكافية:
فإذا كنا نحن المسلمين لا نحترم سنة النبي صلى الله عليه وسلم فكيف سيحترمها أعداء الإسلام .....
وهذه حقيقة مؤلمة أيها الأحبة .....
الكثير من المسلمين لا يحترمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم فمفهوم السنة الآن معناه الترك وليس الفعل فعندما يقال للشخص أن هذا الأمر سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم يكون رد فعله الفوري أنه إذا لم يفعله لن يكون عليه إثم وبالتالي لن يفعله وعندما يخرج من بين المسلمين أنفسهم من ينكر السنة النبوية ويدعي أن كل الأحاديث التي عندنا إما ضعيفة أو موضوعة ويبدأ في الطعن في الصحابة رضوان الله عليهم عندها أيها الحبيب ماذا تتوقع من أعداء الدين الذين يتربصون به ؟؟؟؟
والسؤال الآن ما الذي يجب علينا فعله الآن تجاه النبي صلى الله عليه وسلم ؟؟؟
أولا : مقاطعة جميع البضائع الدانمركية
ثانيا : إرسال الاحتجاجات على هذه الرسوم إلى من نستطيع
وقد قامت المفكرة بتسهيل هذا الأمر على المسلمين فكل ما عليك هو أن تتبع هذا الرابط وتدخل بياناتك ونحن سنتولى إرسال الاحتجاج إلى أكثر من 25 هيئة دانمركية.
أخيرا أيها الأحبة الحل الجذري لهذه المشكلة ومثيلاتها
هو العودة إلى كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإعادة بناء النموذج الإسلامي الصحيح الواقعي الذي يعيد لهذه الأمة مجدها وللوصول إلى هذا النموذج المثالي الواقعي للمجتمع المسلم, والذي هو الخطوة الأولى والأساسية في سبيل إقامة دولة الإسلام الكاملة, لابد من العمل على إصلاح ثلاثة منظومات, يشكل الخلل الذي وقع فيها معالم الانحراف الذي وقع في أمة الإسلام:
أولاً:إحياء منظومة الإيمانيات:
فالأمة في حاجة ماسة إلى إعادة بناء الصلة مع الله عز وجل من جديد بإحياء الإيمان في القلوب وتجديد ما اندرس من معالمه في نفوس المسلمين. {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [110] سورة آل عمران
ثانيًا: إصلاح منظومة القيم والأخلاقيات:
فما أبعد المسلمين اليوم عن أخلاقيات الإسلام وقيمه الرفيعة التي كانت تجعل الناس يدخلون في دين الله أفواجًا لمجرد رؤيتها في سلوك المسلمين؛ [[إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق]][[1]].
ثالثًا: إصلاح منظومة الإنتاج والفاعلية:
فإن النموذج الإنساني السائد في أمتنا اليوم هو نموذج العاجز الكسلان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه صباحًا ومساءً, [[وأعوذ بك من العجز والكسل]][[2]].
فنجد المسلم غالبًا ما يكون فاشلاً في حياته قليل الإنتاج عاجزًا عن صناعة الحياة، ومثل هذا النموذج لا يستطيع أن يبني أمة كلفها الله عز وجل بقيادة البشرية {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [143] سورة البقرة
إننا نريد صناعة المؤمن الفعال الذي يستطيع أن يصنع الحضارة, ويبني التقدم على أكتاف دولة الإسلام الكاملة, التي تنتشل الأمة بأسرها من حضيض التخلف والجهل, إلى ذروة الحضارة والعلم, تمامًا كما كانت أول مرة, يوم كانت مستمسكة بشرع الله تعالى تمام الاستمساك فإذا نجحنا في إصلاح هذه المنظومات الثلاث:
[ الإيمان ــ القيم ــ الفاعلية ]
فتلك هي الخطوة الإستراتيجية الأولى والحقيقية, نحو إقامة دولة الإسلام الكاملة, التي تلتزم التزامًا كاملاً بالإسلام كعقيدة, وشريعة, ومنهج حياة وتلك هي النصرة الحقيقية للنبي صلى الله عليه وسلم نصرة تستمر ليوم الدين
----------------
[[1]] وفي رواية: [[مكارم الأخلاق]]، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة [1/112]، الحديث رقم 45.
[[2]] صححه الألباني في صحيح سنن أبي داوود [2/90]، الحديث رقم 1540.(/1)
فرحة الصائم
يا سعادتنا ونحن نعيش أيام رمضان، ويا ليت حظ أحدنا منه يكون طاعة مولاه بالقيام والقرآن والذكر. ويا خيبة وخسارة من كان حظه مجرد الحرمان من الطعام والشراب والشهوات.
رمضان شهر القرآن .. شهر الجود والإحسان .. شهر المغفرة والرحمة فيه تضاعف الحسنات وتغفر السيئات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رغم أنف من أدركه رمضان فلم يغفر له". صحيح
كانت حياة نبينا صلى الله عليه وسلم كلها عبادة. لكنه في رمضان كان يزداد جدا وحرصا ومواظبة؛ يوقظ أهله ويشحذ همم أصحابه نحو الطاعة فيقبلون بقلوبهم وأجسادهم على تلك التجارة الرابحة مع الله عز وجل. وكانوا رضوان الله عليهم يجدون ويجتهدون ويخلصون. فإذا انقضى رمضان كانوا يدعون الله ويسألونه أن يتقبل منهم. هذا هو رمضان في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة الكرام
قلب فؤادك في محاسن شرعنا *** تلقى جميع الحسن فيه مصورا
كم من معانٍ في صيام نبينا *** نفح أرق من النسيم إذا سرى
وانظر لفرق صيامهم وصيامنا *** نهراً تفجرا أحمدياً كوثرَ
فاحمد لربك فضله وجميله *** وقم إليه مهللا ومكبرا
جاء رمضان ليعلمنا التقوى قال تعالى: ( يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). فما هي التقوى؟
سأل عمر بن الخطاب أُبيّ بن كعب، رضي الله عنهما، يا أُبيّ ما التقوى؟
فقال: يا أمير المؤمنين، أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال بلى قال أُبيّ: ماذا صنعت؟
قال: شمرت واجتهدت. قال: فذالك التقوى.
التقوى: أن نحتاط أن نقع في هذا الشهر وفي غيره في معصية من معاصي الله عز وجل.
رمضان يعلمنا الإنفاق والبذل ويعلمنا عدم التعلق بالدنيا
رمضان يقوي صلتنا بالله بالصلاة وقراءة القرآن
رمضان يعلمنا الصبر وقوة الإرادة
رمضان يعلمنا مراقبة الله وتهذيب الأخلاق والبعد عن اللغو والرفث والفسق والفجور
هذا هو شهر رمضان العظيم، فهلا شحذنا الهمم لنرتقي ونكون ممن أعتقت رقابهم من النار؟ في الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك وجهه عن النار سبعين خريفا) وفي الحديث القدسي (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فهو لي، وأنا أجزي به) أي جزاء أعظم من هذا .. نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ويرحمنا ويجعلنا من عتقائه من النار
رمضان له في نفوس الصالحين الصادقين بهجة؛ وفى قلوب المتعبدين المخلصين فرحة؛ فهو شهر الطاعات ولنا فيه جميل الذكريات، انه زاد الروح تتغلب الروح فيه على البدن والجسد.
اجعل من رمضان سببا لنيل الشرف خروجا من قهر ذل المعاصي
وليس الشرف كذلك في جمع الأموال والاستكثار من التجارات لأنه موسم ...نعم هو موسم ...ولكن للبر والحسنات.... الشرف الذي أقصده هنا هو قيام الليل، ففي الحديث الصحيح عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس"... أخرجه الحاكم والبيهقي " وقال الألباني في صحيح الجامع .حسن برقم : 73
وفى الحديث "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". متفق عليه
القيام وما أدراك ما القيام؟
إنه الأنس بالله ليلا، وجمع القلب عليه والانكسار ليلا فيورث ذلك الإخبات والإخلاص
الله الله في رمضان أن يذهب سدى لعلك لا تدركه مرة أخرى نسأل الله تعالى يعيننا على صيامه وقيامه إنه جواد كريم
فلنجعل من رمضان بما فيه من صنوف البر الكثيرة معسكر توبة نتحول فيه من أصحاب معاصي وسيئات إلى أصحاب طاعات وفعل خيرات وليس هناك من الطاعات طاعة جمعت ما في التوبة من خير وفضل من الله تعالى ولذلك أمر الله بها :-
قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } 8 : التحريم …
قال تعالى : { أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } 74 : المائدة....
وقد شدد الله تعالى على من لم يتب فقال تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } 11 : الحجرات..
فيا أخي: إن أردت أن يتوب الله عليك وتنجو من حالك السيئ قبل الموت فتب قال تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 160 : البقرة
ويا أخي الكريم: إن أردت أن يحبك الله فتب قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } 222 :البقرة …(/1)
يا أخي: إن أردت أن يغفر الله لك ويرحمك .... وأنت صاحب الذنوب التي كالجبال والتي لعلها تكون سبب الهلاك والعياذ بالله....إن أردت ذلك فتب قال تعالى: { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } 89 : آل عمران...
يا أخي في الله: إن أردت أن يأتيك الله الأجر الذي يمكن أن يكون سببا للخلاص من ورطة الذنوب فتب قال تعالى: { إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } 146 : النساء...
يا أخي الحبيب: إن أردت الخير كل الخير فتب قال العلى الكبير: { فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} 74 : التوبة..
واعلم أخي أن الله تعالى الغنى الحميد القائل في محكم التنزيل
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } 15: فاطر … وقال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ } 97 : آل عمران … وقال تعالى: { وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } 133 : الأنعام …
وقال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ} 6 : العنكبوت...
ومع هذا كله فانه جل وعلا يطلب منك الرجوع إليه تعالى، ويفتح لك بابا من أوسع الأبواب لترجع منه، وحتى لا تجد الطريق ضيقا فقد وسع الله في باب التوبة وجعله مفتوحا على مصراعيه للعبد طيلة حياته ما لم يغرغر ، أو تطلع الشمس من مغربها [يعنى وقت الساعة]. وليس هذا فحسب بل إن الغنى عنك وعن العالمين سبحانه، من يفتقر له كل من في السماوات والأرض ، يفرح بتوبة عبده التائب ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" "لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض فلاة دوية مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه، فالله تعالى أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته" متفق عليه من حديث ابن مسعود وأنس. زاد مسلم في حديث أنس "ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح" ورواه مسلم بهذه الزيادة من حديث النعمان بن بشير.
... أرأيت أخي كيف يفرح الله بتوبة العبد مع أن العبد هو المحتاج والله هو الغنى ، الفقير العاجز دائم الحاجة لا يفرح بالتوبة وهو في أشد الحاجة إليها ، كن أخي من الفرحين بالتوبة التي لعل وراءها رحمة رب العالمين سبحانه..
قال تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } 58: يونس.....
قال تعالى (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ) يا من جفت روحه وقسا قلبه هاهي فرصتك لتتوب وتعلنها مدوية: أقبلت إليك ربي بذنوب عظيمة أرتجي رحمتك وأطمع بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين
كم من إخواننا الذين كانوا يخططون لشهر رمضان وعمل الخيرات فيه، وقد حملناهم على الأكتاف ودفناهم تحت الأحداث لكنهم بلغوا إن شاء الله بنياتهم. كم من أحباب كانوا معنا في رمضان الماضي ليسوا معنا الآن قد لقوا ربهم:
كم كنت تعرف ممن صام في سلف *** من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم *** حيا فما أقرب القاصي من الداني
أحد عشر شهراً!! ظلت تجرى بسرعة عجيبة في دهشة وذهول من العاقلين، وغفلة ومجون من اللاهين، "قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فسأل العادين" (المؤمنين112-113) هكذا تطوى الليالي والأيام؛ وتنقضي الشهور والأعوام؛ والعاقل اللبيب من يفكر ويعتبر بتلك الأيام التي عاشها والليالي التي قضاها، نعم هي ماض تركه خلفه لن يعود لك مرة أخرى، لكنه يسجل عليك فالله تعالى يقول: "هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون"
كل الناس يغدو في أهداف وآمال ورغبات وأماني، ولكن أين الجادون؟ أين الجادون
رمضان؛
رُبَّ فمٍ تمنَّع عن شراب أو طعام
ظن الصيامَ عن الغذاء هو الحقيقة في الصيام
وهوى على الأعراض ينهشها ويقطع كالحُمام
يا ليته إذ صام، صام عن النمائم والحرام
روحانية تخلصت من أسر الهوى والشهوة وحيل النفس والشيطان.(/2)
روحانية صائم عاش في جنة الدنيا، وفى الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة،
تسعى بهم أعمالهم شوقاً إلى *** الجنات شوق الخيل بالركبان
صبروا قليلاً فاستراحوا دائماً *** يا عزة التوفيق للإنسان
رفعت لهم في السير أعلام السعـ *** ـادة والهدى يا ذلة الحيران
بعضهم يقول: "إنه ليمر بالقلب لحظات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي نعيم"، واسمع للآخر يقول: "أنا جنتي وبستاني في صدري فماذا يفعل أعدائي بي، سجني خلوة، ونفى سياحة، وقتلى في سبيل الله شهادة" وهذا ثالث لم يجد ما يعبر به عن السعادة واللذة التي يحبها إلا بقوله: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة" إنها حلاوة الإيمان وطعم الصلة بالله،
صم وقم كما كان يصوم ويقوم قدوتنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" (آل عمران 31)
أنت تمسك عن الطعام والشراب والجماع أكثر من نصف يوم لماذا؟ تجوع وتعطش لماذا؟ تسهر وتتعب لماذا؟ أصناف الطعام بين يديك والماء البارد بين عينيك فلا تمد يدك إليه؛ لماذا؟ ماذا تريد من كل هذا؟ ما هو الهدف؟ إلى أي شئ تريد أن تصل؟ ربما حدثتك نفسك فقالت: لماذا أمرنا الله بالصيام؟ ولماذا فرض علينا شهر رمضان؟
حاشا الله عز وجل أن يكون المراد تجويعنا وتعطيشنا وهو أرحم الراحمين، وهو أرحم من الأم بولدها، بل إن الله قال في آخر آيات الصيام "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" (البقرة 185)
وربما تقول أيها الحبيب؛ إننا نصوم رمضان لأن الله أمرنا بصيامه، فتجب الطاعة والاستجابة لله بما أمر.
نعم إن الاستجابة لله ورسوله أمر واجب على كل مسلم ومسلمة، ولو لم تتبين لنا الثمرة والحكمة من هذا الأمر، فنحن أسلمنا واستسلمنا لله جل وعلا، فيجب علينا طاعة الله، فإن الخير كل الخير فيما أمر الله ورسوله به، لتكن هناك ثمرة وغاية عظيمة بينها الله عز وجل من شهر الصيام بقوله: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" (البقرة 183)
الهدف من الصوم
إذا فالغاية الأولى والهدف الأسمى من صيام رمضان.
*** هو إعداد القلوب للتقوى ومراقبة الله.
*** إعداد القلوب لخشية الله.
فالصوم يجعل القلوب لينة رقيقة، يجعلها ذات شفافية وحساسية، يجعلها وجلة حية.. يوقظ القلوب، فإذا فسد الناس في زمن من الأزمان فإن صلاحه لا يكون بالتشدد والتنطع، فليبدأ الصلاح بإعداد القلوب وبث حرارة الإيمان فيها، وخوف الله ومراقبته، فالإسلام لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات، إنما يقودهم بالتقوى ومراقبة الله والخوف منه.
ثمار الصيام
ومن اعظم ثمار الصيام، تربية القلوب على مراقبة الله وتعويدها على الخوف والحياء منه.
إن الإمساك عن الطعام والشراب في رمضان ليس هدفاً في ذاته، بل هو وسيلة لرقة القلب وانكساره وخشيته لله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجه في أن يدع طعامه وشرابه" كما في البخاري، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: "ليس الصيام من الطعام والشراب إنما الصيام من اللغو والرفث" رواه ابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.
هذه هي حقيقة الصيام. أما إن كان الأمر ترك الطعام والشراب فما أهون الصيام، ولكن إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك من الكذب والمحارم؛ وجماع ذلك خوف القلب من الله ومراقبته، وإلا فتنبه واحذر فربما دخلت في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ربَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر"، نعوذ بالله من حال هؤلاء
فأف ثم أف لنفوس لم يهذبها الجوع ولم يربها السجود والركوع، فالصيام تدريب للنفوس وتعويد لها على الصبر وترك الشهوات.
يدخل رمضان ويخرج وبعض النفوس لم تتغير، يجوع ويعطش وقلبه هو قلبه، ومعاصيه هي معاصيه، وربما يركع ويسجد، ويسهر ويتعب وحاله هي حاله، ولسانه هو لسانه.
فلو قيل لأهل القبور تمنوا، لتمنوا يوماً من رمضان، وهؤلاء؛ كلما خرجوا من ذنب دخلوا في آخر، بل ربما لا تحلو لهم الشهوات والفتن في المعاصي والسيئات إلا في شهر رمضان والله المستعان.
يا هؤلاء فيه تغلق أبواب النيران وتفتح الجنات، وتصفد الجان.. فدونك نفسك أيها الإنسان.
يا هؤلاء.. أما تنفعكم العبر؟ أما عصيتم وستر؟ اعرفوا قدر من قدر.. فقد آن الرحيل وأنتم على خطر، لكن عند الممات يأتيكم الخبر؛ نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع خير العمل.
قال ابن رجب -رحمه الله- : "كل قيام لا ينهى عن الفحشاء والمنكر، لا يزيد صاحبه إلا بعداً، وكل صيام لا يصان عن قول الزور والعمل به، لا يورث صاحبه إلا مقتاً ورداً، يا قوم أين آثار الصيام!! أين أنوار القيام!!
كيف تحصل ثمرة الصيام (تقوى الله)؟(/3)
ألا يمكن وأنت صائم في نهار رمضان أن تختفي عن أعين الناس فتأكل وتشرب وتفعل ما تشاء لا يعلم بك أحد من الناس ولا تطلع عليك عين من عيون الخلق؟؟ اسأل نفسك ما الذي يمنعك؟ ما الذي يردك؟ لأنك تعلم أن الله يراك ومطلع عليك ويعلم ما تخفي وما تعلن..
أليس في هذا تربية للقلب؟ وارتباط بخالقه وخوفه وخشيته ومنه؟ أليس من صام بمثل هذه المعاني وبمثل هذه المشاعر ازداد صلة بالله وخشية وخوفاً من الله وازداد تذوقاً بصيام رمضان وراحة للنفس والبال؟ وهذا أعظم زاد للروح، فالصوم أمر موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه إلا الله، فهو سر بينك وبين ربك، سر بين العبد وربه، ولولا استشعاره لرقابة الله وانه يراه لما صبر عن هذه الشهوات.
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة *** ولا إن ما تخفي عليه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت *** ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت الله يغفر ما مضى *** ويأذن في توباتنا فنتوب
عند الوضوء للصلاة، وفى المضمضة والاستنشاق، لماذا تحرص أيها الأخ أن لا يفوت إلى حلقك قطرة ماء؟ لماذا كل هذا الحرص مع انه لا يطلع عليك أحد من الناس ولا يعلم بك أحد لو أدخلت جرعة ماء فكيف بقطرة؟ سبحان الله من علمك هذا الأدب؟ من علمك هذا الحرص العجيب؟ إنها رقابة الله، فأنت على يقين انه يرى قطرة الماء هذه لو سالت إلى حلقك، فيا سبحان الله المرأة في رمضان، في مطبخها تقف أمام أصناف المأكولات والمشروبات، تراها بعينيها، وتشم روائحها المغرية بأنفسها، وربما ذاقت ذلك بطرف لسانها فأخرجته بحركة سريعة عجيبة سبحان الله.. هي جائعة وعطشى ووحدها لا يراها أحد من الناس، فلماذا لا تمد يدها فتأكل وتشرب؟ من الذي يمنعها؟ من يردها؟ إنها حلاوة الروح بصلتها بالله، بخوفها من الله فهي تعلم أن الله يراها ومطلع عليها ويعلم حالها، فأي تهذيب وأي تأديب هذا الذي أحدثه الصيام في النفوس؟
فنرى من صلى وصام وترك الشراب والطعام في رمضان لعلمه أن الله رقيب عليه، مطلع عليه، سيترك الحرام في غير رمضان أيضاً؛ لأن الله لا يزال مطلعاً عليه، وعليماً لحالة؛ وهنا يشعر الإنسان بلذة الصيام؛ فهي تصوم لبناء ذلك السد المنيع بين النفس وشهواتها وصدق بشر بن الحارث بقوله: "ولا تجد حلاوة العبادة حتى تجعل بينك وبين الشهوات سداً"، هذا السد هو خوف الله ومراقبته في السر والعلن، هذا السد هو الذي جعلك تحرص على صلاة الجماعة في رمضان، هو السد نفسه الذي جعل تلك الصغيرة في غير رمضان تمتنع عن مزج اللبن بالماء وتقول كلمتها المشهورة "إن كان عمر لا يرانا فإن رب عمر يرانا".
هذا السد الذي جعل تلك المرأة تمتنع في غير رمضان عن الوقوع في الزنا لما غاب عنها زوجها طويلاً مع جيش المسلمين وكانت تردد هذه الأبيات:
تطاول هذا الليل وأسود جانبه *** وأرقني ألا خليل ألاعبه
فو الله لولا الله أنى أراقبه *** لحرك من هذا السرير جوانبه
ولكن تقوى الله عن ذا تصدني *** وحفظاً لبعلي أن تنال مراكبه
قال ابن القيم: "بالحب والخوف والرجاء يذوق المسلم حلاوة الإيمان، ومن استطال الطريق ضعف مشيه"
ومن لم يصم بهذه المعاني فليتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الآنف الذكر؛ "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر"
أيها الراجي ثمار الصوم أعط الصوم حقه
من خشوع واصطبار والتداد بالمشقة
وانطلاق في سبيل العيش في رفق ورقة
طارحاً عن روحك المغلول بالشهوات رقة
ا يقول صائم يحاول التعبير عن هذه الروحانية: "في نهار يوم من أيام رمضان؛ اشتد بي الجوع فيبس لساني، وقلصت الشفتان وغارت العينان، فنظرت من يميني فإذا أصناف الطعام؛ وعن شمالي أنواع الشراب، فذكرت قول الله عز وجل في الحديث القدسي؛ ترك طعامه وشرابه من أجلى، فرق قلبي ودمعت عيني وانتابني شعور جميل له حلاوة لا أستطيع وصفه ولا بيانه.. قلت؛ لعله أثر من أثار الإخلاص في هذه العبارة العظيمة ولكن من أنا، عبد من عبيده، فقير إليه ذليل بين يديه، من أنا فيخاطبني وهو العظيم الجليل ذو الجبروت والملكوت ،،ترك طعامه وشرابه من أجلي،، من أنا حتى يخاطبني بقوله؛ (من أجلي)
رقة وشفافية عجيبة، بهذه الرقة وبهذه الشفافية وبهذا الإيناس نسيت جوعي وتعبي؛ فأي مشقة في الصوم في ظل هذا الود والقرب من السيد لعبده؛ فشعرت بحرص واطمئنان وثقة ويقين بالقرب من الله جل وعلا".(/4)
الصدقة لها طعم خاص ولذة عجيبة، ولا غرو فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان؛ قال الشعبي رحمة الله: "من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه"، كان ابن عمر رضي الله عنهما؛ "يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعه أهله عنهم لم يتعش تلك الليلة"، وجاء سائل إلى الإمام أحمد؛ "فرفع إليه رغيفين كان يعدهما لفطره ثم نام جائعاً، ثم أصبح صائماً"، وعُلم أن عائشة رضى الله عنها أم المؤمنين؛ "أنفقت في يوم واحد 100 ألف درهم وهى صائمة، فقالت لها خادمتها؛ لو أبقيت لنا ما نفطر به اليوم، فقالت عائشة؛ لو ذكرتني لفعلت".
الخاتمة
هكذا نحيا رمضان، عندما نفهم حقيقة الصيام ونشعر بحلاوة الإيمان، هذه الأحاسيس والمشاعر النبيلة، هذه الروحانية السنوية، ما هي إن شاء الله إلا عاجل بشرى المؤمن، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقاءه، وفتح لهم أبواب في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما شحذ قواهم لطلبها والمسابقة إليها، أما الحلاوة الحقيقية فيكفى قول الحق عز جل؛ "فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاءاً بما كانوا يعملون"..
أيها المسلمون:
هلموا إلى دار لا يموت سكانها؛ ولا يخرب بنيانها؛ ولا يهرم شبانها؛ ولا يتغير حسنها وإحسانها؛ هوائها النسيم.. يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين.. ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم كل حين.. دعواهم فيها؛ سبحانك اللهم، وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم ولحوم طير ناعم وسمان
وفواكه شتى بحسب مناهم يا شبعة كملت لذي الإيمان
لحم وخمر والنسا وفواكه والطيب مع روح ومع ريحان
وصحافهم ذهب تطوف عليهم بأكف خدام من الولدان
جاهدوا أنفسكم؛ أخلصوا النية لله في الاستعداد له؛ فربما قطع هاذم اللذات تلك الأماني فبلغ صاحبها بنيته ما لم يبلغه بعمله..(/5)
فرحةٌ وبهجة
د.محمد إياد العكاري
alakkaridc@hotmail.com
ها قد انتهى رمضان وقلوبنا تتحسر على وداعه
وأرواحنا تئنُّ حزناً على فراقه
أتى ومضى سريعاً
فما أكرمه على قلوبنا من ضيف حلَّ علينا بالخيرات والبركات
وما أعظمه في أرواحنا من شهر نتوق فيه للرحمات والنفحات
مرت أيامه ولياليه ،وذهب أثر صيامه وأماسيه
كأنها البرق لمحةً ،والريح سرعةً
فما استقبلناه حتى ودعناه
ومضت معه صحائفنا وأعمالنا وماسطرنا فيه فهل ياتُرى فزنا بآماله ومراميه؟؟
وهل نلنا ماأعد الله سبحانه لنا فيه؟؟
نرجو المولى سبحانه وهو ذو المنِّ والعطاء
صاحب الفضل والجود أن يعفو عن الزَّلل
ويرزقنا الإخلاص لنخرج منه
بحلل العفو والغفران، والعتق من النيران
وهذا هو الفوز وهذا هو العيد
أجل هو الفرحة بعد الطاعات، والقبول بعد القربات
فليس العيد لمن لبس الجد يد
إنما العيد لمن صام وأناب، وقام وتاب وهذا هو السعيد بالعيد
وللشاعر علي الزبيدي أبياتٌ يقول فيها:
قف أيها الشهرُ لو يستوقف iiالعجلُ
قف لم يزل للمشوق الصبِّ iiظامئةٌ
رحلت لالوم إذ يبكيك ذ و iiشجنٍ
وأقبل العيد هل يلقاهُ من iiحُرموا ...
... أهكذا أجمل الأيام iiتُختزلُ
ترنو إليك وفي أحداقها iiوجلُ
فربما حال د ون الملتقى iiالأجلُ
هيهات ليس لهم ، بل عند من قُبلوا
أجل هو العيد لمن يتقبل الله منه
وهو الكريم المنان ذو الجود والإحسان
هذا هو العيد فرحةٌ بالصيام ،وبهجةٌ بالقبول ، ومتعةٌ بالوصول
ثم لينهي المسلمون صيامهم بصدقةٍ الفطرطهرةٌ للصائم وطعمةٌ للفقراء
وغنى وكفٌ لهم عن السؤال ، ليبدأ المسلمون عيدهم بالتكبير والتهليل
وما أنداه والله وما أبهى موسيقاه
الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله وبحمده بكرةً وأصيلا
لا إله إلا الله ولا نعبدو إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون
ليتواصلوا بعدها وترى العنا ق والتقبيل
وتشهد الفرحة تسكن الوجوه، والبهجة تغمر القلوب
وتلقى فيه البر والصلة،والخير والحب ، والصفاء والود
العيد فرحةٌ وبهجة أجل والله فطوبى وطوبى للجميع وكل عام وأنتم بخير(/1)
فرحٌ مُؤجّل
الكاتب: الشيخ د.سلمان بن فهد العودة
معظم الأدبيات المتعلقة بالعيد تنقلك من الإحساس بفرحته إلى استذكار آلام الحاضر، أو استدعاء آلام الماضي، أو استحضار مخاوف المستقبل، وكأنها تعمل للقارئ تحصيناً ضدّ الفرح.
وبات هذا من الأغراض التقليديّة لكتابة مقال أو قصة أو قصيدة حول العيد.
وماذا يضيرهم أن ينسى المرء همومه يوماً أو أياماً؛ فيحيا بنشوة الفرح، ويعبث كالطفل البريء، ليجدّد إحساسه بالحياة، وينشّط خلاياه وأنسجته، ويشعر بجزء من معنى وجوده؟
إن ميلاد الإنسان فرحة غامرة لأهله، ومنحة لا يوازيها شكر، ونعمة يعرف قدرها المحرومون منها.
وفي طفولته أفراح لا حصر لها... ثم في بلوغه، وشبابه، وزواجه، وتخرّجه، وتوظّفه، وإنجابه... وهكذا يسير دولاب الحياة.
والمرء يفرح بتفصيلات كثيرة تتعلق به، ولا أحد يلومه، فإذا جاء الفرح العام، والبهجة المشتركة، استدعى الناس الصياح والنّواح، وبدأ التلاوم على الفرح:
لماذا نفرح والأمة تعاني ما تعاني؟!
والذي أراه أن الفرح الصادق من أجود الأدوية لأمراض الأمة؛ لأن الإحساس المفرط بالأزمة لا يساعد على الحلّ، بل يزيد من تفاقمها، ولك أن تتخيّل طيارة تهوي في الفضاء، أو سفينة يعبث بها المواج، أو سيارة اختل توازنها؛ فاختلط حابل الركاب بنابلهم، وبدأ التدبير والتقدير، والعويل الطويل، وتعالت أصوات النسوة والصبية والعجائل، أهذا مما يسهم في دفع الأزمة الطارئة؟
أم تراه يزيد الأمر -كما تقول العرب-: ضِغْثاً على إبّالة؟
وقد سرت عدوى هذا التكدير إلى بعض الخطباء؛ فصارت خطبة العيد خاصة مسرداً للآلام، والمصائب والنكبات، وأحزاناً ودموعاً، وما بقي منها فحديث مستفيض عن المحاذير، وقطع للمعاذير!
والأليق بخطبة العيد أن يطول فيها الحديث عن الرحمة والرجاء والفرح والتسامح، فالناس عقب عبادة وطاعة ونسك، وكان السلف يستحبون ذكر الرجاء في أوقات العبادة، كما ذكره ابن عبد البر وغيره...
ويُذكر فيها ما يناسب المقام من الأمر والنهي بإيجاز.
أما أن تنقلب الآية، فيطول ما حقه أن يقصر، أو يقصر ما حقه أن يطول؛ فليس من الحكمة.
وثمة قوم يزهدون في العيد، ولا يرون فيه ما يستحق الفرح، وكأن الفرح عندهم مؤجّل. لكن إلى متى؟
إن كل الأشياء الكبيرة إذا اقتربت منها وجدتها أصغر مما تظنّ وتتصوّر، حتى النجاحات الخارقة لها حدود، ولها نهاية.
والذي لا يفرح بالصغير لن يفرح بالكبير.
فامنحْ نفسك فرصة الفرحة بالثوب الجديد، والطعام الطيّب، واللقاء الجامع، والمناسبة الكريمة، وشاهد الفرحة في نفوس الصبايا والأطفال؛ فاقتبس منهم وتعلّم كيف تفرح كما يفرحون، وتطرد طيور الهم أن تعشّش في رأسك، ولو حامت حوله.
اسعدْ معهم بلعبهم، وشاركهم براءتهم، واحذرْ أن تظن أن الطفولة مدرسة تخرّجت منها ولن تعود إليها.
لقد كان النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يضاحك الأطفال ويمازحهم، ويحضنهم، ويشاركهم ألعابهم، ويسأل أبا عمير عن عصفوره: (ما فعل النُّغَير؟) كما في الصحيحين، ويركبهم معه على الراحلة، أو يقعدهم على فخذه، أو يقبّلهم والناس ينظرون، أو يحملهم في صلاته شفقة عليهم، وربما نزل من المنبر فحملهم على كتفه، أو أطال السجود انتظاراً لصبي تسلل إلى المسجد فرقى على ظهره، كما تعوّد أن يفعل في المنزل!
إن الفرح جزء من الطبيعة الإنسانية ما خُلق عبثاً، وهو يُحمد أو يُذّم أو يُسكت عنه بحسب متعلقه.
فالفرح بنعمة الله وفضله ورحمته وشريعته محمود، حتى جعله الله تعالى من شأن الشهداء: (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ)[آل عمران:170].
والفرح بالظلم والبغي والفساد مذموم: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)[القصص:76].
وفي حياة الناس أفراح كثيرة لا يُلامون عليها، وإن لم تكن فاضلة، لكنها في دائرة المباح الواسع.
والنفوس المحرومة من الفرح نفوس كنود شقيّة مظلمة، برمت بالحياة، وسئمت تكاليفها، واستسلمت لمشاعر اليأس والكنود والألم؛ فحقها أن تُداوى بجرعات من الأمل الصادق، والرؤية الواقعية، والسعادة الفطرية، ولا شيء يحقق هذا كالإيمان بالله، واستشعار رحمته، والإحسان إلى عباده بالقول والفعل، ولو بإدخال السرور والبهجة على محروميهم ومحاويجهم.
وإن المجتمعات المحرومة من الفرح لهي بؤر للتوتّر والغلظة والجفاف، أو دوائر للعنف، أو محاضن للفشل.
فالفرح ليس سذاجة ولا غفلة ولا موت قلب، ولكنه إحساس إنساني رفيع، يمنح صاحبه تجدّداً وحيويّة واندفاعاً، ويقطع حالات الحزن والإحباط، وينفّس عن القلوب المكلومة والمحتدمة والقاسية!
لا تؤجّل فرحك للمستقبل!
افرح الآن بما تيسّر، وبدون تحفّظ أو تردّد، فرحاً محفوفاً باستشعار رحمة ربك، وعطائه وفضله وقربه!
افرحْ بالأشياء الصغيرة، والصغيرة جداً، والتي تخجل من ذكرها؛ لأنه لا يفرح بها -في ظنك- إلا الصغار، وعُدّ هذا تمهيداً وتدريباً على الفرحة بالإنجاز العظيم...(/1)
وليكن إنجازاً يتعلق بشخصك الكريم، وليس انتظاراً أو ترقّباً لمفاجأة غير متوقعة!
ولقد رأيت في تجارب الحياة أن بعض الشباب يحرمون أنفسهم من جزئيات الفرح والبهجة في حياتهم الزوجية، خجلاً أو جهلاً بسبب عدم الخبرة أو التدريب أو الاندماج بين الزوجين، فتصبح حياتهم جامدة، وعلاقتهم جافة، ويظل في داخل الإنسان إحساس بالكبت والحرمان.
ولو تدرّبوا على الجرأة بينهم، وتبادل الإحساس بالفرح، وتعاطيه باطمئنان، ومن غير قلق، أو امتعاض، أو إحساس بالذنب؛ لكان علاجاً وشفاء لمعانٍ مكبوتة.
قال لي أحدهم: منذ عشر سنين تخالجني كلمة، أريد أن أقولها لزوجتي فأتردّد وأحجم!!
هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رغم أن حياته كانت مليئة بالأحداث العظام، والمهمّات الجِسام والتي لو شاء لوظفها لحزن دائم لا ينفكّ عنه؛ إلا أنه كان أعدل الناس في فرحه وحزنه، فلا تحين فرصة مواتية يفرح فيها مع مَن حوله إلا انتهزها وفرح بها، حتى لو كان بين أكابر أصحابه وعلى سفر!
فعن عائشة رضي الله عنها: أنها كانت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر، وهي جارية، قالت: لم أحمل اللحم، ولم أبدن.
فقال لأصحابه:( تقدّموا ) فتقدّموا.
ثم قال: (تعاليْ أسابقْكِ).
فسابقته؛ فسبقته على رجلي.
فلما كان بَعدُ، -وفي رواية-: فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت، خرجت معه في سفر، فقال لأصحابه: (تقدّموا ) فتقدّموا، ثم قال: (تعاليْ أسابقْكِ).
ونسيت الذي كان، وقد حملت اللحم فقلت: كيف أسابقك يا رسول الله، وأنا على هذا الحال؟
فقال: (لتفعلِنّ).
فسابقته فسبقني فجعل يضحك، وقال: (هذه بتلك السبقة) رواه أبو داود والنسائي وأحمد وابن حبان وغيرهم، والقصة مجموع الروايات.
يا للعظمة والتواضع!
ولهذا جاء الحديث في القرآن والسنة عن الصلة الزوجية باستفاضة وتفصيل، وربطها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالله في ذكره، وفي ثوابه وأجره.
افرحْ بالتفاصيل كطفل، وتذكرْ أن الله شرع لك الفرحة بإنجاز صوم الشهر، بل بإنجاز صوم اليوم: "لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ" رواه البخاري ومسلم.
ثم قرن هذا بالفرحة الكبرى بلقاء من عطش وجاع طاعة له وإخباتاً... (ويومئذ يفرح المؤمنون).
والحمد لله رب العالمين.(/2)
فردوس قلم
نور الجندلي
</TD
متقلباً في رغد الحياة يعيش مترفاً.. يقطف من مروجها ما يحلو له من ألوان ورود .. ويسكب الشهد حلوا في خلايا السطور ..
تتراقص الصفحات في طيات فكره ، ويغدق عليها من أنفاس الفرح فتنتشي جذلاً ..
أو هائماً على وجهه يبحث عن خيالات مضت .. يصطاد الذكريات من بحور الذاكرة .. ويعود متعباً بغنيمة من لحن شجن .. فينشد لحناً حزيناً عذباً .. يغرق السطور .. في حبر الدموع ..
وهو في أوج سطوته .. ملك متقلد تاج الشجاعة على عرش الحقيقة ، في مملكة التاريخ ..
ليسطر أعاجيب السطور .. ويحكم بعدل بين الحروف..
فلا يسقط حرف تحت السطر إلا بحقّ ، ولا توضع نقطة إلا في مكانها ..
وقد يكون بحّاراً ماهراً يمخر عباب البحر ، يغنّي مع أمواجه أغنيات عذبة.. ويسافر إلى الأرواح ..
يقرؤها في كل خطرة ، وكل لمحة ، وكل بسمة ..حتى يعود بصيد وفير من لؤلؤ ومرجان .. يصنع منها حليّ العبارة .. ويهديها إلى كل عشاق الأمل ..
لعلها ترسم في مستقبلهم آفاقاً جديدة .. تنشر النور من جديد !
هذا هو القلم في فردوسه العجيب ..
إن فرح ، أسعد الناس ببسمات الحروف ..
وإن زاره الحزن يوماً ، ترك بصمة في قلبها عبرة !
وإن حلّق في أجواء الكون .. فلن ينسى أن يزور الحكمة في مدينتها
ولن ينسى أن يرافق السموّ في أعلى سلّم المجد ..
إنه القلم ذو الفطرة المستقيمة السويّة ..
ولد في رحم فكرٍ ثرّ .. وترعرع في قلبٍ نابض بالخير .. وشبّ قوياّ مليئاً بالحياة ..
إنه قلم ينظر إلى السماء ليبني فيها أحلامه.. أهدافه .. رفعة الأمة ..
فغايته بناء النفوس .. وجلّ أمنياته إسعاد الأرواح المتعبة..
لله درّه من قلم ..
أسكن نفسه في فردوس الدنيا .. ونظر إلى فردوس الآخرة بعين ملأى بالأمل..
فمن منا يعين قلمه كي يصل إلى ذاك السبيل ؟
ومن منّا يرسم عبره خطوط الضياء ؟..
فتبوح الفردوس بما تحوي ..
ويأتلق الفكر بمن يحمل ..
***(/1)
فرصة سانحة للدعاة
يعتني أهل التجارة بمواسم تدر عليهم مالاتدره غيرها؛ ولذا تشكل السياحة مصدراً مهماً من مصادر التجارة، بل إن كثيراً من تجار المسلمين يحصلون من موسم الحج ورمضان أضعاف مايحصلونه في غيرهما، لذا فكثير من التجار يمكنه أن يضحي بفرص كثيرة حاشا فرص المواسم.
وليس من حرج في مبدأ التجارة في الحج؛ فقد قال تعالى (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) وبوب البخاري رحمه الله في صحيحه (باب التجارة أيام الموسم والبيع في أسواق الجاهلية).
والدعاة إلى الله تبارك وتعالى أولى وأحرى بأن يحرصوا على استثمار المواسم واغتنامها في نشر دعوتهم، وهاهو الداعية الأول صلى الله عليه و سلم يستثمر فرصة اجتماع الناس في الحج ليعرض عليهم دعوته، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرض نفسه على الناس في الموسم فيقول:«ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي»([1]).
وعن ربيعة بن عباد الديلي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يطوف على الناس بمنى في منازلهم قبل أن يهاجر إلى المدينة يقول:«يا أيها الناس، إن الله عز وجل يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا» قال: ووراءه رجل يقول: هذا يأمركم أن تدعوا دين آبائكم، فسألت: من هذا الرجل؟ فقيل: هذا أبو لهب([2]).
وثمة جوانب ومجالات عدة تُفتح أمام الدعاة في رمضان لاتفتح أمامهم في غيره؛ فالقلوب تصبح أقل قسوة وأكثر قرباً إلى الله تبارك وتعالى منها في غير رمضان، ولذا نرى الرجل الفاسق المعرض، المسارع في الكبائر تتغير أحواله في رمضان، وفي رمضان يكثر مرتادو المساجد أكثر منهم في غيرها، وفي رمضان يصبح الناس أكثر إصغاءً وإقبالاً على الموعظة منهم في غيره.
وفي رمضان يكثر توافد الناس على بيت الله الحرام لأداء مناسك العمرة؛ مما يتيح فرصة لأهل البلد الحرام والوافدين عليه، بل يتيح فرصة لكافة الدعاة في استثمار هذا الجانب ومرافقة من يريدون دعوته لأداء العمرة فيتيح السفر لهم مايتيحه غيره.
وفي رمضان يقبل الناس على إخراج الزكوات والصدقات؛ فيكون ذلك فرصة للدعاة في حث الناس وتوجيه الأموال للمصارف المجدية المفيدة، وتعد مشاريع تفطير الصوام ميداناً للإحسان للناس ورعايتهم، ويمكن أن يضم لذلك برامج دعوية وتوجيهية.
ويتيح قدوم المرأة للمسجد في رمضان فرصة لخطاب شريحة واسعة لم يكن يتيسر خطابها قبل ذلك؛ فثمة فئة واسعة من النساء لاتأتي للمسجد إلا في صلاة التراويح في رمضان.
إن كثيراً من المسلمين يعتنون بالصيام أكثر من غيره ولايفرطون فيه، بل إنك ترى فئة كبيرة منهم يصوم وإن كان لايشهد الصلاة مع المسلمين، والصيام يكشف عن جوانب مهمة في النفوس من القدرة على الامتثال، والقدرة على ضبط النفس والسيطرة على شهواتها، وكثرة أسئلة المسلمين عن أحكام الصيام وعنايتهم بها يكشف جانباً من الخير، ألايمكن أن يستمثر ذلك كله في خطاب المسلمين وإقناعهم بأن ثمة جوانب كامنة في نفوسهم ينبغي أن ينطلقوا منها إلى تصحيح واقعهم؟
إن مثل هذه الفرص ينبغي أن تدعونا إلى توسيع دائر الخطاب وموضوعه فلا يقتصر على مجرد حث الناس على استثمار رمضان وتلاوة القرآن وصلاة التراويح، فمع أهمية هذه الأمور وضرورة الحديث عنها، إلا أن هناك ماهو أوجب في حياة المسلمين من التوبة وإصلاح القلوب، واجتناب الموبقات وأداء ما أوجب الله تبارك وتعالى.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه الترمذي (2925) وابن ماجه (201) وأبو داود (4734)
([2]) رواه أحمد (15594)(/1)
فرنسا .. ثورة ضد الثورة
13-7-2006
بقلم عبدالله بن محمد المالكي
"...إن الذي يحصل في فرنسا هذه الأيام إنما هي ثورة من أجل الجوع والقهر والحرمان، ضد الثورة التي كانت ترفع شعار (العدالة والحرية والمساواة) .. الثورة التي كان يتغنى بها - قديماً - رفاعة الطهطاوي..."
(العدالة، الحرية، المساواة) هذه الكلمات الثلاث كانت شعاراً للثورة الفرنسية التي اندلعت سنة 1789م ضد الملكية والإقطاع واضطهاد الكنيسة في أوربا، والتي كان وَقُودها الطبقة المكبوتة المسحوقة من عامة الناس، الذين كانوا يسعون إلى إرجاع كرامتهم الإنسانية بعد أنْ سلبها الإقطاع والكنيسة عبر التاريخ الطويل لأوربا .
ولاشك أنَّ الشعب الفرنسي الثائر استطاع أنْ يزيح عن عاتقه ظلماً كبيراً كان يمارسه الإقطاع بالتعاون مع الكنيسة في ظل الملكية، وأنْ ينال شيئاً من الحقوق التي لم يكن يحلم بها من قبل، كحق التعليم وحق العمل وحق الانتقال من مكان إلى آخر وحق المشاركة السياسية ونحو ذلك .
ولكن مع نيله تلك الحقوق وتحرُّره من ربقة الاستعباد .. نريد أن نتساءل بصدقٍ: هل تحقق للشعب الثائر ذلك الشعار البرَّاق الفاتن (الحرية والعدالة والمساواة) بصورة حقيقية وصحيحة تعود بالنفع والمصلحة إلى كافة المجتمع بطبقاته المتعددة، أم أنَّ الثورة رفعت ذلك الشعار، لتُحرِّك به عواطف الجماهير، لمصلحةِ فئةٍ معينة ومحددة فقط دون غيرها ؟
قبل أن نجيب؛ لابد أن نقرر أمراً مهماً، وهو أن الشعب الثائر - في ذلك الوقت - لم يكن على مرتبةٍ واحدة، أو من طبقةٍ متساوية، وإنما كان مكَّوناً من طبقتين اثنتين: طبقة عاملة كادحة، وطبقة تملك رأس المال الذي صار في يدها بدلاً من الإقطاعيين في السابق، وذلك بسبب تغيِّر آلة الإنتاج من إنتاجٍ زراعي إلى إنتاج صناعي بعد اختراع الآلة .
هذه الطبقة الثانية - وهي الطبقة (الرأسمالية) والتي كانت تريد أن تنتزع الملك والسيطرة من الملكية السابقة وأن تتخلص من نفوذ الإقطاعيين - استطاعت بعد الثورة بقوة المال والنفوذ أنْ تستولي على السلطان الحقيقي، وأن تدير دفة الثورة لصالحها سواء بالسيطرة المباشرة أو بالسيطرة غير المباشرة عن طريق التأثير على قيادة الثورة .
والمؤرخون الأوربيون [1] يؤكدون بأن الأمور أثناء الثورة وبعد الثورة كانت تجري في مصلحة الرأسماليين (الملوك الجدد)، الذين هم (أرباب الثورة) في حقيقة الأمر ! وأما الشعوب الثائرة المظلومة والتي خدعت بشعارات الثورة، فلم تنلْ من الثورة إلا الفتات، في حين أن المكاسب الكبيرة كانت لمصلحة أصحاب رأس المال .
صحيحٌ أنَّ الثورة منحة ذلك الشعب الثائر المظلوم معنى الحرية، ذلك المعنى الذي حُرِمَ منه منذ زمن بعيد .. كحرية الكلمة .. وحرية الفكر .. وحرية التنقل .. وحرية العمل .. بل قد منحته الحرية بمعناها المطلق التي لا تحدُّها دينٌ ولا قيم كحرية الجنس والفجور .. وحرية الكفر والإلحاد .. وحرية العبث بالأفكار والقيم .. تلك الحرية المجنونة التي هبتها (الرأسمالية) لشعوبٍ خرجت لتوِّها من ظلم الاستعباد والقهر، فكانت كالنهم الجائع العطشان الذي قُدِّمتْ له صنوف المآكل والمشارب دفعةً واحدة فشرق من كثرة الشرب والأكل حتى فقد عقله وتوازنه !!
نعم؛ لقد نالت الشعوب الأوربية بعد الثورة تلك الحرية بمعناه المدمِّر، ونالت شيئاً من العدالة في الحقوق، وشيئاً من المساواة في الفرص . ولكن في النهاية؛ كانت السيطرة والهيمنة وحق التشريع ووضع القوانين لمن يملك رأس المال !!
لقد كانت الرأسمالية تملك زمام الأمور، وكان باستطاعتها أن تشكَّل الرأي العام على وفق مصالحها، وذلك بالسيطرة على وسائل الإعلام بقوة المال، فكان بمقدرتها أن ترفع من تشاء وأن تخسف من تشاء ! فضلاً على أن السياسة بمفهومها الجديد بعد الثورة لم يكنْ يحركها إلا المال، وأهل المال لا يبذلون المال إلا إذا كان سيحقق لهم أضعاف ما بذلوه ! ولكن على حساب منْ ؟! إنه على حساب العمال المساكين الفقراء .
إنني لستُ اشتراكياً ولا ماركسياً، ولكني أرى الرأسمالية الجشعة التي لا تشبع أبداً من دماء العمال الفقراء قد كشَّرت أنيابها في أوربا، والتي كان يقول عنها الدكتور (شاخت) الألماني منذ الأربعينيات: "إنها تزايد الأموال في يد فئةٍ يتناقص عددها على الدوام، وزيادة الفقر في عدد متزايد من الناس" [2]، هذا في الأربعينيات ! فكيف الآن وبعد انفراد (الرأسمالية) بالسوق الدولية .(/1)
لقد كانت الرأسمالية القديمة محتشمة نوعاً ما، حينما كان يقول منظِّرُوها : "لا ينبغي أنْ يتجاوز الدخل الشهري لصاحب العمل أكثر من خمسٍ وعشرين مرة من راتب العامل"، أما الآن في زمن الرأسمالية (المتفردة في السوق) فقد تجاوز دخل صاحب العمل أكثر من ألفين وخمسمائة ضعف من راتب العامل كما تقول آخر التقارير [3]، أي إذا كان دخل العامل في الشهر ألف دولار؛ فدخل صاحب العمل قد تجاوز أكثر من اثنين مليون ونصف دولار في الشهر، هذا مع ازدياد ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة بشكل مستمر .
وهنا تكمن المشكلة والمرض العضال للمجتمع الرأسمالي الجشع والذي فقد كل معاني الأخلاق والإنسانية . فمع ازدياد المال في يدي قلة من الناس، وازدياد عدد الناس في دائرة الفقر، إضافة إلى الحرمان وارتفاع الأسعار وصعوبة العيش، كل ذلك كان ينذر بثورة مرعبة تأكل الأخضر واليابس !!
ولهذا اندلعت في هذه الأيام في ضواحي مدن فرنسا ثورة للفقراء، بعد أن طال عليهم الجوع والقهر والحرمان، وهم من المهاجرين الذين جيء بأجدادهم في الخمسينيات كأيدي عاملة رخيصة، وبنوا فرنسا المدمرة بعد الحرب العالمية الثانية بسواعدهم وعرق جبينهم، بعدما قاتلوا وقتلوا من أجلها، فنالوا الجنسية باستحقاق، ولكن من الدرجة الثانية ! وتم عزلهم خارج المدن، في أحياء قديمة، مع حرمانهم من التعليم أو مواصلته، مما أدى إلى تهميشهم في فرص العمل، ثم حرمانهم من الخدمات، بل حرمانهم من أدنى متطلبات الحياة الكريمة، وفي المقابل كانت المدن الكبيرة جنة فاتنة في الترف والمعيشة واللذائذ الدنيوية، ينظر إليها المحرمون إما بنظرة الحزن وإما بنظرة الحقد والحسد .
وكان عدد هؤلاء الناس يزداد يوماً بعد يوم، وكان الأمر عليهم يزداد سواءً بعد سوء، حتى انفجرت مشكلتهم بشكل مرعب، وانتشرت شظاياها في كل مكان، وكان هذا متوقعاً أن يحصل في يوم من الأيام، وإن كنا نرفض نتائجها المدمرة من إجرامٍ وحرق واعتداء على الأموال .
ولكننا يجب أن نعترف بأن تلك المأساة هي نتيجة حتمية من نتائج الثورة الفرنسية (ثورة التنوير) التي لم تكن في الحقيقة إلا مجرَّد انتقالٍ للاستعباد والهيمنة من الملوك والإقطاع قديماً إلى أصحاب رأس المال حديثاً، وليست من أجل العدالة والحرية والمساواة كما يروَّج لها . صحيح أن العبيد الثائرون قد منحو الحرية بالفعل، ولكن بمعناه المدمر، ومنحو شيئاً من العدالة والمساواة، ولكن بشرط ألا تُضرَّ بأصحاب رأس المال .
إن الذي يحصل في فرنسا هذه الأيام إنما هي ثورة من أجل الجوع والقهر والحرمان، ضد الثورة التي كانت ترفع شعار (العدالة والحرية والمساواة) .. الثورة التي كان يتغنى بها - قديماً - رفاعة الطهطاوي، وكان يمتدحها الشيخ محمد عبده، ويبشَّر بها لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين .. والتي مازالت تدغدغ أحلام الكثيرين من المثقفين العرب !
ــــــــــــ
الهامش :
[1] انظراً مثلاً: "معالم تاريخ الإنسانية: للمؤرخ الإنجليزي ويلز، و "قصة الحضارة" لويل ديورانت .
[2] محمد قطب، "مذاهب فكرية معاصرة" ص 203 .
[3] صحيفة الشرق الأوسط، العدد 9842 .(/2)
فرويد وألاعيبه
هدى برهان قرقور
istabraqshakespeare@yahoo.com
بسم الله الرحمان الرحيم.
والحمد لله رب العالمين الذي هدانا لهذا الدين وجعلنا خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتسبح للقدوس العزيز. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله أرحم الراحمين. اللهم ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. اللهم صل وسلم على حبيبك المصطفى محمد خير الأنام ..وأشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله.
قال الله تبارك وتعالى:" إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون" النور: 19صدق الله العظيم. وقال جل شأنه:" وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لاتعلمون" البقرة: 29
إن الإنسان الذي خلقه الله تبارك وتعالى هو ذلك الحيوان الإجتماعي، أو ذو النزعة الإجتماعية، أو ذو الإستعداد لبناء علاقات اجتماعية وللتعاون الإختياري مع غيره من بني نوعه، أو ذو الإستعداد لصنع ثقافة وحضارة، أو هو الحيوان التقني الصانع الذي يصنع التقدم ويثري الحياة التي حوله.1
والإسلام قد اعتنى بتهذيب نفس الإنسان أيما تهذيب، ولهذا فهو يرفض في الإنسان القوة المادية التي لا ترتبط بالإيمان والأخلاق والرحمة، ولا يرضى للإنسان أن يكون قويا في بدنه، ولكنه قزم في روحه، ضحل في عقله وتفكيره. ولا يقبل الإسلام ما يذهب إليه الماديون والملحدون الذين ينتهي بهم المطاف أن يكونوا أجسادا بلا أرواح، وحيوانات في دنيا الناس – من الإعتقاد بأن الإنسان نبات أرضي لا رب له، ولا حساب ينتظره، لأن الحياة في نظرهم إحساس عارض يبقى في كتلة من اللحم والعظم لبضع سنين ثم يتلاشى إلى الأبد.
إن البعد الجسمي أو الجسم – في نظر الإسلام – هو أمانة عند الإنسان، من واجبه أن يحافظ عليه ويلبي احتياجاته من الغذاء الكافي والنوم الكافي والراحة والملبس اللائق النظيف والمسكن اللائق والأثاث المريح والمنكح الحلال والتداوي من المرض والتمتع بما أحل الله من الطيبات في حدود العرف الإجتماعي الذي يكون سائرا وفق شريعة الله تبارك وتعالى.
والنصوص الدينية التي تعترف بحاجات البدن وتدعو إلى تلبية هذه الحاجات في حدود الإعتدال ومراعاة قيم الدين والعرف السائد، وتنهى عن التفريط في حق البدن وعن الإفراط والإسراف والتبذير والشره والتكبر والطمع والإنفلات من القيم الدينية والخلقية وعبادة المال وحب الظهور وتجاوز المألوف، كثيرة ومتنوعة، نذكر منها على سبيل المثال:
قوله عز وجل:" وابتغ ما آتاك الله في الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا" القصص: 77.
وقال تبارك وتعالى:" فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله" الجمعة:10
وقال جل شأنه:" ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون" الأعراف:10
وقال تعالى:" يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم" المؤمنون: 51
وقال جل جلاله:" ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا" الإسراء:29
وقال صلى الله عليه وسلم:" إن لبدنك عليك حقا" وقال:" طلب الحلال جهاد، وإن الله ليحب العبد المحترف".
وقال صلى الله عليه وسلم:" كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف و لامخيلة"
وقال صلى الله عليه وسلم:" عباد الله تداووا" رواه أصحاب السنن.
وقال صلى الله عليه وسلم:" لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه. قيل: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق" رواه أحمد والترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم:" ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضى والغضب" ذكره المقدسي في مختصر المنهاج.
وفي نظر المقدسي أن شهوات النفوس لم توضع إلا لفائدة، وليس المطلوب صدها على الإطلاق، لأن في ذلك إضرارا بالنفس وإهدارا لحق من حقوقها. " إنما المذموم فضول الشهوات وطغيانها. وثمة قوم لم يفهموا هذا القدر، فأخذوا يتركون كل ما تشتهيه النفس. وهذا ظلم لها بإسقاط حقها، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:" إن لنفسك عليك حقا".
وهكذا يتبين أن الإسلام يعترف بأهمية البعد الجسمي والمادي في الإنسان ويعترف بحاجات الجسم وحقوقه، بل يدعو إلى تلبية حاجاته والمحافظة على حقوقه في حدود الإعتدال والقيم والتعاليم التي أتى بها، لأنه يريد للإنسان المسلم أن يكون صاحب جسم قوي جلد قادر على العمل والإنتاج وتحمل مشاق الحياة وتأدية الفرائض والشعائر الدينية.1(/1)
أما فرويد فإن له نظرة مخالفة للطبيعة الإنسانية السليمة من كل شذوذ. فهو يرسم هذه الصورة من جانب الحيوان لا من جانب الإنسان. إن ميدان بحثه هو النفس الإنسانية..هو المشاعر والإنفعالات.. هو العالم " الداخلي " في مواجهة العالم " الخارجي" الذي تحدث عنه ماركس. النفس في نظره هي الميدان الأصيل للحياة؛ عن تركيبها الذاتي تنبثق الأفعال والأفكار والمشاعر، وتتحول إلى وقائع عملية في واقع الحياة.. إن الحياة النفسية للإنسانية ليست حيوانية فحسب، ولكنها - كلها – تنبع من جانب واحد من جوانب الحيوان، هو الجنس المسيطر على كل أفعال الإنسان.
إن حقيقة الإنسان الباطنية العميقة [ id ] ليست هي الطاقة الشهوانية فحسب. وإنما هي على وجه التحديد الطاقة الجنسية. الجنسية بالذات دون أي طاقة أخرى من طاقات الإنسان أو [ الحيوان].
وهذا المنهج الفرويدي جاء عنه في بروتوكولات حكماء صهيون ما هو كالآتي:" يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل مكان فتسهل سيطرتنا..إن فرويد منا. وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس لكي لا يبقى في نظر الشباب شيء مقدس، ويصبح همه الأكبر هو إرواء غرائزه الجنسية، وعندئذ تنهار أخلاقه".
إن هناك هدفا مزدوجا يتم في نفس الوقت" فالجنس ينظف ليستباح. لتنطلق الغرائز " المكبوتة ". لينطلق الشباب كالبهائم!، دون أن يحسوا في ضميرهم لذعا ولا في نفوسهم ندامة ولكن في ذات الوقت يقذر الدين والأخلاق والتقاليد بتصويرها نابعة في الأصل من الجنس – المستقذر حينئذ في النفوس!.1
وتركزت الفتنة كلها في " تحرير المرأة". وهنا أحب أن أقف وقفة.. أتحدث فيها عما جرى لي من المغريات من أجل التطور – أعني التخلف. كان يدرسني أستاذ أمريكي يهودي..وكان يحاول إقناعي بنظرية فرويد كما حاولوا في الثانوية فعل ذلك.. حتى أنني ذات يوم كنت أنشد نشيدة: عرفت الله.. فصاحت بي فتاة قائلة: يا هدى لماذا لا تتغيرين..الناس تتطور وأنت لا زلت تتحدثين عن الله! أستغفر الله وتعالى الله عما يصفون.
كنت ذات يوم في حصة اللغة الإنجليزية وكنا ندرس قصة مزرعة الحيوانات لجورج أورويل. كنت أحدث الأستاذ عن قدوم رستم في حرب المسلمين.. وأنه رأى نجما في السماء..فحاول الأستاذ المراوغة في الكلام وقال لي: قلت إنه يفكر بزوجته.. استغربت من كلامه هذا..لكني عندما أخبرت أبي بذلك: قال لي هذا فاجر ويريد تعليمك الإنحلال! على كل حال، كان جوابي له لاذعا دون قصد مني..والحمد لله الذي ألهمني حسن الإجابة. قلت له: لا يا أستاذ، لم يكن يفكر بزوجته..بل كان يرى أن النجم سيئ الطالع..وتشاءم من ذلك..حيث انتابه شعور قوي أن المسلمين سينتصرون نصرا عزيزا من عند رب عزيز..لقد رأى أمارات ذلك بقراءة النجم..وأحس بخطورة الأمر الذي يقبل عليه..عرف أن المسلمين سيكون لهم الأمر في بلاد فارس عما قريب..فتغير وجه الأستاذ .. واضطرب..وأحسست كأني أخبره عن تاريخ هو عائد بإذن الله وقدرته تبارك وتعالى..ثم تجاهلت الأمر..
وكانت هناك طالبة ترتدي الحجاب وتلبس على حسب الموضة! وكانت تسألني الأسئلة المحرجة أمام الأستاذ.. لكن الله هو المعين..والله نصرني وألهمني الإجابات الصادقة بقدرته رب العالمين..سألتني ذات مرة: هل ترين رجالا في منامك..فقلت لها: أرى رجالا ونساء..بل ومن كل أصناف البشر..وأرى أشياء كثيرة ..أحيانا تصير حقيقة..فبادرني الأستاذ بهذا السؤال: ألا تحبين أن يكون لك شيء ليس لغيرك؟ فقلت له: ومن أنا حتى أطمع بأشياء لا تغني ولا تسمن من جوع في يوم الدين؟ إن كل ما أفكر به هو أن يرضى الله عني. فقال لي: لا أصدق ما تقولين..لقد رأيت كثيرا من الناس في جميع أنحاء العالم.. لم أر أحدا يفكر بالله على الطريقة التي تنظرين فيها للأشياء.. قلت له: أنا مثل بسيط من أمثال كثيرة. قال: ظننت الناس الأطهار في الجنة ولم يعودوا في هذا الزمان! فقلت له: بل هم موجودون في كل مكان و لكنكم لا تشعرون. إن هذه الأرض أرض الله..ولا بد أن يضع فيها من العباد المخلصين في كل مكان..وإلا هلك القوم الظالمون..والقوة العليا هي قوة الله..لا أحد في الدنيا يستطيع أن يقول لبارئه أنا أرفض أن تأمرني بهذا أو ذاك.. من منا يستطيع فعل ذلك..إنكم لا تجرؤون على قول هذا للحاكم..فكيف تجرؤون على قول ذلك لرب الخلق والكون بأسره..ما من قوة في العالم تستطيع أن تقول لا لله رب العالمين..الله وحده الذي يسير الكون والخلق..والذين يتعالون في الأرض اليوم لا بد لهم من يوم يندمون فيه على كل ما فعلوا ولا بد من أن الله تبارك وتعالى قادر على إفنائهم بلمح البصر. والله أكبر.(/2)
وهذا جزء من الموضوع الذي كتبته لهذا الدكتور اليهودي الذي حاول إغرائي بكل الفنون حتى أضل عن سبيل الله وطريق الحق..فالحمد لله الذي ثبتني وجعلني من القوم المؤمنين..وأسال الله الثبات والعمل على تقواه ما حييت..اللهم اجعل خير أيامنا أواخرها وخير أعمالنا خواتمها. رب اغفر وارحم واهدنا السبيل الأقوم. ربنا لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين و لا أقل من ذلك. اللهم اهدنا ويسر الهدى لنا..اللهم آمين..يا رب العالمين.
وهذا هو الموضوع الذي يحمل الرد على فرويد بتصرف:
في بادئ ذي بدء، إذا نظرنا إلى جوهر حقيقة الإنسان فأول ما نلحظه هو أن الإنسان يتوفر على عقل وعينين وأذنين وأنف وجلد وقلب و أمعاء تعطيه معنى بشريا خاصا به كمخلوق أودع الله رب العالمين فيه من الصفات التي لا توجد عند غيره من المخلوقات.
العقل هو الحاكم القويم إذا كان ولا بد من الإعتماد على الأحداث الظاهرة التي قد تُفهم من طرف أي شخص يتوق إلى الحقيقة. إن العقل البشري هو أساسا كفة الموازين التي تدقق بسائر القضايا في الحياة.
العينين تلقيان الضوء على مختلف المظاهر الخارجية.
الأذنين تستمع للخبر وتصغي إليه بانتباه حتى تميز بأحسن طريق اتجاهه وفحوى رمزه.
الأنف يشم النتانة التي تكون على إثر مسار الخنزير، والجو البالي الذي لحق بالحصان الوهن.
الجلد ، الذي يغطي لحم الجسم، يتوفر على إحساس مرهف عند لمس الأشياء المحيطة بالإنسان منذ بداية الحياة حتى نهايتها.
القلب هو لب المعرفة الذي يتلقن مختلف التجارب من كل جوانب الحياة. حقا، إنه المكان الذي بواسطته يستطيع الإنسان أن ينعم النظر في أخفى المشاعر البشرية وردود الفعل التي ترد عن الإنسان.
الأحشاء موقع الشعور بضربة قاسية قد ترعرعت في الجسم الإنساني بسبب صدمة قوية. لهذا فليس من الغريب أن الإنسان هو أهل للبحث عن المعرفة في أعماق كيانه و بيئته.
وحتى لا نكون بعيدا عن الصراط المستقيم، على المرء أن يقيم مسألة الحياة ذات الجودة الإنسانية في عقر دار قصة الإنسان من حيث هو إنسان. لهذا وجب على الدارس للطبيعة الإنسانية أن يصنع القوة الموازنة التي على أساسها يقيم مفهوم الخير والشر في الحياة. لا نحتاج إلى ذكر ما سيكتشف: الشر في أيامنا هاته ذو ثقل كبير! فلا غرو بذلك أن الخير قد ضاع بين براثن الشر. نتيجة لذلك، سوف يعطي الدارس اسما لأقرب المشاعر الداخلية والأفكار الإنسانية بطريقة غريبة. هذا إضافة إلى أنه سوف يبذل قصوى مجهوده حتى يخلص إلى نظرة مجردة من المعنى الأخلاقي للأشياء في هذا العالم المحيط به. وهذه هي نقطة الفشل في البحث التحليلي للطبيعة الإنسانية!
على كل حال، هناك أسلوب آخر لتحليل هذه القضية. في الإجمال، يكون ذلك راجع إلى طريقة التفكير الإنسانية، ونمط العقيدة الروحية. كذلك، يحتاج المفكر إلى بعد مدى النظر في سبر حقيقة الأشياء، وفكر حكيم لدراسة أي مسألة تعترضه. وتكون الدراسة المنهجية بواسطة الإعتماد على التجارب التي تكسب المرء حنكة، ومستخدما جميع الطاقات المتوفرة – التي منحه الله تعالى إياها - للدراسة والتحليل..وهذا بالطبع خير من أن يظل الإنسان واقفا كالمتفرج الغبي. إنطلاقا مما ذُكر، فإن مصدر القوة هذا يوَلِّد في الإنسان قوة الإيمان بالله تبارك وتعالى الذي هو الوحيد القادر على السيطرة على العالم..وكيف لا وهو عز وجل كلي القدرة، كلي الوجود، كلي العلم، وكلي الإبداع والخلق. هو الله الذي لا إله إلا هو العزيز الحكيم الحي القيوم البديع العظيم. إن مجموع هذه الإيجابيات لديها الأهلية لتحل أي مشكلة عويصة تمر على البشر، وتعطي الإنسان قوة لا مثيل لها عندما يتوكل عليها الإنسان – وذلك بالتوكل على الله تبارك وتعالى، لأن هذا يعني التوكل على ذي الجلال والإكرام الذي هو تبارك وتعالى لديه السلطة الكلية في الكون. وما من شك بعد هذا أن الله جل شأنه هو وحده الذي يمنحنا مصراعا متينا لباب حياة شاسعة الآفاق..وبهذا المصراع نستطيع إغلاق الباب على كل ما يسبب الخطر للحياة البشرية القاصرة، وفي اتباع شريعة الله تبارك وتعالى يصل الإنسان إلى شاطئ البر الآمن من الأمواج العاتية، ولكي يتمتع بإنسانيته مسلما لها متطلباتها الفطرية ضمن الشريعة الإلهية العلوية وطبقا للسنة الربانية.
أحيانا يكون مثل هذا المثل الذي كلماته لا تعني شيئا أمام معناه على أرضية الواقع:" القوة هي الحق " ذو نبرة خاطئة في آذاننا، ومن ثمة يحمل الإنسان معنى خاطئا للوعي الإنساني. هذا الأمر يسبب بطريقة أو بأخرى صراع متناقض مع متطلبات الكيان الإنساني بين ال "هو " و " الأنا " بشكل يبدي للعيان سر ضعف التفكير الإنساني.(/3)
لهذه الفرصة المواتية، كان من المحبذ أن نذكر أنه يوجد نمط من التمغنط بين ال " هو" و" الأنا "، كما هو الأمر بين " الأنا " و" الأنا الأعلى ". ولذلك يجد المرء نفسه عاجزا عن استخلاص أي حقيقة معروفة بين ال " هو " و " الأنا الأعلى، وبالتالي يكون من المحتمل أن يلحم الأجزاء الأربعة ليشكلوا كلا واحدا.
على كل، فإن هذا التمغنط يحيي اندماجا تناسبيا يشكل في إجماله الكائن الإنساني. إنه يؤطر كل مرء بطريقة مختلفة عن المرء الآخر؛ لكن مع ذلك، فإن مشاعر الإنسانية وردود الفعل التلقائية تبقى بشكل عام منتمية إلى سر حقيقة كيان تصرفات الإنسان.
في المنطلق، سيكون من اليسير اعتبار التساوي بين ال " هو "، " الأنا "، و " الأنا الأعلى". لكن، التلميح ، بدون أي دليل منطقي، إلى أن ال " هو" السلطة العليا في الذات الإنسانية هو أمر من الصعب جدا تصديقه بالنسبة إلى كل من يحترم عقله و إنسانيته.
هذا ومن المعقول جدا أن المنطق السليم يجعلنا نؤمن إيمانا عميقا أن الإنسان لم يخلق ليتمتع كبهيمة الأنعام. ولا نحتاج على إثر ذلك إلى الإشارة أن العقل البشري هو من أهم الدعائم التي تخول حاكمية الإنسان على سائر المخلوقات، ومن ثمة كان من الطبيعي أن يكون أهم شيء أكرمه الله تعالى لبني الإنسان. إن العقل وضع الإنسان في أرقى المناصب وميزه على كل المخلوقات. وإلا ماذا كنا قلنا عن الإرادة القوية التي تدفع الداهية إلى الوصول إلى خير الخير بكل ما يشرع في القيام به.
لهذا، فمن السهل هذا التصور الذي يشير إلى الإيمان بقوة الإنسان المهيمنة على باقي المخلوقات.
ومع ذلك، فإننا أحيانا نلحظ هيمنة واسعة الإنتشار لجزء واحد من هذا الكل الثلاثي. هذا يعني أن منبع الرغبات، ال " هو "، قد يكون هو المركز الأصلي فوق الكل، و يصير الأمر إلى وجوب تلبية رغباته في الحال.
مثال على ذلك، شخص جائع جدا ويتوق إلى شربة ماء يكون في حالة توتر واضطراب كبير حتى يحصل على ما يسد رمقه، ويقيه شر الفناء من شدة بأس الجوع. قال الله جل جلاله:" فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" قريش. فالله تعالى يذكر عباده أنه هو الذي يهبهم الرزق وما يضمن لهم الحياة والأمان..ومن ثمة فعلى هذا الإنسان أن يحمد رب الأنام على نعمة الطعام و يسجد له ويسبحه بكرة و أصيلا حتى يفلح في الدنيا والآخرة ولا يكون من القوم الخاسرين. قال جل شأنه:" قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء" الأنعام: 164. وقال:" أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض" آل عمران: 83. وقال جل جلاله:" أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون" المائدة:50 فهذا حكم الله في أرضه، ومن ضل وعتا فإنما يعتو على نفسه وما للظالمين من نصير في حياتهم الدنيا ولا في مصيرهم في الآخرة. قال سبحانه وتعالى:" فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون" المؤمنون:7. أي هذه شريعة الله التي أذن بها للناس، فمن أراد الإفراط أو التفريط فقد اعتدى على قانون الله عز وجل وقد اعتدى على حقه كإنسان خلقه الله تعالى و أكرمه وقد اعتدى على باقي البشر بأن سن سنة غير سليمة للناس، ويكون اعتدى على نمط الكون الذي خلقه الله تعالى و أبدعه بأن بدأ بخلل يضر بالنظام الكلي للكون في العالم.(/4)
أيضا، إذا كان هناك عالم مستغرق جديا في العمل باكتشاف علمي، فإنه ما من أدنى شك أنه سيفكر طيلة وقته بالحل السليم للمعضلة العلمية حتى يتوصل إلى ما يشفي غليل حاجته الملحة للحصول على الحل العلمي والسر الجوهري لما يدرسه. فلا غرابة إذن بأنه سيبذل أقصى جهده حتى يشبع رغبته العقلية التي تجعله يشعر بسعادة كبيرة تغمر قلبه عندما يصل إلى اكتشاف علمي قد ينفعه وينفع البشرية بأسرها. وهذا موقف تعجز نظرية فرويد عن النظر فيه و استدراك مدى أهميته في نطاق المفهوم الإنساني بمعناه الصحيح. قال الله تبارك وتعالى:" أفغير الله أبتغي حكما وهو أنزل إليكم الكتاب مفصلا" الأنعام: 114. وقال جل شأنه:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" البقرة: 198. فالله السميع البصير قد من على بني الإنسان بهذا القرآن، كتاب الله العظيم الذي فيه من كل خير، ومن اتبعه نال الهناء والسرور في الدنيا والآخرة. ولهذا كان من أنعم الله عليه من النعم في البحوث العلمية التي تدور في محور الكون المحيط بالإنسان – هذا المخلوق الضعيف – تدفع الإنسان أن يشعر بقدرة الله العظيمة، وبجبروته وقهره على جميع خلقه. وإن الإنسان عندما يشعر بالخضوع والتذلل لرب العالمين يكون له شرف كبير، وفخر عظيم..وكيف لا وهو الذي يسجد لمن خلقه فأكرمه ونعمه، ومن كل خير أعطاه، وشق له سمعه وبصره حتى يدرك أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، والله أكبر و أعز و أجل من كل ما يكون في هذا العالم. والله تعالى قال للأرض: يا أرض من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه. فأي أنعم و أولى للإنسان أي يسير على طريقه.. أيعتمد على الإنسان الذي هو مثله في الضعف وقلة الحيلة، ويترك الخالق البارئ للعالم الذي بيده مقاليد هذا الكون؟ إن أي حكيم يعمل عقله ببصيرة من ربه يدرك إدراكا كبيرا أن الله هو الذي أعطى الإنسان ما يجعله أهلا لأن يكون خليفة الله في الأرض، وأن يعمل على عمارة الأرض لما فيه خير البشرية، وهداية الإنسانية لطريق الحق والصواب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
هذا هو " الأنا " الذي يحمل في ذاتيته العالم الواعي، وأساس الإرادة للتغلب على كل المصاعب التي تمر به في أي زمان أومكان أو نوع من الجهل. ففي حقيقة الأمر، إن فائدة الوعي الفكري أنه يخدم كرامة الإنسان الشخصي بأسلوب يمكن كل امرئ أن يتحمل مسؤوليته بطريقة تليق بشكل مناسب بإنسانيته و طبيعة واجباته تجاه الآخرين في بيئته.
وعلى هذا، فإن سلطة العالم الخارجي لها أيضا تأثير ملحوظ على كل شخص برغم أنف وجهات نظر ذلك الإنسان تجاهها. وعموما، إن أي إنسان هو قادر على أن ينتسب إلى مجتمع يكون هو عضو منه ويشكل صورة مصغرة عنه، لكنه لا يستطيع أن يتحكم به على وجه الصواب الذي يرتئيه للناس ، إلا في حالة إذا ما صار السيد الأول في هذا المجتمع. وبالتالي، فإنه سيعمل على تقليب فكر الناس وفق مزاجه الذي يطيب له ويعتقد أنه هو الخير المثالي لتحقيق الحضارة الإنسانية.
في هذه الحالة، فإن مثل هذا القائد سيضع الناس تحت سلطة نفوذه، ولنقل بكل صراحة أنه سيجعل الناس تكون تحت أمره وتعمل رهن إشارته.
ما من شك أن هذه الإمتيازات تحدث لشخص يعلم بمهارة عالية الخطوط الأصلية التي يسير عليها مجتمعه، ولديه الحكمة الكبيرة ليصيب التصرف في كل المسائل التي تتعلق بحاجات الناس. إن اكتساب السلطة هو أمر ليس بالهين، بل إنه المسؤولية الكبيرة عند الله وعند الناس تسطر أعماله في التاريخ، ويكون إما قدوة لغيره في نشر الخير والبركات على عباد الرحمان، أو يكون عظة لمن يتعظ في تجنب أخطاء الغير التي تؤدي إلى نهايتهم بأيديهم نتيجة للعتو والظلم الغاشم الذي سيطروا به على العباد، ونسوا أنفسهم أنهم جزء من العباد وإن أكرمهم الله عز وجل بأن جعلهم رأس العباد المسير لما فيه سنة الله وشريعته. ولهذا كان من المعلوم عند كل الحكماء - البصيرين في قواعد بناء المجتمعات - أن سلطة الشخص تنم في جملتها عن إرادة المجتمع، لأنه أمر بديهي أن السلطة التي قد حصل عليها الرأس قد جاءت من الرضا الكامل للمجتمع الذي عينت فلانا قائدا وحاكما على سائر جسد المجتمع.
ولكي نضع حدا لسلطة " الأنا الأعلى " كان من الضروري جدا أن يبدو للعيان العام والخاص أن الخير الشامل لكل فئات المجتمع، وذلك بغض النظر عن النفع الشخصي عندما تقتضي الحاجة. إن المنفعة العامة لبني الإنسان هي أهم بشكل كبير وعارم على كل المستويات الإجتماعية من المنفعة الشخصية. فأن ينجو إنسان واحد مقابل مجتمع كامل أمر هزيل وسخيف لا يرتضيه من يحكم العقل و يفكر بأسلوب محايد فلا له ولا عليه..بل لنشدان الصدق والحقيقة الجوهرية التي تكون أساس بناء الفكر الإنساني الكريم بفضل الله رب العالمين.(/5)
وخير ما يقال هو ضرب المثال، ففي بلد ما طرأت عليه مشكلة عويصة وهي انتشار المجاعة للتعرية والمشاكل الطبيعة أو أيا كان السبب.. في مثل هذه الحالة، على كل من الغني والفقير أن يتذكر باستمرار أنه ليس وحده الذي يجب أن يضمن ما يسد رمق جوعه، بل ما يسد رمق جوع الجميع. وقد حدث هذا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي منع القصاص من السارق بسبب الجوع!
هذا، وإن لا حظنا شركة ذات صرح عظيم لا يمكن تحطيمه، فتكون أول بادرة تخطر على البال أنه وراء الدفع الحثيث إلى أوسع خطوات في مجال التطور العلمي والإقتصادي والإجتماعي بواسطة مجهودات متكاتفة مع بعضها البعض لتشكل كلا متعاونا وتطورا نظاميا للوصول إلى قمة القمم في التحضر المدني والإنساني. من أجل ذلك، كان من المحتم على كل عضو في هذا الصرح العظيم من الشركة أن يشارك بكل ما يملك من إخلاص و صدق وشدة بأس في العمل والجهاد حتى يساهم بكل ذلك لمصلحة الشركة ككل، لا لمصلحته وحده كفرد واحد في هاته الشركة. طبقا لما ذكر، فإن على العمال في هذه الشركة أن يتعودوا على هذا النمط الإنساني النبيل السامي، وهو أن يضعوا أيديهم و يشرعوا وكأنهم يد واحدة في العمل المتكامل والمندمج باستمراريته وبتفاهم أعضائه، مثلهم كمثل الجسد الواحد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"1
إن التكافل الإجتماعي في الإسلام واجب عام، على كل فرد في الجماعة الإسلامية منه نصيب، ونصيب الدولة منه وعلى كل مجموعة محلية من الأمة، ثم على الأمة كلها في النهاية لا يتميز فيها حاكم عن محكوم. والقاعدة العامة في هذه التبعات المشتركة هي قول الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم:" كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته"
وهكذا تتداخل التبعات وتتوالى، وتشمل كل فرد حاكما أو محكوما، والضمان الإجتماعي بمدلوله المحدود يدخل في مشتملات هذا التكامل العام. ثم يمضي التكافل الإسلامي في مجالاته الأخرى، حتى يشمل جوانب الحياة جميعها.
وحين يولد المولود في الدولة الإسلامية تترتب له مع حق الحياة، سائر الحقوق التي تحفظ له الحياة، والتي تجعل الحياة كريمة لائقة ببني الإنسان، والتي ترقي هذه الحياة وترفعها لتقبل عند الله. وعليه في مقابل هذه الحقوق التي يكفلها له النظام الإسلامي بمجرد ولادته واجبات لربه، وواجبات لإنسانيته، وواجبات للجماعة التي يعيش فيها. هذه الواجبات متوازنة مع تلك الحقوق، ولا تظلم نفس شيئا ولا تكلف نفس إلا وسعها، والجانب النفسي والإقتصادي في هذه الواجبات وفي تلك الحقوق هو أحد الجوانب لا كلها. وهذه هي الخطوات السليمة التي تسير ببني الإنسان نحو حضارة الرقي والسلام والإطمئنان.
والتكتل الإسلامي لا يعني التعصب في أي معنى من معانيه..إن الإسلام هو الضمانة الوحيدة في هذا العالم اليوم لوقف حركة التعصب ضد المخالفين له في العقيدة، فهو وحده الذي يعترف بحرية العقيدة ويرعاها، في عالم الواقع لا في عالم النصوص. وهو وحده الذي يمكنه أن يضمن السلام للبشرية كلها في ظلاله، سواء من يعتنقونه ومن لا يعتنقونه..إنه لا يستعمر استعمار الغرب الآثم الفاجر، ولا يبيد مخالفيه إبادة الشيوعية الكافرة الجاحدة..إنه النظام العالمي الوحيد.. الذي تستطيع جميع الأجناس، وجميع العقائد أن تعيش في ظله في أمن وسلام.
وطريقنا إذن أن نرفض كل ارتباط إلى عجلة الإستعمار – تحت أي اسم و أي عنوان – وأن نرفض في الوقت ذاته كل دعاية تدفعنا إلى فكي ذلك الغول اللاإنساني الذي يعبث بالبشرية.
إن الإسلام هو الطريق الوحيد، طريق الكرامة، وطريق المصلحة..وطريق الدنيا، وطريق الآخرة..إنه الطريق إلى الله في السماء وإلى الخير في الأرض..وإلى النصر والعزة الإستعلاء..إنه هو الطريق.1
لذلك فليس من العجيب أن يكون هناك إمكانية محتملة لتلاحم كلي بين ال " هو " و "الأنا " و " الأنا الأعلى " في السلوك البشري بشكل عمومي. وهذا التلاحم يعني أن كل امرئ قد يمر بمراحل ضعف، ومراحل قوة، ومراحل اتعاظ، ومراحل تفكير ينشد فيها ضالته بحثا عن السعادة الجوهرية التي تضمن له السلامة الروحية والعقلية والجسدية. لذلك فإن إبراز الجوانب الشريرة في الطبيعة البشرية هو سعي لوضع الستار على النواحي الخيرة منها، أو إهمالها من الحساب البشري، وهذا هو أصل الخطأ عند فرويد..وهنا تظهر مواضع الضعف في نظريته النفسية التي عليها رتب أساس الأنانية الجنسية الدنيئة، فيصدق عليه ما شنع به شاعرنا أبو نواس على " النظام " الفيلسوف المتكلم، فقال يوبخه:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة حفظت شيئا، وغابت عنك أشياء(/6)
لاتحظر العفو إن كنت امرءا حرجا فإن حظركه في الدين إزراء.
فكانت نظرية فرويد هي من المظاهر الفكرية، بل الأجدر الإطلاق عليها الأزياء الفكرية التي كلما شاع منها في أوربة مذهب جديد طبلوا له وعزفوا وكأنه اكتشاف علمي عظيم..لخير الإنسانية..والحق يقال إنه اكتشاف تدميري ضربته قاضية تقصم الظهر فلا يكون للإنسان قومة بعدها إلا من رحم الله رب العالمين. ومن الشر أن تدرس نظرية فرويد بعناوينها وظواهرها دون ما ورائها من عوامل المصادفة العارضة والتدبير المقصود.
فالعلامة سيجموند فرويد اليهودي الذي هو من وراء علم النفس يرجع كل الميول والآداب الدينية والخلقية والفنية والصوفية والأسرية إلى الغريزة الجنسية، كي يبطل قداستها، ويخجل الإنسان منها ويزهده فيها، ويسلب الإنسان إيمانه بسموها ما دامت راجعة إلى أدنى ما يرى في نفسه. وبهذا تنحط في نظره صلاته بأسرته ومجتمعه والكون وما وراءه. ولو جعل الأستاذ فرويد الغريزة الوالدية " الأبوة والأمومة " هي المرجع لكان أبعد من الشطط والشناعة وأدنى إلى القصد والسداد.
والمطلعون على فلسفة التاريخ يعلمون من حقائقه منذ أقدم العصور إلى أحداثها أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم في أمة إنما تقوم على روح الأمة وأحوالها التي تكونها وتجددها في بطء وأناة مفرطة، وقد صورت هذه العلاقة أبلغ صورة وأوجزها في إحدى جوامع الكلم النبوية " كما تكونوا يول عليكم ". كما صور الزعيم الجاهلي " الأفوه الأودي " أهم جوانب هذه العلاقة على اختلاف أحوال الأمم الإجتماعية والسياسية في أبياته الحكيمة البليغة إذ قال:
والبيت لا يبتنى لا له عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فإن تجمع أوتاد و أعمدة وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا
لايصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
تهدي الأمور بأهل الرأي ما صلحت فإن تولت فبالأشرار تنقاد
إذا تولى سراة الناس أمرهم نما على ذاك أمر القوم فازدادوا
وكذلك ألمع أديبنا المصري السيد توفيق البكري إلى أساس الطغيان، إذ قال على نور ما تقدم وغيره:
لا تعجبوا للظلم يغشى أمة فتبوء منه بفادح الأثقال
ظلم الرعية كالعقاب لجهلها ألم المريض عقوبة الإهمال.1
إن النظرة اللاأخلاقية – أي التي تكون بمعزل عن الأخلاق – توصف بأنها شيئية تحسب المعدن البشري كالجمادات، بل وتصدر عن نظرة غير أخلاقية – أي ضد الأخلاق، فهي نظرة شر من النظرة الشيئية أو هي شيئية هدامة، وهذا هو وصفها الذي ينبغي لها، ونحن حين نكتفي بأن نسميها " شيئية " من جانب التيسير أو التخفيف في التعبير، فنحن نقصد بها ما فيها من معنى الهدم، ولهذا نقاومها كما ينبغي أن نقاوم المبادئ الهدامة التي يسلطها دعاة الفساد من إعداد الإنسانية على المجتمعات البشرية أفرادا وطوائف ليرجعوا بها القهقرى إلى ما قبل عصور الوحشية، ويمنحونها خلائق شرا من الوحوش الآبدة الضارية في الأدب والكرامة.
وعقيدتنا – عقيدة الإسلام – هي عزاؤنا وقوتنا في هذه الملحمة التي تفرض علينا لمقاومة الشر الذي يجتاح بكل بأس وقوة لتحطيم بني الإنسان. إنها ستكون حربا ذات فريضة إنسانية وليست ذات فريضة قومية فحسب، وفي كل فريضة إنسانية إنما نعمل على قدر ما توجب علينا قوتنا وأمانتنا، لا لأن أحدا يطلبها منا، فنرضيه أو يرضينا إذا أديناها، ويؤاخذنا إذا قصرنا فيها، فإن هذا الشعور مرجعه الضمير، صوت الله في نفوسنا، والروح القدس الذي لا سلطان لأحد عليه، وهذا الشعور نوع من الحب الذي يغتبط بما يعطي لا بما يأخذ، وهذا ضرب من الفضيلة في أعلى طبقاتها لا يبلغها إلا المقربون وكل ميسر لما خلق له، وليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى، من عند الله الأعلى، وكل امرئ بما كسب رهين.2
لهذا فليس من الغريب إذا وجد الإنسان من آداب القرآن الكريم قلبا اجتماعيا عاما استولى على ما فيها من التصور والفكر والإدراك والإعتقاد، وأحالها كلها فكرا واحدا يستمد قوته من الخلق الذي قام به لا من العقل الذي ينشأ عنه؛ وليس يخفى أن العقل هو مظهر من تاريخ الأمة، ولكن الخلق دائما لا يكون إلا مصدر هذا التاريخ، فلا جرم لم يثبت تاريخ أمة من الأمم إذ لم يكن قائما على هذا الأصل المستحكم وكانت الأمة غير ذات أخلاق.
وإنما صح هذا لأن الصفات الأخلاقية ليست إلا قطعة العمل التي ينسجها الفرد من خيوط أيامه في ثوب التاريخ – لا كما يورد فرويد في عقدة أوديب – الذي تحوكه الأمة لنفسها من أعمار أبنائها، والخلق هو بطبيعته مادة هذا النسيج في الأمة كلها، لأنه وحده الذي يحقق الشبه بين طبقات هذه الأمة نازلها وعاليها من قاصيه إلى قاصيه، فهو في الفرد صفة الأمة وفي الأمة حقيقة الفرد.(/7)
ولا يشتد القرآن الكريم في شيء فيجيء به على العزيمة القاطعة التي لا مساغ للعذر فيها ولا وجه للتعلل عندها، كما تعرف ذلك منه في الأخذ بالأخلاق الإجتماعية، فإنه لم يجعل في أمرها على الناس هويداء ولا رويداء، بل أمضاها و أعلنها ورفع من شأنها وجعلها من عزائمه، حتى لا يشك فيها من عسى أن يشك في غيرها، ولا يرتاب من ربما كانت الريبة من أمره، وحتى أنه لما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأبلغ الصفات وأشرفها وأسناها، لم يزد على قوله:" و إنك على خلق عظيم".
فكان الأصل الأول فيه لهذه الأخلاق هو " التقوى "، وهي فضيلة أراد بها القرآن إحكام ما بين الإنسان والخلق، وإحكام ما بين الإنسان وخالقه، ولذلك تدور هذه الكلمة ومشتقاتها في أكثر آياته القرآنية والإجتماعية؛1 والمراد بها أن ينفي الإنسان كل ما فيه ضرر لنفسه أو ضِرار لغيره، لتكون حدود المساواة قائمة في الإجتماع، لا تصاب فيها ثلمة و لايعتريها وهن: وكل ما أصاب الإجتماع من ذلك فإنما يصيب الدين بدياًّ. لأن هذه التقوى هي مصدر النية في المؤمنين بالله، فإذا اعتدوا ظالمين ولم يحتجزوا من أهوائهم وشهواتهم التي لا تألوهم خبالا ولا تنفك متطلعة منازعة، فإنما ينصرفون بذلك عن الله، ويُغمضون في تقواه ويترخصون في زجره ووعيده، فكأنهم لا يبالونه ما بالوا أمر أنفسهم، وكأن ضمير أحدهم إذا لم يحفل بتقوى الله لا يحفل بالله نفسه، وهو أمر كما ترى. يريد القرآن أن يكون المنبع الإنساني في القلب، ثم أن يبقى هذا المنبع ما بقي صافيا ثرّاً لا يعتكر ولا ينضب، كأنما في القلب سماء ما تزال تمد له من نور وهدى ورحمة.
وهذا الأصل – أصل المساواة – هو الذي كشفه القرآن بقوله عز وجل:" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" فانظر كيف أبان عن المساواة الطبيعية التي لا يملك بحال من الأحوال أن يفرق فيها الجنس الإنساني كله وهي الخلق من " الذكر والأنثى ": وكيف وصف الغاية الإجتماعية للناس شعوبا وقبائل بأنها " التعارف " ، لم يزد على هذه اللفظة التي لا تشذ عنها فضيلة من فضائل الإجتماع قاطبة ولا تجد رذيلة إجتماعية يمكن أن تدخل في مدلولها ولن تجدها إلا منصرفة عنها في الغاية.
ثم تأمل كيف أقام هذا الأساس الأدبي العظيم، فجعل أكرم الناس المتساوين جميعا في الحالتين الفردية والإجتماعية هو أتقاهم، أي أعظمهم خلقا، لا أوفرهم مالا، ولاأحسنهم رجالا، و لا أثقبهم فهما، و لا أعلمهم علما، ولا أقواهم قوة، و لاشيء من ذلك وأشباه ذلك مما لا يتفاضل به الناس على التحقيق إلا في إدبار الدولة واضطراب الإجتماع، وفساد العمران، ويكون مع ذلك كأنه دُرْبة لهم أن يتباينوا بعد هذه الفضائل المشوبة بالرذائل صرفة لا شوب فيها!
ولا يمكن أن تفسر التقوى على التحديد والتعيين في كلمة تستوعب كل معانيها وما يتصل بها إلا كلمة واحدة، هي " الخلق الثابت " ومهما أدرتها على غير هذه الكلمة من أسماء الفضائل كلها فإنك لا تجد اسما واحدا يلبسها لا فاضلة عنه ولا مقصرا عنه.
لا جرم أن هذا الأصل الإجتماعي الذي انشعب من المساواة كما رأيت في نظم الآية، هو الأصل الذي انشعبت منه كل فضائل المساواة والحرية، وإنه لذلك مقدم على الإيمان، إذ لا إيمان لمن لا تقوى له، وأنه يقضي بكل أنواع الحرية التي تفيد الإجتماع، وكلها مقرر بأصوله في القرآن الكريم، غير أن الذي ننبه عليه من فضيلة التقوى أو الخلق الثابت في القرآن؛ أنه جعل أبعد الأشياء عن موافقة الطباع الموروثة وما لابد للنفس الإنسانية في التخلق به من الكد والمعالجة ومن شدة الإعتصام في مدافعة أخلاقها وعاداتها الحيوانية التي هي أصل الفطرة وغريزة الجبلة.
إن استقلال النفس من أسر العادات والأوهام، بالنظر والفكر في مصنوعات الله، ولا يكون الإيمان إيمانا على الحقيقة بدونه ثم هذا الإيمان هو الذي يسند الركنين المذكورين آنفا ويشدهما ويقيم وزنهما الاجتماعي، فيبعث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بثقة إلهية لا يعترضها شيء من عوارض الاجتماع التي تعتري الناس من ضعف الطباع الإنسانية، كالجبن والنفاق، والخلابة والمؤاربة، وإيثار العاجلة. ونحوها مما ينقم الناس بعضهم من بعض. وإذا اعترضها من ذلك شيء لا يقوم لها ولا يصدها عما هي بسبيله. فإن كل هذه الصفات ليست من الإيمان بالله ولا تتفق مع صحة الإيمان، بل هي أنواع من العبادة للقوي والعزيز والمستبد، وللشهوات والنزعات وما إلى ذلك ومتى كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير راجعين إلى الإيمان بالله دخلا في الأهواء الإنسانية، فتجيء بها علة وتذهب بها علة، فيعود أمر الإنسانية إلى التأكل و المهارشة والنزاع الحيواني فإن الحيوان في كل ما يسطو به إنما يأمر بالمعروف هو معروفه وحده وينهى عن منكر هو منكره وحده ...(/8)
اللهم إنه دينك الذي شرعته بكتابك المعجز، بل دين الإنسانية الذي قلت فيه:" فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون"
تلك جملة من القول في الخلق والعقل؛ فلما ضعفت أخلاق القرآن في نفوس أهله، لم ينفعهم العقل الذي أفادوه من استفاضة العلوم بينهم واستبحار فنونها، ولم يغن عنهم من الخلق شيئا، بل كان لهم ما تم للدولة الرومانية في عصر الإمبراطورة الأول، الذي ترجع إليه أسباب المجد لهذه الأمة في العلوم والآداب، إذ امتاز بطبقات من النوابغ فيه، وترجع إليه كذلك أسباب الإنحلال في هذه الدولة واضمحلالها معا، إذ كان لها يومئذ من ضعف الخلق أكثر مما كان لها من قوة العقل، والبناء إذا نهض وطال إلى ما لا يحتمله الأساس، فإنه يعلو، غير أن علوه لا يكون من بعد إلا سببا في سقوطه! 1 وهذه صورة حضارة الغرب اليوم، وهذا هو السبب الرئيسي لانتشار الإسلام في بقاع الأرض بإذن الله رب العالمين.
إن المسلمين الذين هدوا العالم، قد هدوه بالروح الدينية التي كانوا يعملون بها لا بأحلام الفلاسفة1، وآراء الملحدين والمفسدين أمثال فرويد.
إن الفضيلة فطرة لا علم، وطبيعة لا قانون، وعقيدة لا فكرة، وأساسها أخلاق الدين لا آراء الكتب. " ويستنئونك أحق هو؟ قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين". قوة الأخلاق يا شباب، قوة الأخلاق..؛ إن الخطوة المتقدمة تبدأ من هنا. سمعت قصة مضحكة عن متحررات مصريات وهن دكتورات! أقبلن ذات يوم على شيخ من شيوخ الأزهر يسألنه بهزء إن كان في اعتبارهم – في عقيدة الإسلام – أن النساء هن ناقصات عقل ودين. فقالت له إحداهن: يا حضرة الشيخ، أنا دكتورة، وزميلاتي كذلك، ونحن أستاذات قديرات في الجامعة، ومحترمات، فماذا تقول فينا يا شيخ؟ هل نحن ناقصات عقل ودين، ونحن بهذه المثابة العلمية القديرة؟ فقال لهن: حاشا لله أن تكن كذلك! عائشة أم المؤمنين هي ناقصة عقل ودين، وعدد لهن أسماء الصحابيات..ثم قال لهن: أما أنتن فلا عقل لكن ولا دين! والحمد لله رب العالمين.
انتهى بعون الله وفضله.
ابنتكم: هدى قرقور.
1- مفهوم الإنسان في الفكر الإسلامي، د. عمر التومي الشيباني.
1- مفهوم الإنسان، ص: 73-74
1- التطور والثبات في حياة البشر. لمحمد قطب.
1- الحديث بلفظ مقارب عن النعمان بن بشير رضي الله عنه في مسلم: كتاب البر والصلة والآداب. وجاء الحديث عنه في البخاري وأوله: ترى المؤمنين في تراحمهم.. انظر في كتاب: منهاج السنة النبوية لتقي الدين ابن تيمية ص: 104 من الجزء السابع.
1- في التاريخ فكرة ومنهاج للمرحوم الشهيد سيد قطب. بتصرف.
1- بروتوكولات حكماء صهيون، بتصرف.
2- نفس المرجع، بتصرف.
1- جازاك الله عني كل خير يا أستاذي الكريم، فوالذي لا إله إلا هو ما قال لي أحد : اتق الله إلا أنت وأمي وشيخ فاضل – سوري توفي في الأردن اسمه أبو علي.. كان يعلمني منذ نعومة أظافري كلام الله وحب الله قبل أن أقدم إلى المغرب، و منذ عامين تقريبا كلمته بالتلفون وقت المغرب والدنيا رمضان، فقلت له: انصحني، فقال لي: اتق الله واجعلي كل عملك لوجه الله..ونعم بالله..وسألته أن يدعو لي، فكان دعاءه مثل دعائك يا أبتي ويا أستاذي الكريم..أكرمك الله في كل أحوالك وأكرم الله من أكرمك ، وأقر عينك في أهلك وبنيك، وقضى لك جميع حاجاتك.. وزادك من فضله وكرمه ونعمه التي لا تحصى ..اللهم آمين يا رب العالمين.
1- إعجاز القرآن والبلاغة النبوية من مجموعة العلامة مصطفى صادق الرافعي. ص: 103-104. بتصرف.
1- نفس المرجع: 162(/9)
فرية الإسلام المعتدل
بقلم ابو بكر عثمان
tah_taqi@yahoo.com
سمعنا ونسمع عن فرية الإسلام المعتدل ( الإسلام الأمريكي) ، وسمعنا ونسمع عن دعمه من الغرب ووصف القائمين عليه بالأصدقاء والمعتدلين !!
ويبدو أن قادة الغرب قد أيقنوا بعودة الإسلام للحكم الحتمية ، نظراً لتوجه الشعوب العام نحو الإسلام ، فعمدوا إلى خط آخر وهو تمييع هذا الإسلام ، من خلال طرح ما يسمى بالإسلام المعتدل .
ومن الممكن أن توصل دول الكفر هؤلاء (المعتدلين) إلى الحكم في أي لحظة ، ليكونوا سداً أمام عودة الإسلام
الحقيقي والخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة .
فما هي آلية التعامل مع أصحاب هذا المنهج الذي أصبح وبكل وضوح يطرح ما يميّع الإسلام ويقرّبه من الحضارة الغربية
الكافرة أي أن هذا المنهج أصبح عائقاً واضحاً أمام القائمين على النهضة في العالم الإسلامي اليوم
؟نعم ان الخلافة قائمه لا محاله و الغرب يدرك ذلك تماما ولا يستطيع ان يمنع وجودها لكنه يحاول تأخير قيامها فقط
يضع العقبات امام قيامها لقد حاول في السابق ان ينشر فكره و يروج له زمن طويل و سقط فيه من سقط ثم حاول طمس حضارة الاسلام و تشويه صورتها وهاجم بعض احكام الاسلام كالجهاد والخلافة وغيرها
. ولكن من طبيعة الصراع بين الحق والباطل لا شك ان الباطل زاهق وها هو يزهق امام اعينهم ولا يستطيعون ان يحركوا ساكنا فقد بان عوار حضارتهم واصبحوا هم يأكلون ألهتهم التي ظلوا علها عاكفين.
فقد سقطت كل المبادئ و لم يبقى الا الاسلام لذلك يريدون الان ان يلبسوا الحق بالباطل بعد ان تلمست الامه طريق العودة الى الله . ويستخدموا في ذلك ابناء الاسلام كما استخدموا في السابق ابناء الاسلام ليروجوا لهم حضارتهم وافكارهم فيخرج علنا من هو منا ينادى بالاسلام المعتدل الذى ترضى عنه امريكا او الاسلام الوسطي وقد نسمع عن الاسلام الحر قريبا وغير ذلك ممن انخدعوا
وظللوا وضعفت الههم عندهم نعم قد يصبح الصراع في المستقبل بين الاسلام و( الاسلام المعتدل المزعوم) لكن قد تكون هذة المعركه الاخيرة بين الحق والباطل وهي ستكون الحاسمه بإذن الله وستكون من اشد المعارك على حملة الدعوة المخلصين
فاستعينوا بالله ولا تعجزوا(/1)
فريضة طلب العلم ومسؤولية المسلم الذاتية
...
...
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
... ...
...
الحمد الله الذي علّم الإِنسان ما لم يعلم ، وميّز بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، والصلاة والسلام على النبي الأمين الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ، اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى أله وصحبه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين :
( ... قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكّر أولوا الألباب )[ الزمر : 9]
الحمد الله الذي جعل العلم فريضة على كلّ مسلم . ففي الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم يرويه عدد من الصحابة رضي الله عنهم :
( طلب العلم فريضة على كل مسلم )
صحيح الجامع الصغير وزيادته /3913
الحمد الله الذي أَنْزَلَ الكِتابَ على عَبْدِه محمد صلى الله عليه وسلم ، وجعل أساس العلم كله كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأمر عبده صلى الله عليه وسلم أن يذكّر بالقرآن ، فهو النور والهداية في الدنيا ، وهو أساس الحساب والنجاة في الآخرة :
( ... فذكِّرْ بالقرآن من يخاف وعيد ) [ ق : 45 ]
أخي المسلم ! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
إليك يا أخي المسلم أسوق هذه الكلمات , لأُذكِّرك وأُذكِّر نفسي قبل أن نغادر هذه الدنيا ونلقى الله سبحانه وتعالى . نذكر أنفسنا اليوم , فقد سبقت كلمة الله لتكون الحياة الدنيا هي الفرصة الوحيدة أمام الإنسان ليفكر ويصلح من أمره , ويتوب ويستغفر , ثم يمضي على الصراط المستقيم الذي أمرنا الله باتباعه .
هل سألت نفسك : أتؤثر الحياة الآخرة على الحياة الدنيا , فتجعل حياتك الدنيا وفاء بأمانة وعبادة , وعمارة للأرض بالإيمان , كما يأمرك الله ؟!
هل تؤمن أن الموت حقٌّ وأن الساعة لا ريب فيها , وأن البعث حق والحساب حق , وأن الجنَّة حق والنَّار حق , وهل هذه حقيقة مستقرة في نفسك تضبط مسيرتك ؟!
هل تعرف الأمانة التي خلقك الله للوفاء بها , وهل تعرف على ضوء ذلك مسؤولياتك الفردية التي سيحاسبك الله عليها؟!
هل تحب حقاً أن تنصر الله ورسوله , وأن تنصر دينه ؟! فإن كنت حقا تحب ذلك فماذا فعلت وقدمت ؟!
اعلم يا أخي المسلم أن الله الذي فرض علينا التكاليف الربانية وفَّر لنا سبيل الوفاء بها , ويسَّر لنا ذلك بأن جعلها صراطاً مستقيما واحداً حتى لا يختلف عليه الناس ولا يضلَّ عنه أحد . وجعله منهجاً متكاملاً ميسَّراً للفهم والتدبر والتطبيق .
1 ـ واقع المسلمين اليوم :
في هذه اللحظات الحرجة التي يمر بها المسلمون اليوم أحداث مروعة وفواجع كبيرة , يكاد المسلم يقف أمامها حائراً . وإذا عاد إلى نفسه ليحاسبها , وردَّ الأمور إلى منهاج الله , وجد أن كلَّ ما يجري في هذا الكون من أمر صغير أو كبير لا يجري إلا بقضاء الله وقدره :
( إنا كل شيء خلقناه بقدر . وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر .) [ القمر : 50, 49 ]
ويجد كذلك أن قضاء الله وقدره حقٌّ عادل لا يظلم أبداً :
( والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله سميع بصير ) [ غافر :20 ]
( إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون ) [ يونس : 44]
فمن هنا نستنتج بيسر أن الخلل هو في واقع المسامين اليوم , وأن ما ينزل بنا من بلاء هو بما كسبت أيدينا , فالله حق عادل لا يظلم !
( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) [الشورى :30]
فلا بد أن نعود إلى أنفسنا , ونبحث عن نواحي الخلل , ونبدأ بمعالجة أخطائنا وتقصيرنا , حتى نكون أقرب إلى طاعة الله وأقرب إلى النجاة والنصر من عند الله .
ولا بد أن تكون دراسة الخلل منهجية تخضع لمنهج محدَّد واضح وميزان أمين ثابت , وأن يكون العلاج أيضا يخضع إلى منهج واضح , بعيدا عن الارتجال وردود الفعل الآنية , منهج نابع من الكتاب والسنة , متَّبعين النهج الذي أمرنا الله أن نعضَّ عليه بالنواجذ .
لا نستطيع هنا أن نستعرض التكاليف الربانية كلها , ولا مظاهر الخلل كلها , ولا وسائل العلاج كلها , ولكننا نشير إشارات سريعة لمعظم ذلك , ونتناول في هذه الكلمة قضية واحدة من هذا النهج .(/1)
أن من أبرز مظاهر الخلل في واقع المسلمين اليوم هجر الملايين من المسلمين كتاب الله وسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم , حتى غلب الجهل عليهم . وامتد الجهل بالملايين من المسلمين إلى الجهل باللغة العربية , واستبدل الملايين من المنتسبين إلى الإسلام بها لغات أخرى , فزاد ذلك من هجرهم للكتاب والسنة وجهلهم بهما . فوقع الانحراف عند الكثيرين , وأخذت المعاصي والآثام تزداد , وتسلل الأعداء إلى واقع المسلمين وإلى ديارهم ودلفوا بأفكارهم ومذاهبهم ولغاتهم , وبفجورهم وانحلالهم , وجيوشهم وعدَّتهم , فتفرقت الأمة أقطاراً ودياراً , وشيعاً وأحزاباً . وأخذت مذاهبهم تتسلل بين المسلمين , حتى ألف بعضهم تلك المذاهب ثم اتبعوها , ثم أصبحوا دعاتها . ولم ينتبه المسلمون ليواجهوا ذلك في حينه بنهج وخطة , وصف واحد , حتى زاد انتشار مذاهبهم ومبادئهم , وأخذت تتزايد أمراض الواقع ويزداد الخلل .
ونعتبر أن أخطر قضية من بين هذه القضايا هي قضية الإيمان والتوحيد , وقضية العلم الذي أمرنا الله بطلبه والسعي إليه . وأساس العلم كله منهاج الله : قرآناً وسنةً ولغة عربية . ولمعالجة هذا الخلل , هجر منهاج الله , وما يترتب على ذلك من خلل واضطراب في الإيمان والتوحيد , فلا بد أن تخضع المعالجة إلى منهج عمليٍّ نابع من الكتاب والسنة وقواعد الإيمان والتوحيد , ومدرسة النبوة الخاتمة الخالدة .
2 ـ التكاليف الربانيّة : ـ
وكان من رحمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الكتاب والسنّة منهجاً ربّانيّاً متكاملاً مترابطاً , لغته العربية التي اختارها الله سبحانه وتعالى لتكون لغة الوحي والنبوة و القرآن ، ولغة الذكر ولغة الإسلام . فكان المنهاج الربّاني ـ قرآناً وسنّةً ولغة وعربيّة ـ معجزاً لا يقوى أحد من الجن والإنس على أن يأتي بمثله أو بعشر سور مفتريات أو بسورة واحدة . وكان من إعجازه أن جعله الله ميسَّراً للذكر على قلب كلِّ من آمن وعرف اللغة العربية . فالإيمان واللغة العربية مفتاحا تدبر كتاب الله وفهمه , وأساس اليسر فيه :
( ولقد يسْرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) [ القمر 17، 22، 32 ، 40 ]
وكان من رحمة الله سبحانه وتعالى أن فصّل في المنهاج الربّاني التكاليف التي وضعها في عنق كلّ مسلم ، والتي سيحاسَبُ عليها يوم القيامة . وجعل هذه التكاليف مترابطة متماسكة متكاملة ، تمضي كلها على صراط مستقيم واحد ، وجعله الله مستقيماً وواحداً حتى لا يضلَّ عنه مؤمن ولا يُخْتلَفَ عليه ، ليمضي المؤمنون صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص ، كما يحبّ الله أن يكون عليه المؤمنون الذين يحملون رسالة الله ويجاهدون في سبيله :
( وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرَّق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) [ الأنعام : 153 ]
( إِنّ الله يحبُّ الذين يقاتلون في سبيله صفّاً كأنهم بنيان مرصوص )[ الصف : 4 ]
وكان من رحمته سبحانه وتعالى أن بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ليبلّغ رسالة الله ، ولتكون سيرته تطبيقاً عمليَّاً لمنهاج الله ، وليكون النبيّ الخاتم أُسوةً حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر:
( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيراً ) [ الأحزاب : 21 ]
ومن هنا جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرويه العرباض بن سارية رضي الله عنه :
( ... فعليكم بسنَّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضُّوا عليها بالنواجذ ) [ أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجة ]
وفي الحديث الصحيح يرويه أبو هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم :
( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله وسنتي , ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض . ) [ صحيح الجامع الصغير وزيادته : 2938 ]
وكلمة السنّة هنا تعني : الطريق والنهج . فلقد علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه نهجاً يتّبعونه ومنهاجاً يسيرون عليه ، في صورته المترابطة المتكاملة , وليس مجرّد قواعد متناثرة أو أحداث متفرّقة .
إِلى هذا النهج أو المنهاج ، إِلى هذه السنّة النبويّة الشريفة ، ندعو أنفسنا وندعو كلّ مسلم ليتعلّمها وليَعضَّ عليها بنواجذه ، لِنَنْجُوَ من فتنة الدنيا ومن عذاب الآخرة ، ولنُوفيَ بالأَمانَةَ التي خُلِقْنا لها ، والعهد الذي أخذه الله من بني آدم ، ولتصدُقَ منا العبادة لله وحده والخلافة في الأرض التي أَمَرَنا بها , عسى الله أن يُنزل نصره ويرفع بلاءه .
ولنجمع قواعد هذا النهج وهذه السنة النبوية في أسلوب ميسَّر يلبي حاجة واقعنا اليوم , فإننا نقدم ما نسمِّه " المنهاج الفردي " أو " الذاتي " , لكل مسلم , ولكل أسرة , ولكل جماعة وحركة .
ولو رجعنا إِلى مدرسة النبوّة الخاتمة ، مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم ، وإلى الكتاب والسنّة بصفة عامة ، لوجدنا أن هذا المنهاج الفرديّ خاضع لذلك كله مرَّتب على ضوء واقعنا اليوم معتمد على أسس ربانية .(/2)
فالتلاوة والتدبر والحفظ والمراجعة ، والسنّة ، واللغة العربيّة ، ووعي الواقع ، وممارسة منهاج الله في الواقع ، كلّ ذلك مقرّر في الكتاب والسنّة ، وممارس في مدرسة النبوة الخاتمة بالأسلوب الذي كان يتطلبه ذلك الواقع ، حين لم يكن هنالك مصاحف بين أيدي الصحابة رضي الله عنهم ، وإنما كان ذلك في صدورهم . وكانوا يلتقون ويتفقّهون بالكتاب والسنَّة في المساجد والبيوت وسائر الميادين .
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله في كم أقرأ القرآن ؟ قال : اقرأه في كل شهر . قال قلت : إني أقوى على أكثر من ذلك . قال : " اقرأه في خمس وعشرين " . قلت : إني أقوى على أكثر من ذلك . قال :" اقرأه في عشرين " . قلت : إني أقوى على أكثر من ذلك . قال " اقرأه في خمس عشر " . قلت : إني أقوى على أكثر من ذلك . قال : " اقرأه في سبع " . قلت : إني أقوى على أكثر من ذلك . قال : لا يفقهه من يقرؤه في أقل من ثلاث . [ أحمد : الفتح الرباني : 18/18/19 ]
تدريب على العمل المنهجي ، وعلى التلاوة والتدبر والتفقه ، وعلى المتابعة والاستمرار صحبة عمر وحياة .
والأدلة من الكتاب والسنة كثيرة على كل ما أوردناه ، نجد معظمها متوافرة في كتاب : " حتى نتدبر منهاج الله " .
إننا نؤمن أنّ هذه القضية ملازمة للقضية الأولى ، القضيّة الأخطر في حياة الإنسان ، والحقيقة الكبرى في الكون والحياة ، قضيّة الإِيمان والتوحيد قضيّتان متلازمتان ، تدفع كلٌّ منهما المسلم إِلى القضيّة الأُخرى ، حتى يظلّ التأثير بينهما متبادلاً ، ينمو الإيمان بذلك بفضل الله ، وينمو العلم ، وتزكو حياة المسلم ، ويلتقي المؤمنون .
إِن المسلم الذي هجر كتاب الله زمناً ، حين يعود إليه يجد مع اللحظات الأولى بعض الصعوبة . فإن ثابر وعزم ومضى يتفتح الخير أمامه ، ويزداد النور وينشرح الصدر . فمثله في ذلك مثل رجل دخل باب دار ظنّها مظلمة ، فوجد أمامه شمعة تضيء . فإذا تابع المسيرة وجد مصباحاً ، فإذا تابع وجد مصباحين ، فإذا تابع وجد المصابيح تتزايد والنور أمامه يموج ، فيخرج بإذن ربه من الظلمات إلى النور .
3ـ الخطوات الأولى على الدرب : ـ
إن الخطوة الأولى هي أن يدرك المسلم نفسه أن هذه مسؤوليّته الفرديّة ، وتكليف ربّانيّ عليه , سيحاسَبُ عليه ، ويمكنه الاستعانة بإمكانات الواقع للوفاء بهذه المسؤوليّة ، ولكن لا يحلُّ له أن يقعد تاركاً لهذه المسؤولية أو لا هياً عنها بأعذار واهية غير مقبولة في دين الله .
والخطوة الثانية أن يدرك أن هذه المسؤولية يجب أن تأخذ وسعه الصادق الذي وهبه الله إياه ، ولا وسعه الكاذب الذي يسوّغ تفلّته وإدباره .
والخطوة الثالثة أن يُقَدَّم للمسلم في واقعنا اليوم منهجا عملياً ميسَّراًً يستطيع المسلم أَن يَمْضِيَ عليه بجهد ميسور أمين عادل ، مستعيناً بما يتيسر له من إمكانات المجتمع ، وهي كثيرة بعون الله وفضله ونعمه , وعون العلماء والأئمة الصالحين . وإنما على المسلم أن يصدق الله في نيّته وعزيمته ، حتى ينطلق بمبادرة ذاتيّة وحوافز إيمانية .
إِن هذا العمل المنهجي المستوفي للشروط السابقة نسميه ( المنهاجَ الفرديّ أو الذاتي ) ، يحمل معه منهجا عملياً، ويحمل معه اليسر للمسيرة والتطبيق , ليضع هذا النهج الأساس الذي تلتقي عليه عزائم المؤمنين ، وقلوب المتقين ، على صراط مستقيم يحمل الأهداف الربّانيّة الثابتة في الحياة الدنيا ، ممتداً إلى الهدف الأكبر والأسمى : الدار الآخرة ورضوان الله والجنّة .
إن اتِّباع النَّهْج مسؤوليّة فرديّة من ناحية ، ومسؤولية الأُمة كلها ، ومسؤوليّة البشريّة ، لا يُعفى من ذلك فردٌ أو جماعة . فإلى هذا المنهج التطبيقي ندعوك أيها المسلم لتتدبر منهاج الله وتتدرب على ممارسته .
4-المهاج الفردي ( الذاتي ) مسئوليتك الذاتية أيها المسلم :
إن هذا المنهاج الفردي ( الذاتي ) يتألَّف من قسمين : النظري للدراسة والعلم , والتطبيقي للعمل والممارسة والتدريب .
أما النظري فيتألف من أربعة بنود :
1-المنهاج الرباني- قرآناً وسنة ولغة عربية , مع تلاوة يومية لقدر محدَّد من القرآن الكريم مع أحكام التلاوة والتدبر والممارسة , ومع الحفظ والتدبر والمراجعة والممارسة , كل قدر وسعه وطاقته , ومع منهج محدد للغة العربية .
2-دراسة الواقع من خلال منهاج الله : وفق منهج مبسط محدَّد .
3-فقه الدعوة : فهو فقه ممارسة منهاج الله وتطبيقه في واقع الحياة : في البيت , والعمل , والتجارة , وغيرها . وذلك في حدود مسؤوليّاته الفرديَّة التي كلفه الله بها .
4-العلوم المساعدة : وهي العلوم التي تساعد المسلم على تدبر منهاج الله , كالسيرة وغيرها .
أما القسم التطبيقي فيتألف من : قواعد إيمانية للتذكير الدوري بها , وقضايا
للتدريب .
الشعائر والأذكار .
الدعوة والبيان والبلاغ .
أنشطة إيمانية محددة(/3)
إن تطبيق هذا المنهاج الفردي يطبقه المسلم بيسر حين يجعل لكل بند يوماً في الأسبوع , باستثناء التلاوة التي يجب أن يلتزم بها يومياً قدر وسعه وطاقته , مع التدبر والتزام ممارسة ما تعلمه , ومتابعة الواقع الآني كذلك .
وليس من الضروري أن يبدأ المسلم بالتزام جميع البنود والفقرات , ولكن يأخذ قدر وسعه ابتداء , ثم ينمو مع المنهج تدريجياً . ويتضح يسر المنهاج الفردي من البند التالي .
5ـ اليسّر والمرونة المتوافران في تطبيق المنهاج الفردي : ـ
ربما يحسب بعضهم أن تطبيق هذا المنهاج الفرديّ ( الذاتي ) صعب للوهلة الأولى . ولكنه في الحقيقة سهل ميسّر إذا صدقت النيّة وصحت العزيمة واتُّبِع النهج المقرَّر الذي يُسهِّل الاتباع والتطبيق . ولكن لا غناء عن صدق النيّة والعزيمة وبذل الجهد . إنه للمسلم الذي آمن أن هذا تكليف رباني , وأنه محاسب عليه يوم القيامة , وأنه نابع من منهاج الله مرتبط به .
ولتدبر كتاب الله مفتاحان رئيسان هما : صفاء الإيمان والتوحيد , واللغة العربية . فبهما تتفتح المعاني على قلب المسلم .
فمن اليُسْر أن هذا المنهاج الفردي ، وبخاصة المنهاج الربّاني ، يجب أن يُصاحَبَ صحبة عمر وحياة ، صحبة منهجيّة ، يأخذ كل مسلم منه قدر وسعه الصادق دون أن يتفلَّت بأعذار واهية يدفعها الوهم والوسع الكاذب وحب اللهو والاسترخاء .
ومن اليُسْر أن التزام المنهاج الفرديّ يخضع لخطة أُسبوعية ، تجعل لكل موضوع يوماً محدَّداً . فلا يحتاج التزام المنهاج الفردي أكثر من ساعة يوميّاً ، وللمسلم أن يبذل وقتاً أكثر وجهداً أكبر كلٌّ حسب واقعه ووسعه . ولا يوجد من العناصر إلا التلاوة والواقع الآني ، العنصران اللذان يجب ممارستهما يومياً . وللمسلم أن يزيد في ذلك ما يشاء , وأن يلتزم يومياً ببنود أكثر .
ومن اليُسْرِ كذلك أنّ هذا المنهاج مرن ليناسب كلّ مسلم وكل واقع ، وليتحمَّل المسلم مسؤوليّته في ذلك ، ويأخذ في كل مرحلة ما يطيقه ، على أن يستمَّر في ذلك عمره كله ، عبادة لله وطاعة .
ومع نموِّ الزاد والخبرة يمكن تعديل المنهاج الفرديّ ليطابق الزاد الجديد والوسع الجديد . فيمكن أن تصبح التلاوة والتدبر والحفظ والمراجعة عنصراً واحداً هو التلاوة أو المراجعة مع التدبر ، لمن حفظ كتاب الله وتدبّره في مسيرة عمره . ويمكن تأجيل العلوم المساعدة أو بعضها في مرحلة خاصة .
إن هذا المنهاج الفردي يُدرّب المسلم على تنظيم وقته اليومي . فتنظيم الوقت من أهم قضايا المسلم اليوم , ومن أكثر ما يضيِّعه المسلمون اليوم . وهو يدرّبه على حسن التخطيط وترك الارتجال . وهو يدرّبه على ردّ الواقع كله إِلى منهاج الله ردّاً أميناً ، ويضعه أمام مسؤوليته الحقيقية ، ويعرّفه , مع الاستمرار والمتابعة , بالتكاليف الربانيّة كلها ومسؤوليته الفرديّة كلها : أمام ربّه وخالقه ، وأمام نفسه ، وأمام أسرته وأرحامه ، وأمام مجتمعه ، وأمام أمّته كلها .
وهذا المنهاج الفرديّ جزء من النهج العام والخطة العامة التي يجب أن تتوافر في ميدان العمل الإسلامي , والتي تشمل الميادين الأخرى , حيث تتعاون أسس هذا النهج والخطة كلها لتوفّر للمسلم حسن التدريب . ويُشرح هذا المنهاج الفردي بتفصيله وعرض جميع مراحله في كتاب " منهج المؤمن بين العلم والتطبيق " ودراسات أخرى يمكن الرجوع إليها .
ويتبع هذا المنهاج الفردي وسائل تعين المسلم على محاسبة نفسه , وعلى حسن الإشراف والتوجيه .
ويدعم المنهاجَ الفرديَّ " منهجُ لقاءِ المؤمنين " الذي يقوم حين يتعاون اثنان أو أكثر على حسن الالتزام ، تعاوناً منهجيّاً يخضع إلى خُطَّة ونهج ، ويوفِّر التدريب الضروري .
6-موجز ذلك كله :
واجب كل مسلم أن يوفي بالتكاليف الربانية التالية وفاء منهجياً يمتد مع عمره كله :
ا- أن يصاحب كتاب الله صحبة دراسة منهجية وتدبر , صحبة عمر وحياة لا تتوقف , كل قدر وسعه وطاقته .
2- أن تقوم هذه الصحبة على التلاوة اليومية المنهجية مع التدبر , وعلى التفسير المبسط , وعلى الحفظ مع حسن التدبر , كل قدر وسعه الصادق .
3- أن يرافق هذه الصحبة دراسة السنة دراسة منهجية , صحبة عمر وحياة , مبتدئا بكتاب مبسط .
4- أن يرافق هذه الصحبة دراسة اللغة العربية دراسة منهجية كذلك .
5- أن يتابع دراسة الواقع وأحداثه من خلال منهاج الله .
6- أن يرافق ذلك كله ممارسة منهاج الله في الواقع : في بيته , في عمله ووظيفته , في تعامله مع الناس , ومختلف شؤون حياته , وفي الوفاء بالأمانة التي خلق للوفاء بها , والتي سيحاسَب عنها بين يدي الله سبحانه وتعالى يوم القيامة .
أيها المسلم ! هذه تكاليف ربانية جاءت مفصلة بالكتاب والسنة , وقد غفل عنها الملايين من المسلمين زمنا طويلا . وإنك محاسب عليها يوم القيامة , فانهض للوفاء بها , ولا تكن من الغافلين .
والحمد لله رب العالمين
((/4)
وإن لكم في الأنعام لعبره نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين) [النحل 65]
...
... ...(/5)
فشل الأزهر الحديث في تخريج الدعاة
أما عن واقع هذا الفشل فهو من البديهيات التي لا تحتاج إلى دليل ، ولو أراد بعض هواة الاستفتاءات أن يطرح على المصلين والمستمعين سؤالا حول هذا الموضوع ، لفاز بالإجماع ، وهو فشل يكفي في التنبيه عليه النجاح الساحق لأعلام الدعاة المحدثين الذين اقتحموا الساحة من غير هؤلاء الخريجين ، وهو فشل لم يعد مرضيا لغير الساعين إلى استكمال دمار الأزهر ، وهم كثيرون في أروقته وخارجها ، حتى العلمانيين الذين سعوا إلى ذلك منذ صدور قانون تطوير الأزهر عام 1961 إلى اليوم أصبحوا أخيرا في قلق من جراء هذا الفشل لأنه في تقديرهم ترك الساحة للمتطرفين من ناحية ، ووضع في أيديهم خريجين دعاة لا يحسنون تنفيذ التوجيهات العلمانية الصادرة إليهم من ناحية أخرى ، وهو فشل وصلت نتائجه السلبية إلى حد تجريم السكوت عليه وإن أقلق الكلام فيه بعض الراقدين على مكاتبهم منذ وقت طويل من المسئولين عن هذا الفشل في هذا المرفق أو ذاك
ويرجع هذا الفشل في أهم أسبابه إلى قانون تطوير الأزهر لعام 1961 الذي ذهب في اتجاه معاكس تماما لما كان الأزهر بحاجة إليه من تطوير ، ووضع البنية العلمانية الأساسية – منذ أربعين عاما - لاستكمال ما يراد اليوم في مناخ الضغوط الأمريكية ، ومن هنا – وبالرغم من العبث الذي جرى واستقرت بعض قوائمه – فإن الأزهر محتاج فعلا إلى تطوير من خلال حاجة ذاتية طال إهمالها ، ولقطع الطريق على أصابع الأمركة الغاشمة المتسللة إليه ، ولتضميد بعض جراحه من عبث العلمانية به منذ صدور ذلك القانون .
وهو تطوير ينطلق في رأيي من المسلمات الآتية
( 1) الحرص على الخروج من النفق الذي دخله الأزهر بقانون تطوير الأزهر لعام 1961 ، ثم بالتعديل الأخير الذي صدر في صيف عام 1998 ، وهو النفق الذي أدى وما يزال يؤدي إلى تسطيح الدراسات الأزهرية التقليدية ومن ثم أدى وما يزال يؤدي إلى تفريخ ما يسمى التطرف ، لا كما قد كان واردا في اعتبار البعض ، عند تأييد هذا التعديل . وذلك لأن الأزهر بتعمقه التقليدي في الدراسة الإسلامية وعلى مستوى الثانوية نفسها يربي عقلية التسامح والتفتح الذهني وقبول الرأي الآخر في الدراسات القرآنية والحديثية والفقهية والعقدية واللغوية أيضا ، ذلك التسامح والتفتح الذهني الذي عبرت عنه الجملة المشهورة عن الدراسة في الأزهر ( المسألة فيها قولان ) والذي صنع ما كنا نشهد به جميعا من كون الأزهر عامل طرد للاتجاهات المتطرفة في داخله وخارجه ، أما الاختصارات والحذف الذي يتوالى على مناهج الأزهر منذ صدور القانون وحتى الخطوة الأخيرة في تعديله والذي ينصب بالضرورة على حذف التوسع في عرض الرأي والرأي المخالف ، والاقتصار في المناهج الإعدادية والثانوية على رأي واحد ، أو مذهب واحد ، أو حزمة ملفقة من الآراء ، فإنه يسهم في محو قابلية التعدد في ذهن الطالب بالثانوي وهو يتشكل في مرحلة المراهقة
إن إلغاء دراسة الخلافات بتوسع في هذه المرحلة - وخصوصا إذا لم يواصل الطالب دراسته الإسلامية بعد ذلك بانقطاعه عن الدراسة الجامعية أو بانتسابه للكليات الحديثة - سوف يؤدي إلى إلغاء هذه الخلافات في الدراسة الموضوعية العلمية الهادئة المتسامحة ولكنه سوف يؤدي إلى إحيائها متشنجة متوترة في مضطرب الحياة . , أو بانتسابه إلى الكليات أإنه سيؤدي فيما يؤدي إليه من تسطيح الدراسة في الأزهر إلى خلق فراغ يمرح فيه من سيزعم آنذاك أنه أكثر تخصصا في الدراسات الإسلامية سواء من الجماعات الإسلامية الأهلية ، أو من المذاهب المتهمة بالتطرف من حيث تحتكر لنفسها الانتماء إلى الإسلام .
ولقد سبق لي أن ذكرت في ورقة عمل ألقيتها في مؤتمر الشرطة لمقاومة التطرف في عام 1987 بحضور الوزير الأسبق المرحوم اللواء زكي بدر أن مقاومة التطرف إنما تكون بدعم الأزهر ومدرسته الناجحة تاريخيا في هذا الاتجاه ، ولكننا نقول هنا إن تدعيم الأزهر لا يكون بتسطيح الدراسة فيه ، الأمر الذي سيؤدي إلى نتائج فادحة الخطر ليست في مصلحة أحد .
(2) الحرص على توسعة القاعدة التي تبنى عليها الدراسة الإسلامية بالأزهر لا تضييق نطاقها كما يتصور البعض صلاحية ذلك كرد فعل على هذا التعديل ، مع احترامي التام لكل من أسهم برأيه في هذا الموضوع ، وأقصد هنا بالتحديد اقتراحين تم الكتابة عنهما منذ وقت ، الأول جاء بتخصيص شهادة ثانوية يصدرها الأزهر باسم ( الثانوية الأدبية )، والثاني جاء بالتفرقة بين جامعتين أو فرعين داخل الأزهر إحداهما إسلامية والأخرى علمية ، وكلا الاقتراحين يؤدي في نهاية الأمر - في رأيي - إلى تقليص أعداد الطلاب ، ومن ثم حصره في معهد صغير لا يفي باحتياجات الدعوة الإسلامية على النطاق الأزهري المطلوب ، ويتيح النبت لتيارات غير مأمونة ، ويساعد الاتجاهات العلمانية بعيدة المدى .(/1)
(3) الحرص على تسمية الشهادات التي يصدرها الأزهر بأسمائها ، بدلا من الهروب من المأزق الحاضر إلى أسماء قد يبدو فيها المخرج حاليا ولكنها غير دالة على ما نريد ( كالقسم الأدبي)، وقد تحمل في أحشائها فيما بعد تطورات غير مطلوبة ، من بينها زعزعة استمرار وجود الكليات العلمية الحديثة بداخل الأزهر باعتبار أنها لم تعد ذات رابطة موضوعية بالأزهر .
(4)الحرص على البناء على العنصر الإيجابي الذي جاء في قانون تطوير الأزهر لعام 1961 - ولم يكن يقصده واضعو القانون آنذاك على الوجه الصحيح – ؛ وهو وجود كليات حديثة يمكن تأصيل الاتجاهات الإسلامية فيها بعد أن توضع في أيد واعية أمينة ، وتظل – في الوقت نفسه – منطقة جذب للملتحقين بالأزهر منذ البداية ، بحيث يتاح لجميع المنتسبين للأزهر الاختيار من بينها ، إذ لو حجبت عن خريجي القسم الأدبي المقترح لرجعت الدراسة بالأزهر إلى منطقة طرد ملحوظ ، وفي ذلك القضاء على الدراسة الأزهرية الأصيلة نفسها بخنق موارده الطلابية .
(5)الحرص على التخلص من مشكلة ازدواج المنهج في الدراسة الثانوية بالأزهر والتي كانت نتيجة لازمة من لوازم قانون التطوير لعام 1961 والتي سوف تستمر بصورة مشوهة في التعديل الأخير والتي من شأنها إذا استمرت أن تؤدي إلى أحد ثلاثة أمور أوكلها وهي : تسطيح الدراسة في المنهجين معا ، أوحل المشكلة على حساب الدراسة الأزهرية الأصيلة ، أو جعل الأزهر منطقة طرد من الناحية التعليمية .
واقتراحنا الذي نقدمه ببساطة ينقسم إلى مستويين
الأول اقتراح فيما قبل الجامعة
والثاني في مستوى الجامعة بخصوص كليات الدعوة بالذات
وعلى المستوى الأول أرى أن :
تقسم الدراسة الثانوية بالأزهر إلى مرحلتين : الأولي وتسمى المرحلة الثانوية الأزهرية الأولي ، تستمر ثلاث سنوات ، وتدرس فيها الدراسة الأزهرية الإسلامية البحتة ، وتعطي في نهايتها شهادة الدراسة الأزهرية الثانوية الأولى ، ومنها يلتحق من يريد بالكليات التقليدية في الأزهر : الشريعة ، وأصول الدين ، والدعوة ، واللغة العربية .
المرحلة الثانية : وتسمى المرحلة الثانوية الأزهرية الثانية ، وتختص بمن يرغب من حاملي الشهادة الثانوية الأولى، وتستمر سنتين ، وتعطى فيها الدراسات الثانوية المؤهلة للانتساب للكليات العلمية الحديثة بالأزهر ، و تتيح لحاملها الانتساب إلى ما يشاء من الكليات التقليدية أو الكليات الحديثة على السواء .
وأرى أن هذا الإجراء يحل مشكلة الازدواج المزمنة بما هو في مصلحة الدراسة الأزهرية الأصيلة ، ومصلحة الدراسة العلمية الحديثة فيه معا
وحل الازدواج بالطريقة المقدمة لا يأتي في خطين متوازيين : أدبي وعلمي ، كما هو الاقتراح الذي قرأنا عنه سابقا وبما يولده من تداعيات سيئة أشرنا إليها ، وإنما يأتي أولا : في خط واحد متصل ، وثانيا : تأتي الدراسة الإسلامية في أوله ، وهذان أمران جوهريان في الاقتراح بدونهما يتحول الاقتراح إلى سلاح مضاد .
وهو يحول الدراسة بالأزهر إلى منطقة جذب معقولة ، ويوسع من قاعدة الدراسة الأزهرية الثانوية بما يحققه من حرية الاختيار أمام الطالب عند السن المناسب لممارسة الاختيار الجامعي الصحيح ، ويبني الخطوة الأولى الصحيحة في تحقيق الهدف المعلن لقانون تطوير الأزهر في إنشاء كليات حديثة تسهم في الدعوة الإسلامية ، ويقطع الطريق أمام من يترقب الفرصة للاستفراد بالدعوة الإسلامية بعيدا عن الأزهر بدعوى أنه لم يعد أصيلا فيها ، أو للاستفراد بالكليات الحديثة بدعوى أنها لم تعد ذات صلة موضوعية بالأزهر ، وهذه نقطة شديدة الأهمية في تقديري .
و ليس في هذا الاقتراح مساس أو تعطيل لما يمكن اتخاذه في مجال الحوافز : في منح علاوة مقابل التأخر في التخرج ، وعودة سن الإحالة إلى المعاش في الخامسة والستين لخريجي الأزهر ، ومنح مكافآت موسعة لبعض طلبة الأزهر في الإعدادي والثانوي ، وهو باب مفتوح بإذن الله أمام مساعي الأخيار من المؤمنين برسالة الأزهر
أما إذا استمر الوضع على ما هو عليه في الأزهر الآن وخصوصا بعد التعديل في المناهج الدراسية الذي أصاب الدراسات الفقهية والشرعية في الصميم وبعد ما هو منتظر في الاستجابة للتدخل الأمريكي القبيح في مناهجنا التربوية وبخاصة الدينية منها فإن ذلك في رأيي يمثل دخولا - غير مقصود طبعا - في نفق سوف تستثمره العلمانية على طريقتها الحالية ، كما نستثمره عوامل ما يسمى التطرف في المجتمع منذ الآن كما بينا سابقا
أما الوضع في كليات الدعوة في الأزهر :
فعلينا أن نعترف بأن هناك عزوفا عاما عن الالتحاق بأقسام الدعوة بالأزهر وكلياتها ، هذا بالإضافة إلى أن هذا العزوف يضاف إليه عزوف أشد عند الالتحاق بعمل الدعوة بعد التخرج .وفي رأيي أن هذا العزوف وما يرتبط به من فشل ملموس يرجع إلى مجموعتين من الأسباب : تتردد بين القصور والتقصير .(/2)
أما مجموعة أسباب القصور وهي التي لم يكن الأزهر مسئولا عنها بشكل مباشر فيمكن تقسيمها إلى ثلاث دوائر متداخلة :
الدائرة الأولى وهي ترجع إلى الداعية كإنسان عادي ، و نعني بها مستوى معيشته الذي يرتبط بالضرورة بتدني الأجور التي يتقاضاها خريجو هذه الكليات ، ويكفي أن نقول إن خريجي هذه الكليات لا يحصلون على ما يسد تكاليف الطعام والشراب ، والملبس والدواء فضلا عن السكن والمواصلات والزواج إلخ ، بالرغم من التحسن الذي طرأ على هذا المستوى.
وإذا كان هذا هو حال خريجي الكليات النظرية بوجه عام ، فإن خريجي أقسام الدعوة وكلياتها بالأزهر الشريف يتنسمون الذروة العليا من هذه المشكلة ، وهم لا يملكون ما يملكه بقية خريجي هذه الكليات من قدرة على زيادة دخلهم في عمل إضافي يتمثل في الدروس الخصوصية لمن يعمل مدرسا ، أو في عمل آخر يجده الداعية غير لائق بطبيعة عمله .
وعلاج هذه الحالة يقتضي : فرض أجر واقعي مناسب لا يقل عما تفرضه الدولة لفئات أخرى تحرص الدولة على تأمين أجر مناسب لها لظروفها الخاصة . بالإضافة لمواصلات مجانية ، ومسكن بأجر رمزي ، وقرض حسن لتكوين الأسرة يسدد على أقساط ميسرة ، ومكتبة مجانية مستمرة التزويد من قبل الدولة .
أما الدائرة الثانية التي تلي الدائرة الأولى من أسباب القصور : فهي تلك التي تتعلق بصلة الداعية بالاتجاهات المختلفة العاملة في نطاق الدعوة ، وأعني بذلك ما نجده من تنافر بين تلك الاتجاهات ، وتنابز بالألقاب يصعد حتى يكون تنابزا بالكفر .
فهناك الدعاة الذين يعملون في إطار السلطة الشرعية يتقاضون أجورهم منها ويلتزمون أمامها بالولاء ، وهؤلاء نجدهم عرضة للاتهام بالسكوت عما يغضب السلطة ، إن لم يقعوا في تهمة مساعدتها بالقول والفعل في أمر من الأمور التي تبدو مخالفة للشرع كما هو الحال الذي اتسع فيه الخرق على الراقع أخيرا ، وهم على كل حال يجدون أنفسهم بالحق أو بالباطل – مهما احترسوا – مدموغين بالنفاق منذ اللحظة الأولى التي يمارسون فيها أعمالهم .
وهناك الدعاة الذين دفعتهم بعض الظروف إلى العمل خارج إطار السلطة ، والاحتياج لأجورها ، وهؤلاء نجدهم ، مهما أخلصوا في عملهم – عرضة للاتهام بالجهل تارة ، والتطرف تارة ، واستثارة الجماهير تارة أخرى .
وهناك الدعاة الذين يميلون لشيء من التصوف – ولنقل لتصوف دعوى معتدل ملتزم بالكتاب والسنة - وهؤلاء يجدون أنفسهم عرضة للاتهام بالسلبية إزاء مشاكل المسلمين ، أما إن فقدوا الاعتدال في تصوفهم فهم يصبحون عرضة للاتهام بأخطر التهم .
وهناك في مقابل هؤلاء دعاة يتشددون في الالتزام بظاهر النص وحرفيته وهؤلاء يجدون أنفسهم في عزلة عن إخوانهم في الدعوة ، وعن الجماهير في أكثر الأحيان .
وهؤلاء جميعا يتضاربون ، ويتنابزون ، ويحبط بعضهم أعمال بعض .
ولا شك عندي أن طلاب الدعوة يتنسمون ريح هذا الجو ، ويحسون ثقله على عقولهم الغضة ، فيصيبهم ذلكم بشيء كثير من الرهبة أو الإحباط أو اليأس ، يؤدي بهم أخيرا إلى الفشل .
وعلاج هذا الحال معقود في رأيي بيد الذين يناط بهم أمر الدعوة محليا وعالميا ، فضلا عن الذين يخططون لها ، أو ينبغي أن يخططوا لها على مستوى العالم ، ويمكنهم حل هذه المشكلة بالاتفاق فيما بينهم في مؤتمر محلي أولا ثم في مؤتمر عالمي ثانيا ، يبرأ من صلته بالسلطة ثالثا ، يضم جميع الأطراف دون تجاهل لتيار منهم ، وخطوط الاتفاق هنا يمكن أن تكون بالاتفاق على القاعدة الفقهية التي تقرر أنه : إذا تردد الفعل بين أن يكون فرضا أو بدعة فالدعوة إليه وإتيانه أولى بالاتفاق ، وإذا تردد بين أن يكون سنة أو بدعة فالنهي عنه أو تركه أولى عند أكثر الفقهاء وهو المختار ، وإن تردد بين أن يكون واجبا أو بدعة فالدعوة إليه أو إتيانه أولى عند أكثر الفقهاء كذلك ، وعلى وجه العموم هناك في قواعد الشريعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يمكن النظر فيه وإقراره على مستوى المؤتمر الذي ندعو إليه ، من أجل أن تتحرك هذه الاتجاهات الإسلامية على قاعدة من الوفاق ، العملي وإن اختلفت أحكامها النظرية أحيانا .
ومن الضروري في هذا المجال أن توضع من خلال مؤتمر إسلامي عالمي سياسة عملية لتنشيط الفكر الإسلامي ليضع إجابات واضحة وحلولا عملية أمام المشكلات الحيوية المطروحة عليه في العصر الحاضر : كمشكلة الحرية ، والتربية ، والإعلام ، والاقتصاد ، والحكم ، إذ من المقرر أن الغموض المصطنع في هذه المجالات يمثل عبئا ثقيلا على ذهن الداعية ومواقفه .
أما عن الدائرة الثالثة من أسباب القصور فتتعلق بعلاقة الداعية بالمجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه ، في تعامله مع أوضاع مثيرة للخوف أو للضجر ، أو للقرف ، وهي جميعا تضع الداعية في ظروف نفسية بالغة القسوة .(/3)
ويكفي أن أشير هنا إلى العلاقة الحرجة – على أقل تقدير – تلك التي تقوم بين الداعية وبين التقارير التي يكتبها موظفو الأمن ، على أساس من سوء الفهم ، أو من سوء التفاهم ، أو إلى العلاقة الضيقة أو المضيَّقة – على أقل تقدير - بين الداعية وبين أهم جهاز يمكن للداعية أن يعتمد عليه في دعوته ، وهو جهاز الإعلام ، بأشكاله وصوره المختلفة ، أو إلى تلك العلاقة المبنية على سوء الظن المتبادل بين الداعية والرأي العام ، والتي ساهمت العلمانية المعاصرة في صياغتها مساهمة كبرى .
ولا يخفى ما لهذه الدائرة من أثر حاسم في فشل الداعية وتنفيره من عمل : ما أقل جدواه بمقياس الدنيا ، وما أفدح ثمنه بمقياس الدنيا كذلك ، وبخاصة أن الداعية الذي نتحدث عنه ليس من مرتبة الشهداء أو الأولياء أو الصديقين ، وإنما هو من أوساط الناس الذين تؤثر فيهم هذه العوامل تأثيرا كبيرا ، وذلك بحكم الضرورة ، وطبقا لاتساع العدد المراد إعداده منهم بعشرات الآلاف .
وعلاج هذه الدائرة – كما لا يخفى – يحتاج إلى كفاح طويل وجهاد مرير ، والخطوات الأولى في هذا العلاج يملكها هذا المؤتمر الذي ندعو إليه أو جهات أخرى تملك قوة التأثير ، عليها أن تتوجه بالرجاء ثم بالتوصية ثم بالضغط على : منابع التنفير والفشل المنبعثة من خلال هذه الدائرة ، وأن تتدارس في وضع الحلول العملية التي تحرر الداعية تجاه السلطة ، وتشد من أزره تجاه الإعلام ، وتبرئه من سوء الظن المتبادل بينه وبين الرأي العام . وقد نصل في هذه الخطوات إلى أمرين : توفير مستوى من الحصانة الأدبية والقانونية للداعية ، ومن قبل هذا : حسن إعداده لمهمته ، وهو ما سنتعرض له في الكلام عن التقصير في إعداد الداعية. .
عوامل التقصير في إعداد الداعية في الأزهر
في رأينا أن التقصير في إعداد الداعية هو الذي ينفره من عمله ويؤدي إلى فشله وتلك مسئولية الأزهر بشكل مباشر ، ويتمثل هذا التقصير في ثلاث مراحل :
المرحلة الأولى : في إعداد الطالب قبل التحاقه بأقسام الدعوة وكلياتها ، وهنا يظهر التقصير بشكل حاد في : ضعف المستوى اللغوي للطالب سواء في اللغة العربية ، أو اللغة الثانية التي يحتاج إليها في الدعوة ، كما يظهر في الضعف الشديد في حفظ القرآن الكريم نتيجة زحف النظرية التربوية العلمانية التي تحارب الحفظ في أي صورة ، واجتياح هذه النظرية للمؤسسة الإسلامية الكبرى التي كانت تعمل على تحفيظ القرآن الكريم ، وأعني بها " الكتاتيب" واختفاء هذه المؤسسة دون أن يظهر لها بديل ، وتحالف النظرة التربوية الحديثة على ألا تقوم لها قائمة .
وعلاج هذه الحال يمثل تحديا مباشرا للأزهر ، ويتمثل في التصدي لمشكلات التربية الإسلامية ككل ، ومعالجة قضية " تحفيظ القرآن الكريم " للناشئة علاجا عمليا حاسما شاملا على وجه الخصوص ، وفي هذا الصدد فإنه ينبغي أن يؤخذ – إلى جوار التحفيظ الشامل – بمبدأ التحفيظ الموضوعي ، بمعنى أن يكون الطالب قادرا على استظهار ما يطلب إليه من مجموعة من الآيات القرآنية في موضوع التوحيد مثلا أو موضوع العدل ، أو موضوع الجهاد ، وهكذا . فهذا فضلا عن كونه يزيد رباطه بالقرآن الكريم فإنه يزيده قدرة على الاستشهاد به فيما يحتاج إليه ، في دعوته ، ولعل في كتاب " جواهر القرآن " للإمام الغزالي مثلا لما أدعو إليه .
المرحلة الثانية : وأعني بها مرحلة إعداد الداعية في داخل كلياتها ، وفي رأيي أن هذا الإعداد لم توضع مناهجه بعد ، ومازال الأزهر يتعامل مع هذه الكليات كأنها نسخة منقحة أو مزيدة ، أو معدلة من كليات أصول الدين ، نتيجة نشأة هذه الكليات تحت وصاية أساتذة غير متخصصين في الدعوة ، جعلوا منها حكرا لهم ، وحالوا بين هذه الكليات وبين الاستفادة بأصحاب الخبرة ، والتخصص في علوم غير علومهم كعلوم الاتصال والنفس والاجتماع والتاريخ واللغات ، وهي الخبرات والتخصصات التي كان ينبغي استدعاء أصحابها من مواقعهم المختلفة منذ اللحظة الأولى ، لتبوء أماكنهم ودرجاتهم الوظيفية داخل هذه الكليات ، ومازال الأمر كذلك حتى اليوم ، مما مثل جناية كبرى على إعداد الداعية ، وأجهض فكرة إنشاء هذه الكليات ، إلى درجة أن البعض يتساءل أخيرا عن جدوى الفكرة أساسا .
وعلاج هذه المشكلة بعد استفحالها ووقوعها في يد المكاسب الشخصية المستفيدة بها : يتمثل في جرأة الإصرار على أن يكون لهذه الكليات اعتبارها الخاص : في تربية الطالب وتدريبه والتدريس له على السواء.(/4)
لذا فإن الأمر يحتاج إلى جرأة وعزم و إصرار على أن تكون الدراسة بهذه الكليات : ( داخلية ) ليوضع الطالب في إطار من التدريب والتربية الجسدية والسلوكية العملية ، تحت توجيه معيشي يومي مستمر خلال الساعة واليوم والليل والنهار ، طوال فترة الدراسة ، تحكم فيه تصرفات الطالب ومعاملاته تحت رقابة أخلاقية وسلوكية صارمة . وليس أمر طالب كليات الدعوة في هذا بأقل خطرا من طالب الكليات الأخرى التي وضعت في هذا الإطار لأغراض مشابهة .
أما مناهج الدراسة فينبغي أن يكون لها وضع متميز – بحكم مهمتها – يحميها أولا من قلق التخبط والحيرة بين الكليات السابقة عليها ، ويستجيب لحاجة مهنة الدعوة إلى مزيد من التخصص في العصر الحديث .
ونرى أن يكون هذا الوضع المتميز على تقسيمين داخل كليات الدعوة : أحدهما أفقي يشمل الشعب الطلابية ، والثاني رأسي يشمل الأقسام العلمية .
وفي الشعب الطلابية ينبغي أن تكون الدراسة على نوعين : دراسة أساسية لجميع الشعب ، ودراسة خاصة لكل شعبة على حدة تنشأ متنوعة بحسب البلاد التي سوف تمارس فيها الدعوة على خريطة العالم : فشعبة للبلاد العربية ، وشعبة لوسط أفريقيا ، وشعبة لشرق آسيا ، وشعبة لأمريكا اللاتينية ، وشعبة لأوربا الغربية وشعبة لشرق أوربا وهكذا ، حيث يتم التوسع أو الاختصار في ذلك حسب خطة الدعوة وإمكاناتها
وفي الأقسام العلمية ينبغي أن تتكون من ثلاثة :
قسم أصول الدعوة ويقوم أولا بالتدريس الأساسي للشعب جميعا في مواد التوحيد والتفسير والحديث والأخلاق وتاريخ الأديان الكبرى .
ويقوم ثانيا بالدراسة الخاصة لكل شعبة بحسبها في مواد : المذهب العقدي والفقهي والفلسفة والتيارات الفكرية ، والأوضاع الثقافية والاقتصادية الأكثر انتشارا في كل منطقة على حدة من مناطق التخصص .
وقسم تاريخ الدعوة : ويقوم أولا بالدراسة الأساسية في مواد السيرة النبوية ، وتاريخ العالم الإسلامي وحاضره بشكل عام ، وتاريخ العلوم والإعلام ، للشعب جميعا على حد سواء .
ويقوم ثانيا بالدراسة لكل شعبة بحسبها في مواد : انتشار الإسلام وحاضره ، بتوسع في المنطقة الخاصة : سياسيا واقتصاديا واجتماعيا .
وقسم وسائل الدعوة : ويقوم أولا بالدراسة لجميع الشعب في مواد اللغة العربية ، وعلم النفس الفردي ، والاجتماعي ، وعلم الاجتماع ، ونظريات الاتصال ، والرأي العام ،والإعلام والخطابة ، والإلقاء ، وكيفية التعامل في مجال الصحافة والإذاعة والتليفزيون والانترنيت ،
ويقوم ثانيا بالدراسة الخاصة لكل شعبة بحسب تخصصها في منطقة جغرافية معينة ، في مواد : اللغة غير العربية الأكثر انتشارا محليا ، والخدمة الاجتماعية اللائقة محليا على مستوى الفرد ومستوى الجماعة ، كما يقوم هذا القسم بتدريس متوسع لعدد مختار محدود من القيم الإسلامية والاجتماعية التي تبدو المنطقة أكثر حاجة إلى التركيز عليها وشرحها والاستفادة بها في نشر الدعوة .
كما يقوم هذا القسم بتعليم الداعية حرفة يدوية راقية تكون وسيلة له ووقاية معا في المنطقة الخاصة لشعبته .
كما يقوم أيضا بتدريس أهداف الدعوة المرحلية في كل شعبة بحسب المنطقة الخاصة بها ، وذلك في إطار خطة عامة للدعوة على المستوى العالمي ، تقوم بوضعها الجهة المختصة أو مؤتمر خاص بذلك .
ضرورة التخطيط في ممارسات الدعاة من خريجي الأزهر :
إذا كان من الضروري إعادة التنظيم للمرحلة الأولى من إعداد الداعية في اللغة وحفظ القرآن الكريم ، ولابد من إعادة التنظيم للمرحلة الثانية داخل كليات الدعوة نفسها فإنه من الضروري - في المرحلة الثالثة بدرجة أشد - مواصلة التوجيه والإعداد للداعية بعد التخرج ، وذلك عن طريق وضع خطة للدعوة ، يبدأ توجيه الداعية لها أثناء الكلية ، ويستمر العمل في صياغتها وتنميتها وتطبيقها أثناء ممارسة الدعوة بالفعل ، وذلك انطلاقا من أن مهمة الداعية لا تقتصر على الجانب العلاجي لنفوس الضالين ، وإنما هي في المقام الأول مهمة بنائية : بناء الفرد ، وبناء المجتمع .
إن الداعية الذي نعده لهذا البناء أشبه بالمهندس منه بالطبيب المعالج ، ولا يمكن أن نتصور أن يعد المهندس على أعلى المستويات العلمية أو التدريبية ثم يساق بعد ذلك إلى عمله دون أن يجد مشروعا محددا ، مدروسا ، يعمل في نطاقه ، من وضع هيئة مختصة ، وبإشراف مصنع مختص .
إذا سلمنا بذلك كان من المستحيل أن يقوم الداعية بمهمته البنائية في العصر الحديث مالم يوضع في يده مشروع وخطة .
لقد آن لنا أن ندرك أنه مهما يكن من إجادة تكوين الداعية إلى الإسلام سلوكيا وثقافيا ، بل مهما يكن من توفير الإمكانات المادية له فإن الفشل سيكون من نصيب المجموعة الكبرى من الدعاة ، وإن نبغ من بينهم أفراد معدودون ، وسنظل ندور في حلقة مفرغة من السخط لفشل الأكثرية الساحقة منهم ، والانبهار لنجاح الأفراد العباقرة منهم والعزوف عن ممارسة مهمة الدعوة .
ومعالجة هذا الوضع تتم بوضع مشروعات الدعوة .(/5)
إن الأمر الذي لاشك فيه هو أن الداعية في العصر الحديث يلاقي أوضاعا حضارية مستحدثة ، لم يكن لها نظير في تاريخ الدعوة الإسلامية ، تحتم عليه العمل في نطاق تخطيط مدروس ، تضعه هيئة مركزية ، ويسفر عن مشروعات محددة ، وهكذا يعمل الدعاة المحدثون الذين يعملون لحساب جهات غير إسلامية ، وهذا ما تفرضه طبيعة العصر ، الذي يتميز كما قلنا بأوضاع حضارية جديدة ، منها على سبيل المثال لا الحصر : الانفتاح الثقافي العالمي ، وعمق الاختلاط ، وسهولة الاتصالات ، وهي أمور من شأنها أن تقلل إلى أبعد حد من قيمة الجهود الفردية والتلقائية .
وهذه المشروعات يجب أن تكون على مستويات ثلاثة : مستوى الشخصية الإنسانية ككل ، ولهذا دراسة خاصة ضممناها في كتاب لنا عن مشكلة التربية الدينية ، ثم على المستوى النوعي للفرد ، ثم على مستوى الجماعة .
وعلى مستوى الفرد يمكن أن يكون هناك مشروعات مختلفة لبناء الطالب ، والعامل ، والموظف ، والعالم ، والحاكم والمحكوم ، والفلاح والجندي، والابن ، والأب والأم ، والزوج والزوجة ، وربما توضع مشروعات أخرى .
وعلى مستوى المجتمعات يلاحظ التنوع الاجتماعي الذي يعمل في نطاقه الداعية ، ومن ثم يمكن أن يكون هناك مشروع لبناء المجتمع الواقع تحت ظروف اقتصادية متقدمة ، وآخر لبناء المجتمع الواقع تحت ظروف اقتصادية متخلفة ، وآخر لبناء مجتمع الأقلية الإسلامية ، وربما يوضع مشروع لبناء جماعة النادي ، وجماعة المواصلات ، وجماعة الشارع ، وجماعة العمارات الضخمة ، ويترك التقدم في وضع هذه المشروعات لنمو الدراسات والبحوث داخل هذه الكليات على مستوى التأليف والماجستير والدكتوراه وما بعدها .
ولابد أن يتم ذلك وفق تخطيط عام أصبح ضروريا لكي يوضع لكل تخصص من تخصصات الدعاة خطة تتلاءم مع الإقليم الذي سيعملون فيه ، تبين فيها :
أولا مداخل الدعوة في هذا الإقليم ، وثانيا : وسائلها المحلية وثالثا ، غايتها المرحلية .
ومن ناحية المداخل : فبالإضافة إلى المدخل الرئيسي للدعوة الإسلامية بصفة عامة : وهو إسلام النفس لله ، ، تختلف المداخل الفرعية باختلاف البيئات والأقاليم ، وهنا ينبغي على الدعوة الإسلامية أن ترتكز على قيمة معينة من قيم الدين الإسلامي ، تكون مدخلا إلى القيم الأخرى ، وعلى سبيل المثال : قد يكون المدخل في البلاد المتقدمة سياسيا "مفهوم الحرية " في الإسلام وكونه أصلح المفاهيم وأقواها لحل مشاكل الحرية . وقد يكون المدخل في البلاد المتخلفة مفهوم التقدم في الإسلام وارتكازه على الإيمان بالله ثم العلم والعمل ، والعدالة ، وقد يكون المدخل في البلاد التي ظهرت فيها آفات "الرفاهية المادية " مفهوم الآخرة " في الإسلام وارتباطه بالعمل الدنيوي ، وارتكازه على الأخلاق ، وقد يكون المدخل بالنسبة لمجتمعات التفرقة العنصرية أو الطائفية " مفهوم الحقوق الإنسانية في الإسلام " وهكذا ، ويتوقف التقدم في طرح هذه المشروعات على التخطيط ونمو الدراسات والبحوث داخل هذه الكليات على مستوى الماجستير والدكتوراة وما بعدها .
وبالنسبة للأفراد ينبغي أن يكون الداعية على علم بأن ما يصلح مدخلا لفرد قد لا يصلح مدخلا لفرد آخر ، وقد تكون البداية بالنسبة لفرد هي الميول الوجدانية ، وقد تكون بالنسبة لفرد آخر هي النظرة العلمية ، وقد تكون بالنسبة لثالث قيمة أخلاقية معينة ، وهكذا كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ، في تصديه لهداية الأفراد كما نعلم جميعا ، وكما ينبغي استثماره منهجيا في التخطيط للدعوة الإسلامية .
وعلى هذا النحو أيضا تبين في الخطة الوسائل المحلية المتوفرة في الإقليم ، والتي يعد الداعية للتعامل معها ، ويوجه لاستغلالها ، وهذه الوسائل قد تكون الخطابة في إقليم ، والصحافة أوالسينما أو المسرح أو القصة أو الإذاعة أو التليفزيون ، أو الإنترنيت ، وقد تكون التجمعات الطلابية أو العمالية أو تجمعات الموظفين أو أماكن الاستشفاء أو النوادي في إقليم آخر ، وقد تكون مجموعة مترابطة من هذه الوسائل ، يوجه الداعية للتعامل معها جميعا أو التنسيق بينها أو التركيز على الوسيلة الأهم منها .
وعلى هذا النحو تبين في الخطة الغايات المرحلية التي تدعو إليها الحاجة الملحة من وجهة نظر الدعوة في إقليم بذاته ، فقد تكون هذه الغاية – بجانب الغايات البنائية التي قدمنا الكلام عنها – مقاومة التبشير في إقليم ، أو مقاومة المادية في إقليم ، أو مقاومة التأخر الاقتصادي ، أو التحلل الأخلاقي ، أو الانكباب على متع الدنيا في إقليم آخر .(/6)
وقد نختلف في بعض الأمثلة التي ضربناها ،ولكن الأمر الذي أرجو ألا نختلف عليه هو أن وضع خطة تفصيلية على هذا النحو أو غيره في يد الداعية قد صار حجر الزاوية في عمله ، وهو مقياس نجاحه أو فشله ، وهو ضمان صيانته من التشتت، أو التضارب ، أو العزوف ، أو الفشل ، وهذه كلها أدواء خطيرة يعاني منها الدعاة في العصر الحديث أشد المعاناة . وهذه الخطة لم تعد ضرورية للداعية كفرد مسئول عن عمله بعد التخرج فحسب ، ولكنها تعتبر في تقديري البداية الأولى في التخطيط لإنشاء أجهزة الدعوة ، بما فيها كليات الدعوة التي لم تظهر على غير عناوين الأوراق الرسمية بعد .
ويتوازى هذا الاقتراح مع ضرورة عقد مؤتمر إسلامي عام لتطوير الأزهر الذي لابد أن يكون ، وذلك لأن مشاكل الأزهر أوسع دائرة من قضية الدراسة الثانوية وازدواج المنهج وفشله المتزايد في مجال معين .
وبغير هذا التخطيط سيظل موقفنا من الداعية – طبقا لظروف العصر - قاسيا أشد القسوة وسيظل ينطبق علينا في شأنه قول الشاعر :
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
وبغير المبادرة إلى مثل هذا التطوير الذاتي يقدم المسئولون عن الأزهر في داخله وخارجه صرح الأزهر العتيد لقمة سائغة للمستشار الأمريكي الرابض في مكتبه الفاغر فاه للقمة الأزهر الغالية
ألا هل بلغت اللهم فاشهد .
والله أعلم . تحريرا في 8 \ 12 \ 2003
أد : يحيى هاشم حسن فرغل
عميد سابق لكلية أصول الدين بالأزهر
yehia_hashem@ hotmail .com(/7)
فشل الترابي في الدفاع عن الفشل نزار محمد عثمان*
نشرت الرأي العام السبت11مارس2006 حوارا أجراه الصحفي الموهوب ضياء الدين بلال مع د. الترابي.. لم يخف فيه الأخير نظرته السوداء للتاريخ الإسلامي، وإعجابه بنفسه؛ لدرجة أن يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لم يبن دولة مستقرة؛ إذ أن دولته لم تستمر بعده سوى بضع عشرات من السنين.. حسب زعمه!!.. ما أكبرها من كلمة!، وما أعظمها من جرأة!.. وهي في ظني لا تبعد كثيرا عما قاله القائم بالأعمال الأمريكي!!.. بل هي أكبر؛ لأن القائم بالأعمال الأمريكي نصراني؛ خارج دائرة الإسلام؛ فليس لكلامه وزن عند المسلمين؛ لكن د. الترابي له كلمة مسموعة من قطاع عريض من المسلمين!!..
وحتى لا يظن البعض أنني أقوّل الرجل ما لم يقل سأنقل بعض ما ورد في الحوار على لسان الترابي.. قال الترابي؛ مدافعا عن تجربته في الإنقاذ: (إنها وفرت كثيرا من العبر)؛ فقال له المحاور: (أليس في التاريخ الإسلامي ما يكفي من العبر؟!)؛ فرد الترابي: (عن أي تاريخ إسلامي تتحدث؟!.. ألف وأربعمائة سنة والدولة بعيدة عن الدين)!!.. اهـ.. ولك أن تعجب أيها القارئ الكريم: كيف يصدر مثل هذا الكلام ممن له معرفة بالتاريخ؟!.. نحن في العام السابع والعشرين بعد الأربعمائة والألف من الهجرة؛ وقد بقي الرسول صلى الله عليه وسلم عشرة أعوام بعد الهجرة، وخلفه أبوبكر، وبقي في الخلافة عامين، ثم عمر، وبقي فيها عشرة أعوام؛ فهذه 22 عاما؛ مما يعني أن الترابي يرى أن الدولة ابتعدت عن الدين حتى في عهد الراشد عثمان بن عفان.. ثم لِمَ هذا التعدي السافر على جهود المصلحين، والقادة المسلمين عبر التاريخ، لَمْ يكن الإسلام أسير الكتب، وصفحات التاريخ في دورة من أدوار التاريخ؛ بل تواتر تطبيقه من عهد النبوة إلى يومنا هذا، وسيستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق؛ لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة)..
ثم تأتي الطامة الكبرى عندما يرد الترابي على الاتهام الذي ساقه المحاور؛ والقائل (إن مشروعه الفكرى، والتربوى أوجد مجموعة قيادية قابلة للاستقطاب المالي والإغراء بالوظائف.. مما يعد فشلا شخصيا للترابي)!!.. لم يتحمل الترابي أن يوصف بالفشل؛ وأراد أن يقول: (إن الذي وصفه المحارور بالفشل هو أمر طبيعي؛ وحتى الرسول صلى الله عليه وسلم حدث له)!!..فقال الترابي: (أنت لا تصوب علىّ لا الشكر ولا الملام.. أنا فى حركة واسعة إن فعلوا خيرا فالشكر بينهم.. وإن فعلوا شرا صحيح قد أتلقى نصيبا أكثر لدرجة القيادية!!.. ولكن حتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بنى مجتمعا من الجاهلية للإسلام، وكانت معجزة؛ ولكن لم يُسْتَطَع أن يدار من بعده (غير بضع عشرات من السنين) حكما راشدا، وانهار بعد ذلك.. كلهم كانت قلوبهم تعلم أن الحق مع علي، ولكن جيوبهم مع معاوية؛ فهو سيقطع رأسك إن لم تواله)!!..
فهل صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم بنى مجتمعا لم يستطع أن يدار من بعده سوى بضع عشرات من السنين؟!.. ألا يعد هذا الكلام طعنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!.. أكل هذا الكلام لينفي الترابي عن نفسه الفشل؟!.. ألا ما أفشَلَه في دفع الفشل عن نفسه!..
أما خوضه في الصحابة؛ وأنهم كلهم كانت جيوبهم مع معاوية!!.. وخوضه في معاوية؛ وأنه كان يقطع الرؤس!!.. وحديثه عن أن الخمر لا تصبح قضية قانون إلا إذا صاحبها عدوان!!.. فله مقام آخر بإذن الله.(/1)
فصل الخطاب
في بيان عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب
كما وردت في كتبه و رسائله و فتاواه
استخلصها و رتبها
الدكتور أحمد بن عبدالكريم نجيب
تقديم
الأستاذ الدكتور عاصم بن عبدالله القريوتي
مراجعة و تعليق
الشيخ الدكتور صالح العبود
عميد كلية الدعوة و أصول الدين سابقاً
حقوق الطبع محفوظة
طبع الكتاب مرتين
الطبعة الأولى
1415- 1994 م
عمان - الأردن
على نفقة أحد المحسنين
الطبعة الثانية
1415- 1994 م
جدة - مكتبة الصحابة القاهرة - مكتبة التابعين
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مفضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لاإله إلا الله، وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد
فقد علَّق (1) الإمام البخاري في "صحيحه" (1/19) عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قوله: " ثلاث من جمعن فقد جمع إيمان: انصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار" (2).
فأول هذه الصفات - حقيقة هي صفة الإنصاف؛ " لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقاً واجباً عليه إلا أداه، ولم يترك شيئاً ممّا نهاه عنه إلا اجتنبه، وهذا يجمع أركان الإيمان " (3).
فبالإنصاف يعرف العبد حق نفسه أولاً، ومن خلاله يسمو إلى معرفة حق مولاه، وإلهه سبحانه وتعالى، ثم ينتجُ عن ذلك حفظ حقوق المؤمنين، وعباد الله الصالحين.
فيكف لسانه عنهم، ويحفظهم في حضورهم، ويدرأ عنهم في غيبتهم، ويلتزم بأوامر الشرع وأحكامه، وبأصوله، وآدابه في تعامله معهم، ومعاملته إياهم.
وهذا كله حق خالص لعامة المسلمين،. فكيف الحال بالخاصة منهم؛ من أهل الدين، والعلم، والسبق في الدعوة والإيمان؟!
ليس من شك أن ذلك أولى وأولى… وهذه الرسالة التي بين يديك - أخي المسلم - أنموذج حسن يتحقق من خلاله - إنشاء الله - معنى من معاني الإنصاف، وتظهر عبرن تائجه الحقوق الشرعية المطلوبة الثلاثة:
أ- حق النفس؛ بإيقافها على صدق القول، وسداد التصور.
ب- حق الرب؛ بإقامة عبوديته الخالصة، على التوحيد الصحيح.
ج-حق المسلمين؛بالوقوف على أقدارهم، ومعرفة صواب مواقفهم وحقيقة مايقال فيهم أو يذكر عنهم.
والقارئ لعنوان الرسالة يستطيع معرفة مضمونها؛ إذ هي تبحث في عقيدة شيخ مشهور بين فئات كثيرة من الناس؛ لكن شهرته هذه يتنازعها ثلاثة أطراف؛ بثلاثة مواقف:
الأول: من يصفه بالعالم، والإمام، والمجدد.
الثاني: من يصمه بالتشدد والبعد عن العقيدة الصحيحة!
الثالث: من هو متحير لايدري كوعه من بوعه!!
فما الموقف الشرعي الصحيح الواجب سلوكه لمعرفة الحق في هذا الشيخ المشهور؛ ألا وهو الشيخ محمد بن عبدالوهاب؟!
هل نأخذ حكمنا عليه من خصومه ومخالفيه ؟!
أم نأخذه من المستشرقين والمفكرين الغربيين الكائدين للإسلام والمسلمين؟!
أم نأخذه من الطرقية والمخرفين؟!
ليس من شك عند كل عاقل أن هذه المصادر - المشار إليها - تخالف صفة الإنصاف عند كل عبد مؤمن يخشى الله سبحانه ويتقيه.
فالصواب الذي لامحيص عنه، ولا مرجع إلاّ إليه هو معرفة حال الرجل من خلال مؤلفاته وكتبه، التي تعبر بصفاء عن عقيدته، وفكره، وحقيقة منهجه.
ولق نهد لتحقيق هذه المهمة؟ بمراجعة كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب ومؤلفاته، واستخلاص عقيدته منه أخونا الشاب النجيب والطالب الحبيب أحمد بن عبدالكريم الأطمي، وقد بذل - حفظه الله ووفقه - جهداً كبيراً فيما قام به من حيث المادة العلمية، وتنظيمها، وترتيبتها.
وزين ذلك كله - جزاه الله خيراً بإحالة كل معلومة إلى مصدرها، وعزو كل فائدة إلى موردها.
ولأخينا أمد جهود علمية أخرى منها: " معجم المصطلحات والألفاظ الإسلامية" باللغتين العربية والإنجليزية، و "الطب النبوي" للضياء المقدسي (تحقيقاً) و "كشف النقاب عن فقه الشيخ محمد بن عبدالوهاب".
ومن توفيق الله عز وجل أن تكرم بمراجعة هذا البحث فضيلة الشيخ الدكتور صالح العبود، عميد كلية الدعوة وأصول الدين سابقاً، فابدى ملحوظات قيمة جداً، استفدنا منها كثيراً جزاه الله خيراً، وكان يرغب - حفظه الله - في أن تكون المادة العلمية لهذا الكتاب مدللةً بأدلتها من القرآن والسنة، لأن الأصل في تقرير مسائل الدين وأحكامه إقامة الدليل، ولكن رغبة في الاختصار، ولكون مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب التي أخذت منها هذه المادة مدللة، اكتفي بهذا، وعسى أن يطبع الكتاب طبعة أخرى، بأدلة المسائل، ليعم نفعه إن شاء الله.
__________
(1) أي وذكره دون إسناد، فما كان منه بصيغة الجزم فهو صحيح عن قائله - عنده - وما كان بصيغة التمريض ففيه بحث.
(2) انظر لطرفه ورواياته "تعليق التعليق" (2/36- 40) للحافظ ابن حجر.
(3) " فتح الباري" (1/83).(/1)
وقد علقت على مواضع يسيرة في هذا البحث، فيما رأيته لازماً للتوضيح والبيان، وذيلت ذلك بحرف "ع" أو صدرته بعلامة نجم * سائلاً الله التوفيق والسداد، وأن يجزي كاتب هذا البحث، ومن راجعه، ومن أنفق على طبعه وتوزيعه، وأسهم في ذلك.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
عاصم بن عبدالله القريوتي
أستاذ مشارك بالجامعة الإسلامية
طيبة الطيبة في 26 ذي الحجة 1414هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
توطئة
الحمد الله القائل (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)، والصلاة والسلام على المبعوث بالحجج الناصعة والآيات البينات. فمن باب قوله تعالى: ( وإذا قلتم فاعدلوا) أكتب هذه الرسالة… وتذكيراً بقوله عزّ شأنه: ( ولا يجرمنكم شنآنُ قوم على أن لاتعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) أسطرُ هذه الكلمات نصحاً، وبياناً، وتوجيهاً … وخاصة لما رأيت كثرة من يتجنى على الشيخ محمد بن عبدالوهاب وعقيدته، ومنهجه.. ثم إني، تساءلتُ: أما آن لهذا المصلح أن ينصف؟!
ومن آخر هذا التجني، أن وقفتُ أخيراً على كتابات تقطر سماً في دعوة الشيخ، فتعده مشبوهاً ومتستراً وعميلاً للاستعمار و..!! ويزعمون أن دعوة الشيخ وعقيدته، قائمة على أساس تكفير المذاهب والفرق الإسلامية، وزرع التفرقة بين المسلمين، وتشويه سمعة الإسلام وتعاليمه السمحة، وسحق آثارا لوحي والرسالة!!
فهل دارت هذه الأسس في خلد الشيخ لحظة؟ أم أنها من نسج الخيال وصنائع الأفاكين؟ وهل كان الشيخ يأمر كل من ينخدع بدعوته - كما زعموا - أن يتقدم إليه بالبيعة ويوجب قتل من رفض البيعة ؟ أكان الشيخ يبيح دماء وأموال من يرفض دعوته ؟!
زعموا أيضاً أنه يدعو إلى توحيد خاطئ من صنع نفسه! لاالتوحيد الذين نادى به القرآن الكريم، فمن خضع له ولتوحيده، سلمت نفسه وأمواله، ومن أبى فهو كافر حربي، ودمه وماله هدر!! إلى غير ذلك مما يقوله الحاقدون على الشيخ ودعوته.
وهذا كله عين الكذب، ومحض الافتراء، وكتاباته كلها، ومؤلفاته جميعها تشهد بأن هذا الشيخ - رحمه الله - إمام من أئمة الدعوة إلى الكتاب والسنة؛ وأنه كان يدعو إلى الإسلام ولا شيء سوى الإسلام، ويشحذ همم تلاميذه لطلب العلم الصحيح، فيقول: " إن أشكل عليك شيء، فسفرك إلى المغرب في طلبه غير كثير" (1)، ثم يواسي تلاميذه بما ينقله عن الفضيل بن عياض رحمه الله، حيث يقول: "لاتستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين" (2).
والشيخ رحمه الله يقول: "عقيدتي وديني الذي أدين الله به، مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين" (3). فأي الفريقين أسلم، وأي السبيلين أحكم؟!.
لقد واجه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حملة شعواء كهذه من قبل، ولكنه بين عقيدته في رسائل إلى أهل الآفاق تميط اللثام، وترفع اللبس والإشكال… فكتب "الحموية" لأهل حماة، و "التدمرية" لأهل تدمر، و "الواسطية" لأهل واسط، ورسائل أخر…
وقد نحا شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله المنحى ذاته في كشف اللبس وإزالة الغموض عن عقيدته، فكتب رسائل وألقى خطباً، وبثّ فتاوى تناقلها أهل الحق حتى عمت الآفاق، ولما كان الوقوف على أقواله وآرائه العقدية أمراً ذا بال عند كل طالب علم مخلص، ليدرأ بها الشبه، ويميز الحق من الباطل، وينفي الزغل عن عقيدة (مصلح مظلوم ومفترى عليه) فقد عقدتُ العزم على استخلاص الزبد، وجمع مسائل العقيدة في سفر مفرد، فطفقت أجمع تصانيف الشيخ ومؤلفاته، حتى طالت يدي اثني عشر مجلداً ضخماً جمع فيها أهل العلم النقاد الأفذاذ مؤلفات الشيخ كاملة(4)، فغصت في أعماقها، والتقطتُ من جواهرها ولآلئها ماقرت به عيناي، وسكنت له نفسي …
ثم جمعتها في هذا السفر على الإيجاز، ولم أورد شيئاً من أدلتها خوف الإطالة والتشعب، وعزوتها إلى مظانها في مؤلفات الشيخ المطبوعة، وصدرتها بعناوين فرعية تدنيها من النوال، واقتصرت على كلام الشيخ دون زيادة أو نقصان إلا فيما مست إليه الحاجة كاستعمال أدوات الربط بين الفقرات، وربما قدمتُ وأخرتُ أو رتبتُ وآلفتُ بينها.
وإني إذ أدفع به إلى المكتبة الإسلامية لأرجو أن يجد فيه طالب العلم ضالته، فيذكرني والشيخ بدعوة صالحة بظهر الغيب.
هذا، وقد سميته "فصل الخطاب في بيان عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب" آملاً أن يكون قطرة في بحر العلم الزاخر، وومضة ضياء تزيد الحق وضوحاً وجلاء، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله من ذلك.
وكتب
أحمد بن عبدالكريم نجيب
حلب الشهباء في 23 رمضان 1414هـ
5 آذار 1994 م
مقتطفات من سيرة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله
__________
(1) الرسائل الشخصية (5/66).
(2) 1/285) من مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب.
(3) الرسائل الشخصية (5/150).
(4) هي الطبعة التي أشرفت عليها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض.(/2)
ولد الشيخ محمد بن عبدالوهاب بن سليمان التميمي، في بلدة العيينَة عام (1115هـ)، في بيت علم وتقى، وتعلم القرآن وحفظه قبل البلوغ، وكان حاد الفهم، وقَّاد الذهن، ذكي القلب، وسريع الحفظ.
وكان والده آنذاك، قاضي العيينة، فقرأ الشيخ على أبيه الفقه، وكان كثير المطالعة في كتب التفسير والحديث، وكلام العلماء في أصل الإسلام.
لقد زوجه والده بعد البلوغ مباشرة، ثم طلب من أبيه الحج إلى بيت الله الحرام، فأذن له فحج، وقصد المدينة وأقام فيها شهرين، ثم رجع بعد ذلك إلى أبيه في العُيينة، وأخذ يدرس الفقه على مذهب الإمام أحمد، على والده.
وكانت نجد - والشيخ في مقتبل عمره - تغص بالمنكرات، وكان الشرك آنذاك قد فشا فيها، وكثر الاعتقاد في الأشجار والأحجار والقبور، وغير ذلك من الشرك الأكبر والأصغر.
وعزم الشيخ على مقاومة هذه المظاهر الجاهلية، من شرك وخرافة وبدع، وأخذ يعمل على نشر الكتاب والسنة، وسيرة السلف الصالحين، ولذلك قرر أن يرتحل من بلدة العيينة، يطلب العلم والنصرة، وإعداد العدة من النور والحكمة، ولعله يجد من يساعده على ماعرف من دين الإسلام.
وخلاصة ماذكره المؤرخون، وأهل التحقيق، أن الشيخ رحل إلى خارج وطنه، لطلب العلم، ثم إلى الحجاز، ثم إلى البصرة، وإلى الأحساء، ثم البصرة أيضاً، والزبير، ثم إلى الحجاز، ولم يتمكن من الرحلة إلى الشام، وعاد إلى نجد يدعوهم إلى التوحيد.
وكانت عودته من المدينة إلى حريملاء، حيث كان والده قد انتقل إليها من العيينة، وتولى والده القضاء في حريملاء، وأقام الشيخ محمد بعد عودته من رحلته العلمية يدعو إلى التوحيد، ويبين بطلان دعاء غير الله، وما يترتب على غير ذلك من فساد في العقيدة، وخلل في الدين.
ولما توفي والده عام (1153هـ)، أعلن الشيخ الدعوة إلى تصحيح العقائد السائدة بعقيدة السلف الصالح.
ولم تكن حريملاء صالحة لأن تكون منطلقاً لدعوته، فانتقل منها عام (1155هـ)
- تقريباً - إلى العيينة، فأظهر الله عقيدة السلف الصالح، وتولى الشيخ لنشرها، وتدريس العلوم النافعة، وتأليف الكتب الماتعة في أصول الإسلام وفروعه.
كانت وفاة هذا العالم الفقيه المجدد محمد بن عبدالوهاب، عام (1206هـ)، ولم يخلف ديناراً ولا درهماً، ولم يوزع بين ورثته مالاً ولم يقسم، لكنه خلف لنا - رحمه الله -ثروة عظيمة من التراث العلمي، والمؤلفات النافعة، من ذلك:
1- كتاب التوحيد فيما يجب من حق الله على العبيد.
2- كتاب كشف الشبهات.
3- كتاب أصول الإيمان.
4- كتاب فضائل الإسلام.
5- كتاب فضائل القرآن.
6- كتاب السيرة المختصرة.
7- كتاب السيرة المطولة.
8- كتاب الرد على الرافضة.
وغير ذلك مما هو موجود ضمن"مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب"في اثني عشر مجلداً..
رحم الله الشيخ وأجزل له المثوبة على تجديده لهذا الدين وتحرير المسلمين من ربقة الشرك وذل الإعراض عن رب العالمين آمين (1).
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، فصل وبين وقرر صراطاً مستقيماً ومنهجاً، ونصب ووضح من براهين معرفته وتوحيده سلطاناً مبيناً وحججاً، أحمده سبحانه حمد عبد جعل له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا.
وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له، شهادة ترفع الصادقين إلى منازل المقربين درجا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي وضع الله برسالته عن المكلفين آصاراً وأغلالاً وحرجاً (2).
1- بيان مجمل عقيدته رحمه الله
أشهد الله ومن حضرني من الملائكة، وأشهدكم أني أعتقد مااعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة(3)، وما عليه أئمة المسلمين من الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة(4) من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره(5) وأنا والحمد لله متبع ولست بمبتدع(6) .
2- قوله رحمه الله في الإيمان بالله
__________
(1) الترجمة مستفادة ومختصرة من "عنوان المجلد في تاريخ نجد" للمؤرخ الشهير عثمان بن عبدالله بن بشر النجدي الحنبلي 1/33- 199، و "عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي" لفضيلة الدكتور صالح العبود.
(2) المقدمة مأخوذة من الخطب المنبرية للشيخ محمد بن عبدالوهاب ص 13.
(3) مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب: ج5 (الرسائل الشخصية) /8 وإليه الإحالة فيما سيأتي دون ذكر اسمه.
(4) ج5 (الرسائل الشخصية) 36- 150.
(5) ج5 (الرسائل الشخصية) 8.
(6) ج5 (الرسائل الشخصية) 36.(/3)
وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان(1) ومحله بإجماع السلف القلب والجوارح جميعاً كما ذكر الله تعالى في سورة الأنفال وغيرها (2). والإيمان الذي في القلب والذي في الجوارح يزيد وينقص(3) يزيد بالأعمال الصالحة وينقص بضدها(4)، وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لاإله إلا الله وأدناه إماطة الأذى عن الطريق(5)، والحياء شعبة من الإيمان(6)، وأركانه ستة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره (7).
والإيمان بالله هو أن تعتقد أن الله هو الإله المعبود (بحق) وحده دون من سواه، وتخلص جميع أنواع العبادة كلها لله، وتنفيها عن كل معبود سواه، وتحب أهل الإخلاص وتواليهم، وتبغض أهل الشرك وتعاديهم(8). ولا يحصل الإيمان لأحد حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - (9) وللإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لايجدها(10)، وهو يتجزأ، ولا يلزم إذا ذهب بعضه أن يذهب كله(11)، ونفيه لايدل على الخروج من الإسلام(12).
3- قوله رحمه الله في كلمة التوحيد وحق الله على العبيد
إنها - أي كلمة التوحيد - العروة الوثقى، وكلمة التقوى، لايقبل الله من أحد عملاً إلا بها، لاصلاة، ولا صوماً، ولا حجاً، ولا صدقة، ولا من جميع الأعمال الصالحة، إلا بمعرفتها والعمل بها(13) فحقيقة لاإله غلا الله هي إفراده بجميع العبادات وتخصيصه بالقصد والإرادات، ونفيها عما سواه من جميع المعبودات، التي نفتها لاإله إلا الله، وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله الذي لايبقي في القلب شيئاً لغير الله، ولله إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما به أمر الله(14).
فالمراد من هذه الكلمة هو إفراد الله بالتعلق والكفر بما يعبد من دونه والبراءة منه، والمراد منها معناها لامجرد لفظها(15). ومعناها نفي وإثبات، إثبات، إثبات الألوهية كلها لله وحده، ونفيها عن الأنبياء والصالحين وغيرهم(16).
و (لا) هذه النافية للجنس تنفي جميع الآلهة، و (إلا) حرف استثناء يفيد حصر جميع العبادة على الله عز وجل، و (الإله) اسم صفة لكل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بحق وهو الله تعالى، وهو الذي يخلق ويزرق ويدبر الأمور، و (التأله) التعبد(17)، فمن أخلص العبادات لله ولم يشرك فيها غيره فهو الذي شهد أن لاإله إلا الله ومن جعل فيها مع الله غيره فهو المشرك الجاحد لقول لاإله إلا الله(18). وليس التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لايدعو إلا الله وحده لاشريك له، بل لايحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه(19). وإن قالها (أي لاإله إلا الله) وفي قلبه من الإيمان مثقال ذرة فإنه يخرج من النار(20).
4- قوله رحمه الله في العلاقة بين الإيمان والإسلام
إذا ذكر الإسلام وحده دخل فيه الإيمان، وكذلك الإيمان إذا أفراد فيدخل فيه الإسلام. وإذا ذكرا معاً، فالإسلام الأعمال الظاهرة والإيمان الأعمال الباطنة(21). والإيمان أعلى من الإسلام، فيخرج الإنسان من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلا الكفر. وحقيقة الأمر أن الإيمان يستلزم الإنسان قطعاً، وأما الإسلام فقد يستلزمه وقد لايستلزمه(22).
5- قوله رحمه الله في الإسلام
الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله(23). وأصله وقاعدته أمران.
الأول: الأمر بعبادة الله وحده لاشريك له، والتحريض على ذلك والموالاة فيه، وتكفير من تركه.
والثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه وتكفير من فعله(24).
__________
(1) ج5 (الرسائل الشخصية) 11، 96.
(2) ح3 (الفتاوى والمسائل) /51.
(3) المرجع السابق .
(4) ج5 (الرسائل الشخصية) / 96.
(5) ج5 (الرسائل الشخصية/ 22 و(ثلاثة الأصول/ 191.
(6) ج1 (ثلاثة الأصول) /191.
(7) ج1 ثلاثة الأصول/ 191 وج1 (تلقين العقيدة) 372- 373.
(8) ج1 (معنى الطاغوت) / 376.
(9) ج1 (التوحيد) /105.
(10) ج1 (التوحيد) /89.
(11) ج5 (الرسائل الشخصية) /122.
(12) ج1 (التوحيد) /89.
(13) ج5 (الرسائل الشخصية) /192.
(14) الخطب المنبرية ص 56.
(15) ج5 (الرسائل الشخصية) /155.
(16) ج5 (الرسائل الشخصية) 187.
(17) ج5 (الرسائل الشخصية) 106.
(18) ج5 (الرسائل الشخصية) 167.
(19) ج1 (التوحيد) /26.
(20) ج5 (الرسائل الشخصية) /122.
(21) ج3 (الفتاوى والمسائل) 56- 57.
(22) ج3 (الفتاوى والمسائل) /57.
(23) ج1 (ثلاثة الأصول) /189.
(24) ج1 (تلقين أصول العقيدة) /372.(/4)
وهو مبني على خمسة أركان(1). تضمن كل ركن علماً وعملاً فرضاً على كل ذكروأنثى فأهمها وأولاها الشهادتان، وما تضمنتا من النفي والإثبات من حق الله على عبيده ومن حق الرسالة على الأمة(2) ثم الأركان الأربعة(3) إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام(4). ونواقص الإسلام عشرة(5):
الأول: الشرك في عبادة الله وحده لاشريك له، ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو القبر أو القباب.
الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائل يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم(6) كفر إجماعاً.
الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر (إجماعاً)(7).
الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه. أو أن حكم غيره أحسن من حكمه كالذي يفضل حكم الطاغوت على حكمه فهو كافر.
الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو عمل به كفرإجماعاً.
السادس: من استهزأ بشيء (من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - (أو ثواب الله) (8)، أو عقابه كفر.
السابع: السحر ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر.
الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين.
التاسع: من اعتقد أن بعض الناس [ لايجب عليه اتباعه - صلى الله عليه وسلم - ] (9). وأنه يسعه الخروج من شريعته كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى عليه السلام فهو كافر.
العاشر: الإعراض عن دين الله لايتعلمه ولا يعمل به.
ولا فرق في جميع هذه النواقص بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره، وكلها من أعظم مايكون خطراً، ومن أكثر مايكون وقوعاً، فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه(10).
6- قوله رحمه الله في التوحيد
التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة، وهو دين الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده(11)، وهو أول واجب على كل ذكر وأنثى(12)، وهو أعظم ماأمر الله به(13)، ولا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً(14)، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما، وإن عمل بالتوحيد ظاهراً، وهو لايفهمه أو لايعتقده بقلبه فهو منافق، وهو شرمن الكافر الخالص(15).
والبحث عن مسائل التوحيد وتعلمها فرض لازم على العالم والجاهل والمحرم والمحل والذكر والأنثى(16).
[ وهو ثلاثة أنواع: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات] (17).
7-قوله رحمه الله في توحيد الربوبية
توحيد الربوبية هو أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير عن الملائكة والأنبياء وغيرهم(18)، فلا يخلق ولا يرزق ولا يحيى ولا يميت ولا يدبر الأمور إلا الله وحده(19). وهو: فعل الرب، مثل الخلق والرزق والإحياء والإماتة وإنزال المطر وإنبات النبات وتدبير الأمور(20).
وهذا - أي الإقرار بالربوبية - حق لابد منه، لكن لايدخل الرجل في الإسلام [ و ] أكثر الناس مقرون به(21)، وأعظم الكفار كفراً الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشهدون به ولم يدخلهم في الإسلام(22) قال تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمَّن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون). سورة يونس: 31.
أما الصبر والرضاء والتسليم والتوكل والإنابة والتفويض والمحبة والخوف والرجاء فمن نتائج توحيد الربوبية(23)، وقد تصدر الإنابة والتوكل من عابد الوثن بسبب معرفته الربوبية(24).
8- قوله رحمه الله في توحيد الألوهية
__________
(1) ج1 (تلقين أصول العقيدة) /372.
(2) ج5 (الرسائل الشخصية) /170.
(3) ج5 (الرسائل الشخصية) /158.
(4) ج2 (ثلاثة الأصول)/ 189- 190.
(5) انظرها في ج1 (نواقص الإسلام) /385- 386- 387 وج5 (الرسائل الشخصية) 212- 213- 214.
(6) قوله (ويتوكل عليهم) ساقطة من رسالة الشيخ إلى محمد بن فارس انظر ج5 (الرسائل الشخصية) /213.
(7) قوله (إجماعاً) زيادة من رسالة الشيخ إلى محمد بن فارس انظر ج5 (الرسائل الشخصية) 213.
(8) في رسالة الشيخ إلى ابن فارس قال: (من دين الله أو ثوابه أو …) انظر ج5 (الرسائل الشخصية) /213.
(9) مابين المعكوفتين زيادة من رسالة الشيخ إلى محمد بن فارس انظر ج5 (الرسائل الشخصية) /314.
(10) ج5 (الرسائل الشخصية) /314.
(11) ج5 (الرسائل الشخصية)/152.
(12) ج5 (الرسائل الشخصية) / 16.
(13) ج1 (ثلاثة الأصول) / 186.
(14) ج1 (كشف الشبهات) / 179.
(15) ج1 (كشف الشبهات) / 179.
(16) ج5 (الرسائل الشخصية) /189.
(17) انظر ج5 (الرسائل الشخصية) /65. وانظر قوله في توحيد الأسماء والصفات وهذا مايقرره الشيخ رحمه الله.
(18) ج5 (الرسائل الشخصية) /65.
(19) ج1 (تفسير كلمة التوحيد) /365.
(20) ج1 (تلقين أصول العقيدة) /370.
(21) ج5 (الرسائل الشخصية) /65.
(22) ج5 (الرسائل الشخصية) / 145.
(23) ج5 (الرسائل الشخصية) / 121.
(24) ج5 (الرسائل الشخصية) / 121.(/5)
الذي يدخل الرجل في الإسلام هو توحيد الألوهية(1)، وهو معك أيها العبد مثل الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والرغبة والرهبة والنذر والاستغاثة وغير ذلك من أنواع العبادة(2)، فلا يدعى ولا يرجى إلا الله وحده لاشريك له ولا يستغاث بغيره ولا يذبح لغيره ولا ينذر لغيره لالملك مقرب ولا لنبي مرسل(3)، ومن أشرك مخلوقاً فيها - أي في العبادة - من ملك مقرب أو نبي مرسل، أو ولي، أو صحابي وغيره، أو صاحب قبر، أو جني أو غيره، أو استغاث به، أو استعان به فيما لايطلب إلا من الله، أو نذر له أو ذبح له، أو توكل عليه أو رجاه أو دعاه دعاء استغاثة أو استعانة، أو جعله واسطة بينه وبين الله لقضاء حاجته أو لجلب نفع، أو كشف ضرب، فقد كفر كفر عباد الأصنام، وهم مخلدون في النار، وإن صاموا وصلوا وعملوا بطاعة الله الليل والنهار، وكذلك من ترشح بشيء من ذلك أو أحب من ترشح له، أو ذب عنه، أو جادل عنه، فقد أشرك شركاً لايغفر، ولا يقبل ولا تصح معه الأعمال الصالحة(4)، ومن فعل ذلك في نبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء فقد أشرك بالله، وذلك النبي أو الرجل الصالح بريء ممن أشرك به كتبرء عيسى من النصارى وموسى من اليهود(5). أما الاستغاثة بالمخلوق أي الحي فيما يقدر عليه فلا ننكرها(6)، فمن أخلص العبادات لله ولم يشرك فيها غيره فهو الذي شهد أن لاإله إلا الله ومن جعل فيها مع الله غيره فهو المشرك الجاحد لقول لاإله إلا الله (7). ومن صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله تعالى فقد اتخذه رباً وإلهاً وأشرك مع الله غيره(8). وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك ولا يقبل من العمل إلا ماكان خالصاً(9). و (الإله) في كلام العرب هو الذي يقصد للعبادة، وكانوا يقولون: إن الله سبحانه هو إله الآلهة، لكن يجعلون معه آلهة أخرى، مثل: الصالحين والملائكة وغيرهم، يقولون: إن الله يرضى هذا ويشفعون لنا عنده(10).
وأما عبادته سبحانه بالإخلاص دائماً في الشدة والرخاء فهي نتيجة توحيد الألوهية، وكذلك الإيمان بالله واليوم الآخر، والإيمان بالكتب والرسل، وغير ذلك(11).
9- قوله رحمه الله في توحيد الله بأسمائه وصفاته
لايستقيم توحيد الربوبية، ولا توحيد الألوهية إلا بالإقرار بالصفات، لكن الكفار أعقل ممن أنكر الصفات(12)، وقد قرأت في كتب أهل العلم من السلف وأتباعهم من الخلف الإجماع على وجوب الإيمان بصفات الله تعالى، وتلقيها بالقبول، وأن من جحد شيئاً منها أو تأول شيئاً من النصوص قد افترى على الله وخالف إجماع أهل العلم(13).
ومذهب أهل السلف أنهم لايتكلمون في هذا النوع إلا بما يتكلم الله به ورسوله، فما أثبته الله لنفسه أو أثبته رسوله أثبتوه مثل: الفوقية والاستواء والكلام والمجيء وغير ذلك.
وما نفاه الله عن نفسه ونفاه عنه رسوله نفوه مثل المثل والند والسمي وغير ذلك(14)، وأما مالا يوجد عن الله ورسوله إثباته ولا نفيه مثل الجوهر والجسم والعرض والجهة وغير ذلك فلا يثبتونه ولا ينفونه، فمن نفاه فهو عند أحمد والسلف مبتدع، ومن أثبته فهو عندهم مبتدع، والواجب عندهم السكوت عن هذا النوع اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه(15).
__________
(1) ج5 (الرسائل الشخصية) /65، 151.
(2) ج1 (تلقين أصول العقيدة) /371.
(3) تفسير كلمة التوحيد) /366.
(4) ج5 (الرسائل الشخصية) /192.
(5) ج5 (الرسائل الشخصية) /147.
(6) ج1 (كشف الشبهات) /177.
(7) ج5 (الرسائل الشخصية) /167.
(8) ج1(الأصل الجامع* /381.
(9) ج5 (الرسائل الشخصية) /167.
(10) ج3 (الفتاوى والمسائل) /42.
(11) ج5 (الرسائل الشخصية) /111.
(12) ج3 (الفتاوى والمسائل) /42.
(13) ج5 (الرسائل الشخصية) /263.
(14) ج5 (الرسائل الشخصية) / 130- 131
(15) ج5 (الرسائل الشخصية) /131.(/6)
وأعتقد بما وصف الله به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير(1)، وهو الله العلي العظيم القادر، الأول والآخر والباطن والظاهر، عالم الغيب والشهادة المطلع على السرائر والضمائر، خلق فقدر، ودبر فيسر، فكل عبد إلى ماقدر عليه وقضاه صائر(2)، أحاط بكل شيء علماً وهو على كل شيء شهيد(3)، فلا أنفي عنه ماوصف به نفسه، ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه لأنه تعالى لاسميّ له، ولا كفؤ له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه، فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً، فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل: وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل فقال: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله رب العالمين) (4)، الصافات: 180- 182 فنقول بإثبات الصفات خلافاً للمعطلة والأشعرية(5). ومعلوم أن التعطيل ضد التجسيم، وأهل هذا أعداء لأهل هذا والحق وسط بينهما(6).
وقد جاء القرآن الكريم: بإثبات صفة الوجه(7) وبالتصريح بذكر اليدين، وأن السماوات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى: وتسميتها الشمال(8) وبإثبات صفة المكر لله، وهو أنه إذا عصاه أو أغضبه أنعم عليه بأشياء يظن بأنها من رضاه عليه(9)، وبالتصريح بأن الله فوق العرش(10) وبغيرها من الصفات.
ومن جحد شيئاً من الأسماء والصفات فقد عدم الإيمان، وأما معنى قول السلف "أمروها كما جاءت": أي لاتتعرضوا لها بتفسير لاعلم لكم به(11).
10- قوله رحمه الله في وجوب إخلاص الدين لله
راس الأمر عندنا وأساسه إخلاص الدين لله، نقول: مايدعى إلا الله ولا ينذر إلا لله، ولا يذبح القربان إلا لله، ولا يخاف خوف الله إلا من الله فمن جعل من ذلك شيئاً لغير الله، فنقول: هذا الشرك بالله(12). وإن الله سبحانه بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - لإخلاص الدين لله، وألا يجعل معه أحدٌ في العبادة والتاله، لاملك، ولا نبي، ولا قبر، ولا حجر، ولا شجر، ولا غير ذلك(13)، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإخلاص وأخبر انه دين الله الذي أرسل به جميع الرسل، وأنه لايقبل من الأعمال إلا الخالص(14).
11- قوله رحمه الله في الإحسان
الإحسان ركن واحد، وهو أن تعبدا، كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك(15).
12- قوله رحمه الله في القرآن الكريم
وأعتقد أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة، وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده محمد - صلى الله عليه وسلم - (16)، وهو كتابه الذي جعله تبياناً لكل شيء وهدى وبشرى للمسلمين، فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلاو في القرآن ماينقضها ويبين بطلانها(17)، وهو الهدى، فمن زعم أن القرآن لايقدر على الهدى منه إلا من بلغ رتبة الاجتهاد فقد كذب الله بخبره أنه هدى(18).
__________
(1) ج5 (الرسائل الشخصية) / 8 .
(2) ج1 (الخطب المنبرية) / 6، 7 .
(3) المصدر السابق /19.
(4) ج5 (الرسائل الشخصية) / 8.
(5) ج1 (التوحيد) / 14، 50.
(6) ج5 (الرسائل الشخصية) /134، والمقصود بالتجسيم هنا التمثيل وعبرالشيخ رحمه الله هنا بالتجسيم باعتبار اصطلاح الأشاعرة - أفاده الدكتور صالح العبود جزاه الله خيراً.
(7) ج1 (التوحيد) /129.
(8) ج1 (التوحيد) / 150، صحح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله "المقسطون يوم القيامة على منابر من نور من يمين الرحمن وكلتا يديه يمين" رواه مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه. وأما الرواية التي فيها "يطوي الله السماوات يوم القيامة بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك اين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضيم ثم يأخذهن" قال ابن العلاء - هو محمد بن العلاء أحد رواة الحديث - بيده الأخرى وجاء في رواية بشماله" بدل يده الأخرى وفي سنديهما عمر بن حمزة العمري وهو ضعيف وقد تفرد "بذكر الشمال فيه عمر قال البيهقي في الأسماء والصفات (ص 324) وأقره الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري 013/ 396) والله أعلم. ع.
(9) ج3 (الفتاوى والمسائل) /54.
(10) ج1 (التوحيد) /151.
(11) ج1 (التوحيد) / 106 و 3 (الفتاوى والمسائل) / 44.
(12) ج5 (الرسائل الشخصية) /144.
(13) ج1 (الرسائل الشخصية) /180.
(14) ج1 (مسائل الجاهلية) /334.
(15) ج1 (ثلاثة الأصول) /191.
(16) ج5 (الرسائل الشخصية) / 9.
(17) ج5 (الرسائل الشخصية) / 157.
(18) ج3 (الفتاوى والمسائل) /76.(/7)
وكلام الله وكلام رسوله، كله حق يصدق بعضه بعضاً والواجب على المؤمن أن يحسن الظن بكلام الله وكلام رسوله، ويقول كما أمر الله [ كل من عند ربنا ]، آل عمران : 7 فإذا تبين له الحق فليقل به وليعمل به، وإلا فليمسك وليقل: الله ورسوله أعلم(1)، فإن الله تعالى ابتلى الناس بالمتشابه كما ابتلاهم بالمحكم، ليعلم من يقف حيث وقفه الله، ومن يقول على الله بلا علم(2).
والذي يسوغ لمثلنا هو طلبُ علم ماأنزله الله على رسوله، ورد ماتنازع فيه المسلمون إليه، فإن علمه الله شيئاً فليقل به وإلا فليمسك، ويقول: الله أعلم، ويجعله من العلم الذي لايعرفه(3).
ومن اعتقد عدم صحة حفظ القرآن الكريم من الإسقاط واعتقد ماليس منه أنه منه فقد كفره(4).
ومكذب القرآن كافر ليس له إلا السيف وضرب العنق(5)، ومن هزل بشيء فيه ذكرا لله أو القرآن أو الرسول فهو كافر(6)، واعتقاد مايخالف كتاب الله كفر(7)، فمن اعتقد مايخالف كتاب الله فقد كفر(8).
13- قوله رحمه الله في الإرادة والمشيئة
وأؤمن بأن الله فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره (9).
14- قوله رحمه الله في المحبة
إن الله منعم، والمنعم يحب على قدر إنعامه، والمحبة تنقسم إلى أربعة أنواع: محبة شركية وهم الذين قال الله فيهم: ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله)
البقرة: 165.
والمحبة الثانية: حب الباطل وأهله وبغض الحق وأهله، وهذه صفة المنافقين.
والمحبة الثالثة: طبيعية وهي محبة المال والولد، إذا لم تشغل عن طاعة الله، ولم تعن على محارم الله فهي مباحة.
والمحبة الرابعة: حب أهل التوحيد، وبغض أهل الشرك، وهي أوثق عرى الإيمان وأعظم مايعبد به العبد ربه(10).
15- قوله رحمه الله في العبادة ووجوب صرفها لله
إن الحنيفية ملة إبراهيم:أن تعبد الله وحده مخلصاً له الدين، وبذلك أمر الله جميع الناس وخلقهم لها(11). فمن أنواع العبادة التي لاتصلح إلا لله تعالى الدعاء والاستعانة والاستغاثة وذبح القربان والنذر والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والمحبة والخشية والرغبة والرهبة والتأله والرجوع والسجود والخشوع والتذلل والتعظيم الذي و من خصائص الإلهية(12) فمن صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله تعالى فقد اتخذه رباً وإلها(13)، وهو مشرك كافر(14)، والعبادة لاتسمى عبادة إلا مع التوحيد فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت(15).
16- قوله رحمه الله في القضاء والقدر
وأعتقد فرض الإيمان بالقدر، وإحباط عمل من لم يؤمن به(16)، وبراءته - صلى الله عليه وسلم - ممن لم يؤمن به(17)، وأن لامحيد لأحد عن القدر المقدور، ولايتجاوز ماخط له في اللوح المسطور(18). وأن الله تعالى قد علم الأشياء قبل وجودها إجمالاً وتفصيلاً كلية وجزئية، وعلم مايتعلق بها، وقدر في الأزل لكل شيء قدراً ، فلا يزيد ولا ينقص، ولا يتقدم ولا يتأخر، وأنه لايوجد شيء إلا بإرادة الله ومشيئته والله بكل شيء عليم، وما قدر الله يكون وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وثبت ذلك ببداهة العقل وتواتر النقل، وعلم يقيناً، فمن أنكر هذا البدهي والمتواتر فإن لم يصر كافراً ، فلا أقل من أن يصير فاسقاً (19).
17- قوله رحمه الله في القبور وأحكامها
وأعتقد الإيمان بكل ماأخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت، فأؤمن بفتنة القبر، ونعيمه(20)، وسؤال الملكين، الذي علمناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهما يسألان عن ثلاث: عن التوحيد، وعن الدين، وعن محمد - صلى الله عليه وسلم - (21).
__________
(1) وهذا في الأمور التشريعية ومسائل الدين فقط وأما في الأمور الدنيوية من قيام وذهاب وولادة ووفاة وضياع وغير ذلك فلا يقال فيه الله ورسوله أعلم… لأن علم الغيب مختص بالله وحده سبحانه وتعالى. ع.
(2) ج3 (الفتاوى والمسائل) /35.
(3) ج3 (الفتاوى والمسائل) /34 .
(4) الرد على الرافضة ص15، لأنه يلزم من ذلك كما قال الشيخ رحمه الله رفع الوثوق بالقرآن كله وهو يؤدي إلى هدم الدين ويلزم منه عدم الاستدلال به وعدم التعبد بتلاوته لاحتمال التبدل، وهذا هدم للدين وتكذيب صريح لقول الله عز وجل (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) . ع.
(5) الرد على الرافضة، ص 25.
(6) ج1 (التوحيد) / 118.
(7) الرد على الرافضة ص 7، 14.
(8) الرد على الرافضة ص8 .
(9) ج5 (الرسائل الشخصية) / 9.
(10) ج1 (فوائد سورة الفاتحة) /382.
(11) ج1 (ثلاثة الأصول) /186 وج1 (القواعد الأربع) /199.
(12) ج1 (الأصل الجامع لعبادة الله وحده) /379.
(13) ج1 (الأصل الجامع) /381.
(14) ج1 (ثلاثة الأصول) /188.
(15) ج1 (القواعد الأربع) /199.
(16) ج1 (التوحيد) /137 .
(17) ج1 (التوحيد) /137.
(18) ج5 (الرسائل الشخصية) / 9.
(19) الرد على الرافضة ص 43.
(20) ج5 (الرسائل الشخصية) / 9 .
(21) ج5 (الرسائل الشخصية) / 107.(/8)
ونحن نعلم بالضرورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع لأمته أن يدعو أحداً من الأموات، لاالأنبياء ولا الصالحين، ولا غيرهم، بل نهى عن هذه الأمور كلها وذلك من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله(1).
أما بناء القباب على القبر فيجب هدمها، ولا علمت أنه يصل إلى الشرك الأكبر(2)، وكذلك الصلاة عنده، وقصده لأجل الدعاء فكذلك لاأعلمه يصل إلى ذلك، ولكن هذه الأمور من أسباب حدوث الشرك، فيشتد نكير العلماء لذلك(3).
وأما النذر له -أي للميت أو القبر- ودعاؤه والخضوع له فهو من الشرك الأكبر(4).
18- قوله رحمه الله في البعث والنشور
وأؤمن بإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا (5) فالناس إذا ماتوا يبعثون(6)، ومن كذب بالبعث كفر (7).
19- قوله رحمه الله في نصب الموازين وتطاير الكتب
والناس بعد الموت محاسبون، ومجزيون بأعمالهم(8) فتنصب الموازين، وتوزن بها أعمال العباد فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون، وتنشر الدواوين فآخذٌ كتابه بيمينه، وآخذٌ كتابه بشماله(9) فالميزان يطير بالحبة فلا يحيد، والكتاب يطير فيصير قلادة في الجيد (10).
20- قوله رحمه الله في الحوض والصراط
وأؤمن بحوض نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً (11).
وأؤمن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم يمر به الناس على قدر أعمالهم(12)، وهو أحدُّ من الحديد (13).
21- قوله رحمه الله في الإيمان بالملائكة المكرمين
من سادات الملائكة جبريل عليه السلام، وهو شديد القوى، وذو مرة (أي خلق حسن وبهاء وسناء)، وله قوة وبأس شديد، وله مكانة ومنزلة عالية رفيعة عند ذي العرش المجيد، وهو مطاع في الملأ الأعلى، ذو أمانة عظيمة، ولهذا كان السفير بين الله وبين رسله وقد كان يأتي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفات متعددة، وقد رآه على صفته التي خلقه الله عليها مرتين، وله ستمائة جناح(14)، وهو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله (15).
ومن ساداتهم ميكائيل عليه السلام، وهو موكل بالقطر والنبات(16)، ومن ساداتهم إسرافيل، وهو أحد حملة العرش، وهو الذي ينفخ في الصور(17). ومن ساداتهم ملك الموت، ولم يجئ مصرحاً بإسمه في القرآن ولا في الأحاديث الصحيحة، وقد جاء في بعض الآثار تسميته بعزرائيل والله أعلم(18).
ومنهم حملة العرش، ومنهم الكروبيون الذين هم حول العرش، وهم مع حملة العرش أشرف الملائكة وهم المقربون(19).
ومنهم سكان السماوات السبع يعمرونها عبادة دائمة ليلاً ونهاراً، والظاهر أنهم الذين يتعاقبون إلى البيت المعمور(20).
ومنهم موكلون بالجنان مراقبون بيان عداد الكرامات لأهلها وتهيئة الضيافة لساكنيها من ملابس ومآكل ومشارب ومصاغ ومساكن وغير ذلك مما لاعين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر(21). ومنهم الموكلون بالنار (أعاذنا الله منها) وهم الزبانية، ومقدموهم تسعة عشر وخازنها مالك، وهو مقدم على الخزنة(22). ومنهم الموكلون بحفظ بني آدم(23). ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد(24).
22- قوله رحمه الله في الجنة والنار
وأؤمن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لايفنيان(25)، ففي الجنة لأهلها من الكرامات والملابس والمآكل والمشارب والمصاغ والمسكن وغير ذلك مما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر(26).
__________
(1) ج5 (الرسائل الشخصية) / 105.
(2) ج3 (الفتاوى والمسائل) / 70، 101.
(3) ج3 (الفتاوى والمسائل) / 70.
(4) ج3 (الفتاوى والمسائل) /70.
(5) ج5 (الرسائل الشخصية) / 9.
(6) ج1 (ثلاثة الأصول) / 194 .
(7) ج1 (ثلاثة الأصول) /195.
(8) ج1 (ثلاثة الأصول) / 194.
(9) ج5 (الرسائل الشخصية) / 9 .
(10) الخطب المنبرية ص 65.
(11) ج5 (الرسائل الشخصية) / 9.
(12) ج5 (الرسائل الشخصية) /
(13) الخطب المنبرية ص 65.
(14) ج1 (أصول الإيمان) /250.
(15) ج1 (التوحيد) / 49 .
(16) ج1 (التوحيد) / 49.
(17) ج1 (أصول الإيمان) /252.
(18) ج1 (أصول الإيمان) /253، واسمه في الكتاب والسنة (ملك الموت)، وأما تسميته (بعزرائيل) فمما لاأصل له خلافاً لما هو مشهور عند الناس ولعله من الإسرائيليات انتهى من احكام الجنائز ص 156. ع.
(19) ج1 (اصول الإيمان) /253.
(20) ج1 (اصول الإيمان) /253.
(21) ج1 (اصول الإيمان) /253.
(22) المصدر السابق /254
(23) المصدر السابق /254.
(24) المصدر السابق /254.
(25) ج5 (الرسائل الشخصية) / 10.
(26) ج1 (أصول الإيمان) /254.(/9)
وأما النار فدار معدوم رجاؤها، محتوم بلاؤها، موحشة مسالكها، مظلمة مهالكها، مخلد أسيرها، مؤبد سعيرها، عال زفيرها، طعام أهلها الزقوم، وشرابهم الحميم، وعذابهم أبداً فيها مقيم، الزبانية تقمعهم، والهاوية تجمعهم، لهم فيها بالويل ضجيج، وللهبها أجيج، أمانيهم فيها الهلاك، وما لهم من أسرها فكاك(1)، إلا من قال لاإله إلا الله وفي قلبه من الإيمان مثقال ذرة، فإنه يخرج منها(2).
23- قوله رحمه الله في رؤية المؤمنين ربهم
وأؤمن أن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة، كما يرون القمر ليلة البدر، لايضامون في رؤيته(3) فمن قال: لايرى في الآخرة فهو جمي ضال، ومن قال: يُرى في الدنيا بالفؤاد لغيره - صلى الله عليه وسلم - فهو مبتدع ضال(4)، أما رؤيته - صلى الله عليه وسلم - بعيني رأسه - في الدنيا - فلم يثبت عنه ولا عن أحد من الصحابة، ولا الأئمة المشهورين، فمن قال: إنه - صلى الله عليه وسلم - رآه بعينه فهو غالط(5).
24- قوله رحمه الله في أنبياء الله ورسله
أرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين، فاولهم نوح عليه السلام، وآخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكل أمة بعث الله إليها رسولاً من نوح إلى محمد يأمرهم بعبادة الله وحده وينهاهم عن عبادة الطاغوت(6). ونقص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كفر(7). فمن اعتقد في غيرهم كونه أفضل منهم أو مساوياً لهم فقد كفر (8).
25- قوله رحمه الله في خاتم رسل الله
وأؤمن بأن نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين والمرسلين(9)، بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض طاعته على جميع الثقلين الجن والإنس، وأكمل به الدين، فلا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذَّرها منه(10)، فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار(11)، ولا يحصل الإيمان لأحد حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به - صلى الله عليه وسلم - (12).
وكل ماقاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - حق يجب الإتيان به ولو لم يعرف الإنسان معناه(13)، بل يجب على أمته متابعته في الاعتقادات والأقوال والأفعال(14).
ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته(15)، ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ماعنه نهى وزجر وأن لايعبد الله إلا بما شرع(16).
ومن استحل الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد كفر، ومن كذب عليه ولم يستحل ذلك فقد تفسق(17)، ومن كذبه فيما ثبت عنه قطعاً فقد كفر(18)، بلا شك، والجهل في مثل ذلك ليس بعذر، والله أعلم(19).
26- قوله رحمه الله في صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم -
وأتولى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأذكر محاسنهم، وأترضى عنهم وأستغفر لهم، وأكف عن مساويهم، واسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم(20).
وقد جاءت الآيات والأحاديث الناصة على أفضلية الصحابة واستقامتهم على الدين(21).
وقد تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مايدل على كمال الصحابة رضي الله عنهم، خصوصاً الخلفاء الراشدين، فإن ماذكر في مدح كل واحد مشهور بل متواتر لأن نقلة ذلك أقوام يستحيل تواطؤهم على الكذب، ويفيد مجموع أخبارهم العلم اليقيني بكمال الصحابة وفضل الخلفاء(22).
ومن اعتقد فيهم(23) - أي الصحابة - مايوجب إهانتهم فقد كذّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به من وجوب إكرامهم وتعظيمهم، ومن كذبه فيما ثبت عنه قطعاً فقد كفر(24).
ومن سبهم فقد خالف ماأمر الله به من إكرامهم، ومن اعتقد السوء فيهم كلهم أو جمهورهم فقد كذب الله تعالى فيما أخبر من كمالهم وفضائلهم، ومكذبه كافر(25).
__________
(1) الخطب المنبرية ص 52.
(2) ج5 (الرسائل الشخصية) / 122.
(3) ج5 (الرسائل الشخصية) / 10.
(4) المسائل التي لخصها الشيخ عن شيخ الإسلام ابن تيمية 14 .
(5) المسائل التي لخصها الشيخ عن شيخ الإسلام ابن تيمية 13 و 14.
(6) ج1 (ثلاثة الأصول) /195 و ج1 (كشف الشبهات) /155 و ج5 (الرسائل الشخصية) /152.
(7) الرد على الرافضة ص 6 .
(8) الرد على الرافضة 29.
(9) ج5 (الرسائل الشخصية) / 10.
(10) ج1 (ثلاثة الأصول) /194 .
(11) ج1 (ثلاثة الأصول) /186 و ج1 (ثلاث مسائل) /374.
(12) ج1 (التوحيد) /105.
(13) ج3 (الفتاوى والمسائل) /44.
(14) ج5 (الرسائل الشخصية) / 106.
(15) ج5 (الرسائل الشخصية) / 10.
(16) ج1 (ثلاثة الأصول) /190.
(17) الرد على الرافضة ص 7 .
(18) الرد على الرافضة ص 27.
(19) الرد على الرافضة ص 20.
(20) ج5 (الرسائل الشخصية) / 10.
(21) الرد على الرافضة ص14.
(22) الرد على الرافضة ص 18.
(23) أي من اعتقد صدور فعل من الأفعال التي توجب الإهانة فيهم.
(24) الرد على الرافضة ص 27.
(25) الرد على الرافضة ص 17(/10)
ومن سب من رضي الله عنه فقد حارب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - (1)، فإن اعتقد أحقية سبه أو إباحته فقد كفر لتكذيبه ماثبت قطعاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن سبه من غير اعتقاد حقية سبه أو إباحته فقد تفسق لأن سباب المسلم فسوق، وإن كان ممن لم يتواتر النقل في فضله وكماله فالظاهر أن سبابه فاسق إلا أن يسبه من حيث صحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن ذلك كفر(2)، ومن اعتقد فسقهم أو فسق مجموعهم وارتداد معظمهم عن الدين فقد كذب الله تعالى ورسوله فيما أخبرا به من فضائلهم وكمالاتهم المستلزمة لبراءتهم مما يوجبا لفسق والارتداد، ومن كذبهما فيما ثبت قطعاً صدوره عنهما فقد كفر(3)، فإذا فرض ارتداد من أخذ من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا النفر الذين لايبلغ خبرهم التواتر وقع الشك في القرآن والأحاديث، نعوذ بالله من اعتقاد يوجب هدم الدين، ومعتقدوا هذا أشد ضرراً على الدين من اليهود والنصارى(4).
27- قوله رحمه الله في التفضيل بين الصحابة
وأعتقد أن أفضل أمته - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم(5).
28- قوله رحمه الله في أهل بيت النبوة
وقد أوجب الله لأهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس حقوقاً فلا يجوز لمسلم أن يسقط حقهم ويظن أنه من التوحيد، بل هو من الغلو، ونحن ماأنكرنا إلا إكرامهم لأجل إدعاء الألوهية فيهم، أو إكرام المدعي لذلك(6).
29- قوله رحمه الله في فضل الصديق وخلافته
الأحاديث الواردة في صحة خلافة الصديق وبإجماع الصحابة وجمهور الأمة على الحق أكثر من أن تُحصر، وقد بايعه الصحابة رضي الله عنهم حتى أهل البيت كعلي رضي الله عنه، وقد اعتقدها حقاً جمهور الأمة، ومن نسب جمهور الصحابة - صلى الله عليه وسلم - إلى الفسق والظلم وجعل اجتماعهم على الباطل فقد ازدرى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وازدراؤهم كفر(7).
وقد حكم بعض - أي من اهل العلم - فيمن سب الشيخين بالكفر مطلقاً. والله أعلم(8).
30 -قوله رحمه الله في أمهات المؤمنين الطاهرات وذبه عن عرض الصديقة بنت الصديق
وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء(9). ومن قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالفاحشة مع اعتقاد أنها زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنها بقيت في عصمته بعد هذه الفاحشة فقد جاء بكذب ظاهر واكتسب الإثم واستحق العذاب، وظن بالمؤمنين سوءاً وهو كاذب، وأتى بأمر ظنه هيناً وهو عند الله عظيم، واتهم أهل بيت النبوة بالسوء، ومن هذا الاتهام يلزم نقص النبي- صلى الله عليه وسلم - ، ومن نقصه فكأنما نقص الله، ومن نقص الله ورسوله فقد كفر وهو بفعله هذا خارج عن أهل الإيمان، ومتبع لخطوات الشيطان، وملعون في الدنيا والآخرة، ومكذب الله في قوله تعالى (الطيبات للطيبين) الآية، ومن كذب الله ففد كفر.
ومن قذفها مع زعمه أنها لم تكن زوجته، أو لم تبق في عصمته بعد هذه الفاحشة، فإن قلنا: إنه ثبت قطعاً أنها هي المرادة بهذه الآيات وهو الظاهر يلزم من قذفها ماتقدم من القبائح.
والحاصل أن قذفها كيفما كان يوجب تكذيب الله تعالى في إخباره عن تبرئتها عما يقول القاذف فيها(10)، ومن يقذف الطاهرة الطيبة أم المؤمنين زوجة رسول رب العالمين في الدنيا والآخرة كما صح عنه فهو من ضرب عبدالله بن أبي بن سلول رأس المنافقين(11).
31- قوله رحمه الله في أولياء الله وكراماتهم
وأقر بكرامات الأولياء، وما لهم من المكاشفات، إلا أنهم لايستحقون من حق الله تعالى شيئاً ولا يطلب منهم مالا يقدر عليه إلا الله(12) ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال(13).
32- قوله رحمه الله في الشفاعة
وأؤمن بشفاعة النبي، وأنه أول شافع وأول مشفع، ولا ينكر شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أهل البدع والضلال(14)، وله الشفاعة الكبرى وهي المقام المحمود(15)، والشفاعة كلها لله(16)، والشافع مكرم بالشفاعة، والمشفوع له من رضي قوله وعمله بعد الإذن(17).
__________
(1) الرد على الرافضة ص16.
(2) الرد على الرافضة ص 19.
(3) الرد على الرافضة ص 18، 19.
(4) الرد على الرافضة ص 13.
(5) ج5 (الرسائل الشخصية) / 10. وبقية العشرة سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وطلحة بن عبيد، والزبير بن العوام، وعبدالرحمن بن عوف، وأبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين. ع.
(6) ج5 (الرسائل الشخصية) / 284.
(7) الرد على الرافضة ص 8 .
(8) الرد على الرافضة ص9.
(9) ج5 (الرسائل الشخصية) /10.
(10) الرد على الرافضة ص 24.
(11) الرد على الرافضة ص 25.
(12) ج5 (الرسائل الشخصية) / 10.
(13) ج1 (كشف الشبهات) /169.
(14) ج5 (الرسائل الشخصية) / 9 .
(15) ج1 (التوحيد) /53.
(16) ج1 (كشف الشبهات) /165.
(17) ج1 (القواعد الأربع) /201.(/11)
والشفاعة شفاعتان: شفاعة منفية وشفاعة مثبتة، فالشفاعة المنفية ماكانت تطلب من غير الله فيما لايقدر عليه إلا الله، والشفاعة المثبتة هي التي تطلب من الله(1)، وتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله(2)، فلا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع في أحد إلا من بعد أن يأذن الله فيه، وهو لايرضى إلا التوحيد(3)، وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب كما قال تعالى: ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين) (4) [ النجم: 26 ].
وقد صح أن الملائكة يشفعون، والأولياء يشفعون، والأفراط يشفعون(5)، ومن جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم(6).
33- نفيه رحمه الله شبهة التكفير بالعموم
وأما القول: إنا نكفر بالعموم فذلك من بهتان الأعداء، الذي يصدون به عن هذا الدين ونقول: سبحانك هذا بهتان عظيم(7).
على أن الذي نعتقد، وندين الله به، ونرجو أن يثبتنا عليه في مسألة المسلم إذا أشرك بالله بعد بلوغ الحجة، أو المسلم الذي يفضل هذا على الموحدين، أو يزعم أنه على حق أو غير ذلك من الكفر الصريح الظاهر الذي بينه الله ورسوله وبينه علماء الأمة أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره ولو غلط فيه من غلط (8).
إننا نكفر من أشرك بالله في إلهيته بعدما نبين له الحجة على بطلان الشرك، وكذلك نكفر من حسنه للناس، أو أقام الشبه الباطلة على إباحته، وكذلك من قام بسيفه دون هذه المشاهد التي يشرك بالله عندها، وقاتل من أنكرها وسعى في إزالتها والله المستعان(9).
ولا تظنوا أن الاعتقاد في الصالحين مثل الزنا والسرقة، بل هو عبادة للأصنام من فعله كفر وتبرأ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ياعباد الله تفكروا وتذكروا(10)، ونكفر من بان له أن التوحيد هو دين الله ورسوله ثم أبغضه، ونفر الناس عنه وجاهد من صدق الرسول فيه، ومن عرف الشرك، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بإنكاره ثم مدحه وحسنه للناس وزعم أن أهله لايخطئون لأنهم السواد الأعظم(11) والداعي لغير الله لاتقبل منه الجزية كما تقبل من اليهود، ولا تنكح نساؤهم كما تنكح نساء اليهود لأنه أغلظ كفراً.
ونكفر من أقر بدين الله ورسوله ثم عاداه وصد الناس عنه، وكذلك من عبد الأوثان، بعد ماعرف أنها دين للمشركين وزينه للناس، فهذا الذي نكفره(12).
ونكفر من عرف دين الرسول ثم بعدما عرفه سبه ونهى الناس عنه، وعادى من فعله(13).
وكذا الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفاً من نقص مال أو جاه أو مداراة لأحد فهذا أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها، ولم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان، وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله على خوف أو مداراة، أو مشحة بوطنه، أو أهله، أو عشيرته، أو ماله، أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره(14)، ومعلوم أن الإنسان لايكره إلا على الكلام والفعل وأما عقيدة القلب فلا يكره عليها أحد(15).
34- قوله رحمه الله في الحكم على المعين
وإني لاأعتقد كفر من كان عند الله مسلماً، ولا إسلام من كان عنده كافراًن بل أعتقد أن من كان عنده كافراً كافر(16).
ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكنني أرجو للمسلم وأخاف على المسيء(17).
35- قوله رحمه الله في العذر بالجهل حتى تقوم الحجة
ولا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبدالقادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم وعدم من ينبههم(18) ونكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر(19)، والذي يدعي الإسلام وهو يفعل من الشرك الأمور العظام، فإذا عليت عليه آيات الله استكبر عنها فليس هذا بالمسلم، وأما الإنسان الذي يفعلها بجهالة، ولم يتيسر له من ينصحه، ولم يطلب العلم الذي أنزله الله على رسوله، بل أخلد إلى الأرض واتبع هواه فلا أدري ماحاله(20) .
علماً أن من لم تقم عليه الحجة هو حديث العهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية، أو يكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف.
وأما أصول الدين التي أوضحها الله في كتابه فإن حجة الله هي القرآن فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة (21).
__________
(1) ج1 ((القواعد الأربع) /200، 201.
(2) ج1 (التوحيد) /52 .
(3) ج1 (كشف الشبهات) /165.
(4) ج5 (الرسائل الشخصية) / 166.
(5) ج1 (كشف الشبهات) /166.
(6) ج5 (الرسائل الشخصية) / 112.
(7) ج5 (الرسائل الشخصية) / 101.
(8) ج1 (مفيد السمتفيد) /290.
(9) ج5 (الرسائل الشخصية) / 60.
(10) ج5 (الرسائل الشخصية) / 25.
(11) ج1 (مسائلل مستنبطة) /389.
(12) ج5 (الرسائل الشخصية) / 58.
(13) ج5 (الرسائل الشخصية) /38، 158.
(14) ج1 (كشف الشبهات) /180.
(15) المصدر السابق. ص 181.
(16) الرد على الرافضة ص 20.
(17) ج5 (الرسائل الشخصية) / 11.
(18) ج3 (الفتاوى والمسائل) / 11.
(19) ج3 (الفتاوى والمسائل) /9 .
(20) ج3 (الفتاوى والمسائل) / 37 .
(21) ج3 (الفتاوى والمسائل) / 12 .(/12)
وأكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامهم عليهم.. وقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم ببلوغها إياهم، وإن لم يفهموها نوع آخر(1).
36- ذكره رحمه الله طائفة من الأعمال المكفرة
من صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء، وجحد وجوب الصلاة فإنه كافر خلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدق بذلك كله، لاتختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن(2).
والذي ينكر البعث كافر(3)، والساحر يكفر ويقتل ولا يستتاب(4)، والذبح للجن ردة تخرج - أي من الإسلام - (5)، ومن استغاث بغير الله فقد كفر(6)، ومن ذبح لغيره فقد كفر(7)، ومن نذر لغيره فقد كفر(8)، ومن دعا (9) نبياً أو ملكاً أو ندبه أو استغاث به فقد خرج من الإسلام(10).
37- قوله رحمه الله في كفر دون كفر
وما أطلق الشارع كفره بالذنوب فقول الجمهور: أنه لايخرج من الملة وقال الإمام أحمد: أمروها كما جاءت يعني لايقال يخرج ولا لايخرج، وما سوى هذين القولين غير صحيح(11)، ومعنى (كفر دون كفر) أنه ليس يخرج من الملة مع كبره(12).
38- قوله رحمه الله في عدم التكفير بالذنب
أركان الإسلام الخمسة أولها الشهادتان ثم الأركان الأربعة، فالأربعة إذا أقر بها وتركها تهاوناً فنحن وإن قاتلناه على فعلها - فلا تكفره بتركها(13)، ولا أكفر أحداً بذنب ولا أخرجه من دائرة الإسلام(14).
39- قوله رحمه الله في الحكم بالظاهر دون السرائر
لو عرف منه النفاق فما أظهر - أي من أعمال أهل الإيمان - يحمي دمه، وماله(15) والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه مايخالف ذلك(16)، وأهل البدع أحكم عليهم بالظاهر وأكل سرائرهم إلى الله (17).
40- قوله رحمه الله في الردة عن الإسلام
المرتد هو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه(18)، ولا يقتل إلا بعد الاستتابة(19).
41- قوله رحمه الله في التحذير من الشرك
أعظم نهي نهى الله عنه الشرك بالله وهو أن يدعو مع الله غيره، أو يقصده بغير ذلك من أنواع العبادة، فمن صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله تعالى فقد اتخذه رباً وإلهاً، وأشرك مع الله غيره(20).
ومن لقي الله لايشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار، ولو كان أعبد الناس(21).
وأول من أدخل الشرك في هذه الأمة هم الرافضة الملعونة الذين يدعون علياً وغيره، ويطلبون منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات(22)، أما أول شرك حدث في الأرض فكان بشبهة محبة الصالحين(23)، وأعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين:
أحدهما: أن الأولين لايشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء وأما في الشدة فيخلصون لله العبادة(24)، ومشركوا زماننا شركهم دائم في الرخاء والشدة(25).
الأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أناساً مقربين عند الله، إما أنبياء وإما أولياء وإما ملائكة أو يدعون أشجاراً وأحجاراً مطيعة لله ليست عاصية، وأهل زماننا يدعون مع الله أناساً من أفسق النسا، والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك.
والذي يعتقد في الصالح أو الذي لايعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به(26).
43- تحذيره رحمه الله من عظائم هي من الشرك
__________
(1) ج3 (الفتاوى والمسائل) / 12، 13، و ج5 (الرسائل) /244 لكنه رحمه الله لاينكر أنه يلزم في بلوغ الحجة أنه يفهمها فهم أبي جهل وأضرابه فهو يقصد بالفهم هنا فهم الاهتداء فهم أبي بكر وأمثاله. أفاده فضيلة الشيخ صالح العبود. ع .
(2) ج1 (كشف الشبهات) /172.
(3) ج1 (ثلاثة الأصول) /195 و ج1 (تلقين أصول العقيدة) 373.
(4) ج1 (التوحيد) /73.
(5) ج3 (الفتوى والمسائل) /67.
(6) ج1 (تفسير كلمة التوحيد) / 366.
(7) ج1 (تفسير كلمة التوحيد) /366.
(8) ج1 (تفسير كلمة التوحيد) /366.
(9) في بعض النسخ (رجا) وفي بعضها )نخا) وفي بعضها (نجا) والمراد من كل هذه الألفاظ (دعا).
(10) ج1 (تفسير كلمة التوحيد) /366.
(11) ج3 (الفتاوى والمسائل) /66.
(12) أي: مع عظمة ذنبه. ج3 (الفتاوى والمسائل) / 51.
(13) المصدر السابق. ص 9.
(14) ج5 (الرسائل الشخصية) / 11.
(15) ج3 (الفتاوى والمسائل) 45.
(16) ج1 (كشف الشبهات) /176 و ج5 (الرسائل) /11.
(17) ج5 (الرسائل الشخصية) / 11.
(18) ج1 (كشف الشبهات) / 173.
(19) ج3 (الفتاوى والمسائل) / 68.
(20) ج1 (الأصل الجامع) /381.
(21) ج1 (التوحيد) /19.
(22) ج5 (الرسائل الشخصية) / /36.
(23) ج1 (التوحيد) /57.
(24) ج1 (كشف الشبهات) /170.
(25) ج1 (القواعد الأربع) /202.
(26) ج1 (كشف الشبهات) /170.(/13)
من اتخذ نداً تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر(1)، ومن الشرك الاستعاذة بغير الله(2)، ومن الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره، وهذا هو الشرك الأكبر(3)، والنذر لكونه عبادة فصرفه إلى غير الله شرك(4)، والحلف بغير الله شرك(5)، والطيَرَة شرك(6)، ومن الشرك قول ماشاء الله وشئت ولكنه ليس من الشرك الأكبر(7)، والرياء من الشرك الأصغر(8).
ولا يجتمع في تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن، بل هو كفر(9). ومن تعلق شيئاً وُكل إليه، ومن تعلق تميمة فقد أشرك، - شركاً أصغر - وتعليق الخيط من الحمى، والودع عن العين من ذلك(10). والرقى والتمائم والتولة، هذه الثلاث كلها من الشرك إلا الرقية بالكلام الحق من العين والحمة فليس من ذلك، والتميمة إذا كانت من القرآن فقد اختلف العلماء هل هي من ذلك أو لا (11).
أما الشرك الذي يصدر من المؤمن وهو لايدري، مع كونه مجتهداً في اتباع أمر الله ورسوله، فأرجوا أن لايخرجه هذا من الوعد، وقد صدر من الصحابة أشياء من هذا الباب: كحلفهم بآبائهم، وحلفهم بالكعبة، وقولهم: ماشاء الله وما شاء محمدن وقولهم: اجعل لنا ذات أنواط، ولكن إذا بان لهم الحق اتبعوه، ولم يجادلوا حمية الجاهلية لمذهب الآباء والعادات(12).
43- قوله رحمه الله في الجبت والطاغوت
أول مافرض الله على ابن آدم الكفر بالطاغوت والإيمان بالله (13)، فالإنسان لايصير مؤمناً بالله إلا بالكفر بالطاغوت(14).
والطاغوت عام فكل ماعبد من دون الله(15)، ورضي العبادة، من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله فهو طاغوت(16)، وهو - بحسب تعريف ابن القيم - كل ماتجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لايعلمون أنه طاعة الله(17)، وقد يكون الطاغوت من الجن وقد يكون من الإنس(18)، وصفة الكفر به هي أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتبغضها وتكفر أهلها وتعاديهم(19).
والطواغيت كثيرة رؤوسهم خمسة:
الأول: الشيطان الداعي إلى عبادة غير الله.
__________
(1) ج1 (التوحيد) /90.
(2) المصدر السابق/ 41.
(3) المصدر السابق/ 42، 43.
(4) المصدر السابق/ 40.
(5) ج1 (التوحيد) /110 لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". ويرى الجمهور أنه لايكفر به كفراً ينقل عن الملة لكنه من الشرك الأصغر كما نص على ذلك ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، لكن الذي يفعله عباد القبور إذا طلبت من أحدهم اليمين بالله أعطاك ماشئت من الإيمان صادقاً أو كاذباً فإذا طلبت منه اليمين بالشيخ أو تربته أو حياته ونحو ذلك لم يقدم على اليمين به إن كان كاذباً فهذا شراك أكبر بلا ريب لأن المحلوف به عنده أخوف وأجل وأعظم من الله، وهذا مابلغا إليه شرك عباد الأصنام وإنا لله وإنا إليه راجعون، انظر تيسير العزيز الحميد ص 593 ع.
(6) ج1 (التوحيد)/83. لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الطيرة شرك، الطيرة شرك". وأصل التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم فإذا أرادوا أمراً فإن رأوا الطير مثلاً طار يمنة، تيمنوا به، وإن طار يسرة تشاءموا به، فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع أو دفع ضر، وإنما جعل الطيرة من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن التطير يجلب لهم النفع أو يدفع عنهم الضر إذا عملوا بموجبه فكأنهم شركوه مع الله تعالى. انظرتيسير العزيز الحميد ص 421، 438. ع.
(7) ج1 (التوحيد) /112، 113.
(8) ج1 (التوحيد) /19.
(9) ج1 (التوحيد) /77. والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل والعراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أتى كاهناً أو عرافاً فقد كفر بما أنزل على محمد ". ع.
(10) ج1 (التوحيد) /28.
(11) ج1 (التوحيد) /31. والرقى هي التي تسمى العزائم، والتمائم مايعلق على الأولاد من العين من خرزات ونحوها، والتولة: مايصنعونه بزعم أن يحبب المرأة إلى زوجها والزوج إلى امرأته وهو ضرب من السحر، والحمة بالتخفيف السم وقد يشدد. والأرجح عدم جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته لعموم قوله "إن الرقى والتمائم والتولة شرك"، إذ لم يفرق بين التميمة التي في القرآن وغيرها خلاف الرقى والأحوط المنع سداً للذريعة لما يعلق من أسماء للشياطين وكلمات لاتعرف وجداول وغير ذلك. ع.
(13) ج1 (معنى الطاغوت) /376.
(14) المصدر السابق /378.
(15) ج1 (التوحيد) /9 و ج1 (معنى الطاغوت) /377.
(16) ج1 المصدر السابق /377.
(18) ج1 (التوحيد) /73.
(19) ج1 (معنى الطاغوت) /376.(/14)
والثاني: الحاكم الجائر المغير لأحكام الله (1). والثالث: الذي يحكم بغير ماأنزل الله. والرابع الذي يدعي علم الغيب من دون الله. والخامس: الذي يعبد من دون الله وهو راض بالعبادة (2).
وجميع الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم - كما لو كانوا يندبونهم وينذرون لهم ويتوكلون عليهم، يريدون منهم أن يقربوهم إلى الله - وهم مشهورون عند الخاص والعام بذلك، وأنهم يترشحون له ويأمرون به الناس كلهم كفار مرتدون عن الإسلام ومن زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلاً فلا يخرجهم إلى الكفر، فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق لايقبل خطه ولا شهادته ولا يصلى خلفه، بل لايصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم(3).
أما الجبت فهو السحر(4)، ومنه - أي من الجبت - العيافة والطرقُ والطيرة (5).
44- قوله رحمه الله في لزوم الجماعة ونبذ الفرقة والشقاق
نعتقد أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - المتبعين لسنته لاتجتمع على ضلالة(6)، وقد أمر الله بالاجتماع في الدين، ونهى عن التفرقة فيه، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا قبلنا فهلكوا(7)، فالرحمة في الجماعة، والفرقة عذاب(8)، ومن تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا، ولو كان عبداً حبشياً (9).
45- قوله رحمه الله في الفرقة الناجية والطائفة المنصورة
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمته ستفترق على أكثر من سبعين فرقة، أخبر أنهم كلهم في النار إلا واحدة، ثم وصف تلك الواحدة أنها التي على ماكان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه (10)، فلينظر إلى الفرق ومعتقداتهم وأعمالهم، فما وافقت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فهي الفرقة الناجية(11).
وأهل السنة هم المتبعون لآثاره - صلى الله عليه وسلم -، وآثار أصحابه كما لايخفى، فهم أحق أن يكونوا الفرقة الناجية، وآثار النجاة ظاهرة فيهم لاستقامتهم على الدين من غير تحريف، وظهور مذهبهم وشوكتهم في غالب البلاد، ووجود العلماء المحققين والمحدثين والأولياء والصالحين فيهم(12).
والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية (13) وهم في باب وعيد الله وسط بين المرجئة والوعيدية (14).
__________
(1) على تفصيل عقائدي معروف في الفرق بين الكفر العملي والكفر الاعتقادي، وانظر المبحث رقم 37. كما ورد في بعض كتابات الشيخ: من دعا الناس إلى عبادة نفسه. انظر ج1 (ثلاثة الأصول) /195.
(2) ج1 (معنى الطاغوت) /378.
(3) ج5 (الرسائل الشخصية) / 188.
(4) ج1 (التوحيد) 72.
(5) ج1 (التوحيد) /74. والعيافة: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها. والطرق: الخط بخط في الأرض. والطيرة مضى التعريف بها برقم (226). ع.
(6) ج5 (الرسائل الشخصية) / 115.
(7) ج1 (ستة أصول عظيمة) /394.
(8) ج3 (الفتاوى والمسائل) /35.
(9) ج1 (ستة أصول عظيمة) /394.
(10) ج5 (الرسائل الشخصية) / 259.
(11) الرد على الرافضة /3 .
(12) الرد على الرافضة /3.
(13) وبيان ذلك: أن القدرية يقولون أن أفعال العباد وطاعاتهم ومعاصيهم لم تدخل تحت قضاء الله وقدره، وفي المقابل يقول الجبرية إن العبد مجبور على فعله وحركاته وأفعاله اضطرارية كحركة المرتعش والعبد ليس له قدرة ولا إرادة ولا فعل، بينما يعتقد أهل السنة أن العباد فاعلون حقيقة وأن أفعالهم تنسب إليهم على جهة الحقيقة وأن الله خالقهم وخالق أفعالهم قال تعالى: ( والله خلقكم وما تعملون) فللعبد مشيئة واختيار تابعين لمشيئة الله .
(14) وأما كونهم وسطاً في باب وعبدالله بين المرجئة والوعيدية من القدرة فلأن المرجئة المنسوبين إلى الإرجاء لتأخيرهم الأعمال عن الإيمان حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة غير فاسق وقالوا لايضر مع الإيمان ذنب كما ينفع مع الكفر طاعة وعندهم أن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان ومرتكب الكبيرة كامل الإيمان غير معرض للوعيد، وأما الوعيدية فيقولون بإنفاذ الوعيد وأن مرتكب الكبيرة إذا مات ولم يتب منها فهو خالد مخلد في النار. وأهل السنة توسطوا في ذلك وقالوا: إن مرتكب الكبيرة ناقص الإيمان آثم وهو معرض نفسه للعقوبة وهو تحت مشيئة الله إذا مات من غير توبة إنشاء الله عفا عنه وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ولكن لايخلد في النار بل يخرج منها بعد التطهير والتمحيص من الذنوب قال تعالى: ( إن الله لايغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء).(/15)
وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئية والجهمية (1).
وهم وسط في باب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الروافض والخوارج(2) (3)، وهم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، وهم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود (4) ونعتقد بأن الحق لايزول بالكلية كما زال فيما مضى(5)، وأنه لاتزال طائفة من أمته - صلى الله عليه وسلم - على الحق منصورة لايضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأمر أمر الله وهم على ذلك(6).
46- قوله رحمه الله في الإمامة العظمى والسمع والطاعة
وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين، برهم وفاجرهم مالم يأمروا بمعصية الله(7)، فمن تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا، ولو كان عبداً حبشياً(8)، وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على جور الولاة، وأمر بالسمع والطاعة لهم والنصيحة، وغلظ في ذك، وأبدى فيه وأعاد(9).
ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه(10) والأئمة مجمعون من كل مذهب، على أن من تغلب على بلد أو بلدان، له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا، مااستقامت الدنيا، لأن الناس من زمن طويل إلى يومنا هذا مااجتمعوا على إمام واحد، ولا يعرف أن أحداً من العلماء ذكر أن شيئاً من الأحكام لايصح إلا بالإمام الأعظم(11).
47- قوله رحمه الله في الهجرة
والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهي باقية إلى قيام الساعة(12).
48- قوله رحمه الله في الولاء والبراء
من أطاع الرسول وود الله لايجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب(13)، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم(14).
فالإنسان لايستقيم له إسلام ولو وحد الله وترك الشرك إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء(15).
والمراد من قول " لاإله إلا الله" مع معرفتها بالقلب محبتها ومحبة أهلها وبغض من خالفها ومعاداته(16).
فأحبوها وأحبوا أهلها واجعلوهم إخوانكم، ولو كانوا بعيدين، واكفروا بالطواغيت وعادوهم وأبغضوهم وأبغضوا من أحبهم أو جادل عنهم، أو لم يكفرهم(17).
49- قوله رحمه الله في الجهاد والصلاة مع أئمة الجور
__________
(1) وسطية أهل السنة في باب أسماء الإيمان والدين بين سالحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية لأن كلاً من الحرورية (الخوارج) والمعتزلة يرى أن الدين والإيمان قول وعمل واعتقاد ولكن لايزيد ولا ينقص ومن أتى كبيرة كفر عند الخوارج وصار فاسقاً عند المعتزلة في منزلة بين المنزلتين لامؤمن ولا كافر واتفق الخوارج والمعتزلة على أن من أتى كبيرة فهو خالد في النار لايخرج بشفاعة ولا بغير شفاعة، وعند الخوارج أن من أتى كبيرة فهو مباح الدم والمال في الدنيا خلافاً للمعتزلة. وأما المرجئة فيقولون أن من أتى كبيرة فهو مباح الدم والمال في الدنيا خلافاً للمعتزلة. وأما المرجئة فيقولون إن الإيمان مجرد التصديق بالقلب والقول باللسان أو أنه قول فقط، وعند الجهمية إن الإيمان مجرد المعرفة والأعمال ليست من الإيمان فإيمان أفسق الناس كإيمان أكمل الناس ولا يضر عندهم مع الإيمان معصية. وأما أهل السنة فقالوا الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ومن أتى كبيرة يسمى مؤمناً ناقص الإيمان أو مؤمناً بإيمانه فاسقاً بكبيرته وفي الآخرة تحت مشيئة الله إن شاء الله غفر له ذنوبه وأدخله الجنة لأول مرة وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ومآله إلى الجنة.
(2) ج5 (الرسائل الشخصية) /8 .
(3) وكون أهل السنة وسطاً في باب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الروافض والخوارج أن الروافض غلوا في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وغلوا في أهل البيت ونصبوا العداوة لجمهور الصحابة كالثلاثة الخلفاء والسيدة عائشة وغيرهم. وأما الخوارج فهم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وفارقوه بسبب التحكيم وكفروا علياً وعثمان ومن والاهما، وأهل السنة وسط بين غلو الرافضة وجفاء الخوارج فهداهم الله لموالاة الجميع من الصحابة ومحبتهم وعرفوا لكل ذي حق حقه وفضله ورأوا أنهم أكمل الأمة إسلاماً وإيماناً وعلماً وعملاً رضي الله عنهم أجمعين.
(4) المصدر السابق /264.
(5) ج1 (التوحيد) /70.
(6) ج5 (الرسائل الشخصية) / 115.
(7) ج5 (الرسائل الشخصية) / 11 .
(8) ج1 (ستة أصول عظيمة) /394.
(9) ج1 (مسائل الجاهلية) /335.
(10) ج5 (الرسائل الشخصية) / 11.
(11) ج3 (الفتاوى والمسائل) /67.
(12) ج1 (ثلاثة الأصول) /193.
(13) ج1 (ثلاثة الأصول) /183.
(14) ج1 (ثلاثة مسائل) /375.
(15) ج1 (شرح مواضيع من السيرة) /355.
(16) ج1 (تفسير كلمة التوحيد) /363.
(17) ج1 (تفسير كلمة التوحيد) /368.(/16)
وأرى الجهاد ماضياً مع كل إمام براً كان أو فاجراً، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، والجهاد ماض منذ بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لايبطله جور جائر، ولا عدل عادل(1).
50 - قوله رحمه الله من البدع والحوادث
وأرى هجر أهل البدع، ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر، وأكل سرائرهم إلى الله، وأعتقد أن كل محدثة بدعة(2)، وأوجب اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك البدع وإن اشتهرت بين أكثر العوام(3). ومتابعة الرسول في العبادة تخلع جميع البدع إلا بدعة لها أصل في الشرع كجمع المصحف في كتاب واحد، وجمع عمر رضي الله الله عنه الصحابة على التراويح جماعة، وجمع ابن مسعود أصحابه على القصص كل خميس، ونحو ذلك فهذا حسن والله أعلم(4).
أما ماصح عن العلماء من أنهم لايكفرون أهل القبلة فمحمول على من لم تكن بدعته مكفرة، لأن كلمتهم اتفقت على تكفير من كانت بدعته مكفرة (5).
51- قوله رحمه الله في بيان مذهبه
نحن مقدلون الكتاب والسنة وصالح سلف الأمة، وما عليه الاعتماد من أقوال الأئمة الأربعة أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن حنبل رحمهم الله(6). أما مذهبنا فمذهب الإمام أحمد إمام أهل السنة ولا ننكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نص الكتاب والسنة، وإجماع الأمة وقول جمهورها(7)، وأما المتأخرون رحمهم الله فكتبهم عندنا نعمل بما وافق النص منها، وما لم يوافق النص لانعمل به (8).
52- قوله رحمه الله في القتال بعد إقامة الحجة
نقاتل عبَّاد الأوثان كما قاتلهم - صلى الله عليه وسلم - (9)، وقد قاتلهم ليكون الدين كله لله والذبح كله لله والنذر كله لله والاستغاثة كلها لله وجميع أنواع العبادة كلها لله (10).
وإلى اليوم لم نقاتل أحداً إلا دون النفس والحرمة، وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا، ولكن قد نقاتلهم على سبيل المقابلة ( وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها) وكذلك من جهر بسب دين الرسول بعدما عرفه (11)، ومن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان قاتلناه بالسيف والسنان(12) ونقاتلهم على ترك الصلاة ومنع الزكاة كما قاتل مانعها صديق هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه (13)، وإنما نقتلهم بعدما نُقم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح من الأمة (14).
53- قوله رحمه الله في حجية المتواتر
الجهل بالمتواتر القاطع - بعذر - أو تأويله وصرفه من غير دليل معتبر غير مفيد، كمن أنكر فرضية الصلوات الخمس جهلاً لفرضيتها، فإنه بهذا الجهل يصير كافراً، وكذا لو أولها على غير المعنى الذي نعرفه فقد كفر(15).
54- قوله رحمه الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأرى وجوب الأمر والنهي عن المنكر على ماتوجبه الشريعة المحمدية الطاهرة(16).
55- قوله رحمه الله في المسح على الخفين
صح عن النبي- صلى الله عليه وسلم - برواية نحو خمسين من الصحابة أو ثمانين أو أزيد المسح على الخفين، فمنكره مبتدع (17).
56- قوله رحمه الله في نكاح المتعة
إن المتعة كانت حلالاً ثم نسخت وحرِّمت تحريماً مؤبداً فمن فعلها فقد فتح على نفسه باب الزنا(18).
57- قوله رحمه الله في النياحة
وأما النياحة فمن أعظم منكرات الجاهلية (19).
58- ختام قوله رحمه الله
فهذه عقيدة وجيزة حررتها، والله على مانقول وكيل (20) أ هـ.
* * *
تم بفضل الله وعظيم منته تحرير هذا البحث اليسير المسمى
( فصل الخطاب في بيان عقيدة "الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب )
في حلب الشهباء من الديار الشامية لثلاث وعشرين ليلة من شهر رمضان المبارك عام أربعة عشر وأربعمئة وألف للهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام.
فهرس المحتويات
توطئة : ………………………………………………………………………
مقتطفات من سيرة الشيخ محمد بن عبدالوهاب …………………………………
بيان مجمل عقيدته رحمه الله ……………………………………………………
قوله رحمه الله في الإيمان بالله ……………………………………………………
__________
(1) ج5 (الرسائل الشخصية) / 11.
(2) ج5 (الرسائل الشخصية) / 11.
(3) ج5 (الرسائل الشخصية) / 180.
(4) ج5 (الرسائل الشخصية) /107. وهذه بدعة لغة لاشرعاً وإنما كانت حسنة لموافقتها للشرع ولمصالح الشريعة وإلا فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ع.
(5) الرد على الرافضة ص 20.
(6) ج5 (الرسائل الشخصية) / 96.
(7) ج5 (الرسائل الشخصية) / 107.
(8) ج5 (الرسائل الشخصية) / 101.
(9) ج5 (الرسائل الشخصية) /154.
(10) ج5 (الرسائل الشخصية) / 88.
(11) ج5 (الرسائل الشخصية) / 38، 158.
(12) ج5 (الرسائل الشخصية) / 114.
(13) ج5 (الرسائل الشخصية) / 38.
(14) ج5 (الرسائل الشخصية) /114.
(15) الرد على الرافضة ص 41، وقوله: " نعرفه " أي المعنى المستقرّ عند العلماء (ع).
(16) ج5 (الرسائل الشخصية) / 11.
(17) الرد على الرافضة ص 41.
(18) الرد على الرافضة ص 47.
(19) الرد على الرافضة ص 47
(20) الرد على الرافضة ص 47 .(/17)
قوله رحمه الله في كلمة التوحيد وحق الله على العبيد …………………………… قوله رحمه الله في العلاقة بين الإيمان والإسلام ……………………………………
قوله رحمه الله في الإسلام ………………………………………………………
قوله رحمه الله في التوحيد ………………………………………………………
قوله رحمه الله في توحيد الربوبية ………………………………………………
قوله رحمه الله في توحيد الألوهية ………………………………………………
قوله رحمه الله في توحيد الله بأسمائه وصفاته ……………………………………
قوله رحمه الله في وجوب إخلاص الدين لله ……………………………………
قوله رحمه الله في الإحسان ……………………………………………………
قوله رحمه الله في القرآن الكريم …………………………………………………
قوله رحمه الله في الإرادة والمشيئة ………………………………………………
قوله رحمه الله في المحبة …………………………………………………………
قوله رحمه الله في العبادة ووجوب صرفها لله ……………………………………
قوله رحمه الله في القضاء والقدر ………………………………………………
قوله رحمه الله في القبور وأحكامها ……………………………………………
قوله رحمه الله في البعث والنشور ………………………………………………
قوله رحمه الله في نصب الموازين وتطاير الكتب …………………………………
قوله رحمه الله في الحوض والصراط ……………………………………………
قوله رحمه الله في الإيمان بالملائكة المكرمين ………………………………………
قوله رحمه الله في الجنة والنار ……………………………………………………
قوله رحمه الله في رؤية المؤمنين ربهم ……………………………………………
قوله رحمه الله في أنبياء الله ورسله ………………………………………………
قوله رحمه الله في خاتم رسل الله ………………………………………………
قوله رحمه الله في صحابة رسول الله ……………………………………………
قوله رحمه الله في التفضيل بين الصحابة …………………………………………
قوله رحمه الله في أهل بيت النبوة ………………………………………………
قوله رحمه الله في فضل الصديق وخلافته ………………………………………
قوله رحمه الله في أمهات المؤمنين الطاهرات وذبه عن عرض الصديقة بنت الصديق
قوله رحمه الله قوله رحمه الله في أولياء الله وكراماتهم ……………………………
قوله رحمه الله في الشفاعة ………………………………………………………
درؤه رحمه الله شبهة التكفير بالعموم ……………………………………………
قوله رحمه الله في الحكم على المعين ……………………………………………
قوله رحمه الله في العذر بالجهل حتى تقوم الحجة ………………………………
ذكره رحمه الله طائفة من الأعمال المكفرة ……………………………………
قوله رحمه الله في : كفر دون كفر ……………………………………………
قوله رحمه الله في عدم التكفير بالذنب …………………………………………
قوله رحمه الله في الحكم بالظاهر دون السرائر ……………………………………
قوله رحمه الله في الردة عن الإسلام ……………………………………………
قوله رحمه الله في التحذير من الشرك ……………………………………………
قوله رحمه الله من عظائم هي من الشرك ………………………………………
قوله رحمه الله في الجبت والطاغوت ……………………………………………
قوله رحمه الله في لزوم الجماعة ونبذ الفرقة والشقاق ……………………………
قوله رحمه الله في الفرقة الناجية والطائفة المنصورة وأنها هي الوسط ………………
قوله رحمه الله في الإمامة العظمى، والسمع والطاعة ……………………………
قوله رحمه الله في الهجرة ………………………………………………………
قوله رحمه الله في الولاء والبراء …………………………………………………
قوله رحمه الله في الصلاة والجهاد مع أئمة الجور …………………………………
قوله رحمه الله في من البدع والحوادث …………………………………………
قوله رحمه الله في بيان مذهبه ……………………………………………………
قوله رحمه الله في القتال بعد إقامة الحجة ………………………………………
قوله رحمه الله في حجية المتواتر …………………………………………………
قوله رحمه الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ………………………………
قوله رحمه الله في المسح على الخفين ……………………………………………
قوله رحمه الله في نكاح المتعة …………………………………………………
قوله رحمه الله في النياحة ………………………………………………………(/18)
فصل الدين عن السياسة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ أصول الفقه /السياسة الشرعية
التاريخ ... 17/1/1425هـ
السؤال
هل فصل الدين عن السياسة كفر وردة، أم ماذا؟
الجواب
فصل الدين عن السياسة حرام لا يجوز، بل هو كفر وردة عن الإسلام، إذا كان القائل بهذا القول أو العامل به عارفاً بالحكم معتقداً له، فالدين يشمل أمور الحياة كلها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ونحوها، كما هو يشمل الأمور الاعتقادية والعبادية سواء بسواء، قال –تعالى-: "إن الدين عند الله الإسلام"[آل عمران: 19]، وقال: "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"[آل عمران: 85]، فمن فصل الدين عن السياسة، أو الدين عن الدولة وهو يعرف ما يقول فقد كفر بالله العظيم؛ لأنه رافض، وراد لأمر الله وحكمه،ومن رد حكم الله فقد كفر؛ حيث نصب نفسه مشرعاً مع الله مستدركاً على دينه بزيادة أو نقص، والله يقول: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً"[المائدة: 30]، ومن يفصل الدين عن السياسة أو الدين عن الدولة، أو الدين عن الحياة فهو منتقص لله ودينه، وما ارتضاه الله للمسلمين من نعمة، ومن كان له مسكة من عقل كيف يقول بهذه المقولة – فصل الدين عن السياسة- وهو ينظر في القرآن الكريم، آيات الجهاد وأحكامه تكاد تزيد على آيات الصلاة والزكاة والصيام والحج،كما أن الآيات القرآنية فضلاً عن الأحاديث النبوية التي تعنى بالشؤون الاقتصادية كطرق كسب المال وحفظه، وإنفاقه، وسائر أحكامه من حل وحرمة كالنص على التحريم القاطع للربا، قال –تعالى-: "وأحل الله البيع وحرم الربا"[البقرة: 275]، وقوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل"[النساء: 29]، والمسمى بالفائدة قد أردى الاقتصاد الرأسمالي العالمي اليوم في جميع أنحاء المعمورة فكيف يقال مع هذا أو ذاك إن الإسلام قاصر على علاقة الإنسان بربه من صلاة وصيام وصدقة، أو مما يعرف بالأحوال الشخصية فقط؟ إن الإيمان ببعض نصوص القرآن دون بعض كفر بالدين كله، "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله غافل عما تعملون"[البقرة: 85].
وفصل الدين عن السياسة أو الحياة هو ما يطلق عليه العلمانية، والعلمانية إذا ارتبطت بالدولة وتطبيقاتها قيل لها دولة علمانية، وإذا ارتبطت بالأفراد فهي فكرة علمانية وصاحبها علماني، وقولنا إن فصل الدين عن السياسة فكرة علمانية كفرية لا يعني هذا تكفير كل من يطلق عليه علماني، حاكماً كما أو محكوماً،ولا يجوز تكفير المسلم المعين حتى تقام الحجة عليه ثم يعذر لجهل كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري(3481)، ومسلم(2756) عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت، قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فلما مات فُعل به ذلك، فأمر الله الأرض، فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائمٌ، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك أو مخافتك يا رب، فغفر له"، ولحديث أبي واقد الليثي-رضي الله عنه-: "خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يوم حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عليها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: "الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: "اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون" [الأعراف: 138]، "إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم" رواه الترمذي(2180)، وأحمد(21393)،فذاك الرجل الذي قال تلك المقولة لبنيه: لئن قدر الله علي..." وهؤلاء الصحابة – رضي الله عنهم- بمقولتهم هذه: "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط" لم يكفروا وإن كانت مقولتهم كفراً؛ وذلك لأنهم يجهلون الحكم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الاستقامة أثناء رده على الجهمية الحلولية الذين ينفون علو الله على خلقه: (..أنا لو وافقتكم كنت كافراً لأني أعلم أن قولكم كفر وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال) وأكثر المسلمين الذين يقولون بفصل الدين عن السياسة ناتج عن جهلهم، فلا يصح تكفير واحد منهم بعينه حتى يعلم بخطورة قوله أو فعله، فإن أصر بعد ذلك حكم بكفره وأقيم عليه حكم الردة عن الإسلام، أعاذنا الله منها.
والله أعلم وصلى الله على محمد.(/1)
فضائح الصوفية
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق بين يدي الساعة مفرقاً بين الهدى والضلال، وبين التوحيد والشرك، وبين الجاهلية والإسلام. والصلاة والسلام على النبي الهادي الذي أتم رسالة ربه غاية الإتمام، وترك أمته على المحجة الواضحة البينة التي لا يزيغ عنها إلا من صرف الله قلبه عن الإيمان والإسلام.
وبعد.
فإني رأيت بعد طول دراسة وتدبر أن الفكر الصوفي هو أشد الأخطار جميعاً على أمة الإسلام وأنه الذي حوّل عز هذه الأمة ذلاً ومهانة، ولا يزال هذا دأبه على الدوام وأنه السوس الذي ظل ينخر ويهدم في جسم شجرتنا الباسقة حتى أناخها مع الأيام، وأنه لا خلاص للأمة إلا بالتخلص من هذا السوس أولاً قبل أي خطر آخر، وقد كتبت بحمد الله في هذا كتاب الفكر الصوفي. ولما كان هذا الكتاب ذا حجم كبير قد لا يسعف القارئ المشغول أن يلم بأطرافه أفردت هذه الرسالة الصغيرة لتشرح أهم المخاطر التي تهدد العالم الإسلامي من وراء الفكر الصوفي، لعل في هذه الرسالة باعثاً ومنبهاً لقادة الأمة الإسلامية وموجهيها أن يحذروا من هذه الآفة الخفية الماحقة ويعملوا على استئصالها من جسم الأمة الإسلامية. ثم أتبعت بيان المخاطر بنموذج مختصر لكيفية الجدال مع الصوفي وذلك حتى يتدرب طلاب العلم على كيفية النقاش معهم ويتعلموا كيف يستطيعون إقامة الحجة عليهم أو لإقامتهم على الطريق المستقيم والله أسأل أن ينفع بهذه الرسالة أمة الإسلام وطلاب العلم الشرعي وأحمد الله وأصلي على عبده ورسوله في البدء والختام.
كتبه
عبدالرحمن عبدالخالق
الكويت السبت 14 من ذي القعدة سنة 1404 هـ
الموافق 11 من أغسطس سنة 1984 م
الباب الأول: مخاطر الفكر الصوفي
هذه هي أهم مخاطر الفكر الصوفي:
1- صرف الناس عن القرآن والحديث:
عمد المتصوفة قديماً وحديثاُ إلى صرف الناس عن القرآن والحديث بأسباب شتى وطرق ملتوية جداً ومن هذه الطرق ما يلي:
أ- الزعم أن التدبر في القرآن يصرف النظر عن الله فقد جعلوا الفناء في الله في زعمهم هو غاية الصوفي وزعموا أيضاً أن تدبر القرآن يصرف عن هذه الغاية وفاتهم أن تدبر القرآن هو ذكر الله عز وجل لأن القرآن إما مدح الله بأسمائه وصفاته، أو ذكر لما فعله سبحانه بأوليائه وبأعدائه، وكل ذلك مدح له وعلم بصفاته أو تدبر لحكمه وشرعه، وفي هذا التدبر تظهر حكمته ورحمته بخلقه عز وجل ولكن لأن الصوفية يريد كل منهم أن يكون إلهاً ويتصف -في زعمه بصفات الله- فإنهم كرهوا تدبر القرآن لذلك. وهاهو الشعراني يقول في كتابه الكبريت الأحمر: يقول الله عز وجل في بعض الهواتف الإلهية "يا عبادي الليل لي لا للقرآن يتلى إن لك في النهار سبحاً طويلا فاجعل الليل كله لي وما طلبتك إذا تلوت القرآن بالليل لتقف على معانيه فإن معانيه تفرقك عن المشاهدة فآية تذهب بك إلى جنتي وما أعددت فيها لأوليائي فأين أنا إذا كنت في جنتك مع الحور متكئا على فرش بطائنها من إستبرق وآية تذهب بك إلى جهنم فتعاين ما فيها من أنواع العذاب فأين أنا إذا كنت مشغولاً بما فيها وآية تذهب بك إلى قصة آدم أو نوح أو هود أو صالح أو موسى أو عيسى عليهم الصلاة والسلام وهكذا وما أمرتك بالتدبر إلا لتجتمع بقلبك علي وأما إستنباط الأحكام فلها وقت آخر وثم مقام رفيع وأرفع" أهـ (الكبريت الأحمر على هامش اليواقيت والجواهر ص21).
وهذه زندقة عظيمة، إذ أين قال الله هذا الذي يفتريه الشعراني، ثم كيف يقول الله ما يخالف القرآن الحق المنزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول تعالى (كتاب أنزلناه إليك مباركٌ ليدبروا آياته). وقال تعالى (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها). وقال تعالى (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل بالقرآن كلما مر على آية فيها ذكر للجنة وقف عندها ودعا الله عز وجل وكلما مر على آية أخرى فيها تهديد ووعيد وقف عندها ودعا الله سبحانه واستعاذ من النار كما صح ذلك من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وهؤلاء زعموا أن قراءة القرآن بالليل والقيام به مشغلة وانصراف عن الله!! والحال أن القيام بالليل هو أعظم فريضة فرضها الله على رسوله ليبلغ بذلك المنزلة العظمى يوم القيامة، قال تعالى (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) ومعنى (تهجد به) أي بالقرآن، فجعل الله المقام المحمود للرسول ثمرة لقيام الليل بالقرآن وهذا أيضا أول أمر أُمر به الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:
(يأيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص من قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا) الآيات.
والمهم هنا أن هؤلاء الكذابين صرفوا الناس عن القرآن بزعمهم أنه مشغلة عن عبادة الله فأي تلبيس أكبر من هذا.
ب- الزعم بأن أجر أذكارهم المبتدعة أفضل من القرآن:(/1)
كما قال أحمد التيجاني وغيره إن صلاة الفاتح تعدل كل ذكر تلي في الأرض ستة آلاف مرة..
إقرأ الفصل الخاص (بالطريقة التيجانية في الفكر الصوفي). وهذا في المحصلة يؤدي بالناس إلى هجر القرآن إلى الأذكار المبتدعة.
ج- زعمهم أن من قرأ القرآن وفسره عاقبه الله لأن للقرآن أسرار ورموزاً، وظهراً وبطناً ولا يفهمها إلا الشيوخ الكبار ولو تعرض شيء من تفسيره أو فهمه عاقبه الله عز وجل .
د- جعل القرآن والحديث هو الشريعة والعلم الظاهر وأما العلوم اللدنية الأخرى في زعمهم فهي أكمل وأعلى من القرآن كما قال أبو يزيد البسطامي خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله.. وقال ابن سبعين: (لقد حجر ابن آمنة واسعاً إذ قال لا نبي بعدي) وهذا القول من هذا الزنديق في غاية الشناعة والباطل وإتهام الرسول!! فلعنة الله على من قال ذلك أو صدقه.. وتابعه في هذا القول.
وبإختصار فللمتصوفة أعنى الزنادقة منهم أساليب عظيمة في الكيد والمكر بالإسلام ومن أعظم ذلك صرف الناس عن القرآن بهذه الأكاذيب والافتراءات.
2- فتح باب التأويل الباطني لنصوص القرآن والحديث:
ومن أعظم مخاطر الفكر الصوفي كذلك فتحهم باب للتفسير الباطني لنصوص القرآن والسنة، والحق أنه لا يكاد يوجد آية أو حديث إلا وللمتصوفة الزنادقة تأويلات باطنية خبيثة لها. ويقول ابن الجوزي في وصف ذلك:
وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي في تفسير القرآن من كلامهم الذي أكثره هذيان لا يحل نحو مجلدين سماها حقائق التفسير قال في فاتحة الكتاب عنهم أنهم قالوا إنما سميت فاتحة الكتاب لأنها أوائل ما فاتحناك به من خطابنا فإن تأدبت بذلك وإلا حرمت لطائف ما بعد (!!)
قال المصنف رحمه الله: وهذا قبيح لأنه لا يختلف المفسرون أن الفاتحة ليست من أول ما نزل، وقال في قول الإنسان (آمين) أي قاصدون نحوك.
قال المصنف رحمه الله: وهذا قبيح لأنه ليس من أم لأنه لو كان كذلك لكانت الميم مشددة. وفي قوله: (وان يأتوكم أسارى) قال: قال أبو عثمان: غرقى في الذنوب. وقال الواسطي: غرقى في رؤية أفعالهم. وقال الجنيد: أسارى في أسباب الدنيا تفدوهم إلى قطع العلائق.
قلت: وإنما الآية على وجه الإنكار ومعناها إذا أسرتموهم فديتموهم وإذا حاربتموهم قتلتموهم وهؤلاء قد فسروها على ما يوجب المدح. وقال محمد بن علي: (يحب التوابين) من توبتهم. وقال النوري: (يقبض ويبسط) أي يقبض بإياه ويبسط لإياه وقال في قوله: (ومن دخله كان آمناً) أي من هواجس نفسه ومن وساوس الشيطان. وهذا غاية في القبح لأن لفظ الآية لفظ الخبر ومعناه الأمر وتقديرها من دخل الحرم فأمنوه. وهؤلاء فسروها على الخبر ثم لا يصح لهم لأنه كم من داخل إلى الحرم ما أمن من الهواجس ولا الوساوس، وذكر في قوله: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) قال أبو تراب: هي الدعاوي الفاسدة. (والجار ذي القربى) قال سهل: هو القلب، (والجار الجنب) النفس، (وابن السبيل) الجوارح. وقال في قوله (وهم بها)، قال أبو بكر الوراق: الهمان لها ويوسف ما هم بها. قلت هذا خلاف لصريح القرآن. وقوله (ما هذا بشراً)، قال محمد بن علي ما هذا بأهل أن يدعى المباشرة. وقال الزنجاني: الرعد صعقات الملائكة والبرق زفرات أفئدتهم والمطر بكاؤهم. وقال في قوله (ولله المكر جميعاً)، قال الحسين: لا مكر أبين فيه من مكر الحق بعباده حيث أوفاهم أن لهم سبيلاً إليه بحال، أو للحدث اقتران مع القدم.
قال المصنف رحمه الله: ومن تأمل معنى هذا علم أنه كفر محض لأنه يشير إلى أنه كالهزء واللعب. ولكن الحسين هذا هو الحلاج وهذا يليق بذاك. وقال في قوله (لعمرك) أي بعمارتك سرك بمشاهدتنا. قلت: وجميع الكتاب من هذا الجنس ولقد هممت أن أثبت منه هاهنا كثيراً فرأيت أن الزمان يضيع بين الكفر والخطأ والهذيان. وهو من جنس ما حكينا عن الباطنية، فمن أراد أن يعرف جنس ما في الكتاب فهذا أنموذجه. ومن أراد الزيادة فلينظر في الكتاب. (تلبيس إبليس ص332،333)
وهذا الذي ذكره الإمام ابن الجوزي إنما هو نموذج فقط للتأويل الصوفي لرواده الأوائل ولو رحنا نتتبع ما سطرته أيدي المتصوفة من التأويل الباطني الخبيث للقرآن والحديث لجمعنا عشرات المجلات كلها من أمثال هذا الهذيان والافتراء، والتقول على الله بلا علم والزعم أن هذه هي معاني القرآن الحقيقية..
وللأسف فإن المنهج الباطني لتأويل القرآن والحديث قد درج عليه من سار على هديهم لليوم. ولقد أصبح منهاجاً وأسلوباً لمن أبتلي بالتصديق بهذه الخرافات الصوفية، وإطلاعك مثلاً على كتاب (القرآن محاولة لتفسير عصري. لمؤلفه مصطفى محمود) أو الكتب التي ألفها محمود محمد طه السوداني صاحب ما يسمى بالحزب الجمهوري السوداني يطلعك على هذه النماذج العجيبة التي تأثرت بالفكر الصوفي وخرجت على المسلمين بتأويلات باطنية للقرآن والحديث… واليك بعض النماذج في ذلك:(/2)
* المحاولة العصرية لتفسير القرآن التي كتبها الدكتور مصطفى محمود على صفحات صباح الخير المصرية، ثم جمعها في رسالة لعنوان "القرآن محاولة لفهم عصري للقرآن" كانت محاولة صوفية حديثة لتفسير القرآن وهي محاولة فجة في إطار الفكر الصوفي كما سماها بذلك محمود محمد طه الأستاذ الذي نقل عنه الدكتور في كتابه فقد قال مادحا له ناقلاً عنه: "وأعجبني في كتاب للمفكر الإسلامي محمود طه بعنوان "رسالة الصلاة" تعبير جميل يقول فيه: إن الله استل آدم استلالاً من الماء والطين. "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" إنه الانبثاق من الطينة درجة درجة، وخطوة خطوة، من الاميبا إلى الإسفنج إلى الحيوانات الرخوية إلى الحيوانات القشرية إلى الفقريات إلى الأسماك إلى الزواحف إلى الطيور إلى الثدييات إلى أعلى رتبة آدمية بفضل الله وهديه وإرشاده" (ص53 المحاولة).
وهذا المفكر الإسلامي على حد تعبير الدكتور مصطفى محمود مهندس زراعي سوداني درس التصوف ووصل إلي القول بسقوط التكاليف عنه لأنه وصل إلى مرحلة اليقين وله كتاب الصلاة الذي نقل عنه الدكتور مصطفى محمود وكتب أخرى، وله كتاب في الرد على المحاولة العصرية بتفسير القرآن.
ومما أعجب الدكتور في كتاب الصلاة لمحمود محمد طه ما نقلناه بنصه آنفاً، وهو إقحام عجيب لخلق آدم عليه السلام في نظرية دارون التي انحسر الإيمان بها إلا من عقول أولئك الذي يجمعون من كل فكر غث يفسرون به كلام الله عز وجل زاعمين انهم وصلوا إلى هذا بالكشف والمجاهدة، وما هو إلا نقل لثقافات الكفرة والملحدين ثم حمل آيات الكتاب الكريم عليها.
وأما الدليل على أن المحاولة العصرية لتفسير القرآن وتأويله ينطلق من إطار الفكر الصوفي فهي هذه النقول من كتاب الدكتور مصطفى محمود عن القرآن:
أ- كتب الدكتور مصطفى محمود فصلاً كاملاً بعنوان "أسماء الله" جعل المعرفة الصحيحة السليمة لمعاني الرب والإله هي التي توصل إليها المتصوفة قال: "والمتصوفة يقولون انه يبعد عن إدراكنا لفرط قربه ويخفى علينا لفرط ظهوره" ص99.
ثم يسترسل في مدح الفكر الصوفي: "وهم يطلبون القرب من الله حباً، وليس خوفاً من النار، أو طلباً لجنة، ويقولون إنه في هجرة دائمة إلى الله من الأكوان إلى المكون" ص101.
ثم يقول: "والمتصوفة أهل أطوار وأحوال ولهم آراء طريفة لها عمقها، ودلالتها، فهم يقولون إن المعصية تكون افضل أحيانا من الطاعة، فرب معصية تؤدي إلى الرهبة من الله والى الذل والانكسار، وطاعة تؤدي إلى الخيلاء والاغترار وهكذا يصبح العاصي أكثر قرباً وأدباً مع الله من المطيع" ص101.
ثم يقول: "والمتصوف واليوجي والراهب كلهم على درب واحد، وأصحاب منطق واحد وأسلوب واحد في الحياة هو الزهد" ص101.
ثم يقول أيضاً: "واليوجي والراهب والصوفي المسلم يطلبون القرب والوصل بنفس الأسلوب بالتسابيح فيدعون الله بأسمائه "ولله الأسماء الحسنى يدعوه بها" وهناك يوجا خاصة بالتسابيح اسمها "المانترايوجا" من كلمة "منترام" الهندية أي تسبيحة، ومن التسابيح السنكريتية أن يتلو اليوجي في خشوع كلمة "رهيم، رهام" آلاف المرات وهي كلمات تقابل رحيم.. رحمن عندنا وهي من اسماء الله بالسنسكريتية ويضع اليوجي في عنقه مسابح طويلة من ألف حبة"!!
ثم يسترسل الدكتور مصطفى محمود في الإشادة بمنهج التصوف وفهم المتصوفة للإسلام فيقول: "والتصوف إدراك عن طريق المدارك العالية، والمتصوف عارف" ص103.
ثم يجري خلف المتصوفة في تطويع الآيات القرآنية إلى تفسيرهم الباطني فيقول: "وفي بعض أخبار داود أنه قال: "يا رب أين أجدك؟ فقال: "اترك نفسك وتعال.. غب عني تجدني". وفي هذا يفسر بعض المتصوفة كلام الله لموسى في القرآن": (فاخلع نعليك انك بالوادي المقدس طوى ) أن المقصود بالنعلين هي النفس والجسد، أو النفس وملذات الجسد، فلا لقاء بالله إلا بعد أن يخلع الإنسان النعلين: نفسه وجسده بالموت أو بالزهد" ص104.
ثم يسترسل الدكتور فيقول:" والمتصوف لا يسأل.. وهو يمرض فلا يسأل الله الشفاء ويقول في أدب.. كيف أجعل لنفسي إرادة إلى جانب إرادة الله فأسأله ما لم يفعل" ص105.
ثم يفسر قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) إن معناها ما خلقت الجن والإنس إلا ليعرفون.
ثم يقول في ختام هذا الفصل الصوفي: "هؤلاء هم أهل السر القرب والشهود الأولياء الصالحون حقاً" ص109.
فما أثر هذا المنهج الصوفي الذي اختطه الدكتور لنفسه، وكيف كان نتاج هذا الفكر عند الدكتور؟
لقد تصدى الدكتور مصطفى محمود لتأويل القرآن وتفسيره فبماذا طلع على الناس، وما الفهم العصري لكتاب رب العالمين عز وجل ؟ هناك نماذج مما وصل إليه فهم الدكتور المفسر:
أ- اجتهد الدكتور على حد تعبيره في معرفة الشجرة التي أكل منها آدم فعصى الله تبارك وتعالى وأوصله (اجتهاده) إلى ما يأتي بالنص:(/3)
"كان التلاقح الجنسي والشجرة المحرمة التي أكلت منها الحياة فهوت إلى العدم " … "وكان الشيطان يعلم أن شجرة النسل هي إيذان ببدء الموت والطرد من جنة الخالدين فكذب على آدم فسول له أنها شجرة الخلود بعينها، وأغراه بأن يخالط زوجه بالجسد" ص62.
ثم لا يكتفي الدكتور بذلك بل يجزم أن حواء أيضاً حملت في أثناء هذا اللقاء حيث يقول:
"ثم نرى القرآن يخاطبها بعد تذوق الشجرة على أنهما جمع فيقول ( اهبطوا بعضكم لبعض عدو) بينما كان الخطاب في نفس الآيات قبل الخطيئة إلى مثنى، ومعنى هذا أن الأكل من الشجرة أدى إلى التكاثر" ص62.
ثم يقول الدكتور بعد كل هذا الهذيان "ولا يمكننا القطع في هذه المسائل، ويجب أن نقول أن الشجرة ما زالت لغزاً، وأن قصة الخلق ما زالت من أمر الغيب لا نستطيع أن نقول فيها أكثر من الاجتهاد، والله أعلم بكتابه وهو وحده الذي يعلم تأويل ما فيه".
قلت: كيف وقد قطعت وفسرت بما يحلو لك آنفاً وتقولت على الله وعلى كتابه بغير علم ولا هدى.. وزعمت كل الذي زعمت في معاني القرآن بما يوافق هواك ورأيك..
والعجيب حقاً أن مصطفى محمود نفسه يهاجم البهائية الذين يعمدون إلى التأويل الباطني للقرآن فيقول: "وهو أمر يكشف خطورة التفسير الباطني للقرآن، وخطورة إغفال ظاهر الحروف، ومقتضى الكلمات والعبارات، وكيف يمكن أن يؤدي أمثال هذه التفاسير إلى اقتلاع الدين من أساسه، وهو ما كانت تلجأ إليه بالفعل فرق الخوارج والأثنا عشرية والباطنية والبابية لتطويع القرآن لأغراضها في هدم بعضها البعض".
ثم يستطرد قائلاً: "وهذا ينتهي بنا إلى موقف في التفسير لا بد من التزامه، وهو الارتباط بحرفية العبارة، ومدلول الكلمات الظاهر، لا تنتقل إلى تأويل باطني إلا بإشارة وإلهام من الكلمات القرآنية ذاتها فنفسر القرآن بالقرآن ظاهراً وباطناً على أن لا يتعارض تفسيرنا الباطن مع مدلول الظاهر أو يكون نافياً له" أهـ (محاولة تفسير عصري ص122-123)
والعجيب حقاً أن مصطفى محمود بالرغم من كل ما قاله عن خطورة التأويل الباطني قد فتح لنفسه هو المجال ليقول حسب هواه، فقد جعل الجنة والنار كليهما عذاباً ونعيماً معنوياً وليس شيئاً حقيقياً حسياً وقال أنا أكره العسل، ومنذ سمعت أن في الجنة أنهار عسل تقززت نفسي!!. وجعل يأجوج ومأجوج هم شعب الصين، وجعل الدجال المذكور في الحديث هو العلم العصري لأنه ينظر بعين واحدة إلى الدنيا فقط.. وجعل لباس البحر للنساء لباساً أوجدته الضرورة والتفكر في خلق الله… وهذه فقط بعض تأويلاته… وأما أستاذه الذي نقل عنه وهو محمد محمود طه السوداني فهذا الذي وصلت به التأويلات الى إسقاط الشريعة عن نفسه فهو لا يصلي لأنه وصل منزلة الله!! وقد وجد بتأويلاته أن الاشتراكية في القرآن بأن الله
يقول (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) والعفو هي الزيادة في زعمه عن الحاجة الضرورية وهذا يعني عنده أنه لا يجوز الإدخار ويجب إنفاق كل الكسب الزائد… وبالرغم من كل هذه الخزعبلات والخرافات فقد وجد مثل هذا الفكر رواجاً وقد ناقشت بنفسي أعداداً كبيرة من هذا الذي يسمونه بالحزب الجمهوري في السودان… ويعجب القارئ إذا علم أن مثل هذا الفكر الباطني قد انتحله أساتذة جامعات ومحامون ومدرسون وطلاب… وأنهم يدافعون عن هذا الفكر باستماتة عجيبة. فأي خطورة أعظم من مثل هذا؟!
3- إتلاف العقيدة الإسلامية:
أول ما يستهدف الفكر الصوفي إتلافه وتبديله هو العقيدة الإسلامية النقية عقيدة الكتاب والسنة، وذلك أن: الفكر الصوفي خليط كامل لكل الفلسفات والخزعبلات والخرافات التي انتشرت في العالم قديماً وحديثاً. فليس هناك من كفر وزندقة وإلحاد إلا دخل الى الفكر الصوفي وتلبس بالعقيدة الصوفية. فمن القول بوحدة الوجود وأن كل موجود هو الله، إلى القول بحلول ذات الله أو صفاته في المخلوقين، إلى القول بالعصمة، إلى الزعم بالتلقي من الغيب، إلى القول بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو قبة العالم وهو المستوي على عرش الله، إلى القول بأن الأولياء يديرون العالم ويتحكمون في الكون، وأستطيع أن أقول أنه لا توجد عقيدة شركية في الأرض إلا وقد نقلت إلى الفكر الصوفي، وأُلبست الآيات والأحاديث. بل أنني أتحدى أي صوفي يعلم ما هو التصوف أن يثبت لي حسب عقيدته، أن إبليس كافر وأنه من أهل النار، وأن فرعون كافر وأنه من أهل النار!! وأن الذين عبدوا العجل من بني إسرائيل أخطئوا، وأن الذين يعبدون البقر الآن كفار… أتحدى أي صوفي يعلم حقيقة التصوف أن يثبت ذلك… وقد يقول قائل… وكيف لا يثبت ذلك وهو ثابت في القرآن والسنة وكل مؤمن يشهد بذلك ومن شك في ذلك فهو كافر أصلاً؟(/4)
والجواب: إنه إن أثبت ذلك طعن في عقيدة التصوف، وشكك في أعلامه ورجاله، بل وكفر قادته وأساطينه وبالتالي خرج عن التصوف، فشيخ الصوفية الأكبر هو ابن عربي الزنديق الذي زعم أن فرعون أعلم بالله من موسى، وأن من عبدوا العجل ما عبدوا إلا الله لأن العجل -في عقيدته الخبيثة- مظهر من مظاهر الإله!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، بل وعبدة الأصنام عنده ما عبدوا إلا الله لأن الله عنده هو كل هذه المظاهر المتفرقة فهو الشمس والقمر والإنس والجن، والملائكة والشياطين، بل والجنة والنار، والحيوان والنبات والجماد، فما عبد في الأرض إلا الله، وما إبليس عند ابن عربي إلا جزء من الإله تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وقد جعل الصوفية هذه العقيدة اللعينة التي لم تشاهد الأرض أقبح منها ولا أفظع ولا أنتن ولا أفجر جعلوها سر الأسرار، وغاية الغايات، ومنتهى الإرادات، ودرجة الواصلين الكاملين، ومنتهى أمل العارفين، وهي عقيدة الزنادقة الملحدين من البراهمة والهنادك وفلاسفة اليونان الأقدمين،… ولا شك أن كل شر دخل التصوف بعد ذلك كان تحت ظلام هذه العقيدة اللعينة وهذا شيء لا يستطيع أي متصوف في الأرض اليوم يعلم ما هو التصوف أن ينكره بل ولا يستقبحه، وغاية ما يقول: هؤلاء لا يفهم علمهم إلا أصحاب الأذواق، وأهل العرفان. والحال أن هذا الكلام مشروح بلسان عربي واضح وقد كتبوه في مجلدات ضخمة وشرحوه نثراً وشعراً، وقصصاً، وأمثالاً، وربما اعتذر بعض المتصوفة عن هذا أنه من الشطح وغلبة الوجد، ولا شك أيضاً أن الشطح خبل وجنون وهم يقولون إن أحوالهم هذه أكمل الأحوال فكيف يكون الجنون والخبال كمالاً ثم كيف يكون شطحاً ما يكتب ويدون في عشرات المجلدات، ويدعى إليه على أنه غاية التصوف ونهاية الآمال…
وربما قالوا بل هو مدسوس عليهم… وهذه أيضاً من جملة كذبهم وتدليسهم وأتحدى أي صوفي أن يذكر عبارة بعينها ويقول إنها مدسوسة أو عقيدة خاصة يعنيها ويقول إنها… قد دست على الكاتب الفلاني، كيف وهي كتب كاملة، وعقائد مصنفة منمقة، وقصائد مدبجة موزونة… أتحدى أي صوفي أن يقول هذه القصيدة مدسوسة، أو هذا القول المعين مدسوس. لأنه لو قال ذلك لأصبح التصوف كله مدسوساً مكذوباً وهذا حق. فهؤلاء زعماء التصوف كالحلاج البسطامي والجيلي، وابن سبعين، وابن عربي، والنابلسي والتيجاني وغيرهم مدسوسون على هذه الأمة، كاذبون على الله ورسوله، قائلون في دين الله بالباطل، كل منهم زعم أنه الله المتصرف في الكون، وكل منهم زعم أن الله قد وكله بجزء من هذا العالم، وكل منهم زعم أنه الولي الكامل الذي يأتيه الوحي صبحاً ومساءً بل المطلع على الغيب، القارئ في اللوح المحفوظ، الذي ختم الله به الأولياء، والذي جعله قبلة للعالمين ومعجزة ومناراً للخلق أجمعين، وأنه بعد النبي رأساً، والنبي عندهم هو المستولي والمستوي على عرش الله الرحماني، فليس على العرش غير ذات محمد، ومحمد عندهم هو أول الذوات وجوداً، وهو أول التعينات وهو الذي استوى على عرش الله، وهو الذي يوحي الوحي إلى كل الأنبياء وينزل الإلهام إلى كل الأولياء بل هو الذي أوحى لنفسه من نفسه فهو الذي سلم إلى جبريل الوحي في السماء، وتلقاه منه في الأرض… هل سمعتم يا مسلمون عقيدة تحمل كل هذه الوقاحة والخسة والنذالة والكفر والمروق… هذه هي عقيدة الصوفية، وهذا هو تراثها ودينها. ولقد شرحنا هذا بالتفصيل بحمد الله في كتابنا (الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة)، وذلك في طبعته الثانية ونقلنا النقول المستفيضة لكل ذلك من كتب هؤلاء الزنادقة، الذين ما فتئوا يخرجون على العالم أنهم أولياء الله وأحبابه وأنهم يملكون مفاتيح القلوب، ومنهاج التربية الأمثل لإخراج المسلمين من الظلمات إلى النور والحال أن هذه هي عقيدتهم وهذا هو منهجهم في إفساد دين المسلمين، وصرف الناس عن رسالة رب العالمين.
4- الدعوة إلى الفسق والفجور والإباحية.(/5)
ويخطئ من يظن أن الصوفية في أول أمرها كانت مؤسسة على التقوى فهذا ابن الجوزي رحمه الله يروي عنهم هذه الحكاية فيقول: وبإسناد عن أبي القاسم بن علي بن المحسن التنوخي عن أبيه. قال: "أخبرني جماعة من أهل العلم أن بشيراز رجل يعرف بإبن خفيف البغدادي شيخ الصوفية هنا يجتمعون إليه ويتكلم عن الخطرات والوساوس ويحضر حلقته ألوف من الناس وأنه فارهٌ فهمٌ حاذق. فاستغوى الضعفاء من الناس إلى هذا المذهب، قال: فمات رجل منهم من أصحابه وخلف زوجة صوفية فاجتمع النساء الصوفيات وهن خلق كثير ولم يختلط بمأتمهن غيرهن. فلما فرغوا من دفنه دخل ابن خفيف وخواص أصحابه وهم عدد كبير الى الدار. وأخذ يعزي المرأة بكلام الصوفية إلى أن قال: قد تعزيت… فقال لها: ههنا غير!! فقالت: لا غير. قال: فما معنى إلزام النفس آفات الهموم، وتعذيبها بعذاب الهموم، ولأي معنى نترك الإمتزاج لتلتقي الأنوار، وتصفو الأرواح ويقع الاختلافات وتنز البركات!! قال: فقلن النساء أن شئت. قال: فاختلط جماعة الرجال بجماعة النساء طول ليلتهم فلما كان سحر خرجوا. قال المحسن قوله (ههنا غير) أي هنا غير موافق المذهب. فقالت (لا غير) أي لا يوجد مخالف، وقوله: نترك الإمتزاج كناية عن الممازجة في الوطء. وقال لتلتقي الأنواء، عندهم أن في كل جسم نوراً إلهياً. وقوله الاختلافات أي يكون لكن خلف ممن مات أو غاب من أزواجكن. قال المحسن: وهذا عندي عظيم ولولا أن جماعة يخبروني يبعدون عن الكذب ما حكيته لعظمته عندي واستبعاد مثله أن يجري في دار الإسلام، قال: وبلغني أن هذا ومثله شاع حتى بلغ عضد الدولة فقبض على جماعة منهم وضربهم بالسياط وشرد جموعهم فكفوا" أهـ منه بلفظه (تلبيس إبليس ص370،371)
وهكذا تتيقن أن هذه الطائفة لم تكن في كل عصورها إلا مجموعات من الزنادقة الملحدين المنحلين تظاهروا بظاهر الشريعة النظيف وأخفوا عن الأعين كفرهم وفسقهم وزندقتهم. ولذلك جزم ابن عقيل كما نقل عنه ابن الجوزي أنهم زنادقة ملحدون منحلون حيث يقول: فالله الله في الإصغاء إلى هؤلاء الفرَّع الخالين من الإثبات. وإنما هم زنادقة جمعوا بين مدارع العمال مرقعات وصوف، وبين أعمال الخلعاء الملحدة أكل وشرب ورقص وسماع وإهمال لأحكام الشرع. ولم تتجاسر الزنادقة أن ترفض الشريعة حتى جاءت المتصوفة فجاؤا بوضع أهل الخلاعة. أهـ (تلبيس إبليس ص374)
وقد وردت هذه العبارة البليغة من ابن عقيل رحمه الله بعد وصف أحوال الصوفية في زمانه حيث يقول:
ابن عقيل يصف فضائح الصوفية:
وأنا أذم الصوفية لوجوه يوجب الشرع ذم فعلها منها: أنهم اتخذوا مناخ البطالة وهي الأربطة فانقطعوا إليها عن الجماعات في المساجد فلا هي مساجد ولا بيوت ولا خانات وصمدوا فيها للبطالة عن أعمال المعاش وبدنوا أنفسهم بدن البهائم للأكل والشرب والرقص والغناء، وعولوا على الترقيع المعتمد به التحسين تلميعاً والمشاوذ بألوان مخصوصة أوقع في نفوس العوام والنسوة من تلميع السقلاطون بألوان الحرير، واستمالوا النسوة والمردان (الأمرد الشاب الذي لم ينبت شعر وجهه) بتصنع الصور واللباس فما دخلوا بيتاً فيه نسوة فخرجوا إلا عن فساد قلوب النسوة على أزواجهن ثم يقبلون الطعام والنفقات من الظلمة والفجار وغاصبي الأموال كالعداد والأجناد وأرباب المكوس، ويستصحبون المردان في السماعات يجلبونهم في الجموع مع ضوء الشموع، ويخالطون النسوة الأجانب ينصبون لذلك حجة إلباسهن الخرقة، ويستحلون بل يوجبون اقتسام ثياب من طرب فسقط ثوبه، ويسمون الطرب وجداً، والدعوة وقتاً، واقتسام ثياب الناس حكماً، ولا يخرجون من بيت دعوا إليه إلا إلزام دعوة أخرى يقولون أنها وجبت واعتقاد ذلك كفر وفعله فسوق.(/6)
ويعتقدون أن الغناء بالقضبان قربة وقد سمعنا عنهم أن الدعاء عند حدو الحادي وعند حضور المخذة مجاب اعتقاداً منهم أنه قربة وهذا كفر أيضا لأن من اعتقد المكروه والحرام قربة كان بهذا الاعتقاد كافراً والناس بين تحريمه وكراهيته. ويسلمون أنفسهم إلى شيوخهم فان عولوا إلى مرتبة شيخه قيل الشيخ لا يعترض عليه، فحد من حل رسن ذلك الشيخ وانحطاطه في سلك الأقوال المتضمنة للكفر والضلال المسمى شطحاً وفي الأفعال المعلومة كونها في الشريعة فسقاً. فإن قبل أمردا قيل رحمة، وإن خلا بأجنبية قيل بنته وقد لبست الخرقة، وإن قسم ثوباً على غير أربابه من غير رضا ماله قيل حكم الخرقة، قال ابن عقيل: وليس لنا شيخ نسلم إليه حاله إذ ليس لنا شيخ غير داخل في التكليف وأن المجانين والصبيان يضرب على أيديهم وكذلك البهائم، والضرب بدل من الخطاب، ولو كان لنا شيخ يسلم إليه حاله لكان ذلك الشيخ أبا بكر الصديق رضي الله عنه . وقد قال إن اعوججت فقوموني ولم يقل فسلموا إلي. ثم أنظر إلى الرسول صلوات الله عليه كيف اعترضوا عليه. فهذا عمر يقول: ما بالنا نقصر وقد أمنا. وآخر يقول: تنهانا عن الوصال وتواصل؟ وآخر يقول: أمرتنا بالفسخ ولم تفسخ! ثم إن الله تعالى تقول له الملائكة: (أتجعل فيها). ويقول موسى: (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا)، وإنما هذه الكلمة (يعني: قول الصوفية: الشيخ لا يعترض عليه) جعلها الصوفية ترفيها لقلوب المتقدمين، وسلطنة سلوكها على الإتباع والمريدين كما قال تعالى: (فاستخف قومه فأطاعوه) ولعل هذه الكلمة من القائلين منهم بأن العبد إذا عرف لم يضره ما فعل. وهذه نهاية الزندقة لأن الفقهاء أجمعوا على أنه لا حالة ينتهي إليها العارف إلا ويضيق عليه التكليف كأحوال الأنبياء يضايقون في الصغائر. فالله الله في الإصغاء إلى هؤلاء الفراغ الخالين من الإثبات. وإنما هم زنادقة جمعوا بين مرقعات وصوف، وبين أعمال الخلعاء الملحدة أكل وشرب ورقص وسماع وإهمال لأحكام الشرع. ولم تتجاسر الزنادقة أن ترفض الشريعة حتى جاءت المتصوفة فجاؤا بوضع أهل الخلاعة. أهـ (تلبيس إبليس ص373-374)
الصوفية واستحلال الحشيش:
ثم يستطرد ابن العقيل رحمه الله واصفاً زندقتهم وكفرهم وكيف أنه فرقوا في زعمهم بين
الشريعة والحقيقة واستحلوا الحشيش المخدر بل هم أول من اكتشفه وروجه في أوساط المسلمين، واستحلوا الغناء والاختلاط واستحلوا التظاهر بالكفر والزندقة زاعمين أنها أحوال وشطح وأنه يجب عدم الإنكار عليهم لأنهم مجاذيب أو مشاهدين لحضرة الرب -في زعمهم-
يقول ابن العقيل: فأول ما وضعوا اسماء وقالوا حقيقة وشريعة. وهذا قبيح لان الشريعة ما وضعه الحق لمصالح الخلق. فما الحقيقة بعدها سوى ما وقع في النفوس من إلقاء الشياطين. وكل من رام الحقيقة في غير الشريعة فمغرور مخدوع. وإن سمعوا أحدا يروي حديثاً قالوا مساكين أخذوا حديثهم ميت عن ميت. وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. فمن قال حدثني أبى عن جدي قلت: حدثني قلبي عن ربي، فهلكوا واهلكوا بهذه الخرافات قلوب الأغمار وأنفقت عليهم لأجلها الأموال. لأن الفقهاء كالأطباء والنفقة في ثمن الدواء صعبة والنفقة على هؤلاء كالنفقة على المغنيات. وبغضهم الفقهاء أكبر الزندقة لأن الفقهاء يحظرونهم بفتاويهم عن ضلالهم وفسقهم. والحق يثقل كما تثقل الزكاة. وما أخف البذل على المغنيات وإعطاء الشعراء على المدائح. وكذلك بغضهم لأصحاب الحديث وقد أبدلوا إزالة العقل بالخمر "بشيء سموه الحشيش والمعجون والغناء المحرم" سموه السماع والوجد والتعرض بالوجد المزيل للعقل كفى الله الشريعة شر هذه الطائفة الجامعة بين دهمثة (الليونة والسهولة يعني يلبسون فاخر الثياب ولينها) في اللبس وطيبة في العيش وخداع بألفاظ معسولة ليس تحتها سوى إهمال التكاليف وهجران الشرع ولذلك خفوا على القلوب ولا دلالة على أنهم أرباب باطل أوضح من محبة طباع الدنيا لهم كمحبتهم أرباب اللهو والمغنيات.(/7)
ثم استطرد ابن عقيل قائلاً: فان قال قائل هم أهل نظافة وحسن سمت وأخلاق قال فقلت لهم لو لم يصنعوا طريقة يجتذبون بها قلوب أمثالهم لم يدم لهم عيش والذي وصفتهم به رهبانية النصرانية. ولو رأيت نظافة أهل التطفيل على الموائد ومخانيث بغداد ودماثة المغنيات لعلمت أن طريقتهم طريقة الفكاهة والخداع وهل يخدع الناس إلا بطريقة أو لسان فإذا لم يكن للقوم قدم في العلم ولا طريقة فبماذا يجتذبون به قلوب أرباب الأموال، وأعلم أن حمل التكاليف صعب ولا أسهل على أهل الخلاعة من مفارقة الجماعة ولا أصعب عليهم من حجر ومنع صدر عن أوامر الشرع ونواهيه وما على الشريعة أضر من المتكلمين والمتصوفين فهؤلاء يفسدون عقائد الناس بتوهيمات شبهات العقول وهؤلاء يفسدون الأعمال ويهدمون قوانين الأديان يحبون البطالات وسماع الأصوات وما كان السلف كذلك بل كانوا من باب العقائد عبيد تسليم وفي الباب الآخر أرباب جد. قال: ونصيحتي إلى إخواني أن لا يقرع أفكار قلوبهم كلام المتكلمين ولا تصغي مسامعهم إلى خرافات المتصوفين بل الشغل بالمعاش أولى من بطالة الصوفية والوقوف على الظواهر أحسن من توغل المنتحلة وقد خبرت طريقة الفريقين فغاية هؤلاء الشك وغاية هؤلاء الشطح. أهـ من بلفظه (تلبيس إبليس ص374،375).
* ولقد استمر هذا الحال السيئ المزري الذي حكاه ابن عقيل ونقله عنه ابن الجوزي رحمه الله بل لقد كانت القرون التي تلت ذلك قرون ظلام وجهل حيث عاث المتصوفة في الأرض الإسلامية فساداً وملئوها فسقاً وفجوراً باسم الدين والإسلام ولم يكتفوا فقط بإفساد العقول والعقائد ولكنهم أفسدوا أيضاً الأخلاق والآداب.
فهذا هو عبد الوهاب الشعراني يجمع في كتابه الطبقات الكبرى كل فسق الصوفية وخرافاتها وزندقتها فيجعل كل المجانين والمجاذيب واللوطية والشاذين جنسياً، والذين يأتون البهائم عياناً وجهاراً في الطرقات، يجعل كل أولئك أولياء وينظمهم في سلك العارفين وأرباب الكرامات وينسب إليهم الفضل والمقامات. ولا يستحي أن يبدأهم بأبي بكر الصديق ثم الخلفاء الراشدين ثم ينظم في سلك هؤلاء من كان (يأتي الحمارة) جهاراً نهاراً أمام الناس ومن كان لا يغتسل طيلة عمره، ومن كان يعيش طيلة عمره عرياناً من الثياب ويخطب الجمعة وهو عريان، ومن ومن… من كل مجنون وأفاك وكذاب ممن لم تشهد البشرية كلها أخس منهم طوية، ولا أشد منهم مسلكاً ولا أقبح منهم أخلاقاً، ولا أقذر منهم عملاً ينظم كل أولئك في سلك واحد مع أشرف الناس وأكرمهم من أمثال الخلفاء الراشدين والصحابة الأكرمين وآل بيت النبي الطاهرين فيخلط بذلك الطهر مع النجاسة والشرك بالتوحيد، والهدى بالضلال، والإيمان بالزندقة، ويلبس على الناس دينهم، ويشوه عقيدتهم.
وأقرأ الآن بعض ما سطره هذا الأثيم عمن سماهم بالأولياء العارفين: قال في ترجمة من سماه بسيده علي وحيش:
"وكان إذا رأى شيخ بلد، أو غيره ينزله من على الحمار ويقول: امسك رأسها حتى أفعل فيها. فإن أبى شيخ البلد تسمر في الأرض ولا يستطيع أن يمشي خطوة. وإن سمع حصل له خجل عظيم والناس يمرون عليه"!! (الطبقات الكبرى ج2ص135)
فانظر كيف كان سيده علي وحيش يفعل هذا أمام الناس!! فهل يتصور عاقل بعد هذا أن هذا التصوف النجس من دين المسلمين ومما بعث به رسول رب العالمين، محمد صلى الله عليه وسلم الهادي الأمين. وهل ينظم أمثال علي وحيش ومن على شاكلته في سلك أصحاب الرسول ويجعل هؤلاء جميعا أصحاب صراط واحد إلا زنديق أفاك أراد هدم دين الإسلام وتخريب عقائد المسلمين.
وحتى لا تستفيق العقول من رقادها، فإن الشعراني هذا زعم لهم أن الأولياء لهم شريعتهم الخاصة التي يعبدون الله بها ويتقربون إلى الله بها وإن كان منها إتيان الحمير!! وكلما حاولت نفس أن تستيقظ، وتفكر لتفرق بين الهدى والضلال، والطهر والنجاسة، ألقى هؤلاء عليها التلبيس والتزوير. وهذا هو الشعراني يذكر أن رجلاً أنكر الفسق والفجور الذي يكون في مولد (السيد) البدوي حيث وما زال يجتمع الناس بمئات الآلاف في مدينة طنطا ويكون هناك الاختلاط المشين بين الرجال والنساء بل تصنع الفاحشة في المساجد والطرقات، وحيث كانت تفتح دور البغاء وحيث يمارس الصوفيون والصوفيات الرقص الجماعي في قلب المسجد وحيث يستحل كل الحرمات أقول يروي الشعراني في كتابه الطبقات أن رجلاً أنكر ذلك فسلبه الله الإيمان!! -أنظر- ثم يقول: (فلم يكن شعرة فيه تحن الى دين الإسلام فاستغاث بسيدي أحمد رضي الله عنه . فقال: بشرط إن لا تعود فقال: نعم فرد عليه ثوب إيمانه. ثم قال له: وماذا تنكر علينا؟ قال: اختلاط الرجال بالنساء. فقال له سيدي أحمد رضي الله عنه : ذلك واقع في الطواف ولم يمنع حرمته ثم قال: وعزة ربي ما عصى أحد في مولدي إلا وتاب.. وحسنت توبته وإذا كنت أرعى الوحوش والسمك في البحار واحميهم بعضهم بعضا. أفيعجزني الله عز وجل من حماية من حضر مولدي!!) (الطبقات الكبرى ج1 ص162)(/8)
ولا عجب أن يروي الشعراني كل ما يروي في كتابه من الزندقة والكفر والجهالة والضلالة فهذا هو يفتري عن نفسه أن السيد البدوي الذي هلك قبله بنحو من أربعة قرون كان يخرج له من يده من القبر ليسلم عليه، وأنه أعد له زاوية من زوايا مسجده غرفة ليدخل فيها على زوجته!! وأنه كان إذا تأخر عن مولد السيد البدوي كان البدوي هذا يخرج من قبره ويزيح الستر الموضوع فوق القبر ويقول أبطأ عبد الوهاب ما جاء!! وهذه نصوص عبارته في ذلك، يقول: "إن سبب حضوري مولد أحمد البدوي كل سنة أن شيخي العارف بالله تعالى محمد الشناوي رضي الله عنه أحد أعيان بيته رحمه الله قد كان أخذ علي العهد في القبة تجاه وجه سيدي أحمد رضي الله عنه ، وسلمني إليه بيده، فخرجت اليد الشريفة من الضريح، وقبضت على يدي وقال يا سيدي يكون خاطرك عليه، واجعله تحت نظرك!!
فسمعت سيدي أحمد من القبر يقول: نعم، ثم يسترسل عبد الوهاب الشعراني قائلا: لما دخلت بزوجتي أم عبد الرحمن وهي بكر مكثت خمسة شهور لم أقرب منها، فجاءني وأخذني وهي معي وفرش لي فراشا فوق ركن القبة التي على اليسار الداخل وطبخ لي الحلوى، ودعا الأحياء والأموات إليه وقال: أزل بكارتها هنا، فكان الأمر تلك الليلة.
ثم يقول: وتخلفت عن ميعاد حضوري للمولد سنة 948 ثمان وأربعين وتسعمائة وكان هناك بعض الأولياء فأخبرني أن سيدي أحمد رضي الله عنه كان ذلك اليوم يكشف الستر من الضريح ويقول: أبطأ عبد الوهاب ما جاء" (الطبقات الكبرى ج1 ص161،162)
وبعد،
فهذه هي النماذج السيئة التي يراد لأبناء المسلمين أن يحتذوها وهذا هو الوجه الحقيقي للتصوف، وهذه هي صور من رموزه ورجالاته، ولو ذهبنا نعدد هذه الصور لخرجنا عن القصد في هذه الرسالة الموجزة وقد بسطنا هذا بحمد الله وتوفيقه في كتابنا الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة فليرجع إليه. وهذا وبالله التوفيق وعليه التكلان وهو المستعان سبحانه أن يطهر مجتمع الإسلام من هذا السرطان الخبيث الذي أفسد عقائد المسلمين وأعمالهم ومجتمعهم. والصلاة والسلام في الختام على النبي الكامل الطاهر الداعي الى صراط الله العزيز الحميد.
الباب الثاني: كيف تجادل صوفيا؟
بعد إن ذكرنا في الباب السابق مخاطر الفكر الصوفي كان لزاماً على كل من علم ذلك أن يعمل لإجتثاث هذه الشجرة الخبيثة من المجتمع الإسلامي ولن يأتي ذلك إلا بالدعوة الحقة الى الله عز وجل ، وفضح هذا التصوف البغيض المتستر بالهدى والطهر والمضمر لكل أنواع الكفر والزندقة. ولذلك فإنه يجب على كل من علم الحق أن يعمل على نشره وإذاعته، وكذلك يجب على كل من علم هذا الشر أن يعمل على إجتثاث شجرته.
* ولما كان جمهور عظيم من طلاب العلم لا يعلمون حقيقة التصوف، ولا يحيطون علماً بكفرياته وأكاذيبه وترهاته وخزعبلاته فإنهم عند مناقشتهم للصوفيين لا يحسنون الرد عليهم، ولا إقناعهم بالحق، ولا إقامة الحجة عليهم لأن الصوفي إذا رأى من يعظم الكتاب والسنة والدليل سرعان ما يقول له: إن الجنيد -وهو شيخ الطائفة- قال: طريقتنا هذه مقيدة بالكتاب والسنة!! ومن لم يتفقه في الكتاب والسنة لم يعرف طريق القوم،وفلان قال، وفلان قال أيضاً: تمكث النكتة في قلبي من نكت القوم فلا أذيعها إلا إذا وجدت لها شاهدين من الكتاب والسنة.
فيظن طالب العلم الذي لا يعرف دروب التصوف أن هؤلاء من الحذق في الدين، والورع والإخلاص حيث لا يتكلمون بأمر إلا إذا وافق الكتاب والسنة، وأنهم متبعون لهما في أقوالهما وأفعالهما.. فيسقط في يده ولا يستطيع أن يجد جواباً وقد يقول إذن ما بال هؤلاء الذين يرقصون في موالدهم وحفلاتهم، وما بال هؤلاء المجاذيب الذين نشاهدهم يفعلون كذا وكذا من الحركات والصرخات، فيقول له الصوفي المجادل: لا.. هؤلاء عوام مغفلون وليسوا من الصوفية الحقيقية، والصوفية غير ذلك!! وهذا كذب بالطبع ولكن مثل هذا الجواب قد ينطلي على طالب العلم فيسكت وبالتالي يظل التصوف يعمل عمله في جسم الأمة ولا يتفطن له.
* ولما كان كثير من طلاب العلم لا يجدون الوقت للنظر في كتب التصوف ومعرفة ما فيها وقد يكون إذا نظر في بعضها خفي عليه الحق من الباطل وذلك للتلبيس والخلط الذي يكون فيهما حيث يرى قولاً صحيحاً بجوار قول مريض، وقول يتضمن كفراً بعبارة غامضة، وقولاً رابعاً قد تلوح منه حكمة فتغبش، وتعمى أمامه الرؤيا ولا يعرف في أي الدروب يسير!!
* من أجل ذلك نكتب هذه الخلاصة الموجزة للتعريف بالقضايا الكلية الأساسية في التصوف ولكيفية المجادلة مع أساطين التصوف ولو كان من يجادلهم أو يناقشهم طالب علم مبتدئ فإنه يحجه ويسكته وقد يرشده إلى الطريق المستقيم. وإليك هذه القواعد:
التصوف بحر من القاذورات:(/9)
اعلم أولاً أن التصوف بحر من القاذورات فقد جمع المتصوفة كل أنواع الكفر والزندقة التي توجد في فلسفات الهند وإيران واليونان، وكل مكر القرامطة والفرق الباطنية، وكل خرافات المخرفين، وكل دجل المدجلين وكل وحي الشياطين ووضعوا كل ذلك في إطار التصوف وعلومه ومبادئه وكشوفه. فلا يتصور عقلك عقيدة كفرية في الأرض إلا تجدها في التصوف بدءاً بنسبة الألوهية الى المخلوقات وانتهاء بجعل كل موجود هو عين الله تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وحتى تتضح صورة التصوف في ذهنك نضع أمامك، أخي المسلم، خلاصة موجزة جداً لمعتقدهم والفوارق الأساسية بين دينهم الصوفي وبين دين الإسلام.
أولاً: الفارق الأساسي بين الإسلام والتصوف:
يفترق منهج الإسلام وصراطه عن منهج التصوف في شيء أساسي جداً وهو (التلقي) أي مصادر المعرفة الدينية في العقائد والتشريع. فبينما يحصر الإسلام مصدر التلقي في العقائد في وحي الأنبياء والرسل فقط والذي هو لنا الكتاب والسنة فقط فإن الدين الصوفي يجعل مصدره هو الوحي المزعوم للأولياء والكشف المزعوم لهم، والمنامات واللقاء بالأموات السابقين وبالخضر عليه السلام، وبل وبالنظر في اللوح المحفوظ، والأخذ عن الجن الذين يسمونهم بالروحانيين.
وأما مصدر التلقي في التشريع عند أهل الإسلام فهو الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وأما عند المتصوفة فان تشريعاتهم تقوم على المنامات والخضر والجن والأموات والشيوخ كل هؤلاء مشرعون، ولذلك تعددت طرق التصوف وتشريعاته بل قالوا: الطرق الى الله بعدد أنفاس الخلائق فلكل شيخ طريقة ومنهج للتربية وذكر مخصوص وشعائر مخصوصة وعبارات مخصوصة ولذلك فالتصوف آلاف الأديان والعقائد والشرائع بل مئات الآلاف وما لا يحصى وكلها تحت مسمى التصوف وهذا هو الفارق الأساسي بين الإسلام والتصوف فالإسلام دين محدد العقائد، محدد العبارات، محدد الشرائع والتصوف دين لا حدود ولا تعاريف له في عقائد أو شرائع. وهذا هو أعظم فارق بين الإسلام والتصوف.
ثانياً: الخطوط العريضة للعقيدة الصوفية:
(1) في الله:
يعتقد المتصوفة في الله عقائد شتى منها الحلول كما هو مذهب الحلاج ومنها وحدة الوجود حيث لا انفصال بين الخالق والمخلوق وهذه هي العقيدة الأخيرة التي انتشرت منذ القرن الثالث والى يومنا هذا أطبق عليها أخيراً كل رجال التصوف وأعلام هذه العقيدة هم ابن عربي وابن سبعين، والتلمساني وعبد الكريم الجيلي، وعبد الغني النابلسي وعامة رجال الطرق الصوفية المحدثين.
(2) في الرسول صلى الله عليه وسلم:
يعتقد الصوفية في الرسول أيضاً عقائد شتى فمنهم من يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصل الى مرتبتهم وحالهم، وأنه جاهلاً بعلوم رجال التصوف كما قال البسطامي: خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله ومنهم من يعتقد أن الرسول محمد هو قبة الكون وهو الله المستوي على العرش وأن السموات والأرض والعرش والكرسي وكل الكائنات خلقت من نوره وأنه أول موجود وهو المستوي على عرش الله وهذه عقيدة ابن عربي ومن جاء بعده.
(3) في الأولياء:
يعتقد الصوفية في الأولياء أيضاً عقائد شتى فمنهم من يفضل الولي على النبي وعامتهم يجعل الولي مساوياً لله في كل صفاته فهو يخلق ويرزق ويحي ويميت ويتصرف في الكون ولهم تقسيمات للولاية فهناك الغوث المتحكم في كل شيء في العالم والأقطاب والأربعة الذين يمسكون الأركان الأربعة في العالم بأمر الغوث، والأبدال السبعة الذين يتحكم كل واحد منهم في قارة من القارات السبع بأمر والغوث ومنهم النجباء وهم المتحكمون في المدن كل نجيب في مدينة!! وهكذا فشبكة الأولياء العالمية هذه تتحكم في الخلق ولهم ديوان يجتمعون في غار حراء كل ليلة ينظرون في المقادير، وباختصار عالم الأولياء عالم خرافي كامل.
وهذا بالطبع خلاف الولاية في الإسلام التي تقوم على الدين والتقوى وعمل الصالحات والعبودية الكاملة لله والفقر إليه وان الولي لا يملك من أمر نفسه شيئاً فضلاً أنه يملك لغيره، قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم (قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً).
(4) في الجنة والنار:
وأما الجنة فإن الصوفية جميعاً يعتقدون أن طلبها منقصة عظيمة وأنه لا يجوز للولي أن يسعى إليها ولا أن يطلبها ومن طلبها فهو ناقص، وإنما الطلب عندهم والرغبة في الفناء المزعوم في الله، والإطلاع على الغيب والتصرف في الكون.. هذه جنة الصوفي المزعومة.
وأما النار فإن الصوفية يعتقدون أيضاً أن الفرار منها لا يليق بالصوفي الكامل لأن الخوف منها طبع العبيد وليس الأحرار ومنهم من تبجح أنه لو بصق على النار لأطفأها كما قال أبو يزيد البسطامي ومن يعتقد بوحدة الوجود منهم يعتقد أن النار بالنسبة لمن يدخلها تكون عذوبة ونعيماً لا يقل عن نعيم الجنة بل يزيد وهذا هو مذهب ابن عربي وعقيدته.
(5) إبليس وفرعون:(/10)
وأما إبليس فيعتقد عامة الصوفية انه أكمل العباد وأفضل الخلق توحيداً لأنه لم يسجد إلا لله بزعمهم وأن الله قد غفر له ذنوبه وأدخله الجنة، وكذلك فرعون عندهم أفضل الموحدين لأنه قال (أنا ربكم الأعلى) فعرف الحقيقة لأن كل موجود هو الله، ثم هو قد آمن في زعمهم ودخل الجنة.
الشريعة الصوفية:
(6) العبادات:
يعتقد الصوفية أن الصلاة والصوم والحج والزكاة هي عبادات العوام وأما هم فيسمون أنفسهم الخاصة، أو خاصة الخاصة ولذلك فلهم عبادات مخصوصة.
وقد شرع كل قوم منهم شرائع خاصة بهم كالذكر المخصوص بهيئات مخصوصة، والخلوة والأطعمة المخصوصة، والملابس المخصوصة والحفلات.
وإذا كانت العبادات في الإسلام لتزكية النفس وتطهير المجتمع فان العبادات في التصوف هدفها ربط القلب بالله للتلقي عنه مباشرة، والفناء فيه واستمداد الغيب من الرسول والتخلق بأخلاق الله حتى يقول الصوفي للشيء كن فيكون ويطلع على أسرار الخلق، وينظر في كل الملكوت.
ولا يهم في التصوف أن يخالف الشريعة الصوفية ظاهر الشريعة المحمدية الإسلامية فالحشيش والخمر واختلاط النساء بالرجال في الموالد وحلقات الذكر ذلك لا يهم لأن للولي شريعته التي تلقاها من الله مباشرة فلا يهم أن يوافق ما شرعه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لأن لكل واحد شريعته، وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم للعوام وشريعة الشيخ الصوفي للخواص.
(7) الحلال والحرام:
وكذلك الشأن في الحلال والحرام فأهل وحدة الوجود في الصوفية لا شيء يحرم عندها لأن عين واحدة.. ولذلك كان منهم الزنادقة واللوطية، ومن يأتون الحمير جهاراً نهاراً. ومنهم من اعتقد أن الله قد اسقط عنه التكاليف وأحل له كل ما حرم على غيره.
(8) الحكم والسلطان والسياسة:
وأما في الحكم والسلطان والسياسة فان المنهج الصوفي هو عدم جواز مقاومة الشر ومغالبة السلاطين لأن الله في زعمهم أقام العباد فيما أراد.
(9) التربية:
ولعل أخطر ما في الشريعة الصوفية هو منهجهم في التربية حيث يستحوذون على عقول الناس، ويلغونها وذلك بإدخالهم في طريق متدرج يبدأ بالتأنيس، ثم بالتهويل والتعظيم لشأن التصوف ورجاله ثم بالتلبيس على الشخص ثم بالرزق لعلوم التصوف شيئا فشيئا ثم بالربط بالطريقة وسد جميع الطرق بعد ذلك للخروج.
ثالثاً: نقطة البدء في جدال الصوفي:
كثير من الأخوة المسلمين الغيورين على الدين والكارهين للتصوف وترهاته يبدءون في جدال الصوفي بداية خاطئة وذلك في الأمور الهامشية الفرعية كبدعهم في الأذكار، وتسميتهم بالصوفية، وإقامتهم للحفلات والموالد، أو حملهم للمسابح، أو لبسهم للمرقعات أو نحو ذلك من المظاهر الشاذة التي يظهرون بها، والبدء بالنقاش حول هذه الأمور بداية خاطئة تماماً وبالرغم من أن هذه الأمور جميعها هي بدع تخالف الشريعة، ومفتريات في الدين إلا أنها تخفي ما هو أمر وأعظم، أعني أن هذه فرعيات لا يجوز البدء بنقاشها وترك الأصوليات، حقاً أنها جرائم ومخالفات ولكنها قليلة جداً إذا قيست بالعظائم والمفتريات والكفريات الشنيعة، والأهداف الخسيسة التي سار فيها الفكر الصوفي، ولذلك يجب على من يجادل الصوفي أن يبدأ بالأصول والأمهات لا بالفرعيات والشكليات.
ولعلك بقراءتك أصل الخلاف الجوهري بين الإسلام والتصوف قد عرفت ما ينبغي عليك أن تبدأ به في النقاش إنه منهج التلقي واثبات الدين. أعني ما يتضمنه الإجابة على هذا السؤال: كيف نتلقى الدين؟ وتثبت العقيدة والعبادة، وما هي مصادرنا لهذا التلقي؟ الإسلام يحصر مصدر التلقي في الكتاب والسنة فقط ولا يجوز إثبات عقيدة إلا بنص من القرآن وقول الرسول ولا إثبات شريعة إلا بكتاب وسنة واجتهاد موافق لهما والاجتهاد يصيب ويخطئ ولا معصوم إلا كتاب الله وسنة رسوله فقط، وأما في التصوف فإن الدين عندهم بزعم شيوخهم أنه يتلقونه عن الله رأساً، وبلا واسطة، وعن الرسول الذي يزعمون أنه يحضر مجالسهم دائماً، وأماكن ذكرهم وعن الملائكة، وعن الجن الذين يسمونهم بالروحانيين وبالكشف الذي يزعمون أن قلب الولي ينكشف له الغيوب فيرى ما في السموات والأرض. وما سبق وما يأتي من الحوادث فالولي عندهم لا يعزب عن علمه ذرة في السموات ولا في الأرض.
ولذلك فليكن أول ما تسأل الصوفي عنه: كيف تثبتون الدين؟ ومن أين تتلقون عقيدتكم؟ فإذا قال لك الصوفي: من الكتاب والسنة. فقل له: الكتاب والسنة يشهدان أن إبليس كافر وأنه وأتباعه في النار كما قال تعالى: (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل ان الظالمين لهم عذاب اليم).
والشيطان هنا هو إبليس بإجماع المفسرين من السلف، ومعنى (وما أنتم بمصرخي) ما أنتم بمستطيعين تخليصي وانجائي. ومعنى ذلك أنه معهم في النار. فهل تعتقدون أنتم أيها الصوفية ذلك؟(/11)
فإن قال لك الصوفي نعم نعتقد أن إبليس وأتباعه في النار. فقد كذب عليك، وإن قال لك لا نعتقد أنه في النار ونعتقد أنه تائب مما كان منه، أو أنه موحد مؤمن كما قال أستاذهم الحلاج. فقل له قد كفرتم لأنكم خالفتكم كتاب الله وأحاديث الرسول وإجماع الأمة أن إبليس كافر من أهل النار. وقل له: قد حكم شيخكم الأكبر وابن عربي أن إبليس في الجنة وفرعون في الجنة (كما في الفصوص) وقد حكم أستاذكم الأعظم الحلاج أن إبليس هو قدوته وشيخه هو فرعون كما جاء في الطواسين (ص52) فما قولك في ذلك؟ فإن أنكره فهو مكابر جاحد. أو جاهل لا يدري. وإن أقر بذلك وتابع الحلاج وابن عربي فقد كفر كما كفروا وكان من إخوان إبليس وفرعون فحسبه بذلك صحبة في النار. وإن أراد التلبيس عليك وقال: إن كلامهم هذا شطح قالوه في غلبة حال وسكر، فقل له: كذبت فهذا الكلام في كتب مؤلفة وقد صدر ابن عربي كتابه الفصوص بقوله: (إني رأيت رسول الله في مبشرة (رؤيا) في محروسة دمشق وأعطاني هذا الكتاب وقال لي أخرج به على الناس).
وهذا الكتاب هو الذي ذكر فيه أن إبليس وفرعون هم من العارفين الناجين، وأن فرعون كان أعلم من موسى بالله. وأن كل من عبد شيئاً فما عبد إلا الله، والحلاج كذلك كتب كل كفرياته في كتاب ولم يكن شطحاً أو غلبة حال كما يقولون، فإن قال لك الصوفي: لقد تكلم هؤلاء بلغة لا نعلمها فقل له: لقد كتبوا كلامهم بالعربية وشرحه تلاميذهم وقد نصوا على ذلك. فإن قال: إن هذه لغة خاصة بأهل التصوف لا يعرفها غيرهم، فقل له: إن لغتهم هذه هي العربية وهم قد نشروها في الناس ولم يجعلوها خاصة بهم وقد حكم علماء المسلمين على الحلاج بكفره وصلب على جسر بغداد عام 309 بسبب مقالاته وكذلك حكم علماء المسلمين بكفر ابن عربي وزندقته، فإن قال لك الصوفي: لا أعترف بحكم علماء الشريعة لأنهم علماء ظاهر لا يعرفون الحقيقة. فقل له: هذا الظاهر هو الكتاب والسنة وكل حقيقة تخالف هذا الظاهر فهي باطلة وما الحقيقة الصوفية التي تدعونها؟ فإن قال لك هي شيء من الأسرار لا ننشره ولا نذيعه. فقل: فقد نشرتموه وأذعتموه وهو أن كل موجود في زعمكم هو الله وأن الجنة والنار شيء واحد وأن إبليس ومحمد شيء واحد وأن الله هو المخلوق والمخلوق هو الله كما قال إمامكم وشيخكم الأكبر:
العبد رب ورب عبد يا ليت شعري من المكلف؟ إن قلت عبد فذاك رب وإن قلت رب أن يكلف؟
فإن أقر بذلك وتابع هؤلاء الزنادقة فهو كافر مثلهم وإن قال: لا أدري ما هذا الكلام ولا أعلمه ولكني أعتقد إيمان قائليه ونزاهتهم وولايتهم. فقل له: إن هذا كلام عربي واضح لا غموض فيه. وهو ينبئ عن عقيدة معروفة هي وحدة الوجود وهي عقيدة الهنادك والزنادقة نقلتموها إلى الإسلام وألبستموها بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
فإن قال لك: لا تتعرض للأولياء حتى لا يؤذوك فان الرسول يقول: قال الله تعالى (من عادى لي ولياً فقد اذنته بالمحاربة) قلت له: ليسوا هؤلاء بأولياء وإنما هم زنادقة مستترين بالإسلام. وانا كافر بكم وبآلهتكم فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم.
فإن قال لك: يجب علينا أن نسلم للصوفية حالهم. فإنهم عاينوا الحقائق وعرفوا باطن الدين!! فقل له: كذبت، لا يجوز أن نسكت لأحد عن قول يخالف فيه الكتاب والسنة. وينشر الكفر والزندقة بين المسلمين لأن الله يقول (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فاولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم) فلذلك لا يجوز السكوت على باطلكم وترهاتكم وزندقتكم لأنكم أفسدتم العالم الإسلامي قديماً وحديثاً وما زال هذا شأنكم إلى اليوم تخرجون الناس من عبادة الله الى عبادة المشايخ ومن التوحيد الى الشرك وعبادة القبور ومن السنة الى البدعة. ومن العلم بالكتاب والسنة الى تلقي البدع والخرافات ممن يدعون رؤية الله والملائكة والرسول والجنة. لقد كنتم طيلة عمركم عوناً للفرق الباطنية، وخدماً للاستعمار ولذلك فلا يجوز بتاتاً السكوت عن ضلالكم وشرككم، وصرفكم للناس عن القرآن الكريم والحديث إلى أذكاركم المبتدعة وعبادتكم التي لا يعدو كونها مكاءً وتصدية كعبادة المشركين.
فعند ذلك لا بد وأن يسقط في يده، ويعلم أنه أمام من أحاط علماً بباطله فإما أن يهديه الله للإسلام الصحيح وأما أن يخفي أمره ويستر عقيدته حتى يفضحه الله أو يموت على زندقته وكفره أو بدعته ومخالفته للحق. هذا وقد فصلنا كل ذلك تفصيلاً من كتبهم وأقوالهم فارجع إلى كتاب الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة تجد ذلك مفصلاً بحمد الله وتوفيقه والحمد لله أولاً وأخيراً والعزة لكتاب الله وسنة رسوله، ومن اتبعهما وتمسك بصراط الله المستقيم وكان من المؤمنين والحمد لله رب العالمين..
******************
***********
*****(/12)
...
فضائح الفتن
رئيسي :تربية :
يتناول الدرس معان بالغة الأهمية في التحذير من الفتن، وموازين عاصمة من الخلاف، نستغلها وقت العافية اليوم، وهذا أدعى أن يستقر في القلوب إذ هي هادئة ساكنة، فيكون عندنا من الاحتياط ما يغني عن مضاعفة الوعظ إذا غزتنا الخلافات، وما نخذل الصف المسلم يبرأ منها تمامًا مهما ارتقى حالنا؛ لأن الشيطان حيٌ وله إغراء.
هذه مقالة لم تكتب ليقرأها الداعية المسلم قراءة مجردة فحسب، بل ليحفظها حفظًا، أو لينقشها على كفه إمعانًا في التذكر..إنها معان بالغة الأهمية في التحذير من الفتن، وموازين عاصمة من الخلاف، نستغلها وقت العافية اليوم.. إن التحذير من الفتن اليوم أدعى أن يستقر في القلوب إذ هي هادئة ساكنة، فيكون عندنا من الاحتياط ما يغني عن مضاعفة الوعظ إذا غزتنا الخلافات، وما نخذل الصف المسلم يبرأ منها تمامًا مهما ارتقى حالنا؛ لأن الشيطان حيٌ وله إغراء.
مفارقات النفس ذات السر: كيف أربي الآخرين .. وأنا أحتاج التربية؟ من لا يستطيع تصحيح أخطاء نفسه فلا يصح له أن يكون قيّمًا على أخطاء الآخرين يصحّح لهم وينقد .
أي سر هو سر هذه النفوس ؟ حساسة .. متنوعة .. متقلبة. بينا تظنها في غاية الصفاء: تهزها مفاجأة فتطفو الشوائب . وبينا تعاملها فتلمس نهاية السهولة: تدهمها قسوة فتدعها صلدة على أعنف ما تكون القسوة .. من أهلها من تستفزّه كلمة ينسى معها قاموس التآخي، فيخرج إلى عدوان، ويجرّد أصحابه من كل فضل، كأن لم تكن بينه وبينهم مودة وخبز وملح.. ومن أهلها من إذا جُهل عليه لا يحلم، ولا يعفو، ولا يصبر، بل يجهل فوق جهل الجاهلينا.
أساسيات: إن أمرنا يفهم من خلال قضيتين: رؤية الحق.. وأن يرزقنا الله اتباع الحق .
إن دارنا دار عمل وعبادة، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وتهذيب وتعليم، وما هي دار فلاسفة يتجادلون، ولا منتدى شعراء بضاعتهم اللسان، ولذلك فإنّ عُرفنا يقول بتأكيد أساسيات العمل، من التزام المنهج، وإن تربيتنا تقوم على تعميق أساسيات الإيمان، من ترسيخ العلاقات الأخوية وتعمير القلوب، وصون اللسان .. ونخرج من ضيق القبلية والإقليمية والشعوبية، إلى سعة التعارف ورحاب العمل المنتشر في الآفاق .. نضع مشاعر الجاهلية تحت أقدامنا، ونلبي أمر الزنجي الأسود إن كان هو الأعلم الأكفأ..توجهنا إيماني، وشرطنا إسلامي، وشعورنا أخوي، لا نعرف الضغينة، ولا نسمح بالغيبة .. يا ترى كم موسوعة يمكن أن يؤلفها فضول القول الذي قيل أثناء الخلافات؟! وكم ساعة عمل ضائعة هدرها الوقت المستهلك في استنباط الظنون؟!
ومن غرائب التربية: أن الجديد والشاب الناشيء تستطيع أن تعظهما وتدعوهما إلى ترك الرياء والتكبر والمراء، يعدّان ذلك منك إرشادًا وتربية وتوجيهًا، أمّا القديم المخضرم فإن وعظته بمثل ذلك اعتبرها تهمة له، ورفض نصحك وزمجر، كأن لم تكن توبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم سبعين مرة آخر حياته .
ألا تستغرب .. !!
ومن محاسن جماعة التبليغ: أن أحدًا منهم إذا وقفنا ليعظ الناس: رفع أصحابه أكفّهم يدعون له أن يصيب القول وأن يهبه الله البلاغة.. وليت كل دعاة الإسلام يفعلون ذلك إذا تكلم إخوانهم، لكن إغراء الشيطان في ظروف الفتن ربما يجعل اللجوج المماري يتمنى إذا تكلم أخوه المخالف له في اجتهاده أن يتلعثم ويطيش، وينسى النحو والفصاحة، وأن يقض مضاجع سيبويه. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
كان الشافعي يقول:' ما ناظرت أحدًا إلا وددت أن يظهر الحق على لسانه'. أما أخي فيريدني أن أخفض معه المرفوع!
إن مراقبة تواريخ الفتن توضح أن كل من فجر في الخصومة كان من الذين لم يحصلوا على التربية الكافية في أول أمره، وشرف النسب وبيوت المروءة والكرم تميل بالمخالف إلى العفة والسمو في أدب الخلاف .. إن المحاسبة تبلغ مداها لدى الداعية السوي، ونفسه تعاف كل جو خانق غير نقي .
وحقوق الدماء أين ؟
الجنة هدف، طريقها الإيمان، والوسيلة الحب، والحارس النظام.. إن دماء الشهداء إذ تسيل: تكتب واجبًا على الأحياء أن يسيروا بلا خلاف في إتمام الشوط الذي بدأوه.. ذلك أول الحقوق الشخصية التي تثبت للشهداء، فمن ذا الذي يطالب بحق الدم الضريج؟
رءوس .. !!
ذهب المترفون يطالبون بحقوقهم، وأقسموا ألا حلم ولا مسامحة بينهم، لكن حمزة لا بواكي له!
إفساد الأعداء الخارجين وكيدهم لنا يزدنا تماسكًا، لكن النخر الداخلي يوهي ويدهي، ويلهي ويسهي.
أشنع ما في الفتن: أن أصحابها جميعًا يرون أنفسهم رءوسًا، فيضع الحساب عليك ولا تدري كيف التفاهم ومع من يكون؟ لا يرون أنفسهم عشرون مخالفًا، بل يرون أنفسهم عشرين زعيم، قائد، فقيه، مجتهد، فيلسوف .. يريدون تصفية العدو، ونفوسهم أحق بالتصفية.
شفقة .. لكنها مهلكة ..(/1)
ويفكر مشفق على وحدة الصف وعدم خسارة الجماعة للنفر الذين عشقوا الرياسة بأن يمنحهم ما يبغون، ويسترضيهم؛ جمعًا للجهود، وحرصًا على كل الطاقات أن تظل في خدمة القضية، ثم ينادي يحث: هيّا هيّا، ليحتضن كل منكم إخوانه، ثم يرجع وقد ظن أنه قضى بحله العاطفي هذا على فتنة.
إن مثل هذا الاقتراح هو مذهب في سياسة الجماعات خطأ، واجتهاد في التربية غريب، فإن إتاحة الفرصة لغير ذوي الأهلية والكفاية مهلكة لهم، والاستشراف للمسئولية علامة خلل في التركيب النفسي للداعية، وإنما تنبثق العناصر الريادية من خلال السير انبثاقًا تلقائيًا، وتتم تنمية المواهب من خلال منهجية تربوية شاملة، ولا يتقدم فيها إلا القوي الأمين المتجرد.
أصول اصطناع الرواد: إن التربية الريادية تتطلب تعويد ذوي القابليات والذكاء من المؤمنين على التفكير الحر، والقياس، والاستقراء، والتحليل، والتعليل، وتمرينهم على استعمال القواعد المنهجية والمنطقية، وهذا يتطلب تنمية قابلية الوصف الدقيق لديهم، واكتشاف العلاقات وفهم الواقع، وكل ذلك من أسس الاجتهاد وطرائقه.
الوزن المسترسل: إنك لا تستطيع أن تفتعل الرائد افتعالاً وتصطنعه اصطناعًا إذ لم ينهض به قدره وترشحه فطرته.. لو كانت مجرد صيحة لتركنا كل فصيح يصيح، لكنه علم الدعوة يقول: لا، ليس هو الصياح، ولا مجرد العواطف، ولا قفزات المستعجل، إنما هي أنغام الحداء التي تقود القوافل فتوصلها، ولابد أن نُعلّم كل فصيح هذه الصنعة.
وخطبنا الثقة فقال: إن حزن القلب إزاء الإساءة فطرة، وفي تعزية الله تعالى لرسول صلى الله عليه وسلم عبرة، إذ قال: }قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ[33] {[سورة الأنعام]. فكيف بمن هو أقل مثلنا ؟وكيف إذا كانت الإساءة لا من كافر طبيعته الإساءة بل من مسلم، بل من أخ لك في الصف؟ إن التقوى تدعونا إلى أن نتحكم بألسنتنا، ثم ندعو الله أن ينسينا ويمحو من ذاكرتنا حوادث الإساءة لنا كي تبرد قلوبنا ولا يستمر غليانها.. لا نقول إلا ما يسدد ويقارب، وما يرضي الرب، أما ما يفرق وينبت الضغائن فلا، بل نصمت، ولا تتحرك ألسنتنا إلا بخير، وتلزمنا تقوى مضاعفة عندما تفور قلوبنا.. إساءة الكافر لنا تقوينا، وإساءة المسلم تؤذينا.. الفتن: تكسر النفوس، وتخذل الهمم.. إن المحن مقادير من الله يليق لها الصبر لتتحول إلى صالحنا، وهي تجارب مريبة، وسينهار كل ظلم يوم تتحد قلوبنا.. أما الأسباب الداخلية فتؤذينا، والأبنية الجماعية لا تنهار بأسباب من خارجها، ولكنه النخر الباطل.
الابتسار طريق الاندثار: يجب الرجوع إلى القاعدة الأساسية في الاهتمام بالكيف لا بالكم، نهتم بالعمق وبخط رأسي أكثر من الخط الأفقي.. تربيتنا يجب أن لا تعتمد التلقين فقط .. نحتاج إعادة الصياغة وإطالة الركوع .. كم من تهور سببته الحسابات العاطفية والنزعات التكاثرية، كان منه الإحباط والتدمير المعنوي؟! لذلك فإن الحلول التوفيقية لقضايا الفتن لن تفعل شيئًا سوى أنها تؤخر انفجار الموقف. إنها كمثل قربة مخرمة كثيرة الثقوب، لا تدري بعد ترقيعها متى تفتق عليك وترش ماءها؟
إذا قضى القاضي بدينار مختلف فيه وهو غضبان متوتر منفعل: كان حكمه مخالفًا لسنة القضاء، فكيف نحكم الدعوة ونسوس أمورها في مجالس يسودها الغضب وتسيرها التحديات؟
وميل القاضي إلى أحد الطرفين في حكم بدرهم يفتح باب الطعن في الحكم، فكيف بعصبية الشللية التي تعطي للانحياز بُعده الجماعي العميق.
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ: ووصف لنا الثقة حيصة في ساحة إخوانه فقال:' ليس هو الانشقاق فقط بل تقاعد، بل انسحاب، بل تمزق. يريد البعض أحيانًا تحطيم أحد يضيقون به ذرعًا، لحسد أو غيره، فتثار حوله التهم، لكن العملية تُفلسف في صورة دعوة لمذهب في العمل جديد واجتهاد مبتكر، وهي زخم شخصي ليست أكثر.. إن أشنع الظلم أن تتخذ من أخ لك هدفًا، وتجمع الناس والجموع ليرجموه معك.. المحورية أخت الحزبية، والتنازع على المواقع بالوقيعة باطل، وأول تلقين الشيطان لصريعه أن يعلمه أن يقول:'أنا'.. نحن دعاة، لم نجتمع، ليكره بعضنا بعضًا، وإنما اجتمعنا لنتعاون على مشقة الطريق.
وهل يدري المفتتن كم يلهي معه من الدعاة عن قصودهم، وكم يهدر من أوقاتهم إذا انصرفوا له ناصحين، ودخلوا بينه وبين إخوانه مصلحين ومحكمين؟ إنها جهود وأوقات تذهب هدرًا.
إن الممارسة السياسية تكون أحيانًا قليلة الجدوى، لاهتزاز بناء الجماعة بالخلاف، وتكون الأولوية عندئذ لإعادة البناء ودرء الفتنة، وتكون التربية هي القضية الرئيسية..إن الزمان لا يُسلم إلى عاطفي متسرع، إنما يعطى للعقلاء أصحاب التقوى والعلم'.(/2)
وقد صدق الثقة .. ثم صدق، فإن تجاربنا تنطق بأن لا يجوز النظر إلى ظاهر الفتن، وعزوها إلى السبب الأخير، ليظن ظان أن تلافي ذلك السبب البسيط أمر سهل ممكن، فيعدل عن الحزم إلى مجرد الوعظ، بل الواجب أن نغوص بعيدًا لنرى الأسباب الحقيقية للفتنة، وحيثياتها الكثيرة، وجذورها القديمة، لا نكتفي بمجرد الحلول العاطفية للمشاكل، بل ننزل إلى أصول البلاء.. إنها ليست القشة تقصم ظهر البعير، لكن الطارئ الذي لا خبرة له يظن ذلك.. وقد يخالط باطل المبطل بعض الحق، ولكن ابتداء أمر كل فتنة هو انحراف في النفس ليس لباحث أن يغفل عنه.
إما أن يكون تأسيس واستمرار الدعوات على مباديء، أو على رجال، فإن كانت المباديء؛ ظُنَّ الخير، وإن كان الاجتماع على رجال ففي ذلك نظر، واقرأ الفاتحة على هذه الدعوة أو بالأحرى: اقرأ الخاتمة .
طفحت فأشغلت !
أصعب حالات الدعاة الذي يرابطون على أمر جامع : أن تنقلب عند بعضهم الموازين، فيغدو الإيجاب سلبًا.. وإنما تؤسّس الجماعة الإسلامية على قاعدة الولاء لله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين، فيكون الحب والبغض في الله، ويكون عرض أعمال الرجال على الحق، فنقبل منهم وندع.
ولكن يغفل البعض عن هذا المعيار- أحيانًا- ويؤدي اختلاط الأصوات في أيام الصخب إلى ذهول عنه، ويظهر نوع من ولاء الداعية لأساتذته ومربيه بالحق والباطل، بأن يلتزم موقفهم وتأويلهم على طول الخط، منتصرًا لهم، فتكون بداية الانتكاس؛ إذ لا معصوم. ولا يؤذن لبشر يزيد إيمانه وينقص، ويصيب رأيه ويخطيء؛ أن يحتكر الولاء.
فهو يودهم ويواليهم لا لسبب شرعي يوجبه الفقه، من نصر مظلوم، أو تعاون على بر أو طاعة، وإنما بسبب العلاقة الخاصة، حتى لو كانت الأسباب الشرعية ترشد على قطع ما هو فيه من ولاء، من وجود ظلم عند أصحابه الذين والاهم، أو الانحراف والشذوذ والتفرد في الاجتهاد.
حروف خارج الأبجدية: ويتضاعف السلب المتولد من هذه المودات الشخصية عندما لا يقنع الواهم بإظهار الولاء فقط، وإنما يتعداه إلى الدفاع والذبّ عن صاحبه، ويُسخر لسانه لنقد الآخرين، فتكون وخزات القول الجارح الحديد التي تؤلم قلوب النبلاء، فإنه :
أوجع من وخزة السنان لذي الحجا:وخزة اللسان
وما كان السلف رضي الله عنهم على مثل هذا، بل كانوا يُقلون الكلام حتى في المباح، وحيث لا أذى، إبعادًا لاحتمالات الزلل عند الإكثار، وقد وصفهم إمام المحدثين بالبصرة عبد الرحمن بن مهدي فقال: 'أدركت الناس وهم على الجُمل'. قال الإمام أحمد بن حنبل- معقبًا- :'يعني: لا يتكلمون أي: ولا يخاصمون' [كتاب العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد 1/218].
فإنما هي جُمل يسيرة من الكلام بحروف معدودة، ليس وراءها إيذاء، أو تخذيل، أو تعكر قلوب.
وهكذا كانت الحياة الإسلامية تمضي حين يقودها الصالحون، بل الحياة الإنسانية حين تصفو فتحكمها سنن الفطرة، فيتوارى المهذارون، ولو استقرأت التاريخ وأوصاف المجتمعات فإنك:
'تجد الوحدان والجماعات أقربها إلى الصدق والجد: أقلها كلامًا، يشغلها الفعل عن القول، ويغلب فيها الفكر واليد على اللسان وأقرب الناس إلى البطالة والهزل : أكثرها كلامًا، وأذربهم لسانًا، إلا قليلاً. لو اتصل اللسان بالفكر لقيده الفكر، ولو صحب القولُ العمل لو قّره العمل، ولكن اللسان يتقلب في هراء لا ينفذ، ويصرّب ألفاظًا لا تحد، قولُ بغير حساب، وقشر ليس فيه لُباب. وكم قال الناس قديمًا في كثرة الكلام وقلته، وفي ثقله وخفته، وما يتأمل متأمل في أحوالنا إلا يجد تصديق ما قيل، فحركة ألسنتنا تربو كثيرًا على حركات القول والأيدي، وابتكارنا أكثره في الكلام لا في النظام، وفي القول لا في الفعل. رحم الله من جعل عقله على لسانه رقيبًا، وعمله على قوله حسيبًا'[الشوارد لعبد الوهاب عزام /99].فهو اللسان وراء الحالتين. وذلك سبب الوصية بسجن اللسان، لما قال:
تحفّظ من لسانك ليس شيء أحق بطول سجن من لسان
أما إذا أطلقته حرًا، فهنالك تكون المتاعب...
إن اللسان إذا حللت عقاله ألقاك في شنعاء ليس تُقالُ
فالعقل والقيد أليقُ لكل لسان، وأحوط، وأبرأ، لأنه ليس من أحد يقيلك ويعفيك من سقطاته، إلا الأقل، فانتبه.وإياك أن تُستدرج إلى وادي الأذى متوهمًا القيام بمهمة وعظ الآخرين، فإن التشهير يزيل نُبل الموعظة. قال الشافعي رضي الله عنه: من وعظ أخاه سرًا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشأنه. وقيل لمسعر: أتحب من يخبرك بعيوبك؟ فقال: إن نصحني فيما بيني وبينه فنعم، وإن قرّعني بين الملأ فلا.. هذه الإيذاء إذا كان مجرد اللسان يرسل الكلمات هدرًا، فكيف به إذا حسنّت زيفه فنون البلاغة والنظم، وجندت الأقلام واستجاشت العواطف نبراتُ الخطابة؟ الخطبُ أدهى عند ذاك بلا شك، وأشد إذا ساعد المحيط خلال الفتن.
فكم من خطيب قام فيها مثرثرًا فطرّي لنا من يابس القول ما طرى
وكم شاعر قد أرخص الشعر دونها وكم قلم فوق الطروس بها صرًا(/3)
ثم تتحدر الحالة إلى سوء أكثر حين لا يكون ثم طرف وادّ، يمنح لسانه الحرية، بل أطراف أخرى تدافع عن نفسها، وتفنّد المزاعم، فيثور الجدل، فيعم الصخب، وهذا لأن الشر له قابلية التسلسل، وهو سريع النسل، كثيره، وليس الحزم إذا رأى المخلصون أوائله إلا في أن يتحاملوا، ليسدوا الطريق أمام استطراده.. وكان التَحَالُمُ صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يغضب ويحمرّ وجهه الشريف، ثم لا يعاقب،فَعَنْ ابِنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمًا فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَغَضِبَ حَتَّى رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: [ يَرْحَمُ اللَّهَ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ] رواه البخاري ومسلم وأحمد .
فصاحة الجمال الصامت: يظل قائل القول الحسن المفيد ناقصًا إذا لم تسعف الأعمال دعواه العريضة، وهي صورة من الصور المرجوحة رصدها المربون فأنكروها، وبينوا كيف أن قومًا:
إذا نصبوا للقول قالوا فأحسنوا ولكنّ حُسْنَ القول خالفه الفعلُ
ورصدوا حالة معاكسة طرأت كان الأقدمون ضدها، يوم أظهروا الدأب الصامت:
وكان البرُّ فعلاً دون قول فصار البرُّ نُطقًا بالكلام
وساد عُرف التفاصح، فاسترخت أيادي التصافح، حتى:'نطقنا بالعربية فما نكاد نُلحن، ولحنا بالعمل فما نكاد نُعرب'. كما عبّر إبراهيم بن أدهم . وسبب ذلك: خلل في ركن الإخلاص ، وقد بينه الجُنيد البغدادي في معادلة واضحة، أنه:'يخلص إلى القلوب من بره: على حسب ما تخلص القلوب عند ذكره'. ثم قال:'فانظر ماذا خلط قلبك؟'. فالعمل الصالح بِرٌّ، وإنما يأذن به الإخلاص، فإن لم يوفق القلب إلى مزيد بر؛ فالواجب أن تفحص كفحص الأطباء عن أخلاط ومكدرات وشوائب تعيق.
بل لا يحتاج صاحب الإخلاص إلى تذكير الآخرين بما عنده، وما هو بحاجة إلى دعاية أو دفاع عن النفس، وإنما هو مثل زهرة ينتشر ريحها ويجبر المار بجوارها على الالتفات والاستمتاع بشذاها الزكي حتى لو لم يرها أول مرة.. 'فمن أصلح سريرته: فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه. فالله الله في السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر'[ صيد الخاطر لابن الجوزي /207].
وكلما وعى الدعاة هذه الحقائق أكثر؛ تقلصت احتمالات الفتن في، واضمحل ما يلازمها من تكبر وحسد وجدال، وكان عمرو بن قيس الملائي يرى رءوس التواضع ثلاثة، أحدها:'أن لا تحب الرياء والسمعة والمدحة في عمل الله'، وكانت وصية يحيى بن أبي كثير أن:'تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل'..فخذ برأس الأمر أيها الأخ الداعية، ولا تستغرب كثرة التوصية بهذه المعاني التي مرت عليك عند الابتداء، فإنها تلزمك عند التوسط أيضًا، وعند الانتهاء فإن:'أقرب الناس من الرياء: آمنهم له' كما يقول التابعي عَبدة بن أبي لُبابة.(/4)
حين تغوص في الأوحال القدم : وخبر هذه الاختلاطات القلبية، وازدواج النية؛ خبر عجيب غريب، حتى أنها قد تستدرج الداعية إلى أرض الحس،د وهو يظن أنه يحسن صنعًا، ويتوهم أنه يسعى على حق أقره الشرع عليه، وقد ضرب الإمام الغزالي في الإحياء مثالاً لورود هذا الالتباس في الحياة العلمية، يمكننا أن نقيس عليه شيئًا يحدث في الميادين الدعوية، وفي المثال كشف لأسرار النفس الإنسانية يحتاج الدعاة تعلمه، وفيه وصف لنوع خفي من الفتن حري بهم أن يفقهوه، ويبدأ الغزالي بالتذكير بـ 'أن الباعث للأكثرين على نشر العلم : لذة الاستيلاء والفرح بالاستتباع والاستبشار بالحمد والثناء، والشيطان يلبس عليهم ذلك ويقول: غرضكم نشر دين الله والنضال عن الشرع الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترى الواعظ يمن على الله تعالى بنصيحة الخلق ووعظه للسلاطين، ويفرح بقبول الناس قوله وإقبالهم عليه، وهو يدعي أنه يفرح بما يسر له من نصرة الدين، ولو ظهر من أقرانه مَن هو أحسن منه وعظاً، وانصرف الناس عنه، وأقبلوا عليه؛ ساءه ذلك وغمّه، ولو كان باعثه الدين؛ لشكر الله تعالى؛ إذ كفاه الله تعالى هذا المهم بغيره. ثم الشيطان مع ذلك لا يخليه، ويقول: إنما غمك لانقطاع الثواب عنك لا لانصراف وجوه الناس عنك إلى غيرك، إذ لو اتعظوا بقولك لكنتَ أنت المثاب، واغتمامك لفوات الثواب محمود، ولا يدري المسكين أنّ انقياده للحق، وتسليمه الأمر؛ أفضل وأجزل ثواباً، و أعود عليه في الآخرة من انفراده، وليت شعري لو اغتم عمر رضي الله عنه بتصدي أبي بكر رضي الله عنه للإمامة: أكان غمه محمودًا أم مذمومًا؟ ولا يستريب ذو دين أن لو كان ذلك لكان مذمومًا؛ لأن انقياده للحق، وتسليمه الأمر إلى من هو أصلح منه؛ أعود عليه في الدين من تكفله بمصالح الخلق مع ما فيه من الثواب الجزيل، بل فرح عمر رضي الله عنه باستقلال من هو أولى منه بالأمر، فما بال العلماء لا يفرحون بمثل ذلك ؟ وقد ينخدع بعض أهل العلم بغرور الشيطان، فيحدث نفسه بأنه لو ظهر من هو أولى منه بالأمر لفرح به، وإخباره بذلك عن نفسه قبل التجربة والامتحان محض الجهل والغرور، فإن النفس سهلة القياد في الوعد بأمثال ذلك قبل نزول الأمر، ثم إذا دهاه الأمر: تغير ورجع ولم يف بالوعد، وذلك لا يعرفه إلا من عرف مكايد الشيطان والنفس، وطال اشتغاله بامتحانها، فمعرفة حقيقة الإخلاص والعلم به: بحر عميق يغرق فيه الجميع إلا الشاذ النادر، والفرد الفذ، وهو المستثنى في قوله تعالى :}إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [83] {[سورة ص] فليكن العبد شديد التفقد والمراقبة لهذه الدقائق، وإلا التحق بأتباع الشياطين وهو لا يشعر'[ إحياء علوم الدين 4/381].
فأعد التأمل في هذا النمط من السلوك النفسي؛ ينفتح لك باب عريض من فقه القلوب، ينجيك بإذن الله من ضيق الفتن التي قد تغري داعية بالتنافس مع داعية آخر، فيتبرم من وجوده وكلامه ودروسه، وما ثمّ غير الحسد، والعياذ بالله، فيأخذ بالوشاية عليه لدى الأمراء.
وكان من الممكن لهذا النوع من الحسد أن يكون محدود الأثر، لكنّ طبيعته تترك قلب الحاسد يغلي، فيستهلك نفسه، ويطمع الشيطان أن ينال أكثر، فيغري الحاسد بالنميمة والوقيعة بين المحسود وإخوان له، فيتعدى الأثر، وتعم البلوى.هذه الحالة هي التي شكاها الكثير من فقهاء المسلمين ونبلائهم، جيلاً بعد جيل،وما يزال يشكوها بعض الدعاة،وتنطق بها تقارير وشهادات ومحاكمات.وإنك لتسمع توجع محسود يقول:
أفشى عليّ مقالة ما قلتُها وسعى بأمر كان غير سديد
فتتألم لألمه، وتأسف لهذا التردي الأخلاقي. ثم تلتفت، فتصادف مُصليًا يدعو ربه أن يعصمه من 'الغواية في الرواية' فتتخيل كما آذت هذا المسلم غواية التلاعب بالألفاظ والحقائق .
وعلاج هذه النميمة لا يكون بوعظ مقترفيها، فإن للشيطان عشيرة حكم بنمائها القدرُ، وهم بنسبهم في سرهم يفرحون ويفخرون، لكن العلاج الحاسم إنما يكون في صدود الثقة عن صاحب الإفساد الواشي، وتحسين الظن بالمؤمنين، وتقديم ما تعلم من خبر أخيك على خبر الهامس بأذنك، واستحضار سابقاته الخيرية، واستشهاد أيامه الماضية.وهذا الطمع في وعي الثقة ونباهة الأمير هو الذي عوّل عليه المظلومون دومًا :'فليس ملامهما على من وشى، لكن على من منح الأذن الصاغية'.(/5)
فالنصائح التي أضمرت أو أبديت لم تُحفظ .. !! والدأب الذي ذلل الصعاب لم يشفع .!! وغلبت فرية ما هنالك ..!!وفي التفويض إلى الله تعالى مندوحة . وهو الحكم عز وجل، يرفع ويخفض، وعنده سنجتمع،لكن الناس يستعجلون ..!! وليست المنزلة أن تنال لقبًا أو أن توضع في الصدارة، ولكنّ المنزلة أن تحتل حيزًا في قلوب المؤمنين، وأن تنادي ملائكة السماء أهل الأرض أن الله تعالى أحب فلانًا فأحبوه .. 'إن قيادتنا للحياة هي القيادة ، وليست مراكز المسئولية التي تضعنا فيها التوزعات الدعوية،صانع الحياة يدوس الألقاب برجله ويحطمها، ويمضي يصنع الحياة من موطن التخصص والفن والإبداع. هو مليء النفس ولا يحتاج أحداً لملئها.الذي يُطالب بالمسئوليات والألقاب الدعوية والنقابة والإمارة على المؤمنين إنما هو العاجز الذي لا يُحسنُ علماً ولا تخصصاً ولا فنّاً، فيطلب التعويض بإنعام الألقاب عليه، ويعارك، ويختلف ، ويناضل دون مكتسباته السابقة، و يملاء الكواليسَ همساً وسعياً، و أما المقتدر فيتقدم تقدم الواثق'[صناعة الحياة / 64].
لما أطاع الهوى .. هوى .. !! إ
نّ قصص الخلاف و'الظلم الأخوي' تكشف الحاجة القصوى إلى عملية إعادة التربية وتزكية النفوس، فإن الأهواء وجدت لها مسرحًا.
والنفس إن صلحت زكت، وإذا خلت من فطنة لعبت بها الأهواء
لولا النميمة لم يقع بين امرئ وأخيه من بعد الوداد عداءُ
'وإن ما تسمع وترى من خصام وافتراق، وبغض وشقاق، وجدال ومراء، وتنافر وعداء، كل أولئك مما آثر الناس الباطل، ومالوا مع الهوى.ودواء هذا الداء أن يُعرَّف الناسُ الحق ويبصّروا به ويُرغبوا فيه حتى يحبوه فيؤثروه، وأن يُعلموا العدل ويمرنوا عليه حتى يطيعوه، وأن يُكشف لهم الباطل في شناعاته، والجور في سيئاته، ويبين لهم كيف شقى بهما الناس'[ الشوارد لعبد الوهاب عزام /3].
فإذا ظفرت بذي الوفاء فحُطَّ رحلك في رحابه
فأخوك من إن غاب عنك رعى ودادك في غيابه
وإذا أصابك ما يسوء رأي مصابك من مصابه
وتراه ييجع إن شكوت كأنّ ما بك بعض ما به
ليس أقل من ذلك، ونرفض الدبلوماسيات الباردة، والابتسامات المصطنعة والمواساة الهامشية.
وإن مهمة التربية الدعوية في كل حين أن تنتج نموذجًا مسلمًا:
واضح المنهج يسعى دون غش أو نفاق
راضي النفس، كبير القلب، يدعو للوفاق
قلبه المؤمن بالخالق مشدود الوثاق
نبضه الذاكر يمتد إلى السبع الطباق
وواجب الداعية المتلقي أن يتجاوب مع مربيه في الخضوع لهذه الخُطط التربوية النفسية، ليس تلهيه عنها ممارسة سياسية، أو طموحات تخطيطية، أو مهمات تخصصية، بل ذلك أوجب وآكد له، لما في الأداء الإداري والسياسي من جفاف يضع القلب على حافة الخطر، وعلى كل تلميذ 'أن يستعين بطبيب ماهر، فإنه ليس كل أحد يستطيع أن يرى الأشواك التي تصيب القلوب، وليس كل من يراها يستطيع أن يقتلعها'. وهو يحتاج في هذا إلى نيته وعزم على تحمل المرارة، مرارة المكاشفة الصريحة، والإشارة إلى العيب، فإن أكثر النفوس فطرت على الجفلة من النقد، والتعالي على نصيحة، وقد :
ضحكت وجوه التُرّهات ولم يزل وجه الحقيقة في الأنام عبوسًا
والناس تسترسل مع الأخلاق الخفيفة، والرياء، والمداهنة، وتبادل المدح، ولكل أحد حساب من 'المقاصة' في ذلك، يوفي إلى الناس ويستوفي، ويصدّر ويستورد، ويُقرض ويستقرض.
فانتفض أخي على المألوف السائد، ولا تتبع المتساهل.فإنه 'لا يغني عنك ندمك إذا زلت قدمك'.
واعلم أن 'أكثر الناس مع ظاهر النقود، ليس لهم نقد النقاد، ولا خبرة الصيارفة'.
وانظر إلى مراتب الناس وأحوالهم وأقوالهم، 'وأعط كل ذي حق حقه، ولا تجعل الزغل والخالص شيئًا واحدًا'.
واصعد ربوة الإنصاف 'فإن من رقى إلى هذه الربوة بعين لا قذى بها: أبصر الحق عيانًا بلا مرية، وأخبر عنه بلا فرية'.
وابرأ من صاحب 'إذا أقدمت أحجم، وإذا أعربت أعجم'.
فإنه ليس وراء الربوة غير السراب..وإنك في متوالية لا تنتهي أرقامها: دهرٌ .. يغُرُّ، وآمالٌ .. تسُرُّ، وأعمارٌ .. تَمرُّ، وأيام .. لها خُدَعُ .
ركوب الأسنة: وفي الصحراء هائم آخر، بيده الملف الضخم، ملف الهفوات يُحصيها على أصحابه، وما من هفوة إلا ولها تأويل يصرف صاحبها عن السوء والعمد، ويجعله في دائرة الاجتهاد الذي يؤجر عليه، ولكن النفس المنحرفة تتبرم. وأعجب منه ظالم لا يحصى على أصحابه فقط بل على جماعة بأكملها. ولم ير المسكين مناقب الجماعة وإنجازاتها بمقابل ذلك، ولم يشفع أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، ولم يسمع أنات مسجونيها وراء حديد الظالمين، ولا دماء شهداء المراقة، ولم يفتش عن تأويل يزيل وهمه، ولا عن عذر توجيه الموازنات بين درجات المصالح ونوايا درء المفاسد التي أذن بها الفقهاء، وما درى أن الشيطان يؤزه للهدم، فإذا خلت الأرض: صرف همته عن البناء البديل، ورجع بوزر الصدّ عن سبيل الله .. !!(/6)
وفي هذه الصحراء، تائه آخر يستبد به القلق، ويغلو في الأسلوب، فيتورط بمدح مبالغ فيه، ثم يتورط في أخرى بذم كثيف، فميزانه متأرجح، وعياره حصاة التقطها جزافًا، ليست سبيكة قد ختمها ولي السوق، ورقيب الحسبة بختمه.
ميثاق الأمن الدعوي : خطب فينا هُمام أحزنه جدلٌ قعد بدعاة الإيمان، فقال:'إن تشخيص أخلاق الرجال واجب؛لأن السلوكيات تتكرر في الأجيال،وتتجدد الأنماط النفسية حتى لكأن نسبًا واحدًا يجمعها،وقد يلجأ الأمير إلى حماية الجماعة بسياسة الحزم،فيرفض التمييع والتردد والمواقف القلقة.
وإن شرعية الاختلاف لا تلغي أفضلية الاتفاق، والآمال العريضة لابد لها من نفوس عالية،والتأصيل أساس في درء الفتن،والنص الشرعي حجة،وأما التحليل فلكل مورده،ولا يكون الاجتهاد حجة على اجتهاد آخر...' .
أحاديث شريفة: بعض من تحاور في قضايا الفتن يظن أن هذه الآيات والأحاديث لا تنطبق على علاقات الإمارة والجندية في الساحة الدعوية، ويذهب إلى أنها غير صالحة للاستشهاد بها، لأنها إنما وردت في الأمير الذي يحكم كل، أو بعض بلاد المسلمين حكمًا سياسيًا من خلال دولة ونظام.
ولسنا نجادل في أنها وردت في ولاة الحكم، ولكن معناها يتعدى ليسري على الإمارة الدعوية من خلال القياس الأصولي، وعبر استحضار الروح العامة للشريعة في باب الإمارة، وهي الروح التي احتكم لها ابن تيمية في بعض إفتائه، وعنصر القوة في قبول هذا القياس: أن البيعة لأمراء الدعوة انعقدت بعقد رضائي تام، وألزم الدعاة أنفسهم بهذه الطاعة اختيارًا، لما قام في قلوبهم من معنى لزومها لإيجاد حقيقة العمل الجماعي، الكفيل بوضع الدعوة في موضع المكافأة لخصوم الإسلام في ساحة التنافس، ولم يقل أحد من الدعاة بلزوم طاعة عامة المسلمين لأمراء الدعوة، وإنما مضى مذهبهم بوجوبها على من بايع عن قناعة، واختار هدر حقوقه في الاجتهاد والتصرف إذا خالفتهما توجهات، وأوامر أمراء الدعوة.
ويزداد رجحان صحة هذا القياس إذا كان الدعاة في زمان أو مكان ليس فيهما حاكم شرعي أتت به بيعة شرعية شورية، فتكون مسارعة الدعاة إلى مبايعة أمير دعوي نوعًا من التعويض المستند إلى منطق فقهي صحيح، لما تؤدي إليه هذه البيعة الناقصة الحالية من احتمال إحلال البيعة السياسية الحكمية في عالم الواقع مستقبلاً، وما لا يدرك كله لا يترك جُله، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وسيأتي من كلام ابن حجر ما يؤيد هذا القياس.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي] رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة وأحمد.
قال ابن حجر:' فِي رِوَايَة هَمَّام وَالْأَعْرَج وَغَيْرهمَا عِنْدَ مُسْلِم:[ وَمَنْ أَطَاعَ الْأَمِير] وَيُمْكِن رَدّ اللَّفْظَيْنِ لِمَعْنًى وَاحِد , فَإِنَّ كُلّ مَنْ يَأْمُر بِحَقٍّ وَكَانَ عَادِلًا فَهُوَ أَمِير الشَّارِع لِأَنَّهُ تَوَلَّى بِأَمْرِهِ وَبِشَرِيعَتِهِ, وَيُؤَيِّدهُ تَوْحِيد الْجَوَاب فِي الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ قَوْله:[ فَقَدْ أَطَاعَنِي] أَيْ عَمِلَ بِمَا شَرَعْته, وَكَأَنَّ الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص أَمِيره بِالذِّكْرِ أَنَّهُ الْمُرَاد وَقْت الْخِطَاب, وَلِأَنَّهُ سَبَب وُرُود الْحَدِيث .
وَأَمَّا الْحُكْم فَالْعِبْرَة بِعُمُومِ اللَّفْظ لَا بِخُصُوصِ السَّبَب . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة هَمَّام أَيْضًا:[ وَمَنْ يُطِعْ الْأَمِير فَقَدْ أَطَاعَنِي] بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَة, وَكَذَا:[ وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِير فَقَدْ عَصَانِي] وَهُوَ أَدْخَل فِي إِرَادَة تَعْمِيم مَنْ خُوطِبَ وَمَنْ جَاءَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ '. اهـ وهذا الكلام من ابن حجر في غاية الأهمية، لما فيه من تأييد ما ذهبنا إليه من القياس الأصولي لأمور أمراء الدعوة الذين يأمرون بالحق على أمراء الحكم، مما ذكرناه آنفًا.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سُمرة رضي الله عنه:[يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا...] رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبوداود والدارمي وأحمد.
من رسالة:'فضائح الفتن' للأستاذ/ محمد أحمد الراشد(/7)
فضائل الجهاد
للشيخ / سعد الدين بن محمد الكبي
مدير معهد الإمام البخاري للشريعة الإسلامية
الحمد لله وحده، والصلاةوالسلام على المبعوث رحمة للعالمينوعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فإن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وبابعظيم من أبواب الجنة، إلا أنّ لهشروطاً وأحكاماً يجب توفرها حتى يكونشرعياً يحقق الغاية التي شرعه اللهعز وجل من أجلها .
وقد أخطأ بعض المستعجلين طريقالجهاد، فاستخدموه استخداماًمنكراً، وسبب ذلك يعود إلى سوءالفهم، والتصدر قبل التأهل، فوقعوافيما لا يحبه الله ويرضاه، فكانمثلهم كمثل من يحج في رجب أو شعبان،أو يصوم يوم الفطر ويوم النحر، فيقعفي الإثم ويكون مأزوراً لا مأجوراً،وإن ظنَّ نفسه أنه في أعلى الدرجات،إذ العبرة في امتثال أحكام الشرعوالسير فيه على مراد الشارع سبحانهلا على مراد النفوس والهوى .
الهدف من الجهاد
الهدف من الجهاد إقامة الدين،وتحقيق شرع الله في البلاد، وتطبيقهعلى العباد، لا مجرد سفك الدماء وزهقالأرواح .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
" أصل ذلك أن تعلم أن جميع الولاياتفي الإسلام مقصودها أن يكون الدينكله لله، وأن تكون كلمة الله هيالعليا، فإن الله سبحانه وتعالى إنماخلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وبهأرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول صلىالله عليه وسلم والمؤمنون، قال تعالى:(( وما خلقت الجنَّوالإنس إلا ليعبدون )). ثم قال :وهذا الذي يقاتل عليه الخلق، كما قالتعالى :(( وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله ))".
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعريرضي الله عنه قال : سُئل النبي صلىالله عليه وسلم عن الرجل يقاتلشجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياءً،فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال:( من قاتل لتكون كلمة الله هيالعليا فهو في سبيل الله ) [ الفتاوى 28/ 61 ـ 62 ].
قلنا: تأمل قوله: " لتكون " فإناللام تعليلية أي من أجل ذلك يقاتلون.
مسألة
وقد يؤخذ بعضهم بالنصوص التيتبين فضلَ القتل والشهادة في سبيلالله، فيعتبر ذلك كافياً لإقامةالجهاد. والجواب :
أن الشهادة مطلب فردي في الجهادالمشروع، وأما الجماعة فتراد للبقاءوالدوام لإقامة الشرع، وقد دلَّ علىذلك قوله صلى الله عليه وسلم في بدر:( اللهم إنتهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض). ولم يعتبرها فرصةللشهادة الجماعية، أو كونها أقربطريق إلى الجنة .
من الذي يحق له إعلان الجهاد؟
وليس الجهاد أمراً فردياً يحقللأفراد أن يمارسوه باختيارهم كمايمارس أحدهم صوم النافلة أو العمرة،فيشرع فيهما متى يريد، وإنما هو أمريتعلق بكافة الأمة ويتوقف عليهمصيرهم، ولهذا لم يكن لأي أحدٍ أنيعلنه أو يشرع فيه على رأيه ومزاجه،ولا قياسه واجتهاده، وإنما هو للإمامالذي يتعلق به هذا الأمر ويتحملعواقبه . ولذلك ذكر الفقهاء أن الجهاديكون فرضاً على الأعيان في ثلاثحالات، فذكروا منها : إذا استنفرالإمام قوماً لزمهم النفير، لقولهصلى الله عليه وسلم (وإذا استنفرتم فانفروا ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
" الجهاد فرض علىالكفاية، إلا أن يتعين فيكون فرضاًعلى الأعيان مثل أن يقصد العدوبلداً، أو مثل أن يستنفر الإمامأحداً ". [ الفتاوى 28 / 80 ].
وإذا غاب الإمام وجب أن يرجع في هذاالأمر إلى أهل الحل والعقد في البلد،ومن أبرزهم طلاب العلم والدعاة إلىالله بعد التشاور وسؤال أهل العلمالذين هم ورثة الأنبياء ـ بعد توصيفالواقع الحقيقي لهم.
أما أن يعلن الجهاد قومٌ لا يعرفونبعلم، ولا رجعوا إلى طلاب العلم،فهذا محض اعتداء ووضع الأمور في غيرمواضعها.
وقد قال تعالى : (( وإذاجاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوابه ولو ردوه إلى الرسول وإلى أوليالأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونهمنهم )). فوجب الرجوع إلى أهلالعلم في النوازل خاصة كما يرجعإليهم في فروع الشريعة كالطلاق وغيره.
إلا أن هؤلاء لم يرجعوا إلى أهل العلملسببين رئيسيين :
الأول : أنهم متشبعون بمذهب الخوارج،وليس من الضروري أن يكفِّروا مرتكبالكبيرة ليُنسبوا إلى الخوارج،بل يكفي أنهم لا يرون إلاالسيف في إنكار المنكر دون النظر إلىالمصالح والمفاسد، وهذا أصل من أصولالخوارج.
الثاني : أنهم حكموا على أهل العلمبالتخاذل، لأنهم لم يوافقوهم علىأفكارهم وأحكامهم وتصرفاتهم فقالواعنهم :
علماء حيض ونفاس، فهم يرجعون إليهمللسؤال عن الحيض والنفاس، لكنهم لايرجعون إليهم في المسائل النوازل،وهذا يدل على أنهم قوم متبعون لأهواءأنفسهم يوالون ويعادون عليها.
يجب الجهاد مع القدرة على ذلك
والجهاد واجب مع القدرة عليه،قال شيخ الإسلام :
"ومن كان عاجزاً عنإقامة الدين بالسلطان والجهاد، ففعلما يقدر عليه من النصيحة بقلبهوالدعاء للأمة، ومحبة الخير، وفعل مايقدر عليه من الخير، لم يُكَلَّف مايعجز عنه ". [ الفتاوى 28/ 396 ].
قلنا : وهذا يطّرد مع قاعدة أهل السنة:
لا تكليف إلا بمقدور عليه، بخلافقاعدة أهل البدعة وهي : إمكان التكليفبما لا يطاق.(/1)
فالمسلمون وهم في حالة الضعف، وغيابالدولة، وتفرق الكلمة، وقلة العدد،وفقد السلاح، ليس بمقدورهم قتالالمشركين، ولا يكلف الله نفساً إلاما آتاها.
ومن أمثلة عدم التكليف بما لا يطاق فيالجهاد :
1ـ أن الشرع أوجب المصابرة على الواحدمقابل الاثنين، وهم يوجبون مصابرةالواحد مقابل الألف ـ وهم في حالةالهجوم والمبادأة ـ وهذا يتنافى معسماحة الشريعة وسهولة التكليف.
2ـ أن الشرع أوجب الهجرة علىالمستضعفين الذين لا يستطيعون تطبيقدينهم في حالة الضعف، وجعلها ـ أيالهجرة ـ مستحبة في حال الاستضعاف معالتمكن من إقامة الدين.
[ راجع في ذلك : الفتاوى ( 18 / 281 ) و ( 28 /240 ) والمغني ( 9 / 236 و 237 ) ].
فلو كان القتال واجباً وجوباً مطرداًفي كل المراحل والحالات والأزمنةوالأمكنة، لأوجب على المستضعفينالقتال أو استحبه لا الهجرة.
وبذلك أفتى شيخ الإسلام أهل ماردين ـوهي أقرب البلدان في القديم لواقعناـ فقال :
" المقيم بها إن كانعاجزاً عن إقامة دينه وجبت عليهالهجرة، وإلا استحبت ولم تجب ".[الفتاوى 28 / 240 ].
وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلموأصحابه في مكة، فقد كانوا مستضعفينفيها، وكان الكفار يظلمونهمويؤذونهم ويعاقبونهم على الإيمانبالله ورسوله، فهاجر منهم طائفة مثلعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف،والزبير بن العوام، وعبد الله بنمسعود، وجعفر بن أبي طالب وغيرهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
"كان رسول الله صلىالله عليه وسلم في أول الأمر مأموراًأن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده،فيدعوهم ويعظهم ويجادلهم بالتي هيأحسن.
وكان مأموراً بالكف عن قتالهم لعجزهوعجز المسلمين عن ذلك.
ثم لما هاجر إلى المدينة وصار له بهاأعوان، أُذن له في الجهاد، ثم لماقووا كتب عليهم القتال، ولم يكتبعليهم قتال من سالمهم، لأنهم لميكونوا يطيقون قتال جميع الكفار".[الجواب الصحيح 1 / 74 ].
إلا أن هؤلاء يمنعون من التعليموالتربية، والدعوة إلى الله ـ وهو منجهاد اللسان ـ لأنهم يعتبرون أن آيةالسيف نسخت كل مرحلة فليس ثمَّ إلاَّالجهاد.
والجواب :
أن آية السيف نسخت كل مرحلة عندما وصلرسول الله صلى الله عليه وسلم إلىمرحلة قيام الدولة حيث أصبح للمسلمينجيش وكيان مستقل، وأصبحوا في عزةومنعة، عندها أمرهم الله عز وجل ـ وهمفي هذه الحالة ـ أن لا يكتفوا بالجهادالدفاعي الذي هو صد العدوان لقولهتعالى :((فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثلما اعتدى عليكم )) ـ الذي كان فيالمرحلة الوسط بين المرحلة الأولىوهي كف الأيدي، وبين المرحلة الأخيرةوهي قتال المشركين كافة دون استثناءـ.
أما وبعد أن عاد المسلمون إلى الضعفثانيةً، وليس لهم دولة ولا جيش، وعادالدين غريباً، فلا شك أن الواجبعليهم كف الأيدي وإقامة الصلاةوالاستمرار بالدعوة والتربية لإيجادالقاعدة العريضة التي تتبنى الإسلاموتلتزم به وتدعوا إليه، وذلك لأمور :
أولاً : أنّ حكم الشيء حكم مثله،فالحكم على المرحلة حكم مثلها منالمراحل التي مرَّ بها رسول الله صلىالله عليه وسلم، وإلا يلزم من ذلكالتفريق بين المتماثلات والجمع بينالمختلفات .
ثانياً : أنه لا تكليف إلا بمقدورعليه، فإذا كان الرسول صلى الله عليهوسلم مأموراً بالكف عن القتال لعجزهوعجز المسلمين في تلك المرحلة، وجبأن يكون العجز علة للحكم، يوجد الحكمحيث يوجد العجز وينتفي بانتفائه كماتقرر في الأصول : أن الحكم يدور مععلته وجوداً وعدماً، فيوجد الحكم حيثتوجد العلة وينتفي الحكم حيث تنتفيالعلة.
لا بد من مراعاة قاعدة
تحقيق المصالح ودرء المفاسد في جهاد البدء
لقد فرّق الفقهاء بين جهادالدفع وجهاد البدء والطلب، فأوجبواالجهاد على كل من حضر إذا غُزي قوم فيعقر دارهم، بل يتعداهم إلى الدولالمجاورة إذا لم يكف أهل البلد، ولايوازن فيها بين المصالح والمفاسد، إذأن المفسدة في عدم الدفع متحققة،والمصلحة في الدفع خالصة.
وأما في جهاد البدء والطلب، فينبغيالموازنة بين المصالح وتحقيقها،والمفاسد ودرئها . وفي ذلك يقول شيخالإسلام :
" فحيث كانت مفسدةالأمر والنهي أعظم من مصلحته، لم يكنمما أمر الله به، وإن كان قد تُركواجب وفُعِلَ محرم، إذ المؤمن عليهأن يتقي الله في عباد الله وليس عليههداهم ".[ الفتاوى العراقية 257 ].(/2)
وقال: " من يريد أنيأمر وينهى، إما بلسانه وإما بيدهمطلقاً من غير فقه ولا حلم ولا صبرولا نظر فيما يصلح من ذلك وما لايصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدرعليه، فيأتي بالأمر والنهي معتقداًأنه مطيع في ذلك لله ولرسوله، وهومعتد في حدوده، كما نصّب كثير من أهلالبدع والأهواء نفسه للأمر والنهي،كالخوارج والمعتزلة وغيرهم ممن غلطفيما آتاه الله من الأمر والنهيوالجهاد وغير ذلك. وكان فساده أعظم منصلاحه . ثم قال : وجماع ذلك داخل فيالقاعدة العامة فيما إذا تعارضتالمصالح والمفاسد والحسناتوالسيئات، أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيحالراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالحوالمفاسد، وتعارضت المصالحوالمفاسد، فإن الأمر والنهي وإن كانمتضمناً تحصيل مصلحة ودفع مفسدة،فينظر في المعارض له، فإن كان الذييفوت من المصالح أو يحصل من المفاسدأكثر لم يكن مأموراً به، بل يكونمحرماً إذا كانت مفسدته أكثر منمصلحته ". [ الفتاوى العراقية 259ـ 261 ].
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله :
" النبي صلى الله عليهوسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكرليحصل ـ بإنكاره ـ من المعروف ما يحبهالله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكريستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى اللهورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كانالله يبغضه ويمقت أهله، وهذاكالإنكار على الملوك والولاةبالخروج عليهم، فأنه أساس كل شروفتنة إلى آخر الدهر". ثم قال :
"ومن تأمل ما جرى علىالإسلام في الفتن الكبار والصغاررآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبرعلى المنكر، فطلب إزالته فتولد منهما هو أكبر منه، فقد كان رسول اللهصلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبرالمنكرات ولا يستطيع تغييرها، بللمَّا فتح الله مكة وصارت دار إسلام،عزم على تغيير البيت وردِّه علىقواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك ـ معقدرته عليه ـ خشية وقوع ما هو أعظممنه من عدم احتمال قريش لذلك لقربعهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهدبكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار علىالأمراء باليد، لما يترتب عليه منوقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء"[إعلام الموقعين 3 / 4 ].
المشاركة في هذه الأعمال حرام
والنتيجة التي ينبغي أن يتوصلإليها كل أخٍ مسلم غيور على الدعوةالإسلامية في هذا البلد، حريص علىالمسلمين وأعراضهم، أن يمتنع منالمشاركة في هذا العمل الأرعن الذييقوده أناس لا يفقهون الشرع ولايعرفون الواقع، وقد كان أمثالهمسبباً في توريط المسلمين في عدد منالدول التي لم يجنوا منها إلاَّإراقة الدماء والاعتداء على الأعراضوإنهاء الدعوة إلى الله.
وعلى الشباب المسلم أن يرتبطوا بكبارعلماء هذه الأمة، وأن يرجعوا إليهمويسألوهم عن حكم الشرع في كل عمل، لاسيما في النوازل التي هي محضمسؤولياتهم لاستقرائهم الشريعةوفهمهم مقاصدها، وقد أمر الله بالردإليهم في النوازل خاصةً فقال: (( وإذا جاءهم أمر من الأمنأو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلىالرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمهالذين يستنبطونه منهم )) وعلى هذا كان أصحابالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانأحدهم لا يقطع أمراً حتى يرجع إلىالعالم منهم، كما فعل أبو موسىالأشعري رضي الله عنه عندما رأىقوماً حِلَقاً في المسجد يعدّونالتسبيح والتحميد والتكبير بالحصىفأنكره في نفسه، فأتى إلى دار عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فقصّ عليهما رأى، فقال له ابن مسعود رضي اللهعنه: " فماذا قلت لهم؟"قال:" ما قلت لهم شيئاًانتظار رأيك أو انتظار أمرك " [انظر سنن الدارمي ( / 68 ـ 69 ) وهو أثرصحيح ].
وختاماً نقول : ليحذر العبد مسالك أهلالظلم والجهل، الذين يسلكون مسالكالعلماء، فترى أحدهم أنه في أعلىالدرجات وإنما هو يعلم ظاهراً منالحياة الدنيا، ولم يحم حول العلمالموروث عن سيد ولد آدم، وقد تعدى علىالأعراض والأموال بكثرة القيلوالقال .
فرحم الله عبداً نطق بعلم أو سكتبحلم، وعَبَدَ ربه قبل أن يبغتهالأجل، اللهم فوفّق وارحم.(/3)
فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -
نايف بن أحمد الحمد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد: " فإن أولى ما نظر فيه الطالب، وعني به العالم بعد كتاب الله - عز وجل - سنن رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- فهي المبيِّنة لمراد الله - عز وجل - من مجملات كتابه، والدالة على حدوده، والمفسرة له، والهادية إلى الصراط المستقيم صراط الله مَن اتبعها اهتدى، ومن سُلبها ضل وغوى وولاه الله ما تولى، ومِن أَوكد آلات السنن المعينة عليها، والمؤدية إلى حفظها معرفة الذين نقلوها عن نبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى الناس كافة، وحفظوها عليه، وبلغوها عنه، وهم صحابته الحواريون الذين وعوها وأدوها ناصحين محسنين حتى أكمل بما نقلوه الدين، وثبت بهم حجة الله -تعالى -على المسلمين فهم خير القرون، وخير أمة أخرجت للناس ثبتت عدالة جميعهم بثناء الله - عز وجل - عليهم، وثناء رسوله - عليه السلام -، ولا أعدل ممن ارتضاه الله لصحبة نبيه ونصرته، ولا تزكية أفضل من ذلك، ولا تعديل أكمل منه قال الله - تعالى -ذكره (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود)(الفتح: 29) " [1]
"والصحابة أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وإقامة دينه ". كما قاله ابن مسعود رضي الله عنه [2]. "فحبهم سنة والدعاء لهم قربة والإقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة "[3]
وهم صفوة خلق الله - تعالى -بعد النبيين -عليهم الصلاة والسلام- فعن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله - عز وجل - (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) (النمل: 59) قال: أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - [4].
وقال سفيان في قوله - عز وجل - (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ)(الرعد: 28) قال: هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. [5]
وعن وهب بن منبه - رحمه الله -في قوله - تعالى- (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ) (عبس: 16) قال هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -[6].
وقال قتادة في قوله - تعالى -(يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِه) (البقرة: 121) هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -آمنوا بكتاب الله وعملوا بما فيه [7].
وقال ابن مسعود رضي الله عنه " إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوبَ أصحابهِ خيرَ قلوبِ العبادِ فجعلهم وزراءَ نبيهِ يُقاتِلون على دينه " [8] والصحابي هنا هو مَن لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به، ومات على ذلك. فقد جاء في حديث قيلة العنبرية -رضي الله عنها-: خرجت أبتغي الصحابة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [9].
وقد ورد في فضلهم آيات وأحاديث كثيرة منها: قوله - تعالى -(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 100)
وقال - تعالى- (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح: 18)
وقال - تعالى -(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الفتح: 29)
وفي آيات عديدة ذكرهم الله - تعالى -وترضى عنهم.
ومما جاء في السنة:(/1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا تسبوا أصحابي لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) [10] " وسبب تفضيل نفقتهم أنها كانت في وقت الضرورة، وضيق الحال بخلاف غيرهم، ولأن إنفاقهم كان في نصرته - صلى الله عليه وسلم -، وحمايته، وذلك معدوم بعده، وكذا جهادهم وسائر طاعتهم، وقد قال - تعالى -(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً)(الحديد: 10) وهذا كله مع ما كان فيهم في أنفسهم من الشفقة، والتودد، والخشوع، والتواضع، والإيثار، والجهاد في الله حق جهاده، وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل، ولا ينال درجتها بشيء، والفضائل لا تؤخذ بقياس ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " ا. هـ [11]
وقال البيضاوي - رحمه الله - تعالى: " معنى الحديث لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أحد ذهبا من الفضل والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مد طعام أو نصيفه، وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص، وصدق النية) ا. هـ [12] " مع ما كانوا من القلة، وكثرة الحاجة والضرورة " [13] وقيل " السبب فيه أن تلك النفقة أثمرت في فتح الإسلام، وإعلاء كلمة الله ما لا يثمر غيرها، وكذلك الجهاد بالنفوس لا يصل المتأخرون فيه إلى فضل المتقدمين لقلة عدد المتقدمين، وقلة أنصارهم فكان جهادهم أفضل، ولأن بذل النفس مع النصرة، ورجاء الحياة ليس كبذلها مع عدمها " ا. هـ [14].
ومما جاء في فضلهم -رضي الله عنهم- حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) [15] " وإنما صار أول هذه الأمة خير القرون؛ لأنهم آمنوا به حين كفر الناس، وصدقوه حين كذبه الناس، وعزروه، ونصروه، وآووه، وواسوه بأموالهم وأنفسهم، وقاتلوا غيرهم على كفرهم حتى أدخلوهم في الإسلام " ا. هـ [16].
ومما جاء في فضلهم ما رواه أبو بردة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) [17]" وهو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة من طمس السنن وظهور البدع وفشو الفجور في أقطار الأرض " [18].
وها هو أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يصف حال الصحابة فعن أبي راكة قال: صليت خلف علي صلاة الفجر فلما سلم انفلت عن يمينه ثم مكث كأن عليه الكآبة حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح قال: لقد رأيت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فما أرى اليوم شيئا يشبههم كانوا يصبحون ضمرا شعثا غبرا بين أعينهم أمثال ركب المعزى قد باتوا لله سجدا وقياما يتلون كتاب الله ويراوحون بين جباههم وأقدامهم فإذا أصبحوا ذكروا الله مادوا كما تميد الشجر في يوم الريح فهملت أعينهم حتى تبتل ثيابهم. [19]
الوعيد الشديد فيمن آذى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الله الله في أصحابي الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله- تبارك وتعالى -ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه) [20] قال المناوي - رحمه الله - تعالى " (الله الله في حق أصحابي) أي اتقوا الله فيهم، ولا تلمزوهم بسوء، أو اذكروا الله فيهم وفي تعظيمهم وتوقيرهم، وكرره إيذانا بمزيد الحث على الكف عن التعرض لهم بمنقص (لا تتخذوهم غرضا) هدفا ترموهم بقبيح الكلام كما يرمى الهدف بالسهام هو تشبيه بليغ (بعدي) أي بعد وفاتي " ا. هـ ([21].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (مَن سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) [22].
موقف السلف الصالح من الصحابة الكرام :
لقد عرف السلف الصالح فضل الصحابة الكرام وبيَّنوا ذلك وردوا على كل من أراد انتقاصهم رضي الله عنهم قال ابن عمر رضي الله عنهما " لا تسبوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عُمره " [23].
وجاء رجل إلى عبد الله بن المبارك وسأله أمعاوية أفضل أو عمر بن عبد العزيز فقال " لتراب في منخري معاوية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز " [24].
وجاء رجل إلى الإمام أبي زرعة الرازي - رحمه الله - فقال: يا أبا زرعة أنا أبغض معاوية. قال: لِمَ؟ قال: لأنه قاتَل عليا. فقال أبو زرعة: إن ربَّ معاوية ربٌّ رحيم وخصمَ معاوية خصمٌ كريم فما دخولك أنت بينهما رضي الله عنهم أجمعين [25].(/2)
وقال الإمام أحمد - رحمه الله - تعالى- " إذا رأيت رجلا يذكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوء فاتهمه على الإسلام " [26] وقال - رحمه الله - تعالى- " لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه ويستتيبه فان تاب قبل منه وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلده الحبس حتى يموت أو يراجع " [27]
وقال بشر بن الحارث - رحمه الله - تعالى " مَن شتم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر وإن صام وصلى وزعم أنه من المسلمين " [28]. ولعل كثيرا من الكتاب ممن في قلوبهم مرض الذين ينتقصون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحف وغيرها يرون أن الوقت لم يحن بعد لانتقاص القرآن والسنة فرأوا أن تقليل شأن الصحابة الكرام عند الناس هو من أخصر الطرق لرد الكتاب والسنة كما قال أبو زرعة - رحمه الله - تعالى " إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنة أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليُبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة " ا. هـ [29].
وقال السرخسي - رحمه الله - تعالى " فمن طعن فيهم فهو ملحد منابذ للإسلام دواؤه السيف إن لم يتب " ا. هـ [30].
وقال الإمام محمد بن صُبيح بن السماك - رحمه الله - تعالى لمن انتقص الصحابة " علمتَ أن اليهود لا يسبون أصحاب موسى - عليه السلام - وأن النصارى لا يسبون أصحاب عيسى - عليه السلام - فما بالك ياجاهل سببت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ وقد علمتُ من أين أوتيتَ لم يشغلك ذنبك أما لو شغلك ذنبك لخفت ربك، ولقد كان في ذنبك شغل عن المسيئين فكيف لم يشغلك عن المحسنين؟ أما لو كنت من المحسنين لما تناولت المسيئين، ولرجوت لهم أرحم الراحمين، ولكنك من المسيئين فمن ثَمَّ عبت الشهداء والصالحين، أيها العائب لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لو نمتَ ليلك، وأفطرت نهارك لكان خيرا لك من قيام ليلك، وصوم نهارك مع سوء قولك في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فويحك لا قيام ليل، ولا صوم نهار، وأنت تتناول الأخيار فأبشر بما ليس فيه البشرى إن لم تتب مما تسمع وترى..وبم تحتج يا جاهل إلا بالجاهلين، وشر الخلف خلف شتم السلف لواحد من السلف خير من ألف من الخلف " ا.هـ [31].
وقال ابن الصلاح - رحمه الله - تعالى " إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومَن لابس الفتن منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يُعتد بهم في الإجماع " ا. هـ ([32].
ذكر فضلهم في كتب العقائد رفعا لشأنهم وعلوا لمنزلتهم:
قال الطحاوي - رحمه الله - تعالى " ونحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و لا نُفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم، وبغير الحق يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان " ا. ه[33].
وذكر الحميدي - رحمه الله - تعالى أن من السنة " الترحم على أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كلهم فإن الله - عز وجل - قال (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ)(الحشر: 10) فلم نؤمر إلا بالاستغفار لهم، فمن سبهم أو تنقصهم أو أحدا منهم فليس على السنة وليس له في الفيء حق، أخبرنا غير واحد عن مالك بن أنس " ا. ه[34]
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - تعالى " ويمسكون عما شجر من الصحابة، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه، ونقص، وغُيِّرَ عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون؛ إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون...، ولهم من السوابق، والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات مما ليس لمن بعدهم... ثم القَدْر الذي يُنكر من فعل بعضهم قليل نزر مغفور في جنب فضائل القوم، ومحاسنهم من الإيمان بالله، ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم، وأكرمها على الله " ا. هـ [35](/3)
وفي الختام لا نقول إلا كما قال الله - تعالى -(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) اللهم ارض عن أصحاب نبيك أجمعين واحشرنا وإياهم في زمرة سيد المرسلين والله - تعالى -أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------------------
[1] الاستيعاب 1/1
[2] تفسير القرطبي 1/60 وروى نحوه أبو نعيم في الحلية 1/305 من قول ابن عمر - رضي الله عنهما -.
[3] العقيدة 1/81
[4] رواه الطبري 20/2 والبزار وانظر: تفسير ابن كثير 3/370 الاستيعاب 1/13تفسير القرطبي 13/220 وبذلك فسرها سفيان الثوري. كما رواه عنه أبو نعيم في الحلية 7/77 وابن عساكر 23/463.
[5] رواه سعيد بن منصور 5/ 435
[6] رواه عبد بن حميد وابن المنذر. تفسير ابن كثير 4/472 الدر المنثور 8/418.
[7] فتح الباري 13/508.
[8] رواه أحمد 1/379 والطيالسي (246) بإسناد حسن.
[9] رواه ابن سعد 1/318 والطبراني 25/8 قال الهيثمي " رجاله ثقات " المجمع 6/12.
[10] رواه البخاري (3470) ومسلم (2540) واللفظ له.
[11] شرح مسلم للنووي 16/93 شرح سنن ابن ماجه 1/15 تحفة الأحوذي 10/246.
[12] فتح الباري 7/34.
[13] عون المعبود 12/269.
[14] تحفة الأحوذي 8/338.
[15] رواه البخاري (2509) ومسلم (2533).
[16] التمهيد 20/251 فيض القدير 3/ 478.
[17] رواه مسلم (2531).
[18] تحفة الأحوذي 10/156 فيض القدير 6/296.
[19] رواه أبو نعيم في الحلية 1/76 وابن أبي الدنيا في التهجد وقيام الليل /272والخطيب في الموضح 2/330 وابن عساكر 42/492.
[20] رواه أحمد 5/54 والترمذي (3862) والبيهقي في الشعب 2/191 وقال الترمذي: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) ا. هـ.
[21] فيض القدير 2/98.
[22] رواه الطبراني في الكبير 12/142 وفي الدعاء (2108) والخلال في السنة (833) والقطيعي في زوائد الفضائل (8) والخطيب في التاريخ 14/241 من حديث أنس - رضي الله عنه - كما رواه الطبراني في الكبير 12/434 والأوسط (7515) وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - والحديث حسنة الألباني - رحمه الله - في الصحيحة (2340).
[23] رواه أحمد في الفضائل 1/57 وابن أبي شيبة 6/405 وابن ماجه (162) وابن أبي عاصم في السنة 2/484 قال البوصيري في زوائد ابن ماجه 1/24" هذا إسناد صحيح ".
[24] رواه ابن عساكر 59/208 وانظر: منهاج السنة 6/227.
[25] رواه ابن عساكر 59/141وانظر فتح الباري 13/86 عمدة القاري 24/215.
[26] شرح أصول الاعتقاد للالكائي 7/1252 الصارم المسلول 3/ 1058
[27] الصارم المسلول 3/1057 العقيدة 1/81
[28] رواه ابن بطة في الإبانة /162.
[29] تاريخ بغداد 38/132 والكفاية /97.
[30] أصول السرخسي 2/134.
[31] رواه المعافي في الجليس الصالح 2/392.
[32] مقدمة ابن الصلاح /428.
[33] عقيدة الطحاوي مع شرحها 2/689.
[34] أصول السنة للحميدي بذيل المسند 2/176.
[35] العقيدة الواسطية / 43.
http://saaid.net المصدر :(/4)
فضائل الصحابة رضي الله عنهم
د. نايف بن أحمد الحمد[قاضي المحكمة العامة بمحافظة رماح] 9/9/1426
12/10/2005
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد : " فإن أولى ما نظر فيه الطالب ، وعني به العالم بعد كتاب الله -عز وجل- سنن رسوله -صلى لله عليه وآله وسلم- فهي المبيِّنة لمراد الله -عز وجل- من مجملات كتابه ، والدالة على حدوده ، والمفسرة له ، والهادية إلى الصراط المستقيم صراط الله مَن اتبعها اهتدى ،ومن سُلبها ضل وغوى وولاه الله ما تولى ، ومِن أَوكد آلات السنن المعينة عليها ، والمؤدية إلى حفظها معرفة الذين نقلوها عن نبيهم -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الناس كافة ، وحفظوها عليه ،وبلغوها عنه ، وهم صحابته الحواريون الذين وعوها وأدوها ناصحين محسنين حتى أكمل بما نقلوه الدين ، وثبت بهم حجة الله -تعالى -على المسلمين فهم خير القرون ، وخير أمة أخرجت للناس ثبتت عدالة جميعهم بثناء الله عز وجل عليهم ، وثناء رسوله -عليه السلام- ، ولا أعدل ممن ارتضاه الله لصحبة نبيه ونصرته ، ولا تزكية أفضل من ذلك ، ولا تعديل أكمل منه قال الله تعالى ذكره ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود)( الفتح: 29) " (1)
" والصحابة أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، وأقومها هديا ، وأحسنها حالا اختارهم الله لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وإقامة دينه " . كما قاله ابن مسعود _رضي الله عنه_(2) . "فحبهم سنة والدعاء لهم قربة والإقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة "(3).
وهم صفوة خلق الله تعالى بعد النبيين -عليهم الصلاة والسلام- فعن ابن عباس _رضي الله عنهما_ في قول الله عز وجل ( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ) (النمل:59) قال : أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- (4).
وقال سفيان في قوله عز وجل ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ)(الرعد: 28) قال : هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- (5).
وعن وهب بن منبه -رحمه الله -في قوله تعالى ( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ) (عبس:16) قال هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-(6).
وقال قتادة في قوله تعالى ( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِه)(البقرة:121) هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -آمنوا بكتاب الله وعملوا بما فيه(7).
وقال ابن مسعود _رضي الله عنه_ " إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوبَ أصحابهِ خيرَ قلوبِ العبادِ فجعلهم وزراءَ نبيهِ يُقاتِلون على دينه "(8).والصحابي هنا هو مَن لقي النبي -صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به ، ومات على ذلك . فقد جاء في حديث قيلة العنبرية -رضي الله عنها- : خرجت أبتغي الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم(9) .
وقد ورد في فضلهم آيات وأحاديث كثيرة منها : قوله تعالى ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100)
وقال تعالى ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح:18)
وقال تعالى ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الفتح : 29)
وفي آيات عديدة ذكرهم الله تعالى وترضى عنهم .
ومما جاء في السنة :(/1)
عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( لا تسبوا أصحابي لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه )(10) " وسبب تفضيل نفقتهم أنها كانت في وقت الضرورة ، وضيق الحال بخلاف غيرهم ، ولأن إنفاقهم كان في نصرته -صلى الله عليه وسلم- ، وحمايته ، وذلك معدوم بعده ، وكذا جهادهم وسائر طاعتهم ، وقد قال تعالى ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً )(الحديد:10) وهذا كله مع ما كان فيهم في أنفسهم من الشفقة ، والتودد ، والخشوع ، والتواضع ، والإيثار ، والجهاد في الله حق جهاده ، وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل ، ولا ينال درجتها بشيء ، والفضائل لا تؤخذ بقياس ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " ا.هـ (11)
وقال البيضاوي _رحمه الله تعالى_ : " معنى الحديث لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أحد ذهبا من الفضل والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مد طعام أو نصيفه ، وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص ، وصدق النية ) ا.هـ (12) " مع ما كانوا من القلة ، وكثرة الحاجة والضرورة "(13) وقيل " السبب فيه أن تلك النفقة أثمرت في فتح الإسلام ، وإعلاء كلمة الله ما لا يثمر غيرها ، وكذلك الجهاد بالنفوس لا يصل المتأخرون فيه إلى فضل المتقدمين لقلة عدد المتقدمين ، وقلة أنصارهم فكان جهادهم أفضل ، ولأن بذل النفس مع النصرة ، ورجاء الحياة ليس كبذلها مع عدمها " ا.هـ(14) .
ومما جاء في فضلهم -رضي الله عنهم- حديث ابن مسعود _رضي الله عنه_ عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) (15)" وإنما صار أول هذه الأمة خير القرون ؛ لأنهم آمنوا به حين كفر الناس ، وصدقوه حين كذبه الناس ، وعزروه ، ونصروه ، وآووه ، وواسوه بأموالهم وأنفسهم ، وقاتلوا غيرهم على كفرهم حتى أدخلوهم في الإسلام " ا.هـ(16).
ومما جاء في فضلهم ما رواه أبو بردة _رضي الله عنه_ قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ) (17)" وهو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة من طمس السنن وظهور البدع وفشو الفجور في أقطار الأرض "(18).
وها هو أمير المؤمنين علي _رضي الله عنه_ يصف حال الصحابة فعن أبي راكة قال : صليت خلف علي صلاة الفجر فلما سلم انفلت عن يمينه ثم مكث كأن عليه الكآبة حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح قال : لقد رأيت أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فما أرى اليوم شيئا يشبههم كانوا يصبحون ضمرا شعثا غبرا بين أعينهم أمثال ركب المعزى قد باتوا لله سجدا وقياما يتلون كتاب الله ويراوحون بين جباههم وأقدامهم فإذا أصبحوا ذكروا الله مادوا كما تميد الشجر في يوم الريح فهملت أعينهم حتى تبتل ثيابهم (19).
الوعيد الشديد فيمن آذى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
عن عبد الله بن مغفل المزني _رضي الله عنه_ قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( الله الله في أصحابي الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله تبارك وتعالى ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه )(20) قال المناوي _رحمه الله تعالى_ " ( الله الله في حق أصحابي ) أي اتقوا الله فيهم ، ولا تلمزوهم بسوء ، أو اذكروا الله فيهم وفي تعظيمهم وتوقيرهم ، وكرره إيذانا بمزيد الحث على الكف عن التعرض لهم بمنقص ( لا تتخذوهم غرضا ) هدفا ترموهم بقبيح الكلام كما يرمى الهدف بالسهام هو تشبيه بليغ ( بعدي ) أي بعد وفاتي " ا.هـ ( (21) .
وعن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( مَن سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) (22) .
موقف السلف الصالح من الصحابة الكرام
لقد عرف السلف الصالح فضل الصحابة الكرام وبيَّنوا ذلك وردوا على كل من أراد انتقاصهم _رضي الله عنهم_ قال ابن عمر _رضي الله عنهما_ " لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عُمره "(23).
وجاء رجل إلى عبد الله بن المبارك وسأله أمعاوية أفضل أو عمر بن عبد العزيز فقال " لتراب في منخري معاوية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز "(24).
وجاء رجل إلى الإمام أبي زرعة الرازي -رحمه الله- فقال : يا أبا زرعة أنا أبغض معاوية . قال : لِمَ ؟ قال : لأنه قاتَل عليا . فقال أبو زرعة : إن ربَّ معاوية ربٌّ رحيم وخصمَ معاوية خصمٌ كريم فما دخولك أنت بينهما _رضي الله عنهم_ أجمعين(25).(/2)
وقال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- " إذا رأيت رجلا يذكر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسوء فاتهمه على الإسلام "(26) وقال –رحمه الله تعالى- " لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه ويستتيبه فان تاب قبل منه وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلده الحبس حتى يموت أو يراجع "(27).
وقال بشر بن الحارث _رحمه الله تعالى_ " مَن شتم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو كافر وإن صام وصلى وزعم أنه من المسلمين "(28) . ولعل كثيرا من الكتاب ممن في قلوبهم مرض الذين ينتقصون أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم – في الصحف وغيرها يرون أن الوقت لم يحن بعد لانتقاص القرآن والسنة فرأوا أن تقليل شأن الصحابة الكرام عند الناس هو من أخصر الطرق لرد الكتاب والسنة كما قال أبو زرعة _رحمه الله تعالى_ " إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنة أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليُبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة " ا.هـ (29).
وقال السرخسي _رحمه الله تعالى_ " فمن طعن فيهم فهو ملحد منابذ للإسلام دواؤه السيف إن لم يتب " ا.هـ(30).
وقال الإمام محمد بن صُبيح بن السماك _رحمه الله تعالى_ لمن انتقص الصحابة " علمتَ أن اليهود لا يسبون أصحاب موسى -عليه السلام- وأن النصارى لا يسبون أصحاب عيسى -عليه السلام- فما بالك ياجاهل سببت أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ؟ وقد علمتُ من أين أوتيتَ لم يشغلك ذنبك أما لو شغلك ذنبك لخفت ربك ، ولقد كان في ذنبك شغل عن المسيئين فكيف لم يشغلك عن المحسنين ؟ أما لو كنت من المحسنين لما تناولت المسيئين ، ولرجوت لهم أرحم الراحمين ، ولكنك من المسيئين فمن ثَمَّ عبت الشهداء والصالحين ، أيها العائب لأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- لو نمتَ ليلك ، وأفطرت نهارك لكان خيرا لك من قيام ليلك ، وصوم نهارك مع سوء قولك في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فويحك لا قيام ليل ، ولا صوم نهار ، وأنت تتناول الأخيار فأبشر بما ليس فيه البشرى إن لم تتب مما تسمع وترى .. وبم تحتج يا جاهل إلا بالجاهلين ، وشر الخلف خلف شتم السلف لواحد من السلف خير من ألف من الخلف " ا.هـ (31) .
وقال ابن الصلاح _رحمه الله تعالى_ " إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة , ومَن لابس الفتن منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يُعتد بهم في الإجماع " ا.هـ ( (32).
ذكر فضلهم في كتب العقائد رفعا لشأنهم وعلوا لمنزلتهم :
قال الطحاوي _رحمه الله تعالى_ " ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم و لا نُفرط في حب أحد منهم ، ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم ، وبغير الحق يذكرهم ، ولا نذكرهم إلا بخير ، وحبهم دين وإيمان وإحسان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان " ا.ه(33).
وذكر الحميدي _رحمه الله تعالى_ أن من السنة " الترحم على أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كلهم فإن الله عز وجل قال ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ )(الحشر:10) فلم نؤمر إلا بالاستغفار لهم ، فمن سبهم أو تنقصهم أو أحدا منهم فليس على السنة وليس له في الفيء حق ، أخبرنا غير واحد عن مالك بن أنس " ا.ه(34)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله تعالى_ " ويمسكون عما شجر من الصحابة ، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب ، ومنها ما قد زيد فيه ، ونقص ، وغُيِّرَ عن وجهه ، والصحيح منه هم فيه معذورون ؛ إما مجتهدون مصيبون ، وإما مجتهدون مخطئون ... ، ولهم من السوابق ، والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم ؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات مما ليس لمن بعدهم ... ثم القَدْر الذي يُنكر من فعل بعضهم قليل نزر مغفور في جنب فضائل القوم ، ومحاسنهم من الإيمان بالله ، ورسوله ، والجهاد في سبيله ، والهجرة ، والنصرة ، والعلم النافع ، والعمل الصالح ، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة ، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم ، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم ، وأكرمها على الله " ا.هـ (35)(/3)
وفي الختام لا نقول إلا كما قال الله تعالى (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) اللهم ارض عن أصحاب نبيك أجمعين واحشرنا وإياهم في زمرة سيد المرسلين والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
________________________________________
[1] الاستيعاب 1/1
[2] تفسير القرطبي 1/60 وروى نحوه أبو نعيم في الحلية 1/305 من قول ابن عمر رضي الله عنهما .
[3] العقيدة 1/81
[4] رواه الطبري 20/2 والبزار وانظر : تفسير ابن كثير 3/370 الاستيعاب 1/13تفسير القرطبي 13/220 وبذلك فسرها سفيان الثوري. كما رواه عنه أبو نعيم في الحلية 7/77 وابن عساكر 23/463.
[5] رواه سعيد بن منصور 5/ 435
[6] رواه عبد بن حميد وابن المنذر . تفسير ابن كثير 4/472 الدر المنثور 8/418.
[7] فتح الباري 13/508 .
[8] رواه أحمد 1/379 والطيالسي (246) بإسناد حسن .
[9] رواه ابن سعد 1/318 والطبراني 25/8 قال الهيثمي " رجاله ثقات " المجمع 6/12.
[10] رواه البخاري (3470 ) ومسلم (2540) واللفظ له .
[11] شرح مسلم للنووي 16/93 شرح سنن ابن ماجه 1/15 تحفة الأحوذي 10/246 .
[12] فتح الباري 7/34 .
[13] عون المعبود 12/269 .
[14] تحفة الأحوذي 8/338 .
[15] رواه البخاري ( 2509) ومسلم ( 2533 ) .
[16] التمهيد 20/251 فيض القدير 3/ 478 .
[17] رواه مسلم ( 2531 ) .
[18] تحفة الأحوذي 10/156 فيض القدير 6/296 .
[19] رواه أبو نعيم في الحلية 1/76 وابن أبي الدنيا في التهجد وقيام الليل /272والخطيب في الموضح 2/330 وابن عساكر 42/492 .
[20] رواه أحمد 5/54 والترمذي (3862 ) والبيهقي في الشعب 2/191 وقال الترمذي : ( هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ) ا.هـ .
[21] فيض القدير 2/98 .
[22] رواه الطبراني في الكبير 12/142 وفي الدعاء (2108) والخلال في السنة (833) والقطيعي في زوائد الفضائل (8) والخطيب في التاريخ 14/241 من حديث أنس رضي الله عنه كما رواه الطبراني في الكبير 12/434 والأوسط (7515) وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر رضي الله عنهما والحديث حسنة الألباني رحمه الله في الصحيحة (2340) .
[23] رواه أحمد في الفضائل 1/57 وابن أبي شيبة 6/405 وابن ماجه (162) وابن أبي عاصم في السنة 2/484 قال البوصيري في زوائد ابن ماجه 1/24" هذا إسناد صحيح " .
[24] رواه ابن عساكر 59/208 وانظر : منهاج السنة 6/227 .
[25] رواه ابن عساكر 59/141وانظر فتح الباري 13/86 عمدة القاري 24/215.
[26] شرح أصول الاعتقاد للالكائي 7/1252 الصارم المسلول 3/ 1058
[27] الصارم المسلول 3/1057 العقيدة 1/81
[28] رواه ابن بطة في الإبانة /162.
[29] تاريخ بغداد 38/132 والكفاية /97 .
[30] أصول السرخسي 2/134 .
[31] رواه المعافي في الجليس الصالح 2/392.
[32] مقدمة ابن الصلاح /428 .
[33] عقيدة الطحاوي مع شرحها 2/689 .
[34] أصول السنة للحميدي بذيل المسند 2/176 .
[35] العقيدة الواسطية / 43 .(/4)
فضائل الصحابة رضي الله عنهم
الكاتب: الشيخ د.نايف بن أحمد الحمد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد : " فإن أولى مانظر فيه الطالب ، وعني به العالم بعد كتاب الله -عز وجل- سنن رسوله -صلى لله عليه وآله وسلم- فهي المبيِّنة لمراد الله -عز وجل- من مجملات كتابه ، والدالة على حدوده ، والمفسرة له ، والهادية إلى الصراط المستقيم صراط الله مَن اتبعها اهتدى ،ومن سُلبها ضل وغوى وولاه الله ما تولى ، ومِن أَوكد آلات السنن المعينة عليها ، والمؤدية إلى حفظها معرفة الذين نقلوها عن نبيهم -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الناس كافة ، وحفظوها عليه ،وبلغوها عنه ، وهم صحابته الحواريون الذين وعوها وأدوها ناصحين محسنين حتى أكمل بما نقلوه الدين ، وثبت بهم حجة الله -تعالى -على المسلمين فهم خير القرون ، وخير أمة أخرجت للناس ثبتت عدالة جميعهم بثناء الله عز وجل عليهم ، وثناء رسوله -عليه السلام- ، ولا أعدل ممن ارتضاه الله لصحبة نبيه ونصرته ، ولا تزكية أفضل من ذلك ، ولا تعديل أكمل منه قال الله تعالى ذكره ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود)( الفتح: 29) " ([1] )
" والصحابة أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، وأقومها هديا ، وأحسنها حالا اختارهم الله لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وإقامة دينه " . كما قاله ابن مسعود _رضي الله عنه_ ([2]) . "فحبهم سنة والدعاء لهم قربة والإقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة "([3]) وهم صفوة خلق الله تعالى بعد النبيين -عليهم الصلاة والسلام- فعن ابن عباس _رضي الله عنهما_ في قول الله عز وجل ( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ) (النمل:59) قال : أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ([4]).
وقال سفيان في قوله عز وجل ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ)(الرعد: 28) قال : هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- .([5])
وعن وهب بن منبه -رحمه الله -في قوله تعالى ( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ(15)(كِرَامٍ بَرَرَةٍ) (عبس:16) قال هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-([6] ).
وقال قتادة في قوله تعالى ( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِه)(البقرة:121) هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -آمنوا بكتاب الله وعملوا بما فيه ([7] ).
وقال ابن مسعود _رضي الله عنه_ " إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوبَ أصحابهِ خيرَ قلوبِ العبادِ فجعلهم وزراءَ نبيهِ يُقاتِلون على دينه " ([8]) والصحابي هنا هو مَن لقي النبي -صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به ، ومات على ذلك . فقد جاء في حديث قيلة العنبرية -رضي الله عنها- : خرجت أبتغي الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ([9]) .
وقد ورد في فضلهم آيات وأحاديث كثيرة منها : قوله تعالى ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100)
وقال تعالى ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح:18)
وقال تعالى ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ
فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الفتح : 29)
وفي آيات عديدة ذكرهم الله تعالى وترضى عنهم .
ومما جاء في السنة :
عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((/1)
لا تسبوا أصحابي لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ) ([10]) " وسبب تفضيل نفقتهم أنها كانت في وقت الضرورة ، وضيق الحال بخلاف غيرهم ، ولأن إنفاقهم كان في نصرته -صلى الله عليه وسلم- ، وحمايته ، وذلك معدوم بعده ، وكذا جهادهم وسائر طاعتهم ، وقد قال تعالى ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً )(الحديد:10) وهذا كله مع ما كان فيهم في أنفسهم من الشفقة ، والتودد ،والخشوع ، والتواضع ، والإيثار ، والجهاد في الله حق جهاده ، وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل ، ولا ينال درجتها بشيء ، والفضائل لا تؤخذ بقياس ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " ا.هـ ([11])
وقال البيضاوي _رحمه الله تعالى_ : " معنى الحديث لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أحد ذهبا من الفضل والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مد طعام أو نصيفه ، وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص ، وصدق النية ) ا.هـ ([12]) " مع ما كانوا من القلة ، وكثرة الحاجة والضرورة " ([13] ) وقيل " السبب فيه أن تلك النفقة أثمرت في فتح الإسلام ، وإعلاء كلمة الله ما لا يثمر غيرها ، وكذلك الجهاد بالنفوس لا يصل المتأخرون فيه إلى فضل المتقدمين لقلة عدد المتقدمين ، وقلة أنصارهم فكان جهادهم أفضل ، ولأن بذل النفس مع النصرة ، ورجاء الحياة ليس كبذلها مع عدمها " ا.هـ ([14]) .
ومما جاء في فضلهم -رضي الله عنهم- حديث ابن مسعود _رضي الله عنه_ عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) ([15]) " وإنما صار أول هذه الأمة خير القرون ؛ لأنهم آمنوا به حين كفر الناس ، وصدقوه حين كذبه الناس ، وعزروه ، ونصروه ، وآووه ، وواسوه بأموالهم وأنفسهم ، وقاتلوا غيرهم على كفرهم حتى أدخلوهم في الإسلام " ا.هـ ([16]) .
ومما جاء في فضلهم ما رواه أبو بردة _رضي الله عنه_ قال : قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم - (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا
ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ) ([17])" وهو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة من طمس السنن وظهور البدع وفشو الفجور في أقطار الأرض " ([18]) .
وها هو أمير المؤمنين علي _رضي الله عنه_ يصف حال الصحابة فعن أبي راكة قال :
صليت خلف علي صلاة الفجر فلما سلم انفلت عن يمينه ثم مكث كأن عليه الكآبة حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح قال : لقد رأيت أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فما أرى اليوم شيئا يشبههم كانوا يصبحون ضمرا شعثا غبرا بين أعينهم أمثال ركب المعزى قد باتوا لله سجدا وقياما يتلون كتاب الله ويراوحون بين جباههم وأقدامهم فإذا أصبحوا ذكروا الله مادوا كما تميد الشجر في يوم الريح فهملت أعينهم حتى تبتل ثيابهم .([19])
الوعيد الشديد فيمن آذى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن مغفل المزني _رضي الله عنه_ قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( الله الله في أصحابي الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله تبارك وتعالى ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه ) ([20]) قال المناوي _رحمه الله تعالى_ " ( الله الله في حق أصحابي ) أي اتقوا الله فيهم ، ولا تلمزوهم بسوء ، أو اذكروا الله فيهم وفي تعظيمهم وتوقيرهم ، وكرره إيذانا بمزيد الحث على الكف عن التعرض لهم بمنقص ( لا تتخذوهم غرضا ) هدفا ترموهم بقبيح الكلام كما يرمى الهدف بالسهام هو تشبيه بليغ ( بعدي ) أي بعد وفاتي " ا.هـ ( [21]) .
وعن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (مَن سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) ([22]) .
موقف السلف الصالح من الصحابة الكرام:
لقد عرف السلف الصالح فضل الصحابة الكرام وبيَّنوا ذلك وردوا على كل من أراد انتقاصهم _رضي الله عنهم_ قال ابن عمر _رضي الله عنهما_ " لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عُمره"([23]).
وجاء رجل إلى عبد الله بن المبارك وسأله أمعاوية أفضل أو عمر بن عبد العزيز فقال " لتراب في منخري معاوية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز " ([24]).(/2)
وجاء رجل إلى الإمام أبي زرعة الرازي -رحمه الله- فقال : يا أبا زرعة أنا أبغض معاوية . قال : لِمَ ؟ قال : لأنه قاتَل عليا . فقال أبو زرعة : إن ربَّ معاوية ربٌّ رحيم وخصمَ معاوية خصمٌ كريم فما دخولك أنت بينهما _رضي الله عنهم_ أجمعين [25]) .وقال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- " إذا رأيت رجلا يذكر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسوء فاتهمه على الإسلام " ([26]) وقال –رحمه الله تعالى- " لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه ويستتيبه فان تاب قبل منه وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلده الحبس حتى يموت أو يراجع " ([27])
وقال بشر بن الحارث _رحمه الله تعالى_ " مَن شتم أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فهو كافر وإن صام وصلى وزعم أنه من المسلمين " ([28]) .
ولعل كثيرا من الكتاب ممن في قلوبهم مرض الذين ينتقصون أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم – في الصحف وغيرها يرون أن الوقت لم يحن بعد لانتقاص القرآن والسنة فرأوا أن تقليل شأن الصحابة الكرام عند الناس هو من أخصر الطرق لرد الكتاب والسنة كما قال أبو زرعة _رحمه الله تعالى_ " إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنة أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليُبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة " ا.هـ ([29]) .
وقال السرخسي _رحمه الله تعالى_ " فمن طعن فيهم فهو ملحد منابذ للإسلام دواؤه السيف إن لم يتب " ا.هـ ([30]) .
وقال الإمام محمد بن صُبيح بن السماك _رحمه الله تعالى_ لمن انتقص الصحابة " علمتَ أن اليهود لا يسبون أصحاب موسى -عليه السلام- وأن النصارى لا يسبون أصحاب عيسى -عليه السلام- فما بالك ياجاهل سببت أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ؟ وقد علمتُ من أين أوتيتَ لم يشغلك ذنبك أما لو شغلك ذنبك لخفت ربك ، ولقد كان في ذنبك شغل عن المسيئين فكيف لم يشغلك عن المحسنين ؟ أما لو كنت من المحسنين لما تناولت المسيئين ، ولرجوت لهم أرحم الراحمين ، ولكنك من المسيئين فمن ثَمَّ عبت الشهداء والصالحين ، أيها العائب لأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- لو نمتَ ليلك ، وأفطرت نهارك لكان خيرا لك من قيام ليلك ، وصوم نهارك مع سوء قولك في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فويحك لا قيام ليل ، ولا صوم نهار ، وأنت تتناول الأخيار فأبشر بما ليس فيه البشرى إن لم تتب مما تسمع وترى .. وبم تحتج يا جاهل إلا بالجاهلين ، وشر الخلف خلف شتم السلف لواحد من السلف خير من ألف من الخلف " ا.هـ ([31]) .
وقال ابن الصلاح _رحمه الله تعالى_ " إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومَن لابس الفتن منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يُعتد بهم في الإجماع " ا.هـ ([32]) .
ذكر فضلهم في كتب العقائد رفعا لشأنهم وعلوا لمنزلتهم :
قال الطحاوي _رحمه الله تعالى_ " ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم و لا نُفرط في حب أحد منهم ، ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم ، وبغير الحق يذكرهم ، ولا نذكرهم إلا بخير ، وحبهم دين وإيمان وإحسان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان " ا.هـ([33]).
وذكر الحميدي _رحمه الله تعالى_ أن من السنة " الترحم على أصحاب محمد -صلى
الله عليه وسلم- كلهم فإن الله عز وجل قال ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ )(الحشر:10) فلم نؤمر إلا بالاستغفار لهم ، فمن سبهم أو تنقصهم أو أحدا منهم فليس على السنة وليس له في الفيء حق ، أخبرنا غير واحد عن مالك بن أنس " ا.هـ([34])(/3)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله تعالى_ " ويمسكون عما شجر من الصحابة ، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب ، ومنها ما قد زيد فيه ، ونقص ، وغُيِّرَ عن وجهه ، والصحيح منه هم فيه معذورون ؛ إما مجتهدون مصيبون ، وإما مجتهدون مخطئون ... ، ولهم من السوابق ، والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم ؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات مما ليس لمن بعدهم ... ثم القَدْر الذي يُنكر من فعل بعضهم قليل نزر مغفور في جنب فضائل القوم ، ومحاسنهم من الإيمان بالله ، ورسوله ، والجهاد في سبيله ، والهجرة ، والنصرة ، والعلم النافع ، والعمل الصالح ، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة ، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم ، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم ، وأكرمها على الله " ا.هـ ([35]) وفي الختام لا نقول إلا كما قال الله تعالى (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) اللهم ارض عن أصحاب نبيك أجمعين واحشرنا وإياهم في زمرة سيد المرسلين والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين كتبه
-----
( [1] ) الاستيعاب 1/1
( [2] ) تفسير القرطبي 1/60 وروى نحوه أبو نعيم في الحلية 1/305 من قول ابن عمر رضي الله عنهما .
([3] ) العقيدة 1/81
( [4] ) رواه الطبري 20/2 والبزار وانظر : تفسير ابن كثير 3/370 الاستيعاب
1/13تفسير القرطبي 13/220 وبذلك فسرها سفيان الثوري. كما رواه عنه أبو نعيم في الحلية 7/77 وابن عساكر 23/463.
( [5] ) رواه سعيد بن منصور 5/ 435
([6] ) رواه عبد بن حميد وابن المنذر . تفسير ابن كثير 4/472 الدر المنثور8/418.
([7] ) فتح الباري 13/508 .
([8] ) رواه أحمد 1/379 والطيالسي (246) بإسناد حسن .
([9] ) رواه ابن سعد 1/318 والطبراني 25/8 قال الهيثمي " رجاله ثقات" المجمع 6/12.
([10] ) رواه البخاري (3470 ) ومسلم (2540) واللفظ له .
([11] ) شرح مسلم للنووي 16/93 شرح سنن ابن ماجه 1/15 تحفة الأحوذي 10/246 .
([12] ) فتح الباري 7/34 .
([13] ) عون المعبود 12/269 .
([14] ) تحفة الأحوذي 8/338 .
( [15] ) رواه البخاري ( 2509) ومسلم ( 2533 ) .
([16] ) التمهيد 20/251 فيض القدير 3/ 478 .
([17] ) رواه مسلم ( 2531 ) .
([18] ) تحفة الأحوذي 10/156 فيض القدير 6/296 .
([19] ) رواه أبو نعيم في الحلية 1/76 وابن أبي الدنيا في التهجد وقيام الليل /272والخطيب في الموضح 2/330 وابن عساكر 42/492 .
([20] ) رواه أحمد 5/54 والترمذي (3862 ) والبيهقي في الشعب 2/191 وقال الترمذي : ( هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ) ا.هـ .
([21] ) فيض القدير 2/98 .
([22] ) رواه الطبراني في الكبير 12/142 وفي الدعاء (2108) والخلال في السنة
(833) والقطيعي في زوائد الفضائل (8) والخطيب في التاريخ 14/241 من حديث أنس رضي الله عنه كما رواه الطبراني في الكبير 12/434 والأوسط (7515) وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر رضي الله عنهما والحديث حسنة الألباني رحمه الله
في الصحيحة (2340) .
([23] ) رواه أحمد في الفضائل 1/57 وابن أبي شيبة 6/405 وابن ماجه (162) وابن أبي عاصم في السنة 2/484 قال البوصيري في زوائد ابن ماجه 1/24" هذا إسناد صحيح " .
([24] ) رواه ابن عساكر 59/208 وانظر : منهاج السنة 6/227 .
([25] ) رواه ابن عساكر 59/141وانظر فتح الباري 13/86 عمدة القاري 24/215.
([26] ) شرح أصول الاعتقاد للالكائي 7/1252 الصارم المسلول 3/ 1058
([27] ) الصارم المسلول 3/1057 العقيدة 1/81
( [28] ) رواه ابن بطة في الإبانة /162.
([29] ) تاريخ بغداد 38/132 والكفاية /97 .
([30] ) أصول السرخسي 2/134 .
([31] ) رواه المعافي في الجليس الصالح 2/392.
([32] ) مقدمة ابن الصلاح /428 .
([33] ) عقيدة الطحاوي مع شرحها 2/689 .
([34] ) أصول السنة للحميدي بذيل المسند 2/176 .
([35] ) العقيدة الواسطية / 43(/4)
فضائل الصحابة وخطر الشيعة
الشيخ/ محمد حسان
** أسباب المقام الرفيع الذي اعتلاه الصحابة **
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فلا شك أن جيل الصحابة رضي الله عنهم أفضل الأجيال على الإطلاق، وأنهم خير الأمم بالنص القاطع من القرآن الكريم، حيث يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً الصحابة رضي الله عنهم: (( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ))[آل عمران:110].
والمتأمل في أسباب هذا المقام الرفيع الذي اعتلاه الصحابة رضي الله تعالى عنهم يجد أن هذا أمر يمكن في عظمة وجلالة المربي الذي رباهم صلى الله عليه وآله وسلم، فلك أن تتخيل! يعني: أي إنسان لو كان له شيخ عالم رباني يدله على الآخرة كيف يكون شعوره نحوه، فكيف إذا كان هذا المربي رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير من عبد الله، وخير من ربى؟! وهذا هو السبب الأول في تفضيل جيل الصحابة، أنهم ثمرة تربية وتنشئة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم، فهو خير النبيين، وأمته خير الأمم صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم.
أيضاً: ما كان يعلمه الصحابة رضي الله عنهم من الدين، كان يقترن في الواقع بالعمل بهذا العلم والثبات عليه، فمن ثم أثمر لهم ذلك، ما اتصفوا به من الصلاح والتقى والخير والفلاح.
ومن ذلك أيضاً أنهم آثروا الآخرة الرفيعة على هذه الدار الدنيا الوضيعة، فكانوا رضي الله تعالى عنهم في الآخرة راغبين، وفي الدنيا زاهدين، وأضف إلى هذا إيثارهم لبذل النفس لإعلاء كلمة التوحيد، ونشر هذا الدين الحميد، فكانوا رضي الله تعالى عنهم مؤثرين للجهاد، ونصبه على الراحة والدعة في حياتهم، ومؤثرين أنفسهم بشهادة الله عز وجل على الموت على فرشهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وقد امتدح الله تعالى أمة الصحابة قبل أن يخلقوا، وقبل أن يوجدوا في الكتب السابقة، وعلى ألسنة الأنبياء السابقين، فقال سبحانه وتعالى: (( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً ))[الفتح:29] فمدح ظاهرهم بقوله: (تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) وامتدح وزكى باطنهم بأنهم يعبدون الله مخلصين لوجه الله لا رياء الناس: (( يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ ))[الفتح:29]، فهذه الآية وكذلك قوله تعالى: (( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ))[آل عمران:110] فهي بعمومها تشمل أمة المسلمين وأمة الإسلام كلهم، لكن الصحابة رضي الله تعالى عنهم يدخلون فيها دخولاً أولياً؛ لأنهم هم المخاطبون أصالة بهذه الآيات الكريمات.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الناس خير؟ فقال عليه الصلاة والسلام: قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ...) إلخ الحديث، وهو حديث متفق عليه، وهو بلا شك نص في تفضيل الصحابة رضي الله عنهم على من جاء بعدهم، وكذا من سبقهم من غير الأنبياء والمرسلين عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي زمان يغزوا فئام من الناس فيقال: فيكم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم، فيفتح عليه، ثم يأتي زمان فيقال: فيكم من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم، فيفتح، ثم يأتي زمان فيقال: فيكم من صحب من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم، فيفتح)، فهذا أيضاً مما يدل على فضيلة الصحابة رضي الله عنهم.
**من أصول أهل السنة تجاه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين**
ومن ثم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم.(/1)
وهذا هو محور كلامنا، أن هذا من أصول العقيدة، يعني: ضمن موقف أهل السنة من الصحابة رضي الله عنهم ذكر في جميع المتون أو المصنفات التي صنفت في العقيدة فهي تتناول أمهات مسائل الإيمان، فعقدوا في كل مؤلفات العقيدة فصولاً أو فصلاً حول مكانة الصحابة رضي الله عنهم، ومعلوم أن أصول أهل السنة والجماعة تعني أنه لا يخالفهم فيها إلا من كان من الفرق الضالة، من الفرق النارية، أما الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وأهل الحق فإنهم لا يحيدون عن هذا الأصل أبداً.
فمن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم رضي الله تعالى عنهم، كذلك يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: اتفق أهل السنة على أن الجميع –يعني: على أن جميع الصحابة- عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة. هذا مع إيماننا بأنهم ليسوا بمعصومين في الجملة من الذنوب والسيئات، وإنما الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم كلهم عدول كما هو معلوم من أصول أهل السنة والجماعة.
وقد أشرنا مراراً من قبل أن كتب العقيدة إنما تتناول المسائل التي حصل فيها تفرق في الجانبين عن الوسط الذي هو أهل السنة والجماعة، فمن انحرف عن السلف في أي قضية من القضايا التي تضمنتها كتب العقيدة أو متون العقيدة فيكون هو الخارج عن المنهج السوي والمعتدل والوسط وهو منهج أهل السنة والجماعة.
** موقف الرافضة من الصحابة والمسلمين **
ففي شأن الصحابة أيضاً هناك طرفان ووسط، فالوسط هو ما أسلفنا من مقام الصحابة وتعظيمهم، وإمساك الألسنة عن الخوض فيما شجر بينهم، وكذلك الاعتراف بفضلهم ومكانتهم، فإذا اتجهنا إلى أحد الطرفين نجد فرقة من الفرق الضالة هلكت في الصحابة، وهي فرقة الروافض وغلاة الشيعة قبحهم الله، يقول فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: الرافضة أمة ليس لها عقل صريح ولا نقل صحيح -الرافضة هم الشيعة الهالكة- ولا دين مقبول، ولا دنيا منصورة، بل هم من أعظم الطوائف كذباً وجهلاً، ودينهم يدخل على المسلمين كل زنديق ومرتد، كما دخل فيهم النصيرية والإسماعيلية وغيرهم، فإنهم يعمدون إلى خيار الأمة فيعادونهم، وإلى أعداء الله من اليهود والنصارى والمشركين فيوالونهم. وإذا استقرأنا التاريخ فسنأتي بشواهد كثيرة جداً من ذلك، ولذا كان الرافضة -قبحهم الله وخذلهم، ونكس راياتهم دائماً- في كل عداوة للمسلمين وأهل السنة كانوا ينضمون إلى أعدائهم من اليهود أو النصارى أو المشركين، والحديث يطول في ذلك، وله مقام آخذ، ولكن يكفي أن نعرف تآمرهم مع التتار من أ جل قتل الخليفة العباسي، وعلماء من علماء المسلمين وخيارهم، وتدمير الخلافة العباسية في بغداد وغير ذلك من جرائمهم، يكفي أن نشير إشارة عابرة إلى دور الحروب الصليبية، وتحالفهم مع الصليبيين ضد أهل السنة في الدولة الفاطمية هنا في مصر.
كذلك يكفي أن نراجع تاريخ الشيعة وتسببهم في منع انتشار الإسلام في أوروبا، فقد أوشك العثمانيون مرات ومرات على أن يفتحوا كل أوروبا، وعلى الأقل شرق أوروبا التي كانت تابعة لإمبراطورية النمسا، وكانوا قد تغلغلوا داخل قلب أوروبا حتى وصلوا النهر الذي هناك، وحصلت مقتلة عظيمة كاد المسلمون أن يغزوا عاصمة هذه الإمبراطورية، وفتحها كان سيكون تقريباً سبباً في دخول معظم أوروبا في الإسلام، فهم الذين تسببوا في تقهقر الخلافة وتراجعها فكانوا كلما وصل الخليفة العثماني بجيش إلى هذا الموقع الحساس يطعنونه في ظهره، ويهددون الاستانة مقر الخلافة، فيضطر إلى أن يقطع الجهاد للعودة إليهم ليطاردهم، فكانوا مستديمة دائماً في قلب أهل الحق، وفي قلب الإسلام.
والتاريخ يعيد نفسه، وشواهدهم ناطقة بذلك وصارخة.
يقول الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والصحابة الذين تواليهم الرافضة نفر قليل بضعة عشر، وإما نحو ذلك، وأما العدد الأعظم من الصحابة فاستقدح فيهم الرافضة قبحهم الله؛ لأنهم يعتقدون أن عامة الصحابة قد ارتدوا، وصاروا مرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: يصفوا دين المسلمين بعبارات شنيعة جداً كزعمهم بأن أبا بكر وعمر هما صنما قريش وجبتاها وطاغوتاها، ويلعنون الصحابة ويعنون أبا بكر وعمر، ويلعنون أمهات المؤمنين، ويزعمون أن أبا بكر إنما صادف النبي عليه السلام؛ لأن كاهناً في الجاهلية أخبره بأنه سيخرج نبي، وأنك إن تقربت منه سوف تلي الحكم من بعده، إلى آخر هذه الأباطيل والخرافات التي يقوم عليها جل دينهم، فعامة دين النصارى قائم على خرافات وأكاذيب وأحقاد وزعم باطل وزائف!(/2)
يقول شيخ الإسلام: وأصل قول الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي رضي الله عنه نصاً قاطعاً... وأنه –أي: علي- إمام معصوم، ومن خالفه كفر، وأن المهاجرين والأنصار كفروا النص وكفروا بالإمام المعصوم، واتبعوا أهواءهم وبدلوا الدين، وغيروا الشريعة، وظلموا واعتدوا، بل كفروا إلا نفراً قليلاً، إما بضعة عشر أو أكثر، ثم يقولون: إن أبا بكر وعمر ونحوهما ما زالوا منافقين، يعني: منذ البداية ما دخلوا في الإسلام مخلصين والعياذ بالله، إنما يزعمون أنهم كانوا من المنافقين.
بل ومنهم من قال: إنهم آمنوا ثم كفروا بعد ذلك، وأكثرهم يكفر من خالف قولهم، ويسمون أنفسهم المؤمنين، ومن خالفهم كفاراً. هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فهم المؤمنون، أما نحن فتارة يسموننا الناصبة، وتارة يسموننا العامة، وغير ذلك من الألقاب، وفي كل الأحوال هم يعدوننا كفاراً، فنحن في نظرهم كفار لأننا لا نؤمن بالإمام بالأئمة ولا الإثني عشر.
** الرافضة يعادون المسلمين ويوالون أعداءهم **
ويجعلون مدائن الإسلام التي لا تظهر فيها أقوالهم دار ردة، أسوأ حالاً من مدائن المشركين والنصارى، فلهذا يوالون اليهود والنصارى والمشركين على بعض جمهور المسلمين، ومنهم من ظهرت أمهات الزندقة والنفاق كزندقة القرامطة الباطنية وغيره، ولا ريب أنهم أبعد الطوائف عن الكتاب والسنة، ثم يقول شيخ الإسلام: ولهذا ذكر العلماء أن الرفض أساس الزندقة، فهذا المذهب هو أساس الزندقة، وأن أول من ابتدع الرفض إنما كان منافقاً زنديقاً، أول من أسس هذا هو عبد الله بن سبأ، فإنه إذا قدح في السابقين والأولين فقد قدح بنقل الرسالة أو فهمها أو في اتباعها، لأن هدف الشيعة من الطعن في الصحابة هو التوصل إلى الطعن في الدين الذي نقله الصحابة؛ لأنه إذا كان الصحابة هم شهود الشريعة الذين نقلوها إلينا، فبتالي الطعن فيهم يعني: الطعن في الشريعة وعدم الوثوق بها، ولذلك قال الإمام الرضا رحمه الله تعالى: [[إذا رأيت الرجل يسب أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، فإنما أدى إلينا هذا الكتاب والسنة]] يعني: الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقال: [[إنما يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليعطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة]].
طبعاً: نحن نعلم جميعاً نعلم ما ورد في فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم على العموم، أو على الخصوص كالمهاجرين والأنصار، أو العشرة المبشرين بالجنة أو الخلفاء الراشدين، أو غيرهم من آحاد الصحابة رضي الله عنهم، لكن الذي نريد أن نلفت النظر إليه أنه حتى ولو لم يثبت في حق واحد من الصحابة رضي الله تعالى عنه خصوصية له بذاته، فلا يعني هذا نفي الفضيلة عنه، فإننا كما نقول مثلاً في فضائل فلان، فلا يعني أن غيره ليس له فضيلة فعندما نقول: لم يصح شيء معين في فضل قراءة (يس) بخصوصها مثلاً، هل يعني ذلك أن سورة (يس) ليس لها فضيلة؟! هذا جهل، بالعكس لها فضائل كثيرة جداً، ثابتة في القرآن، تشير إليها كل آية فيها مدح وفضيلة من قرأ القرآن وتلا كتاب الله سبحانه وتعالى، كذلك فيها كل حديث ثبت فيه فضل قراءة القرآن عموماً، فأي حرف يقرؤه الإنسان من القرآن له أجر معلوم: (من قرأ آية من كتاب الله فله بكل حرف عشر حسنات ...) إلخ الحديث المعروف.
فعموم القرآن لا شك أن له هذه الفضائل، أما الخصوص فقد يفضل بعضه على بعض كبعض الفضائل الخاصة.
كذلك الصحابة: كون بعضهم لم يثبت فيه فضيلة معينة فهذا لا يعطي أحداً الحق في أن يسلبه فضيلة الصحبة، فإن فضيلة الصحبة لا تقاربها ولا تدانيها فضيلة على الإطلاق.
فهذه كانت مقدمة استعراض: نرى أنه لابد منه للفت النظر إلى هذه الظاهرة التي انفتحت، وهي ظاهرة انتشار مجموعة من الأشرطة: قصص من التاريخ الإسلامي للأخ الدكتور: طارق السويدان، فكثرت القصص وانتشرت الروايات عنه، ولكن في الحقيقة أن الأمر يحتاج إلى نوع من الفرملة، ونأخذ الأمر بحذر، حتى وإن كان في هذه الأشرطة كثير من الخير والتوضيح وكثير من البيان، لكن هناك مسألة مبدأ لابد أن يكون هو الأساس، والخروج عن هذا المبدأ ينبغي أن يكون هو الاستثناء.
** وقفات هادئة مع أشرطة قصص من التاريخ **
أحاول أن أتلو هذه الرسالة: وقفات هادئة مع أشرطة قصص من التاريخ الإسلامي. للشيخ خالد بن محمد الغيث، قسم التاريخ الإسلامي في جامعة أم القرى، يقول: استمعت إلى أشرطة قصص من التاريخ الإسلامي للداعية الفاضل الدكتور: طارق السويدان، فألفيتها قد خصصت للحديث عما شجر بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، مع أن السلف رحمهم الله قد أوصوا بالسكوت عما شجر بينهم، وقيدوا الحديث في هذه المسألة الشائكة بضوابط محددة ينبغي مراعاتها عند تناول هذا الموضوع.(/3)
فلما كانت أشرطة قصص من التاريخ الإسلامي قد انتشرت بين عامة الناس دون أن يراعى فيها ما قرره أهل العلم من ضوابط عند الحديث في هذه المسألة فإنه تحتم تقويمها، والرد عليها في وقفات هادئة تأتي من باب التواصي بالحق الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى به، وختاماً لا أقول إلا كما علمنا إلهنا ومولانا: (( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ))[الحشر:10] وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الوقفة الأولى: حول اختيار الموضوع، سوف نلاحظ أن بعض هذه الوقفات هي وقفات موضوعية، وبالذات موضوع الخروج عن الأصل وهو: السكوت عما شجر بين الصحابة، ثم بعد ذلك قضايا جزئية إن كانت تستحق تفصيلاً أكثر من هذا، لكن سأشير إلى الأمور المهمة في غاية الأهمية عند تناول هذا الأمر.
يقول: لم يوفق المحاضر في اختيار الموضوع الذي يتحدث عنه، حيث ترك جميع الصفات المشرقة من سير الصحابة رضي الله تعالى عنهم، واختار الحديث عما شجر بينهم وطرحه على العامة في أشرطة سيارة. والحقيقة هذا هو لب الموضوع أن تطرح هذه القضايا بهذه التفاصيل على عموم الناس، وفي أشرطة سيارة تنتشر في كل مكان، وكلها تتناول فقط حوالي ثمانية أشرطة، كلها مخصصة في الكلام فيما شجر بين الصحابة رضي الله تعالى أجمعين.
يعني: حتى لو كان لابد من الكلام في هذا الموضوع فله قيود وشروط، ويكون مع طلبة العلم أو المختصين، أما أن يطرح الموضوع وهذا الكلام طرحاً عاماً فقد لا تطيق قلوبهم كثيراً من الأشياء، وقد تحدث عند بعضهم نوعاً من البلبلة.
قلنا: الحقيقة أعتقد أن هذا الموضوع غير نافع؛ لأن الذي ينبغي أن نتكاتف من أجله هو نشر فضائل الصحابة رضي الله عنهم التي نطق بها القرآن الكريم، ونطقت بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ونطقت بها أعمالهم وأمجادهم، وحسناتهم إلى البشرية كلها، عن طريق فتح البلاد والجهاد في سبيل الله والتضحية بكل نفيس وغير ذلك، فهذا هو الأصل أن يكون الكلام عن الصحابة، وأن يغلب تماماً على الكلام إشاعة فضائلهم ومناقبهم وحسناتهم رضي الله تعالى عنهم.
** منهج أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة **
يقول: هذا ونظراً لأهمية هذه المسألة فلا بأس باستعراض طائفة من أقوال السلف رحمهم الله في هذا الموضوع المهم حتى يقف القارئ بنفسه على منهج أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين: سئل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عن القتال يوم الجمل ويوم صفين، فقال: دماء لم أغرس فيها يدي أغمس فيها لساني؟ وفي بعض الروايات أنه أتاه رجل وذكر أنه قد أرسل من لدن قومه يسألونه: ماذا يقول فيما شجر أو ما حصل بين علي ومعاوية رضي الله عنهما؟
قال: تلك دماء طهر الله منها يدي فلا أخضب بها لساني. ثم قال له: قل لهم: أقول فيهما قول الله تبارك وتعالى: (( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))[البقرة:134].
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، إلى أن قال الإمام أحمد: وترحم على جميع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم صغيرهم وكبيرهم، وحدث بفضائلهم وأمسك عما شجر بينهم. فهذه صفة من صفات المؤمن من أهل السنة والجماعة، الذين هم كما يقول شيخ الإسلام: نقاوة أهل الإسلام، وأفضل أهل الإسلام هم من كانوا محققين لمنهج أهل السنة والجماعة، فيقول: صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وترحم على جميع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم صغيرهم وكبيرهم، وحدث بفضائلهم وأمسك عما شجر بينهم. فانظر إلى هاتين المتقابلتين: حدث بفضائلهم إيجاباً، وأمسك عما شجر بينهم سلباً، فلا بد أن يجمع بين هذين الأمرين: أن يشيع ويزين المجالس بذكر فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وفي نفس الوقت يمسك عما شجر بينهم ولا يخوض في ذلك.(/4)
وقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله به في قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ))[الحشر:10] ومناسبة هذه الآية الكلام في كيفية مال الفيء، (( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ))[الحشر:7] ثم شرع عز وجل يبين من هم المستحقون من مال الفيء، فأول طائفة: (( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً ))[الحشر:8] بعد ذلك ذكر الطائفة الثانية وهم الأنصار بعد ما ذكر المهاجرين فقال: (( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ))[الحشر:9] ثم بين من هم الطائفة الثالثة الذين يستحقون من مال الفيء وهم من عدا المهاجرين والأنصار، ومن أتى بعد المهاجرين والأنصار بشرط، فإذا ما توفر هذا الشرط فلا يستحقون أن يعطوا من مال الفيء، فالذين يستحقون الفيء الصحابة: المهاجرون ثم الأنصار، ثم من يأتي بعدهما في الزمان إلى أن تقوم الساعة، لكن بشرط واحد: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) يشترط أن يكونوا محبين للصحابة، وأن يكونوا مجتهدين بالدعاء لهم: (( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ )) يعني: من صفتهم أنهم يقولون (( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ))[الحشر:10].
إذاً: فمن وجد في قلبه غلاً لأحد من الصحابة فليتهم نفسه، ولا يستحق مال الفيء، كما قال الإمام مالك أيضاً رحمه الله تعالى حينما استدل بقول الله تعالى: (( وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ ))[الفتح:29] فقال: من وجد في قلبه غيضاً للصحابة فهو كافر، وهذا رأي الإمام مالك وإن كان فيه نظر، التكفير مطلقاً في هذه القضية يحتاج إلى مزيد من الضوابط، ولذلك علق بعض المفسرين على عبارة الإمام مالك مستنكراً إياها فقال: إذا اشتد البياض صار برصاً، لكن ليس هذا موضوعنا الآن، إنما موضوعنا الاستدلال بهذه الآية.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، والمد: هو ما يملأ كفي الرجل المعتدل الكفين سواء كان حبوباً أو ذهباً أو كذا، فلو أن الرجل من غير الصحابة تصدق بمثل جبل أحد ذهباً، -جبل أحد طوله حوالي ستة كيلو متر- بكل كتلته من الذهب فلو تصدق به لوجه الله فلا يمكن أن ينال الثواب الذي كان يناله الصحابي بمقدار المد أو النصيف، لماذا؟
بفضل الصحبة التي شرفهم الله تبارك وتعالى بها.
يقول شيخ الإسلام: ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك -أي: أهل السنة والجماعة- لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، ولهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم.
فربما بعدهم من يعمل كبيرة لا تغفر لكن إذا فعلها واحد من الصحابة تغفر له، لماذا؟ لأن الصحابة عندهم من الحسنات المتوفرة ما يمحو السيئات مما ليس لمن بعدهم.
وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم خير القرون، وإن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم.
ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو: بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين؟(/5)
إن أصابوا فلهم فيها أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور لهم، ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جانب فضائل القوم ومحاسنهم، من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة والنصرة، والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما من الله به عليهم من الفضائل علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ولهذا أوصوا بالإمساك عما شجر بينهم؛ لأنا لا نسأل عن ذلك، لكن إذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل فلابد من الذب عنهم وذكر ما ...... بعلم وعدل.
يعني: قد يضطر المسلم إلى الكلام في الذب عن الصحابة والدفاع عنهم رضي الله تعالى عنهم إذا اضطرهم المبتدعون إلى ذلك، فإذا أظهر المبتدعون ما يقدح في الصحابة بالباطل يجب أن يذب عن الصحابة ويرد عنهم هذا الباطل.
** أعداء الله وتشويههم لتاريخ المسلمين **
وأقبح من المبتدعين من يجبرون التلاميذ والطلاب على دراسة مناهج مشبعة بالتنقيص من قدر الصحابة أو من قدر بعضهم، وتزوير التاريخ الإسلامي، وهذا مناهج مفضلة لكل من أراد أن يسمم عقول الأجيال بقطع الصلة بينها وبين سيرة الصحابة وجهادهم كي لا يتخذوا مثلاً أعلى، وليس هذا في الحقيقة فقط في حق الصحابة، وإنما هو في حق التاريخ الإسلامي بعامته، فهناك بعض الناس من يقوم بتشويه هذا التاريخ؛ لأن هذا القدح هم قد أعلنوا عنه في مؤتمراتهم ومؤامراتهم، أنه كي نقضي على المسلمين لابد أن نقطع صلتهم بأسلافهم وبأمجاد أسلافهم، ويشوهون هذه السير بكل ممكن، حتى صار هذه الأشياء من الأمور المسلمة، فمثلاً زعمهم في قصة التحكيم التي لم يتثبت أن عمرو بن العاص كان داهية ماكراً، وأما أبو موسى فكان غراً يخدع به، وأن عمرو بن العاص خدع أبا موسى وقال له: أنا خالعت صاحبي، وقال: أنا ثبت صاحبي، يعني: هذه القصة باطلة، والكلام الذي فيها يشهد ببطلانها، وأنه إذا كان أبو موسى يقول: خلعت صاحبي، يعني: خلعت أمير المؤمنين هل هذا حصل؟ كيف.. ليس له أن يخلعه، والثاني يقول: ثبت صاحبي، معاوية أصلاً ما كان أمير المؤمنين ولا كان يطمح في ذلك، وما كان ينبغي له ذلك في وجود علي رضي الله عنه، وإنما تاق إلى الخلافة بعد وفاة علي رضي الله عنه، فهي نفسها تحمل ما يدل على كذبها، وعلى ضعف أسانيدها، وغير ذلك من أمثال هذه الروايات في سير الصحابة، وأنهم كانوا دمية، وكانوا يتقاتلون من أجل المال والسلطة والسياسة والسيادة والرئاسة وغير ذلك، تشويهاً لتاريخهم، يعني: يضعون الحواجز، وكل ذلك لأجل ألا يقتدي المسلمون بالصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
طبعاً! كتب التاريخ عموماً تشوه تاريخ الصحابة بالذات، وتشوه التاريخ الإسلامي بعامة، يعني: كثرة الطعن في التاريخ الإسلامي، وإظهاره أنه كله عبارة عن قتل وذبح وصراعات، هذا كله خلاف الحقيقة، بل إنما حتى الدولة الأموية والدولة العباسية لابد أن الناس في زمانهم أشبه منهم بآبائهم، وكلما بعدوا عن القرون المفضلة كلما حصل نوع من الانحراف عن المنهج السوي، لكنه انحراف درجته كانت خفيفة بالنسبة لما نحن عليه الآن، وأضعف مثال للخلافة الإسلامية هي الخلافة العثمانية المتأخرة، لاشك أنه كان لها من الآثار الإيجابية ومن الأمجاد ما لا نطمح إلى عشر أعشاره اليوم، حتى الخلافة الأموية أو الخلافة العباسية ليست بالصورة المشوهة التي يصورونها، لكنها صحيح تسلط الضوء على الصراعات التي لم تخل منها أمة ولا يخلو منها زمان، لكن هذا لا يصرف النظر عن الخيرات التي كانت موجودة كالنهضة العلمية، والجهاد في سبيل الله، وفتح الفتوح، وأخلاق المسلمين والتزامهم وغير ذلك من فوائد هذه الدول، أقيم فيها الحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى، وتطبيق شريعة الله، وقمع أهل البدعة والضلال، فضلاً عن مجاهدة الكفار في أطراف الأرض، كل هذا يجحد ولا يسلط عليه الضوء، وإنما يسلط على صورة ما يعلق في أذهان الناس كالجواري والغناء والمعازف وكل هذه الأشياء والأكاذيب والخمر وكل هذا كذب وطعن.
إذا رجعت إلى سيرة هارون الرشيد رحمه الله تعالى وجدت العجب في عبادته ودفاعه أو جهاده في سبيل الله تعالى، كان يحج سنة ويجاهد سنة، طوال عمره، تسليط الضوء فقط على السلبيات هذه مؤامرة مقصودة، وأما التاريخ فهو حافل بالإيجابيات، لكن لا يسلط الضوء على الإيجابيات.(/6)
يقول الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: كما تقرر عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وما زال ذلك يمر بنا في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف وبعضه كذب، وهذا فيما بين أيدينا وبين علمائنا، فينبغي طيه وإخفاؤه، فهذه فتوى الإمام الذهبي في عملية تفتيش وتنقيش من خلال التراث المنقول عما شجر بين الصحابة، يقول: وما زال ذلك يمر بنا في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف وبعضه كذب، وهذا فيما بين أيدينا وبين علمائنا، فينبغي طيه وإخفاؤه بل إعدامه؛ لتصفوا القلوب، وتتوفر على حب الصحابة رضي الله عنهم والترضي عنهم، وكتمان ذلك –وتأملوا هذه العبارة لأنها في غاية الأهمية- وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء.
كتمان هذا الأمر وعدم الخوض فيه وعدم إشاعته، وكتمان ذلك متعين يعني: واجب.
قال: وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء، وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم كما علمنا الله حيث يقول: (( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا ))[الحشر:10] فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع منهم، وجهاد محاء، وعبادته ممحصة.
وقال أيضاً: فأما ما تنقله الرافضة وأهل البدع في كتبهم من ذلك فلا نعرج عليهم، فأكثره باطل وكذب وافتراء، فدأب الروافض رواية الأباطيل أو رد ما في الصحاح والمسانيد. الروافض بين أمرين عند نقل الأخبار: إما ترويج الأباطيل و الخرافات والأساطير والكذب المحض، فهم أكذب فرقة في التاريخ مطلقاً، فهم إما أنهم يعرضون الأباطيل والأساطير والخرافات والأكاذيب، وإما يردون الصحاح والمسانيد، لأنهم لا يعتدون بشيء من كتب السنة عندنا.
وقال ابن حجر الهيثمي رحمه الله تعالى: ويجب الإمساك عما وقع بينهم من الاختلاف صفحاً عن أكثر المؤرخين لاسيما الروافض وضلال الشيعة والمبتدعين القادحين في أحد منهم.
مما سبق نخلص إلى أن الأصل في منهج أهل السنة والجماعة هو السكوت عما شجر بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لكن إن دعت الحاجة إلى الحديث في هذه المسألة الشائكة فينبغي مراعاة الضوابط التالية التي ذكرها أهل العلم في ثنايا حديثهم.
قبل أن نستطرد في مثل هذه الضوابط نشير أيضاً إلى قول الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة: ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان. هذا ما قاله الإمام الطحاوي في الفصل الخاص بعقيدة أهل السنة في الصحابة رضي الله عنهم.
قوله: (ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم) هذه العبارة يشير بها الإمام الطحاوي رحمه الله إلى الرد على الروافض والنواصب، فرقتان على طرفي نقيض، فالروافض يلعنون الصحابة رضي الله عنهم، أو بصورة أخرى: يفرطون في حب بعض الصحابة كعلي مثلاً، ويكفرون باقي الصحابة رضي الله عنهم إلا قليل.
وقد أثنى الله ورسوله على الصحابة ووعدهم بالحسنى، فقال عز وجل: (( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ))[الفتح:29] وقال تبارك وتعالى: (( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ))[التوبة:100] السابقون الأولون هم الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وقيل: هم من صلى إلى القبلتين، ولا دليل عليه، والصلاة إلى القبلة منسوخة، وليس فيه فضيلة، لأن النسخ ليس من فعلهم، وقال تبارك وتعالى: (( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ))[الحديد:10].(/7)
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أحداً من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) وذلك لأن عبد الرحمن من السابقين الأولين، وهم أخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان، وهم الذين أسلموا بعد الحديبية، وهؤلاء أسبق ممن تأخر إسلامه إلى فتح مكة، فسموا الطلقاء منهم أبا سفيان وابناه يزيد ومعاوية رضي الله عنهم، فالمقصود أنه نهى من له صحبة أخرى يعني: متأخرة أن يسب من له صحبة أولى الذي سبقه، فكيف بحال من ليس من الصحابة مع الصحابة؟! يعني: كان هذا الخطاب: (لا تسبوا أحداً من أصحابي) لمن وجهه النبي عليه السلام؟ وجهه إلى خالد بن الوليد حينما سب عبد الرحمن بن عوف، مع أن كلاهما من أصحابه، لكن فضل عبد الرحمن لأنه من السابقين الأولين، وأما خالد فهو ممن تأخر إسلامه، فإذا كان النبي نهى من له صحبة أخرى متأخرة عن أن يسب من له صحبة أولى، فكيف بحال من ليس له صحبة لا أولى ولا أخرى؟ لا شك أنه أولى أن ينزجر عن الخوض في شأن الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) وقول الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم. يعني: لا نتجاوز الحد في حب أحد منهم كما فعلت الشيعة فنكون من المعتدين، قال تعالى: (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ))[النساء:171]، وقد غلت الشيعة في بعض الصحابة وبالذات أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنهم غلواً شديداً.
ولا نتبرأ من أحد منهم كما فعلت الروافض أيضاًَ، فعندهم لا ولاء إلا ببراء، يعني: لا يتولى أحد أهل البيت حتى يتبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، أما أهل السنة فهم يوالونهم كلهم وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإنصاف، لا بالهوى والتعصب، وهذا معنى قول بعض السلف من الصحابة والتابعين كأبي سعيد الخدري رضي الله عنه وإبراهيم النخعي والحسن البصري والضحاك: الشهادة بدعة والبراءة بدعة. يعني: الشهادة على معين من المسلمين أنه من أهل النار أو أنه كافر بدون العلم بما ختم له سبحانه وتعالى له به.
** خدعة التقريب بين السنة والشيعة وتورط الداعين إليها **
ثم قال: ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم ولا نذكرهم إلا بخير وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان. طبعاً هذه المسألة كما قلنا هي من أصول الإيمان عند أهل السنة، ولم ينحرف عنها إلا من كان شاذاً خارجاً عن الجماعة، وعن إجماع الأمة، فعملية تهوين هذا الأمر هذه خدعة كبرى، ولا يتورط فيها في الغالب إلا جاهل بأشياء كثيرة، يعني: جاهل بعقيدة أهل السنة التي ينتمي إليها اسمياً، انتماء مسطحاً، ليس له أي أعماق، انتماء، اسمه فقط أنه سني، لكن في الحقيقة هذه من أصول الدين والإيمان، فبعض الناس حينما يتكلمون في موضوع التقريب بين السنة والشيعة، والكفار يتحدون علينا، فيقولون: ونحن ينبغي أن ننسى خلافاتنا فضلاً عن أن نذكر بعض الموغلين في الدس، فيورطون أنفسهم في كلام لا يدركون مغزاه، فيقولون: نتعاون مع الشيعة فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه. مصيبة ولم يعرف ولا يدري ما يقول، إنما نطق بهذه العظيمة، لأن معنى تقول: نتعاون فيما اتفقنا فيه، لكن كيف تعذرهم فيما اختلفنا فيه؟! تعذرهم في سب أبي بكر وعمر وفي تكفير الصحابة، وفي الاعتقاد بأن القرآن الحقيقي خلاف القرآن الموجود بين أيدينا الآن! وفي عصمة الأئمة! وفي كذا وكذا من طاماتهم! فهذا نقول فيه: إنه جاهل بالإسلام، وجاهل بعقيدة أهل السنة، وجاهل بتاريخ الرافضة الذي يعجز أن يقدم دليلاً واحداً يبرئ الرافضة من خيانتهم لأمة المسلمين في كل العهود، وهذا الكلام يكون الشخص الذي يقع فيه ويتورط فيه في أحسن أحواله إنسان جاهل ساذج منخدع، وأما إن كان يعلم فهذه مصيبة.
إن كنت لا تدري فهذه مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
فالمصيبة أعظم؛ لأن معناه أنه يخون الأمة، وكم جلب دعاة التقريب بين السنة والشيعة من مصائب وبنوا للشيعة جسراً عبروا عليه إلى جوار العالم الإسلامي! وكم جلبت لنا فكرة التقريب هذه من مصائب! لأن الشيعة ليس لهم غير مفهوم واحد للتقريب، وهو تقريب أهل السنة للشيعة على سبيل القطع والجزم يدل عليه بشواهد كثيرة جداً من أئمتنا، فهم قد حاولوا أن يحسنوا الظن بالشيعة، ثم انكشف لهم الأمر فرجعوا يحذرون المسلمين من خيانتهم.(/8)
فالذي نقطع به أن هؤلاء القوم التقريب عندهم له معنى واحد فقط لا ثاني له، وهو تقريب السنة إلى الشيعة، ولكن لا يعرفون على الإطلاق، أو لا يريدون بهذه الكلمة أبداً تقريب الشيعة إلى السنة، فالتقريب له معنى واحد هو أن يتنازل أهل الحق عن عقيدتهم ويتابعوهم على باطلهم، أما العدل فليس عند الشيعة كما كان عندنا، فلذلك عملنا وحدة وطنية مع الشيعة، وهذا كان زمان فكرة التقريب وانتعشت حتى أقحم المذهب الجعفري في دراسات الأزهر ويا أسفاه! وحتى صدرت فتوى مؤلمة موجعة من أكبر مرجع ديني في مصر، يقول فيها: إنه يجوز التعبد بمذهب الشيعة الإثني عشرية كسائر المذاهب الأربعة. ويجوز للإنسان أن ينتقل من مذهب إلى آخر بحيث يغير مذهبه من مذهب حنبلي أو شافعي مثلاً إلى جعفري فلا حرج، وهذه خطيئة تاريخية، ليس خطأ شخصياً، خطيئة تاريخية نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعفو عن من تورط وورط المسلمين فيها، وذلك كان في العام الذي قامت فيه -ثورتهم ثورة الخميني عليه من الله ما يستحقه- في نفس العام كانت هذه الفتوى أول ما صوروها توزع بملايين النسخ في موسم الحج، وهذه الفتوى صادرة من الأزهر بصورة رسمية حتى أنها توزع على أهل السنة وسهلوا لها الغزو الفكري للرافضة.
فعلينا أن ننتبه لهذا الأمر ولا نقبل أبداً من أي شخص كائناً من كان ممن ينادي على نفسه بالجهل الفاحش، وأنه ما تحكمه إلا العاطفة فقط، لكن لا تحكمه بصيرة ولا علم ولا وعي، وأما أهل السنة والجماعة ممن ما زالوا ينددون بالشيعة يعتبرون بمن قبلهم، يعني: حاولوا وحاولوا وفشلوا ابتداء من الشيخ رشيد رضا رحمه الله، وانتهاء بالأستاذ سعيد حوى في البداية أيضاً أثنى على الشيعة وكذا وكذا.. ثم في الآخر لما اكتشف الدجل والغش والخيانة أصدر كتابه الرائع: الخمينية شذوذ في العقائد وشذوذ في الأحكام.
والتجارب كثيرة ومريرة أن الشيعة لا أمل فيهم، كما كنت أذكر فضيلة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى عن الشيعة في التقريب فقال: هؤلاء لا يرجى منهم توبة إلا كما ترجى توبة اليهود، لا ترجى توبة الشيعة إلا كما ترجى توبة يهودي، لكن قليل جداً، يعني: حتى لما تنظر إلى أهل الكتاب الذين دخلوا في الإسلام تجدهم نوادر قلة، وذلك من فمن قسوة قلوبهم يندر منهم الإسلام والتوبة، لكن يرجى توبة الله التي هي التوفيق الرباني والاختيار الإلهي، لكن هل لهم توبة كتوبة العصاة أو غيرهم من أهل البدع؟ لا، قال: هم كاليهود لا ترجى منهم توبة.
التنازل في هذا الموقف المحوري من أعمدة وعقيدة أهل السنة أنه غير قابل للتنازل وغير قابل أبداً لأن نعذرهم فيه، فأفضل عذر للشخص الذي يقول: يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه مع الشيعة أنه جاهل، هذا أفضل عذر له، لأنه كيف نقول هذا نعذرهم؟ في سب الصحابة وتسمية كلابهم بأسماء الصحابة رضي الله عنهم ولعن الصحابة، وعندهم: لعن أبي بكر وعمر أفضل من التسبيح؟!!
وأنتم إذا طالعتم كتب شيخ الإسلام -وهو من أخبر الخلق بالشيعة قبحهم الله- ففيها عبارات لشيخ الإسلام كأنه يعيش فينا في كل عصر، من عبارات شيخ الإسلام يقول في شأن الشيعة يقول: يعظمون المشاهد ويهجرون المساجد. كلمة قالها منذ قرون، لكن أي إنسان يذهب لعمرة أو لحج ينظر الشيعة كيف يفعلون! وأنت خارج من المسجد النبوي من صلاة الفجر تراهم قادمين أفواجاً من جهة البقيع، يعني: البقيع أهم شيء عندهم، ويهجرون المساجد فلا يهتمون بصلاة الجماعة، أهم شيء يطلبونه، وأكثر ما ينكرونه على الوهابية هدم البنيان الذي كان على قبور الصحابة، وما زالوا إلى اليوم يشتمون الوهابية للسبب هذا.
الشاهد أنهم فعلاً يعظمون المشاهد ويخربون المساجد، لا يعمرون بيوت الله سبحانه وتعالى، إنما أهم شيء عندهم الذهاب إلى البقيع والبكاء فالمناديل مبتلة من شدة البكاء والصراخ، ثم بعد أن تنتهي المهمة انتهى الأمر ولا كأن شيئاً حصل وهذا يذكرنا بقول من قال من السلف رحمه الله تعالى: إن الفاجر إذا كمل فجوره ملك عينيه، فمتى شاء أن يبكي بكى أو كما قال، كأنها آلات يشغلها بواسطة زرار، يشتغل كله ويبكي ويخرج المناديل، وأول ما يكمل انتهى الأمر، والزرار انقفل، ويعود بصورة طبيعية.(/9)
فأكرر أن التنازل في موضوع الشيعة تنازل عن قضية أساسية ومحورية من صلب عقيدة أهل السنة والجماعة، وأن الخداع بالتقريب، ونقول لدعاة التقريب: ائتونا بدليل واحد فقط على أنهم يقصدون بالتقريب شيئاً غير تقريب أهل السنة و الجماعة إليهم، والمصريون بالذات من الشعوب التي عندها قابلية لمرض التشيع؛ لأن المصريين بشؤم الدولة الفاطمية الملحدة الكافرة زرعت في عواطف المصريين الميل إلى الشيعة، لأن الشيعة كانوا خبثاء جداً حينما أرادوا أن يتقربوا من المصريين تقربوا عن طريق تعظيم أهل البيت، وتباع كثير من الكتب التي ما زالت باقية إلى اليوم، فهم فالشيعة عندهم أمل أن يستردوا مصر وتعود لهم الدولة الفاطمية الخبيثة حتى يقول بعض شيوخ الشيعة في المصريين لما قابلوه في أحد المؤتمرات قال له: نحن نعدكم في مصر مثل الشيعة. سهل جداً اللعب على هذا الوطن، وقد تشيع للأسف الشديد، وهذا أمر ما كنا نتخيله أن يتشيع بعض الشباب المصري، وأحدث شيعي مصري انتكس من أهل السنة والجماعة إلى عقيدة هؤلاء الضلال المجرمين رجل صحفي يدعى: صالح الورد... وهو يؤلف كتباً هي موجودة في الأسواق، وأخبثها على الإطلاق: أهل السنة والجماعة شعب الله المختار. يعني: يشبهنا باليهود، ويشتم أهل السنة والجماعة ويطيل سبه في حقهم، والكتاب موجود.
وهذا حديث نرجو إن شاء الله أن يكون له تفصيل فيما بعد- لكن هذه إشارات عابرة تتعلق بهذه القضية، فنحن لا نفرط بحب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم.
يقول الطحاوي رحمه الله تعالى: ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان. فحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دين وإيمان؛ لأنه امتثال لأمر الله الذي أمر النبي في هذه النصوص، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله تعالى، ومن آذى الله يوشك أن يأخذ).
** شروط وضوابط الإمساك عما بين الصحابة **
نعود إلى الشروط التي ذكرها الشيخ خالد بن محمد الغيث فيما يتعلق بشروط السكوت عما حصل بين الصحابة، يقول: الأصل في منهج أهل السنة والجماعة هو السكوت عما صدر بين الصحابة رضوان الله عليهم، لكن إن دعت الحاجة إلى الحديث في هذه المسألة الشائكة فينبغي مراعاة الضوابط التالية التي ذكرها أهل العلم في ثنايا حديثهم، ولم تأت ضرورة شرعية تستدعي مناقشة هذا الأمر، كالمنافحة عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإظهار أمرهم، والرد على أهل البدع القادحين في أحد منهم. فهذا فعلاًَ مبرر أو مسوغ قوي للجهر في الكلام في هذه الأمور للدفاع عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، مثل ذلك إذا كانت المناهج التعليمية مفعمة بالسموم التي تحاول أن تنال من مكانة الصحابة، فلا شك أن هذا من المسوغات للكلام والتوضيح لتبرئتهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
ثانياً: أن من يتصدى لهذا الأمر يجب عليه أن يتسلح بالحجة والبرهان حتى لا يفتي بغير علم، وبالذات علم الأسانيد وعلم الحديث، وتنقيح الروايات صحيحها من ضعيفها، وحقها من باطلها، الآن هذه آخر الأخبار كما يقولون: وما آفة الأخبار إلا رواتها.
لابد أن من يتكلم في هذا الموضوع ألا يقفز فوق الاعتبارات العلمية التي وضعها العلماء في قبول الأخبار، أما من يكون في ذلك حاطب ليل يحفظ كل بيضاء شحمة وكل سوداء فحمة، لابد أن ينقش وأن يفتش وأن يكون متسلحاً بالطرق العلمية التي بها يمحص الصحيح من الضعيف، فمن يتصدى لهذا الأمر يجب عليه أن يلزم العدل والإنصاف حتى لا يظلم نفسه ولا يظلم غيره.
من شروط هذا الأمر الإمساك عن مناقشة هذا الأمر والتحدث به أمام العامة، فهذا ليس مما يعني العوام، فمن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فالخوض في تفصيل هذه المسائل، وتفاصيل كذا وكذا هي أحوال تصدم عواطف العوام، مع جهلهم بهذه الأصول التي ذكرناها، وأن الصحابة معظم ما روى عنهم من الأخباريين فيه كذب كثير، وإن صح منه شيء فهم كلهم ليسوا معصومين، ولكن يجب أن يحمل على أحسن المحامل، ويؤمن إيماناً جازماً أنهم كانوا مجتهدين، وأنهم يدورون بين التأويل وبين الخطأ، فلهم أجر واحد وخطؤهم مغفور لهم بجانب ما لهم من الفضائل والأعمال الصالحة والبلاء في سبيل الله وغيره، مما يمحو نحو هذه السيئات.
** مآخذ على طارق السويدان في أشرطته المتحدثة عن الصحابة **(/10)
فهذا مبدأ مهم جداً، وهذا هو الذي أخذه على المجموعة من الأشرطة كثير من العلماء، أن هذا ينافي منهج أهل السنة والجماعة، ليس المقياس أن يلقى الشريط رواجاً عند العوام، هذا غير صحيح، لأن بعض الناس يقول: قد انتشر وشاع وتلقته الأمة بالقبول، ليس هذا هو المقياس، ولكن المقياس هو أصول المنهج السلفي أن هذه الأمور مما لا ينبغي إثارتها أمام العوام على هذا المدى وعلى هذا النطاق الواسع إلا بالشروط التي ذكرنا.
• زعمه أن أوثق المراجع تاريخ الطبري:
ثم أخذ عليه في الوقفة الثانية: أنه قال: لعل من أوثق المراجع ما كتبه الإمام العظيم الطبري رحمه الله تعالى. فيقول: هذه المقولة لا يسلم له بها؛ لأن الطبري قد سار في تاريخه على منهج الجمع، فقيد فيه الغث والسمين من الأخبار دون اشتراط الصحة ذلك، بل إنه رحمه الله نبه إلى هذه المسألة في مقدمة تاريخه حيث قال: فلا يخلو كتابة هذا من خلل ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه؛ من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا وإنما أتي من قبل بعض الناقلين إلينا، وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا، لأن الراوي متى ما ذكر الخبر بإسناده فقد برئت منه عهدته، لأنه سرد الخبر بالآلة والوسيلة التي تعين علي التثبت من صحة الحديث، فإذاً: لا عهدة عليه.
ثم يقول: فإن تلك المقولة التي ذكرها المحاضر عن تاريخ الطبري تبين المنهج الذي سار عليه في مناقشة ما صدر بين الصحابة رضي الله عنه، وهو منهج لا يصمد أمام المنهج العلمي، فإننا نبني المسائل على مجرد النقل من المصادر دون نقد أو تمحيص أمر لا تحمد عقباه، ولذلك حذر منه العلماء، وفي ذلك يقول ابن خلدون رحمه الله: وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمؤلفين وأئمة النقد من المغاليط في الحكاية والوقائع؛ لاعتمادهم على مجرد النقل غثاً أو سميناً.
يقول ابن خلدون: أما بعد فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأجيال، إذ هو في ظاهره لا يزيد عن أخبار عن الأيام والدول، والسوابق والقرون الأول، تنمو فيها الأجيال وتضرب فيها الأمثال، وتطرق بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تخللت بها الأحوال، وقد تفعل الدول فيها ال........، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الامتحان وحان منهم الدوان، هذا في ظاهره، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليم للكائنات ........، وعلم بكيفيات الوقائع .........ز، فهو بذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يدع في علومها ......
• إثارة تولية عثمان لبعض أقاربه:
يقول في الوقفة الثالثة: إثارة المحاضر قضية تولية عثمان رضي الله عنه لأقاربه، هذا مما أخذه المتمردون على أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، قام الشيخ خالد الغيث بسرد أسماء الولاة في خلافة عثمان رضي الله عنه، ذكر واحداً وخمسين من الولاة عمال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه على البلاد:
سعد بن أبي وقاص في الكوفة.
أبو موسى الأشعري في البصرة من الكوفة.
المغيرة بن شعبة، عمرو بن العاص، ثم وضع رمز (ق) أمام أي واحد من أقارب عثمان رضي الله عنه، ثم انتهى إلى أن قال: مما سبق نلاحظ أن عدة الولاة من أقرباء عثمان رضي الله عنه تقارب سبع الولاة الذين ولاهم، وحتى هذا السبع معظمهم من الصحابة الذين تولوا مناصب قبل خلافة عثمان رضي الله عنه مثل معاوية مثلاً وغيره، وهذه قضية ضئيلة قياساً على كثرة أقرباء عثمان رضي الله عنهم، مما يدل على أنه كان يختار من يتوسم فيهم الكفاءة الإدارية أو العسكرية منهم أو من غيرهم، وكذلك أن عهد عثمان رضي الله عنه كان عهد جهاد وفتوحات، مما يستوجب تجديد جميع طاقات الأمة وعدم تعطيلها، فتولية الأقارب لم ينفرد به عثمان رضي الله عنه، وكذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بولاية وإما بمال.(/11)
وقال أيضاً: ونحن لا ننكر أن عثمان رضي الله عنه كان يحب بني أمية، كما أننا لا ننكر أن علياً ولى أقاربه. يقول شيخ الإسلام: فوجدنا علياً إذ ولى قد استعمل أقاربه، ابن عباس على البصرة، وعبيد الله بن عباس على اليمن، وقثماً ومعبداً ابني عباس على مكة والمدينة، وجعل ابن هبيرة وهو ابن أخته أم هانئ بنت أبي طالب على خراسان، ومحمد بن أبي بكر وهو ابن امرأته وأخو ولده على مصر، فتولية عثمان رضي الله عنه لأقاربه لم تمنعه من إقامة الحدود عليهم أو عزلهم إن أهملوا، فقد أقام حد الخمر على الوليد بن عقبة رضي الله عنه وعزله عن الكوفة، كما أنه عزل سعيد بن العاص رضي الله عنه عن الكوفة حين أخرجه منها بعض أهلها، وعين عليها من يحبون. وبالتالي شيخ الإسلام لفطانته وبصيرته يعلق على هذا الأمر، فيقول: وهو من عزل سعيد بن العاص رضي الله عنه عن الكوفة حينما أخرجه منها بعض أهلها وعين عليهم من ارتضوه وأحبوه.
ويقول شيخ الإسلام: مجرد إخراج أهل الكوفة لا يدل على ذنب يوجب ذلك، فإن القوم كانوا يثورون على كل وال، أهل العراق والشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق كما وصفهم الحجاج، فإن حدث أنه عزله عن الكوفة فليس معناه أنه يستحق العزل أو أنه أتى شيئاً سيئاً أو ذنباً، فإن القوم كانوا يقومون على كل وال، وقد قاموا على سعد بن أبي وقاص وهو الذي فتح البلاد، وكسر جنود كسرى، وهو أحد أهل الشورى، ولم يتول عليهم نائب مثله، وقد شكو غيره مثل عمار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص والمغيرة بن شعبة وغيرهم، ودعا عليهم عمر بن الخطاب فقال: اللهم إنهم قد لبسوا علي فلبس عليهم.
فإذا قدر أنه قد أذنب ذنباً فمجرد ذلك لا يوجب أن يكون عثمان راضياً بذنبه، ونواب علي قد أذنبوا ذنوباً كثيرة، بل كان غير واحد من نواب النبي صلى الله عليه وسلم يذنبون ذنوباً كثيرة، وإنما يكون الإمام مذنباً إذا ترك ما يجب عليه من إقامة حد أو استيفاء حق أو نحو ذلك.
• إيراد بعض روايات الإخباريين الضعيفة:
الوقفة الرابعة: يؤخذ عليه أيضاً إيراد ما جاء عن الأخباريين عما صدر بين الصحابة رضوان الله عليهم، الأخباريين جمع أخباري، وهو من يروي الحكايات والقصص والأخبار، لقد قرن المحاضر في تلك الأشرطة مزاعم الأخباريين عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم دون نقد أو تمحيص، مثلاً: أورد قصة استشهاد عثمان رضي الله عنه، وبيعة علي رضي الله عنه، وخروج عائشة وطلحة والزبير من مكة إلى البصرة، وأخبار معركة الجمل كما وردت في تاريخ الطبري، ومن طريق الأخباري سيف بن عمر على وجه الخصوص، ومعظم ما نقله بالنقل عن روايات ضعيفة لم تصح.
• المراسلات بين علي ومعاوية والتحكيم:(/12)
بعد ذلك تحدث المحاضر عن المراسلات بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، ثم القتال والتحكيم والخوارج وما واكب ذلك من أحداث حتى وفاة علي رضي الله عنه، معتمداً في ذلك على الروايات الضعيفة التي أوردها الطبري في تاريخه، من وجه خاص من طريق الأخباري أبي مخنف يقول فيما يتعلق بقضية المراسلات بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وما فيها من مبالغات وإثارة، يقول ابن كثير: ثم ذكر أهل السير كلاماً طويلاً جرى بينهم وبين علي، وفي صحة ذلك عنهم وعنه نظر. كذلك قضية رفع أهل الشام للمصاحف وما فيها من مبالغات، واتهام علي رضي الله عنه برد التحاكم إلى كتاب الله، وحقيقة هذا الأمر ما أخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن، قال: حدثنا يعلى بن عبيد، عن عبد العزيز بن ...... قال: حدثني ابن أبي ثابت قال: أتيت أبا وائل في مسجد أهله أسأله عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي في النهروان، وهي الوقعة التي قتل بها الخوارج: فيم استجابوا له؟ وفيم فارقوه؟ وفيم استحل قتلهم؟ قال: كنا في صفين، فلما استحر القتل بأهل الشام اعتصموا بتل، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: أرسل إلى علي بمصحف وادعه إلى كتاب الله، فإنه لم يأل عليه، فجاءه رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ))[آل عمران:23] فقال علي: نعم أنا أولى بذلك، بيني وبينكم كتاب الله، قال: فجاءته الخوارج ونحن ندعوهم يومئذٍ ...... وسيوفهم على عواتقهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين! ما ننتظر بهؤلاء القوم الذين على التل، ألا نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟ فتكلم سهل بن حنيف فقال: يا أيها الناس! اتهموا أنفسكم -يعني: لا تعصوا علياً رضي الله عنه وأطيعوه في قضية التحاكم إلى كتاب الله مع أهل الشام- فلقد رأتينا يوم الحديبية ولو مضى قتال لقاتلنا، فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: (يا ابن الخطاب! إني رسول الله ولن يضيعني أبداً، قال: فرجع وهو متغيض فلم يصبر حتى أتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر! ألسنا على الحق وهم على الباطل، أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابن الخطاب! إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يضيعه الله أبداً، قال: فنزلت سورة الفتح، قال: فأرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر فأقرأها إياه، قال: يا رسول الله! وفتح مبين؟ قال: نعم).
• اتهام أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:
وأيضاً: مما ذكره الدكتور طارق السويدان اتهام أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه وعمرو بن العاص رضي الله عنه بخلع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أثناء التحكيم، وهذا الأمر غير صحيح، وذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم مجمعون على أحقية علي رضي الله عنه بالخلافة، يعني: أصل لجنة التحكيم لم يكن عندهم نزاع على الخلافة، لأنه حتى معاوية ومن معه كلهم مقرون بأن علياً أحق بالخلافة بلا شك، ولم ينازعه أحد، فكانت هذه نقطة إجماع، فمن أين أتى بأن أبا موسى وعمرو بن العاص خلعا أمير المؤمنين أثناء التحكيم؟! فالصحابة كانوا مجمعين على أحقية علي رضي الله عنه بالخلافة، وليس هذا محل شك أو خلاف بينهم حتى يثيروا هذه القضية أثناء التحكيم، بل إن معاوية رضي الله عنه وأهل الشام كانوا مقرين بأحقية علي رضي الله عنه بالخلافة وبأفضليته، يعني: قضية أن علي أولى بالخلافة هذه مفروغ منها، لكن اختلفوا مع علي في مطالبتهم في إقامة الحدود على قتلة عثمان رضي الله عنه، والتي من أجلها انعقد التحكيم.(/13)
يقول الحافظ ابن حجر: وذكر يحيى بن سليمان الجعفي أحد شيوخ البخاري في كتاب صفين من تأليفه بسند جيد عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع علياً في الخلافة، أوَ أنت مثله؟ قال: لا، فإني أعلم أنه أفضل مني، وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً، وأنا ابن عمه ووليه أطالب بدمه، فائتوا علياً وقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان. فكان هذا هو محور الخلاف أن معاوية رضي الله تعالى عنه كان هو الولي الشرعي لعثمان بن عمه، فكان يطالب بدمه لأنه قتل مظلوماً، فطلب منهم أن يكلموا علياً أن يسلمه قتلة عثمان رضي الله تعالى عنه، فأتوه وتكلموا، فقال علي: يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي، أولاً: يدخل في البيعة ثم بعد ذلك يطالب بالقصاص، فامتنع معاوية، فسار علي بالجيوش من العراق حتى نزل بصفين، وسار معاوية حتى نزل هناك، وذلك في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ......، فلم يتم لهم أمر فوقع القتال.
• اتهام معاوية بتنصيب نفسه خليفة للمسلمين:
أيضاً: من هذه الوقفات اتهام معاوية بتنصيب نفسه خليفة للمسلمين ومبايعة أهل الشام له على ذلك بعد التحكيم، وهذا من أباطيل الأخباريين، لأن معاوية رضي الله عنه لم يتطلع لخلافة المسلمين إلا بعد استشهاد علي رضي الله عنه، يقول الخطيب البغدادي رحمه الله: كانت بيعة أهل الشام لمعاوية عند مقتل علي، وذلك في سنة أربعين، لكن أهل الشام ما بايعوه في حياة علي، علق ابن كثير على ذلك بقوله: لما مات علي قام أهل الشام فبايعوا معاوية على إمرة المسلمين؛ لأنه لم يبق له عندهم منازع، أما في حياة علي فما فيه شك أنهم كانوا يعرفون أن علياً أفضل وأحق بالخلافة من معاوية رضي الله عن الجميع.
• تخصيص السويدان علياً والحسين ببعض عبارات التكريم:
من المؤاخذات العابرة ولكن لا بأس من الاستفادة بها تخصيص الدكتور طارق السويدان علياً والحسين رضي الله تعالى عنهما ببعض عبارات التكريم، مثل قوله: كرم الله وجهه، أو قوله: عليه السلام، دون سائر الصحابة رضوان الله عليهم، نقول في هذه المسألة -مسألة التخصيص- قد أجاب عنها ابن تيمية رحمه الله تعالى حين سئل عمن يقول إذا ذكر علي: صلى الله عليه، هل يجوز له أن يخصه بالصلاة دون غيره؟ فأجاب: ليس لأحد أن يخص أحداً بالصلاة عليه دون النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: مكن تصلي عليه فتقول: وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين يعني: تأتي بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم ثم من عداه تبع، لكن أن يخص شخص معين بقوله: صلى الله عليه أو عليه السلام فيقول: ليس لأحد أن يخص أحداً بالصلاة عليه دون النبي صلى الله عليه وسلم لا أبا بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، ومن فعل ذلك فهو مبتدع، بل إما أن يصلي عليهم كلهم أو يدع الصلاة عليهم كلهم، بل المشروع أن يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على على آل إبراهيم إنك حميد مجيد،وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
وقال الإمام ابن كثير في هذه المسألة أيضاً: قد غلب هذا في عبارة كثير من المؤلفين للكتب أن يفرد علياً بأن يقال: عليه السلام من دون سائر الصحابة، أو كرم الله وجهه، وهذا وإن كان معناه صحيحاً، ولكن ينبغي أن يسوى بين الصحابة في ذلك، فإن هذا من باب التعظيم والتكريم، فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان أولى بذلك منه رضي الله عنهم أجمعين.
وقد علق فضيلة الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله على هذه المسألة فقال: أمير المؤمنين الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لم يرد تخصيصه بذلك -لم يرد أنه يخص بقوله: كرم الله وجهه أو عليه السلام- لكن هذا من فعلات الرافضة وسريانه إلى أهل السنة فيه هضم للخلفاء الثلاثة قبله رضي الله عنهم، فلنتنبه إلى مسالك المبتدعة وألفاظهم، فكم من لفظ ظاهره السلامة وباطنه الإثم.
• قضية تحريض عبد الله بن الزبير للحسين في الخروج على يزيد:
أيضاً أوغل المحاضر في مسألة زعم الأخباريين حول تحريض عبد الله بن الزبير للحسين بن علي رضي الله عنهم أجمعين على الخروج على يزيد بن معاوية، وحقيقة الأمر أن عبد الله بن الزبير كان من جملة الصحابة التابعين الذين نصحوا الحسين رضي الله عنه بعدم الخروج، فقد روى ابن أبي شيبة بإسناده عن بشر بن غالب قال: لقي عبد الله بن الزبير الحسين بن علي بمكة فقال: يا أبا عبد الله! بلغني أنك تريد العراق، قال: أجل، قال: فلا تفعل، فإنهم قتلة أبيك، الطاعنين بطن أخيك، وإن أتيتهم قتلوك. فهو لم يحرضه على الخروج، بل بالعكس حرضه على ألا يذهب إلى العراق.
ثم يختم الباحث هذه الرسالة اللطيفة بقوله: إن أبرز النتائج التي يمكن الخروج بها من هذا البحث ما يلي:
أولاً: ضرورة الالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، وما فيه من الضوابط الشرعية والمنهجية العلمية.(/14)
ثانياً: أهمية اعتماد كتب السنة في دراسة تاريخ صدر الإسلام، بما فيها من الروايات المهمة عن هذه الفترة ........ بها في المصادر التاريخية.
ثالثاً: خطورة الركون إلى أحاديث الأخباريين فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم.
رابعاً: أهمية دراسة الروايات التاريخية التي تتحدث عن هذه الفترة دراسة نقدية لأسانيدها ومتونها قبل الاعتماد عليها ونشرها بين الناس.
خامساً: أهمية التناصح بين طلبة العلم مع لزوم العدل والإنصاف في ذلك.
وفي الختام أرجو من الله أن تكون هذه الوقفات حافزاً للأخ المحاضر نحو مزيد من الإتقان الذي هو أهل له، فالعلم .... بين أهله، والمسلم قليل بنفسه كثير بإخوانه، ونسأل الله إن يوفقنا وإياه وكل مسلم إلى ما يحبه ويرضاه.
ونذكر الإخوة بأنه مما لابد منه في هذا الموضوع بالذات مما ينبغي فعله الإشاعة بفضائل الصحابة ومكانتهم، وذكر مناقبهم ومآثرهم وأمجادهم في كل أبواب الخير التي قد حفل تاريخهم بنماذج كثيرة جداً منها، والإمساك عما شجر بينهم إلا لضرورة، وبالشروط التي أشرنا إليها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
*************************(/15)
فضائل الصحابة
الفصل الأول: تعريف وبيان.
المبحث الأول: تعريف الصحابي لغة واصطلاحاً.
المبحث الثاني: بم يعرف الصحابي؟
الفصل الثاني: طبقات الصحابة وعددهم.
الفصل الثالث: الثناء على الصحابة في القرآن الكريم.
الفصل الرابع: الثناء على الصحابة في السنة النبوية.
الفصل الخامس: الثناء على الصحابة في أقوال السلف والعلماء.
الفصل السادس: الثناء على أصناف معينة منهم رضي الله عنهم.
المبحث الأول: الثناء على السابقين الأولين.
المبحث الثاني: الثناء على أهل بدر.
المبحث الثالث: الثناء على أهل أحد.
المبحث الرابع: الثناء على أهل بيعة الرضوان.
الفصل السابع: فضل العشرة المبشرين بالجنة.
الفصل الثامن: فضل الصحابة من أهل البيت عموماً وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً.
الفصل التاسع: عقيدة أهل السنة والجماعة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
المبحث الأول: وجوب محبتهم رضي الله عنهم.
المبحث الثاني: الدعاء والاستغفار لهم.
المبحث الثالث: الشهادة لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم.
المبحث الرابع: إثبات عدالتهم.
المبحث الخامس: ترتيب الصحابة في الفضل والإمامة.
الفصل العاشر: تحريم سب الصحابة.
المبحث الأول: تحريم سبهم بنص القرآن.
المبحث الثاني: دلالة السنة على تحريم سبهم.
المبحث الثالث: من كلام السلف في تحريم سب الصحابة.
المبحث الرابع: حكم ساب الصحابة وعقوبته.
الفصل الحادي عشر: المنحرفون في هذا الباب.
المبحث الأول: الشيعة والرافضة.
المبحث الثاني: الخوارج.
المبحث الثالث: النواصب.
الفصل الأول: تعريف وبيان:
المبحث الأول: تعريف الصحابة لغة واصطلاحاً:
تعريف الصحابة لغة:
قال الفيروز آبادي: "استصحبه: أي دعاه إلى الصحبة ولازمه"[1].
وقال الجوهري: "والصحابة بالفتح: الأصحاب، وهي في الأصل مصدر، وأصْحَبْتُهُ الشيء: جعلته له صاحباً، واستصحبته الكتاب وغيره، وكل شيء لاءم شيئاً فقد استصحبه"[2].
وقال أبو بكر بن الطيب: "لا خلاف بين أهل اللغة في أن القول (صحابي) مشتق من الصحبة، وأنه ليس بمشتق من قدر منها مخصوص، بل هو جار على كل من صحب غيره قليلاً كان أو كثيراً، كما أن القول (مكلِّم ومخاطب وضارب) مشتق من المكالمة والمخاطبة والضرب وجار على كل من وقع منه ذلك قليلاً كان أو كثيراً… يقال: صحبت فلاناً حولاً ودهراً وسنة وشهراً ويوماً وساعة، فيوقع اسم المصاحبة بقليل ما يقع منها وكثيره، وذلك يوجب في حكم اللغة إجراء هذا على من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة من نهار"[3].
تعريف الصحابي في الاصطلاح:
أما تعريف الصحابي اصطلاحاً فقد اختلف في ذلك:
فعن عبد القدوس بن مالك العطار قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل وذكر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أهل بدر فقال: "ثم أفضل الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم القرن الذي بعث فيهم، كل من صحبه سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه وكانت سابقته معه وسمع منه ونظر إليه"[4].
وقال الإمام البخاري رحمه الله: "من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه"[5].
وقال علي بن المديني: "من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه ولو ساعة من نهار فهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم"[6].
وقال سعيد بن المسيب: "الصحابة لا نعدهم إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين"[7].
وتعريف سعيد بن المسيب هذا تعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: "والعمل على خلاف هذا القول؛ لأنهم اتفقوا على عد جمع جم من الصحابة لم يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا في حجة الوداع"[8].
والتعريف الصحيح المعتمد هو ما قرره الحافظ ابن حجر بقوله: "وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام".
ثم قال شارحا التعريف: "فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى، ويخرج بقيد الإيمان من لقيه كافراً ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخرى وقولنا: (به) يخرج من لقيه مؤمناً بغيره كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة، ويدخل في قولنا: (مؤمناً به) كل مكلف من الجن والإنس… وخرج بقولنا: (مات على الإسلام) من لقيه مؤمناً به ثم ارتد ومات على ردته والعياذ بالله… ويدخل فيه من ارتد وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت سواء اجتمع به صلى الله عليه وسلم مرة أخرى أم لا وهذا هو الصحيح المعتمد"[9].
المبحث الثاني: بم يعرف الصحابي؟
لقد وضع العلماء رحمهم الله طرقاً وضوابط لمعرفة كون الشخص صحابياً وتلك الطرق أو الضوابط هي:(/1)
1- أن تثبت صحبته بطريق التواتر المقطوع به لكثرة ناقليه أن فلاناً من الصحابة وذلك كأبي بكر وعمر وبقية العشرة وناس آخرين من الصحابة رضي الله عنهم.
2- أن تثبت الصحبة للشخص عن طريق الاستفاضة والشهرة.
3- أن يروى عن أحد من الصحابة أن فلاناً له صحبة وكذا عن آحاد التابعين بناء على قبول التزكية من واحد وهو الراجح.
4- أن تثبت الصحبة بإخباره عن نفسه إذا كان ثابت العدالة والمعاصرة بقوله: أنا صحابي[10].
وقد ذكر الحافظ ابن حجر ضابطاً يستفاد منه معرفة جمع كثير يكتفى فيهم بوصف يدل على أنهم صحابة وهذا الضابط مأخوذ من أمور ثلاثة:
أحدها: أنهم كانوا لا يؤمّرون في المغازي إلا الصحابة، فمن تتبع الأخبار الواردة في حروب الردة والفتوح وجد من ذلك الشيء الكثير.
الثاني: قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: كان لا يولد لأحد مولود إلا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فدعا له. وهذا أيضاً يؤخذ منه شيء كثير.
الثالث: لم يبق بمكة والطائف أحد في سنة عشر إلا أسلم وشهد حجة الوداع، فمن كان في ذلك الوقت موجوداً اندرج فيهم لحصول رؤيته بالنبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يرهم هو صلى الله عليه وسلم[11].
[1] القاموس المحيط (1/95).
[2] الصحاح (1/161) باختصار، وانظر لسان العرب لابن منظور (7/286) والمعجم الوسيط (1/507)، وانظر أيضاً التعريفات للجرجاني (173).
[3] انظر: الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (69-70).
[4] انظر: الكفاية (69)، وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث (77)، ومقدمة ابن الصلاح (146).
[5] صحيح البخاري مع الفتح (7/3).
[6] انظر: فتح الباري (7/5).
[7] انظر: الكفاية (68-69) وانظر أيضاً أسد الغابة (1/18).
[8] فتح الباري (7/4).
[9] الإصابة (1/7-9).
[10] انظر الكفاية للخطيب البغدادي (70) ومقدمة ابن الصلاح (146) والتقييد والإيضاح (285).
[11] الإصابة (1/10).
الفصل الثاني: طبقات الصحابة وعددهم:
إن الصحابة رضي الله عنهم يتفاوتون في مراتبهم من حيث السبق إلى الإسلام أو الهجرة وشهود المشاهد الفاضلة وقد ذكر العلماء أنهم على اثنتي عشرة طبقة:
الطبقة الأولى: قوم أسلموا بمكة مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم رضي الله عنهم.
الطبقة الثانية: أصحاب دار الندوة حيث بايعه جماعة فيها على الإسلام.
الطبقة الثالثة: المهاجرة إلى الحبشة.
الطبقة الرابعة: الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة الأولى يقال: فلان عقبي وفلان عقبي.
الطبقة الخامسة: أصحاب العقبة الثانية وأكثرهم من الأنصار.
الطبقة السادسة: أول المهاجرين الذين وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء وهو يبني المسجد.
الطبقة السابعة: أهل بدر الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: ((لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم))[1].
الطبقة الثامنة: المهاجرة الذين هاجروا بين بدر والحديبية.
الطبقة التاسعة: أهل بيعة الرضوان الذين أنزل الله تعالى فيهم: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18].
الطبقة العاشرة: المهاجرون بين الحديبية والفتح، ومن هؤلاء خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص وأبو هريرة وغيرهم، وفيهم كثرة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر قصده خلق كثير من كل ناحية من أجل الهجرة.
الطبقة الحادية عشرة: هم الذين أسلموا يوم الفتح وهم جماعة من قريش.
الطبقة الثانية عشرة: صبيان وأطفال رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وفي حجة الوداع وغيرها وعدادهم في الصحابة، ومن هؤلاء السائب بن يزيد وعبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير فإنهما قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لهما، ومن هؤلاء أيضاً: أبو الطفيل عامر بن واثلة وأبو جحيفة وهب بن عبد الله فإنهما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطواف وعند زمزم[2].
قال ابن الصلاح: "وإذا نظرنا إلى تفاوت الصحابة في سوابقهم ومراتبهم كانوا بضع عشرة طبقة"[3]، ومن العلماء من زاد على ذلك.
وأما محمد بن سعد فقد جعلهم خمس طبقات:
الأولى: البدريون.
الثانية: من أسلم قديماً ممن هاجر عامتهم إلى الحبشة وشهدوا أحداً فما بعدها.
الثالثة: من شهد الخندق فما بعدها.
الرابعة: مسلمة الفتح فما بعدها.
الخامسة: الصبيان والأطفال فمن لم يغز سواء حفظ عنه، وهم الأكثر، أم لا[4].
أما عددهم رضي الله عنهم:
فليس هناك دليل قاطع على ضبط أفراد الصحابة بعدد معين، وما يذكر من ذلك فإنما هو تبيان لأعداد من الصحابة كانوا في مشهد مخصوص، أو أن ذلك كان باعتبار وقت من الأوقات، أو حال من الأحوال، أو كونهم في بلد معين يجمعهم.
ومما يؤيد هذا ما ذكره ابن الصلاح في مقدمته عن أبي زرعة الرازي حيث سئل عن عدة من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ومن يضبط هذا؟! شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أربعون ألفاً، وشهد معه تبوك سبعون ألفاً"[5].(/2)
وفي رواية أخرى عنه قال: "توفي النبي صلى الله عليه وسلم ومن رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان من رجل وامرأة وكل قد روى عنه سماعاً أو رؤية"[6].
وقال ابن كثير: "وأما جملة الصحابة فقد اختلف الناس في عدتهم، فنقل عن أبي زرعة أنه قال: يبلغون مائة ألف وعشرين ألفاً"[7].
وقال ابن الأثير: "وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم… كثيرون فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد حنيناً ومعه اثنا عشر ألفاً سوى الأتباع والنساء، وجاء إليه هوازن مسلمين فاستنقذوه حريمهم وأولادهم، وترك مكة مملوءة ناساً وكذلك المدينة أيضاً: وكل من اجتاز به من قبائل العرب كانوا مسلمين فهؤلاء كلهم لهم صحبة وقد شهد معه تبوك من الخلق الكثير ما لا يحصيهم ديوان، وكذلك حجة الوداع وكلهم له صحبة"[8].
ومما تقدم يتضح أن ضبط الصحابة رضي الله عنهم في عدد معين غير ممكن وأن كل من ذكر شيئاً من هذه الأعداد فإنما حكاه على قدر تتبعه ومبلغ علمه وأشار بذلك إلى وقت خاص وحال، فإذاً لا تضاد بين كلامهم ولا تعارض[9].
[1] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب: فضل من شهد بدراً (3983) وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم (2494) من حديث علي بن أبي طالب.
[2] الباعث الحثيث لأحمد شاكر (2/504) وأحكام القرآن لابن العربي (2/1002) والعواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (1/412).
[3] مقدمة ابن الصلاح (197).
[4] انظر الجزء الثالث والرابع من كتابه الطبقات فإنه خص هذين الجزئين بتراجم الصحابة.
[5] مقدمة ابن الصلاح (148).
[6] انظر: التقييد والإيضاح (289).
[7] البداية والنهاية (5/397).
[8] أسد الغابة (1/19).
[9] انظر: صحابة رسول الله للكبيسي (119).
الفصل الثالث: الثناء على الصحابة في القرآن الكريم:
أهل السنة والجماعة يثبتون فضل الصحابة رضي الله عنهم الذي نطق به القرآن الكريم المنزل من لدن حكيم حميد، كما يثبتون جميع ما صح في فضلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان هذا الفضل على وجه العموم أو على وجه الخصوص.
ولقد أثنى الله عليهم في كتابه العزيز على سبيل الجملة في آيات كثيرة ومواضع شتى منها:
1- قال الله تعالى: {وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
في هذه الآية الكريمة وجه سبحانه فيها الخطاب إلى جميع الأمة المحمدية ومضمونه أنه سبحانه جعلهم خيار الأمم ليكونوا يوم القيامة شهداء على الناس، وأول الداخلين في هذا الخطاب إنما هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عبد الله القرطبي: "المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطاً أي: جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم، والوسط العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: عدلاً. قال هذا حديث حسن صحيح[1] وفي التنزيل: {قال أوسطهم} أي أعدلهم وخيرهم… ولما كان الوسط مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً أي: هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم وقوله تعالى: {لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} أي: في المحشر للأنبياء على أممهم"[2].
2- قال الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
قال ابن الجوزي: "وفيمن أريد بهذه الآية أربعة أقوال:
أحدها: أنهم أهل بدر.
والثاني: أنهم المهاجرون.
والثالث: جميع الصحابة.
الرابع: جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم نُقِلت هذه الأقوال كلها عن ابن عباس"[3].
وقال الزجاج: "وأصل الخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعم سائر أمته"[4].
وقال السفاريني: "{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قيل: اتفق المفسرون أن ذلك في الصحابة، لكن الخلاف في التفاسير مشهور ورجح كثير عمومها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم"[5].
وقال أبو هريرة رضي الله عنه في قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال: (خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام)[6].
وعن السدي أنه قال: "{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو شاء الله لقال أنتم فكنا كلنا، ولكن قال {كُنتُمْ} في خاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صنع مثل صنيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"[7].(/3)
3- قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
قال ابن كثير: "يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان رضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم والنعيم المقيم… وقال محمد بن كعب القرظي: مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ هذه الآية {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ} فأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ فقال: أبي بن كعب، فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم. قال: وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا، فقال أُبي: تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة: {وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة:3]... فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم عياذاً بالله من ذلك"[8].
4- قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِىّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:117].
قال أبو بكر الجصاص: "وقوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِىّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} فيه مدح لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين غزوا معه من المهاجرين والأنصار، وإخبار بصحة بواطن ضمائرهم وطهارتهم؛ لأن الله تعالى لا يخبر بأنه قد تاب عليهم إلا وقد رضي عنهم ورضي أفعالهم، وهذا نص في رد قول الطاعنين عليهم والناسبين لهم إلى غير ما نسبهم الله إليه من الطهارة ووصفهم به من صحة الضمائر وصلاح السرائر رضي الله عنهم" [9].
5- قال الله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59].
قال ابن جرير الطبري: "الذين اصطفاهم، يقول: الذين اجتباهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فجعلهم أصحابه ووزراءه على الدين الذي بعثه بالدعاء إليه دون المشركين به الجاحدين بنبوة نبيّه"، ثم ذكر بإسناده إلى ابن عباس في قوله: {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال: أصحاب محمد اصطفاهم لنبيه"[10].
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه: "{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال طائفة من السلف: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أنهم أفضل المصطفين من هذه الأمة التي قال الله فيها: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ f جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ g وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ h الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:32- 35].
فأمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمتين قبلهم اليهود والنصارى وقد أخبر الله تعالى أنهم الذين اصطفى وتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم))[11]. ومحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم المصطفَون من المصطفَين من عباد الله"[12].
6- وقال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح:29].(/4)
قال ابن كثير: " فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم، وقال مالك رضي الله عنه: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا. وصدقوا في ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة وأعظمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"[13].
[1] أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن باب: ومن سورة البقرة (2961) والحديث صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (2362).
[2] الجامع لأحكام القرآن (2/153-154).
[3] زاد المسير لابن الجوزي (2/16).
[4] معاني القرآن وإعرابه (1/456).
[5] لوامع الأنوار البهية للسفاريني (2/377).
[6] أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن باب كنتم خير أمة أخرجت للناس (4557).
[7] انظر: جامع البيان (4/43).
[8] تفسير القرىن العظيم (2/367).
[9] أحكام القرآن للجصاص (4/371).
[10] جامع البيان (20/2).
[11] أخرجه البخاري في كتاب الشهادات باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2652)، ومسلم في المناقب باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (3651).
[12] منهاج السنة (1/156).
[13] تفسير القرآن العظيم (6/365).
الفصل الرابع: الثناء على الصحابة في السنة النبوية:
1- عن أبي موسى رضي الله عنه قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي العشاء قال: فجلسنا فخرج علينا فقال: ((ما زلتم ها هنا؟!)) قلنا: يا رسول الله، صلينا معك المغرب ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معكم العشاء قال: ((أحسنتم)) أو ((أصبتم)) قال: فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء فقال: ((النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون))[1].
قال النووي: "ومعنى الحديث أن النجوم ما دامت باقية فالسماء باقية فإذا انكدرت النجوم وتناثرت في القيامة وهنت السماء فانفطرت وانشقت وذهبت، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون)) أي: من الفتن والحروب وارتداد من ارتد من الأعراب واختلاف القلوب ونحو ذلك مما أنذر به صريحاً، وقد وقع كل ذلك، قوله صلى الله عليه وسلم: ((وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتى ما يوعدون)) معناه: من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن فيه وطلوع قرن الشيطان وظهور الروم وغيرهم وانتهاك المدينة ومكة وغير ذلك، وهذه كلها من معجزاته صلى الله عليه وسلم"[2].
2- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يأتي على الناس زمان يغزو فئام[3] من الناس فيقال لهم: فيكم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزوا فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: نعم، فيفتح لهم))[4].
قال النووي: "وفي هذا الحديث معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضل الصحابة والتابعين وتابعيهم"[5].
3- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: ((قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تبدر شهادة أحدهم يمينه وتبدر يمينه شهادته))[6].
قال النووي: "اتفق العلماء على أن خير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم والمراد أصحابه"[7].
4- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه))[8].
قال الخطابي: "النصيف بمعنى النصف، كما قالوا: الثمين بمعنى الثُمن. والمعنى أن جهد المقل منهم واليسير من النفقة الذي أنفقوه في سبيل الله مع شدة العيش والضيق الذي كانوا فيه أوفى عند الله وأزكى من الكثير الذي ينفقه من بعدهم"[9].
5- عن أبي عبد الرحمن الجهني قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس إذ طلع راكبان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كنديان[10] مذحجيان[11]))، حتى أتياه فإذا رجلان من مذحج قال: فدنا أحدهما ليبايعه، فلما أخذ بيده قال: يا رسول الله، أرأيت من رآك وآمن بك واتبعك وصدقك ماذا له؟ قال: ((طوبى له)) قال: فمسح على يده وانصرف، ثم أتاه الآخر حتى أخذ بيده ليبايعه فقال: يا رسول الله، أرأيت من آمن بك واتبعك وصدقك ماذا له؟ قال: ((طوبى له ثم طوبى له))[12].
قال ابن كثير: "وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عباس ومغيث ابن سمي وأبي إسحاق السبيعي وغير واحد من السلف أن طوبى شجرة في الجنة في كل دار غصن منها"[13].(/5)
والحاصل أن الأحاديث الواردة في فضلهم كثيرة ومشتهرة بل متواترة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذه الأحاديث مستفيضة، بل متواترة في فضائل الصحابة والثناء عليهم وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون والقدح فيهم قدح في القرآن والسنة"[14].
[1] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب بيان أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلم (2531).
[2] شرح النووي على صحيح مسلم (16/83).
[3] الفئام الجماعة الكثيرة (النهاية في غريب الحديث 3/406).
[4] أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب: من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب (2897)، ومسلم في فضائل الصحابة باب: فضل الصحابة رضي الله عنه ثم الذين (2532).
[5] شرح النووي على مسلم (16/83).
[6] أخرجه البخاري في الشهادات باب لا يشهد على شهادة جور إذا شهد (2652)، ومسلم في فضائل الصحابة باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم (2533).
[7] شرح النووي على صحيح مسلم (16/84).
[8] أخرجه البخاري في المناقب باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت (3673)، ومسلم في فضائل الصحابة باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم (2540).
[9] معالم السنن (4/284).
[10] كندة: بالكسر مخلاف كندة باليمن اسم القبيلة (معجم البلدان: 4/482).
[11] مذحج: قبيلة من قبائل العرب وهم: ولد أود بن زيد بن يشجب مرة. (معجم البلدان:5/88).
[12] أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (17388) والطبراني في الكبير (22/742) والبزار كشف الأستار (2769) والحديث أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/18) وقال: إسناده حسن.
[13] تفسير القرآن العظيم (4/89).
[14] مجموع فتاوى شيخ الإسلام (4/430).
الفصل الخامس: الثناء على الصحابة في أقوال السلف والعلماء:
1- قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه خص نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بصحابة آثروه على الأنفس والأموال، وبذلوا النفوس دونه في كل حال، ووصفهم الله في كتابه فقال: {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}، قاموا بمعالم الدين وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذبت طرقه وقويت أسبابه، وظهرت آلاء الله واستقر دينه، ووضحت أعلامه، وأذل بهم الشرك وأزال رؤوسه ومحا دعائمه، وصارت كلمة الله العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزكية والأرواح الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة لله أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله نصحاء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها)[1].
2- عن أبي أراكة قال: صلّى عليٌ الغداة ثم لبث في مجلسه حتى ارتفعت الشمس قيد رمح كأن عليه كآبة، ثم قال: (لقد رأيت أثراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أرى أحداً يشبههم، والله إن كانوا ليصبحوا شعثاً غبراً صفراً، بين أعينهم مثل ركب المعزى، قد باتوا يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم وجباههم، إذا ذكر الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم ريح، فانهملت أعينهم حتى تبل والله ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين).
وقال أيضاً: (وأولئك مصابيح الهدى يكشف الله بهم كل فتنة مظلمة، سيدخلهم الله في رحمة منه، ليس أولئك بالمذاييع البُذُر[2] ولا الجفاة المرائين)[3].
3- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم)[4].
4- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ) [5].(/6)
5- عن أبي صخر حميد بن زياد قال: قلت لمحمد بن كعب القرظي: أخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أريد الفتن، فقال: إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب لهم الجنة في كتابه، محسنهم ومسيئهم، قلت له: وفي أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه؟ قال: ألا تقرأ {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]، أوجب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً لم يشترطه فيهم، قلت: وما اشترط عليهم؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان، يقول: يقتدون بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدون بهم في غير ذلك، قال أبو صخر: لكأني لم أقرأها قبل ذلك وما عرفت تفسيرها حتى قرأها عليَّ محمد بن كعب القرظي[6].
6- عن قتادة بن دعامة السدوسي قال: "أحق من صدقتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه"[7].
7- عن أيوب السخيتاني قال: "من أحب أبا بكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحب علياً فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن قال الحسنى في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد برئ من النفاق"[8].
8- وقال الإمام مالك بن أنس: "من يبغض أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان في قلبه عليه غل فليس له حق في فيء المسلمين"، ثم قرأ قول الله تعالى: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} إلى قوله {وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ} [الحشر:6- 10].
وذُكِر بين يديه رجل ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ مالك هذه الآية: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} إلى قوله {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ثم قال: "من أصبح من الناس في قلبه غل على أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فقد أصابته الآية"[9].
9- وقال أبو جعفر الطحاوي: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان"[10].
10- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله به في قوله تعالى {وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10]، وطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه))[11]... ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون..."[12].
[1] مروج الذهب ومعادن الجوهر (3/75) للمسعودي.
[2] المذاييع: هو جمع مذياع من أذاع الشيء إذا أفشاه وقيل: أراد الذين يشيعون الفواحش. (القاموس المحيط ـ ذاع)، والبُذُر: جمع بَذِر وهو كثير الكلام (القاموس ـ بذر).
[3] انظر: حلية الأولياء (1/76-77).
[4] حلية الأولياء (1/305-306).
[5] المسند (1/379). وانظر: شرح السنة للبغوي (1/214-215).
[6] الدر المنثور في التفسير بالمأثور (4/272) للسيوطي.
[7] رواه الإمام أحمد في المسند (3/134).
[8] انظر: البداية والنهاية (8/13) لابن كثير.
[9] انظر: شرح السنة للبغوي (1/229).
[10] العقيدة الطحاوية مع شرحها (528).
[11] أخرجه البخاري في المناقب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت..(3673) ومسلم في فضائل الصحابة باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم (2533).
[12] العقيدة الواسطية مع شرحها (لمحمد خليل هراس) (142-151).
الفصل السادس: الثناء على أصناف معينة منهم رضي الله عنهم:
المبحث الأول: الثناء على السابقين الأولين:
السبق هو التقدم إما في الصفة أو في الزمان أو في المكان.
فالتقدم في الصفة: يكون لمن سبق إلى الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر واتخذ ما ينفق قربات عند الله عز وجل.
والتقدم في الزمن: يكون لمن تقدم في أوان قبل أوان.(/7)
والتقدم في المكان: يكون لمن تبوأ دار النصرة واتخذها بدلاً عن موضع الهجرة، وأفضل هذه الوجوه هو السبق في الصفات[1].
قال الراغب الأصبهاني: "أصل السبق التقدم في السير نحو: {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً} [النازعات:4]، ويستعار السبق لإحراز الفضل والتبريز وعلى ذلك: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [المعارج:10] أي: المتقدمون إلى ثواب الله وجنته بالأعمال الصالحة نحو قوله: {يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ} [الأنبياء:89]"[2].
ومما يدل على أن السبق بالصفات هو الأفضل قوله عليه الصلاة والسلام: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد)) [3].
وقد اختلف العلماء في المراد بالسابقين الأولين على أقوال ستة:
الأول: أنهم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قاله أبو موسى الأشعري وابن المسيب وابن سيرين وقتادة.
الثاني: أنهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان وهي الحديبية. قاله الشعبي.
الثالث: أنهم أهل بدر. قاله عطاء بن أبي رباح.
الرابع: أنهم جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حصل لهم السبق بصحبته.
الخامس: أنهم السابقون بالموت والشهادة، سبقوا إلى ثواب الله تعالى قاله الماوردي.
السادس: إنهم الذين أسلموا قبل الهجرة[4].
والقول الراجح من هذه الأقوال ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال بعد ذكره لقوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10] قال: "وهذه الآية نص في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين بعده، ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ} هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين هم من صلى إلى القبلتين، وهذا ضعيف، فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة، ولأن النسخ ليس من فعلهم الذي يفضلون به، ولأن التفضيل بالصلاة إلى القبلتين لم يدل عليه دليل شرعي كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد والمبايعة تحت الشجرة، ولكن فيه سبق الذين أدركوا ذلك على من لم يدركه، كما أن الذين أسلموا قبل أن تفرض الصلوات الخمس هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم، والذين أسلموا قبل أن تجعل صلاة الحضر أربع ركعات هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم، والذين أسلموا قبل أن يؤذن في الجهاد أو قبل أن يفرض هم سابقون على من أسلم بعدهم، والذين أسلموا قبل أن يفرض صيام شهر رمضان هم سابقون على من أسلم بعدهم، والذين أسلموا قبل أن يفرض الحج هم سابقون على من تأخر عنهم، والذين أسلموا قبل تحريم الخمر هم سابقون على من أسلم بعدهم، والذين أسلموا قبل تحريم الربا كذلك، فشرائع الإسلام من الإيجاب والتحريم كانت تنزل شيئاً فشيئاً وكل من أسلم قبل أن تشرع شريعة فهو سابق على من تأخر عنه، وله بذلك فضيلة من أسلم قبل نسخ القبلة على من أسلم بعده هي من هذا الباب، وليس مثل هذا ما يتميز به السابقون الأولون عن التابعين، إذ ليس بعض هذه الشرائع أولى بمن يجعله خيراً من بعض، ولأن القرآن والسنة قد دلا على تقديم أهل الحديبية، فوجب أن تفسر هذه الآية بما يوافق سائر النصوص، وقد علم بالاضطرار أنه كان في هؤلاء السابقين الأولين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وبايع النبي بيده عن عثمان، لأنه قد كان غائباً قد أرسله إلى أهل مكة ليبلغهم رسالته"[5].
المبحث الثاني: الثناء على أهل بدر:
أما الآيات التي أثنى الله عز وجل فيها على أهل بدر فمنها:
1- قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَةً لأوْلِى الأبْصَارِ} [آل عمران:13].
قال ابن جرير الطبري: "يعني بذلك جل ثناؤه: قل ـ يا محمد ـ للذين كفروا من اليهود الذين بين ظهراني بلدك: قد كان لكم آية، يعني: علامة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون، والفئة الجماعة من الناس التقتا للحرب وإحدى الفئتين: رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ممن شهدوا وقعة بدر والأخرى مشركوا قريش {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} جماعة تقاتل في طاعة الله وعلى دينه، {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} هم مشركو قريش"[6].(/8)
2- وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ J وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62، 63].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإنما أيده في حياته بالصحابة"[7].
وقال القرطبي: "{هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} أي: قواك بنصره يريد يوم بدر، {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} قال النعمان بن بشير: نزلت في الأنصار"[8].
3- مدح الله عز وجل أهل بدر بصفة الإيمان في غير ما موضع كما في قوله تعالى: {وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا} [الأنفال:17]، وقوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ} [آل عمران:123]، وقوله تعالى: {فَثَبّتُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ} [الأنفال:12].
أما ثبوت فضل أهل بدر والثناء عليهم في السنة النبوية فكثير من ذلك:
1- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير - وكلنا فارس - قال: ((انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ[9] فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين))، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، وأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً، فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتخرجن الكتاب أو لنجردنك، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها ـ وهي محتجزة بكساء ـ فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما حملك؟)) قال حاطب: والله، ما بي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله به عن أهلي ومالي وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدق، ولا تقولوا له إلا خيراً)) فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فأضرب عنقه فقال: ((لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفر لكم)) فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم[10].
قال الحافظ ابن حجر: "ووقع الخبر بألفاظ منها: ((فقد غفرت لكم))، ومنها: ((فقد وجبت لكم الجنة))، ومنها: ((لعل الله اطلع...))، لكن قال العلماء: إن الترجي في كلام الله وكلام رسوله للوقوع"[11].
2- وعن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه ـ وكان أبوه من أهل بدر ـ قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: ((من أفضل المسلمين)) ـ أو كلمة نحوها ـ قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة"[12].
3- عن أنس رضي الله عنه قال: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع فقال: ((ويحك أوَهبلت؟! أوَجنة هي؟! إنها جنات كثيرة وإنه في جنة الفردوس))[13].
قال الحافظ ابن كثير: "وفي هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر فإن هذا لم يكن في ساحة القتال ولا في حومة الوغى بل كان من النظارة من بعيد، وإنما أصابه سهم غرب[14] وهو يشرب من الحوض ومع هذا أصاب بهذا الموقف الفردوسَ"[15].
4- وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الدعاء الذي دعا به يوم بدر: ((اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض))[16].
المبحث الثالث: الثناء على أهل أحد:
جاء الثناء على أهل أحد في القرآن الكريم في آيات كثيرة منها:
1- قال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىء الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:121].
هذه الآية تضمنت الثناء البالغ على أهل أحد بشهادة الله تعالى لهم بحقيقة الإيمان الذي حل واستقر في قلوبهم الطيبة، وفي هذه الشهادة فضيلة أيما فضيلة لمن حضر من الصحابة موقعة أحد[17].
2- وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152].
3- وقال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [آل عمران:172].(/9)
قال ابن جرير الطبري: "يعني بذلك جل ثناؤه: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين المستجيبين لله وللرسول من بعدما أصابهم الجراح والكِلام، وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد في طلب العدو أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش منصرفهم عن أحد"[18].
ما جاء في فضل ومنزلة أهل أحد في السنة النبوية:
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن منقلبهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم))، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات على رسوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169][19].
2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما كان يوم أحد جيء بأبي مسجّى وقد مثل به، قال: فأردت أن أرفع الثوب فنهاني قومي، ثم أردت أن أرفع الثوب فنهاني قومي، فرفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر به فرفع فسمع صوت باكية أو صائحة فقال: ((من هذه؟)) فقالوا: بنت عمرو أو أخت عمرو فقال: ((ولِمَ تَبكي؟ فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع)) وفي رواية أنه قال: ((تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه))[20].
قال ابن حجر: "(أو) في قوله، ((تبكين أو لا تبكين)) للتخيير، ومعناه أنه مكرم بصنيع الملائكة وتزاحمهم عليه لصعودهم بروحه"[21].
المبحث الرابع: الثناء على أهل بيعة الرضوان:
لقد ورد في فضل أصحاب بيعة الرضوان نصوص محكمة كثيرة من القرآن والسنة النبوية من ذلك:
1- قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح:4].
قال ابن كثير: "يقول تعالى: {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ} أي: الطمأنينة قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وعنه الرحمة، وقال قتادة: الوقار في قلوب المؤمنين وهم الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت زادهم إيماناً مع إيمانهم، وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب"[22].
2- قال تعالى: {لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} [الفتح:5].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح:1] قال: الحديبية، قال أصحابه: هنيئاً مرئياً فما لنا؟ فأنزل الله: {لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}[23].
3- قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [الفتح:10].
قال ابن جرير رحمه الله: "وقوله: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ} يقول تعالى ذكره: ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الصبر عند لقاء العدو في سبيل الله ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم على أعدائه، {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} يقول: فسيعطيه ثواباً عظيماً، وذلك أن يدخله الجنة جزاء له على وفائه بما عاهد عليه الله، ووثق لرسوله على الصبر معه عند البأس بالمؤكدة من الإيمان"[24].
4- قال تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً R وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح:18، 19].(/10)
قال أبو بكر الجصاص: "فيه الدلالة على صحة إيمان الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان بالحديبية، وصدق بصائرهم، فهم قوم بأعيانهم... فدل على أنهم كانوا مؤمنين على الحقيقة، أولياء الله، إذ غير جائز أن يخبر الله برضاه عن قوم بأعيانهم إلا وباطنهم كظاهرهم في صحة البصيرة وصدق الإيمان، وقد أكد ذلك بقوله: {فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} يعني: الصبر بصدق نياتهم وهذا يدل على أن التوفيق يصحب صدق النية وهو مثل قوله: {إِن يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}[النساء:35]"[25].
ومما ورد في فضل أهل بيعة الرضوان في السنة المطهرة:
1- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: ((خير أهل الأرض)) وكنا ألفاً وأربعمائة، ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة[26].
قال الحافظ ابن حجر: "هذا صريح في فضل أصحاب الشجرة فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعة بمكة وبالمدينة وبغيرهما"[27].
2- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أخبرتني أم مبشر: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: ((لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذي بايعوا تحتها)) قالت: بلى يا رسول الله، فانتهرها فقالت حفصة: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قد قال الله عز وجل: {ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72]))[28].
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها)) قال العلماء: معناه لا يدخلها أحد منهم قطعاً... وإنما قال: ((إن شاء الله)) للتبرك لا للشك"[29].
3- عن جابر أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذبت، لا يدخلها، فإنه شهد بدراً والحديبية))[30].
4- عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يصعد الثنية، ثنية المراد، فإنه يُحَط عنه ما حُطّ عن بني إسرائيل)) قال: فكان أول من صعدها خيلنا خيل بني الخزرج، ثم تتام الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر)) فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم، قال: وكان رجلاً ينشد ضالة له[31].
[1] انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/1002) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/237).
[2] المفردات (228).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الجمعة باب فرض الجمعة (876)، ومسلم في كتاب الجمعة باب: هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (855) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] انظر: زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (3/490-491).
[5] منهاج السنة النبوية (1/154-155)، وانظر: شرح الطحاوية (ص 530).
[6] جامع البيان (3/193-194).
[7] منهاج السنة (1/156).
[8] الجامع لأحكام القرآن (8/42).
[9] روضة خافي: موضع بين مكة والمدينة بقرب المدينة.
[10] أخرجه البخاري في الجهاد والسير باب الجاسوس (3007) وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أهل بدر (2494).
[11] فتح الباري (7/305-306).
[12] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب: شهود الملائكة بدراً (3992)، وابن ماجة في المقدمة باب فضل أهل بدر (160).
[13] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب فضل من شهد بدراً (3982).
[14] هو الذي لا يعلم راميه أو لا يعرف من أين أتى أو جاء دون قصد راميه.
[15] البداية والنهاية (3/361).
[16] أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر (1763).
[17] انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة (1/183).
[18] جامع البيان (4/176).
[19] أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد باب: في فضل الشهادة (2520)، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (2384)، والحديث حسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (2199) (2/479).
[20] أخرجه البخاري في كتاب الجنائز باب الدخول على الميت بعد الموت (1244)، ومسلم في فضائل الصحابة باب: من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام (2471).
[21] فتح الباري (3/116).
[22] تفسير القرآن العظيم (6/330)، وانظر تفسير البغوي مع الخازن (6/158)، وفتح القدير (5/45).
[23] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب غزوة الحديبية (4172).
[24] جامع البيان (26/76).
[25] أحكام القرآن (5/273).
[26] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب: غزوة الحديبية (4155)، ومسلم في كتاب الإمارة باب: استحباب مبايعة الإمام الجيش (4155).
[27] فتح الباري (7/507).
[28] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل أصحاب الشجرة وأهل بيعة الرضوان (2496).(/11)
[29] شرح النووي لصحيح مسلم (16/85).
[30] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم (2495).
[31] أخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (2780).
الفصل السابع: فضل العشرة المبشرين بالجنة:
1- فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
أ- قال الله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:41].
قال ابن جرير الطبري: "وإنما عنى الله جل ثناؤه بقوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه؛ لأنهما كانا اللذين خرجا هاربين من قريش إذ همّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار. وقوله: {إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ} يقول: إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في الغار، والغار: النقب العظيم يكون في الجبل، {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} يقول: إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبي بكر: {لاَ تَحْزَنْ} وذلك أنه خاف من الطلب"[1].
وقال أبو بكر ابن العربي: "فيها عدة فضائل مختصة لأبي بكر، لم تكن لغيره، منها قوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} فوصف الصحبة في كتابه متلواً إلى يوم القيامة، ومنها قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في الغار: ((يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)) وهذه مرتبة عظمى وفضيلة شماء لم يكن لبشر أن يخبر عن الله سبحانه أنه ثالث اثنين أحدهما أبو بكر، كما أنه قال مخبراً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ثاني اثنين"[2].
ب- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: ((إن الله خيّر عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله)): قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد خُيّر فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المُخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لا تخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر))[3].
قال النووي: "قال العلماء: معناه أكثرهم جوداً وسماحة لنا بنفسه وماله، وليس هو المن الذي هو الاعتداد بالصنيعة؛ لأنه أذىً مبطل للثواب ولأن المنة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم في قبول ذلك وفي غيره"[4].
ج- عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: ((عائشة))، فقلت: من الرجال؟ قال: ((أبوها))، قال: ثم من؟ قال: ((ثم عمر بن الخطاب))، فعد رجالاً[5].
هذا الحديث فيه تصريح بعظيم فضائل أبي بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم، وفيه دلالة بينة لأهل السنة في تفضيل أبي بكر ثم عمر على جميع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين[6].
2- فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أ- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خشفة فقلت من هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصراً بفنائه جارية فقلت: لمن هذا؟ فقال: لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك))، فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله، أعليك أغار[7].
قال الحافظ ابن حجر: "وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مراعاة الصحبة، وفيه فضيلة ظاهرة لعمر"[8].
ب- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بينا أنا نائم رأيت الناس عرضوا علَيّ وعليهم قُمُص، فمنها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علَيّ عمر وعليه قميص اجتره)) قالوا: فما أوّلته يا رسول الله؟ قال: ((الدين))[9].
ج- وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إيهاً يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً قط إلا سلك فجاً آخر))[10].
قال الحافظ ابن حجر: "فيه فضيلة عظيمة لعمر، تقتضي أن الشيطان لا سبيل له عليه، لا أن ذلك يقتضي وجود العصمة؛ إذ ليس فيه إلا فرار الشيطان منه أن يشاركه في طريق يسلكها، ولا يمنع ذلك من وسوسته له بحسب ما تصل إليه قدرته"[11].
3- فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه:
أ- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عنهما قال: كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم[12].(/12)
ب- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن فقال: ((ائذن له وبشره بالجنة))، فإذا أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: ((ائذن له وبشره بالجنة))، فإذا عمر، ثم جاء آخر يستأذن فسكت هنيهة ثم قال: ((ائذن له وبشره بالجنة على بلوى ستصيبه))، فإذا عثمان بن عفان[13].
ج- عن عائشة رضي الله عنه قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضجعاً في بيتي كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه - وقال محمد - ولا أقول ذلك في يوم واحد، فدخل فتحدث فلما خرج قالت عائشة رضي الله عنها: دخل أبو بكر فلم تهتش[14] له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك فقال: ((ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)) [15].
4- فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أ- عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: ((لأعطين هذه الراية رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)) قال: فبات الناس يدوكون[16] ليلتهم أيهم يعطاها، قال: فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: ((أين علي بن أبي طالب؟)) فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه فأتي به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا فقال: ((أنفذ على رِسْلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير ذلك من حمر النعم))[17].
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في قوله: ((يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)): "فيه فضيلة عظيمة لعلي بن أبي طالب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بذلك"[18].
ب- عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي)) قال سعيد بن المسيب: فأحببت أن أشافه بها سعداً فلقيت سعداً فحدثته بما حدثني عامر فقال: أنا سمعته فقلت: أنت سمعته؟ فوضع أصبعيه على أذنيه فقال: نعم، وإلا فاستكتا[19].
قال النووي: "فيه إثبات فضيلة لعلي ولا تعارض فيه لكونه أفضل من غيره أو مثله، وليس فيه دلالة لاستخلافه بعده"[20].
ج- عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب: ((أنت مني وأنا منك))[21].
5- فضائل طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه:
أ- عن الزبير رضي الله عنه قال: كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعان، فنهض إلى الصخرة فلم يستطع، فأقعد تحته طلحة فصعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى استوى على الصخرة، قال: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أوجب طلحة))[22].
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((أوجب طلحة)) أي: وجبت له الجنة بسبب عمله هذا أو بما فعل في ذلك اليوم، فإنه خاطر بنفسه يوم أحد وفدى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلها وقاية له حتى طعن ببدنه وجرح جميع جسده حتى شلت يده[23].
ب- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسكن حراء، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد)) وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم[24].
ج- ومن مناقبه الرفيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنه راض، قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: "باب ذكر طلحة بن عبيد الله، وقال عمر: توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنه راضٍ"[25].
6- فضائل الزبير بن العوام رضي الله عنه:
أ- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل نبي حوارياً، وإن حواريّ الزبير بن العوم))[26].
ومعنى قوله عليه السلام: ((وحواري الزبير)) أي: خاصتي من أصحابي وناصري، ومنه الحواريون أصحاب عيسى عليه السلام أي خلصائه وأنصاره، وأصله من التحوير: التبييض[27].(/13)
ب- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فداه بأبويه، فعن عبد الله بن الزبير قال: كنت يوم الأحزاب جعلت أنا وعمر بن أبي سلمة في النساء، فنظرت فإذا أنا بالزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثاً فلما رجعت قلت: يا أبت رأيتك تختلف قال: وهل رأيتني يا بني؟ قلت: نعم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يأت بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟)) فانطلقت فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: ((فداك أبي وأمي))[28].
ج- عن عائشة رضي الله عنها: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:172] قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبوك منهم: الزبير وأبو بكر لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال: ((من يذهب في إثرهم؟)) فانتدب منهم سبعون رجلاً قال: كان فيهم أبو بكر والزبير[29].
7- فضائل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه:
أ- عن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك قال المغيرة: فتبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الغائط[30] فحملت معه إداوة قبل صلاة الفجر، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ أخذت أهريق على يديه من الإداوة، وغسل يديه ثلاث مرات ثم ذهب يخرج جبته عن ذراعيه فضاق كمّا جبته، فأدخل يديه في الجبة حتى أخرج ذراعيه من أسفل الجبة، وغسل ذراعيه إلى المرفقين، ثم توضأ على خفيه ثم أقبل. قال المغيرة: فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدّموا عبد الرحمن بن عوف، فصلى لهم فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين فصلى مع الناس الركعة الآخرة، فلما سلّّم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته فأفزع ذلك المسلمين فأكثروا التسبيح فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته أقبل عليهم ثم قال: ((أحسنتم)) أو قال: ((أصبتم)) يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها[31].
ب- وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة...))[32].
8- فضائل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
أ- عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعداً يقول: جمع لي النبي صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد[33].
ب- عن عائشة رضي الله عنه عنها قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال: ((ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة)) قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح فقال: ((من هذا؟)) قال: سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله: ((ما جاء بك؟)) قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام[34].
ج- عن سعد رضي الله عنه قال: إني لأول العرب رمى في سبيل الله، وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى إن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة ما له خلط...[35].
وكان ذلك في سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان القتال فيها أول حرب وقعت بين المشركين والمسلمين وهي أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى من الهجرة[36].
9- فضائل أبي عبيد بن الجراح رضي الله عنه:
أ- عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لكل أمة أميناً، وإن أميننا ـ أيتها الأمة ـ أبو عبيدة بن الجراح))[37].
الأمين هو الثقة المرضي وهذه الصفة وإن كانت مشتركة بينه وبين غيره لكن السياق يشعر بأن له مزيداً في ذلك، لكن خص النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد من الكبار بفضيلة ووصفه بها، فأشعر بقدر زائد فيها على غيره، كالحياء لعثمان والقضاء لعلي ونحو ذلك[38].
ب- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر لما خرج إلى الشام وأخبر أن الوباء قد وقع به فجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشارهم، فاختلفوا، فرأى عمر رأي من رأى الرجوع فرجع، فقال له أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ـ وكان عمر يكره خلافه نعم ـ نفِرّ من قدر الله إلى قدر الله[39].
قال الحافظ ابن حجر: "وذلك دال على جلالة أبي عبيدة عند عمر"[40].
ج- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح))[41].
10- فضائل سعيد بن زيد رضي الله عنه:
أ- عن قيس بن حازم قال: سمعت سعيد بن زيد يقول للقوم في مسجد الكوفة يقول: والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي على الإسلام قبل أن يسلم عمر، ولو أن أحداً أرفض[42] للذي صنعتم بعثمان لكان محقوقاً أن يرفض[43].(/14)
ب- ومن مناقبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة في حديث العشرة المتقدم.
ج- ومن مناقبه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه من الشهداء في حديث: ((اثبت حراء)).
[1] جامع البيان (10/136).
[2] أحكام القرآن (2/951).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب: الخوخة والممر في المسجد (466)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2382).
[4] شرح النووي على صحيح مسلم (15/150)، وانظر: فتح الباري (1/559).
[5] أخرجه البخاري في المناقب باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت (3662)، ومسلم في فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر (2384).
[6] انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (15/153).
[7] أخرجه البخاري في كاب المناقب باب: مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي (3679).
[8] فتح الباري (7/75).
[9] أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب: مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي (3691).
[10] أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق باب: صفة إبليس وجنوده (3294)، ومسلم في فضائل الصحابة باب: من فضائل عمر رضي الله عنه (2397).
[11] فتح الباري (7/47).
[12] أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب: مناقب عثمان بن عفان (3697).
[13] أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه (3695).
[14] تهتش: يقال: هش لهذا الأمر يهش هشاشة إذا فرج به واستبشر وارتاح له وخف.
[15] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه (2401).
[16] يدوكون: أي يخوضون ويموجون فيمن يدفعها إليه.
[17] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب غزوة خيبر (4210)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (2406).
[18] تيسير العزيز الحميد (107).
[19] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل علي بن أبي طالب (2404).
[20] شرح النووي على صحيح مسلم (65/174).
[21] أخرجه البخاري في كتاب الصلح باب: كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان وفلان (2501)، والترمذي في المناقب باب مناقب علي بن أبي طالب (3649).
[22] أخرجه الترمذي في كتاب الجهاد باب ما جاء في الدرع (1692)، والحديث حسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (1383) (2/138).
[23] انظر: تحفة الأحوذي (5/341).
[24] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما (2417).
[25] أخرجه البخاري في المناقب باب ذكر طلحة بن عبيد الله.
[26] أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم في كتاب المناقب باب مناقب الزبير بن العوام (3719)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما (2415).
[27] النهاية لابن الأثير (1/457-458).
[28] أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب: مناقب الزبير بن العوم (3720).
[29] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب: الذين استجابوا لله والرسول (4077).
[30] الغائط: هو المكان المنخفض من الأرض.
[31] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة باب: تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام (274).
[32] أخرجه الترمذي في المناقب باب مناقب عبد الرحمن بن عوف (3747).
[33] أخرجه البخاري في المناقب باب: مناقب سعد بن أبي وقاص (3725)، ومسلم في فضائل الصحابة باب: في فضل سعد (2412).
[34] أخرجه البخاري في الجهاد والسير باب: الحراسة في الغزو في سبيل الله (2885)، ومسلم في فضائل الصحابة باب: في فضل سعد (2410).
[35] أخرجه البخاري في المناقب باب مناقب سعد (3728).
[36] انظر السيرة النبوية لابن هشام (1/591)، وفتح الباري (7/84).
[37] أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب مناقب أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه عنه (3744)، وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: فضائل أبي عبيدة بن الجراح (2419).
[38] انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (15/191)، وفتح الباري (7/93).
[39] أخرجه البخاري في الطب باب ما يذكر في الطاعون (5729) بتمامه؛ ومسلم في كتاب السلام باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها (2219).
[40] انظر: الإصابة (2/244).
[41] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (9147)، والترمذي في المناقب باب مناقب معاذ بن جبل و... (3795) وقال: حديث حسن إنما نعرفه من حديث سهيل.
[42] أي: زال من مكانه.
[43] أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب: إسلام سعيد بن زيد رضي الله عنه (3862).
الفصل الثامن: فضل الصحابة من أهل البيت عموماً وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً:
المراد بأهل البيت لغة وشرعاً:
الأهل لغة:
قال الخليل بن أحمد: "أهل الرجل زوجه والتأهل التزوج وأهل الرجل أخص الناس به وأهل البيت سكانه وأهل الإسلام من يدين به"[1].(/15)
وقال الراغب الأصفهاني: "أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما من صناعة وبيت وبلد، فأهل الرجل في الأصل من يجمعه وإياهم نسب، وتعورف في أسرة النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً إذا قيل أهل البيت لقوله عز وجل {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب:33]"[2].
قال ابن منظور: "وأهل المذهب: من يدين به وأهل الإسلام من يدين به وأهل الأمر ولاته، وأهل البيت سكانه وأهل الرجل: أخص الناس به، وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه وبناته وصهره أعني علياً عليه السلام، وقيل: نساء النبي صلى الله عليه وسلم... إلى أن قال: والتأهل: التزوج، والآهل الذي له زوجة وعيال، والعزب الذي لا زوجة له... وآل الرجل أهله وآل الله ورسوله أولياؤه"[3].
وأما شرعاً:
فقال القرطبي: "والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم، وإنما قال: {وَيُطَهّرَكُمْ} لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلياً وحسناً وحسيناً كانوا فيهم، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت؛ لأن الآية فيهن، والمخاطبة لهن يدل عليه سياق الكلام"[4].
وقال الحافظ ابن كثير: "وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ها هنا لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً؛ إما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح... ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} فإن سياق الكلام معهن ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]"[5].
ما جاء في فضل أهل البيت عموماً وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً:
1- قال تعالى: {النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}.
قال القرطبي: "شرف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين أي: في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال، وحرمة النكاح على الرجال، وحجبهن رضي الله عنهن بخلاف الأمهات"[6].
وقال الحافظ ابن كثير: "وقوله: {وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي: في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام والإعظام، ولكن لا تجوز الخلوة بهن، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع"[7].
2- قال تعالى: {ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لأزْواجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحياةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:28، 29].
هذا أمر من الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال ولهن عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن رضي الله عنهن وأرضاهن: الله ورسوله والدار الآخرة، فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة[8].
3- قال تعالى: {يانِسَاء النَّبِىّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [الأحزاب:32].
قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في بيان معنى الآية: ({يانِسَاء النَّبِىّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء} يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم لدي)[9].
4- قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما بعد: ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به)) فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: ((وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي))[10].
[1] انظر: مقاييس اللغة (1/150).
[2] المفردات في غريب القرآن (ص 29).
[3] لسان العرب (11/29-30).
[4] الجامع لأحكام القرآن (14/183).
[5] تفسير القرآن العظيم (5/452-458).
[6] الجامع لأحكام القرآن (14/123).
[7] تفسير القرآن العظيم (5/425).
[8] تفسير القرآن العظيم (5/447).
[9] انظر:تفسير البغوي على حاشية الخازن (5/212).
[10] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: فضائل علي بن أبي طالب (2408).(/16)
الفصل التاسع: عقيدة أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
المبحث الأول: وجوب محبتهم رضي الله عنهم:
من عقائد أهل السنة والجماعة وجوب محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم والاحتجاج بإجماعهم والاقتداء بهم والأخذ بآثارهم، وحرمة بغض أحد منهم، لما شرفهم الله به من صحبة رسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه لنصرة دين الإسلام والهجرة في سبيله، وقد دلت النصوص الصحيحة الصريحة على هذا المعتقد في كثير من الآيات والأحاديث منها:
1- قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10].
هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبهم أو واحداً منهم أو اعتقد فيه شراً أنه لا حق له في الفيء، روي ذلك عن مالك وغيره قال مالك: من كان يبغض أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ}[1].
2- عن عبد الله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه))[2].
3- عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار))[3].
4- عن عدي بن ثابت قال: سمعت البراء يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار: ((لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله))[4].
5- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر))[5].
المبحث الثاني: الدعاء والاستغفار لهم:
من حق الصحابة الكرام رضي الله عنهم على كل من جاء بعدهم من عباد الله المؤمنين أن يدعو لهم ويستغفر لهم ويترحم عليهم، وقد دل على هذا كم كبير من نصوص الوحيين منها:
1- قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ}.
2- عن عروة قال: قالت لي عائشة: يا ابن أختي، أُمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم[6].
قال النووي: "قولها: (أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم) قال القاضي: الظاهر أنها قالت هذا عندما سمعت أهل مصر يقولون في عثمان ما قالوا، وأهل الشام في علي ما قالوا، والحرورية في الجميع ما قالوا، وأما الأمر بالاستغفار الذي أشارت إليه فهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ}"[7].
3- عن قتادة بن دعامة السدوسي أنه قال بعد قراءته لقوله تعالى: {َالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ}: "إنما أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمروا بسبهم"[8].
المبحث الثالث: الشهادة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم:
من عقائد أهل السنة والجماعة أنهم يشهدون لمن شهد له المصطفى صلى الله عليه وسلم بالجنة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فهناك أشخاص أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم من أهل الجنة، وهناك آخرون أخبر ببعض النعيم المعد لهم في الجنة، والكل يشهد له أهل السنة والجماعة بالجنة تصديقاً منهم لخبر الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، فلقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن عشرة من المهاجرين بأنهم من أهل الجنة وسماهم بأعيانهم، وهؤلاء العشرة هم المذكورون في حديث سعيد بن زيد.
وتبشير هؤلاء لا ينافي تبشير غيرهم، فلقد جاء تبشير عدد من الصحابة في غير ما حديث، ومن أمثلة أولئك:
1- بلال بن رباح رضي الله عنه:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خشفة فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال))[9].
2- حارثة بن سراقة رضي الله عنه:
عن أنس رضي الله عنه قال: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع، فقال: ((ويحك أوَهبلتِ؟! أَوَجنة واحدة؟ إنها جنات كثيرة وإنه في جنة الفردوس))[10].
المبحث الرابع: إثبات عدالتهم رضي الله عنه:(/17)
تعريف العدالة لغة واصطلاحاً:
العدالة لغة: قال ابن منظور: "رجل عدل بين العدل والعدالة: وصف بالمصدر معناه ذو عدل"[11].
وقال الفيروز آبادي: "العدل ضد الجور وما قام في النفوس أنه مستقيم كالعدالة والعدُولة والمِعدلة والمعدَلة"[12].
العدالة اصطلاحاً: أما تعريف العدالة في الاصطلاح فقد تنوعت فيها عبارات العلماء والمحدثين والأصوليين، وهي وإن تنوعت عباراتها إلا أنها ترجع إلى معنى واحد، وهو: أن العدالة ملكة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة، ولا تتحقق إلا بالإسلام والبلوغ والعقل والسلامة من الفسق.
دلالة القرآن على لعدالة الصحابة:
1- قوله تعالى: {وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، ووجه الاستدلال بهذه الآية على عدالة الصحابة رضي الله عنهم أن وسطاً بمعنى (عدولاً خياراً)[13] ولأنهم المخاطبون بهذه الآية مباشرة.
2- قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.
3- قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
4- قوله تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:18].
5- قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح:29].
قال القرطبي: "فالصحابة كلهم عدول أولياء الله تعالى وأصفياؤه وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله، هذا مذهب أهل السنة والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة، وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم، ومنهم من فرّق بين حالهم في بداءة الأمر فقال: إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك ثم تغيرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء، فلا بد من البحث، وهذا مردود، فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله: {مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك، وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم إذ كانت تلك المرور مبنية على الاجتهاد"[14].
أما دلالة السنة على تعديلهم رضي الله عنه:
عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب))[15].
قال ابن حبان: "وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب)) أعظم دليل على أن الصحابة كلهم عدول ليس فيهم مجروح ولا ضعيف، إذ لو كان فيهم أحد غير عدل لاستثنى في قوله صلى الله عليه وسلم وقال: ((ألا ليبلغ فلان منكم الغائب))، فلما أجملهم في الذكر بالأمر بالتبليغ من بعدهم دل ذلك على أنهم كلهم عدول، وكفى بمن عدله رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفاً"[16].
وقد مرت الآيات والأحاديث الدالة على تعديلهم في الفصلين الثالث والرابع فيرجع إليها.
المبحث الخامس: ترتيب الصحابة في الفضل والإمامة:
تعريف الإمامة لغة:
قال ابن منظور: "والإمام كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين... والجمع أئمة... وإمام كل شيء قيّمه والمصلح له، والقرآن إمام المسلمين، وسيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة، والخليفة إمام الرعية، وإمام الجند قائدهم... وأممت القوم في الصلاة إمامة وائتم به أي: اقتدى به، وإمام الغلام في المكتب ما يتعلم كل يوم. ويقال فلان إمام القوم معناه هو المتقدم لهم، ويكون الإمام رئيساً كقولك: إمام المسلمين"[17].
تعريف الإمامة اصطلاحا:(/18)
عرفها العلماء بتعريفات مختلفة من حيث اللفظ، متحدة في المعنى، ومضمون تعريفاتهم: أنها سياسة الإمام التي يجب أن تكون وفق الشريعة الإسلامية الغراء التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون بعيداً عن الحكم بالهوى والشهوة في كل حال ولا بد أن يكون حكمه بالشرع في كل الأمور الدينية والدنيوية، حتى يصدق عليه أنه نائب عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حراسة الدين وسياسة الدنيا بالقيام بشرع الله الذي أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من كتاب وسنة، ولفظ الإمام والخليفة والأمير ألفاظ الحديث النبوي[18].
عقيدة أهل السنة في ذلك:
وعقيدة أهل السنة والجماعة في ترتيب الخلفاء الأربعة في الإمامة كترتيبهم في الفضل، فالإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذو النورين ثم أبو السبطين علي رضي الله عنهم أجمعين، فأهل الحق يعتقدون اعتقاداً جازماً لا مرية فيه ولا شك أن أولى الناس بالإمامة والأحق بها بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، روى أبو عمر بن عبد البر بإسناده إلى عباد السماك قال: سمعت سفيان الثوري يقول: الأئمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز وما سوى ذلك فهم منتزون[19]. قال أبو عمر: "قد روى عن مالك وطائفة نحو قول سفيان هذا، وتأبى جماعة من أهل العلم أن تفضل عمر بن عبد العزيز على معاوية لمكان صحبته"[20].
[1] الجامع لأحكام القرآن (18/32).
[2] أخرجه الترمذي في كتاب المناقب باب: فيمن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (3862) والحديث ضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي برقم (808) وقال عنه الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
[3] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب: علامة الإيمان حب الأنصار (17)، ومسلم في كتاب الإيمان باب: الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنه (74).
[4] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب: الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنه (76).
[5] أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب: حب الأنصار (3783)، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنه (75).
[6] أخرجه مسلم في كتاب التفسير باب حدثنا يحي بن يحي.. (3022).
[7] شرح النووي على صحيح مسلم (18/158-159).
[8] أسنده الطبري في جامع البيان (28/44-45).
[9] أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3679).
[10] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب فضل من شهد بدراً (3982).
[11] لسان العرب (11/430).
[12] القاموس المحيط (4/13).
[13] انظر: جامع البيان للطبري (2/7)، الجامع لأحكام القرآن (2/153)، تفسير القرآن العظيم (1/335).
[14] انظر: الجامع لأحكام القرآن (16/399).
[15] أخرجه البخاري في كتاب العلم باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب (105) وأخرجه مسلم في كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والدبات باب: تغليط تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679).
[16] انظر: الإحسان بترتيب صحيح بن حبان (1/91).
[17] لسان العرب (12/24)، وانظر: القاموس المحيط (4/78)، وتاج العروس (8/193).
[18] انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة للدكتور ناصر الشيخ (2/504).
[19] أي متغلبون.
[20] جامع بيان العلم وفضله (2/226-227)، وانظر: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة (2/514).
الفصل العاشر: تحريم سب الصحابة:
المبحث الأول: تحريم سبهم بنص القرآن:
1- قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً E وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [الأحزاب:58].
ووجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم أنهم في صدارة المؤمنين، فإنهم المواجهون بالخطاب في كل آية مفتتحة بقوله: {اأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ} ومثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ} في جميع القرآن فالآية دلت على تحريم سب الصحابة؛ لأن لفظ المؤمنين أول ما ينطلق عليهم لأن الصدارة في المؤمنين لهم رضي الله عنهم، وسبهم والنيل منهم من أعظم الأذى[1].
قال الحافظ ابن كثير: "ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله ثم الرافضة الذين ينتقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم"[2].
2- وقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً}.(/19)
قال أبو عبد الله القرطبي: "روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ مالك هذه الآية: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء...} حتى بلغ: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارُ}، فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية"، ثم قال: "لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله، فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين"[3].
المبحث الثاني: دلالة السنة على تحريم سبهم:
1- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه))[4].
قال النووي: "واعلم أن سب الصحابة رضي الله عنهم حرام، من فواحش المحرمات، سواء من لابس الفتن منهم وغيره؛ لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون"[5].
2- وعن أبي سعيد أيضاً قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أحداً من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه))[6].
3- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي، لعن الله من سب أصحابي))[7].
4- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين))[8].
المبحث الثالث: من كلام السلف في تحريم سب الصحابة:
1- روى ابن أبي حاتم بإسناده إلى يوسف بن سعد عن محمد بن حاطب قال: ونزل في داري حيث ظهر علي رضي الله عنه على أهل البصرة فقال لي يوماً: لقد شهدت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه وعنده عمار وصعصعة والأشتر ومحمد بن أبي بكر رضي الله عنهم، فذكروا عثمان رضي الله عنه فنالوا منه فكان علي رضي الله عنه على السرير ومعه عود في يده، فقال قائل منهم: إن عندكم من يفصل بينكم فسألوه فقال علي رضي الله عنه: كان عثمان رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَاتِهِمْ فِى أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصّدْقِ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16]، قال: والله عثمان وأصحاب عثمان رضي الله عنهم، قالها ثلاثاً، قال يوسف: فقلت لمحمد بن حاطب آلله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه قال: آلله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه[9].
2- وعن جابر رضي الله عنهما قال: قيل لعائشة: إن ناساً يتناولون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر فقالت: وما تعجبون من هذا؟ انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر[10].
3- عن محمد بن علي بن الحسين بن علي أنه قال لجابر الجعفي: يا جابر، بلغني أن قوماً بالعراق يزعمون أنهم يحبونا ويتناولون أبا بكر وعمر ويزعمون أني آمرهم بذلك، فأبلغهم عني أني إلى الله منهم بريء، والذي نفس محمد بيده، لو وليت لتقربت إلى الله بدمائهم، لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم إن لم أكن استغفر لهما وأترحم عليهما، إن أعداء الله لغافلون عن فضلهما، فأبلغهم أني بريء منهم وممن تبرأ من أبي بكر
وعمر رضي الله عنهما[11].
المبحث الرابع: حكم سابّ الصحابة وعقوبته:
اختلف أهل العلم في الحكم والعقوبة التي يستحقها من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جرحهم، هل يكفر بذلك وتكون عقوبته القتل أو أنه يفسق بذلك ويعاقب بالتعزير.
1- ذهب جمع من أهل العلم إلى القول بتكفير من سب الصحابة رضي الله عنهم أو انتقصهم وطعن في عدالتهم وصرح، ببغضهم وأن من كانت هذه صفته فقد أباح دم نفسه وحل قتله إلا أن يتوب من ذلك ويترحم عليهم.
قال الطحاوي في عقيدته: "وحبهم ـ أي الصحابة ـ دين وإيمان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان"[12].
وقال الذهبي: "فمن طعن فيهم أو سبهم فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين، لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم وإضمار الحق فيهم وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنائه عليهم وفضائلهم ومناقبهم وحبهم، ولأنهم أرضى الوسائل من المأثور والوسائط من المنقول، والطعن في الوسائط طعن في الأصل والازدراء بالناقل ازدراء بالمنقول وهذا ظاهر لمن تدبره وسلم من النفاق ومن الزندقة والإلحاد في عقيدته"[13].
واستدل أصحاب هذا القول بأمور منها:
أ) أن سب الصحابة وانتقاصهم والطعن فيهم إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقاص له وحط من مكانته عليه الصلاة والسلام لأنهم أصحابه الذين رباهم وزكاهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأذى الله ورسوله كفر موجب للقتل"[14].(/20)
ب) أن الطعن في الصحابة والتجريح لهم مفاده إبطال جميع أحكام الشريعة الإسلامية إذ هم نقلتها والمبلغون لها.
قال القرطبي: "فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين"[15].
ج) أن الطعن في الصحابة يؤدي إلى إنكار ما قام عليه الإجماع قبل ظهور المخالف من فضلهم وشرفهم ومصادقة المتواتر من الكتاب والسنة الدالين على أن لهم الزلفي إلى ربهم[16].
2- وذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن ساب الصحابة لا يكفر بسبهم بل يفسق ويضلل ولا يعاقب بالقتل بل يعزر تعزيراً شديداً.
قال إسحاق بن راهويه: "ومن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب ويحبس"[17].
وقد استدل أصحاب هذا القول بأدله منها:
أ) ما رواه الشيخان في صحيحيهما من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخالد بن الوليد وقد سب عبد الرحمن بن عوف ((لا تسبوا أصحابي...)).
ب) ما رواه الإمام أحمد بإسناده إلى أبي برزة الأسلمي قال: أغلظ رجل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: فقال أبو برزة: ألا أضرب عنقه قال: فانتهره، وقال: ما هي لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم[18].
ج) أن الله ميز بين مؤذي الله ورسوله ومؤذي المؤمنين فجعل الأول ملعوناً في الدنيا والآخرة وقال في الثاني: {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِينا} [النساء:112]، ومطلق البهتان والإثم ليس بموجب للقتل وإنما هو موجب للعقوبة في الجملة.
[1] انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة (2/833).
[2] تفسير ابن كثير (5/515).
[3] الجامع لأحكام القرآن (16/296).
[4] أخرجه البخاري في المناقب باب: لو كنت متخذاً خليلاً (3673).
[5] شرح النووي على صحيح مسلم (16/).
[6] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم (2541).
[7] أخرجه الطبراني في الأوسط (5/94) والكبير (12/434) وقال الهيثمي في إسناد الاوسط: "رجاله رجال الصحيح غير علي بن سهل وهو ثقةَ" مجمع الزوائد (10/21).
[8] أخرجه الطبراني في الكبير (3/174) وحسنه بمجموع طرقه الألباني في السلسلة الصحيحة (2340).
[9] ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره (6/283).
[10] انظر: جامع الأصول (9/408-409).
[11] انظر: البداية والنهاية (9/349).
[12] شرح الطحاوية (528).
[13] الكبائر (235).
[14] الصارم المسلول على شاتم الرسول (580).
[15] الجامع لأحكام القرآن (16/299).
[16] الأجوبة العراقية (49).
[17] انظر الصارم المسلول (568).
[18] المسند (1/9).
الفصل الحادي عشر: المنحرفون في هذا الباب:
المبحث الأول: الشيعة والرافضة:
إن الرافضة وقفوا من الصحابة موقفاً لم ترضه اليهود في أصحاب موسى، ولم ترضه النصارى في أصحاب عيسى، فلقد اجترؤوا على الصحابة الكرام وتناولوهم بالطعن والقدح:
فمن مطاعنهم في الصحابة عموماً أن أكثرهم انفضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العير التي جاءت من الشام وتركوه وحده في خطبة الجمعة وتوجهوا إلى اللهو واشتغلوا بالتجارة وذلك دليل على عدم الديانة.
ومن مطاعنهم في الصحابة أنهم يعتقدون فيهم أنهم ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بدعوى أنهم جحدوا النص على إمامة علي وبايعوا غيره بالخلافة.
ومن مطاعنهم أيضاً أنهم حرفوا القرآن وأسقطوا منه كلمات، بل آيات، وأن القرآن الموجود لدى السبعة كما يزعمون يعادل ثلاث مرات من القرآن الموجود بين أيدينا، ومطاعنهم في الصحابة عموماً أنهم يقولون: إن كثيراً منهم فروا يوم الزحف في غزوتي أحد وحنين والفرار من الزحف أكبر الكبائر.
ومن مطاعنهم زعمهم أن الصحابة آذوا علياً وحاربوه وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من آذى علياً فقد آذاني)).
وهناك عشرات المطاعن غير ما ذكرنا وبخصوص بعض الصحابة مما يندى له الجبين نسأل الله العافية[1].
المبحث الثاني: الخوارج:
لقد امتاز الخوارج عن الشيعة الرافضة بإثباتهم إمامة الصديق والفاروق رضي الله عنهما فهم يعتقدون أن إمامة أبي بكر وعمر إمامة شرعية وأنها كانت برضى المؤمنين وهذا المعتقد للخوارج تجاه الشيخين حالفهم فيه السداد والصواب، لكنهم هلكوا فيمن بعدهما حيث كادهم الشيطان وأخرجهم عن الحق والصواب في اعتقادهم في عثمان وعلي رضي الله عنهما، فأنكروا إمامة عثمان رضي الله عنه في المدة التي نقم عليه أعداؤه فيها كما أنكروا إمامة علي رضي الله عنه بعد التحكيم، بل أدى سوء معتقدهم إلى تكفيرهما وتكفير طلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وأم المؤمنين عائشة وابن عباس وأصحاب الجمل وصفين[2].
قال أبو الحسن الأشعري: "والخوارج بأسرها يثبتون إمامة أبي بكر وعمر وينكرون إمامة عثمان في وقت الأحداث التي نقم عليه من أجلها، ويقولون بإمامة علي قبل أن يحكم، وينكرون إمامته لما أجاب إلى التحكيم ويكفرون معاوية وعمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري"[3].(/21)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان شيطان الخوارج مقموعاً لما كان المسلمون مجتمعين في عهد الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان فلما افترقت الأمة في خلافة علي رضي الله عنه وجد شيطان الخوارج موضع الخروج، فخرجوا وكفروا علياً ومعاوية ومن والاهما، فقاتلهم أَوْلى الطائفتين بالحق علي بن أبي طالب رضي الله عنه"[4].
المبحث الثالث: النواصب:
النواصب إحدى طوائف أهل البدع التي أصيبت في معتقدها بعدم التوفيق للاعتقاد السديد في الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فقد زين لهم الشيطان اعتقاد عدم محبة رابع الخلفاء الراشدين وأحد الأئمة المهديين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحملهم على التدين ببغضه وعداوته، والقول فيه بما هو بريء منه، كما تعدى بغضهم إلى غيره من أهل البيت كابنه الحسين وغيره، وسُمّوا بالنواصب: لنصبهم العداء لآل البيت الأطهار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الخوارج الذين يكفرون علياً والنواصب الذين يفسقونه يقولون: إنه كان ظالماً طالباً للدنيا، وإنه طلب الخلافة لنفسه وقاتل عليها بالسيف، وقتل على ذلك ألوفاً من المسلمين حتى عجز عن انفراده بالأمر، وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقاتلوه"[5].
وبعد أن كان مذهب النصب له وجود في دمشق فإنه تلاشى واضمحل حتى عدم نهائياً، قال الذهبي: "كان النصب مذهباً لأهل دمشق في وقت، كما كان الرفض مذهباً لهم في وقت، وهو في دولة بني عبيد ثم عدم ـ ولله الحمد ـ النصب، وبقي الرفض خفيفاً خاملاً"[6].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
* * * *
[1] انظر: هذه المطاعن بالتفصيل والردود عليها في عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة (3/889) وما بعدها.
[2] انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة (3/1157).
[3] مقالات الإسلاميين (1/204).
[4] مجموع فتاوى شيخ الإسلام (19/89).
[5] منهاج السنة النبوية (1/162).
[6] ميزان الاعتدال (1/76).(/22)
فضائل الصدقة
سعيد بن حمود محمد آل زياد 16/7/1425
01/09/2004
مقدمة
الحمد لله القائل: "يا أيها الَّذِينَ آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون"[البقرة: 254].
والصلاة والسلام على رسول الله الذي بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً ، وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً ، بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد .. فهذه وُريقَاتٌ في فضائل الصدقة من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة والتابعين ، وأتقدم بشكري بعد شكر الله لكل من ساهم في إعداد هذه الوُريقَات وأسال الله تعالى أن ينفع بها المسلمين.
أولاً :فضل الصدقة من القرآن الكريم:
قال الله تعالى: " الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون"[البقرة: 3] .
وقال الله تعالى: "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين"[البقرة : 195].
قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وعطاء ومجاهد : المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة، فيقول الرجل: ليس عندي ماأنفقه ( مختصر تفسير القرطبي 1/215).
وقال الله تعالى: "يا أيها الَّذِينَ آمنوا اْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ"[البقرة : 254].
يكون إنفاق الأموال مرة واجباً ومرة ندباً بحسب تعين الجهاد وعدم تعينه . وأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم الله وأنعم به عليهم، وحذّرهم من الإمساك إلى أن يجيء يومّ لا يمكن فيه بيع ٌ ولا شراءٌ ولا استدراك نفقة (مختصر تفسير القرطبي 1/283).
وقال الله تعالى "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم"[البقرة : 261].
وقال الله تعالى: "الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" [البقرة : 262].
وقال الله تعالى: "قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم" (البقرة:263).
وقال الله تعالى: "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسعٌ عليمٌ"[البقرة : 263]الآية.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير الآية الكريمة ((اثنان من الله، واثنان من الشيطان: (الشيطان يعدكم الفقر) يقول (لا تنفق مالك وأمسكه لك فإنك تحتاج إليه)، (ويأمركم بالفحشاء ) (والله يعدكم مغفرة منه ) على هذه المعاصي، (وفضلاً) في الرزق)) .تفسير الطبري، رقم الأثر (6168،5/571).
وقال الرازي: (فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة، والفضل إشارة إلى منافع الدنيا وما يحصل من الرزق والخلف) التفسير الكبير(7/65).
وقال القاضي ابن عطية في تفسير الآية الكريمة: (والمغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة، والفضل هو الرزق في الدنيا والتوسعة فيه ، والتنعيم في الآخرة، وبكلٍ قد وعد الله تعالى).
وقال الإمام ابن القيِّم الجوزية في تفسير الآية الكريمة: (هذا، وإن وعده له بالفقر ليس شفقة عليه، ولا نصيحة له ..... وأمّا الله سبحانه وتعالى فإنّه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه، وفضلاً بأن يخلف عليه أكثر مّما أنفق وأضعافه إما في الدنيا أو في الدنيا والآخرة) التفسير القيم (ص 168).
وقال الشوكاني: (والفضل أن يخلف عليهم أفضل مما أنفقوا فيوسِّع لهم في أرزاقهم، وينعم عليهم في الآخرة بما هو أفضل وأكثر وأجل وأجمل) فتح القدير(1/438).
وقال الله –تعالى-: "ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون"[البقرة : 272] .
وقال الله –تعالى-: "للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم"[البقرة : 273] .
وقال الله -تعالى-: "الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ"[البقرة : 274]الآية .
وقال الله –تعالى-: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم"[آل عمران : 92] .
لن تصلوا إلى الجنة وتعطوها حتى تنفقوا مما تحبون. وقيل: البر العمل الصالح، وقيل: المعنى حتى تنفقوا مما تحبون في سبيل الخير من صدقة أو غيرها من الطاعات. (مختصر تفسير القرطبي 1/215).(/1)
وقال الله –تعالى-: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون"[الأنفال : 60] .
أي تتصدقوا. وقيل: تنفقوا على أنفسكم أو خيلكم. وقيل: يوف في الآخرة الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة (مختصر تفسير القرطبي 2/291).
وقال الله –تعالى-:"خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم"[التوبة : 103] .
قوله تعالى: "صدقة" مأخوذ من الصدق، إذ هي دليل على صحة إيمانه وصدق باطنه مع ظاهره، وأنه ليس من المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات(مختصر تفسير القرطبي 2/252).
وقال الله –تعالى-: "قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال"[إبراهيم : 31] .
وقال الله –تعالى-: "إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما"[الأحزاب : 35] .
وقال الله –تعالى-: "قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين"[سبأ : 39] .
يقول الشيخ ابن عاشور في تفسير الآية (والمراد بالإنفاق: الإنفاق المرغب فيه في الدين كالإنفاق على الفقراء والإنفاق في سبيل الله لنصر الدين، وظاهر الآية أن إخلاف الرزق يقع في الدنيا وفي الآخرة) تفسير التحرير والتنوير(22/221).
ويقول الحافظ ابن كثير: (أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب) تفسير ابن كثير (3/959).
ويقول الرازي: (إن الآية تحقق معنى قوله عليه الصلاة: (ما مِن يومٍ يُصبحُ العِبادُ فيه إِلاَّ مَلَكانِ يَنزِلانِ فيقولُ أحدُهما: اللَّهمَّ أعطِ مُنفِقاً خَلَفا، ويَقولُ الآخَرُ: اللّهمَّ أعطِ مُمسِكاً تلَفاً" أخرجه البخاري في صحيحه. كتاب الزكاة، باب قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنسيره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى)، رقم الحديث(1374، 2/522).
وذلك لأنّ الله مَلِك علي وهو غني مليء.
فمن أنفق فقد أتى بما هو شرط حصول البدل، ومن لم ينفق فالزوال لازم للمال، ولم يأت بما يستحقّ عليه البدل، فيفوت من غير خلف وهو التلف.
ثم من العجب أن التاجر إذا علم أنّ مالاً من أمواله في معرض الهلاك يبيعه نسيئة، وإن كان من الفقراء، ويقول بأن ذلك أولى من الإمهال إلى الهلاك، فإنّ لم يبع حتى يهلك يُنسَب إلى الخطأ، ثم إنْ حصل به كفيل مليء ولا يبيع يُنسَب إلى الجنون.
ثم إنّ كل واحد يفعل هذا ولا يعلم أن ذلك قريب من الجنون ، فإنّ أموالنا كلّها في معرض الزوال المحقَّق ، والإنفاق على الأهل والولد إقراض ، وقد حصل الضامن المليء وهو العليّ ، وقال تعالى: "وما أنفقتم من شئٍ فهُو ُيخِلفُهُ".
ثم رهن عند كل واحد إما أرضاً أو بستاناً أو طاحونةً أو حماماً أو منفعةً، فإنّ الإنسان لابد أن يكون له صنعة أو جهة يحصل له منها مال، وكل ذلك ملك الله، وفي يد الإنسان بحكم العارية فكأنه مرهون بما تكفّل الله من رزقه ليحصل له الوثوق التام، ومع هذا لا ينفق ويترك ماله ليتلف لا مأجوراً ولا مشكوراً. التفسير الكبير(25/263).
وقال الله –تعالى-: "ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم"[محمد : 38] الآية.
وقال الله –تعالى-: "آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير" [الحديد : 7] .
وقال الله –تعالى-: "وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير"[الحديد : 10] .
أي أيُّ شئ يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله، وفيما يُقرب بكم من ربكم وأنتم تموتون وتخلفون أموالكم وهي صائرة إلى الله تعالى. فمعنى الكلام التوبيخ على عدم الإنفاق (مختصر تفسير القرطبي 4/256).
وقال الله –تعالى-: "هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون" [المنافقون : 7].
وقال الله –تعالى-:"وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين"[المنافقون : 10] .(/2)
وقال الله –تعالى- "فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون"[التغابن : 16] .
ثانياً : فضل الصدقة من السنة النبوية
ذِكْرُ المبادرة بالصَّدَقَةِ قبل أن يأتي زمان تردُ فيه
عن حارثةَ بنَ وَهبٍ --رضي الله عنه-- قال: سمعتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تَصدَّقوا، فإِنه يأتي عليكم زمانٌ يَمشي الرجلُ بصدَقتِه فلا يَجِدُ من يقبَلُها، يقولُ الرجلُ: لو جئتَ بها بالأمسِ لَقبِلْتُها، فأمَّا اليومَ فلا حاجةَ لي بها" أخرجه البخاري في صحيحه. كتاب الزكاة ، باب الصدقة قبل الرد ، رقم الحديث (1345، 2/512).
وعن عَديَّ بنَ حاتِمٍ --رضي الله عنه-- يقولُ:(كنتُ عندَ رسولَ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- فجاءَهُ رجُلآنِ: أحدُهما يَشكو العَيلَة، والآخرُ يشكو قطعَ السَّبيلِ. فقال رسولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أما قَطعُ السبيلِ فإنهُ لا يأتي عليكَ إلاّ قليلٌ حتى تخرُجَ العِيرُ إلى مكةَ بغيرِ خَفِيرٍ. وأمَّا العَيلةُ فإن الساعةَ لا تقومُ حتى يطوفَ أحدُكم بصدَقتِهِ لا يَجدُ من يقبلها منه. ثمَّ ليَقِفنَّ أحدُكم بينَ يدَي اللّهِ ليس بينهُ وبينهُ حِجابٌ ولا تَرجمانٌ يُتَرجمُ لهُ، ثم ليَقُولَنَّ له: ألم أُوتِكَ مالاً؟ فلَيقولنَّ: بَلى. ثمَّ لَيقولنَّ: ألم أُرسِلْ إليكَ رسولاً؟ فلَيقولنَّ: بلى. فَينظُرُ عن يمينهِ فلا يَرَى إلاّ النارَ، ثمَّ يَنظرُ عن شِمالِه فلا يَرى إلاّ النارَ. فلْيتَّقِينَّ أحدُكمُ النارَ ولو بشِقِّ تمرة، فإن لم يَجِدْ فبِكلمةٍ طيِّبة" أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الزكاة، باب الصدقة قبل الرد، رقم الحديث (1347، 8/512).
ذِكْرُ تمثيلِ المصطفى –صلى الله عليه وسلم- الصَّدقة في تَّربية الله –تعالى- كتربيةِ الإِنسان الفَلُوَّ أوِ الفصيل.َ
عن أبي هريرةَ --رضي الله عنه-- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تمرةٍ من كسْبٍ طيّب ـ ولا يَقبلُ الله إلاّ الطيِّبَ ـ فإنَّ اللهَ يتقبَّلهُا بيمينِه، ثمَّ يُرَبيِّهَا لصاحبها كما يربِّي أحَدُكم فَلُوَّهُ، حتى تكونَ مِثَل الجبلِ" أخرجه البخاري في صحيحه. كتاب الزكاة، باب الرياء في الصدقة، رقم الحديث(1344، 2/511).
الفَلُوَّ: المُهر أو ولدُ الحصان (النهاية في غريب الأثر، 3/72).
وعن أبي هريرةَ --رضي الله عنه-- قال: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : "مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ الله إِلاَّ الطَّيِّبَ، إِلاَّ أَخَذَهَا الرَّحْمانُ بِيَمِينِهِ. وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً. فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَانِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ. كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ" أخرجه مسلم في صحيحه. كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، رقم الحديث(1014، 2/702).
الفصيلَ: ولدُ الناقهِ إذا فُصِلَ عن أُمِّه (القاموس المحيط، 1/1347).
وعن أبي هريرةَ --رضي الله عنه-- قال: قالَ رَسُولُ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ ـ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ ـ إلَّا كَانَ اللَّهُ يَأْخُذُها بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيها لَهُ، كما يُرَبِّي أحدُكُمْ فَلُوَّهُ أو فَصِيلَهُ حتَّى تَبْلُغَ التَّمْرَةُ مِثْلَ أُحُدٍ" أخرجه ابن حبان في صحيحه. كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث(3316، 8/109).
ذِكْرُ استحبابِ الاتِّقَاءِ مِن النار ـ نَعُوذُ باللَّه مِنها ـ بالصَّدَقَةِ وإن قلَّت.
عن عَدِيِّ بنِ حَاتِم --رضي الله عنه--، قال: قالَ رَسُولُ اللَّهِ: "مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ" أخرجه ابن حبان في صحيحه كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث(3311، 8/105).
ذِكْرُ الزَّجر عَنْ إحصاءِ المرءِ صدقَته إذا تَصَدَّق بها
عن عائشة -رضي الله عنها -، قالت: جَاءَهَا سَائِلٌ، فَأَمَرَتْ لَهُ عَائِشَةُ بِشَيءٍ، فلمَّا خَرَجَتِ الخَادِمُ دَعَتْها، فَنَظَرَتْ إليهِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ: "ما تُخْرِجين شَيئاً إلَّا بِعِلْمِك". قالت: إنِّي لأَعْلَمُ، فقالَ لَهَا: "لا تُحْصِي فيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ" أخرجه ابن حبان في صحيحه. كتاب الزكاة ، باب صدقة التطوع ، رقم الحديث(3365، 8/151).
ذِكْرُ البيانِ بأن ما يأكُلُ السِّبَاعُ والطيورُ من ثمرِ غِرَاسِ المُسْلِمِ يكونُ له فيه أَجْرٌ(/3)
عن جَابِرَ بنَ عَبْدِ اللَّه -رضي الله عنه- يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- يقولُ: "لا يَغْرِسُ مُسْلِمٌ غَرْساً فيأكلُ مِنْهُ سَبُعٌ وطَيْرٌ وشَيءٌ إلَّا كانَ لَهُ فيهِ أَجْرٌ". أخرجه ابن حبان في صحيحه. كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث(3369، 8/154) وإسناده صحيح وأخرجه مسلم، المساقاة: باب فضل الغرس والزرع، رقم الحديث (1552، 8).
ذِكْرُ البيانِ بأنَّ المالَ إذا لم يكن بِطَيِّبٍ أُخِذَ من حِلّه لم يُؤْجَرِ المتصدِّقُ به عليه
عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول اللَّه: "مَنْ جَمَعَ مالًا حَرَاماً، ثمَّ تَصَدَّقَ بهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فيهِ أَجْرٌ، وكانَ إصْرُهُ عليهِ" أخرجه ابن حبان في صحيحه. كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث(3367، 8/153).
وعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِم -رضي الله عنه- ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَتِرَ مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَلْيَفْعَلْ" أخرجه مسلم في صحيحه. كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، رقم الحديث(1016، 2/702).
ذِكْرُ نفيِ قبولِ الصَّدقَةِ عَنِ المرءِ إذا كانت مِنَ الغُلُول.ِ
دَخَلَ ابنُ عمرَ على ابنِ عامرٍ يَعُودُهُ، فقال: يا ابنَ عمر، ألا تَدْعو لي، فقالَ ابنُ عمر -رضي الله عنهما-ما: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يقولُ: "لا تُقْبَلُ صَلَاةٌ إلّاَ بِطَهُورٍ، ولا صَدَقَةٌ مِنْ غُلولٍ". أخرجه ابن حبان في صحيحه. كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث(3366، 8/152).
ذِكْرُ ما يُسْتَحَبُّ للمرءِ أن يتصدَّقَ بِثُلُثِ ما يفضل في كُلِّ سنةٍ من أملاكه
عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عن النبيِّ-صلى الله عليه وسلم- قال: "بَينما رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ إذ رأى سَحَابَةً فَسَمِعَ فيها صوتاً: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فجاءَ ذالِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ ما فِيهِ في حَرَّةٍ. قالَ: فانْتَهَيْتُ، فإذا فِيهَا أذنابُ شِراجٍ، وإذا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشُّرَجِ قَدِ استَوْعَبَتِ المَاءَ فَسَقَتْهُ، فانْتَهَيْتُ إلى رَجُلٍ قائمٍ يُحَوِّلُ الماءَ بمسحاتِهِ في حَدِيقَةٍ، فَقُلْتُ لَهُ: يا عَبْدَ اللَّهِ، ما اسْمُكَ؟ فقالَ: فلانٌ ـ الاسمُ الذي سَمِعَ في السَّحابةِ ـ قال: كَيْفَ تَسْألُني يا عَبْدَ اللَّهِ عن اسْمِي؟ قالَ: إِنِّي سَمِعْتُ في السَّحابةِ الذي هاذا ماؤُهَا يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ باسْمِكَ، فأخبِرْني ما تَصْنَعُ فِيهَا. قالَ: أما إذا قُلْتَ هاذا، فإنِّي أَنْظُرُ إلى ما خَرَجَ منها، فَأَصَّدَّقُ بِثُلُثِهِ، وآكُلُ أَنَا وعيالي ثُلُثَهُ، وأُعِيدُ فيها ثُلُثَهُ". أخرجه ابن حبان في صحيحه.
كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث (3355، 8/142154) وإسناده صحيح على شرط الشيخين وأخرجه مسلم، الزهد: باب الصدقة(2984)، وأخرجه أحمد في مسنده (2/296)
ذِكْرُ بيان أن صدقة الصحيح الشحيح الخائف الفقر المؤمل طُول العمر أفضل من صدقة من لم يكن كذلك
عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: (جاءَ رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللهِ أيُّ الصدقةِ أعظمُ أجراً؟ قال: "أن تَصَّدَّقَ وأنتَ صَحيحٌ شَحيحٌ تَخشى الفَقْرَ وتأمُلُ الغِنى، ولا تُمْهِلُ حتى إذا بلغت الحُلْقُومَ قلتَ: لفُلانٍ كذا ولفلانٍ كذا، وقد كان لفلان" أخرجه البخاري في صحيحه. كتاب الزكاة، باب أن الصدقة أفضل وصدقة الشحيح الصحيح لقوله تعالى: "وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت" وقوله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لابيع فيه"، رقم الحديث(1353، 2/515).
وعن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: (قال رجُلٌ للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: يا رسولَ اللهِ أيُّ الصدَقةِ أفضلُ؟ قال: "أن تَصدَّقَ وأنتَ صحيحٌ حَريص، تأْمُلُ الغِنى وتَخشى الفقرَ، ولا تُمهِلْ حتى إِذا بلَغَتِ الْحُلقومَ قلتَ: لفُلانٍ كذا ولفُلان كذا، وقد كان لفلان" أخرجه البخاري في صحيحه. كتاب الزكاة، باب الصدقة عند الموت، رقم الحديث(2597، 3/1008).
ذِكْرُ وصف المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم المُتَصَدِّقَ بِطُولِ اليد
عن عائشةَ -رضي الله عنها- «أنَّ بعضَ أزواجِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قلنَ للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أِّينا أسرَعُ بكَ لحوقاً؟ قال: "أطوَلكُنَّ يداً. فأَخذوا قصبةً يَذرعونَها، فكانتْ سَودَةُ أطولهُنَّ يداً. فعلِمنا بعدُ أنَّما كانتْ طولَ يدِها الصَّدقةُ، وكانتْ أسرعَنا لحُوقاً به، وكانت تحبُّ الصدقةَ" أخرجه البخاري في صحيحه. كتاب الزكاة، باب أن الصدقة أفضل وصدقة الشحيح الصحيح، رقم الحديث(1354، 2/515).(/4)
وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قالت: قال رَسُولُ اللَّه –صلى الله عليه وسلم-: "أَسْرَعُكُنَّ بي لُحُوقاً أَطْوَلُكُنَّ يداً" أخرجه ابن حبان في صحيحه كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث(3314، 8/108).
قَالَتْ: فكُنَّ يَتَطَاوَلْنَ أيُّهنَّ أَطْوَلُ يَداً. قَالَتْ: فَكَانَ أَطْوَلَنَا يداً زَيْنَبُ، لأنَّها كانتْ تَعْمَلُ بِيَدِها وَتَتَصَدَّقُ.
ذِكْرُ البيانِ بأنَّ ظلَّ كلِّ امرئ في القيامة يكون صدقته
عن أبي هُريرةَ -رضي الله عنه- عنِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "سَبعةٌ يُظلُّهمُ اللَّهُ تعالى في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلاّ ظِلّهُ: إمامٌ عَدْلٌ، وشابٌّ نَشَأَ في عِبادةِ اللَّه، ورجُلٌ قلبُهُ مُعلَّقٌ في المساجدِ، ورَجُلانِ تَحابا في اللَّهِ اجتمعَا عليهِ وتَفَرَّقَا عليه، ورجُلٌ دَعَتْهُ امرأةٌ ذاتُ مَنصِبٍ وجَمالٍ فقال: إني أخافُ اللَّهَ، ورجُلٌ تَصدَّقَ بصدَقةٍ فأخفاها حتى لا تَعلمَ شِمالهُ ما تُنفِقُ يمينهُ، ورجُلٌ ذَكرَ اللَّهَ خالياً ففاضَتْ عَيناهُ" أخرجه البخاري في صحيحه. كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين، رقم الحديث(1357، 2/517).
عن عقبة ابن عامر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:"كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس، أو قال: حتى يحكم بين الناس قال يزيد: فكان أبو الخير لا يخطئه يوم لا يتصدق منه بشيء ولو كعكة ولو بصلة" أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، كتاب الزكاة، باب إظلال الصدقة يوم الحكم بين العباد، رقم الحديث(2431، 4/94) وأخرجه مسلم (1517/91).
ذِكْرُ الأمرِ للنِّساءِ بالإِكثار مِنَ الصَّدقة
عن ابنِ عبّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: (خَرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ عيدٍ فصلَّى رَكعتينِ لم يُصلِّ قبلُ ولا بعدُ. ثمَّ مالَ على النساءِ ـ ومعَهُ بِلالٌ ـ فوَعظهُنَّ، وأمرَهنَّ أن يتَصدَّقْنَ، فجعلَتِ المرأةُ تُلْقي القُلْبَ والخُرْصَ" أخرجه البخاري في صحيحه. كتاب الزكاة ، باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها، رقم الحديث(1364، 2/519).
ذِكْرُ العلَّة الَّتي مِنْ أجلها حثَّ النِّساءَ على الإِكثارِ مِنَ الصَّدقة
عنِ ابنِ مسعودٍ -رضي الله عنه-، عن النَّبيِّ-صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال للنِّساء: "تَصَدَّقْنَ فإنَّكُنَّ أكثرُ أهلِ النَّار". قالتِ امرأةٌ ليستْ مِنْ عِلْيَةِ النِّساءِ: بِمَ، أو لِمَ؟ قالَ: "إِنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وتَكْفُرْنَ العَشِيرَ". قال عبدُ اللَّه: ما مِنْ ناقصاتِ العقلِ والدِّينِ أغلب على الرِّجال ذوي الأمرِ على أمرِهِم مِنَ النِّساء. قيل: وما نُقصانُ عقلها ودينها؟ قال: أما نُقصانُ عقلها، فإنَّ شهادةَ امرأتين بشهادَةِ رجلٍ، وأما نُقصانُ دينِها، فإنَّه يأتي على إحداهنَّ كذا وكذا مِنْ يومٍ لا تُصلِّي فيه صلاةً واحِدَةً أخرجه ابن حبان في صحيحه. كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث (3323، 8/115) وأخرجه النسائي في عشرة النساء (374) وأحمد في مسنده (1/433).
أخي المسلم أختي المسلمة تأملا هذا الحديث فالرسول -صلى الله عليه وسلم- قال للنساء إنكن أكثر أهل النار وأمرهن بالصدقة ،وثمَّةَ أعمال بر أخرى غير ذلك مثل الذكر والصلاة والصيام وصلة الأرحام والبر بالوالدين وهذا يدل على أهمية الصدقة.
ذِكْرُ بيان أن اسم الصَّدقة يقع على كل نوع من المعروف
عن حُذَيفةَ -رضي الله عنه- قال: (قال عمرُ -رضي الله عنه-: أيُّكم يَحفَظُ حديثَ رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عنِ الفتنةِ؟ قال: قلتُ أنا أحفظُهُ كما قال. قال: إنَّك عليهِ لَجَرِيءٌ، فكيف؟ قال: قلتُ: فتنةُ الرجلِ في أهلهِ وولدِهِ وجارِهِ تُكفِّرُها الصلاةُ والصدقةُ والمعروفُ ـ قال سليمانُ: قد كانَ يقولُ الصلاةُ والصدقةُ والأمرُ بالمعروفِ والنهي عنِ المنكر ـ قال: ليس هذه أُريدُ، ولكنِّي أُريدُ التي تموجُ كموجِ البحرِ. قال: قلتُ ليس عليكَ بها يا أميرَ المؤمنينَ بأسٌ، بينَكَ وبينَها بابٌ مُغلَقٌ. قال: فيُكْسَرُ البابُ أو يُفتحُ؟ قال: قلت: لا، بل يُكسَرُ. قال: فإنه إذا كُسِرَ لم يُغلَق أبداً. قال: قلت: أجل. قال فَهِبْنَا أن نسألَهُ مَنِ البابُ؟ فقلنا لمَسْرُوقِ: سَلْهُ. قال فسأَلَهُ فقال: عمرُ -رضي الله عنه-. قال: قلنا: فعَلِمَ عمرُ مَن تَعنِي؟ قال: نعم، كما أنَّ دُونَ غدٍ ليلةً. وذلكَ أني حدَّثتُهُ حديثاً ليس بالأغاليطِ» أخرجه البخاري في صحيحه. كتاب الزكاة، باب الصدقة تكفر الخطئية، رقم الحديث(1368، 2/520).(/5)
وعن سعيدُ بنُ أبي بُردةَ عن أبيهِ عن جَدِّهِ -رضي الله عنهما- عنِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "عَلى كُلِّ مُسْلمٍ صَدَقةٌ فقالوا: يا نبيَّ الله فمَن لم يَجِدْ؟ قال: يَعملُ بيدِهِ فينفَعُ نفسَهُ ويتصدَّقُ. قالوا فإِن لم يَجِدْ؟ قال: يُعِينُ ذا الحاجة المَلهوفَ . قالوا: فإِن لم يَجِدْ؟ قال فَلْيَعملْ بالمعروفِ، وليمْسِكْ عن الشرِّ، فإِنَّها لَهُ صدقة" أخرجه البخاري في صحيحه. كتاب الزكاة، باب على كل مسلم صدقة فمن لم يجد فليعمل بالمعروف، رقم الحديث(1376، 2/524).
وعَنْ حُذَيْفَةَ، فِي حَدِيثِ قُتَيْبَةَ. قَالَ: قَالَ نَبِيُّكُمْ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:"كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ" أخرجه مسلم في صحيحه. كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل معروف، رقم الحديث(1005، 2/697).
وعَنْ أَبِي ذَر -رضي الله عنه-، أَنَّ نَاساً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم- قَالُوا لِلنَّبِيِّ: يَا رَسُولَ اللّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ. يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي. وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ. وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ: "أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللّهِ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً. وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ. وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ. وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ. وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ. وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ. وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذالِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ" أخرجه مسلم في صحيحه. كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل معروف، رقم الحديث(1006، 2/697)
ذِكْرُ أن الصدقة سبب في دخول الجنة
عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة" أخرجه البخاري في صحيحه،(5/180).
" المنيحة " أن يعطيه إياها ليشرب لبنها ثم يردها إليه.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ قَالَ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللّهِ نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللّهِ هاذَا خَيْرٌ. فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ. وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ. وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ" أخرجه مسلم في صحيحه. كتاب الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر، رقم الحديث(1027، 2/711).
قال أبو بكر الصديق-رضي الله عنه- ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها قال رسول الله نعم وأرجو أن تكون منهم.
ذِكْرُ دعاء الملك للمنفق بالخلف وللمسك بالتلف
عن أَبي هُريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما مِن يومٍ يُصبحُ العِبادُ فيه إِلاَّ مَلَكانِ يَنزِلانِ فيقولُ أحدُهما: اللَّهمَّ أعطِ مُنفِقاً خَلَفا، ويَقولُ الآخَرُ: اللّهمَّ أعطِ مُمسِكاً تلَفاً" أخرجه البخاري في صحيحه. كتاب الزكاة، باب قوله تعالى: "فأما من أعطى وأتقى وصدق بالحسنى فسنسيره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى"، رقم الحديث(1374، 2/522).
(خلفاً) : بفتح اللام أي عوضاً ، يقال : ((أخلف الله عليك خلفاً)) أي عوضاً أي أبدلك بما ذهب منك. (عمدة القاريء 8/307).
(أعط ممسكاً تلفاً): أي لماله حساً أو معنى، وفي إيراده بلفظ الإعطاء مشاكلة: (مرقاة المفاتيح 4/366).
ففي هذا الحديث الشريف أخبر النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- أنّ ملَكاً يدعو كل يوم للمنفق بأن يعطيه خَلفَاً والمراد به – كما يقول الملاَّ علي القاريء – أي عوضاً ، وهو العوض الصالح، أو عوضاً في الدنيا وبدلاً في العقبى.
ذِكْرُ إنشراح صدر المؤمن المتصدق وإنفساح قلبه
عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ البَخيلِ والمُتصدِّقِ كمثَلِ رجُلينِ عليهما جُبَّتانِ من حديد" أخرجه البخاري في صحيحه. كتاب الزكاة ، باب مثل المتصدق والبخيل، رقم الحديث(1375، 2/523).(/6)
وعن عبد الرحمنِ حدَّثَهُ أنهُ سمعَ أبا هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّهُ سمعَ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ:"مثَلُ البَخيلِ والمُنفِقِ كمثَلِ رجُلينِ عليهما جبتانِ من حديدٍ من ثُديهما إلى تراقِيهما. فأمّا المُنفِقُ فلا يُنفِقُ إلا سَبَغَتْ ـ أو وَفَرَتْ ـ على جلدهِ حتَّى تُخْفِيَ بَنانَهُ وتَعفُو أثرَه. وأمّا البخيلُ فلا يُريدُ أن يُنفِقَ شيئاً إلاّ لَزِقَتْ كلُّ حَلْقةٍ مَكانَها، فهوَ يُوسِّعُها ولاتَّتسِعُ" تم تخريجه في الحديث السابق.
قال الخطابي : وهذا مثل ضربه النبي -صلى الله عليه وسلم- للبخيل والمتصدق، فشبههما برجلين أراد كل واحد منهما لبس درع يستتر به من سلاح عدوه، فصبها على رأسه ليلبسها، والدرع أول مايقع على الرأس إلى الثديين إلى أن يدخل الإنسان يديه في كميهما فجعل المنفق كمن لبس درعاً سابغة، فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه، وجعل البخيل كمثل رجل غلت يداه إلى عنقه، فكلما أراد لبسها اجتمعت إلى عنقه ، فلزقت ترقوته، والمراد أن الجواد إذا هم بالصدقة انفسح وانشرح لها صدره، وطابت نفسه، وتوسعت في الإنفاق، والبخيل إذا حدثها بها، شحت بها ، فضاق صدره، وانقبضت يداه. (زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، 2/26).
ذِكْرُ الترغيب في الصدقة
عَنْ أَبِي ذَرَ -رضي الله عنه-، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم- فِي حَرَّةِ الْمَدِينَةِ، عِشَاءً. وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَى أُحُدٍ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ: "يَا أَبَا ذَرَ" قَالَ قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: "مَا أُحِبُّ أَنَّ أُحُداً ذَاكَ عِنْدِي ذَهَبٌ. أُمْسَي ثَالِثَةً عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، إِلاَّ دِينَاراً أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ، إِلاَّ أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللّهِ، هاكَذَا حَثَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهاكَذَا عَنْ يَمِينِهِ وَهاكَذَا عَنْ شِمَالِهِ" قَالَ: ثُمَّ مَشَيْنَا فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرَ" قَالَ قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: "إِنَّ الأَكْثَرِينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. إِلاَّ مَنْ قَالَ هاكَذَا وَهاكَذَا وَهاكَذَا" مِثْلَ مَا صَنَعَ فِي الْمَرَّةِ الأُولَى. قَالَ: ثُمَّ مَشَيْنَا. قَالَ: "يَا أَبَا ذَرَ كَمَا أَنْتَ حَتَّى آتِيَكَ" قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى تَوَارَى عَنِّي. قَالَ: سَمِعْتُ لَغَطاً وَسَمِعْت ُصَوْتاً. قَالَ فَقُلْتُ: لَعَلَّ رَسُولَ اللّهِ عُرِضَ لَهُ. قَالَ: فَهَمَمْتُ أَنْ أَتَّبِعَهُ. قَالَ: ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ: «لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ» قَالَ: فَانْتَظَرْتُهُ. فَلَمَّا جَاءَ ذَكَرْتُ لَهُ الَّذِي سَمِعْتُ. قَالَ فَقَالَ: «ذَاكَ جِبْرِيلُ. أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللّهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ. قَالَ قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» أخرجه مسلم في صحيحه(7/76).
وعن أَبُي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللّهِ. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا. وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهَ: "إِنَّ اللّهِ قَالَ لِي: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ". وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : "يَمِينُ اللّهِ مَلآى. لاَ يَغِيضُهَا سَحَّاء(1) اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُذْ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ. فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ". قَالَ: "وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الْقَبْضُ، يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ" أخرجه مسلم في صحيحه. كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة، رقم الحديث(994، 2/ 687).
ذِكْرُ النفقة علي الأهل
عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ عَنْ ثَوْبَانَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ: "أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ: دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ. وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللّهِ. وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللّهِ" أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب النفقة على العيال والمملوك وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم، رقم الحديث(994، 2/691).
قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: وَبَدَأَ بِالْعِيَالِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْراً مِنْ رَجُل ٍيُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ صِغَارٍ. يُعِفُّهُمْ، أَوْ يَنْفَعُهُمُ اللّهُ بِهِ، وَيُغْنِيهِمْ.(/7)
وعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ-رضي الله عنه-، يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيَ بِالْمَدِينَةِ مَالاً. وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَا. وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ هاذِهِ الآيَةُ: "لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ"[آل عمران الآية: 29].
قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللّهِ فَقَالَ: إِنَّ اللّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: "لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ"[آل عمران الآية: 29]. وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَى. وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ للّهِ. أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللّهِ. فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللّهِ، حَيْثُ شِئْتَ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ : "بَخْ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ. ذالِكَ مَالٌ رَابِحٌ. قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا. وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ" أخرجه مسلم في صحيحه ، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة على الأقربين والزوج والأولاد(4/85).
فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.
وعَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ –رضي الله عنه- الْبَدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً، وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً" أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب النفقة على العيال والمملوك وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم،(4/88).
ذِكْرُ ثواب الصدقة عن الميت
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ-صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنَّ أُمِّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسَهَا وَلَمْ تُوصِ. وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتُ. أَفَلَهَا أَجْرٌ، إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» أخرجه مسلم في صحيحه ، كتاب الزكاة ، باب وصول الصدقة على الميت إليه،(4/89).
افْتُلِتَتْ: ماتت فجأة (صحيح مسلم بشرح النووي 7/90).
ذِكْرُ أن الصدقة برهان
عن أبي الحارث بن عاصم الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم"الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله، تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو حجة عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب الوضوء،(3/100).
ذِكْرُ نماء المال بالصدقة منه واعطاء الرب عز وجل فوق صدقته
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:"ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله". أخرجه ابن خزيمة في صحيحه كتاب الزكاة، باب ذكر نماء المال بالصدقة وإعطاء الرب عز وجل المتصدق قال عز وجل "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه"، رقم الحديث(2438 ،4/ 97) وأخرجه مسلم(1790) قال الألباني صحيح.
ذِكْرُ إن الصدقة عن ظهر غنى أفضل
عن جابر ابن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: (جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببيضة من ذهب أصابها من بعض المعادن وقال الدورقي: مثل البيضة من ذهب قد أصابها من بعض المعادن وقالا: فقال: يا رسول الله خذ هذه مني صدقة فوالله ما أصبحت أملك غيرها فأعرض عنه، ثم أتاه من شقه الأيمن، فقال: مثل ذلك فأعرض عنه ثم أتاه من شقه الأيسر، فقال له مثل ذلك فأعرض عنه، ثم قال له: الرابعة فقال هاتها مغضبا فحذفه بها حذفة لو أصابه لشجه، أو عقره ثم قال: يأتي أحدكم بماله كله فيتصدق به ويتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غني".
أخرجه ابن خزيمة في صحيحه كتاب الزكاة، باب الزجر عن صدقة المرء بماله، رقم الحديث(2441 ،4/98).
أيها الإخوة في الصدقة تفريج كربة واغناء عن سؤال وإشباع جائع وفرحة لصغير وسرور يدخل على قلب كبير وسعادة بين المسلمين. وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة تبين فضل هذه العبادة وآثارها:
أولاً:مضاعفة أجرها قال الله –تعالى-: "إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجرٌ كريم" [الحديد: 18].
ثانياً:الزيادة في الرزق والبركة في الأموال قال سبحانه"وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين"[سبأ: 39].
ثالثاً: هي جُنة ووقاية من عذاب الله قال صلى الله عليه وسلم: "من استطاع أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل" أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، الحث على الصدقة وأنواعها وأنها حجاب من النار،(4/100).(/8)
رابعاً: أنها سبب في دخول الجنة قال سبحانه وتعالى "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين *الذين ينفقون في السراء والضراء...." [آل عمران: 133].
خامساً: "الصدقة مدخل لكافة أعمال البر قال تعالى: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"[آل عمران: 92]
سادساً: إظلالها لصاحبها يوم القيامة قال -صلى الله عليه وسلم-:"كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس" أخرجه ابن حبان في صحيحه كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث(3310، 8/104) وإسناده صحيح على شرط مسلم وأخرجه أحمد في مسنده(4/147) وصححه الحاكم(1/416).
سابعاً :ذخر لصاحبها يوم القيامة قال تعالى"فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره"الزلزلة(7)
ثامناً:جواز إهداء ثوابها للميت عن عائشة -رضى الله عنها- أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله (أن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها قال نعم) (أخرجه مسلم في صحيحة، كتاب الزكاة، وصول ثواب الصدقة على الميت،(4/90).
افْتُلِتَتْ: ماتت فجأة (صحيح مسلم بشرح النووي 7/90).
تاسعاً: سعة صدر صاحبها وانشراحه يقول ابن القيم رحمه الله "فان الكريم المحسن أشرح الناس صدرا وأطيبهم نفسا وأنعمهم قلبا والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدرا وأنكدهم عيشا وأعظمهم هما وغما" (زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، 2/25).
عاشراً: نفعها المتعدي فهي تدفع حاجة المعوزين وتسد جوعهم وتستر عوراتهم وهي إشاعة للتكافل الاجتماعي وسبب نشر المحبة والمودة وبث الرحمة بين إفراد المجتمع المسلم.
الحادى عشر:جريان ثوابها حتى بعد الموت قال سبحانه وتعالى: "ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين" [يس:12].
عن عائشة -رضي الله عنها- أنهم ذبحوا شاة ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "مابقي منها؟" قالت : مابقي منها إلا كتفها، قال:" بقي كلها غير كتفها" "أخرجه الترمذي رقم الحديث(2470، 4/644) وقال حديث صحيح وقال الشيخ الألباني صحيح.
ومعناه: تصدقوا بها إلا كتفها فقال: بقيت لنا في الآخرة إلا كتفها.
عن أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- قالت: قال لي رسول الله -صلى عليه وسلم-:"لاتوكي فيوكى عليك".
وفي رواية "أنفقي أو انفحي، أو انضحي، ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي الله عليك" مختصر صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة فيما استطاع رقم الحديث(704،1/168).
ومعناه: أي لا تدخري ما عندك، وتمنعي ما في يدك "فيوكى عليك": أي: فيقطع الله عليك مادة الرزق ولا تحصي: أي: لا تمسكي المال، وتدخريه، ولا توعي، أي: تمنعي ما فضل عنك عمن هو محتاج إليه.
ذِكْرُ ثواب المشتركين في الصدقة كلٌ بمقدار صدقته
عن علي -رضي الله عنه- قال: (جاء ثلاثة نفر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال أحدهم: يا رسول الله، كانت لي مئة دينار فتصدقت منها بعشره دنانير، وقال الآخر: يا رسول الله كان لي عشرة دنانير فتصدقت منها بدينار، وقال الآخر: كان لي دينار فتصدقت بعشره، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كلكم في الأجر سواء، كلكم تصدق بعشر ماله" .رواه الإمام أحمد في مسنده.
رقم الحديث(743، 1/337) أخرجه في مجمع الزوائد(3/111) ونسبه للبزار أيضاً وأخرج نحوه عن أبى مالك الاشعرى ونسبه للطبرانى في الكبير ، وأعله بمحمد بن أسماعيل بن عياش.
ذِكْرُ الصدقة في أي الشهور أفضل
عن أَنَسٍ -رضي الله عنه-، قال: سُئِلَ النبيُّ-صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الصَّوْمِ أفْضَلُ بَعْدَ رمَضَانَ؟ قال: "شَعْبَانُ لِتَعْظيمِ رمَضَانَ"، قال: فأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قال: "صَّدَقَةٌ في رَمَضَانَ". أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الزكاة، باب ما جاء في فضل الصدقة رقم الحديث(663، 3/43).
قال أبو عيسي هذا حديث غريب وقال الشيخ الألباني ضعيف.
إطفاء الصدقة لغضب الرب تعالى
عن أنَسِ بنِ مالكٍ -رضي الله عنه-، قال: قال رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- "إنَّ الصَّدقةَ لتطفىء غَضَبَ الرَّبِّ وتَدْفَعُ مِيتَة السُّوءِ".
أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الزكاة، باب ما جاء في فضل الصدقة رقم الحديث(664، 3/43).
قال أبو عيسي هذا حديث غريب وقال الشيخ الألباني ضعيف.
ذِكْرُ مَنْ سَنَّ في الإِسلامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعَمِلَ بها من بعده، كانَ لَهُ أجرُها وأجرُ مَنْ يَعْمَلُ بها مِنْ بعدِهِ َ(/9)
عن المنذر بنَ جريرٍ يُحَدِّثُ عن أبيه قال: كُنَّا عِنْدَ النَّبيِّ-صلى الله عليه وسلم- مِنْ صَدْرِ النَّهارِ، فجاءَ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجتابي النِّمارِ عليهمْ سُيوفٌ، عامَّتُهمْ مِنْ مُضَرَ، بل كُلُّهم مِنْ مُضَرَ، فرأيتُ وجهَ رسولِ اللَّهِ تغيَّرَ لِما رأى منهُم مِنَ الفَاقَةِ، قالَ: فدخلَ، فأمرَ بلالاً، فأذنَ، ثُمَّ أقامَ، فخرجَ، فصلَّى، ثم قال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً واتَّقُوا اللَّه الَّذي تَسَاءَلُون به والأرحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً"[النساء: 1]، "اتَّقُوا اللَّه وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ" [الحشر: 18]. يتصدقُ امرؤٌ مِنْ دِينَارِهِ، ومِنْ دِرْهَمِهِ،ومِنْ ثَوْبِهِ، ومِنْ صاع بُرِّهِ، ومِنْ صاعِ شعيرهِ» حتى ذكرَ شِقَّ تمرةٍ، فجاءَ رجلٌ مِنَ الأنصارِ بصُرَّةٍ كادَتْ تَعْجِزُ كفَّاهُ، بل قد عَجَزَتْ، ثم تَتَابَعَ النَّاسُ حتَّى رأيتُ بَيْنَ يَدَيْ رسولِ اللَّهِ كَوْمَيْنِ مِنَ الثِّيابِ والطَّعامِ، فلقد رأيتُ وجهَ رسولِ اللَّهِ تهلَّلَ حتَّى كأنَّهُ مُذْهَبَةٌ، ثمَّ قالَ: "مَنْ سَنَّ في الإِسلامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعَمِلَ بها من بعده، كانَ لَهُ أجرُها وأجرُ مَنْ يَعْمَلُ بها مِنْ بعدِهِ، ومَنْ سنَّ سُنَّةً سيِّئةً، فَعَمِلَ بها من بعده، كانَ عليهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِها من بعده" أخرجه ابن حبان في صحيحه. كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث(3308، 8/101154) وإسناده صحيح وأخرجه مسلم (1017/70)، والترمذي(2175) والنسائي(5/75).
ذِكْرُ أن الصدقة َتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال : قال رسول اللَّه : "الصَّدَقَةُ تطفىء غَضَبَ الرَّبِّ، وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ" أخرجه ابن حبان في صحيحه. كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث 3309، 8/103وأخرجه البخاري (1443) ومسلم (7/107).
ذِكْرُ تمثيلِ المصطفى صلى الله عليه وسلم المُتَصَدِّقَ بالمُتَجَنِّنِ لِلقتَالِ
عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أنَّ رَسُولَ اللَّه-صلى الله عليه وسلم- قال: "مَثَلُ المُنْفِقِ والبَخِيلِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عليهما جُنَّتَانِ مِنْ لَدُنْ تَرَاقِيهما إلى ثُدِيِّيهِما، فأمَّا المُنْفِقُ، فإذا أَرَادَ أن يُنْفِقَ مادَتْ (2) عَلَيْهِ واتَّسَعَتْ حتَّى تَبْلُغَ قَدَمَيْهِ وتعفُوَ أَثَرَهُ، وأمَّا البَخِيلُ، فإذا أرادَ أن يُنْفِقَ أَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَوْضِعَهَا ولَزِمَتْ، فهو يريدُ أن يُوَسِّعَهَا ولا تَتَّسِعُ، فهو يُرِيدُ أَن يُوَسِّعَهَا ولا تَتَّسِعُ" أخرجه ابن حبان في صحيحه. كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث(3313، 8/106).
ذِكْرُ الخبر الدال على أن المتصدقين في الدنيا هم الأفضلون في العُقبى
عن زيدِ بنِ وهبٍ، قال : أَشْهَدُ باللَّه لَسَمِعْتُ أبا ذَرَ بالرَّبَذَةِ يقولُ: كُنْتُ أمشي مَعَ رسولِ اللَّهِ بِحَرَّةِ المدينةِ مُمْسِياً، فاستقبَلَنَا أُحُدٌ، فقالَ: "يا أبا ذَرَ، ما أُحِبُّ أنَّ لي أُحُداً ذَهَباً أُمسي ثالثةً وعندي منه دينارٌ إلا دِينارٌ أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إلَّا أَنْ أَقُولَ به في عِبَادِ اللَّهِ هاكذا وهاكذا -يعني مِنْ بينِ يَدَيْهِ ومِنْ خلفِهِ وعَنْ يمينِهِ وعن شِمَالِهِ-"، ثم قالَ: "يا أبا ذرَ، إنَّ المُكْثِرِينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يومَ القِيَامَةِ". ثم قالَ لي: "لا تَبْرَحْ حتَّى آتِيَكَ". فانطلقَ، ثُمَّ جاء في سَوَادِ اللَّيلِ، فَسَمِعْتُ صوتاً، فخشيتُ أن يكونَ ضِرَار رسولِ اللَّه، فَهَمَمْتُ أن أنطَلِقَ، ثم ذكرتُ قولَهُ، فَجَلَسْتُ حتَّى جاءَ، فقلتُ لَهُ: إنِّي أردتُ أن آتِيَكَ يا رَسُولَ اللَّهِ، ثم ذَكَرْتُ قولكَ لي، وسَمِعْتُ صوتاً، قالَ: "ذاكَ جِبريلُ جاءني، فأخبرني أنَّ مَنْ ماتَ مِنْ أُمَّتي لا يُشْرِكُ باللَّهِ شيئاً دَخَلَ الجَنَّةَ"، فَقُلْتُ: وإنْ زنى وإن سَرَقَ؟ فقالَ: "وإنْ زَنى وإنْ سَرَقَ" أخرجه ابن حبان في صحيحه. كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث(3326، 8/118) وأخرجه البخاري(2388) ومسلم(33).
ذِكْرُ البيان بأن المرء لا بقاء له من ماله إلا ما قدم لنفسه لينتفع به في يوم فقره وفاقته
عن مُطَرِّفِ بنِ عبدِ اللَّه بن الشِّخِّيرِ عَنْ أبيه قال : أَتَيْتُ النَّبيَّ-صلى الله عليه وسلم- وهو يَقْرَأُ "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ". قالَ: "يقول ابنُ آدَم: مَالِي مَالِي، وهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إلَّا ما أَكَلْتَ فأفْنَيْتَ، أو لَبِسْتَ فأبْلَيْتَ، أو تَصَدَّقْتَ فأمْضَيْتَ" أخرجه ابن حبان في صحيحه. كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث(3327، 8/120) وإسناده على شرط الشيخين.(/10)
و عَنْ أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قال: قالَ رَسُولُ اللَّهِ : "يَقُولُ العبدُ: مَالِي، وإنَّما لَهُ مِنْ مالِهِ ما أَكَلَ فَأَفْنى، أو لَبِسَ فَأَبْلَى، أو تَصَدَّقَ فَأَمْضَى، وما سِوَاهُ، فَهُوَ ذَاهبٌ وتَارِكُهُ للنَّاسِ" أخرجه ابن حبان في صحيحه. كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث (3328، 8/121) وإسناده صحيح علي شرط مسلم(3244).
ذِكْرُ الإخبار عما يجب على المرء من تقديم ما يمكن من هذه الدنيا الفانية للآخرة الباقية
عن أبي ذَر الغفاريَ -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ اللَّه قال: "إنَّ الأَكْثَرِينَ هُمُ الأَسفلونَ إلَّا مَنْ قالَ بالْمَالِ هاكذا وهاكذا، وكَسْبُهُ مِنْ طَيِّبٍ" أخرجه ابن حبان في صحيحه. كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث(3331، 8/123).
ذِكْرُ الخبر الدال على أن صدقة المرء ماله في حالة صحته تكون أفضل من صدقته عند نزول المنية به
عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: (جاءَ رجلٌ إلى رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول اللهِ أيُّ الصدقةِ أعظمُ أجراً؟ قال: "أن تَصَّدَّقَ وأنتَ صَحيحٌ شَحيحٌ تَخشى الفَقْرَ وتأمُلُ الغِنى، ولا تُمْهِلُ حتى إذا بلغت الحُلْقُومَ قلتَ: لفُلانٍ كذا ولفلانٍ كذا، وقد كان لفلان" أخرجه البخاري في صحيحه. كتاب الزكاة، باب أن الصدقة أفضل وصدقة الشحيح الصحيح لقوله تعالى: "وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت" وقوله تعالى: "يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لابيع فيه"، رقم الحديث(1353، 2/515).
ذِكْرُ محبة الله جل وعلا للمتصدق إذا تصدق لله سراً
عن أبي ذرَ الغفاري -رضي الله عنه-، عن النَّبيِّ-صلى الله عليه وسلم-، قال: "ثلاثةٌ يحبُّهُمُ اللَّهُ، وثلاثةٌ يُبْغِضُهُمُ اللَّهُ، أَمَّا الَّذينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ، فَرَجُلٌ أَتَى قَوْماً فَسَأَلَهم باللَّهِ وَلَمْ يَسْألْهُمْ بِقَرَابَةٍ بَيْنَهمْ وبَيْنَهُ، فَتَخَلَّف رَجُلٌ بأعقابِهِمْ، فأعطاهُ سِرّاً لا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إلَّا اللَّهُ والَّذي أعطاهُ، وقومٌ سَارُوا لَيْلَتَهُم حتَّى إذا كَانَ النَّومُ أحبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يَعْدِلُ بهِ، نَزَلُوا فَوضَعُوا رُؤوسَهُمْ وقامَ يَتَمَلَّقُني ويَتْلُو آياتي، وَرَجُلٌ كانَ في سَرِيَّةٍ، فَلَقِيَ العَدُوَّ فهزموا، وأقبلَ بِصَدْرِهِ حتَّى يُقْتَلَ أو يُفتَحَ لَهُ، وثلاثةٌ يُبْغِضُهُمُ اللَّهُ: الشَّيْخُ الزَّاني، والفَقِيرُ المُخْتَالُ، والغَنِيُّ الظَّلُوم" أخرجه ابن حبان في صحيحه. كتاب الزكاة ، باب صدقة التطوع ، رقم الحديث(3349، 8/137) وأخرجه أحمد في مسنده(5/153) والنسائي(5/84) والترمذي(2568).
ذِكْرُ الخبر الدال على أن من لم يتصدق هو البخيل
عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّهُ سمعَ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: "مثَلُ البَخيلِ والمُنفِقِ كمثَلِ رجُلينِ عليهما جبتانِ من حديدٍ من ثُديهما إلى تراقِيهما. فأمّا المُنفِقُ فلا يُنفِقُ إلا سَبَغَتْ -أو وَفَرَتْ- على جلدهِ حتَّى تُخْفِيَ بَنانَهُ وتَعفُو أثرَه. وأمّا البخيلُ فلا يُريدُ أن يُنفِقَ شيئاً إلاّ لَزِقَتْ كلُّ حَلْقةٍ مَكانَها، فهوَ يُوسِّعُها ولاتَّتسِعُ" أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب مثل المتصدق والبخيل، رقم الحديث(1443، 3/305).
ذِكْرُ الإخبار عن وصف المتصدق عند موته إذا كان مقصراً عن حالة مثله في حياته
عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"مثلُ الذي يتصدق عند الموت مثلُ الذي يُهدي بعدما يشبع" أخرجه ابن حبان في صحيحة.
كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث(3336، 8/126) أخرجه عبد الرزاق(16740) والطيالسي(980) وأحمد في مسنده(5/197) والدرامي(2/413) والترمذي(2123) والنسائي(6/238) وصححه الحاكم(2/213) ووافقة الذهبي.
ذِكْرُ البيان بأن صدقة القليل من المال اليسير أفضل من صدقة الكثير من المال الوافر
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:"سبق درهم مئة ألف" فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال : " رجلٌ لهُ مال كثير أخذ من عرضه مئة ألف، فتصدق بها، ورجلٌ ليس لهُ إلا درهمان فأخذ أحدهما، فتصدق به" أخرجه ابن حبان في صحيحة.
كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث(3347، 8/135) وأحمد في مسنده(2/379) والنسائي(5/59) وابن خزيمة(2443) وصححه الحاكم(1/416) ووافقة الذهبي.
ذِكْرُ تفضل الله جل وعلا على المرأة إذا تصدقت من بيت زوجها غير مفسدة فلزوجها أجر ما اكتسب، ولها أجر ما نوت، وللخازن كذلك
عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة، فلها أجرها، ولزوجها أجر ما اكتسب، ولها أجر ما نوت، وللخازن مثل ذلك" أخرجه ابن حبان في صحيحة.(/11)
كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث(3358، 8/145) وأخرجه البخاري(1425) ومسلم(1024).
ذِكْرُ الأمر للعبد أن يتصدق من مال السيد على أن الأجر بينهما نصفان
عن عمير مولى آبي اللحم، قال: كنت مملوكاً فكنت أتصدق بلحم من لحم مولاي، فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال:"تصدق والأجر بينكما نصفان" أخرجه ابن حبان في صحيحه. كتاب الزكاة، باب صدقة التطوع، رقم الحديث(3360، 8/ 147) وأسناده صحيح على شرط مسلم(1025).
ذِكْرُ اليد العليا خير من اليد السفلى
عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:"وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسئلة اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا المنفقة واليد السفلى السائلة" أخرجه النسائي في سننه، كتاب الزكاة، باب اليد السفلي،(3/61) وقال الشيخ الألباني صحيح.
ذِكْرُ المنان بما أعطى
عن سالم بن عبدالله عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة والديوث وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والمدمن على الخمر والمنان بما أعطى".
أخرجه النسائي في سننه، كتاب الزكاة، باب المنان بما أعطى،(3/80) وقال الشيخ الألباني حسن صحيح.
ثالثاً: فضل الصدقة من آثار الصحابة والتابعين
قال عمر بن عبد العزيز الصلاة تبلغك نصف الطريق. وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: إن الأعمال تباهت فقالت الصدقة: أنا أفضلكن.
وقال أبو بكر بن مقسم في جزئه عن عمر بن عوف (صدقة المرء المسلم تزيد في العمر وتمنع ميتة السوء ويذهب الله تعالى بها الفخر والكبر).
وقال عروة بن الزبير: لقد تصدقت عائشة -رضي الله عنهما- بخمسين ألفاً وإن درعها لمرقع.
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: اللهم اجعل الفضل عند خيارنا لعلهم يعودون به على ذوي الحاجة منا. وقال: إن الأعمال تباهت فقالت الصدقة: أنا أفضلكن.
وقال عبدالعزيز بن أبي رواد: كان يقال: ثلاثة من كنوز الجنة: كتمان المرض، وكتمان الصدقة، وكتمان المصائب.
رابعاً : ملخص ماذكر من الآيات والأحاديث والآثار في فضل الصدقة
1- لهم الهدى من ربهم.
2- انهم من المفلحين.
3- انهم من المحسنين.
4- مضاعفة الآجر.
5- مدخل لكافة أعمال البر.
6- أن الله سبحانه وتعالى يخلفك في ما أنفقت.
7- لهم أجر كبير.
8- لهم مغفرة.
9- يأتي زمان لا تجد من يقبل الصدقة.
10- أن الله سبحانه وتعالى يتقبل الصدقة بيمينه ثم يربيها لصالحبها كما يربي أحدكم فلوهٌ، حتى تكون مثل الجبل.
11- الاتقاء من النار.
12- أفضل الصدقة أن تنفق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى.
13- أن الله سبحانه وتعالى يظله يوم لا ظل إلا ظله.
14- تكفر الذنوب والسيئات.
15- دعاء الملك له بقوله اللهم أعط منفقاً خلفاً.
16- الفسح وانشراح الصدر.
17- أن الله سبحانه وتعالى ينفق عليك إذا أنفقت.
18- أفضل الصدقة على الأهل ثم في سبيل الله.
19- أن كل معروف صدقة.
20- سبب في دخول الجنة.
21- كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس أو يحكم بين الناس.
22- ظل المؤمن يوم القيامة صدقته.
23- نماء المال وزيادته بالصدقة.
24- رفعة منزلة الصدقة.
25- حماية المتصدق من البلايا والكروب.
26- تطفىء الخطيئة والذنوب.
27- زيادة في الرزق والبركة في الأموال.
28- جنة من عذاب الله.
29- إدراك المتصدق أجر العامل بالصدقة.
30- لهم أجرهم عند ربهم.
31- تدخر لصاحبها يوم القيامة.
32- مشروعية إهداء ثوابها للميت.
33- نفعها المتعدي فهي تدفع حاجة المعوزين وتسد جوعهم وتدعو إلى إشاعة التكافل الاجتماعي.
34- نيل محبة الله.
35- جريان ثوابها حتى بعد الموت.
36- تجبر ما في الصوم من خلل.
37- أفضل الصدقة في الشهور شهر رمضان.
38- تُطفئ غضب الرب.
39- تدفع ميتة السوء.
40- حث النساء على الصدقة لأنهم أكثر أهل النار.
41- التصدق في حياتك وصحتك خير لك من أن يتصدق عليك بعد الموت.
42- تزيد في العمر.
43- أن المتصدقين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
44- يجد حلاوة الإيمان في قلبه.
خامساً : قصص من الواقع
والصدقة تعتبر أفضل صنائع المعروف ، فكم أطعمت جائعاً وكسوت عارياً، وساعدت في تعليم جاهل، ورعاية يتيم، وكم من دعوة مخلصة خرجت من الأعماق من المحتاجين لمن يتصدق عليهم. ونورد فيما يلي ثلاث قصص واقعية، شعر أهلها أن الصدقة كانت السبب الرئيس في تجنيبهم الكوارث، ومصارع السوء ، وفي الخروج بهم من أزماتهم ومحنهم.(/12)
بعد أن سمع صاحب هذه القصة عن فضل الصدقة قرر أن لا يمر عليه يوم إلا ويتصدق فيه بما ييسره الله له، وفي يوم من الأيام، وبينما كان يقود سيارته على الطريق السريع، قرر أن يخرج من أقرب مخرج، وفي اللحظة الأخيرة التي كان يهم فيها بالانعطاف يميناً للخروج، قرر العدول عن رأيه، وفي تلك اللحظة مرت عن يمينه سيارة، تسير بسرعة خارقة وجنونية، فحمد الله الذي ألهمه عدم تغيير مساره في اللحظة المناسبة، وعزا هذا التوفيق، وتفادي الكارثة إلى الصدقات التي كان يحرص عليها.
ويذكر أحدهم أن والده أصيب بجلطة في القلب، ونقل على إثرها إلى المستشفى وهو في حالة خطرة جداً، وتم إدخاله إلى غرفة العناية المركزة، ومرت ثلاثة أيام وهو فاقد لوعيه، لا يعلم شيئاً عما يدور حوله. فقرر أحد أبنائه أن يلجأ إلى علاج الصدقة، لعل الله أن يرفع بسببها ما بوالده من سوء وبلاء، فبدأ يتصدق عن والده، ومع بداية ممارسته للصدقة، بدأت حال والده تتحسن إلى أن شفاه الله، وغادر المستشفى يسير على قدميه.
وسمع شخص عن فضل الصدقة، وأجرها، وفوائدها للمتصدق في الدنيا والآخرة، فقرر أن يتصدق كل يوم بمبلغ زهيد، ولكن النفس الأمارة بالسوء التي تحب المال حباً جماً كانت تمانعه في ذلك، فكان يتصدق يوماً، ويتوقف أياماً، ولكن مع مرور الأيام وجد لذة وراحة في التصدق على الفقراء والمحتاجين، وأصبح يشعر براحة في النفس، وانشراح في الصدر كلما مارس هذا العمل الجليل، فأصبحت الصدقة جزءاً من حياته اليومية، يمارسها بحب وشغف ولذة.
وهناك الكثير من المواقف والقصص التي يتجلى فيها فضل الصدقة على المتصدقين في حياتهم الاجتماعية، والأسرية، والوظيفية، والاقتصادية، والاستثمار الكبير يتمثل فيما ينتظرهم من أجرِ وثواب ورضوان من الله في الدار الآخرة. قال تعالى: "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون" [المطففين من الآية 26] .
سادساً : فكرةٌ إليك أخي الحبيب
آخى المسلم بعد ما علمت من فضل الصدقة إليك هذا الاقتراح وهو أن تجعل لك يوميا ً نصيباً من الصدقة بحيث في نهاية كل شهر تصرف من راتبك ثلاثين ريالاً، أو تتصدق يوميا بريال واحد وقد تزيد هذا الفضل بأن تتصدق يومياً بخمسة ريالات ويكون المجموع في الشهر مائة وخمسين ريالاً، أو تتصدق بعشرة ريالات ويكون المجموع في الشهر ثلاثمائة ريال وكلم زدت زاد الله سبحانه وتعالى لك الأجر ولكن بشرط أن يكون عملك خالصاً لوجه الله سبحانه وتعالى وأن يكون مستمراً لان العمل الصالح القليل مع الاستمرار أفضل من العمل الكبير مع عدم الاستمرار فعن عائشة -رضى الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها وعندها امرأة قال: "من هذه؟" قالت: هذه فلانة تذكر من صلاتها،: "مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا" وكان أحب الدين إليه مادام صاحبه عليه. أخرجه البخاري في صحيحه ،(3/31).
قليل دائم خير من كثير منقطع ، والديمومة والاستمرار في العطاء: تجعل العمل وإن كان ضئيلاً أصيلاً، مستطاعاً سهلاً، يقام به في غير ما عناء، ليس المهم قدر العمل بل الاستمرار في أدائه، فالقطرة الدائمة تصبح سيلاً عظيماً.
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أحب الأعمال إلى الله: أدومها وإن قل"
أخرجه البخاري في صحيحه ،(3/31).
وهناك أقترح بأن تضع الصدقة في صناديق جمعيات البر أو جميعات الخيرية المنتشرة في الأسواق أو المساجد أو تأخذ صندوقاً من الجمعيات وتضعه في منزلك وفى نهاية كل شهر تستبدل هذا الصندوق بصندوق آخر من الجمعية بعد أن تضع يومياً مبلغاً من المال في الصندوق.
عن أبي هريرة -رضى الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، رقم الحديث(1631 ، 3/1255).
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
أهم المراجع
1- صحيح البخاري، للإمام محمد بن إسماعيل البخاري، ط: دار ابن كثير، بيروت، الطبعة 3، 1407هـ.
2- صحيح مسلم، للإمام محمد بن حجاج القشيرى، ط: دار إحياء التراث العربي، بيروت.
3- سنن النسائي، شرح الحافظ جلال الدين السُيوطي، ط : دار الكتب العلمية ، بيروت.
4- سنن الترمذي، للإمام لأبي محمد بن عيسي بن سورة، تحقيق وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي، ط: مكتبة ومطبعة مصطفي الباني الحلبي ، القاهرة، الطبعة 3، 1388هـ .
5- مسند الأمام أحمد بن حنبل، ط : مؤسسة قرطبة، القاهرة.
6- صحيح ابن حبان، الأمير علاء الدين على الفارسي، تحقيق شعيب الارنؤوط، ط: مؤسسة الرسالة، بيروت، 1414 هـ.
7- صحيح ابن خزيمة، للإمام أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، ط: المكتب الإسلامي، بيروت، 1390هـ.
8- مختصر تفسير القرطبي، للإمام محمد بن أحمد القرطبي، ط: دار الكتب العلمية، بيروت، 1422هـ.(/13)
9- تفسير التحرير والتنوير، للأستاذ محمد طاهر ابن عاشور، ط: الدار التونسية للنشر، تونس، 1984م.
10- التفسير القِّيم، جمعة الشيخ محمد أويس الندوي وحققه محمد حامد الغقي، ط: دار الفكر، بيروت 1408هـ .
11- تفسير الطبري ، للإمام أبي حفر الطبري، تحقيق الشيخين محمود محمد شاكر وأحمد محمد شاكر، ط: دار المعارف، القاهرة، بدون سنة طبع.
12- تفسير ابن كثير المسمى تفسير القرآن العظيم بتقديم الشيخ عبدالقادر الأرناؤوط، للحافظ ابن كثير، ط: دار الفيحاء، دمشق، 1413هـ..
13- تفسير المنار، للأستاذ محمد رشيد رضا، ط: دار المعرفة، بيروت، الطبعة 2، بدون سنة طبع.
14- زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام ابن القيم الجوزية، ط: مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة 5، 1407هـ.
15- القاموس المحيط، للأستاذ مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، ط: مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة 2، 1407هـ .
16- النهاية في غريب الحديث الأثر، للإمام ابن الأثير، ط: المكتبة العلمية، بيروت، 1399هـ .
17- إحياء علوم الدين، للإمام أبي حامد الغزالي، ط: دار المعرفة، بيروت، 1403هـ .
(1) سحاءُ : أي دائمة الصّبِّ والهطل بالعطاء ( النهاية في غريب الأثر ،2/345).
(2) مادَت: انبسطت (زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، 2/26).(/14)
فضائل القرآن
قال البخارى رحمه الله كيف نزل الوحى وأول ما نزل قال ابن عباس : المهيمن الأمين القرآن أمين على كل كتاب قبله.
حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن يحيى عن أبى سلمه قال: أخبرتنى عائشة و ابن عباس قالا: لبث النبى صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشرا .
ذكر البخارى رحمه الله كتاب فضائل القرآن بعد كتاب التفسير لأن التفسيرأهم فلهذا بدأ به، فجرينا على منواله وسننه مقتضين به، وقول ابن عباس فى المهيمن: إنما يريد به البخارى قوله تعالى فى المائدة بعد ذكر التوراة والانجيل وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله:ثنا المثنى ثنا عبد الله بن صالح حدثنى معاويه عن علي يعنى ابن أبى طلحة عن ابن عباس قوله ومهيمنا عليه قال: المهيمن الأمين قال: القرآن أمين على كل كتاب قبله وفى رواية شهيدا عليه . وقال سفيان الثورى وغير واحد من الأئمة عن أبى اسحاق السبيعي عن التميمى عن ابن عباس ومهيمنا عليه قال: مؤتمنا، وبنحو ذلك قال مجاهد و السدى و قتادة و ابن جريج و الحسن البصرى وغير واحد من أئمة السلف وأصل الهيمنة الحفظ والإرتقاب، يقال إذا ارقب الرجل الشىء وحفظه وشهده: قد هيمن فلان عليه، فهو مهيمن هيمنة، وهو عليه مهيمن، وفى أسماء الله تعالى المهيمن وهو الشهيد على كل شىء الرقيب الحفيظ بكل شىء.
وأما الحديت الذى اسنده البخارى أنه عليه السلام أقام بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن وبالمدينة عشرا، فهو مما انقرد به البخارى دون مسلم وإنما رواه النسائى من حديث شيبان وهو ابن عبد الرحمن عن يحيى وهو ابن كثير عن أبى سلمة عنهما، وقال أبوعبيد القاسم بن سلام : ثنا يزيد عن داود بن أبىهند عن عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل القران جملة واحدة إلى سماء الدنيا فى ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك فى عشرين سنة. ثم قرأ وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا هذا إسناد صحيح أما إقامته بالمدينة عشرا فهذا مما لا خلاف فيه. وأما إقامته بمكة بعد النبوة فالمشهور ثلاث عشرة سنة، لأنه عليه السلام أوحى إليه وهو ابن أربعين سنة، وتوفى وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح، ويحتمل أنه حذف ما زاد على العشر اختصارا فى الكلام، لأن العرب كثيرا ما يحذفون الكسور فى كلامهم، أو أنهما اعتبراقرن جبريل عليه السلام، فإنه قد روى الإمام أحمد أنه قرن به عليه السلام ميكائيل فى ابتداء الأمر يلقى اليه الكلمة وشىء ثم قرن به جبريل . ووجه مناسبة هذا الحديث بـ فضائل القرآن أنه ابتدئ بنزوله فى مكان شريف وهو البلد الحرام، كما أنه فى زمن شريف، وهو شهر رمضان، فاجتمع له شرف الزمان والمكان.
ولهذا يستحب إكثار تلاوة القرآن فى شهر رمضان، لأنه ابتدئ بنزوله، ولهذا كان جبريل يعارض به رسول الله فى كل سنة فى شهر رمضان، فلما كانت السنة التى توفى فيها عارضه مرتين تأكيدا وتثبيتا وأيضا ففى الحديث بيان أنه من القرآن مكى، ومنه مدنى، فالمكى ما نزل قبل الهجرة، والمدنى ما نزل بعد الهجرة سواء كان بالمدينة أو بغيرها من أى البلاد كان، حتى ولوكان بمكة أو عرفة.
وقد أجمعوا على سور أنها من المكى وأخر أنها من المدنى، واختلفوا فى أخر وأراد بعضهم ضبط ذلك بضوابط فى تقييدها عسر ونظر ولكن قال بعضهم: كل سورة فى أولها شىء من الحروف المقطعة فهى مكية، إلا البقرة وآل عمران، كما أن كل سورة فيها يا أيها الذين آمنوا فهى مدنية، وما فيه يا أيها الناس فيحتمل أن تكون من هذا ومن هذا، والغالب أنه مكى، وقد يكون مدنيا كما فى البقرة: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون - يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين .
قال أبوعبيد : ثنا أبومعاوية ثنا من سمع الأعمش يحدث عن إبراهيم عن علقمة : كل شىء فى القرآن يا أيها الذين آمنوا فانه أنزل بالمدينة، وما كان منها يا أيها الناس فانه أنزل بمكة ثم قال: ثنا على بن معبد عن أبى المليح عن ميمون بن مهران قال: ما كان فى القرآن يا أيها الناس و يا بني آدم فإنه مكى وما كان يا أيها الذين آمنوا فإنه مدنى.
ومنهم من يقول: إن بعض السور نزل مرتين: مرة بالمدينة ومرة بمكة، والله أعلم. ومنهم من يستثنى من المكى آيات، يدعى أنها من المدنى، كما فى سورة الحج وغيرها.
والحق فى ذلك ما دل عليه الدليل الصحيح، فالله أعلم.(/1)
وقال أبوعبيد : حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة قال: نزلت بالمدينة سورة البقرة، وال عمران والنساء، وا لمائدة، والأنفال، والتوبة، والحج، وا لنور، والأحزاب، والذ ين كفروا، والفتح، والحد يد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والحواريون، والتغابن، و يا أيها النبي إذا طلقتم النساء و يا أيها النبي لم تحرم و الفجر ، و الليل إذا يغشى و إنا أنزلناه في ليلة القدر و لم يكن . و إذا زلزلت و إذا جاء نصر الله والفتح . وسائر ذلك بمكة، هذا إسناد صحيح عن ابن أبى طلحة مشهور، وهو أحد أصحاب ابن عباس الذين رووا عنه التفسير.
وقد ذكر فى المدنى سورا فى كونها مدنية نظر. وما به الحجرات المعوذات.
الحديث الثانى
وقال البخارى : ثنا موسى بن إسماعيل ثنا معتمر قال: سمعت أبىعن أبى عثمان قال، قال: أنبئت أن جبريل عليه السلام أتى النبى صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة فجعل يتحدث، فقال النبى صلى الله عليه وسلم لأم سلمة : من هذا أو كما قال، قالت: هذا دحيه، فلما قام قالت: والله ما حسبته إلا إياه حتى سمعت خطبة النبى صلى الله عليه وسلم يخبر خبر جبريل أو كما قال قال أبى: قلت لأبىعثمان : ممن سمعت هذا؟ قال: من أسامة بن زيد رضي الله عنه .
وهكذا رواه أيضا فى علامات النبوة عن عباس بن الوليد النرسى و مسلم فى فضائل أم سلمة عن عبدالأعلى بن حماد و محمد بن عبد الأعلى كلهم عن معتمر بن سليمان به. والغرض من ايراده هذا الحديث ههنا أن السفير بين الله وبين محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام، وهو ملك كريم، ذو وجاهة وجلالة ومكانة، كما قال تعالى: نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين وقال تعالى: إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين * وما صاحبكم بمجنون الآيات.
فمدح الرب تبارك وتعالى عبديه ورسوليه جبريل ومحمدا صلى الله وسلم عليهما، وسنستقصى الكلام على تفسيرهذا المكان فى موضعه إذا وصلنا إليه إن شاء الله تعالى وبه الثقة وفى الحديث فضيلة عظيمة لأم سلمة رضى الله عنها- كما بينه مسلم رحمه الله، لرؤيتها هذا الملك العظيم وفضيلة أيضا لدحية بن خليفة الكلبى وذلك أن جبريل عليه السلام كان كثيرا ما يأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على صورة دحية وكان جميل الصورة رضى الله عنه، وكان من قبيلة أسامة بن زيد بن حارثة الكلبى وهم من قبيلة قضاعة، وقضاعة قيل: إنهم من عدنان، وقيل من قحطان، كلهم ينسبون إلى كلب بن وبره، وقيل بطن مستقل بنفسه، والله أعلم.
الحديث الثالث
حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا الليث ثنا سعيد المقبرى عن أبيه، عن أبى هريرة قال، قال النبى صلى الله عليه وسلم: ما من الانبياء نبى إلا أعطى من الأيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذى أوتيت وحيا أوحاه الله إلى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ورواه أيضا فى الاعتصام عن عبد العزيز بن عبد الله و مسلم و النسائى عن قتيبة جميعا عن الليث بن سعد عن سعيد بن أبى سعيد عن أبيه واسمه كيسان المقبرى به.
وفى هذا الحديث فضيلة عظيمة للقرآن المجيد على كل معجزة أعطيها بنى من الأنبياء وعلى كل كتاب أنزله، وذلك أن معنى الحديث: ما من نبى إلا أعطى- أى من المعجزات- ما آمن عليه البشر، أى ما كان دليلا على تصديقه فيما جاءهم به واتبعه من اتبعه من البشر، ثم لما مات الأنبياء لم تبق لهم معجزة بعدهم إلا ما يحكيه أتباعهم عما شاهدوه فى زمانه .
وأما الرسول الخاتم للرسالة محمد صلى الله عليه وسلم فإنما كان معظم
ما آتاه الله وحيا منه إليه منقولا الى الناس بالتواتر، ففى كل حين هو كما أنزل. فلهذا قال: فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا وكذلك وقع فإن أتباعه أكثر من أتباع الأنبياء لعموم رسالته، ودوامها الى قيام الساعة واستمرار معجزته. ولهذا قال الله تعالى: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا وقال تعالى: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .
ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فقال أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ثم تحداهم إلى أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فقال أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين وقصر التحدى على هذ المقام فى السور المكية- كما ذكرنا فى المدنية أيضا، كما فى سورة البقرة حيث قال تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين وأخبرهم أنهم عاجزون عن معارضته بمثله وأنهم لا يفعلون ذلك فى المستقبل أيضا.(/2)
هذا وهم أفصح الخلق وأعلمهم بالبلاغة والشعر وقريض الكلام وضروبه، لكن جاءهم من الله مالا قبل لأحد من البشر به من الكلام الفصيح البليغ الوجيز المحتوى على العلوم الكثيرة الصحيحة النافعة، والأخبار الصادقة، عن الغيوب الماضية والآتية، والأحكام العادلة المحكمة، كما قال تعالى: وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا .
وقال الإمام أحمد بن حنبل : ثنا يعقوب بن إبراهيم ثنا أبى، ثنا محمد بن اسحاق قال: ذكر محمد بن كعب القرظى عن الحارث بن عبد الله الأعور قال: قلت لآتين أمير المؤمنين فلأ سألنه عما سمعت العشية، قال: فجئته بعد العشاء فدخلت عليه، فذكر الحديث. قال ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أتانى جبريل فقال: يامحمد إن أمتك مختلفة بعدك- قال- فقلت له: فأين المخرج يا جبريل؟ قال: فقال: كتاب الله، به يقصم الله كل جبار، من اعتصم به نجا، ومن تركه هلك- مرتين- قول فصل، وليس بالهزل، لا تخلقه الألسن، ولا تفنى عجائبه، فيه نبأ من كان قبلكم، وفصل مابينكم، وخبرماهو كائن بعدكم رواه الإمام أحمد .
وقد قال أبوعيسى الترمذى : ثنا عبد بن حميد ثنا حسين بن على الجعفى ثنا حمزة الزيات عن أبى المختار الطائى عن ابن أخى الحارث الأعور عن الحارث الأعور قال: مررت إلى المسجد فاذا الناس يخوضون فى الأحاديث، فدخلت على علي فقلت: يا أمير المؤمنين ألا ترى الناس قد خاضو فى الأحاديث؟ قال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أما إنى قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:ألا إنها ستكون فتنة فقلت: فما المخرج منها يارسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ماقبلكم، وخبر مابعدكم وحكم مابينكم، وهو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبارقصمة الله، ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله. وهو حبل الله المتين. وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم هو التى لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنه، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضى عجائبه، هو الذى لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به من قال به صدق، ومن عمل به أجر. ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم خذها اليك يا أعور . ثم قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات وإسناده مجهول، وفى حديث الحارث مقال.
قلت: لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات بل قد رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظى عن الحارث الأعور فبرئ حمزة من عهدته على أنه وإن كان ضعيف الحديث فإنه إمام فى القراءة. والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور وقد تكلموا فيه بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما أنه تعمد الكذب فى الحديث فلا، والله أعلم.
وقصارى هذا الحديث أنما يكون من كلام أمير المؤمنين على رضى الله عنه، وقد وهم بعضهم فى رفعه، وهو كلام حسن صحيح على أنه قد روى له شاهد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام العلم أبوعبيد الله القاسم بن سلام رحمه الله فى كتابة فضائل القرآن : ثنا أبو اليقظان عمار بن محمد الثورى أو غيره عن أبى إسحاق الهجرى عن أبى الاحوص عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستعتب ولا تنقضى عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد، فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما أنى لا أقول: الم، حرف، ولكن ألف عشر ولام عشر وميم عشر .
وهذا غريب من هذا الوجه، ورواه محمد بن تفضيل عن أبى إسحاق الهجرى واسمه إبراهيم بن مسلم وهو أحد التابعين، ولكن تكلموا فيه كثيرا، وقال أبو حاتم الرازى : لين ليس بالقوى. وقال أبو الفتح الأزدى : رفاع كثير الوهم.
قلت: فيحتمل- والله أعلم- أن يكون وهم فى رفع هذا الحديث وإنما هو من كلام بن مسعود ولكن له شاهد من وجه أخر والله أعلم.
وقال أبو عبيد أيضا: ثنا حجاج عن إسرائيل عن أبى اسحاق عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن مسعود قال: لا يسأل عبد عن نفسه الا القرآن فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله.
الحديث الرابع
قال البخارى : ثنا عمرو بن محمد ثنا يعقوب بن ابراهيم ثنا أبى عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال: أخبرنى أنس بن مالك أن الله تابع الوحى على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته حتى توفاه أكثر ما كان الوحى ثم توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده .
وهكذا رواه مسلم عن عمرو بن محمد هكذا وهوالناقد و حسن الحلوانى و عبد بن حميد و النسائى عن اسحاق بن منصور الكوسج أربعتهم عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهرى به.(/3)
ومعناه أن الله تعالى تابع نزول الوحى على رسوله صلى الله عليه وسلم شيئا بعد شىء كل وقت بما يحتاج اليه، ولم تقع فترة بعد الفترة الاولى التى كانت بعد نزول الملك أول مرة بقوله تعالى اقرأ باسم ربك فإنه استلبث الوحى بعدها حينا، يقال قريبا من سنتين أو أكثر، ثم حمى الوحى وتتابع، وكان أول شىء نزل بعد تلك الفترة يا أيها المدثر * قم فأنذر .
الحديث الخامس
قال البخارى : حدثنا أبو نعيم ثنا سفيان عن الأسود بن قيس قال سمعت جندبا يقول: إشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة فقالت: يامحمد ما أرى شيطانك الا تركك فأنزل الله تعالى: والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى .
وقد رواه البخارى فى غير موضع و مسلم و الترمذى و النسائى من طرق أخر عن سفيان وهو الثورى و شعبة بن الحجاج كلاهما عن قيس العبدى عن جندب بن عبد الله البجلى به. وقد تقدم الكلام على هذا الحديث فى تفسير سورة الضحى.
والمناسبة فى ذكر هذا الحديث والذى قبله فى فضائل القرآن أن الله تعالى له برسوله عناية عظيمة ومحبة شديدة، حيث جعل الوحى متابعا عليه ولم يقطعه عنه ولهذا إنما أنزل عليه القرآن مفرقا ليكون ذلك أبلغ في العناية والإكرام.
قال البخارى رحمه الله: نزل القرآن بلسان قريش والعرب قرآنا عربيا بلسان عربى مبين.
حدثنا أبواليمان ثنا شعيب عن الزهرى أخبرنى أنس بن مالك قال: فأمر عثمان بن عفان زيد بن ثابت و سعيد بن العاص و عبد الله بن الزبير و عبد الله بن الحارث بن هشام أن ينسخوها من المصاحف وقال لهم: إذا اختلفتم أنتم و زيد فى عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش ، فإن القرآن نزل بلسانهم، ففعلوا .
هذا الحديث قطعة من حديث سيأتى قريبا الكلام عليه ومقصود البخارى منه ظاهر، وهو أن القرآن الكريم نزل بلغة قريش وقريش خلاصة العرب، ولهذا قال: أبوبكر بن أبي داود : حدثنا عبد الله بن محمد بن خلاد ثنا يزيد أخبرنا شيبان عن عبدالمالك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: سمعت عمربن الخطاب يقول: لا يملين فى مصاحفنا هذه إلا غلمان قريش أو غلمان ثقيف وهذا إسناد صحيح.
وقال أيضا: حدثنا إسماعيل بن أسد ثنا هوذة ثنا عوف عن عبد الله ابن فضالة قال: لما أراد عمر أن يكتب الإمام أقعد له نفرا من أصحابه وقال: إذا اختلفتم فى اللغة فاكتبوها بلغة مضر فإن القرآن نزل بلغة رجل من مصر وقد قال الله تعالى: قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون وقال تعالى: وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين وقال تعالى: وهذا لسان عربي مبين وقال تعالى: ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي الآية، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك.
ثم ذكر البخارى رحمه الله حديث يعلى بن أمية أنه كان يقول: ليتنى أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحى، فذكر الحديث فى الذى سأل عمن أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب وعليه جبة، قال: فنظررسول الله ساعة ثم فجأة الوحى، فأشار عمر إلى يعلى- أى تعال- فجاء يعلى . فأدخل رأسه فإذا هو محمر الوجه يغط كذلك ساعة، ثم سرى عنه فقال:
أين الذى سألنى عن العمرة آنفا فذكر أمره بنزع الجبة وغسل الطيب .
وهذا الحديث رواه جماعة من طرق عديدة، والكلام عليه فى كتاب الحج ولا تظهر مناسبة ما بينه وبين هذه الترجمة، ولا يكاد ولو ذكر فى الترجمة التى قبلها لكان أظهر وأبين، والله أعلم .
جمع القرآن
قال البخاري : حدثنا موسى بن اسماعيل عن إبراهيم بن سعد ، ثنا ابن شهاب عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت قال: أرسل إلى أبوبكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبوبكر: إن عمر بن الخطاب أتانى، فقال: إن القتل قد استحر بقراء القرآن، وإنى أخشى أن يستحر القتل بالقراء فى المواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإنى أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله؟ قال عمر: هذا والله خير؟ فلم يزل عمر يراجعنى حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت فى ذلك الذى رأى عمر، قال زيد: قال أبوبكر: إنك رجل شاب عاقل لانتهمك، وقد كنت تكتب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان على أثقل مما أمرنى به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال؟ هو والله خير. فلم يزل أبوبكر يراجعنى حتى شرح الله صدرى للذى شرح له صدرأبى بكر وعمر رضى الله عنهما، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبى خزيمة الأنصارى لم أجدها مع غيره لقد جاءكم رسول من أنفسكم حتى خاتمة براءة.
فكانت الصحف عند أبى بكرحتى توفاه ألله ثم عند عمرحياته ثم عند حفصة بنت عمررضى الله عنهم.(/4)
وقد روى البخارى هذا فىغير موضع من كتابه. ورواه الإمام أحمد والترمذى والنسائى من طرق عن الزهرى به. وهذا من أحسن وأجل وأعظم ما فعله الصديق رضى الله عنه، فإنه أقامه الله تعالى بعد النبي صلى الله عليه وسلم مقاما لا ينبغى لأحد من بعده: قاتل الاعداء من مانعى الزكاة والمرتدين والفرس والروم، ونفذ الجيوش، وبعث البعوث والسرايا، ورد الأمر إلى نصابه، بعد الخوف من تفرقه وذهابه، وجمع القرآن العظيم من أماكنه المتفرقة حتى تمكن القارىء من حفظه كله. وكان هذا من سر قوله تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .
فجمع الصديق الخير وكف الشرور، رضى الله عنه وأرضاه، ولهذا روى عن غير واحد من الأئمة منهم وكيع وابن زيد وقبيصة عن سفيان الثورى عن إسماعيل بن عبدالرحمن السدى الكبير ، عن عبد خير عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال: أعظم الناس أجرًا فى المصاحف أبوبكر، إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين هذا إسناد صحيح.
وقال أبو بكر بن أبى داود فى كتاب المصاحف :حدثنا هارون بن إسحاق ، ثنا عبدة عن هشام عن أبيه أن أبا بكر رضىالله عنه هو الذى جمع القرآن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ختمه صحيح أيضًا ، وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه هو الذى تنبه لذلك لما استحرالقتل بالقراء، أى اشتد القتل وكثرفى قراء القرآن يوم اليمامة.. يعنى يوم قتال مسيلمة الكذاب وأصحابه بنى حنيفة، بأرض اليمامة فى حديقة الموت.
وذلك أن مسيلمة التف معه من المرتدين قريب من مائة ألف. فجهز الصديق لقتاله خالد بن الوليد فى قريب من ثلاثة عشرألفا، فالتقوا معهم، فانكشف الجيش الإسلامى لكثرة من فيه من الأعراب. فنادى القراء من كبار الصحابة: ياخالد خلصنا، يقولون ميزنا من هؤلاء الأعراب. فتميزوا منهم وانفردوا، فكانوا قريبا من ثلاثة آلاف. ثم صدقوا الحملة وقاتلوا قتالا شديدا، وجعلوا يتنادون:يا أصحاب سورة البقرة، فلم يزل ذلك دأبهم، حتى فتح الله عليهم، وولى جيش الكفار فارًا، واتبعتهم السيوف المسلمة فى أقفيتهم قتلاً وأسرًا، وقتل الله مسيلمةوفرق شمل أصحابه، ثم رجعوا إلى الإسلام.
ولكن قتل من القراء يومئذ قريب من خمسمائة رضى الله عنهم، فلهذا أشار عمرعلى الصديق، بأن يجمع القرآن لئلا يذهب منه بسبب موت من يكون يحفظه من الصحابة بعد ذلك فى مواطن القتال. فإذا كتب وحفظ صار محفوظا، فلا فرق بين حياة من بلغه أو موته. فراجعه الصديق قليلا ليستثبت الأمر، ثم وافقه وكذلك راجعهما زيد بن ثابت فى ذلك. ثم صار إلى ما رأياه رضى الله عنهم أجمعين. وهذا المقام من أعظم فضائل زيد بن ثابت الأنصارى ، ولهذا قال أبو بكر بن أبى داود :حدثنا يزيد بن مبارك ، عن فضالة عن الحسن أن عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله، فقيل كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة، فقال: إنا لله، ثم أمر بالقرآن فجمع فكان أول من جمعه فى المصحف وهذا منقطع فإن الحسن لم يدرك عمر ومعناه أنه أشار بجمعه فجمع، ولهذا كان مهيمنًا على حفظه وجمعه كما رواه ابن أبى داود حيث قال:ثنا أبو الطاهر ، ثنا ابن وهب ، ثنا عمر بن طلحة الليثى ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، أن عمر لما جمع القرآن، كان لايقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شاهدان،وذلك عن أمر الصديق له فى ذلك . كما قال أبو بكر بن أبى داود :ثنا أبو الطاهر ، أنا ابن وهب ،
أخبرنى ابن أبى الزناد ، عن هشام ابن عروة عن أبيه قال: لما استحر القتل بالقراء يومئذ فرق أبوبكر رضى الله عنه أن يضيع فقال لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت:فمن جاءكما بشاهدين على شىء من كتاب الله فاكتباه ، منقطع حسن.
ولهذا قال زيد بن ثابت : ووجدت آخر سورة التوبة- يعنى قوله تعالى: لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخر الآيتين- مع أبى خزيمة الأنصارى . وفى رواية مع خزيمة بن ثابت الذى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين لم أجدها مع غيره . فكتبوها عنه لأنه جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين فى قصة الفرس التى ابتاعها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من الأعرابى، فأنكر الأعرابى البيع، فشهد خزيمة هذا بتصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمضى شهادته وقبض الفرس من الأعرابى.
والحديث رواه أهل السنن وهو مشهور.
وروى أبو جعفر الرازى عن الربيع ، عن أبى العالية أن أبى بن كعب أملاها عليهم مع خزيمة بن ثابت . وقد روى ابن وهب عن عمر بن طلحة الليثى عن محمد بن عمرو بن علقمة عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، أن عثمان شهد بذلك أيضًا.(/5)
وأما قول زيد بن ثابت : فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال. وفى رواية: من العسب والرقاع والاضلاع. وفى رواية: من الاكتاف والأقتاب وصدور الرجال. أما العسب فجمع عسيب، قال أبونصر اسماعيل بن حماد الجوهرى وهو من السعف فويق الكرب، لم ينبت عليه الخوص، وما نبت عليه الخوص فهو السعف. واللخاف جمع لخفة، وهى القطعة من الحجارة مستدقة، كا نوا يكتبون عليها وعلى العسب وغير ذلك ممايمكنهم الكتابة عليه بما يناسب ما يسمعونه من القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من لم يكن يحسن الكتابة أو يثق بحفظه، فكان يحفظه،فتلقاه زيد هذا من عسبه، وهذا من لخافه، ومن صدر هذا، أى من حفظه وكانوا أحرص شىء على أداء الأمانات. وهذا من أعظم الأمانة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أودعهم ذلك ليبلغوه إلى من بعده، كما قال تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ففعل صلوات الله وسلامه عليه .
ولهذا سألهم فى حجة الوداع يوم عرفة على رؤوس الأشهاد، والصحابة أوفر ما كانوامجتمعين، فقال: إنكم مسئولون عنى فما أنتم قائلون قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت. فجعل يشير بأصبعه إلى السماء عليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد رواه مسلم بن جابر وقد أمر أمته أن يبلغ الشاهد الغائب وقال: بلغوا عنى ولو آية يعنى ولو لم يكن مع أحدكم سوى آية واحدة فليؤدها إلى من وراءه، فبلغوا عنه أمرهم به، فأدوا القرآن قرآنا، والسنة سنة، لم يلبسوا هذا بهذا.
ولهذا قال عليه السلام: من كتب عنى سوى القرآن فليمحه أى لئلا يختلط بالقرآن، وليس معناه أن لا يحفظوا السنة ويرووها، والله أعلم، فلهذا نعلم بالضرورة أنه لم يبق من القرآن ما أداه الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم - إلا وقد بلغوه إلينا، ولله الحمد والمنة.
فكان الذى فعله الشيخان أبوبكر وعمر رضى الله عنهما من أكبر المصالح الدينية وأعظمها من حفظهما كتاب الله فى الصحف لئلا يذهب منه شىء بموت من تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كانت تلك الصحف عند الصديق أيام حياته، ثم أخذها عمر بعده، فكانت عنده محروسة معظمة مكرمة، فلما مات كانت عند حفصة أم المؤمنين، لأنها كانت وصيته من أولاده على أوقافه وتركته، وكانت عند أم المؤمنين حتى أخذها أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه كما سنذكره إن شاء الله.
كتابة عثمان رضي الله عنه للمصاحف
قال البخارى رحمه الله:
ثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا إبراهيم ثنا ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه، أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان بن عفان رضى الله عنهما، وكان يغازى أهل الشام فى فتح أرمينيه وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم فى القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا فى الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة: أن ارسلى الينا بالصحف فننسخها، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد ابن العاص وعبدالرحمن بن الحرث بن هشام فنسخوها فى المصاحف.
وقال عثمان للرهط القريشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى شىء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما أنزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف فى المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق
بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن فى كل صحيفة أومصحف أن يحرق.
قال ابن شهاب الزهرى : فأخبرنى خارجة بن زيد بن ثابت سمع زيد بن ثابت فقال: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصارى من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فألحقناها فى سورتها بالمصحف . وهذا أيضا من أكبر مناقب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه.
فإن الشيخين سبقاه إلى حفظ القرآن أن يذهب منه شىء؟ وهو جمع الناس على قراءة واحدة لئلا يختلفوا فى القرآن، ووافقه على ذلك جميع الصحابة. وانما روى عن عبدالله بن مسعود شيء من التغضب بسبب أنه لم يكن ممن كتب المصاحف وأمرأصحابه بغل مصاحفهم لما أمر عثمان بحرق ما عدا المصحف الإمام. ثم رجع ابن مسعود إلى الوفاق حتى قال على بن أبى طالب : لو لم يفعل ذلك عثمان لفعلته أنا. فاتفق الأئمة الأربعة أبوبكر وعمر وعثمان وعلى على أن ذلك من مصالح الدين وهم الخلفاء الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنتى وسنة الخلفاءالراشدين من بعدى ، وكان السبب فى هذا حذيفة بن اليمان رضى الله عنه. فإنه لما كان غازيا فى فتح أرمينية وأذربيجان وكان قد اجتمع هناك أهل الشام والعراق، وجعل حذيفة يسمع منهم قراءات على حروف شتى، ورأى منهم اختلافا وافتراقا، فلما رجع إلى عثمان أعلمه، وقال لعثمان: أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا فى الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.(/6)
وذلك أن اليهود والنصارى مختلفون فيما بأيديهم من الكتب، فاليهود بأيديهم نسخة من التوراة والسامرة يخالفونهم فى ألفاظ كثيرة ومعانى أيضا، وليس فى توراة السامرة حروف الهمزة، ولا حرف الهاء ولا الياء، والنصارى أيضا بأيديهم توراة يسمونها العتيقة وهى مخالفة لنسختى اليهود والسامرة.
وأما الأناجيل التى بأيدى النصارى فأربعة: إنجيل مرقس، وإنجيل لوقا، وإنجيل متى، وإنجيل يوحنا، وهى مختلفة أيضا اختلافا كثيرا. وهذه الأناجيل الأربعة كل منها لطيف الحجم منها ما هو قريب من أربع عشرة ورقة بخط متوسط ومنها ما هو أكثر من ذلك، إما بالنصف أو الضعف. ومضمونها سيرة عيسى عليه السلام، وأيامه، وأحكامه، وكلامه، ومعه شىء قليل مما يدعون أنه كلام الله، وهى مع هذا مختلفة كما قلنا. وكذلك التوراة مع ما فيها من التحريف والتبديل، ثم هما منسوخان بعد ذلك بهذه الشريعة المحمدية المطهرة.
فلما قال حذيفة لعثمان أفزعه، وأرسل إلى حفصة أم المؤمنين أن ترسل إليه بالصحف التى عندها مما جمعه الشيخان ليكتب ذلك فى مصحف واحد، وينفذه إلى الآفاق ويجمع الناس على القراءة به وترك ما سواه، ففعلت حفصة.
وأمر عثمان هؤلاء الأربعة، وهم زيد بن ثابت الأنصارى ، أحد كتاب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبدالله بن الزبير بن العوام القرشى الأسدى أحد فقهاء الصحابة ونجبائهم علما وعملا، وأصلا وفضلا، وسعيد بن العاص ابن أمية القرشى الأموى وكان كريما جوادا ممدحا، وكان أشبه الناس لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم القرشى المخزومى .
فجلس هؤلاء النفر الأربعة يكتبون بالقرآن نسخًا. وإذا اختلفوا فى موضع الكتابة على أى لغة رجعوا إلى عثمان ، كما اختلفوا فى التابوت، أيكتبونه بالتاء أو الهاء؟ فقال زيد بن ثابت : إنما هو التابوه، وقال الثلاثة القرشيون: إنما هو التابوت، فتراجعوا إلى عثمان فقال: اكتبوه بلغة قريش، فإن القرآن نزل بلغتهم. وكان عثمان رضى الله عنه- والله أعلم- رتب السور فى المصحف، وقدم السبع الطول، وثنى بالمئين.
ولهذا روى ابن جرير وأبو داود والترمذى والنسائى من حديث غير واحد من الأئمة الكتاب: عن عوف الأعرابى عن يزيد الفارسى عن ابن عباس قال: قلت لعثمان ابن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال، وهى من المثانى ، وإلى براءة وهى من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها فى السبع الطول، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتى عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشىء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات فى السورة التى يذكر فيها كذا وكذا .
وكانت الأنفال من أول ما نزلت بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وحسبت أنها منها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، فوضعتها فى السبع الطول.ففهم من هذا الحديث أن ترتيب الآيات فى الصور أمر توقيفى متلقىعن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما ترتيب السور فمن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه ولهذا ليس لأحد أن يقرأ القرآن إلا مرتبا آياته. فإن نكسه أخطأ كثيرًا وأما ترتيب السور فمستحب اقتداء بعثمان رضى الله عنه. والأولى إذا قرأ أن يقرأ متواليا، كما قرأ عليه السلام فى صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين، وتارة بسبح، و هل أتاك حديث الغاشية . فإن فرق جاز، كما صح أن رسول الله قرأ فى العيد بقاف و اقتربت الساعة ، رواه مسلم عن أبى قتادة .وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فى صلاة الصبح يوم الجمعة ألم السجدة و هل أتى على الإنسان . وان قدم بعض السور على بعض جازأيضًا ، فقد روى حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران ، أخرجه مسلم .وقرأ عمر فى الفجر بسورة النحل ثم بيوسف.(/7)
ثم إن عثمان رضى الله عنه رد الصحف إلى حفصة رضى الله عنها، فلم تزل عندها حتى أرسل إليها مروان بن الحكم يطلبها فلم تعطه حتى ماتت، فأخذها من عبدالله بن عمر فحرقها لئلا يكون فيها شىء يخالف المصاحف الأئمة التى نفذها عثمان إلى الآفاق، مصحفا إلى مكة، ومصحفا إلى البصرة، وآخرإلى الكوفة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وترك عند أهل المدينة مصحفا. رواه أبو بكر بن أبى داود عن أبى حاتم السجستانى ، سمعه يقوله. وصحح القرطبى أنه إنما نفذ إلى الآفاق أربعة مصاحف- وهذا غريب- وأمر بما عدا ذلك من مصاحف الناس أن يحرق لئلا تختلف قراءات الناس فى الآفاق. وقد وافقه الصحابة فى عصره على ذلك ولم ينكره أحد منهم. وإنما نقم عليه ذلك الرهط الذين تمالؤا عليه وقتلوه- قاتلهم الله- وذلك فى جملة ما أنكروا ممالا أصل له. وأما سادات المسلمين من الصحابة ومن نشأ فى عصرهم ذلك. من التابعين، فكلهم وافقوه.
قال أبو داود الطيالسى وابن مهدى وغندر عن شعبة ، عن علقمة ابن مرثد عن رجل عن سويد بن غفلة : قال على حين حرق عثمان المصاحف: لو لم يصنعه هو لصنعته.
وقال أبو بكر بن أبى داود : ثنا أحمد بن سنان ، ثنا عبدالرحمن ثنا شعبة عن أبى إسحق عن مصعب بن سعد بن أبى وقاص قال: أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك أو قال لم ينكر ذلك منهم أحد ، وهذا اسناد صحيح.وقال أيضًا: حدثنا اسحق بن ابراهيم الصواف ، ثنا بن كثير ، ثنا ثابت بن عمارة الحنفى قال: سمعت غنيم بن قيس المازنى قال: قرأت القرآن على الحرفين جميعا، والله ما يسرنى أن عثمان لم يكتب المصحف وأنه ولد لكل مسلم كلما أصبح غلام فأصبح له مثل ماله. قال: قلنا له يا أبا العنبر لم؟ قال لو لم يكتب عثمان المصحف لطفق الناس يقرءون الشعر.وحدثنا يعقوب بن سفيان حدثنا محمدبن عبدالله - حدثنى عمران بن حدير عن أبى مجلز قال: لولا أن عثمان كتب القران لألفيت الناس يقرءون الشعر.
وحدثنا أحمد بن سنان ، سمعت ابن مهدى يقول: خصلتان لعثمان بن عفان ليستا لأبى بكر ولالعمر: صبره نفسه حتى قتل مظلوما، وجمعه الناس على المصحف .وأما عبدالله بن مسعود رضى الله عنه، فقد قال إسرائيل عن أبى إسحاق عن حميد بن مالك قال: لما أمر بالمصاحف- يعنى بتحريقها- ساء ذلك عبدالله بن مسعود وقال: من استطاع منكم أن يغل مصحفا فليغلل، فإنه من غل شيئًا جاء بما غل يوم القيامة، ثم قال عبدال له: لقد قرأت القرآن من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وزيد صبى، أفأترك ما أخذت من فى رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقال أبو بكر : ثنا محمد بن عبدالله بن محمد بن النضر ، ثنا سعيد بن سليمان ، ثنا ابن شهاب عن الأعمش عن أبى وائل قال: خطبنا ابن مسعود على المنبر فقال: من يغلل يأت بما غل يوم القيامة، غلوا مصاحفكم، وكيف تأمرونى أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت وقد قرأت القرآن من فى رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة وأن زيد بن ثابت ليأتى مع الغلمان له ذؤابتان، والله ما نزل من القرآن شىء إلا وأنا أعلم فى أى شىء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله منى، وما أنا بخيركم، ولو أعلم مكانا تبلغه الابل أعلم بكتاب الله منى لأتيته قال أبو وائل : فلما نزل عن المنبر جلست فى الخلق، فما أحد ينكر ما قال. أصل هذا مخرج فى الصحيحين، وعندهما: ولقد علم أصحاب محمد صلىالله عليه وسلم أنى من أعلمهم بكتاب الله.
وقول أبى وائل : فما أحد ينكرما قال، يعنى من فضله وحفظه وعلمه، والله أعلم، وأما أمره بغل المصاحف وكتمانها فقد أنكره عليه غير واحد.
قال الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: قدمت الشام فلقيت أبا الدرداء فقال: كنا نعد عبدالله جبانا فما باله يواثب الأمراء؟ وقال أبو بكر بن أبى داود ، باب رضى عبدالله بن مسعود بجمع عثمان المصاحف بعد ذلك.
حدثنا عبدالله بن سعيد و محمد بن عثمان بن حسان العامرى عن فلفلة الجعفى قال: فزعت فيمن فزع إلى عبدالله فى المصاحف، فدخلنا عليه فقال رجل من القوم: انا لم نأتك زائرين، ولكننا جئنا حين راعنا هذا الخبر، فقال: إن القرآن أنزل على نبيكم من سبعة أبواب على سبعة أحرف- أو حروف- وإن الكتاب قبلكم كان ينزل- أو نزل- من باب واحد على حرف واحد . وهذا الذى استدل به أبو بكر رحمه الله على رجوع ابن مسعود فيه نظرمن جهة أنه لا تظهرمن هذا اللفظ رجوع عما كان يذهب إليه، والله أعلم.(/8)
وقال أبو بكر أيضًا: حدثنى عمى، ثنا أبو رجاء ، أنا اسرائيل عن أبى إسحق عن مصعب بن سعد قال: قام عثمان فخطب الناس فقال: أيها الناس عهد نبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون فى القرآن وتقولون قراءة أبى وقراءة عبدالله ، يقول الرجل: والله ما يقيم قراءتك وأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شىء لما جاء به فكان الرجل يجىء بالورقة والأديم فيه القرآن حتى تجمع من ذلك شىء كثير، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلا رجلا فناشدهم: لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملاه عليك فيقول نعم فلما فرغ من ذلك عثمان قيل من أكتب الناس قال كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت قال فأي الناس أعرب قالوا : سعيد بن العاص ،قال عثمان : فليمل سعيد وليكتب زيد مصاحفا ففرقها - فى الناس، فسمعت بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: قد أحسن ، إسناد صحيح.
وقال أيضًا: ثنا إسحق بن إبراهيم بن زيد ، ثنا أبو بكر بن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن كثير بن أفلح قال: لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثنى عشر رجلا من قريش والأنصار فيهم أبى بن كعب وزيد بن ثابت ، قال: فبعثوا إلى الربعة التى فى بيت عمر فجىء بها، قال: وكان عثمان يتعاهدهم ، فكانوا إذا تدارءوا فى شىء أخروه، قال محمد: فقلت لكثير وكان فيهم فيمن يكتب: هل تدرون لم كانوا يؤخرونه؟ قال: لا، قال محمد: فظننت ظنًا كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الأخيرة فيكتبونها على قوله صحيح أيضًا.
قلت: الربعة هى الكتب المجتمعة، وكانت عند حفصة رضى الله عنها، فلما جمعها عثمان رضى الله عنه فىالمصحف ردها إليها ولم يحرقها فى جملة ما حرقه مما سواها لأنها هى بعينها الذى كتبه وانما رتبه، ثم أنه كان قد عاهدها على أن يردها إليها، فمازالت عندها حتى ماتت، ثم أخذها مروان بن الحكم فحرقها وتأول فى ذلك ما تأول عثمان، كما رواه أبو بكر بن أبى داود : حدثنا محمد بن عوف ، ثنا أبو اليمان ، ثنا شعيب عن الزهرى ، أخبرنى سالم بن عبدالله أن مروان كان يرسل إلى حفصة يسألها عن الصحف التى كتب منها القرآن فتأبى حفصة أن تعطيه اياها، قال سالم : فلما توفيت حفصة ورجعنا من دفنها، أرسل مروان بالعزيمة إلى عبدالله ابن عمر ليرسلن إليه بتلك الصحف، فأرسل بها إليه عبدالله بن عمر ، فأمر بها مروان فشققت.وقال مروان : إنما فعلت هذا لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف، فخشيت ان طال بالناس زمان أن يرتاب فى شأن هذه الصحف مرتاب، أو يقول إنه قد كان شىء منها لم يكتب، إسناد صحيح .
وأما ما رواه الزهرى عن خارجة عن أبيه فى شأن آية الأحزاب والحاقهم إياها فى سورتها، فذكره لهذا بعد جمع عثمان فيه نظر، وإنما هذا كان حال جمع الصديق الصحف كما جاء مصرحا به فى غير هذه الرواية عن الزهرى عن عبيد بن السباق عن زيد بن ثابت ، والدليل على ذلك أنه قال فالحقناها فى سورتها من المصحف، وليست هذه الآية ملحقة فى الحاشية فىالمصاحف العثمانية.
فهذه الأفعال من أكبر القربات التى بادر إليها الأئمة الراشدون: أبوبكروعمر رضى الله عنهما. حفظا على الناس القرآن وجمعاه لئلا يذهب منه شىء و عثمان رضى الله عنه جمع قراءات الناس على مصحف واحد ووضعه على العرضة الأخيرة التى عارض بها جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى آخر رمضان من عمره عليه السلام، فإنه عارضه به عامئذ مرتين، ولهذا قال رسول الله لفاطمة ابنته لما مرض: وما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلى أخرجاه فى الصحيحين .
وقد روى أن عليا رضى الله عنه أراد أن يجمع القرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتبا حسب نزوله أولا فأول، كما رواه ابن أبى داود رحمه الله حيث قال: ثنا محمد بن اسماعيل الأحمسى ، ثنا ابن تفضيل عن أشعث عن محمد ابن سيرين قال: لما توفى النبى صلى الله عليه وسلم أقسم علي أن لا يرتدى برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن فى مصحف ففعل، فأرسل إليه أبو بكر رضى الله عنه أيام أكرهت إمارتى يا أبا الحسن؟ فقال: لا والله، إلا أنى أقسمت أن لا أرتدى برداء إلا لجمعة، فبايعه ثم رجع . هكذا رواه وفيه انقطاع. ثم قال لم يذكر المصحف أحد إلا أشعث وهو لين الحديث، وإنما رووا حتى أجمع القرآن، يعنى أتم حفظه، فإنه يقال للذى يجمع القرآن قد جمع قلت وهذا الذى قاله أبو بكر أظهر، والله أعلم، فإن عليا لم ينقل عنه مصحف علىما قيل ولا غيرذلك ولكن قد توجد مصاحف على الوضع العثماني يقال انها بخط علي رضى الله عنه، وفى ذلك نظر فإن فى بعضهم (كتبه علي بن أبى طالب) وهذا لحن من الكلام، وعلي رضى الله عنه من أبعد الناس عن ذلك، فإنه كما هو المشهور عنه هو أول من وضع علم النحو فيما رواه عنه الأسود ظالم بن عمرو الدؤلى ، وأنه قسم الكلام إلى اسم وفعل وحرف، وذكر أشياء أخر تممها أبو الأسود بعده، ثم أخذ الناس عن أبى الاسود فوسعوه ووضحوه، وصار علما مستقلا.(/9)
وأما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذى فى الشام بجامع دمشق عند الركن، شرقى المقصورة المعمورة بذكر الله، وقد كان قديما بمدينة طبرية، ثم نقل منها إلى دمشق فى حدود ثمانى عشرة وخمسمائة، وقد رأيته كتابا عزيزا جليلا عظيمًا ضخمًا بخط حسن مبين قوى بحبر محكم، فى رق أظنه من جلود الإبل، والله أعلم، زاده الله تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا.فأما عثمان رضى الله عنه، فيما يعرف أنه كتب بخطه هذه المصاحف،وإنما كتبها زيد بن ثابت فى أيامه وغيره، فنسبت إلى عثمان لأنها بأمره واشارته، ثم قرئت على الصحابة بين يدى عثمان، ثم نفذت إلى الآفاق رضى الله عنه.
وقد قال أبو بكر بن أبى داود : ثنا على بن حرب الطائى ثنا قريش بن أنس ، ثنا سليمان التيمى عن أبى نضرة عن أبى سعيد مولى بنى أسيد قال: لما دخل المصريون على عثمان ضربوه بالسيف على يده، فوقعت على فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم فمد يده وقال: والله إنها لأول يدخطت المفصل.وقال أيضًا: ثنا أبو الطاهر ، ثنا ابن وهب قال: سألت مالكا عن مصحف عثمان فقال لى: ذهب، يحتمل أنه سأله عن المصحف الذى كتبه بيده ويحتمل أن يكون سأله عن المصحف الذى تركه فى المدينة، والله أعلم.
قلت: وقد كانت الكتابة فى العرب قليلة جدا، وإنما أول ما تعلموا ذلك ما ذكره هشام بن محمد بن السائب الكلبى وغيره أن بشر ابن عبدالملك أخا أكيدر دومة تعلم الخط من الأنبار، ثم قدم مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبى سفيان صخر بن حرب بن أمية، فعلمه حرب بن أمية وابنه سفيان، وتعلمه عمر بن الخطاب من حرب ابن أمية، وتعلمه من عمه سفيان بن حرب ، وقيل: إن أول من تعلمه من الأنبار قوم من طيئ من قرية هناك يقال لها بقة ثم هذبوه ونشروه فى جزيرة العرب، فتعلمه الناس ولهذا قال أبو بكر بن أبى داود : ثنا عبد الله بن محمد الزهرى ، ثنا سفيان عن مجاهد عن الشعبى قال: سألنا المهاجرون: من أين تعلمتم الكتابة؟ قالوا: من أهل الأنبار.قلت: والذى كان يغلب على زمان السلف الكتابة المكتوبة، ثم هذبها أبو على بن مقلة الوزير ، وصار له فى ذلك نهج وأسلوب فى الكتابة، ثم قربها على بن هلال البغدادى المعروف بابن البواب، وسلك الناس وراءه، وطريقته فى ذلك واضحة جيدة. والغرض أن الكتابة لما كانت فى ذلك الزمان لم تحكم جيدا، وقع فى كتابة المصاحف اختلاف فى وضع الكلمات من حيث صناعة الكتابة لا من حيث المعنى، وصنف الناس فى ذلك. واعتنى بذلك الإمام أبو بكر بن أبى داود رحمه الله، فبوبا على ذلك، وذكر قطعة صالحة هى من صناعة القرآن ليست مقصدنا ههنا.
ولهذا نص الإمام مالك على أنه لاتوضع المصاحف إلا على وضع كتابة الامام. ورخص غيره فى ذلك واختلفوا فى الشكل والنقط، فمن مرخص ومن مانع.
فأما كتابة السورة وآياتها والتعشير والأجزاء والأحزاب فكثير من مصاحف زماننا. والأولى اتباع السلف الصالح. ثم قال البخارى
ذكركتاب النبى صلى الله عليه وسلم
وأورد فيه من حديث الزهري ،عن ابن السباق عن زيد بن ثابت أنأبا بكرالصديق قال له: وكنت تكتب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر نحو ما تقدم فى جمعه القرآن وقد تقدم ، وأورد حديث زيد بن ثابت فى نزول لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر ولم يذكر البخارى أحدًا من الكتاب فى هذا الباب سوى زيد بن ثابت وهذا عجب، وكأنه لم يقع له حديث يورده سوى هذا، والله أعلم. وموضع هذا فى كتاب السيرة عند ذكر كتابه عليه الصلاة والسلام .
ثم قال البخارى رحمه الله أنزل القرآن على سبعة أحرف.
حدثنا سعيد بن عفير ، ثنا الليث ، حدثنى عقيل عن ابن شهاب قال حدثنى عبيد الله بن عبدالله أن عبدالله بن عباس حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أقرأنى جبريل عليه السلام على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدنى حتى انتهى إلى سبعة أحرف
وقد رواه أيضًا فى بدء الخلق، ومسلم من حديث يونس ، ومسلم أيضًا عن معمر ، كلاهما عن الزهرى بنحوه، ورواه ابن جرير من حديث الزهرى به، ثم قال الزهرى : بلغنى أن تلك السبعة الأحرف إنما هى فى الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف فى حلال ولا فى حرام، وهذا مبسوط فى الحديث الذى رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام حيث قال:
حدثنا يزيد ويحيى بن سعيد ، كلاهما عن حميد الطويل عن أنس بن مالك عن أبى بن كعب قال: ما حك فى صدرى شىء منذ أسلمت، إلا أننى قرأت آية وقرأها آخر غير قراءتى، فقلت: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أقرأتنى آية كذا وكذا؟ قال: نعم. وقال الآخر: أليس تقرئنى آية كذا وكذا قال: نعم فقال:إن جبريل وميكائيل أتيانى فقعد جبريل عن يمينى وميكائيل عن يسارى، فقال جبريل: أقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف، وكل حرف كاف شاف .(/10)
وقد رواه النسائى من حديث يزيد - وهو ابن هارون- ويحيى بن سعيد القطان ، كلاهما عن حميد الطويل عن أنس عن أبى بن كعب بنحوه وكذا رواه ابن أبى عدى ومحمود بن ميمون الزعفراني ويحيى بن أيوب كلهم عن حميد به. وقال ابن جرير ثنا محمد بن مرزوق ،ثنا أبو الوليد ، ثنا
حماد بن سلمة بن حميد عن أنس بن عبادة بن الصامت عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف فأدخل بينهما عبادة بن الصامت وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله:
ثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبى خالد ، حدثنى عبدالله بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن أبى بن كعب ، قال: كنت فى المسجد، فدخل رجل فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخرفقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فقمنا جميعا فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل هذا فقرأ سوى قراءة صاحبه، فقال لهما النبى صلى الله عليه وسلم: اقرءا- فقرءا فقال- أصبتما فلما قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم الذى قال، كبر على ولا إذا كنت فى الجاهلية، فلما رأى الذي غشينى ضرب فى صدرى، ففضت عرقا. وكأنما أنظر إلى الله فرقا، فقال:يا أبى إن الله أرسل إلى أن اقرأ القران على حرف، فرددت إليه أن هون على أمتى، فأرسل إلى أن أقرأ على حرفين، فرددت إليه أن هون على أمتى ، فأرسل ن أقرأه على سبعة أحرف، ولك بكل ردة مسألة تسألينها- قال- قلت: اللهم اغفر لأمتى، اللهم اغفر لأمتى ، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام . وهكذا رواه مسلم من حديث إسماعيل بن أبى خالد به.
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، ثنا محمد بن تفضيل عن اسماعيل بن أبى خالد ، عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن أبيه عن جده، عن أبى بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن الله أمرنى أن اقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب خفف عن أمتى، فقال: اقرأه على حرفين، فقلت: رب خفف عن أمتى، فأمرنى أن أقرأه على سبعة أحرف من سبعة أبواب الجنة، كلها شاف كاف .
وقال ابن جرير :حدثنى يونس عن ابن وهب ، أخبرنى هشام بن سعد عن عبيد الله ابن عمر ، عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن أبى بن كعب أنه قال: سمعت رجلا يقرأ فى سورة النحل قراءة تخالف قراءتى ، ثم سمعت آخر يقرؤها بخلاف ذلك، فانطلقت بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنى سمعت هذين يقرآن فى سورة النحل، فسألتهما من أقرأهما؟ فقالا: رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: لأذهبن بكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خالفتما ما أقرأنى رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحدهما: أقرأ- فقرأ فقال- أحسنت- ثم قال للآخر اقرأ- فقرأ- فقال- أحسنت قال أبى: فوجدت فى نفسى وسوسة الشيطان حتى احمر وجهى ، فعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وجهى، فضرب يده فى صدرى ، ثم قال: اللهم أخسىء الشيطان عنه، يا أبى أتانى آت من ربى فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب خفف عن أمتى، ثم أتانى الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرفين، فقلت: رب خفف عن أمتى، ثم أتانى الثالثة فقال مثل ذلك، وقلت مثل ذلك، ثم أتانى الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف ولك بكل ردة مسألة- فقال- يارب اللهم اغفر لأمتى، يارب اغفر لأمتى، واختبأت الثالثة شفاعة لأمتى يوم القيامة اسناد صحيح.
قلت: وهذا الشك الذى حصل لأبى فى تلك الساعة هو- والله أعلم- السبب الذى لأجله قرأ عليه رسول الله قراءة اعلام وابلاغ ودواء لما كان حصل له سورة لم يكن إلى آخرها لاشتمالها على قوله تعالى
رسول من الله يتلو صحفا مطهرة * فيها كتب قيمة ، وهذا نظير تلاوته سورة الفتح حين أنزلت مرجعه من الحديبية على عمر بن الخطاب ، وذلك لما كان تقدم له من الأسئلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبى بكر الصديق، وفيها قوله تعالى لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين .وقال ابن جرير :
ثنا محمد بن مثنى ، ثنا محمد بن جعفر ، ثنا شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن أبى ليلى عن أبى بن كعب أن رسول الله كان عند أضاة بنى غفار، فأتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، قال: أسأل
الله معافاته ومغفرته فإن أمتى لا تطيق ذلك، قال: ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين، قال: أسأل الله معافاته ومغفرته ان أمتى، لا تطيق ذلك، ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، قال : أسأل الله معافاته ومغفرته، إن أمتى لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا .
وأخرجه مسلم و أبو داود والنسائى من رواية شعبة به.(/11)
وفى لفظ لأبى داود عن أبى بن كعب قال: قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى اقرئت القرآن، فقيل: على حرف أو حرفين؟ فقال الملك الذى معى: قل على حرفين، فقيل لى: على حرفين أو ثلاثة؟ فقال الملك الذى معى: قل على ثلاثة حتى بلغ سبعة أحرف، ثم قال: ليس منها الا شاف كاف ان قلت سميعا عليما عزيزا حكيما ما لم تخلط آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب .
وقد روى ثابت بن قاسم نحوا من هذا عن أبى هريرة عن النبي صلى اله عليه وسلم ومن كلام ابن مسعود نحو ذلك.
وقال الإمام أحمد :حدثنا حسين بن على الجعفى عن زائدة عن عاصم ، عن زر عن أبى قال: لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل:
إنى بعثت إلى أمة أميين، فيهم الشيخ (الفاني) والعجوز الكبيرة والغلام، فقال: مرهم فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف .وأخرجه الترمذى من حديث عاصم بن أبى النجود عن زر عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقى جبريل عند احجار المرا، فذكر الحديث، والله أعلم، وهكذا رواه أحمد عن خالد عن حماد عن عاصم عن زر ، عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقيت جبريل عندأحجار المرا فقلت يا جبريل انى أرسلت أمة أمية، الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ (الفانى)الذي لم يقرأ كتابا قط، فقال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف
وقال أحمد أيضًا:ثنا وكيع وعبد الرحمن عن سفيان عن إبراهيم بن مهاجر عن ربعي ابن خراش قال: حدثنى من لم يكذبنى- حذيفة- قال: لقى النبى صلى الله عليه وسلم عند أحجار المرا فقال:ان أمتك يقرءون القرآن على سبعة أحرف، فمن قرأ منهم فليقرأ كما علم ولا يرجع عنه . وقال عبد الرحمن : إن من أمتك الضعيف فمن قرأعلى حرف فلا يتحول عنه إلى غيره رغبة عنه هذا إسناد صحيح ولم يخرجوه.
(حديث آخر) فى معناه عن سليمان بن صرد : قال ابن جرير :ثنا إسماعيل بن موسى السدى ، ثنا شريك عن أبى إسحاق ، عن سليمان بن صرد يرفعه قال:
أتانى ملكان فقال أحدهما: اقرأ، قال: على كم؟ قال: على حرف، قال: زده، حتى انتهى إلى سبعة أحرف
ورواه النسائى فى اليوم والليلة عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام ، عن اسحاق الأزرق عن العوام بن حوشب ، عن أبى إسحاق عن سليمان ابن صرد ، قال: أتىأبى ابن كعب رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين اختلفا فى القراءة، فذكر الحديث .
وهكذا رواه أحمد بن منيع عن يزيد بن هارون عن العوام ، عن أبى اسحاق ، عن سليمان بن صرد ، عن أبى أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجلين، فذكره.
وقال ابن جرير :ثنا أبو كريب ، ثنا يحيي بن آدم، ثنا إسرائيل عن أبى إسحاق عن فلان العبدى - قال ابن جرير : ذهب عنى اسمه- عن سليمان بن صرد عن أبى بن كعب ، قال : رحت إلى المسجد فسمعت رجلا يقرأ، فقلت: من أقرأك؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: استقرىء هذا، قال: فقرأ، فقال: أحسنت قال: قلت: إنك اقرأتنى كذا وكذا فقال: وأنت قد أحسنت. قال: فقلت: قد أحسنت قد أحسنت قال: فضرب بيده على صدرى ثم قال: اللهم أذهب عن أبى الشك قال: ففضت عرقا، وامتلأ جوفى فرقًا، قال الآخر: زده، قال: قلت زدنى، فقال: اقرأه على حرفين، حتى بلغ سبعة أحرف، اقرأه على سبعة أحرف .
وقد رواه أبو عبيد عن حجاج عن إسرائيل، عن أبى اسحاق عن سقير العبدى عن سليمان بن صرد ، عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك .
ورواه أبو داوود عن أبى الوليد الطيالسى عن همام عن قتادة ، عن يحيى بن عمر عن سليمان بن صرد ، عن أبى بن كعب بنحوه.
فهذا الحديث محفوظ من حيث الجملة عن أبى ابن كعب ، والظاهر أن سليمان بن صرد الخزاعى شاهد ذلك والله أعلم.
(حديث آخر عن أبى بكرة )- قال الإمام أحمد :ثنا عبد الرحمن عفان بن مهدى عن حماد بن سلمة عن على بن زيد عن عبد الرحمن ابن أبى بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتانى جبريل وميكائيل عليهما السلام، فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف واحد، فقال ميكائيل: استزده، قال: اقرأ القرآن على سبعة أحرف، كلها شاف كاف، ما لم تختم آية رحمة بعذاب، أو آية عذاب برحمة .وهكذا رواه ابن جرير عن أبى كريب عن زيد بن الحباب عن حماد بن سلمة به، وزاد فى آخره كقولك: هلم وتعال .
(حديث آخر عن سمرة )- قال الإمام أحمد :ثنا بهز - وعفان ، كلاهما عن حماد بن سلمة ، أنا قتادة عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف إسناد صحيح، ولم يخرجوه.(حديث آخر عن أبى هريرة )- قال الإمام أحمد :
ثنا أنس بن عياض ، حدثنى أبو حازم عن أبى سلمة لا أعلمه إلا عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
نزل القرآن على سبعة أحرف، المراء فى القرآن كفر- ثلاث مرات- فما علمتم منه فاعملوا وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه . رواه النسائى عن قتيبة عن أبي ضمرة أنس بن عياض به.(/12)
(حديث آخر عن أم أيوب)- قال الإمام أحمد :حدثنا سفيان عن عبيد الله - وهو ابن أبى يزيد - عن أبيه عن أم أيوب- يعنى امرأة أبى أيوب الأنصارية - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
أنزل القرآن على سبعة أحرف أيها قرأت أجزاك .
وهذا إسناد صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.
(حديث آخر عن أبى جهم )- قال أبوعبيد :ثنا إسماعيل بن جعفر عن يزيد ابن خصيفة عن مسلم بن سعيد . مولى الحضرمى- وقال غيره عن بسر بن سعيد - عن أبى جهم الأنصارى أن رجلين اختلفا فى آية من القرآن، كلاهما يزعم أنه تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشيا جميعا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أبو جهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فلا تماروا، فإن مراء فيه كفر .
وهكذا رواه أبو عبيد على الشك، وقد رواه الإمام أحمد على الصواب فقال: حدثنا أبو سلمة الخزاعى ، ثنا سليمان بن بلال ، حدثنى يزيد بن خصيفة أخبرني بسر بن سعيد حدثنى أبو جهم أن رجلين اختلفا فى آية من القرآن قال هذا: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال هذا:
تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألا النبي صلى الله عليه وسلم فقال:القرآن يقرأ على سبعة أحرف، فلا تماروا فى القرآن، فإن مراء في القرآن كفر . وهذا إسناد صحيح أيضًا، ولم يخرجوه.
ثم قال أبو عبيد :ثنا عبد بن صالح عن الليث عن يزيد بن الهاد ، عن محمد بن ابراهيم عن بسر بن سعيد ، عن أبى قيس مولى عمرو بن العاص أن رجلا قرأ آية من القرآن فقال عمرو- يعنى بن العاص -: إنما هى كذا وكذا بغير ما قرأ الرجل، فقال الرجل: هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتياه فذكرا ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فأى ذلك قرأتم أصبتم، فلا تماروا فى القرآن فإن مراء فيه كفر .
ورواه الإمام أحمد عن أبى سلمة الخزاعى عن عبدالله بن جعفر عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة ، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد عن بسر بن سعيد عن أبى قيس مولى عمرو بن العاص به نحوه، فإن المراء فيه كفر إنه الكفر به .
وهذا أيضًا جيد.(حديث آخرعن ابن مسعود )- قال ابن جرير : ثنا يونس بن عبد الأعلى أنا ابن وهب ، أخبرنى حيوة بن شريح عقيل بن خالد عن سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه، عن ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:
كان الكتاب الأول نزل من باب واحد وعلى حرف ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه،واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا:آمنا به كل من عند ربنا .
ثم رواه عن أبى كريب عن المحاربى عن ضمرة بن حبيب عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن ابن مسعود من كلامه وهو أشبه ، والله أعلم.
فصل
قال أبو عبيد : قد تواترت هذه الأحاديث كلها على الأحرف السبعة الا حديثاً واحدًا يروى عن سمرة ) (ما) حدثنى عفان عن حماد بن سلمة عن قتادة ، عن الحسن عن سمرة بن جندب عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
نزل القرآن على ثلاثة أحرف
قال أبو عبيد : ولا نرى المحفوظ إلا السبعة لأنهاالمشهورة وليس معنى تلك(السبعة) أن يكون الحرف الواحد يقرأ على سبعة أوجه وهذا شيءغير موجود، ولكنه عندنا أنه نزل على
سبع لغات متفرقة في جميع القرآن من لغات العرب- فيكون الحرف الواحد منها بلغة قبيلة أخرى والثانى بلغة أخرى سوى الأولى، والثالثة بلغة أخرى سواهما كذلك إلى السبعة وبعض الأحياء أسعد بها وأكثر حظا فيها من بعض، وذلك بين فى أحاديث تترى.
قال: وقد روى الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس قال نزل القرآن على سبع لغات منها خمس بلغة العجرمن هوازن،قال أبوعبيد والعجر هم بنوا أسعد بن بكر وخيثم بن بكرونصر بن معاوية وثقيف وهم علياء هوازن الذين قال أبو عمرو بن العلاء أفصح العرب علياء هوازن وسفلى تميم يعنى بنى دارم، ولهذا قال عمر : لا يملى فى مصاحفنا إلا غلمان قريش أو ثقيف، قال ابن جرير : واللغتان الآخرتان قريش وخزاعه رواه قتادة عن ابن عباس ولكن لم يلقه.
قال أبوعبيد :ثنا هشيم عن حصين بن عبد الرحمن عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس أنه كان يسئل عن القرآن فينشد فيه الشعر.
قال أبوعبيد : يعنى أنه كان يستشهد به على التفسير.
وحدثنا هشيم عن أبى بشر عن سعيد أو مجاهد عن ابن عباس فى قوله: والليل وما وسق قال: ما جمع أنشد: قد اتسقن لو يجدن سائقا.
حدثنا هشيم : أنا حصين عن عكرمة ، عن ابن عباس فى قوله تعالى فإذا هم بالساهرة قال: الأرض، قال: وقال ابن عباس : قال أمية بن أبى الصلت .
عندهم لحم بحر ولحم ساهرة.(/13)
حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن ابراهيم بن مهاجر عن ابن عباس قال: كنت لا أدرى ما فاطر السموات والأرض؟ حتى أتانى أعرابيان يختصمان فى بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أنا ابتدأتها إسناد جيد أيضًا.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبرى رحمه الله بعد ما أورد طرفا مما تقدم: وصح وثبت أن الذى نزل به القرآن من ألسن العرب البعض منها دون الجمع، إذ كان معلوما أن ألسنتها ولغاتها أكثر من سبع بما يعجز عن إحصائه.
ثم قال: وما برهانك على ما قلته دون
أن يكون معناه ما قاله مخالفوك من أنه نزل بأمر وزجر وترغيب وترهيب وقصص ومثل، ونحو ذلك من الأقوال فقد علمت قائل ذلك عن سلف الأئمة وخيار الأئمة؟ قيل له: إن الذين قالوا ذلك لم يدعوا أن تأويل الأخبار التى تقدم ذكرها هو ما زعمت أنهم قالوه فى الأحرف السبعة التى نزل بهاالقرآن دون غيره،فيكون ذلك لقولنا مخالفا، وإنما أخبروا أن القرآن نزل على سبعة أحرف يعنون بذلك أنه نزل على سبعة أوجه،والذى قالوا من ذلك كما قالوا، وقد روينا
بمثل الذى قالوا من ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة من أنه نزل من سبعة أبواب الجنة كما تقدم . يعنى كما تقدم فى رواية أبى بن كعب وعبدالله بن مسعود أن القرآن نزل من سبعة أبواب الجنة.
قال ابن جرير : والأبواب السبعة من الجنة هى المعانى التى فيها من الأمر والنهى، والترغيب والترهيب، والقصص والمثل، التى إذا عمل بها العامل وانتهى إلى حدودها المنتهى استوجب به الجنة. ثم بسط القول فى هذا بما حاصله أن الشارع رخص للأمة التلاوة على سبعة أحرف.
ثم لما رأى الامام أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه إختلاف الناس فى القراءة، وخاف من تفرق كلمتهم جمعهم على حرف واحد، وهو هذا المصحف الإمام. قال: واستوسقت له الأمة على ذلك، بل أطاعت ورأت أن فيما فعله الرشد والهداية، وتركت القراءة بالأحرف الستة. التى عزم عليها إمامها العادل فى تركها طاعة منها له، ونظرا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها، حتى درست من الأمة معرفتها، وانعفت آثارها. فلا سبيل اليوم لأحد إلى القراءة بها، لدثورها وعفو آثارها- إلى أن قال: فإن قال من ضعفت معرفته: وكيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهموها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بقراءتها؟ قيل ان أمره أياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما إباحة ورخصة، لأن القراءة بها لو كانت فرضا عليهم لوجب أن يكون العمل بكل حرف من تلك الأحرف السبعة عند من تقوم بنقله الحجة، ويقطع خبره العذر ويزيل الشك من قراءة الأمة. وفى تركهم نقل ذلك في كذلك أوضح دليل على أنهم كانوا فى القراءة بها مخيرين- إلى أن قال- فأما ما كان ممن اختلاف القراءة فى رفع حرف ونصبه وجره، وتسكين حرف وتحريكه، ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة، فعن معنى قول النبى صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف بمعزل، لأن المراء فى مثل هذا ليس بكفر فى قول أحد من علماء الأمة. وقد أوجب صلى الله عليه وسلم بالمراء فى الأحرف السبعة الكفر كما تقدم .
الحديث الثانى
قال البخارى رحمه الله:
ثنا سعيد بن عفير ، ثنا الليث ، حدثنى عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرنى عروة بن الزبير أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد القارى حدثاه أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساوره فى الصلاة. فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التى سمعتك تقرأ؟ قال: اقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنى سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله .
اقرأ يا هشام فقرأ عليه القراءة التى سمعته يقرأ، فقال صلى الله عليه وسلم: كذلك أنزلت ثم قال: اقرأ يا عمر فقرأت القراءة التى أقرأنى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك أنزلت، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ماتيسر منه .
وقد رواه الإمام أحمد والبخارى أيضًا ومسلم وأبوداود والنسائى والترمذى من طرق عن الزهرى ، ورواه الإمام أحمد أيضًا عن ابن مهدى عن مالك عن الزهرى عن عروة عن عبدالرحمن بن عبد (القارئ) عن عمر ، فذكر الحديث بنحوه.
وقد قال الإمام أحمد :(/14)
ثنا عبد الصمد ، ثنا حرب بن ثابت ، ثنا إسحاق بن عبد الله ابن أبى طلحة عن أبيه عن جده قال: قرأ رجل عند عمر فغير عليه، فقال: قرأت على رسول الله فلم يغير على، قال: فاجتمعنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ الرجل على النبى صلى الله عليه وسلم فقال له: قد أحسنت قال: فكأن عمر وجد من ذلك، فقال رسول ال صلى الله عليه وسلم له يا عمر إن القرآن كله صواب ما لم يجعل عذاب مغفرة، ومغفرة عذابا وهذا إسناد حسن. و حرب بن ثابت هذا يكنى بأبى ثابت لانعرف أحدا جرحه.
أقوال العلماء فى معنى السبعة الأحرف
وقد إختلف العلماء فى معنى هذه السبعة الأحرف وما أريد منها على أقوال. قال أبو عبدالله محمد بن أبى بكر بن فرح الأنصارى القرطبى المالكى فى مقدمات تفسيره: وقد اختلف العلماء فى المراد بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولاً ذكرها أبو حاتم محمد بن حبان البستى ، ونحن نذكر منها خمسة أقوال.
قلت: ثم سردها القرطبى وحاصلها ما أنا مورده ملخصا:
(الأول) وهو قول أكثرأهل العلم منهم سفيان بن عيينة وعبدالله ابن وهب وأبو جعفر محمد بن جرير والطحاوى : أن المراد سبعة أوجه من المعانى المتقاربة بألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم. وقال الطحاوى : وأبين ما ذكرفى ذلك حديث أبى بكرة قال: جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ على حرف، فقال ميكائيل: استزده، فقال: اقرأ على حرفين، فقال ميكائيل: استزده. حتى بلغ سبعة أحرف فقال: اقرأ فكل كاف شاف إلا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة، نحو هلم وتعال وأقبل واذهب وأسرع وعجل.
وروى ورقاء عن أبى نجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن أبى بن كعب أنه كان يقرأ يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم : للذين أمنوا أمهلونا، للذين آمنواأخرونا، للذين آمنوا أرقبونا، وكان يقرأ كلما أضاء لهم مشوا فيه : مروا فيه، سعوا فيه، قال الطحاوى وغيره: وإنما كان ذلك رخصة أن يقرأ الناس القرآن على سبع لغات، وذلك لما كان يتعسر على كثير من الناس التلاوة على لغة قريش وقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم علمهم بالكتابة والضبط واتقان الحفظ، وقد ادعى الطحاوى والقاضى والباقلانى والشيخ أبو عمر بن عبد البر أن ذلك كان رخصة فى أول الأمر، ثم نسح بزوال العذر وتيسير الحفظ وكثرة الضبط وتعلم الكتابة.
قلت: وقال بعضهم: إنما كان الذى جمعهم على قراءة واحدة أمير المؤمنين عثمان بن عفان أحد الخلفاء الراشدين المهديين المأمور بإتباعهم وإنما جمعهم عليها لما رأى من اختلافهم فى القراءة المفضية إلى تفرق الأمه وتكفير بعضهم بعضا. فرتب لهم المصاحف الأئمة على العرضة الأخير التى عارض بها جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى آخر رمضان كان من عمره علمه السلام وعزم عليهم أن لايقرءوا بغيرها. وأن لا يتعاطوا الرخصة التى كانت لهم فيها سعة. ولكنها أدت إلى الاختلاف والفرقة، كما ألزم عمر الخطاب الناس بالطلاق الثلاث المجموعة حتى تتابعوا فيها وأكثروا منها قال: فلو أنا أمضيناه عليهم، وأمضاه عليهم، وكذلك كان ينهى عن المتعه فى أشهر الحج لئلا تقطع زيارة البيت فى غير أشهر الحج. وقد كان أبو موسى يبيح التمتع، فترك فتياه اتباعًا لأمير المؤمنين وسمعًا وطاعة للأئمة المهديين.
(القول الثانى)- أن القرآن نزل على سبعة أحرف، وليس المراد أن جميعه يقرأ على سبعة أحرف، ولكن بعضه على حرف وبعضه على حرف آخر، قال الخطابى : وقد يقرأ بعضه بالسبع لغات كما فى قوله
وعبد الطاغوت ، و يرتع ويلعب قال القرطبى : ذهب إلى هذا القول أبو عبيد ، واختاره ابن عطية قال أبو عبيد : وبعض اللغات أسعد به من بعض، وقال القاضى الباقلانى : ومعنى قول عثمان إنه نزل بلسان قريش أى معظمه، ولم يقم دليل على أن جميعه بلغة قريش كله، قال الله تعالى: قرآنا عربياً ولم يقل قرشيا، قال: واسم العرب يتناول جميع القبائل تناولاً واحداً يعنى حجازها ويمنها، وكذا قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر ، قال: لأن لغة غير قريش موجودة فى صحيح القراءات كتحقيق الهمزات، فإن قريشا لا تهمز، وقال ابن عطية : قال ابن عباس : ما كنت أدرى معنى فاطر السماوات والأرض حتى سمعت أعرابيا يقول لبئرابتدأ حفرها: أنا فطرتها.
(القول الثالث)- إن لغات القرآن السبع منحصرة فى مضر على اختلاف قبائله خاصة، لقول عثمان أن القرآن نزل بلغة قريش، وقريش هم بنو النضر ابن الحارث على الصحيح من أقوال أهل النسب، كما ينطق به الحديث فى سنن ابن ماجه وغيره .(/15)
(القول الرابع)- وحكاه الباقلانى عن بعض العلماء أن وجوه القراءات ترجع إلى سبعة أشياء منها ما لاتتغيرحركته ولاتتغيرصورته ولا معناه، مثل (ويضيق صدرى) ويضيق ومنها ما لا تتغيرصورته ويختلف معناه، مثل (فقالوا ربنا باعد- وباعد- بين أسفارنا) وقد يكون الاختلاف فى الصورة والمعنى بالحرف، مثل ننشزها وننشرها أوبالكلمة مع بقاء المعنى مثل (كالعهن المنفوش- أو- كالصوف المنقوش) أو باختلاف الكلمة وإختلاف المعانى، مثل (وطلح منضود- وطلع منضود) أو بالتقدم والتأخر: مثل (وجاءت سكرة الموت بالحق- أو - سكرة الحق بالموت) أو بالزيادة، مثل (تسع وتسعون نعجة- أنثى- وأما الغلام فكان كافرأوكان أبواه مؤمنين- فإن الله بعد اكراههن لهن غفور رحيم).
(القول الخامس)- أن المراد بالأحرف السبعة معانى القرآن، وهى أمر، ونهى ووعد، ووعيد، وقصص، ومجادلة، وأمثال، قال ابن عطية: وهذا ضعيف لأن هذه لاتسمى. حروفا، وأيضا فالاجماع أن التوسعة لم تقع فى تحليل حلال، ولا فى تغييرشىء من المعانى، وقد أورد القاضى الباقلانى فى هذا حديثا، ثم قال: وليست هذه هى التى أجاز لهم القراءة بها.
فصل
قال القرطبى : قال كثير من علمائنا كالداودى وابن أبى صفرة وغيرهما: هذه القراءات السبع ليست هى الأحرف السبعة التى اتسعت الصحابة فى القراءة بها، وإنما هى راجعة إلى حرف واحد من السبعة وهو الذى جمع عليه عثمان المصحف، ذكره ابن النحاس وغيره، قال القرطبى : وقد سوغ كل واحد من القراء السبعة قراءة الآخر وأجازها. وإنما اختار القراءة المنسوبة إلية لأنه رآها أحسن وأولى عنده، قال:ولقد أجمع المسلمون فى هذه الأمصار على الاعتماد على ما صح عن هؤلاء الأئمة فيما رووه ورأوه من القراءات، وكتبوا فى ذلك مصنفات،واستمر الاجماع على الصواب، وحصل ما وعد الله من حفظه الكتاب.
تأليف القرآن
قال البخارى رحمه الله:حدثنا ابراهيم بن موسى ، أنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال وأخبروني يوسف بن ماهك قال: إنى عند عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها اذ جاءها عراقى فقال: أى الكفن خير؟ قالت ويحك ما يضرك؟ قال ياأم المؤمنين أرينى مصحفك، فقالت: لم؟ قال: لعلى أولف القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف، قالت: وما يضرك أية قرأت قبل؟ إنما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس الى الاسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شىء نزل: لا تشربوا لقالوا لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا، لقالوا لاندع الزنا أبدًا.لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإنى لجارية ألعب بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وانا عنده، قال:فأخرجت له المصحف فأملت عليه آى السور.
والمراد من التأليف ههنا- ترتيب سوره، وهذا العراقي سأل أولا عن أي الكفن خير أو أفضل، فأخبرته عائشة رضى الله عنها أن هذا مما لا ينبغى أن يعتنى بالسؤال عنه ولا القصد له ولا الاستعداد، فإن فى هذا تكلفا لاطائل تحته، وكانوا فى ذلك الزمان يصفون أهل العراق بالتعنت
فى الاسئلة، كما سأل بعضهم عبدالله بن عمر عن دم البعوض يصيب الثوب، فقال ابن عمر : انظروا إلى أهل العراق يسألون عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا لم تبالغ معه عائشة رضى الله عنها فى الكلام لئلا يظن أن ذلك أمر مهم، وإلا فقد روى أحمد وأهل السنن من حديث سمرة وابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: البسوا من ثيابكم البياض، وكفنوا فيها موتاكم، فإنها أطهر وأطيب وصححه الترمذى من الوجهين، وفى الصحيحين عن عائشة أنها قالت: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة ، وهذا محرر 1فى باب الكفن من كتاب الجنائز. ثم سألها عن ترتيب القرآن، فانتقل إلى سؤال كبير، وأخبرها أنه يقرأ غير مؤلف أى مرتب السور، وكأن هذا قبل أن يبعث أمير المؤمنين عثمان رضى الله عنه إلى الآفاق بالمصاحف الائمة المؤلفة على هذا الترتيب المشهور اليوم وقبل الالزام به، والله أعلم ، ولهذا أخبرته أنه لا يضرك بأى سورة بدأت، وأن أول سورة نزلت فيها ذكر الجنة والنار وهذه إن لم تكن (اقرأ) فقد يحتمل أنها أرادت اسم جنس لسور المفصل التى فيها الوعد والوعيد. ثم لما انقاد الناس إلى التصديق أمروا ونهوا بالتدريج أولا فأولا، وهذا من حكمة الله ورحمته، ومعنى هذا الكلام أن هذه السورة أو السور التى فيها ذكر الجنة والنار ليست البداءة بها فى أوائل المصاحف مع أنها من أول ما نزلت، وهذه البقرة والنساء من أوائل ما فى
المصحف وقد نزلت عليه فى المدينة وأنا عنده.(/16)
فأما ترتيب الآيات فى السور، فليس فى ذلك رخصة بل هو أمر توقيعى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم تقرير ذلك، ولهذا لم ترخص له فى ذلك، بل أخرجت له مصحفها فأملت عليه أى السور، والله أعلم، وقول عائشة: لا يضرك بأى سورة بدأت يدل على أنه لو قدم بعض السور أو كما يدل عليه حديث حذيفة وهو فى الصحيح أخرعليه السلام قرأ فى قيام الليل البقرة ثم النساء ثم آل عمران .
وقد حكى القرطبى عن أبى بكر بن الأتبارى فى كتاب الرد أنه
قال: فمن آخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة كمن أفسد نظم الايات، وغير الحروف والكلمات ، وكان مستنده اتباع مصحف عثمان رضى الله عنه، فإنه مرتب على هذا النحو المشهور.
والظاهر أن ترتيب السور منه ما هو راجع إلى رأى عثمان رضىالله عنه، وذلك ظاهر فى سؤال ابن عباس له عن ترك البسلمة فى أول براءة وذكره الأنفال من الطول ، والحديث فى الترمذى وغيره بإسناد جيد قوى.
وقد ذكرنا عن على أنه كان قد عزم على ترتيب القرآن بحسب نزوله ولهذا حكى القاضى الباقلانى أن أول مصحفه كان اقرأ باسم ربك الأكرم وأول مصحف ابن مسعود مالك يوم الدين ثم البقرة ثم النساء على ترتيب مختلف، وأول مصحف أبى الحمد لله ثم النساء ثم آل عمران ثم الأنعام ثم المائدة ثم كذا على اختلاف شديد.
ثم قال القاضى : ويحتمل أن ترتيب السور فى المصحف على ماهو عليه اليوم من اجتهاد الصحابة رضى الله عنهم. وكذا ذكر مكى فى تفسير سورة براءة، قال: فأما ترتيب الآيات والبسملة فى الأوائل فهو من النبى صلى الله عليه وسلم . وقال ابن وهب فى طائفة: سمعت سليمان بن بلال يقول: سئل ربيعة لم قدمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة؟ فقال: قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه، وقد أجمعوا على العلم بذلك، فهذا مما ينتهى إليه ولا يسئل عنه، قال ابن وهب : وسمعت مالكا يقول: إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبى صلى الله عليه وسلم قال أبو الحسن ابن بطال : إنا نجد تأليف سورة فى الرسم والخط خاصة، ولا نعلم أن أحدًا قال إن ترتيب ذلك واجب فى الصلاة وفى القرآن ودرسه، وأنه لا يحل لأحد أن يتلقن الكهف قبل البقرة، ولا الحج بعد الكهف، ألا ترى إلى قول عائشة: لايضرك أية قرأت قبل ، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ فى الصلاة السورة فى ركعة، ثم يقرأ فى الركعة الأخرى بغير السورة التى تليها ، قال: وأما ما روى عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرأ القرآن منكوسا، وقالا: إنما ذلك منكوس القلب، فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة فيبتذئ بآخرها إلى أولها، فإن ذلك حرام محظور.(ثم قال البخارى : ثنا آدم عن شعبة عن أبى اسحاق ، قال: سمعت عبدالرحمن بن يزيد قال: سمعت ابن مسعود يقول فى بنى إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء انهن من العتاق الأول وهن من تلادى.
انفرد بإخراجه البخارى ، والمراد منه ذكر ترتيب هذه السور فى مصحف ابن مسعود كالمصاحف العثمانية، وقوله من العتاق الأول أى من قديم ما نزل، وقوله وهن من تلادى، أى من قديم ماقنيت وحفظت والتالد فى لغتهم قديم المال والمتاع، والطارق حديثه وجديده والله أعلم.
حدثنا أبو الوليد ، ثنا شعبة ، أنا أبو اسحق سمع البراء بن عازب رضىالله عنه يقول: تعلمت سبح اسم ربك الأعلى قبل أن يقدم النبى صلى الله عليه وسلم وهذا متفق عليه وهو قطعة من حديث الهجرة. والمراد منه أن سبح اسم ربك الأعلى سورة مكية نزلت قبل الهجرة، والله أعلم.
(ثم قال) ثنا عبدان عن أبى حمزة عن الأعمش عن شقيق قال: قال عبدالله : لقد علمت النظائر التى كان النبى صلى الله عليه وسلم يقرؤهن اثنين اثنين فى كل ركعة، فقام عبدالله ودخل معه علقمة، وخرج علقمة فسألناه فقال: عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود، آخرهن من الحواميم حم الدخان وعم يتساءلون .
هذا التأليف الذى عن ابن مسعود غريب مخالف لتأليف عثمان رضى الله عنه، فان المفصل فى مصحف عثمان رضى الله عنه من سورة الحجرات إلى آخره وسورة الدخان لا تدخل فيه بوجه، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد : ثنا عبدالرحمن بن مهدى ، ثنا عبدالله بن عبدالرحمن الطائفى عن عثمان بن عبدالله ابن أوس الثقفى عن جده أوس بن حذيفة قال: كنت فى الوفد الذين اتوا النبى صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا فيه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان سمر معهم بعد العشاء، فمكث عنا ليلة لم يأتنا حتى طال ذلك علينا بعد العشاء،قال: قلنا ما أمكثك عنا يارسول الله؟ قال طرأ على حزب من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه قال: فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبحنا، قال: قلنا كيف تخرجون
القرآن؟ قالوا نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة وثلاث عشرة سورة، وحزب المفصل من (ق) حتى يختم . ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث عبدالله بن عبدالرحمن بن يعلى الطائفى به، وهذا إسناد حسن.
فصل(/17)
فأما نقط المصحف وشكله، فيقال أن أول من أمر به عبدالملك ابن مروان فتصدى لذلك الحجاج وهو بواسط، فأمر الحسن البصرى ويحيى ابن يعمر ففعلا ذلك، ويقال أن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدولى ، وذكروا أنه كان لمحمد بن سيرين مصحف قد نقطه له يحيى ابن يعمر ، والله أعلم.
وأما كتابة الأعشار على الحواشى، فينسب إلى الحجاج أيضًا وقيل: بل أول من فعله المأمون ، وحكى أبوعمرو الدانى عن ابن مسعود أنه كره التعشير فى المصحف وكان يحكه، وكره مجاهد ذلك أيضًا، وقال مالك : لا بأس به بالحبر فأما بالألوان المصبغة فلا. واكره تعداد آى السور فى أولها فى المصاحف الأمهات، فأما ما يتعلم فيه الغلمان فلا أرى به بأسًا، وقال قتادة : بدأوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا. وقال يحيى بن كثير أول ما أحدثوا النقط، وقال: هو نور له، ثم أحدثوا النقط عند آخر الاى، ثم أحدثوا الفواتح والخواتم، ورأى إبراهيم النخعى فاتحة سورة كذا فأمر بمحوها، وقال: قال ابن مسعود : لا تخلطوا بكتاب الله ما ليس فيه. قال أبو عمرو الدانى : ثم قد أطبق المسلمون فى ذلك فى سائر الآفاق على جواز ذلك فى الأمهات وغيرها.
معارضة جبريل النبى صلى الله عليه وسلم القرآن
ثم قال البخارى رحمه الله كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم قال مسروق عن فاطمه عن عائشة: أسر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جبريل كان يعارضنى بالقرآن كل سنة، وإنه عارضنى العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلى هكذا ذكره معلقا، وقد أسند فى مواضع أخر، ثم قال: ثنا يحيى بن قزعة ثنا إبراهيم بن سعد عن الزهرى عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون فى رمضان، لأن جبريل كان يلقاه فى كل ليلة فى شهررمضان حتى ينسلخ يعرض عليه رسول الله القرآق فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة وهذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم الكلام عليه فى أول الصحيح وما فيه من الحكم والفوائد، والله أعلم.
ثم قال: ثنا خالد بن يزيد ، ثنا أبو بكر عن أبى حصين عن أبى صالح عن أبى هريرة قال: كان يعرض على النبى صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مره فعرض عليه مرتين فى العام الذى قبض فيه وكان يعتكف كل عام عشرا فاعتكف عشرين فى العام الذى قبض .
ورواه أبو داود و النسائى و ابن ماجه من غير وجه عن أبى بكر وهو ابن عياش عن أبى حصين واسمه عثمان بن عاصم به. والمراد من معارضته له بالقرآن كل سنة مقابلته على ما أوحاه إليه عن الله تعالى ليبقى ما بقى، ويذهب ما نسخ توكيدا واستثباتا وحفظا. ولهذا عارضه فى السنة الأخيرة من عمره عليه السلام على جبريل مرتين وعارضه به جبريل كذلك، ولهذا فهم عليه السلام اقتراب أجله.
وعثمان رضي الله عنه جمع المصحف الإمام على العرضة الأخيرة رضىالله عنه وأرضاه، وخص بذلك رمضان من بين الشهور، لأن ابتداء الإيحاء كان فيه، ولهذا يستحب دراسة القرآن وتكراره فيه، ومن ثم كثر اجتهاد الأئمة فى تلاوة القرآن، كما تقدم ذكرنا لذلك.
القراء من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم
حدثنا حفص بن عمر ثنا شعبة عن عمرو عن إبراهيم عن مسروق ذكر عبدالله ابن عمر و عبدالله بن مسعود فقال: لا أزال أحبه، سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول:
خذوا القرآن من أربعة: عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ بن جبل وأبى بن كعب رضى الله عنهم .
وقد أخرجه البخارى فى المناقب فى غير موضع و مسلم و النسائى من حديث الأعمش بن أبى وائل عن مسروق به. فهؤلاء أربعة: اثنان من المهاجرين الأولين عبد الله بن مسعود و سالم مولى أبى حذيفة وقد كان سالم هذا من سادات المسلمين وكان يؤم الناس قبل مقدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة، واثنان من الأنصار معاذ بن جبل و أبى بن كعب وهما سيدان كبيران رضى الله عنهم أجمعين.
ثم قال: حدثنا عمر بن حفص ، ثنا أبى، ثنا الأعمش ثنا شقيق بن سلمة قال: خطبنا عبدالله فقال: والله لقد أخذت من فى رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة. والله لقد علم أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم أنى من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم. قال شقيق : فجلست فى الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعت رادا يقول غيرذلك .
حدثنا محمد بن كثير ، ثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: كنا بحمص فقرأ ابن مسعود سورة يوسف فقال رجل: ما هكذا أنزلت، فقال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحسنت ووجد منه ريح الخمر فقال: أتجترئ أن تكذب بكتاب الله وتشرب الخمر؟ فجلده الحد .
حدثنا عمر بن حفص ثنا أبى، ثنا الأعمش ، ثنا مسلم عن مسروق قال: قال عبدالله : والذى لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين انزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم منى بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه .(/18)
وهذا كله حق وصدق وهو من أخبار الرجل عما يعلم من نفسه مما قد يجهله غيره، فيجوز ذلك للحاجة كما قال تعالى إخبارا عن يوسف كما قال لصاحب مصر اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ويكفيه مدحا وثناء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم استقرئوا القرآن من أربعة فبدأ به. وقال أبو عبيد ثنا مصعب بن المقدام عن سفيان عن الأعمش عن ابراهيم عن عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد وهكذا رواه الإمام أحمد عن أبى معاوية عن الأعمش به مطولا، وفيه قصة. وأخرجه الترمذي و النسائى من حديث أبى معاوية به، وصححه الدارقطنى وقد ذكرته فى مسند عمر وفى مسند الإمام أحمد أيضاً عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
من أحب يقرأ القرآن غضا كما أنزل، فليقرأ على قراءة ابن أم عبد وابن أم عبد هو عبدالله بن مسعو كان يعرف بذلك.
ثم قال البخارى : ثنا حفص بن عمر ، ثنا همام ، ثنا قتادة قال: سألت أنس بن مالك : من جمع القرآن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبى بن كعب ، ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت و أبو زيد ورواه مسلم من حديث همام . ثم قال البخارى تابعه الفضل عن حسين بن واقد عن ثمامة عن أنس بن مالك حدثنا معلى بن أسد ثنا عبدالله بن المثنى ثنا ثابت و ثمامة عن أنس بن مالك قال: مات النبى صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة أبوالدرداء و معاذ بن جبل و زيد بن ثابت و أبو زيد قال: ونحن ورثناه.
فهذا الحديث ظاهره أنه لم يجمع القرآن من الصحابة سوى هؤلاء الأربعة فقط وليس هذا هكذا بل الذي لايشك فيه أنه جمعه غير واحد من المهاجرين أيضاً، ولعل مراده لم يجمع القرآن من الأنصار وهم أبى ابن كعب فى الرواية الأولى المتفق عليها. وفى الثانية من أفراد البخارى أبو الدرداء و معاذ بن جبل و زيد بن ثابت و أبو زيد وكلهم مشهورون، إلا أبا زيد هذا فإنه غير معروف إلا فى هذا الحديث، وقد اختلف فى اسمه فقال الواقدي وأسمه قيس بن السكن بن قيس بن ذعور بن حرام بن جندب ابن عامر غنم بن عدى بن النجار وقال ابن نمير : اسمه سعد بن عبيدابن النعمان بن قيس بن عمرو بن زيد بن أمية من الأوس وقيل: هما اثنان جمعا القرآن، حكاه أبوعمر بن عبدالبر وهذا بعيد، وقول الواقدى أصح، لأنه خزرجى لأن أنسا قال: نحن ورثناه وهم من الخزرج، وفى الألفاظ: وكان أحد عمومتى، وقال قتادة عن أنس قال افتخر الحيان الأوس والخزرج، فقالت الأوس: منا غسيل الملائكة حنظلة بن أبى عامر ومنا الذى حمته الدبر عاصم بن ثابت ، ومنا الذى اهتز لموته العرش سعد بن معاذ ومنا من اجيزت شهادته بشهادة رجلين خزيمة بن ثابت فقالت الخزرج: منا أربعة جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي بن كعب و معاذ بن جبل و زيد بن ثابت و أبو زيد فهذا كله يدل على صحة قول الواقدى وقد شهد أبوزيد هذا- بدرا فيما ذكره غير
واحد، وقال موسى بن عقبة عن الزهرى قتل أبوزيد قيس بن السكن يوم جسر أبى عبيد على رأس خمس عشرة سنة من الهجرة.
والدليل على أن من المهاجرين من جمع القرآن أن الصديق رضي الله عنه قدمه رسول الله فى مرضه إماما على المهاجرين والأنصار مع أنه قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فلولا أنه كان اقرأهم لكتاب الله لما قدمه عليهم. هذا مضمون ما قرره الشيخ أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعرى ، وقد بسطت تقريرذلك فى مسند الشيخين رضى الله عنهما.
ومنهم عثمان بن عفان قد قرأه فى ركعة كما سنذكره، وعلى بن أبى طالب يقال أنه جمعه على ترتيب ما أنزل، وقد قدمنا هذا.
ومنهم عبدالله بن مسعود وقد تقدم عنه أنه قال: ما من آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت وفيم أنزلت، ولو علمت أحدًا أعلم منى بكتاب الله تبلغه المطى لذهبت إليه .
ومنهم سالم مولى أبى حذيفة ، وكان من السادات النجباء، والأئمة النقباء، وقد قتل يوم اليمامة شهيدًا.
ومنهم الحبر البحر عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب بن عم الرسول وترجمان القرآن، وقد تقدم عن مجاهد أنه قال: عرضت القرآن على ابن عباس مرتين أقفه عند كل آية وأسأله عنها.
ومنهم عبدالله بن عمرو ، كما رواه النسائى وابن ماجة من حديث ابن جريج عن عبدالله بن أبى مليكة ، عن يحيى بن حكيم بن صفوان ، عن عبدالله بن عمرو قال: جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأه فى شهر وذكر تمام الحديث.(/19)
ثم قال البخارى : حدثنا صدقة بن الفضل ، أنا يحيى عن سفيان عن حبيب ابن أبى ثابت ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال عمر : على أقضانا، وأبى أقرؤنا، وإنا لندع من لحن أبى وأبى يقول أخذته من فى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أتركه لشىء قال الله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وهذا يدل على أن الرجل الكبير قد يقول الشىء يظنه صوابا وهو خطأ فى نفس الأمر، ولهذا قال الامام مالك : ما
من أحد إلا يؤخذ من قوله ويرد إلا قول صاحب هذا القبر أى فكله مقبول صلوات الله وسلامه عليه.
ثم ذكر البخارى فضل فاتحة الكتاب وغيرها، وذكرنا فى كل سورة عندها ليكون ذلك أنسب. ثم قال:
نزول السكينة والملائكة عند القراءة
وقال الليث : حدثنى يزيد بن الهاد بن محمد بن ابراهيم عن الحضير قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوط عنده اذ جالت الفرس،فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت فسكنت ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيىقريبا منها فأشفق أن تصيبه فلمااجتره رفع رأسه إلى السماء حتى يراها فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال:اقرأ يا ابن حضير،اقرأ يا ابن حضير قال:فأشفقت أن تطأ يحيى وكان منها قريبًا، فرفعت رأسى فانصرفت إليه، فرفعت رأسي الى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها قال وتدرى ما ذاك قال: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم .
قال ابن الهاد : وحدثنى هذا الحديث عبدالله بن خباب عن أبي سعيد الخدرى عن أسيد بن الحضير .
هكذاأورد البخارى هذا الحديث معلقًا وفيه انقطاع فى الرواية الأولى فان محمدا بن ابراهيم بن الحارث التيمى المدنى تابعى صغير لم يدرك أسيدا لانه مات سنة عشرين، وصلى عليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنهما ثم فيه غرابة من حيث انه قال: وقال الليث : حدثنى يزيد بن الهاد ، ولم أره بسند متصل عن الليث بذلك إلا ما ذكره الحافظ أبو القاسم بن عساكر فى الأطراف أن يحيى بن عبدالله بن بكير رواه عن الليث كذلك.
وقد رواه الإمام أبو عبيد فى فضائل القرآن فقال: وحدثنا عبدالله بن صالح ويحيى بن بكير عن الليث عن يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهاد عن محمد بن ابراهيم بن الحارث التيمى عن أسيد بن حضير ، فذكر الحديث إلى آخره ، ثم قال: قال ابن الهاد : وحدثنى عبدالله بن خباب عن أبى سعيد بن أسيد بن حضير بهذا الحديث.
وقد رواه النسائى فى فضائل القرآن عن محمد بن عبدالله بن عبدالحكم عن شعيب بن الليث ، وعن على بن محمد بن على عن داود بن منصور ، كلاهما عن الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبى هلال عن يزيدابن عبدالله - وهو ابن الهاد عن عبدالله بن خباب عن أبى سعيد عن أسيد به، ورواه يحيى بن بكير عن الليث كذلك أيضًا، فجمع بين الإسنادين ورواه فى المناقب عن أحمد بن سعيد الرباطى عن يعقوب بن ابراهيم ، عن أبيه، عن يزيد ابن الهاد ، عن عبدالله بن خباب ، عن أبى سعيد أن أسيد ابن حضير بينما هو ليلة يقرأ فى مربده.. الحديث ولم يقل عن أسيد، ولكن ظاهره أنه عنه، والله أعلم.
وقال أبو عبيد : حدثنى عبدالله بن صالح عن الليث عن ابن شهاب عن أبى كعب بن مالك عن أسيد بن حضير أنه كان يقرأ على ظهر بيته، يقرأ القرآن وهو حسن الصوت. ثم ذكر مثل هذا الحديث أو نحوه .
وحدثنا قبيصة عن حماد بن سلمة عن ثابت البنانى ، عن عبدالرحمن ابن أبى ليلى عن أسيد بن حضير قال: قلت يا رسول الله بينما أنا اقرأ البارحة بسورة، فلما انتهيت إلى آخرها سمعت وجبة من خلفى حتى ظننت أن فرسى تطلق، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: اقرأ أبا عتيك مرتين قال:فالتفت فرأيت الىأمثال المصابيح ما بين السماء والأرض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إقرأ أبا عتيك فقال: والله ما استطعت أن أمضى، فقال: تلك الملائكة تنزلت لقراءة القرآن، أما أنك لو مضيت لرأيت الأعاجيب
وقال أبو داود الطيالسى :
ثنا شعبة عن أبى إسحق سمع البراء يقول: بينما رجل يقرأ سورة الكهف ليلة إذ رأى دابته تركض- أو قال فرسه يركض- فنظر فإذا مثل الضبابة أو مثل الغمامة، فذكر ذلك لرسول الله، فقال: تلك السكينة تنزلت للقرآن- أو تنزلت على القرآن .
وقد أخرجه صاحبا الصحيح من حديث شعبة .
والظاهر أن هذا هو أسيد بن الحضير رضي الله عنه، فهذا يتعلق بصناعة الإسناد وهذا من أغرب تعليقات البخارى رحمه الله، ثم سياقه ظاهر فيما ترجم عليه من نزول السكينة والملائكة عند القراءة، وقد اتفق نحو هذا الذى وقع لأسيد بن الخضير لثابت بن قيس بن شماس ، كما قال أبو عبيد : ثنا عباد بن عباد عن جرير بن حازم عن عمه جرير بن يزيد أن أشياخ أهل المدينة حدثوه أن رسول الله قيل له: ألم تر ثابت بن قيس ابن شماس؟ لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح قال: فلعله قرأ سورة البقرة قال فسئل ثابت فقال: قرأت سورة البقرة.
وفى الحديث المشهور الصحيح(/20)
ما اجتمع قوم فى بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا تنزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده .
رواه مسلم عن أبى هريرة ، ولهذا قال الله تعالى: وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا جاء فى بعض التفاسيرأن الملائكة تشهده.وقد جاء فى الصحيحين عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيعرج إليه الذين نزلوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بكم كيف تركتم عبادى؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون .
من قال لم يترك النبى صلى الله عليه وسلم إلا ما بين الدفتين
حدثنا قتيبة بن سعيد ، ثنا سفيان عن عبدالعزيز بن رفيع قال: دخلت وشداد بن معقل على ابن عباس ، فقال له شداد بن معقل : أترك النبى صلى الله عليه وسلم من شىء؟ قال: ما ترك إلا ما بين الدفتين. قال: ودخلنا على محمد بن الحنفية فسألناه، فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين .
تفرد به البخارى ، ومعناه أنه صلى الله عليه وسلم ما ترك مالاً ولا شيئًا يورث عنه، كما قال عمرو بن الحارث أخو جويرية : ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارًا ولا درهمًا ولا عبدًا ولا أمة ولا شيئًا.وفى حديث أبى الدرداء :
إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم فمن أخذه بحظ وافر. ولهذا قا ل ابن عباس : وإنما ترك ما بين الدفتين يعنى القرآن، والسنة مفسرة له ومبينة وموضحة، أى تابعة له. والمقصود الأعظم كتاب الله تعالى، كما قال تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا الآية.
فالأنبياء عليهم السلام لم يخلقوا للدنيا يجمعونها ويورثونها، وإنما خلقوا للآخرة يدعون اليها ويرغبون فيها،ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مما تركنا فهو صدقة وكان أول من أظهر هذه المحاسن من هذا الوجه أبوبكر الصديق رضى الله عنه لما سئل ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر عنه بذلك، ووافقه على نقله عنه عليه السلام غير واحد من الصحابة منهم عمر وعثمان وعلى والعباس وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف وأبو هريرة وعائشة وغيرهم، وهذا ابن عباس يقوله أيضا عنه عليه السلام، رضى الله عنهم أجمعين.
فضل القرآن على سائر الكلام
حدثنا هدبة بن خالد أبو خالد ، ثنا همام ( ثنا قتادة ) ثنا أنس بن مالك عن أبى موسى رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: مثل الذى يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب، والذى لايقرأ القرآن كالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها. ومثل الفاجر الذى يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل الفاجر الذى لايقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرولاريح لها .
وهكذا رواه فى مواضع أخر مع بقية الجماعة من طرق عن قتادة به، ووجه مناسبة الباب لهذا الحديث أن طيب الرائحة دار مع القرآن وجودًا وعدمًا، فدل على شرفه على ما سواه من الكلام الصادر من البر والفاجر. ثم قال:ثنا مسدد ، ثنا يحيى عن سفيان ،حدثنى عبدالله بن دينار قال:سمعت ابن عمر رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: انما أجلكم فى أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر ومغرب الشمس، ومثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالاً فقال: من يعمل لى إلى نصف النهار على قيراط؟فعملت اليهود، فقال: من يعمل لى من نصف النهار إلى العصر؟ فعملت النصارى، ثم أنتم تعملون من العصر إلى المغرب بقيراطين قيراطين، قالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاء، قال:هل ظلمتكم من حقكم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فذاك فضلى أوتيته من شئت .
تفرد به من هذا الوجه. ومناسبته للترجمة أن هذه الأمة مع قصر مدتها فضلت الأمم الماضية مع طول مدتها،كما قال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس .
وفى المسند والسنن عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(/21)
أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله . وإنما فازوا بهذا ببركة الكتاب العظيم القرآن الذى شرفه الله على كل كتاب أنزله، وجعله مهيمنًا عليه وناسخًا له وخاتمًا له، لأن كل الكتب المتقدمة نزلت إلى الأرض جملة واحدة، وهذا القرآن نزل بحسب الوقائع لشدة الاعتناء به وبمن أنزل عليه، فكل مرة كنزول كتاب من الكتب المتقدمة. وأعظم الأمم المتقدمة هم اليهود والنصارى، فاليهود استعملهم الله من لدن موسى إلى زمان عيسى، والنصارى من ثم إلى أن بعث محمدا صلى الله عليه وسلم ثم استعمل أمته إلى قيام الساعة وهو المشبه بآخر النهار، وأعطى المتقدمين قيراطا قيراطًا، وأعطى هؤلاء قيراطين ضعفى ما أعطى أولئك، فقالوا، أى ربنا ما لنا أكثر عملا وأقل أجرًا؟ فقال: هل ظلمتكم من أجركم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فذاك فضلى- أى الزائد على ما أعطيتكم أوتيه من اشاء كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم * لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
الوصاة بكتاب الله
حدثنا محمد بن يوسف ، ثنا مالك بن مغول ، ثنا طلحة هو ابن مصرف سألت عبدالله بن أبى أوفى : أوصى النبى صلى الله عليه وسلم؟ قال:لا قال:قلت فكيف كتب على الناس الوصية أمروا بها ولم يوص؟ قال: أوصى بكتاب الله عز وجل .
وقد رواه فى مواضع أخر مع بقية الجماعة إلا أبا داود من طرق عن مالك ابن مغول به، وهذانظير ما تقدم عن ابن عباس أنه ما ترك إلا ما بين الدفتين. وذلك أن الناس كتب عليهم الوصية فى أموالهم كما قال تعالىكتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين وأما هو صلى الله عليه وسلم فلم يترك شيئًا يورث عنه، وأما له صدقة جارية من بعده فلم يحتج إلى وصية فى ذلك، ولم يوص الى خليفة يكون بعده على التنصيص لأن الأمر كان ظاهرًا من إشاراته وايماءاته إلى الصديق ولهذا لما هم بالوصية إلى أبى بكر ثم عدل عن ذلك قال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر وكان كذلك وإنما أوصى الناس باتباع كلام الله.
من لم يتغن بالقرآن
وقول الله تعالى أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم .
حدثنا يحيى بن بكير : ثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب ، قال أخبرنى أبو سلمة بن عبدالرحمن عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه كان يقول: قال رسول الله؟
لم يأذن الله لشىء ما أذن لنبى يتغنى بالقرآن وقال صاحب له: يريد يجهر به، فرد من هذا الوجه، ثم رواه عن على بن عبدالله بن المدينى عن سفيان بن عيينة عن الزهرى به. قال سفيان : تفسيره يستغنى به.
وقد أخرجه مسلم والنسائى من حديث سفيان بن عيينه به، ومعناه أن الله تعالى ما استمع لشىء كاستماعه لقراءة نبى يجهر بقراءته ويحسنها،وذلك أنه يجتمع فى قراءة الأنبياء طيب الصوت لكمال خلقهم وتمام الخشية، وذلك هو الغاية فى ذلك، وهو سبحانه وتعالى يسمع أصوات العباد كلهم برهم وفاجرهم، كما قالت عائشة رضى الله عنها: سبحان الذى وسع سمعه الأصوات. ولكن استماعه لقراءة عباده المؤمنين أعظم، كما قال تعالى وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه الآية، ثم استماعه لقراءة أنبيائه أبلغ كما دل عليه هذا الحديث العظيم،ومنهم من فسرالاذن ههنا بالأمر، والأول أولى لقوله:
ما أذن الله لشىء، ما أذن لنبى يتغنى بالقرآن أى يجهر والاذن الاستماع لدلالة السياق عليه، وكما قال تعالى إذا السماء انشقت * وأذنت لربها وحقت * وإذا الأرض مدت * وألقت ما فيها وتخلت * وأذنت لربها وحقت أى استمعت لربها وحقت أى وحق لها أن تستمع أمره وتطيعه، فالاذن ههنا هو الاستماع. ولهذا جاء فى حديث رواه ابن ماجه بسند جيدعن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلي قينته .
وقول سفيان بن عيينة أن المراد بالتغنى به فان أرادأنه يستغنى به عن الدنيا وهو الظاهرمن كلامه الذي تابعه عليه أبوعبيدالقاسم بن سلام وغيره، فخلاف الظاهر من مراد الحديث لأنه قد فسر بعض رواته بالجهر وهوتحسين القراءة والتحزين بها قال حرملة سمعت ابن عيينة يقول معناه يستغنى به، فقال لى الشافعى ليس هو هكذا ولو كان هكذا لكان يتغانى، إنما هو يتحزن ويترنم به قال حرملة وسمعت ابن وهب يقول: يترنم به، وهكذا نقل المزنى والربيع عن الشافعى رحمه الله.(/22)
وعلى هذا فتصدير البخارى الباب بقوله تعالى أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون فيه نظر لأن هذه الآية ذكرت ردا على الذين سألو آيات تدل على صدقه حيث قال وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم الآية ومعنى ذلك أو لم يكفهم آية دالة على صدقك إنزالنا القرآن عليك وأنت رجل أمي وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون أى وقد جئت فيه بخبر الأولين والآخرين فأين هذا من التغنى بالقرآن وهو تحسين الصوت به أو الاستغناء به عما عداه من أمور الدنيا؟ فعلى كل تقدير تصدير الباب بهذه الآية فيه نظر.
فصل
فى إيراد أحاديث فى معنى الباب وذكر أحكام التلاوة بالأصوات.
قال أبو عبيد : حدثنا عبدالله بن صالح عن قباث بن رزين عن على بن رباح اللخمى عن عقبة بن عامر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن فى المسجد نتدارس. القرآن قال:
تعلموا كتاب الله واقتنوه- قال: وحسبت أنه قال وتغنوا به- فوالذى نفسى بيده لهو اشد تفلتا من المخاض العقل .وحدثنا عبدالله بن صالح عن موسى بن على عن أبيه عن عقبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك إلا أنه قال:
واقتنوه وتغنوا به ولم يشك.
وهكذا رواه النسائى فى كتاب فضائل القرآن من حديث موسى بن على عن أبيه به ومن حديث عبدالله بن يزيد المقرى عن قباث بن رزين عن على ابن رباح عن عقبة - وفى بعض ألفاظه: خرج علينا ونحن نقرأ القرآن فسلم علينا وذكرالحديث ، ففيه دلالة على السلام على القارىء وقال أبو عبيد : ثنا أبو اليمان عن أبى بكر بن عبدالله بن أبى مريم المهاجر ابن حبيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أهل القرآن لا توسدوا القرآن واتلوه حق تلاوته آناء الليل والنهار وتغنوه وتقنوه واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون وهذا مرسل، ثم قال أبو عبيد : قوله تغنوه أى اجعلوه غناءكم من الفقر ولاتعدوا الإقلال معه فقرًا. وقوله وتقنوه يقول:اقتنوه كما تقتنوا الأموال، إجعلوه ما لكم.
وقال أبوعبيد : حدثنى هشام بن عمار بن يحيى بن حمرة عن الأوزاعى قال: حدثنى إسماعيل بن عبيد الله بن أبى المهاجر عن فضالة بن عبيد عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: لله أشد أذنًا الى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته .
قال أبو عبيد : هذا الحديث بعضهم يزيد فى إسناده يقول عن إسماعيل عبيد الل ه عن مولى فضالة عن فضالة. وهكذا رواه ابن ماجة عن راشد سعيد بن أبى راشد عن الوليد عن الأوزاعى عن إسماعيل بن عبيد الله عن ميسرة مولى فضالة عن فضالة عن النبى صلى الله عليه وسلم: لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرأن من صاحب القينة إلى قينته .
قال أبو عبيد : يعنى الاستماع، وقوله فى الحديث الاخر ما أذن الله لشىء أى ما استمع.
وقال أبو القاسم البغوى : حدثنا محمد بن حميد ، ثنا سلمة بن الفضل ثنا عبدالله بن عبدالرحمن بن أبى مليكة ، حدثنا القاسم بن محمد ، حدثنى السائب قال: قال لى سعد : يا ابن أخى هل قرأت القرآن؟ قلت: نعم قال: غن به فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: غنوا بالقرآن، ليس منا من لم يغن بالقرآن، وابكوا فإن لم تقدروا على البكاء فتباكوا .
وقد روى أبو داود من حديث الليث عن عبدالله بن أبى مليكة عن عبدالله بن أبى نهيك عن سعد بن أبى وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكو فتباكوا، وتغنوا به فمن لم يتغن به فليس منا وفى الحديث كلام طويل يتعلق بسنده ليس هذا موضعه، والله أعلم.
وقال أبو داود : ثنا عبد الأعلى بن حماد ، ثنا عبدالجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبى مليكة يقول: قال عبيد الله بن أبى زيد : مر بنا أبو لبابة فاتبعناه حتى دخل بيته، فدخلنا عليه، فإذا رجل رث البيت رث الهيئة (فانتسبنا له، فقال: تجار كسبة) فسمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليس منا من لم يتغن بالقرآن قال: فقلت لابن أبى مليكة يا أبا محمد أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت، قال: يحسنه ما استطاع. تفرد به أبو داود . فقد فهم من هذا أن السلف رضى الله عنهم إنما فهموا من التغنى بالقرآن إنما هو تحسين الصوت به وتحزينه، كما قال الأئمة رحمهم الله. ويدل على ذلك أيضًا ما رواه أبو داود حيث قال: ثنا عثمان بن أبى شيبة ، ثنا جرير عن الأعمش عن طلحة عن عبدالرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زينوا القرآن بأصواتكم .
وأخرجه النسائى وأبن ماجة من حديث شعبة عن طلحة ، وهذا اسناد جيد. وقد وثق النسائى وابن حبان عبدالرحمن بن عوسجة هذا.ونقل الأزدى عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال: سألت عنه بالمدينة فلم يحمدونه.(/23)
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة قال نهاني أيوب أن أحدث بهذا الحديث زينوا القرآن بأصواتكم قال أبو عبيد : وانما كره أيوب فيما نرى أن يتأول الناس بهذا الحديث الرخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الألحان المبتدعة، فلهذا نهاه أن يحدث به.(قلت): ثم إن شعبة رحمه الله، روى الحديث متوكلا على الله كما روى له، وولو ترك كل حديث يتأوله مبطل لترك من السنة شيء كثير، بل قد تطرقوا إلى تأويل آيات كثيرة من القرآن وحملوها على محاملها الشرعية المرادة، وبالله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. والمراد تحسين الصوت بالقرآن تطريبه وتحزينه والتخشع به،كما رواه الحافظ الكبير تقى بن مخلد رحمه الله حيث قال: ثنا أحمد بن ابراهيم عن أبى موسى عن أبيه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم:يا أبا موسى لو رأيتنى وأنا أستمع قراءتك البارحة قلت أما والله لو علمت آنك تسمع قراءتى لحبرتها لك تحبيرًا.
رواه مسلم من حديث طلحة به. وزاد لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود وسيأتى هذا فى- بابه حيث يذكره البخارى . والغرض أن أبا موسى قال: لو أعلم أنك تسمعه لحبرته لك تحبيرًا، فدل على جواز تعاطى ذلك وتكلفه وقد كان أبو موسى كما قال عليه السلام: قد أعطى صوتا حسنا- كما سأذكره إن شاء الله- مع خشية تامة ورقة أهل اليمن، فدل على أن هذامن الأمور الشرعية.قال أبو عبيد : حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس عن ابن شهاب عن أبى سلمة قال: كان عمر إذا رأى أبا موسى قال: ذكرنا ربنا يا أبا موسى ، فيقرأ عنده .قال أبو عبيد : ثنا سليمان التيمى أو نبئت عنه، ثنا أبو عثمان النهدى كان أبو موسى يصلى بنا، فلو قلت أنى لم أسمع صوت صنج قط ولايربط قط ولاشيئًا قط أحسن من صوته .
وقال ابن ماجه : حدثنا العباس بن الدمشقى ، ثنا الوليد بن مسلم حدثنى حنظلة بن أبى سفيان أنه سمع عبدالرحمن بن سابط الجمحي يحدث عن عائشة قالت: ابطأت على رسول الله ليلة بعدالعشاء ثم جئت فقال:أين كنت؟ قلت: كنت أسمع قراءة رجل من أصحابك مثل قراءته وصوته من أحد، قالت: فقام فقمت معه حتى أستمع له ثم التفت إلى فقال:هذا سالم مولى أبى حذيفة ، الحمد لله الذى جعل فى أمتى مثل هذا إسناد جيد.وفى الصحيحين عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فى المغرب بالطور فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا أو قراءًة منه وفىبعض ألفاظه فلما بلغ هذه الآية أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون كاد قلبى أن يطير وكان جبير لما سمع هذا بعد مشركا على دين قومه وإنما كان قدم فى فداء الأساري بعد بدر، وناهيك بمن تؤثر قراءته فى المشرك المصر على الكفر هذا سبب هدايته، ولهذا كان أحسن القراءات ما كان عن خشوع القلب كما قال قال أبو عبيد : ثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ليث عن طاوس قال: أحسن الناس صوتًا بالقرآن أخشاهم لله وحدثنا قبيصة عن سفيان عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه، وعن الحسن بن مسلم عن طاوس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أى الناس أحسن صوتا بالقرآن؟ فقال: الذى إذا سمعته رأيته يخشى الله .
وقد روى هذا متصلا من وجه آخر فقال ابن ماجه حدثنا بشر بن معاذ الضرير ثنا عبدالله بن جعفر المدينى ثنا ابراهيم بن اسماعيل بن مجمع عن الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذى إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله ولكن عبدالله بن جعفر هذا- وهو والد على بن المدينى - وشيخه ضعيفان والله أعلم.والغرض أن المطلوب شرعا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه والخشوع والخضوع والإنقياد للطاعة.فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية والقانون الموسيقائى فالقرآن ينزه عن هذا ويجل ويعظم أن يسلك فى أدائه هذا المذهب. وقد جاءت السنة بالزجر عن ذلك كما قال الإمام العلم عبيد القاسم بن سلام رحمه الله حدثنا نعيم بن حماد عن بقية ابن الوليد عن حصين بن مالك الفزارى قال سمعت شيخا يكنى أبا محمد يحدث عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر وسيجىء قوم من بعدى بالقرآن يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح،لايجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم .(/24)
وحدثنا يزيد عن شريك عن أبى اليقظان عثمان بن عمير زاذان أبي عمر عن عليم قال: كنا على سطح ومعنا رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم قال يزيد لا أعلمه الا قال عابس الغفارى فرأى الناس يخرجون فى الطاعون قال: ما هولاء؟ قال يفرون من الطاعون فقال يا طاعون خذني فقالوا أتتمنى الموت وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لايتمنين أحدكم الموت فقال: إنى أبادر خصالاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوفهن على أمته بيع الحكم والاستخفاف بالدم وقطيعة الرحم وقوم يتخذون القرآن مزامير، يقدمون أحدهم ليس بافقههم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم به غناء، وذكر خلتين آخرتين .وحدثنا يعقوب بن إبراهيم عن ليث بن أبى سليم عن عثمان بن عمير عن زاذان عن عابس الغفارى عن النبى صلى الله عليه وسلم مثل ذلك أو نحوه وحدثنا يعقوب عن ابراهيم عن الأعمش عن رجل عن أنس أنه سمع رجلاً يقرأالقرآن
بهذه الألحان التى أحدث الناس فأنكر
ذلك ونهى عنه. وهذه طرق حسنة
باب الترهيب.وهذا يدل على أنه محذور كبير وهو قراءة القرآن بالألحان التى يسلك بها مذاهب الغناء، وقد نص الأئمة رحمهم الله على النهى عنه، فأما إن خرج به إلى التمطيط الفاحش الذى يزيد بسببه حرفا أو ينقص حرفا فقد اتفق العلماء على تحريمه، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : ثنا محمد بن معمر ، ثنا روح ، ثنا عبيدالله بن الأخنس عن ابن أبى مليكة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليس منا من لم يتغن بالقرآن ثم قال:إنما ذكرنا هذا لتبيين الاختلاف على ابن أبى مليكة فيه فرواه عبدالجبار بن الورد عنه، عن ابن أبى مليكة عن أبى لبابة ورواه عمرو بن دينار ، والليث عنه عن أبى نهيك عن سعد ، ورواه عسل بن سفيان عنه عن عائشة، ورواه نافع مولى ابن عمر عنه عن ابن الزبير .
اغتباط صاحب القرآن
حدثنا أبواليمان ، أنا شعيب عن الزهرى ، حدثنى سالم بن عبد الله أن عبدالله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلىالله عليه وسلم يقول: لاحسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ورجل اعطاه الله مالا فهو يتصدق به آناء الليل والنهار انفرد به البخارى من هذا الوجه واتفقا على إخراجه من رواية سفيان عن الزهرى .ثم قال البخارى : ثنا على بن إبراهيم ، ثنا روح ، ثنا شعبة عن سليمان قال: سمعت ذكوان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
لا حسد إلا فى اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار فسمعه جار له فقال: ليتنى أوتيت مثلما أوتيت فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق،فقال رجل:ليتنى أوتيت مثل ماأوتى فلان فعملت مثل ما يعمل . ومضمون هذين الحديثين أن صاحب القرآن فى غبطة، وهى حسن الحال، فينبغى أن يكون شديد الاغتباط بما هو فيه، ويستحب تغبيطه بذلك، يقال: غبطه يغبطه بالكسر غبطًا إذا تمنى مثل ما هوفيه من النعمة،وهذا بخلاف الحسد المذموم، وهو تمنى زوال نعمة المحسود عنه سواء حصلت لذلك الحاسد أولا، وهذا مذموم شرعًا مهلك، وهو أول معاصى ابليس حين حسد آدم على ما منحه الله تعالى من الكرامة والإحترام والإعظام. والحسد الشرعى الممدوح هو تمنى حال مثل ذاك الذى هو على حالة سارة، ولهذا قال عليه السلام: لا حسد إلا فى اثنتين فذكر النعمة القاصرة وهو تلاوة القرآن آناء الليل والنهاروالنعمة المتعدية، وهى نفاق المال بالليل والنهار ، كما قال تعالى إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور .
وقد روى نحو هذا من وجه آخر، فقال عبد الله بن الإمام أحمد : وجدت فى كتاب أبى بخط يده: كتب إلى أبو توبة الربيع بن نافع ، فكان فى كتابه: حدثنا الهيثم بن حميد عن زيد بن واقد عن سليمان بن موسى عن كثير بن مرة عن يزيد بن الأخنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تنافس بينكم إلا فى اثنتين: رجل آعطاه لله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ويتبع ما فيه فيقول رجل: لوأن الله أعطانى مثل ما أعطى فلانا. فأقوم به كما يقوم به، ورجل أعطاه الله مالاً فهو ينفق ويتصدق، فيقول رجل: لو أن الله
أعطانى مثل ما أعطى فلانا فأتصدق به .وقريب من هذا ما قال الإمام أحمد : ثنا عبدالله بن محمد بن نمير ثنا عبادة بن مسلم ، وحدثنى يونس بن حباب عن سعيد أبى البحترى الطائى عن أبى بن كبشة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(/25)
ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه فأما الثلاث التى أقسم عليهن فإنه ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم أحد مظلمة فيصبر عليها الا زاده الله بها عزًا، ولا يفتح عبدًا باب مسألة إلا فتح الله له باب فقر- وأما الذى أحدثكم حديثا فاحفظوه فإنه قال- إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا، فهو يتقى فيه ربه ويصل رحمه ويعلم لله فيه حقه - قال- فهذا بأفضل المنازل وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً، فهو يقول: لو كان لى مال عملت بعمل فلان- قال- فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا فهو يخبط فى ماله بغيرعلم، لايتقى فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم الله فيه حقه، فهذا بأخبث المنازل وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا، فهو يقول: لو كان لى مال لفعلت بعمل فلان- قال- هى نيته فوزرهما فيه سواء .
وقال أيضًا: حدثنا وكيع ، ثنا الأعمش عن سالم بن أبى الجعد عن أبى كبشة الأنمارى قال:- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل هذه الأمة مثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالاً وعلمًا، فهو يعمل به فى ماله فينفقه فى حقه، ورجل آتاه الله علمًا ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو كان لى مثل هذا عملت فيه مثل الذى يعمل قال رسول الله- فهما فى الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علمًا، فهو يخبط فيه ينفقه فى غير حقه ، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علمًا، فهو يقول لو كان لى مثل مال هذا عملت فيه مثل الذى يعمل- قال: قال رسول الله- فهما فى الوزر سواء إسناد صحيح، ولله الحمد والمنة.
خيركم من تعلم القرآن وعلمه
حدثنا حجاج بن منهال ، ثنا شعبة ، أخبرنى علقمة بن مرثد سمعت سعد ابن عبيدة عن أبى عبد الرحمن عن عثمان بن عفان رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه وأقرأ أبو عبدالرحمن إمرة عثمان رضى الله عنه حتى كان الحجاج ، قال: وذلك الذى أقعدنى مقعدى هذا.
وقد أخرج الجماعة هذا الحديث سوى
مسلم من رواية شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبى عبدالرحمن وهو عبدالله بن حبيب السلمى رحمه الله.وحدثنا أبو نعيم ، ثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن أبى عبدالرحمن السلمى عن عثمان بن عفان رضى الله عنه قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه وهكذا رواه الترمذى والنسائى وابن ماجه من طرق عن سفيان عن علقمة عن أبى عبد الرحمن من غيرذكر سعد بن عبيدة ، كما رواه شعبة ولم يختلف عليه فيه، وهذا المقام مما حكم لسفيان الثورى فيه على شعبة . وخطأ بندار يحيى بن سعيد فى روايته ذلك عن سفيان عن علقمة عن سعد ابن عبيدة عن أبى عبدالرحمن ، وقال: رواه الجماعة من أصحاب سفيان بإسقاط سعد بن عبيدة ورواية سفيان أصح. وفى هذا المقام المتعلق بصناعة الإسناد طول لولا الملالة لذكرناه. وفيما ذكر كفاية وإرشاد إلى ما ترك، والله أعلم.
والغرض أنه عليه الصلاة والسلام قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه . وهذه صفات المؤمنين المتبعين للرسل وهم الكمل فى أنفسهم المكملين لغيرهم، وذلك جمع بين النفع القاصر والمتعدى، وهذا بخلاف صفة الكفار الجبارين الذين لاينفعون ولا يتركون أحدًا ممن أمكنهم أن ينتفع، كما قال تعالى
الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب وكما قال تعالى وهم ينهون عنه وينأون عنه فى أصح قولى المفسرين فى هذا هو أنهم ينهون الناس عن اتباع القرآن مع نأيهم وبعدهم عنه أيضًا، فجمعوا بين التكذيب والصد، كما قال تعالى فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها فهذا شأن شرار الكفار، كما أن شأن الأخيار الأبرار أن يتكمل فى نفسه، وأن يسعى فى تكميل غيره كما قال عليه السلام خيركم من تعلم القرآن وعلمه وكما قال تعالى ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين فجمع بين الدعوة إلى الله سواء كان بالأذان أو بغيره من أنواع الدعوة إلى الله تعالى من تعليم القرآن والحديث والفقه وغير ذلك مما يبتغى به وجه الله، وعمل هو فى نفسه صالحًا، وقال قولاً صالحًا أيضًا فلا أحد أحسن حالاً من هذا. وقد كان أبو عبدالرحمن عبدالله بن حبيب السلمى الكوفى أحد أئمة الإسلام ومشايخهم ممن رغب فى هذا المقام فقعد يعلم الناس من إمارة عثمان إلى أيام الحجاج. قالوا: وكان مقدار ذلك الذى مكث يعلم فيه القرآن سبعين سنة رحمه الله وأثابه، وآتاه ما طلبه ورامه آمين.
قال البخارى : حدثنا عمرو بن عون ،ثنا حماد بن أبى حازم عن سهل ابن سعد قال: أتت النبى صلى االله عليه وسلم امرأة فقالت إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله، فقال:
مالى فى النساء من حاجة فقال رجل: زوجنيها قال أعطها ثوبا قال: لا أجده قال: أعطها ولو خاتما من حديد فاعتل له، فقال:ما معك من القرآن قال: كذا وكذا قد زوجتكها بما معك من القرآن .(/26)
وهذا الحديث متفق على صحة إخراجه من طرق عديدة، والغرض منه الذى قصده البخارى أن هذا الرجل تعلم الذى تعلمه من القرآن، وأمره النبى صلى الله عليه وسلم ان يعلم تلك المرأة ويكون ذلك صداقا لها على ذلك، وهذا فيه نزاع بين العلماء: هل يجوز أن يجعل صداقا؟ أو هل يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن؟ وهل هذا كان خاصا بذلك الرجل؟ وما معنى قوله عليه السلام زوجتكها بما معك من القرآن أى بسبب ما معك، كما قاله أحمد بن حنبل : نكرمك بذلك أو بعوض ما معك، وهذا أقوى لقوله فى صحيح مسلم فعلمها وهذا هو الذى أراده البخاري ههنا، وتحرير باقى الخلاف مذكور فى باب النكاح والإجارات ، وبالله المستعان.
القراءة عن ظهرقلب
إنما أورد البخارى فى هذه الترجمة حديث أبى حازم عن سهل ابن سعد الحديث الذى تقدم الآن، وفيه أنه عليه السلام قال للرجل: فما معك من القرآن؟ قال: معى سورة كذا وسورة كذا لسور عدها، قال:اتقرأهن عن ظهر قلب؟ قال: نعم، اذهب قد ملكتها بما معك من القرآن وهذه الترجمة من البخارى رحمه الله مشعرة بأن قراءة القرآن عن ظهر قلب أفضل ، والله أعلم. ولكن الذى صرح به كثيرون من العلماء أن قراءة القرآن من المصحف أفضل لأنه يشتمل على التلاوة والنظر فى المصحف، وهو عبادة كما صرح به غير واحد من السلف، وكرهوا أن يمضى على الرجل يوم لاينظرفى مصحفه.واستدلوا على أفضلية التلاوة فى المصحف بما رواه الإمام العلم أبو عبيد رحمه الله فى كتابه فضائل القرآن : حدثنا نعيم بن حماد عن بقية ابن الوليد عن معاوية بن يحيى عن سليم بن مسلم عن عبدالله بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: فضل قراءة القرآن نظرًا على من يقرؤه ظهرًا كفضل الفريضة على النافلة ، وهذا الإسناد فيه ضعف فإن معاوية ابن يحيى هذا هو الصدفى أو الأطرابلسى وأيا ما كان فهو ضعيف. وقال الثورى عن عاصم عن زر عن ابن مسعود قال: أديموا النظر في المصحف. وقال حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس عن عمر أنه كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه. وقال حماد أيضًا عن ثابت عن عبدالرحمن بن أبى ليلى عن ابن مسعود أنه كان إذا اجتمع اليه إخوانه نشروا المصحف فقرأ أو فسر لهم. إسناد صحيح.وقال حماد بن سلمة عن حجاج بن أرطاة ، عن ثوير بن أبى فاخته عن ابن عمر ، قال: إذا رجع أحدكم من سوقه فلينشر المصحف وليقرأ.وقال الأعمش عن خيثمة : دخلت على ابن عمرو وهو يقرأ فى المصحف فقال: هذا جزئى الذى أقرأ به الليلة.
فهذه الاثار تدل على أن هذا أمر مطلوب لئلا يعطل المصحف فلا يقرأ منه ولعله قد يقع لبعض الحفظة نسيان فيستذكر منه، أو تحريف كلمة أو آية أو تقديم أو تأخير فالاستثبات أولى والرجوع إلى المصحف أثبت من أفواه الرجال.فأما تلقين القرآن فمن فم الملقن أحسن، لأن الكتابة لا تدل على الأداء كما أن المشاهد من كثير ممن يحفظ من الكتابة فقط يكثر تصحيفه وغلطه، وإذا أدى الحال إلى هذا منع منه إذا وجد شيخًا يوقفه على ألفاظ القرآن. فأما عند العجز عما يلقن فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فيجوز عند الضرورة ما لا يجوز عند الرفاهية، فاذا قرأ فى المصحف والحالة هذه فلا حرج عليه، ولو فرض أنه قد يحرف بعض الكلمات عن لفظها على لغته ولفظه، فقد قال الإمام أبوعبيد : حدثنى هشام بن إسماعيل الدمشقى عن محمد بن شعيب عن الأوزاعى أن رجلا صحبهم فى سفر، قال: فحدثنا حديثا. ما أعلمه إلا رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد إذا قرأ فحرف أو أخطأ، كتبه الملك كما أنزل وحدثنا حفص بن أبى غياث عن الشيبانى عن بكير بن الأخنس قال كان يقال إذا قرأ الأعجمى والذى لايقيم القرآن كتبه الملك كما أنزل وقال بعض العلماء: المدار فى هذه المسئلة على الخشوع، فإن كان الخشوع أكثر عند القرا ة عن ظهر قلب فهو أفضل، وإن كان عند النطر فى المصحف أكثر فهو أفضل. فإن استويا فالقراءة نظرًا أولى لأنها أثبت وتمتاز بالنظر إلى المصحف.قال الشيخ أبو زكريا النواوى رحمه الله فى التبيان : والظاهر أن كلام السلف وفعلهم محمول على هذا التفضيل.
تنبيه إن كان البخارى رحمه الله أراد بذكره حديث سهل الدلالة على أن تلاوة القرآن عن ظهرقلب أفضل منها فى المصحف ففيه نظر، لأنها قضية عين، فيحتمل أن ذلك الرجل كان لا يحسن الكتابة ويعلم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فلا يدل على أن التلاوة عن ظهرقلب أفضل مطلقًا فى حق من يحسن، إذ لو دل على هذا لكان ذكر حال رسول الله وتلاوته عن ظهر قلب- لأنه أمى لايدرك الكتابة- أولى من ذكر هذا الحديث بمفرده .
الثانى:إن سياق الحديث إنما هو لأجل استثبات أنه يحفظ تلك السورعن ظهر قلب ليمكنه تعليمها لزوجته، وليس المراد ههنا أن هذا أفضل من التلاوة نظرًا ولا عدمه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
استذكار القرآن وتعاهده(/27)
حدثنا عبدالله بن يوسف ، أنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت .
هكذا رواه مسلم والنسائى من حديث مالك به. وقال الإمام أحمد :ثنا عبدالرزاق ، أنا معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل القرآن إذا عاهد عليه صاحبه فقرأه بالليل والنهار كمثل رجل له ابل، فإن عقلها حفظها وإن أطلق عقالها ذهبت، فكذلك صاحب القرآن أخرجاه، قاله ابن الجوزى فى جامع المسانيد ، وإنما هو من أفراد مسلم من حديث عبد الرزاق به.حدثنا محمد بن عرعرة ، ثنا شعبة عن منصور عن أبى وائل عن عبدالله قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل نسى، واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم .تابعه بشر هو ابن محمد السختيانى عن ابن المبارك عن شعبة ، وقد رواه الترمذى عن محمود بن غيلان عن أبى داود الطيالسى عن شعبة به، وقال: حسن صحيح.
وأخرجه النسائى من رواية شعبة ، وحدثنا عثمان بن جرير عن منصور مثله وهكذا رواه مسلم عن عثمان وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم عن جرير به،. وستأتى رواية البخارى له عن أبى نعيم عن سفيان الثورى عن منصور به، والنسائى من رواية ابن عيينه عن منصور به، فقد رواه هؤلاء عن منصور به مرفوعا فى رواية هولاء كلهم، وقد رواه النسائى عن قتيبة ،
عن حماد بن زيد عن منصور ، عن أبى وائل عن عبدالله موقوفًا، وهذا غريب وفي مسند أبى يعلى فإنما هو نسى بالتخفيف، وتابعه ابن جريج عن عبدة عن شقيق قال: سمعت عبدالله قال: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم وهكذا أسنده مسلم من حديث ابن جريج به.ورواه النسائي في اليوم والليلة، من حديث محمد بن جارة عن عبدة وهو ابن ابى لبابة حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبى موسى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: تعاهدوا القرآن فوالذى نفسى بيده. لهو أشد تفصيًا من الابل فى عقلها .
وهكذا رواه مسلم عن أبى كريب محمد بن العلاء وعبدالله بن براد الأشعري كلاهما عن أبي أسامة حماد بن أسامة به.
وقال الامام أحمد ثنا على بن إسحاق ، أنا عبدالله بن المبارك ، أنا موسى بن على سمعت أبى يقول: سمعت عقبة بن عامر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعلموا كتاب الله وتعاهدوا وتغنوا به، فوالذى نفسى بيده لهوأشد تفلتا من المخاض فى العقل .
ومضمون هذه الأحاديث الترغيب فى كثرة تلاوة القرآن واستذكاره وتعاهده لئلا يعرضه حافظة للنسيان، فإن ذلك خطأ كبير نسأل الله العافية منه، فإنه قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، ثنا خالد عن يزيد بن أبى زياد عن عيسى بن فايد عن رجل عن سعد بن عبادة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً لا يفكه من ذلك الغل إلا العدل وما من رجل قرأ القرآن فنسيه إلا لقى الله يوم يلقاه وهو أجذم ، وهكذا رواه جرير بن عبدالحميد ومحمد بن فضيل عن يزيد بن أبى زياد ، كما رواه خالد بن عبدالله وقد أخرجه أبو داود عن محمد بن العلاء عن ابن ادريس عن يزيد بن أبى زياد عن عيسى بن فايد عن سعد بن عبادة عن النبى صلى الله عليه وسلم بقصة نسيان القرآن، ولم يذكر الرجل المبهم، وكذا رواه أبو بكر بن عياش عن يزيد عن أبى زياد وقد رواه سعيد عن زيد ، ووهم فى إسناده، ورواه وكيع عن أصحابه عن يزيد عن عيسى بن فايد عن النبى صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وقد رواه الإمام أحمد فى مسند عبادة بن الصامت فقال: ثنا عبد الصمد ثنا عبدالعزيز بن مسلم ، ثنا يزيد بن أبى زياد
عن عيسى بن فايد عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما من أميرعشرة إلا يؤتى به يوم
القيامة مغلولاً لا يفكه منها إلا عدله، وما من رجل تعلم القرآن ثم نسيه إلا لقى الله القيامة أجذم وكذا رواه أبو عوانة عن يزيد بن أبى زياد ، ففيه اختلاف لكن هذا فى باب الترهيب مقبول، والله أعلم، لاسيما ان كان له شاهد من آخر، كما قال أبو عبيد : ثنا حجاج عن ابن جريج قال: حدثت عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عرضت على أجور أمتى حتى القذاة والعبرة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت على ذنوب أمتى فلم أر ذنبًا أكبر من آية أو سورة من كتاب الله أوليتها رجل فنسيها .قال ابن جريج : وحدثت عن سلمان الفارسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من أكبر ذنوب توافى به أمتى يوم القيامة سورة من كتاب الله كانت مع أحدهم فنسيها .وقد روى أبوداود والترمذى وأبو يعلى والبزار وغيرهم من حديث ابن أبى رواد عن ابن جريج عن المطلب بن عبدالله بن حنطب عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(/28)
عرضت على أجور أمتى حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت على ذنوب أمتى فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها .
قال الترمذى : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه،وذاكرت به البخارى فاستغربه.
وحكى الوابلى عن عبدالله بن عبدالرحمن الدارمى أنه أنكر سماع المطلب من أنس بن مالك قلت: وقد رواه محمد بن يزيد الآدمى عن ابن أبى (رواد) عن ابن جريج عن الزهرى عن أنس عن النبى صلى الله عليه وسلم به، فالله أعلم.وقد أدخل بعض المفسرين هذاالمعنى فى قوله تعالى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وهذا الذى قاله هذا وان لم يكن هو المراد جميعه فهو بعضه، فإن الإعراض عن تلاوة القرآن وتعريضه للنسيان وعدم الاعتناء به فيه تهاون كبير وتفريط شديد نعوذ بالله منه، ولهذا قال عليه السلام: تعاهدوا القرآن وفى لفظ استذكروا القرآن، فإنه أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم .التقصى التخلص: يقال تفصى فلان من البلية إذا تخلص منها تقصى النوى من الثمرة إذا تخلص منها، أي أن القرآن أشد تفلتا من الصدور من النعم إذا أرسلت من غير عقال.
وقال أبو عبيد : ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم قال عبدال له يعنى ابن مسعود - إنى لأمقت القارىء أن أراه سمينًا نسيًا للقرآن. وحديث عبدالله بن المبارك عن عبدالعزيز بن أبى داود قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: ما من أحد تعلم القرآن فنسيه إلا بذنب يحدثه، لأن الله تعالى يقول وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب. ولهذا قال اسحاق ابن راهويه وغيره: يكره للرجل أن يمرعليه أربعون يومًا لا يقرأ فيها القرآن، كما أنه يكره له أن يقرأه فى أقل من ثلاثة أيام، كما سيأتى هذا حيث يذكره البخارى بعد هذا، وكان الأليق أن يتبعه هذا الباب، ولكن ذكر بعد هذا قوله:
القراءة على الدابة
حدثنا حجاج ، أنا شعبة ، أنا أبو إياس قال: سمعت عبدالله ابن مغفل رضى الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو يقرأ على راحلته سورة الفتح .وهذا الحديث قد خرجه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن شعبة عن أبى إياس وهو معاوية بن قرة به، وهذا أيضًا له تعلق بما تقدم من القرآن وتلاوته سفرًا وحضرًا، ولا يكره ذلك عند أكثر العلماء إذا لم يتله القارىء فى الطريق، وقد نقله ابن أبى داود عن أبى الدرداء أنه كان يقرأ فى الطريق، وقد روى عن عمر بن عبدالعزيز أنه أذن فى ذلك، وعن الإمام مالك أنه كره ذلك، كما قال ابن أبى داود : حدثنى أبو الربيع أنا ابن وهب قال: سألت مالكا عن الرجل يصلى من آخر الليل، فخرج الىالمسجد وقد بقى من السورة التى كان يقرأ منها شىء فقال: ما أعلم القراءة تكون فى الطريق، وقال الشعبى : تكره قراءة القرآن فى ثلاثة مواضع فى الحمام، وفى الحشوش ، وفىبيت الرحى وهى تدور، وخالفه القراءة فى الحمام كثير من السلف أنها لا تكره، وهو مذهب مالك و الشافعى و إبراهيم النخعى وغيرهم، وروى ابن أبى داود عن على ابن أبى طالب أنه كره ذلك، ونقله ابن المذر عن أبى وائل شقيق بن سلمة والشعبى والحسن البصرى ومكحول وقبيصة بن ذؤيب وهو رواية عن إبراهيم النخعى .
ويحكى عن أبى حنيفة رحمه الله أن القراءة فى الحمام تكره، وأما القراءة فى الحش فكراهتها ظاهره ولو قبل بتحريم ذلك صيانة لشرف القرآن لكان مذهبا. وأما القراءة فى بيت الرحى وهى تدور فلئلا يعلو غير القرآن عليه، والحق يعلو ولا يعلى، والله أعلم.
تعلم الصبيان القرآن
حدثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا أبو عوانة عن أبى بشر عن سعيد بن جبير قال: إن الذى تدعونه المفصل هو المحكم ، قال: وقال ابن عباس : توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين، وقد قرأت المحكم حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، ثنا هشيم أنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال جمعت المحكم فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم فقلت له: وما المحكم ؟ قال المفصل انفرد بإخراجه البخارى ، وفيه دلالة على جواز تعلم الصبيان القرآن لأن ابن عباس أخبرعن سنه حين موت رسول الله وقد كان جمع المفصل وهو من الحجرات، كما تقدم ذلك، وعمره إذ ذاك عشر سنين.
وقد روى البخارى أنه قال: توفى رسول الله وأنا مختون ، وكانوا لايختنون حتى يحتلم فيحتمل أنه احتلم لعشر سنين جمعًا بين هذه الرواية وتلك ويحتمل أنه تجوز فى هذه الرواية بذكر العشر وترك مازاد عليها من الكسر، والله أعلم.
وعلى كل تقدير ففيه دلالة على جواز(/29)
تعليم القرآن فى الصبا، وهو ظاهر بل قد يكون مستحبا أو واجبا، لأن الصبى إذا تعلم القرآن بلغ وهويعرف ما يصلى به، وحفظه فى الصغر أولى من حفظه كبيرا وأشد علوقا بخاطره، وأرسخ وأثبت كما هو المعهود من حال الناس.وقد استحب بعض السلف أن يترك الصبى فى ابتداء عمره قليلا للعب، ثم توفر همته على القراءة لئلا يلزم أولاً بالقراءة فيملها ويعدل عنها إلى اللعب ،وكره بعضهم تعليمه القرآن وهو لايعقل ما يقال له، ولكن يترك حتى إذا عقل وميزعلم قليلا بحسب همته ونهمته وحفظه وجودة ذهنه.واستحب عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن يلقن خمس آيات، رويناه عنه بسند جيد.
نسيان القرآن وهل يقول نسيت آية كذا وكذا؟
وقول الله سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شاء الله حدثنا الربيع بن يحيى ، ثنا زائدة ، ثنا هشام عن عروة عن عائشة قالت: لقد سمع النبى صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ فى المسجد فقال:رحمه الله لقد أذكرنى أية كذا وكذا من سورة كذا انفرد به، وحدثنا محمد بن عبيد ابن ميمون ، ثنا عيسى بن يونس عن هشام وقال: أسقطتهن من سورة كذا وكذا .انفرد به أيضا. تابعه على بن مسهر وعبدة عن هشام وقد أسندهما البخارى فى موضع آخر ومسلم معه فى عبدة.حدثنا أحمد بن أبى رجاء ، ثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقرأ فى سورة بالليل فقال: يرحمه الله لقد أذكرنى كذا وكذا أية كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا .ورواه مسلم من حديث أبى أسامة حماد بن أسامة .
(الحديث الثانى) حدثنا أبو نعيم ، ثنا سفيان عن منصور عن أبى وائل عن عبدالله رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت كيت وكيت بل هو نسى .ورواه مسلم والنسائى من حديث منصور به، وقد تقدم. وفى مسند أبى يعلى إنما هو نسى بالتخفيف هذا لفظه وفى هذا الحديث والذى قبله دليل على أن حصول النسيان للشخص ليس بنقص له إذا كان بعد الاجتهاد والحرص.وفى حديث ابن مسعود أدب فى التعبير عن حصول ذلك، فلا يقول نسيت كذا، فإن النسيان ليس من فعل العبد، وقد تصدر عنه أسبابه من التناسى والتغافل والتهاون المفضى إلى ذلك، فأما النسيان نفسه فليس بفعله، ولهذا قال، بل هو نسى مبنى لما لم يسم فاعله، وأدب أيضًا فى ترك إضافة ذلك إلى الله تعالى، وقد أسند النسيان إلى العبد فى قوله تعالى: واذكر ربك إذا نسيت وهو- والله أعلم- من باب المجاز الشائع بذكر المسبب وإرادة السبب، لان النسيان عن سبب قد يكون ذنبا، كما تقدم عن الضحاك بن مزاحم فأمر الله تعالى بذكره ليذهب الشيطان عن القلب كما يذهب عند النداء بالأذان، والحسنة تذهب السيئة، فإذا زال السبب للنسيان انزاح فحصل الذكر للشىء بسبب ذكر الله تعالى، والله أعلم.
من لم ير بأسا أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وكذا
حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، ثنا أبى، ثنا الأعمش ، حدثنى ابراهيم عن علقمة وعبدالرحمن بن يزيد عن أبى مسعود الأنصارى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما فى ليلة كفتاه .
وهذا الحديث قد أخرجه الجماعة من حديث عبدالرحمن بن يزيد وصاحبا الصحيح والنسائى وابن ماجة من حديث علقمة ، كلاهما عن أبى مسعود عتبة ابن عمرو الأنصارى البدرى .
(الحديث الثانى)- ما رواه من حديث الزهرى عن عروة عن المسور وعبد الرحمن بن عبد القارى ، كلاهما عن عمر قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان وذكرالحديث بطوله كما تقدم وكما سيأتى.
(الحديث الثالث)- ما رواه من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قارئا يقرأ من الليل فى المسجد فقال:رحمه الله، أذكرنى كذا وكذا آية، كنت أسقطتهن من سورة كذا وكذا وهكذا فى الصحيحين عن ابن مسعود أنه كان يرمى الجمرة من الوادى ويقول: هذا مقام الذى أنزلت عليه سورة البقرة .وكره بعض السلف ذلك، ولم يروا أن يقال إلا السورة التى يذكر فيها كذا وكذا، كما جاء وتقدم من رواية يزيد الفارسى عن ابن عباس عن عثمان أنه قال: إذا نزل من القرآن شىء يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعلوا هذا فى السورة التى يذكر فيها كذا وكذا .ولاشك أن هذا أحوط وأولى، ولكن قد صحت أحاديث بالرخصة فى الآخر وعليه عمل الناس اليوم فى ترجمة السور فى مصاحفهم. وبالله التوفيق.
الترتيل فى القراءة(/30)
وقوله عزوجل، ورتل القرآن ترتيلا . وقوله، وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث وما يكره أن يهذ كهذ الشر. (يفرق فيها) يفصل، قال ابن عباس (فرقناه) فصلناه.حدثنا أبو النعمان ، ثنا مهدى بن ميمون ، ثنا واصل عن أبى وائل عن عبدالله قال: غدونا على عبدالله فقال رجل: قرأت المفصل البارحة فقال: هذا كهذ الشعر؟ إنا قد سمعنا القراءة وإنى لأحفظ القرناء اللاتى كان يقرأ بهن النبى صلى الله عليه وسلم ثمانى عشرة سورة من المفصل ، وسورتين من آل حم . ورواه مسلم عن شيبان بن فروخ عن مهدى بن ميمون عن واصل وهو ابن حبان الأحدب عن أبى وائل شقيق بن سلمة عن ابن مسعود به.وقال الإمام أحمد : ثنا قتيبة ، ثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن زياد بن نعيم عن مسلم بن مخراق عن عائشة أنه ذكر لها أن ناسًا يقرءون القرآن فى الليل مرة أو مرتين، فقالت: أولئك قرأوا ولم يقرأوا، كنت أقوم مع النبى صلى الله عليه وسلم ليلة التمام، فكان يقرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء، فلا يمر بآية فيها تخوف إلا دعا الله واستعاذ، ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله ورغب إليه.
(الحديث الثانى)- ثنا قتيبة ثنا جرير عن موسى بن أبى عائشة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فى قوله تعالى لا تحرك به لسانك لتعجل به كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحى كان يحرك به لسانه أو شفتيه فيشتد عليه ، وذكر تمام الحديث كما سيأتي وهو متفق عليه، وفيه وفى الذى قبله دليل على استحباب ترتيل القراءة والترسل فيها من غير هذرمة ولا بسرعة مفرطة بل بتأمل وتفكر، قال الله تعالى كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب وقال الإمام أحمد : ثنا عبدالرحمن عن سفيإن عن عاصم عن زر عن عبدالله بن عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: يقال لصاحب القرآن: اقرأ وأرق ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا فإن منزلك عند آخرآية تقرؤها .
وقال أبو عبيد : ثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: قرأ علقمة على عبد الله فكأنه عجل، فقال عبد الل ه: فداك أبى وأمى، رتل فإنه زين القرآن. قال: وكان علقمة حسن الصوت بالقرآن
وحدثنا اسماعيل بن ابراهيم عن أيوب عن أبى حمزة قال، قلت لابن عباس : إنى سريع القراءة، وإنى أقرأ القرآن فى ثلاث، فقال: لأن اقرأ البقرة فى ليلة فأدبرها وأرتلها أحب إلى من أن أقرأ كما تقول.وحدثنا حجاج عن شعبة وحماد بن سلمة عن أبى حمزة عن ابن عباس نحو ذلك إلا أن فى حديث حماد أحب إلى من أن أقرأ القرآن أجمع هذرمة.
ثم قال البخارى
مد القراءة
حدثنا مسلم بن ابراهيم ، ثنا جرير بن حازم الأزدى ، ثنا قتادة : سألت أنس بن مالك عن قراءة النبى صلى الله عليه وسلم فقال: كان يمد مدًا .
وهكذا رواه أهل السنن من حديث جرير بن حازم به، حدثنا عمرو بن عاصم ، ثنا همام عن قتادة قال: سئل أنس بن مالك : كيف كان قراءة النبى صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كانت مدًا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد ببسم الله ويمد الرحمان ويمد الرحيم انفرد به البخارى من هذا الوجه. وفى معناه الحديث الذى رواه الإمام أبو عبيد ، ثنا أحمد بن عثمان عن عبد الله بن المبارك عن الليث بن سعد عن ابن أبى مليكة عن يعلى بن مملك عن أم سلمة أنها نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم مفسرة حرفا حرفا وهكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل عن يحيى بن إسحق وأبو داود بن يزيد بن خالد الرملى والترمذى والنسائى كلاهما عن قتيب ة كلهم عن الليث بن سعد به، وقال الترمذى : حسن صحيح.ثم قال أبو عبيد : وحدثنا يحيى بن سعيد الأموى عن ابن جريج عن ابن ابى مليكة عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين وهكذا رواه أبو داود من حديث ابن جريج ، وقال الترمذى : غريب وليس إسناده بمتصل، يعنى أن عبد الله بن عبيد الله بن أبى مليكة لم يسمعه من أم سلمة انما رواه عن يعلى بن مملك كما تقدم، والله تعالى أعلم.
الترجيع
حدثنا آدم بن أبى إياس ، حدثنا شعبة ، حدثنا أبو إياس قال: سمعت عبدالله بن مغفل قال رأيت النبى صلى الله عليه وسلم وهويقرأ سورة الفتح على ناقته أو جمله و يسير به وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة وهو يرجع . وقد تقدم هذا الحديث فى القراءة على الدابة، وأنه من المتفق عليه وفيه أن ذلك كان يوم الفتح، وأما الترجيع فهو الترديد فى الصوت، كما جاء أيضًا فى البخارى أنه جعل يقول: وكأن ذلك صدر من حركة الدابة تحته، فدل على جواز التلاوة عليه وإن أفضى إلى ذلك ولا يكون ذلك من باب الزيادة فى الحروف بل ذلك مغتفرللحاجة كما يصلى على الدابة حيث توجهت به مع إمكان تأخير ذلك، والصلاة إلى القبلة، والله أعلم.
حسن الصوت بالقراءة
حدثنا محمد بن خلف أبو بكر ، حدثنا (أبويحيى) الحمانى ، ثنا(/31)
بريد بن عبدالله بن أبى بردة عن جده أبى بردة عن أبى موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا موسى لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود .
وهكذا رواه الترمذى عن موسى بن عبدالرحمن الكندى عن أبى يحيى الحمانى واسمه عبدالحميد بن عبد الرحمن وقال: حسن صحيح- وقد رواه مسلم من حديث طلحة بن يحيى بن طلحة عن أبى بردة عن موسى وفيه قصة، وقد تقدم الكلام على تحسين الصوت عند قول البخارى : من لم يتغن بالقرآن، وذكرت هناك أحكاما أغنى عن إعادتها ههنا، والله تعالى أعلم.
حسن الصوت بالقراءة
حدثنا محمد بن خلف أبو بكر ، حدثنا (أبويحيى) الحمانى ، ثنا
بريد بن عبدالله بن أبى بردة عن جده أبى بردة عن أبى موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا موسى لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود .
وهكذا رواه الترمذى عن موسى بن عبدالرحمن الكندى عن أبى يحيى الحمانى واسمه عبدالحميد بن عبد الرحمن وقال: حسن صحيح- وقد رواه مسلم من حديث طلحة بن يحيى بن طلحة عن أبى بردة عن موسى وفيه قصة، وقد تقدم الكلام على تحسين الصوت عند قول البخارى : من لم يتغن بالقرآن، وذكرت هناك أحكاما أغنى عن إعادتها ههنا، والله تعالى أعلم.
من أحب أن يسمع القراءة من غيره
حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، ثنا أبى، ثنا الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن عبدالله قال: قال لى النبى صلى الله عليه وسلم: اقرأ على القرآن قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: ((إنى أحب أن أسمعه من غيرى .وقد رواه الجماعة إلا ابن ماجة من طريق الأعمش ، وله طرق يطول بسطها وقد تقدم فيما رواه مسلم من حديث طلحة عن يحيى بن طلحة عن أبى بردة عن أبى موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا موسى لو رأيتنى وأنا أستمع لقراءتك البارحة فقال: أما والله لوأعلم أنك تستمع قراءتى لحبرتها لك تحبيرًا .
وقال الزهرى عن أبى سلمة : كان عمر إذا رأى أبا موسى قال: ذكرنا ربنا يا أبا موسى ، فيقرأ عنده، وقال أبوعثمان النهدى : كان أبو موسى يصلى بنا فلو قلت أنى لم أسمع صوت صنج قط ولا بربط قط ولا شيئا قط أحسن من صوته.
قول المقرىء للقارىء حسبك
حدثنا محمد بن يوسف ، ثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن عبدالله قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرأ على فقلت: يا رسول الله اقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم فقرأت عليه سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال: حسبك الآن فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان .
أخرجه الجماعة إلا ابن ماجة من رواية الأعمش به ، ووجه الدلالة ظاهر، وكذا الحديث الاخر اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم عليه فإذا اختلفتم فقوموا .
في كم يقرأ القرآن
وقول الله تعالى فاقرؤوا ما تيسر منه حدثنا علي ، حدثنا سفيان قال قال لى ابن شبرمة نظرت كم يكفى الرجل من القرآن؟ فلم أجد سورة أقل من ثلاث آيات فقلت لا عن ابراهيم عن عبدالرحمن بن يزيد أخبره علقمة عن أبى مسعود فلقيته وهو يطوف بالبيت، فذكر النبى صلى الله عليه وسلم أن:
من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة فى ليلة كفتاه .وقد تقدم أن هذا الحديث متفق عليه وقد جمع البخارى فيما بين عبدالرحمن بن يزيد وعلقمة عن ابن مسعود وهو صحيح لأن عبد الرحمن سمعه أولا من علقمة ، ثم لقى أبا مسعود وهو يطوف فسمعه منه وعلى هذا هو ابن المدينى وشيخه سفيان ابن عيينة وما قاله عبد الله قاضي الكوفة وفقيه الكوفة فى زمانه استنباط حسن.
وقد جاء فى حديث فى السنن لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وثلاث آيات ولكن هذا الحديث- أعنى حديث أبى مسعود - أصح وأشهر وأخص، ولكن وجه مناسبته للترجمة التى ذكرها البخارى فيه نظر والله أعلم ، والحديث الثانى أظهر فى المناسبة وهو قوله:حدثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا أبو عوانة عن مغيرة عن مجاهد عن عبدالله ابن عمرو قال: أنكحنى أبى امرأة ذات حسب، فكان يتعاهدها كبنته فيسألها عن بعلها، فتقول: نعم الرجل من رجل، لم يطأ لنا فراشاولم يفتش لنا كنفا منذ اتيناه. فلما طال ذلك عليه ذكرللنبى صلى الله عليه وسلم فقال:القنى به فلقيته بعد، فقال: كيف تصوم؟ قال: كل يوم. قال: كيف تختم؟ . قال: كل ليلة، قال: صم كل شهر ثلاثة، واقرأ القرآن فى كل شهر قال: قلت: انى أطيق أكثر من ذلك،قال : صم ثلاثة أيام فى الجمعة قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: أفطر يومين وصم يوما قلت: أطيق أكثر من ذلك قال: صم، أفضل الصوم صوم داود: صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ فى كل سبع ليال مرة فليتنى قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنى كبرت وضعفت، فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار، والذى يقرأ يعرضه بالنهار ليكون أخف عليه بالليل، وإذا أراد أن
يتقوى أفطرأياما وأحصى وصام مثلهن كراهية أن يترك شيئا فارق عليه النبى صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: فى ثلاث وفى خمس، وأكثرهم على سبع .(/32)
وقد رواه فى الصوم، والنسائى أيضًا عن بندار عن غندر عن شعبة عن مغيرة ، والنسائى من حديث حصين ، كلاهما عن مجاهد به.
ثم روى البخارى ومسلم وأبو داود من حديث يحيى بن أبى كثير عن محمد بن عبدالرحمن مولى بنى زهرة عن أبى سلمة قال: وأحسبنى سمعت أنا من أبى سلمة عن عبدالله ابن عمرو قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: اقرأ القرآن فى شهر قلت: إنى أجد قوة، قال: فاقرأه فى سبع ولا تزد على ذلك فهذا السياق ظاهره يقتضى المنع من قراءة القرآن فى أقل من سبع، وهكذا الحديث الذى رواه أبو عبيد : ثنا حجاج وعمر بن طارق ويحيى بن بكير كلهم عن ابن لهيعة عن حبان بن واسع عن أبيه عن قيس بن أبى صعصعة أنه قال للنبى صلى الله عليه وسلم يا رسول الله فى كم اقرأ القرآن؟ قال: فى كل خمس عشرة قال: إنى أجدنى أقوى من ذلك، قال: ففى كل جمعة .
وحدثنا حجاج عن شعبة عن محمد بن ذكوان رجل من أهل الكوفة قال: سمعت عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود يقول: كان عبدالله بن مسعود يقرأ القرآن فى غير رمضان من الجمعة إلى الجمعة. وعن حجاج عن شعبة عن أيوب، سمعت أبا قلابة عن أبى المهلب قال: كان أبى بن كعب يختم القرآن فى كل ثمان، وكان تميم الدارى يختمه فى كل سبع، وحدثنا هشيم عن الأعمش عن ابراهيم قال: كان الأسود يختم القرآن فى كل ست، وكان علقمة يختمه فى كل خمس، فلو تركنا ومجرد هذا لكان الأمرفى ذلك جليا، ولكن دلت أحاديث أخر على جواز قراءته فيما دون ذلك، كما رواه الإمام أحمد فى مسنده: حدثنا حسن ، ثنا ابن لهيعة ، حدثنا حبان بن واسع عن أبيه عن سعد بن المنذر الأنصارى أنه قال: يا رسول الله اقرأ القرآن فى ثلاث؟ قال: نعم قال: فكان يقرؤه حتى توفى وهذا إسناد جيد قوى حسن، فإن حسن بن موسى الأشيب ثقة متفق على جلالته، روى له الجماعة، وابن لهيعة إنما يخشى من تدليسه أوسوء حفظه، وقد صرح ههنا بالسماع، وهو من أئمة العلماء بالديار المصرية فى زمانه، وشيخه حبان بن واسع بن حبان وأبوه، كلاهما من رجال مسلم والصحابى لم يخرج له أحد من أهل الكتب الستة، وهذا على شرط كثير منهم، والله أعلم.
وقد رواه أبو عبيد رحمه الله عن ابن بكير عن ابن لهيعة عن حبان واسع عن أبيه عن سعد بن المنذرالأنصارى أنه قال: يا رسول الله أقرأ فى ثلاث؟ قال: نعم إن استطعت قال: فكان يقرؤه كذلك حتى توفى .
(حديث آخر)- قال أبو عبيد : ثنا يزيد عن همام عن قتادة عن يزيد بن عبدالله بن الشخير عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث وهكذا أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة من حديث قتادة به، وقال الترمذى : حسن صحيح.
(حديث آخر)- قال أبو عبيد : ثنا يوسف بن العرق عن الطيب ابن سليمان قال: حدثتنا عمرة بنت عبدالرحمن أنهاسمعت عائشة تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لايختم القرآن فى أقل من ثلاث . هذا حديث غريب جدًا وفيه ضعف، فإن الطيب بن سليمان هذا بصرى ضعفه الدارقطنى وليس هو بذاك المشهور، والله أعلم.
وقد كره غير واحد من السلف قراءة القرآن فى أقل من ثلاث، كماهو مذهب أبى عبيد وإسحاق بن راهويه وغيرهما من الخلف أيضًا.
قال أبوعبيد : ثنا يزيد عن هشام بن حسان عن حفصة بن أبى العالية عن معاذ بن جبل أنه كان يكره أن يقرأ القرآن فى أقل من ثلاث ، صحيح.
وحدثنا يزيد عن سفيان عن على بن بذيمة عن أبى عبيدة قال عبدالله : من قرأ القرآن فى أقل من ثلاث فهو راجز. وحدثنا حجاج عن شعبة عن على بن بذيمة عن أبى عبيدة عن عبدال له مثله، وحدثنا حجاج عن شعبة عن محمد بن ذكوان عن عبدالله بن مسعود عن أبيه أنه كان يقرأ القرآن فى رمضان فى ثلاث . إسناد صحيح.
فصل
وقد ترخص جماعات من السلف فى تلاوة القرآن فى أقل من ذلك،منهم أمير المؤمنين عثمان رضى الله عنه قال أبو عبيد رحمه الله: حدثنا حجاج عن ابن جريج ، أخبرنى ابن خصيفة عن السائب بن يزيد أن رجلا سأل عبد الرحمن بن عثمان التيمى عن صلاة طلحة بن عبيد الله فقال: إن شئت أخبرتك عن صلاة عثمان رضى الله عنه، فقال: نعم، قال: قلت لأغلبن الليلة على الحجرفقمت، فلما قمت إذا أنا برجل مقنع يزحمنى، فنظرت فإذا عثمان بن عفان رضى الله عنه، فتأخرت عنه فصلى، فإذا هو يسجد سجود القرآن حتى إذا قلت: هذه هوادى الفجرأوتر بركعة لم يصل غيرها . وهذا إسناد صحيح.
ثم قال: ثنا هشيم ، أنا منصور عن ابن سيرين قال: قالت نائلة بنت الفرافصة الكلبية حين دخلوا على عثمان ليقتلوه: إن تقتلوه أو تدعوه فقد كان يحيى الليل كله بركعة يجمع فيها القرآن . وهذا حسن.
وقال أيضًا: حدثنا أبو معاوية عاصم بن سليمان عن ابن سيرين أن تميما الدارى قرأ القرآن فى ركعة. حدثنا حجاج عن شعبة عن حماد عن سعيد بن جبير أنه قال: قرأت القرآن فى ركعة. حدثنا حجاج عن شعبة عن حماد عن سعيد بن جبير أنه قال: قرأت القرآن فى ركعة فى البيت، يعنى الكعبة .(/33)
وحدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن علقمة أنه قرأ القرآن فى ليلة، طاف بالبيت أسبوعًا، ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بالمئين، ثم طاف أسبوعًا ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بالمثانى، ثم طاف بالبيت أسبوعًا ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بقية القرآن وهذه كلها أسانيد صحيحة.
ومن أغرب ما ههنا ما رواه أبو عبيد رحمه الله، حدثنا سعيد بن غفير عن بكر عن مضر أن سليم بن عترالتجيبى كان يقرأ القرآن فى ليلة ثلاث مرات، ويجامع ثلاث مرات، قال: فلما مات قالت امرأته: رحمك الله إن كنت لترضى ربك وترضى أهلك، قالوا: وكيف ذلك؟ قالت: كان يقوم من الليل فيختم بالقرآن، ثم يلم بأهله ثم يغتسل ويعود فيقرأ حتى يختم، ثم يلم بأهله، ثم يغتسل ويعود فيقرأحتى يختم، ثم يلم بأهله، ثم يغتسل ويخرج إلى صلاة الصبح.
(قلت): كان سليم بن عتر تابعيا جليلا ثقة نبيلا وكان قاضيا بمصر أيام معاوية وقاصها، قال أبو حاتم : روى عن أبى الدرداء وعنه ابن زحر ، ثم قال: حدثنى محمد بن عون عن أبى صالح كاتب الليث ، حدثنى حرملة بن عمران عن كعب بن علقمة قال: كان سليم بن عتر من خير التابعين وذكره ابن يونس فى تاريخ مصر- وقد روى ابن أبى داود عن مجاهد أنه كان يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء، وعن منصور قال: كان على الأزدى يختم فيما بين المغرب والعشاء كل ليلة من رمضان، وعن إبراهيم بن سعد قال: كان أبى يحتبى فما يحل حبوته حتى يختم القرآن.
قلت: وروى عن منصور بن زاذان أنه كان يختم فيما بين الظهر والعصر، ويختم أخرى فيما بين المغرب والعشاء، وكانوا يؤخرونها قليلا، وعن الإمام الشافعى رحمه الله أنه كان يختم فى اليوم والليلة من شهررمضان ختمتين وفى غيره ختمة. وعن أبى عبدالله البخارى صاحب الصحيح أنه كان يختم فى الليلة ويومها من رمضان ختمة.
ومن غريب هذا وبديعه ما ذكره الشيخ أبو عبدالرحمن السلمى الصوفى قال سمعت الشيخ أبا عثمان المغربى يقول: كان ابن الكاتب يختم بالنهار أربع ختمات، وبالليل أربع ختمات، وهذا نادر جدا، فهذا وأمثاله من الصحيح عن السلف محمول. إما على أنه ما بلغهم فى ذلك حديث مما تقدم، أو أنهم كانوا يفهمون ويتفكرون فيما يقرءونه مع هذه السرعة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال الشيخ أبو زكريا النواوى فى كتابه البيان بعد ذكر طرف مما تقدم، والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص فمن كان له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل له كمال فهم ما يقرؤه وكذا من كان مشغولا بنشر العلم وغيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له، وإن لم يكن من هؤلاء فليستكثر ما أمكنه من غيرخروج إلى حد الملل والهذرمة. ثم قال البخاري رحمه الله:
البكاء عند قراءة القرآن
وأورد فيه من رواية الأعمش عن إبراهيم (عن) عبيدة عن عبدالله هو ابن مسعود - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي قلت: اقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إنى أشتهى أن أسمعه من غيري قال:فقرأت النساء حتى إذا بلغت فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال لى: كف أو أمسك فإذا عيناه تذرفان ، وهذا من المتفق عليه كما تقدم، وكما سيأتى إن شاء الله.
من راءى بقراءة القران أو تأكل به أوفخر به
حدثنا محمد بن كثير ، أنا سفيان ، ثنا الأعمش عن خيثمة عن سويد بن غفلة ، عن على رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
يأتى فى آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خيرقول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لايجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة .
وقد روى فى موضعين آخرين، و مسلم وأبو داود والنسائى من طرق عن الأعمش به.
حدثنا عبدالله بن يوسف ، ثنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمدابن إبراهيم بن الحارث التيمى عن أبى سلمة بن عبدالرحمن ، عن أبى سعيد الخدرى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم وعملكم مع عملهم، ويقرءون القرآن لايجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر فى النصل فلا يرى شيئًا، وينظر فى القدح فلا يرى شيئًا، وينظر فى الريش فلا يرى شيئًا، ويتمارى فى الفوق . ورواه فى موضع آخر ومسلم أيضًا والنسائى من طرق عن الزهرى عن أبى سلمة به، وابن ماجة من رواية محمد بن عمرو بن علقمة عن أبى سلمة به.
حدثنا مسدد بن مسرهد ، حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك عن أبى موسى رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:(/34)
المؤمن الذى يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب، والمؤمن الذى لايقرأ القرآن ويعمل به، كالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذى يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذى لا يقرأ القرآن كالحنظلة طعمها مر أو خبيث- وريحها مر .
ورواه فى موضع آخرمع بقية الجماعة من طرق عن قتادة به
ومضمون هذه الأحاديث التحذير من المراءاة بتلاوة القرآن التى هى من أعظم القرب، كما جاء فى الحديث واعلم أنك لن تتقرب إلى الله بأعظم مماخرج منه يعنى القرآن. والمذكورون فى حديث على وأبى سعيد هم الخوارج وهم الذين يجاوز إيمانهم حناجرهم، وقد قال فى الرواية الأخرى يحقرأحدكم قراءته مع قراءتهم، وصلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم . ومع هذا أمر بقتلهم لأنهم مراءون فى أعمالهم فى نفس الأمر وإن كان بعضهم قد لايقصد ذلك إلا أنهم أسسوا أعمالهم على اعتقاد غير صالح، فكانوا فى ذلك كالمذمومين فى قوله أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين وقد اختلف العلماء فى تكفير الخوارج وتفسيقهم ورد رواياتهم، كما سيأتى تفصيله فى موضعه إن شاء الله تعالى.
والمنافق المشبه بالريحانة التى لها ريح ظاهر وطعمها مر هو المرائى بتلاوته، كما قال تعالى إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ثم قال البخارى :
اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم
حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضيل عارم ثنا حماد بن زيد عن أبى عمران الجونى عن جندب بن عبدالله رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: اقرءوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه .
حدثنا عمرو بن على بن بحر الفلاس ثنا عبد الرحمن بن مهدى ثنا سلام بن أبى مطيع عن أبى عمران الجونى عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا .
تابعه الحارث بن عبيد و سعيد بن زيد عن أبى عمران ولم يرفعه حماد بن سلمة وأبان. وقال غندر عن شعبة عن أبى عمران قال: سمعت جندبا قوله وقال ابن عون عن أبى عمران عن عبدالله بن الصامت عن عمر قوله، و جندب أكثر وأصح.
وقد رواه فى مواضع أخر و مسلم كلاهما عن إسحق بن منصور عن عبدالصمد عن همام عن أبى عمران به، و مسلم أيضاً عن يحيى بن يحيى عن الحارث ابن عبيد أبى قدامة عن أبى عمران ورواه مسلم أيضا عن أحمد بن سعيد بن حبان بن هلال عن أبان العطار عن أبى عمران به مرفوعا، وقد حكى البخارى أن أباناً و حماد بن سلمة لم يرفعاه، فالله أعلم، ورواه النسائى و الطبرانى من حديث مسلم بن ابراهيم عن هارون بن موسى الأعور النحوى عن أبى عمران به. ورواه النسائى أيضاً من طرق عن سفيان عن الحجاج بن قرافصة عن أبى عمران به مرفوعا، وفى رواية عن هارون ابن زيد بن أبى الزرقاء عن أبيه عن سفيان عن حجاج عن أبى عمران عن جندب موقوفا. ورواه عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم عن إسحق ابن الأزرق عن عبدالله بن عون عن أبى عمران عن عبدالله بن الصامت عن عمر قوله، قال أبوبكر بن أبى داود لم يخطىء ابن عون فى حديث قط إلا فى هذا، والصواب عن جندب . ورواه الطبرانى عن على بن عبدالعزيز عن مسلم بن إبراهيم و سعيد بن منصور قالا: ثنا الحارث بن عبيد عن أبى عمران عن جندب مرفوعا. فهذا ما تيسر من ذكرطرق هذا الحديث على سبيل الاختصار. والصحيح منها ما أرشد إليه شيخ هذه الصناعة أبو عبدالله البخارى من الاكثر والأصح أنه عن جندب بن عبدالله مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومعنى الحديث أنه عليه السلام أرشد وحض أمته على تلاوة القرآن إذا كانت القلوب مجتمعة على تلاوته متفكرة متدبرة له لا فى حال شغلها وملالها، فإنه لايحصل المقصود من التلاوة بذلك، كما ثبت فى الحديث أنه قال عليه السلام: اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا وقال: أحب الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه- وفى اللفظ الآخر- أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل .
ثم قال البخارى : ثنا سليمان بن حرب ثنا شعبة عن عبدالملك ابن ميسرة عن النزال بن سبرة عن عبدالله هو ابن مسعود أنه سمع رجلا يقرأ آية سمع من النبى صلى الله عليه وسلم خلافها، فأخذت بيده فانطلقت إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: كلاكما محسن فاقرآ أكبر علمى قال فإن من قبلكم اختلفوا فيه فأهلكهم الله عزوجل .
وأخرجه النسائى من رواية شعبة به. وهذا فى معنى الحديث الذى تقدمه، وأنه ينهى عن الاختلاف فى القراءة والمنازعة فى ذلك والمراء فيه، كما تقدم فى النهى عن ذلك، والله أعلم.(/35)
وقريب من هذا ما رواه عبدالله بن الإمام أحمد فى مسند أبيه، ثنا أبو محمد سعيد بن محمد الجرمى ثنا يحيى بن سعيد الأموى عن الأعمش عن عاصم عن زر بن حبيش قال: قال عبدالله بن مسعود : تمارينا فى سورة من القرآن فقلنا: خمس وثلاثون آية، ست وثلاثون اية، قال: فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدنا عليا يناجيه، فقلنا له: اختلفنا فى القراءة فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال على: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرءوا كما علمتم . وهذا آخر ما أورده البخارى رحمه الله فى كتاب فضائل القرآن، ولله الحمد والمنة.
كتاب الجامع لأحاديث شتى
تتعلق بتلاوة القرآن وفضائله وفضل أهله
(فصل)- قال أحمد : ثنا معاوية بن هشام ، ثنا هشام ، ثنا شيبان عن فراس عن عطية عن أبى سعيد قال: قال نبى الله صلى الله عليه وسلم: يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة: اقرأ وارق واصعد، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شىء معه .
وقال أحمد : ثنا أبو عبدالرحمن ، حدثنا حيوة ، حدثنى بشير بن أبى عمرو الخولانى أن الوليد بن قيس التجيبنى حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدرى يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكون خلف من بعد الستين سنة، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرءون القرآن لايعدو تراقيهم ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن ومنافق وفاجر .
قال بشير : فقلت للوليد : ما هؤلاء الثلاثة؟ قال: المنافق كافر به، والفاجر يتأكل به، والمومن يومن به.
وقال أحمد : ثنا حجاج ، ثنا ليث ، حدثنى يزيد بن أبى حبيب عن أبى الخير عن أبى الخطاب عن أبى سعيد أنه قال: أن رسول الله عام تبوك خطب الناس وهو مسند ظهره إلى نخلة، فقال:
ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس؟ إن خير الناس رجل عمل فى سبيل الله على ظهرفرسه أو على ظهر بعيره أو على قدميه حتى يأتيه الموت، وإن من شر الناس رجلاً فاجرا يقرأ كتاب الله لا يرعوى إلىشىء منه .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : ثنا محمد بن عمر بن هياج الكوفى ، ثنا الحسين بن عبد الأعلى ، ثنا محمد بن الحسن الهمدانى عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شغله قراءة القرآن عن دعائى أعطيته أفضل ثواب الشا كرين .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه .
ثم قال: تفرد به محمد بن الحسن ولم يتابع عليه.
وقال الإمام أحمد : ثنا أبو عبيدة الحداد ، حدثنى عبد الرحمن ابن بديل ابن ميسرة ، حدثنى أبى عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لله اهلين من الناس قيل: من هم يا رسول الله قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته
وقال أبو القاسم الطبرانى : ثنا محمد بن على بن شعيب السمسار ، ثنا خالد بن خداش ، ثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس بن مالك رضى الله عنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله وولده فدعا لهم. وقال الحافظ أبو القاسم الطبرانى : ثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل ، ثنا محمد بن عباد المكى ، ثنا حاتم بن اسماعيل عن شريك عن الأعمش عن يزيد بن أبان عن الحسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القرآن غنى لا فقر بعده ولاغنى بدونه
وقال الحافظ أبو بكر البزار : ثنا سلمة بن شبيب ، ثنا عبدالرزاق ، ثنا عبدالله بن المحرر عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكل شىء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن ابن المحرر ضعيف.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن : ثنا ابن لهيعة ، ثنا بكر بن سوادة عن وفاء الخولانى عن أنس بن مالك قال: بينما نحن (نقرأ) فينا العربى والعجمى والأسود والأبيض إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم فى خير تقرءون كتاب الله وفيكم رسول الله، وسيأتى على الناس زمان يثقفونه كما يثقف القدح يتعجلون اجورهم ولا يتأجلونها
وقال الحافظ أبو بكر البزار : ثنا يوسف بن موسى ، ثنا عبدالله بن الجهم ، ثنا عمرو بن أبى قيس عن عبد ربه بن عبدالله عن عمر بن نبهان عن الحسن عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: أن البيت الذى يقرأ فيه القرآن يكثر خيره، والبيت الذى لايقرأ فيه القرآن يقل خيره
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا الفضل بن الصبح ، حدثنا أبو عبيدة ، حدثنى يزيد الرقاشى عن أنس قال: قعد أبو موسى فى بيت واجتمع إليه ناس فأنشأ يقرأ عليهم القرآن قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله ألا أعجبك من أبى موسى أنه قعد فى بيت واجتمع إليه ناس، فأنشأ فقرأ عليهم القرآن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أتستطيع أن تقعدنى حيث لا يرانى منهم أحد؟ قال نعم قال: فخرج رسول صلى الله عليه وسلم فأقعده الرجل حيث لا يراه منهم أحد، فسمع قراءة أبى موسى فقال: إنه ليقرأ على مزمار من مزامير داود عليه السلام .(/36)
وقال الإمام أحمد : حدثنا مصعب بن سلام ، ثنا جعفر هو ابن محمد ابن على بن الحسين عن أبيه عن جابر بن عبدالله قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هوأهله، ثم قال: أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأن أفضل الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، ثم يرفع صوته وتحمر وجنتاه ويشتد غضبه إذا ذكر الساعة كانه منذر جيش قال: ثم يقول أتتكم الساعة، بعثت أنا والساعة هكذا - وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى- صبحتكم الساعة ومستكم، من ترك مالاً لأهله ومن ترك دينًا أو ضياعًا فإلى وعلي
وقال الإمام أحمد : ثنا عبدالوهاب - يعنى ابن عطاء - أنا أسامة ابن زيد الليثى عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، فإذا قوم يقرءون القرآن قال:اقرأوا القرآن وابتغوا به الله عز وجل من قبل أن يأتى قوم يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه
وقال أحمد أيضًا: ثنا خلف بن الوليد ، ثنا خالد عن حميد الأعرج عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا العجمى والأعرابى قال فاستمع، قال: فقال:
اقرأوا فكل حسن، وسيأتى قوم يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه .
وقال أبو بكر البزار : ثنا أبو كريب محمد بن العلاء ، ثنا عبدالله بن الأجلح عن الأعمش عن المعلى الكندى ، عن عبدالله بن مسعود قال: إن هذا القرآن شافع مشفع من اتبعه قاده إلى الجنة، ومن تركه أو أعرض عنه - أو كلمة نحوها-؟دح فى قفاه إلى النار. وحدثنا أبو كريب ، ثنا عبدالله بن الأجلح عن الأعمش عن أبى سفيان عن جابر عن عبدالله عن النبى صلى الله عليه وسلم نحوه.
وقال الحافظ أبو يعلى : ثنا أحمد بن عبدالعزيز بن مروان أبو صخر ، حدثنى بكير عن يونس عن موسى بن على عن أبيه، عن يحيى بن أبى كثير اليمامى ، عن جابر عن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ ألف آية كتب له قنطارًا، والقنطار مائة رطل والرطل ثنتا عشرة أوقية، والأوقية ستة دنانير، والدينار أربعة وعشرون قيراطًا، والقيراط مثل أحد، ومن قرأ ثلاثمائة قال الله لملائكته: نصب عبدى كى أشهدكم يا ملائكتى أنى قد غفرت له، ومن بلغه عن الله فضيلة فعمل بها إيمانًا به ورجاء ثوابه أعطاه الله ذلك، وإن لم يكن ذلك كذلك .
وقال أحمد : ثنا جرير عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل الذى ليس فى جوفه شىء من القرأن كالبيت الخرب .
قال البزار : لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا من هذا الوجه.
وقال الطبرانى : ثنا محمد بن عثمان بن أبى شيبة ، حدثنى أبى قال: وجدت فى كتاب أبى بخطه عن عمران بن أبى عمران عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة، ووقاه سوء الحساب يوم القيامة ، وذلك أن الله عزوجل يقول، فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى وقال الطبرانى : ثنا ( عثمان بن يحيى بن صالح ) ، ثنا أبى ثنا ابن لهيعة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أحسن الناس قراءة من قرأ القرآن يتحزن به وقال أيضًا: حدثنى أبو زيد القراطيسى ، ثنا نعيم بن حماد ، ثنا ( عبدة ابن سليمان ) عن سعيد أبى سعد البقال ، عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحسنوا الأصوات بالقرآن وروى أيضًا بسنده إلى الضحاك عن ابن عباس مرفوعًا أشراف أمتى حملة القرآن .
وقال الطبرانى : ثنا معاذ بن المثنى ، ثنا ( ابراهيم بن أبى سويد الذارع ) ثنا صالح المرى عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن ابن عباس قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أى الأعمال أحب إلى الله؟ فقال: الحال المرتحل قال: يارسول الله ما الحال المرتحل؟ قال:صاحب القرآن يضرب فى أوله حتى يبلغ آخره، وفى آخره حتى يبلغ أوله .
ذكر الدعاء المأثور لتحفيظ القرآن وطرد النسيان(/37)
قال أبو القاسم الطبرانى فى معجمه الكبير: ثنا الحسين بن إسحاق التسنترى ثنا هشام بن عمار ثنا محمد بن إبراهيم القرشى حدثنى أبو صالح و عكرمة عن ابن عباس قال: قال على بن أبى طالب : يا رسول الله القرآن يتفلت من صدرى، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: أعلمك كلمات ينفعك الله بهن وينفع من علمته قال: نعم بأبى أنت وأمى قال صل ليلة الجمعة أربع ركعات تقرأ فى الركعة الأولى بفاتحة الكتاب ويس، وفى الثانية بفاتحة الكتاب وبحم الدخان. وفى الثالثة بفاتحة الكتاب (وآلم) تنزيل السجدة، وفى الرابعة بفاتحة الكتاب وتبارك المفصل، قإذا فرغت من التشهد، فاحمد الله واثن عليه وصل على النبيين واستغفر للمؤمنين، ثم قل اللهم ارحمنى بترك المعاصى أبدا ما أبقيتنى، وارحمنى من أن أتكلف ما لا يعنينى، وارزقنى حسن النظر فيما يرضيك عنى ، اللهم بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام، والعزة التى لا ترام، أسألك يا الله يا رحمن بجلالك ونور وجهك أن تلزم قلبى حب كتابك كما علمتنى وارزقنى أن أتلوه على النحو الذى يرضيك عنى وأسألك أن تنور بالكتاب بصرى، وتطلق به لسانى، وتفرج به عن قلبى، وتشرح به صدرى، وتستعمل به بدنى، وتقوينى على ذلك وتعيننى عليه، فإنه لايعيننى على الخيرغيرك، ولا موفق له إلا أنت، فافعل ذلك ثلاث جمع أو خمسا أو سبعا تحفظه بإذن الله وما اخطأ مؤمنا قط . فأتى النبى صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بسبع جمع فأخبره بحفظ القرآن والحديث، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: مؤمن ورب الكعبة، علم أبا الحسن علم أبا الحسن . هذا سياق الطبرانى.
وقال أبوعيسى الترمذى فى كتاب الدعوات من جامعه، حدثنا احمد ابن الحسن ثنا سليمان بن عبدالرحمن الدمشقى ثنا الوليد بن مسلم ثنا ابن جريج عن عطاء بن أبى رباح و عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه على بن أبى طالب فقال: بأبى أنت وأمى، تفلت هذا القرآن من صدرى فما أجدنى أقدر عليه؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الحسن، أفلا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن وتنفع بهن من علمته ويثبت ما تعلمت فى صدرك قال: أجل يا رسول الله فعلمنى قال- إذا كانت ليلة الجمعة فإن استطعت أن تقوم فى ثلث الليل الآخر فإنها ساعة مشهودة والدعاء فيها مستجاب وقال أخى يعقوب لبنيه، سوف أستغفر لكم ربي يقول حتى تأتى ليلة الجمعة، فإن لم تستطع فقم فى وسطها، فإن لم تستطع فقم فى أولها فصل أربع ركعات تقرأ فى الأولى بفاتحة الكتاب وسورة يس، وفى الركعة الثانية بفاتحة الكتاب وحم الدخان، وفى الركعة الثالثة بفاتحة الكتاب وألم تنزيل السجدة، وفى الركعة الرابعة بفاتحة الكتاب وتبارك المفصل، فإذا فرغت من التشهد فاحمد الله وأحسن الثناء على الله، وصل على وأحسن وعلى سائر النبيين، واستغفر للمؤمنين والمؤمنات ولاخوانك الذين سبقوك بالإيمان، ثم قل فى آخر ذلك: اللهم ارحمنى بترك المعاصى أبدا ما أبقيتنى، وارحمنى أن أتكلف ما لايعنينى، وارزقنى حسن النظر فيما يرضيك عنى، اللهم بديع السماوات والأرض ذا الجلال والاكرام، والعزة التى لاترام، أسألك يا الله يا رحمان بجلالك ونور وجهك أن تلزم قلبى حفظ كتابك كما علمتنى، وارزقنى أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عنى. اللهم بديع السموات والأرض ذا الجلال والإكرام والعزة التى لا ترام أسألك يا الله يا رحمان بجلالك ونور وجهك أن تنور بكتابك بصرى، وأن تطلق به لسانى، وأن تفرج به عن قلبى، وأن تشرح به صدرى، وأن تغسل به بدنى، فإنه لايعيننى على الخير غيرك ولا يؤتيه الا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، يا أبا الحسن تفعل ذلك ثلاث جمع أو خمسا أو سبعا تجاب بإذن الله، والذى بعثنى بالحق ما أخطأ مؤمنا قط . قال ابن عباس : فوالله ما لبث على إلا خمسا أو سبعا حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك المجلس فقال: يا رسول الله والله إنى كنت فيما خلا لا آخذ إلا أربع آيات أو نحوهن: فإذا قرأتهن على نفسى تفلتن وأنا أتعلم اليوم أربعين آية أو نحوها فإذا قرأتها على نفسى فكأنما كتاب الله بين عينى، ولقد كنت أسمع الحديث فإذا قرأته تفلت، وأنا اليوم أسمع الأحاديث فإذا تحدثت بها لم أحزم منها حرفا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: مؤمن ورب الكعبة أبا الحسن ثم قال الترمذى : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد ابن مسلم كذا قال، وقد تقدم من غير طريق. ورواه الحاكم فى مستدركه من طريق الوليد ثم قال: على شرط الشيخين، ولاشك، أن سنده من الوليد على شرط الشيخين حيث صرح الوليد بالسماع من ابن جريج فالله أعلم فإنه من البين غرابته بل نكارته والله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع : ثنا العمرى عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل القرآن مثل الإبل المعقلة إن تعاهدها صاحبها أمسكها، وإن تركها ذهبت .(/38)
ورواه أيضا عن محمد بن عبيد و يحيى بن سعيد عن عبدالله العمر به ورواه أيضا عن عبدالرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر مرفوعا بنحوه.
وقال البزار : ثنا محمد بن معمر ثنا حميد بن حماد بن أبى الخوار ثنا مسعر عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر قال: سئل رسول الله: أى الناس أحسن قراءة قال: من إذا سمعته يقرأ رؤيت أنه يخشى الله عز وجل .
قال الإمام أحمد : ثنا عبدالرحمن عن سفيان عن عاصم عن زر عن عبدالله بن عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها .
وقال أحمد : ثنا حسن ثنا ابن لهيعة حدثنى حيى بن عبدالله . عن أبى عبدالرحمن عن عبدالله بن عمرو قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنى أقرأ القرآن فلا أجد قلبى يعقل عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إن قلبك حشى الإيمان وإن العبد يعطى الإيمان قبل القرآن .
وبهذا الإسناد أن رجلا جاء بابن له فقال: يا رسول الله إن ابنى يقرأ المصحف بالنهار، ويبيت بالليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تنقم إن ابنك يظل ذاكرا ويبيت سالما .
وقال أحمد : ثنا موسى بن داود ثنا ابن لهيعة عن حيى عن أبى عبدالرحمن عن عبدالله بن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أى رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعنى فيه ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعنى فيه قال فيشفعان .
وقال أحمد : ثنا حسن ثنا ابن لهيعة عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أكثر منافقى أمتى قراؤها .
وقال أحمد : ثنا وكيع حدثنى همام عن قتادة عن يزيد بن عبدالله ابن الشخير عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ القرآن فى أقل من ثلاث لم يفقهه ورواه أيضا عن غندر عن شعبة عن قتادة به، وقال الترمذى : حسن صحيح.
وقال أبو القاسم الطبرانى : ثنا محمد بن إسحاق بن راهويه ثنا أبى ثنا عيسى بن يونس و يحيى بن أبى حجاج التميمى عن اسماعيل بن رافع عن اسماعيل بن عبدالله بن أبى المهاجر عن عبدالله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ القرآن فكأنما استدرجت النبوة بين جنبيه غير أنه لايوحى إليه. ومن قرأ القرآن فرأى أن أحدا أعطى أفضل مما أعطى، فقد عظم ما صغرالله وصغرما عظم الله، وليس ينبغى لحامل القرآن أن يسفه فيمن يسفه أو يغضب فيمن يغضب، أو يحتد فيمن يحتد، ولكن يعفو ويصفح لفضل القرآن .
وقال الإمام أحمد : ثنا أبو سعيد مولى بنى هاشم م ثنا عباد بن ميسرة عن الحسن عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة .
وقال البزار : حدثنا محمد بن حرب ثنا يحيى بن المتوكل ثنا عنبسة بن مهران عن الزهرى عن شعبة و أبى سلمة عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: مراء فى القرآن كفر . ثم قال: عنبسة هذا ليس بالقوى. وعنده فيه إسناد آخر.
وقال الحافظ أبو يعلى : ثنا أبو بكر بن أبى إدريس ثنا المقبرى عن جده عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعربوا القرآن والتمسواغرائبه
وقال الطبرانى : ثنا موسى بن خازم الأصبهانى ثنا محمد بن بكير الحضرمى ثنا اسماعيل بن عياش عن يحيى بن الحارث الذمارى عن القاسم أبى عبد الرحمن عن فضالة بن عبيد و تميم الدارى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ عشر آيات فى ليلة، كتب له قنطار، والقنطار خير من الدنيا وما فيها، فإذا كان يوم القيامة يقول ربك عز وجل: اقرأ وارق بكل آية درجة حتى ينتهى إلى آخر آية معه، يقول ربك اقبض، فيقول العبد بيده يارب أنت أعلم، (فيقول) بهذه الخلد وبهذه النعيم .
آخر فضائل القرآن للحافظ العلامة الرحلة الجهبذ مفيد الطالبين الشيخ عماد الدين إسماعيل الشهير بابن كثير كثر الله فوائده.
تم بحمد الله.(/39)
فضائل سور القرآن
الحمد لله رب العالمين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، عليه من ربه أفضل صلاة وأزكى سلام . . وبعد :
فهذه باقة عطرة من فضائل القرآن ، وفضائل الأقوال ، أسأل الله العلي القدير أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه .
فضائل بعض سور وآيات القرآن الكريم :
[1] سورة الفاتحة :
روى القرطبي في تفسيره قال : عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
[ ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وهي مقسومة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ] ( حسن ) .
عن أبي سعيد بن المعلى قال : [ كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ، فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي ، فقال : (( ألم يقل الله { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } ( الأنفال24 ) ، ثم قال : إني لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد )) ثم أخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج قلت له : ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ قال : "الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ] ( البخاري ) .
وروى بن كثير في تفسيره قال : عن بن عباس قال : [ بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضاً فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال : هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط ، قال : فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك ، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لم تقرأ حرفاً منه إلا أوتيته ] ( مسلم والنسائي ) .
[2] سورة البقرة :
روى القرطبي في جامعه قال : عن أبي أمامة الباهلي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة ، وتركها حسرة ، ولا يستطيعها البطلة ] ( مسلم ) . والبطلة أي السحرة .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اله صلى الله عليه وسلم قال : [ لا تجعلوا بيوتكم مقابر لأن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ] ( مسلم والترمذي والنسائي ) .
عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ (( يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم ))؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : (( يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم )) ؟ قال قلت : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } فضرب في صدري وقال : (( ليهنك العلم يا أبا المنذر )) ] (مسلم ) .
عن أبي هريرة قال : وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان ، وذكر قصة وفيها : فقلت يا رسول الله ، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله ، قال : (( ما هي )) ؟ قلت قال لي : إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } . وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، وكانوا أحرص شيء على الخير . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أما إنه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة )) ؟ قال : لا ، قال : ذاك شيطان ] ( البخاري ) .
وعن أبي مسعود رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ] ( مسلم ) . وتبدأ الآية بقوله تعالى : { آمن الرسول بما انزل إليه من ربه . . . } إلى آخر السورة .
ومعنى كفتاه : أي حفظتاه من كل سوء ، أو أغنتاه في الأجر عن قراءة غيرهما ، وقيل كفتاه من قيام الليل .
وعن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } ( البقرة 163 ) ، { الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ( آل عمران 1 ) ( الترمذي وأبو داود وابن ماجة وهو حسن ) .
[3] سورة آل عمران :
عن النواس بن سمعان الكلابي قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : [ يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران ـ وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد ، قال: كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما ] ( مسلم ) .
وعن أبي أمامة الباهلي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ، اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران ] ( مسلم ) .
[4] سورة الكهف :
عن أبي الدرداء رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من الدجال ] وفي رواية : [ من أخر الكهف ] ( مسلم ) .
[5] سورة تبارك :(/1)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ من القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له ، وهي : { تبارك الذي بيده الملك } ]
( أبو داود والترمذي وقال حديث حسن ) .
[6] سورتا الزلزلة و الكافرون :
عن بن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ { إذا زلزلت } تعدل نصف القرآن ، و { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن ، و { قل يا أيها الكافرون } تعدل ربع القرآن ] ( رواه الترمذي وقال الألباني صحيح دون فضل ( زلزلت ) ) .
[7] سورة الإخلاص :
عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن ، قالوا : وكيف يقرأ ثلث القرآن ؟ قال : { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن ] ( مسلم ) .
وعن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية ، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ { قل هو الله أحد } فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : [ سلوه لأي شيء يصنع ذلك ] فسألوه ، فقال : لأنها صفة الرحمن ، فأنا أحب أن أقرأ بها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ أخبروه أن الله يحبه ] ( مسلم ) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ : { قل هو الله أحد } يُرددها ، فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، وكان الرجل يتقالها ( يعتقد أنها قليلة ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن ] ( البخاري).
[8] سورتا المعوذتين :
عن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما : { قل هو الله أحد } و { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ بهما على رأسه ووجهه ، وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات .
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ألم تر آيات أنزلت اليوم لم يُرَ مثلهن قط : { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } ( مسلم ) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان ، وعين الإنسان ، حتى نزلت المعوذتان ، فلما نزلتا ، أخذ بهما وترك ما سواهما ] ( الترمذي وقال حديث حسن ) .
ثانياً / فضائل بعض الأقوال :
1- فضل التهليل :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب ، وكتب له مائة حسنة ، ومحيت عنه مائة سيئة ، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به ، إلا رجل عمل أكثر منه ] ( البخاري ومسلم ) .
2- فضل التسبيح :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة ، حُطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر ] ( البخاري ومسلم ) . وعنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن عزوجل " سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم " ] ( مسلم ) . وعنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ لأن أقول سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله اكبر ، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ] ( مسلم ) .
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة ؟ فسأله سائل من جلسائه : كيف يكسب أحدنا ألف حسنة ؟ قال : [ يسبح مائة تسبيحة ، فيكتب له ألف حسنة ، ويحط عنه ألف خطيئة ] ( مسلم ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : [ أحب الكلام إلى الله تعالى أربع ، لا يضرك بأيهن بدأت : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ] ( صحيح الكلم الطيب ) .
3- فضل الذكر :
سبق بيان ذلك في بداية الكتاب . ونزيد في ذلك قليلاً لمزيد الفائدة .(/2)
قال تعالى : { ولذكر الله أكبر } ( العنكبوت 45 ) ، وقال تعالى : { واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون } ( الجمعة 10 ) ، وقال تعالى : { والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً } ( الأحزاب 35 ) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ] ( متفق عليه ) . وعنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ سبق المفردون ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرين الله كثيراً والذاكرات ] ( مسلم ) . وعن عبد الله بن بشر رضي الله عنه ، أن رجلاً قال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي ، فأخبرني بشيء أتشبث به قال : [ لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ] ( الترمذي وهو حسن انظر رياض الصالحين ص405 بتحقيق الألباني رحمه الله ) .
4- فضل الاجتماع على تلاوة كتاب الله تعالى :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ . . . وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ] ( مسلم ) .
5- فضل لا حول ولا قوة إلا بالله :
قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ فقلت : بلى يا رسول الله ، قال : " قل لا حول ولا قوة إلا بالله " ] ( صحيح الكلم الطيب ) .
6- فضل الاستغفار :
عن بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ( ثلاثاً ) غفرت له ذنوبه وإن كان فاراً من الزحف ]
( رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ) .
وعن عبيد الله بن بشر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً ] ( صحيح بن ماجة 3093 )
يحيى بن موسى الزهراني(/3)
فضائل صوم ست من شوال ...
الحمد لله المتفضِّل بالنِّعم، وكاشف الضرَّاء والنِّقم، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وآله وأصحابه أنصار الدين. وبعد:
أخي المسلم: لا شك أن المسلم مطالب بالمداومة على الطاعات، والاستمرار في الحرص على تزكية النفس.
ومن أجل هذه التزكية شُرعت العبادات والطاعات، وبقدر نصيب العبد من الطاعات تكون تزكيته لنفسه، وبقدر تفريطه يكون بُعده عن التزكية.
لذا كان أهل الطاعات أرق قلوباً، وأكثر صلاحاً، وأهل المعاصي أغلظ قلوباً، وأشد فساداً.
والصوم من تلك العبادات التي تطهِّر القلوب من أدرانها، وتشفيها من أمراضها.. لذلك فإن شهر رمضان موسماً للمراجعة، وأيامه طهارة للقلوب.
وتلك فائدة عظيمة يجنيها الصائم من صومه، ليخرج من صومه بقلب جديد، وحالة أخرى.
وصيام الستة من شوال بعد رمضان، فرصة من تلك الفرص الغالية، بحيث يقف الصائم على أعتاب طاعة أخرى، بعد أن فرغ من صيام رمضان.
وقد أرشد أمته إلى فضل الست من شوال، وحثهم بأسلوب يرغِّب في صيام هذه الأيام..
قال رسول الله : { من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر } [رواه مسلم وغيره].
قال الإمام النووي رحمه الله: قال العلماء: (وإنما كان كصيام الدهر، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والستة بشهرين.. ).
ونقل الحافظ ابن رجب عن ابن المبارك: (قيل: صيامها من شوال يلتحق بصيام رمضان في الفضل، فيكون له أجر صيام الدهر فرضاً).
أخي المسلم: صيام هذه الست بعض رمضان دليل على شكر الصائم لربه تعالى على توفيقه لصيام رمضان، وزيادة فيالخير، كما أن صيامها دليل على حب الطاعات، ورغبة في المواصلة في طريق الصالحات.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (فأما مقابلة نعمة التوفيق لصيام شهر رمضان بارتكاب المعاصي بعده، فهو من فعل من بدل نعمة الله كفراً).
أخي المسلم: ليس للطاعات موسماً معيناً، ثم إذا انقضى هذا الموسم عاد الإنسان إلى المعاصي!
بل إن موسم الطاعات يستمر مع العبد في حياته كلها، ولا ينقضي حتى يدخل العبد قبره..
قيل لبشر الحافي رحمه الله: إن قوماً يتعبدون ويجتهدون في رمضان. فقال: (بئس القوم قوم لا يعرفون لله حقاً إلا في شهر رمضان، إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها).
فوائد صيام ست من شوال
أخي المسلم: في مواصلة الصيام بعد رمضان فوائدعديدة، يجد بركتها أولئك الصائمين لهذه الست من شوال.
وإليك هذه الفوائد أسوقها إليك من كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله:
إن صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان يستكمل بها أجر صيام الدهر كله.
إن صيام شوال وشعبان كصلاة السنن الرواتب قبل الصلاة المفروضة وبعدها، فيكمل بذلك ما حصل في الفرض من خلل ونقص، فإن الفرائض تكمل بالنوافل يوم القيامة.. وأكثر الناس في صيامه للفرض نقص وخلل، فيحتاج إلى ما يجبره من الأعمال.
إن معاودة الصيام بعد صيام رمضان علامة على قبول صوم رمضان، فإن الله تعالى إذا تقبل عمل عبد، وفقه لعمل صالح بعده، كما قال بعضهم: ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بحسنة بعدها، كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى، كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة وعدم قبولها.
إن صيام رمضان يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب، كما سبق ذكره، وأن الصائمين لرمضان يوفون أجورهم في يوم الفطر، وهو يوم الجوائز فيكون معاودة الصيام بعد الفطر شكراً لهذه النعمة، فلا نعمة أعظم من مغفرة الذنوب، كان النبي يقوم حتى تتورّم قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخّر؟! فبقول: { أفلا أكون عبداً شكورا }.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بشكر نعمة صيام رمضان بإظهار ذكره، وغير ذلك من أنواع شكره، فقال: (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185] فمن جملة شكر العبد لربه على توفيقه لصيام رمضان، وإعانته عليه، ومغفرة ذنوبه أن يصوم له شكراً عقيب ذلك.
كان بعض السلف إذا وفق لقيام ليلة من الليالي أصبح في نهارها صائماً، ويجعل صيامه شكراً للتوفيق للقيام.
وكان وهيب بن الورد يسأل عن ثواب شيء من الأعمال كالطواف ونحوه، فيقول: لا تسألوا عن ثوابه، ولكن سلوا ما الذي على من وفق لهذا العمل من الشكر، للتوفيق والإعانة عليه.
كل نعمة على العبد من الله في دين أو دنيا يحتاج إلى شكر عليها، ثم التوفيق للشكر عليها نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان، ثم التوفيق للشكر الثاني نعمة أخرى يحتاج إلى شكر آخر، وهكذا أبداً فلا يقدر العباد على القيام بشكر النعم. وحقيقة الشكر الاعتراف بالعجز عن الشكر.
إن الأعمال التي كان العبد يتقرب يها إلى ربه في شهر رمضان لا تنقطع بإنقضاء رمضان بل هي باقية بعد انقضائه ما دام العبد حياً..(/1)
كان النبي عمله ديمة.. وسئلت عائشة - رضي الله عنها -: هل كان النبي يخص يوماً من الأيام؟ فقالت: لا كان عمله ديمة. وقالت: كان النبي لا يزيد في رمضان و لا غيره على إحدى عشرة ركعة، وقد كان النبي } يقضي ما فاته من أوراده في رمضان في شوال، فترك في عام اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، ثم قضاه في شوال، فاعتكف العشر الأول منه.
فتاوى تتعلق بالست من شوال
سئل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: هل يجوز صيام ستة من شوال قبل صيام ما علينا من قضاء رمضان؟
الجواب: ( قد اختلف العلماء في ذلك، والصواب أن المشروع تقديم القضاء على صوم الست، وغيرها من صيام النفل، لقول النبي : { من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر }. [خرجه مسلم في صحيحه]. ومن قدم الست على القضاء لم يتبعها رمضان، وإنما أتبعها بعض رمضان، ولأن القضاء فرض، وصيام الست تطوع، والفرض أولى بالاهتمام ). [مجموع فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز:5/273].
وسئلت اللجنةالدائمة للإفتاء: هل صيام الأيام الستة تلزم بعد شهر رمضان عقب يوم العيد مباشرة، أو يجوز بعد العيد بعدة أيام متتالية في شهر شوال أو لا؟
الجواب: ( لا يلزمه أن يصومها بعد عيد الفطر مباشرة، بل يجوز أن يبدأ صومها بعد العيد بيوم أو أيام، وأن يصومها متتالية أو متفرقة في شهر شوال حسب ما تيسر له، والأمر في ذلك واسع، وليست فريضة بل هي سنة ). [فتاوى اللجنة الدائمة: 10/391 فتوى رقم: 3475].
وسئل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: بدأت في صيام الست من شوال، ولكنني لم أستطع إكمالها بسبب بعض الظروف والأعمال، حيث بقي عليّ منها يومان، فماذا أعمل يا سماحة الشيخ، هل أقضيها وهل عليّ إثم في ذلك؟
الجواب: ( صيام الأيام الستة من شوال عبادة مستحبة غير واجبة، فلك أجر ما صمت منها، ويرجى لك أجرها كاملة إذا كان المانع لك من إكمالها عذراً شرعياً، لقول النبي : { إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً }. [رواه البخاري في صحيحه]، وليس عليك قضاء لما تركت منها. والله الموفق ) [مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز: 5/270].
أخي المسلم: تلك بعض الفتاوى التي تتعلق بصيام الست من شوال، فعلى المسلم أن يستزيد من الأعمال الصالحة، التي تقربه من الله تعالى، والتي ينال بها العبد رضا الله تعالى..
وكما مرّ معك من كلام الحافظ ابن رجب بعض الفوائد التي يجنيها المسلم من صيام الست من شوال، والمسلم حريص على ما ينفعه في أمر دينه ودنياه..
وهذه المواسم تمرّ سريعاً، فعلى المسلم أن يغتنمها فيما يعوود عليه بالثواب الجزيل، وليسأل الله تعالى أن يوفقه لطاعته..
والله ولي من استعان به، واعتصم بدينه..
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلِّم..
المصدر: موقع كلمات(/2)
فضائل قضاءالحوائج
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين .
إن للأخوة أبواباً جليلة وواجبات كثيرة وحقوقاً عظيمة وهذا يدل على عظم منزلة الأخوة والألفة والمحبة التي تكفل الله بحفظها { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } .
هناك باب من أبواب الأخوة عظيم النفع جليل القدر كثير الأجر ، به تحفظ الأخوة ، به تدوم الألفة ، به تصدق المحبة ، و به يختبر الصديق ويمتحن في صدق محبتهِ .
فهل سمعت بقضاء الحوائج واصطناع المعروف ؟
هل سمعت بفضائلٍ في هذا الباب ؟.
هل سمعت بفوائده في الدنيا وثمراته في الآخرة ؟
هل سمعت إلى شيء من آدابه ؟..وهل سمعت أحوال السلف في ذلك ؟
إن قضاء الحوائج واصطناع المعروف باب واسع يشمل كل الأمور المعنوية والحسية التي ندب الإسلام عليها وحثَّ المؤمنين على البذل والتضحية فيها لما فيه من تقويةٍ لروابط الأخوة وتنمية للعلاقات البشرية ، قال الله سبحانه وتعالى { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ }. قال العلامة السعدي رحمه الله : أي ليعن بعضكم بعضاً على البر وهو اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الظاهرة والباطنة من حقوق الله وحقوق الآدميين .
التقوى هنا : اسم جامع لترك كل ما يكرهه الله ورسوله من الأعمال الظاهرة والباطنة ، وكل خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه ، وبمعاونة غيره من إخوانه المؤمنين بكل قول يبعث عليها وينشط لها وبكل فعل كذلك .
أيها الأخ الحبيب استمع إلى شيء أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم التي تدل ترابط المؤمنين وتعاونهم والشعور بالألفة المتبادلة بينهم قال: « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ».
وقوله صلى الله عليه وسلم: « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا أشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ».
وقوله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ». فهذه من الحقوق الإيمانية التي تجب للمؤمن على أخيه .
وقوله صلى الله عليه وسلم: « انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً » فنصرته ظالماً بردعه عن الظلم وذلك نصرة على نفسه الأمارة بالسوء ، ونصرته مظلوماً برفع الظلم عنه ، ويدل ذلك على عظم مكانة الأخوة في كلا الحالين .
أخي الحبيب اسمع معي إلى نزر يسير يشير إلى فضل قضاء حوائج الإخوان واصطناع المعروف فمن ذلك :-
- قال صلى الله عليه وسلم: « أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم ، أو يكشف عنه كربه أو يقضي عنه ديناً أو يطرد عنه جوعاً ، ولأن أمشي مع أخ في حاجه أحب إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد - مسجد المدينة - شهراً ومن كف غضبه ستر الله عورته ، ومن كتم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ، ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام .. » صححه الألباني الأحاديث الصحيحة رقم (906)
- قال أبو العتاهية :
اقض الحوائج ما استطعت وكن لهمِ أخيك فارج
فلخير أيام الفتى يوم قضى فيه الحوائج
- وفي صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من نفَّس عن مؤمن كربة نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد مادام العبد في عون أحيه .. ».
ومن فضائل قضاء الحاجات { مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا } قال صلى الله عليه وسلم: « اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب » ، قال ابن عباس: "إن لله عباداً يستريح الناس إليهم في قضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم أولئك هم الآمنون من عذاب يوم القيامة".
قال الضحاك في قوله تعالى{ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } - في قصة يوسف عليه السلام -: "كان إحسانه إذا مرض رجل بالسجن قام عليه ، وإذا ضاق عليه المكان وسع له إذا احتاج جمع سأل له".
وقيل لابن المنكدر أي الأعمال أفضل؟ قال: "إدخال السرور على المؤمن". قيل أي الدنيا أحب إليك ؟ قال: "الإفضال على الإخوان". أي التفضل عليهم والقيام بخدمتهم.
وقال وهب بن منبه: "إن أحسن الناس عيشاً من حسن عيش الناس في عيشه وإن من ألذ اللذة الإفضال على الإخوان".
فوائد قضاء الحوائج:
أخي الحبيب لقضاء الحوائج فوائد فهاك بعضاً منها :(/1)
- فمن فوائده عظم الأجر المترتب عليه كما سمعت فيما سبق و لذلك يقول ابن عباس: لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره فإنه يشكرك عليه من لم تصنعه إليه، أيضاً استمع إلى ما يقابل ذلك كان يقال: لا يزهدنك في المعروف من يسديه إليك، ولا ينبو ببصرك عنه، فإن حاجَتَك في شكره ووفائه لا منظره، وإن لم يكن أهله فكن أهله.
قال عمرو بن العاص: "في كل شيء سَرَفٌ إلا في ابتناء المكارم أو اصطناع المعروف ، أو إظهار مروءة".
ولم أر كالمعروف أما مذاقه فحلوُ وأما وجهه فجميل
- ومن فوائد قضاء الحوائج: حفظ الله لعبده في الدنيا كما في الحديث القدسي: « يابن آدم أنفق ينفق عليك » وقد قيل (صنائع المعروف تقي مصارع السوء).
قال ابن عباس: "صاحب المعروف لا يقع فإن وقع وجد متكئاً".
كان خالد القسري يقول على المنبر: "أيها الناس عليكم بالمعروف فإن فاعل المعروف لا يعدم جوازيه وما ضعف عن أدائه الناس قوي الله على جوازيه".
قال الحطيئه :
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
آداب قضاء الحوائج
اعلم أن لقضاء الحوائج واصطناع المعروف آداب كثير منها :
- الإخلاص في الأعمال وعدم المن بها قال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما- : لا يتم العمل إلا بثلاث تعجيله وتصغيره وستره فإنه إذا عجله هنَّأه وإذا صغَّره عظمه وإذا ستره تممه.
جوداً مشيت به الضراء تواضعاً وعظمت من ذكراه وهو عظيم
أخفيته فخفيته وطويتَه فنشرتُه والشخص منك عميم
وكان يقال: ستر رجل ما أََولى، ونشر رجل ما أُولي. وقالوا المنة تهدم الصنيعة.
أفسدت بالمنِّ ما أسديت من عمل
ليس الكريم إذا أسدى بمنان
قال رجل لابن شبرمه: فعلت بفلان كذا وكذا، وفعلت به كذا فقال: لا خير في المعروف إذا أحصي.
وأعلم أن من علامات الإخلاص: استواء المدح والذم من العامة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال، واقتضاء ثواب الأعمال في الآخرة.
- ومن الآداب إتمام العمل: فهل تعلم أن بعض الناس يبدأ في عمل ما ويصطنع المعروف وقد يجتهد فيه لكنه لا يتمه وأحياناً قد يقارب الانتهاء ثم يتركه وقد قال أحد السلف: رٌب المعروف أشد من ابتدائه. والمقصود به رُب العمل: تنميته تعهده. ويقال: الابتداء بالمعرف نافلة و ربه فريضة. أي إتمامه. وقد جاء في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: « إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه » ومن إتقان العمل إتمامه.
- ومن الأدب طلب الحاجة من الكريم دون اللئيم: فعندما يطلب منك أي عمل فأعلم أن الحاجة لا تطلب إلا من كريم وقد أحسن الظن بك من طلب أداء العمل واستمع إلى قول ابن عباس: ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسع لي في المجلس، ورجل اغبرت قدماه في المشي إرادة التسليم علي، فإما الرابع: فلا يكافئه عني إلا الله عز وجل، قيل فمن هو؟ قال: رجل بات ليلته يفكر بمن ينزله ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي. أراد بذلك من طلب المعونة منه.
كان يقال: لا تصرف حوائجك إلى من معيشته في رؤوس المكاييل والموازين.
وروي عن أبي الأسود الدؤلي :
وإذا طلبت إلى كريمٍ حاجةً فلقاؤه يكفيك والتسليم
وإذا طلبت إلى لئيمٍ حاجةً فألح في رفقٍ وأنت مديم
وقال آخر
لا تطلن إلى لئيم حاجة واقعد فإنك قائم كالقاعد
يا خادع البخلاء عن أموالهم هيهات تضرب في حديد بارد
- ومن الآداب الشكر والثناء: وهذا أدب لصاحب الحاجة يفتقر إليه بعض الناس وكان من الواجب على صاحب الحاجة أن يبالغ في الشكر والثناء لمن قضى له حاجته ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، قال صلى الله عليه وسلم: « من صُنِعَ إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء ».
قال بعض الحكماء: إذا قصرت يدك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر.
وقال آخر : حق النعمة أن تحسن لباسها وتنسبها إلى تذكر ما تنسى عندك منها، وما أجمل قول القائل :
سعيت ابتغاء الشكر فيما صنعت بي فقصرت مغلوباً وإني لشاكر
ولكن هل سمعت قول القائل:
وزهدني في كل خير صنعتُه إلى الناس ما ألقاه من قلة الشكر
- وهذه مجموعة آداب يرويها خالد بن صفوان: لا تطلبوا الحوائج في غير حينها، ولا تطلبوها لغير أهل، ولا تطلبوا ما لستم له بأهل فتكونوا للمنع خلقاء.
نماذج وآثار لسلف هذه الأمة
- أخيراً أخي الحبيب أقف معك على نماذج رائعة لسلف هذه الأمة الذين عندما علموا عظم الأجر المترتب على اصطناع المعروف وقضاء الحوائج وما فيه من النفع المتعدي سارعوا إليه وضربوا لنا أروع الأمثلة فمن ذلك:
- ما خرجه الإمام أحمد من حديث ابنة لخباب بن الأرت قالت : خرج خباب في سريه فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهدنا حتى يحلب عنزة لنا في جفنة لنا فتمتلئ حتى تفيض .
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يحلب للحي أغنامهم فلما استخلف قالت جارية منهم : الآن لا يحلبها . فقال أبو بكر وإني لأرجو ألا يغرني ما دخلت فيه - يعني الخلافة - عن شيء كنت افعله أو كما قال .(/2)
- وكان عمر يتعاهد الأرامل فيسقي لهن الماء بالليل ورآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة ، فدخل إليها فإذا هي عجوز عمياء مقعدة فسألها ما يصنع هذا الرجل عندكِ . قالت : هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدنا يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى ، فقال طلحة : ثكلتك أمك يا طلحة عثرات عمر تتبع .
- كان أبو وائل يطوف على نساء الحي وعجائزهم كل يوم ، فيشتري لهن حوائجهن وما يصلحهن.
- وقال مجاهد : صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه، فكان يخدمني.
- وكان كثير من الصالحين يشترط على أصحابه في السفر أن يخدمهم.
- وكان رجل من الصالحين يقول اللهم بلغني عثرات الكرام، حتى يقيمها.
- في الصحيحين « عن أنس قال: كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا في يوم حارٍّ أكثرنا ظلاً صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوام وقام المفطرون، وضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذهب المفطرون بالأجر) ».
- قال عبد الله بن عثمان - شيخ البخاري - : "ما سألني أحدٌ حاجة إلا قمت له بنفسي فإن تم وإلا استعنت له بالسلطان".(/3)
فضائل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وثناء السلف عليه.
سعد بن ضيدان السبيعي
قد جاءت في فصله أدلة من الكتاب والسنة وهي تنقسم إلى قسمين :
1- أدلة عامة :وهي التي جاءت في فضائل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ولا شك أن معاوية رضي الله عنه داخل في هذا الفضل .
فما الذي يخرج معاوية رضي الله عنه من عموم هذه الأدلة ؟!
قال ابن القيم رحمه الله في « المنار المنيف » (93) : « فيما صح في مناقب الصحاب على العموم ومناقب قريش فمعاوية رضي الله عنه داخل فيه » .
2- أدلة خاصة :
جاءت في فضل معاوية بخصوصه وإليك هذه الأدلة التي تدل على فضله رضي الله عنه وبعض آثار السلف رحمهم الله تعالى .
* قال عمير بن سعد رضي الله عنه : لا تذكروا معاوية إلا بخير فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « اللهم أجعله هادياً مهدياً وأهد به » .
رواه البخاري في « التاريخ الكبير » (5/240) ، وأحمد في « المسند » (17929) ، والترمذي في « جامعه » (3843) ، والطبراني في « المعجم الأوسط » (656) ، وفي « مسند الشاميين » (2198) ، وابن أبي عاصم في « الآحاد والمثاني » (3129) ، والأجري في « الشريعة » (1915،1914) ، والخطيب في « تاريخه » (1/207) ، وأبو نعيم في « الحلية » (8/358) ، وفي « أخبار أصبهان » (1/180) ، والخلال في « السنة » (676)وهو صحيح .
* روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس قال : كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب ، فجاء فحطأني حطاة (1) وقال : « اذهب وادع لي معاوية » ، قال : فجئت فقلت : هو يأكل ، قال : ثم قال لي : « أذهب فادع لي معاوية » . قال : فجئت فقلت : هو يأكل ، فقال : « لا أشبع الله بطنه » .
قال الحافظ ابن عساكر : « أصح ما ورد في فضل معاوية » .
وقال الإمام النووي رحمه الله في « شرحه على مسلم » (16/156) : « قد فهم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقاً للدعاء عليه فلهذا أدخله في هذا الباب ، وجعله من مناقب معاوية لأنه في الحقيقة يصير دعاء له » .
وقال الحافظ الذهبي في « تذكرة الحفاظ » (2/699) : « لعل هذه منقبة لمعاوية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « اللهم من لعنته أو شتمته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة » .
وقال في « سير النبلاء » (14/130) : « لعل أن يقال هذه منقبة لمعاوية ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « اللهم من لعنته أو سببته فاجعل ذلك زكاة ورحمة » .
* أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه ( 2636) , ومسلم (5925) عن أنس بن مالك عن خالته أم حرام بنت ملحان قالت : نام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قريباً مني ثم أستيقظ يبتسم فقلت : ما أضحكك ؟ قال : « أناس من أمتي عرضوا علي يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة » ، قالت : فادع الله أن يجعلني منهم ، فدعا لها ثم نام الثانية ففعل مثلها فقالت قولها ، فأجابها مثلها ، فقالت : أدع الله أن يجعلني منهم ، فقال : « أنت من الأولين » فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازياً أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية فلما انصرفوا من غزوتهم قافلين فنزلوا الشام فقربت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت .
وأخرج البخاري (2766) أيضاً من طريق أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا » ، قالت أم حرام : قلت : يا رسول الله أنا فيهم ؟ قال : « أنت فيهم » ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر – أي القسطنطينية – مغفور لهم » ، فقلت : أنا فيهم يا رسول الله ؟ قال : « لا » .
وهذا الحديث فيه منقبة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وذلك لأن أول جيش غزى في البحر كان بإمرة معاوية (2) .
قال ابن حجر في « الفتح » (6/120) : « قال المهلب في هذا الحديث : منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر » .
وقال ابن حجر في « الفتح » أيضاً (6/121) : « ومعنى أوجبوا : أي فعلوا فعلاً وجبت لهم به الجنة » .
وقال المناوي في « فيض القدير » (3/84) : « أي فعلوا فعلاً وجبت لهم به الجنة أو أوجبوا لأنفسهم المغفرة والرحمة » .
قال ابن عبدالبر في « التمهيد » (1/235) : « وفيه فضل لمعاوية رحمه الله إذ جعل من غزا تحت رايته من الأولين ورؤيا الأنبياء صلوات الله عليهم وحي » .
وقال ابن حجر في « الفتح » (11/3) : « قوله : « ناس من أمتي عرضوا علي غزاة ... » يشعر بأن ضحكه كان إعجاباً بهم ، وفرحاً لما رأى لهم من المنزلة الرفيعة » .
ومن مناقبه أنه أحد كتاب الوحي :(/1)
في « صحيح مسلم » (2501) عن ابن عباس قال : كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا نبي الله ثلاث أعطنيهن . قال : نعم . قال : عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها . قال : نعم (3) . قال : ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك . قال : نعم . قال : وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين . قال : نعم .
قال الإمام أحمد : معاوية رضي الله عنه كاتبه وصاحبه وصهره وأمينه على وحيه عز وجل (4) .
وقد نقل الإمام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (4/427) قول ابن المطهر الرافضي عن أهل السنة « وسموه كاتب الوحي ولم يكتب له كلمة من الوحي » ا.هـ قال الإمام ابن تيمية : « فهذا قول بلا حجة , فما الدليل على أنه لم يكتب له كلمة واحدة من الوحي , وإنما كان يكتب له الرسائل » ا.هـ.
وقال في (4/442) من منهاج السنة عن معاوية : « هو واحد من كتاب الوحي » .
وفي كتاب السنة للخلال (2/434) قال الإمام أحمد رحمه الله فيمن قال : لا أقول أن معاوية كاتب الوحي ولا أقول أنه خال المؤمنين , فإنه أخذها بالسيف غصباً ؟ ! هذا قول سوء رديء يجانبون هؤلاء القوم ولا يجالسون ونبين أمرهم للناس . وسنده صحيح .
* ومن مناقبه أنه خال المؤمنين (5) :
قال أبو يعلى في تنزيه خال المؤمنين ص (106) : « ويسمى إخوة أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أخوال المؤمنين , ولسنا نريد بذلك أنهم أخوال في الحقيقة , كأخوال الأمهات من النسب , وإنما نريد أنهم في حكم الأخوال في بعض الأحكام , وهو التعظيم لهم » ا.هـ.
وروى الخلال في السنة (3/434) بسند صحيح قال أبو بكر المروذي : سمعت هارون بن عبدالله يقول لأبي عبدالله : « جاءني كتاب من الرَّقة أن قوماً قالوا : لا تقول معاوية خال المؤمنين فغضب وقال : ما اعتراضهم في هذا الموضع ؟ يُجفون حتى يتوبوا » .
وقال الإمام أحمد في السنة (2/433) : « أقول : معاوية خال المؤمنين , وابن عمر خال المؤمنين ؟ قال : نعم معاوية أخو أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورحمهما , وابن عمر أخو حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورحمهما » وسنده صحيح .
* ومن مناقبه أن عمر رضي الله عنه ولاه على الشام وأقره عثمان رضي الله عليه أيضا مدة خلافته كلها وحسبك بمن يوليه عمر وعثمان رضي الله عنهما على الشام نحوا من عشرين سنة فيضبطه ولا يعرف عنه عجز ولا خيانة (6) .
قال الهيتمي في « تطهير الجنان » (20) :
« اتفاق كل من عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وهما من هما في الفضل والصحبة ولهما المكان الأعلى والمثل من الورع والدين والتقى وسداد الرأي وحسن الفكر وتمام النظر ، على تأمير معاوية رضي الله عنه على الشام لهو اكبر دليل على فضل معاوية واستحقاقه لهذه المنزلة .. فأي فضل بعد هذا ؟!
ومنها أن عمر رضي الله عنه مدحه وأثنى عليه ، وولاه دمشق الشام مدة خلافة عمر ، وكذلك عثمان رضي الله عنه وناهيك بهذه منقبة عظيمة من مناقب معاوية ومن الذين كان عمر يرضى به لهذه الولاية الواسعة المستمرة وإذا تأملت عزل عمر لسعد بن أبي وقاص الأفضل من معاوية بمراتب وإبقائه لمعاوية على عمله من غير عزل له علمت بذلك أن هذه ينبئ عن رفعة كبيرة لمعاوية وانه لم يكن ولا طرأ فيه قادح من قوادح الولاية وإلا لما ولاه عمر أو لعزله وكذا عثمان وقد شكا أهل الأقطار كثيراً من ولاتهم على عمر وعثمان فعزلا عنهم من شكوهم وإن جلت مراتبهم وأما معاوية فأقام في إمارته على دمشق الشام هذه المدة الطويلة ، فلم يشك أحد منه ، ولا اتهمه بجور ولا مظلمة ، فتأمل ذلك ليزداد اعتقادك أو لتسلم من الغباوة والعناد والبهتان » .
قال الذهبي في « السير » (3/132) : « حسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على إقليم – وهو ثغر – فيضبطه ويقوم به أتم قيام ويرضى الناس بسخائه وحلمه وإن كان بعضهم تألم مرة منه وكذلك فليكن الملك وإن كان غيره من أصحاب رسول الله ؟ خيراً منه بكثير ، وأفضل وأصلح ، فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله وفرط حلمه ، وسعة نفسه وقوة دهائه ، ورأيه وله هنات وأمور ، والله الموعد . وكان محبباً على رعيته ، عمل نيابة الشام عشرين سنة والخلافة عشرين سنة ولم يهجه أحد في دولته ، بل دانت له الأمم وحكم على العرب والعجم ، وكان ملكه على الحرمين ومصر والشام والعراق وخراسان وفارس والجزيرة واليمن والمغرب وغير ذلك » .
* ومن مناقبه أنه من خير الملوك :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في « الفتاوى » (4/478) بالإجماع وانظر « سير أعلام النبلاء » (3/159) ، وقال ابن أبي العز الحنفي في « شرحه على الطحاوية » (2/302) « وأول ملوك المسلمين معاوية رضي الله عنه وهو خير ملوك المسلمين » . وانظر « البداية والنهاية » (8/93) . وتفسير القرآن العظيم (2/15) لابن كثير .
ثناء السلف على معاوية رضي الله عنه(/2)
* في « صحيح البخاري » (3765) قيل لابن عباس : هل لك في أمير معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة ، قال : إنه فقيه .
* روى الطبراني في « مسند الشاميين » (283) ، وأبو نعيم في « الحلية » (8/275) من طريق سعيد بن عبدالعزيز عن إسماعيل بن عبد الله عن قيس بن الحارث عن الصنابحي عن أبي الدرداء قال : ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله من أميركم هذا - يعني معاوية - . قيل لقيس : أين صلاته من صلاة عمر . قال : لا أخالها إلا مثلها . ورجاله ثقات .
قال الهيثمي في « المجمع » (9/357) : « ورواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير قيس بن الحارث المذحجي وهو ثقة » .
* روى اللالكائي في « شرح أصول اعتقاد أهل السنة » (2781) ، والخلال في « السنة » (2/442) رقم (680) ، وابن عساكر في « تاريخ دمشق » (59/173) من طريق جبلة بن سحيم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية ، فقيل : ولا أبوك ؟ قال : أبي عمر رحمه الله خير من معاوية وكان معاوية أسود منه (7) . وجاء ما يقويه فرواه أيضاً الخلال في « السنة » (2/442-443) وبرقم (679و 681) بنحوه ، وابن عساكر في « تاريخه » (59/174) ، والبخاري في « التاريخ الكبير » (7/327) مختصراً من طريق نافع عن ابن عمر . وانظر : « سير أعلام النبلاء » (3/153) فهو حسن .
* وروى معمر في جامعه ( برقم : 20985) ، والخلال في « السنة » (2/440) برقم (677) ، وابن عساكر في « تاريخ دمشق » (59/175) من طريق وهب بن منبه (8) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ما رأيت رجلاً كان أخلق للملك من معاوية كان الناس يردون منه على أرجاء واد رحب ولم يكن بالضيق الحصر العُصعُص (9) المتغضب . وإسناده صحيح . ورواه أيضاً البلاذري في أنساب الأشراف (5/54) من طريق أبي عبدالله الحنفي عن رجل عن ابن عباس رضي الله عنهما .
روى ابن عساكر في « تاريخ مدينة دمشق » (59/185) من طريق ابن أبي الدنيا حدثني المفضل بن غسان حدثنا علي بن صالح حدثنا عامر بن صالح عن هشام بن عروة قال صلى بنا عبدالله بن الزبير يوماً من الأيام فوجم بعد الصلاة ساعة فقال الناس : لقد حدث نفسه ثم التفت إلينا فقال : لا يبعدن ابن هند إن كانت فيه لمخارج لا نجدها في أحد بعده أبداً والله إن كنا لنفرقه وما الليث على براثنه بأجرأ منه فيتفارق لنا , وإن كنا لنخدعه وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منه فيتخادع لنا , والله لوددت أنا متعنا به ما دام في هذا الجبل حجر , وأشار إلى أبي قبيس لا يتحول له عقل , ولا ينقص له قوة , قال فقلنا أوحش والله الرجل . وسنده صحيح . ورواه البلاذري في أنساب الأشراف (5/91) عن المدائني عن أبي عبدالرحمن بن إسماعيل عن هشام . بنحوه (10) .
* روى ابن عساكر في « تاريخ دمشق » (59/211) وبنحوه الآجري في « كتاب الشريعة » (5/2466) عن عبدالله بن المبارك أيهما أفضل : معاوية بن أبي سفيان أم عمر بن عبدالعزيز ؟ فقال : والله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر بألف مرة صلى معاوية خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : سمع الله لمن حمده ، فقال معاوية : ربنا ولك الحمد فما بعد هذا ؟ .
* وأخرج الآجري « كتاب الشريعة » (5/2466) ، واللالكائي في « شرح السنة » (2785) ، والخطيب البغدادي في « تاريخه » (1/233) ، وابن عساكر في « تاريخ دمشق » (59/208) ، بسند صحيح عن الجراح الموصلي قال : سمعت رجلاً يسأل المعافى بن عمران فقال : يا أبا مسعود ، أين عمر بن عبدالعزيز من معاوية بن أبي سفيان ؟! فرأيته غضب غضباً شديداً وقال : لا يقاس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد ، معاوية رضي الله عنه كاتبه وصاحبه وصهره وأمينه على وحيه عز وجل .. الحديث .
* وأخرج الآجري في « كتاب الشريعة » (5/2465) ، وابن عبد البر في « جامع بيان العلم وفضله » (2/185) ، والخلال في « السنة » (2/434) ورقم (666) بإسناد صحيح عن أبي أسامة حماد بن أسامة ، قيل له : أيهما أفضل معاوية أو عمر بن عبدالعزيز .
فقال لا يقاس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خير الناس قرني » .
* روى الخلال في « السنة » بسند صحيح (2/434) ورقم (660) عن أبي بكر المروذي قال : قلت لأبي عبدالله أيهما أفضل : معاوية أو عمر بن عبدالعزيز ؟ فقال : معاوية أفضل ، لسنا نقيس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « خير الناس قرني الذي بعثت فيهم » (11) .
* وروى الخلال في « السنة » بسند صحيح (2/435) ورقم (664) سئل المعافي بن عمران الأزدي : معاوية أفضل أو عمر بن عبدالعزيز ؟ فقال : كان معاوية أفضل من ستمائة مثل عمر بن عبدالعزيز .(/3)
* روى الخلال في « كتاب السنة » (2/438) ورقم (669) ، والآجري في « الشريعة » (5/2465) ، وابن عساكر في « تاريخ دمشق » (59/172) عن مجاهد قال : لو رأيتم معاوية لقلتم هذا المهدي . وسنده جيد (12) .
* روى الخلال في « كتاب السنة » (2/444) ورقم (683) عن الزهري قال : عمل معاوية بسيرة عمر بن الخطاب سنين لا يخرم منها شيئاً . وسنده صحيح .
* روى الخلال في « السنة » (2/432) ورقم (654) ، واللالكائي في « شرح أصول اعتقاد أهل السنة » (8/1532) عن عبدالملك بن عبدالحميد الميموني قال : قلت لأحمد بن حنبل : أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم : « كل صهر ونسب ينقطع إلا صهري ونسبي » ؟ قال : بلى ، قلت : وهذه لمعاوية ؟ قال : نعم ، له صهر ونسب , قال : وسمعت ابن حنبل يقول : ما لهم ولمعاوية نسأل الله العافية وإسناده صحيح .
* وروى الخلال في « السنة » (2/438) ورقم (670) من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق السبيعي : ما رأيت بعده مثله يعني معاوية . وسنده صحيح .
وما أجمل ما رواه الخطيب البغدادي في « تاريخ بغداد » (1/208) وابن عساكر في « تاريخ دمشق » (58/168) من طريق ابن شهاب حدثني عروة بن الزبير إن مسور بن مخرمة قدم وافداً إلى معاوية بن أبي سفيان فقضى حاجته ثم دعاه فأخلاه فقال : يا مسور ما فعل طعنك على الأئمة . قال المسور : دعنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له . فقال معاوية : لا والله لتكلمن بذات نفسك والذي نقمت علي . قال المسور : فلم أترك شيئاً أعيبه عليه إلا بينته له . فقال معاوية : لا أبرأ من ذنب فهل تعد لنا يا مسور مما نلي من الإصلاح في أمر العامة فإن الحسنة بعشر أمثالها أم تعد الذنوب . فقال معاوية : فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنباه ، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلك إن لم يعفو الله لك . فقال المسور : نعم . فقال معاوية : فما جعلك برجاء المغفرة أحق مني فو الله لما آلي من الإصلاح أكثر مما تلي ولكن والله لا أخير بين أمرين أمر لله وغيره إلا اخترت أمر الله على ما سواه وإني لعلى دين يقبل فيه العمل ويجزى فيه بالحسنات والذنوب إلا أن يعفو الله عنها فإني أحسب كل حسنة عملتها بأضعافها من الأجر وآلي أموراً عظاماً لا أحصيها ولا يحصيها من عمل بها لله في إقامة الصلوات للمسلمين والجهاد في سبيل الله والحكم بما أنزل الله والأمور التي لست أحصيها وإن عددتها فتكفي في ذلك . قال مسور : فعرفت أن معاوية قد خصمني حين ذكر ما ذكر ، قال عروة بن الزبير : لم أسمع المسور بعد يذكر معاوية إلا صلى عليه .
ورواه عبدالرزاق في « مصنفه » (7/207) بنحوه من طريق معمر عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن عن المسور وإسناده صحيح .
قال ابن عبدالبر في « الاستيعاب » (671) : « وهذا الخبر من أصح ما يروى من حديث ابن شهاب رواه عنه معمر وجماعة من أصحابه » .
ورواه أيضاً شعيب عن الزهري عن عروة عن المسور بنحوه (13) .
ورواه بنحوه البلاذري في أنساب الأشراف (5/53) من طريق عبدالحميد بن جعفر عن عبدالرحمن بن المسور بن مخرمه عن أبيه (14) .
ورواه أيضاً البلاذري (5/42) بنحوه من طريق آخر .
كتبه وأملاه/
سعد بن ضيدان السبيعي
عضو الدعوة بوزارة الشئون الإسلامية
9/10/1425هـ
----------------------
(1)الحَطْأة : الضرب باليد مبسوطة بين الكتفين . شرح النووي مع مسلم (16/156) , وانظر النهاية (4/89) , ولسان العرب (1/57) .
(2) فتح الباري (11/75) .
(3) وفيه إشكال لأن الرسول عليه الصلاة والسلام تزوج أم حبيبة رضي الله عنها بأرض الحبشة وقد أجاب عن هذا الإشكال جمع من أهل العلم : ابن القيم في جلاء الإفهام (272) والنووي في شرحه على مسلم (16/91) وابن كثير في البداية والنهاية (4/146) وغيرهم .
(4) انظر الشريعة للآجري (5/2466) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة (2785) اللالكائي , وتاريخ بغداد (1/233) للخطيب البغدادي , وتاريخ دمشق (59/208) لابن عساكر .
(5) انظر أنساب الأشراف (5/21) , ولمعة الاعتقاد (155) , ومنهاج السنة (4/369) , والبداية والنهاية (8/18) .
(6) انظر تنزيه خال المؤمنين لأبي يعلى ص (106) .
(7) أسود : أي أسخى . هكذا فسره الإمام أحمد كما في السنة (2/441) للخلال بسند صحيح .
(8) عند البخاري في التاريخ الكبير (7/327) همام بن منبه . وكذلك عند الخلال في السنة (3/440) .
(9) العُصعُص : النكد قليل الخبر . النهاية (3/248) .
(10) في الأصل « عن أبي عبدالرحمن بن إسماعيل بن هشام » وهو خطأ !
(11) وانظر السنة للخلال أيضاً (2/434-435) رقم (661-662) .
(12) وانظر مجمع الزوائد (9/357) .
(13) انظر : منهاج السنة النبوية (4/385) , البداية والنهاية (8/92).
(14) وقع في الأصل « عبدالحميد عن جعفر » وهو خطأ
===============
هل صح شيء في فضل معاوية رضي الله عنه
* قال ابن القيم رحمه الله قال عن معاوية رضي الله عنه : « كل حديث في ذمه فهو كذب »(/4)
أعلم أن الأحاديث التي ذكرت في ذم معاوية رضي الله عنه إما صحيحة لا تدل على ما ذهب إليه من ذكرها أو صريحة ليست بصحيحة .
قال النووي في شرحه على مسلم (15/175) : « قال العلماء : الأحاديث الواردة التي في ظاهرها دخل على صحابي يجب تأويلها قالوا : ولا يقع في روايات الثقات إلا ما يمكن تأويله » .
قال أبو العباس ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (4/431) وجواب سؤاله أهل الرحبة ( 106 ) : « وأبو موسى الأشعري ، وعمرو بن العاص ، ومعاوية بن أبي سفيان ، هم من الصحابة ولهم فضائل ومحاسن وما يحكى عنهم كثير منه كذب ، والصدق منه إن كانوا فيه مجتهدين فالمجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا أخطا فله اجر ، وخطأه يغفر له » .
وقد نص الإمام ابن القيم في المنار المنيف ( 94 ) على أنه لا يصح حديث في ذم معاوية رضي الله عنه .
,قد جاءت آيات وأحاديث وآثار في فضل الصحابة رضوان الله عليهم وهذه النصوص تنقسم إلى قسمين:
1- في فضل عموم الصحابة رضي الله عنهم ولا شك ولا ريب أن معاوية رضي الله عنه داخل في هذا الفضل كيف لا ؟!
وقد نص ابن عباس رضي الله عنه على صحبته روى البخاري في « صحيحه » (3764) من طريق عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة قال أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس فأتى ابن عباس فقال دعه فإنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وروى البخاري في « صحيحه » (3766) من طريق حمران بن أبان عن معاوية رضي الله عنه قال : إنكم لتصلون صلاة لقد صحبنا النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيناه يصليها ولقد نهى عنها يعني الركعتين بعد العصر .
وفي صحيح مسلم ( 4037) أن معاوية قال : ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث ، وقد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه ... » الحديث .
وفي كتابه السنة للخلال ( 2/432) رقم ( 653) عن مهنا . قال : سألت أحمد عن معاوية بن أبي سفيان . فقال : له صحبة : قلت من أين هو ؟ قال : مكي قطن الشام . وسنده صحيح .
2- أحاديث وآثار في فضل بعض الصحابة رضي الله عنهم بخصوصه ومنهم معاوية رضي الله عنه فقد جاءت في فضله أحاديث صحيحه وآثار سلفية قد ذكرتها تحت مبحث « فضائل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه » .ومبحث « ثناء السلف رضي الله عنهم على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه » على الصفحة في (صيد الفوائد).
* ما ذكر عن إسحاق بن راهوية رحمه الله :
لا يصح في فضل معاوية رضي الله عنه حديث .هذه الرواية رواها ابن الجوزي في « الموضوعات » (2/263) (832) قال : أنبأنا زاهر بن طاهر قال أنبأنا أحمد بن الحسين البيهقي قال حدثنا أبو عبدالله محمد بن عبدالله الحاكم قال سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب بن يوسف يقول سمعت أبي يقول سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول : لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل معاوية بن أبي سفيان شيء .
وأوردها السيوطي في « اللآلي المصنوعة » (1/388) ، وابن عراق الكناني في « تنزيه الشريعة » (2/7) ، والشوكاني في الفوائد المجموعة ( 407) على فرض صحتها يجاب عنها بمايلي:
* أنه يوجد من الأئمة من ذكر أحاديث في فضل معاوية مصححاً لها !
وهم بهذا يخالفون من قال بأنه لا يصح في فضل معاوية شيء ومن هؤلاء الأئمة :
1- الإمام الآجري رحمه الله في « كتاب الشريعة » (5/1524) بوب سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل أبي عبدالرحمن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما (1) .
2- الإمام الذهبي رحمه الله كما في « سير أعلام النبلاء » (3/350) فقد ذكر أحاديث في فضل معاوية رضي الله عنه وقال بعد ذلك : « فهذه أحاديث مقاربة » .
3- الحافظ ابن كثير كما في « البداية والنهاية » (8/84) حيث قال رحمه الله بعد أن ذكر أحاديث في فضل معاوية رضي الله عنه : « واكتفينا بما أوردناه من الأحاديث الصحاح والحسان والمستجادات عما سواه من المصنوعات والمنكرات » .
وقال في (8/83) في تعليقه على حديث « اللهم أجعله هادياً مهدياً وأهده » : « وقد اعتنى ابن عساكر بهذا الحديث وأطنب فيه وأطيب واطرب وأفاد وأحسن الانتقاد فرحمه الله كم من موطن قد تبرز فيه على غيره من الحفاظ والنقاد » .
4- والحفاظ ابن عساكر كما في « تاريخ دمشق » (59/79) .
5- وابن حجر الهيتمي في « تطهير الجنان » (11) (2) (3) .
على فرض صحة ما ذكر عن هؤلاء الأئمة من أنه لا يصح شيء في فضل معاوية رضي الله عنه إلا أنهم رحمهم الله لا ريب أنهم يرون أن معاوية داخل في عموم النصوص التي جاءت في فضل الصحابة رضوان الله عليهم خلافا لمن يسود عشرات الصفحات في تصحيح وتقوية الأحاديث التي جاءت في ذمه !!
وتضعيف الأحاديث التي جاءت في الثناء عليه!
وإخراجه من حد الصحبة الشرعية !
فمرادهم لا يصح حديث في فضله بخصوصه أما على سبيل العموم فنعم .(/5)
فإبن عبد البر رحمه الله ممن نسب إليه هذا القول « لا يصح في فضل معاوية حديث » ومع ذلك نجد أن ابن عبد البر رحمه الله تعالى ينقل إجماع أهل السنة والجماعة على عدالة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين في كتاب « الإستيعاب في معرفة الأصحاب » (23) قال :
« ومعلوم أن من حكم بقوله وقضى بشهادته فلابد من معرفة اسمه ونسبه وعدالته والمعرفة بحاله ونحن وإن كان الصحابة رضي الله عنهم قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول فواجب الوقوف على أسمائهم والبحث عن سيرهم وأحوالهم ليهتدي بهديهم فهم خير من سلك سبيله واقتدى به » .
وكذلك الإمام ابن القيم قال في « المنار المنيف » (93) بعد أن ذكر رواية إسحاق بن راهوية قال : « قلت : مراده ومراد من قال ذلك من أهل الحديث أنه لم يصح حديث في مناقبه بخصوصه وإلا فيما صح في مناقب الصحابة على العموم ومناقب قريش فمعاوية رضي الله عنه داخل فيه » .
قال العلامة المعلمي في « الأنوار الكاشفة » (92) : « هذا لا ينفي الأحاديث الصحيحة التي تشمله وغيره ولا يقتضي أن يكون كل ما روى في فضله خاصة مجزوما بوضعه » ا.هـ.
قال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله في « كتاب التحديث بما قيل لا يصح فيه حديث » صفحة (142) : « تنبيه : لا يغاب عنك هذا القيد « على وجه الخصوص » » .
وقد قال ابن القيم رحمه الله قال في « المنار المنيف » (94) عن معاوية رضي الله عنه : « كل حديث في ذمه فهو كذب » .
* أن هذا لو صح عن هؤلاء الأئمة لكان فيه ثناء على الصحابة رضي الله عنهم وبيان لعدالتهم وكذلك ثناء على معاوية رضي الله عنه وبيان صدقه وفضله !
فلم يكذب أحد من الصحابة رضي الله عنهم ويضع أحاديث في فضله كما أن معاوية لديانته وأمانته لم يكذب لنفسه ويضع أحاديث في فضله ومناقبه ولم يحمل غيره على الكذب !
قال العلامة المعلمي رحمه الله في الأنوار الكاشفة صفحة ( 92) : ( أما الصحابة رضي الله عنهم ففي هذه القضية برهان على أنه لا مجال لاتهام أحد منهم بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن معاوية كان عشرين سنة أميراً على الشام وعشرين سنة خليفة وكان في حزبه وفيمن يحتاج إليه جمع كثير من الصحابة منهم ممن أسلم يوم فتح مكة أو بعده وفيهم جماعة من الأعراب وكانت الدواعي إلى التعصب له والتزلف إليه متوفرة فلو كان ثم مساغ لأن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أحد لقيه وسمع منه مسلماً لأقدم بعضهم على الكذب في فضل معاوية وجهر بذلك أمام أعيان التابعين فينقل ذلك جماعة ممن يوثقهم أئمة السنة فيصبح عندهم ضرورة .
فإذا لم يصح خبراً ثبت صحة القول بأن الصحابة كلهم عدول في الرواية وأنه لم يكن منهم أحد مهما خفت منزلته وقوي الباعث له محتملاً منه أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وأما معاوية فكذلك فعلى فرض أنه كان يسمح بأن يقع كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ما دام في فضيلة له وأنه لم يطمع في أن يقع ذلك من أحد غيره ممن له صحبة أو طمع ولكن لم يجده ترغيب ولا ترهيب في حمل أحد منهم على ذلك فقد كان في وسعه أن يحدث هو عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد حدث عدد كثير من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بفضائل لأنفسهم وقبلها منهم الناس وروها أئمة السنة ففي تلك القضية برهان على أن معاوية كان من الدين والأمانة بدرجة تمنعه من أن يفكر في أن يكذب (4) أو يحمل غيره على الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم مهما اشتدت حاجته إلى ذلك ومن تدبر هذا علم أن عدم صحة حديث عند أهل الحديث في فضل معاوية أدل على فضله من أن تصح عدة أحاديث ا.هـ.
وصدق الإمام البربهاري رحمه الله حين قال في « شرح السنة » (106) :
« إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار أو يرد الآثار أو يريد غير الآثار فاتهمه على الإسلام ، ولا تشك أن صاحب هوى مبتدع » ا.هـ .
كتبه وأملاه/
الفقير إلى عفو ربه ومولاه
سعد بن ضيدان السبيعي
عضو الدعوة بوزارة الشئون الاسلامية
s-subaei@hotmail.com
-----------------------------------------------
(1)وانظر للقائدة توجيه الهيثمي لرواية إسحاق بن راهوية ، وتبويب البخاري باب ذكر معاوية ولم يقل فضائل أو مناقب ! تطهير الجنان ( 11) .
(2) وانظر للقائدة توجيه الهيثمي لرواية إسحاق بن راهوية ، وتبويب البخاري باب ذكر معاوية ولم يقل فضائل أو مناقب ! تطهير الجنان ( 11) .
(3) جاء في ترجمة محمد بن عبدالواحد أبو عمر اللغوي الزاهد المعروف بـ غلام ثعلب المتوفي سنة 345هـ إن الإشراف والكتاب وأهل الأدب كانوا يحضرون عنده ليسمعوا منه كتب ثعلب وغيرها وكان له جزء قد جمع فيه الأحاديث التي تروى في فضائل معاوية فكان لا يترك أحدا منهم يقرأ عليه شيئا حتى يبدأ بقراءة ذلك الجزء ثم يقرأ بعده ما قصد له . انظر طبقات الحنابلة (3/192) .(/6)
(4) روى الخلال في السنة ( 1/440) عن ابن سيرين قال : كان معاوية لا يتهم في الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وسنده صحيح .
سعد بن ضيدان السبيعي
=============
سل السِّنان في الدفاع عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
( الجواب عن ستة أباطيل قيلت في حق معاوية رضي الله عنه)!!
ولله ثم للتاريخ أن هذه الأباطيل والشبهات التي قيلت في ذم معاوية رضي الله عنه ليست بشيء !
ولولا أنها ذكرت وسودت بها الطُرُس ، وأوهم من ذكرها أن فيها تحقيقا علميا حديثيا ، وإنقاذاً للتاريخ الإسلامي , وإلا لكان الإضراب عنها صفحاً أولى من ذكرها .
فإن الإعراض عن القول المطرح الساقط أفضل وأحرى لإماتته ، وإخمال ذكر قائله وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيها للجهال عليه .
وما سأذكره من هذه الأباطيل التي ذكرت في معاوية رضي الله عنه يرويها الإخباريون وأهل التاريخ بلا زمام ولا خطام ،ويتولى كبر الترويج لها أهل البدع والأهواء ..
ومنها من يكون رواتها من المتروكين
* كأبي مخنف لوط بن يحيى إخباري تالف لا يوثق به .
قال ابن عدي : شيعي محترق صاحب أخبارهم ، وتركه أبو حاتم .
انظر ترجمته « الكامل لابن عدي » (6/93) ، « الضعفاء » للعقيلي (4/190) ، « لسان الميزان » (2/430) .
0ونصر بن مزاحم صاحب كتاب صفين .
رافضي متروك الحديث .
قال الذهبي في « الميزان » (4/253) : رافضي جلد تركوه .
0ومحمد بن السائب الكلبي المفسر الإخباري متروك الحديث أيضاً . انظر « التهذيب » (3/569) ، « الميزان » (3/556) .
* ومحمد بن عمر الواقدي متروك .
قال البخاري : الواقدي مدني سكن بغداد متروك الحديث تركه أحمد وابن المبارك وابن نمير وإسماعيل بن زكريا .
وقال أبو زرعة الرازي وأبو بشر الدولابي والعقيلي متروك الحديث .
وقال الذهبي في « الميزان » (3/666) استقر الإجماع على وهن الواقدي .
0والبلاذري أحمد بن يحيى بن جابر بن داود المتوفى سنة 279هـ صاحب كتاب« أنساب الأشراف »
وهو وإن كان صدوقاً في نفسه إلا أنه انفرد بذكر آثار وقصص في ذم معاوية لا يتابع عليها – وأطال في ترجمته جداً - وقد أنكرها أهل الحديث عليه ، نقل ذلك هو بنفسه فقال في « أنساب الأشراف » (5/81) : « قال لي هشام بن عمار : نظرت في أحاديث معاوية عندكم فوجدت أكثرها مصنوعاً » وذكر مثالاً لذلك !
وهشام بن عمار رحمه الله المتوفى سنة 245هـ إمام من أئمة الحديث من شيوخ البخاري ومن شيوخ البلاذري نفسه . ا.هـ.
لما رأيت هذه الأكاذيب لاأدري لم تذكرت حينها؟!
قول أبي توبة الحلبي الربيع بن نافع رحمه الله : « معاوية بن أبي سفيان ستر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كشف الرجل الستر اجترا على ما وراءه » رواه الخطيب البغدادي في تاريخه (1/209) وابن عساكر في تاريخ دمشق (59/209) (1)
وقول وكيع بن الجراح رحمه الله : « معاوية رضي الله عنه بمنزلة حلقة الباب ، من حركة اتهمناه على من فوقه » رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (59/210) .
وقول عبدالله بن المبارك رحمه الله : « معاوية عندنا محنة ، فمن رأيناه ينظر إليه شزرا اتهمناه على القوم ، أعني على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم » رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 59 / 211) (2) .
وإليك الآن بعض من هذه الأباطيل وردها واحدا بعد الآخر...
* بيع معاوية رضي الله عنه الأصنام لأهل الهند :
روى البلاذري في « أنساب الأشراف » (5/137) من طريق جرير عن الأعمش عن أبي وائل قال : كنت مع مسروق بالسِلْسِلة فمرت به سفائن فيها أصنام من صفْر تماثيل الرجال , فسألهم عنها فقالوا : بعث بها معاوية إلى أرض السند والهند تباع له . فقال مسروق : لو أعلم أنهم يقتلونني لغرقتها , ولكني أخاف أن يعذبوني ثم يفتنوني والله ما أدري أي الرجلين معاوية , أرجل قد يئس من الآخرة فهو يتمتع من الدنيا أم رجل زين له سوء عمله . وهذا لا ريب أنه من أبطل الباطل وأكذب الكذب !!
أليس هذا الأثر يعارض الحديث الصحيح المرفوع « اللهم أهده ، وهدي به » .
فكيف يهدي الله به وهو يبيع الأصنام فيما زعمه الأفّاكون !
ولذلك رد جهابذة الحديث هذه الفرية الباطلة !
فالأعمش لم يصرح بالسماع وهذا مظنة ثبوت التدليس بسبب نكارة الحديث .
قال المعلمي في « التنكيل » (1/51) : « ففي رواية الأعمش أحاديث كذلك ضعفها أهل العلم ، بعضهم يضعف بعض من فوق الأعمش في السند وبعضها بالانقطاع ، وبعضها بأن الأعمش لم يصرح بالسماع وهو مدلس ، ومن هذا الأخير حديث في شأن معاوية ذكره البخاري في « تاريخه الصغير » (ص 68) (3) ووهنه بتدليس الأعمش » ا.هـ.(/7)
وقال رحمه الله في « مقدمة الفوائد المجموعة » (ص8) : « إذا استنكر الأئمة المحققون المتن وكان ظاهر السند الصحة فإنهم يتطلبون له علة ، إذا لم يجدوا علة قادحة مطلقاً ، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذلك المنكر ، من ذلك إعلالهم أن راويه لم يصرح بالسماع . هذا مع أن الراوي غير مدلس ، أعل البخاري بذلك خبراً رواه عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن عكرمة تراه في ترجمة عمرو من التهذيب » (4) .
ثم ساق أمثلة أخرى وقال : « وحجتهم في هذا بأن عدم القدح في العلة مطلقا إنما بني على أن دخول الخلل من جهتها نادر ، فإذا اتفق أن يكون المتن منكراً يغلب ظن الناقد بطلانه ، فقد يحقق وجود الخلل ، وإذا لم يوجد سبب له إلا تلك العلة فالظاهر أنها هي السبب ، وأن هذا من ذاك النادر الذي يجيء الخلل فيه من جهتها ، ولهذا يتبين أن ما يقع ممن دونهم من التعقب بأن تلك العلة غير قادحة ، وأنهم قد صححوا ما لا يحصى من الأحاديث مع وجودها فيها ، إنما هو غفلة عما تقدم من الفرق »
وفي المنتخب من العلل قال الخلال (227) : « قال مهنا سألت أحمد ، عن حديث الأعمش ، عن أبي وائل ، أن معاوية لعب بالأصنام فقال : ما أغلظ أهل الكوفة على أصحاب رسول الله ولم يصح الحديث . وقال تكلم به رجل من الشيعة » .
وهذا قاله الإمام أحمد في حق من قال : « أن معاوية لعب بالأصنام » .
فكيف بمن قال أن معاوية بيعها !!
* إقسام معاوية رضي الله عنه عن اليمين الغموس وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم له !!
روى الروياني في مسنده (1/290) وابن عساكر في تاريخه (59/204) من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمد بن كعب قال :
« إنا جلوس مع البراء في مسجد الكوفة إذ دخل قاص فجلس فقص ثم دعا للخاصة والعامة ثم دعا للخليفة , ومعاوية بن أبي سفيان يومئذ خليفة . فقلنا للبراء : يا أبا إبراهيم , دخل هذا فدعا للخاصة والعامة ثم دعا لمعاوية فلم يسمعك قلت شيئاً ؟ فقال : إنا شهدنا وغبتم وعلمنا وجهلتم إنا بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين إذ أقبلت امرأة حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أبا سفيان وابنه معاوية أخذا بعيراً لي فغيباه عليَّ .
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً إلى أبي سفيان بن حرب ومعاوية : أن ردا على المرأة بعيرها . فأرسلا : إنا والله ما أخذناه وما ندري أين هو !
فعاد إليهما الرسول فقالا : والله ما أخذناه وما ندري أين هو !
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأينا لوجهه ظلالاً , ثم قال : انطلق إليهما , فقل لهما : بلى والله إنكما لصاحباه , فأديا إلى المرأة بعيرها .
فجاء الرسول إليهما وقد أناخا البعير وعقلاه !
فقالا : إن والله ما أخذناه ولكن طلبناه حتى أصبناه , فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهبا . ا.هـ. أقول : وهذا الإسناد لا يصح في سنده سلمة بن الفضل الأبرش ضعيف الحديث له مناكير وغرائب , وما رواه عن ابن إسحاق في المغازي فقط أقوى من غيره وإن كان حديثه ضعيفاً مطلقاً (5) .
ومحمد بن إسحاق عنعن ولم يصرح بالسماع !!
وأشار ابن عساكر في تاريخ دمشق (59/205) لنكارته .
قال رحمه الله : محمد بن إسحاق وسلمة بن الفضل يتشيعان .
* قتل معاوية لعبدالرحمن بن خالد بن الوليد رضي الله عنه :
وللإجابة عن هذه الفرية أقول :
روى الطبري في « تاريخه » (3/202) من طريق عمر بن شبه عن علي بن محمد المدائني عن مسلمة بن محارب أن عبدالرحمن بن خالد بن الوليد كان قد عظم شأنه بالشام ، ومال إليه أهلها ، لما كان عندهم من آثار أبيه خالد بن الوليد ، ولغنائه عن المسلمين في أرض الروم وبأسه ، حتى خافه معاوية وخشي على نفسه منه ، لميل الناس إليه ، فأمر ابن أثال أن يحتال في قتله ، وضمن له أن هو من فعل ذلك أن يضع عنه خراجه ما عاش ، وأن يوليه جباية خراج حمص ، فلما قدم عبدالرحمن بن خالد حمص منصرفاً من بلاد الروم دس إليه ابن أثال شربة مسمومة مع بعض ممالكيه ، فشربها فمات بحمص ، فوفى له معاوية ما ضمن له ، وولاه خراج حمص ، ووضع عنه خراجه .وهذا الخبر لا يصح !
فيه مسلمة بن محارب وهو الزيادي فيه جهالة روى عن أبيه وابن جريج وروى عنه المدائني لم يوثقه غير ابن حبان في « الثقات » (7/490) .
ذكره البخاري في « التاريخ الكبير » (7/387) ، وابن أبي حاتم في « الجرح والتعديل » (8/266) ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً .
ثم أن مسلمة بن محارب لم يدرك القصة وهو لا يروي عن معاوية رضي الله عنه إلا بواسطة مما يدل على أن القصة منقطعة السند (6) .
وأيضاً علي بن محمد وأبو سيف المدائني الأنباري مُتكلم فيه . فوثقه ابن معين , وقال الذهبي في السير (10/401) : « كان عجباً في معرفة السير والمغازي والأنساب وأيام العرب مصدقاً فيما ينقله » .
وقال ابن عدي في الكامل (5/213) : « ليس بالقوي في الحديث , وهو صاحب أخبار , قل ماله من الروايات المسندة » .(/8)
لذا رواها الطبري في « تاريخه » (3/202) بصيغة التمريض قال : فيما قيل !
وقال ابن كثير في « البداية والنهاية » (8/24) : « وزعم بعضهم أن ذلك عن أمر معاوية له في ذلك ولا يصح » .
وروى هذه القصة بنحوها البلاذري في « أنساب الأشراف » (5/118) قال : حدثني محمد بن سعد عن الواقدي قال : توفي خالد بن الوليد بن المغيرة بحمص سنة عشرين وأوصى إلى عمر بن الخطاب وكان عبدالرحمن بن خالد يلي الصوائف فيبلى ويحسن أثره , فعظم أمره بالشام , فدس إليه معاوية متطببا يقال له ابن أثال ليقتله وجعل له خراج حمص فسقاه شربة فمات فاعترض خالد بن المهاجر بن خالد ويقال خالد بن عبدالرحمن بن خالد ابن أثال فضربه بالسيف فقتله , فرفع أمره إلى معاوية , فحبسه أياماً وأغرمه ديته ولم يقده به .
وفي سند هذه القصة الواقدي متروك الحديث .
* قتل معاوية للأشتر مالك بن الحارث النخعي :
وهذه أيضاً من الأباطيل وما أكثرها !
في طبقات ابن سعد (6/213) : « وكان الأشتر من أصحاب علي بن أبي طالب وشهد معه الجمل وصفين وشاهده كلها وولاه علي عليه السلام مصر فخرج إليها فلما كان بالعريش شرب شربة عسل فمات » ا.هـ
قال الذهبي في السير (4/34) : « ولما رجه علي من موقعة صفين , جهز الأشتر والياً على ديار مصر , فمات في الطريق مسموماً , فقيل : إن عبداً لعثمان عارضه , فسم له عسلاً ...
وليس لمعاوية رضي الله عنه ذكر !!
وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة (6/162) :
قد روي عن عمر وخالد بن الوليد وأبي ذر وعلي وصحبه وشهد معه الجمل وله فيها آثار , وكذلك في صفين وولاه على مصر بعد صرف قيس بن عبادة عنها , فلما وصل إلى القلزم شرب شربة عسل فمات فقيل : إنها كانت مسمومة , وكان ذلك سنة ثمان وثلاثين .
وليس لمعاوية رضي الله عنه ذكر .
وروى الطبراني في تاريخه (3/127) خبراً وفيه :
فبعث معاوية إلى الجابيستار – رجل من أهل الخراج – فقال له : إن الأشتر قد ولى مصر , فإن أنت كفيتنيه لم أخذ منك خراجاً ما بقيت , فاحتل له بما قدرت عليه .
فخرج الجابيستار حتى أتى القلزم وأقام به , وخرج الأشتر من العراق إلى مصر , فلما انتهى إلى القلزم استقبله الجابستار , فقال : هذا منزل , وهذا طعام وعلف , وأنا رجل من أهل الخراج , فنزل به الأشتر فأتاه الدهقان بعلف وطعام , حتى إذا طعم أتاه بشربة من عسل قد جعل فيها سماً فسقاه إياه فلما شربها مات ...
أقول : وهذه القصة من راوية أبي مخنف لوط بن أبي يحيى إخباري تالف , وقد سبق الكلام عليه .
لذلك أشار إليها ابن عساكر في تاريخه (56/376) بصيغة التمريض !! (7)
وذكر القصة البلاذري في أنساب الأشراف (3/168) بلا إسناد . وفيه : « وبلغت معاوية وفاته .. وجعل يقول : إن لله لجنداً من عسل » !
وساق البلاذري في أنساب الأشراف (3/168) قصة أخرى بمعناها من طريق وهب بن جرير عن ابن جعدبة عن صالح بن كيسان وفيه لما صار بعين شمس شرب شربة من عسل , يقال أنه سم فيها فكان عمرو بن العاص يقول : إن لله لجنداً من عسل . وليس لمعاوية رضي الله عنه ذكر !
* لعن وسب معاوية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه :
* الجواب عن هذا بأمور :
1- لا يصح شيء في أن معاوية كان يلعن علياً رضي الله عنه وقد نص على هذا الإمام القرطبي والحافظ ابن كثير رحمهما الله .
قال القرطبي في « المفهم » (6/278) : « يبعد على معاوية أن يصرح بلعنه وسبه لما كان معاوية موصوفا به من العقل والدين والحلم والأخلاق وما يروى عنه في ذلك فأكثره كذب لا يصح » .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في « البداية والنهاية » (7/284) : « لا يصح هذا » .
2- الجواب عن الأدلة التي يستدل بها أهل البدع على هذا الأمر :
* قصة لعن علي على منابر بني أمية رواها الطبري في « تاريخ الأمم والملوك » (3/112) من طريق أبي مخنف عن أبي جناب الكلبي وفيه عن علي رضي الله عنه وكان إذا صلى الغداة يقنت فيقول : « اللهم العن معاوية وعمراً وأبا الأعور السُّلمي وحبيباً وعبدالرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد . فبلغ ذلك معاوية فكان إذا قنت لعن علياً وابن عباس والأشتر وحسناً وحسيناً » ا.هـ.
وإسنادها لا يصح .
في سندها أبي مخنف لوط بن يحيى إخباري تالف لا يوثق به .
تركه أبو حاتم وغيره .
وقال الدارقطني : ضعيف .
وقال يحيى بن معين : ليس بثقة . وقال مرة : ليس بشيء .
قال ابن عدي : شيعي محترق صاحب أخبارهم .
وقال أبو عبيدة الآجري : سألت أبا حاتم عنه فنفض يده وقال : أحد يسأل عن هذا .
وذكره العقيلي في الضعفاء (8) .(/9)
روى مسلم في « صحيحه » (2404) عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسب أبا تراب ؟ فقال : أما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله فلن أسبه لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم ، سمعت رسول الله يقول له : خلفه في مغازيه فقال له علي يا رسول خلفتني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله : « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة من بعدي » ، وسمعته يقول يوم خيبر : « لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله » . قال : فتطاولنا لها . فقال : « أدعوا لي علياً فأتي به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه » ولمانزلت هذه الآية ? قل تعالوا ندعوا أبنائكم ? دعا رسول الله « علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال : اللهم هؤلاء أهلي » .
والجواب على هذا الحديث :
أولا : أن قول معاوية لسعد رضي الله عنه « ما منعك أن تسب أبا تراب » أي لما لم تخطئه في رأيه واجتهاده وتظهر حسن اجتهادي ورأي وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ممن اعتزل الفتنة .
ثانياً : أن معاوية رضي الله عنه كان يريد أن يعرف موقف سعد من علي بن أبي طالب رضي الله عنه فسأله عن السبب المانع له من سبه هل كان ذلك إجلالاً له أو خوفاً أو ورعاً .
ثالثاً : أن معاوية رضي الله عنه لو كان يريد مسبة علي لما طلب ذلك من سعد بن أبي وقاص فسعد قد اعتزل الفتنة وثبت عنه رضي الله عنه بالأسانيد الصحيحة أنه دعى على من سب علياً واستجاب الله دعائه (9) .
فكيف يطلب معاوية منه أن يسب علياً رضي الله عنه !
قال النووي رحمه الله في « شرح صحيح مسلم » (15/175) : « قول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمراً سعداً بسبه وإنما سأله عن السبب المانع له من السب كأنه يقول هل امتنعت تورعاً أو خوفاً أو غير ذلك فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السب فأنت مصيب ومحسن وإن كان غير ذلك فله جواب آخر ولعل سعداً قد كان في طائفة يسبون فلم يسب معهم وعجز عن الإنكار أو أنكر عليهم فسأله هذا السؤال قالوا ويحتمل تأويلاً آخر أن معناه : ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه خطأ » .
وقال القرطبي في « المفهم » (6/276) : « وهذا ليس بتصريح في السب وإنما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج ما عنده من ذلك أو من نقيضه كما قد ظهر من جوابه ولما سمع ذلك معاوية سكت وأذعن وعرف الحق لمستحقه » .
3- في صحيح مسلم ( برقم 2409) عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : استعمل على المدينة رجل من آل مروان قال : فدعا سهل بن سعد فأمر أن يشتم عليا رضي الله عنه فأبى سهل فقال له : أما إذا أبيت فقل : لعن الله أبا تراب فقال سهل : ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي تراب .. الحديث .
ويجاب عن هذا الحديث بأمرين :
أن هذا الحديث ليس فيه تصريح بأن الذي أمر بشتم علي رضي الله عنه هو معاوية رضي الله عنه .
وفي هذا الحديث أن الذي أمر سهل بن سعد رضي الله عنه من آل مروان ومعاوية رضي الله عنه من بني حرب لا من بني مروان !!
ولو ثبت هذا عن معاوية رضي الله عنه فهذا لا يعد إلا أن يكون ذنباً أو اجتهاداً خاطئاً يغفر بالتوبة والحسنات الماحية .
قال ابن تيمية في « منهاج السنة » (4/368) في رده على ابن المطهر الرافضي : « وأما ما ذكره من لعن علي فإن التلاعن وقع من الطائفتين كما وقعت المحاربة ... وهذا كله سواء كان ذنباً أو اجتهاداً مخطئاً أو مصيباً فإن مغفرة الله ورحمته تناول ذلك بالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وغير ذلك » .
وقد ذكر ذلك أيضاً البلاذري في أنساب الأشراف (5/124) بلا إسناد !
فقال : « وحدثت أن معاوية خطب الناس يوماً , فذكر علياً فتنقصه ... » .
ورواه في (5/30) مسنداً قال حدثني المدائني عن عبدالله بن قائد وسحيم بن حفص قالا : كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة : أظهر شتم علي وتنقصه , فكتب إليه : ما أحب لك يا أمير المؤمنين أن كلما عبت تنقصت , وكلما غضبت ضربت , ليس بينك وبين ذلك حاجز من حلمك ولا تجاوز بعفوك !
وسحيم بن حفص هو أبو اليقظان العجيفي . لم أجد فيه جرحاً ولا تعديلاً إلا قول الحافظ المزي في تهذيب الكمال (8/216) « الإخباري » وسحيم لقبه واسمه عامر , وقول ابن النديم في فهرسة (138) : « وكان عالماً بالأخبار والأنساب والمآثر والمثالب ثقة » وعبدالله بن فائد في الإسناد هو نفسه سحيم بن حفص !!(/10)
روى الخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق (2/165) من طريق الزبير بن بكار قال حدثني رجل ثقة قال : قال لي أبو الحسن المدائني أبو اليقظان هو سحيم بن حفص وسحيم لقب له وهو عامر بن حفص وكان لحفص ابن يقال له محمد وكان أكبر ولده ولم يكن به وكان حفص أسود شديد السواد يعرف بالأسود . وقال لي أبو اليقظان سمتني أمي خمسة عشرة يوماً عبدالله فإذا قلت حدثنا أبو اليقظان فهو أبو اليقظان فإذا قلت سحيم بن حفص وعامر بن حفص وعامر بن أبي محمد وعامر بن الأسود وسحيم بن الأسود وعبدالله بن فائد وأبو إسحاق المالكي فهو أبو اليقظان . ا.هـ (10)
وذكره السخاوي في فتح المغيث مع الرواة الذين نعتوا لنعوت متعددة .
ثم إن سحيما بن حفص لم يدرك معاوية بل هو متأخرا عنه وعن خلافته جداً . وفاة سحيم سنة 190 هـ !! (11) .
* معاوية ذمه كثير من المهاجرين والأنصار من البدريين وغيرهم !!
وجاء ذمه على السنة كثير من التابعين كالحسن البصري والأسود بن يزيد وغيرهم !
أقول أما ذم معاوية رضي الله عنه على ألسنة كثير من المهاجرين والأنصار فهذا كذب محض !
فعمر رضي الله عنه المحدث الملهم مدحه وأثنى عليه وولاه الشام مدة خلافته وكذلك عثمان رضي الله عنه .
وناهيك بهذه منقبة عظيمة من مناقب معاوية رضي الله عنه
فلم يشكُ أحد منه , ولا اتهمه بجور ولا مظلمة مدة ولايته (12) .
أما قول من قال ثبت ذمه على ألسنة كثير من المهاجرين والأنصار فلم يورد ولا إسناداً واحداً صحيحاً .
- أثر علي رضي الله عنه لما طلبوا منه أن يبقي معاوية على الشام فتلى الآية الكريمة : ? وما كنت متخذ المضلين عضدا ? رواه ابن عساكر في « تاريخ دمشق » (59/127) وفي سنده نصر بن مزاحم رافضي كذاب .
- وأثر عبادة بن الصامت رواه الإمام أحمد في « المسند » (22838) ، وابن عساكر في « تاريخ مدينة دمشق » (26/198) في سنده يحيى بن سليم بن بلج أبو بلج الفزاري الواسطي صدوق له ما يُستنكر .
وفي سنده أيضاً إسماعيل بن عبيد ويقال ابن عبيد الله بن رفاعة الزرقي .
قال البخاري : لم يرو عنه غير ابن خثيم .
ذكره ابن حبان في الثقات .
قال ابن حجر : مقبول .
ومقبول أي إذا توبع وإلا فلين الحديث .
وإسماعيل ابن عبيد لم يتابع على حديثه .
- وأثر خزيمة بن ثابت رضي الله عنه رواه ابن سعد في « الطبقات الكبرى » (3/259) ، وابن عساكر في « تاريخ دمشق » (16/370) في سنده الواقدي متروك الحديث .
- وأما ذم الحسن البصري لمعاوية رضي الله عنه فلا يصح عنه .
رواه ابن جرير الطبري في « تاريخه » (3/232) عن الحسن البصري أنه قال : أربع خصال كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة له :
* أخذه الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة ونور الفضيلة .
* استخلافه بعده ابنه سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب الطنابير .
* ادعاءه زياداً وقد قال رسول الله الولد للفراش وللعاهر الحجر .
* قتله حجراً وأصحاب حجر ، فيا ويلا له من حجر ويا ويلا له من حجر وأصحاب حجر
إسنادها ساقط فيه لوط بن يحيى إخباري تالف وقد سبق الكلام عليه . وذكره ابن كثير في « البداية والنهاية » (8/90) بصيغة التمريض .
والصحيح عن الحسن رحمه الله خلاف ذلك !
فروى الآجري في « الشريعة » (5/2467) ، وابن عساكر (59/206) من طريق عن قتادة عن الحسن البصري إن أناساً يشهدون على معاوية وذويه أنهم في النار ! قال : لعنهم الله ! وما يدريهم أنه في النار ؟
ورواه ابن عساكر (59/206) من طريق محمد بن عبدالملك بن أبي الشوارب حدثنا بشر بن الفضل عن أبي الأشهب قال : قيل للحسن يا أبا سعيد إن ههنا قوما يشتمون – أو يلعنون – معاوية وابن الزبير ! فقال : على أولئك الذين يلعنون لعنة الله وسنده صحيح وكذلك ذم الأسود بن يزيد لا يصح .
رواه ابن عساكر في « تاريخ دمشق » (59/145) من طريق أبي داود الطيالسي حدثنا أيوب بن جابر عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد قال : قلت لعائشة : ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الخلافة ؟ قالت : وما تعجب من ذلك ؟ هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة .
وهذا الأثر لا يصح في سنده أيوب بن جابر أبو سليمان اليمامي ضعيف عند أكثر أهل العلم بالحديث ، ضعفه ابن معين وابن المديني والنسائي وأبو زرعة وأبو حاتم ويعقوب بن سفيان ومعاوية بن صالح (13) وقال أبو حبان : كان يخطئ حتى خرج عن حد الاحتجاج به لكثرة وهمه (14) . وقال الإمام أحمد : حديثه يشبه حديث أهل الصدق وقال ابن عدي : وسائر أحاديث أيوب بن جابر صالحة متقاربة يحمل بعضها بعضاً , وهو ممكن يكتب حديثه (15) .
وفيه أيضا عبدالرحمن بن محمد بن يحيى بن ياسر الجوبري فيه جهالة توفي سنة 425هـ.
ذكره الذهبي في « سير أعلام النبلاء » (17/415) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً (16) .
كتبه وأملاه/
الفقير إلى عفو ربه ومولاه
سعد بن ضيدان السبيعي
عضو الدعوة بوزارة الشئون الاسلامية(/11)
s-subaei@hotmail.com
--------------------------------
(1) انظر البداية والنهاية ( 8 / 139 ).
(2) انظر البداية والنهاية ( 8 / 139 ) .
(3)التاريخ الأوسط (71).
(4) في تهذيب التهذيب (8/72) قال البخاري روى عن عكرمة في قصة البهيمة ( من أتى بهيمة فقتلوه ) فلا أدري سمع أم لا ؟!
(5) انظر الكامل لابن عدي (2/210) .
(6) انظر التاريخ الكبير (7/387) , الجرح والتعديل (8/266) , الثقات (7/490) .
(7) انظر تاريخ دمشق لابن عساكر (49/428) , (56/375) , (56/388) و (56/389) و (56/391) وليس لمعاوية ذكر !
(8) الكامل لابن عدي (6/93) الضعفاء للعقيلي (4/190) لسان الميزان (2/430)
(9) انظر سير أعلام النبلاء (1/116) في قصة ذكرها الإمام الذهبي لرجل نال من علي فنهاه سعد فلم ينهه فدعا عليه فما برح حتى جاء بعير ناد فخبطه حتى مات قال ولهذه الواقعة طرق جمة رواها ابن أبي الدنيا في مجابي الدعوة .
(10) انظر الكفاية في علم الرواية , وفتح المغيث .
(11) انظر الفهرست لابن النديم ص(507) .
(12)انظر الاستيعاب (699) ، السير (3/132) ، منهاج السنة (4/369) ، البداية والنهاية (8/18) ، تطهير الجنان (20) .
(13) انظر التهذيب (1/201) .
(14) المجروحين (1/167) .
(15) الكامل (1/355) .
(16) انظر تذكرة الحفاظ (3/1076) .
سعد بن ضيدان السبيعي
=================
خال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
الثلاثاء, 14 رجب, 1427
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلقد قضى الله بحكمته أن يكون لنبيه المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم صحبٌ كرام، ورجال أفذاذ، هم خيرة الخلق بعد الأنبياء، وهم الذين حملوا رسالة هذا الدين وبثها في أصقاع المعمورة، واختصهم الله سبحانه وتعالى بصحبة نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، ولولا انفرادهم بالأفضلية والخيرية لما اختيروا لهذه الصحبة العظيمة، والتي هي أجلّ مرافقة على مرّ العصور، كيف لا! وهي مرافقة أفضل الخلق وأكرمهم- عليه الصلاة والسلام-.
ثم إنه قد وقع بين البعض من الصحابة رضوان الله عليهم شيء من الخلاف في أمور اجتهداو فيها، ورأى كلٌ منهم أنه على الحق، ولم يكن اختلافهم هذا من أجل دنيا يرغبون إصابتها، ولا ملك يريدون إنتزاعه- كما يتوهم البعض من العامة-، بل كان السبب المُنشىء لهذا الخلاف هو: إحقاقُ الحق، الذي يرى كل منهم أنه معه، فرضي الله عنهم أجمعين.
ومن المؤسف أن يقع البعض في الصحابة الأخيار، وأن يُنال ممن صحبوا الرسول الكريم، وشهد لهم كبار هذه الأمة بعد رسولها صلى الله عليه وسلم بالخير والصلاح، ونصّبوهم المناصب العالية في دولتهم، وسيّروهم على الجيوش الفاتحة لبلاد العالم آنذاك.
ومن هؤلاء الصحابة الكرام، الصحابي الجليل، الخليفةُ والملك القائد،صاحب الفتوحات الإسلامية، والقائد المُحنَّك، وداهية زمانه: معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه.
من هو مُعاوية؟
هو: معاوية بن أبي سفيان، واسم أبي سفيان: صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، يكنى أبا عبد الرحمن.
أمه: هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وأمها: صفية بنت أمية بن حارثة بن الأقوص بن سليم.
كان أبيض طويلاًن أبيض الرأس واللحية، أصابته لُقوةٌ (اللّقوة: داء يصيب الوجه) في آخر حياته.
قال أسلم مولى عمر: قَدِمَ علينا معاوية وهو أبيض الناس وأجملهم.
ولقد كان حليماً وقوراً، رئيساً سيداً في الناس، كريماً عادلاً شهماً.
قال المدائني: عن صالح بن كيسان قال: رأى بعض منفرسي العرب معاوية وهو صغير، فقال: إني لأظن هذا الغلام سيسود قومه. فقالت هند- أم معاوية- ثكِلْتُهُ إن كان لا يسود إلا قومه.
إسلامه
أسلم هو وأبوه وأخوه يزيد وأمه يوم فتح مكة.
وروي عنه أنه قال: أسلمتُ يوم القضيَّة- أي: يوم عمرة القضاء-، وكتمت إسلامي خوفاً من أبي.
قال معاوية: لمّا كان يوم الحديبية وصدّت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت، ودافعوه بالروحاء وكتبوا بينهم القضيَّة، وقع الإسلام في قلبي، فذكرت ذلك لأمي هند بنت عتبة، فقالت: إيَّاك أن تخالف أباك، وأن تقطع أمراً دونه فيقطع عنك القوت، وكان أبي يومئذ غائباً في سوق حُباشة.
قال: فأسلمت وأخفيت إسلامي، فوالله لقد رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية وإني مصدقٌ به، وأنا على ذلك أكتمه من أبي سفيان، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة القضية وأنا مسلم مصدق به، وعَلِمَ أبو سفيان بإسلامي فقال لي يوماً: لكن أخوك خير منك، وهو على ديني، فقلت: لم آل نفسي خيراً.
فضائله
1- كان أحد الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل إنه كان يكتب الوحي، وفي هذه المسألة خلاف بين المؤرخين، وكان يكتب رسائل النبي صلى الله عليه وسلم لرؤساء القبائل العربية.
2- شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً، وأعطاه مائة من الإبل، وأربعين أوقية من ذهب وزنها بلال رضي الله عنه.(/12)
3- شهد اليمامة، ونقل بعض المؤرخين أن معاوية ممن ساهم في قتل مسيلمة الكذاب.
4- صَحِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه أحاديث كثيرة، في الصحيحين وغيرهما من السنن والمسانيد.
5- روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين.
ثناء الصحابة والتابعين عليه
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- بعد رجوعه من صفين: لا تكرهوا إمارة معاوية، والله لئن فقدتموه لكأني أنظر إلى الرؤوس تندرُ عن كواهلها.
وقال سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه-: ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب- يعني معاوية-.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما-: ما رأيت رجلاً أخْلَقَ للمُلك من معاوية، لم يكن بالضيِّق الحصر.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: علمتُ بما كان معاوية يغلب الناس، كان إذا طاروا وقع، وإذا وقعوا طار.
وعنه قال: ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسْوَدَ من معاوية- أي: من السيادة-، قيل له: ولا أبو بكر وعمر؟ فقال: كان أبو بكر وعمر خيراً منه، وما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسْوَدَ من معاوية.
قال كعب بن مالك- رضي الله عنه-: لن يملك أحدٌ هذه الأمة ما ملك معاوية.
وعن قبيصة عن جابر- رضي الله عنه- قال: صحبتُ معاوية فما رأيت رجلاً أثقل حلماً، ولا أبطل جهلاً، ولا أبعد أناةً منه.
عن أبي إسحاق قال: كان معاوية، وما رأينا بعده مثله.
حكم سب الصحابة
ينبغي لكل مسلم أن يعلم أنه لا يجوز له بحال من الأحوال لعنُ أحد من الصحابة، أو سبُّه، ذلك أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم نقلة هذا الدين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أنَّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه » [متفق عليه].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم » [رواه البخاري ومسلم].
فهم رضوان الله تعالى عليهم خيرٌ من الحواريين أصحاب عيسى، وخير من النقباء أصحاب موسى، وخير من الذين آمنوا مع هود ونوح وغيرهم، ولا يوجد في أتباع الأنبياء من هو أفضل من الصحابة، ودليل ذلك الحديث الآنف الذكر [انظر فتاوى ابن عثيمين].
سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- عمن يلعن معاوية، فماذا يجب عليه؟
فأجاب: الحمد لله من لعن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كمعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص ونحوهما، ومن هو أفضل من هؤلاء: كأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة ونحوهما، أو من هو أفضل من هؤلاء: كطلحة، والزبير، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، أو أبي بكر الصديق، وعمر، أو عائشة أم المؤمنين، وغير هؤلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه مُستحق للعقوبة البلغية باتفاق أئمة الدين، وتنازع العلماء: هل يُعاقب بالقتل، أم مادون القتل؟ كما بسطنا ذلك في غير هذا الموقع. [مجموع الفتاوى 35].
ولماذا يُصرُّ البعض على الخوض فيما وقع بين علي ومعاوية- رضي الله عنهما- من خلاف، على الرغم من أن كثيراً من العلماء إن لم يكن جُلُّهم، ينصحون بعدم التعرض لهذه الفتنة، فقد تأول كلٌ منهم واجتهد، ولم يكن هدفهم الحظوظ النفسية أو الدنيوية، بل كان هدفهم قيادة هذه الأمة إلى بر الأمان، كلٌ وفق اجتهاده- وهذا ما أقرَّه العلماء-.
فمعاوية- رضي الله عنه- يعترف بأفضلية علي بن أبي طالب- رضي الله عنه، وأنه خيرٌ منه، أورد ابن عساكر- رحمه الله تعالى- في كتابه تاريخ دمشق ما نصه: جاء أبو موسى الخولاني وأناس معه إلى معاوية فقالوا له: أنت تُنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال معاوية: لا والله! إني لأعلم أن علياً أفضل مني، وإنه لأحق بالأمر مني، ولكنْ ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً وأنا ابن عمه؟ وإنما أطلب بدم عثمان، فأتوه فقولوا له، فليدفع إليّ قتلة عثمان، وأُسلِّم له.
وإن من العقل والرؤية أن يُعرض المسلم عن هذا الخلاف، وأن لا يتطرق له بحال من الأحوال، ومن سمع شيئاً مما وقع بينهم فما عليه إلا الإقتداء بالإمام أحمد حينما جاءه ذلك السائل يسأله عما جرى بين علي ومعاوية، فأعرض الإمام عنه، فقيل له: يا أبا عبد الله! هو رجل من بني هاشم، فأقبل عليه فقال: اقرأ: {تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [البقرة: 134] هذا هو الجواب نحو هذه الفتنة، لا أن يُتصدّر بها المجالس، ويُخطَّأ هذا، ويُصوّب ذاك!
فمعاوية رضي الله عنه صحابي جليل، لا تجوز الوقيعة فيه، فقد كان مُجتهداً، وينبغي للمسلم عند ذكره أن يُبيّن فضائله ومناقبه، لا أن يقع فيه، فابن عباس رضي الله عنه عاصر الأحداث الدَّائرة بين علي ومعاوية، وهو أجدرُ بالحكم في هذا الأمر، وعلى الرغم من هذا، إلا أنه حين ذُكر معاوية عنده قال: تِلادُ ابن هند، ما أكرم حسبه، وأكرم مقدرته، والله ما شتمنا على منبر قط، ولا بالأرض، ضنّاً منه بأحسابنا وحسبه.(/13)
كان معاوية من المشاركين في معركة اليرموك الشهيرة، وأورد الطبري- رحمه الله تعالى- أن معاوية كان من الموقعين على وثيقة استلام مدينة القدس بعد معركة اليرموك، والتي توَّجها الخليفة عمر بحضوره إلى فلسطين، وكان معاوية واليا على الشام ذلك الوقت.
عن الإمام أحمد قال: إذا رأيت الرجل يذكر أحداً من أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم بسوء، فاتَهِمْهُ على الإسلام.
وقيل لابن المبارك: ما تقول في معاوية؟ هو عندك أفضل أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لترابٌ في مِنْخَرَيْ معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرٌ- أو أفضل- من عمر بن عبد العزيز.
فعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، مع جلالة قدره، وعلمه، وزهده، وعدله، لا يُقاس بمعاوية، لأن هذا صحابي، وذاك تابعي!، ولقد سأل رجل المعافى بن عمران- رحمه الله تعالى- قائلاً: يا أبا مسعود! أين عمر بن عبد العزيز من معاوية؟ فغضب وقال: يومٌ من معاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز عُمُره، ثم التفت إليه فقال: تجعل رجلاً من أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم مثل رجل من التابعين.
قال الإمام الذهبي- رحمه الله- حسبك بمن يُؤمِّرهُ عمر، ثم عثمان على إقليم- وهو ثغر- فيضبطه، ويقوم به أتمّ قيام، ويرضى الناس بسخائه وحلمه، وإن كان بعضهم قد تألم مرة منه، وكذلك فليكن الملك.
قال المدائني: كان عمر إذا نظر إلى معاوية قال: هذا كسرى العرب.
ولعل مما تجدر الإشارة إليه في ثنايا هذه الأسطر، أن يُبيَّن أن كثيراً مما قيل ضِدَّ معاوية لا حقيقة له، ولعله من دسِّ الرافضة، الذين يحملون عليه، لا بسبب! إلا لامتناعه من التسليم لعليِّ رضي الله عنه.
ولولا فضل معاوية ومكانته عند الصحابة لما استعمله أمير المؤمنين عمر خلفاً لأخيه يزيد بعد موته بالشام، فكان في الشام خليفة عشرون سنة، وملكاً عشرون سنة، وكان سلطانه قوي، فقد ورد على لسان ابن عباس أنه قال: ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسْوَدَ من معاوية، قيل له: ولا أبو بكر وعمر؟ فقال: كان أبو بكر وعمر خيراً منه، وما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسْود من معاوية- أي في السيادة-.
ثم إن معظم من ذكر معاوية- إما بسوء كالرافضة، أو الغُلاة الذين يُنابذونهم- قد طغوا في ذمهم إياه، أو مديحهم له بشكل غير مقبول البتة.
قال ابن الجوزي في كتابه الموضوعات: (قد تعصّب قوم ممن يدّعي السنة، فوضعوا في فضل معاوية أحاديث ليغيظوا الرافضة، وتعصب قوم من الرافضة فوضعوا في ذمِّه أحاديث، وكلا الفريقين على الخطأ القبيح).
وما أجمل أن نختم هذه الأسطر بقول شيخ الإسلام- رحمه الله تعالى-:
(ولهذا كان من مذهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة، فإنه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتهم ومحبتهم. وما وقع: مِنْه ما يكون لهم فيه عذر يخفى على الإنسان، ومنه ما تاب صاحبه منه، ومنه ما يكون مغفوراً. فالخوض فيما شجر يُوقع في نفوس كثير من الناس بُغضاً وذماً، ويكون هو في ذلك مُخطئاً، بل عاصياً، فيضر نفسه ومن خاض معه في ذلك، كما جرى لأكثر من تكلم في ذلك، فإنهم تكلموا بكلام لا يحبه الله ولا رسوله: إما من ذمّ من لا يستحق الذم، وإما من مدح أمورٍ لا تستحق المدح).
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
==============
من خطب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
ذكر أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي عن معاوية, رضي الله عنه:
أنه حمد الله وأثنى عليه وأوجز, ثم قال:
أيها الناس انا قد أصبحنا في دهر عنود, وزمن شديد, يعد فيه المحسن مسيئا, ويزداد الظالم فيه عتوّا, لا ننتفع بما علمنا, ولا نسأل عما جهلنا, ولا نتخوّف قارعة حتى تحل بنا, فالناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه من الفساد في الأرض الا مهانة نفسه, وكلا حدّه, ونضيض وفره, ومنهم الصلت لسيفه, المجلب برجله, المعلن بشرّه, وقد أشرط نفسه, وأوبق دينه, لحطام ينتهزه, أو مقت يقوده, أو منبر يقرعه, وليس المتجران تراهما لنفسك ثمنا, وبمالك عند الله عوضا, ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة, ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا, قد طامن من شخصه, وقارب من خطوه, وشمّر عن ثوبه, وزخرف نفسه بالأمانة, واتخذ ستر الله ذريعة الى المعصية, ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضآلة نفسه, وانقطاع سببه, فقصّرت به الحال عن حاله, فتحلى باسم القناعة, وتزيّا بلباس الزّهادة, وليس من ذلك مراح ولا مفدى. وبقي رجال أغضّ أبصارهم ذكر المرجع, وأراق دموعهم خوف المضجع, فهم بين شريد باد, وبين خائف منقمع, وساكت مكعوم, وداع مخلص, وموجع ثكلان, قد أخملتهم التقيّة, وشملتهم الذلّة, فهم في بحر أجاج, أفواههم ضامرة, وقلوبهم قرحة, قد وعظوا حتى ملّوا, وقهروا حتى ذلوا, وقتلوا حتى قلّوا.
فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ وقراضة الجلم, واتّعظوا بمن كان قبلكم, قبل أن يتّعظ بكم من بعدكم, وارفضوها ذميمة, فقد رفضت من كان أشفق بها منكم.(/14)
المرجع:" العقد الفريد" (4\88-89)
===============
الذب عن الصحابي الجليل (معاوية بن أبي سفيان) رضي الله عنه !
تَبْرِئَةُ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِمَا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الزُّورِ وَالْبُهْتَانِ
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله : معاوية عندنا محنة ، فمن رأيناه ينظر إليه شزراً اتهمناه على القوم ، يعني الصحابة . " البداية والنهاية " (8/139).
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ، ، ،
لقد انبرى أهل البدع بالطعن في أحد الصحابة ألا وهو "معاوية بن أبي سفيان" رضي الله عنه ، والزور والبهتان الذي رُمي به معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ليس وليد الساعة ، ومع الأسف اغتر بعض أهل السنة بمثل هذه الطعون في معاوية رضي الله عنه ، وأصبحوا يرددونها في المجالس العامة ، والله المستعان. وفي هذا المقال نريد أن نقف مع المطاعن والشبه التي قيلت في معاوية رضي الله عنه ، ونثبت أنها زورٌ وبهتانٌ لا يصح منها شيء البتة .
والناظر فيما رُمي به معاوية رضي الله عنه يجد أن غالب من تكلم فيه لا يورد مثالب معاوية رضي الله عنه – بزعمهم - بالسند ، بل يذهب إلى كتب التاريخ التي تروي من غير اعتماد على السند في الغالب ، لأنهم لو ذكروها بالسند لظهر كذبهم .
وقد أخذت عنوان البحث وهو "تَبْرِئَةُ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِمَا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الزُّورِ وَالْبُهْتَانِ" من كتاب "لا دفاعا عن الألباني فحسب ... بل دفاعاً عن السلفية " ( ص 171 ) للشيخ عمرو عبد المنعم سليم في رده على الضال حسن السقاف - وما أكثر الضلال في الأزمنة المتأخرة لا كثرهم الله – لأنني رأيت أنه عنوان يناسب المقام ، ولا شك أن كتابَ الشيخِ عمرو عبد المنعم أحدُ المراجع التي اعتمدتُ عليها في هذا البحث .
ومع عناصر البحث .
أولاً : فضائلُ معاويةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ :
إن فضائل معاوية ثابتةٌ عموماً وخصوصاً .
فضائلُ معاويةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ على وجهِ العمومِ :
لا شك أن معاوية رضي الله عنه يدخل في عمومِ الآياتِ التي وردت في فضائلِ الصحابةِ ، ولن أطيل في ذكر الآيات الواردة ، فمن ذلك :
1- قال تعالى : "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا " [ الفتح : 29 ] ولو لم يكن في الصحابة إلا هذه الآية لكفتهم رضي الله عنهم .
2- وقال تعالى : "لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى" [ الحديد : 10 ] .
وغيرُ ذلك من الآياتِ التي وردت في مدحِ الصحابةِ عموماً ومنهم معاويةُ رضي الله عنه ، وليس المقامُ مقامَ حصرٍ.
أما الثناءُ على الصحابةِ ومنهم معاوية رضي الله عنه في السنةِ كثيرٌ جدا فمن ذلك :
1- عَنْ أَبِي بُرْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قُلْنَا : لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ الْعِشَاءَ ، قَالَ : فَجَلَسْنَا ؛ فَخَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ : مَا زِلْتُمْ هَاهُنَا ؟ قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّيْنَا مَعَكَ الْمَغْرِبَ ، ثُمَّ قُلْنَا نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَكَ الْعِشَاءَ ، قَالَ : أَحْسَنْتُمْ ، أَوْ أَصَبْتُمْ ، قَالَ : فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَكَانَ كَثِيرًا مِمَّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ : النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتْ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ . رواه مسلم (2531) .
2- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي ، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ .
رواه البخاري (3673) ، ومسلم (2540) .(/15)
وأكتفي بهذين الحديثين في ذكر فضائل صحابة رسول الله صلى الله عليه ، وإلا لو سردنا ما ورد في فضائلهم لسطرنا في ذلك مجلدات – رضي الله عنهم - .
فضائلُ معاويةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ على وجهِ الخصوصِ :
جاءت أحاديث في فضائل معاوية ، ولم أكتفِ بذكر فضائله ، بل وجدت أحاديث كثيرة تبين ما لهذا الصحابي الجليل من منزلة عند غيره من الصحابة ، إلى جانب فقهه واجتهاده في بعض المسائل ، ونصحه لرعيته ، وحرصت على ما ورد في الصحيحين لكي لا يطول البحث ، فمن ذلك :
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليه كان له زكاةً وأجراً ورحمةً :
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كُنْتُ أَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَارَيْتُ خَلْفَ بَابٍ ، قَالَ : فَجَاءَ فَحَطَأَنِي حَطْأَةً وَقَالَ : اذْهَبْ وَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ ، قَالَ فَجِئْتُ فَقُلْتُ : هُوَ يَأْكُلُ ، قَالَ : ثُمَّ قَالَ لِيَ : اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ ، قَالَ : فَجِئْتُ فَقُلْتُ : هُوَ يَأْكُلُ ، فَقَالَ : لَا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَهُ . رواه مسلم (2604) ، والطيالسي (2869) .
ولنا مع هذا الحديثِ وقفة :
ظن بعضُ المبتدعةِ أن هذا الحديثَ من مثالبِ معاويةَ ، فبئس ما صنعوا ، بل الحديثُ يعتبرُ منقبةً من مناقبِ معاويةَ رضي الله عنه ، فما هو ردُ أهلِ السنةِ على هذه الفريةِ في حقِ معاوية رضي اللهُ عنه ؟
بوب الإمام النووي على الحديث بقوله : من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبَّه أو دعا عليه ، وليس هو أهلاً لذلك كان له زكاةً وأجراً ورحمةً .
وقال الإمام النووي في " المنهاج " (16/156) : وَقَدْ فَهِمَ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه مِنْ هَذَا الْحَدِيث أَنَّ مُعَاوِيَة لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ , فَلِهَذَا أَدْخَلَهُ فِي هَذَا الْبَاب ، وَجَعَلَهُ غَيْره مِنْ مَنَاقِب مُعَاوِيَة لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة يَصِير دُعَاء لَهُ .ا.هـ.
ومما يؤكد هذا الفهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث الأخرى التي تحت الباب المذكور فمن ذلك :
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ ، فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ ؟فَأَغْضَبَاهُ ، فَلَعَنَهُمَا ، وَسَبَّهُمَا فَلَمَّا خَرَجَا قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَصَابَ مِنْ الْخَيْرِ شَيْئًا مَا أَصَابَهُ هَذَانِ ، قَالَ : وَمَا ذَاكِ ؟ قَالَتْ : قُلْتُ : لَعَنْتَهُمَا وَسَبَبْتَهُمَا ، قَالَ : أَوَ مَا عَلِمْتِ مَا شَارَطْتُ عَلَيْهِ رَبِّي ؟ قُلْتُ : اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا . رواه مسلم (2600) .
وَفِي رِوَايَة : "أَوْ جَلَدْته فَاجْعَلْهَا لَهُ زَكَاة وَرَحْمَة" .
وَفِي رِوَايَة : "فَأَيّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْته شَتَمْته لَعَنْته جَلَدْته اِجْعَلْهَا لَهُ صَلَاة وَزَكَاة وَقُرْبَة تُقَرِّبهُ بِهَا إِلَيْك يَوْم الْقِيَامَة" .
وَفِي رِوَايَة : "إِنَّمَا مُحَمَّد بَشَر يَغْضَب كَمَا يَغْضَب الْبَشَر ، وَإِنِّي قَدْ اِتَّخَذْت عِنْدك عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ ، فَأَيّمَا مُؤْمِن آذَيْته أَوْ سَبَبْته أَوْ جَلَدْته فَاجْعَلْهَا لَهُ كَفَّارَة وَقُرْبَة " .
وَفِي رِوَايَة : "إِنِّي اِشْتَرَطْت عَلَى رَبِّي فَقُلْت : إِنَّمَا أَنَا بَشَر أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَر ، وَأَغْضَب كَمَا يَغْضَب الْبَشَر ، فَأَيّمَا أَحَد دَعَوْت عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أَنْ تَجْعَلهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاة وَقُرْبَة " .
قال النووي عن هذه الروايات: وَهَذِهِ الرِّوَايَة الْمَذْكُورَة آخِرًا – يقصد : إِنِّي اِشْتَرَطْت عَلَى رَبِّي - تُبَيِّن الْمُرَاد بِبَاقِي الرِّوَايَات الْمُطْلَقَة ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُون دُعَاؤُهُ عَلَيْهِ رَحْمَة وَكَفَّارَة وَزَكَاة وَنَحْو ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ وَالسَّبّ وَاللَّعْن وَنَحْوه ، وَكَانَ مُسْلِمًا , وَإِلَّا فَقَدْ دَعَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُمْ رَحْمَة .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْف يَدْعُو عَلَى مَنْ لَيْسَ هُوَ بِأَهْلِ الدُّعَاء عَلَيْهِ أَوْ يَسُبّهُ أَوْ يَلْعَنهُ وَنَحْو ذَلِكَ ؟
فَالْجَوَاب مَا أَجَابَ بِهِ الْعُلَمَاء ، وَمُخْتَصَره وَجْهَانِ :(/16)
أَحَدهمَا أَنَّ الْمُرَاد لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ عِنْد اللَّه تَعَالَى ، وَفِي بَاطِن الْأَمْر ، وَلَكِنَّهُ فِي الظَّاهِر مُسْتَوْجِب لَهُ ، فَيَظْهَر لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْتِحْقَاقه لِذَلِكَ بِأَمَارَةٍ شَرْعِيَّة ، وَيَكُون فِي بَاطِن الْأَمْر لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ ، وَهُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُور بِالْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ ، وَاَللَّه يَتَوَلَّى السَّرَائِر .
وَالثَّانِي أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ سَبّه وَدُعَائِهِ وَنَحْوه لَيْسَ بِمَقْصُودٍ ، بَلْ هُوَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَة الْعَرَب فِي وَصْل كَلَامهَا بِلَا نِيَّة ، كَقَوْلِهِ : تَرِبَتْ يَمِينك ، عَقْرَى حَلْقَى وَفِي هَذَا الْحَدِيث (لَا كَبِرَتْ سِنّك) وَفِي حَدِيث مُعَاوِيَة (لَا أَشْبَعَ اللَّه بَطْنك) وَنَحْو ذَلِكَ لَا يَقْصِدُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَة الدُّعَاء ، فَخَافَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَادِف شَيْء مِنْ ذَلِكَ إِجَابَة ، فَسَأَلَ رَبّه سُبْحَانه وَتَعَالَى وَرَغِبَ إِلَيْهِ فِي أَنْ يَجْعَل ذَلِكَ رَحْمَة وَكَفَّارَة ، وَقُرْبَة وَطَهُورًا وَأَجْرًا وَإِنَّمَا كَانَ يَقَع هَذَا مِنْهُ فِي النَّادِر وَالشَّاذّ مِنْ الْأَزْمَان ، وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا لَعَّانًا وَلَا مُنْتَقِمًا لِنَفْسِهِ ، وَقَدْ سَبَقَ فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُمْ قَالُوا : اُدْعُ عَلَى دَوْس ، فَقَالَ : "اللَّهُمَّ اِهْدِ دَوْسًا" وَقَالَ: "اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " وَاَللَّه أَعْلَم .ا.هـ.
وقال الإمام الذهبي في " السير" (14/130) : لَعَلَّ أَنْ يُقَالْ هَذِهِ مَنْقَبَةٌ لِمُعَاوِيَةَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ مَنْ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجعَلْ ذَلِكَ لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً " .ا.هـ.
وقال مثله أيضا في " تذكرة الحفاظ " (2/699) .
وقال ابن كثير في " البداية والنهاية " عند ترجمة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه : وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه .
أما في دنياه : فإنه لما صار إلى الشام أميراً ، كان يأكل في اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل فيأكل منها ، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم ، ومن الحلوى والفاكهة شيئاً كثيراً ، ويقول : والله ما أشبع وإنما أعيا ، وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك .
وأما في الآخرة : فقد أتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الذي رواه البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة .أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلاً فاجعل ذلك كفارةً وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة ".
فركب مسلم من الحديث الأول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية ، ولم يورد له غير ذلك .ا.هـ.
تعليق المجاهد عمر :
قد ثبت في هذا الحديث من عدة طرق صحيحة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه :
عن عبد الرحمن بن أبي عميرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاوية : (اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به).
رواه الترمذي وأخرجه الألباني في مشكاة المصابيح بسند صحيح.
وبذلك تبطل أقاويل الطاعنين في الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه !!
==============(/17)
فضائيات - غزو جديد
دار الوطن
الحمد لله الذي أمرنا بطاعته، ونهانا عن معصيته ومخالفته، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وأصحابه، أما بعد:
نحن على مشارف قرن جديد، ولا يزال للإسلام قوة وأتباع، ولا يزال في الأمة رجال يؤرقهم همّ الإسلام، يحملون قضيته، ويحفظون حدوده، ويذودن عن حياضه.
وهذا ما دعا أعداء الإسلام لأن يزيدوا من حملتهم ضد الإسلام ويضاعفوا من خططهم ومؤامراتهم، لإضلال المسلمين وإفسادهم وإخراجهم من دينهم، وجعلهم دُمى يحركونها كيفما أرادوا، قال تعالى: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا و من يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [البقرة:217].
حرب الفضائيات
إن أخطر ما يواجه به المسلمون اليوم ذلك الغزو الوافد إلينا عن طريق القنوات التلفزيونية الفضائية.
إنه غزو جديد.. لا تشارك فيه الطائرات ولا الدبابات.. ولا القنابل والمدرعات.. غزو ليس له في صفوف الأعداء خسائر تُذكر.. فخسائره في صفوفنا نحن المسلمين.. إنه غزو الشهوات.. غزو الكأس والمخدرات.. غزو المرأة الفاتنة.. والرقصة الماجنة.. والشذوذ والفساد.. غزو الأفلام والمسلسلات.. والأغاني والرقصات.. وإهدار الأعمار بتضييع الأوقات. إنه غزو لعقيدة المسلمين في إيمانهم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وأمور الغيب التي وردت في كتاب الله وصحت عن نبينا محمد .
إنه غزو لمفهوم الولاء والبراء، والأخوة الإسلامية، والاهتمام بقضايا الإسلام والمسلمين المتمثل في مبدأ الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تدعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.
فأينما ذُكر اسم الله في بلدٍ *** أعددت ذاك الحِمى من بعض أوطاني
إن هذا الغزو القادم إلينا من الفضاء يفعل ما لا تفعله الطائرات ولا الدبابات ولا الجيوش الجرارة.
إنه يهدم العقائد الصحيحة.. والأخلاق الكريمة.. والعادات الحسنة.. والشمائل الطيبة.. والشيم الحميدة.. والخصال الجميلة. ومتى تخلت الأمة عن عقيدتها وأخلاقها وقيمها سقطت في بؤر الضياع والانحلال.
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
احذر مخططات الأعداء
أخي صاحب الدش:
هل تعلم ما قاله صموئيل زويمر رئيس جمعيات التنصير؟ لقد قال في مؤتمر القدس للمنصرين الذي عقد في القدس عام 1935م:
إنكم إذا أعددتم نشأً لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، أخرجتم المسلم من الإسلام وجعلتموه لا يهتم بعظائم الأمور، ويحب الراحة والكسل، ويسعى للحصول على الشهوات بأي أسلوب، حتى تصبح الشهوات هدفه في الحياة، فهو إن تعلم فللحصول على الشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإذا تبوّأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات، إنه يجود بكل شئ للوصول الى الشهوات !
أيها المبشرون ! إن مهمتكم تتم على أكمل الوجوه !!
أخي صاحب الدش:
هذا ما قالوه منذ ما يزيد على ستين عاماً، ولا يزالون يعملون دون كلل أو ملل، لأنهم يرون ثمار مخططاتهم الخبيثة تزداد يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، حتى ظهرت هذه الفضائيات التي استطاعوا من خلالها – وفي أعوام يسيرة – تحقيق ما لم يستطيعوه في قرون طويلة !
لقد استطاعوا من خلالها اقتحام ديارنا و بيوتنا.. وحتى غرف نومنا.. بلا مقاومة منا ولا غضب، ولا محاولة لمنعهم من ذلك.. بل بموافقة منا ورضا وترحيب !!
فلماذا ترضى لنفسك يا أخي أن تكون ممن يساعدون الأعداء و ينفذون مخططاتهم الرامية الى ضرب الأمة في عقيدتها وأخلاقها وعزتها ومجدها؟!
لماذا تقبل بالانهزام النفسي ودناءة الفكر والتصور والهدف والغاية؟!
راجع نفسك ثم أجب !
قصة وعبرة
قال محدثي: في ذات يوم حضر أحد زملائي في العمل كئيبا حزينا غاضبا ضجرا، وكأنه قد حدثت له مصيبة، فأحببت أن أخفف عنه، فسألته عن سبب حزنه وكآبته، فلم يرد علي.. فلما ألححت عليه بالسؤال قال لي: لقد ماتت.. ماتت.
فظننت أنها إحدى قريباته وقلت له: إني لله وإنا له راجعون، يا أخي اصبر واحتسب ولا تجزع حتى يأجرك الله على ذلك. ثم قلت له هل كانت مريضة؟
فأجابني: لا لم تكن مريضة ولكنها قُتلت !!
فصرخت في وجهه: كيف ذلك؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.. لا حول ولا قوة إلا بالله فلما رأى شدة انفعالي هدّأ من روعي وقال لي: لا عليك فهي لا تمت لي بصلة.. إنها بطلة المسلسل الأجنبي الذي أشاهده كل ليلة.. لقد كانت مصدر متعتنا وسعادتنا كل ليلة !! بما تبديه من مفاتن. وما تقوم به من حركات وإثارة.. تصور أنها لا تظهر إلا بالشورت أو المايوه أو.. فتغير وجهي حياء وقاطعته قائلا: يا أخي اتق الله ! أما عندك دين؟ أما عندك حياء؟ أما عندك مروءة؟ كيف تجرؤ على هذا الكلام؟ أما تخشى الله؟ ألست مسلما؟ ثم تركته وذهبت !(/1)
انتهت القصة عند هذا الحد، وهي تحمل في طيّاتها دلالات متعددة، لابد أن نقف عندها ونتأملها، ونستفيد منها في تحذير إخواننا من هذا الخطر الداهم المتمثل فيما يبث عن طريق القنوات الفضائية وغيرها.
أولاً: المؤمن لا يفرح بالمعاصي:
وهذا من أهم الأمور التي يجب معرفتها، وهو التفريق بين المعصية و الفرح بها، فالمؤمن قد يعصي ربّه، ولكنه لا يفرح بالمعصية ولا يفاخر بها، وكذلك لا يصر عليها، بل يندم على فعلها.
قال الإمام ابن الجوزي: " لا ينال لذة المعاصي إلا سكران الغفلة، فأما المؤمن فإنه لا يلتذ، لأنه عند التذاذه يقف علم التحريم وحذر العقوبة، فإن قويت معرفته، رأى بعين علمه قرب الناهي، فيتنغص عيشه في حال التذاذه، فأن غلب سكر الهوى كان القلب متنغصا بهذه المراقبات، وإن كان الطبع في شهوته. وما هي إلا لحظة ثم ندم ملازم، وبكاء متواصل، وأسف على ما كان مع طول الزمان، حتى لو تيقن العفو، وقف بإزائِه حذر العتاب. فأفّ للذنوب ! ما أقبح آثارها.. وما أسوأ أخبارها ولا كانت شهوة لا تُنال إلا بمقدار قوة الغفلة !".
فانظر أخي المسلم في هذا الكلام، ثم احكم بنفسك على هذا الرجل الذي ما كفاه عصيانه كل ليلة برؤية النساء العاريات، وفرحه بذلك، وحزنه على فوات تلك المعصية، حتى راح يجاهر بها ويتأسف عليها ! وهذا دليل على موت قلبه، واستحكام مرض الشهوة من نفسه.
ليس من مات فاستراح بميت *** إنما الميت ميت الأحياء
ثانياً: أثر الغفلة واتباع الهوى في موت القلب:
يا صاحب الدش:
أيها العاكف على صنم المرئيات والفضائيات، متنقلاً بجهازك الصغير من بلد الى أخرى، ومن قناة الى قناة، باحثاً عن المتعة الشهوانية، واللذة البهيمية، والسعادة الزائفة، ومن أفلام هابطة ومسلسلات ساقطة، وخمر، وقمار، وعري، ومجون، وجريمة، ومخدرات، وعقائد فاسدة، ووثنية بائدة، وجاهلية حاقدة !
أليس هذه غفلة عن الله وذكره وعبادته؟ وعن الموت وسكرته؟ وعن القبر وظلمته؟ وعن الحساب وشدته؟
أليس هذا تفريطاً فيما ينفعك، واهتماما بما يضرك في العاجل والآجل؟
أليس هذا اتباعا للهوى وانقيادا للشهوة؟
أفق أيها الرجل قبل أن تقول: رب ارجعون ، فيقال لك: كلا .
من يهن يسهل الهوان عليه *** ما لجرح بميت إيلام
قال تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً [مريم:59].
قال الإمام ابن القيم: "الغفلة عن الله و الدار الآخرة متى تزوجت باتباع الهوى، تولد ما بينهما كل شر. وكثيرا ما يقترن أحدهما بالآخر، ولا يفارقه. ومن تأمل فساد أحوال العالم عموما و خصوصا وجده ناشئا عن هذين الأصلين".
فيا أخي !
إذا كان هذا الصحن المسمى ( دشاً ) يجمع بين هذين الأصلين: الغفلة واتباع الهوى، فكيف ترضى لنفسك هذه المعصية التي جمعت بين شيئين تولد منهما كل شر، ونشأ عنهما فساد العالم بأسره؟
يا من جلبت الدش رفقا إنما *** أفسدت ما في البيت من غلمان
خنت الأمانة في الشباب وفي النسا *** وجعلت بيتك منتدى الشيطان
خنت الأمانة في البنات ولن ترى *** منهن برّا إنهن عواني
ترضى لنفسك أن تكون مفرطا *** في الدين والأخلاق والإيمان
ترضى لنفسك أن تكون مزعزعا *** لقواعد الإسلام والإيمان
ترضى لنفسك أن تكون مروّجا *** لبضاعة الكفران و الخسران
أفسدت ما في البيت من أخلاقه *** أذهبت ما في البيت من إحسان
أدخلت في البيت الضلال مع الخنا *** والفسق بعد تلاوة القرآن
أيها الرجل
ماذا أعددت لقدومك على ربك؟
ما هو زادك الذي تزوّدته في سفرك الى الله والدار الآخرة؟
أيقدم الناس على ربهم بالحسنات و الأعمال الصالحات، وتقدم أنت بالأغاني والأفلام والمسلسلات؟
هل هذا هو نصيبك من الدنيا؟
هل هذه بضاعتك للآخرة؟
قال : { يتبع الميت ثلاث فيرجع اثنان و يبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله } [متفق عليه].
ثالثاً: اكسر صنم قلبك أولاً:
قال الإمام ابن القيم: "إن التوحيد واتباع الهوى متضادان، فإن الهوى صنم ولكل عبد صنم في قلبه بحسب هواه، وإنما بعث الله رسله بكسر الأصنام وعبادته وحده لا شريك له، وليس مراد الله سبحانه كسر الأصنام المجسدة وترك الأصنام التي في القلب، بل المراد كسرها من القلب أولاً".
فيا صاحب الدش !
لن يسلم إيمانك إلا بتكسر صنم الهوى والشهوة في قلبك.. ولن يكون ذلك إلا بإبعاد هذا الطبق الذي فوق سطح بيتك..
اصعد الآن.. خذ معول العزم.. واضرب به هذا الصنم.. ليسلم لك توحيدك.. وتصح توبتك.. وتصلح عبوديتك.. قال النبي : { حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات } [متفق عليه].
وقال أبو علي الدقاق: "من ملك شهوته في حال شبيبته، أعزه الله تعالى في حال كهولته".
ألا تريد أن يحفظك الله حال كهولتك و شيخوختك؟
احفظ الله يحفظك.. احفظ الله يحفظ زوجتك وأبناءك.. احفظ الله يحفظ مجتمعك وأمتك.
فيا أخي !(/2)
كن رجلاً في قرارك.. حراً في إرادتك.. قوياً في عزمك.. ألا تريد أن تنفي عن نفسك رق العبودية لغير الله؟ وذل الشهوة وأسر الهوى؟! فتفكر فيما خُلقت له.. وانظر في مآل اتباع الشهوات وعواقبها !
قد هيأوك لمر لو فطنت له *** فاربأ بنفسك ان ترعى مع الهمل
أين أنت؟
أخي صاحب الدش !
أين أنت من قوله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون [النور:30].
أين أنت من قوله تعالى: يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور [غافر:19].
أين أنت من قوله تعالى: يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة [التحريم:6].
أين أنت من قوله تعالى: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً [الإسراء:36].
أين أنت من قوله تعالى: والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون [المؤمنون:5-7].
أين أنت من قوله : {.... فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء } [رواه مسلم].
أين أنت من قوله : { ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء } [متفق عليه].
أين أنت من قوله : { العينان تزنيان وزناهما النظر } [متفق عليه].
أين أنت من قوله : { أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه والله أغير مني } [متفق عليه].
أخي الكريم:
إذا ما خلوت بريبة في ظلمة *** والنفس داعية الى طغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني
حصاد القنوات
1- العقائد الباطلة:
عرضت إحدى القنوات الفضائية فيلماً هندياً من مشاهده أن ثعباناً لدغ طفلة، فأسرع أخوها الى صنم وأخذ يدعوه ويستغيث به كي يشفيها، فلما عاد إليها وجدها قد شفيت، فرجع الى الصنم وقال له: سأظل أصلي لك، وشكراً على ما فعلت لأختي.
وهذا المشهد يحتوي على:
1- الكفر بالله. 2- دعاء غير الله. 3- الدعوة الى عبادة الأصنام. 4- الاعتقاد بأن لغير الله تصرفاً في الكون. 5- وأقل ما يقع فيه من المشاهد لمثل هذا هو عدم إنكار المنكر ولو بقلبه، وذلك لغفلته الشديدة عن دين الله تعالى.
2- الجنس:
قال الدكتور بلومر: "إن الأفلام التجارية التي تنتشر في العالم تثير الرغبة الجنسية في معظم موضوعاتها، كما أن المراهقات من الفتيات يتعلمن الأمور الجنسية الضارة من الأفلام، وقد ثبت للباحثين أن فنون التقبيل والحب والمغازلة والإثارة الجنسية، يتعلمها الشباب من خلال السينما و التلفزيون" [بصمات على ولدي].
وتقول إحدى الفتيات في سن الثامنة عشرة: "إني أفكر بالانتحار في كل دقيقة، بل في كل ثانية، لأنه لا تمضي ساعة واحدة دون أن أشعر بالعاطفة الجنسية الجامحة تخترق أحشائي كما يخترق الرصاص جسم الإنسان ويقتله !! وكلما شاهدت فيلماً عاطفياً أو قرأت قصة غرامية تثور عاطفتي و غرائزي" [العفة ومنهج الاستعفاف].
3- الجريمة:
قال الدكتور سبوك: "هناك عدد من رجال القضاء و المحللين النفسيين يؤكدون أنه عندما يتم سؤال أحد الشباب المنحرف عن فكرة الجريمة لديه، فإن الإجابة تكون من رواية بوليسية، أو من برنامج في التلفزيون،أو من فيلم سينما" [أبناؤنا بين وسائل الإعلام و أخلاق الإسلام].
4- الجهل:
قالت مارغريت سميث: "إن الطالبة لا تفكر إلا بعواطفها، والوسائل التي تتجاوب مع هذه العاطفة، إن أكثر من 60% من الطالبات سقطن في الامتحانات، وتعود أسباب الفشل الى أنهن يفكّرن في الجنس أكثر من دروسهن وحتى مستقبلهن، وأن 10% منهن فقط مازلن محافظات" [صون المكرمات].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/3)
فضل أيام العشر من ذي الحجة
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { ما مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّه؟!ِ قَالَ: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ !!إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ } أخرجه البخاري وأحمد وأبوداود والترمذي وابن ماجة.
حقاً إنها أيام مباركة أقسم الله جل وعلا بها، والإقسام بالشيء دليل على أهميته وجلالة قدره قال الله تعالى: { والفجر وليالٍ عشر }، قال ابنُ عباس رضي الله عنهما وغيرُ واحد من السلف والخلف: إنها عشرُ ذي الحجة قال ابنُ كثير وهو الصحيح.
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما حث فيها على العمل الصالح لفضلها وعظيم نفعها، ولشرف الزمان بالنسبة لأهل الأمصار، وشرف المكان – أيضاً – وهذا خاص بحجاج بيت الله الحرام. ولأن فيها: يوم عرفة ويوم النحر، وفيها الأضحية والحج قال الحافظ في فتح الباري: " والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج ولا يتأتى ذلك في غيره " أهـ.
وسُئل شيخُ الإسلام ابنُ تيمية – رحمه الله – عن عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان، أيُهُما أفضلُ ؟.
فأجاب: " أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر في رمضان، وليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة " أهـ.
لذا لاغرو ولا جرم أن يحرص السلف الصالح على اغتنامها والعمل فيها فقد كان سعيدُ بن جبير- رحمه الله – وهو الذي روى حديث ابن عباس السابق: { إذا دخلت العشرُ اجتهدَ اجتهاداً حتى ما يكاد يُقدر عليه } رواه الدارمي بإسناد حسن.
أخي المسلم: إن إدراك عشر ذي الحجة نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على العبد، يَقْدُرُها حقَّ قدرها الصالحون المشَمِّرون، وإن واجب المسلم استشعارُ هذه النعمة، واغتنام هذه الفرصة، وذلك بأن يخص هذا العشرَ بمزيد عناية، وأن يجاهد نفسه بالطاعة، قال أبو عثمانَ النهديُ – رحمه الله – عن السلف: " كانوا يعظمون ثلاثَ عشراتٍ: العشرَ الأخيرَ من رمضان، والعشرَ الأول من ذي الحجة، والعشرَ الأول من المحرم "، وإن من فضل الله على عباده كثرة طرق الخير، وتنوع سبل الطاعات ليدوم نشاط المسلم ويبقى ملازماً لطاعة ربه وعبادته.
* من الأعمال المسنونة في أيام العشر
ومن تلكم الأعمال والوظائف:
1- الصيام:
فيسنُ للمسلم أن يصومَ تسعَ ذي الحجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على العمل الصالح فيها، والصيامُ من أفضل الأعمال الصالحة، وقد ورد ما يدل على صيامها من حديث هُنَيدَة بنِ خالدٍ عن امرأته قالت حدثتني بعضُ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومُ عاشوراءَ وتسعاً من ذي الحجة وثلاثةَ أيام من كل شهر..." رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الألباني. وكان عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – يصومها، وكذلك مجاهد وغيرهما من العلماء, وأكثر العلماء على القول بصيامها. ولذا قال النووي رحمه الله: صيامها مستحبٌ استحباباً شديداً أهـ.
وأما ما اشتهر عند العوام من صيام ثلاث ذي الحجة يعنون بها اليوم السابع والثامن والتاسع فهذا التخصيص لا أصل له ولا دليل عليه.
2- ومن الأعمال المسنونة في هذه العشر: التكبيرُ والتهليلُ
يَجهرُ به الرجال والمرأةُ تخفضُ به صوتها فعن ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَل فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَ التَّحْمِيدِ " أخرجه أحمد والطبراني وأبوعوانة وهو حسنٌ بمجموع طرقه وشواهده.
قال البخاري – رحمه الله -:" وكان عمرُ يكبرُ في قبته بمنى فيسمعه أهلُ المسجد فيكبرونَ ويكبرُ أهلُ الأسواقِ حتى ترتج منى تكبيراً , وكان ابنُ عمرَ يكبرُ بمنى تلك الأيام وخلفَ الصلواتِ وعلى فراشه وفي فسطَاطِه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعها "، وقال: " وكان ابنُ عمرَ وأبو هريرةَ – رضي الله عنهما – يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما ". أهـ كتاب العيدين.
والتكبيرُ نوعان: مطلق ومقيد فالمطلق في سائر الوقت من أول العشر إلى آخر أيام التشريق , والمقيد بأدبار الصلوات ) ويبدأ من فجر يوم عرفة لغير الحاج إلى عصر آخر أيام التشريق مقيداً، أما الحاجُ فيبدأ من حين يرمي جمرةَ العقبة يوم العيد. وقد دل على مشروعية ذلك الإجماع، وفعلُ الصحابة – رضي الله عنهم -، وصيغ التكبير:
1- الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً.
2- الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.(/1)
3- الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
قال في سبل السلام: وفي الشرع صفات كثيرة واستحسانات عن عدة من الأئمة، وهو يدل على التوسعة في الأمر، وإطلاق الآية يقتضي ذلك.
فحريٌ بنا نحن المسلمين أن نحيي هذه السنة التي هجرت في هذه الأيام، وتكاد تنسى حتى من أهل الصلاح والخير بخلاف ما كان عليه السلف الصالح، تكبر في المسجد وفي بيتك وفي السوق وفي طريقك، وذكر به أهلك وعود أولادك على ذلك.
3- أيها المسلمون: ومن أعمال هذه العشر التقربُ إلى الله تعالى بذبح لأضاحي:
وهي سنه مؤكدة في أصح قولي العلماء، وتتأكدُ في حق القادر مَنْ عنده سعة من المال. ولا بأس من الاقتراض إن كان قادراً على الوفاء، فينبغي للمسلم المستطيع القادر ألا يفرط فيها، لقول أَنَسٍ رضي الله عنه: " ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا " متفق عليه.
( الصفحة هي جانب العنق )، وقال ابنُ عمرَ – رضي الله عنه -: " أقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشرَ سنين يضحي " رواه أحمد والترمذي بإسناد حسن.
وقال ابنُ القيم رحمه الله: ولم يكن صلى الله عليه وسلم يدعُ الأضحية أهـ.
فليحرص المسلم عليها؛ لأن فيها امتثال أمر الله جل وعلا بذبح القربان على اسمه وحده لا شريك له، وإحياء سنة أبينا إبراهيم عليه السلام واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وفيها التوسعة على الأهل والعيال والفقراء والمساكين يوم العيد.
أيها المسلمون: وهناك تنبيه مهم وهو أنه: إذا دخلَ عشرُ ذي الحجة فيحرمُ على من أرادَ أن يضحي أن يأخذَ من شعره أو أظفاره أو بشرته شيئاً حتى يضحي يوم العيد، وإذا نوى الأضحية أثناء العشر أمسك عن ذلك من حين نيته ولا إثم عليه فيما أخذ قبل النية.
وذلك لما روى مسلم في صحيحه عن أم سلمة – رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره ) رواه مسلم. وفي رواية له: ( فلا يأخذنَّ شعراً ولا يقلمنَّ ظفراً )، والحكمةُ في النهي: أن يبقى كاملَ الأجزاءِ ليعتق من النار، وقيل: التشبه بالمحرم قاله النووي في شرح مسلم.
فائدة:
هذا النهي خاصٌ بصاحب الأضحية لا المُضحى عنه من زوجةٍ وأولادٍ فلا يعمهم النهي, لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي عن أهل بيته ولم يُنقل عنه أنه أمرهم بالإمساك عن ذلك، وكذا من توكلَ عن شخص فإنه لا يَحرُمُ عليه الأخذ بل هو خاص بالموكِل لا الوكيل، وكذا القائم على الوصايا فإنه لا يمسك، ومن أخذَ شيئاً من أظفاره أو أبشاره أو شعره معذوراً فلا شيء عليه كالناسي، والذي به أذى في شعره أو ظفره، أما العامد فهو آثمٌ ولا كفارةَ عليه بل عليه التوبة والاستغفار.
ومن كان عند الميقات يريد الإحرام وهو سيضحي فإنه لا يأخذُ شيئاً من شعره وأظفاره، وأما عند تحلله من العمرة والحج فإنه يأخذ من شعره فقط لأنه نسك من أنساك العمرة.
4- ومما يشرع في هذه العشر الإكثار من الأعمال الصالحة عموماً؛ لأن العمل الصالح محبب إلى لله تعالى في كل زمان ومكان، ويتأكد في هذه الأيام المباركة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: { ما مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ..}، وهذا يعني فضل العمل فيها، وعظيم ثوابه، فعلى المسلم أن يعمر وقته في هذه العشر بالإكثار من الطاعات: قراءة القرآن، والذكر، والدعاء، والصدقة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وغير ذلك من طرق الخير وسبل الطاعة.
ومن الأعمال الصالحة الصلاة: فيستحب التبكير إلى الفرائض والمسارعة إلى الصف الأول، والإكثار من النوافل، فإنها من أفضل القربات. عن ابنِ مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله،أي الأعمال أفضل ؟ قال: " الصلاة على وقتها " قلت: ثم أي ؟ قال: " بر الوالدين ؟ " قلت: ثم أي ؟ قال:" الجهاد في سبيل الله " متفق عليه. وعن ثوبان- رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة" [رواه مسلم]
5- أيها الأحبة في الله: ومن أيام العشر يوم عرفة:(/2)
وهو من الأيام الفاضلة والعظيمة لأنه يوم مغفرة الذنوب والتجاوز عنها، وهو يوم عيد لأهل الموقف، ويستحب صيامه لأهل الأمصار. وهو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة على هذه الأمة فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولهذا جعله الله تعالى خاتمة الأديان، لا يقبل من أحد ديناً سواه. عن عمرَ – رضي الله عنه – أن رجلاً من اليهود قال: يا أميرَ المؤمنين آيةٌ في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: أي آيةٍ ؟ قال: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً) (المائدة: من الآية 3). قال عمرُ: عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة. رواه البخاري ومسلم.
وهذا الرجلُ الذي سأل عمر رضي الله عنه هو كعبُ الأحبار كما جاء في رواية الطبري وفيها أيضاً: نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنوا ثم يباهي الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ ) رواه مسلم. قال ابنُ عبدُ البر: وهذا يدلُ على أنهم مغفورٌ لهم لأنه لا يباهي بأهل الخطايا إلا بعد التوبة والغفران والله أعلم أهـ.
وفي الحديث الذي رواه أحمدُ وابنُ خزيمة بسند صحيح صححه الألباني عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاءوني شعثاً غبراً ).
فهذه الأحاديث تدلُ على فضل يوم عرفة وأنه من الأيام الفاضلة التي تجاب فيها الدعوات، وتقال العثرات، فعلى المسلم أن يحرصَ على العمل الصالح في هذا اليوم العظيم من ذكرٍ ودعاءٍ وقراءةٍ وصلاةٍ وصدقةٍ لعله أن يحظى من الله تعالى بالمغفرة والعتق من النار، فقد ذكر ابنُ رجب - رحمه الله – في اللطائف: أن العتقَ من النار عام لجميع المسلمين.
وعلى المسلم أن يحرصَ على صيام يوم عرفة فقد خصه النبي صلى الله عليه وسلم بمزيد عناية، حيث خصه من بين أيام العشر، وبين ما رُتب على صيامه من الفضل العظيم، فقد ورد عن أبي قتادةَ الأنصاري – رضي الله عنه – أنَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئلَ عن صوم يوم عرفة فقال: ( يكفر السنة الماضية والسنة القابلة ). رواه مسلم.
وهذا إنما يستحب لغير الحاج، وأما الحاج فلا يسن له صيام هذا اليوم، وفطره أفضل تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وقف بعرفة مفطراً. فعن أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها: ( أن ناساً اختلفوا عندها يوم عرفة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: هو صائم. وقال بعضهم: ليس بصائم. فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشربه ) رواه البخاري ومسلم.
ولأن المفطر أقوى على الدعاء من الصائم لا سيما في شدة الحر.
وللدعاء يوم عرفة مزية على غيره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفة، وخيرُ ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) رواه مالك والترمذي وانظر الصحيحة للألباني (4/39). قال ابنُ عبد البر: وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره، وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره،... وفي الحديث أيضاً دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب في الأغلب، وفيه أيضاً أن ( أفضل الذكر لا إله إلا الله.. ) أهـ.
فليحرص المسلم المقيم على الدعاء في هذا اليوم العظيم اغتناماً لفضله ورجاء للإجابة والقبول، وليدع لنفسه ووالديه وأهله وللإسلام والمسلمين، وإذا صام هذا اليوم ودعا عند الإفطار فما أقرب الإجابة، وما أحرى القبول ! فإن دعاء الصائم مستجاب، وعلى المسلم أن يكثرَ من شهادة التوحيد بإخلاص وصدق، فإنها أصل دين الإسلام الذي اختاره الله لهذه الأمة وأكمله في هذا اليوم العظيم.
6- ومن أعمال هذه العشر أداءُ الحج والعمرة:
إن من أفضل ما يعمل في هذه العشر المباركة حج بيت الله الحرام فمن وفقه الله تعالى لحج بيته وقام بأداء نسكه على الوجه المطلوب فله نصيب - إن شاء الله - من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " أخرجه البخاري و مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
فدونكم – عباد الله - هذه الفضائل والأعمال فاغتنموها وإياكم والتواني والكسل ولنعلم أن لله جل وعلا نفحات في أيامه فلنهتبل الفرصة ولنستكثر من الحسنات عل الله جل وعلا أن يعفو عن زلاتنا وسيئاتنا.(/3)
فبادر– أخي المسلم – إلى اغتنام هذه الأيام الفاضلة المباركة بالأعمال الصالحة وكثرة الاجتهاد، فإنه ليس لما بقي من عمرك ثمن، وتب إلى الله من تضيع الأوقات، وأعلم أن الحرص على العمل الصالح في هذه الأيام المباركة هو في الحقيقة مسارعةٌ إلى الخير ودليل على التقوى قال تعالى: ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج:32)
قال الشاعر:
قطعت شهور العام سهواً وغفلة *** ولم تحترم فيما أتيت المحرما
فلا رجباً وافيت فيه بحقه *** ولا صمت شهر الصوم شهراً متمماً
ولا في ليالي عشر ذي الحجة الذي *** مضى كنت قواماً ولا كنت محرماً
فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة *** وتبكي عليها حسرةً وتندما
وتستقبل العام الجديد بتوبة *** لعلك أن تمحو بها ما تقدما
نسأل الله عز وجل أن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، وأن يوفقنا لعمل الصالحات وأن يجعلنا من عباده المخلصين، وبالله التوفيق, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه(/4)
فضل أيام عشر ذي الحجة والأعمال الواردة فيها
كتبها : الفقير إلى عفو ربه
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين *
فضل عشر ذي الحجة :
روى البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام – يعني أيام العشر - قالوا : يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء ) وروى الإمام أحمد رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من أيام أعظم ولا احب إلى الله العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد ) وروى ابن حبان رحمه الله في صحيحه عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أفضل الأيام يوم عرفة).
أنواع العمل في هذه العشر
الأول : أداء الحج والعمرة ، وهو أفضل ما يعمل ، ويدل على فضله عدة أحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم : ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) وغيره من الأحاديث الصحيحة .
الثاني : صيام هذه الأيام أو ما تيسر منها – وبالأخص يوم عرفة – ولاشك أن جنس الصيام من أفضل الأعمال وهو مما اصطفاه الله لنفسه ، كما في الحديث القدسي : ( الصوم لي وأنا أجزي به ، انه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي ) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله ، إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً ) متفق عليه . ( أي مسيرة سبعين عاماً ) ، وروى مسلم رحمه الله عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده ) .
الثالث : التكبير والذكر في هذه الأيام . لقوله تعالى : ( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ) وقد فسرت بأنها أيام العشر ، واستحب العلماء لذلك كثرة الذكر فيها لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن أحمد رحمه الله وفيه : ( فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد )
الرابع : التوبة والإقلاع عن المعاصي وجميع الذنوب ، حتى يترتب على الأعمال المغفرة والرحمة ، فالمعاصي سبب البعد والطرد ، والطاعات أسباب القرب والود ، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ان الله يغار وغيرة الله أن يأتي المرء ما حرم الله عليه ) متفق عليه .
الخامس : كثرة الأعمال الصالحة من نوافل العبادات كالصلاة والصدقة والجهاد والقراءة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك فانها من الأعمال التي تضاعف في هذه الأيام ، فالعمل فيها وان كان مفضولاً فأنه أفضل وأحب إلى الله من العمل في غيرها وان كان فاضلاً حتى الجهاد الذي هو من أفضل الأعمال إلا من عقر جواده واهريق دمه .
السادس : يشرع في هذه الأيام التكبير المطلق في جميع الوقت من ليل أو نهار إلى صلاة العيد ويشرع التكبير المقيد وهو الذي يعد الصلوات المكتوبة التي تصلى في جماعة ، ويبدأ لغير الحاج من فجر يوم عرفة ، وللحجاج من ظهر يوم النحر ، ويستمر إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق .
السابع : تشرع الأضحية في يوم النحر وأيام التشريق ، وهو سنة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين فدى الله ولده بذبح عظيم ، ( وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبّر ووضع رجله على صفاحهما ) متفق عليه .
الثامن : روى مسلم رحمه الله وغيره عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضّحي فليمسك عن شعره وأظفاره ) وفي رواية ( فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى يضحي ) ولعل ذلك تشبهاً بمن يسوق الهدي ، فقد قال الله تعالى : ( وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) وهذا النهي ظاهره انه يخص صاحب الأضحية ولا يعم الزوجة ولا الأولاد .
التاسع : على المسلم الحرص على أداء صلاة العيد حيث تصلى ، وحضور الخطبة والاستفادة . وعليه معرفة الحكمة من شرعية هذا العيد ، وانه يوم شكر وعمل بر ، فلا يجعله يوم أشر وبطر ولا يجعله موسم معصية وتوسع في المحرمات كالأغاني والملاهي والمسكرات ونحوها مما قد يكون سبباً لحبوط الأعمال الصالحة التي عملها في أيام العشر .
العاشر : بعد ما مر بنا ينبغي لكل مسلم ومسلمة أن يستغل هذه الأيام بطاعة الله وذكره وشكره والقيام بالواجبات والابتعاد عن المنهيات واستغلال هذه المواسم والتعرض لنفحات الله ليحوز على رضا مولاه والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
اللهم اغفر لمعد هذه الرسالة ومرسلها والمرسل إليه
وآبائهم وأمهاتهم أجمعين
آمين(/1)
فضل أيام عشر ذي الحجة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:
فإنه من فضل الله ومنته أن جعل لعباده الصالحين مواسم يستكثرون فيها من العمل الصالح وأمد في آجالهم فهم بين غاد للخير ورائح.. ومن أعظم هذه المواسم وأجلَّها.. أيام عشر ذي الحجة.
وقد ورد في فضلها أدلة من الكتاب والسنة منها:
1- قول الله تعالى: وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1--2]، قال ابن كثير رحمه الله: المراد بها عشر ذي الحجة.
2- قال تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ [الحج:28]، قال ابن عباس: أيام العشر.
3- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { "ما العمل في أيام أفضل من هذه العشر" قالوا: ولا الجهاد؟ قال: "ولا الجهاد إلا رجلٌ خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء" } [رواه البخاري].
4- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر. فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد } [رواه الطبراني في المعجم الكبير].
5- كان سعيد بن جبير رحمه الله ( وهو الذي روى حديث ابن عباس السابق ) إذا دخلت العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه [رواه الدارمي بإسناد حسن].
6- قال ابن حجر في الفتح: والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يأتي ذلك في غيره.
7- قال المحققون من أهل العلم: أيام عشر ذي الحجة أفضل الأيام، وليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل الليالي.
مايستحب فعله في هذه الأيام
1- الصلاة: يستحب التبكير إلى الفرائض، والإكثار من النوافل، فإنها من أفضل القربات. عن ثوبان صلى الله عليه وسلم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد سجدة إلا رفعك إليه بها درجة، وحط عنك بها خطيئه } [رواه مسلم] وهذا عام في كل وقت.
2- الصيام: لدخوله في الأعمال الصالحة، فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت: { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر } [رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي]. قال الإمام النووي عن صوم أيام العشر: إنه مستحب استحباباً شديداً.
3- التكبير والتهليل والتحميد: لما ورد في حديث ابن عمر السابق: { فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد }. وقال الإمام البخاري رحمه الله ( كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما ). وقال أيضاً: ( وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً ).
وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات وعلى فراشه، وفي فسطاطه، ومجلسه، وممشاه تلك الأيام جميعاً، والمستحب الجهر بالتكبير لفعل عمر وابنه وأبي هريرة.
فحريٌّ بنا نحن المسلمين أن نحيي هذه السنة التي هُجرت في هذه الأيام، وتكاد تُنسى حتى من أهل الصلاح والخير بخلاف ما كان عليه السلف الصالح.
4- صيام يوم عرفة: يتأكد صوم يوم عرفة لغير الحاج لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال عن صوم عرفة: { أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده } [رواه مسلم].
5- فضل يوم النحر: يغفل عن ذلك اليوم العظيم كثير من المسلمين مع أن بعض العلماء يرى أنه أفضل أيام السنة على الإطلاق حتى من يوم عرفة. قال ابن القيم رحمه الله: ( خير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر ) كما في سنن أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم : { إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر } ( يوم القر هو يوم الاستقرار في منى، وهو يوم الحادي عشر ) وقيل يوم عرفة أفضل منه، لأن صيامه يكفر سنتين، وما من يوم يعتق الله فيه الرقاب أكثر من يوم عرفة، ولأنه سبحانه وتعالى يدنو من عباده، ثم يباهي ملائكته بأهل الموقف، والصواب: القول الأول: لأن الحديث الدال على ذلك لا يعارضه شيء.. وسواء كان هو أفضل أم يوم عرفة فليحرص المسلم حاجاً كان أم مقيماً على إدراك فضله، وانتهاز فرصته.
بماذا تستقبل مواسم الخير؟(/1)
حريٌّ بالمسلم أن يستقبل مواسم الخير عامة بالتوبة الصادقة النصوح، وبالإقلاع عن الذنوب والمعاصي، فإن الذنوب هي التي تحرم الإنسان فضل ربه، وتحجب قلبه عن مولاه. كما يستقبل مواسم الخير علمة بالعزم الصادق الجاد على اغتنامها بما يرضي الله - عز وجل - فمن صدق الله صدقه الله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، وقال تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]. فيا أخي المسلم احرص على اغتنام هذه الفرصة السانحة، قبل أن تفوت عليك فتندم ولات ساعة مندم. فإن الدنيا أيام قلائل ونحن في دار العمل وغداً دار الجزاء والحساب واجنة والنار، وكن من الذين عناهم الله عز وجل بقوله: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].
أحكام عيد الأضحى المبارك
أخي المسلم:
احمد الله عز وجل أن جعلك ممن أدرك هذا اليوم العظيم، ومدّ في عمرك لترى تتابع الأيام والشهور وتقدم لنفسك فيها من الأعمال والأقوال والأفعال ما تقربك إلى الله زلفى.
والعيد من خصائص هذه الأمة ومن أعلام الدين الظاهرة وهو من شعائر الإسلام فعليك بالعناية بها وتعظيمها. ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
وإليك وقفات سريعة موجزة مع آداب وأحكام العيد:
1- التكبير: يشرع التكبير من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق وهو الثالث عشر من شهر ذي الحجة قال تعالى: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ [البقرة:203] وصفته أن تقول: ( الله أكبر، الله أكبر، لاإله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد ) ويسن جهر الرجال به في المساجد والأسواق والبيوت وأدبار الصلوات إعلانا بتعظيم الله وإظهاراً لعبادته وشكره.
2- ذبح الأضحية: ويكون ذلك بعد صلاة العيد لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح } [رواه البخاري ومسلم]. ووقت الذبح أربعة أيام العيد، ويوم النحر وثلاثة أيام التشريق، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: { كل أيام التشريق ذبح } [انظر السلسلة الصحيحة برقم 2467].
3- الإغتسال والتطيب للرجال: ولبس أحسن الثياب بدون إسراف ولا إسبال ولا حلق لحية فهذا حرام - أما المرأة فيشرع لها الخروج إلى مصلى العيد بدون تبرج ولا تطيب، وأربأ بالمسلمة أن تذهب لطاعة الله والصلاة وهي متلبسة بمعصية الله من تبرج وسفور وتطيب أمام الرجال.
4- الأكل من الأضحية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطعم حتى يرجع من المصلى قيأكل من أضحيته.
5- الذهاب إلى مصلى العيد ماشياً إن تيسر: والسنة الصلاة في مصلى العيد إلا إذا كان هناك عذر من مطر مثلاً فيصلي في المسجد لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم .
6- الصلاة مع المسلمين واستحباب حضور الخطبة: والذي رجحه المحققون من العلماء مثل شيخ الإسلام ابن تيمية أن صلاة العيد واجبة لقوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]. ولا تسقط إلا بعذر شرعي والنساء يشهدن العيد مع المسلمين، حتى الحيض والعواتق ويعتزل الحيض المصلى.
7- مخالفة الطريق: يستحب لك أن تذهب إلى مصلى العيد من طريق وترجع من طريق آخر لفعل النبي صلى الله عليه وسلم .
8- التهنئة بالعيد: لا بأس مثل قول: تقبل الله منا ومنكم.
واحذر أخي المسلم من الوقوع في بعض الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس منها:
1- التكبير الجماعي: بصوت واحد أو الترديد خلف شخص يقول التكبير.
2- اللهو أيام العيد بالمحرمات: كسماع الغناء، ومشاهدة الأفلام، واختلاط الرجال بالنساء اللاتي لسن من المحارم وغير ذلك من المنكرات.
3- أخذ شيء من الشعر، أو تقليم الأظافر قبل أن تضحي لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
4- الإسراف والتبذير: بما لا طائل تحته ولا مصلحة فية ولا فائدة منه لقول الله تعالى: وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141].
بعض أحكام الأضحية ومشروعيتها
شرع الله الأضحية بقوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] وقوله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ [الحج:36]، وهي سنة مؤكدة، ويكره تركها مع القدرة عليها لحديث أنس رضي الله عنه الذي رواه البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر.
مم تكون الأضحية؟(/2)
الأضحية لا تكون إلا من الإبل والبقر والغنم لقول الله تعالى: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج:34]. ومن شروط الأضحية السلامة من العيوب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أربعة لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعرجاء البيّن ضلعها، والعجفاء التي لا تنقي } [رواه الترمذي].
وقت الذبح
بداية وقت الذبح بعد صلاة العيد لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : { من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة والخطبتين فقد أتم نسكه وأصاب السنة } [متفق عليه].
ويسن لمن يحسن الذبح أن يذبح أضحيته بيده ويقول: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عن فلان ( ويسمِّي نفسه أو من أوصاه ) فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح كبشاً وقال: { بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعن من لم يُضح من أمتي } [رواه أبو داود والترمذي]، ومن كان لا يحسن الذبح فليشهده ويحضره.
توزيع الأضحية
يسن للمضحي أن يأكل من أضحيته ويهدي الأقارب والجيران ويتصدق منها على الفقراء قال تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28] وقال تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36] وكان بعض السلف يحب أن يجعلها أثلاثاً: فيجعل ثلثاً لنفسه، وثلثاً هدية للأغنياء، وثلثاً صدقة للفقراء. ولا يعطي الجزار من لحمها شيئاً كأجر.
فيما يجتنبه من أراد الأضحية
إذا أراد أحد أن يضحي ودخل شهر ذي الحجة فإنه يحرم عليه أن يأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره أو جلده حتى يذبح أضحيته، لحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره }[رواه أحمد ومسلم]، وفي لفظ: { فلا يمس من شعره ولا بشره شيئاً حتى يضحي } وإذا نوى الأضحية أثناء العشر أمسك عن ذلك من حين نيته، ولا إثم عليه فيما أخذه قبل النية.
ويجوز لأهل المضحي أن يأخذوا في أيام العشر من شعورهم وأظفارهم وأبشارهم.
وإذا أخذ من يريد الأضحية شيئاً من شعره أ ظفره أو بشرته فعليه أن يتوب إلى الله - تعالى - ولا يعود ولا كفارة عليه، ولا يمنعه ذلك عن الأضحية، وإذا أخذ شيئاً من ذلك ناسياً أو جاهلاً أو سقط الشعر بلا قصد فلا إثم عليه، وأن احتاج إلى أخذه فله أخذه ولا شيء عليه مثل: أن ينكسر ظفره فيؤذيه فيقصة، أو ينزل الشعر في عينيه فيزيله، أو يحتاج إلى قصه لمداواة جرح ونحوه.
وختاماً: لا تنس أخي المسلم أن تحرص على أعمال البر والخير من صلة الرحم، وزيارة الأقارب، وترك التباغض والحسد والكراهية، وتطهير القلب منها، والعطف على المساكين والفقراء والأيتام ومساعدتهم وإدخال السرور عليهم.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/3)
فضل الإسلام و مصيبة موت الإمام
06-8-2005
بقلم د. سعد بن مطر العتيبي
"... مصطلحات سمعها الناس وتلقّاها العوام كما ردَّدها العلماء والولاة تماما .. حتى إنَّك لتسمع بعض العامة المتصلين بالإذاعة أو القناة يفتتح مكالمته ، بعبارة في غاية البراءة : ألو .. ممكن أبايع ؟! ممكن أبايع ؟! فيرد المذيع : تفضل .. تفضل..."
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه .. أما بعد :
نحن جزء من أمَّة تدين بالإسلام ، فلا عجب أن تنقاد لأحكام الشرع الحنيف في شؤونها ، صغيرها وكبيرها ، ولا عبرة بمن شذَّ .. هذه حقيقة يجب أن تبقى واضحة جليَّة .
وحيث يعيش مجتمعنا هذه الأحداث الأخيرة المهمَّة التي كان أوَّلها مصيبة وفاة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى - ينبغي لنا أن ننظر بتأمّل إلى أهمية هذه الحقيقة التي صدّرت بها هذا المقال وأن لا نرددها ترديد المتغنين ولا نمر بها مرور العابرين.
ومن هنا رغبت أن أضع بعض ما يؤكِّدها ، لتعلم الأمَّة بركة هذا الدين لأهله ما كانت مستقيمة على أصوله ، وأهمية الاعتصام بأصليه ( الكتاب والسنة ) ورحمة الله بالمستمسكين بها صدقا وإن وجد منهم قصور ؛ وليعلم الآخرون أنَّ أمامهم أرقاماً صعبة إن كان بهم حراك خارج الحقيقة أعلاه ، أو كان لهم مناهج خفية توحي بها بعض فلتات ألسنتهم ! وهذا شيء من التوضيح للقضية الكبرى أعلاه ، في نقاط موجزة مختارة من واقع الحدث :
أولاً : باختصار .. انتقل المُلك إلى ولي العهد بطريقة قانونية دستورية واضحة ، عيَّن فيها الملك الجديد ولي عهد له ، و مرَّ الحدث بهدوء لا ينكره إلا مكابر ؛ وهذا كلَّه مع ما كان من إرجافٍ وتحليلات فاشلة ؛ فلله الحمد والمنّة .
ثانياً : نُفِّذت أحكام الجنائز وفق الكتاب والسنة - بوصفها أوَّل أحكام شرعية إسلامية عامَّة في ظل القيادة الجديدة - في جنازة الملك فهد رحمه الله تعالى ، من الغسل والتكفن والصلاة والدفن والقبر ، وشاهد ملايين الناس هذه التفاصيل الشرعية من غير غلوِّ مُبْتَدِعٍ أو غوايةِ قبوريِّ مفتون ؛ فكانت رسالة عملية أصدق إنباء من الكتب . اطَّلع بها المسلمون على يُسْرِ هذا الدين ، ومساواته ، وسهولته (( إنَّا أمَّة أميَّة ، الشهر هكذا وهكذا وهكذا )) ، بمثل هذه البساطة والسهولة واليسر اتضح لمن ينهجون نهجاً آخر في شأن الجنائز ، أنَّهم قد وضعوا على أنفسهم آصاراً و في أعناقهم أغلالاً ، لم يشأ الله أن يشدِّد على الأمة بها ( ولو شاء الله لأعنتكم ) .
فلا عرباتٍ ولا مدافعَ ولا صحبة موسيقى حزينةٍ ولا عقودَ بناءٍ للقباب ، وهي أمور لن تعجز عنها ميزانية من وسَّع الحرمين لو كان على غير هدى .
بل أحضره الأقربون مسجى على نعش خشبيٍ عامٍّ يحمل اسم المستشفى الذي توفي فيه .. مغطى بعباءةٍ رجالية وفق الأسلوب المعتاد الذي لا محذور فيه .. ورفعوه على أعناقهم إلى المسجد ومنه ، وكذا في المقبرة ، بين القبور .. ليس في ساحة مسجد قد بُني ، أو وضع أساسه ببناء القبر .
إنَّها دروس في العقيدة الإسلامية الصافية ، لم نملك مدامعنا ونحن نراها ، كما نراها مع كلِّ جنازة ! ولولا رؤية حامليها لما فرقنا بينها وبين الجنازة الأخرى .
فلله الحمد والمنَّة .. وجزى الله خيرا كل من سلك في ذلك السُنَّة .
ثالثاً : ظهرت مصطلحات لها شذى إسلامي فقهي تاريخي عبق .. تداولتها وسائل الإعلام واستضافت لها المتخصصين من الفقهاء وغيرهم ممن يقرؤون السياسات ، فكم كان لسماعها في الأنفس من نشوة : إنَّها مصطلحات لم تعرفها الديمقراطية زرقاء العين ، مع أنها وجدت قبلها بأكثر من أربعة عشر قرناً !.
مصطلحات سمعها الناس وتلقّاها العوام كما ردَّدها العلماء والولاة تماما .. حتى إنَّك لتسمع بعض العامة المتصلين بالإذاعة أو القناة يفتتح مكالمته ، بعبارة في غاية البراءة : ألو .. ممكن أبايع ؟! ممكن أبايع ؟! فيرد المذيع : تفضل .. تفضل .. تسمع الفقيه يتحدث عن وجوب المبايعة ، وأنها حكم شرعي وليس دعاية سياسية .
وهكذا مصطلح ( المنشَط ) و مصطلح ( المَكْرَه ) وغيرها من مصطلحات الفقه السياسي الإسلامي الأصيل .
لقد كانت هذه المصطلحات في هذه الأيام تحوم حول الأرض حوم الأقمار الصناعية ، وتلفت أنظار الأباعد فيما أتخيله ببساطة : أشعة ليزر دعائية ، تقول للعالم : هنا مكَّة ! هنا الإسلام هنا السلام .
وهنا أرفع صوتي أكثر .. لأقول لمن ينادون بثقافات الآخرين - في كل مكان - من العلمانيين واللبراليين ومن تمسح بهم و نحى نحوهم واتبع غوايتهم : أربعوا على أنفسكم أيَّها القوم ، فو الله إنَّ ولاءنا لأمتنا وولاة أمرنا ، ولاء ديني إسلامي ، يوجبه الدين في المنشط والمَكْرَه .. وليس ولاء مصلحياً لا يتحمل نقص المصلحة الشخصية في المنشط ، بلْه أن يدين بالولاء في المَكْرَه ! .
فشيئاً من الحياء يا من تلبسون الثياب وتتحدثون من خلال ربطة العنق .(/1)
إي وربي لقد سمعنا عجبا .
ففي الوقت الذي يتكلم فيه علماؤنا ودعاة الإسلام في هذا البلد وعلى رأسهم شيخنا سماحة مفتي عام المملكة / عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ ، ورئيس مجلس القضاء الأعلى ، و الشيخ صالح اللحيدان حفظهما الله ، وكلِّ من تيسر له الحديث من الدعاة إلى الله في إذاعة أو قناة - أقول : في هذا الوقت الذي يؤكِّد فيه هؤلاء العلماء والدعاة على مسألة البيعة لولاة الأمر على الكتاب والسنة ، نجد الآخرين يتحدثون عن آمالهم في تغيير ثقافة المجتمع ؟! بل ومنهم من وجد وقتاً ليطالب بأيام للحداد ! ما هذا ؟ أهذا وقت مطالبات ؟ أهذا وقت إزعاج للولاة والأمَّة ؟!.
وما هي آليات المطالبة الجادَّة على فرض التسليم بهذه الدعوى ؟!.
لقد تبرع لنا بفتوى من النوع ( السفري ) المسمم بالجهل بأبجديات العقيدة الإسلامية الصافية ؟! بل و بأبجديات أصول القانون التي تمنع المطالبة بما يخالف الدستور ؟! وعلى أقل تقدير إن زعموا أنهم يستشرفون المستقبل فحسب : فهلا تحدثوا عن خِطط متجدِّدة من التنمية تُنتظر ، بدل الحديث عن ثقافة الأمَّة التي تفسر مدلولها طروحاتهم الأخرى ؟! حينها لربما وجدنا لهم شيئاً من عذر !.
رابعاً : الرجل الذي يساهم في صنع التاريخ ، هو الذي يُورِّث أعمالاً خالدة بخلود أصولها .. وإنَّ من مآثر الملك فهد - رحمه الله تعالى - التي انتظرنا من دعاة التغريب من يعطيها شيئاً من حقها في البيان والدراسة والتغطيات الإعلامية : إصدار النظام الأساسي للحكم ، فهو بحق مفخرة تستحق التغطية المستمرة استمرار الوقائع والأحداث .. فلِم يتجاهله القوم يا ترى ؟!.
أيخجلون من ذكر الكتاب والسنة التي يؤكِّد النظام انطلاقه منهما ؟!.
أم هل يرونه نظاماً ظلامياً رجعياً ؟!.
أم أنَّه لا يخدم المشاريع التغريبية التي يتأبطونها ؟!.
كلّ ذلك وارد ولا سيما مع اختلاف مآخذ القوم على قلتهم لا كثَّرهم الله !.
وكنت في موضوع سابق أشرت إلى أهمية احترام النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية ، أو ما يعرف في لغة القانون بـ ( الدستور ) ، وأشرت فيه إلى تضمنه لمقاصد الولاية العظمى في الإسلام ، وذكرت أهم مواد النظام التي تنصّ على وجوب العناية بها ؛ بالتزام مرجعية الكتاب والسنة ، وسياسة الأمة سياسة شرعية ، والقيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، في مواد غاية في الوضوح ودقّة الصياغة .
وكانت خدمة الحرمين الشريفين ، والمسجد الأقصى ، والعناية بالجاليات المسلمة ، والمراكز الإسلامية ، وتأسيس مجمع الملك فهد للمصحف الشريف وقيامه بأعماله - تطبيقاً عملياً لبعض مواد هذا النظام المفخرة .
أيها النَّاس : إنَّ النظام الأساسي للحكم خطة سياسية إسلامية ، أصيلة المأخذ ، عميقة الجذور ، دستورها من كتاب الله ، ومنهجها الإسلام .. وهذا عينه ما عاهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود الأمَّة بالسير عليه ، سائلاً الله عز وجل أن يقويه على تنفيذه ، ومطالباً الأمَّة بإعانته عليه .
ومن هنا يجب على وسائل الإعلام أن تكون معينة لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود - وفقه الله - في تنفيذ ما عاهد عليه ، وأن تعدل عن كل ما يخالف كتاب الله عز وجل ، وتعدل إلى ما يقتضيه المنهج الإسلامي الذي تقوم عليه هذه الدولة المباركة إن شاء الله تعالى .. فليتقوا الله في أنفسهم وفي ولاتهم وفي أمتهم التي ينتمون إليها .. وليفتحوا صفحة جديدة من الاتباع المخلص للدين ، والولاء الصادق لولي الأمر ، والنصح السديد للرعية .
وفَّق الله الولاة والرعية لما يحبه ويرضاه وجنبهم ما يسخطه ويقلاه .
اللهم وفق ولاتنا لما للسير بنا فيما يرضيك ، وارزقهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير وترشدهم إلى طريقه ، وتحذِّرهم من الشر وتصرفهم عن طرائقه .
اللهم وصل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله .(/2)
فضل الإسلام
الإمام محمد بن عبد الوهاب
باب وجوب الإسلام...
وقول اله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (آل عمران:85) وقوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) (الأنعام: 153)
قال مجاهد: السبل : البدع والشبهات.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليسمنه فهو رد ) وفي لفظ (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد).
وللبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى - قيل: ومن أبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) .
وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمه) (رواه البخاري)، وبند رج فيها كل جاهلية مطلقة أو مقيدة، أي في شخص دون شخص، كتابية، أو وثنية، أو غيرهما من كل مخالف لما جاء به المرسلون.
وفي الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه قال: يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا، فإن أخذتم يمينا وشمالا فقد ضللتم ضلالا بعيدا.
وعن محمد بن وضح: كان يدخل المسجد فيقف على الحلق فيقول تذكرة وقال: أنبأنا ابن عيينة، عن مجالد عن الشعبي، عن مسروق، قال عبد الله- يعني ابن مسعود- ليس عام إلا والذي بعد أشر منه، لا تقول عام أخصب من عام،ولا أمير خير من أمير، لكن ذهاب علمائكم وخياركم، ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام وينثلم.
باب تفسير الإسلام...
وقول الله تعالى: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن) (آل عمران: 20) الآية.
وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا).
وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أن تسلم قلبك لله، وأن تولي وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة) رواه أحمد .
وعن أبي قلابة عن عمرو بن عبسة عن رجل من أهل الشام عن أبيه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما الإسلام؟ قال: (أن تسلم قلبك لله ويسلم المسلمون من لسانك ويدك) قال: أي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان قال: وما الإيمان؟ قالL أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت).
باب قول الله تعالى (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه)...
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم (تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول: يا رب أنا الصلاة فيقول : إنك على خير، ثم يجيء الصيام فيقول: إنك على خير، ثم تجيء الأعمال على ذلك فيقول: إنك على خير، ثم يجيء الإسلام فيقول: يا رب إنك السلام وأنا الإسلام فيقول: إنك على خير ، بك اليوم آخذ وبك أعطى قال الله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (آل عمران:85) رواه أحمد .
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) (رواه أحمد) .
باب وجوب الاستغناء بمتابعته صلى الله عليه وسلم عن كل ما سواه...
باب وجوب الاستغناء بمتابعته صلى الله عليه وسلم عن كل ما سواه
وقول الله تعالى: (ونزلنا عليك الكتب بينا لكل شيء) النحل:89
روى النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة فقال: (لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي ) فقال عمر: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا .
باب ما جاء في الخروج عن دعوى الإسلام...
وقوله تعالى : (هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا) الحج: 78 .
عن الحارث الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آمركم بخمس، الله أمرني بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم) فقال رجل: يا رسول الله وإن صلى وصام قال: (وإن صلى وصام فادعوا الله الذي سماكم المسلمين والمؤمنين عباد الله ) رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح.(/1)
وفي الصحيح: (من فارق الجماعة شبرا فميتته جاهلية) وفيه: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) قال أبو العباس: كل ما يخرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصم مهاجري وأنصاري قال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار! قال صلى الله عليه وسلم (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟) وغضب لذلك غضبا شديداً . انتهى كلامه.
باب وجوب الدخول في الإسلام كله وترك ما سواه...
وقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) (البقرة:208) وقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) النساء 60 الآية . وقوله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) آل عمران: 106 . قال ابن عباس رضي الله عنه : تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدع والاختلاف.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليأتين على أمتي ما أتي على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل،حتى إن كان منهم من أتى أمة علانية كان في أمتي من يصنع ذلك، وأن بني إسرائيل افترقت على اثنتين وسبعين ملة) وتمام الحديث قوله: (وتفترق هذبه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا ملة واحدة - قالوا: من هي يا رسول الله ؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي ) يا لها موعظة وافقت من القلوب حياة) رواه الترمذي ورواه أيضاً من حديث معاوية عند أحمد وأبي داود وفيه: (إنه سيخرج من أمتي قوم تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله) وتقدم قوله: (ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية) .
باب ما جاء أن البدعة أشد من الكبائر...
لقوله عز وجل : (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء:48 وقوله تعالى: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون) النحل: 25
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال في الخوارج: (أينما لقيتموهم فاقبلوهم) .
وفيه أنه نهى عن قتل أمراء الجور ما صلوا .
عن جرير عن عبد الله أن رجلاً تصدق بصدقة ثم تتابع الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) رواه مسلم .
وله من حديث أبي هريرة ولفظة : (من دعا إلى هدى - ثم قال - من دعا إلى ضلالة) .
باب ما جاء أن الله احتجر التوبة على صاحب البدعة
هذا مروي من حديث أنس من مراسيل الحسن .
وذكر ابن وضاح عن أيوب قال: كان عندنا رجل يرى رأياً فتركه فأتيت محمد بن سيرين فقلت: أشعرت أن فلانا ترك رأيه؟ قال: انظر إلى ماذا؟ إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله : (يمرقون من الإسلام؟ ثم لا يعودون إليه) وسئل أحمد بن حنبل عن معنى ذلك فقال: لا يوفق للتوبة.
باب قول الله تعالى (يأهل الكتب لم تحاجون في إبراهيم)...
قول الله تعالى: (يأهل الكتب لم تحاجون في إبراهيم) آل عمران: 65 إلى قوله: (وما كان من المشركين) آل عمران: 67 وقوله: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سله نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) البقرة:130 وفيه حديث الخوارج وتقدم وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (آل أبي فلان ليسو إلى بأولياء إنما أوليائي المتقون) وفيه أيضا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له أن بعض الصحابة قال: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال آخر: أما أنا فأقوم ولا أنام وقال آخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر فقال صلى الله عليه وسلم: (لكنني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني) فتأمل إذا كان بعض الصحابة أراد التبتل للعبادة قيل فيه هذا الكلام الغليظ وسمي فعله رغوباً عن السنة فما ظنك بغير هذا من البدع وما ظنك بغير الصحابة؟
باب قول الله تعالى (فأقم وجهك للدين حنيفا)...
قول الله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم: 30
وقوله تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يبنى إن الله أصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) البقرة: 132 وقوله: (ثم أوحينا إليك أن أتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) النحل:123
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل نبي ولاة من النبيين وأنا وليي منهم أبي إبراهيم وخليل ربي) ثم قرأ: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) آل عمران:68 رواه الترمذي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكن وعمالكم).(/2)
ولهما عن ابن مسعود قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرطكم على الحوض وليرفعن إلي رجال من أمتي حتى إذا أهويت لأناولهم احجبوا دوني فأقول: أي رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك).
ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وددت أنا قد رأينا إخواننا قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال: (أنتم أصحابي، وإخواني هم الذين لم يأتوا بعد) قالوا: فكيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك؟ قال: (أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى قال: فإنهم يأتون غر محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال يوم القيامة عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك فأقول: سحقا سحقا) .
وللبخاري: (بينما أنا قائم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم فقلت: أين ؟ قال: إلى النار والله . قلت : وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدم على أدبارهم القهقري ثم إذا زمرة - فذكر مثله - قال: فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم) .
ولهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: فأقول كما قال العبد الصالح: (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) المائدة/ 117
ولهما عنه مرفوعاً: (ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها) ثم قرأ أبو هريرة: (فطرت الله التي فطر الناس عليها) الروم: 30 متفق عليه.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وأنا أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. فقلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ (نعم وفيه دخن) قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم فتنة عمياء ودعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلن: يا رسول الله صفهم لنا قال: (قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا - قلت : يا رسول الله ما تأمرني إن أدركت ذلك قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: وإن لم يكن جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك) أخرجاه وزاد مسلم: ثم ماذا؟ قال: يخرج الدجال معه نهر ونار فمن وقع في ناره وجب أجره قلت ثم ماذا؟ قال: هي قيام الساعة) قال أبو العالية: تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تتحركوا عن الصراط يمينا ولا شمالا، وعليكم بسنة نبيكم وإياكم وهذه الأهواء. انتهى .
تأمل كلام أبي العالية هذا ما أجله، واعرف زمانه الذي يحذر فيه من الأهواء التي من اتبعها فقد رغب عن الإسلام، وتفسير الإسلام بالسنة، وخوفه على أعلام التابعين وعلمائهم من الخروج عن السنة والكتاب، يتبين لك معنى قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم) البقرة: 131 وقوله: (ووصى بهما إبراهيم بنيه ويعقوب يبني إن الله أصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) البقرة: 132 وقوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) البقرة: 130 وأشباه هذه الأصول الكبار التي هي أصل الأصول والناس عنها في غفلة، وبمعرفته تبين معنى الأحاديث في هذا الباب وأمثالها، وأما الإنسان الذي يقرأها وأشباهها وهو مطمئن أنها لا تناله ويظنها في قوم كانوا فأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: (هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه سبل على كل سبيل مهنا شيطان يدعو إليه وقرأ: (وأن هذا صراط مستقيما فاتبعوه ولا تشبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) الأنعام: 153 رواه أحمد والنسائي.
باب ما جاء في غربة الإسلام وفضل الغرباء...
وقول الله تعالى: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم) هود: 116 الآية وعن أبي هريرة مرفوعاً: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) رواه مسلم ورواه أحمد من حديث ابن مسعود فيه: من الغرباء؟ قال: (النزاع من القبائل والذين يصلحون إذ فسد الناس) .
وللترمذي من حديث كثير بن عبد الله عن أبية عن جده (فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي) .(/3)
وعن أبي أمية قال: سألت أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية؟ (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) المائدة: 105 قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال(بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيتم شحا مطاعاً وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم قلنا: منا أم منهم؟ قال: بل منكم) رواه أبو داود والترمذي.
وروى ابن وضاح معناه من حديث ابن عمر ولفظه: (إن من بعدكم أياما للصابر فيها المتمسك بدينه مثل ما أنتم عليه اليوم، له أجر خمسين منكم ثم قال: أنبأنا محمد بن سعيد، أنبأنا أسد، قال سفيان بن عيينة: عن البصري، عن سعيد أخي الحين يرفعه قال: (إنكم اليوم على بينة من ربكم، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتجاهدون في سبيل الله، ولم يظهر فيكم السكرتان: سكرة الجهل، وسكرة حب العيش، وستحولون عن ذلك، فالمتمسك يومئذ بالكتاب والسنة له أجر خمسين) قيل: منهم؟ قال : (بل منكم) وله بإسناد عن المعافري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (طوبى للغرباء، الذين يتمسكون بالكتاب حين يترك، ويعملون بالسنة حين تطفأ) .
باب التحذير من البدع...
باب التحذير من البدع
عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، قلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال: (أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة، وإن أمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عيها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة) قال الترمذي حديث حسن صحيح.
وعن حذيفة قال: كل عبادة لا يتعبدها أصحاب محمد فلا تعبدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالا، فاتقوا الله يا معشر القراء، وخذوا طريق من كان قبلكم، رواه أبو داود وقال الدارمي: أخبرنا الحكم بن المبارك، أنبأنا عمرو بن يحيى، قال: سمعت أبي يحدث عن أبية قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج أبو عبد الرحمن ؟ قلنا: لا، فجلس معنا، فلما خرج قال: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد أمرا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرا، قال: فما هو؟ فقال: إن غشت فستراه قال: رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، فيقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئا، أنتظر أمرك قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟ ثم مضى حتى أتى حلقة، فقال: ما هذا؟ قالوا له: حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير قال: وكم من مريد للخير لم يصبه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وأيم الله لعل أكثرهم إلا منكم فقال: عمرو بن سلمة رأينا عامة أولئك يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج.(/4)
فضل التوحيد والتحذير مما يضاده
دار القاسم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله...
أخي في الله إليك كلمات موجزة عن فضل التوحيد والتحذير من ضده وما ينافيه من أنواع الشرك والبدع ما كان كبيراً او صغيراً، إن التوحيد هو أول واجب دعا إليه الرسل، وهو أصل دعوتهم قال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [النحل:36] والتوحيد هو أعظم حق الله تعالى على عبيده ففي الصحيحين من حديث معاذ قال: قال رسول الله : { حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً } فمن حقق التوحيد دخل الجنة ومن فعل أو اعتقد ما ينافيه ويناقضه فهو من أهل النار ومن أجل التوحيد أمر الله الرسل بقتال أقوامهم حتى يعتقدوه قال الرسول : { أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا آله إلا الله } [متفق عليه]، وتحقيق التوحيد سبيل السعادة في الدنيا والآخرة 0 ومخالفته سبيل للشقاوة، وتحقيق التوحيد سبيل لاجتماع الأمة وتوحيد صفوفها وكلمتها والخلل في التوحيد سبب الفرقة والتشتت.
وأعلم أخي رحمني الله وإياك أنه ليس كل من قال لا إله إلا الله يكون موحداً بل لا بد من توفر شروط سبعة ذكرها أهل العلم:
1- العلم بمعناها والمراد منها نفياً وإثباتاُ، فلا معبود بحق إلا الله تعالى.
2- اليقين بمدلولها يقيناً جازماً.
3- القبول لما تقتضيه هذه الكلمة بقلبه ولسانه.
4- الانقياد لما دلت عليه 0
5- الصدق، فيقولها بلسانه ويوافق ذلك قلبه.
6- الإخلاص المنافي للرياء.
7- حب هذه الكلمة وما اقتضته.
أيها الأحبة في الله وكما يجب علينا تحقيق التوحيد وتوفير شروط لا إله الا الله، فيجب علينا أن نخاف من الشرك ونحذره بجميع أنواعه وأبوابه ومداخله أكبره وأصغره فإن أعظم الظلم الشرك، الله يغفر كل شئ إلا الشرك ومن وقع فيه فقد حرم الله عليه الجنة وما أواه النار قال تعالى: أن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء [النساء:48] وإليك يا أخي بعض ما ينافي التوحيد أو يخل به كما ذكرها أهل العلم لتكون على حذر منها:
1- لباس الحلقة والخيط كان نوعها من صفر أو نحاس أو حديد او جلد لرفع بلاء أو دفعه فهو من الشرك.
2- الرقى البدعية والتمائم، والرقى البدعية هي المشتملة على الطلاسم والكلام غير المفهوم والاستعانة بالجن في معرفة المرض أو فك السحر أو وضع التمائم وهو ما يعلق على الإنسان والحيوان من خيط أو ربطة سواء كان مكتوباً من الكلام البدعي الذي لم يرد في القرآن والسنة أو حتى الوارد فيهما – على الصحيح – لأنها من أسباب الشرك قال الرسول : { إن الرقى – أي الشركية – والتمائم والتولة شرك } [رواه احمد وأبو داود].
ومن ذلك تعليق ورقة أو قطعة من النحاس أو الحديد في داخل السيارة فيها لفظ الجلالة أو آية الكرسي او وضع مصحف في داخل السيارة واعتقاد أن ذلك يحفظها يمنع عنها الشر من عين أو نحوها ومن ذلك وضع قطعة على شكل كف أو مرسوم فيها عين فلا يجوز وضعه حيث يعتقد فيه دفع العين قال : { من تعلق شئ وكل إليه } [رواه أحمد والترمذي والحاكم].
3- ومما يخل بالتوحيد التبرك بالأشخاص والتمسح بهم وطلب بركتهم أو التبرك بالأشجار والأحجار وغيرها وحتى الكعبة فلا تمسح بها تبركاً، قال عمر بن الخطاب – وهو يقبل الحجر الأسود: أني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك.
4- ومما ينافي التوحيد الذبح لغير الله كالأولياء والشياطين والجن لجلب نفعهم أو ضرهم فهذا من الشرك الأكبر، وكما لا يجوز الذبح لغير الله، لا يجوز الذبح في مكان يذبح فيه لغير الله ولو كان قصد الذابح أن يذبح لله عز وجل وذلك سداً لذريعة الشرك.
5- ومن ذلك النذر لغير الله فالنذر عبادة لا يجوز أن تصرف لغير الله سبحانه وتعالى.
6- ومن ذلك الاستعانة والاستعاذة بغير الله، قال لأبن عباس رضي الله عنهما: { وإذا استعنت فأستعن بالله واذا سألت فسأل الله...} وبذلك نعلم المنع من دعاء الجن.
7- ومما يخل بالتوحيد الغلو بالأولياء والصالحين، ورفعهم عن منزلتهم وذلك بالغلو في تعظيمهم أو رفع منزلتهم إلى منزلة الرسل أو ظن العصمة فيهم.
8- ومما ينافي التوحيد الطواف بالقبور، فهو من الشرك، ولا يجوز الصلاة عند القبر لأنها وسيلة إلى الشرك فكيف بالصلاة لها وعبادته والعياذ بالله؟!
9- ولحماية التوحيد جاء النهي عن البناء على القبور وجعل القباب والمساجد عليها وتجصيصها.
10- ومما ينافي التوحيد، السحر وإتيان السحرة والكهنة والمنجمين ونحوهم، فالسحرة كفار ولا يجوز الذهاب إليهم ولا يجوز سؤالهم، أو تصديقهم وان تسموا بالأولياء والمشايخ ونحو ذلك.
11- مما يخل بالتوحيد الطيرة وهي التشائم بالطيور أو بيوم من الأيام أو بشهر أو بشخص، كل ذلك لا يجوز، فالطيرة شرك كما جاء بالحديث.(/1)
12- ومما يخل بالتوحيد التعلق بالأسباب كالطيب والعلاج والوظيفة وغيرها وعدم التوكل على الله، والمشروع هو أن نبذل الأسباب كطلب العلاج والرزق ولكن مع تعلق القلب بالله لا بهذا السبب.
13- ومما يخل بالتوحيد التنجيم واستعمال النجوم في غير ما خلقت له، فلا تستخدم في معرفة المستقبل والغيب وكل هذا لا يجوز.
14- ومن ذلك الاستسقاء بالنجوم والأنواء والمواسم واعتقاد أن النجوم هي التي تقدم المطر أو تأخره، بل الذي ينزل المطر ويمنعه هو الله فقل: "مطرنا بفضل الله ورحمته".
15- ومما ينافي التوحيد صرف شئ من أنواع العبادة القلبية لغير الله مثل صرف المحبة المطلقة أو الخوف المطلق للمخلوقات.
16- ومما يخل بالتوحيد الأمن من مكر الله وعذابه أو القنوط من رحمة الله، فلا تأمن مكر الله ولا تقنط من رحمته، فكن بين الخوف والرجاء.
17- ومما يخل بالتوحيد عدم الصبر على أقدار الله والتجزع ومعارضة القدر بمثل قولهم "لماذا يا الله تفعل بي كذا أو بفلان كذا أو لماذا كل هذا يا الله". ونحو ذلك من النياحة، وشق الجيوب ونثر الشعر.
18- ومن ذلك الرياء والسمعة وأن يريد الإنسان بعمله الدنيا.
19- ومما ينافي التوحيد طاعة العلماء والأمراء وغيرهم في تحريم أو تحليل الحرام، فإن طاعتهم نوع من الشرك.
20- ومما يخل بالتوحيد قول "ما شاء الله وشئت" أو قول "لولا الله وفلان" أو "توكلت على الله وفلان" فالواجب استعمال "ثم" في جميع ما سبق لأمره : { أنهم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت } [رواه النسائي].
21- ومما يخل بالتوحيد سب الدهر والزمان والأيام والشهور.
22- ومما ينافي التوحيد، السخرية بالدين أو الرسل أو القرآن أو السنة، أو السخرية بأهل الصلاح والعلم، لما يحملونه من السنة وظهورها عليهم من إعفاء اللحية أو السواك أو تقصير الثوب عن الكعب، ونحو ذلك.
23- ومنها التسمية بـ "عبد النبي" أو "عبد الكعبة" أو "عبد الحسين" وكل هذا لا يجوز بل تكون العبودية لله وحده كقولنا "عبد الله" و "عبد الرحمن".
24- ومما يخل بالتوحيد تصوير ذوات الأرواح ثم تعظيم هذه الصورة وتعليقها على الجدار وفي المجالس وغير ذلك.
25- ومما ينافي التوحيد وضع الصلبان ورسمها أو تركها موجودة على اللباس إقراراً لها والواجب كسر الصليب أو طمسه.
26- ومما ينافي التوحيد موالاة الكفار والمنافقين بتعظيمهم واحترامهم وإطلاق لفظ "السيد" عليهم والحفاوة بهم ومودتهم.
27- ومما ينافي التوحيد ويناقضه، الحكم بغير ما انزل الله وتنزيل القوانين منزلة الشرع الحكيم، باعتقاد أحقية القانون في الحكم وان القانون مثل الشرع او أنه احسن من الشرع وأنسب للزمن، ورضي الناس بذلك داخل في هذا الحكم.
28- مما يخل بالتوحيد الحلف بغير الله مثل الحلف بـ "النبي" أو "الأمانة" أو غير ذلك، قال النبي : { من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك } [رواه الترمذي وحسنه].
وبعد أخي المسلم وكما يجب علينا أن نحقق التوحيد ونحذر مما يضاده وينافيه يجب علينا أيضاً أن نكون على منهج أهل السنة والجماعة "الفرقة الناجية" منهج سلف هذه الأمة من الصحابة ومن بعدهم في كل الجوانب العقدية والسلوكية، فكما لأهل السنة منهج في العقيدة في باب الأسماء والصفات وغيره، كذلك لهم منهج في السلوك والأخلاق والتعامل والعبادات، وكل نواحي حياتهم، ولذلك لما ذكر الرسول أن هذه الأمة سوف تفترق على ثلاث وسبعين فرقة قال: { كلها في النار إلا واحدة قبل من هم؟ قال: هم مثل ما أنا عليه الآن وأصحابي } فلم يقل هم من قال كذا أو فعل كذا... فقط، ولكن هم من وافقوا منهج الرسول والصحابة في كل شئ.
فيجب عليك أخي:
1- في باب الصفات، أن تصف الله عز وجل بما وصف به نفسه ووصفه به رسول الله من غير تحريف ولا تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل 00 إذاً فلا نفي إلا ما نفى الله ولا تشبيه على حد قوله تعالى: ليس كمثله شئ وهو السميع العليم [الشورى:11].
2- أن القرآن كلام الله تعالى منزل غير مخلوق منه بدأ إليه يعود.
3- الإيمان بما يكون بعد الموت من أحوال القبر وغيره.
4- الاعتقاد أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
5- لا نكفر أحد بذنب دون الشرك ما لم يستحله، وان فاعل الكبيرة إن تاب تاب الله عليه، وإن مات ولم يتب فهو تحت مشيئة الله، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه ثم يدخله الجنة، وأنه لا يخلد في النار إلا من وقع في الكفر والشرك وترك الصلاة من الكفر.
6- أهل السنة يحبون الصحابة ويعظموهم ويتولونهم كلهم، سواء أكانوا من أهل البيت أم من غيرهم من الصحابة، ولا يعتقدون عصمة أحد منهم، وأفضل الصحابة هم أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وأرضاهم، ويسكتون عما وقع بنيهم فكلهم مجتهدون، من أصاب له أجران ومن أخطاء فله أجر واحد.(/2)
7- وهم يؤمنون بكرامات الأولياء وهم المتقون الصالحون قال تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون [يونس:62-63].
8- وهم لا يرون الخروج على الإمام ما أقام فيهم الصلاة، ولم يروا كفراً بواحاً عندهم فيه من الله برهان.
9- وهم أيضاً، يؤمنون بالقدر خيره وشره بجميع مراتبه 0 ويعتقدون أن الإنسان مسير ومخير، فهم لم ينفوا القدر ولم ينفوا اختيار البشر، بل أثبتوهما جميعاً.
10- وهم يحبون الخير للناس، وهم خير الناس بل هم أعدل الناس للناس.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(/3)
فضل الدعوة والداعية عند الله
بسم الله الرحمن الرحيم
أتعرفون – يا شباب – فضل الدعوة والداعية عند الله ؟
أتعرفون المنزلة الكبرى التي خص الله سبحانه بها دعاة الإسلام ؟
أتعرفون ماذا أعد الله للدعاة من مثوبة وأجر وكرامة ؟
# يكفي الدعاة – يا شباب – منزلة ورفعة .. أنهم خير هذه الأمة على الإطلاق ، قال تعالى في سورة آل عمران : (( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ..)) .
# يكفي الدعاة سمواً وفلاحاً أنهم المفلحون والسعداء في الدنيا والآخرة ، قال سبحانه في سورة آل عمران : (( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) .
# ويكفي الدعاة شرفاً وكرامة أن قولهم في مضمار أحسن الأقوال ، وأن كلامهم في التبليغ أفضل الكلام .. قال جل جلاله في سورة فصلت : (( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )) .
# ويكفي الدعاة منَّا وفضلاً أن الله سبحانه يشملهم برحمته الغامرة ، ويخصهم بنعمته الفائقة ..
قال عز من قائل في سورة التوبة : (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) .
# ويكفي الدعاة أجراً ومثوبة .. أن أجرهم مستمر ومثوبتهم دائمة .. روى مسلم وأصحاب السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من دعاء إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً .. )) .
# ويكفي الدعاة فخراً وخيرية .. أن تسببهم في الهداية خير مما طلعت عليه الشمس وغربت .
روى البخاري عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( .. فوالله لأن يهدي بك رجلاً واحداً خير لك من حُمر النَّعم )) وفي رواية : (( خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت )) .
هل رأيتم – يا شباب – منزلة تضاهي منزلة الدعوة ؟
وهل سمعتم في تاريخ الإنسانية كرامة تعادل كرامة الداعية ؟
فإذا كان الأمر كذلك فانطلقوا – يا شباب – في مضمار الدعوة إلى الله مخلصين صادقين .. لتحظوا بالأجر والمثوبة ، والرفعة والكرامة .. في مقعد صدق عند مليك مقتدر .. في مجمع من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً !! .
من كتاب دور الشباب في حمل رسالة الإسلام
لعبدالله ناصح علوان(/1)
فضل الذكر
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء : 1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران: 102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
? إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ?[التوبة:111-112].
هذه صفات المؤمنين الأبرار الذين أبرموا عقداً مع خالقهم وباعوا له النفوس والأموال والأولاد، وتجردوا لله الواحد القهار .. لا يخيسون في عهدهم ولا ينقضون ميثاقهم ، ولا يرتدون على أعقابهم مهما كانت المتاعب والمشاق ويقولون ضارعين إلى الله عز وجل ? رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ? [الأعراف:126].
من صفات هؤلاء الأبرار الأطهار: أنهم كثيروا الذكر والثناء والحمد لله رب العالمين، فهم حامدون يحمدون الله على كل حال، في السراء والضراء وفي الشدة والرخاء، فهم المثنون عليه بآلائه، الشاكرون له على نعمائه، المادحون له بصفاته وأسمائه.
يثنون على ربهم بلفظ الحمد وبغيره من الذكر المشروع وهو ما يدل على التسليم لله والرضا بقضائه، فإن الإنسان مهما نزل به من مصائب الدنيا فإنه يبقى له من اللطف الإلهي عند نزول المصائب ما يجب أن يحمد الله ويشكره عليها.
ولقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نحمد ربنا ونذكره وبين ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام، ففي الترمذي وغيره عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي، فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده. فيقولون: نعم، فيقول ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد"()
وفي الترمذي عن معاذ بن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل طعاماً فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه"().
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها"() وكان إذا أكل أو شرب قال "الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجاً"() .
وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله، قلت : يا رسول الله أخبرني بأحب الكلام إلى الله، فقال: "إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده"().
فأهل الذكر والحمد هم أهل الله وخاصته أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن (لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم، قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا قال فيسألهم ربهم عز وجل ـ وهو أعلم منهم ـ ما يقول عبادي ؟ قال تقول : يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. قال فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً وأكثر لك تسبيحاً..الحديث"().
وفي سنن أبي داؤود وغيره عن عبد الله بن غنام البياض رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يصبح : اللهم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه ، ومن قال ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته"()
وكان صلى الله عليه وسلم إذا آوى إلى فراشه قال: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا، وآوانا ، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي"()(/1)