من بغداد انطلقت في البحار والبراري ، رائعة ابن الأنباري : علو في الحياة وفي الممات . من بغداد استمع الدهر في عجبْ ، لدويّ : السيف أصدق أنباء من الكتبْ .
بغداد مهرجان أدبي كبير ، لكل أديب نحرير ، فيها شعر ونثر ، وحصباء ودر ، وصديق وزنديق ، وحر ورقيق ، وموحد وملحد ، وحانوت ومسجد ، وبارة ومعبد ، ومقبرة ومشهد ، جد وهزل ، وحب وغزل ، كأن التاريخ كله في بغداد اجتمع، وكأن الدهر لصوتها يستمع . وكأن ضوء الشمس من بغداد يرتفع .
مصيبة بغداد الحكام الأقزام ، من عينة صدام ، أبطال الشنق والإعدام .
فقام الرابع فقال : كأن الأرض أخذت من بغداد جمالها ، أفدي بنفسي سهلها وجبالها ، دجلة له خرير ، والفرات له هدير ، والنسيم به له زئير ، كأن الهواء سرق من المسك أريجه ، وكأن الماء أخذ من العاشق نشيجه . تغار من زهر بغداد الزهراء ، وتحمر خجلاً من حسن بغداد وجنتي الحمراء .
كأن السحاب في سماء بغداد مع الشفق خضاب ، وكأن بريق الفجر في مشارف بغداد ذهب مذاب . كأن وجه بغداد مشرق ، قبل ميشيل عفلق . فلما دخلها الرفاق ، وحزب النفاق ، كتب على بغداد الشقاء والإخفاق .
لله يا بغداد أنت نشيدة
غنت بك الأعصار والأمصار
من لم ير ذاك الجمال فإنه
ضاعت عليه مع المدى الأشعار
أظن بغداد أصابها عين ، أو دخلها لعين ، ما لها قتلت المبدعين ، وطردت اللامعين.
ماذا أصابك يا بغداد بالعين
أليس كنت يقينا قرة العين
وأنا عاتب على بغداد ، والعتاب لا يغير الوداد ، لأنه جُلد بها أحمد ، وقُتل بها أحمد، وأُكرم بها أحمد . فجُلد بها أحمد بن حنبل ، الإمام المبجل، وقُتل بها أحمد بن نصر الخزاعي ، الإمام الواعي ، وهو إلى الحق داعي ، وإلى البر ساعي، وأُكرم بها أحمد بن أبي دؤاد ، داعية البدعة والعناد ، والفتنة والفساد .
لكن بغداد لها حسنات يذهبن السيئات . ونهر الفرات ودجلة يطهران من الحدث ، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث .
*****************************
المقامَة الفلسطينيّة
{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى }
أطفال يافا يصرخون وما لهم
يا رب يا رحمن فانصر أمة ... عمرو ولا سعد ولا خطابُ
قد أُغلقت من دونها أبوابُ
زارنا رجل من فلسطين ، فجلس على الطين ، قلنا اجلس على السرير .
قال : كيف أجلس على السرير ، والقدس أسير ، بأيدي إخوان القردة والخنازير ؟
قلنا : فهل عندك من القدس خطاب ؟
قال : معي من القدس سؤال يريد الجواب .
قلنا : ما هو السؤال ؟
قال : ينادي أين الرجال ، أين أحفاد خالد وسعد وبلال ؟ يا حفاظ سورة الأنفال، أين أبطال القتال ؟ أين أسود النزال ؟
قلنا : هؤلاء ماتوا من زمان ، وخلت منهم الأوطان ، وخلف من بعدهم خلف لهم همم ضعيفة ، واهتمامات سخيفة ، وأحلام خفيفة .
ثم سألنا حامل الرسالة ، أين أهل البسالة ؟ أين الإباء ؟ لماذا تغير الأبناء عن الآباء ؟
قلنا : الآباء كانت بيوتهم المساجد ، ما بين راكع وساجد ، وخاشع وعابد ، وصائم ومجاهد .
والأبناء بيوتهم المقاهي ، ما بين مغن ولاهي ، ومن بماله يباهي ، ومن وقع في الدواهي ، إلا من رحمه إلهي .
كنا أسوداً ملوك الأرض ترهبنا
والآن أصبح فأر الدار نخشاه
ثم قلنا للرجل في عجل : سلم على القدس ، وقل : نفديك بالنفس ، متى العودة إلينا ، والسلام علينا ،
قال : إذا عدتم إلى الله عدنا ، وإن بعدتم عنه بعدنا .
نساء فلسطين تكحّلن بالأسى
وليمون يافا يابس في حقوله ... وفي بيت لحم قاصرات وقُصّرُ
وهل شجر في قبضة الظلم يثمرُ
قلنا : لماذا عدت لعمر ؟ قال : لأنه صاحب أثر ، صادق في الخبر ،عادل في السير.
قلنا : ولماذا جئت مع صلاح الدين ؟ قال : لأنه بطل حطين ، وولي لرب العالمين، وأحد العابدين المجاهدين .
قلنا : يا قدس هل من لقاء ؟ قال : إذا أطعتم رب الأرض والسماء ، وأخلصتم في الدعاء ، وتدربتم على الجهاد صباح مساء ، وتبتم من كل معصية وفحشاء .
قلنا : كيف حالك الآن ؟ قال : في هموم وأحزان ، وغموم وأشجان ، سجين في زنزانة الطغيان ، بعد ما فارقت أهل الإيمان ، وحملة القرآن .
من حاله وهي في حبس تزلزلهُ
مصائب البين لا يرثي له أحدُ
ثم قال : أما ترون خدي شُوّه بالنجمة السداسيّة ، وداست على جبيني الدولة الإبليسية ، أين أحفاد مصعب بن عمير ، ينقذونا من أبناء جولدا مائير ، أين أمثال عمر بن عبد العزيز ، يطلقونا من قبضة بيريز ، أين عُبّاد الديّان ، يمسحون عن جبيني وشم ديّان ، أين طلاب عبد الله بن مسعود ، يطردون إخوان القرود ، ويفكون عن قدمي القيود .
أيا فلسطين قد أهديتنا عتبا
متى اللقاء عسى ميعادنا اقتربا
نعم أتينا وفي إيماننا قضب
مسلولة تمطر الأهوال والغضبا
ثم قالت : أنا القدس السليبة ، كنت إلى الرسول حبيبة ، ومن قلب كل مؤمن قريبة ، وأنا الآن في بلاء ومصيبة ، وأحوال عجيبة .
مررت بالمسجد المحزون أسأله
تغير المسجد المحزون واختلفت(/96)
فلا الأذان أذان في منائره ... هل في المصلى أو المحراب مروان
على المنابر أحرار وعبدان
من حيث يتلى ولا الآذان آذان
فلسطين في قلوب المسلمين ، تناديهم من سنين ، وليس فيهم من قال : لبيك جئنا فاتحين ، لكنا تعبنا من محبة أهل الإرجاء ، تمدح وادعاء ، وفلسطين تصرخ صباح مساء.
إذا لم تكن هنا حمية إسلاميّة ، فأين النخوة العربية .
رب وامعتصماه انطلقت
لامست أسماعهم لكنها
ألإسرائيل تعلو راية
أو ما كنت إذا البغي اعتدى ... مِلء أفواه الصبايا اليتم
لم تلامس نخوة المعتصم
في حمى المهد وظل الحرم؟
موجة من لهب أو من دمِ؟
لو سمع عمر صرخة طفل مجهود ، أبوه مفقود ، وأخوه في القيود ، لجنَّد الجنود ، ولداس اليهود . لو طرقت سمع المعتصم وا أماه ، لضاقت أرضه وسماه ، ولقاد الكماة ، ولأخرج فلسطين من زنزانة الطغاة البغاة .
فلسطين تنادي حطين : هل عندك من صلاح الدين ؟ فإنا يا أختاه في الحبس مرتهنين ، ولنا أنين .
وليمون يافا يابس في حقوله
وهل شجر في قبضة الظلم يثمرُ
رفيق صلاح الدين هل لك عودة
فإن جيوش البغي تنهى وتأمرُ
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم
وجيشك في حطين صلّوا وكبَّروا
خمسون عاما ، ونحن نرى أيتاما ، ونشاهد أيامى ، ونبصر آلاما ، ثم نتعامى ، ولا يحرك فينا هذا كله إبهاما .
من أراد أن يطلق القدس من الأسر وأن يفكّه ، فليأخذ دستوره من مكّة ، القدس إسلامية ما ترطن ، ولا تنتظر النصر من واشنطن ، القدس تقلق ، إذا جئنا بجيش فيه ميشيل عفلق . يحرر الأرض ، ويحمي العرض ، من أدى الفرض ، وخاف يوم العرض .
دونك مليار مسلم آيسين بائسين ، أمام من قيل فيهم : كونوا قردة خاسئين .
مهلاً فديت أبا تمام تسألني
كيف احتفت بالعدا حيفا أو النقبُ
اليوم تسعون مليوناً وما بلغوا
نضجاً وقد عصر الزيتون والعنبُ
وأطفأت شهب الميراج أنجمنا
وشمسنا وتحدت نارها الخطبُ
تنسى الرؤوس العوالي نار نخوتها
إذا امتطاها إلى أسيادها العربُ
ما يحرر فلسطين إلا طلاب العز بن عبد السلام ، وتلاميذ عز الدين القسام .
افهمها بالمكشوف ، ما يحرر فلسطين طلاب سخاروف ، ولا يردها لأهلها أهل الدفوف، إنما تعود على أيدي من يصلي ويطوف ، ويجاهد في الصفوف .
يا شجر الغرقد ، جاء الموعد ، ليعود المسجد ، تحمي القرود ، وتخبّئ اليهود من الأسود ، كل الشجر بِوَادينا ، ينادينا ، إلا أنت تعادينا .
خمسون عاما مؤتمرات أو مؤامرات ، ومشاورات أو مشاجرات ، ومناورات أو مهاترات .
شجباً ونكراً وتنديداً بغارتها
لله كم نددوا يوماً وكم شجبوا
ماذا فعلنا غضبنا كالرجال ولم
تصدق وقد صدق التنجيم والخطبُ
الكل يطوف ، بمجلس الخوف ، ونحن وقوف في صفوف ، ننتظر ماذا يقول بوش وغورباتشوف .
خمسون عاماً ما أخبرتنا هيئة الأمم ، بمن ظلم ، وهدم الحرم ، وخان في القسم .
يا معشر العرب : من أصابته مصيبة ، فلم يأخذ الحل من طيبة ، عاد بالخيبة ، وكان الفشل نصيبه . فلسطين لا تعود بالكلام ، ولا بحفلات السلام ، ولكنها تعود بالحسام ، وبضرب الهام ، وتمريغ الباطل بالرغام .
سيصغي لها من عالم الغيب ناصر ... ولله أوس آخرون وخزرجُ
فلسطين إسلامية النسب ، وليست عربيَّة فحسب ، ولذلك كان صلاح الدين فاتح القدس من الأكراد ، والسلطان عبد الحميد ناصر فلسطين من الأتراك الأجواد ، وبعض العرب أيام الصليبيين باعوها في سوق المزاد :
بعها فأنت لما سواها أبيع ... لك إِثمها ولها المكان الأرفع
لا تعود فلسطين عن طريق الملحدين ، ولا عن طريق الوحدويين ، وإنما تعود تحت رايات الموحدين .
هل تظن أن اليهودي العنيد ، والإسرائيلي المريد ، سوف يطرد بمؤتمر مدريد، كلا وعزةِ الحميد المجيد ، لا يزول إلا بكتائب التوحيد ، وأحفاد خالد بن الوليد .
يا فلسطين انتظري كتائبنا مع الصباح ، تنادي حي على الفلاح ، ليعود الحق إلى أصحابه ، والسيف إلى نصابه ، ولتعود الوديعة إلى واليها ، والطفلة إلى أبيها ، والدار إلى راعيها ، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله القريب ، إنه سميع مجيب .
فلسطين غاب سلاطينها ، فأفلس طينها ، لا يطرد الغزاة من غزة إلا أهل العزة ، أطفال حيفا حفاة ، واليهود جفاة ، فهل من يلبي النداء ، ويقدم روحه فداء، يا من أراد الجنة ، لا تتبع ما أنفقت بالأذى والمنّة ، وماذا عليك لو قتلتك اليهود فأنت شهيد ، البيع قد جرى ، والله اشترى ، ما هبط سوق القتال ، وقل هيا إلى النزال { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
لا تهيئ كفني ما مت بعد
أنا تاريخي ألا تعرفه ... لم يزل في أضلاعي برق ورعد
خالد ينبض في قلبي وسعد(/97)
المقامَة الأندلسيّة
{ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ }
جَادَك الغيثُ إذا الغيثُ هَمَى
لم يكن وصلك إلا حُلما ... يا زمانَ الوصلِ بالأندلسِ
في الكَرَى أو خِلْسةَ المختلسِ
حدثنا محمود بن أنس ، قال : لما دخلنا الأندلس ، وهي في ثياب الجمال تتبهرج ، ولسانها من الخجل يتلجلج ، قلنا : كيف الحال ، يا موطن الرجال ، أنتِ بلسم الفؤاد ، وأرض الآباء والأجداد ، ومهبَط جيش طارق بن زياد ، فقالت : أهلاً بالأخوة من النسب ، أهل الكرم والحسب ، وبيننا سبب الإسلام أعظم سبب ، ثم التفتنا إلى ثلاثة شباب ، وقد ارتدوا أجمل الثياب ، فقام أحدنا معرفاً بأسمائهم ، ونسبهم إلى آبائهم ، فقال : أما الأول : فاسمه عبد الرحمن بن طارق بن زياد .
والثاني : عبد الله بن موسى بن نصير .
والثالث : عبد السلام بن عبد الرحمن الداخل .
فقلنا يا أبناء الأجواد ، وأحفاد الأسياد، حدثونا عن هذه البلاد .
فقال عبد الرحمن : أما قرأتم التأريخ ، وما فيه من مدح وتوبيخ ، أما علمتم أن أجدادنا دخلوا الأندلس فاتحين ، مكبرين مسبحين ، عظموا الله في القلوب ، فملّكهم الشعوب ، نشروا رضاه بالدماء ، فرفع رايتهم في السماء ، صدقوا في الديانة ، فشرفهم بحمل الأمانة ، نشروا العدل ، وطردوا الجهل ، فهم كالغيث على المحل ، فلما تخلف بعدهم جيل ، وضلوا السبيل ، أصبحوا في الذيل ، ثم بكى وأنشد :
هل سألت الدهر عنا يوم كنا
ونشرنا في بلاد الله نورا ... كنجوم الليل للجوزا وصلنا
نقلت أخبار أهل الفضل عنا
فقام عبد الله ، فقال : يا الله ، كيف كنا ، وكيف أصبحنا ، بعدما قصرنا في ديننا ما أفلحنا ، كانت المنائر تؤذن بدعوتنا ، والمنابر تضج بخطبتنا ، كنا بالإيمان سادة ، وللشعوب قادة ، لأننا أطعنا الرحمن ، وحكّمنا القرآن ، وحاربنا الشيطان ، فلما قعدنا عن الجهاد ، وعصينا رب العباد ، ووقعنا في الفساد ، صرنا ما بين طريد وشريد، وقتيل وفقيد ، ثم بكى وأنشد :
هذا جزاء أناس بالهوى غلبوا
وقصروا في أمور الدين فاستلبوا
كانوا شموساً عيون الناس ترمقهم
لكنهم بعد طول الدهر قد غربوا
ثم قام عبد السلام ، فاندفع في الكلام ، وقال : لما اتبعنا الأثر ، حكمنا البشر ، وبلغ مجدنا القمر ، وفرح بنا البدو والحضر ، فلما وقعنا في الترف ، وأدمنا السرف ، ودعنا الشرف، وصرنا كالصّدف ، ثم أنشد :
يا رب هل من عودة للدين في
أرض فتحناها برسم الدين
شِدْنا بها صرح العلوم فأصبحت
تاجاً لكل موحد مأمون
قال الراوي محمود : ثم دخلنا غرناطة ، والقلب قد هد نياطه ، فوجدناها قد كتب على بابها : السلام على من اتبع الهدى ، وأجاب الندا ، أنا غرناطة فاعرفوني ، سلبت من أيدي أهلي فارحموني ، كنت مدينة العُبَّاد والزهاد والأجواد، فأصبحت ملعب الأشرار ، ومرتع الكفار ، ومسرح الفجار ، فرحم الله عبداً ترحم عليَّ ، وأهدى ثواب حجه إليَّ ، فبكينا مما رأينا ، وكأنها تشكو إلينا .
ثم أتينا قرطبة ، وهي معبسة مقطبة ، فوجدنا على باباها كتابة ، كأنها كتبت بالسبّابة ، فقرأنا فإذا هي تقول ، يا أهل العقول ، أنا قرطبة دار العلوم ، سلبني الظلوم ، ونهبني الغشوم ، كنت داراً للعلماء ، وكعبة للحكماء ، ومزاراً للكرماء ، ومنزلاً للعلماء ، واليوم أصبحت بارة للخَمَّار ، وحانوتا للشَّطار ، بعد أن كنت بيت الأبرار ، وكهف الأخيار ، فوقفنا نبكي ، وإلى الله نشكي .
ونادى منادينا ، وصاح حادينا ، فقال أين القوم الفاتحون ، أين الملأ الناصحون ، أين صقر قريش ، أين قادة الجيش ، أين الناصر والزهراء ، أين الحاكم والحمراء ، أين المنذر بن سعيد ، صاحب الرأي السديد ، والنهج الرشيد .
أين ابن عبد البر ، الذي نشر العلم في البحر والبر ، ونثر الجوهر والدر ، أين الاستذكار ، من أنفع الكتب في الآثار ، أين التمهيد الذي ما حمل مثله البريد .
أين ابن حزم ، صاحب العزم ، إمام الظاهر ، صاحب العلم الباهر ، والقلب الطاهر ، صاحب القدح المعلّى ، ومؤلف المجلّى ، والمحلّى ، الذي بلغ الإمامة ، وألف طوق الحمامة .
أين القرطبي صاحب التفسير ، أين الشاطبي الإمام الشهير ، حامل الفكر المستنير ، أين ابن زيدون ، وابن خلدون ، وابن عيذون ، وأهل الفنون ، ما لهم لا ينطقون .
أين رائعة :
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
أين السحر الحلال ، والروعة والجمال في :
جادك الغيث إذا الغيث همى
يا زمان الوصل في الأندلسِ
أين العويل والبكاء في أم الرثاء والقصيدة الغراء :
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان(/98)
أين لسان الدين الخطيب ، ومؤلف نفح الطيب ، وابن رشد الحفيد ، الذكي الفريد ، صاحب بداية المجهتد ، ونهاية المقتصد . أين المنصور بن أبي عامر ، البطل المغامر ، صاحب العزم القاهر . لله كم من علم جليل ، ورأي أصيل ، ونسب نبيل ، ووجه جميل ، دفناه في هذا الثرى ، وتركناه آية للورى .
هنا تركنا أكبادنا ، هنا دفنا أولادنا ، هنا قبرنا أجدادنا ، هنا دموعنا سفحت ، هنا دماؤنا سفكت ، هنا مرابع سمرنا ، وهنا ديار شمسنا وقمرنا . هنا طرحنا نفوس الأبطال الأشداء ، في بلاط الشهداء ، هنا أرواحنا خفاقة ، على قتلى معركة الزلاّقة .
ما كنا نظن أنَّا إلى هذا الحال نصير ، بعد أمجاد موسى بن نصير . اسألوا الجبال والوهاد ، اسألوا كل ناد ، واستنطقوا كل واد ، عن كتائب طارق بن زياد .
أعندكم خبر عن أهل أندلس
فقد سرى بحديث القوم ركبان
تلك الفجيعة أنست ما تقدمها
وما لها في قديم الدهر صنوان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
إن كان في القلب إسلام وإيمان
السلام على كل أندلس في الآخرين ، وجمعنا بأهلها من المسلمين ، في جوار رب العالمين . هذه أخبار الأندلس : وسلامتكم .
**************************
المقامَة الأفغانيّة
{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ }
تأخرت استبقي الحياة فلم أجد
وليس على الأعتاب تدمى كلومنا ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
ولكن على أقدامنا تقطر الدما
لما دخلنا أفغانستان ، سألنا عن حدودها ، فقيل يحدها باكستان ، وطاجكستان ، وحولها بلوشستان ، وهي قريبة من كردستان ، وأسفل منها عربستان ، ووراءها تركمانستان ، ووجدنا شباباً من قحطانستان ، وزهرانستان ، وشهرانستان ، وشمرانستان ، ولما وصلتها وحدت جند الرمن ، وكتيبة الإيمان .
ووجدنا الموت يصنع هنا الحتوف ، تعلنه كل وقت الكلاشنكوف ، من شركة إسلام أوف ، ليقتل بها كل ملحد أوف ، وملعون أوف ، من قائمة خرتشوف ، وغرباتشوف . فحيينا الأفغان بقصيدة شعبية ، نيابة عن الأمة العربية ، فقلت :
يا سلام الله لحكمة هو وخان
وانعم يا سياف حضرة جنبخان
قايد القوات فيهم جنخاني
كم عدو بأرض كابل جنخوه
فرد أحد العربان ، وليس أحد الأفغان ، فقال :
اللهب في المعركة سوَّى دخان
والعساكر كل واحد جنخان
كل جندي جاب مركب جنخاني
يوم كل يتقي في جنب خوه
ويل لمن قاتل الأفغان ، أين عقله كيف يمازح الأسد وهو غضبان ، الأفغاني يأتي المعركة كأنه يأتي العرس ، ويصب دمه كأنه يسكب حبراً على طرس ، عنق الباكستاني أربع أصابع ، لأن آخر من قتل من أجداده الجد السابع .
وعنق الأفغاني سبع أصابع ، لأنه لا يموت إلا في المعركة بسيف قاطع .
الأفغاني في الغالب لا يسمع الأغاني ، ولا تلهه الغواني ، لأنه مشغول بالمثاني ، واستنباط المعاني .
وجدنا في أفغانستان رجالاً كالأسود ، وكتائب كالسدود ، أرضهم للملاحدة لحود ، ورصاصهم لبلادهم حدود . الأفغاني قليل الدعابة ، ظاهر المهابة ، غزير النجابة ، كأنه ليث غابة .
الأفغاني إذا غضب أحرق مزاجه ، ورمى علاجه ، وذبح الرجال كذبح الدجاجة .
أخرجت لنا شوارع سميرا ميس ، فاتنات في الحرير تميس ، وشباباً من أتباع انطون وجرجيس ، وأخرجت لنا جبال الكندوش ، تلك الجيوش ، فهذا الأصلي وذاك المغشوش .كبّلت كابل أعداء الدين ، وقهرت قندهار الملحدين ، وأخرجت جلال أباد المجاهدين . دخل شعب الأفغان الدين وأسلم ، على يد قتيبة بن مسلم ، وصاح شاعر الأفغان ، محتجاً على الطغيان ، إذ يقول وهو يقاتل في الميدان :
نامني نزام شرقيا
مصطفى مجتبي ... نامني نزام غربيا
حبيبيا محمّدا
ومعنى أبياته أي أرفض النظام الشرقي ، والنظام الغربي ، وأريد نظام حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم المصطفى المجتبى .
العجم أهل مبالغة في الأحكام ، إذا قالوا لك عن أحد هذا مولانا شيخ الإسلام ، وعالم الأنام ، فاعلم أنه يحفظ ثلاثة أحاديث من بلوغ المرام ، وإذا قالوا عن عابد: هذا بركة الزمان ، ونور الأكوان ، وولي الرحمن ، فاعلم أنه لا يزيد على صيام رمضان .
أبو إسماعيل الهروى الأنصاري أفغاني ، وهو العالم الرباني ، وقد أحيا الشاعر محمد إقبال الأفغانِ ، في ديوانه المثاني . الأفغان شجعان ، في الليل رهبان، وفي النهار فرسان ، لو أن في أفغانستان ، طالب واحد لسلم من الخلاف الإخوان ، ولكن في أفغانستان ، طالبان اثنان .
قبل القتال كان في أفغانستان ، عابدان ، أي عابدون ، وفي الحرب جاء مجاهدان ، أي مجاهدون ، وبعد الحرب ظهر طالبان ، أي طلبة متعلمون ، فهم في السلم عباد أولياء، وفي الحرب مجاهدون أشداء ، وبعد النصر علماء حكماء .(/99)
المثنى عند الأفغان ، جمع مذكر سالم عند العرب أهل اللسان ، لأن واحدهم بعشرة في الميزان ، تستورد الهند وباكستان ، من أفغانستان ، القادة والزعماء ، وتصدران لها الرسّامين والشعراء ، الأفغاني يفهم إشارة العينين ، وبعض الناس لابد في إفهامه من حركة اليدين ، والبعض لا يفهم إلا باليدين والرجلين .
احتل أفغانستان الروس ، فرجعوا جثثاً بلا رؤوس ، لأن عند الأفغان مثل : ( اقطع من الوردة رأسها ، واترك أساسها ) .
الأفغاني تريد الإتمام به وهو يريد القصر ، قل له أجمل الدنيا الشام، يقول لك أجمل منها مصر ، إذا وقفت جلس ، وإذا قمت نعس ، وإذا تثاءبت عطس ، وافق الأفغاني إلا في الحرام ، وأظهر له الحب والاحترام ، يكن في يدك كالحسام ، وفي نصرتك كالغلام .
غضبُ بعضهم في بطنه ، إذا غضب أكل أكْل الدواب ، وغَضبُ البعض الآخر في لسانه إذا غضب ملأ الدنيا بالسباب، وغضب الأفغاني في يده إذا غضب حوّل كل شيء إلى خراب ، لا تكلم الأفغاني وهو غضبان ، ولا تمازحه وهو تعبان ، ولا تصافحه وهو جوعان .
يا أيها الأفغان ، أطيعوا الرحمان ، سوّوا صفوفكم ، واغمدوا فيما بينكم سيوفكم ، وسدّوا الفُرَجْ ، وانتظروا من الله الفَرَج ، ولكم منا تحية إجلال ، على حسن الفعال ، ولن ننسى لكم تلك البطولات ، وهذه التضحيات ، والحسنات يذهبن السيئات .
واعلموا أنَّ الوفاق والاتفاق ، هو الطريق لحمل الميثاق .
وأن الافتراق ، هو باب الإخفاق .
************************
المقامَة الأمريكانية
{ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ }
من بلادي يطلب العلم ولا
وبها مهبط وحي الله بل ... يطلب العلم من الغرب الغبي
أرسل الله بها خير نبي
قال الراوي : يا عائض ، دعنا من الردود والنقائض ، فإنا نرى الفجر وشيكا، فحدثنا عن أمريكا قلت: الله المستعان ، وهو عظيم الإحسان ، ممدوح بكل لسان .
لقد سافرنا قبل مدّة ، من أبها إلى جدة ، في صحبةٍ بالصدق معروفون ، وبالخير موصوفون ، فكنا قرابة العشرة ، قاصدين بلاد الكفرة ، فلما ودّعنا البلاد ، وحملنا الزاد والمزاد ، أنشد شاعرنا بصوت جميل ، ودموعه تسيل :
سقى الله أرضاً لامس الوحي أرضها
وجميلها بالشيح والنفلانِ
فأنتِ التي أسكنتِ حبكِ مهجتي
مهجتي
وسحرك في عيني وملءُ جناني
ثم مشينا مع الجموع السائرة ، حتى ركبنا الطائرة ، فرأينا الكبتن، كأن خده لبتن، أحمر الوجنتين، أزرق العينين ، فلما طرنا مقلعين ، وسافرنا مسرعين ، قاربنا السحاب ، وللطائرة أزيز وانتحاب ، فنظرنا إلى القمر المضاء ، وطالعنا كتاب الفضاء ، فبهرنا ذاك الصنيع ، والخلق البديع، من شمس تسطع ، وقمر يلمع ، ونجوم زواهر ، وبحار زواخر ، الأرض مكوّرة ، والسماء مدوّرة ، والكون ليس عاطلا ، فسبحانك ما خلقت هذا باطلا وسمعت للركاب تصدية ومكاء ، قلت أين أنت يا بكاء :
اقرأ القدرة في الكون البهيج
قل هو الرحمن آمنا به ... لا تكن يا صاحِ في أمر مريج
قدس الباري ورتل في نشيج
فلما اقتربنا من تلك الولايات ، قرأنا بعض الآيات ، وأنشدنا شيئاً من الأبيات ، وهبطنا في مطار جون كندي ، ودثّرت من شدة البرد جسدي ، وأصبحنا من البرد في ثلاجة ، حين وصلنا ديار الخواجة ، وانتظرنا في صف عريض ، بين سود وبيض ، والجوّ من أفعال أولئك مريض ، ثم سمعنا أمريكياً يرطن ، يقول هيّا إلى واشنطن ، فغادرنا المحل والسكن، وركبنا مع شركة بان أمركن ، فحززنا أجسامنا بالرباط حزّا، وهزتنا الطائرة هزّا ، لأن قائدها أهوج ، قلبه مثلّج ، فكل راكب بالخوف مدجّج ، فكأنها من الركاب فاضية ، ونادى بعضنا يا ليتها كانت القاضية ، أما الأمريكان ، فما كأنّ شيئاً كان ، فهم في لهوهم يضحكون ، وإذا مروا بنا يتغامزون ، فما أدري ، والطائرة تجري، هل تعجبوا من جزعنا ، وسخروا من فزعنا ، وأنكروا هلعنا ، فليتهم يعلمون ، وعن غيّهم يرجعون ، أن أجدادنا نحن أهل الوجوه الصفراء ، والغتر الحمراء ، كانوا بالتوحيد فاتحين ، وعلى أمواج البحار سابحين ، قلوبهم مصاحف ، وبيوتهم للفضائل متاحف ، يحملون الأرواح على السراح ، إذا نادى المنادي : السلاح السلاح ، أما علمتم أنا أتباع محمد، خير من تعبّد ، وصام وتهجّد ، ومنّا الخلفاء الأصفياء ، الأوفياء الشرفاء ، ومنّا العلماء الكرماء الحلماء ، والسادة أهل الإفادة ، والرفادة والوفادة .
نحن حملة المحابر ، وأصحاب الدفاتر ، وروّاد المنابر ، فضحكوا ساخرين ، والتفتوا لقوم آخرين ، وقالوا قطعتكم الأماني ، وأشغلتكم الأغاني ، يا ضرّابة العود ، ويا رعاة القعود ، ليلكم طرب ، ونهاركم لعب ، يا بلاد الفنانين والفنانات ، والمغنين والمغنيات ، الأحياء منهم والأموات ،.. قلنا كذبتم ورب المشارق والمغارب ، و لا يكتم الحق إلا كاذب ، أين أنتم يوم فتحت لنا السماء ، وكتب تاريخَنا الحكماء ، يوم عشنا في العالم رحماء ، وحكمنا الدنيا حلماء ، وملأنا المعمورة علماء .
هل أشرق الفجر إلا من مآذننا
وهل همى الغيث إلا من مآقينا(/100)
حتى النجوم على هاماتنا سجدت
والشمس في حسنها قامت تحيينا
فقالوا تلك أمة قد خلت ، وحقبة سلفت ، وقد نامت النعجة في مربض الأسد ، لما نسيتم قل هو الله أحد ، أخذتم من الغرب قشوره ، وما صنعتم للعالم طبشورة ، وأخبار لعبكم ولهوكم منشورة ،.. قلنا فاتكم الصواب ، وأخطأتم في الجواب ، فأنتم الذين تركوا العالم هشيماً ، أما دمرتم نجزاكي وهيروشيما ، أهلكتم النسل والذرية ، بالقنابل الذرية ، حكمتم بلا شريعة ، وأحللتم المخالفات الفظيعة ، ونشرتم كل عادة خليعة ، هجرتم الذكر ، ونسيتم الشكر ، وأبحتم السكر ،.. فقال قائل منهم ، وتحدث كاتب عنهم ، فذكر لنا صناعتهم ، وشرح لنا بضاعتهم ، وقال : أما ملأنا البر حتى ضاق عنّا ، وحكمنا البحر بقوة منّا ، أما صنعنا الطيارة ، أما هندسنا السيارة ، أما سهلنا التلفون ، ويسرنا التلفزيون ، واستفدنا من ذبذبات الأمزون ، أما صنعنا للعين زجاجة ، وللطعام ثلاجة ، وللطفل درّاجة ، ضخّمنا بالميكروسكوب الهباء ، وأضأنا الليل بالكهرباء، أجدنا الدفاع والهجوم وبلغنا بالاختراع النجوم ، هبطنا على القمر، واكتشفنا الماس من الحجر ،..
قلنا رفضتم الإيمان ، وهجرتم القرآن ، وأطعتم الشيطان ، هدمتم المساجد ، وشيدتم للفجور المعابد ، أنفقتم المليارات على البارات ، وعرضتم للناس الغانيات، وملأتم المراقص بالمغنيات ، المخمور في شوارعكم يخور ، والكأس على رؤوسكم تدور ، الأبيض عندكم مقدس والأسود مقهور ، البنوك لديكم مرابية ، والأسواق في بلدكم لاهية ، ومجالسكم لاغية ، ملحدون لا موحدون ، متفرقون لا متحدون ، ليس لديكم إسلام ولا صلاة ولا صيام ، ولا حلال ولا حرام ، شهواتكم وثَّابة ، وألسنتكم كذابة ، كأنكم في غابة ، قتلت عندكم المبادئ في النوادي ، في كل يوم وللرذيلة لديكم ألف منادي ، أين الاعتراف بالاقتراف ، أين الكفاف والعفاف ، غارقون في المادة ومن الفضيلة أجلاف ، لا وضوء ولا طهارة ، ولا مسجد ولا منارة، بل أنتم أصحاب حانوت وخمّارة . للدماء سفكتم ، وللأعراض هتكتم .
تكاد تسقط من أفعالكم غضباً
هذي السماء وتخبو منكم الشهب
والجو يظلم مما تصنعون فيا
ويح الحضارة إذ ما صانها الأدب
.. فقال دعنا من الأشعار ، ولا تلصق بنا العار ، فما يرتفع الدخان إلا من النار ، أما تشاهدون تقدمنا أما ترون ، ما لكم لا تنظرون ، غزونا المريخ ، وأنتم تعيدوننا إلى التأريخ ، فماذا فعلتم في قديم الزمان ، تكلموا ولكم الأمان ،..
فقلنا : سبحان الملك القدوس ، ما أظلم هذه النفوس . أليس على أرضنا الوحي هبط ، وفي ديارنا غيث الرسالة سقط ، ومنا عرفت الهداية فقط .
أليس منّا الصدّيق وعثمان ، وعمر وثوبان ، وعليّ وسلمان، وبلال وحسّان ، منّا خالد المقدام ، والقعقاع الصمصام ، ومنّا همّام ، وأبو تمام ، ومنّا أويس ، والأحنف بن قيس ، وأسماء بنت عميس .
أما صفق لقدومنا الفرات والنيل ، وهلل لطلعتنا مضيق الدردنيل ، نحن أساتذة الأكراد والتركمان ، ومعلموا الإنجليز والألمان ، أما اندهش من عبقريتنا شارلمان ، وبسماحة الصّدّيق فتحنا الطريق ، بدرة الفاروق ، أدبنا أهل العقوق ، بصدق أبي ذر، قلنا الحق وهو مرّ ، منّا الرشيد الذي تحدّى السحاب ، وملك من طنجة إلى البنجاب ، ومنّا المعتصم الذي فتح عمورية ، ونسخ الدولة الآشورية ، منّا السعدان والسعيدان ، والسفيانان ، والحمادان ، ومنّا البخاري ، وصاحب فتح الباري ، ومؤلف لامع الدراري ، وشارح هدي الساري ، بعثنا للعالم مبشرين ، وخرجنا للناس ميسرين ، أذقنا العباد طعم الحرية ، وأعتقنا العالم من المنظمات السرية ، أذنّا في الحمراء ، وصلينا في الزهراء ، ربطنا خيولنا على ضفاف اللوار (1) ، وسجدنا على صحراء سنجار، وتلونا القرآن على جبال قندهار ، رفعنا الإيمان في الهند ، ونشرنا المعرفة في السند ، أسرنا الجبابرة ثم أعتقناهم ، وملكنا الأكاسرة ثم أطلقناهم ، نكبّر فتسقط القلاع ، نؤذّن فتهتز التلاع ، نقرأ فتطرق الأسماع . لبسنا الثياب المرقعة ، والأحذية المقطعة ، ففتحت لنا البلاد ، ورحب بنا العباد ليلنا قيام، ونهارنا صيام ، في الدجى رهبان، وفي الميدان فرسان ، على المنابر سادة ، وفي المعارك قادة، ساوينا بين الأمراء والفقراء ، والحقراء والكبراء ، أنصفنا الشاة من الذيب ، وعلّمنا الوحوش التهذيب .
نحن شموس العلوم ، ونجوم الفهوم ، ربطنا على بطوننا الحجارة من الجوع، وبللنا مواطن السجود بالدموع ، وكنّا في صلاتنا كالسواري من الخشوع .
نتوضأ فتتناثر منّا الخطايا ، نغنم فتسيل من أيادينا العطايا ، نرتل القرآن فتقف على أصواتنا المطايا . نادى منادينا ، على سنة هادينا ، يا أيتها النفوس من الموت اشربي ، ويا خيل الله اركبي ، فجمّد الله لنا الماء ، وظلّل علينا الغمام في السماء .
__________
(1) نهر في جنوب فرنسا .(/101)
منّا من اهتز لموته عرش الرحمن ، ومنّا من كلّمه الله بلا ترجمان ، ومنّا من غسّلته الملائكة يوم التقى الجمعان ، لا نكذب ولو أنّ السيوف على الرؤوس ، ولا نسرق ولو أنّ الجوع يمزق النفوس ، اسمعوا ماذا قال كاتبكم وله منكم معجبون ، أعني جوستاف لوبون ما عرف العالم فاتحاً أعدل من العرب ، فهم أهل الرحمة والحلم والأدب ، واستشهِدوا الكتب :
نحن هل تدري بنا للناس فجرُ
قصدنا جنّة مولانا وأجرُ
قد ملأنا الأرض عدلاً وارفاً
وسِوانا في الورى عُجْرٌ وبجرُ
أمّا ما ذكرت من تخلفنا هذه الأيام ، فهو لضعف تمسكنا بالإسلام، ملأنا الكروش وشاهدنا الدشوش ، وزينا الرموش ، وجمعنا القروش ، اشتغلنا بالمراسلات ، وسهرنا مع المسلسلات ، فأصبحنا في السلاّت المهملات ، والخانات الفارغات ، أحببنا الكرسي ، وعشقنا التبسي ، وأدمنا الببسي ، وتعلقنا بالتكسي ، نحن في الأسواق أمواج ، وفي الشوارع أفواج ، أموالنا في شراء الدجاج ، وأوقاتنا ذهبت في الحراج ، لما اتخمنا بالعصيدة
ما أصبحنا ننظم القصيدة ، أصبح طالبنا أبله ، لأنه عاش مع طه والطبلة ، حفظنا متن التيس والتميس ، والكيس والكبيس ، أصبح نشاطنا بزفير وشهيق ، وتشجيع للفريق ، وللبواري هدير ونهيق . لا يصلي الفجر منّا إلا قلة ، ولا يحفظ القرآن إلا ثلة ، ونقول نحن أنصار الملة . مع العلم أن الاهتمامات دلّة ، وفلّة ، وسلّة ، وشلّة .
كبارنا منهمكون في القيل والقال ، وحب المال ، إلا من رحم ذو الجلال ، وشبابنا كالأطفال في الروضة ، مشغولون بآخر موضة ، ولهم في الملعب ضجيج وفوضة ، عقل أحدهم كأنه ريشة ، وسلوته السيجارة والشيشة :
رحماك فهل نحن أحفاد الأُلى ركبوا
موج البحار بدين الواحد الصمد
فما دهانا رجعنا القهقرى
أسفا
أشك يا دهر في قومي وفي بلدي
فوالذي زين الشمس في ضحاها ، وجمّل القمر إذا تلاها ، وحسن النهار إذا جلاّها، ما أصابنا التخلف، وما دهانا التوقف، إلا يوم عصينا رب العباد ، وتركنا الجهاد، وكثر فينا الفساد ، كان مؤذننا بلال ، وملعبنا ميدان القتال ، وقصدنا ذو الجلال ، فما أصبح لنا طول ولاحول ، لأن همنا كمْ سجلنا من قول ، فيا للهول ، بالأمس كان شبابنا بالقرآن يفرح ، وللسنة يحفظ ويشرح ، واليوم أصبح يسرح ويمرح ، مع نجوم الفن والمسرح ، أما تنظر إلى شعره إذا رصّه، وجعل له قَصَّة ، ثم مسح شفتيه بالمكياج ، ومشى وله ارتجاج ، فكيف لو رآه الحجّاج ، وما ترى لو دُبِغ بكرباج .
لو أن للدهر عيناً منهموا دمعت
أو أن للصخر قلباً نابضاً لبكى
أزروا بأمتهم من سوء سيرتهم
لأجلهم كم سألنا الموت لو فتكا
.. فقالوا لنا : الآن حصحص الحق ، وبان الفرق ، وظهر الصدق . فودّعناهم وكل واحد منهم كأنه فارة ، وذهبنا للسفارة ، ثم زرنا مكتبة الكونجرس ، وطرقنا الجرس ، فما هو إلاّ وقت يسير ، حتى خرج لنا خواجةٌ يسير ، قلنا له : جدمورنج سير ، فدخلنا مكتبةً هائلة ، أدراجها مائلة ، فيها كل الفنون ، وملايين المتون، مما تبصرون وما لا تبصرون ، فناولونا هديةً في وعاءْ ، وقالوا : لا تنسونا من الدعاء .
قلنا : اللهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم أحدا ، لأنك لو علمت ما صنع الأمريكان ، لاهتزت منك الأركان ، فهي أم إسرائيل ، وبيت كل داء وبيل ، يستعيذ منها أبرهة صاحب الفيل ، ناصرت اليهود ، ولم تعترف بالحدود ، وما ردعتها القيود ، أمريكا أفتك من هتلر وتيتو ، خدعت العالم بالفيتو ، من أطاعها فهو خادم مهين ومن عصاها فهو شيطان لعين ، تنظر إلى الأيتام وهم يُنقلون ، وتشاهد اللاجئين وهم يُقتلون ، ولا تُسأل عما تفعل وهم يسألون ، غيرها من خيرها محروم ، وهي ظالم في ثوب مظلوم ، تريد أن تكون المنتصرة والعالم مهزوم ، ولكن لها يوم .
ليت البراكين في أرجائها رقصت
وليت أن صدى الزلزال زعزعها ... والرعد يا ليته في أرضها خطبا
حتى تصير على أطلالها لهبا
الله يمزق سداها ، وينصر عليها عداها ، ويقصر مداها ، ويظهر رداها ، الله يُخليها من سكانها ، ويقتلعها من مكانها ، ويزلزلها من أركانها ، فهي أم الكبائر ، وجالبة الخسائر ادعوا عليها في السجود ، عسى الله أن يلحقها بعادٍ وثمود .
ثم قلنا من بحر الرجز ، بعد أن كَلّ الفؤاد وعجز :
يقول عائض هو القرنيُّ
أحمد ربي وهو لي وليُّ
مصلِّياً على رسول الله
مذكراً بالله كل لاهي
قد جئت من أبها صباحاً باكرا
مشاركاً لحفلكم وشاكراً
وحملتنا في السماء طيارة
تطفح تارةً وتهوي تارة
قائدها أظنه أمريكي
تراه في هيئته كالديك
يا سائل الأخبار عن أمريكا
اسمع رعاك الله من يفتيكا
وهذه أخبار هذي النشرة
مسافة السير ثلاث عشرة
من الرياض عفشنا ربطنا
وفي نيويورك ضحى هبطنا
أنزلنا في سرعة وحطنا
ثم قصدنا بعدها واشنطنا
ثم ركبنا بعدها سيارة
مستقبلين جهة السفارة
منزلنا في القصر أعني ردسن
يا كم لقينا من قبيح وحسن
في بلد أفكاره منكوسة
تثقله بصائر مطموسة
يقدسون الكلب والخنزيرا
ويبصرون غيرهم حقيرا(/102)
ما عرفوا الله بطرف ساعة
وما أعدوا لقيام الساعة
فهم قطيع كشويهات الغنم
جد وهزل وضياع ونغم
منهم أخذنا العود والسيجارة
وما عرفنا نصنع السيارة
استيقظوا بالجد يوم نمنا
وبلغوا الفضاء يوم قمنا
وبعد ذا زرنا مباني الكونجرس
فلم نجد مستقبلاً إلا الحرس
فيها ملايين حوت من الكتب
في كل فن إنه من العجب
ومعنا في صحبنا العجلان
أكرم به مع العلا جذلان
وقد صحبت شيخنا السدحانا
قد صرت في صحبته فرحانا
وصالح المنصور من بريدة
يشبه سعداً وأبا عبيدة
وافقت فيهم فالح الصُغيِّرا
آنسنا جداً وكان خيِّرا
ومعنا عبد العزيز الغامدي
ابن عزيز صاحب المحامد
والشهم عبد القادر بن طاش
ذو القلم السيال في انتعاش
فهو أبونا في مقام الترجمة
لأننا صرنا صخوراً معجمة
ثم هبطنا في مطار دنفرا
جلودنا في البرد صارت كالفِرا
أيضًا وزرنا أهل تكسس في دلس
عند شباب كالنجوم في الغلس
بالمنقتن أخت ثراهوت التي
كأنها باقة زهر جنةِ
وِلْ كَمْ حفظناها بمعنى ويلكم
بليز أي إبليس قد جاء لكم
والحمد لله على السلامة
حمداً يوافي دائماً إنعامه
ثم صلاة الله ما هب الصبا
على الرسول الهاشمي المجتبى
وبيته والآل والصحابة
والعذر إن لم أحسن الإصابة
*****************************
المقامَة النسائية
(( النساء شقائق الرجال ))
لا أسأل الله تغييرا لما فعلت
فالليل أطول شيء حين أفقدها ... نامت وقد اسهرت عيني عيناها
والليل أقصر شيء حين ألقاها
رفقًا بالقوارير ، فإنهن مثل العصافير ، لكل روض ريحان ، وريحان روض الدنيا النسوان ، هن شقائق الرجال ، وأمهات الأجيال ، هن الجنس اللطيف، والنوع الظريف ، يلدن العظماء ، وينجبن العلماء ، ويربين الحلماء ، وينتجن الحكماء ، المرأة عطف ، ولطف وظرف ، سبابها سراب ، وغضبها عتاب ، من وخطه المشيب، فليس له من ودهنّ نصيب ، لو جعلت لها الكنوز مهرا، وقمت على رأسها بالخدمة شهرا ، ثم رأت منك ذنبا قليلا ، قالت ما رأيت منك جميلا ، القنطار من غيرها دينار ، والدينار منها قنطار ، هي في الدنيا المتاع ، والحسن والإبداع ، وهي للرجل لباس ، وفي الحياة إيناس .
وهي الأم الحنون ، صاحبة الشجون ، خير من رثى وبكى ، وأفجع من تألم وشكى، لبنها أصدق طعام ، وحصنها أكرم مقام ، ثديها مورد الحنان ، وحشاها مهبط الإنسان ، في عينها أسرار ، وفي جفنها أخبار ، في رضاعها معاني الجود ، وفي ضمها الود المحمود ، قُبَلاتها لطفلها صلوات القلب ، وبرّ طفلها لها مرضاة الرب ، شبعها أن لا يجوع وليدها ، وجوعها أن لا يشبع وحيدها ، غياب المرأة من الحياة وأْد للسرور، واختفاؤها في مهرجان الدنيا قتل للحبور.
هي بيت الحسب والنسب ، وجامعة المثل والأدب ، ذهبٌ بلا امرأة لهب ، وجوهر بلا امرأة خشب ، تقرأ في نظراتها لغة القلوب ، وتعلم الحب من هجرها المحبوب ، وبالمرأة عرف الهجر والوصال ، والاتصال والانفصال ، والغرام والهيام ، والبراءة والاتهام ، تقتل بالنظرات ، وتخطب بالعبرات ، كلامها السحر الحلال ، ولفظها العسل السيَّال ، بسمتها ألذ من العنب والتوت ، وهي أسحر من هاروت وماروت ، وقال نسوة في المدينة ، كل مهجة فهي لنا مَدينة ، وأفضل النسوان ، الحصان الرزان ، ألفاظها أوزان ، وعقلها ميزان ، إذا تحجّبت فشمس في غمام ، وظبي في خزام ، هي رواية تترجمها الأرواح ، وهي مِسْك تذروه الرياح ، في شفتيها ألف قِصَّة ، وفي أعماقها سبعون غصَّة ، ليلى جعلت نهار المجنون ليلاً ، وصيرت عَزَّةُ دموع كثيِّرٍ سيلاً .
ليلي وليلى نفى نومي اختلافهما
في الطُّول والطَّول طوبى لي لو اعتدلا
يجود بالطُّول ليلي كلما بخلت
بالطّول ليلى وإن جادت به بخلا
على شفتيها المطبقات سؤال ، وفي جفنيها مقال ، أحرف الحب صامتة على محيّاها، وقصائد الغرام حائرة على ريّاها ، حسن الشمس من حسنها ينهار ، والليل من شعرها يغار . من النساء خديجة رمز الأدب ، لها قصر في الجنة من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب ، ومن النساء عائشة بنت الصديق ، صاحبة العلم والإتقان والتحقيق ، المطهرة الطاهرة ، صاحبة السجايا الباهرة ، والمحامد الظاهرة ، ومن النساء فاطمة البتول ، بنت الرسول ، أم السِبْطين ، الحسن والحسين ، سيدة نساء العالمين ، المقبولة عند رب العالمين .
ولو أن النساء كمن عرفنا
لفضِّلت النساء على الرجالِ
فما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ
ولا التذكير فخرٌ للهلالِ
المرأة صحيفة بيضاء ، يكتب فيها الرجل ما يشاء ، من حب وعتاب ، وغضب وسباب ، وهي روضة خضراء ، وحديقة فيحاء ، فيها من كل زوج بهيج ، ومن كل شكل فريج ، أمضى سيوفهن الحب ، يصرعن به ذا اللُّب ، الحازم معهن ضعيف ، والعاقل عندهن سخيف ، ترى الرجل يصارع الأسود ، ويقارع الجنود ، ثم تغلبه امرأة..!
وترى الرجل يزهد في الحطام ، ويصوم عن الشراب والطعام ، ثم تصرعه امرأة ، وترى الشجاع يطرح الكماة ، ويهزم الرماة ، وإذا قَصْدُه امرأة .(/103)
عنترة فُتِن بعبلة ، فرأى بريق السيوف كثغرها فقاتَل ، ورأى سواد الهول كشعرها فنازَل ، حضر جيش فشم طيب العطارة منشم ، فيا خسارة من شم ، فصار الجيش بطيبها في هزيمة ، ولأعدائه غنيمة .
المرأة ولو أنها في الخصام غير مبين ، فدمعها أفصح شيء عند المحبين، سِرّ قوّتها أنها ضعيفة ، ولغز بأسها أنها لطيفة .
يريد الغرب من المرأة أن تتبرج ، وبالفتنة تتبهرج ، وعلى الثلج تتزلج ، ويريد الإسلام منها العفاف والستر ، والتقوى والطهر، لتكون آية في الحسن والقبول والأسر ، يريد أهل الكفر منها أن تكون عالمة فيزياء ، وعارضة أزياء ، ولو فتنت رجالها ، وعقّت أطفالها ، وضيّعت أجيالها ، ويريد الإسلام أن تكون أمينة حصينة ثمينة ، الأمل من عينيها يشرق ، والظمأ في دمعها يغرق ، والسِّحر من بهائها يُسرق ، بكاؤها صرخة احتجاج ، وصمتها علامة الرضا بالزواج ، كان آدم في الجنة بلا أنيس ولا جليس ، فطالت وحشته، وصعبت عليه غربته ، فخلق الله له حواء ، فتم بينهما الصفاء والوفاء، وحسن اللقاء ، وجميل العِشْرة والاحتفاء ، فرجل بلا امرأة كتاب بلا عنوان ، ومُلْك بلا سلطان ، وامرأة بلا رجل صحراء لا نبت فيها ولا شجر ، وروضة لا طلع بها ولا ثمر .
شكرًا يا آمنة بنت وهب لقد أهديت للإنسانية ، وقدمت للبشرية ، ابناً تضاءلت في عظمته الشمس في ضحاها ، والقمر إذا تلاها ، ابنا قال للوثنية وهي تعرض تلك العروض، وتفرض تلك الفروض ، والذي نفسي بيده لو وضعتم الشمس في يميني ، والقمر في يساري لن أترك ديني ، حتى يعم القرى والبراري ، ويكفي النساء ، ما أطل صباح وكرّ مساء ، أن محمدًا صلى الله عليه وسلم من امرأة وُلِد ، ومن أنثى وُجِد :
بشرى من الغيب ألقت في فم الغار
وحياً وأفضت إلى الدنيا بأسرارِ
بشرى النبوة طافت كالشذى سحرًا
وأعلنت في الدنا ميلاد أنوارِ
وشقّت الصمت والأنسام تحملها
تحت السكينة من دارٍ إلى دارِ
قدَّمت المرأة للعالم الخلفاء الراشدين ، والأبطال المجاهدين، وعباقرة الدنيا والدين ، المرأة إذا حسّنت آدابها ، وطهّرت جلبابها ، ملأت القلب حنانا ، والبيت رضوانا ، والدنيا سكنًا وعرفانا .
والبيت بلا امرأة محراب بلا إمام ، وطريق بلا أعلام، إذا اختفت المرأة من الحياة ، اختفت منها القبلات والبسمات ، والنظرات والعبرات .
وإذا غابت المرأة من الوجود غاب منه الإخصاب والإنجاب ، والكلمات العذاب ، والعيش المستطاب .
في الحديث : (( تزوجوا الودود الولود )) ، والسر في ذلك لتكثر الحشود ، وتزداد الجنود ، وليكاثِر بنا رسولنا صلى الله عليه وسلم يوم الوفود .
يوم تخلع المرأة الحجاب ، وتضع الجلباب ، فقد عصت حكم الإسلام ، وخرجت على الاحتشام ، وقُل على العفاف السلام .
كيف يُسكن بيت بلا أبواب ، ويُحل قصر بلا حجاب ، ويُشرب ماء ولغت فيه الكلاب، من حق الدرة أن تصان ، ومن واجب الثمرة أن تحفظ في الأكنان ، وكذلك المرأة بيتها أحسن مكان ، ولكن المرأة إذا قلبت ظهر المجن ، وعرّضت نفسها للفتن ، فهي ظالمة في ثوب مظلوم ، عندهن من أصناف المكر علوم .
كيد الشيطان ضعيف وكيدهن عظيم ، وقوتهن واهية لكن خطرهن جسيم ، هن صويحبات يوسف ذوات السكاكين ، وقاهرات الرجال المساكين ، حتى قال الرشيد في بعض النشيد :
مالي تطاوعني البرية كلها
وأطيعهن وهُنَّ في عصياني
فاجعل بينهن وبين الشر لهبا ، واملأ عليهن منافذ الفتنة حرسًا شديداً وشهبا ، فلا تَعرِض اللحم على الباز ، ولا تنشر القماش على البزّاز ، فأنعم بحرز الستر والصيانة ، وأكرم بحجاب العفاف والحصانة .
وإذا رزقت بنات ، فإن هن من أعظم الحسنات ، حجاب من النار ، وحرز من غضب الجبار ، فاحتسب النفقة ، فإنها صدقة ، ولو أنه غرفة من مرقة ، وتعاهدهن بالبر والصلة ، فإن رحمتهن للجنة موصلة ، وكفاك أن الرسول المشرِّع ، رزق ببنات أربع .
والمرأة هي بطلة الأمومة ، ومنجبة الأمة المرحومة ، فضائلها معلومة ، وهي معدن الحسب والكرم والأرومة.
وتعليمها الدين من أشرف خصال الموحدين ، لأنها تصبح لكتاب الله تالية ، ذات أخلاق عالية ، تتفقه في الكتاب والسنة ، لأنهما أقرب طريق للجنة .
وأما علاَّم الكفر ، الذي أعان المرأة على المكر ، وصرفها عن الذكر والشكر ، فهو المسؤول عن عقوقها وتضييعها لحقوقها ، وإصرارها على معصيتها وفسوقها .
جعلوا المرأة سلعة للدعاية والإعلان ، وخطيبة في البرلمان ، تشارك في التجارة ، وتقاتل الجنود الجرارة ، جعلوها جندي شرطة ، فوقعت من الإحراج في ورطة ، تمتطي الدبابة ، وتطارد الكتائب في الغابة ، يُستدَر بهنّ عطف الجبابرة ، وتبرم بهنّ الخطط الماكرة ، ويكفيك في ضلالهم ، وسوء أعمالهم ، أن الهدهد وهو طائر ممتهن ، أنكر على بلقيس حكم اليمن ، وامرأة خلقها الله لمهمة ، كيف يزج بها في أمور مدلهمّة .(/104)
ونحن الرجال أسندت إدارة الحياة إلينا ، وكتب القتل والقتال علينا ، وأما النساء في الإسلام فمقصورات في الخيام ، محفوظات من اللئام ، مصونات عن الآثام .
وماذا فعل بالمرأة سقراط وبقراط وديمقراط ، أهل الأوهام والأغلاط ، جعلوها شيطانة ، وسموها الفتانة ، وإنما هي في بعض الأوقات قهرمانه ، وريحانة .
أما الفُرْس ، البكم الخُرْس ، فجعلوها خادمة للمال والنفس ، بل قال بزر جمهور: المرأة ليست بإنسانة فلا تمول ولا تمهر ، وهذا غاية التهور .
أما أهل الوثنية ، ودعاة الجاهلية ، فحرموها من الميراث، حتى جعلوها أرخص من الأثاث ، ووأدوا البنات ، وقتلوا الأخوات ، وعقّوا الأمهات ، وليس لها عندهم قيمة ، فهي في منزلة البهيمة ، فهي عندهم حق مشاع ، للخدمة والمتاع .
أما الغرب فهي عندهم للمغريات ورقة رابحة ، أبرزوها في صور فاضحة ، أخرجوها بلا أدب ولا دين ، وعرضوا صورتها في الميادين ، باعوها في سوق النخاسة ، ووظفوها للرجس والخساسة ، وأقحموها مغارات السياسة .
وما كَرَّم النساء ، مثل صاحب الشريعة السمحاء ، والملة الغراء ، فقد بيّن بقوله ، (( خيركم خيركم لأهله )) ، ويا معاشر الأمم هل عندكم ، حديث (( الله الله في النساء فإنهن عوان عندكم )) .
وكان في بيته صلى الله عليه وسلم أفضل الأزواج ، دائم السرور والابتهاج ، يملأ البيت أنسًا ومزاحا ، وبشرا وأفراحا ، طيّب الشذى ، عديم الأذى ، لطيف المحشر ، جميل المظهر ، طيب المخبر ، لا يعاتب ولا يغاضب ، ولا يطالب ولا يضارب ، يؤثر الصفح على العتاب ، والحلم على السباب . ومن حبه للبنات ، وعطْفِه على الضعيفات ، يحمل أُمامة ، وهو في الإمامة ، فإذا سجد وضعها ، وإذا قام رفعها ، وكان يقوم لفاطمة الزهراء ، والدرة الغراء ، ويجلسها مكانه ، ويطأ لها أركانه ، فكأن سرور الحياة صب عليها ، وكأن الدنيا وضعت بين يديها .
هي بنت مَنْ هي أم مَنْ
من ذا يساوي في الأنام علاها
أما أبوها فهو أشرف مرسلٍ
جبريل بالتوحيد قد ربّاها
وعليُّ زوجٌ لا تسلْ عنه سوى
سيفٌ غدا بيمينه تيَّاها
وكان يجلس صلى الله عليه وسلم للنساء من أيامه ، فيفيض عليهن من بره وإكرامه، وجوده وإنعامه ، فكأنه الغيث أصاب أرضًا قاحلة ، والماء غمر تربة ماحلة، فإذا هو يملأ القلوب حبّا ، والنفوس أنساً وقُربا ، يبشر من مات لها ولد بالنعيم المقيم ، فتتمنى كل امرأة أنها ذهب لها فطيم ، لِما سمعت من الأجر العظيم .
ويُخبر من تطيع بعلها ، وتُحسِن فِعْلها ، بأن الجنة مأواها ، والفردوس مثواها ، يقف مع المرأة الشاكية ، ويتفجع للأنثى الباكية ، فلو كانت الرحمة في هيكل لكانت في مثاله ، ولو الرفق في صورة لكان في سرباله ، تأتيه المرأة المصابة في خوف وهول ، وفي دهش وذهول ، فما هو إلا أن ترى إشراق جبينه ، ويُسْر دينه ، ولطفه المتناهي ، وخلقه الباهي، حتى تعود عامرة الفؤاد ، حسنة الفأل والاعتقاد .
****************************
مقامَةُ الحيّل
(( ولتعرفنهم في لحن القول ))
دهاء يريك الغيب في ثوب حاضرٍ
إذا ظن ظنَّاً صار فينا حقيقة ... وفهم كحد السيف أمضى وأصوبا
وإن قال قولاً صار للناس مذهبا
إذا رأيت الرجل يعتاد المقاهي ، لشرب الشيشة والشاهي ، ومجالسة كل لاهي ، فاعلم أن الرجل فاسد الإرادة ، ظاهر البلادة ، لا يساوي جرادة ، ولن ينفع بلاده .
وإذا رأيت الرجل ليلة الزواج ، وهو فاسد المزاج ، يبحث عن علاج ، ويقول فاظفر بذات الدين ، فاعلم أنه ظفر بعابسة الوجنتين ، خشنة اليدين، كل ما فيها شين ، وإذا رأيت الرجل خرج من عند القاضي وهو يتلو : وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين ، فاعلم أن القاضي ردّ شهادته ، وهو له من الغائظين ، وإذا رأيت الرجل يجلس في الملهى يقرأ جريدة ، أو ينظم قصيدة ، فاعلم أن حياته غير سعيدة ، أو أنه يبحث عن وظيفة ، ولو سخيفة ، وقد تقطعت به الحبال ، وخابت منه الآمال .
وإذا سمعت الرجل ينشد كثيرًا قول الشاعر :
ومن لم يذدعن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يُظلمِ
فاعلم أنه جحد لأخيه فلوسا ، وحلف عليها يميناً غموسا ، وإذا سمعت الرجل يردد كثيراً قوله تعالى { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } فاعلم أنه خطب عند بعض الوجهاء ، فردّ عليه بجفاء .
وإذا رأيت الرجل خرج من بيته غاضباً وهو ينشد :
أنا ابن جلاّ وطلاّع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
فاعلم أنه زوجته ضربته ضرباً مبرحا ، وهو يُعرِّض لئلا يكون مصرّحا .(/105)
وإذا سمعت الرجل يقول كثيراً الدنيا ملعونة ، فاعلم أنه ذكر ديونه ، وما وجد من أحد معونة ، وإذا سمعت الرجل يكرر الآية وقليل من عبادي الشكور ، فاعلم أنه طلب قرضاً من رجل فاعتذر منه فأخذ يعرّض بالمذكور، وإذا سمعت الرجل يردد الدنيا لا تساوي جناح بعوضة، فاعلم أنه طلب من التجار قرضاً فرفضوا إلا بِرِهانٍ مقبوضه ، وإذا سمعت المحاضر يردد في محاضرته : الحديث شيِّق ، ولكن الوقت ضيق ، فاعلم أنه ما حضَّر للمحاضرة ، وقد كَدَّ ذهنه وخاطره .
وإذا سمعت المفتي يكرر كثيرًا : لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . فاعلم أنه قد احتار في الجواب ، وخفي عليه الصواب .
وإذا سمعت الموظف يستشهد بقول الشاعر : لكل شيء إذا ما تم نقصان ، فاعلم أنه قد فصل من عمله وهو حاقد غضبان .
وإذا رأيت الرجل يكثر من قول فسد الشباب ، وأصبحت أخلاقهم كأخلاق الكلاب ، فاعلم أنه ما عنده إلا بنات ، وهو يتمنى الأولاد من سنوات .
وإذا رأيت رجلاً وقد ذكر عنده أحد الدعاة ، الذي نجح في دعوته ومسعاه، فقال هذا الرجل . أهم شيء الإخلاص لله في القول والعمل ، ومراقبة الله عز وجل، فاعلم أن الحسد قد أكل قلبه ، وضيّع لبّه .
وإذا سمعت الرجل يحمد الله على أنه لا يشعر بجوع وظمأ وتعب ، وأن الصائم لا يشعر بنصب ، فاعلم أنه صائم، فهو يُلمِّح لك لتكون بصيامه عالِم، وإذا سمعته يخبرك بأن الليل طويل أو قصير ، ويخبرك أن الناس وقعوا في التقصير ، وتركوا القيام وهو سنة البشير النذير ، فاعلم أن الرجل في الليلة الماضية قام يصلّي ، ولكنه يريد أن يوضّح لك الأمر ويجلّي . وإذا رأيت الشاعر كل سنة له ديوان ، ويهدي شعره على الإخوان ، ويلقي قصائده على الجيران ، فاعلم أن شعره لا يَهزُّ شَعْرَة ، ولا يساوي بَعْرة ، وإذا سمعت المتحدث يقول ما كنت أرغب الحديث إليكم ، ولا أريد أن أطيل عليكم ، فاعلم أنه ما عنده كلام ، ويريد أن يتخلص من المقام .
وإذا رأيت الرجل يكثر من قوله : نحن في نعم وخيرات ، وفي رغد ومسرات ، فاعلم أنه قريب عهد بمال ، أتاه هديةً أو بسؤال ، أو مُنِح أرضاً في الشمال .
ومن يكثر كل يوم من العناق ، وذكر الاشتياق ، والسؤال عن الأهل والرفاق، فاعلم أنه ثقيل ، وعذاب وبيل ، فما لك إلا البعد عنه والرحيل، وإذا سلّمت على رجل فقال : من أنتم ، وأين كنتم ، فاعلم أن الرجل فيه إعجاب ، وكبر على الأصحاب ، وإذا رأيت الرجل يكثر على طعامه من الترحيب والتبجيل ، ويعتذر بأنه قليل ، فاعلم أنه بخيل .
وإذا سمعت المتكلم يتفصح ، ويتبجّح ، ويقول : إن الحقيقة تنطلق من أطر، وتنبثق من بوتقة ، وتنصهر في قوالب ، وتلعب دوراً ، فاعلم أنه قليل بضاعة ، ما مَدَّ إلى العلم باعه ، وإذا سمعت الرجل يكثر من قوله : الناس معادن وأصول ، وفي الأنساب فاضل ومفضول ، فاعلم أن الرجل أباه شيخ قبيلة ، وهو لا يساوي فتيلة ، وإذا سمعت من يُسأل مسائل في الشريعة ، فيجعل الاحتياط له ذريعة ، فاعلم أنه قل علمه ، وبرد فهمه .
من جاور المسجد فهجره ، واستفاد من العالم وما شكره ، وأخذ المعروف وكفره فهذا رجل مخذول ، عقله مدخول ، وقلبه مخبول .
إذا رأيت الرجل يكثر من تاء المتكلم فيقول : دخلت ، وخرجت ، وقرأت ، وكتبت ، ولقيت ، وقابلت ، ودعيت ، وزرت ، وقلت ، وألفت فاعلم أنه أحمق ، وكلامه غير محقق ، لكنه متفيهق ، متشدّق ، متمنطق .
إذا رأيت الطالب يقول : ليس العلم بحفظ المتون ، ولا بجمع الفنون ، فاعلم أن ذاكرته في الحفظ تخون .
**********************
مقامَة الحيوان
{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاْ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ }
قال الراوي : فحدثنا عن عالم الحيوان ، فلعلك قرأت للجاحظ صاحب البيان ، قلت : سمعًا وطاعة ، والجاحظ صاحب فصاحة وبراعة ، فاسمعوا وعوا ، وفي رياض الذكر فارتعوا . اجتمعت الحيوانات ، في بعض الأوقات ، فقالوا للحمار ، يا المغوار ، أنت بطل الدار ، وحمّال الأثقال الكبار ، فحدثنا عن الدنيا الدنيّة ، قبل حلول المنيّة ، فانتحب الحمار وبكى ، وإلى إخوانه شكى ، وقال : من عنده ستون صاعًا من شعير ، وتبن كثير ، فلا يأسف من الدنيا على صغير ولا كبير ، فأطرقوا خاشعين ، وأنصتوا سامعين ، وشكروه أجمعين ، ثم قالوا : من علمك الحكمة يا أبا المغوار .
قال : أنتم لا تعرفون السبب ولذلك طال منكم العجب ، أنا سافرت في طلب الحكمة إلى الهند ، فأخطأت الطريق إلى السند ، فلما قصدت السند مع أصدق رفيق ، ضللت الطريق ، فوقعنا في غابة ، فأكلت نبات الروض وأعشابه ، فلما شبعت رجعت ، ونسيت لماذا سافرت ، ولأي سبب غادرت ، فلهذا صرت من الحكماء ، لكثرة من لاقيت من العلماء ، فقيل له يا أبا المغوار ، ومن لاقيت من العلماء الكبار .(/106)
قال لقيت عالمًا نسيت اسمه ، وضيّعت رسمه ، هذا العالِم يسكن في صنعاء عاصمة باكستان ، وله ابن في الخرطوم إحدى مدن أفغانستان ، وهذا العالم تزوج من عمان ، وهي قرية من قرى إيران . فقالوا له : يا أبا المغوار عافاك الله من العين، وسلّمك من الدَّين ما ندري هل نعجب من حسن نطقك ، أو من سعة حفظك .
فقال : من سهر الليالي ، نال المعالي ، قالوا : زادك الله علماً ، ورزقك فهماً ، فما هي أمنيّتك في هذه الدنيا القصيرة ، فإنك صاحب بصيرة .
فقال : يا ليت لي حقل من برسيم ، فأقع فيه وقعة والي مال اليتيم ، فأجعله كالرميم، ثم بكى حتى دمعت عيناه ، وقال : يا سعادة من نال مناه .
ثم أنشد :
من يذم الشعير عندي حقير
فهو بالذم والملام جديرُ
هو عندي ألذُّ من كلّ شيء
ليت أن الجبال تلك شعيرُ
فبكى الجماعة ، وراموا وداعه ، فانصرف الجمع ، وبُل الخد بالدمع .
ثم قال الراوي : حدثونا يا أهل التهذيب، عن التيس والذيب ، لنأخذ من الحكمة بنصيب ، فقلنا : مر الذئب والتيس على منزل ، فقالا : يا جبان انزل ، فقال التيس : قاتلك الله يا إبليس ، يا ابن الذيبة ، وسلالة الخيبة ، يا قليل الهيبة ، فقال الذيب : عجيب ، متى جاءتك الشجاعة ، يا رمز اللؤم واللكاعة ، أنسيت يوم أكلت عمك قبل عامين ، وقتلت لك ولدين ، ما غرك إلا محلك ، وإلا فإنه معروف ذلك .
فإن كنت صادقًا ، وبالحق ناطقًا ، فاهبط إلى الميدان، لأجعلك طعامًا للديدان ، فردّ عليه وهو يقول ، ويصول ، وفوق السقف يجول : اخرس يا خسيس ، فأنا التيس ابن التيس ، فلو قاتلت بالقرون ، لطرحتك والناس ينظرون ، ثم أنشد :
قروني كالرماح إذ انتضاها
كماة في الحروب مدرّبونا
أنا ابن الأكرمين أباً وجدّاً
فقل للقوم هيَّا جرِّبونا
فقال الذئب : خبرك لديّ ، ولكن منصبك شجعك عليّ ، فليت الأيام تدور ، فإن الدهر غَرور ، والزمان عَثور ، لترى يا جبان ، قيمة الشجعان .
ثم أنشد الذيب ، وفي صدره لهيب:
يا تيس ليت لنا مكانٌ نلتقي
فيه ليعرف هزلنا من جِدِّنا
فإذاً لعرّفناك أنّا سادةٌ
نلنا المكارم كابراً من جَدِّنا
فقالوا : حدثنا عن الصيّاد والحمامة ، يا أبا أمامة، فأنت في أخبار الحيوان علاّمة ، قال : خرج الصيّاد ، وقد وضع يده على الزِّناد ، يريد أن يصطاد ، ففارق أصحابه ، ودخل الغابة ، وخلع جلبابه ، ومدّ النظر ، بين الشجر ، وقال اللهم اتحفنا بصيد ، إنك تعلم ما نريد ، فكان كلّما مرّ به سرب من الطيور ، يأبى أن يقع لأنه يرى الرجل يدور ، والطير صاحب حذر ، ودقة نظر ، لا يغتر بكلام ، ولا يخدعه سلام ، ولا يركن إلى عهد، ولا يثق بوعد ، وهذه صفة الذكي الأريب ، والداهية الأديب ، أما الأحمق ، فإنه على كل صخر يسحق ، وبالأسرار يتدفق ، وفي مذهبه لا يترفق.
فلما أيس الصياد ، صاح : يا حسرة على العباد ، حتى الطير ، أصبح يشك في الغير ويظن ظن السوء في أهل الخير ، ثم أنشد :
وهل مثلي يخون بعهد خلٍّ
إذا أعطى ويحنث في اليمين
فلو أن الحمامة صدقتني
وَفيت ولو أقامت في يميني
ثم نادى الصياد : يا أيتها الطير ، أنا رجل من أهل الخير ، اهبطي يا جند سليمان ، ولك الأمان ، فأنا مشتاق لكِ من زمان ، فردّت عليه ، ونظرت إليه ، متى كان لك عهد وميثاق ، يا كثير النفاق ، كيف نصدقك ، وقد قتلت أمهاتنا بالرصاص ، بلا قود ولا قصاص ، ومتى تركت العادة ، يا من أمسك زناده .
فقال الصياد : تبنا إلى رب العباد ، وتركنا عادة أهل الفساد ، وندمنا على ما سلف، وسوف نغرم ما تلف ، فانزلن مأجورات مشكورات ، وبالخير مذكورات .
فقالت الطير : كلا يا عنيد ، يا ذا البأس الشديد ، فأنت عندي كذّاب مريد ، ثم ذهب الطير ولم يهبط ، وأسرع ولم يسقط ، فأيس الصيّاد وملَّ ، وهمّ أن يرتحل ، وأن يترك المحل ، فصاحت الحمامة الحمقاء ، تردد قاء قاء ، وتقول يا صياد لست أنا هنا ، فلا تشغلك المنى ، ولا تكثر من العنا ، وأنشدت تقول :
يا أيها الصياد لست هنا أنا
فارحل ودع عنك المشقة والعنا
لو كنت عندك يا أخي أبصرتني
وكذاك أنت فلست أيضًا عندنا
فالتفت فرآها ، فسدد رميته ورماها ، فقتلها وأدماها ، وهذا جزاء من نشر الأسرار وأفشاها ، ولم يجعل صدره منتهاها .
قالوا: فحدثنا عن الدجاج والثعلبين ، فقد صرنا بحديثك معجبين .
فقال : قصص النبلاء ، تخفف كل بلاء ، وسير الصالحين ، سلوة في كل حين ، وقد مرّ ثعلبان ، وهما يلعبان ، بجماعة من الدجاج ، داخل شبك من ساج، قال أحدهما لصاحبه ، وهو يحاوره ، والتفت إليه وهو يسايره ، ما رأيك في حيلة ، تكون لأكل هذا الدجاج وسيلة ، فإن الخديعة ، لأجدادنا شريعة ، وهذا زمان الماكرين ، وقلة الشاكرين ، وكما هو مكتوب في لوحة من إبريز ، لشكسبير شاعر الإنجليز ، حيث يقول :
احتل لنفسك في زمان الحيلة
أظهر لمن تنوي الردى تهليلة
واخدع فأنت بأمة مخدوعة
فنفوسهم عند العطاء بخيلة
فالمكر فيهم سنة معروفة
يسعون للدنيا بكل وسيلة(/107)
فقال الثعلب الصغير للكبير : يا أبا منير ، يا مرشدنا في كل أمر خطير ، تقدم وتكلم فمنكم نتعلم ، فأنت في الخير إمام ملهم ، فتقدم الكبير وقال : السلام عليكم أيتها الدجاج ، أنا أبو منير وهذا أبو الحجاج ، وكل منا للآخر محتاج .
فقالت الدجاج : لا سلمك الله يا محتال ، يا كاذب في الأقوال ، يا سيئاً في الأعمال ، فرد عليها وقال : استغفر الله لي ولكم من الذنوب، وأعوذ بالله من العيوب ، فإنه مقلب القلوب ، ماذا سمعتم عني ، وماذا دهاكم مني .
قالوا : أليس أبوك قتل أبانا ، وأخوك قبل عامٍ سبانا .
فقال : وما شأني بأبي إذا ضل ، وبأخي إذا زل ، فالولد لا يحمل وزر الوالد ، واللئيم لا يعدي الماجد .
فقالوا : الغدر فيكم طبيعة ، والمكر لكم شريعة ، وتاريخكم مليء بالأخبار الفظيعة، فقال : لست براض عما صار ، وأعوذ بالله من عمل أهل البوار ، جعلهم الله وقود النار.
ثم أنشد :
لزمت المصلّى وانقطعت إلى الذكرِ
وتبت إلى الرحمان من عادة المكرِ
وألزمت نفسي الصدق في كل حالة
وأشغلت بالإخلاص يا صاحبي فكري
فلما سمعت الدجاج قول الثعلب ، قلنا : أظنه جاد لا يلعب ، صادق لا يكذب ، فاسألوه ماذا يريد ، بهذا النشيد والقصيد .
قال أريد أيها الدجاج ، أن تفتحوا لي وأخي باب الساج ، لنطيل معكم السمر ، في ضوء القمر .
فقالوا أعطنا اليمين ، أن لا تروغ علينا ضرباً باليمين .
فقال : والذي نصرنا عليكم بالحيلة ، وفتح علينا بكل وسيلة ، لا نترك عادتنا ولو حال بيننا وبينكم قبيلة ، فما فهموا يمينه ، وما عرفوا دينه ، ففتحوا الباب ، وقالوا : مرحباً بالأحباب ، وخيرة الأصحاب ، فلما دخل هو وأخوه ، ردّوا الباب وأغلقوه ، فلما سكنّا ، جلسنا وتمكّنا ، فلما أظلم الليل ، وحضرت ساعة الويل ، وبان الفجر وحان ، وقعا في الدجاج يذبحان ، فصاح الدجاج : قيط قيط ، ما هذا يا عبيط ، الله من وراءكم محيط ، فقال الثعلب: لو ملأتم الدنيا قرقرة ، حتى سمعكم أهل أنقرة ، ما كففنا عنكم حتى نرى مهجكم معقّرة ، فأنشدت دجاجة تقطر دمًا ، إذ أصبح جسمها مهدمًا .
واحسرتاه كيف صدقنا الأشر
ومكره بين البرايا منتشر
هذا جزا من صدق الكذّابا
وأمِن الرفقة والأصحابا
وصاحب العقل يخاف العاقبة
مُهيّئًا لخصمه مخالبه
فضحك الثعلب وقال :
موتي بغيظك يا دجاجة إنني
كيد الحسود وناصر الإخوانِ
رأيي تقدم في الحياة شجاعتي
والرأي قبل شجاعة الشجعانِ
فلما شبع الثعلبان ، وقاما يذهبان ، فإذا الباب مغلق ، والشبك مطبق ، فإذا كل منهما مطرق ، فقال كبيرهما : وقعنا في بليّة ، وأظنها دنت منا المنيّة ، فكيف لو أن صاحب الدجاج أبصرنا ، لقصدنا بالرصاص وأمطرنا ، فقال الأصغر للأكبر ، أنت أبو الدواهي ، مرتكب المناهي ، طويل الباع ، في الحيل والخداع ، فأخرجنا منها سالمين ، فإن عدنا فإنا ظالمين . فصمت الأكبر ، وتأمل وتفكر ، ثم هلّل وكبر ، وقال لصاحبه: علينا أن نغمض العيون ، وننفخ البطون ، وننام فمن رآنا قال ميّتون ، فإن الناس أكثرهم لا يعقلون، ولا تغرك الصور ، فإن أكثر من ترى بقر ، فقال الأصغر : لا فض فوك ، وفداك شانئوك . ثم ناما كأنهم أموات ، وهجعا في سبات ، فجاء صاحب الدجاج فما وجد من دجاجة إلا الريش فصاح : إيش هذا إيش ، والله لا طاب بعدها العيش ، ثم نظر إلى الثعلبين ، وقال : شاهت الوجوه الكاذبة ، العاملة الناصبة ، الناهبة السالبة ، فلو كنتما أحياء ، لأسلت منكما الدماء ، جزاءً على فعلتكم النكراء ، لكن سبقني الموت عليكم ، وأسرع الفناء إليكم ، فسبحان الله الموت أعجل ، ثم سحبهما بالأرجل ، فلما رآهما في الوادي ، واستشهد على موتهما أهل النادي ، قاما مُسرعَين ، وهربا ضاحكَين ، والتفتا منشدَين . فقال الأكبر :
أغبى من الناس عيني لم تر أحدًا
إلا القليل فلا تحفل بهم أبدا
هم كذبوا رسل الله الكرام فهل
تريد منهم على طول المدى سندا
أما تراهم وهذا الموت يطلبهم
لاهين في الأرض لا تأنس لهم رشدا
وأنشد الأصغر فقال :
لا تثق يا صاح في هذا البشر
فالغبا والجهل فيهم منتشرْ
هم عصوا خالقهم سبحانه
وهو المنعم والكافي الضررْ
فقال صاحب الدجاج : أظن أنّا تورطنا ، فيا حسرتنا على ما فرطنا .
قالوا : فخبرنا عن قصة الثيران والأسد ، فما سمعناها من أحد .
فقال حباً وكرامة ، وحق الصاحب كالغرامة ، ونعود للحديث عن الحيوان والعود أحمد ، وما يطلب العلم إلا كل أمجد ، فكان هناك ثلاثة ثيران أبيض وأحمر وأسود ، يرعون بجانب الغدير ، وكل واحد منهم كأنه وزير ، في منصب خطير ، فمر بهم الأسد أبو أسامة ، فعرفهم بالعلامة ، ودعا لهم بالسلامة ، وقال كيف الحال يا إخوان ؟
قالوا : بخير يا خوّان ، فقال : علام هذا السب علاما ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ، فقالوا يا أبا حيْدرة : كل يعرف بيدره ، أنسيت كم أكلت منا من ثور ، يوم ساعدك الحظ العَثور ، ثم أنشد الثور الأبيض فقال :
لا تأمن الليث أبا أسامة(/108)
وفِرّ منه فهو لا يحابي ... فإنه سلّ لنا حسامَه
وذكره قد جاء في الكتابِ
ثم ارتجل الثور الأحمر منشدًا فقال :
أشجع كل الكائنات حيدره
سمَّاه ربي في الكتاب قسورة
فقلبه في الروع أقسى من حجر
لطالما أقسم عمدًا وفجر
فقام الثور الأسود وأنشد :
هذا الهزبر ملك في الغابة
كشّر للموت مصرًّا نابَه
تبَّت يدا من أَمَّه ونازلَه
ويل لمن عانده وقاتلَه
وكلما أقبل عليهم الأسد ، ولِقتْلهم رصد ، أقبلوا كلهم إليه ، وتجمعوا عليه ، والوحدة قوة ، وهو رمز الأخوة ، والكثرة تغلب الشجاعة ، والاتحاد دليل البراعة، فلما أيس من الثيران ، لجأ لبعض الغيران ، ووضع رأسه على عود ، وزئيره كالرعود .
وأنشد يقول :
أنا الذي أرهب الدنيا بصولته
بصولته
ولم أخف عندما آتى الردى بشرا
واليوم تغلبني الثيران عن سفه
كثرت
يا جاهلاً عن ثبات الليث سوف ترى
فليس لي حيلة في هذه الطائفة ، التي صارت بالألفة غير خائفة ، إلا أن أشتت قلوبهم ، وأظهر لبعضهم عيوبهم ، وآخذ كل واحد على حدة ، وأعده عدة ، لأترب يده، فجاء إلى الثور الأسود والأحمر ، في ليل مقمر ، وقال يا قوم ، رأيتكم اليوم ، وأنتم في الروض ترعون ، وإلى الغدير تسعون ، فرأيت الثور الأبيض يسبقكم ، وبعين الحسد يرمقكم ، يستأثر عليكم بنبت السماء ، ويزاحمكم على الماء ، فماذا ترون ؟ أفلا تبصرون، قالوا : جزاك الله خيراً على النصيحة ، يا صاحب اللغة الفصيحة ، والكلمات المليحة ، فأمرنا بما ترى ، وقد خاب من افترى ، فقال في نفسه : وقع القوم في بليّة ، وحانت منهم المنيّة ، ثم طلب منهم الوثوب إلى الثور الأبيض جميعًا ، حتى يرى صريعًا ، فقاموا على حرْدٍ قادرين ، وللموت مبادرين ، فناطحوا الأبيض وحاصروه، وصارعوه وحاجروه ، وبالعداوة كاشروه ، ثم طرحوه أرضا ، ورضّوه رضّا.
فلما أحسّ بالموت ، وأيقن بالفوت ، وفاته القوت ، قال :
هذه الحيلة من نسْج الأسد
يوم يلقانا ببغي وحسد
مصرعي مصرعكم لو تعلموا
غير أن الرأي منكم قد فسد
فلما مات الأبيض سر الأسد وفرح ، وسعد وانشرح ، ثم تركهم لزمن يسير ، وهو يقودهم لسوء المصير ، ثم أتى إلى الثور الأسود ، وقال يا أبا أسعد : هذا الثور الأحمر ، أظنه مغتر ، يخفي لك الشر ، أراه بقرونه يناطحك ، وبالعداوة يصارحك ، فماذا ترى لو عاونّاك ، ومن ظهره مكنّاك ، لنشق نحره ، ونفري ظهره ، فسحباه إلى الغدير ، وليس له من وليٍّ ولا نصير ، فلما أصبح في آخر رمق ، وفؤاده يحترق ، أنشد :
يا عثرة الرأي هذي عثرة القدم
ويا حياتي هذي ساعة الندمِ
يا فرقة مزقتنا حاكها لبقٌ
صرنا بها ضحكة للعرب والعجمِ
فبقي الأسود والأسد ، فقام الأسد وقعد ، وقال : كيف حالكم ، يا رفيق السعَد ، ويا زينة البلد ، فقال بخير يا أبا أسامة ، أدركنا من السرور تمامه .
فقال الأسد : يا غاية المنى ، بقي أنت وأنا ، ونريد اليوم غدًا هنا ، قال الرأي لك يا ملك الحيوان ، ويا ثابت الجنان.
فقال له الأسد : اقترب مني لأناجيك ، وادن مني لأشاجيك ، فأدنى من الأسد الراس ، وكتم على الأنفاس ، فأنشب الأسد فيه أنيابه ، ومزق جلبابه ، وخلع ثيابه ، وقال : ذق يا ابن البقرة ، يا سلالة الفجرة ، عليك غبرة ، وانفرد الأسد ، في البلد ، وعلى كرسي الملك قعد . وأنشد:
وحارِبْ إذا حاربت بالرأي والقنا
وكن واحدًا لدنيا وعبدًا لواحدِ
ولا تخش مخلوقًا فربك حافظ
فما انقادت الأمجاد إلا لماجدِ
وإن شئت الزيادة ، وكثرة الإفادة ، فعليك بالجاحظ ، فإنه لأخبار الحيوان حافظ ، أو اسأل غيره وغيري ، كالحيوان للدّميري .
وصل وسلم على المعصوم ، الذي علمنا كيف نصلي ونصوم ، ما مال الشيح والقيصوم ، واختلف الخصوم .
**************************
مقامَة الموت
(( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ))
لقد لامني عند القبور على البكا
أَمِنْ أجلِ قبرٍ بالملا أنت نائح
فقال : أتبكي كل قبرٍ رأيتهُ
فقلتُ له : إن الشَّجا يبعث الشَّجا ... رفيقي لتذرافِ الدموع السوافكِ
على كل قبرٍ أو على كل هالكِ
لِقبرٍ ثوى بين اللّوى فالدّكادِكِ
دعوني ، فهذا كله قبرُ مالكِ(/109)
الموت هاذم اللذات ، ومفرق الجماعات ، ميتم البنين والبنات ، مخرب الديار العامرات ، أسقى النفوس ، مرارة الكؤوس ، وأنزل التيجان من على الرؤوس، نقل أهل القصور إلى القبور ، وسلّ على الأحياء سيفه المنشور ، ألصق الخدود باللحود ، وساوى بين السيد والمسود ، زار الرسل والأنبياء ، وأخذ الأذكياء والأغبياء ، فاجأ أهل الأفراح بالأتراح ، ونادى فيهم الرواح الرواح ، كم من وجه بكفه لطمه، وكم من رأس بفأسه حطّمه ، يأخذ الطفل وفمه في ثدي أمِّه ، ويخنق النائم ورأسه على كمِّه ، ينزل الفارس من على ظهر الفرس ، ويقتلع الغارس وما غرس ، يخلع الوزير من الوزارة ، ويحطّ الأمير من الإمارة ، إذا اكتمل الشاب ، وماس في الثياب ، وصار قوي الجناب ، يُرجى ويُهاب، عفّر أنفه في التراب ، يدوس ذا البأس الشديد ، والرأي السديد ، ويبطح كل بطل صنديد ، ولو كان خالد بن الوليد ، أو هارون الرشيد ، يسحب الملوك من العروش ، ويركب الجيوش على النعوش ، أسكت خطباء المنابر ، وأذهل حملة المحابر ، وشتت أهل الدفاتر ، وطرح الأحياء في المقابر ، كسر ظهور الأكاسره ، قصّر آمال القياصره، زلزل أساس ساسان ، وما سلم منه سليمان ، وما نجا منه قحطان وعدنان، صبّح ثمود وعاد ، وخرّب دار شداد وما شاد ، وهدم إرم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد، لا يترك السلاطين ، حتى يوسدهم الطين ، لا تظن أنك منه ناج ، ولو سكنت الأبراج .
الموت ينادي كل صباح : الرواح الرواح ، ويصيح كل مساء : يا حسرة على الأحياء ، ويقول للناس : لِدوا للموت وابنوا للخراب ، فكلكم يصير إلى ذهاب ، يا من أعجبه شبابه ، وألهته ثيابه ، وأحاط به حرسُه وحجابُه ، أنسيت الموت وقد وصلك ركابُه ، يا من أشغله السكن ، وحب الوطن ، وأمن المحن ، كأنك بالموت زارك ، وهدم دارك .
ستنقلك المنايا عن ديارك
فدود القبر في عينيك يرعى ... ويبدلك البِلا داراً بدارك
وترعى عين غيرك في ديارك
الموت كأس يدور على الأحياء ، لابد أن يشربه أبناء حواء ، الموت ليس له موعد مناسب ، فهو يأتي القاعد والماشي والراكب ، في ليلة الزفاف ، إذا اجتمع الأضياف ، يقدم الموت بحشوده ، ويهجم بجنوده ، يأخذ العريس أو العروس ، لأن مهمته قطف النفوس ، يهنّأ الإنسان بالإمارة ، ويبارك له بالوزارة ، ثم يشنّ عليه الموت الغارة .
يولد المولود ، ويعود المفقود ، ثم يفجؤ الموت الجميع بروعته، فتمتزج بسمة المحب بدمعته ، يكتمل الاجتماع ، ويلتقي الأحباب من كل البقاع ، فإذا تمت السعاده، وكل قلب بلغ ما أراده ، وصل الموت ففرق الجمع ، وأسبل الدمع .
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها ... متى حُطَّ ذا عن نعشه ذاك يركب
وعلّ الردى مما نرجيه أقرب
وقف أحد الصالحين على المقابر ، ودمعه يتناثر ، فقال : يا موت ماذا فعلت بالأحباب ؟ وماذا صنعت بالأصحاب ؟ ثم أجاب نفسه بنفسه ، فقال : يقول الموت : أكلت الحدقتين ، وأفنيت العينين ، ونهشت الشفتين ، وقطعت الأذنين، وفصلت الكفين من الرسغين ، والرسغين من الساعدين ، والساعدين من العضدين ، والعضدين من الكتفين ، وفصلت القدمين من الكعبين ، والكعبين من الساقين ، والساقين من الفخذين ، والفخذين من الوركين .
أتيت القبور فناديتها
تفانوا جميعاً فما مخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا
تروح وتغدو بنات الثرى ... أين المعظّم والمحتقر
وماتوا جميعاً ومات الخبر
أما لك فيما مضى معتبر
فتمحو محاسن تلك الصور
إذا رأيت قصراً مشيدا ، وملكاً عتيدا ، وبأساً شديدا ، فتذكر الموت فإذا القصر تراب ، والملك خراب ، والبأس سراب .
إذا رأيت امرأة حسناء ، أو حديقة غنّاء ، أو روضة فيحاء ، فتذكر الموت فإذا الحسن مسلوب ، والجمال منهوب .
فضح الموت الدنيا ، فلم يدع لذي لب فرحا ، ولكن أين من صحا ، وأصلح فصار مفلحا .
بينا ترى الإنسان فيها مخبراً
طبعت على كدر وأنت تريدها ... ألفيته خبراً من الأخبارِ
صفواً من الأقذار والأكدارِ
ويل لمن أشغله ماله ، وألهاه جماله ، وصده عياله . متى الإفاقة يا من بحب الدنيا مخمور ، وببهرجها مغرور ، أما تذكر إذا بعثر ما في القبور وحُصِّل ما في الصدور .
أين من رفرفت عليهم الرايات ، ورفعت لهم العلامات ، وأقيمت لهم الحفلات ، وانعقدت لهم المهرجانات .
صاحِ! هذي قبورنا تملأُ الرّحـ
خفِّفِ الوطء ما أظنُّ أدِيمَ الأ
سِرْ إن اسطعتَ في الهواء رويدا
رُبَّ لحدٍ قد صار لحداً مرارا
ودفينٍ على بقايا دفينٍ
تعبٌ كلها الحياةُ فما أعـ
إنَّ حزناً في ساعة الموت أضعا ... ـبَ فأين القبورُ من عهدِ عادِ ؟
رضِ إلا من هذه الأجسادِ
لا اختيالاً على رُفاتِ العبادِ
ضاحكٍ من تزاحم الأضدادِ
في طويل الأزمان والآبادِ
ـجبُ إلا من راغبٍ في ازديادِ
فُ سرورٍ في ساعة الميلادِ(/110)
أين من ولّى وعزل ، وأين من ظلم وأين من عدل ، وأين من سجن وجلد وقتل ، أين من حفت به الجنود ، واجتمعت عليه الحشود ، وخفقت على رأسه البنود ، أين من دارت عليه الكؤوس ، وانخلعت من هيبته النفوس ، وطارت بأوامره الرؤوس ، أين من جمع ومنع ، ووصل وقطع ، واغتنى وافتقر ، وهزم وانتصر .
باتوا على قللِ الأجبالِ تحرسهم
واستنزلوا بعد عز من معاقلهم
تلك الوجوه التي كانت محجبة
لطالما أكلوا يوماً وكم شربوا ... غلب الرجال فما أغنتهم القلل
إلى مقابرهم يا بئس ما نزلوا
من دونها تضرب الأستار والحلل
فأصبحوا في لحود الأرض قد أكلوا
بعض السلف ذكر الموت فخارت قواه ، وصاح أوّاه، وبعضهم كاد أن يطير لبه ، وأن يتفطر قلبه .
إذا رأيت الإخوان والجيران والخلان ، فتذكر كل من عليها فان .
إذا أبصرت البستان والأفنان والأغصان ، فتذكر كل من عليها فان .
إذا شاهدت القصور والدور والحبور والسرور فتذكر يوم يبعثر ما في القبور ، ويحصل ما في الصدور .
الله سمّى الموت مصيبه ، وأنت عنه في غيبه ، أخذ القوي والضعيف ، والوضيع والشريف ، والغالب والمغلوب ، والسالب والمسلوب ، قبر الغني جوار قبر الفقير ، وقبر المأمور بجانب قبر الأمير .
الموت مباغت لا يستأذن ، ومهاجم لا يُؤمَن ، لا يترك شاباً ليكتمل شبابه ، ولا صاحباً ليتمتع به أصحابه ، ولا حبيباً يستأنس به أحبابه ، يفصّل الثوب فيأخذ صاحبه قبل أن يلبس ، ويبنى المجلس فيخترم الموت الباني قبل أن يجلس ، تزف المرأة لزوجها فيهاجمه الموت ليلة الزواج ، يزرع الزارع فيختلسه الموت قبل النتاج ، الموت له صور وأشكال ، ومشاهد وأحوال ، مرة يقتل بسيف أو برمح ، أو داء أو جرح ، أو بعرق ينبض ، أو بعضو يمرض ، أو بحرب هائله ، أو مجاعة قاتله ، المهم أنه لابد منه ، ولا محيص عنه { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ } يصبّحكم أو يمسّيكم ، { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } ، أو دونكم جنود مؤيّده ، كل شيء هالك إلا وجهه الكريم ، وكل حي فانٍ إلا الحي القيوم .
الموت يسقط الطيور ، ويخطف الصقور ، ويلتهم النسور ، يصيد الموت كل عائمه ، ويدرك كل هائمه ، ويجتاح كل سائمه ، يزحف على الحيوانات ، والعجماوات ، والحشرات ، يدخل القصور والأكواخ ، ويصرع الأطفال والأشياخ ، فسبحان من خلق الموت آية ، وجعله نهاية ، وصيره لكل حي غاية . { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ }
زار الرسل والأنبياء ، ووفد على الأصفياء والأولياء ، وطاف على الحكماء والعلماء والأدباء والشعراء ، فسقى الجميع بكأسه ، وهشم الكل بفأسه ، فلا صاحب القصر نجا ، ولا محب الدنيا عمّر ولو رجا ، ولا الكاره له سلم منه ولو ذمّه وهجا ، { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ } .
نعد المشرفية والعوالي
ونرتبط السوابق مقربات ... وتقتلنا المنون بلا قتالِ
فما ينجين من خبب الليالي
أخرج الموت وساوس ساسان ، وما سلم منه سليمان ، وخرّب ما شيده وشاده شداد ، وعاد بالكسر على عود ثمود وعاد ، وحط قحطان ، وأعدم عدنان .
الموت يفجؤ بعد العين بالأثر
أنهاك أنهاك لا آلوك موعظة
هي المنايا وقاك الله سطوتها
ومرّغت قيصر الرومي ودولته
ليت المنايا رعت من كان ذا همم
وليتها إذ فدت عمراً بخارجة
وابن الزبير أتى بالبيت محتميا
قد ذاقها أنبياء الله ما سلموا
دع الليالي مع الأيام تصحبنا
****************************** ... فما البكاء على الأشباح والصورِ
عن نومة بين ناب الليث والظفرِ
دكت عروش ذو التيجان والخطرِ
وألصقت خد كسرى أضيق الحفرِ
وزلزلت أشبه الأحياء بالبقرِ
فدت عليّاً بمن شاءت من البشرِ
فمزّقته بقرب الركن والحجرِ
من فتلها فاعتبر ما جاء في السيرِ
فالبِيض والسُمر مثل البَيض والسَمرِ
فهرس الموضوعات
عائض بن عبد الله القرني . ... 1
الإهداء ... 1
إلى رحابك دبجّنا رسائلنا ... 2
تكاد تُحرق من أشواقنا لهبا ... 2
يا قارئ الحرف أهديناك أحرفنا ... 2
وقبلها قد بعثنا الدمع منسكبا ... 2
شوقاً إليك فهل ترضى محبتنا ... 2
مهراً وإلا بعثنا القلب والهدَبا ... 2
فغيرنا بمداد الحبر قد كتبوا ... 2
ومن دمانا كتبنا الشعر والخطبا ... 2
عنوان المؤلف ... 3
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن ... 3
أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني ... 3
وفي ربى مكة تأريخ ملحمة ... 3
على ثراها بنينا العالم الثاني ... 3
في طيبة المصطفى عهدي وموعظتي ... 3
هناك ينسج تاريخي وعرفاني ... 3
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا ... 3
بالرقمتين وبالفسطاط جيراني ... 3
النيل مائي ومن عمان تذكرتي ... 3
وفي الجزائر إخواني وتطواني ... 3
والوحي مدرستي الكبرى وغار حرا ... 3
بدايتي وبه قد شع قرآني ... 3
وثيقتي كتبت في اللوح وانهمرت ... 3
آياتاها فاقرؤوا يا قوم عنواني ... 3
فأينما ذكر اسم الله في بلدٍ ... 3(/111)
عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني ... 3
تليفون : 4195398 فاكس : 4196663 ... 3
مقدمة المقامَات ... 4
{ بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } ... 4
بين يدي المقامَات ... 6
{ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي } ... 6
مقامَةُ التَّوحيد ... 7
{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ } ... 7
المقامَة الإلهية ... 11
{ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا } ... 11
المقامَة النَّبويَّة ... 17
{ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ... 17
المقامَة الكونية ... 21
{ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } ... 21
المقامَة الحديثيّة ... 25
{ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } ... 25
المقامَة العلميّة ... 29
(( العلماء ورثة الأنبياء )) ... 29
المقامَة السلفيّة ... 32
المقامَة اليوسفيّة ... 36
المقامَة السليمانية ... 39
المقامَة الحُسَينيّة ... 42
المقامَة التيميّة ... 45
مقامَة الإمام محمّد بن عبد الوهّاب ... 52
{ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } ... 52
المقامَة البازيَّة ... 55
المقامَة الدّعويّة ... 61
المقامَة الجهادية ... 72
المقامَة الزهديَّة ... 75
المقامَة الأدبيّة ... 76
المقامَة الخطابيّة ... 83
مقامَة التوبة ... 86
المقامَة التاريخية ... 89
***************************المقامَة السُّلطانيَّة ... 91
المقامَة السُّلطانيَّة ... 92
المقامَة الجامعيَّة ... 95
المقامَة الشيطانية ... 99
المقامَة الأبويَّة ... 102
المقامَة الصَّحفية ... 105
مقامَة القلم ... 107
مقامَة الكتاب ... 110
المقامَة الطبيّة ... 112
****************** ... 114
المقامَة التجاريّة ... 115
مقامَة المتنبي ... 118
المقامَة الشِّفائية ... 130
المقامَة الرمضانيّة ... 134
المقامَة الأَخباريّة ... 137
نستودعكم الله ولنا لقاء ، مع تحيات وكالة الأنباء . ... 139
مقامَة الحبّ ... 140
المقامَة النحويّة ... 145
مقامَة الجمال ... 150
{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } ... 150
المقامَة الفقهيَّة ... 154
المقامَة الجغرافية ... 156
المقامَة البوليسية ... 158
مقامَة الهمّة ... 160
مقامَة البخلاء ... 164
مقامَة السعادة ... 166
مقامَة الفرج بعد الشدة ... 168
المقامَة الشبابيّة ... 172
المقامَة السياسيّة ... 176
المقامَة المكيّة ... 179
المقامَة المدنيّة ... 183
المقامَة النجديّة ... 186
ـا صاحبي قفا لي واقضيا وطراً ... 186
المقامَة السُّعوديَّة ... 190
المقامَة السراتيّة ... 194
{ فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ } ... 194
المقامَة الخليجيّة ... 198
المقامَة اليمانيَّة ... 201
المقامَة المصريّة ... 208
المقامَة الدمشقية ... 211
المقامَة البغداديَّة ... 214
المقامَة الفلسطينيّة ... 218
{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى } ... 218
المقامَة الأفغانيّة ... 225
المقامَة الأمريكانية ... 228
والرعد يا ليته في أرضها خطبا حتى تصير على أطلالها لهبا ... 232
المقامَة النسائية ... 236
مقامَةُ الحيّل ... 241
********************** ... 242
مقامَة الحيوان ... 243
مقامَة الموت ... 251(/112)
غلامٌ يحيي الله به أمة.. قطرة دم تحيي شعبًا
رئيسي :الدعوة :الثلاثاء 7 ربيع الأول 1425هـ - 27 أبريل 2004م
في 'صحيح مسلم' عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ.
فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي فَقَالَ إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّي قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي قَالَ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ فَجِيءَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ فَقَالَ إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ.
فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا.(/1)
وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ فَقَالَ لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ ثُمَّ ارْمِنِي فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ ].
إضاءات الحديث:
1- مشروعية القصص.
2- التربية بالقصص.
3- أهمية وعي التاريخ.
4- أثر القصة في تقريب الفهم.
5- أهل الطغيان والفساد لا يملكون الحجج العقلية والقدرة الإدارية على إدارة الناس فيلجؤون إلى السحر والشغوذة.
6- اهتمام أهل السوء والفساد بمن يخلفهم في أعمالهم.
7- أهمية تهيئة من يراد لأمر عظيم من الصغر، واستثمار جميع قدراته فيما يراد منه.
8- الاهتمام بالنشء، والاعتناء بأصحاب المواهب من الصغر، وتنمية مواهبهم وقدراتهم العقلية والفكرية والإدارية.
9- قوة تلبيس السحرة وأعوانهم على الناس، فلم يزل الشك عند الغلام رغم تعليم الراهب له حتى عرضت له الدابة وقال تلك المقالة.
10- إن إرادة الله فوق كل إرادة، وقدرة الله فوق كل قدرة، وأمر الله فوق كل أمر لا رادَّ لقضائه ولا معقب لحكمه إذا قال للشيء: كن فيكون، يري العباد ضعفهم وعجزهم مهما تجبروا وطغوا وبغوا، لقد اختار الملك الغلام ليكون الساحر الذي يثبت به دعائم ملكه، وأراد الله تعالى أن يكون الداعي الصالح الذي يدمر ملكه، ويهدي الناس إلى الدين الحق، وفي ذلك آية للمعتبرين، فالله يهيئ لدينه رجالاً ينبتون من بيوت الطواغيت الكفرة ليكونوا الدعاة الهداة البررة. [انظر: صحيح القصص النبوي للأشقر ].
11- الكذب للمصلحة الشرعية، وخوف الفتنة.
12- تربية العالم لتلميذه، وإعداده وتهيئته لتحمل أعباء الدعوة: [ وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى ] استشرافاً للمستقبل من خلال التحديات، وتهيئة النفس، وترتيب الحسابات لذلك.
13- الأصل البلاء للمؤمنين:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ[2]} [ سورة العنكبوت ] .
14- الحفاظ الأمني على شيخه: [ فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ].
15- عدم تمني الراهب الفتنة، أو التعرض لها مع قوة صبره وتحمله.
16- التواضع والاعتراف بالحق مهما كان صاحبه، والتعالي على الحسد والكبر، فهذا الراهب مع أنه معلم الغلام ومربيه ومخرجه من الظلمات إلى النور، ومع ذلك لما علم أنه أفضل منه جهر بذلك أمام تلميذه الصغير: [ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي ].
17- استغلال المهنة الطبية في الدعوة ، مع الحرص على نفع الناس وحل مشكلاتهم.
18- الدعوة إلى دين الله لا تعرف سناًّ معيَّنًا، وانظر فعل الغلام.
19- إجراء الآيات كرامة للعبد التقي النقي.
20- الطغيان ليس له حد، بل يصل بصاحبه الضعيف إلى ادعاء الربوبية.
21- أصبحت سير أولئك الطغاة المجرمين أُضْحُوكةً يضحك منها اليوم الصغير والكبير.
22- قد يضعف الإنسان، ويدل على أصحابه من جراء التعذيب، فلا يغض هذا من مكانته، كما فعل جليس الملك والغلام مع صبرهما وتقديم أنفسهما فداء لدين الله.
23- الاعتراف بالفضل لأهله، وبيان عجز الإنسان وفاقته إلى معونة ربه: [ إِنَّمَا يَشْفِي اللَّه ُ].
24-محاولة دغدغة عواطف الغلام واستمالته إلى الباطل، وحرفه عن الصراط المستقيم: [ أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ ].
25- ليس لدى أهل الطغيان القدرة على إفحام الخصم فيلجئون إلى القوة والتعذيب وهذا من سنتهم وسبيلهم.
26- صبر العالم، وتحمله للبلاء، وتقديم دمه فداء لدينه.
27- الإيمان لا يوازيه أي رتبة، أو مكانة، أو دنيا، ولهذا قدم جليس الملك دنياه فداء لدينه.(/2)
28-الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب؛ استخف صاحبه بكل عقوبة كما فعل الغلام، حين تفنن الملك في قتله.
29- المحن تولد المنح، لقد مات الراهب، والوزير، والغلام، كما مات الملك وأعوانه، لكن أين منازلهم؟! وأيهم ترك أسوة وسيرة يقتدى بها وينال أجرها؟!
30- اهتمام الملك بأمر الغلام ليكون سندًا له نظراً لفرط ذكائه، ولكنه إذا خالف أمره ولم يرجع عن دينه فالقتل جزاؤه، ولا قيمة للطاقات البشرية والثروة الفكرية عند الطغاة.
31- إرجاع الأمر في الأمن والخوف إلى الله تعالى: [ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ ].
32- دعاء الله في كل حال، وطلب نصرته، وعدم الاعتماد على النفس، وإظهار الفقر والفاقة والحاجة إلى القوي العزيز: [ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ ].
33- إيكال أمرهم إلى الله يفعل بهم ما يشاء، وعدم اختيار العقوبة والاقتراح على الله.
34- يلاحظ أن الغلام لم يفر بعد أن أنجاه الله تعالى كل مرة من عقوبة الملك، وذلك لأنه لم يكن ينشد السلامة لنفسه، بل كان يهدف إلى إظهار دين الله وإعلاء كلمته، ولعل الناس كانوا يتابعون قصته في مجالسهم وينتظرون النتيجة في معركة الغلام مع السلطان المتجبر مدعي الربوبية، وكيف يواجه الغلام الملك غير هياب ولا وجل، مع ما عرف عن السلطان من سفك الدماء. [ انظر: صحيح القصص النبوي للأشقر ].
35- الاعتزاز بدين الله: [ حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ].
36- أهمية الدعوة إلى توحيد الله حتى احتاجت إلى تقديم النفس فداء في دعوة الناس إلى الله جل وعلا.
37- الاحتيال في الدعوة إلى توحيد الله.
38- مع الصدق والإخلاص يحطم دم المؤمن أصول الوثنية في قلوب الناس.
39- مهما بدا بنيان الكفر ضخمًا عظيمًا فإنه كانتفاخ البالون سرعان ما يتحطم بأول وخزة:{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [109]}[سورة التوبة . فبعد هذا التلبيس الطويل على المجتمع، وتضليله وتربيته على الخنوع والخضوع لمدعي الربوبية سرعان ما انتهى كل ذلك بموقف واحد، كمثل ظلمة عظيمة انقشعت بشمعة صغيرة.
40- دم المؤمن ينبغي أن لا يضيع هدرًا فحياته دعوة، وموته دعوة، وقطرات دمه دعوة.
41- الملأ وأهل السوء وأثرهم السيء على السلطان: [ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ ] .
42- أهل الطغيان لا يعرفون الحوار ولا المناظرة ولا المجادلة، وإنما حججهم هي البطش والعقوبة، ولا بأس في إبادة الشعب إبقاءً لمذهب السلطان، وتغطية لدعاويه الباطلة.
43- انتزاع الرحمة من قلوب أهل الكفر، فماذا فعل أولئك بكم حتى تعاقبوهم تلك العقوبة النكراء، لمّا اختاروا لأنفسهم عقيدة غير ما تلزمونهم وتجبرونهم عليه.. أين حرية الرأي والتفكير عندكم يا أهل الكفر والفساد؟! أم أنه لا بد أن يكون التفكير من خلالكم، ويلغون عقولهم حتى مجرد التفكير أو الاعتقاد لا يسمح لهم به!!
44- آية من آيات الله في نطق الغلام.
45- نصرة المؤمن، وتأييد الله له، وبعث من يثبته على الخير إذا علم منه الصدق والإخلاص:
[ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ ].
46- لقد انتصر هذا المجتمع وعلوا، فاستهانوا بكل العقوبات، وسخروا من الإحراق والعذاب، وبقيت سيرهم مثلاً أعلى، فكم من الأمم انتصرت بسببهم، ثم ما يعايشونه الآن من النعيم:{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[169]}[ سورة آل عمران ].
من:' غلامٌ يحيي الله به أمة..قطرة دم تحيي شعباً ' للشيخ الدكتور/ يحيى بن إبراهيم اليحيى(/3)
: غناء عن الإسلام والرسول بموسيقى البوب).
وليس الجديد في الأمر هو الثناء على المغنين أو تصديرهم كنجوم أو قدوات لشباب الأمة فقد تعودنا على مثله وأمثاله من جرائدنا العربية العتيقة. وقنواتنا الفضائية[1] . ولكن أن يورد الموقف بلا تعليق ولا تعقيب, وكأن الأمر لا يمس الدعوة الإسلامية بقليل ولا كثير. فالجريدة مررت الأمر بما قد يفهم البعض منه أن الموسيقى وسيلة للدعوة, وهو ما وقع فعلا , فقد جادلني بعض الأقارب, وبعض الطلاب في قاعة الدرس, في جدوى الموسيقى التي تصاحبها معاني سامية كالحديث عن الدين أو الرسول- صلى الله عليه وسلم-, فهي بديل عن الغناء الساقط في مضامينه, كما لها أثر في تقريب غير المسلمين إلى الإسلام , وأن ما يحسنه الشخص فليدعو به وينبغي علينا ألا نحجر واسعا.هذا قولهم .
وقبل الجواب عن ما يقال من تبريرات ومغالطات, أود أن أشير إلى أن الرجل صاحب هدف وهو ما عبر عنه بقوله: (الروحانية مفقودة في الغالبية العظمى .. المناخ التجاري هيمن على عالم الفن ..) فجاء ليقدم رسالة إيجابية ويروج من خلال الموسيقى للقيم الجيدة. فنقول: كم من مريد للخير لم يصبه, والنية الحسنة لا تشفع لصاحبها ما لم ينضبط سعيه بالهدي النبوي. فالمقرر عند علماء السلف من المتقدمين والمتأخرين أن الإخلاص في العمل سواء كان قولا أو عملا أو اعتقادا , والمتابعة للنبي- صلى الله عليه وسلم , هما شرط صحة يترتب عليهما القبول والرد. فميزان انضباط الباطن حديث عمر بن الخطاب في الصحيحين:{إنما الأعمال بالنيات}, وميزان انضباط الظاهر حديث عائشة عند مسلم:{من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد }. قال العلامة حافظ الحكمي- رحمه الله-:
شرط قبول السعي أن يجتمعا *** فيه إصابة, وإخلاص معا
والدعوة إلى الله تعالى من أجل القربات, وأسمى الطاعات, ولا يمكن أن تكون الوسيلة المحرمة مبررة بناء على ما يترتب عليها من ثمرات, لأنا متعبدون بالأمر والنهي, ولسنا متعبدين بالثمرات, فالنبي يأت يوم القيامة وليس معه أحد, فما ظنكم و تلك الوسيلة ملغاة شرعا[2]. فكيف نتعبد بما نهينا عنه!؟.
الغناء المصحوب بآلات محرمة أتفق العلما ء على تحريمه, وقد حكى الاتفاق جمع من الأئمة كالابن الجوزي, وابن الصلاح والقرطبي, وابن تيمية, وابن القيم, وابن باز والعثيمين والألباني وغيرهم كثير من قبل ومن بعد. ولا فرق بين ما صحب بآلة فكانت مضامينه حسنة أو سيئة, فعِلَّة المنع قائمة وهي اقترانه بالآلة الموسيقية[3]. وقد سئل شيخ الإسلام - رحمه الله- عن جماعة يجتمعون على فعل الكبائر من القتل وقطع الطريق والسرقة وشرب الخمر.. ثم إن شيخا من المشايخ المعروفين بالصلاح واتباع السنة قصد منع هؤلاء مما يقعون فيه, فلم يتمكن إلا أن يقيم لهم سماعا يجتمعون عليه وهو بدف بلا صلاصل, مع غناء المغني بشعر مباح بغير شبابة, فلما فعل تاب منهم جماعة, وأصبح من لا يصلي ويسرق ولا يزكي يتورع عن الشبهات, ويؤدي المفروضات, ويجتنب المحرمات, فهل يباح مثل فعل الشيخ على تلك الحال, لما يترتب عليه من المصالح ؟ مع أنه لا يمكن دعوتهم بغيره؟
فأجاب شيخ الإسلام- رحمه الله- جوابا متينا[4], وانظر كيف يعالج العلماء الربانيين الجزئيات في ضوء الكليات, ويربطون بين فروع الشريعة وأصولها, فقد ربط الجواب بأصل عظيم جامع وهو الاعتصام بالكتاب والسنة, ويمكن تلخيص كلامه- رحمه الله- على شكل نقاط:
1) أن الله تعالى بعث محمدا- صلى الله عليه وسلم- بالهدى, ودين الحق, ليظهره على الدين كله, وكفى بالله شهيدا. وأنه أكمل له ولأمته الدين. كما قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)المائدة:3.
2) أن الله تعالى أمر الخلق أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعث به- صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى: (...وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر..) النساء:59 .
3) من المعلوم أنما يهدي الله به الضالين, ويرشد به الغاوين, ويتوب به على العاصين, لابد أن يكون فيما بعث الله به الرسول- صلى الله عليه وسلم- من الكتاب والسنة, وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول- صلى الله عليه وسلم- لا يكفي لكان دين الله ناقصا محتاجا تتمة.
4) العمل المشتمل على مصلحة ومفسدة, إن غلبت مصلحته على مفسدته فإنه يكون مشروعا, لأن الشارع حكيم عليم. وإن غلبت مفسدته على مصلحته أو تساوتا المصلحة والمفسدة لم يشرع. ومثل شيخ الإسلام بالخمر والميسر, فيهما منافع لكن لما غلبت المفسدة حرمهما الله تعالى .
5) ما يراه الناس من الأعمال مقربا إلى الله, ولم يشرعه الله ورسوله, فإنه لابد أن يكون ضرره أعظم من نفعه. وإلا فلو كان نفعه أعظم, وكان غالبا على ضرره لم يهمله الشارع.(/1)
6) لا يجوز أن يقال: إنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه- صلى الله عليه وسلم- ما يتوب به العصاة, فإنه قد علم بالاضطرار والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من هو شر من هؤلاء, بل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار, ومن تبعهم بإحسان- وهم خير أولياء الله المتقين, من أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- قد تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية, لا بالطرق البدعية.
فيتبين أن استعمال الوسائل المحرمة كالموسيقى وغيرها, في الدعوة إلى الله, أوفي تحبيب الخير إلي الناس أو تبغيض الشر إليهم , هو أمر لا يجوز لسببين :
الأول: لأن المعازف محرمة أصلا, سواء كانت الكلمات حسنة أو سيئة.
الثاني: أن استعمالها في الدعوة تقرب إلى الله بما لم يشرع. والله أعلم.
--------------------------------------------
[1] ففي قناة الجزيرة أجرى أحمد منصور في برنامجه الشهير(بلاحدود) لقاء مع سامي يوسف, واستعرض معه ألوان العزف على الآلات الفربية والشرقية. والله المستعان.
[2] وسائل الدعوة منها ما شهد له الشرع بالاعتبار, ومنها ما شهد له الشرع بالإلغاء, ومنها ما سكت عنه فهو محل اجتهاد ونظر وفق القواعد والضوابط الشرعية.
[3] ولمعرفة أدلة التحريم من الكتاب والسنة وأقوال العلماء أحيل القارئ الكريم على كتاب(تحريم آلات الطرب) للشيخ العلامة المحدث محمد ناصر الألباني- رحمه الله-.
[4] انظر جوابه في مجموع الفتاوى: (11/620- 635), وهو جواب جدير بالمطالعة والتأ مل, ولا يغني عنه التلخيص, لعظيم نفعه.(/2)
غنيمة الإياب د. مصعب الطيب*
يقول امرؤ القيس:
وقد نقبت في الآفاق حتّى*** رضيت من الغنيمة بالإياب
هذا المثل يعبر - بشكل مدهش - عن مدى عمق تقلباتنا السياسية، وعن (ربكة) التخطيط والتنفيذ لدينا.. كيف؟.
لقد ولّدت المصائب المتعاقبة، والسبل الوعرة المترافقة مع الرؤية الغائمة، والخطوات (المرتبكة) لمنظومة وعينا السياسي، ومجهوداتنا التفاعلية مع الأحداث والأزمات.. ولّدت سلوكا يائسا؛ يسعى لحشر الهزائم في قوائم النصر.. والمشاكل في كشوفات الحلول.. ومرابط الحركة والنشاط في عناصر الخمود.. والكبائر في الصغائر.. والحابل في النابل!.
كان الظن بأن (المشكلة) تتمحور حول نفسها.. حول ملابساتها وإفرازاتها.. لا حول سوء تصنيفنا لها، وخلخلة تعاطينا معها!!.. المصيبة ليست في (المشكلة) بقدر ما هي في (كيف سنتصرف معها؟)!!.. والإنسان قد لا يحاسب أبدا على حجم المحن والكوارث التي تصيبه، غير أنه يحاسب بدقة كاملة على كل صغيرة أو كبيرة كان قد فعلها في تعامله معها.
مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر؛ فقال لها: (اتقي الله واصبري) قالت: (إليك عني؛ فإنك لم تصب بمصيبتي) - ولم تعرفه - فقيل لها: (إنه النبي - صلى الله عليه وسلم -) فأتت باب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوابين؛ فقالت: (لم أعرفك)؛ فقال: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).. وقد قال بعض الحكماء: (العاقل يصنع في أول يوم من أيام المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام)!!.. والشاهد أن درجة الأجر والتقييم مرتبطة بموطن الزلل والانفلات.. مرتبطة بالفترة الحرجة التي تستلزم فعلا متزنا صائبا وقويا.. مرتبطة بالحكمة التي هي وضع الشيء المناسب في الوقت المناسب في المكان المناسب بالقدر الذي يناسب.
إذا كان الحساب على مستوى الفرد قائم بهذه الشدة فهو في شأن الحكومات من باب أولى وأنكى؛ ذلك لأنها تخضع – أو يفترض أن تخضع – في قراراتها لرأي المؤسسات الاستشارية، والبحثية، وبيوت الخبرة، والحلقات المطولة من الدراسات، والورش، و أعمال اللجان المختصة، وغيرها.
ليس حسنا أن نمجد غنيمة الإياب فيما لو لم نحرز أي نصر مرموق، أو نسجل أي موقف رصين.. وليس كريما أن نصفق لسهونا كيقظتنا، ولجهلنا كعلمنا، وللخطأ المبين كأنه الصواب الذي لا يدخله باطل!!.. الأمة لا تحتاج أبدا لمن يخدعها، ويدغدغ مشاعرها، ويلهب حماسها؛ بل هي تحتاج فقط لمن يقول لها الحقيقة.. كل الحقيقة.(/1)
غول التغريب كسر قيوده
الفضائيات والإنترنت تخلق هوية جديدة للشباب ...
وسائل الإعلام العربية تكرس القيم الغربية، ومسؤولوها لا يملكون رؤية ثقافية ...
البطالة وفشل الأجهزة الرسمية في استيعاب الشباب ساهمت في اندفاعه وراء التقليد الأعمى للغرب ...
الحل في تفعيل المؤسسات الرسمية، وتقديم الدين باعتباره خط الدفاع الأول ...
هل جاءت الفضائيات لنا لتكون نعمة أم نقمة؟
وماذا فعلت بنا شبكة الإنترنت؟ وماذا فعلنا بها؟
وما هو شكل المستقبل في زمن لم يعد يعرف حدودا بين ثقافة وثقافة وخلق وخلق ، بل ودين ودين؟
أسئلة حائرة كثيرة .. ما تزال تطرح نفسها علينا منذ سنوات دون إجابة، ولكن أعراض المرض ما تزال تصدمنا يمينا ويسارا، نلمحها في وجوه شباب لم نعد نقدر على تصنيفه، أهو منّا أم لا يعرفنا.. يحمل تراثنا أم لم يسمع عنه.
الشارع في أي من مجتمعاتنا الإسلامية أصبح لا يعرف الطريق الوسط، دائما هناك فريقان يمشي كل واحد منهما في ضفة من ضفتي الشارع.. فريق أغلق النوافذ والأبواب، عملاً بحكمة توصي بإغلاق كل باب يأتي منه الريح، وفريق آخر، ترك داره، وقرر أن يبيت في العراء نهبًا لعوامل التعرية التي تنحت دينه وخلقه وتراثه ولغته.. وثيابه.
المشاهد متكررة، ويمكن لأي واحد منا أن يمر بنفس التجربة إذا كلف نفسه عناء النزول إلى الشارع والسير على ضفتي الطريق ليرى شبابنا المنقسم على نفسه في موقفه من كل ما هو حديث ووافد في زمن صارت العولمة فيه مرادفة لكلمة التغريب، والثقافة العالمية لا تعبر إلا عن ثقافة الغرب وقيمه.
في جولتنا التي قمنا بها بين شباب مصريين مررنا بأحد المراكز التجارية بمدينة القاهرة .. سألنا إحدى الفتيات عن سر اختيارها لملابسها الغريبة المظهر، والتي يغلب عليها السواد، وشعرها الحليق بصورة هي أشبه بالرجال، مع مكياج صارخ ليس فيه شيء من الألوان المألوفة، مع حلق كبير وضعته في أنفها، فقالت: ما أفعله حرية شخصية، وهذا الحلق يضيف لي شكلا جديدا ومتميزا ولافتا للآخرين.
هل يضفي عليك شيئا من الأنوثة ؟؟ قالت: لم أفكر في ذلك، ولكنني رأيت هذا الزي في أحد أغاني الفيديو كليب الغربية فقررت تقليده.
اللافت للنظر أن نفس الحلق تقريبا، وأزياء لا تقل غرابة رأيناه في أنف شاب في نفس المركز التجاري، وعندما سألناه قال : إنه يشعر أن شكله أفضل مع هذا الحلق الذي يعتبره علامة على الرجولة !!
شاب آخر رأيناه يغطي شعره بطبقة كثيفة من "الجيل"، ويقول عن ذلك : إنه جرب أكثر من تسريحة حتى استقر على تسريحة بطل فيلم "تيتانيك" ليوناردو دي كابريو، وكان لهذه التسريحة دور كبير في جذب الفتيات إليه.
وفي المقابل فإن شابا آخر أقر لنا بأن ميوله صرفته عن ليوناردو دي كابريو ليقلد بدلا منه لاعب كرة القدم البرازيلي رونالدو الذي يحلق شعر رأسه كله، مؤكدا أن هذه "الصلعة" ساهمت هي الأخرى في جذب الفتيات إليه.
فتاة أخرى تقول : إنها تقاطع الراديو لأنه لا يقدم لها إلا الأغاني المملة، وهي تعشق الضجيج والحركة والموسيقى الصاخبة، وخصوصا موسيقى الجاز الأمريكية، وتقول : إنها تحب الأشياء المجنونة وغير التقليدية.
أما وليد مرسي فلا يحب الأفلام العربية، ولكنه يعشق أفلام "الأكشن" الأمريكية المليئة بالمغامرات فهو يستمتع بها جدا، وخصوصا أفلام جيمس بوند ويريد أن يزور أمريكا أو يعيش فيها.
أحد الشباب قال لنا : إنه يجيد أكثر من لغة أجنبية، وساهم عمله في السياحة بالاحتكاك على وجه الخصوص بالسائحين الألمان، وتعرف عن قرب على ثقافتهم وأعجب بها، ولهذا السبب فطالما أراد السفر إلى ألمانيا والعيش هناك بأية وسيلة، ولكن محاولاته المتكررة للسفر تحت غطاء الدراسة باءت بالفشل بعد أن وقفت الأموال حجرة عثرة في طريقه، وكما يقول هذا الشاب: أصبحت أعيش في غربة حقيقة، فأنا أعشق مجتمعا لا أقدر على العيش فيه ولا أنتمي إليه، وأعيش في مجتمع لا أحبه ولا أقدر على الانتماء إليه.
هذه بالطبع ليست كل أشكال التغريب التي يتعرض لها شبابنا من حيث التقليد الأعمى في الملبس وطريقة الكلام وأنماط التفكير الغريبة والتي وفدت إلينا عبر وسائل الإعلام المختلفة، لكن يبقى منها اقتناع الشباب بوجهات نظر غربية في قضايا متعددة مثل مفاهيم الحرية، ودور الأسرة في التوجيه، والدين وأحكامه، ومفاهيم من نوع السلام مع الكيان الصهيوني فضلا عن معرفته بأعدائه.
ولنعبر الآن إلى الجهة الأخرى من الشارع.. هنا فئة من الشباب أغلقوا كل الأبواب في وجه الاحتكاك بالغرب .. النوايا حسنة والارتباط بالثقافة والتراث قوي، ولكن هل يمكن أن يعيشوا في كهف يحميهم عن عيون العالم، ودون احتكاك به.
في المقابل على النقيض من الطرف الأول هناك شباب يفهمون التدين والالتزام على أنه فقط تقصير الثوب وتطويل اللحية والانعزال عن العالم ومقاطعة كل مفرزات الحضارة الحديثة وتقنياتها لأنها من الغرب ... ولا يرون في الغرب إلا الوجه الشيطاني .(/1)
..هذان نموذجان يعيشان في مجتمعنا، ولكن فلنسأل أنفسنا ومتخصصينا الآن عن مساحات الصواب والخطأ في علاقتنا بالغرب، والوصفة التي تمكن شبابنا الواقف في مفترق الطريق بين التمسك بالتقاليد والعادات وبين الغزو الثقافي الغربي.
أزمة الهوية
يقول الدكتور السيد عليوة - أستاذ العلوم السياسية بجامعة حلوان - إن الشباب يعاني من أزمة الهوية والتي لها أسباب منها : سرعة التغيير حيث يتغير العالم بصفة عامة بسرعة كبيرة في كل مناحي الحياة، ومن ثم فإن الشباب مصاب ببلبلة وتشتت وعدم قدرة على التكيف مع هذه المتغيرات تكنولوجياً واقتصادياً واجتماعياً.
ومن أسباب أزمة الهوية أيضًا التشتت النفسي بين الهوية والخصوصية وبين الحضارات الغربية وقيمها ورموزها وطريقة حياة الشعوب فيها، وأدى ذلك إلى تنازع في الهويات في ظل الهوية العالمية التي تموج بها المؤثرات الخارجية عبر وسائل الإعلام المختلفة.
ويؤكد د. عليوة على ضرورة اضطلاع المؤسسات داخل الدولة والتي تتمثل في وزارات الشباب وأجهزة الرياضة ووزارات التربية والتعليم وجميع المؤسسات العاملة في مجال الشباب بالإضافة إلى الأحزاب السياسية والجمعيات الخيرية بالدور المنوط بها لغربلة القيم الثقافية الوافدة، ونبذ الضار منها وتصحيح المفاهيم الخاطئة للشباب، بل وتحصينهم ضد الضار منها ووضع الحقائق جميعها أمامهم دون تزييف أو خلط حتى تكتسب هذه المؤسسات ثقة هؤلاء الشباب فيها.
ويتطلب هذا من الدولة إعداد قواعد بيانات حقيقية عن الشباب وقطاعاتهم المختلفة ومستوياتهم التعليمية وتوزيعهم إلى فئات عمرية وتوزيعهم جغرافيا بين الريف والحضر ، وكذلك دعم المنظمات العاملة في مجال خدمة الشباب مثل الأندية الرياضية والجامعات والمؤسسات الثقافية والإعلامية، ولا بد من قياس مدى نجاح هذه المؤسسات، ولا سيما إذا تم السماح لها بالعمل بصورة ديمقراطية في تكوينها وتنظيمها ونشاطها.
العودة للأصول
ويضيف د. شعيب الغباشي مدرس الإعلام بجامعة الأزهر قائلا : إن السبب الرئيسي في انحراف الشباب وتأثرهم بالوافد يرجع إلى غياب التربية الإسلامية والدور التربوي للمدرسة والجامعة ، وفقد وسائل الإعلام لدورها وعدم قيامها بالدور المطلوب فيها من حيث التوجيه والتوعية لهؤلاء الشباب.
وإذا وقفنا أمام وسائل مثل التلفزيون والإذاعة والصحافة نجدها هي التي كرست لهذا الغزو الثقافي المجنون، وهي التي دعت إليه ونادت به عن طريق دعواتها إلى الأفكار الغربية وتبنيها للفلسفات الأوربية بدافع التقدم ومواكبة الحضارة، وسبب ذلك يرجع إلى أن وسائل الإعلام هذه يقوم عليها مسؤولون متغربون، ورصيدهم من الثقافة العربية والإسلامية فقير أو معدوم فعلا، ولذلك فهم يرددون الأفكار الغربية ويدعون إليها حتى لو كانت تحمل جراثيم فتاكة لمجتمعنا الشرقي المسلم.
ويقول: نستطيع أن نقول : إن الأزهر - كمؤسسة دينية ذات ثقل - كان له دور رائد في التوجيه ، لكن خريج الأزهر صار من الضعف المعرفي والثقافي ما يجعله لا يستطيع الإقناع والتوجيه، وانعكس ذلك على جمهور المسلمين الذين يتلقون معلوماتهم وثقافتهم عن هؤلاء الخريجين الذين فقدوا القدرة على النصح ونبذ الثقافات المخربة والمدمرة.
والعلاج - كما يرى الدكتور شعيب الغباشي - يتمثل في العودة الفورية والحاسمة للدين واستلهام عاداتنا وتقاليدنا منه حتى يصلح الميزان ونخرج من هذه التبعية الاجتماعية والروحية بوعي وفهم، وخاصة أن ديننا الحنيف يدعو إلى التقدم والتحضر وليس دين تخلف ورجعية كما يروج له البعض.
آفة التقليد
أما د. إلهام فراج المدرس المساعد بقسم الاجتماع بكلية الآداب بجامعة القاهرة فترى أن الغزو الثقافي الآن لا يأتي من دولة واحدة، بل يأتي من عدة دول وعدة ثقافات بعكس ما كان سائدا من خلال الثقافة الشيوعية والرأسمالية، حيث كنا نقول هذا شاب شيوعي أو رأسمالي، فالآن أصبحنا لا نستطيع أن نصنف ثقافة الشباب.
والعالم الآن لا يغزونا إلا بالسلبيات من خلال الأفلام والمسلسلات، وهو إعلام موجه وراءه جهاز إعلامي كبير على مستوى عالمي، والشباب الذي لا يقف ليفكر فيما يشاهده يندفع بصورة عشوائية للتقليد لتصبح الأمور أكثر خطورة، لدرجة أنني رأيت للأسف شابا يلبس "إيشارباً" لأنه رأى شابا أجنبيا يلبس هذا الزي، ولا يعرف هذا الشاب أن الأجانب الذين يقلدهم هم مدمنون لنوع خاص من المخدرات تأتي على شكل طوابع كطوابع البريد تلصق على الجبهة، ودور الإيشارب هنا هو إخفاء هذا الطابع المخدر.
والحل ببساطة من وجهة نظرها تقوم به الدول من خلال عمليات إصلاح شاملة للمؤسسات التي يتعرض لها الشباب مثل النوادي الرياضية والإعلام المرئي والمقروء ونشر الأفكار الصحيحة من خلال الاستعانة بخبرات المتخصصين في ذلك.(/2)
ومن الحلول الضرورية أيضا لهذه المشكلة القضاء على البطالة التي تستنفذ قدرات الشباب وتجعلهم فريسة لهذا التقليد الأعمى من خلال تضييع أوقاتهم أمام الفضائيات الأجنبية وأمام شاشات الكمبيوتر عبر شبكة الإنترنت.
كما يبقى عامل الدين والتدين أمرا غاية في الخطورة والأهمية لأنه يمثل خط الدفاع الأول في عملية إصلاح الشباب.
عولمة السيطرة
أما الدكتور جمال النجار أستاذ ورئيس قسم الصحافة والإعلام بكلية الدراسات الإسلامية للبنات بجامعة الأزهر فيقول : إنه أعد بحثا حديثا بعنوان "تكنولوجيا الاتصال والغزو الثقافي" الذي يسعى لسلب الآخرين إرادتهم وطمس هويتهم وإيجاد نوع من السيادة الفكرية لحضارة معينة على مختلف الحضارات والثقافات، ويضيف أن الثقافة الأمريكية هي المرشحة للفوز في حلبة هذا الصراع الفكري نتيجة للسبق الإعلامي الفضائي وتفوقها في مجال التكنولوجيا مما يؤدي إلى تحول مباشر من قبل الشباب إلى القيم الأمريكية.
ويشير د. النجار إلى خطورة البرامج والمسلسلات الأمريكية التي تعرضها التلفزيونات العربية مثل : " دلاس- فالكون كريست- الجريء والجميلات .. الخ " والتي تسعى إلى ترويج قيم ومعايير اجتماعية وأنماط حياتية ومفاهيم ثقافية وسلوكية تخدم وجود ونفوذ الدول الاستعمارية حيث يتم مسخ الثقافات الوطنية وازدراؤها وتشويهها.
ويؤكد د. النجار على ضرورة إعداد كوادر إعلامية قادرة على صنع رسائل إعلامية قوية تسحب البساط من تحت أقدام وسائل الإعلام الأجنبية، وحتى تستطيع جذب شبابنا إليها وغرس القيم والمبادئ الصالحة في نفوسهم وتربيتهم عليها، كما يجب أن تتبنى أجهزتنا الإعلامية قضية الأمن الثقافي التي تحافظ على هويتنا الثقافية وعاداتنا وتقاليدنا الأصيلة(/3)
غياب البديل
أ. د. عماد الدين خليل 16/4/1427
14/05/2006
- 1 -
قد يكسب مذهب ما قوته وقدرته على الانتشار والكسب، لا من مزايا خاصة يتصف بها، ولا من معطيات مكتملة تمتلك القدرة على الإقناع باعتبارها حقائق مطلقة .. ولكن من تفرّده في الساحة وانعدام البديل او غيابه، وربما من كون هذا البديل يتميز بقدر كبير من الضعف والتهافت والارتطام بقناعات الإنسان في مرحلة ما من مراحل التاريخ.
هذا هو واحد من الأسباب التي مكنت للماركسية في أوروبا، وجعلتها فترة من الزمن-امتدت بخاصة فيما بين عشرينيات وثلاثينيات هذا القرن- بمثابة العقيدة المتفردة في الساحة الاوربية، ونقطة الجذب ذات البريق المثير، والكعبة التي كان معظم المثقفين: مفكرين وفنانين وأدباء، يجدون أنفسهم مسوقين للحج إليها!
- 2 -
لم يكن هناك بديل يوازيها في القوة، والجذب، والقدرة على الإقناع ، كان يسود أوروبا - ولا يزال - فراغ مخيف، دفع بحشود من الباحثين إلى ما يمكن تسميته بمحاولة الامتلاء أو التوازن النفسي من خلال الانتماء .. يهرعون لربط مصائرهم بالماركسية نظرية وتطبيقاً ..
المسيحية؟ أبداً ما كانت بقادرة على أن تملأ ولو جانباً ضيقاً من الحيز الكبير الذي غطّى على أوروبا من أقصاها إلى أقصاها ..
الديموقراطية؟! كانت هذه رداء فضفاضاً يتسع لكل شيء، ولكنها لا تملك أي
تميز، وما كانت خطوطها المتميعة الباهتة لترسم للعقل البشري معماراً صارماً ذا أبعاد
مرئية، بعشر معشار ما تفعله الماركسية.
الاشتراكيات الوطنية؟ نعم، لقد كانت تملك قدرتها على الجذب من خلال نزعتها القومية الأصيلة المتطرفة ذات البريق، لكنها كانت قد حكمت على نفسها بالاعتقال في الحيز المكاني والبشري الضيق بسبب من عرقيتها وعدوانيتها..
المذاهب والفلسفات الأخرى؟ ما كانت تعدو أن تكون ترفاً فكرياً لا يمسّ أشواق الإنسان ولا يلبي حاجاته التاريخية..
الماركسية وحدها في الميدان، وليس ثمة سوى بدائل ما كانت بقامتها، ولا قدرت على أن تسامتها تساميها في القدرة على الجذب والتأثير ..
فها هنا العالمية، والإنسان، والمظلومون، وقوانين التاريخ التقدمية كما كانت
تدّعي .. وهناك العرقية والاستغلال والبورجوازية والرجعية..
إلى آخره مما كانت تُتّهم به بإلحاح عجيب من المراكز الماركسية نفسها ..
- 3 -
هكذا كان المثقف الأوروبي يجد نفسه منجذباً، بهذا الدافع أو ذاك للانتماء إلى هذه العقيدة ذات السحر العجيب ..
بل لقد حدث يومها - في العشرينيات والثلاثينيات - ما هو أكثر من هذا: اتهام المثقف الغربي الذي لا يُهرع للانتماء إلى الماركسية، بالتخلف والرجعية والجمود .. بتحوّله إلى أداة تستخدمها الطبقات المستغلة ضد الكادحين والإنسان وقوانين التاريخ ..
كان مجرد هذه التهمة التي يتصادى يتصادم معها إحساس معذب لدى أولئك الذين لا يقدرون على تحمل عبئها المبهظ، يسوق هؤلاء إلى ما يعتبرونه توحداً وخلاصاً .. دفاعاً عن الاسم والكرامة .. اختيار الموقع الأكثر علمية وأخلاقية، وانسجاماً مع مواقعهم المتقدمة كأدباء وفنانين ومفكرين ..
حتى إذا ما بلغ أحدهم أعماق التجربة، وخبر بنفسه تناقضاتها ومظالمها، وكذب ادّعاءاتها وأخطاءَها العلمية والأخلاقية .. رآها وسمعها ولمسها .. وأدرك في نهاية الأمر أنها لا تنسجم بحال من الأحوال مع وضعه كمفكر أو أديب أو قناعته كإنسان حسّاس، مثقف، مسؤول..
لم يجد الطريق مفتوحاً بسهولة للتراجع عن انتمائه، لم يجده مفتوحاً إنْ على مستوى الفكر أو الإحساس، أو على مستوى الواقع والممارسة ..
يرجع إلى أين؟ وليس ثمة بديل على الإطلاق يمنحه التوازن والامتلاء اللذين تحقق بهما هناك؟
إن الإحساس الذي كان ينتابه في لحظة التفكير بالخروج شبيه إلى حد ما بذلك الذي يأخذ بخناق من يهوي من الوجود إلى العدم .. من يُنفى من العالم إلى الفراغ والضياع .. من يُطرد من الفردوس المشتهى ..
- 4 -
وارثر كوستلر، أحد الذين ذاقوا التجربة وذاقوا معها مرارات الأخطاء والمظالم والتناقضات، يحدثنا عن هذا الإحساس فيقول: " .. لم يعد من الممكن لشيء أن يقلق أمننا وسلامنا الداخلي إلاّ الخوف من أن نفقد هذه العقيدة، فنفقد معها كل ما يجعل للحياة قيمة، ونعود إلى الظلام الدامس من جديد حيث لا نرى إلاّ العويل والزئير. ولعل في هذا تفسيراً لموقف الشيوعيين الذين لا يزالون يجدون الإيمان في قلوبهم على الرغم من أن لهم عيوناً ترى وعقولاً تفكر". ويقول في مكان آخر من مذكراته: " إن عليك أن تقوم بدورك في اللعب، تؤكد وتنكر، وتفضح وتتراجع، وتأكل ما تقول وتلعق ما تقيء، كان هذا الثمن الذي يلزم أن تدفعه كي يُسمح لك بأن تشعر أنك ما زلت ذا فائدة، وبهذا تبقي على احترامك لنفسك عن هذا الطريق المنكوس" (1).(/1)
وهو يسمي نقاط الجذب الخادعة في العقيدة الماركسية بالخمور الفكرية، ويعتبر الوقوع في إسارها مرضاً وإدماناً وجبناً عقلياً "لقد كان تمسكي بآخر خيط من هذا الوهم البالي - يقول الرجل - نموذجاً للجبن العقلي الذي لا يزال مسيطراً على اليساريين. إن الإدمان والانعكاف على الأسطورة السوفييتية مرض متشبت وعصيّ على العلاج كأي إدمان آخر، ولا يكاد الإنسان يهبط من الفردوس حتى يعاوده الإغراء بأن يتذوق منها ولو نقطة واحدة، ولو كانت مغشوشة بالماء وتُباع تحت اسم آخر. ولن يعدم الإنسان أن يجد في سوق (الشيوعية الدولية) السوداء عدداً من الأسماء والعناوين الجديدة للمبادئ القديمة. إن هذه الشيوعية تتاجر في العناوين والشعارات كما يتاجر مروجو الخمور الممنوعة في أنواعها الزائفة المقلدة، وكلما كان العميل أقرب إلى السذاجة، سهل عليه أن يصبح ضحية لأنواع الخمور الفكرية التي تُباع تحت عناوين (السلام) و (الديموقراطية) و (التقدم) وما شئت من هذه التسميات" (2).
- 5 -
ويستنتج كوستلر "بأن الأقلية الضئيلة فقط في كل عصر وفي كل عقيدة هي التي تستطيع أن تعرض نفسها للطرد والحرمان، وتقضي على عواطفها في سبيل الحقيقة المجردة"(3).
وقد كان كوستلر نفسه واحداً من هذه الأقلية، أما الأكثرية الساحقة فقد استمرت تمارس جبنها العقلي وإدمانها.
ذلك أنه ليس ثمة بديل قد يمنح الخارجين القناعات الكافية لتسويغ وجود أي منهم كمثقف وكإنسان ..
ومع ذلك فإن محاولات الخروج قد ازدادت طرداً مع الأيام ليس بسبب من توافر البديل، ولكن لتزايد التناقضات التي شهدتها التجرب،ة والتي لم تعد تغري بالبقاء، حتى بالنسبة لأولئك الجبناء، أو المدمنين!
ثمة حالات قليلة واستثنائية كان المثقف الغربي يحظى فيها بالبديل المرتجى الذي يمنحه القناعة والمسوّغ والتوازن بأكثر مما فعلته الماركسية.
بعض هؤلاء التقوا به عبر سنيّ البحث فعانقوه قبل أن يقعوا في مصيدة الإغواء الماركسي، وبعضهم تمرّد على الإغواء، وهرعوا لكي يجدوا مصيرهم هناك.
إن ليوبولد فايس يقدم لنا نموذجاً للحالة الأولى، وروجيه غارودي للحالة الثانية. وكلاهما يملك عقلاً كبيراً ويمثل باتساع ثقافته وتنوع خبرته حصيلة الثقافة الغربية العميقة وغنى خبراتها .. ومعنى ذلك أن هذه الثقافة لم تجد في مكوناتها الخاصة بها، على ازدحامها وكثافتها، ما يمنح بعض العقول الكبيرة القناعة والتوازن واليقين .. بالعكس، فإن هذا الغنى الثقافي ليكشف أكثر فأكثر ضرورة أن تكون هناك قاعدة أساسية تنبثق عنها هذه الثقافة.. عقيدة شاملة بعبارة أخرى .. فالثقافة وحدها لا تكفي، وهي تميل إذا لم تستند إلى أرضية عقيدية أو رؤية شمولية مقنعة لأن تتبعثر وتتشتت وتجرّ معها الإنسان إلى التبعثر والتشتت.
- 6 -
ومن خلال هذه المعاناة برزت على الساحة الغربية ظاهرة (اللاانتماء) التي حدّثنا عنها الناقد البريطاني كولن ولسون في كتابيه المعروفين (اللامنتمي) و (سقوط الحضارة) فاأطال الحديث. إن كبار المفكرين والفنانين والأدباء والفلاسفة، هناك لم يقدروا على التحقق الذاتي في إطار ثقافتهم تلك، بل لم يجدوا أوليات التوازن واليقين في خضم هذه الثقافة المتلاطم، الكالح، العميق.
وكانت مأساتهم تكمن في أنهم كانوا يعون هذا الانفصال المحزن بين الإنسان، فرداً ومجتمعاً، وبين ثقافته .. وإذا اندفعت قيادات هذه الثقافة وقواعدها نحو نوع من الاندماج أو النسيان - ربما - بسبب من تضاؤل وعيها بانعدام التوازن أو التلاؤم بين الإنسان الغربي وبين أرضيته الثقافية، نجد بالمقابل ذلك التيار المضادّ .. حشد من المثقفين الكبار يتمردون على ثقافة بلغت بهم شوطاً من الطريق، وهم يريدون أن يواصلوا الرحلة صوب المصير فلا تقدر معطياتهم الثقافية على إعطائهم المزيد.. لقد امتلكوا العالم كما يقول كولن ولسون.. ثم ماذا بعد؟
- 7 -
إن الإنسان بطبيعة تركيبه ذي النزوع إلى الماورائيات يريد أن يتجاوز العالم إلى الكون .. جدران المادية إلى الروح .. الطبيعة إلى ما وراءها .. السلطة إلى الحرية .. إنه يريد أن يكسر الأسوار وينطلق بحثاً عن الإله المفقود!
بعبارة أخرى إنهم يريدون العقيدة التي تلبي نزوعهم الكبير، وإن المرء ليلمس بوضوح هذا التوجه صوب العقيدة ليس فقط في كتب (ولسون)، ولكن في معظم المؤلفات التي أبحر أصحابها في الطريق ذاته، وحاولوا أن يعالجوا أزمة الوجود الثقافي الغربي على ضوء المصير المقفل، والدرب المسدود!
- 8 -
ومرة أخرى فإننا على ضوء هذه الأزمة التي تعانيها الثقافة الغربية نستطيع أن ندرك لماذا توجّه حشد من المثقفين عبر الربع الثاني من هذا القرن صوب الماركسية، إنه لم يكن توجهاً حراً بمعنى الكلمة، ولكنه ارتماء المرهقين الباحثين عن الخلاص بأي طريقة، ومن خلال أي برنامج يمتلك رؤية عقديّة شاملة، حتى ولو كان الذي يصوغها هو الشيطان.(/2)
لكن المشكلة التي سرعان ما تبدت لهؤلاء الذين ارتموا في أحضان الماركسية أنها هي الأخرى تمتح من البئر نفسه الذي يشكل ماؤه نسيج الثقافة الغربية وينفخ في عروقها.
الفلسفة المادية التي ترفض الغيب والروح، وتتنكر للسماء، وتقطع الطريق إلى الجنة، وتحارب وجود الله ..
إنها هي الأخرى تحجم الإنسان، وتحصره في النطاق الضيق، وتغلق الأبواب عليه لكي لا ينطلق صوب الآفاق الرحبة التي تتجاوز حدود المنظور والملموس، وتتأبى على نداءات الجنس وصرخات الأمعاء ..
وإذا كان ثمة فرق فإنه في امتلاكها الرؤية الشمولية، العقيدة أو الفلسفة التي استهوت أولئك المثقفين، لكن الجوهر هو الجوهر والنسيج هو النسيج ..
- 9 -
فما ثمة من الارتداد كرة أخرى، بحثاً عن حل أكثر قبولاً وأقدر على تلبية طموح الإنسان بما أنه إنسان لا حيوان اجتماعي، ولا مجرد أداة ميكانيكية أو رقم مضاف إلى الشمال أو اليمين.
حل يمكّن المثقف الغربي من التحقّق الذاتي المفقود، وإذا كانت الأكثرية القلقة لم تقدر لأسباب شتى، ليس هذا مجال تحليلها أو حتى الإشارة إليها، على أن تجد طريقها صوب الهدف، فإن في إسلام ليوبولد فايس وغارودي إشارة مؤكدة على أن هناك من يقدر على الوصول، وعلى أن رحلة البحث عن المصير المتفرد الموازي لحجم الإنسان، ستؤتي ثمارها بإذن الله ..
ومعنى ذلك أن المستقبل كفيل بتقديم المزيد من هذه الحالات، ومعنى ذلك أيضاً أن الدين الإسلامي المتفرد قد يفرض وجوده في الساحة الأوروبية في يوم ما، فلا تستأثر المادية بالساحة، ولا تسوق خمورها الفكرية العقل الغربي إلى الجبن والإدمان!
________________________________________
(1) الصنم الذي هوى، ترجمة فؤاد حمودة ، الصفحات : 29 ، 80 ـ 81 ، 91.
(2) المرجع والصفحات نفسها.
(3)المرجع والصفحات نفسها.(/3)
غياب مصر عن الأحداث! !
الشيخ د.محمد بن موسى الشريف
أين أنت يا مصر؟!
المتأمل لما يجري في الأمة من أحداث عظام كثيرة لا يمكن إلا أن يعجب لانعزال مصر عنها ، وهي القوة العربية الكبرى والوالدة الرؤوم، فمن الفلبين إلى فطاني في تايلاند، إلى كشمير، إلى الشيشان.. ومصر ليس لها صوت فيما يجري في تلك البلدان من أحداث، وإذا أتينا على قضايا البلاد العربية المجاورة لمصر وجدنا الحال أعجب وأغرب، ففلسطين تغلي، ولبنان تضرب ليل نهار، ودارفور محاصرة، والعراق يئن، هذا كله ومصر ساكتة على وجه غريب مريب، وإن نطقت فبالأمر بضبط النفس, ومناشدة الأطراف المختلفة؟!
هذا ومع عدائنا الكامل لنظام عبدالناصر لمخالفته التامة للتوجه الإسلامي إلا أنه لم يكن بهذا السوء والصمت المطبق كما نرى اليوم، فقد منع عبد الناصر على سوئه عبد الكريم قاسم رئيس العراق في السبعينات الهجرية /الخمسينات الميلادية من غزو الكويت، وكان له - على مساوئه التي لا تعد كثرة ولا تحصى - هيبة وكلمة رادعة، وكان له معاونة لحركات الاستقلال في الجزائر وغيرها، أما الآن فيشتد عجبنا من السكوت المصري العجيب، فقد أفلحت أمريكا وربيبها النظام اليهودي البغيض في
مصر سنة 1399هـ / 1979م .
مصر ليس لها موقف مؤثر إيجابي فيما يجري من أحداث عظام ، وهذا من كبرى الدول العربية أمر معيب، لم تكن مصر على مدار تاريخها هكذا بل كان لها مواقف مشرقة، فقد أمدت أهل الجزيرة بطعام عام الرمادة زمان الفاروق عمر رضي الله عنه، ومنها انطلقت الفتوحات الإسلامية لشمال أفريقية، وكان لها أثر بالغ في رد الحملات الصليبية , وأسر لويس التاسع إمبراطور فرنسا، وكان لها اليد البيضاء في قمع التتار وهزيمتهم في عين جالوت في فلسطين سنة 658م ، وطهر المماليك من مصر الساحل الشامي من الصليبيين بإخراجهم من عكا آخر معاقلهم سنة 690 على يد الأشرف خليل، وشاركت مصر في معارك الدولة العثمانية وأنجدتها مراراً وما أحداث جزيرة كريت عنا ببعيد، وكان لمصر مشاركات متنوعة عديدة في فلسطين في العصر الحديث ، وكان لها أثر لا بأس به.
أما اليوم فلم نعد نسمع لمصر إلا مناشدات ونداءات لا تسمن ولا تغني من جوع، وتُضرب أخواتها وهي تنظر!! أما الشعب في مصر فهو متعاطف مع ما يجري، فكم من مظاهرات قام بها وقُمعت!! وكم من اعتصامات وفُرقت!! وكم من محاولات عبر الحدود وأجهضت!! وكم من مقاطعات وحُوربت!! وكم من خطباء مُنعوا، ودعاة سُجنوا، وجامعي تبرعات ضُيق عليهم، والإعلام المصري بقنواته الرسمية وجرائده الحكومية، وإذاعاته المكرورة، وخطاباته المسرودة بعيد كل البعد عن ملامسة مصائب الشعوب العربية, ومآسي الدول الإسلامية .
وليت الأمر وقف عند هذا الحد بل صار الإعلام المصري الرسمي مادة للفساد، وصار يتنافس مع الإعلام اللبناني سيء الذكر في إضلال الشعوب وإفسادها وإلهائها عن واجبها .
وصار الشعار المرفوع مصر للمصريين هو الأمر المتعارف عليه ، وهو الذي يجري غرسه في أذهان المصريين وقلوبهم ، وكلما ذُكرت مصر بواجبها صاح المسؤولون : لقد فعلنا في فلسطين ما فعلنا ، وشاركنا هنا وشاركنا هناك ، ويكفي ما قدمناه .
فيا عجباً وهل للمكارم نهاية؟! وهل للواجبات حد زمني تقف عنده؟! يحصل هذا الذي يحصل في مصر وهي التي كانت بعد الله تعالى معقد آمال الأمة، وموضع نظرها، ومحل مشكلاتها، فصارت مهمشة لا قيمة لها، وهذا العدو اليهودي يسرح ويمرح في مقدسات الأمة، ويضرب من شاء، ويقتل من شاء، ويعتدي على أية دولة شاء، ولا نسمع من مصر كلمة تهديد له، ولا ردع، بل إن بعض مواقف الدول الأوربية وتصريحاتها أحسن من مواقف مصر وتصريحاتها!!
وكلامي هذا موجه لمصر حكومة ورئيساً, ولكثير من أفراد الشعب النائم اللاهي، وهناك فئة من الشعب اختارت ألا تعيش لنفسها ولشهواتها فقط، واختارت الطريق الصعبة الخطرة، طريقَ مساندة الشعوب الإسلامية ومؤازرتها، ونصرة قضاياها إعلامياً وسياسياً واقتصادياً وبشتى أنواع النصرة، ولو فتحت لهم الحدود لشاركوا بالنفس ولنصروا إخوانهم .
وهي قوى شعبة متعددة منها حركة كفاية, وشخصيات مستقلة, وحزبية شجاعة مخلصة، وعلى رأس كل هؤلاء حركة الإخوان المسلمين التي يقودها اليوم بكفاءة وحيوية ظاهرة مرشدها الشجاع الشهم الأستاذ مهدي عاكف صاحب المروءة الظاهرة, والتصريحات الباهرة، وأرجو أن يتحقق على يديه وأيدي إخوانه من مصر ما نرجو لمصر من مكانة ومشاركه فاعلة مؤثرة .(/1)
وأخاطب في النهاية حكومة مصر ورئيسها, وقيادات الجيش المصري , وكل القوى المؤثرة أن تتقي الله في قضايا الأمة المصيرية، وأن يفعلوا كل ما في وسعهم فعله قبل الوقوف بين يدي الله والحساب العسير على التفريط الخطير، وأن يكونوا على مستوى تطلعات شعوبهم وآمالها ورغباتها؛ فإن لم يفعلوا فلا أقل من أن يدعوا الشعب يفعل، ولا يحاربوه ليل نهار، ولا يقفوا في وجهه، فهذا أدنى ما ينبغي أن يفعلوه، وأقل ما يجب أن يقدموه ، والله المستعان، واسلمي يا مصر .(/2)
ـ حمزة الكوفي (1)
الشيخ/ عبد الفتاح القاضي
* هو : حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الكوفي التيمى ، وكنيته أبو عمارة ، وهو الإمام الحبر شيخ القراء ، وأحد الأئمة السبعة ، ويعرف بالزيات لأنه كان يجلب الزيت من العرف إلى حلوان [ بلد بالعراق] ، ويجلب الجبن والجوز منها إلى الكوفة.
* ولد سنة ثمانين وأدرك الصحابة بالسن ، فيحتمل أن يكون رآى بعضهم فيكون من التابعين.
* وقرأ على أبي محمد سليمان بن مهران الأعمش وعلى أبي حمزة حمران بن أعين وعلى أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي ، وعلى محمد بن أبي ليلى وعلى طلحة بن مصرف ، وعلى أبي عبد الله جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زيد العابدين على بن الحسين بن على بن أبي طالب.
وقرأ الأعمش وطلحة على يحيى بن وثاب الأسدي.
وقرأ يحيى بن أبي أشبل على علقمة بن قيس وعلى ابن أبي أخيه الأسود بن يزيد بن قيس، وعلى زر بن حبيش، وعلى زيد بن وهب، وعلى عبيدة بن عمرو السلماني، وعلى مسروق بن الأجدع.
وقرأ حمران على أبي الأسود وعلى محمد الباقر ، وعلى عبيد بن فضيلة.
وقرأ عبيد على علقمة، وقرأ أبو إسحاق على أبي عبد الرحمن السلمي وعلى زر بن حبيش ، وعلى عاصم بن حمزة، وعلى الحارث بن عبد الله الهمداني.
وقرأ عاصم والحارث على علىّ.
وقرأ بن أبي ليلى على المنهال بن عمرو وغيره.
وقرأ المنهال على سعيد بن جبير ، وقرأ علقمة والأسود وابن وهب ومسروق وعاصم بن حمزة والحارث أيضاً على عبد الله بن مسعود وقرأ جعفر الصادق على أبيه محمد الباقر وقرأ الباقر على أبيه زين العابدين وقرأ زين العابدين على سيد شباب أهل الجنة الحسين وقرأ الحسين على أبيه على بن أبي طالب وقرأ على وابن مسعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال المحقق في الطبقات : كان الأعمش يجود حرف بن مسعود ، وكان ابن أبي ليلى يجود حرف على ، وكان أبو إسحاق يقرأ من هذا الحرف ومن هذا الحرف.
وكان حمران يقرأ قراءة ابن مسعود ولا يخالف مصحف عثمان يعتبر حروف عبد الله ولا يخرج من موافقة مصحف عثمان ، وهذا كان اختيار حمزة.
كان حمزة إمام الناس في القراءة بالكوفة بعد عاصم الأعمش ، وكان ثقة حجة قيماً بكتاب الله تعالى بصيراً بالفرائض ، عارفاً بالعربية حافظاً للحديث.
قال له ابو حنيفة يوماً: شيئان غلبتنا فيهما ، لا ننازعك في واحد منهما القرآن والفرائض ، وقال سفيان الثوري : ما قرأ حمزة حرفاً من كتاب الله إلا بأثر.
وكان شيخه الأعمش إذا رآه مقبلاً يقول: هذا حبر القرآن ، ورآه يوماً مقبلا فقال : وبشر المحسنين وكان خاشعاً متضرعاً ، مثلاً يحتذى في الصدق والورع ، والعبادة والتنسك والزهد في الدنيا ، ولا يأخذ على تعليم القرآن أجراً ، جاءه رجل قرأ عليه من مشاهير الكوفة فأعطاه جملة دراهم فردها إليه وقال له : أنا لا آخذ أجراً على القرآن ، أرجو بذلك الفردوس ، قال يحيى بن معين سمعت محمد بن فضيل يقول : ما أحسب أن الله تعالى يدفع البلاء عن أهل الكوفة إلا بحمزة.
وقال جرير بن عبد الحميد مرّبي حمزة الزيات في يوم شديد الحر فعرضت عليه الماء ليشرب فأبي لأني كنت أقرأ عليه القرآن.
* وروى عن حمزة أنه كان يقول لمن يبالغ في المد وتحقيق الهمز لا تفعل ، أما علمت أن ما كان فوق البياض فهو برص وما كان فوق الجُعُودَة فهو قطط (2) ، وما كان فوق القراءة فليس بقراءة.
* وروى عنه القراءة أناس لا يحصيهم العد ، منهم إبراهيم بن أدهم والحسين بن على الجعفى ، وسليم بن عيسى وهو أضبط أصحابه ، وسفيان الثوري وعلى بن حمزة الكسائي ، وهو أجل أصحابه ، ويحيى بن زياد الفراء ، ويحيى بن المبارك اليزيدى.
* وتوفى سنة ست وخمسين ومائة بحلوان ـ مدينة في آخر سواد العراق ـ عن ست وسبعين سنة.
* ومن أشهر من روى قراءته.
1- خلف. 2- خلاد.
[1- خلف]
* هو خلف بن هشام بن ثعلب بن خلف بن ثعلب بن هشيم بن ثعلب بن داود بن مقسم بن غالب الأسدى البغدادي البزار ، ويقال خلف بن هشام وابن أبي طالب بن غراب ، وكنيته أبو محمد وهو أحد الرواة عن سليم عن حمزة . وأختار لنفسه قراءة فكان أحد القراء العشرة.
* ولد سنة خمسين ومائة وحفظ القرآن وهو ابن عشر سنين ، وابتدأ في طلب العلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة.
* أخذ القراءة عرضاً عن سليم بن عيسى وعبد الرحمن بن أبي حماد عن حمزة ، ويعقوب بن خليفة الأعشى ، وأبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري عن المفضل الضبى.
* وروى الحروف عن إسحاق المسيبى وإسماعيل بن جعفر وعبد الوهاب بن عطاء ويحيى بن آدم، وسمع من الكسائى الحروف ولم يقرأ عليه القرآن . قال أبو علي الأهوازي في مفردة الكسائي قال الفضل بن شاذان عن خلف أنه قرأ على الكسائي والمشهود عند أهل النقل لهذا الشأن أنه لم يقرأ عليه وإنما سأله عنها وسمعه يقرأ القرآن إلى خاتمته وضبط ذلك عنه بقراءته عليهم وكذا قال الحافظ أبو العلا وهو صحيح والله أعلم.(/1)
وكان ثقةً كبيراً زاهداً عالماً عابداً روى عنه أنه قال : أشكل على باب في النحو فأنفقت ثمانين ألف درهم حتى حفظته ووعيته.
* وروى القراءة عنه عرضاً وسماعاً أحمد بن إبراهيم ، ورافة ، وأخوه إسحاق بن إبراهيم ، وإبراهيم بن على القصار ، وأحمد بن يزيد الحلواني ، وإدريس بن عبد الكريم الحداد ، ومحمد بن إسحاق شيخ ابن شنبود وغيرهم .
* قال ابن أشتة : كان خلف يأخذ بمذهب حمزة لأنه خالفه في مائة وعشرين حرفاً في إختياره ، وقد تتبع ابن الجزري اختياره فلم يره يخرج عن قراءة حمزة والكسائي وشعبة إلا في قوله تعالى " وحرام على قرية " بالأنبياء فقرأه كحفص.
* وتوفي خلف في جمادة الآخرة سنة تسع وعشرين ومائتين ببغداد [غاية النهاية (1/273) تاريخ بغداد (8/322) الأعلام (2/360)].
[ 2- خلاد]
* هو خلاد بن خالد الشيبانى الصيرفي الكوفي وكنيته أبو عيسى وقيل أبو عبد الله ، ولد في نصف رجب سنة تسع عشرة ـ وقيل سنة ثلاثين ـ ومائة. أيام هشام أو مروان
* أخذ القراءة عرضاً عن سليم وهو من أضبط أصحابه وأجلهم.
* وروى القراءة عن حسين بن على الجعفي عن أبي بكر ، وعن أبي بكر نفسه عن عاصم ، وعن أبي جعفر محمد بن الحسن الرواسي.
وخلاد إمام القراءة ثقة عارف محقق أستاذ مجود ضابط متقن ، وروى عنه للقراءة عرضاً أحمد بن يزيد الحلواني وإبراهيم بن على القصار ، وعلى بن الحسين الطبرى وإبراهيم بن نصر الرازي ، والقاسم بن يزيد الوزان وهو أنبل أصحابه ، ومحمد بن الفضل ، ومحمد بن سعيد البزازي ، ومحمد بن الهيثم قاضي بكر وهو من أجل أصحابه.
وتوفي خلاد سنة عشرين ومائتين [ النشر لابن الجزرى( 1/165 ) الإعلام ( 2/356 ) ] رحمه الله وأثابه.
منهج حمزة في القراءة:
1- يصل آخر كل سورة بأول تاليتها من غير بسملة بينهما.
2- يضم الهاء وصلاً ووقفاً في الألفاظ الثلاثة : ( عليهم ، إليهم ، لديهم ) .
3- يقرأ بالإشباع في المدين المتصل والمنفصل بمقدار ست حركات.
4- يسكن الهاء في : يؤده إليك ، وقوله ( ما تولى ونصله جهنم ) نؤته منها ، فألقه إليهم.
5- يقرأ بالسكت على أل وشيء ويقرأ من رواية خلف بالسكت على المفصول نحو ? عذاب أليم ?.
6- يغير الهمز عند الوقف سواء كان في وسط الكلمة نحو يؤمنون ، أم في آخرها نحو ينشئ على تفصيل في ذلك.
7- يدغم من رواية خلف ذال إذ في الدال والتاء ، ومن رواية خلاد في جميع حروفها ما عدا الجحيم ، ويدغم من الروايتين دال قد في جميع حروفها ، وتاء التأنيث في جميع حروفها ، ويدغم لام هل الثاء ? هل ثوب الكفار ? في المطففين ، ولام بل في السين في ? بل سولت لكم ? بيوسف وفي التاء نحو ? بل تأتيهم ? ويدغم الباء المجزومة في الفاء نحو وإن تعجب فعجب ، وهذا من رواية خلاد ، ويدغم الذال في التاء في ( عذت ، واتخذتم ، فنبذته ) والثاء في التاء في ? أورثتموها ?، وفي لبث كيف وقع.
8- يميل الألفات من ذوات الياء والألفات المرسومة ياء في المصاحف نحو ( الهدى ، اشترى ، النصارى ) ، ويميل الألفات في ( خاب ، خافوا ، طاب ، ضاقت ، وحاق ، زاع ، جاء ، شاء ، وزاد ) ، ويقلل الألفات الواقعة بين راءين ثانيهما متطرفة مكسورة نحو ( إن كتاب الأبرار ، من الأشرار ) .
9- يسكن ياءات الإضافة في ? قل لعبادي الذين آمنوا بإبراهيم ?، ? يا عبادي الذين أسرفو ?، بالزمر ونحو ذلك وقد حصرها العلماء.
10- يثبت الياء الزائدة في ? اتمدونن بمال ? في النمل، ? ربنا وتقبل دعاء ? بإبراهيم.
__________________________
(1) راجع ترجمته: معرفة القراء الكبار الذهبي(1/93) النشر في القراءات (1/166) الأعلام (2/208).
(2) يقال: جَعُد الشعرُ جُعُوَدَّة إذا كان فيه إلتواء وتقبض فهو خلاف المترسل وشعر قط وقطط إذا كان شديد الجعودة مع القصر.(/2)
فأى الأمرين غلب ؟!
أمر هؤلاء أم أمر الله رب العالمين ؟!
منير عرفه
</TD
فى الوقت الذى أراد فيه أعداء الإسلام أن يقوموا بتجهيل المسلمين وبمسخ أجيالهم متبعين فى ذلك أمورًا ثلاثة:
أولا : اخلاء المناهج الدراسية من تعاليم الاسلام .
ثانيًا : اعلام فاسد موجه علينا ليل نهار .
ثالثًا : تشجيع البنات على أن يخرجن متبرجات .
حين أرادوا ذلك وخططوا له جيدًا ...
فانظر ماذا كانت النتيجة ..
وأى الأمرين غلب ؟! أمر هؤلاء أم أمر الله رب العالمين ؟!
إذا بهؤلاء الشباب هم عباد الله تعالى ، وعمار مساجده ، وحافظوا قرآنه ، وحاملوا دعوته .
وإذا بالفتيات أكثر تحشما وتعلقا بردائها الشرعى وانتشر الخمار أكثر من ذى قبل .
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
* وأضرب لذلك مثلا أثر فىَّ جدًا ألا وهو :
منذ عدة أشهر حدث كسوف للقمر فجاء إلىَّ بعض الأولاد فى المرحلة الاعدادية ، يقولون لى: ألا تصلى بنا صلاة الكسوف؟! سنة النبى صلى الله عليه وسلم ؟!
فنظرت إليهم متعجبًا - لا لقولهم - إنما قائلا فى نفسى : من أين جاء هؤلاء الأولاد والشباب ؟!..
...................
* ولمَّ نذهبُ بعيدًا أنا أو أنت يا أخى ؟! ومعنا مثال عشناه جميعًا ألا وهو :
حين جاءت أمريكا بكل ما أوتيت من قوة وطاقة تضرب أهل العراق دعا المسلمون فى صلواتهم أن ينصرهم الله تعالى على عدوهم . وكان أئمة المساجد يقنتون فى صلواتهم والمصلون يأمنون ..
فلما دخلت أمريكا إلى أرض العراق ظن كثير من الناس أن الأمر قد انتهى حتى إنى رأيت أئمة مساجد (مشايخ كانوا يقنتون) تركوا مساجدهم عدة أيام خجلاً من لقاء الناس .
وظن الناس أمرًا وأراد ربك أمرًا آخر .
وزاد الطين بلة أن داخل العراق نفسها سارعت كل الأحزاب العراقية ( القومية منها وحتى الاسلامية ) بالانضمام إلى مجلس الحكم الأمريكى ( ذلك المجلس الذى صنعه الاحتلال ) ..
وأخذت أمريكا تهدد دول العالم الإسلامى أجمع حتى أن القذافى فعل ما تعلمون ..
هنا وهنا فقط ..
فجرَّ الله تعالى برحمته الجهاد كما يتفجر النار فى الهشيم ، وكما يخرج الماء من بين الصخر .. ودب الجهاد فى أهل العراق كما تدب العافية فى الجسد المريض فينشط .
وقام علماء العراق بعمل هيئة علماء المسلمين لا تنتمى إلى طائفة دون أخرى ولا لحزب دون آخر إنما ينطوى تحتها علماء المسلمين يقودهم رجل معروف بعلمه وورعه وجهاده ألا وهو الشيخ حارث الضارى حفظه الله مجاهد من بيت مجاهدين ، حيث إن والده رحمه الله هو الذى قتل المنتدب البريطانى على العراق حين احتلت انجلترا العراق .
قام هؤلاء العلماء يوجهون الجهاد فى العراق فاستهدفت أمريكا هؤلاء العلماء وأخذت تصفيهم جسديًا عالمًا تلو عالم ، حتى قتلوا منهم الكثير واعتقلوا من اعتقلوا . لكنهم صابرون مجاهدون ، رافعون رءوسهم لعنان السماء ، واضعون أنف أمريكا تحت أقدامهم أمام العالم ، رافعون رأس هذه الأمة إلى عنان السماء .
نعم إن أهل العراق يعانون ويضربون لكنهم يجاهدون ...
ويمرغون أنف أمريكا وكبرياءها فى التراب ...
وتتمنى أمريكا أنها لم تكن قد دخلت العراق .
فأى الأمرين غلب ؟! .. أمر أمريكا ، أم أمر الله رب العالمين ؟!
نلوذ بالله لا نبغى به بدلا ... ومن يلوذ بباب ينصره
نرضى به وهو يرضينا ويغمرنا ... بعفوه وبهذا العلم نعبده
وكيف نرضى بغير الله متجها ... والكل والجزء والأعضاء تعبده
نخلى قلوبنا له من كل شائبة ... إن عشنا أو متنا أعضاؤنا توحده
أخى المسلم فى كل مكان .. هذه رسالة موجهة إليك
لقد أعزك الله سبحانه وتعالى بأن اختارك واصطفاك لتكون فردًا من أمة الإسلام ولتكون وريثا لكل كتب الله السماوية . أنت يا أخى المسلم وريث آدم الذى خلقه الله بيديه ونفخ فيه من روحه وأمر ملائكته بالسجود له . أنت يا أخى المسلم وريث نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وكل أنبياء الله تعالى، وقد يظن بعضكم أنه ليس أهلا لهذه المهمة لأنه صاحب ذنوب وخطايا أقول له : حتى لو كنت كذلك . فأنت أيضًا ممن اصطفاهم الله لأنك انسان مسلم واسمع الى كلام مولانا جل وعلا وهو يقول :
{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ }[سورة فاطر آية 32].
فلا يصغرن أحدكم أمام نفسه وليعلم أنه أسد من أبناء أسود . لا نعجة من أبناء نعاج ..
أنت يا أخى المسلم من أتباع حمزة أسد الله وأسد رسوله ..
أنت يا أخى المسلم من أتباع جعفر الطيار الذى اختار أن تقطع يداه ولا يسلم الراية ..
أنت يا أخى المسلم ممثل لهذه الأمة فأحيانا تتمثل الأمة كلها فى رجل ويتمثل الرجل منا فى أمة { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } .(/1)
ألا لا يكتفى كل واحد منكم بأن يقول إن الأمة فى ضياع وتفرق وضعف وهوان إنما قم بدورك أنت بصدق واصدق الله يصدقك من مجاهدة نفسك ورعاية أولادك وأهلك وذويك وانشر الخير حيث أنت واستعن بالله ولا تعجز .. مقتديًا فى ذلك بإبراهيم عليه السلام الذى أمره الله تعالى بأن يصعد على جبل أبى قبيس ويؤذن فى الناس بالحج .
فقال إبراهيم : يا رب كيف ولن يسمعنى أحد فى هذا المكان القفر ؟
فقال له الله : يا إبراهيم ، عليك الآذان وعلينا البلاغ ...
وها هى ملايين الحجاج تحج بيت الله الحرام مستجيبة لأذان إبراهيم عليه السلام .
كيف بلغهم الأذان من أعماق الصحراء ؟!
إنها قدرة الله ..
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون(/2)
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:
فإن الله عز وجل خلق الثقلين الجن والإنس ليعبدوه، وسخر لهم ما في السموات والأرض ليستعينوا بذلك على القيام بهذه الغاية العظيمة. قال الله تعالى: - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -)) ( تمهيد ( { فهرس - - رضي الله عنهم - - - صدق الله العظيم ( - ( - - - { { الله أكبر تمهيد { - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( { ( تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ((- عليه السلام - - ( - )) [الذاريات:56] وجعل ذلك مركوز في عقولهم وفطرهم ولكن من رحمته سبحانه أنه لم يكلهم إلى ذلك فحسب بل أعانهم بإنزال الكتب وإرسال الرسل ليبينوا للناس غاية خلقهم ومصيرهم، ويعرفوهم بربهم سبحانه وأسمائه وصفاته وكيفية عبادته، ووعدهم إن هم قاموا بذلك بأن يأمنوا ويسعدوا ويسلموا في الدنيا على أنفسهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم، وفي الآخرة لهم الأمن التام بدخولهم دار السلام آمنين مطمئنين. وتوعدهم إن هم أعرضوا عن عبادته سبحانه وكفروا به بالخوف والجوع والمعيشة الضنك، والشقاء في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة. قال الله تعالى : )) ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } تمت - صلى الله عليه وسلم - - - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - - - رضي الله عنه - - ( { ( - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( } - ( قرآن كريم - { } - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنه - - - ( - - المحتويات ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - تمهيد ( - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله (( - - - رضي الله عنهم - - - - - - - ((( - - } - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم ( - ( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - } - - - تمهيد ( - (- رضي الله عنه - الله أكبر ( - - } - صلى الله عليه وسلم - - - ( - - رضي الله عنهم - - ( - } - قرآن كريم ( الله أكبر - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( - ( - - رضي الله عنه - - (( [الأعراف:96] وقال تعالى: )) ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } تمت - صلى الله عليه وسلم - - - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( - (- رضي الله عنه - - ( تمهيد ( - - - } - قرآن كريم (- جل جلاله -- رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( } - ( قرآن كريم - { } - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - الله أكبر ( - } ( - تمهيد - - ( المحتويات ( - ( { - رضي الله عنه -( ( المحتويات ( - ( الله - - رضي الله عنه -(( - - - رضي الله عنهم - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - جل جلاله -( - - } ( - - } - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( تمهيد ( } - جل جلاله -- رضي الله عنهم - - ( بسم الله الرحمن الرحيم - (( } - - - - ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - } - - صلى الله عليه وسلم - - } - قرآن كريم ( تم بحمد الله - - - - صلى الله عليه وسلم - - - { - - عليه السلام - - ( قرآن كريم ( - - - - - - - ( - - عز وجل - تمهيد { - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - - ( - الله أكبر ( - المحتويات ( - ( - - - ( { صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( - - { - } - قرآن كريم ( - - - - } صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - ( قرآن كريم - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( تمهيد (- رضي الله عنه -- صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - ( المحتويات ( - ( { ( } تم بحمد الله ( { } تم بحمد الله ( - ( - - رضي الله عنهم - - ((- رضي الله عنه - - ( { - تم بحمد الله } ( - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - ( { ( } تم بحمد الله - عليه السلام -( - - - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - - رضي الله عنهم - - ((- رضي الله عنه - - )) [المائدة: 66،65]، وقال تعالى : (( ( قرآن كريم { - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم(/1)
( - ( - { - رضي الله عنه - - ( - - - - فهرس - - رضي الله عنه -( ( { - { - ( - { ( - - - المحتويات ( - ( - - جل جلاله -( - - { ( - - } (( - - } تم بحمد الله - { - - رضي الله عنهم - - - ( ( - ( } - - جل جلاله -( - ((- عليه السلام - - ( - - ( مقدمة - (( - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ((( - ((( - صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ( - ( - ( - (( مقدمة ( فهرس - - عليه السلام - - ( مقدمة ( - ( - ( - - - - - - - - - - رضي الله عنه -( - - جل جلاله - - - رضي الله عنهم -( - ( )) [الجن: 17،16] وقال سبحانه: (( ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - عليه السلام -(- رضي الله عنه - - ((- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( - ( - ( - ( - } تمت ( - - ( (( - - - - { - رضي الله عنه -( - ((- رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - - جل جلاله - - ( (( فهرس ( - (((- رضي الله عنه - صدق الله العظيم - عز وجل -- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - عليه السلام - الله ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - ( { - رضي الله عنهم - - (- عليه السلام - - ( { ( - - - - - - رضي الله عنهم - - ((- صلى الله عليه وسلم - - )) [طه: 124] .
ولقد ذكرَّ الله عز وجل مشركي قريش بهذه النعمة العظيمة ليوحدوه ويتركوا ما هم عليه من الشرك فقال سبحانه: (( } - - صلى الله عليه وسلم -( - ( تمهيد ((- عليه السلام - - ( - - ( - - - عليه السلام - - - - - (- رضي الله عنهم - - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - ( - - - * ( - ( - { - - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم -(((- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - ( قرآن كريم ( - المحتويات ( - - - جل جلاله -- رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله } - ( قرآن كريم - رضي الله عنهم - - )) [قريش: 4،3] وقال سبحانه:
(( ( المحتويات - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - } - (- صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنهم - - - ( تم بحمد الله - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - مقدمة - - جل جلاله - - ( تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( - { (- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( } - } - - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( - ( قرآن كريم - رضي الله عنهم - مقدمة - ( - (((- رضي الله عنه - تمهيد ( - - - ( تمهيد - (- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( تم بحمد الله ( - ( - ( { - رضي الله عنهم - - ((( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ((( - - رضي الله عنه - - )) [العنكبوت: 67].
إذن فالأمن نعمة عظيمة من نعم الله عز وجل على عباده يطلبها الناس ويبحثون عنها بشتى الوسائل. وهو ضرورة من ضرورات الحياة. ولكن الناس يتفاوتون ويتشتت سعيهم في طلبها، حيث أخطأها الكثير منهم، ووفق الله عز وجل القليل من عباده إلى سبيل تحصيلها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.(/2)
وإن المتأمل في عالمنا المعاصر ليرى دون عناء ما يعج به من المخاوف والمزعجات والمقلقات، والقتل، والجوع، والأمراض النفسية والأسرية والاجتماعية ويرى الهلع على وجوه الكثير من الناس من جراء ما يهدد وجودهم وأعراضهم وأموالهم وقبل ذلك دينهم. وقد صاحب ذلك حملة ماكرة خبيثة ملبسة مضللة من الكفار، وأذنابهم المنافقين في وسائل إعلامهم المختلفة وذلك بالتلاعب بالمصطلحات، والتلبيس على الناس في معنى الأمن ووسائله، ومعنى الإرهاب وطرائقه. وجاءوا بزخرف من القول ليصرفوا الناس عن الأسباب الحقيقية للمخاوف وذهاب الأمن فأبعدوهم عن الأسباب الحقيقية لاختلال الأمن في حياة الأفراد والمجتمعات والدول والتي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم، وجعلها سنناً ثابتة لا تتغير ولا تتحول. وجاءوا بأسباب أملتها عليهم أهواؤهم ومصالحهم؛ فجعلوا الحق باطلاً والباطل حقاً. وهكذا شأن شياطين الجن والإنس الذين أخبرنا الله عز وجل عنهم بقوله: (( - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - جل جلاله -( - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنهم - - (- صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - - - (( - - رضي الله عنه - الله أكبر - - - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -( - رضي الله عنه -(((((- عليه السلام - - - { ( { الله أكبر تمهيد { - - ( - صدق الله العظيم ( - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ((- صلى الله عليه وسلم - قرآن كريم ( - ( المحتويات ( - ((((- رضي الله عنه - - - - فهرس - ( { - (((- رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - ( - ( - ( - ( - ( قرآن كريم - { ( - - - - - جل جلاله - - - صلى الله عليه وسلم -( - (( - ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - عليه السلام -( - - - { - رضي الله عنهم - - - - - عليه السلام - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( فهرس قرآن كريم ( - - رضي الله عنهم -( - ( } ( المحتويات ( - ( - - - - ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -- سبحانه وتعالى -((- رضي الله عنه - - - ( - (((- رضي الله عنه - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( مقدمة ( - - - ( { ( - - رضي الله عنهم - - ((((- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه -((( - { - - - - صدق الله العظيم - - قرآن كريم ( - ( تم بحمد الله ( - ( - ( - - رضي الله عنه - - ( - - - رضي الله عنهم - - - ( - ( فهرس ( قرآن كريم - (( - - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ((( - - رضي الله عنه -- سبحانه وتعالى -( { - عليه السلام - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله المحتويات ( - - - قرآن كريم ((( - - رضي الله عنه -- سبحانه وتعالى -( { - تم بحمد الله )) [الأنعام: 112].
فبين سبحانه في هذه الآية الكريمة أن تضليل شياطين الإنس والجن للناس بأقوالهم المزخرفة المضلِّلة لا ينطلي إلا على من ضعف دينه وإيمانه بالآخرة. وإلا فإن المؤمن بربه الذي يصدر عن كتابه سبحانه وسنة بينه × لا يصغي لهذا المكر ولا يرضاه ولا يقبله.
يتحدث الاستاذ : ضميرية عن هذه الحرب الشرسة فيقول: (وإذا كانت الحروب العسكرية، ليست الميدان الوحيد للنزال والصراع، وليست الوسيلة المضمونة للغلبة على المسلمين، ولا الأداة المشروعة في المواثيق الدولية؛ فإنَّ هناك ميداناً آخر للنزال، وهو ميدان الفكر والإعلام، والدعاية والمعلومات، فليكنْ ذلك وسيلة مأمونةً ومضمونةَ التأثير في التشويه والتشويش.
والصورة القريبة لهذه الحرب الجديدة التي نراها اليوم ونعيش أحداثها، هي هذه الهجمة الشَّرسة على الإسلام والمسلمين بإلصاق تهمة «الإرهاب» و «التعصب» و «الأصولية»... بعد أن أسقطوا على هذه الألفاظ كلَّ نعوت الشرِّ والسُّوء. وقد كان اليهود وراء نشر هذه المصطلحات وإشاعتها، ثم وجدت قبولاً عند الدوائر المعادية للإسلام والمسلمين، وانتقلت بعد ذلك، عن طريق العدوى والتقليد الأعمى، إلى الصحافة ووسائل الإعلام العربية، بعد انتشار الصحوة الإسلامية، وفي أعقاب عودة شباب هذه الأمة إلى دينهم، بعد رحلة التيه والضياع والتغريب. في الوقت الذين يصفون أنفسهم بأنهم دعاة الأمن والسلام!!!
ولذلك كان من التخطيط اليهودي الصليبي أن يُرمى الإسلام والمسلمون بهذه التهم، وأن يُخلط بينها وبين حقِّ المسلمين في العمل على نشر الدعوة الإسلامية وحمايتها، وتعبيد الناس لربِّ العالمين، ومحاربة الأعداء لاستنقاذ المسلمين المستضعفين، وردّ حقوقهم المغتصبة...(/3)
وعند إشاعة هذه التهمة يدخل الإسلام والمسلمون في قفص الاتهام، ويُضطرُّون لإنفاق الجهد في الدفاع عن النفس، والعمل على نفي التهمة بكل الوسائل والأساليب، وعلى جميع المستويات، ويستتبع هذا: مواقفُ التبرير والتنازل والتمحُّل، ويومئذ يفرح الأعداء الماكرون بنجاح المخطط الذي أتقنوا تنفيذه حيث تبادلوا المواقع مع المسلمين، ووقفوا موقف الهجوم علينا، وهم الغارقون في الطين، والضالعون في الجريمة، والمفسدون في الأرض، بكل ألوان الفساد الديني والخلقي والسياسي والاجتماعي والأُسَري، بل إنهم هم المفسدون للحياة الفطرية والطبيعية في البر والبحر) (1).
ولما كانت الحملة على الإسلام وثوابته ومفاهيمه شديدة وشرسة ولاسيما في هذه السنوات الأخيرة من قبل الكفار وإخوانهم من المنافقين في ديار الإسلام؛ أصبح جهاد الدفع في هذه الحرب متعيناً على كل قادر بلسانه وقلمه وبيانه وماله، وذلك لرفع اللبس عن المسلمين وإزالة الشبهات وبيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، وذلك بالرجوع إلى القرآن وهديه ومجاهدة الأعداء به قال تعالى: (( - - - ( ((((( - - ((( - ((( - تمهيد ( - - - المحتويات ( - ( - ( - (- رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة ( - - - جل جلاله - - - - رضي الله عنهم - - ( - - - - - ( - - - )) [الفرقان: 52].
ومشاركة مني مع إخواني المجاهدين للكفار والمنافقين ضد هذا الغزو الماكر الخبيث أكتب هذه الرسالة المتواضعة والتي تحمل قوله تعالى : (( - - - صلى الله عليه وسلم - - - ( (((( - { - ( - - (( - - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - ( - } تمت ( { ( - (( - ( - - - قرآن كريم ( - فهرس - (( - - )) لعلي أجلي فيها المعنى القرآني الرباني للأمن وأسبابه ومصادره، ومعنى الإرهاب وضوابطه. ولعلي أن أسهم بذلك في إزالة اللبس والتدليس الذين تعرض له مفهوم الأمن والإرهاب، وانخدع به كثير من الناس، وأبين فيه إن شاء الله تعالى من هم الأعداء الحقيقيون للأمن وغير ذلك من المباحث. وقبل الدخول في صلب الموضوع ألخص بعض الدوافع التي دفعت إلى كتابة هذه الموضوع المهم ليتبين لنا أهميته، ومن أهم هذه الدوافع ما يلي:
أولاً: بيان نعمة الله عز وجل على عباده في الأمن وأن كثير من الناس في غفلة عن هذه النعمة العظيمة وأكثرهم لا يشكرون، وبيان عظمة هذه النعمة في عصرنا الحاضر بالذات، ولا سيما ونحن نرى من حرمها وقد أحاطت بهم المخاوف والأفزاع والقتل والتشريد وسلب الأموال وهتك الأعراض من كل جانب، وبيان أن هذه النعمة لا يقدرها حق قدرها إلا من فقدها. والحديث عن الأمن هو حديث عن ضرورة من ضروريات الحياة الإنسانية.
ثانياً: بيان المعنى الصحيح للأمن في الدنيا، وأنه أشمل من كونه في الأنفس والعقول والأموال والأعراض فحسب، بل إن أعظم الأمن هو الأمن في الأديان وحماية الناس من أن يفتنوا في دينهم وعقيدتهم. وهذا المفهوم الشامل قد غاب عن حياة كثير من الناس اليوم. وقد أسهم في تغييبه الإعلام الماكر للكافرين وإخوانهم من المنافقين حيث لم يضعوا للدين وحمايته أي اعتبار في تحقيق الأمن. مع أن الله عز وجل قد أفهمنا في كتابه الكريم أن أَيَّ خلل في أمن الناس فمصدره الخلل في دينهم وإيمانهم، فبضعف الدين والإيمان، أو غيابه يحصل اختلال الأمن في بقية ضروريات الإنسان من نفس ومال وعقل وعرض. فلعل في هذه الرسالة بسطا للمفهوم الشامل للأمن، وبيانا لسنة عظيمة من سنن الله التي لا تتبدل ولا تتحول، والتي ترسم لنا حقيقة الأمن وميزانه، ومتى يتحقق ومتى يختل وذلك في قوله سبحانه : (( - - ( { { - - - - صدق الله العظيم ( - ( } - - رضي الله عنه -(( - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله تم بحمد الله الله ( قرآن كريم - { ( - - (( - - رضي الله عنهم - مقدمة } - - صلى الله عليه وسلم -( - ( } - - رضي الله عنه -(( - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( } (( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( - )) [الرعد: 11].
__________
(1) ... يسألونك عن الأرهاب، د. عثمان ضميرية ص10،9 (بتصرف يسير).(/4)
ثالثاً: مواجهة التلبيس المضلل للناس في هذا الزمان من أعداء هذا الدين من الكفار والمنافقين الذين أنتهزوا الأحداث الأخيرة في توظيفها ضد الدين وأهله، وحاولوا خداع الناس وتضليلهم بتحريف معنى الأمن والإرهاب عن معناهما الشرعي إلى المعنى الذي يريدونه، وتوظيفه في حرب الإسلام وأهله. فانطلى هذا التلبيس على كثير من المسلمين، وأصاب الكثير منهم الخوف والهلع من الكفار. ولعل في هذه الرسالة كشفا لألاعيب الأعداء وتلبيسهم وبيان تلاعبهم بالمصطلحات. يتحدث الأستاذ ضميرية عن خطورة التلبيس والتلاعب بالمصطلحات في قلب الحقائق فيقول: (في أدبنا العربي ألوان من الكتابة الطريفة؛ فلا يكاد يخطر ببالك فنٌّ من الفنون، أو باب من أبواب القول، إلا وتجد فيه مبحثاً في كتاب، أو تجد فيه كتاباً قائماً برأسه. ولعلَّ أول ما يخطر بالذاكرة عند هذا القول: ما كتبه العلاّمة اللغوي الأديب، أبو منصور الثعالبي (المتوفى 429هـ) في كتابه «تحسين القبيح وتقبيح الحسن»، وقد جمع فيه ما قيل من نثر أو شعر في تحسين ما تمَّ التعارف على تقبيحه، وتقبيح ما اتفق الناس على تحسينه، وأودعه لُمَعاً من غُرر البلغاء ونُكَت الشعراء في تحسين القبيح وتقبيح الحسن؛ إذ هما غاية البراعة والقدرة على جزل الكلام في سرِّ البلاغة وسحر الصناعة...
وليس عجبا كذلك – إذا اختلت المفاهيم، وانقلبت الموازين وتبدلت القيم- أن يصبح الحياء عيبا قبيحا، فيقال : الحياء يمنع الرزق، وقد قُرِنَتِ الهيبةُ بالخيبة، والحياءُ بالحرمان. وقال بعضهم: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان وأموركم بالوقاحة والإبرام، ودَعُوا الحياءَ لربَّات الحجال...
وقد يذمُّ المرء شيئاً حسنا يعتقد حُسْنه وفائدته، ولكنه يقبِّحه ويذمّه ليخلص من حرج، أو ليعتذر عمّا بَدَر منه؛ فيمدحه تارة ويذمُّه أو يقبِّحه تارة أخرى...
طرأتْ هذه الفكرةُ، (تقبيحُ الحسنِ وتحسينُ القبيح)، على ذهني وأنا أتابع بعض الأخبار والكتابات حيال الإرهاب، وقد تكاثرت في هذه الآونة، وتناولها الكاتبون والباحثون والمحلِّلون من زوايا مختلفة، وبأساليب شتى، ولأغراض متباينة... تماماً كما تعوَّدنا أن نجد كلَّ بضع سنوات اهتماماً بظاهرةٍ أو مشكلة – حقيقية أو مصطنعة- تطفو على السطح، وتسخَّر من أجلها جميع وسائل الإعلام ومنافذ النشر؛ فأحياناً يعيش العالم في حالة هوس بالمؤتمرات المحلية والإقليمية والدولية، تعقد هنا وهناك، وأحياناً أخر نلحظ عناية بالحديث عن الاستنساخ والهندسة الوراثية، وفي مرحلة أخرى يعيش العالم في حمَّى الجمرة الخبيثة مقترناً بالأرهاب، ثم يتناسى الناس، أو يتناسى أصحاب المصلحة، الحديث عن الأولى ولا يزال الاهتمام بالثانية (الإرهاب) يتنامي ويتعاظم، حيث يتعاظم تأثير الدعاية والإعلام والإعلان في هذا العصر، وأصبح وسيلة من وسائل الضغط على الرأي العام، وقوةً خطيرة مؤثِّرة في الإقناع) (1).
ويبين ابن القيم رحمه الله تعالى خطر التلبيس عند قوله تعالى: (( - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - ( تمهيد ( - - - - - جل جلاله -- رضي الله عنهم - - ( - - - ( - (((- رضي الله عنه - - ( - - - ( - } - قرآن كريم ( - ( - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - - رضي الله عنهم - - ( - - - ( المحتويات ( - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - - - (( - - )) [البقرة: 42] فيقول: (فنهى عن لبس الحق بالباطل وكتمانه. ولبسه به: خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر. ومنه التلبيس، وهو التدليس والغش الذي يكون باطنه خلاف ظاهره، فكذلك الحق إذا لبس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحق وتكلم بلفظ له معنيان: معنى صحيح، ومعنى باطل فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح ومراده الباطل فهذا من الإجمال في اللفظ) (2). ولخطورة تلبيسهم نجد من أبناء المسلمين من هو سمَّاع لهم يردد ما يزخرفون به دون تفكير وتمحيص.
__________
(1) ... يسألونك عن الأرهاب، ص 12-14 باختصار.
(2) ... الصواعق المرسلة 3/926.(/5)
رابعاً: فضح الأعداء الحقيقيين لأمن الناس الذين يتترسون وراء مكافحة الإرهاب، والحرص على توفير الأمن للناس؛ مع أنهم مصدر الإرهاب والخوف والجرائم والفساد، وبيان ذلك بالأدلة الموثقة من أقوالهم وأفعالهم وجرائمهم الشنيعة، وإفسادهم للدين والنفس والعقل والمال والعرض بشتى وسائلهم، وبيان ما تعانيه مجتمعاتهم من الأمراض النفسية والاجتماعية البشعة التي أتلفت الأنفس والأموال والأعراض، وساعدهم في ذلك أناس من المنافقين من بنى جلدتنا غرتهم أنفسهم، وشياطينهم من الأنس والجن فراحوا ينفذون ما يريده الغرب الكافر في تغريب الأمة، والسير بها في ركاب الغرب، ووضعوا أنفسهم جنباً إلى جنب في خندق الكفار في مواجهة مصلحي الأمة ومجاهديها بحجة مكافحة التطرف والإرهاب. فكان لابد من فضح هؤلاء وأسيادهم وتعريف الناس بأنهم هم الأعداء الحقيقيون للأمن، وبيان خداعهم للناس؛ لأنه ما دام أن الحق مختلط بالباطل. وسبيل المجرمين لم يتميز عن سبيل المؤمنين؛ فإن أمر هذا الدين سيبقى مشوهاً عند الناس، وسيبقى الإلتباس فيه قائماً، مما يؤدي إلى ظهور الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق؛ عياذاً بالله من ذلك.
كما أن استبانة سبيل المجرمين ومناهجهم تساعد في تميز الصف المؤمن، وتنقيته من شوائب النفاق والمنافقين. وهذا أمر مهم وعامل أساس لإظهار الحق وإزهاق الباطل: (( - درهم ( - ( - - عليه السلام - - ( - - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - درهم فهرس - - رضي الله عنهم - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( - { - - جل جلاله -( - - - رضي الله عنه - - - ( - - ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - رضي الله عنهم -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( - { - - جل جلاله -( - - - رضي الله عنه - - )) [الأنفال: 42] فالملاحظ في الآونة الأخيرة كثرة الكتابة عن الأمن والإرهاب والإرهابيين، وتناول الكتاب والباحثون ووسائل الإعلام المختلفة هذه الظاهرة من زوايا مختلفة؛ بعضهم عن خبث ومكر وبعضهم عن جهل وتغرير، ولا يزال الاهتمام بالإرهاب وما يتفرع عنه يتنامى، ويتعاظم بفضل الدعاية والإعلان والإعلام، حتى أصبح حديث الناس ووسيلة ضغط على الرأي العام. وتبنى ذلك دولٌ ذات قوة ونفوذ كدولة أمريكا الطاغية تحدوها مصالح خاصة وأهداف غير خفية على المتأملين والمستبصرين. والأدهى من ذلك أن تنطلي هذه الدعايات الكاذبة الباطلة على كثير من المسلمين. فكان لابد من تبصير الناس بحقيقة الحال، وبما يراد لهم من وراء هذه الدعايات المزخرفة التي لا تعدو أن تكون موجهة للثابتين على أصول هذا الدين والمستعصين على الكفار وما يريدون، والذين يعلنون بغضهم وبراءتهم من الكفار ومحاربة ومجاهدة المعتدين المحاربين منهم.(/6)
خامساً: بيان عظمة دين الإسلام، وأنه إنما جاء رحمة للعالمين، وأنه مهما بحث الناس عن الأمن والسلام بعيداً عنه فلن يجدوا إلا الخوف والشر والشقاء، ومن أراد الأمن والراحة والسلام في الدنيا والآخرة فلن يجدها إلا في ظل الإسلام والإيمان. وسأبين في هذا المبحث إن شاء الله تعالى أثر الالتزام بعقيدة الإسلام وأحكامه على أمن الفرد في نفسه، وعلى أمن الأسر، وعلى أمن المجتمعات البشرية كلها، وأنه لا مصدر للأمن إلا من هذا الدين الرباني القائم على عبادة الله وحده وطاعته وذكره وشكره. ومن ابتغى الأمن في غيره فقد ضل سواء السبيل. قال الله تعالى: (( - - - عليه السلام - - - (- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - الله - - الله - رضي الله عنه - تم بحمد الله - { - رضي الله عنه - - ( - - - ( تمهيد - رضي الله عنه - الله أكبر - - - - { - - جل جلاله -( تم بحمد الله - - عليه السلام -( - { } - ((- رضي الله عنهم - - (( - تم بحمد الله - - رضي الله عنهم - - - ( - ( - - رضي الله عنه - - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - ( - - - جل جلاله - - - (- عليه السلام - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله (- صلى الله عليه وسلم - - ( - - تمت - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات - رضي الله عنه - - - ( - تمهيد - ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ((( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - - - - - رضي الله عنهم - - - - ( - - - صلى الله عليه وسلم - - - ( ( - - - { } - - رضي الله عنه - تمهيد ( - (( قرآن كريم ( - ( - - - ( - ( قرآن كريم - رضي الله عنهم - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ( - } - قرآن كريم ( الله أكبر - - - - - قرآن كريم ((- عليه السلام - - ((- رضي الله عنه - - )) [النحل:112] وقال تعالى: - رضي الله عنه -((( - { - - - )) } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - عليه السلام - - (- رضي الله عنهم - - - ( { - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ((( - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( المحتويات ( - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( - - تم بحمد الله )) [الأنعام:82].
سادساً: مقاومة الحرب الموجهة اليوم من الكفار، وأذنابهم من المنافقين على عقيدة الإسلام الراسخة، وعلى أهلها المتمسكين بأصولها وثوابتها، واتهام هذه الفئة من المسلمين بأنهم منبع الفكر الإرهابي، وأنهم متطرفون لأنهم ينادون بعقيدة الولاء والبراء وما تقتضيه من موالاة المؤمن ومناصرته، وعداوة الكفار وجهادهم، وفضح كل ما يستخدمونه في هذه الحرب من وسائل الإعلام، والمال في تمرير هذه الدعوى والتي انخدع بها بعض المنتسبين لهذا الدين، بل بعض المنتسبين للعلم وأخذوا يرددون ما يقوله الأعداء، دون وعي لخطورة هذا الأمر.(/7)
سابعاً: توجه أنظار كثير من الناس اليوم إلى توفير الأمن على أنفسهم وأرزاقهم في الحياة الدنيا فحسب، ونسيان الأمن الحقيقي والسعادة الكبرى في الآخرة، وعدم أو ضعف الحرص على توفيرها، وفعل الأسباب التي توصل إلى الأمن يوم الفزع الأكبر، والفوز بدار الأمن والسلام، والتي أعدها الله عز وجل لعباده المتقين . قال تعالى: (( - - ( { - رضي الله عنه -((( { ( - ( - ( - - - - (( - تمهيد ( } - - رضي الله عنهم - - - تمت قرآن كريم ( - ((- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - قرآن كريم ( - ( - ( - - - - بسم الله الرحمن الرحيم ( فهرس - - - ( - - رضي الله عنه -((( - ( تم بحمد الله - - عليه السلام -( )) [الحجر: 46،45] وقال سبحانه: (( ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ((( - - رضي الله عنه - - - - فهرس - ( { ( - - - رضي الله عنهم - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( فهرس - - - - - - - ( - ( - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله (( - - - رضي الله عنه -( - - - - فهرس - ( { - ((- عليه السلام - - (( - - (( { - رضي الله عنه - - ( - - تم بحمد الله )) [يونس: 25]. فلعل في هذه الدراسة تنبيه لنفسي ولإخواني المسلمين إلى الحرص الشديد، والسعي الحثيث إلى الأخذ بأسباب الأمن من عذاب الله تعالى في الدنيا وفي البرزخ ويوم القيامة الذي من أمن فيه فهو الآمن على الحقيقة. وكيف لا وهم الذين منَّ اللهُ عز وجل عليهم بالسلامة المطلقة من كل خوف وحزن وهم وغم وتعب ووصب في جنات الخلد والنعيم . قال الله عز وجل عنهم: (( } - قرآن كريم ( - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - { - رضي الله عنه -( - - - ( - ( - ( - { - - - - - - رضي الله عنهم - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - } - جل جلاله -- رضي الله عنه -( - رضي الله عنه - تمت - رضي الله عنه - - { - رضي الله عنه -( - - - } - - ( { - - عليه السلام - - ( - - عليه السلام - - ( - قرآن كريم ((- رضي الله عنه -( - - ( - قرآن كريم ( - - { ( - ( - { - - - - - - جل جلاله -( - - رضي الله عنهم - مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - - - رضي الله عنهم - - ( { - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - { ( - ( - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله (( - ( - (( - ( - صدق الله العظيم - - عليه السلام - - - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - - { - - (( ( - - (- رضي الله عنه - الله أكبر - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - - { - - (( ( - قرآن كريم ((( - )) [فاطر:35،34].
وفي ختام هذه المقدمة السريعة أشير إلى أهم فصول هذه الرسالة التي سأتناولها بالبحث المفصل إن شاء الله تعالى.
الفصل الأول: وفيه مبحثان
المبحث الأول : تعريفات (الأمن – الإرهاب)
المبحث الثاني: ذكر بعض ما ورد من الآيات والأحاديث في ذكر الأمن والإرهاب وما يتفرع عنهما.
الفصل الثاني: المفهوم الشامل للأمن وأنواعه ومصادره.
الفصل الثالث: من هم أعداء الأمن؟
الخاتمة.
الفصل الأول
تعريف الأمن والإرهاب
وذكر بعض ما ورد فيهما من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية
وفيه مبحثان :
المبحث الأول: ... تعريفات (الأمن – الإرهاب).
المبحث الثاني: ذكر بعض ما ورد من الآيات والأحاديث في الأمن والإرهاب وما يتفرع عنهما.
المبحث الأول
تعريف الأمن والإرهاب وأصل اشتقاقهما
لابد في بداية هذا البحث من إلقاء بعض الأضواء اللغوية على معنى هاتين الكلمتين وأصل اشتقاقهما، لنصل بعد ذلك إلى تحديد المعنى الاصطلاحي لهما والخلاف المنتشر حول ذلك، قبل الحكم على هذا المصطلح وأصحابه الذين ينطبق عليهم، أو الحكم لهم؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره.
وتزداد أهميةُ هذا التحديد للمصطلح – أيّاً كان- إذا وضعنا بالحسبان أنَّ اللغة هي أداة التفكير والبيان، وهي وسيلة التفاهم والتخاطب بين الناس، كما أنَّ الألفاظ التي ينطق بها الإنسان ويعبِّر بها عما في نفسه، قد تختلف دلالتها ومعانيها، عندما تغدو مصطلحاً فنيّاً يشيع استعماله في علمٍ من العلوم، أو في فنٍ من الفنون.
ومن الجدير بالذكر هنا: التذكيرُ بأنَّ كلَّ مصطلح علميِّ ينشأ في بيئة فكرية وحضارية تؤثر فيه، وتجعله ينطوي على اتجاهات عقلية وحضارية تتفق وشخصية البيئة والأمة وذاتيتها. وهذا كلُّه يعطي دليلاً آخر على أهمية تحديد المصطلحات العلمية ومعانيها، لئلا يلتبس الأمر ويقع الخلط والفساد والخلاف في النظر والاستدلال(1).
أولاً: تعريف الأمن:
__________
(1) انظر: يسألونك عن الأرهاب، (بتصرف).(/8)
قال في لسان العرب: (الأمان والأمانة بمعنىً، وقد أمنت فأنا آمن... والأمن: ضد الخوف، والأمانة : ضد الخيانة... فأما آمنته المتعدي فهو ضد أخفته. وفي التنزيل (( المحتويات ( - - - جل جلاله -- رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله } - ( قرآن كريم - رضي الله عنهم - - )) [قريش:4].
قال ابن سيده: الأمن نقيض الخوف. أمن فلاناً يأمن أمناً وأمَناً... والأمنة: الأمن ومنه (( - { - عليه السلام - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - - عز وجل - - - - رضي الله عنهم -( - الله أكبر )) [آل عمران:154] و (( ( - ( { ( المحتويات ( - - (- صلى الله عليه وسلم -(- رضي الله عنه -(( - { } - - رضي الله عنهم -( - - - - - - { - عليه السلام - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - ( مقدمة (- جل جلاله -( } تم بحمد الله )) [الأنفال:11]... وفي الحديث : «النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد. وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى الأمة ما توعد»(1) أراد بوعد السماء: إنشقاقها وذهابها يوم القيامة. وذهاب النجوم : تكويرها وانكدارها وإعدامها. وأراد بوعد أصحابه ما وقع بينهم من الفتن. وكذلك أراد بوعد الأمة ... وعن اللحياني: ورجل أمن وأمين بمعنى واحد. وفي التنزيل: (( - - - (- رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - - رضي الله عنه - - ( - - - (((( تم بحمد الله - } - - )) [التين:3] أي: الآمن يعني مكة وهو من الأمن... وقوله عز وجل : (( } تمت ( { - رضي الله عنه -((( { ( - ( - ( - - - - (( تم بحمد الله الله - - { - رضي الله عنه - تم بحمد الله - ((( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - )) [الدخان:51] أي قد أمنوا فيه من الغِيَر... والمأمن: موضع الأمن. والأمين: المستجير ليأمن على نفسه) (2).
ويقول الاستاذ محمد البرزنجي: (والمتدبر لآيات القرآن الكريم يرى أن الآيات القرآنية تتحدث عن مستويين من الأمن أو نوعين منه:
الأول: الأمن على مستوى الفرد (عامل الأمن النفسي).
الثاني: الأمن على المستوى الجماعي (الأمة).
أولاً: الأمن الفردي أو (عامل الأمن النفسي): يذكر الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام وهو يحاور قومه المشركين: (( - رضي الله عنهم - - - - صلى الله عليه وسلم - - - ( (((( - { - ( - - (( - - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - ( - } تمت ( { ( - (( - ( - - - قرآن كريم ( - فهرس - (( - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - عليه السلام - - (- رضي الله عنهم - - - ( { - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ((( - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( المحتويات ( - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( - - تم بحمد الله )) [الأنعام: 82،81].
من المعروف أن عقيدة التوحيد تأخذ مساحة واسعة من الآيات القرآنية؛ وفي هذه الآية رَبْطٌ واضح وعلامة قوية بين رسوخ عقيدة التوحيد في النفس البشرية وبين الأمن والاطمئنان؛ أما الذين لم تخالط عقيدة التوحيد قلوبهم، ولم تملأ نفوسهم فلن يشعروا أبداً بذلك الاطمئنان والأمن النفسي؛ فهُمْ في الدنيا وَجلُونَ من سخط الله، وفي الآخرة ينتظرهم عذاب من الله أليم، ويظلون طول حياتهم يخافون من المستقبل المجهول، ولا يعرفون معنى لوجودهم في هذا الكون الرحيب..
__________
(1) ... مسلم (2531).
(2) ... لسان العرب 1/140 (باختصار).(/9)
ثانياً: الأمن الجماعي (أمن الأمة الإسلامية): قال الحق سبحانه: (( - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - ( تم بحمد الله } - قرآن كريم ( - ( - - رضي الله عنه -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( تمهيد (- رضي الله عنهم - - ( - ( - ( - - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - } - - (( - ((- رضي الله عنه - - ( - - عليه السلام - - - - - (( ((( - - } - - - - رضي الله عنهم - - - - - رضي الله عنهم - - فهرس - ( - - رضي الله عنه - - ( - - - - ((( - { - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( - ( تمهيد - - - صدق الله العظيم - عليه السلام - - ( - - - عليه السلام - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - مقدمة - ( المحتويات ( - - { - ( - - ( - { - - - - ( - ( - - ( - - - ( المحتويات ( - مقدمة - المحتويات ( - } { - - ( - - - رضي الله عنه - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( - ((- رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - ((( قرآن كريم - رضي الله عنهم - - - - جل جلاله - - ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - (( - - رضي الله عنه - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم -( - ( تمهيد ((- رضي الله عنه - - - صدق الله العظيم - - قرآن كريم ( - ( - ((( - - ( - - - (( - - { - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - - - ( - - - رضي الله عنهم - - ((- رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( { ( - ( - (( - - - )) [النور:55].
قال الشوكاني في تفسير هذه الآية : والمعنى أنه سبحانه يجعل لهم مكان ما كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمناً، ويُذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه بحيث لا يخافون إلا الله ولا يرجون غيره) (1).
وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيدٌ من تحديد معنى هذا المصطلح عند ذكر بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في ذلك.
ثانياً: تعريف الإرهاب:
جاءت الراء والهاء والباء لتدل على أصلين: أحدهما يدلُّ على خوفٍ، والآخر على دقَّةٍ في الشيء وخفّةٍ فيه.
فمن الأصل الأول: (رَهِب) يَرْهَبُ رهَبَاً ورُهْبَاَ، ورَهْبَة: خاف. و(رهَب فلاناً ورهّبَه واسترهبَهُ): خوّفه وفزّعه. و(استرهبه)- أيضاً: استدعى رهبته حتى رهبه الناس. و(ترهّبَه): توعّده. و(الرّاهبة): الحالة التي تُرهِب أي تُفْزِع وتخوِّف.
و(ترهَّب الرَّاهبُ): انقطع للعبادة في صومعته. و(الرَّاهِبُ) المتعبِّد في صومعةٍ من النصارى، يتخلى عن أشغال الدنيا وملاذّها، زاهداً فيها معتزلاً أهلها. ويجمع على (رُهْبَان). وقد يكون الرهبان واحداً، فيجمع على رَهَابِين ورَهَابِنَة. و(الرَّهْبانيَّة والرَّهْبَنَة): التخلِّي عن أشغال الدنيا، وتَرْكُ ملاذها، والزهدُ فيها والعزلةُ عن أهلها. وأصلها من الرَّهْبَة، ثم صارت اسماً لما فضل عن المقدار وأفرط فيه.
وقال ابن الأثير: الرَّهبانيَّة منسوبة إلى الرَّهْبَنَة بزيادة الألف (والإرْهَابُ): الإزعاج والإخافة، تقول: يَقْشَعِرُّ الإهابُ إذا وقع منه الإرهابُ. ومن المجاز قولهم: أرهب الإبلَ عن الحوض: ذادها عنه وطردها، و(أرهبَ عنه الناسَ بأسُه ونجدتُه). ويقال: «لم أرهبْ بك»، أي: لم أسْتَرِبْ، وقالت العربُ: رَهَبُوتٌ خيرٌ من رَحَمُوتِ. يعني لأَن تُرهِب خير من أن تَرْحَم. أو لأَن تُرهَب خير من أن تُرْحَم. والمعنيان متلاقيان. وقال الراغب الأصفهاني في المفردات: (الرهبة والرُّهْبُ والرَّهَب: مخافة مع تحرز واضطراب).
ومن الأصل الثاني: وهو الدِّقَّة والخِفَّةُ: (الرَّهْب): النَّصل الرقيق، والجمع رهاب، والرَّهْب أيضاً، الجملُ الضَّامر، والناقة المهزولة. و(الرَّهاب): غُضروف كاللسان معلَّق في أسفل الصدر مشرف على البطن) (2). وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيدٌ عن هذا المصطلح عند الحديث عن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في ذكر هذا المصطلح.
__________
(1) ... مجلة البيان ، العدد 124 (باختصار).
(2) انظر: «معجم مقاييس اللغة» : 2/447، و«تهذيب اللغة»: 6/260، «الصحاح»: 1/140، و«أساس البلاغة»: 1/385، و«لسان العرب»: 3/1748، و«تاج العروس»: 2/537-542، و«النهاية في غريب الحديث والأثر»: 1/280-281، و«ديوان الأدب»: 2/79، و«المعجم الوسيط»: 1/376-377، و«المفردات للأصفهاني» ص366، (عن كتاب يسألونك عن الإرهاب ص23).(/10)
وأما تعريف الإرهاب في الاجتهاد الفقهي المعاصر فقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة تاريخ 10/1/2001 بياناً عن الإرهاب قالوا فيه: «الإرهاب هو العدوان الذي يمارسه أفرادٌ أو جماعات أو دول بغياً على الإنسان (دينه، دمه، ماله، عقله، عرضه) ويشمل صنوف التخويف والأذى والتهديد والقتل بغير حق وما يتصل بصور الحرابة وإخافة السبيل وقطع الطريق...» (1). وتجدر الإشارة إلى أنه لم يأت في الكتاب ولا في السنة ذكر مصطلح (الإرهاب) البتة.
أما تعريفها في اللغات الأجنبية فيقول د. ضميرية:
(أتتْ كلمة (الرهبة) من اللغة اللاتينية، وبعد أن ضربت بجذورها في لغات المجموعة اللاتينية، انتقلت فيما بعد إلى لغات أوروبية أخرى، فهي في اللغة الفرنسية (Terreur)، وفي اللغة الإنجليزية (Terror).
وقد عرّفها قاموس «المورد» بمعان تندرج في ثلاث مجموعات، الأولى تنتظم المعاني الآتية: رُعب، ذعر، فظاعة. وفي المجموعة الثانية : كلُّ ما يوقع الرعب في النفوس، ومظهر رهيب، ومصدر قلق، وشخص أو شيء مروِّع، وبخاصة طفل مزعج. وجاءت المعاني الآتية في المجموعة الثالثة: الإرهاب، وعهد الإرهاب.
وفيه أيضاً: (Terrorism) إرهاب، ذعر ناشيء عن الإرهاب، وكذلك (Terrorist) الإرهابي. و(Terrorize): يرهب، يروِّع، يكرهه على الإرهاب، أو يأمره به.
كما يعرِّف «قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية» المصطلحَ على أنه: حكمٌ من طريق التهديد، كما وجَّهه ونفّذه الحزب الموجود في السلطة في فرنسا، أيام ثورة 1789-1794) (2).
المبحث الثاني
ذكر بعض الآيات والأحاديث
الواردة في الأمن والإرهاب
أولاً: ذكر بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في ذكر (الأمن)
ورد في كتاب الله عز وجل آيات عديدة في ذكر الأمن وما يتصرف عنه وكذلك في الأحاديث النبوية.
فأما الآيات التي تحدثت عن الأمن فأذكر منها ما يلي:
__________
(1) ... يسألونك عن الإرهاب، د. ضميرية.
(2) يسألونك عن الأرهاب، ص22.(/11)
الآية الأولى: قوله تعالى: (( (( مقدمة { - - - - رضي الله عنه - فهرس - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة ( تم بحمد الله ( قرآن كريم - - - - رضي الله عنه - - - - - - ( - الله أكبر ( قرآن كريم - - (( { - رضي الله عنه -( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - (( ( - - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - - - سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - } - صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - قرآن كريم ( - ( - ((( - ((( مقدمة ( - - صدق الله العظيم ( { تمت - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -( - - - رضي الله عنه -( - - - ( فهرس - - عليه السلام - - - - (( - - { - - رضي الله عنهم -(( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( فهرس - - عليه السلام - - } - ( - - ((( - ( - ( - ( - (( - - - - (- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - - - - - رضي الله عنه - - - - * - رضي الله عنهم - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - } - صلى الله عليه وسلم - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( - - عليه السلام - - ((- صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - قرآن كريم (( - - - - صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - عليه السلام - - ((- صلى الله عليه وسلم - - ( - - - ( - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات - - ( - ( } - - رضي الله عنه - - ( - (( مقدمة ( - ( المحتويات ( تمهيد ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - جل جلاله - - ( - (( - ( - - - - - صلى الله عليه وسلم - - - ( (((( - { - ( - - (( - - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - ( - } تمت ( { ( - (( - ( - - - قرآن كريم ( - فهرس - (( - - * - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - عليه السلام - - (- رضي الله عنهم - - - ( { - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ((( - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( المحتويات ( - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( - - تم بحمد الله )) [الأنعام: 82،81،80].
وهذه الآية من سورة الأنعام هي الأصل الذي سأنطلق منه إن شاء الله تعالى في تأليف هذا الكتاب وما يحتويه من فصول ومباحث، لأن فيها تحديداً لمفهوم الأمن في نظر الشرع. وفيها تحديد لمصدر الأمن الحقيقي، وتحديد لأعداء الأمن وأسباب فقده أو ضعفه.
ونظراً لهذه الأهمية الكبيرة لهذه الآية فيحسن بنا أن نقف على المعاني الكبيرة التي تتضمنها من خلال أقوال بعض المفسرين الذين أطالوا الوقوف عندها.
يقول شيخ المفسرين الإمام الطبري رحمه الله تعالى:(/12)
«يقول تعالى ذكره: وجادل إبراهيم قومه في توحيد الله وبراءته من الأصنام، وكان جدالهم إياه قولُهم: أن آلهتم التي يعبدونها خير من إلهه. قال إبراهيم: (( - ( - الله أكبر ( قرآن كريم - - (( { - رضي الله عنه -( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - (( ( - - - ))، يقول: أتجادلوني في توحيدي الله وإخلاصي العمل له دون ما سواه من آلهة ((( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - ))، يقول: وقد وفقني ربي لمعرفة وحدانيته، وبصرني طريق الحق حتى أيقنتُ أن لا شيء يستحق أن يعبد سواه ((- سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - } - صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - قرآن كريم ( - ( - ((( - ((( مقدمة ( - ))، يقول: ولا أرهب من آلهتكم التي تدعونها من دونه شيئاً ينالني به في نفسي من سوء ومكروه. وذلك أنهم قالوا له: «إنا نخاف أن تمسَّك آلهتنا بسوء من برص أو خبل، لذكرك إياها بسوء»! فقال لهم إبراهيم: لا أخاف ما تشركون بالله من هذه الآلهة أن تنالني بضر ولا مكروه، لأنها لا تنفع ولا تضر (( - صدق الله العظيم ( { تمت - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -( - - - رضي الله عنه -( - - - ( فهرس - - عليه السلام - - - - (( - - { )) ، يقول: ولكن خوفي من الله الذي خلقني وخلق السموات والأرض، فإنه إن شاء أن ينالني في نفسي أو مالي بما شاء من فناء أو بقاءٍ، أو زيادة أو نقصان أو غير ذلك، نالني لأنه القادر على ذلك... ((- رضي الله عنهم -(( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( فهرس - - عليه السلام - - } - ( - - ((( - ( - ( - ( - (()) ، يقول: وعلم ربي كل شيء، فلا يخفى عليه شيء، لأنه خالق كل شيء، ليس كالآلهة التي لا تضر ولا تنفع ولا تفهم شيئاً، وإنما هي خشبة منحوتةٌ، وصورة ممثلة (( - - - (- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - - - - - رضي الله عنه - - - - )) ، يقول: ألا تعتبرون، أيها الجهلة، فتعقلوا خطأ ما أنتم عليه مقيمون، من عبادتكم صورةٍ مصوّرة وخشبة منحوتة، لا تقدر على ضر ولا على نفع، ولا تفقه شيئاً ولا تعقله، وترككم عبادة من خلقكم وخلق كل شيء، وبيده الخير، وله القدرة على كل شيء، والعالم بكل شيء...
- رضي الله عنهم - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -)) ( - - - } - صلى الله عليه وسلم - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( - - عليه السلام - - ((- صلى الله عليه وسلم - - )) : وهذا جواب إبراهيم لقومه حين خوفوه من آلهتهم أن تمسَّه، لذكره إياها بسوء، في نفسه بمكروه، فقال لهم: وكيف أخاف وأرهب ما أشركتموه في عبادتكم ربَّكم فعبدتموه من دونه، وهو لا يضر ولا ينفع؟ ولو كانت تنفع أو تضر لدفعت عن أنفسها كسري إياها وضربي لها بالفأس! وأنتم لا تخافون الله الذي خلقكم ورزقكم، وهو القادر على نفعكم وضركم في إشراككم في عبادته إياه (( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات - - ( - ( } - - رضي الله عنه - - ( - (( مقدمة ( - ( المحتويات ( تمهيد ( - فهرس - - رضي الله عنه -( (( - - جل جلاله - - ( - (( - ( - ، يعني: ما لم يعطكم على إشراككم إياه في عبادته حُجّة، ولم يضع لكم عليه برهاناً، ولم يجعل لكم به عذراً (( - - - صلى الله عليه وسلم - - - ( (((( - { - ( - - (( - - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - ( - )) ، يقول: أنا أحق بالأمن من عاقبة عبادتي ربي مخلصاً له العبادة، حنيفاً له ديني، بريئاً من عبادة الأوثان والأصنام، أم أنتم اللذين تعبدون من دون الله أصناماً لم يجعل الله لكم بعبادتكم إياها برهاناً ولا حجة (( تمت ( { ( - (( - ( - - - قرآن كريم ( - فهرس - (( - - )) ، يقول: إن كنتم تعلمون صدق ما أقول، وحقيقة ما أحتجُّ به عليكم، فقولوا وأخبروني: أيُّ الفريقين أحق بالأمن؟...
(( - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - عليه السلام - - (- رضي الله عنهم - - - ( { - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ((( - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( المحتويات ( - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( - - تم بحمد الله ))(/13)
اختلف أهل التأويل في الذي أخبر تعالى ذكره عنه أنه قال هذا القول: أعني: (( - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - عليه السلام - - (- رضي الله عنهم - - - ( { - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ((( - )) ، الآية.
فقال بعضهم: هذا فصلُ القضاء من الله بين إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم، وبين من حاجّه من قومه من أهل الشرك بالله، إذ قال لهم إبراهيم: - رضي الله عنهم - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -)) ( - - - } - صلى الله عليه وسلم - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( - - عليه السلام - - ((- صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - قرآن كريم (( - - - - صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - عليه السلام - - ((- صلى الله عليه وسلم - - ( - - - ( - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات - - ( - ( } - - رضي الله عنه - - ( - (( مقدمة ( - ( المحتويات ( تمهيد ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - جل جلاله - - ( - (( - ( - - - - - صلى الله عليه وسلم - - - ( (((( - { - ( - - (( - - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - ( - } تمت ( { ( - (( - ( - - - قرآن كريم ( - فهرس - (( - - )) ؟ فقال الله تعالى ذكره، فاصلاً بينه وبينهم: الذين صدَّقوا الله وأخلصُوا له العبادة، ولم يخلطوا عبادتهم إياه وتصديقهم له بظلم يعني: بشرك ولم يشركوا في عبادته شيئاً، ثم جعلوا عبادتهم لله خالصة، أحق بالأمن من عقابه مكروه عبادته ربَّه، من الذين يشركون في عبادتهم إياه الأوثان والأصنامَ، فإنهم الخائفون من عقابه مكروه عبادتهم. أمَّا في عاجل الدنيا فإنهم وَجلُون من حلول سخط الله بهم، وأما في الآخرة، فإنهم الموقنون بأليم عذاب الله...
وقال آخرون: هذا جوابٌ من قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم لإبراهيم، حين قال لهم: (( - - - صلى الله عليه وسلم - - - ( (((( - { - ( - - (( - - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - ( - )) ؟ فقالوا له: الذين آمنوا بالله فوحّدوه أحق بالأمن، إذ لم يلبسوا إيمانهم بظلم.
(( - رضي الله عنهم - - ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - عليه السلام - - ( - } - ( مقدمة - - - رضي الله عنهم - - ( - - جل جلاله -( - - - - - عليه السلام -( - بسم الله الرحمن الرحيم - ( - (- رضي الله عنه - - ( - ( { - - فهرس - - رضي الله عنه -( (( مقدمة ( تم بحمد الله ( قرآن كريم - - - (( - (( - - رضي الله عنه - الله أكبر - تمهيد (- رضي الله عنهم - - - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - صدق الله العظيم } تم بحمد الله (( - - - رضي الله عنه -(( - - } تمت ( { - درهم ( - - عليه السلام - - ( بسم الله الرحمن الرحيم - ( - - رضي الله عنهم - مقدمة ( بسم الله الرحمن الرحيم - ( - - رضي الله عنه -( ))
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (( - رضي الله عنهم - - ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - عليه السلام - - ( - } - ( مقدمة ))، قول إبراهيم لمخاصميه من قومه المشركين: (( - - - صلى الله عليه وسلم - - - ( (((( - { - ( - - (( - - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - ( - )) ، أمن يعبد رباًّ واحداً مخلصاً له الدين والعبادة، أم من يعبد أرباباً كثيرة؟ وإجابتهم إياه بقولهم: «بل من يعبد ربّاً واحداً أحق بالأمن»، وقضاؤهم له على أنفسهم، فكان في ذلك قطع عذرهم وانقطاع حجتهم، واستعلاء حجة إبراهيم عليهم. فهي الحجة التي أتاها الله إبراهيم على قومه) (1) م.هـ.
__________
(1) انظر: تفسير الطبري ت: شاكر 11/488-504 باختصار.(/14)
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عند قوله سبحانه: (( - رضي الله عنهم - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - } - صلى الله عليه وسلم - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( - - عليه السلام - - ((- صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - قرآن كريم (( - - - - صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - عليه السلام - - ((- صلى الله عليه وسلم - - ( - - - ( - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات - - ( - ( } - - رضي الله عنه - - ( - (( مقدمة ( - ( المحتويات ( تمهيد ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - جل جلاله - - ( - (( - ( - - - - - صلى الله عليه وسلم - - - ( (((( - { - ( - - (( - - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - ( - } تمت ( { ( - (( - ( - - - قرآن كريم ( - فهرس - (( - - )) [الأنعام:81].
(يقول لقومه: كيف يسوغ في عقل، أو عند ذي لب أن أخاف ما جعلتموه لله شريكاً في الإلهية وهي ليست بموضع نفع، ولا ضر وأنتم لا تخافون أنكم أشركتم بالله في إلهيته أشياء لم ينزل بها حجة عليكم ولا شرعها لكم. فالذي أشرك بخالقه وفاطره وباريه – الذي يقرُّ بأنه خالق السماوات والأرض ورب كل شيء ومليكه ومالك الضر والنفع- آلهة لا تخلق شيئاً وهي مخلوقة، ولا تملك لنفسها ولا لعابديها ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وجعلها نداً له ومثلا في الإلهية تعبد ويسجد لها ويخضع لها ويتقرب إليها أحق بالخوف ممن لم يجعل مع الله إلهاً آخر، بل وَحّدَه وأفرده بالإلهية والربوبية والعظمة والسلطان والحب والخوف والرجاء فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون. فحكم الله سبحانه بينهما بأحسن حكم خضعت له القلوب، وأقرت به الفطر، وانقادت له العقول فقال: (( - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - عليه السلام - - (- رضي الله عنهم - - - ( { - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ((( - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( المحتويات ( - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( - - تم بحمد الله )) [الأنعام:82] (1) .
ويقول في موطن آخر عند نفس الآية أيضاً:
(ولما نزل قوله تعالى: (( - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - عليه السلام - - (- رضي الله عنهم - - - ( { - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ((( - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( المحتويات ( - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( - - تم بحمد الله )) [الأنعام:82].
قال الصحابة: وأينا يارسول الله لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال: ذلك الشرك، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: (( - - ( { - - ( - (- صلى الله عليه وسلم -( - - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - (( - - ( بسم الله الرحمن الرحيم - ((- رضي الله عنه -( )) (2) [لقمان:13].
فلما أشكل عليهم المراد بالظلم، وظنوا أن ظلم النفس داخل فيه، وأن من ظلم نفسه أي ظلم كان لا يكون آمناً، أجابهم – صلوات الله وسلامه عليه- بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق، هو الشرك. وهذا والله الجواب الذي يشفي العليل ويروي الغليل، فإن الظلم المطلق التام هو الشرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها، والأمن والهدى المطلق: هو الأمن في الدنيا والآخرة والهدى إلى الصراط المستقيم؛ فالظلم المطلق التام مانع من الأمن والهدى المطلق. ولا يمنع ذلك أن يكون مطلق الظلم مانعاً من مطلق الأمن ومطلق الهدى، فتأمله. فالمطلق للمطلق والحصة للحصة) (3).
ويقول صاحب الظلال- رحمه الله تعالى- عند هذه الآية:
__________
(1) الصواعق المرسلة 1/488، 489.
(2) رواه البخاري (3429)، مسلم (198).
(3) الصواعق المرسلة 3/1057، 1058.(/15)
(إن الفطرة حين تنحرف تضل؛ ثم تتمادى في ضلالها، وتتسع الزاوية ويبعد الخط عن نقطة الابتداء، حتى ليصعب عليها أن تثوب.. وهؤلاء قوم إبراهيم – عليه السلام- يعبدون أصناماً وكواكب ونجوماً. فلا يتفكرون ولا يتدبرون هذه الرحلة الهائلة التي تمت في نفس إبراهيم. ولم يكن هذا داعياً لهم لمجرد التفكير والتدبر. بل جاءوا يجادلونه ويحاجونه. وهم على هذا الوهن الظاهر في تصوراتهم وفي ضلال مبين.
ولكن إبراهيم المؤمن الذي وجد الله في قلبه وعقله وفي الوجود كله من حوله، يواجههم مستنكراً في طمأنينة ويقين «قال: أتحاجوني في الله وقد هدانِ؟»..
أتجادلونني في الله وقد وجدته يأخذ بيدي، ويفتح بصيرتي، ويهديني إليه، ويعرفني به، لقد أخذ بيدي وقادني فهو موجود- وهذا هو في نفسي دليل الوجود- لقد رأيته في ضميري وفي وعيي، كما رأيته في الكون من حولي. فما جدالكم في أمر أنا أجده في نفسي ولا أطلب عليه الدليل. فهدايته لي إليه هي الدليل؟!.
((- سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - } - صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - قرآن كريم ( - ( - ((( - ((( مقدمة ( - ))..
وكيف يخاف من وجد الله؟ وماذا يخاف ومن ذا يخاف؟ وكل قوة- غير قوة الله- هزيلة وكل سلطان- غير سلطان الله- لا يُخاف؟!
ولكن إبراهيم في عمق إيمانه، واستسلام وجدانه، لا يريد أن يجزم بشيء إلا مرتكناً إلى مشيئة الله الطليقة، وإلى علم الله الشامل:
- صدق الله العظيم ( { )) تمت - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -( - - - رضي الله عنه -( - - - ( فهرس - - عليه السلام - - - - (( - - { - - رضي الله عنهم -(( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( فهرس - - عليه السلام - - } - ( - - ((( - ( - ( - ( - (()).
فهو يكل إلى مشيئة الله حمايته ورعايته؛ ويعلن أنه لا يخاف من آلهتهم شيئاً، لأنه يركن إلى حماية الله ورعايته. ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما شاء الله، ووسعه علمه الذي يسع كل شيء.
(( - رضي الله عنهم - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - } - صلى الله عليه وسلم - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( - - عليه السلام - - ((- صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - قرآن كريم (( - - - - صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - عليه السلام - - ((- صلى الله عليه وسلم - - ( - - - ( - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات - - ( - ( } - - رضي الله عنه - - ( - (( مقدمة ( - ( المحتويات ( تمهيد ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - جل جلاله - - ( - (( - ( - - - - - صلى الله عليه وسلم - - - ( (((( - { - ( - - (( - - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - ( - } تمت ( { ( - (( - ( - - - قرآن كريم ( - فهرس - (( - - )).
إنه منطق المؤمن الواثق المدرك لحقائق هذا الوجود. إنه إن كان أحد قميناً بالخوف فليس هو إبراهيم، وليس هو المؤمن الذي يضع يده في يد الله ويمضي في الطريق. وكيف يخاف آلهة عاجزة – كائنة ما كانت هذه الآلهة، والتي تتبدى أحياناً في صورة جبارين في الأرض بطاشين؛ وهم أمام قدر الله مهزولون مضعوفون!- كيف يخاف إبراهيم هذه الآلهة الزائفة العاجزة، ولا يخافون هم أنهم أشركوا بالله ما لم يجعل له سلطاناً ولا قوة من الأشياء والأحياء؟ وأي الفريقين أحق بالأمن؟ الذي يؤمن به ويكفر بالشركاء؟ أم الذي يشرك بالله مالا سلطان له ولا قوة؟ أي الفريقين أحق بالأمن، لو كان لهم شيء من العلم والفهم؟!
هنا يتنزل الجواب من الملأ الأعلى ؛ ويقضي الله بحكمه في هذه القضية:
(( - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - عليه السلام - - (- رضي الله عنهم - - - ( { - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ((( - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( المحتويات ( - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( - - تم بحمد الله ))
الذين آمنوا وأخلصوا أنفسهم لله، لا يخلطون بهذا الإيمان شركاً في عبادة ولا طاعة ولا اتجاه. هؤلاء لهم الأمن، وهؤلاء هم المهتدون..) (1) أ.هـ.
__________
(1) في ظلال القرآن، 2/1142،1141.(/16)
وبعد هذا الاستعراض لأقوال بعض المفسرين في تفسيرهم لهذه الآيات من سورة الأنعام يمكننا الوصول إلى الفوائد التالية:
الفائدة الأولى:
إن الثبات والطمأنينة والسكينة لا تسكن إلا في قلب الموحد لربه المتبرئ من الشرك وأهله، فإذا ذهب التوحيد فليس هناك إلا الخوف والقلق والاضطراب.
الفائدة الثانية:
قوة حجة الموحد، وارتفاعها على حجة المشركين الداحضة المتهافتة، وقوتها وقهرها لكل حجة تخالفها.
الفائدة الثالثة:
توحيد الله عز وجل والبراءة من الشرك تثمر لصاحبها الأمن والأمان والهداية والسلامة من المخاوف في الدنيا ويوم موته ويوم القيامة. والعكس من ذلك الشرك- والعياذ بالله تعالى- فإنه يورث لصاحبه الخوف والشقاء والخذلان في دنياه ويوم موته ويوم يبعث يوم القيامة حياً. والعبد محتاج إلى الأمن في جميع أحواله ولكن حاجته إلى الأمن والسلامة في هذه المواطن أشد، ولذلك امتن الله عز وجل على أنبيائه وأوليائه الموحدين بذلك كما في قوله تعالى عن يحي ابن زكريا عليهما الصلاة والسلام: (( ( المحتويات ( فهرس - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( مقدمة ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - ( - (- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( { - رضي الله عنهم -(( - ( - - صدق الله العظيم - - رضي الله عنهم - مقدمة )) [مريم:15] وذكر مقولة عبده ورسوله عيسى عليه الصلاة والسلام في مهده : (( ( المحتويات ( فهرس - - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - { - فهرس - - رضي الله عنه -( - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - المحتويات - ( - (- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - قرآن كريم ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( { - رضي الله عنهم -(( - ( - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة )) [مريم:33]. ويعلق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على هذه الآيات بقوله: (قيل: ما الحكمة في تقييده السلام في قصتي يحيى والمسيح صلوات الله عليهما بهذه الأوقات الثلاثة؟
فَسِرُّه والله أعلم: أن طلب السلامة يتأكد في المواضع التي هي مظان العطب، ومواطن الوحشة، وكلما كان الموضع مظنة ذلك تأكد طلب السلامة، وتعلقت بها الهمة، فذكرت هذه المواطن الثلاثة لأن السلامة فيها آكد وطلبها أهم، والنفس عليها أحرص، لأن العبد فيها قد انتقل من دار كان مستقراً فيها موطن النفس على صحبتها وسكناها إلى دار هو فيها معرض للآفات والمحن والبلاء؛ فإن الجنين من حين خرج إلى هذه الدار انتصب لبلائها وشدائدها ولأوائها ومحنها وأفكارها كما أفصح الشاعر بهذا المعنى حيث يقول:
تأمل بكاء الطفل عند خروجه
تجد تحته سراً عجيباً كأنه
وإلا فما يبكيه منها وإنها ... إلى هذه الدنيا إذا هو يولد
بكل الذي يلقاه منها مهدد
لأوسع مما كان فيه وأرغد
ولهذا من حين ابتدرته طعنة الشيطان في خاصرته فبكى لذلك ولما حصل له من الوحشة بفراق وطنه الأول وهو الذي أدركه الأطباء والطبائعيون. وأما ما أخبر به الرسول فليس في صناعتهم ما يدل عليه، كما ليس فيها ما ينفيه؛ فكان طلب السلامة في هذه المواطن من آكد الأمور.
الموطن الثاني: خروجه من هذه الدار إلى دار البرزخ عند الموت ونسبة الدنيا إلى تلك الدار كنسبة داره في بطن أمه إلى الدنيا تقريباً وتمثيلاً، وإلا فالأمر أعظم من ذلك وأكبر. وطلب السلامة أيضاً عند انتقاله إلى تلك الدار من أهم الأمور.
الموطن الثالث: موطن يوم القيامة يوم يبعث الله الأحياء. ولا نسبة لما قبله من الدور إليه. وطلب السلامة فيه آكد من جميع ما قبله؛ فإن عطبه لا يستدرك، وعثرته لا تقال، وسقمه لا يداوى، وفقره لا يسد. فتأمل كيف خص هذه المواطن بالسلام لشدة الحاجة إلى السلامة فيها.(/17)
واعرف قدر القرآن، وما تضمنه من الأسرار، وكنوز العلم والمعارف التي عجزت عقول الخلائق عن إحصاء عشر معشارها. وتأمل ما في السلام من الزيادة على السلامة من الأنس وذهاب الوحشة. ثم نزل ذلك على الوحشة الحاصلة للعبد في هذه المواطن الثلاثة عند خروجه إلى عالم الابتلاء، وعند معاينته هول المطلع إذا قدم على الله وحيداً مجرداً عن كل مؤنس إلا ما قدمه من صالح عمل، وعند موافاته القيامة مع الجمع الأعظم ليصير إلى إحدى الدارين التي خلق الله واستعمل بعمل أهلها. فأي موطن أحق بطلب السلامة من هذه المواطن، فنسأل الله السلامة فيها بمنه وكرمه ولطفه وجوده وإحسانه) (1) أ.هـ.
الفائدة الرابعة:
أمن الناس واهتداؤهم ليس على درجة واحدة، وإنما يتفاوت الناس في الحصول عليهما، أو فقدهما حسب ما يكون عند العبد من الإيمان والتوحيد، وذلك حسب الفئات التالية:
الفئة الأولى: من يكون لهم الأمن التام والاهتداء التام في جميع أحوالهم في الدنيا والآخرة وهم الذين حققوا التوحيد، وسلموا من ظلم العباد وأدوا الواجبات، وتركوا المحرمات وماتوا على توبة نصوح من جميع الذنوب.
الفئة الثانية: من يحصل لهم الأمن والاهتداء بدخولهم الجنة في نهاية أمرهم بسبب ما معهم من التوحيد، لكنهم معرضون للخوف في الدنيا أو في البرزخ، أو يوم القيامة بسبب ظلمهم لأنفسهم ببعض المعاصي التي لم يتوبوا منها، أو بظلمهم للعباد؛ فهؤلاء أَهل الأمن والاهتداء الناقصين.
الفئة الثالثة: من حرموا أصل الأمن والاهتداء بسبب ما تلبسوا به من الظلم الأكبر وهو الشرك بالله عز وجل، فهؤلاء ليس لهم أمن، ولا اهتداء لا في الدنيا ولا في البرزخ ولا في الآخرة، وإنما هم في عذاب وخوف لا ينقطع.
وهذا ما فهم من كلام ابن القيم السابق رحمه الله تعالى. وأزيد الأمر وضوحاً بما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عند كلامه عن أنواع الظلم الثلاثة حيث يقول رحمه الله تعالى: (فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة؛ كان له الأمن التام، والاهتداء التام. ومن لم يسلم من ظلمه نفسه؛ كان له الأمن والاهتداء مطلقاً، بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى. وقد هداه إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه نفسه. وليس مراد النبي × بقوله ((إنما هو الشرك)) أن من لم يشرك الشرك الأكبر، يكون له الأمن التام، والاهتداء التام. فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف، لم يحصل لهم الأمن التام ولا الاهتداء التام الذي يكونون به مهتدين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من غير عذاب يحصل لهم؛ بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط، ومعهم أصل نعمة الله عليهم، ولابد لهم من دخول الجنة. وقول النبي × ((إنما هو الشرك)) إن أراد به الشرك الأكبر، فمقصوده أن من لم يكن من أهله، فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة وهو مهتد إلى ذلك. وإن كان مراده جنس الشرك؛ فيقال: ظلم العبد نفسه كبخله لحب المال ببعض الواجب؛ هو شرك أصغر. وحبه ما يبغضه الله حتى يكون يقدم هواه على محبة الله شرك أصغر، ونحو ذلك. فهذا صاحبه قد فاته من الأمن والاهتداء بحسبه. ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الظلم بهذا الاعتبار) (2) أ.هـ.
وقد أكد هذا المعنى الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لقوله تعالى: (( - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - عليه السلام - - (- رضي الله عنهم - - - ( { - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ((( - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( المحتويات ( - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( - - تم بحمد الله )) حيث قال: (فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا، لا بشرك، ولا بمعاصي، حصل لهم الأمن التام، والهداية التامة. وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم يحصل لهم كمالها.
ومفهوم الآية الكريمة، أن الذين لم يحصل لهم الأمران، لم يحصل لهم هداية، ولا أمن، بل حظهم الضلال والشقاء) (3).
__________
(1) بدائع الفوائد 2/168-169 عن بدائع التفسير 3/136،135.
(2) مجموع الفتاوى 7/82،81.
(3) تفسير السعدي 2/39.(/18)
هذا ما يتعلق بالآية الأولى من الآيات الي ذكر فيها الأمن، مصدره وثمرته وقد أطلت الكلام فيها لأهميتها، ولأنها – كما ذكرت- ترسم الأصل القويم للأمن وتحدد معناه وتكشف لنا الحقيقة الكبرى التي مفادها أن الأمن والسلام، والطمأنينة والسعادة في الدنيا والآخرة لا يمكن الحصول عليها إلا في ظل الإسلام والإيمان، والبراءة من الشرك والكفر سواء على مستوى الفرد أو الجماعة أو الدول أو البشرية بأسرها، وأن الإعراض عن الله عز وجل وعبادته وعبادة غيره من الشركاء والأهواء إنما يعني ذلك الخوف والقلق والإرهاب والشقاء، في الدنيا كما هو الحاصل اليوم لمعظم البشرية، والعذاب والعناء والشقاء في الآخرة.
الآية الثانية: قوله تعالى: (( - - - عليه السلام - - - (- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - الله - - الله - رضي الله عنه - تم بحمد الله - { - رضي الله عنه - - ( - - - ( تمهيد - رضي الله عنه - الله أكبر - - - - { - - جل جلاله -( تم بحمد الله - - عليه السلام -( - { } - ((- رضي الله عنهم - - (( - تم بحمد الله - - رضي الله عنهم - - - ( - ( - - رضي الله عنه - - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - ( - - - جل جلاله - - - (- عليه السلام - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله (- صلى الله عليه وسلم - - ( - - تمت - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات - رضي الله عنه - - - ( - تمهيد - ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ((( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - - - - - رضي الله عنهم - - - - ( - - - صلى الله عليه وسلم - - - ( ( - - - { } - - رضي الله عنه - تمهيد ( - (( قرآن كريم ( - ( - - - ( - ( قرآن كريم - رضي الله عنهم - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ( - } - قرآن كريم ( الله أكبر - - - - - قرآن كريم ((- عليه السلام - - ((- رضي الله عنه - - )) [النحل:112].
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية: (وهذه القرية هي مكة المشرفة التي كانت آمنة مطمئنة لا يهاج فيها أحد وتحترمها الجاهلية حتى إن أحدهم يجد فيها قاتل أبيه وأخيه فلا يهيجه مع شدة الحمية فيهم، والنعرة العربية، فحصل لها في مكة من الأمن التام مالم يحصل في سواها وكذلك الرزق الواسع. كانت بلدة ليس فيها زرع ولا شجر، ولكن الله يسر لها الرزق، يأتيها من كل مكان؛ فجاءهم رسول منهم يعرفون أمانته وصدقه يدعوهم إلى أكمل الأمور، وينهاهم عن الأمور السيئة فكذبوه، وكفروا بنعمة الله عليهم، فأذاقهم الله ضد ما كانوا فيه وألبسهم لباس الجوع الذي هو ضد الرغد. والخوف الذي هو ضد الأمن، وذلك بسبب صنيعهم وكفرهم، وعدم شكرهم (( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - رضي الله عنهم - - فهرس - - ( ( - - - ( صدق الله العظيم ( - ( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - - (( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( - ((- رضي الله عنه - - )) (1)أ.هـ
الآية الثالثة: قوله تعالى : (( - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - (- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - - صلى الله عليه وسلم -( - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات - - رضي الله عنه -(( - - - - - - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - ( - - - ( المحتويات ( - ( - - عليه السلام -(( - - } - - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - عليه السلام - - ( - ( - - رضي الله عنه - - ( - - - - - رضي الله عنهم -(( - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( { ( - - رضي الله عنهم - مقدمة - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - (((( - - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - - - ( - ( - - رضي الله عنه - - - (( ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( تمهيد - - - { - - - - رضي الله عنهم - - - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه -((( - ( - ((( - ( - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - - ( - ( - - رضي الله عنه - - - - فهرس - - رضي الله عنه -( - - - قرآن كريم - - - صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله } تمت ( - - ( ( المحتويات ( - ( - - عليه السلام - - ( - - صلى الله عليه وسلم -((- رضي الله عنه - - - - ( بسم الله الرحمن الرحيم - ( مقدمة { - )) [النحل: 45-47].
__________
(1) تفسير السعدي، 3/88.(/19)
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآيات: (هذا تخويف من الله تعالى لأهل الكفر والتكذيب، وأنواع المعاصي، من أن يأخذهم بالعذاب على غِرَّة، وهم لا يشعرون. إما أن يأخذهم العذاب من فوقهم، أو من أسفل منهم، بالخسف أو غيره. وإما في حال تَقَلُّبِهم وشغلهم، وعدم خطور العذاب ببالهم، وإما في حال تخوفهم من العذاب. فليسوا بمعجزين الله، في حالة من هذه الأحوال، بل هم تحت قبضته، ونواصيهم بيده. ولكنه رؤوف رحيم، لا يعاجل العاصين بالعقوبة، بل يمهلهم ويعافيهم ويرزقهم وهم يؤذونه، ويؤذون أولياءه. ومع هذا يفتح لهم أبواب التوبة ويدعوهم إلى الإقلاع عن السيئات، التي تضرهم، ويعدهم بذلك أفضل الكرامات ومغفرة ما صدر عنهم من الذنوب.
فليستح المجرم من ربه، أن تكون نعم الله عليه نازلة في جميع الحالات، ومعاصيه صاعدة إلى ربه في كل الأوقات, وليعلم أن الله يمهل ولا يهمل، وأنه إذا أخذ العاصي أخذه أخذ عزيز مقتدر. فليتب إليه، وليرجع في جميع أموره إليه، فإنه رؤوف رحيم.
فالبدار البدار إلى رحمته الواسعة، وبره العميم، وسلوك الطرق الموصلة إلى فضل الرب الرحيم، ألا وهي تقواه، والعمل بما يحبه ويرضاه) (1).
الآية الرابعة: قوله تعالى: (( ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } تمت - صلى الله عليه وسلم - - - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - - - رضي الله عنه - - ( { ( - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( } - ( قرآن كريم - { } - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنه - - - ( - - المحتويات ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - تمهيد ( - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله (( - - - رضي الله عنهم - - - - - - - ((( - - } - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم ( - ( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - } - - - تمهيد ( - (- رضي الله عنه - الله أكبر ( - - } - صلى الله عليه وسلم - - - ( - - رضي الله عنهم - - ( - } - قرآن كريم ( الله أكبر - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( - ( - - رضي الله عنه - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - (- صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - - - رضي الله عنه - - ( { ( - - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - المحتويات ( - - عليه السلام - - ( - ( - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام - - ( - ( - - رضي الله عنه - - - - - (- عليه السلام - - - رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - (( - - - رضي الله عنه - الله أكبر - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - - - رضي الله عنه - - ( { ( - - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - المحتويات ( - - عليه السلام - - ( - ( - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام - - ( - ( - - رضي الله عنه - - (- جل جلاله -((( ( المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - - رضي الله عنهم -(( - - رضي الله عنه - - } - قرآن كريم ( - ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - (- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - - ( تمهيد - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - - - - - - - ( ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - ( تمهيد - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - - - - صدق الله العظيم ( { ( بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - { ( - - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - (- رضي الله عنهم - - ( - - - ()) [الأعراف: 96-99].
__________
(1) نفس المصدر السابق، 3/63،62.(/20)
وأقتطف بعض ما ذكره سيد قطب رحمه الله تعالى عن هذه الآيات حيث يقول: (ولقد ينظر بعض الناس فيرى أمماً يقولون: إنهم مسلمون- مضيقاً عليهم في الرزق، لا يجدون إلا الجدب والمحق!.. ويرى أمماً لا يؤمنون ولا يتقون، مفتوحاً عليهم في الرزق والقوة والنفود. فيتساءل: وأين إذن هي السنة التي لا تتخلف؟ ولكن هذا وذلك وهم تخيله ظواهر الأحوال. إن أولئك الذين يقولون إنهم مسلمون لا مؤمنون ولا متقون. إنهم لا يخلصون عبوديتهم لله ولا يحققون في واقعهم شهادة أن لا إله إلا الله... ويوم كان أسلاف هؤلاء الذين يزعمون الإيمان مسلمين حقاً دانت لهم الدنيا وفاضت عليهم بركات من السماء والأرض وتحقق لهم وعد الله. فأما أولئك المفتوح عليهم في الرزق، فهذه هي السنة.. «ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا، وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء»! فهو الابتلاء بالنعمة الذي مر ذكره. وهو أخطر من الابتلاء بالشدة، وفرق بينه وبين البركات التي يعدها الله من يؤمنون ويتقون. فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به، وكان معه الصلاح والأمن والرضى والارتياح.. وكم من أمة غنية قوية ولكنها تعيش في شقوة، مهددة في أمنها، مقطعة الأواصر بينها، يسود الناس فيها القلق وينتظرها الانحلال. فهي قوة بلا أمن، وهو متاع بلا رضى، وهي وفرة بلا صلاح، وهو حاضر زاهٍ يترقبه مستقبل نكد. وهو الابتلاء الذي يعقبه النكال..
إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى بركات في الأشياء، وبركات في النفوس، وبركات في المشاعر؛ وبركات في طيبات الحياة. بركات تنمي الحياة وترفعها في آن. وليست مجرد وفرة مع الشقوة والتردي والانحلال.
وبعد أن يقرر السياق القرآني تلك السنة الجارية التي يشهد بها تاريخ القرى الحالية. وفي اللحظة التي تنتفض فيها المشاعر، ويرتعش فيها الوجدان على مصارع المكذبين الذين لم يؤمنوا ولم يتقوا، وغرهم ما كانوا فيه من رخاء ونعماء، فغفلوا عن حكمة الله في الابتلاء.. في هذه اللحظة يتجه إلى الغافلين السادرين، يوقظ فيهم مشاعر الترقب أن يأتيهم بأس الله في أية لحظة من ليل أو نهار، وهم سادرون في النوم واللهو والمتاع: (( - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - (- صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - - - رضي الله عنه - - ( { ( - - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - المحتويات ( - - عليه السلام - - ( - ( - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام - - ( - ( - - رضي الله عنه - - - - - (- عليه السلام - - - رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - (( - - - رضي الله عنه - الله أكبر - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - - - رضي الله عنه - - ( { ( - - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - المحتويات ( - - عليه السلام - - ( - ( - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام - - ( - ( - - رضي الله عنه - - (- جل جلاله -((( ( المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - - رضي الله عنهم -(( - - رضي الله عنه - - } - قرآن كريم ( - ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - (- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - - ( تمهيد - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - - - - - - - ( ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - ( تمهيد - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - - - - صدق الله العظيم ( { ( بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - { ( - - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - (- رضي الله عنهم - - ( - - - ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - - رضي الله عنه - - - صدق الله العظيم - ( - { - ( - - - قرآن كريم ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -(( - - } - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ((- رضي الله عنه - - - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - ( قرآن كريم { - (( - - - رضي الله عنه -( فهرس - المحتويات ( - (- عليه السلام - - ( - - (- صلى الله عليه وسلم - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - قرآن كريم ( الله أكبر ( - ( - - ((- رضي الله عنه - - ((- رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - - رضي الله عنه -( ( المحتويات ( - ( - قرآن كريم ( - ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - ( - صدق الله العظيم - - قرآن كريم ((- رضي الله عنهم - - ( - - - )) [الأعراف: 97-100].(/21)
إن سنة الله لا تتخلف، ومشيئة الله لا تتوقف. فما الذي يؤمنهم أن يأخذهم الله بذنوبهم كما أخذ من قبلهم؟ وأن يطبع على قلوبهم فلا يهتدوا بعد ذلك. بل لا يستمعوا إلى دلائل الهدى، ثم ينالهم جزاء الضلال في الدنيا والآخرة. ألا إنه مصارع الخالدين قبلهم، ووراثتهم لهم، وسنة الله الجارية. كل أولئك كان نذيرا لهم أن يتقوا ويحذروا؛ وأن يطرحوا عنهم الأمن الكاذب، والاستهتار السادر، والغفلة المردية؛ وأن يعتبروا بما كان في الذين خلوا من قبلهم. عسى ألا يكون فيهم لو كانوا يسمعون!
وما يريد الله للناس بهذا التحذير في القرآن أن يعيشوا مفزعين قلقين؛ يرتجفون من الهلاك والدمار أن يأخذهم في لحظة من ليل أو نهار. فالفزع الدائم من المجهول، والقلق الدائم من المستقبل، وتوقع الدمار في كل لحظة.. قد تشل طاقة البشر وتشتتها؛ وقد تنتهي بهم إلى اليأس من العمل والنتاج، وتنمية الحياة وعمارة الأرض.. إنما يريد الله منهم اليقظة والحساسية والتقوى، ومراقبة النفس، والعظة بتجارب البشر، ورؤية محركات التاريخ الإنساني، وإدامة الاتصال بالله، وعدم الاغترار بطراءة العيش ورخاء الحياة.
والله يعد الناس الأمن والطمأنينة، والرضوان والفلاح في الدنيا والآخرة، إذا هم أرهفوا حساسيتهم به، وإذا هم أخلصوا العبودية له؛ وإذا هم اتقوه فاتقوا كل ما يلوث الحياة. فهو يدعوهم إلى الأمن في جوار الله لا في جوار النعيم المادي المغري. وإلى الثقة بقوة الله لا بقوتهم المادية الزائلة. وإلى الركون إلى ما عند الله لا إلى ما يملكون من عرض الحياة.
ولقد سلف من المؤمنين بالله المتقين لله سلف ما كان يأمن مكر الله، وما كان يركن إلى سواه. وكان بهذا وذاك عامر القلب بالإيمان، مطمئنا بذكر الله، قويا على الشيطان وعلى هواه، مصلحاً في الأرض بهدى الله، لا يخشى الناس والله أحق أن يخشاه.
وهكذا ينبغي أن نفهم ذلك التخويف الدائم من بأس الله الذي لا يدفع، ومن مكر الله الذي لا يدرك. لندرك أنه لا يدعو إلى القلق إنما يدعو إلى اليقظة، ولا يؤدي إلى الفزع إنما يؤدي إلى الحساسية، ولا يعطل الحياة إنما يحرسها من الاستهتار والطغيان) (1).
الآية الخامسة: قوله تعالى: (( ( قرآن كريم { - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - ( - { - رضي الله عنه - - ( - - - - فهرس - - رضي الله عنه -( ( { - { - ( - { ( - - - المحتويات ( - ( - - جل جلاله -( - - { ( - - } (( - - } تم بحمد الله - { - - رضي الله عنهم - - - ( ( - ( } - - جل جلاله -( - ((- عليه السلام - - ( - - ( مقدمة - (( - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ((( - ((( - صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ( - ( - ( - (( مقدمة ( فهرس - - عليه السلام - - ( مقدمة ( - ( - ( - - - - - - - - - - رضي الله عنه -( - - جل جلاله - - - رضي الله عنهم -( - ()) [الجن: 17،16].
فذكر الله سبحانه في هذه الآية أن إغداق الرزق، والأمن على ذلك مرهون بالاستقامة على طاعة الله تعالى، وأن العذاب والشقاء والحزن في الدنيا والآخرة ثمرة الإعراض عن ذكر الله تعالى وطاعته.
الآية السادسة: ما قصه الله تعالى علينا من دعوة مؤمن آل فرعون لقومه وتخويفه لهم من عذاب الله تعالى الذي أصاب الكفار من قبلهم كالغرق والصيحة والريح، وخوفه عليهم من عذاب الله الأبدي يوم القيامة إن هم كفروا ولم يؤمنوا بما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام من التوحيد وعبادة الله وحده.
__________
(1) في ظلال القرآن 3/1340-1341 (باختصار).(/22)
قال الله تعالى: (( - رضي الله عنه - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - { - - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( الله ( قرآن كريم - { (- رضي الله عنه - - ( - ( - الله أكبر ( { ( - - - } - صلى الله عليه وسلم - - المحتويات ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - ( الله ( } تم بحمد الله ( الله ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - ( - - - رضي الله عنه - - ( مقدمة - } - - - - ( الله ( تم بحمد الله ( - ( - - رضي الله عنهم - - ( الله ( قرآن كريم - - - - رضي الله عنهم - قرآن كريم ( الله أكبر - - - - رضي الله عنه -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم - - قرآن كريم ( - - صلى الله عليه وسلم - بسم الله الرحمن الرحيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -((( - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( - ((- رضي الله عنه - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - ( - - ( - ( - - - - ( - (( ( - - - رضي الله عنه - - ((( - ( - - ( الله ( قرآن كريم - { (- رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - الله أكبر ( { ( - - - } - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - ( - - - عليه السلام - - ( - - - - )) [غافر: 30-33] إلى قوله: (( ( الله ( قرآن كريم - { (- رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - ( - ( المحتويات ( - قرآن كريم ((( - - صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - ( { ( - - قرآن كريم - رضي الله عنهم - - } - - - - ( - ( - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ((( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - فهرس - ( { ( - - } - - - - (( - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ((( - - - - رضي الله عنه - - ((( - - } ( - - - ( - - - ( - ((( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة ( - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله { { ( - - - - ( - (( مقدمة ( - ( المحتويات ( - (( بسم الله الرحمن الرحيم - - رضي الله عنه - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - قرآن كريم ((( - - صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - ( { ( - - ( - - رضي الله عنهم -(( - - - ( - ( } (- رضي الله عنه -(( - - - )) [غافر: 42،41].
الآية السابعة: قوله تعالى: (( - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - ( تم بحمد الله } - قرآن كريم ( - ( - - رضي الله عنه -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( تمهيد (- رضي الله عنهم - - ( - ( - ( - - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - } - - (( - ((- رضي الله عنه - - ( - - عليه السلام - - - - - (( ((( - - } - - - - رضي الله عنهم - - - - - رضي الله عنهم - - فهرس - ( - - رضي الله عنه - - ( - - - - ((( - { - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( - ( تمهيد - - - صدق الله العظيم - عليه السلام - - ( - - - عليه السلام - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - مقدمة - ( المحتويات ( - - { - ( - - ( - { - - - - ( - ( - - ( - - - ( المحتويات ( - مقدمة - المحتويات ( - } { - - ( - - - رضي الله عنه - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( - ((- رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - ((( قرآن كريم - رضي الله عنهم - - - - جل جلاله - - ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - (( - - رضي الله عنه - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم -( - ( تمهيد ((- رضي الله عنه - - - صدق الله العظيم - - قرآن كريم ( - ( - ((( - - ( - - - (( - - { - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - - - ( - - - رضي الله عنهم - - ((- رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( { ( - ( - (( - - - )) [النور: 55].(/23)
والآيات في بيان أن الأمن والطمأنينة، والرغد في العيش، والسعادة في النفوس دنياً وأخرى مرتبط بالإيمان بالله تعالى، وتوحيده وطاعته. وأن الخوف والفزع والجوع والقلق مرتبط بالكفر بالله تعالى ومعصيته كثيرة جداً. وأكتفي بما ذكرته آنفاً لبيان المقصود والحمد لله رب العالمين.
وأما الأحاديث الواردة في ذكر الأمن وما يتعلق به فمنها ما يلي:
الحديث الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله × إذا رأى الهلال قال: ((الله أكبر. اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحبه ربنا ويرضى. ربنا وربك الله))(1).
الحديث الثاني: عن سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطي عن أبيه وكانت له صحبة قال قال رسول الله × : ((من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه. فكأنما حيزت له الدنيا)) (2).
الحديث الثالث: عن ابن رفاعة الزرقي عن أبيه قال قال أبي لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله × استووا حتى أثني على ربي، فصاروا خلفه صفوفاً فقال ((اللهم لك الحمد كله اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين. اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق)) (3).
الحديث الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله × قال: ((المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)) (4).
الحديث الخامس: عن حذيفة ابن اليمان رضي الله تعالى عنه قال حدثنا رسول الله × حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا (( أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة وحدثنا عن رفعها قال ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة فتقبض، فيبقى أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك، فنفط فتراه منتبراً وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال إن في بني فلان رجلاً أميناً ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ولقد أتى علىَّ زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما رده علي الإسلام، وإن كان نصرانيا رده عليّ ساعيه. فأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلانا وفلانا)) (5).
الحديث السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله × وقف على أناس جلوس فقال: (( ألا أخبركم بخيركم من شركم قال: خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره. وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره)) (6).
الحديث السابع: عن شرحبيل بن السمط عن سلمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله × يقول: (( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه. وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن من الفتان)) (7).
الحديث الثامن: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله × ((المستشار مؤتمن)) (8).
الحديث التاسع: عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي × قالت «ما رأيت رسول الله × ضاحكاً حتى أرى من لهواته. إنما كان يبتسم . قالت: وكان إذا رأى غيما أو ريحاً عُرف في وجهه، قالت: يارسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عُرف في وجهك الكراهية؟ فقال: (( ياعائشة ما يُؤمني أن يكون فيه عذاب؟ عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا (( - - - (- رضي الله عنهم - - ((( - - - رضي الله عنه -( - - رضي الله عنه - الله أكبر ( - (((( - الله )) [الأحقاف: 24] (9).
__________
(1) رواه الدارمي في سنته (1639) وقال الألباني صحيح بشواهده. انظر تخريج الكلم الطيب، ص:139.
(2) رواه الترمذي في الزهد باب التوكل على الله وقال حسن غريب، ورواه ابن ماجه (4141) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6042).
(3) رواه أحمد في مسنده (3/424).
(4) النسائي. وقال الألباني في صحيح النسائي: حسن صحيح (4622) ورواه الترمذي (2775).
(5) البخاري (6497) ومسلم (230).
(6) مسلم (1913) والنسائي (3167).
(7) رواه الترمذي (2263) وقال: حسن صحيح.
(8) الترمذي (2369) وأبو داود وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4277).
(9) البخاري (4829).(/24)
الحديث العاشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي × قال: ((ما ينبغي لذي الوجهين أن يكون أميناً)) (1).
ومن الآثار:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله ×، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيرا أَمِنَّاه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة»(2).
وعن الأعمش عن شقيقٍ قال قال عبد الله (كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير، ويتخذها الناس سنة. فإذا غيرت قالوا غيرت السنة. قالوا ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن قال إذا كثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلت أمناؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة(3).
وقال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مُكذِبّا(4).
وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي × كلهم يخاف النفاق على نفسه. ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل. ويذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق. وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة. لقول الله تعالى: (( ( المحتويات - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - - صلى الله عليه وسلم - - - ((( - - - فهرس - - رضي الله عنه -( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنهم -( - ( ( المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - قرآن كريم ( - فهرس - ((- رضي الله عنه - - )) [آل عمران: 135](2).
التعليق على الأحاديث والآثار السابقة:
يتبين لنا من الأحاديث والآثار السابقة أمور مهمة تتعلق بالأمن منها:
أولاً: أن حاجة العبد إلى الأمن مطلوبة في الدارين. وهو إليها في الدار الآخرة أحوج وأفقر. وهذا لا يتأتى إلا بتوحيد الله تعالى وطاعته والجهاد في سبيله سبحانه والبعد عن معاصي الله ومساخطه.
ثانياً: إن ضعف الأمن والأمانة في الناس إنما تكون بضعف أديانهم، وضعف خوفهم من الله عز وجل. فهؤلاء الذين ينبغي أن لا يؤمن جانبهم. أما من يخاف الله تعالى ويعبده وحده لا شريك له، فهو الذي يأمنه الناس، ولا يخافون بوائقه. كما جاء في مناصحة الحسن البصري رحمه الله تعالى لمن استشاره في من يزوج ابنته فقال له: (زوجها من يخاف الله ويتقيه فإنه إن أحبها أحسن إليها وأن أبغضها لم يظلمها).
ثالثاً: المؤمن لا تراه إلا خائفاً من ذنوبه لا يأمن على نفسه من الانحراف أو العقوبة لكنه خوف لا يقنطه من رحمة الله تعالى.
رابعاً: ينبغي للمؤمن أن يلح على ربه سبحانه بطلب الأمن والعافية والسلامة في الدنيا والآخرة، لأن الله عز وجل هو الذي بيده التوفيق والتسديد، والأمن والأمان والسلامة والعافية. وهذا كثير في أدعية الرسول ×.
ثانياً: ذكر بعض الآيات والأحاديث الواردة في الإرهاب والرهبة وما في معناهما:
فأما الآيات من كتاب الله عز وجل فقد جاءت الكلمات المشتقة من (ر هـ ب) في اثني عشر موضعاً، بصيغة الفعل الماضي، والمضارع والأمر، والمصدر، واستعمال الرهبة في القرآن الكريم إنما كان في الخوف من الله تعالى خشية له وفرقاً من عذابه. ومن ذلك:
قوله تعالى: (( - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - تمهيد - - - رضي الله عنهم - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( (- رضي الله عنهم - - قرآن كريم - تم بحمد الله ( - - (- رضي الله عنه -(( - - - - - - } - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم -- رضي الله عنهم - - - عليه السلام - قرآن كريم ( - - } - - } - ((- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - { - ( - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - الله - ( - ( { - عليه السلام - - ( قرآن كريم - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -((( - { - ( - - ( المحتويات ( - ( المحتويات ( - ( - - - رضي الله عنه - - ( - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - - رضي الله عنهم - - ( - - رضي الله عنه - - )) [الأعراف: 154]، أي يرهبون ربهم ويخشون عقابه، أو يرهبون ما يغضب ربهم من الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى: (( } - قرآن كريم (((- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - ( - - رضي الله عنهم -(( - ( - - صلى الله عليه وسلم -( - ( المحتويات ( - ( - ( - - رضي الله عنهم -(( - { - (( - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( تمت قرآن كريم ( - - رضي الله عنهم - - ( - - - - ( )) [البقرة: 40] أي: فاخشون وحدي، ولا تخشوا أحداً سواي.
__________
(1) رواه أحمد (7877) والبخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني في الأدب المفرد (313).
(2) رواه البخاري (2641).
(3) رواه الدارمي في المقدمة 190،189.
(4) البخاري في الإيمان باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله.(/25)
وقوله تعالى: (( - رضي الله عنه - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - - صدق الله العظيم } - (- صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( - - - ((((- رضي الله عنهم - - ( - - ( { ((((- عليه السلام - - ( بسم الله الرحمن الرحيم - - } - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر ( { - عليه السلام - قرآن كريم ( - ( مقدمة ( - - ( { ( - ( فهرس (- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } { - (( - ( - - ( ( تمت قرآن كريم ( تمهيد - رضي الله عنهم - - ( - - - - ( )) [النحل: 51].
وقوله تعالى: (( - - عليه السلام - - ( تمهيد - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - ( - - - - ( (( مقدمة - - - - عليه السلام - - ( تمهيد - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة - - - ( - - ( - - رضي الله عنه - - - - - جل جلاله -( - فهرس - ((- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة - - ((( مقدمة - رضي الله عنهم - - (- صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنهم - - - ( المحتويات ( - ( الله أكبر ( { } - قرآن كريم ( الله أكبر - - - - - قرآن كريم ((( - ( - - ( - - (( ( المحتويات (- عليه السلام - - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - - - - - جل جلاله -- رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ((( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - جل جلاله - تمهيد - (- عليه السلام - - - - جل جلاله - تمهيد - رضي الله عنهم - - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } } - قرآن كريم ( الله أكبر - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - - - - (((((((- رضي الله عنهم - - )) [الأنبياء: 90] والمعنى أنهم يدعون ربهم في وقت تعبدهم، وهم بحال رغبةٍ ورجاءٍ وخوف في حالٍ واحدة؛ لأن الرَّغبة والرَّهبة متلازمتان.
وفي بعض الآيات الكريمة جاءت الرَّهْبَة بمعنى الخوف الطبعي أو الجبلِّي مما يخاف منه المرء، كما في قوله تعالى: (( ( - ( - ( - - - - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - - (( - رضي الله عنهم - - ( تمهيد ( - - رضي الله عنهم - - ( - ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله - عليه السلام -( - - - (( - - رضي الله عنه - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ( - - ( - (( قرآن كريم ( - ( المحتويات ( - (( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - درهم ( - - - ( { - درهم - رضي الله عنهم - فهرس - - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ( - { - - - - } - درهم ( الله أكبر ( - - - ( ( تمت - - عليه السلام - - (- رضي الله عنهم - - ( - ( - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - درهم ( } - - - - - فهرس - ( { - - ( قرآن كريم - رضي الله عنه -(( - (( ((( مقدمة - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - ( الله أكبر ( { } - قرآن كريم ( الله أكبر - - - - - جل جلاله - تم بحمد الله ( قرآن كريم - - - ((( { ( - ( - ( )) [القصص:32]. فقد أمر الله تعالى موسى - عليه السلام - أن يضمَّ يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحيّة.
وفي بعضها الآخر جاء الحديث عن الرهبة والاسترهاب من شخص لأخر، كما في قوله تعالى: (( - رضي الله عنه - - - - - } - قرآن كريم ( { ( - - صلى الله عليه وسلم - - } - - - - فهرس - - ( } - ( قرآن كريم - { ( - - صلى الله عليه وسلم - - } - (- صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - - (((((- صلى الله عليه وسلم - - ( } - } - - - - ( المحتويات ( - قرآن كريم ( - - رضي الله عنهم - - ( - - رضي الله عنه -- سبحانه وتعالى -( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -(( - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - ( - ( - ( - - بسم الله الرحمن الرحيم - ((- رضي الله عنه -( )) [الأعراف: 116]. أي أنَّ سحرة فرعون لما ألقوا سحرهم صرفوا أعين الناس عن إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه والتخييل، وأرهبوهم وأفزعوهم.(/26)
وكذلك المنافقون يرهبون المسلمين أشدَّ من رهبتهم من الله، لأنهم لا يفقهون عظمة الله تعالى، كما قال الله تعالى عنهم: (( ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - الله أكبر - } - - - { - صلى الله عليه وسلم - - - { - رضي الله عنه - تمهيد ( - - عليه السلام - - - (( المحتويات ( - ( - - صلى الله عليه وسلم -( - (( - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( - - - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - ( المحتويات ( - } - - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - - - صدق الله العظيم - - قرآن كريم ( - - { ((- رضي الله عنه - - )) [الحشر:13].
وفي آياتٍ كريمةٍ أخرى جاءت كلمة الرهبان والرهبانية للدلالة على الترهب عند النصارى. وهو التعبُّد واستعمال الرهبة. والرهبانية هي الغلو في تحمل التعبد. كما في قوله - سبحانه وتعالى- : (( { المحتويات ( بسم الله الرحمن الرحيم - - عليه السلام - - ( - } ( - - - - فهرس - - رضي الله عنه -( المحتويات ( - ( - (- صلى الله عليه وسلم - بسم الله الرحمن الرحيم - - عليه السلام -( - - - جل جلاله -( - ( - ( - ( - - - عليه السلام - - ( - } ( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - } - ((( - (((( - - - بسم الله الرحمن الرحيم - رضي الله عنه - - ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( مقدمة ( - - جل جلاله -( - - - - - عليه السلام -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - ( - - عز وجل - تمهيد { - - - - - جل جلاله -( - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - (( ( - قرآن كريم ( - ( - - ((( - { - - - ( فهرس قرآن كريم ((- رضي الله عنه - - } - - - - { - (( - - عليه السلام - - - { - عليه السلام - - ( قرآن كريم - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( { { - ( الله أكبر - - رضي الله عنه - تمهيد ( - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - قرآن كريم ((- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - ( - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - رضي الله عنهم - - (- عليه السلام - - ( - - رضي الله عنه - - - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - صدق الله العظيم ( { - عليه السلام -( - - - رضي الله عنه -(( - ( - - - ( تمت (- عليه السلام - قرآن كريم ((( - ( - - - - - رضي الله عنهم - - - ( - - رضي الله عنهم - - ( قرآن كريم - رضي الله عنه -(- عليه السلام - - } - - رضي الله عنهم - مقدمة - - رضي الله عنهم - - ( - - رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه -(( - } - - - جل جلاله -( - - - - - رضي الله عنه -( - ( - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم (- جل جلاله -- رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( المحتويات ( - ( { ( تم بحمد الله ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - رضي الله عنه - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - } ( - - ( الله - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - ( { ( } تم بحمد الله - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( { ( - ( - ( )) [الحديد:27].(/27)
وقوله تعالى: (( } تمت - رضي الله عنهم - - ( - - رضي الله عنه - - - - - - - { - صلى الله عليه وسلم - - ( } - } - جل جلاله - - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -(- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه -( - رضي الله عنه -((( - { - ( - - } - قرآن كريم (- جل جلاله -- رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( - رضي الله عنهم - - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - ( - - - - ((( - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - ((- صلى الله عليه وسلم - - } - - - رضي الله عنهم - - ( - - رضي الله عنه - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - - } - - عليه السلام - قرآن كريم } تم بحمد الله - صدق الله العظيم - ( - { - ( - - } - قرآن كريم (- جل جلاله -- رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( - ((( - { - - - } - ( قرآن كريم ( - - - - - ( الله أكبر ( { - - - رضي الله عنه - - ( - (- رضي الله عنه - الله أكبر - - درهم ( - ( - - } تمت - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - (- جل جلاله -( تم بحمد الله - ((( - - ( تمت - ( - - - الله أكبر - - رضي الله عنه - - ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( تمهيد - رضي الله عنه - - ( - - رضي الله عنه - - )) [المائدة: 82].
وقوله تعالى: (( } - (- صلى الله عليه وسلم -( - - - ( تم بحمد الله - - ( المحتويات ( - - عليه السلام - - - - رضي الله عنه - تمهيد ( مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - - عليه السلام - - (- رضي الله عنه - تمهيد ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - - - رضي الله عنه - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - - - رضي الله عنهم - - - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - (( - - - - المحتويات - رضي الله عنه - - ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - (- صلى الله عليه وسلم -( - ( تم بحمد الله ( - - صدق الله العظيم ( { } - (- صلى الله عليه وسلم -( - ( تمهيد ((- عليه السلام - - ( - - - جل جلاله - - ( - - ( { - - جل جلاله - - ( مقدمة (- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - مقدمة ( - - ( { - صدق الله العظيم ( { - عليه السلام - قرآن كريم ( - - (( مقدمة - - جل جلاله -(- رضي الله عنهم - - ( - ( - - - - - رضي الله عنه -( - - قرآن كريم ( - ( - ((( - )) [التوبة: 31].
وقوله تعالى: (( - { - - - - صلى الله عليه وسلم - - ((- رضي الله عنه - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - ( قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( } تمت ( { - - - - ( الله - - - (( } تم بحمد الله ( - - - رضي الله عنه - تمهيد ( مقدمة - } - - ( تمت - - رضي الله عنه - - ( - - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( - ( - - عليه السلام - - - - - رضي الله عنه - - (- عليه السلام - قرآن كريم ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - ( } - } - جل جلاله - - - - ( - (((- رضي الله عنه - تمهيد ( - - - ( - - - - صلى الله عليه وسلم - - - ((- رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ( - - ( تمهيد - رضي الله عنهم - - ( - - - )) [التوبة: 34].
ومن معاني الإرهاب : (الرعب) كما في قوله تعالى: (( - ( { ( - ( - - رضي الله عنهم - - - (( ( - قرآن كريم ( - ( - - ((( - { - - - } - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( - - - - (( - - - - - - - - رضي الله عنهم - - ( - } - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - ((- صلى الله عليه وسلم - - ( - - - ( - )) [آل عمران:151].
ويضيف الدكتور ضميرية في كتابه (يسألونك عن الإرهاب) بعد استعراضه لهذه الآيات فيقول: (وبقي بعد هذه الآيات آية كريمة واحدة قد يتأوَّلُها بعضهم على وجهٍ يحلو له أن يفهم منه معنىً مريباً من المعاني التي أُلبست لهذه الكلمة في الهجمة الشرسة على الإسلام والمسلمين باسم محاربة الإرهاب، ولذلك نخصها بوقفة أخرى سريعة نستجلي فيها المعنى من خلال السياق.(/28)
فقد جاءت كلمة «ترهبون» في آية كريمة واحدة، في سياق الأمر بإعداد العُدَّة من السلاح ونحوه لتخويف الكفار والمنافقين، الذين نخاف خيانتهم وغدرهم ونقضهم للعهود والمواثيق.
قال الله تعالى: (( } تمت ( { { - - ( ( تمت - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - - - - رضي الله عنهم - - - جل جلاله -(( ( - - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( - - ( تمهيد ( - - ( - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( تم بحمد الله ( - ( - * - ((( - { - - - - المحتويات - - رضي الله عنهم - - (- رضي الله عنه -( ( المحتويات ( - ( { ( تم بحمد الله { المحتويات ( بسم الله الرحمن الرحيم - - قرآن كريم ((( { - - رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - - رضي الله عنهم - - ( - - رضي الله عنه -( - (( (- صلى الله عليه وسلم - - ( - - - { - - - ( المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - - قرآن كريم ( { ( - - رضي الله عنه - - * - } تم بحمد الله ( - - ( ( المحتويات ( - } { - ( - { ( الله - - - (( ( - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - - ( - ( - - - ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - ( صدق الله العظيم } تم بحمد الله ( المحتويات ( - - (( - - رضي الله عنهم - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - رضي الله عنهم -( - - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - - } - - رضي الله عنه - - * - } تم بحمد الله ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - - - - صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله صدق الله العظيم ( تم بحمد الله تم بحمد الله الله ( قرآن كريم - - - { - رضي الله عنه - الله أكبر - - عليه السلام - - ( - ( - ( - - الله أكبر - - - ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - - ( { - - فهرس - - رضي الله عنه -( - ( - - - عليه السلام - قرآن كريم - رضي الله عنهم - - - } تمت ( { { - - - - صدق الله العظيم - - (- رضي الله عنه -( - - رضي الله عنه -(((- جل جلاله -(( - - - - ( - - - * - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } (- رضي الله عنه -( - - (- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( - - } - ( قرآن كريم ( { - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - - ( المحتويات ( - } - ( { - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ((( - * } - - صلى الله عليه وسلم - - - ((- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ( - - - - } تم بحمد الله بسم الله الرحمن الرحيم ( - (( - (- رضي الله عنه - - ( - - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - - { قرآن كريم ( - (( تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( - - رضي الله عنه - - ( - - ( - ( - - رضي الله عنهم -(( - - - - - قرآن كريم ( - ( - ( - ( - (( مقدمة ( - } - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -( ( - - - ( المحتويات ( - } - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -((( - - رضي الله عنهم - - - - عليه السلام -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم -( - - صدق الله العظيم ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ( - فهرس - (( - - ( - - - ( المحتويات ( - ( - فهرس - ((- رضي الله عنه - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( { (( - ( - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - ((( - ( - (( ( - - ( تمهيد - رضي الله عنهم - - ( - - - } - - عليه السلام - قرآن كريم ( - ( المحتويات ( - ( - - - ( { ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - - قرآن كريم ( - فهرس - ((( - )) [الأنفال: 55-60].(/29)
يقول شيخ المفسِّرين، الإمام الطبري- رحمه الله- في تأويل الآية الأخيرة: وأعدِّوا لهؤلاء الذين كفروا بربهم، الذين بينكم وبينهم عهد، إذا خفتم خيانتهم وغدرهم ، أيها المؤمنون بالله ورسوله (( - } تم بحمد الله بسم الله الرحمن الرحيم ( - (( - (- رضي الله عنه - - ( - - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - - { قرآن كريم ( - )) يقول: ما أطقتم أن تُعِدُّوه لهم من الآلات التي تكون قوة لكم عليهم، من السلاح والخيل (( - - قرآن كريم ( - ( - ( - ( - (( مقدمة ( - } - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -( ( - - - ( المحتويات ( - } - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - )) يقول: تخيفون بإعدادكم ذلك عدو الله وعدوكم من المشركين. ونقل عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في تفسير قوله تعالى: (( - - قرآن كريم ( - ( - ( - ( - (( مقدمة ( - )) قال: تُخزون به عدو الله وعدوكم(1).
وقال العلاّمة المفسِّر البِقَاعيُّ: (( - - قرآن كريم ( - ( - ( - ( - )) : تخوّفون تخويفاً عظيماً باهراً، يؤدي إلى الهرب، على ما أجريت العوائد، (( (( مقدمة ( - )) أي بذلك الذي أمرتكم به؛ من المستطاع أو من الرباط، (( } - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -( ( - - - )) أي عدو الله الذي له العظمة كلها، لأنه الملك الأعلى (( ( المحتويات ( - } - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - )) عدو المجاهدين و (( - رضي الله عنه -((( - - رضي الله عنهم - - - - عليه السلام -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - )) وترهبون به آخرين. ويحمل على المنافقين(2).
وقال عبدُ الحقِّ بنُ عطية الأندلسيُّ في تفسيره:
(الخطاب في هذه الآية لجميع المؤمنين، والضمير في قوله تعالى (لهم) عائد على الذين ينبذ إليهم العهد، أو على الذين لا يُعجزون- على تأويل من تأول ذلك في الدنيا- ويحتمل أن يعود على جميع الكفار المأمور بحربهم في ذلك الوقت، ثم استمرت الآية في الأمة عامة، إذ الأمر قد توجَّه بحرب جميع الكفار ) (3) أ.هـ(4)
وأختم الكلام عن آيات الأنفال السابقة ببعض المقتطفات التي ذكرها سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآيات حيث يقول: (هذه الآيات كانت تواجه حالة قائمة بالفعل في حياة الجماعة المسلمة، عند نشأة الدولة المسلمة بالمدينة. وتزود القيادة المسلمة بالأحكام التي تواجه بها هذه الحالة.
وهي تمثل إحدى قواعد العلاقات الخارجية بين المعسكر المسلم وما حوله من المعسكرات الأخرى، ولم تدخل عليها إلا تكميلات وتعديلات جانبية فيما بعد، ولكنها ظلت إحدى القواعد الأساسية في المعاملات الإسلامية الدولية.
إنها تقرر إمكان إقامة عهود تعايش بين المعسكرات المختلفة؛ ما أمكن أن تصان هذه العهود من النكث بها؛ مع إعطاء هذه العهود الاحترام الكامل والجدية الحقيقية(5). فأما إذا اتخذ الفريق الآخر هذه العهود ستاراً يدبر من ورائه الخيانة والغدر؛ ويستعد للمبادأة والشر؛ فإن للقيادة المسلمة أن تنبذ هذه العهود، وتعلن الفريق الآخر بهذا النبذ؛ وتصبح مطلقة اليد في اختيار وقت الضربة التالية للخائنين الغادرين.. على أن تكون هذه الضربة من العنف والشدة بحيث ترهب كل من تحدثه نفسه بالتعرض للمجتمع المسلم سراً أو جهراً! فأما الذين يسالمون المعسكر الإسلامي؛ ويريدون عدم التعرض للدعوة الإسلامية، أو الحيلولة دون وصولها إلى كل مسمع؛ فإن للقيادة المسلمة أن توادعهم ما دام ظاهرهم يدل على أنهم يجنحون إلى السلم ويريدونها... ولفظ «الدواب» وإن كان يشمل كل ما دب على الأرض، فيشمل الأناسي فيما يشمل. إلا أنه- كما أسلفنا- يلقي ظلاً خاصاً حين يطلق على الآدميين.. ظل البهيمة.. ثم يصبح هؤلاء الآدميون شر البهيمة التي تدب على الأرض! وهؤلاء هم الذين كفروا حتى بلغ بهم الكفر ألا يصير حالهم إلى الإيمان! وهم الذين ينقضون عهدهم في كل مرة ولا يتقون الله في مرة!...
هؤلاء الذين لا يستطيع أحد أن يطمئن إلى عهدهم وجوارهم.. جزاؤهم هو حرمانهم الأمن كما حرموا غيرهم الأمن؛ وجزاؤهم هو تخويفهم وتشريدهم، والضرب على أيديهم بشدة لا ترهبهم وحدهم، إنما ترهب من يتسامع بهم ممن وراءهم من أمثالهم. والرسول × ومن بعده من المسلمين، مأمورون- إذا التقوا بأمثال هؤلاء في القتال- أن يصنعوا بهم ذلك الصنيع.
__________
(1) انظر: تفسير الطبري 14/31-40.
(2) تفسير البقاعي 8/314.
(3) المحرر الوجير 6/356.
(4) يسألونك عن الإرهاب ص26-28.
(5) لا يقصد هنا العهوداً الدائمة وإنما العهود المؤقتة أو المطلقة ريثما يكون بالمسلمين قوة لاعلاء كلمة الله في كل مكان.(/30)
(( - } تم بحمد الله ( - - ( ( المحتويات ( - } { - ( - { ( الله - - - (( ( - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - - ( - ( - - - ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - ( صدق الله العظيم } تم بحمد الله ( المحتويات ( - - (( - - رضي الله عنهم - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - رضي الله عنهم -( - - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - - } - - رضي الله عنه - - ))
وإنه لتعبير عجيب، يرسم صورة للأخذ المفزع، والهول المرعب، الذي يكفي السماع به للهرب والشرود. فما بال من يحل به هذا العذاب الرعيب؟ إنها الضربة المروعة يأمر الله تعالى رسوله × أن يأخذ بها هؤلاء الذين مردوا على نقض العهد، وانطلقوا من ضوابط الإنسان، ليؤمن المعسكر الإسلامي أولاً، وليدمر هيبة الخارجين عليه أخيراً؛ وليمنع كائناً من كان أن يجرؤ على التفكير في الوقوف في وجه المد الإسلامي من قريب أو من بعيد.
إنها طبيعة هذا المنهج التي يجب أن تستقر صورتها في قلوب العصبة المسلمة. إن هذا الدين لابد له من هيبة، ولا بد له من قوة، ولا بد له من سطوة، ولابد له من الرعب الذي يزلزل الطواغيت حتى لا تقف للمد الإسلامي، وهو ينطلق لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من كل طاغوت. والذين يتصورون أن منهج هذا الدين هو مجرد الدعوة والتبليغ، في وجه العقبات المادية من قوى الطاغوت، هم ناس لا يعرفون شيئاً عن طبيعة هذا الدين!
وهذا هو الحكم الأول يتعلق بحالة نقض العهد فعلاً مع المعسكر الإسلامي؛ وما ينبغي أن يتبع في ضرب الناقضين للعهد وإرهابهم وإرهاب من وراءهم بالضربة القاصمة المروعة الهائلة.
فأما الحكم الثاني فيتعلق بحالة الخوف من نقض العهد وتوقع الخيانة؛ وذلك بظهور أفعال وأمارات تدل على أن القوم يهمون بنقض العهد فعلاً:
(( - } تم بحمد الله ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - - - - صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله صدق الله العظيم ( تم بحمد الله تم بحمد الله الله ( قرآن كريم - - - { - رضي الله عنه - الله أكبر - - عليه السلام - - ( - ( - ( - - الله أكبر - - - ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - - ( { - - فهرس - - رضي الله عنه -( - ( - - - عليه السلام - قرآن كريم - رضي الله عنهم - - - } تمت ( { { - - - - صدق الله العظيم - - (- رضي الله عنه -( - - رضي الله عنه -(((- جل جلاله -(( - - - - ( - - - ))
إن الإسلام يعاهد ليصون عهده؛ فإذا خاف الخيانة من غيره نبذ العهد القائم جهرة وعلانية؛ ولم يخن ولم يغدر؛ ولم يغش ولم يخدع؛ وصارح الآخرين بأنه نفض يده من عهدهم. فليس بينه وبينهم أمان... وبذلك يرتفع الإسلام بالبشرية إلى آفاق من الشرف والاستقامة، وإلى آفاق من الأمن والطمأنينة.. إنه لا يبيت الآخرين بالهجوم الغادر الفاجر وهم آمنون مطمئنون إلى عهود ومواثيق لم تنقض ولم تنبذ؛ ولا يروع الذين لم يأخذوا حذرهم حتى وهو يخشى الخيانة من جانبهم.. فأما بعد نبذ العهد فالحرب خدعة، لأن كل خصم قد أخذ حذره؛ فإذا جازت الخدعة عليه فهو غير مغدور به إنما هو غافل! وكل وسائل الخدعة حينئذ مباحة لأنها ليست غادرة!
إن الإسلام يريد للبشرية أن ترتفع؛ ويريد للبشرية أن تعف؛ فلا يبيح الغدر في سبيل الغلب؛ وهو يكافح لأسمى الغايات وأشرف المقاصد؛ ولا يسمح للغاية الشريفة أن تستخدم الوسيلة الخسيسة...
وفي مقابل هذه الصناعة وهذه النظافة يعد الله المسلمين النصر، وَيُهوِّن عليهم أمر الكفار والكفر!
(( - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } (- رضي الله عنه -( - - (- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( - - } - ( قرآن كريم ( { - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - - ( المحتويات ( - } - ( { - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ((( - ))
فتبييتهم الغدر والخيانة لن يمنحهم فرصة السبق، لأن الله لن يترك المسلمين وحدهم، ولن يفلت الخائنين لخيانتهم. والذين كفروا أضعف من أن يعجزوا الله حين يطلبهم، وأضعف من أن يعجزوا المسلمين والله ناصرهم.
فليطمئن أصحاب الوسائل النظيفة - متى أخصلوا النية فيها لله- من أن يسبقهم أصحاب الوسائل الخسيسة. فإنما هم منصورون بالله الذي يحققون سنته في الأرض، ويعلون كلمته في الناس، وينطلقون باسمه. يجاهدون ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بلا شريك.
ولكن الإسلام يتخذ للنصر عدته الواقعية التي تدخل في طوق العصبة المسلمة؛ فهو لا يعلق أبصارها بتلك الآفاق العالية إلا وقد أمن لها الأرض الصلبة التي تطمئن عليها أقدامها؛ وهيأ لها الأسباب العملية التي تعرفها فطرتها وتؤيدها تجاربها؛ وإلا إذا أعدها هي للحركة الواقعية التي تحقق هذه الغايات العلوية:(/31)
(( } - - صلى الله عليه وسلم - - - ((- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ( - - - - } تم بحمد الله بسم الله الرحمن الرحيم ( - (( - (- رضي الله عنه - - ( - - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - - { قرآن كريم ( - (( تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( - - رضي الله عنه - - ( - - ( - ( - - رضي الله عنهم -(( - - - - - قرآن كريم ( - ( - ( - ( - (( مقدمة ( - } - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -( ( - - - ( المحتويات ( - } - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -((( - - رضي الله عنهم - - - - عليه السلام -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم -( - - صدق الله العظيم ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ( - فهرس - (( - - ( - - - ( المحتويات ( - ( - فهرس - ((- رضي الله عنه - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( { (( - ( - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - ((( - ( - (( ( - - ( تمهيد - رضي الله عنهم - - ( - - - } - - عليه السلام - قرآن كريم ( - ( المحتويات ( - ( - - - ( { ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - - قرآن كريم ( - فهرس - ((( - ))
فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد؛ والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها؛ ويخص «رباط الخيل» لأنه الأداة التي كانت بارزة عند من كان يخاطبهم بهذا القرآن أول مرة.. ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في تلك الحين مما سيجد مع الزمن لخاطبهم بمجهولات محيرة- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- والمهم هو عموم التوجيه:
(( } - - صلى الله عليه وسلم - - - ((- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ( - - - - } تم بحمد الله بسم الله الرحمن الرحيم ( - (( - (- رضي الله عنه - - ( - - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - - { قرآن كريم ( - ))
إنه لابد للإسلام من قوة ينطلق بها في «الأرض» لتحرير «الإنسان».. وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة: أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها؛ فلا يصدوا عنها، ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها.. والأمر الثاني : أن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على «دار الإسلام» التي تحميها تلك القوة.. والأمر الثالث: أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي، وهو ينطلق لتحرير «الإنسان» كله في «الأرض» كلها.. والأمر الرابع: أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية، فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها؛ ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده؛ ومن ثم فالحاكمية له وحده سبحانه...
وينبغي للمسلم ألا يتمتم ولا يجمجم وهو يعلن هذه الحقيقة الكبيرة.. ينبغي ألا يستشعر الخجل من طبيعة منهجه الرباني.. وينبغي أن يذكر أن الإسلام حين ينطلق في الأرض إنما ينطلق لإعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده، وتحطيم ألوهية العبيد! إنه لا ينطلق بمنهج من صنع البشر؛ ولا لتقرير سلطان زعيم، أو دولة، أو طبقة، أو جنس! إنه لا ينطلق لاسترقاق العبيد ليفلحوا مزارع الأشراف كالرومان؛ ولا لاستغلال الأسواق والخامات الرأسمالية الغربية؛ ولا لفرض مذهب بشري من صنع بشر جاهل قاصر كالشيوعية وما إليها من المذاهب البشرية.. إنما ينطلق بمنهج من صنع الله العليم الحكيم الخبير البصير؛ ولتقرير ألوهية الله وحده وسلطانه لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من العبودية للعبيد..
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون الذين يقفون بالدين موقف الدفاع؛ وهم يتمتمون ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي! والجهاد الإسلامي.
ويحسن أن نعرف حدود التكليف بإعداد القوة. فالنص يقول:
(( } - - صلى الله عليه وسلم - - - ((- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ( - - - - } تم بحمد الله بسم الله الرحمن الرحيم ( - (( - (- رضي الله عنه - - ( - - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - - { قرآن كريم ( - ))
فهي حدود الطاقة إلى أقصاها. بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها. كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة.(/32)
(( - - قرآن كريم ( - ( - ( - ( - (( مقدمة ( - } - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -( ( - - - ( المحتويات ( - } - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -((( - - رضي الله عنهم - - - - عليه السلام -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم -( - - صدق الله العظيم ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ( - فهرس - (( - - ( - - - ( المحتويات ( - ( - فهرس - ((- رضي الله عنه - - ))
فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض. الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون؛ ومن وراءهم ممن لا يعرفونهم، أو لم يجهروا لهم بالعداوة، والله يعلم سرائرهم وحقائقهم. وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم.. والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء.. وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض؛ ولتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله) (1) أ.هـ
وأما الأحاديث الواردة في ذكر الرهبة وما في معناها: فأذكر منها ما يلي:
الحديث الأول: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال، قال النبي × (( إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم به)) قال فرددتها على النبي × فلما بلغت اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت قلت ورسولك قال ((لا ونبيك الذي أرسلت)) (2).
الحديث الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الناس سألوا نبي الله × حتى أحفوه بالمسألة، فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال (( سلوني لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم فلما سمع ذلك القوم أرموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمرٍ قد حضر قال أنس فجعلت ألتفت يمينا وشمالاً فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل من المسجد كان يلاحى فيدعى لغير أبيه فقال يانبي الله من أبي قال أبوك حُذافة ثم أنشأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، عائذا بالله من سوء الفتن فقال رسول الله × (( لم أر كاليوم قط في الخير والشر إني صورت لي الجنة والنار فرأيتهما دون هذا الحائط)) (3).
الحديث الثالث: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله × (( ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرب من أجلٍ، ولا يباعد من رزقٍ أن يقول بحق، أو يذكر بعظيم)) (4).
الحديث الرابع: عن أبي بردة رضي الله عنه قال: مررت بالربذة فإذا فسطاط فقلت لمن هذا؟ فقيل لمحمد بن مسلمة فاستأذنت عليه فدخلت عليه فقلت رحمك الله إنك من هذا الأمر بمكانٍ، فلو خرجت إلى الناس فأمرت ونهيت فقال إن رسول الله × قال (( إنه ستكون فتنة وفرقة واختلاف، فإذا كان ذلك فأت بسيفك أحدا فاضرب به عرضه، واكسر نبلك، واقطع وترك، واجلس في بيتك)) ، فقد كان ذلك وقال يزيد مرة: فاضرب به حتى تقطعه ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة، أو يعافيك الله عز وجل فقد كان ما قال رسول الله ×، وفعلت ما أمرني به ثم استنزل سيفا كان معلقا بعمود الفسطاط فاخترطه فإذا سيف من خشب فقال قد فعلت ما أمرني به رسول الله × واتخذت هذا أرهب به الناس»(5).
الحديث الخامس: عن عبد الله بن خباب بن الأرت عن أبيه قال صلى رسول الله × (( صلاة، فأطالها قالوا يارسول الله صليت صلاة لم تكن تصليها قال أجل إنها صلاة رغبة ورهبة. إني سألت الله فيها ثلاثا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة سألته أن لا يهلك أمتي بسنةٍ فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها)) (6).
الحديث السادس: عن عمران ابن حصين رضي الله عنه قال قال النبي × لأبي (( ياحصين كم تعبد اليوم إلها قال أبي: سبعة. ستة في الأرض وواحدا في السماء. قال فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء. قال: ياحصين أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك قال فلما أسلم حصين قال يارسول الله علمني الكلمتين اللتين وعدتني فقال قل اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي)) (7).
__________
(1) في ظلال القرآن 3/1539-1543 باختصار.
(2) رواه مسلم 4885،4884.
(3) البخاري (93) والترمذي (3056).
(4) رواه أحمد 3/50 وصحح إسناده أحمد شاكر (11494).
(5) ابن ماجه في الفتن (3962) وصححه الألباني ورواه أحمد واللفظ له 3/493.
(6) رواه الترمذي (2675) وقال حسن غريب.
(7) رواه الترمذي (3483) وقال حسن غريب.(/33)
الحديث السابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي × قال: (( يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير ويحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا)) (1).
الحديث الثامن: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي × كان يقول في دعائه : (( رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى علي. رب اجعلني لك شكارا، لك ذكارا، لك رهابا، لك مطيعاً، إليك مخبتاً، إليك أواها منيبا. رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، واهد قلبي وسدد لساني، وثبت حجتي واسلل سخيمة قلبي)) (2).
الحديث التاسع: عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي × قال: (( عجب ربنا عز وجل من رجلين رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحيه إلى صلاته، فيقول ربُّنا أيا ملائكتي انظروا إلى عبدي ثار من فراشه، ووطائه ومن بين حيه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي ورجل غزا في سبيل الله عز وجل، فانهزموا فعلم ما عليه من الفرار، وماله في الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي، فيقول الله عز وجل لملائكته انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي ورهبة مما عندي حتى أهريق دمه)) (3).
الحديث العاشر: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله × : (( عليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام)) (4).
وبعد استعراض الآيات والأحاديث السابقة نخلص إلى معنى الرهبة وما في معناها في الكتاب والسنة حيث أنها تدور حول الخوف من الله عز وجل ومن عقابه وهي بذلك تكون عبادة لله عز وجل يتعبد العبد بها لله تعالى وهي مما يمدح الله عز جل عباده المؤمنين وأوليائه المتقين. ومن ذلك (( عليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام)) .
كما أنها تأتي بمعنى الخوف من المخلوق أو إخافة المخلوق كما جاء في حديث أبي بردة في اتخاذه سيف من خشب يرهب به من يريد به شرا وذلك أيام الفتن، وكما جاء في حديث أبي سعيد السابق ((لا يمنعن أحدكم رهبة الناس..))
وتأتي بمعنى الخوف الطبيعي كما في قوله تعالى (( ( المحتويات ( - (( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - درهم ( - - - ( { - درهم - رضي الله عنهم - فهرس - - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ( - { - - - - )) وغالب استعمالها في القرآن الكريم في الخوف من الله تعالى خشية منه سبحانه ومن عقابه كما جاءت في إرهاب الكفار المحاربين وإخافتهم ليرتدعوا وليرتدع من خلفهم من الكفار عن الإضرار بالمسلمين أو الوقوف في طريق نشر الحق والتوحيد وقد سبق التفصيل في هذا الأمر عند قوله تعالى (( - - قرآن كريم ( - ( - ( - ( - (( مقدمة ( - } - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -( ( - - - ( المحتويات ( - } - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - )) وبالجملة فهذه معاني الرهبة في الكتاب والسنة. ولم يرد في الكتاب والسنة أي إشارة إلى شيء من المعاني التي يلبسها الناس اليوم لهذه الكلمة أو يسقطونها عليها عندما يستعملونها بصيغة الإرهاب التي لا يوجد لها أي ذكر في القرآن الكريم ولا في الحديث الصحيح أو غير الصحيح، كما أن كتب اللغة تكاد تخلو من هذه الصيغة التي لم تشتهر وتدرج على الألسنة والأقلام إلا في الآونة الأخيرة، وفي أعقاب وقائع وحوادث معينة. ولذلك يجدر التأكيد على الفرق الكبير بين المعنى اللغوي والقرآني للكلمة وبين المعنى السياسي والاجتماعي المأخوذ عن اللغات الأجنبية(5).
المبحث الثاني
الأمن عند الموت وبعده
__________
(1) البخاري (6522).
(2) رواه ابن ماجه وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3081).
(3) رواه أحمد (3949) وقال شاكر إسناده صحيح.
(4) رواه أحمد 3/82 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/215: ورجاله ثقات.
(5) انظر (يسألونك عن الإرهاب) ص29.(/34)
مر بنا قوله تعالى: (( - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - عليه السلام - - (- رضي الله عنهم - - - ( { - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ((( - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( المحتويات ( - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( - - تم بحمد الله )) [الأنعام: 83]، وفهمنا من هذه الآية أن الأمن والإهتداء في الدنيا والآخرة لا يكونان إلا لمن آمن بالله ووحده، وأطاعه، ولم يلبس إيمانه بظلم. ولكن الناس يتفاوتون في هذا الأمن والاهتداء حسب تحقيقهم للإيمان وخلوصهم من الظلم. فإن خلص الإيمان من الشرك الأكبر الذي هو أعظم الظلم، وخلص من ظلم العباد، وخلص من ظلم العبد لنفسه بما دون الشرك من الكبائر والمعاصي وذلك باجتنابها أو التوبة الصادقة منها قبل الموت؛ فإن هذا الصنف من الناس يحصلون على الأمن التام في الدنيا وعند الموت وبعد الموت في البرزخ ويوم القيامة. وهم الذين وصفهم الله عز وجل بقوله: (( - رضي الله عنه -((( - { - - - ( المحتويات ( - - { (- عليه السلام - قرآن كريم - رضي الله عنه - - - - ( { - - (((( فهرس - - رضي الله عنهم - - ( - - - - رضي الله عنه -((( تمهيد ( - - - ( - - - قرآن كريم ( - قرآن كريم ( { - رضي الله عنه - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( فهرس - - رضي الله عنهم - - ( المحتويات ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( } - قرآن كريم ( - ( - ( - - - - { } - جل جلاله -- رضي الله عنهم - - ( - - - - - رضي الله عنهم - - ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - جل جلاله -( - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - - رضي الله عنهم - - (( - - )) [النحل:32] وبقوله تعالى: (( } تمت ( { - ((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - - - - - - جل جلاله - - - - عليه السلام - - ( - - - { المحتويات ( بسم الله الرحمن الرحيم } - قرآن كريم ( - ( - { - رضي الله عنه - - ( - - - ( - } - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( ( { - تمهيد (((( فهرس - - رضي الله عنهم - - ( - - - - صدق الله العظيم - صلى الله عليه وسلم - - } - قرآن كريم (( - - - - صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( الله أكبر - رضي الله عنه - - (- رضي الله عنه -- صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله } - - صلى الله عليه وسلم -( - ((( - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( { } - جل جلاله - { - ( - - - ( - (( - { - - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - ( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -( قرآن كريم ( - ( صدق الله العظيم (- رضي الله عنه - صدق الله العظيم - عز وجل - ( المحتويات ( - (- رضي الله عنه - - - - عليه السلام - - ( - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - (( ( - - قرآن كريم - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - ( - - - - - عليه السلام - - ( الله أكبر - - - - - - ((- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - رضي الله عنه - - ( - - - رضي الله عنهم - - - } ( المحتويات ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - - (( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - ( - - رضي الله عنه - - (( فهرس - ( المحتويات ( - ( - (( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - - (( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم (( - - - - - صدق الله العظيم ( - ( الله أكبر ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - - قرآن كريم (( - ( - - (( مقدمة { - )) [فصلت: 30-32].(/35)
أما إذا شاب الإيمان شيء من الظلم، فينظر إلى هذا الظلم فإن كان من الظلم الأكبر الذي هو الشرك بالله عز وجل، فإن صاحبه محروم من مطلق الأمن في الدنيا والآخرة؛ فلا يشعر في الدنيا بأمن ولا سعادة ولا طمأنينة لفقده الإيمان. ولا ينعم بالأمن عند موته، بل تغشاه كرب الموت وغمراته وزجر ملائكة العذاب وضربهم له كما قال تعالى: (( ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه - - - - ( - ( { - ((- عليه السلام - قرآن كريم - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( - - - ( { - - (((( فهرس - - رضي الله عنهم - - ( - - - - - قرآن كريم ( - ( - (( - - ( المحتويات ( - - رضي الله عنهم - - قرآن كريم ( - (- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - - (- رضي الله عنه - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - - صلى الله عليه وسلم -( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - عز وجل - - - - - رضي الله عنه -( ( - - ( - - رضي الله عنهم -(( - - - )) [الأنفال: 50] ولا يؤمنون في قبروهم بل الفزع والعذاب المؤلم إلى يوم القيامة (( ( - - } - جل جلاله - - - - - - قرآن كريم ((- رضي الله عنه - - ((( - - { - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - - صلى الله عليه وسلم -( - (( - - - ((- رضي الله عنه -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم قرآن كريم ( { - - ( { - رضي الله عنه -( - - - - - - } - ( قرآن كريم ( - ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( - - ( قرآن كريم - رضي الله عنه -(( - (( - - - { - صلى الله عليه وسلم - - ( - - - - - رضي الله عنهم -(( - - - )) [غافر:46] ويوم القيامة يحزنهم الفزع الأكبر، ويدخلون دار الشقاء والخوف والعذاب الأليم.
أما إذا كان هذا الظلم ما دون الشرك الأكبر كمظالم العباد، أو الكبائر والمعاصي التي مات العبد وهو مصر عليها، فإن هذا يحصل له الأمن في نهاية المطاف بدخوله الجنة دار الأمن والسلم بما معه من الإيمان والتوحيد والعمل الدال على صدق إيمانه؛ لكنه معرض للمخاوف والعذاب في البرزخ ويوم القيامة، حتى يتطيب ويزول خبثه، ويتهيأ لدخول الجنة دار الطيبين، لأن الجنة لا يدخلها إلا طيبا قال تعالى عن أهل الجنة: (( ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - (( - - رضي الله عنهم - - قرآن كريم ( - ( - ( - - - - ( - رضي الله عنه -((( - ( - (- رضي الله عنهم - - )) [الزمر:73]. وقد يدرك العبد الظالم لنفسه ظلما دون الشرك أحد الأسباب التي تحول بينه وبين عقوبة ذنوبه فلا يعذب. ومن هذه الأسباب ما ذكرها شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى بقوله:
«على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب:
أحدها: التوبة: وهذا متفق عليه بين المسلمين؛ قال تعالى: (( ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - صلى الله عليه وسلم - - } - ( قرآن كريم ( - فهرس - ((- رضي الله عنه - - } تمت - صلى الله عليه وسلم - - { - - - - عليه السلام - قرآن كريم ( - ( - - رضي الله عنه - - ( { - رضي الله عنه - - - { - رضي الله عنه - - ( قرآن كريم ( - - - - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( (( فهرس ( - - - رضي الله عنه - - (( ( - ( } ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( تمهيد ( - - - رضي الله عنهم - - - ( - - - - - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - { - - - - عليه السلام - قرآن كريم ( - ( - - { قرآن كريم ( - - - - ( بسم الله الرحمن الرحيم - ( مقدمة { - - - - )) [التوبة:104]..
السبب الثاني: الاستغفار لقوله × : ((لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر الله لهم)).(1)..
__________
(1) البزار (3247) وقال الهيثمي في المجمع 10/215 رجاله ثقات وصححه الألباني في السلسلة (970).(/36)
السبب الثالث: الحسنات الماحية كما قال تعالى: (( ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - فهرس - - قرآن كريم فهرس - - ( - - - ( - فهرس (- رضي الله عنه - - - ( ( - - { - } { - - - - - ( - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( - ( - { - - - - } تمت ( { ( تمهيد (- عليه السلام - - - - { - رضي الله عنه -( - - - - رضي الله عنه -(((( - ( - ( - ( المحتويات - - رضي الله عنه -(( - - - - - - - )) [هود:114] وقال × : ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) (1)..
السبب الرابع: دعاء المؤمنين للمؤمن مثل صلاتهم على جنازته؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله × يقول: ((ما من رجل يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه)) (2)...
وهذا دعاء له بعد الموت، فلا يجوز أن تحمل المغفرة على المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر. وكفرت عنه الصغائر وحده، فإن ذلك مغفور له عند المتنازعين، فعلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت.
السبب الخامس: ما يعمل للميت من أعمال البر كالصدقة ونحوها...
السبب السادس: شفاعة النبي × وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة كما قد تواترت عنه أحاديث الشفاعة مثل قوله × في الحديث الصحيح: (( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) (3)...
السبب السابع: المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا، كما في الصحيحين عنه × أنه قال: ((ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى – حتى الشوكة يشاكها- إلا كفر الله بها من خطاياه))(4).
السبب الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة؛ فإن هذا مما يكفر به الخطايا.
السبب التاسع: أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها.
السبب العاشر: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد(5).
تنبيه مهم:
__________
(1) مسلم في الطهارة (233).
(2) مسلم في الجنائز (948).
(3) أحمد 3/213 والترمذي (2430) وقال حسن صحيح.
(4) البخاري (5641) ومسلم (2573).
(5) مجمع الفتاوى 7/487-501 (باختصار).(/37)
دأب كثير من الناس في حديثه عن الأمن اقتصاره في ذلك على الأمن في الحياة الدنيا، وعدم التطرق عند الحديث عن الأمن عن أمن الآخرة وأهوالها، ولا عن أمن القبر ونعيمه وعذابه ولذا يحرص أكثر الناس اليوم على توفير الأمن في حياتهم الدنيا وبخاصة على النفس والأهل والمال والعرض، ويبذلون ما في وسعهم من الأسباب لتحقيق السلام والأمن والسعادة في حياتهم الدنيا. والقليل القليل منا من يوجه همه وتفكيره وحركته للفوز بالأمن الحقيقي والسلام السرمدي يوم يبعث الله من في القبور ويحصل ما في الصدور (( - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم قرآن كريم ( { - - ( { - رضي الله عنه -( - - - - - - - - ((- رضي الله عنه - تم بحمد الله ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - - قرآن كريم ( - { - - (- رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - )) [الروم:14] فريق في الجنة آمنون سالمون منعمون أبد الآباد، وفريق في السعير معذبون مكروبون لا يموتون فيها، وما هم منها بمخرجين أبد الآباد. قال الله تعالى: (( - رضي الله عنه -((( - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ( - ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( - - - - - رضي الله عنه -( المحتويات ( - ( - - - عليه السلام - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( { (((( - تم بحمد الله } تمت ( { - - - - - - رضي الله عنه -( ( المحتويات ( - ( - - - عليه السلام - - ( - ( - - ( - تمت قرآن كريم ( تم بحمد الله ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله )) [المعارج: 28،27] وقال سبحانه: (( صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - - (- صلى الله عليه وسلم - - - - - - ( - ( - - (( ( - - } - - - - ( - ( - - رضي الله عنهم - - بسم الله الرحمن الرحيم - صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم } تم بحمد الله ( - ( - ( - - رضي الله عنه - - - - جل جلاله - - ( تم بحمد الله - - عليه السلام -( - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - ( { - رضي الله عنهم - - (- عليه السلام - - ( { ( - - - )) [فصلت: 40]. فأي الدارين أحق بتوفير الأمن فيها أدار الدنيا الفانية الزائلة بأفراحها وأتراحها، أم الدار الباقية السرمدية بنعيمها أو عذابها؟ لاشك أن منطق الشرع والعقل يؤثر الآخرة على الأولى. والعاقل من مهد لنفسه ليرتاح الراحة التامة الكاملة الأبدية في دار الخلد والسلام. والعاجز الأحمق من غفل عن ما بعد الموت وعن اليوم الآخر وانشغل بدنياه الفانية الزائلة عما وراءه من الأهوال والأفزاع والحساب والعذاب (( - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - - ((- رضي الله عنه - - ((( - { الله أكبر ( الله - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( مقدمة - ( - - صلى الله عليه وسلم - - (( مقدمة ( } تم بحمد الله ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( مقدمة - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة ( - - رضي الله عنه - - ( - ( - (- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( مقدمة - ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (- صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - - - ( - ( - - - ( المحتويات ( - ( { ( } تم بحمد الله - - ((- رضي الله عنه - تم بحمد الله ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - ( تمت ( - - { ( مقدمة - ( - ((( - )) [عبس: 34-37] و)) - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - الله أكبر (- صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنه - - - - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - - - - ( - - { - رضي الله عنهم -(((( - ( تم بحمد الله - - - - - رضي الله عنه -( ( تمهيد - رضي الله عنهم -( - (( - - صلى الله عليه وسلم - - (( - ( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - ( - ( المحتويات - - - - - ( - - رضي الله عنهم - مقدمة - - رضي الله عنهم - - فهرس - ( - - قرآن كريم - - رضي الله عنه - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - { } - } - - - - - - - رضي الله عنه - - ( - - ( - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ( - - - - رضي الله عنه - - ( - - ( - ( - - صدق الله العظيم ( - ( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - عز وجل - - - - - رضي الله عنه -( ( - - - ( - - ( - - { (( [الحج:2].(/38)
والعجب كل العجب أنه مع كل هذا التذكير، والتنبيه والتحذير من ربنا الرحمن الرحيم من هذا اليوم العصيب، وأثره على أمن مستقبلنا الأبدي، إلا أن حالنا في هذا الزمان حال الغافل اللاهي عن كل هذه التحذيرات، فلا تكاد تجد منا- إلا من رحم الله- إلا من هو منشغل بالتفاهات من هذه الدنيا الدنية، قد استهلكت عليه وقته، وأصبح في دوامة مستمرة منذ أن يصبح وحتى ينام آخر الليل.
وما هنالك أشد من مرض الغفلة، ولكن الأدهى والأمر أن يكون المرء من أهل الغفلة وهو لا يشعر بذلك، وهذه الحالة – والعياذ بالله- قد تتحول إلى جمود وتحجر وقسوة، ثم إلى لجاج وعناد.
وإذا كان الكتاب والسنة قد اهتما غاية الاهتمام بتفاصيل هذا اليوم المشهود، وخوفا منه ومن أهواله، فإنه من الحمق والجهل أن لا نهتم بما اهتم به كتاب ربنا – سبحانه- وسنة نبينا محمد ×.
والدليل على هذا الحمق أن نجد الكثير منا – إلا من رحم الله- يكد ويتعب من أجل مستقبل قريب يسعى – بزعمه – لتأمينه، وهذا المستقبل بالإضافة إلى ما قد مرّ من عمرْ الإنسان لا يتعدى في الغالب الستين أو السبعين سنة، وقليل من يتجاوز ذلك، ولنفرض أنه مائة أو أكثر، فماذا يساوي بالنسبة إلى المستقبل البعيد الأبدي السرمدي والذي لا نهاية له؟ إنه لا يساوي شيئاً، فلماذا نحن بأمن المستقبل القريب الفاني مشتغلون وعليه مثابرون، وعن أمن مستقبلنا الأبدي السرمدي منشغلون ولاهون؟ إنه لابد من وقفة محاسبة وتأمل.
إن أعظم قضية يجب أن ينشغل بال كل واحد منا بها هي: قضية وجوده وحياته والغاية منها، وقضية مستقبله ومصيره وشقائه وسعادته فيه؛ فلا يجوز أن يتقدم ذلك شيء مهما كان شأنه، فكل أمر دونه صغير، وكل خطب سواه حقير، وهل هناك خطب أعظم وأفظع من أن يخسر الإنسان نفسه وأهله ويخسر سعادته وسعادتهم؟! فماذا بقى له بعد ذلك! وما قيمة الدنيا الفانية وزخرفها وزينتها وراء ذلك؟ قال تعالى: )) ( - ( - } تمت ( { - صدق الله العظيم - ( - ( - ( - - ( - - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - (- صلى الله عليه وسلم -( - ( - - رضي الله عنهم - - ( المحتويات ( - - } (( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - - ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - ( { - رضي الله عنهم - - (- عليه السلام - - ( { ( - - - - - صدق الله العظيم - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - عليه السلام - قرآن كريم ( - ( تمت - - عليه السلام - - ( - ( - ( - - - (((( - ( - ( - - - (( [الزمر:15].
ولو لم يكن في انتظارنا إلا الموت وسكراته وغصصه لكفى به واعظاً ومكدِّراً، فكيف ووراءه يوم البعث والحساب والجزاء والجنة أو النار.
يومٌ تحار فيه العقول، وتذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، ويكون الولدان فيه شيباً. فاللهم اجعلنا في ذلك اليوم من الآمنين.
ولا يفهم مما سبق أن لا يهتم المسلم بدنياه، والأخذ بأسباب الأمن والسلامة فيها؛ وإنما كان المقصود أن لا ننسى ولا نغفل عن الأمن الأبدي الحقيقي وهو الأمن يوم القيامة، وأن يكون اهتمامنا وسعينا لأن نكون من الآمنين في الدار الآخرة أكبر وأشد من سعينا لذلك في الدنيا الفانية الزائلة. مع أن طاعة الله عز وجل وخوف اليوم الآخر يحصل بهما الأمن في الدنيا قبل الآخرة كما سبق بيانه. إذن فالأمن في الدارين مصدرهما طاعة الله وتوحيده واتقاء مساخطه، وأسباب عقابه.(/39)
وأرى في هذا المقام أن أعيد ما نقلته سابقاً عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عند قوله عز وجل: )) ( المحتويات ( فهرس - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( مقدمة ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - ( - (- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( { - رضي الله عنهم -(( - ( - - صدق الله العظيم - - رضي الله عنهم - مقدمة (( [مريم:15] ثم تكرار هذا مع عيسى عليه الصلاة والسلام في قوله: (( ( المحتويات ( فهرس - - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - { - فهرس - - رضي الله عنه -( - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - المحتويات - ( - (- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - قرآن كريم ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( { - رضي الله عنهم -(( - ( - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة )) [مريم: 33] لمناسبته المقام.
قال رحمه الله تعالى: (قيل : ما الحكمة في تقييد السلام في قصتي يحيى والمسيح صلوات الله عليهما بهذه الأوقات الثلاثة؟
فسرُّه والله أعلم: أن طلب السلامة يتأكد في المواضع التي هي مظان العطب ومواطن الوحشة، وكلما كان الموضع مظنة ذلك تأكد طلب السلامة، وتعلقت بها الهمة؛ فذكرت هذه المواطن الثلاثة لأن السلامة فيها آكد وطلبها أهم، والنفس عليها أحرص، لأن العبد فيها قد انتقل من دار كان مستقراً فيها، موطن النفس على صحبتها وسكناها إلى دار هو فيها معرض للآفات والمحن والبلاء؛ فإن الجنين من حين خرج إلى هذه الدار انتصب لبلائها، وشدائدها ولأوائها ومحنها، وأفكارها؛ كما أفصح الشاعر بهذا المعنى حيث يقول:
تأمل بكاء الطفل عند خروجه
تجد تحته سراً عجيباً كأنه
وإلا فما يبكيه منها وإنها ... إلى هذه الدنيا إذا هو يولد
بكل الذي يلقاه منها مهدد
لأوسع مما كان فيه وأرغد
ولهذا من حين ابتدرته طعنة الشيطان في خاصرته فبكى لذلك، ولما حصل له من الوحشة بفراق وطنه الأول. وهو الذي أدركه الأطباء والطبائعيون. وأما ما أخبر به الرسول × فليس في صناعتهم ما يدل عليه، كما ليس فيها ما ينفيه فكان طلب السلامة في هذه المواطن من آكد الأمور.
الموطن الثاني: خروجه من هذه الدار إلى دار البرزخ عند الموت ونسبة الدنيا إلى تلك الدار كنسبة داره في بطن أمه إلى الدنيا تقريباً وتمثيلاً، وإلا فالأمر أعظم من ذلك وأكبر. وطلب السلامة أيضاً عند انتقاله إلى تلك الدار من أهم الأمور.
الموطن الثالث: موطن يوم القيامة يوم يبعث الله الأحياء ولا نسبة لما قبله من الدور إليه. وطلب السلامة فيه آكد من جميع ما قبله؛ فإن عطبه لا يستدرك، وعثرته لا تقال، وسقمه لا يداوى، وفقره لا يسد. فتأمل كيف خص هذه المواطن بالسلام لشدة الحاجة إلى السلامة فيها.
واعرف قدر القرآن وما تضمنه من الأسرار وكنوز العلم والمعارف التي عجزت عقول الخلائق عن إحصاء عشر معشارها. وتأمل ما في السلام من الزيادة على السلامة من الأنس وذهاب الوحشة، ثم نزل ذلك على الوحشة الحاصلة للعبد في هذه المواطن الثلاثة عند خروجه إلى عالم الابتلاء، وعند معاينته هول المطلع إذا قدم على الله وحيداً مجرداً عن كل مؤنس إلا ما قدمه من صالح عمل، وعند موافاته القيامة مع الجمع الأعظم ليصير إلى إحدى الدارين التي خلق لها، واستعمل بعمل أهلها. فأي موطن آخر يطلب السلامة من هذه المواطن. فنسأل الله السلامة فيها بمنه وكرمه ولطفه وجوده وإحسانه) (1).
وقال الإمام الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره عند هذه الآية:
__________
(1) بدائع التفسير 3/135، 136.(/40)
وقد ذكر عن ابن عيينة في ذلك ما حدثني أحمد بن منصور المروزي(1) قال: أخبرني صدقة بن الفضل(2) عن سفيان بن عيينه قال: أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن، يوم ولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه فقال: (( ( المحتويات ( فهرس - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( مقدمة ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - ( - (- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( { - رضي الله عنهم -(( - ( - - صدق الله العظيم - - رضي الله عنهم - مقدمة (( (3) [مريم:15].
خاتمة هذا الفصل
وأنهي هذا الفصل بالتمهيد للفصل الذي يليه. وهو الخروج من هذا الفصل بنتيجة مهمة ألا وهي: أن أعدى أعداء البشرية وأظلم الظالمين لها، وأعداء الأمن والسلام هم أولئك الذين يحاربون منهج التوحيد والإيمان أن يستقر في حياة الناس، ويحاربون شريعة الله عز وجل وأحكامها وآدابها أن تستقر في المجتمعات، ويريدون للناس أن لا يأمنوا في دنياهم على أديانهم ولا أنفسهم ولا أعراضهم ولا أموالهم ولا عقولهم. ويريدون لهم الشقاء والعذاب في نار جهنم يوم القيامة، فهؤلاء وأمثالهم يجب مطاردتهم ومحاصرتهم ومجاهدتهم حتى يصبحوا عاجزين عن هذا الظلم والفساد الذي يزاولونه، وأن ترصد لفضحهم وحربهم الأنفس والأموال. وهذا من أعظم غايات الجهاد وهنا أذكر بقول الله تعالى: )) - - - صلى الله عليه وسلم - - - ( (((( - { - ( - - (( - - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - ( - } تمت ( { ( - (( - ( - - - قرآن كريم ( - فهرس - (( - - (( [الأنعام: 81] وأخاطب به كل عاقل منصف: أي الفريقين أحق بالأمن، والدعوة إلى الأمن في الدنيا والآخرة؟ أهم دعاة التوحيد والإيمان والفضيلة أم دعاة الشرك والكفر والفساد والرذيلة؟ لقد حسم الله عز وجل الجواب بقوله سبحانه : )) - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - عليه السلام - - (- رضي الله عنهم - - - ( { - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ((( - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( المحتويات ( - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( - - تم بحمد الله (( [الأنعام: 82] وأضم إلى آية الأنعام السابقة الآيات التالية والتي يوضح الله عز وجل فيها من هم دعاة الأمن وأهله ومن هم دعاة الشر والعذاب وأهله وأن لا التقاء بينهما. وهي من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى تعليق.
يقول الله تعالى: )) ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - ( - ( - تمت - صلى الله عليه وسلم - - - - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - - ( المحتويات ( تمهيد ( - فهرس - - رضي الله عنه -( ( - - ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ((( - { - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((( - ( - - رضي الله عنه - - ( المحتويات (- عليه السلام - قرآن كريم { - } ( - - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - } - قرآن كريم ( - - (( - - ( - ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - - ((- رضي الله عنه -( (( [النساء:27].
__________
(1) في الطبري : (أحمد بن منصور الفيروزي) وهو خطأ والتصحيح من تفسير ابن كثير طبعة الشعب 5/212.
(2) في الطبري: (أخبرني صدقة بن الفضل سمعت إن عطية) هو خطأ، والتصويب من تفسير ابن كثير ط. الشعب 5/212
(3) تفسير الطبري 16/58.(/41)
ويقول عز وجل: )) - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - ( - - - - ( تمهيد ( - - ( - ((( - ( - - - - (( - - رضي الله عنهم - مقدمة - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ( - - ( { - رضي الله عنه - تم بحمد الله - } - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( { - - جل جلاله -( تم بحمد الله ( - - تم بحمد الله ( - ( - - رضي الله عنهم - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - { - - ( - (( - تم بحمد الله ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - ( - - رضي الله عنه - تمهيد - رضي الله عنهم - - ((- صلى الله عليه وسلم - - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - ( - - ( - - رضي الله عنه -((( - ( - ((( - ( - - - - (( - - رضي الله عنهم - مقدمة } - قرآن كريم ( - ( تم بحمد الله ( - ( - - ( - ( - - رضي الله عنهم -( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - - تم بحمد الله ( - ( - - رضي الله عنهم - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - - ( - (( - تم بحمد الله ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - تمهيد - رضي الله عنهم - - ((- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((( - - رضي الله عنه - - - فهرس - ( { ( - - } - - - - } ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ((( - - رضي الله عنه - - - فهرس - ( { ( { } - جل جلاله -- رضي الله عنهم - - ( - - - ( - - رضي الله عنه - - ((((- رضي الله عنهم - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة ( الله أكبر ( - ( - ( - (( [البقرة: 221].
ويقول الله عز وجل عن مؤمن آل فرعون وهو يدعو قومه: )) ( الله ( قرآن كريم - { (- رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - ( - ( المحتويات ( - قرآن كريم ((( - - صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - ( { ( - - قرآن كريم - رضي الله عنهم - - } - - - - ( - ( - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ((( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - فهرس - ( { ( - - } - - - - (( - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ((( - - - - رضي الله عنه - - ((( - - } ( - - - ( - - - ( - ((( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة ( - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله { { ( - - - - ( - (( مقدمة ( - ( المحتويات ( - (( بسم الله الرحمن الرحيم - - رضي الله عنه - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - قرآن كريم ((( - - صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - ( { ( - - ( - - رضي الله عنهم -(( - - - ( - ( } (- رضي الله عنه -(( - - - (( [غافر: 42،41].
وبعد: فأترك التفصيل عن أعداء الأمن والسلام هنا لأتحدث عنه في الفصل الثاني، الذي سأفصل فيه إن شاء الله تعالى الكلام عن هؤلاء الأعداء وأصنافهم وأساليبهم الماكرة الخبيثة أسأل الله عز وجل العون والتوفيق والسداد.
الفصل الثالث
أعداء الأمن والسلام
إذا أردنا الوصول إلى توصيف دقيق لأعداء الأمن والسلام؛ فإنه يمكننا القول بأنهم أعداء الله ورسوله الذين يرفضون الإهتداء بهدى الله عز وجل، ودينه الذي ارتضاه للناس كافة والمتمثل في الدين الذي جاء به محمد × من عند الله عز وجل. ألا وهو دين الإسلام عقيدة وشريعة، وهم الذين يصدون الناس عن هذا الدين بالإرهاب تارة، وبالترغيب تارة، وهم الذين يمكرون، ويضللون ويلبسون الحق بالباطل، حتى يخلو الجو لباطلهم وأهوائهم وشهواتهم واستعبادهم لعباد الله عز وجل ليميلوا بهم ميلاً عظيما.
وقد مر بنا في الفصل السابق تلك الصور المضيئة للأمن والسلام والسعادة لمن يعيش في ظل الإسلام، سواء في نفسه أو في بيته أو في مجتمعه أو في دولته وعالمه. كما تبين لنا أيضاً حال من عاش بعيداً عن الإسلام في ظل أهواء البشر، وعبودية بعضهم لبعض من الخوف والقلق، وعدم الأمن في مناحي الحياة كلها وفي ضروريات الإنسان كلها.
فكل من ناصب هذا الدين العداء، وسعى لصد الناس عنه، وحرمهم من نعمة الأمن في ظلاله. وكان سبباً في حلول عقوبة الله عز وجل في الناس سواء في الدنيا أو في الآخرة في عذاب النار، فهو العدو الحقيقي لأمن الناس، وسلامتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة؛ سواء كان هذا الصد عسكرياً أو فكرياً أو أخلاقياً، وسواء كان هذا العداء على الدين والأخلاق، أو على الأنفس والأموال والأعراض.(/42)
وأجدني في هذا المقام محتاجاً لإعادة الآيات التي ختمت بها الفصل السابق لمناسبتها القوية في هذا المقام، مع ذكر آيات أخرى تشابهها مع التعليق على بعضها بمقتطفات من ظلال القرآن.
الآية الأولى: قوله تعالى: (( - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - ( - - - - ( تمهيد ( - - ( - ((( - ( - - - - (( - - رضي الله عنهم - مقدمة - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ( - - ( { - رضي الله عنه - تم بحمد الله - } - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( { - - جل جلاله -( تم بحمد الله ( - - تم بحمد الله ( - ( - - رضي الله عنهم - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - { - - ( - (( - تم بحمد الله ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - ( - - رضي الله عنه - تمهيد - رضي الله عنهم - - ((- صلى الله عليه وسلم - - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - ( - - ( - - رضي الله عنه -((( - ( - ((( - ( - - - - (( - - رضي الله عنهم - مقدمة } - قرآن كريم ( - ( تم بحمد الله ( - ( - - ( - ( - - رضي الله عنهم -( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - - تم بحمد الله ( - ( - - رضي الله عنهم - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - - ( - (( - تم بحمد الله ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - تمهيد - رضي الله عنهم - - ((- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((( - - رضي الله عنه - - - فهرس - ( { ( - - } - - - - } ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ((( - - رضي الله عنه - - - فهرس - ( { ( { } - جل جلاله -- رضي الله عنهم - - ( - - - ( - - رضي الله عنه - - ((((- رضي الله عنهم - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة ( الله أكبر ( - ( - ( - } ((( } (- رضي الله عنه - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة ( - (- رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( ( } - } - جل جلاله - - ( - ( المحتويات ( - ( - - رضي الله عنهم -( - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - { - - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - )) [البقرة: 221].
(إن طريق المشركين والمشركات إلى النار، ودعوتهم إلى النار، وطريق المؤمنين والمؤمنات هو طريق الله. والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه.. فما أبعد دعوتهم إذن من دعوة الله!
ولكن أويدعو أولئك المشركون والمشركات إلى النار؟ ومن الذي يدعو نفسه أو غيره إلى النار؟!
ولكنها الحقيقة الأخيرة يختصر السياق إليها الطريق! ويبرزها من أولها دعوة إلى النار، بما أن مآلها إلى النار، والله يحذر من هذه الدعوة المردية .. (( ((( } (- رضي الله عنه - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة ( - (- رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( ( } - } - جل جلاله - - ( - ( المحتويات ( - ( - - رضي الله عنهم -( - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - { - - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - )) فمن لم يتذكر، واستجاب لتلك الدعوة فهو الملوم!) (1).
الآية الثانية: قوله تعالى: (( ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - ( - ( - تمت - صلى الله عليه وسلم - - - - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - - ( المحتويات ( تمهيد ( - فهرس - - رضي الله عنه -( ( - - ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ((( - { - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((( - ( - - رضي الله عنه - - ( المحتويات (- عليه السلام - قرآن كريم { - } ( - - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - } - قرآن كريم ( - - (( - - ( - ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - - ((- رضي الله عنه -( )) [النساء:27].
فماذا يريد الله بالناس، حين يبين لهم منهجه، ويشرع لهم سنته؟ إنه يريد أن يتوب عليهم. يريد أن يهديهم. يريد أن يجنبهم المزالق. يريد أن يعينهم على التسامي في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة.
وماذا يريد الذين يتبعون الشهوات، ويزينون للناس منابع ومذاهب لم يأذن بها الله، ولم يشرعها لعباده؟ إنهم يريدون لهم أن يميلوا ميلاً عظيماً عن المنهج الراشد، والمرتقى الصاعد والطريق المستقيم.
وفي هذا الميدان الخاص الذي تواجهه الآيات السابقة: ميدان تنظيم الأسرة؛ وتطهير المجتمع؛ وتحديد الصورة النظيفة الوحيدة، التي يحب الله أن يلتقي عليها الرجالُ والنساء؛ وتحريم ما عداها من الصور، وتبشيعها وتقبيحها في القلوب والعيون. في هذا الميدان الخاص ما الذي يريده الله وما الذي يريده الذين يتبعون الشهوات؟
__________
(1) في ظلال القرآن 1/240.(/43)
فأما ما يريده الله فقد بينته الآيات السابقة في السورة، وفيها إرادة التنظيم، وإرادة التطهير، وإرادة التيسير، وإرادة الخير بالجماعة المسلمة على كل حال.
وأما ما يريده الذين يتبعون الشهوات فهو أن يطلقوا الغرائز من كل عقال: ديني، أو أخلاقي، أو اجتماعي. يريدون أن ينطلق السعار الجنسي المحموم بلا حاجز ولا كابح، من أي لون كان. السعار المحموم الذي لا يقر معه قلب، ولا يسكن معه عصب، ولا يطمئن معه بيت، ولا يسلم معه عرض، ولا تقوم معه أسرة. يريدون أن يعود الآدميون قطعاناً من البهائم، ينزو فيها الذكران على الإناث بلا ضابط إلا ضابط القوة أو الحيلة أو مطلق الوسيلة! كل هذا الدمار، وكل هذا الفساد، وكل هذا الشر باسم الحرية، وهي – في هذا الوضع- ليست سوى اسم آخر للشهوة والنزوة!
وهذا هو الميل العظيم الذي يحذر الله المؤمنين إياه، وهو يحذرهم ما يريده لهم الذين يتبعون الشهوات. وقد كانوا يبذلون جهدهم لرد المجتمع المسلم إلى الجاهلية في هذا المجال الأخلاقي، الذي تفوق فيه المسلمون، وتفردوا بفعل المنهج الإلهي القويم النظيف. وهو ذاته ما تريده اليوم الأقلام الهابطة والأجهزة الموجهة لتحطيم ما بقى من الحواجز في المجتمع دون الانطلاق البهيمي، الذي لا عاصم منه، إلا منهج الله، حين تقره العصبة المؤمنة في الأرض إن شاء الله) (1).
الآية الثالثة: (( ( الله ( قرآن كريم - { (- رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - ( - ( المحتويات ( - قرآن كريم ((( - - صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - ( { ( - - قرآن كريم - رضي الله عنهم - - } - - - - ( - ( - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ((( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - فهرس - ( { ( - - } - - - - (( - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ((( - - - - رضي الله عنه - - ((( - - } ( - - - ( - - - ( - ((( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة ( - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله { { ( - - - - ( - (( مقدمة ( - ( المحتويات ( - (( بسم الله الرحمن الرحيم - - رضي الله عنه - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - قرآن كريم ((( - - صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - ( { ( - - ( - - رضي الله عنهم -(( - - - ( - ( } (- رضي الله عنه -(( - - - )) [غافر: 42،41].
(وهم لم يدعوه إلى النار. إنما دعوه إلى الشرك. وما الفرق بين الدعوة إلى الشرك والدعوة إلى النار؟ إنها قريب من قريب. فهو يبدل الدعوة بالدعوة في تعبيره في الآية التالية: (( (( - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ((( - - - - رضي الله عنه - - ((( - - } ( - - - ( - - - ( - ((( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة ( - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله { { ( - - - - ( - (( مقدمة ( - ( المحتويات ( - (( بسم الله الرحمن الرحيم - - رضي الله عنه - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - قرآن كريم ((( - - صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - ( { ( - - ( - - رضي الله عنهم -(( - - - ( - ( } (- رضي الله عنه -(( - - - )) [غافر:42].
وشتان بين دعوة ودعوة. إن دعوته لهم واضحة ومستقيمة. إنه يدعوهم إلى العزيز الغفار. يدعوهم إلى إله واحد تشهد آثاره في الوجود بوحدانيته، وتنطق بدائع صنعته بقدرته وتقديره. يدعوهم إليه ليغفر لهم فهو القادر أن يغفر، الذي تفضل بالغفران: (( ( - - ( - - رضي الله عنهم -(( - - - ( - ( } (- رضي الله عنه -(( - - - )) .. فإلى أي شيء يدعونه؟ يدعونه للكفر بالله عن طريق إشراك ما لا علم له به من مدعيات وأوهام وألغاز!) (2).
__________
(1) في ظلال القرآن 2/632،631.
(2) في ظلال القرآن 5/3083.(/44)
الآية الرابعة: قوله تعالى: (( } - - صلى الله عليه وسلم - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( قرآن كريم - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ((( - - - - - رضي الله عنهم - - - - } - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( الله أكبر قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - - - ( } ( - - - عليه السلام - قرآن كريم - رضي الله عنهم - - ... الآية)) [النساء: 89] ومثلها قوله تعالى: (( } - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - ( - - - ((( } تم بحمد الله ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( - (- رضي الله عنه - - ( - ( - - - ( قرآن كريم - - المحتويات ( - - رضي الله عنه - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - ( - - رضي الله عنه - - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( - ((- رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - ( - (- رضي الله عنهم - - - ( { - ( - - } (( - - - جل جلاله - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( - - جل جلاله -(( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - (( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - )) [البقرة: 109].
وذلك ما يفعله الحقد اللئيم بالنفوس. الرغبة في سلب الخير الذي يهتدي إليه الآخرون. لماذا؟ لا لأن هذه النفوس الشريرة لا تعلم. ولكنها لأنها تعلم(1).
الآية الخامسة: (( - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ( - ( - ( - { ( - - (( - - رضي الله عنهم - مقدمة ( المحتويات ( - - صلى الله عليه وسلم - - - ( - - رضي الله عنه - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ( المحتويات ( تمهيد ( - - ( - ( تمت ( { } - قرآن كريم ((( - (- رضي الله عنه - - ( - - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - - - ( - - رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - - ( تم بحمد الله صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( (( مقدمة ( - - ( - ( تمهيد ( - - عليه السلام - - - ( - عليه السلام - قرآن كريم ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - (( - - - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( ( تمهيد - (( - - رضي الله عنهم - مقدمة ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - (- رضي الله عنهم - - ((- صلى الله عليه وسلم - - - (( - - عليه السلام - - ( الله أكبر - - - - - ( - - رضي الله عنه - - ( - - - رضي الله عنهم - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - (- رضي الله عنهم - - ((- صلى الله عليه وسلم - - ( - - } - - - - } ( المحتويات ( - - - رضي الله عنهم - - - (( - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - (- رضي الله عنهم - - )) [البقرة: 217].
وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر؛ وعلى فتنة المسلمين عن دينهم، بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم. وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل. إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين؛ ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين. إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويرهبهم ويخيفهم. فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل، ويرهبه كل باغ، ويكرهه كل مفسد. إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج، ومن منهج قويم، ومن نظام سليم. إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد. ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون. ومن ثم يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه، ويردوهم كفاراً في صورة من صور الكفر الكثيرة. ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم، وفي الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين، وتتبع هذا المنهج، وتعيش بهذا النظام. والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام، وينبهها إلى الخطر، ويدعوها إلى الصبر على الحرب وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة والعذاب الذي لا يرفعه عذر ولا مبرر(2).
الآية السادسة: قوله تعالى: (( صدق الله العظيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - (- رضي الله عنهم -(( - - - - رضي الله عنهم - - - جل جلاله -- رضي الله عنه -( ( - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - ( - - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه - - ( - ( } - جل جلاله - - - - - (( - - رضي الله عنهم - مقدمة - رضي الله عنهم -(( تمهيد ( - - - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - - ( - ( تم بحمد الله ... الآية)) [البقرة:120].
__________
(1) نفس المصدر 1/102.
(2) في ظلال القرآن 1/227، 228.(/45)
(فتلك هي العلة الأصيلة. ليس الذي ينقصهم هو البرهان؛ وليس الذي ينقصهم هو الاقتناع بأنك على الحق، وأن الذي جاءك من ربك الحق. ولو قدمت إليهم ما قدمت، ولو توددت إليهم ما توددت. لن يرضيهم من هذا كله شيء إلا أن تتبع ملتهم وتترك ما معك من الحق.
إنها العقدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان. إنها هي العقيدة. هذه حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة. إنها معركة العقيدة هي المشبوبة بين المعسكر الإسلامي وهذين المعسكرين اللذين قد يتخاصمان فيما بينهما، وقد تتخاصم شيع الملة الواحدة فيما بينها، ولكنها تلتقي دائماً في المعركة ضد الإسلام والمسلمين!
إنها معركة العقيدة في صميمها وحقيقتها. ولكن المعسكرين العريقين في العداوة للإسلام والمسلمين يلونانها بألوان شتى، ويرفعان عليها أعلاماً شتى، في خبث ومكر وتورية. إنهم قد جربوا حماسة المسلمين لدينهم وعقيدتهم حين واجهوهم تحت راية العقيدة. ومن ثم استدار الأعداء العريقون فغيروا أعلام المعركة. لم يعلنوها حرباً باسم العقيدة – على حقيقتها- خوفاً من حماسة العقيدة وجيشانها. إنما أعلنوها باسم الأرض، والاقتصاد، والسياسة، والمراكز العسكرية، وما إليها. وألقوا في روع المخدوعين الغافلين منا أن حكاية العقيدة قد صارت حكاية قديمة لا معنى لها! ولا يجوز رفع رايتها، وخوض المعركة باسمها. فهذه سمة المتخلفين المتعصبين! ذلك كي يأمنوا جيشان العقيدة وحماستها؛ بينما هم في قرارة نفوسهم -الصهيونية العالمية، والصليبية العالمية، بإضافة الشيوعية العالمية- جميعاً يخوضون المعركة أولاً، وقبل كل شيء لتحطيم هذه الصخرة العاتية التي نطحوها طويلاً، فأدمتهم جميعاً!!!
إنها معركة العقيدة . إنها ليست معركة الأرض، ولا الغلة، ولا المراكز العسكرية، ولا هذه الرايات المزيفة كلها. إنهم يزيفونها علينا لغرض في نفوسهم دفين؛ ليخدعونا عن حقيقة المعركة وطبيعتها، فإذا نحن خدعنا بخديعتهم لنا، فلا نلومن إلا أنفسنا. ونحن نبعد عن توجيه الله لنبيه × ولأمته، وهو – سبحانه- أصدق القائلين. (( صدق الله العظيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - (- رضي الله عنهم -(( - - - - رضي الله عنهم - - - جل جلاله -- رضي الله عنه -( ( - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - ( - - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه - - ( - ( } - جل جلاله - - - - - (( - - رضي الله عنهم - مقدمة - رضي الله عنهم -(( تمهيد ( - - - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - - ( - ( تم بحمد الله )) فذلك هو الثمن الوحيد الذي يرتضونه. وما سواه فمرفوض ومردود!) (1) . أ.هـ
فهل بعد هذه الآيات عذر لمن يجهل حقيقة أعداء هذا الدين، بل أعداء أمن البشرية والعالم أجمع؟ إن من يجهل حقيقة هذا العداء لم يتدبر كتاب ربنا سبحانه الذي فيه الكفاية والغنية، وفيه الحماية والحصانة من تلبيس الملبسين وتضليل المضللين.
__________
(1) في ظلال القرآن 1/108.(/46)
وإن من أهداف هذا الفصل من هذه الرسالة هو فضح مكر الماكرين من الملبسين والمضللين الذين يرفعون عقيرتهم بمكافحة الإرهاب، وادعاؤهم حماية أمن الناس وسلامتهم، موظفين هذا المكر في محاربة المصلحين الذين يدعون إلى توحيد الله عز وجل،وتعبيد الناس لرب العالمين ومحاربة الفساد والظلم والكفر التي هي مصدر شقاء الناس، وخوفهم وقلقهم، ومع ذلك يتهمهم هؤلاء الماكرون الملبسون بأنهم أعداء الأمن، ودعاة الإرهاب. وما أشبه هؤلاء الماكرين بإخوانهم وسلفهم من الكفار والمنافقين الذين قص الله عز وجل لنا أقوالهم الجائرة في الأنبياء والمصلحين، ووصفُهم لهم بأنهم مفسدون قال الله عز وجل عن اتهام فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام: (( - رضي الله عنه - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( قرآن كريم - رضي الله عنه -(( - (( ( - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم -( - - - ( - ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - (- رضي الله عنهم - - قرآن كريم ( تم بحمد الله ((( - - عليه السلام - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ((( مقدمة ( - - عليه السلام - - } ( - ( - الله أكبر ( { ( - - - } - صلى الله عليه وسلم - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - - ( - - - رضي الله عنه - - ( - ( المحتويات ( تمهيد - - جل جلاله - - ( - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - - ( - ((( - - (( ((( - - } - - - رضي الله عنهم - - - - - - (( - - - )) [غافر:26] وقال عن تحريض الملأ من قوم فرعون على أصحاب موسى عليه الصلاة والسلام : (( - رضي الله عنه - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - { الله أكبر ( الله - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( الله ( قرآن كريم - - - رضي الله عنه - تمت ( قرآن كريم - رضي الله عنه -(( - (( ( - - - - - - صلى الله عليه وسلم - - - (- رضي الله عنهم - - قرآن كريم ( تم بحمد الله (( مقدمة - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ((( - ( - - (( ((( - - } - - - - - عليه السلام - - - - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - درهم - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - ( - - - عليه السلام -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ... الآية)) [الأعراف:127]. وقال عز وجل عن المنافقين في عهد الرسول × : (( - - - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - ( - ( المحتويات ( - - - - صدق الله العظيم } - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ((( - - (( ((( - - } - - } - ( قرآن كريم ( - - - - - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر ( { ( صدق الله العظيم (- رضي الله عنه - صدق الله العظيم - عز وجل - - - قرآن كريم ( - ( - ((( تم بحمد الله - سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم - صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - ( الله أكبر ( { ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ((( - ( - - - صدق الله العظيم ( - ( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - (((( - - )) [البقرة: 12،11].
إذن فهي شنشنة قديمة، وسنة متبعة من الكفار والمنافقين ضد عباد الله المصلحين : (( } - ( قرآن كريم - ( - - عليه السلام - قرآن كريم - - - صلى الله عليه وسلم - - (( مقدمة ( - - ( - - رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم (( - - ( )) [الذاريات:53].
وينطبق علهيم المثل العربي المشهور (رمتني بدائها وانسلت) فهم أهل الإرهاب، وهم أعداء البشرية وأمنها ومع ذلك يتترسون وراء محاربة الإرهاب ونشر الأمن لينشروا الإرهاب والخوف والظلم بين الناس )) - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - } ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه -((( - ( تمهيد (- رضي الله عنهم - - ( - - - (( [الأنفال:30].(/47)
يتحدث الأستاذ سليم الزغل عن (التطرف الديني والإرهاب)، وإلصاق الغرب الكافر، وأذنابه هذه التهمة بالمتمسكين من المسلمين بعقيدتهم فيقول: (لقد أصبحنا في العالم الإسلامي المنكود نردد ما يقوله الغرب والشرق عنا من التطرف والغلو والتشدد، ونستخدم هذه المصطلحات ضد إخواننا وأبنائنا ممن ساروا مع قافلة الصحوة، وتشبثوا بأهداب هذا الدين الحنيف، وما ذلك إلا تنفيذاً لكل ما لقنته لنا الهيئات الاستعمارية حول كون تلك الحركات، والجماعات، والمنظمات متطرفة متعصبة أصولية إرهابية، فسِرْنا وراءهم بحماس يفوق حماسهم، سرنا وراءهم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، ولو دخلوا جحر ضب لدخلناه وراءهم، كما قال رسول هذه الأمة × .. قوافل الشباب المسلم والذين ألقي بهم في سجون الطغاة، وقُطِّعوا إرباً إرباً وذاقوا من صنوف العذاب مالا تتوهمه الأوهام، وقتل الكثير على أعواد المشانق، وفعلت ببعضهم الفاحشة، وقضى آلاف منهم عشرات الأعوام في الأقبية والزنازين والسراديب المظلمة.. خرجوا بعدها إلى الحياة لكي يجدوا أن الأبناء تشردوا، وأن الأسر قد تبعثرت بعد أن عبثت بها الأيدي الآثمة، وحيل بينهم وبين لقمة العيش الكريمة. كل تلك الكؤوس المترعة تجرَّعوها حتى الثمالة، لا لذنب اقترفوه، وإنما لأنهم قالوا: )) - - - جل جلاله - - - - عليه السلام - - ( - - - (( ، وتنفيذاً لرغبات الأسياد في الشرق والغرب حصل ما حصل.
إننا نتساءل وبكل لغات العالم: من هو المتطرف.. الضحية أم الجلاد؟؟! ولماذا قامت الدنيا ولم تقعد في فرنسا لأن بعض التلميذات العربيات ارتدين اللباس الإسلامي؟؟ وبدأ الإعلام الآثم يمارس سياسة التحريض ضد الإسلام والمسلمين، ويصورهم على أنهم وحوش هذا العالم وصار الخطاب عن التطرف الإسلامي والإرهاب الديني، أين هو التطرف؟؟ إننا لم نشاهد هذا الزخم الإعلامي ولم نرقب مثل هذه التحذيرات المرعبة، ولا طرقت أسماعنا بالأحاديث المفزعة عن الإرهاب والتطرف والهمجية وسكاكين الصرب كانت تخوض في بحور الدماء في البوسنة والهرسك، إدارات المدارس والوزارات والحكومات والهيئات الشعبية هناك، كلها وقفت تنادي بطرد العرب والمسلمين. واليهود والنصارى دقوا الطبول لأن اللحن أعجبهم، الكل صار يهتف بنغمة متناسقة تنادي بوقف التطرف الديني. من هو المتطرف – بالله عليكم- التلميذات العربيات أم الحاقدون عليهن من أعداء الإسلام؟! الصليبيون عندما احتلوا مدينة القدس ذبحوا كل أهلها عن بكرة أبيهم حتى خاضت الخيل في بحور الدماء إلى بطونها، وعندما دخلها صلاح الدين الأيوبي وحررها من النصارى وأهل الصليب أعطى أهلها الأمان وعاملهم معاملة الرجال الكرماء.
اليهود في فلسطين، والصرب في البلقان، والبوذيون في بورما، والهندوس في الهند وكشمير، والأمريكان في بلاد الأفغان والعراق، والشيوعيون في جمهوريات آسيا الوسطى خصوصاً في تركمانستان وطاجيكستان، والشيشان، كل هذه الملل وغيرها تمارس القتل والذبح والاغتصاب والتصفية العرقية، وكل ما هو محرم إنسانياً وحيوانياً، يمارسون ذلك ضد المسلمين في طول الأرض وعرضها لا لشيء سوى أنهم مسلمون- تحت مظلة الحماية التي توفرها لهم الأمم المتحدة- (الأمم المتحدة ضد كل مما يمتَ إلى الإسلام بصلة) – ممثلة بالدول الخمس الدائمة العضوية بمجلس الأمن، والتي تشكل عصابة تروج للإنحراف والجريمة، والتخطيط الآثم للاعتداء على المسلمين وإذلالهم، وهتك أعراضهم والزج بهم في أتون الفضيحة الكبرى، فقط لأنهم مسلمون!! إذن من هم المتطرفون دينيا؟؟ ومن هم الإرهابيون على الحقيقة؟؟)(1).
__________
(1) مجلة البيان العدد (63).(/48)
ونظراً لبعد الكثير منا اليوم عن كتاب الله عز وجل وما ذكر فيه من صفات المؤمنين وبيان سبيلهم، وصفات المجرمين وبيان سبيلهم، فإني في هذا الفصل سأبسط القول إن شاء الله تعالى في بيان أصناف المعادين لهذا الدين، والمعادين لأمن الناس، وسلامتهم في الدنيا والآخرة وأدعم ذلك بأقوالهم وأفعالهم الشنيعة التي تفضحهم، وتبين أساليبهم الماكرة في التسلط على الناس وإضلالهم، وسفك دمائهم، وهتك أعراضهم، وضياع أموالهم. والخروج في نهاية هذا الفصل بالجواب الواضح المبين لقوله تعالى: )) - - - صلى الله عليه وسلم - - - ( (((( - { - ( - - (( - - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - ( - } تمت ( { ( - (( - ( - - - قرآن كريم ( - فهرس - (( - - (( ، والذي قد أجاب الله عز وجل عنه في كتابه الكريم بقوله: )) - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - عليه السلام - - (- رضي الله عنهم - - - ( { - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ((( - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( المحتويات ( - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( - - تم بحمد الله (( من غير حاجة إلى هذا التفصيل ولكن ما الحيلة فيمن بعد عن كتاب الله عز وجل فلم يتدبره. إنه لابد له من هذا التفصيل.
أصناف المعادين للأمن والسلام المتمثل في دين الإسلام الحق
الأول: فئة الكفار والمنافقين
ثانياً: فئة أهل الأهواء والشبهات
ثالثاً: فئة أهل الشهوات والفسق والمجون
وهذه الفئات ليست على درجة واحدة في الخطورة فخطر فئة الكفار والمنافقين هي أشدها ثم فئة أهل الأهواء ثم أهل الشهوات.
أولاً: فئة الكفار والمنافقين
لقد سبق في الصفحات السابقة ذكر الآيات من كتاب الله عز وجل التي يبين الله تبارك وتعالى فيها خطر الكفار والمنافقين على أمن المسلمين بخاصة، وعلى أمن البشرية بعامة، وأنهم يسعون جهدهم، ومكرهم بالليل والنهار ليردوا المسلمين عن دينهم، ويفتنوهم عنه، ويحولوا بين الناس وبين وصول الدين الحق إليهم. وكفى بهذا عداء وقضاءً على أمن الناس حيث الشقاء والخوف والظلم في الدنيا، والعذاب الأليم في الدار الآخرة. فهم والله أعداء البشرية كافة. ولو أن الناس علموا حقيقة حالهم وأهدافهم ومخططاتهم لجاهدوهم وحاربوهم بكل وسيلة ومن كل صوب وفي كل زمان ومكان.
والكفار في عدائهم وحربهم للأمن والسلام يستخدمون وسائل ماكرة كثيرة أذكر منها ما يلي:(/49)
أولاً: أسلوب الغزو العسكري والإرهاب والقتل والتشريد والأسر وهتك الأعراض، وسلب الأموال. وهذا أمر واضح لا يشك فيه عاقل. والتاريخ يشهد، وواقعنا المعاصر شاهد على ذلك. ومن مكرهم وخبثهم أنهم يحسنون استثمار الفرص، ويوظفونها في تنفيذ مخططاتهم الماكرة. ومن خبثهم وتلبيسهم أنهم يبررون حروبهم وعدوانهم على أمن الناس في دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم بمكافحة الإرهاب، ونشر الأمن والحرية. ومن الغريب والعجيب أن يوجد من غفلة الناس، بل ومن بعض المسلمين من يصدق هذا المكر. ولأنْ وجدت الغفلة فيما مضى، فلا عذر اليوم لأحدٍ من المسلمين بأن تنطلي عليه هذه الأباطيل؛ وبخاصة بعد أن ظهر إرهاب الكفرة الأمريكان وحلفائهم ووحشيتهم في حربهم على أفغانستان والعراق وما يفعلونه بأسارى المسلمين في سجون جوانتانامو، وأفغانستان، والعراق. اللهم إلا أن يكون منافقاً مرتداً يتولى الكفار مقابل مناصب، وعرض من أعراض الدنيا أو حقد دفين على الإسلام وأهله. والمنافقون بتوليهم الكفار وخيانتهم للمسلمين يعدون من أعدى أعداء الأمن والسلام، حيث يتواطأون مع الكفار في غزوهم لبلدان المسلمين، ويرحبون بهم. ولولا هؤلاء المنافقون وأمثالهم لما استطاع الكفار دخول بلاد المسلمين ولما وجدوا لهم موطأ قدم في بلدان المسلمين(1). ونظرة في واقعنا المعاصر إلى غزو الأمريكان وحلفائهم لأفغانستان والعراق تطلعنا على الصورة السوداء للمنافقين في كلا البلدين؛ فلولا أن قدر الله عز وجل وجود هؤلاء المنافقين في بلاد الأفغان والعراق وقتالهم دون الأمريكان كزمرة المنافقين الكرزاييّن المتأمركين الذين أتت بهم أمريكا على ظهور الدبابات وزمرة المنافقين من الرافضة والعلمانيين الذي تولوا الأمريكان وجاءت أمريكا بقياداتهم من ديارها لما استطاع الأمريكان أن يواجهوا جيوش المسلمين الذين قامت لإعلاء كلمة الله تعالى في أرض أفغانستان والعراق.
ولذا فإن المنافقين من أخطر الطوائف، وأشدهم عداء للأمة. بل هم أخطر من الكفار الصرحاء، لأن الكافر يعرف ويحذر منه أما المنافق فلا يعرفه الناس، وبالتالي ينخدعون به، ويحصل منه اللبس والتضليل والكيد للأمة في الظلام. ولذلك كانت عقوبته عند الله عز وجل أشد من الكافر الواضح . قال تعالى: (( } تمت ( { - رضي الله عنه -((( { ((( - - جل جلاله -( الله أكبر ( الله - - - (( ( - ( - } - - - - ( - - (( - - } - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - - } - - - - صدق الله العظيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم - - ( - - صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله ( المحتويات ( - - - - ( - - ((- رضي الله عنه - الله أكبر )) [النساء: 145].
__________
(1) ... ومن أشهر المنافقين في واقعنا المعاصر : الرافضة (أحفاد ابن العلقمي)، والعلمانيون المستغربون، وزنادقة الصوفية الباطنيون، وأكثر الأنظمة التي تحكم في بلاد المسلمين.(/50)
وقد حذرنا الله عز وجل من المنافقين وعداوتهم وكيدهم للإسلام وأهله وذلك بتوليهم للكفار، ونصرتهم لهم، وفرحهم بانتصارهم على المسلمين. قال الله عز وجل: (( ( المحتويات - - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - - - - - فهرس - ( { - ((( - { - - - } - قرآن كريم ( { - ( - - رضي الله عنه - الله أكبر - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - قرآن كريم ( { - رضي الله عنه - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( الله أكبر (- عليه السلام - قرآن كريم ( - - { - رضي الله عنه -((( - { - - - } - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( - (- رضي الله عنه - - ( - ( - - - (((( - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - ( - ( - ( - - (- رضي الله عنهم - - ( - ( - - عليه السلام - - - - ( المحتويات ( - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنه - تم بحمد الله - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( - ((( الله أكبر ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - (( - ( - - رضي الله عنه - فهرس - صلى الله عليه وسلم - - - - جل جلاله - - - رضي الله عنه - - - صلى الله عليه وسلم - - تمت ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - ( - قرآن كريم ( - ( - ( - ( الله أكبر - عليه السلام - - ((- جل جلاله -- عليه السلام - - - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - { - ((- رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - } - ( { - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( - ( - - - - )) [الحشر:11] وقال تعالى: (( ( - (- صلى الله عليه وسلم -( - - - رضي الله عنه -((( { (((- عليه السلام - - ( - ( - - - } تمت - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( المحتويات ( - مقدمة - - ( - - - - - رضي الله عنه -( - ( - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - * - رضي الله عنه -((( - { - - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه -((( - ((( - - ( - - - - عليه السلام -( - - - عليه السلام - - ( - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -((( - ( تم بحمد الله ( - ( - ( - - - - - - قرآن كريم ((- رضي الله عنه - - ( - - رضي الله عنه - - - صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - - رضي الله عنهم - - - جل جلاله -(( فهرس - } - ((( - - - } تمت ( - - ( فهرس - } - ((( - - - ( - - - جل جلاله -( - ( - - - )) [النساء: 139،138] وقال تعالى: (( - { - - - - صلى الله عليه وسلم - - ((- رضي الله عنه - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم (- جل جلاله -- رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( - صدق الله العظيم } - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( - - - - { - رضي الله عنه - الله أكبر - - (( - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم -( - - صدق الله العظيم ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ( - ( - - رضي الله عنه - - - صدق الله العظيم - - رضي الله عنه - تمهيد - رضي الله عنهم - - } - - صلى الله عليه وسلم - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - - ((- جل جلاله -- رضي الله عنه -( ( - - - ( المحتويات - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - (( - - - (((- رضي الله عنه - - ( - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( - (- عليه السلام - قرآن كريم ((- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ((( - ( - ( المحتويات ( - ( - - صلى الله عليه وسلم -( - (( ( - - رضي الله عنه - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - ( - - - - } - جل جلاله - } - - رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - - - ( تمهيد (- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنهم - - - } تمت ( { ( - (( - ( - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( { (( - - ( المحتويات ( - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ((- رضي الله عنهم - - ((- سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم - - صلى الله عليه وسلم -( - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - - قرآن كريم - - (- رضي الله عنه -( تم بحمد الله - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم - تمهيد (- رضي الله عنه -( - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم (- جل جلاله -( تم بحمد الله ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - (- رضي الله عنه - - ( - ( - - - ( - (( - ( - - ( - - - - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - قرآن كريم ( { - -(/51)
} - ( قرآن كريم ( - - - - - } - جل جلاله -- رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( - - - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم فهرس - - رضي الله عنهم - - } - قرآن كريم - (- رضي الله عنه -( ( المحتويات ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - ( تم بحمد الله - - رضي الله عنه - الله أكبر - } - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ((( - - رضي الله عنه -(( - - - - ( - ( - } - قرآن كريم ( - قرآن كريم ( تم بحمد الله ( المحتويات ( - ((( - - رضي الله عنه -(( - - } تمت ( { { - - - - - (( - - رضي الله عنه -( ( المحتويات - - - ( - ( - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( - - - * تمت ( { ( المحتويات ( - ( - - - (( - - ( { - عليه السلام - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة ( المحتويات ( - ( - ( - - - تمت ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - ( - ((( - ( { - رضي الله عنه - } ( - - - رضي الله عنهم - - } - قرآن كريم ( مقدمة - رضي الله عنه - - ((- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنهم - - ( - } تمت ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - (( - - } - قرآن كريم ( { ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( المحتويات ( - - - ((- رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - ( - ( - - - - ((( - - { - } تمت ( { { - - - - - رضي الله عنهم - - ( - - - قرآن كريم ( - - رضي الله عنهم - - ((- رضي الله عنه - - (( - (- رضي الله عنه -( - )) [آل عمران: 118-120].
وفي التاريخ أمثلة كثيرة للمصائب والكوارث العظيمة الناشئة من تواطأ المنافقين مع الكفار في احتلال بلاد المسلمين. ويكفينا من ذلك ما فعله الرافضي المنافق الباطني ابن العلقمي في خيانته للخليفة العباسي المستعصم بالله، واجتياح جيوش التتار لعاصمة الخلافة الإسلامية، وقتلهم المقتلة العظيمة للمسلمين وهتك أعراضهم ونهب أموالهم.
وأسوق فيما يلي بعضاً من صور العداء والإرهاب الذي يقوم به الكفار والمنافقون وبخاصة في العصر الحديث على بني الإنسان بعامة وعلى المسلمين بصفة خاصة.
يقول الأستاذ ضميريه في كتابه «يسألونك عن الإرهاب»:
(.. وأما الغربيون المعاصرون؛ الذين يزعمون محاربة الإرهاب، وينصبون أنفسهم لزعامة العالم والسيطرة على الشعوب المستضعفة والمقهورة، فهم الإرهابيون حقيقةً: أصلاً ونشأة وتاريخاً وواقعاً...
لكنهم يفعلون كما يفعل وعَّاظ الاستعمار ومشعوذو السياسة لتخدير الأمم المستضعفة؛ فيقبِّحون لها العنصرية، وهم من حماتها؛ ويزهِّدونها في الجنسية، وهم من دعاتها.
فهل يعي الناس أن أمريكا – زعيمة العالم الغربي- إنما قامت على استئصال الهنود الحمر بطريقة لا تجد لها مثيلاً في البشاعة، والهمجية، والمذابح الدموية، وإتلاف المحاصيل الزراعية، وتخريب البيوت، وقتل المواشي، تلك الأعمال التي أثارت الاشمئزاز والقرف، وكلُّ ذلك باسم المسيحية والتبشير، وباسم الإنقاذ والخلاص، ونشر الحرية والديمقراطية، والقيام بالواجب والمهمة الدينية، ومقتضيات الشجاعة والرجولة!
وهذا شيء لا نقوله من عندنا، ولا ننقله عن كاتب مسلم قد يُتَّهم بالتعصب ضد أولئك القوم، وإنما نستدعي شاهداً من القوم أنفسهم، ونجتزئ بفقرات من شهادته المطوّلة:
يروي لنا المطران «برتولومي دي لاس كازاس» وثائق إبادة الهنود الحمر في القارة الأمريكية على أيدي المسيحيين الأسبان، وهو شاهد عيان على ما ارتكبته مسيحيةُ عصره من فظائع ومذابح في القارة الأمريكية. وشهادته هذه فوق الشبهات؛ لأنّ أحداً لا يستطيع أن يتهمه في دمه الإسباني، أو في دينه المسيحي. حتى الرهبان من رجال الدين الذين وصفهم أحد الزعماء الهنود بأنهم لا يعبدون إلا الذهب. وصفهم «لاس كازاس» بقوله: «كانوا يسمُّون المجازر عقاباً وتأديباً لبسط الهيبة وترويع الناس. كانت هذه سياسة الاجتياح المسيحي: أول ما يفعلونه عندما يدخلون قرية أو مدينة هو ارتكاب مجزرة مخيفة فيها.. مجزرة ترتجف منها أوصال هذه النعاج المرهفة».
ثم يقول: ثَمَّة استهتار وطيش يتعاظمان في أنفس هؤلاء الذين يسفكون كل هذه الدماء، ويستأصلون هذه الأراضي الشاسعة من أهلها وأصحابها بقتل مليار من البشر، وبنهب الكنوز التي لا تقدر بأثمان. إنهم يحتالون بأساليب مختلفة من أجل أن تسمحوا لهم بالمضي في الفتوح التي لا يمكن السماح بها من غير الاعتداء على حرمات الله، واختراق القوانين الطبيعية، ومن غير اقتراف الخطايا المنكرة التي تستأهل العذاب الشديد.(/52)
إن الذين ذهبوا إلى هناك من أدعياء المسيحية: أبادوا الشعوب الهندية الوادعة، ومحوا ذكرها من وجه الأرض، إما بالاجتياحات الدموية المتوحشة، وإما باستعباد مَنْ تبقّى استعباداً فظاً غليظاً شنيعاً، لم يشهد مثله البشر ولم تعرفه الدواب. أما من كان يحلم بالحرية أو يفكر فيها أو يحاول الخلاص من عذابه، كما يفعل ذلك كل إنسان: فمصيره القتل. إلى أنواع منوعة من الجور والطغيان الجهنمي والتخريب.
قتل المسيحيون كلَّ هذه الأنفس البهية، وفتكوا كلَّ ذلك الفتك باسم الدين، ليحصلوا على الذهب، ويكتنزوا الثروات، ويصلوا إلى مراكز أكبر من أشخاصهم. إنَّ جشعهم وتطاول شهواتهم الجامحة: أدّى بهم إلى احتقار هذه الشعوب المتواضعة الحالمة الودودة، ونَهْبِ ثروات هذه الأراضي الخصبة البهيجة. (إنني أقول الحقيقة لأني شاهدتها بأم عيني). كان المسيحيون ينظرون إلى الهنود الحمر لا كما ينظرون إلى الحيوانات (وياليتهم اعتبروهم حيوانات) بل أقلّ قدراً من الدوابِّ وأحطّ شأناً من الزِّبْل..) (1).أ.هـ
ويقول أيضاً:
(والفكر الأصولي الإنجيلي قائم على الإرهاب والتدمير والتخريب، وتصريحات الوعاظ السياسيين في الكنيسة المرئية، كلها طافحة بالتهديد بحرب نووية ستنشب حول «أورشليم»، وكثيراً ما كانوا يضربون في مواعظهم وتصريحاتهم على وتر «هرمجدُّون».
يقول الأصولي الأمريكي بات روبرتسون: «كنت أتمنى أن أستطيع القول إننا سنحصل على السلام، ولكني أومن بأن هرمجدُّون مقبلة. إن هرمجدُّون قادمة، وسيخاض غمارها في وادي مجدو، إنها قادمة، إنهم يستطيعون أن يوقعوا على اتفاقيات في السلام التي يريدون. إن ذلك لن يحقق شيئاً، هناك أيام سوداء قادمة إن مشاكل إفريقيا لن تحل، وكذلك مشاكل أمريكا الوسطى، ومشاكل أوربا. إن الأمور ستتوجه نحو الأسوأ. إنني لا أخطط لولوج جهنم القادمة. إن الله سوف يهبط من عليائه. ياإلهي إنني سعيد من أجل ذلك! إنه قادم ثانية! إنني لا أكترث لمن تسبب هرمجدُّون القلق والمتاعب؟ إنها تنعش روحي!»أ.هـ
وهل ينسى العالم قنبلتي هيروشيما، وناغازاكي اللتين أحدثتا دماراً رهيباً وذهب ضحيتهما مئات الألوف من النساء، والأطفال والعجزة؟ ففي السادس من شهر أغسطس عام 1945م ألقت أمريكا القنبلة الأولى على مدينة هيروشيما، وفي اليوم الثاني قنبلة أخرى على مدينة ناغازاكي اليابانيتين.
ويصف الطيار الأمريكي الذي قام بإلقاء القنبلة ذلك العمل (المتحضر المتمدن السلمي المسالم) فيقول: رأيت المدينة أمامي فسويتها بالأرض وانتهى كل شيء. ثم أرسل تلكسا إلى القاعدة الجوية في تينان يقول فيه: «تحقق التدمير والنتائج ممتازة».
وهل يغيب عن البال: أنهم هم الذين يدعمون يهود في عدوانهم الغاشم على فلسطين، والمقدسات الإسلامية فيها، واستئصالهم للشعب الفلسطيني من دياره، وفي العدوان الهمجي، والمجازر التي يقومون بها منذ اللحظة الأولى التي زرع فيها الصليبيون ذلك السرطان في جسم الأمة الإسلامية في فلسطين؟ ثم راحوا يدعمونهم بكل وسائل الدعم العسكري، والاقتصادي والمالي والأدبي، على كل صعيد وفي كل مناسبة. وبخاصة في المحافل الدولية، وفي مجلس الأمن باستعمال حق النقض (الفيتو) ضد أيِّ مشروع قرارٍ يُصوَّت عليه لصالح الفلسطينين، أو يكون فيه إدانة لإسرائيل، وإن كان لا يترتب عليه أي موقف عملي، أو أثر واقعي. والموقف الراهن من المجازر الأخيرة التي يتعرض لها الفلسطينيون رجالاً ونساء وأطفالاً، وأجنَّةً في بطون الأمهات، ببشاعتها وهمجيتها: دليل واقعيٌّ وشاهد صادق على ذلك الانحياز الظالم ، حتى البيوت والأشجار والمزارع، لم تكن بمنأى عن التخريب والعدوان. مع ما يكتنف ذلك من ضعف وتخاذل في موقف المسلمين بعامة من إخوانهم الفلسطينيين، وفي موقفهم من القضية برمَّتها حين اختزلوها وحصروها بالعرب دون المسلمين، ثم أصبحت قضية الفلسطينيين وحدهم، وقضية شخص أو أشخاص، يحكم فيها اليهود والصليبيون والمتآمرون) (2).
وأما ما فعلوه في هذه السنوات من إرهاب وقتل وهتك وتشريد في بلدان المسلمين، فهو أوضح من أن يفصل فيه، ولكن أذكر هنا ما فعلوه في بلاد الأفغان، والرافدين المسلمتين، وعن ذلك يقول د. ضميرية:
(ثم، هل يغيب عن البال – في هذه الأيام التي نعيشها- التدخل الأمريكي – المتحالف مع القوى الغربية الصليبية والفئات العميلة لها- في أفغانستان، التي قُتل فيها خلال ثلاثة أشهر فقط (من 7 أكتوبر حتى 7 ديسمبر) نتيجة القصف الأمريكي ما لا يقل عن (5000) أفغاني، جلُّهم من المدنيين من الرجال، والشيوخ الطاعنين في السن، ومن الأطفال والنساء والعجائز!) (3).
ويقول الدكتور محمد السلومي في كتابه : (القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب):
__________
(1) انظر: يسألونك عن الإرهاب ص53-57 (باختصار).
(2) انظر: يسألونك عن الإرهاب ص59-61 (باختصار).
(3) المصدر السابق، ص63،62.(/53)
«إرهاب الحرب ضد الإرهاب». بهذا العنوان كتب الصحفي البريطاني (روبرت فيسك) عن أفغانستان فقال: وهكذا بدأت الإصابات تتزايد من (قندهار)، تصلنا قصص مرعبة عن مدنيين دُفنوا تحت الأنقاض، وأطفال مُزقوا إربا بقنابل الأمريكيين، وقد رفضت حركة طالبان – لحسن حظ الأمريكيين- السماح للصحفيين الغربيين بالدخول إلى البلاد للتحقق من تلك التقارير.
ففرار اللاجئين الأفغان بالآلاف عبر الحدود هو دليل ساطع أنهم لا يفرون من حركة طالبان، بل من قنابلنا وصواريخنا، فحركة طالبان لا تطهر عرقياً مواطنيها من الباشتون، فاللاجئون يتحدثون بحرارة عن خوفهم ورعبهم من القنابل التي تتساقط على مدنهم. هؤلاء الناس مذعورون من (حربنا ضد الإرهاب) وهم ضحايا بريئة، مثلهم مثل من قتلوا في مركز التجارة العالمي يوم 11 أيلول، فأين نحن من ذلك؟ هذا سؤال مهم، فحين تهب عواصف الشتاء الباردة في وديان جبال أفغانستان ستبدأ على الأغلب مأساة جديدة؛ مأساة لن يكون في وسع أي مغرض أو خبير تجاهلها أو تجنبها، سنقول إن الآلاف الذين ماتوا أو على وشك الموت من الجوع والبرد هم ضحايا طالبان أو دعم طالبان للإرهاب... وقالت رئيسة البرلمان الأوروبي نيكول فونتين: إنه يجب حظر استخدام قنابل إنشطارية في أفغانستان، واعتبرت أن استمرار اللجوء إلى هذه الأسلحة خطأ إنساني وسياسي.
وأضافت في بيان صدر بهذا الخصوص : إن للقنابل الإنشطارية عواقب الألغام المضادة للأفراد؛ لأنها تظل منتشرة بصورة مهددة؛ وذلك في مناطق بكامل طوال سنوات!!
وفي باريس أعلن الناطق باسم وزارة الخارجية الفرنسية (فرنسوا ريفاسو)؛ أن فرنسا تأسف وتندد بمقتل أولى ضحايا المدنيين في انفجار القنابل الانشطارية التي ألقتها الولايات المتحدة على أفغانستان...
ويرى (روبرت فيسك) أن الغرب بحضارته أصبح مجرم حرب في أفغانستان، أو كما عبر عن ذلك بقوله: أصبحنا (مجرمي حرب) منذ قرار ضرب أفغانستان وتجييش الجيوش والتحالفات لها قبل إعلان الأدلة والوثائق المدينة لهؤلاء أو هؤلاء.
وهذا ما عبر عن معناه وزير العدل الأمريكي السابق (رمزي كلارك) في مقابلته مع قناة الجزيرة القطرية؛ حيث وصف عمليات القصف الأمريكي على أفغانستان بأنها : (جرائم حرب بالتأكيد؛ وجرائم ضد الإنسانية، وضد السلام، ووفقاً للمادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة يقول: نحن الأمريكيين نذهب هناك بمفردنا، ونحاول جلب الكثيرين إلى جانبنا لنقتل ونغتال من نشاء كما يحدث...) (1).
(وأما العراق؛ فقد أصابه ما أصابه من التدمير، والتخريب الذي لحق بالمؤسسات المدنية والبنية التحتية والفوقية، والتجويع والإذلال، والتقتيل للرجال والنساء، والأطفال الذين بلغ عدد من مات منهم، بسبب الحصار وسوء التغذية ونقص العلاج (مليون) طفل.
ويبدو أن هذا كله ليس إرهاباً في نظر الصليبيين، بل هو أمنٌ وسلامٌ، وحريةٌ واطمئنانٌ.. حتى ولو وصل استخدام أحدث الأسلحة، لتجريبها على الشعب، ولاستخدامها في التهديد بتفكيك وتجزئة البلد الواحد إلى دويلات عرقية وطائفية؛ فقد اقترح مستشار سياسي لجورج بوش الابن، أن تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية القوة الجوية ووسائل أخرى لاقتطاع أجزاء أخرى من العراق.
وهذا الذي تقدم ، كتبناه قبل بداية العدوان الأمريكي البريطاني والقوى المتحالفة معها على العراق فيما عرف بحرب الخليج الثالثة واحتلال العراق عام 2003م، والذي يحصل فيها الآن من المبالغة في الإفساد والتدمير، والإذلال والتقتيل، مع معرفة الدوافع الحقيقية.. يفصح عن حقيقة القوم ونواياهم، وعن أخلاقهم وحضارتهم وقيمهم، وعن منظماتهم الدولية والإنسانية المزعومة؛ فقد بلغ عدد القتلى من الرجال والنساء والأطفال في الأيام الأخيرة من العدوان على مدينة «الفلوجة» وغيرها من المدن العراقية المقاومة للاحتلال بالآلاف ، ومثل هذا العدد أو أكثر من المصابين.
وفي 11/3/1424هـ الموافق 2/5/2004م عرضت القنوات الإخبارية صوراً منقولة عن (قناة سي بي س الأمريكية) يظهر فيها تعذيب الأسرى العراقيين في «سجن أبو غريب» قرب بغداد، بلغت الغاية في الوحشية والهمجية والظلم وامتهان الكرامة الإنسانية، والتعذيب الذي يؤدي إلى القتل، فظهر في الصورة جندي أمريكي يضع قدمه على المواطن العراقي السجين، وفي صورة أخرى يتبول الجندي الأمريكي على السجين وسط استهزاء الجنود وإظهار الاحتقار، وفي صورة ثالثة ظهر المعتقلون عراة والمجندات يتحسَّسن بعض المواضع من أجسادهم ويتندرن بهم ، مما دعا الهيئات العالمية إلى استنكارها وشجبها، وإظهار الاشمئزاز.
__________
(1) القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب، ص266-283 (باختصار). ومن أراد توثيق المقولات فليرجع إلى الكتاب.(/54)
ولئلا يقول قائل: هذه تصرفات فردية من الجنود لا تعبِّر عن القيم الأمريكية والبريطانية، ولا يرضى عنها المسؤولون، كما أنهم لم يعلموا بها عند وقوعها، نشير إلى ما أوردته الوكالات وبثته القنوات الفضائية في 20-23/3/1424هـ فقد نقلت عن الواشنطن بوست أن وزارة الدفاع وافقت على وسائل تعذيب استخدمت في سجن أبو غريب وغوانتانامو. وذكرت أن مسؤولين بوزارة الدفاع والعدل (الأمريكي) وافقوا على لائحة سرية تتضمن عشرين أسلوباً في التحقيق مع المعتقلين، منها تعليقهم بصورة معكوسة ، وتعريضهم للحرارة والبرد، وتسليط أضواء قوية عليهم، والوقوف ساعات طويلة، والتعرية. وهذه أول وثيقة رسمية تسمح للمحققين بإرهاق المعتقلين جسدياً ونفسياً قبل الاستجواب.
كما جاء في المصادر نفسها – وفي غيرها كثير- أن الجنود الأمريكيين الذين ظهرت صورهم في تعذيب المعتقلين العراقيين يقولون: إنهم تلقوا أوامر من المخابرات بالتعذيب. كما نقلت الواشنطن بوست أن الجندية التي شاركت في انتهاكات أبو غريب تقول: إنها تلقت أوامر من الاستخبارات العسكرية بتحويل حياة المعتقل إلى جحيم قبل استجوابه!
كما ذكرت وسائل الإعلام: أن التقارير تفيد أن المسؤولين بوزارة الدفاع لديهم علم بكل صور التعذيب، وأن ذلك كله مسجل على أشرطة الفيديو.
ثم توالت بعد ذلك الأخبار في كل وسائل الإعلام عن انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان في معتقلات وسجون أفغانستان وغوانتانامو على يد القوات الأمريكية وقوى التحالف الآثم معها.
وهم – الغربيون الصليبيون- الذين انتهكوا كل الأعراف الدولية في حربهم الصليبية الإرهابية في أفغانستان بقتل المدنيين والأبرياء الأطفال والعجزة، وقصف القرى الآمنة المسالمة، وقصف مراكز الإغاثة والمستشفيات والتجمعات المدنية الآمنة في المناسبات الاجتماعية.. ومتابعة الفارين في الكهوف والمغارات في الجبال، وانتهاك كل الأعراف الدولية والقواعد القانونية، باسم محاربة الإرهاب في بلد من أفقر بلاد العالم وأقلها شأناً في السلاح والقوة العسكرية والمادية، بعد الحرب ضد الشيوعية الغاشمة، التي أنهكتها واستنفذت طاقاتها وشبابها، ثم جاءت بحكومة من صنعها، رغم إرادة الجميع، حتى إن رئيس الحكومة طلب أخيراً «تعزيز حرسه الشخصي بقوات أمريكية خاصة ومتخصصة في حماية الشخصيات».
وأما طريقة التعامل مع أسرى الحرب في أفغانستان؛ فيرسم لها تقرير «منظمة أصدقاء الإنسان الدولية» صورةً قاتمة بشعة، تتنافى مع كل الأعراف الدولية والقواعد الإنسانية، فقد أعربت المنظمة في هذا التقرير عن استيائها الشديد للأسلوب الذي تعامل به القوات الأمريكية أسرى الحرب الذين احتجزتهم في أفغانستان، ثم رحلتهم إلى قاعدة (غوانتانامو)، وشبَّهت المنظمة- التي تتخذ من (فيينا) مقراً لها- ملابسات ترحيل الأسرى، وطريقة احتجازهم برحلات أساطيل الرقيق البحرية من إفريقيا إلى أمريكا منذ منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، مشدِّدة على أنها تراقب بقلق بالغ عمليات نقل أسرى الحرب وظروف احتجازهم.
ولا يغيبنَّ عن البال أن أسلوب الإرهاب هو الذي سلكته أمريكا مع الدول الأخرى لتضمَّها إلى التحالف الأمريكي الدولي، من خلال «من لم يكن معنا فهو ضدنا ومع الإرهاب»، حتى صارت غالبية الدول التي يخوفها الشيطان من أوليائه، تتسابق في تسليم أبنائها ومواطنيها والمقيمين على أرضها، لمجرد الشبهة بأنهم يمكن أن يكونوا من المتعاونين أو المنتمين إلى هذا التنظيم أو ذاك. تسلمهم إلى أمريكا لتنفي عن نفسها تهمة الإرهاب الأمريكية، ولتحصل منها على شهادة حسن السيرة والسلوك، ولتبرهن على نظافة سجلها في حقوق الإنسان، وهذه بادرة جدُّ خطيرة لا نجد لها سابقة في تاريخنا وعلاقاتنا مع الآخرين، بل هي تشكل الآن سابقة يقاس عليها فيما بعد، ويخشى أن تصبح قاعدة في العلاقات الدولية.
وأيُّ إرهاب أكثر من التدخل في الشؤون الداخلية للدول المستقلة ذات السيادة، والتلويح والتهديد بتغيير القيادات والأنظمة، والضغط عليها –بكل الوسائل والأساليب- لتعديل مناهجها التعليمية والتربوية ولإعادة تشكيل العالم وفق النظرة الأمريكية التي يتبناها صقور إدارة بوش؟.(/55)
وفي هذا المعنى يقول روبرت دريفس: إن النزاع مع العراق هو حدث بارز صُمم لخلق صدمة مزلزلة تموج في أرجاء المنطقة، وحول العالم، وتبشر باقتراب حقبة جديدة من النفوذ الإمبراطوري الأمريكي، كما أنه من المحتمل أن يُدخل الولايات المتحدة في نزاع مع دول عديدة في الشرق الأوسط.. وفي الشرق الأوسط؛ فإن تغيير النظام الوشيك في العراق، ليس سوى خطوة أولى في إعادة تنظيم كلية للمنطقة بأسرها، وفقاً للمحافظين الجدد الذين بدؤوا – بسعادة- إطلاق لقب «عصابة سرية» على أنفسهم. ومثل لعبة الدمينو (حيث يتسبب حدثٌ بتعاقب أحداث مشابهة)؛ فإن الأنظمة في المنطقة ابتداء بإيران، وسوريا، والعربية السعودية، ثم لبنان، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وأخيراً السودان وليبيا، واليمن، والصومال مرشحة لأن تستسلم، أو تنهار، أو تواجه العمل العسكري الأمريكي. ولهذه البلاد قال زعيم العصابة السرية ريتشارد بل، العضو المقيم في المشروع الأمريكي ورئيس لجنة سياسة الدفاع: يمكننا نقل رسالة قصيرة من كلمتين: (أنت التالي). إن ذلك يشبه المتسيد على الملعب، فأنت توسع أحدهم ضرباً، وعندها يتأدب كل شخص آخر) (1).
ويتحدث الدكتور محمد السلومي حفظه الله تعالى في كتابه (القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب) عن التعاون الأمريكي اليهودي في إرهاب المسلمين وزعزعة أمنهم فيقول:
(الكاتب الأمريكي (ديفيد ديوك) يؤكد أن الدعم الأمريكي (الأعمى) لإسرائيل هو السبب الرئيسي لهجمات سبتمبر:
لقد أبرزت المقالة لهذا الكاتب بعض جوانب دعم أمريكا للإرهاب، وسوف أختار من هذا المقال بعض المقتطفات التي تتسق وطبيعة الموضوع، وباختصار شديد يقول الكاتب بعنوان: (فلتفتح أمريكا أعينها وترى الحقيقة في هدوء. 6 مليارات دولار سنوياً لمدة نصف قرن تتلقاها إسرائيل من أمريكا). «الحقيقة المؤكدة التي لا مراء فيها هي أن الفلسطينيين والكثيرين من العرب الذين يدعمونهم ظلوا مستهدفين طيلة نصف قرن من قبل الإرهاب الإسرائيلي الذي لا يرحم؛ ففي نهاية الأربعينيات سيطر الصهاينة على فلسطين وطردوا حوالي (700.000) فلسطيني من بيوتهم، من خلال أعمال الإرهاب التي مورست ضدهم على نطاق واسع؛ مثل تلك المذبحة التي راح ضحيتها (254) فلسطينياً غالبيتهم من الشيوخ والنساء والأطفال في (دير ياسين)؛ تلك المذبحة الوحشية التي ارتكبت بدم بارد، تميزت به جرائم اليهود من خلال بقر بطون النساء الحوامل، وبعد أن قاموا بإراقة دماء أولئك الأبرياء أشاعوا على الملأ تفاصيل تلك المذبحة الرهيبة؛ لدفع أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين إلى الفرار؛ تاركين بيوتهم وأملاكهم وأموالهم التي لم يُسمح لهم حتى الآن بالعودة إليها.
وتنفيذاً لسياسة التطهير العرقي؛ تستمر إسرائيل في منع السكان الفلسطينيين الذين ولدوا في فلسطين، والذين عاش ذووهم لأجيال لا تعد ولا تحصى من العودة إلى ديارهم، وفي الوقت نفسه تعطي حوافز مغرية لليهود الذين لم يسبق لهم العيش في فلسطين؛ ليهاجروا إليها من أقصى أركان العالم.
كل فلسطيني وكل عربي يعرف جيداً أن إسرائيل وعلى مدى نصف قرن من العنف؛ ليس بوسعها القيام بكل ذلك دون الدعم المادي والعسكري والدبلوماسي الذي تتلقاه من الولايات المتحدة، وهم يعرفون أيضاً أن اللوبي اليهودي يحكم السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وأن الصهاينة في وسعهم الحصول على ما يريدون من الكونجرس في الأمور التي تهمهم، وكان الدعم الأمريكي للغزو الوحشي، والاحتلال الذي قامت به إسرائيل للبنان في الثمانينيات؛ هو السبب الرئيسي في تفجير مقر قوات المارينز وسقوط (300) شاب أمريكي. ويؤكد الكاتب الأمريكي اشتراك أمريكا في الجرائم الإسرائيلية؛ فيقول مؤكداً على إرهاب دولته:
«ويعرف العرب أيضاً أن كل قنبلة تقتل شعبهم تأتي من أمريكا، وكل رصاصة ودبابة وطائرة هي إما مصنوعة وإما مدفوعة من أمريكا، ويشكل ذلك بلايين الدولارات تُرجمت إلى دعم حقيقي وفعَّال، مكَّن الدولة اليهودية من بث الرعب في صفوف الشعب العربي على مدى نصف قرن. ورغم أن إسرائيل غزت لبنان وقتلت الآلاف من الأبرياء فإن أمريكا لم تهدد بقصف تل أبيب (كما حدث في العراق)؛ إذا رفضت إسرائيل تنفيذ قرارات الأمم المتحدة بالانسحاب، ويقول الكاتب: وإذا أجرينا مقارنة يسيرة بين تفاعل أمريكا حيال الغزو العراقي للكويت، وتفاعلها حيال الغزو الإسرائيلي للبنان، ستتضح لنا الصورة بشكل أوضح) (2).
ويتحدث عن الإرهاب اليهودي على المسلمين في فلسطين فيقول:
__________
(1) يسألونك عن الإرهاب ص63-80 (باختصار).
... وجميع النقولات موثقة في هذا الكتاب ، وقد آثرت تركها طلباً للإختصار فليرجع إليها من شاء.
(2) القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب، ص102-104.(/56)
(يتميز الكيان الصهيوني بسن قوانين إرهابية تجيز انتهاك حرمة وكرامة الإنسان، وتزيد من معاناة الشعب الفلسطيني المضطهد، ومن ذلك قوانين الاعتقال الإداري، التي تجيز اعتقال أي مشتبه به لمدة معينة، وتمديدها إذا رأى القائمون على الأجهزة الأمنية ذلك.
والاعتقال الإداري عبارة عن أمر عسكري، يقره ضابط برتبة عميد، بدون لائحة اتهام وبدون محاكمة، ودون إبلاغ المعتقل ما هي الاتهامات المنسوبة إليه.
ويطال هذا النوع من الاعتقال أي فلسطيني لمجرد الشبهة، ولا حاجة فيه إلى الأدلة، أو الأسباب الداعية إلى الاعتقال، وكان المعتقل يمكث في السجن ثمانية عشر يوماً، ثم يُطلق سراحه، أو يمدد اعتقاله مدة مماثلة أخرى، ثم صدر قرار بزيادة المدة إلى ثلاثة أشهر، ثم إلى ستة أشهر قابلة للتمديد.
ويعاني الفلسطينيون خلال فترة الاعتقال الإداري معاناة لا توصف، حيث يقوم المحققون خلال هذة الفترة بتعذيب المعتقل بكافة الوسائل والأساليب البشعة دون حساب أو رقابة، وذلك بحجة خطر المعتقل، وضرورة نزع الاعترافات التي يمكن أن توقف بعض العمليات، وتكشف مخططات قوى المقاومة...
ويشهد على إرهاب هذا الكيان ما يجري في الزنازين المرعبة من أعمال وحشية، وممارسات لا إنسانية، وجرائم بشعة يندى لها الجبين.
فالسجون الصهيونية الكالحة لا تعرف الرحمة، ولا تعترف بها، وداخلها مفقود، والخارج منها مولود، وهي بحق معتقلات الموت البطيء التي شُيدت لقتل الإنسانية والعزة والكرامة في نفوس أبناء فلسطين ومن أعانهم، أو انتصر لهم من إخوانهم المسلمين.
ولم يكن إنشاء هذه السجون فقط من أجل اعتقال وتعذيب المقاتلين، وجنود المقاومة، أو تأديب المعارضين، وحبس المتظاهرين، وإنما لأهداف أخرى أشمل وأعم، من مثل بث الرعب، ونشر الخوف بين الفلسطينيين جميعاً دون استثناء، وتجنيد العملاء والخونة بالإسقاط والإكراه ووسائل التعذيب المختلفة، وتدريب الإسرائيليين على التحقيق وكيفية التعامل الوحشي مع أعدائهم، وتحطيم المعنويات لدى الشعب الفلسطيني، وكسر شوكة المقاومة، وغرس الشعور باليأس من الخلاص في قلوب الناس، وتوفير الحماية والأمن للمستوطنين المغتصبين المحتلين للأرض، وغير ذلك...
وجرائم أخرى بحق النساء:
في 13/9-2001، وبينما كانت الأسيرات يجلسن في غرفهن، اقتحمت قوة من السجانات غرف الأسيرات، وصادرن جميع أمتعتهن وممتلكاتهن، واقتيدت الأسيرات مها العك، وعبير عمرو، وسعاد غزال، ورابعة حمايل (14 سنة) إلى قسم آخر ، حيث لا يوجد سوى السجناء المدنيين المجرمين، وبعد ذلك قامت قوة من السجانات بالدخول إلى غرف العزل، وبدأت بالاعتداء بالضرب العنيف على الأسيرات، بعد أن قام السجانون والشرطة بتقييد أيدي وأرجل الأسيرات، ورشهن بالغاز، وربطهن بالأسرة بشكل مؤلم، فقضين طول الليل يصرخن من شدة الألم.
سياسة الإعدام الميداني للمعتقلين:
أكثر من 19 مواطناً عذبوا وأعدموا عند تنفيذ عملية الاعتقال.
أعدمت سلطات الاحتلال الصهيوني 19 مواطناً فلسطينياً، ألقي القبض عليهم وهم على قيد الحياة ، خلال عام من انتفاضة الأقصى، وتمت عملية الإعدام حين تنفيذ عملية الاعتقال، وقبل اقتيادهم إلى مراكز تحقيق رسمية، والمقصود بالإعدام هنا هي عملية تصفية المعتقل بعد إلقاء القبض عليه مباشرة، خارج نطاق القوانين المعمول بها رسمياً، والمطبقة حول إجراءات الاعتقال، وتمت عمليات القتل بعدة أساليب هي:
إطلاق النار بشكل مباشر على المعتقل عند إلقاء القبض عليه.
عدم السماح بتقديم الإسعافات الطبية للجرحى، الذين تم اعتقالهم حتى يفارقوا الحياة.
تعذيب المعتقلين ميدانياً حتى الموت.
ومعظم المعتقلين الذين أعدموا تم تشويه جثثهم، والتنكيل بها بشكل بشع، ولا إنساني.
وتنفرد حكومة الكيان الصهيوني المتعاقبة في تنفيذ هذه السياسة، التي تعتبر جزءاً أساسياً من التوجه الرسمي لها، منذ عام 1967م، وكانت قضية الباص رقم 300 عام 1948م قد فتحت ملفات العديد من حالات إعدام معتقلين بعد القبض عليهم، وذلك بعد الكشف عن هذه القضية التي تم خلالها إعدام مجدي أبو جامع من قطاع غزة، وزميل له بعد إلقاء القبض عليهما، إثر عملية اقتحام فاشلة لباص إسرائيلي.
وقبل خمس سنوات قتل ناحوم كورمان، ضابط الأمن في مستوطنة بيتار الصبي حلمي شوشة من قرية حوسان المجاورة، بعد أن اشتبه بقيامه بإلقاء الحجارة على سيارة مستوطنين، وذلك في صورة بشعة تصور وحشية الاحتلال، حيث داس على رأسه، وظل يركله في رأسه لأكثر من ساعة، ثم قام بإطلاق النار على رأسه بدم بارد، وانسحب من المكان) (1).
__________
(1) القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب، ص214-240 (بإختصار شديد) ومن أراد التوثق من النقولات فليرجع إليها في الكتاب المذكور.(/57)
وأما ما يقوم به المنافقون المتنفذون في كثير من بلدان المسلمين من الإرهاب والسجن والتعذيب لدعاة المسلمين ومصلحيهم ومجاهديهم فلا يحتاج إلى تفصيل لأنه لا يخفى على أحد, فأين من يتكلم عن الإرهاب عن هذا الإرهاب والتخويف والتضييق على المصلحين وأهليهم وذويهم.
وفي ختام الحديث عمَّا يقوم به الكفار والمنافقون من إرهاب وتقتيل وتشريد وتخويف للآمنين أود الحديث عن (مجلس الخوف والإرهاب والاستعمار) وهو ما يسمى زوراً وبهتاناً (بمجلس الأمن). وعن دوره التآمري الخبيث في إضفاء الشرعية على ما تقوم به الدول الكافرة من قتل وعدوان على المسلمين، واحتلال لبلدانهم ومقدراتهم، وما يصاحب ذلك من تغيير للعقائد والأفكار والأخلاق، يتحدث الدكتور محمد طاهر حكيم في كتابته عن حقيقة مجلس الأمن فيقول:
(كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن دور مجلس الأمن ومهامه في تحقيق الأمن والسلام العالميين إبان تعرض المسلمين لمآس ونكسات وويلات من أعدائهم في شتى أنحاء المعمورة، ولا سيما في البوسنة وفلسطين وكشمير، والعراق، وأفغانستان على سبيل المثال لا الحصر.
وظن بعضهم أن مجلس الأمن سيفرض الأمن ويعيد السلام إلى المناطق المنكوبة، ويحقق الأهداف التي قام من أجلها؛ وهي إقامة العدل ونصر المظلوم وردع المعتدي، وغاب عن هؤلاء أن المنظمة الدولية غدت أداة طيعة في أيدي الأقوياء لتحقيق خططهم وتنفيذ مآربهم.
إن مجلس الأمن تتحكم في قراراته خمس دول فقط الأعضاء الدائمون وهم: أمريكا، روسيا، بريطانيا، فرنسا، والصين، التي تسعى من خلال قراراته لتحقيق مصالحها الخاصة، وفرض سيطرتها على الدول الضعيفة والإسلامية منها بالذات، ويقال عن أي قرار يصدر عن هذا المجلس بأنه قرار دولي. أو يعبر عن إرادة المجتمع الدولي. وهذا عجيب وما أكثر عجائب هذا الزمن. ومنها أن يقال عن القرار الصادر من خمس دول بأنه «دولي»، ويفرض على باقي دول العالم، دون أدنى حق لها في إبداء الرأي أو الاعتراض عليه، بل إنه بإمكان دولة واحدة من هذه الدول الخمس إفشال أي قرار لا يعجبها، بصرف النظر عن مواقف باقي الدول، ومع هذا يقال عن أي قرار يصدر عن مجلس الأمن بأنه قرار دولي.
خذ مثالاً شعب البوسنة المسلم، وما حدث له من وحشية وهمجية لا نظير لها، حيث يعيش شعب بكامله تحت الإرهاب، والحكم العسكري، ونظام المعسكرات الذي يذكرنا بأساليب «النازية» أو «الفاشية» أو «الشيوعية». ومجلس الأمن الذي يتبجح بالدفاع عن حقوق الإنسان، وقواعد القانون الدولي، وحق جميع شعوب الأرض في العيش في سلام متباطئ متخاذل، لأن هناك بعض الأعضاء الدائمين في المجلس لا يرون ما يراه العالم ودوله وشعوبه قاطبة، فهل بعد هذا يصح أن يقال عن أي قرار يصدر من مجلس الأمن بأنه قرار دولي؟ أين مكمن التزوير؟ إن مجلس الأمن لا يعبر عن المجتمع الدولي، بل هو يعبر عن هيمنة أعضائه الدائمين على «القرار الدولي» ولذا يحسن تسميته بـ «مجتمع القوة» أو «مجتمع الخاصة» الذي يحكم باسم المجتمع الدولي، ولذا فإن تسمية قراراته بالدولية زور وباطل.
إن هذا الوضع القائم ما هو إلا امتداد لحقبة الاستعمار، الذي ولى بمظهره العسكري، ليحل بمظهره السياسي، فهذا المجلس في الحقيقة أصبح مجلس استعمار وليس مجلس أمن...
الحقيقة أن بعض المسلمين يبالغ في حسن الظن بمجلس الأمن عندما يلجأ إليه، ويتوقع منه أن ينظر إلى قضايانا بعين العطف والرحمة أو على الأقل بعين العدل والإنصاف.
وتغيب عن أذهاننا حقيقة مهمة وهي: أن المجلس عبارة عن التكتل اليهودي (أمريكا) النصراني (بريطانيا وفرنسا) الشيوعي (روسيا والصين)، فهل يرجى للمسلمين خير من هؤلاء؟ أليس هؤلاء هم أعداؤنا، أليس الله قد حذرنا منهم، ومن الاعتماد عليهم وموالاتهم؟ ألم يخبرنا الله تعالى وهو أصدق القائلين (( } تمت - رضي الله عنهم - - ( - - رضي الله عنه - - - - - - - { - صلى الله عليه وسلم - - ( } - } - جل جلاله - - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -(- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه -( - رضي الله عنه -((( - { - ( - - } - قرآن كريم (- جل جلاله -- رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( - رضي الله عنهم - - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - ( - - - - ((( - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - ((- صلى الله عليه وسلم - - )) فكيف نأمل الخير ممن حذرنا الله منهم.
هل نتوقع مناصرة قضايانا ممن زرعوا النبتة الخبيثة (إسرائيل) في قلب العالم الإسلامي؟ أم نتوقع ذلك من روسيا وهي التي لطخت يديها بدماء المسلمين الأبرياء في دول آسيا الوسطى وأفغانستان، وهي التي تزود إسرائيل باليهود، والأيدي الفنية الماهرة، وتزود مجرمي الصرب بالأسلحة ضد مسلمي البوسنة العزل.(/58)
أما فرنسا فلها موقفها من قضايا المسلمين بعامة ومن قضية البوسنة بخاصة فعندما قام ميتران بزيارته المشبوهة (لسراييفو) قال للرئيس المسلم علي عزت : «ليكن في علمك بوضوح أن فرنسا لن تسمح مطلقاً بوجود دولة مسلمة على عتبات أوروبا يحكمها المسلمون».
وقد عبر نائب الرئيس البوسني أيوب غانيتش عن موقف الأوروبيين من قضية بلاده ، فقال: إن أوروبا أظهرت وجهها الحقيقي، وإن تدمير البوسنة وفناء أهلها سيكون على يد أوروبا وليس على يد الصرب فقط.
فهل نأمل مناصرة قضايا المسلمين من هذه الدول، أم نأمل ذلك من الصين العضو الخامس في مجلس الأمن وهي التي لا زالت تستعمر تركستان الشرقية، وتعمل التقتيل والتهجير حيال المسلمين هناك، وتزود مجرمي الصرب بالأسلحة والمعدات...
ثم إن قرارات مجلس الأمن تفرض على الدول الضعيفة ولا سيما الإسلامية منها، كما تفرض على هذه الدول العقوبات الاقتصادية والتجارية والعسكرية، والمقاطعة الدولية إذا لم تخضع لرغبة وهيمنة مجلس الأمن، بل وتدرج أسماؤهم في قائمة الدول المساندة للإرهاب والمنتهكة لحقوق الإنسان.. الخ كما هو حال بعض الدول الإسلامية المعروفة للجميع. أما الدول الكافرة والمحتلة لأراضي المسلمين والتي تحظى بمساندة وتأييد أعضاء مجلس الأمن الدائمين، فلا تلزم بتطبيق أي قرار صادر عن مجلس الأمن، ولا يفرض عليها أي عقوبات إلا صورياً ذراً للرماد في العيون، بل هي في كثير من الأحيان تعربد يمنة ويسرة وتهزأ بقرارات المجلس «الموقر» دون أن يثير ذلك حفيظة المجلس، أو أن يكون فيه التحدي للمجتمع الدولي، وهذا يؤكد أن المجلس لن يقف مع أي قضية للمسلمين مهما كانت إذا كان الطرف الآخر فيها من غير المسلمين...
ويأتي بعد هذا دور القوات الأممية التي ترسل هنا وهناك لتؤمن الخائفين، وتدافع عن المظلومين، وتستر عورات المضطهدين إلى آخر مصطلحات الرحمة، وحماية الإنسانية، التي ترفع لواءها قوات الأمم المتحدة في كل مكان، فماذا فعلت هذه القوات؟
ذكرت صحيفة «الجارديان» الصادرة في 28 أغسطس 1993م عددا من تهم الفساد الموجهة إلى جنود الأمم المتحدة في سراييفو وأخطر هذه التهم أن هذه القوات تقوم بالمتاجرة بالمخدرات وتهريبها، وقال المراسل: إن الجنود الفرنسيين الذي يعملون تحت قيادة الأمم المتحدة يقومون بعمليات اغتصاب واسعة ضد المسلمات، وأنهم كانوا يعطون الصرب شحنات الأغذية والأدوية مقابل إعطائهم نساء مسلمات بوسنيات من المعتقلات لاغتصابهن.
وقال مراسل «الديلي تلغراف»: إن ضباطاً كباراً من الأمم المتحدة هم الذين كانوا يشرفون على أسواق الدعارة في البوسنة.
وذكرت «نيويورك نيوز» الصادرة في 17/5/1414هـ ، أن أكثر من خمسين ضابطاً من فرنسا وكندا وأوكرانيا ونيوزيلندة ودولة إفريقية لم يذكر اسمها كانوا يترددون على معتقل يديره الصرب يعج بالأسيرات من النساء المسلمات اللاتي أجبرن على ممارسة البغاء.
هذه بعض أعمال وجرائم ذوي القبعات الزرقاء، لكن السؤال: من يتولى التحقيق في ذلك إذا كان الخصم هو الحكم... ؟
إن المرء يقف حائراً أمام تصرفات هذه المنظمة التي تكيل بمكيالين، وتزن بميزانين، فهي لا تحب نصرة المسلمين، أو حتى السماح للآخرين بمساعدتهم، أو حتى حمايتهم، أو حتى حماية الأبرياء منهم؛ لكن عندما يكون الأمر متعلقاً ببعض الجنود غير المسلمين فيظهر الوجه الآخر للمنظمة الدولية، فتقلق وتحزن على بضعة جنود أسبان، ولا تتأثر على تقتيل مئات الآلاف من المسلمين، وتشريدهم وتهجيرهم، واغتصاب نسائهم ونهب ممتلكاتهم.
إن هذا الشعور الذي ينتابنا نحو هذه المنظمة وسكرتيرها يجعلنا نكرر ونرفع صوتنا مع الكاتب الذي يقول: (إن عالمنا مليء بالأكاذيب وإن هيئة الأمم وميثاق حقوق الإنسان كذب في كذب، وحماية الشعوب من التفرقة العنصرية كذب في كذب، وحماية الدول من الإعتداء هو كذب في كذب)، وكذلك نكرر مع الرئيس علي عزت (إن الغرب حينما يتعلق الأمر بالإسلام مستعد لأن يخون مبادئه وقيمه التي ينادي بها).
إن الحقيقة الناصعة التي لا تحتاج إلى إثبات هي أن قضايانا لن يحلها أحد سوانا «وما حك جلدك مثل ظفرك»، وإن أمة لا تملك الدفاع عن نفسها لا تستحق الحياة والبقاء. والحقيقة أن ما اغتصب بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، ذلك هو المنطق البدهي الذي تشهد له حقائق التاريخ الإنساني قديماً وحديثاً ، فلولا ذلك لما خرج الرومان من العالم العربي في عصر الفتوحات، ولما طرد المسلمون الصليبين المعتدين الغزاة من أراضيهم، ولما غادرت فرنسا الجزائر، وأمريكا فيتنام، وروسيا أفغانستان.(/59)
لكن إلى متى نظل نتشبث بمجلس الأمن؟ وإلى متى نبقى مخدوعين بـ «المجتمع الدولي» ؟ إن شرور اليهود والهندوس والصليبين والشيوعيين واعتداءاتهم على المسلمين لن تقهرها «شرعية دولية» ولا قرارات شجب وإدانة واستنكار، وإنما تهزمها وحدة المسلمين واتفاقهم وقوتهم وتفوقهم التقني والعلمي والعسكري، والاتحاد والتعاون فيما بينهم في كل المجالات ولا سيما المجالات الدفاعية والعسكرية.
والله من وراء القصد... (1) أ.هـ
وهذا نص شعري نشرته مجلة البيان بعنوان «رسالة إلى مجلس الأمن» !! بل «إلى مجلس الخوف»:
يامجلساً قد خان حمل
كم ذاقَ غدرَك مسلمٌ
في البُسنْة الثكلى هنا
وعلى ثرى الشيشانِ منـ
كشميرُ أنت عدوّها
في دولةِ الغصبِ التي
آثارُ غدرِك كلّما
تنسى الدماءَ بأرضنا
كم من سياطِ الغدرِ في
وبَدوتَ مِنْ إثر المهانة
يامجلسَ الخوفِ الذي
دعْ عنكَ نظْم القولِ يا
يا من يرومُ عداءَنا
لسنا الأذلاءَ الذيـ
لسنا كمن تُلْقي لهمْ
فلنا على دربِ الكرامةِ
كم في جهود الأمن مِنْ
فاسند حِياض الظلم في
وامكُرْ فمكرُ الله كم ... عهود ميثاق الشرف
يلقى المذَلّةَ والشظف
كَ دماءُ شعبِ لم تَجِفْ
كَ مواقفُ الغدرِ الدّنِفْ
والدمعُ فيها لم يكفْ
تلقى المعَزة والكَلَفْ
هَدَرَ المُعربدُ أو عَصَفْ
وبغيرها تبكي النّطَفْ
قاعاتِ خوفِك والحَسَفْ
تحتَ أقدامِ السّخَفْ
من جُرحِ أمتِنا ارتَشَفْ
مَن حِبرُ مكرك لم يجفْ
إنّا وربِك لم نَخَفْ
ن لهمْ عنِ العليا جَنَفْ
في الجَهْرِ أطنانَ العَلَفْ
من أرُومَتها سَلَفْ
خوفٍ على أهلِ الشَرَفْ
عصرِ التخاذلِ والتلف
أودى بمِثِلكَ في سَلَفْ(1)
ثانياً: أسلوب غزو العقيدة والعقول والأخلاق(2)
وهذا الأسلوب من العداء للمسلمين، وأمنهم الفكري والأخلاقي قد يكون أخطر من الأسلوب العسكري السابق بيانه، ذلك لأن العداء العسكري بالتقتيل والتشريد، والاحتلال العسكري للبلاد يستنهض الهمم، وينبه الغافلين، ويوقظ النائمين. أما الغزو العقدي على العقول والأخلاق، فيسري في الناس، وهم في غفلة عن ذلك، وبخاصة إذا اشتغل أكثر الناس بدنياهم ولهوهم وشهواتهم.
وهذا النوع من الغزو والعداء لأمن الناس وسلامتهم في الدنيا والآخرة لم يسلم منه بلد من بلدان المسلمين. بينما الغزو العسكري الظاهر كان في بعض البلدان كأفغانستان والعراق والشيشان وفلسطين. ومما ساعد الكفار على هذا الأسلوب من العدوان أناس من بني جلدتنا مهدوا لهذا الغزو، وفتحوا صدورهم وأيديهم له، وساهموا بشكل فعال في تنفيذ مخططات الكفار على بلدان المسلمين. وهؤلاء هم المنافقون الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان.
__________
(1) مجلة البيان العدد (82) ص60.
(2) مجلة البيان العدد (127) ص 56.(/60)
وهؤلاء هم الذين سبق ذكرهم عند الكلام عن تعاون المنافقين مع الكفار في غزوهم واحتلالهم لبلدان المسلمين، وتوليهم للكفار، وخيانتهم للمسلمين كما قال تعالى في الآية السابقة: (( ( المحتويات - - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - - - - - فهرس - ( { - ((( - { - - - } - قرآن كريم ( { - ( - - رضي الله عنه - الله أكبر - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - قرآن كريم ( { - رضي الله عنه - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( الله أكبر (- عليه السلام - قرآن كريم ( - - { - رضي الله عنه -((( - { - - - } - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( - (- رضي الله عنه - - ( - ( - - - (((( - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - ( - ( - ( - - (- رضي الله عنهم - - ( - ( - - عليه السلام - - - - ( المحتويات ( - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنه - تم بحمد الله - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( - ((( الله أكبر ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - (( - ( - - رضي الله عنه - فهرس - صلى الله عليه وسلم - - - - جل جلاله - - - رضي الله عنه - - - صلى الله عليه وسلم - - تمت ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - ( - قرآن كريم ( - ( - ( - ( الله أكبر - عليه السلام - - ((- جل جلاله -- عليه السلام - - - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - { - ((- رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - } - ( { - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( - ( - - - - (( [الحشر:11] وهم الذين قال الله عز وجل فيهم : )) ( - (- صلى الله عليه وسلم -( - - - رضي الله عنه -((( { (((- عليه السلام - - ( - ( - - - } تمت - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( المحتويات ( - مقدمة - - ( - - - - - رضي الله عنه -( - ( - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - * - رضي الله عنه -((( - { - - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه -((( - ((( - - ( - - - - عليه السلام -( - - - عليه السلام - - ( - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -((( - ( تم بحمد الله ( - ( - ( - - - - - - قرآن كريم ((- رضي الله عنه - - ( - - رضي الله عنه - - - صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - - رضي الله عنهم - - - جل جلاله -(( فهرس - } - ((( - - - } تمت ( - - ( فهرس - } - ((( - - - ( - - - جل جلاله -( - ( - - - (( [النساء: 139،138] وهم الذين وصفهم الله عز وجل بقوله: )) - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( { (((- عليه السلام - - ( - ( - - - ( تمهيد ( - { ((( - - جل جلاله -( - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ((((- رضي الله عنه - - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - (((- رضي الله عنه - - - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( تم بحمد الله ( - - رضي الله عنه - - ( - - تمهيد - ( - ( - - - ( - - - ( قرآن كريم { - ( { - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ( - - صلى الله عليه وسلم -( - ((- رضي الله عنهم - - ( - - - - - قرآن كريم ((( تمهيد ( { - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - عليه السلام - - ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - } - قرآن كريم ( - فهرس - { - - - ( المحتويات ( - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنه - - - ( - - - ( { - رضي الله عنه -((( { ((( - - جل جلاله -( - ( - - - ( المحتويات ( - - - قرآن كريم ( { ( - ( - (( - - - (( [التوبة: 67].
ولولا المنافقون لما استطاع الكفار أن يحققوا أهداف غزوهم لبلدان المسلمين سواء كان ذلك الغزو عسكرياً أو ثقافياً وأخلاقياً . ومن أشد المنافقين عداوة وخطراً في صفوف المسلمين اليوم الرافضة وزنادقة الصوفية والعلمانيون والحكام المتنفذين في أكثر بلدان المسلمين. وتاريخ هذه الطوائف معروف في حياتهم وتواطئهم مع الكفار الغزاة، وفتح بلدان المسلمين لجيوش الكفار العسكرية، أو جيوشهم الفكرية والثقافية، وتضليل المسلمين بها. وأسوق فيما يلي صوراً من هذا العدوان الآثم من الكفار المنافقين على ثوابت الأمة وأخلاقها، وضرورياتها الأساسية:
أولاً: العدوان على أمن الدين وثوابته:(/61)
إن عداوة الكفار وإخوانهم من المنافقين لأمن الدين والعقيدة وثوابتها معروف منذ وجد الصراع بين الحق والباطل، والتوحيد والشرك، والهدى والضلال. وكان يأخذ أشكالاً وصوراً مختلفة حسب الزمان والمكان. ولقد شهدت السنوات الأخيرة بعد حرب أفغانستان والعراق غزواً خطيراً صريحاً على هذا الدين وثوابته وأمنه وسلامته أعلن فيها الكفار موقفهم الصريح من دين الإسلام وكشفوا عن خططهم ونواياهم. كما أخرج المنافقون قرونهم، وأفصحوا عن أنفسهم بممالأتهم للكفار، ومسارعتهم في فتح البلاد لهم ولأفكارهم وثقافاتهم، وفرحوا بها، بل كانوا أكثر من الكفار حرصاً ومسارعة على مسخ هوية الأمة، وإبعادها عن دينها الذي هو مصدر عزها وسعادتها وأمنها في الدنيا والآخرة.
وإن أخطر غزو يوجهه الكفار اليوم إلى بلدان المسلمين وساعدهم في ذلك المنافقون، بل وينفذونه لهم، إنما هو غزوهم لعقول وأفكار المسلمين، وتغيير نظرتهم الصحيحة للإسلام، وذلك بوصفهم الإسلام أنه عقيدة وجدانية بين العبد وربه في صلاته ومسجده وأذكاره وتسبيحاته، وأن لا دخل له في توجيه دفة الحياة الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. كما أنهم حرب على عقيدة الولاء والبراء بوصفها تثير العداء بين بني الإنسان. وهم حرب على شعيرة الجهاد بوصفها عدوان وكراهية وإرهاب وإكراه!! وهو حسب مكرهم وتضليلهم يتعارض مع سماحة الإسلام ورحمته!!(/62)
ومن هذا المنطلق في غزوهم الماكر يوجهون حربهم الدعائية والاستئصالية لكل من يرفض هذا الفهم الأمريكي النفاقي للإسلام ويصمونه بالمتطرف والإرهابي والأصولي والوهابي إلى آخر هذه المسميات. أي أن من يفهم الإسلام بالفهم الذي جاء في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى: )) - - رضي الله عنهم - - - - - صلى الله عليه وسلم - - ((- رضي الله عنه - - - ((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( } - قرآن كريم ( - ( - ( - - - - (( ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( تمت - - - - - { { ( - - - - (( [البقرة: 208] وقوله سبحانه: )) - - - ( - رضي الله عنهم - - ( فهرس - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - - قرآن كريم (- جل جلاله -( تم بحمد الله ( - ( - - (( - - رضي الله عنهم - مقدمة - - قرآن كريم ( - ( - - - رضي الله عنهم - - ( - - - رضي الله عنهم - - - (( - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - - { ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - - جل جلاله -( - - رضي الله عنه - - { المحتويات ( بسم الله الرحمن الرحيم - صدق الله العظيم } - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - - ( - (( ( المحتويات ( - ( - (( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - } صدق الله العظيم - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - مقدمة - - - ( } تم بحمد الله - تمهيد ( - - ( - - } - قرآن كريم ( - ( - - - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - - ( - ( - فهرس - (( [النساء: 65] وقوله عز وجل: (( ( - ( - } تمت ( { - ( - - - - ( - ( - ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم - - - - عليه السلام - - (- رضي الله عنه - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( تمت - - عليه السلام - - - رضي الله عنه -((( - - - (- رضي الله عنهم -(( - - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - - ( - - ( (( مقدمة - - } - رضي الله عنهم - - ( - ( - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - ( تم بحمد الله ( - بسم الله الرحمن الرحيم - - رضي الله عنه - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - } - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه -((( - ( - ( - ( الله أكبر ( الله - - )) [الأنعام: 163،162] وأن من يفهم التوحيد أنه ولاء وبراء ولاء للمؤمنين، وعداوة وبراءة للكافرين كما قال تعالى: (( ( - - - ( تمهيد - رضي الله عنه - الله أكبر - - - ( المحتويات ( - - - ( - - عليه السلام - قرآن كريم ( - ( - ( { - عليه السلام - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة ( - (( - بسم الله الرحمن الرحيم - ( - (- رضي الله عنه - - ( - ( { - رضي الله عنه -((( - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ((( مقدمة - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - ( { } - قرآن كريم ( - - - - ( المحتويات ( - ( تم بحمد الله ( قرآن كريم - { ( - - ( الله أكبر ( { } - (- رضي الله عنه -(- عليه السلام -(- رضي الله عنه - - ( - ( المحتويات ( - - ( تم بحمد الله - - - ( تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - (( - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - - - - رضي الله عنه - الله أكبر ( - - ( - - ( - ( - ( - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - - - جل جلاله -( - - رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -(- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم -(( - - - (( - - - (((- رضي الله عنه - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( - - رضي الله عنه - - - صلى الله عليه وسلم - - - (( - - رضي الله عنهم - مقدمة } - قرآن كريم ( - ( تم بحمد الله ( - ( - ( - - - ( - ((( فهرس - رضي الله عنهم - - ( مقدمة - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - )) [الممتحة: 4]. ومن يفهم الإسلام أنه دين الله الحق الذي ارتضاه لعباده، ولا يرضى ديناً غيره، ويسعى لنشره في العالم بالدعوة والتبليغ والجهاد والسنان إذا وقف في طريقه من يصد الناس عنه كما قال تعالى: (( ( المحتويات ( - قرآن كريم ( - ( - ( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - (( - - رضي الله عنهم - مقدمة - صدق الله العظيم - - قرآن كريم ( - - - ( { - عليه السلام - - ( - (( - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( تمهيد - رضي الله عنه - -(/63)
- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم - (- صلى الله عليه وسلم - - - - - (( - - - ( - ( - )) [الأنفال:39]. إن كل من يفهم الإسلام بالفهم السابق في الولاء والبراء، والحكم والتحاكم، والجهاد والدعوة فهو الإرهابي الذي ينبغي أن يحارب، ويصفى فكرياً أو جسدياً، ومن فهم الإسلام من المسلمين بهذه النظرة الأمريكية، كما هي نظرة المنافقين والمخدوعين من المسلمين؛ فهو المحبوب عند الكفار والمقبول لديهم وهو العالم المرن المتسامح المعتدل!!!
ولذلك فهم لا يفتأون يركزون على بعض الرموز والطوائف الإسلامية الذين يصفونهم بالمعتدلين، ويستخدمونهم في تنفيذ مخططاتهم الماكرة في غزوهم للعقول والأفكار.
وكون الكفار يفهمون الإسلام بهذا الفهم له ما يفسره. ولكن ما عذر المخدوع من المسلمين في هذا الفهم الذي يريده الكفار والمنافقون بالمسلمين، وكتاب الله عز وجل بين أيديهم، وآيات التوحيد والولاء والبراء والحكم والتحاكم والجهاد والدعوة واضحة بينة فيه. لا غموض فيها ولا التباس؟ لكنه البعد عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله × . أو هو الشعور بالهزيمة النفسية والاحباط، والتبعية. ولكن أين نحن من تحذير الله عز وجل في قوله سبحانه: (( - { - - - - صلى الله عليه وسلم - - ((- رضي الله عنه - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - ( قرآن كريم (- جل جلاله -- رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( تمت ( { } - قرآن كريم (( - ((( - - - { - ( - - ( - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - صلى الله عليه وسلم -( - - - (- رضي الله عنه - - ( - ( - - - المحتويات ( - - صلى الله عليه وسلم - - - ( - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - ((- رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - ( - ( - ( - ( { - رضي الله عنه -((( - ((( - - - رضي الله عنهم - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ((( - - - ( المحتويات ( - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - ( - ( - ( المحتويات ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( ( تمهيد (- رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( ( - - - ( المحتويات ( تمهيد - ((- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( - ( - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ((- رضي الله عنه - - ((- رضي الله عنه - - ( - - - ( - ( - - { - ( - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - فهرس - ( { - ((- عليه السلام - - (( - - (( { - رضي الله عنه - - ( - - تم بحمد الله )) [آل عمران: 101،100].
(إن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم، تحمل ابتداء معنى الهزيمة الداخلية، والتخلي عن دور القيادة الذي من أجله أنشئت الأمة المسلمة. كما تحمل معنى الشك في كفاية منهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعداً في طريق النماء والارتقاء. وهذا بذاته دبيب الكفر في النفس، وهي لا تشعر به ولا ترى خطره القريب.
هذا من جانب المسلمين. فأما من الجانب الآخر، فأهل الكتاب لا يحرصون على شيء حرصهم على إضلال هذه الأمة عن عقيدتها. فهذه العقيدة هي صخرة النجاة؛ وخط الدفاع، ومصدر القوة الدافعة للأمة المسلمة. وأعداؤها يعرفون هذا جيداً، يعرفونه قديماً ويعرفونه حديثاً، ويبذلون في سبيل تحويل هذه الأمة عن عقيدتها كل ما في وسعهم من مكر وحيلة، ومن قوة كذلك وعُدة. وحين يعجزهم أن يحاربوا هذه العقيدة ظاهرين يدسون لها ماكرين. وحين يعييهم أن يحاربوها بأنفسهم وحدهم، يجندون من المنافقين المتظاهرين بالإسلام، أو ممن ينتسبون- زوراً- للإسلام، جنوداً مجندة، لتنخر لهم في جسم هذه العقيدة من داخل الدار، ولتصد الناس عنها، ولتزين لهم مناهج غير منهجها، وأوضاعاً غير أوضاعها، وقيادة غير قيادتها..) (1).
هذا كتاب ربنا عز وجل ينطق بالحق، وكأنه يخاطبنا الآن، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا نهتدي لولا أن هدانا الله عز وجل. وكلام الله عز وجل وموعظته وتحذيراته تكفينا؛ ولكن نظراً لأن بعض المسلمين اليوم قد هجر القرآن الكريم، إما تلاوة، أو تدبراً، أو عملاً؛ فإن الحاجة تدعو إلى نقل بعض ما كتبه الملأ الذين كفروا في مراكز بحوثهم ودراساتهم الاستراتيجية، وما رسموه من خطط خبيثة ماكرة لمواجهة الإسلام الحق، وبث الشبهات بالوسائل المختلفة وتغييره في نفوس أهله حسب الفهم الذي يريدون، وهو الذي حذرنا الله عز وجل منه في كتابه الكريم.
يقول الأستاذ حسن الرشيدي في مقال بعنوان (إسلام على الطريقة الأمريكية):
__________
(1) انظر: في ظلال القرآن 1/438.(/64)
(تعتقد الولايات المتحدة أن حربها ضد الإرهاب قد تنتهي غداً أو بعد غد، أو حتى بعد عقد من الزمن، وذلك بانتصار الأقوى على الأضعف، ولكن في الوقت نفسه يظن قسم من مفكريها وسياسييها أن اقتلاع الغضب من الصدور، والكراهية من القلوب في عالم تحركه العواطف أمر يحتاج إلى جهود كثيرة وعقود طويلة.
ففي استطلاع أجراه شبلي تلحمي البروفيسور في جامعة ميريلاند الأمريكية كانت نتائجه كالآتي: معظم المستفتين من مصر والأردن والسعودية ولبنان يحبذون دوراً أكبر لعلماء الدين في الحياة العامة. 6% فقط من الذين شملهم الاستطلاع يثقون بأن الولايات المتحدة ستُدخل الديمقراطية إلى العراق، وباقي الدول العربية ، فيما الغالبية العظمى تعتقد بأن أمريكا تريد فقط الاستيلاء على النفط، وتدعيم سيطرة إسرائيل على الشرق الأوسط. وأشار الاستطلاع أنه في حال تطبيق الديمقراطية، فإن الحركات الإسلامية لها الأغلبية الكاسحة في العديد من الدول العربية. فالاستطلاع يشير إلى أن الاكتساح العسكري الأمريكي مهما بلغ مداه فإنه لن ينزع كره أمريكا، ومن ثم لن تقضي على محاولة الإيقاع بها، والانتقام منها في أقرب فرصة سانحة، لذلك لجأت أمريكا إلى ما اصطلح على تسميته بالإسلام الأمريكي (أو الإسلام العلماني)...
وهو الوصف الذي أطلقته صحيفة ليبراسيون الفرنسية، أو ما يطلق عليه: العلمانية المؤمنة. ويعرفها الدكتور محمد يحيى بأنها طرح فكري يتقبل العلمانية تماماً لكنه يسوغها إسلامياً، ويخلق لها شرعية إسلامية مزعومة باعتبارها نوعاً من أنواع التجديد، والاجتهاد في المجال السياسي والاجتماعي، مسموح به في إطار «أنتم أعلم بشؤون دنياكم»..
ويضيف إن طرح العلمانية المؤمنة يسمح بوجود هامشي للدين على سبيل التمويه مرشح للتعميم على البلدان الإسلامية، كنموذج جاهز للتطبيق، يحل محل شتى الأفكار والاتجاهات الإسلامية الموجودة، ويبشر بالعلمنة كسبيل وحيد أمام هذه الدول للانضمام إلى النطاق العالمي الجديد والدخول في ركب العولمة.
وتزيد صحيفة الإيكونوميست البريطانية هذا المفهوم وضوحاً، فتعرف العلمانية المؤمنة بأنها علمانية متصالحة مع الدين مثل العلمانية الأمريكية، وليست معادية له مثل علمانية فرنسا وأتاتورك...
وباستقراء الواقع تبين كثرة وتعدد الوسائل والأساليب التي تحاول الولايات المتحدة أن تعمم بها هذا الطرح الفكري على المسلمين. وهذا إنما يدل على الرغبة العارمة والمحمومة في فرض الإسلام الأمريكي على المسلمين. ولقد شغلت مراكز الدراسات والأبحاث الأمريكية، وكذلك المفكرون وصانعوا القرار، بابتكار وإيجاد أساليب لتوصيل ذلك المفهوم المشوه للإسلام، ومنها:
1- ضم علماء المسلمين الراغبين في هذا الفكر: تقول بولا دوبريانسكي وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون العالمية: «يتحدث الكثير من المسلمين عن الإرهاب وهم يعارضونه، لكن ذلك غير كاف، علينا أن نواصل القيام بالمزيد لحث المسلمين في الخارج على التحدث علناً عن قيم دينهم التي تعلي من شأن الحياة»، وأضافت: «يجب أن نفكر خارج الإطار التقليدي، ونوظف وسائل خلاقة للنهوض بالحرية الدينية، وهنا أفكر في تمويل علماء مسلمين، أو أئمة، أو أصوات أخرى للمسلمين».
... ويشرح مسؤول بوزارة الخارجية الأمريكية هذه المسألة فيقول: «إننا نريد ضم مزيد من علماء المسلمين إلى برامج التبادل الثقافي والأكاديمي التي تمولها أمريكا.. إننا مشغولون ببذل جهد أكبر لكي نصل لهذه المجتمعات الإسلامية وهذا الجمهور.. والهدف هو دعم أصوات التسامح في الدول الأخرى».
... هذا التسامح يعني التخلي عن العقيدة الإسلامية التي تجعل للمسلم هوية تحقق له شخصيته واستقلاله.
2- ... رصد مصادر التأثير في الشعائر الإسلامية: فمنذ حوالي عشرة أعوام انتبه المصلون في أحد المساجد بمركز الفتح التابع لمحافظة أسيوط لوجود شخص أجنبي ، يمسك في يده بجهاز كاسيت وينصت باهتمام شديد للشيخ أثناء خطبة الجمعة، ويدون الملاحظات، وعندما تجمع حوله بعض المصلين للاستفسار عن شخصيته، وسبب وجوده حاول الهرب، فأمسكوا به وسلموه إلى الشرطة التي فوجئت بالنتائج: فالرجل الأجنبي أمريكي الجنسية، يهودي هكذا قيل. كان موجوداً بالمسجد ليتابع بدقة خطبة الجمعة، وأنه لم يترك مسجداً تقريباً بأسيوط إلا وقد دخله، والسبب أنه يعد دراسة مهمة جداً عن تأثير خطبة الجمعة في المصلين في مصر.(/65)
3- ... محاولة التأثير في أصول الدين والتفسير والحديث من أجل الاتفاق على مذهب وسط جديد يجمع كل الميزات؛ من نشر قيم التسامح والمحبة والوداعة، وهذا ما يطلق عليه «تجديد الخطاب الديني»: ففي دراسة أمريكية أعدت مؤخراً في إطار سلسلة من الدراسات الشاملة بهذا الشأن، أعدها خبراء أمريكان، تقول هذه الدراسة: اعتقدنا لسنوات طويلة أن حربنا مع هذا الكتاب يجب أن تستمر، وأن نقنع الآخرين بأن يغيروا الكلمات والآيات الواردة في هذا الكتاب، ولم يقل لنا أحد إن هذا ضرب من الخيال؛ لأن المسلمين ببساطة ليسوا هم واضعوا الكتاب أو بعض آياته، هم يعتقدون أنه هدية السماء لهم، وأن من يبدله أو يغيره شرير وفاسد، ومن يملك هذا هو الله وحده، وأننا في كل اللقاءات والمنتديات التي جمعتنا بالعديد من الشخصيات الأوسطية كانوا يتحدثون عن كتابهم المقدس باحترام بالغ وتقديس عظيم، وعندما كنا نتحاور عن معاني ما ورد في هذا الكتاب عن اليهود والقتال، وإجبار الآخرين على الدخول في الإسلام، والعديد من العادات السيئة (على حد زعمهم) كان الأوسطيون يرون أن ذلك مرده بالأساس للفتاوى والتفسيرات المصاحبة لهذا الكتاب، ناهيك عن آراء رجال الدين؛ لذا فإن المسلمين على الرغم من أنهم ظاهرياً ينتمون لدين واحد، وأن القرآن هو الذي يجمع بينهم؛ فإنهم في الحقيقة مختلفون ومنقسمون على أنفسهم إزاء تعدد وتضارب رجال الدين الذين ينتمون لتفسيراتهم.
إن أفضل وسيلة للتعامل مع المسلمين هي التأثير في أفكارهم واتجاهاتهم الدينية؛ من خلال الفتاوى والكتب الأخرى وليس من خلال الكتاب المقدس.
وتستمر هذه الدراسة الخطيرة فتقول: يعتمد هذا المنهج على مقومات؛ منها إظهار الاحترام الكامل للكتاب المقدس للمسلمين، والتأكيد على أن هذا الكتاب محل تقدير من الإدارة الأمريكية، وأنه يتم التعامل معه بوصفه كتاباً دينياً سماوياً، ولا يشكل خلافاً في التعامل بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، وأن منهج الاحترام الواجب للكتاب المقدس للمسلمين سيؤدي إلى الشعور بالود والتعاطف بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى.
إن المنهج الرئيس في تغيير ما هو قائم يتعلق بقسم مهم لدى المسلمين يطلقون عليه الفتاوى، وهو يشمل آراء رجال الدين الكبار أو المعروفين لدى غالبية هؤلاء الناس، وفي الوقت الراهن توجد مؤسسات دينية تمارس هذا الدور (الإفتاء)، ويلاحظ أن غالبية الإرهابيين مارسوا جهودهم المتواصلة في ترويج أفكارهم السيئة بين الآخرين اعتماداً على فتاوى معينة صدرت في أزمنة مختلفة تحث على القتل والتخريب وتدمير الممتلكات الخاصة والعامة.
وتقتضي الخطة الأمريكية أن تبذل جهوداً كبيرة من أجل تنقية هذه الفتاوى من مواطن الإرهاب، والعنف لصالح نشر روح التسامح والمحبة، ولهذا تؤكد الدراسة ضرورة اتباع تعليمات تقضي بابتداع أنواع جديدة من الفتاوى الإسلامية فيما يتعلق باليهود، وإلغاء مبدأ الجهاد بالنفس أو جهاد الأموال، الذي أصبح موضوعاً شائكاً في إطار مقاومة الإرهاب، والترويج لفتاوى أخرى تحث على التعامل المباشر مع حضارة وقيم الولايات المتحدة والدول الأوروبية،. وإن نقل هذه القيم للمجتمعات الإسلامية سيزيدها تطوراً يتفق مع الإسلام. وعلى سبيل المثال لابد أن تصدر فتاوى جديدة تؤكد حرية المرأة، والقضاء على الانغلاق الذي اعتمد على فتاوى قديمة مما أجهض دور المرأة سياسياً، وفتاوى أخرى حول الإخاء الإسلامي المسيحي اليهودي، وأن هذا الإخاء لا يستهدف سوى إرضاء الله.
مطلوب أيضاً وفقاً للدراسة فتاوى تفصيل أخرى جديدة حول الاستعانة بالدول الصديقة في حال تهديد الأمن الداخلي أو الخارجي لأي دولة إسلامية، حتى لو كان هذا الصديق غير إسلامي، وفتاوى تكرس لأهمية الديمقراطية الغربية، وأنها أفضل أنواع الحكم في العالم، وحول ضرورة قتال الإرهابيين والتخلص منهم داخلياً، وتشجيع الآخرين على القيام بأدوار مهمة من أجل وقف تمويل الإرهاب.
ولم تنس الدراسة أن تشترط ضرورة صدور هذه الفتاوى عن رجال دين معتدلين بطبعهم، واقترحت أن يتم إنشاء معهد ديني علمي متخصص للدراسات الإسلامية في واشنطن، وأن يشرف على هذا المعهد الخارجية الأمريكية، وأن يتم إبرام اتفاقيات تعاون مع الدول العربية من أجل الاعتراف بالدرجة العلمية الكبرى التي يمكن الحصول عليها من خلال هذا المعهد، وكيفية إمداده بالدعاة والمدرسين، على أن يتوسع المعهد في فترة لاحقة وتصير له فروع في كل البلاد العربية.(/66)
وأكدت الدراسة أهمية مصادرة كل الكتب الدينية المذهبية القديمة التي تحوي تفسيرات واضحة وصريحة حول القتل والتدمير والاعتداء على حريات الآخرين، وكذلك تنقية الأجواء من آراء عدد كبير من المفكرين والكتاب الحاليين التي تحض المسلمين على الإرهاب والعنف، وهؤلاء تحديداً يجب حصارهم إعلامياً وفكرياً، وملاحقة النظم التي تسمح من خلال أجهزة إعلامها ببث مواد دينية تثير مشاعر عدائية، بعد أن بدؤوا في التزايد مؤخراً في العديد من الدول العربية، ويعملون على إثارة تجمعات كبيرة للقيام بأعمال غير مقبولة نحو الأمريكان، ولابد من إلغاء فكرة إنشاء قنوات إعلامية دينية متخصصة، وأن يتم بدلاً منها إنشاء قنوات دينية اجتماعية تؤكد التواصل بين الحضارات، والأديان مؤكدين أن استمرار قناة دينية في البث يؤدي في النهاية لإشاعة ثقافة التطرف.
وإمعاناً في الاستخفاف بعقول المسلمين، وحضارتهم وتاريخهم تطالب الدراسة بتشكيل لجنة من علماء الدول الإسلامية من المعتدلين (بالطبع) الذي تختارهم الحكومات من أجل مراجعة تفسيرات الكتب الدينية، وخاصة التي تحمل أفكاراً إرهابية.
وترى الدراسة بعد تحليل ومراجعة المذاهب الأربعة، والكثير من الكتب الشارحة لهذه المذاهب وكافة التعليقات الأخرى الأجنبية أن المذاهب الأربعة تضمنت أفكاراً قديمة غير لائقة وغير مقبولة في الوقت الراهن، وأن من الأفضل أن يتفق علماء الإسلام المتطور على مذهب وسط جديد يجمع هذه المذاهب بعد تنقيتها. ويتم اختيار لجنة تنسيقية بين أكبر عدد من الدول الإسلامية، تسعى للتوصل لصياغة علمية جديدة لهذا المذهب المعتدل. وهكذا يكون تجديد الخطاب الديني.
4- ... تعديل مناهج التعليم بما يناسب المفاهيم الخاصة بالإسلام الأمريكي: في ندوة بعنوان «الإسلام الليبرالي والليبرالية الإسلامية» في المؤتمر السنوي السادس والخمسين لمعهد الشرق الأوسط الذي عقد في 11 أكتوبر قال أكبر أحمد، رئيس دائرة الدراسات الإسلامية بمركز ابن خلدون، وأستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الأمريكية بواشنطن، دي. سي: إن التعليم هو مفتاح الإصلاح.
... وقال: إنه يجب التأكيد على أهمية التعليم في العالم الإسلامي. ومضى قائلاً إنه: «عن طريق التعليم وحده يستطيع المسلمون إعادة اكتشاف جوهر الإسلام»، وطبعاً الإسلام بالمفهوم الأمريكي.
5- ... الاستعانة بالمسلمين الأمريكيين: وفي الندوة نفسها قالت السيدة عزيزة الهبري، أستاذ القانون في معهد تي. سي. وليامز للقانون بجامعة رتشموند بولاية فرجينيا، «إنه لمناقشة الديمقراطية والإصلاح في العالم الإسلامي بنجاح، من المهم أن ندرك أن الأفكار الليبرالية كفصل الدين عن الدولة موجودة في الإسلام ، وأنها ليست أفكاراً أمريكية فحسب».
... وأضافت: «إنه بدلاً من نقل أفكار غربية إلى العالم الإسلامي، ينبغي للمسلمين أن يركزوا على مفاهيم الإصلاح الإسلامية الموجودة فعلاً».
... وقالت السيدة الهبري إن هناك حاجة إلى التأكيد بشكل أقوى على الحضارة الإسلامية، وإن واضعي السياسة الأمريكية بحاجة إلى الاستعانة بالمسلمين الأمريكيين في بناء جسور بين العالمين.
6- ... تشجيع ما يعرف بالمسلمين الليبراليين: وفي الندوة نفسها قال السيد مقتدر خان، مدير الدراسات الدولية ورئيس دائرة العلوم السياسية بكلية أدريان بولاية مشيغان، «إن المسلمين المعتدلين والليبراليين يعتقدون أن هدف الإسلام هو تنوير المجتمع، وأن الاختيار الأول للمسلمين لمعالجة المشاكل والعقبات هو الاجتهاد، بينما الاختيار الأخير هو الجهاد. أما المسلمون المتزمتون فإن اختيارهم الأول هو الجهاد ولا يشكل الاجتهاد خياراً لهم». ومضى السيد خان إلى القول إن: الاجتهاد أسلوب حياة؛ فهو حرية التفكير ومصدر أساسي من مصادر التنوير..
7- ... تخطي الحكومات والوصول للشعوب مباشرة: ويستخلص وولفوتيز أنه بينما تشن أمريكا حرباً على الإرهاب فإنها تفكر في الحرب الأوسع؛ أي الصراع ضد أعداء التسامح والحرية في العالم.
... وأحد أسلحتنا في هذه الحرب هو مدى قدرتنا على تخطي الحكومات والوصول إلى الشعوب والأفراد، وخصوصاً الأصوات التي تصارع من أجل أن تعلو فوق التطرف...
هذه بعض الآليات الأمريكية لفرض نموذجاً للإسلام، والمقام لا يتسع لسرد كل الأدوات الأمريكية، ولكن ما يعنينا أن ينتبه المسلمون بصفة عامة والإسلاميون بنحو خاص لما يدبر ويجري في هذه الأيام، فإن فقه الأولويات، وضغط الواقع ليس مسوِّغاً لتقبل هذا النوع من الإسلام الذي يفرغه من مضامينه الأساسية، وخاصة السياسية منها والتشريعية ؛ لعزله عن الحياة) (1).
__________
(1) مجلة البيان العدد (192) باختصار.(/67)
وعن أهداف (أمركة الخطاب الديني للمسلمين) يتحدث الأستاذ خالد أبو الفتوح فيقول: نشرت جريدة الأسبوع القاهرية في شهر يناير الماضي تفصيلات خطط أمريكية لما أطلقت عليه: (أمركة الخطاب الديني للمسلمين)، وجاء فيما نشرته الصحيفة أن أمر تطوير الخطاب الديني كان جزءاً من الحملة الأمريكية الأولى على ما وصفته بالإرهاب...
وفي تفصيلات الخطط الأمريكية التي أوردتها الصحيفة: أن وزارة الخارجية الأمريكية شكلت لجنة تعرف باسم : (لجنة تطوير الخطاب الديني في الدول العربية والإسلامية) وأن هذه اللجنة انتهت على حد قول الصحيفة من توصياتها فعلاً وأنه سوف يتم تبليغ الدول بها، مع توضيح أن استمرار المعونات الأمريكية مرهون بتنفيذ هذه الخطط.
وتتمثل التوصيات الأمريكية في:
تهميش الدين في الحياة الاجتماعية للناس؛ وذلك عبر إغراق الشعوب العربية والإسلامية بأنماط مختلفة من الحياة العصرية الغربية، وحيازة التكنولوجيا الحديثة (التكنولوجيا ذات الطابع الترفيهي).
التقريب بين الديانات الثلاث اليهودية والنصرانية والإسلام عن طريق تكوين لجنة عليا من المحمديين (أي المسلمين) والمسيحيين واليهود، لتبصير كل شعوب العالم بالتقارب بين الأديان الثلاثة، كما تتحدث الخطة، وتقترح ضمن ما تقترحه بشأن هذه اللجنة أن تعمم هذه اللجنة توصيات ملزمة لكل الدعاة في العالم العربي والإسلامي بحيث لا يخرجون عن هذه التوصيات.
تحويل المسجد إلى مؤسسة اجتماعية تتضمن حدائق للأطفال والسيدات (فقدان المسجد لهيبته وخصوصيته)، وأن تتولى الإشراف عليه شخصية غير دينية ناجحة.
خضوع خطبة الجمعة والخطباء تحت رقابة أجهزة الأمن في الدولة، وأن يتم البعد عن تسييس الخطبة، أو تعرضها للجانب الحياتي أو المجتمعي بمعنى (علمنة الخطبة) أي منع الحديث عن الأمريكان واليهود، أو الحديث عن الجهاد وبني إسرائيل.
وتهدف الخطط الأمريكية إلى أن تصبح خطبة الجمعة حلقةً نقاشيةً للجميع لا ينفرد بها الخطيب وحده، حيث ستكون الخطبة بذلك أكثر ديمقراطية في نظرهم، كما تهدف أن تشارك المرأة في خطبة الجمعة، حيث رأوا أنه لا توجد نصوص دينية تمنع المرأة من ذلك.
وأن يكفل للمرأة سبل الاختلاط مع الرجال، والمشاركة في التدريب على الانتخابات لتعليم المرأة الديمقراطية.
إلغاء مادة التربية الدينية الإسلامية، مع تخصيص يوم كامل للقيم الأخلاقية والمبادئ بدلاً منها، والعمل على اكتساب الطلاب مهارات التسامح، والتحرر من اعتقاد المسلمين أنهم خير أمة أخرجت للناس!، وأن يعلم الجميع أن العقائد والأديان هي نتاج التنشئة الاجتماعية والأفكار المسبقة، وأن الانتماء للإنسانية هو الجامع لهم، أما المعتقدات فهم أحرار فيها) (1).
وعن الدعوة الخبيثة المحمومة إلى ما يسمى (تجديد الخطاب الديني) وملامحها يتحدث أيضاً الأستاذ خالد أبو الفتوح فيقول: (نشير إلى بعض الملامح التي لوحظت على هذه الحملة، وهي في نظري ما يأتي:-
أن هذه الدعوة ظهرت في البلاد التي يقوى فيها النفوذ الأمريكي مع وجود نشاط ملحوظ في البلدان التي تعد تاريخياً مرجعيات العالم الإسلامي.
وأنها جاءت اتساقاً مع خطة تطوير مناهج التعليم التي أملتها وأوعزت بها قوى خارجية معينة، مستغلة أحداثاً وظروفاً معروفة، فجاءت هذه الحملة استكمالاً لمخطط إعادة تشكيل العقلية المسلمة.
الالتباس المتعمد في هذه الدعوة، فعلى عادة العلمانيين والتغريبيين في الإيهام والغموض عندما يتعلق الأمر بخطوة يصعب على الجماهير هضمها، جاءت الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني، فكلمة (الخطاب) تحتمل أن تكون المقصود بها (مضمون) الخطاب ومحتواه،
ولا شك أن مقصود مروجي هذه الدعوة هو تجديد مضمون الخطاب الديني، أي (تجديد) القيم والتصورات والمبادئ التي يحتويها هذا الخطاب، ولا يخفى على القارئ ما تتضمنه كلمة (تجديد) من معانٍ تشمل كون هذه القيم والمبادئ والتصورات أصبحت بالية ولا تصلح لهذا العصر، ففي معرض إيضاحه للمقصود بكلمة (الخطاب) يذكر الكاتب أحمد عبد المعطي حجازي «أن هذا العصر الذي نعيش فيه هو عصر العلم الذي نرجع إليه في كل أمر من أمور حياتنا، أو أن هذا ما ينبغي أن نفعله، فنقرأ، ونفهم، ونناقش، ونجرب، ونحلل، ونقارن لنعرف الأسباب ، ونتوقع النتائج، ونفسر ما يحدث في الطبيعة والنفس، والجسم، والمجتمع.
__________
(1) مجلة البيان العدد (195).(/68)
نعرف الآن مثلاً أن الزلزال يقع نتيجة لتصدع طبقات الأرض وتحركها، وليس لأن المدن شريرة أو لأن الآلهة ثائرة غضبى، ونعرف أن الجنون مرض يصيب العقل وله أسباب مختلفة وصور شتى وطرق في العلاج تتعدد بتعدد أسبابه وأنواعه، وليس حلولاً لجن أو شيطان في جسد المريض كما كان يعتقد الناس من قبل، وكما يعتقد كثيرون منهم حتى اليوم، وهذا هو الخطاب الذي يتفق مع روح العصر، لأنه يتفق مع العلم، أي مع العقل والتجربة، ونحن إذن أمام مصدرين للمعرفة: العقل الذي نفسر به الظواهر، ونتتبع التحولات، وننتقل من السبب إلى النتيجة، فيبدو لنا العالم مفهوماً، ونشعر بقدرتنا على التحكم فيه والسيطرة عليه. النص الذي يعتقد النصوصيون الحرفيون فئران الكتب وحفارو القبور أنه علم سابق على كل علم، وأن كل معرفة جديدة صادرة عنه ومتضمنة فيه، فالأسلاف لم يتركوا شيئاً للأخلاف، ولا جديد تحت الشمس!» (الأهرام المصرية 23/7/2003م).
ولكن غموض هذا العنوان (تجديد الخطاب الديني) لهذه الدعوة (هدم القيم والثوابت والتصورات الإسلامية واستبدالها) أفادهم فوق التعمية على مقصدهم الحقيقي تورط بعض المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية من علماء أو دعاة في الترويج لها ظناً منهم أن المقصود هو تجديد الوسائل والأساليب، وهذا تورط أعطى غطاءً مناسباً لأصحاب الدعوة الأصليين من متبجحي العلمانيين، حتى وإن همش فيما بعد هؤلاء العلماء والدعاة.
تشابه مفردات هذا الخطاب عند الدعاة (البروتستانت) مع القضايا التي أثارها العلمانيون، التي تتفق بدورها مع أهداف مبادرة باول، وقد تمثلت هذه المفردات في:
1- إعلاء قيمة العقل والمصلحة بمعناهما الوضعي والمادي على النص الشرعي.
2- ... تغليب المادي والمشاهد على العاطفي والغيبي.
3- مسايرة الأحداث والخضوع لها باسم التواكب مع العصر.
4- غلبة الخطاب الدفاعي والانهزامي بدعوى دفع التهم، وخاصة الإرهاب، وهضم حقوق الإنسان عن الإسلام، مع التركيز في هذا الخطاب على تناول قضايا المرأة والأسرة، والمرتد وحرية العقيدة.
5- التأكيد على أهمية الديمقراطية، والمشاركة الشعبية، وإظهار الفئات المهمشة، وإبراز مكانتها في الإسلام.
6- ... (تلطيف) الموقف مع الآخر، بإعادة تشكيل بعض المفاهيم ذات العلاقة به (بدءاً من التكفير، ومروراً بالولاء والبراء، ووصولاً إلى الجهاد)، مع التأكيد على ضرورة التواصل مع هذا الآخر، وخاصة الغرب.
7- ... تحويل الخطاب الديني الإسلامي (الدعوة الإسلامية) إلى مجرد إحدى مفردات وسائل دعم سياسات الدولة المحلية ومواقفها الخارجية.
- ... تشابه بعض الأساليب المتبعة في نشاطات تجديد الخطاب الديني مع الأساليب السياسية الأمريكية في تحويل الاتجاهات والميول، وذلك عن طريق المشاركة في أنشطة ودورات تعقد في أمريكا، والعمل على تذويب الفوارق النفسية والفكرية بين أصحاب الاتجاهات المختلفة خاصة العقائدية بالمخالطة والمعايشة اليومية فيما بينهم: فعلى سبيل المثال: كان أول برنامج ينفذ برعاية مبادرة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط برنامجاً بعنوان (النساء كقادة سياسيين: الانتخابات الأمريكية والحملات السياسية)، وقد جلب البرنامج وفداً من 55 زعيمة سياسية عربية، ما بين مسؤولات منتخبات ومعينات، ومرشحات لمناصب، وناشطات في الدفاع عن حقوق المرأة، وقادة مجتمعات مدنية وصحفيات...
وفي المقابل يتضمن مشروع خطة تطوير الخطاب الديني في مصر والدول العربية دورات تدريبية مكثفة في القاهرة وواشنطن.. حيث من المقرر أن يلتحق بدورات واشنطن ما بين 500 إلى 600 من الدعاة، وذلك بعد الانتهاء من الدورات التدريبية في مصر.. وفي هذا الإطار كانت وزارة الأوقاف قد انتهت من دورة أخرى لعدد من الدعاة بالاشتراك مع الهيئة الإنجيلية بالقاهرة.. كانت مدتها أكثر من 6 أشهر، حيث تم اختيار الدعاة بدقة متناهية للإقامة في أحد فنادق القاهرة بمشاركة عدد مماثل من القساوسة، وكان نظام الدورة يعتمد على ورش عمل بين الأئمة والقساوسة لإعداد أبحاث علمية في قضايا شتى ثم مناقشتها مع الخبراء والمفكرين الليبراليين؛ وذلك بهدف كسر الحاجز الديني وتغيير الفكرة الذهنية عن الآخر من خلال المشاركة بين القس والخطيب، ومن ثم فإن النتيجة من هذه المشاركة ستكون في صالح الإدارة الأمريكية.. على اعتبار أنها الموجه الرئيسي لهذه الأفكار.
ومن وجهة نظر الإدارة الأمريكية فإن مثل هذه الدورات، ومن خلال مشاركة عدد من رجال الدين الكبار، الذين يرفضون الإرهاب ولديهم تفسير عقلاني للدين تسعى لترسيخ مفردات الخطاب الديني الجديد، وليس موضوعاته فقط، خاصة ما ورد في القرآن أو السنة؛ لأنه وفق رؤيتهم فإن هذه المفردات هي التي تشكل السلوك العام والتفصيلي الذي يلتزم به الأفراد.. (مصطفى سليمان، جريدة الأسبوع، 16/6/2003م)....(/69)
هل ينجحون ؟ لاشك أن تحقق ذلك، أو عدم تحققه يتوقف على عوامل كثيرة خارجية وداخلية، ولكن ما يعنينا أن في قلوب القوم أماني سادرة تبدو على ألسنتهم، وفي كتاباتهم من حين لآخر، كما أن في أذهانهم أهدافاً محددة تشير إليها مخططاتهم وأنشطتهم، ومن غير المبالغ فيه القول إن من اماني أئمتهم: محو القرآن من الوجود، ولعلمهم باستحالة ذلك فإنهم يعملون على تحقيق أهداف يظنون تحقيقها ممكنا وعلى رأس هذه الأهداف: تحريف المعاني القرآنية، وتفريغ القرآن من أهدافه ورسالته، وإبعاد المسلمين عن تدبر القرآن والعمل به، أي إنهم يريدون أن يتحول القرآن إلى حبر على ورق كما يقولون، والله من ورائهم محيط.
وحتى لا نخدع أنفسنا فإنه يجب التنبيه إلى أن تحقيقهم لهذه الأهداف أو بعضها في عالم الواقع ليس مستحيلاً شرعاً أو عقلاً، فالله عز وجل تعهد بحفظ الذكر، ولكنه لم يتعهد بحفظ معانيه في عقول المسلمين وقلوبهم، ومسيرة الانحراف في فهم الكتاب والسنة وتطبيقها مسيرة قديمة، حقق فيها أعداء الإسلام نجاحات لا يستهان بها، ومن هنا يمكن القول: إن المعوَّل عليه في الحفاظ على هذه المعاني من التحريف والتبديل وتطبيقها في واقع المسلمين في أي وقت وأي مكان: هو ما يقوم به أهل الحق أنفسهم بحسب جهدهم، ووفق سنن التغيير التي تسير بها حركة المجتمعات وليس وفق الأماني والنيات.
وقد أشار إلى هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- عندما قال: «ولما كان النبي × قد أخبر: أن هذه الأمة تتبع سنن من قبلها حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه: وجب أن يكون فيهم من يحرف الكلم عن مواضعه فيغير معنى الكتاب والسنة فيما أخبر الله به أو أمر به.
وفيهم أميون لا يفقهون معاني الكتاب والسنة، بل ربما يظنون أن ما هم عليه من الأماني التي هي مجرد التلاوة، ومعرفة ظاهر من القول هو غاية الدين، ثم قد يناظرون المحرفين وغيرهم من المنافقين، أو الكفار مع علم أولئك المحرفين [بما لم يعلمه الأميون، فإما أن تضل الطائفتان ويصير كلام هؤلاء الأميين فتنة على أولئك المحرفين]، حيث يعتقدون أن ما يقوله الأميون هو غاية علم الدين ويصيرون في طرفي النقيض، وإما أن يتبع أولئك الأميون أولئك المحرفين في بعض ضلالهم. وهذا من بعض أسباب تغيير الملل، إلا أن هذا الدين محفوظ؛ كما قال تعالى: (( - ( الله أكبر ( { ( صدق الله العظيم (- رضي الله عنه - صدق الله العظيم - عز وجل - - - عليه السلام - - ( - } - - رضي الله عنه - الله أكبر - رضي الله عنه - - ( - (- صلى الله عليه وسلم - - - - - - ( الله أكبر ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((((( { - رضي الله عنه - مقدمة - )) [الحجر:9]، ولا تزال فيه طائفة قائمة ظاهرة على الحق، فلم ينله ما نال غيره من الأديان من تحريف كتبها وتغيير شرائعها مطلقاً، لما يُنطق الله به القائمين بحجة الله، وبيناته الذين يُحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنوره أهل العمى؛ فإن الأرض لن تخلو من قائم لله بحجة؛ لكيلا تبطل حجج الله وبيناته»(1) .
فالفيصل في المحافظة على المعاني والقيم والتصورات الإسلامية صحيحة في عقول المسلمين وقلوبهم وحياتهم هو مدى تحقيق أهل الحق لسنة التدافع مع الأطراف الأخرى، وهذا يتطلب يقظة وجهداً ونشاطاً وعملاً دؤوباً ومنظماً من جميع الأفراد.
والذي أراه أن الظرف الذي تمر به الأمة يتطلب فوق اليقظة والنشاط حلولاً غير تقليدية لاستنفار جموع الأمة، واستخراج القوى الكامنة في قطاعاتها الشعبية، بعد أن رفعت معظم الأنظمة جميع الرايات البيضاء التي في حوزتها، حتى إنهم رفعوا أخيراً ما كانوا يسترون به عوراتهم أمام شعوبهم. نسأل الله عز وجل أن ينصر دينه ويعلي كلمته) (2).
ولأجل تنفيذ هذه الأهداف الخبيثة من أعدائنا الكفرة فهم يعتمدون كثيراً على عملائهم من المنافقين في كل بلد من بلدان المسلمين في السعي لفرض هذه الأفكار، وتغيير عقول المسلمين وثوابت هذا الدين.
__________
(1) مجموع الفتاوى 25/131،130.
(2) مجلة البيان، عدد (160) للأستاذ خالد أبو الفتوح.(/70)
ولم يكتف الكفرة الغزاة بعملائهم المنافقين، بل تعدى خبثهم إلى أن يتقاربوا مع بعض الإسلاميين الذين يصفونهم بالمعتدلين من بعض الدعاة وطلبة العلم الذين هالهم ضغط الواقع، ومرارته، فراحوا يظهرون أنفسهم بمظهر التسامح، والمرونة، وقبول الرأي الآخر وحرية التفكير إلى آخر هذه المواقف الانهزامية. فانتهزت أمريكا وحلفاؤها هذا الشعور من هؤلاء الإسلاميين، فغيروا مواقفهم منهم، وأصبح من سياسية الغرب بقيادة أمريكا قبول بعض الإسلاميين من الحركات الإسلامية، حيث سعت لاستخدامهم في تمرير بعض الأفكار الخطيرة في الأصول والأحكام الإسلامية، لأن هذا أدعى لقبول الشعوب المسلمة. كما كان من أهدافها للتقارب مع بعض الإسلاميين التعرف على طبيعة الحركات الإسلامية التي كانت عندها مجهولة إلى عهد قريب. كما أن في التقارب مع الإسلاميين محاولة للضغط على النظم العربية والإسلامية لتقديم مزيد من التنازلات. وعن هذا التقارب بين أمريكا وبعض الإسلاميين وأهدافه يحدثنا الأستاذ كمال حبيب فيقول:
أهداف الحوار الأمريكي مع الحركة الإسلامية:
يرفض المسلمون الهجمة الأمريكية على حرمات مقدساتهم. وشاعت موجة كراهية عاتية للولايات المتحدة الأمريكية جعلت الأمريكان يتساءلون لماذا يكرهوننا، ومن ثم بدا للاستراتيجيين الأمريكان أن الوسيلة الأفضل لتطويع العالم الإسلامي هي دعاوى الإصلاح السياسية، وليست الدينية، ومن ثم سمعنا عن تغيير النظم السياسية التي تراها أمريكا مستبدة، وإشاعة قيم الديمقراطية بمفهومها الغربي في العالم الإسلامي. ومن خلال التعمق الأمريكي في فهم أحوال العالم الإسلامي ذهبت النخبة الاستراتيجية الأمريكية إلى أن الإصلاح السياسي في العالم الإسلامي والعربي لا يمكن بدون القوى الإسلامية باعتبارها التيار الرئيسي الجامح والفعال والمقبول جماهيرياً لدى الناس، ومن هنا كانت فكرة الحوار مع الإسلاميين ، بل وقبول وصولهم إلى السلطة في بلدانهم، لأن خطر استمرار النظم المستبدة القائمة هو أشد وطأة على الأمن القومي الأمريكي من قبول الإسلاميين في السلطة، ومن هنا كانت دعوات أمريكا على لسان أكبر المسئولين فيها للحوار مع الإسلاميين، والقوى التي وصفتها بالاعتدال في العالم الإسلامي والعربي بحيث لا تهدد هذه القوى المصالح الأمريكية والغربية، وتعترف وتقبل بقواعد اللعبة السياسية الديمقراطية، ويكاد هذا الموضوع يكون هو أهم القضايا المطروحة على أجندة السياسة العربية سواء بالنسبة للنظم السياسية، أو الحركات الإسلامية المعتدلة، وهو ما يشير إلى أن العالم الإسلامي أصبح أحد أهم مدخلات تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية.(/71)
وهنا تكمن المشكلة التي نود أن نشير إلى خطرها وهي أن السياسة الأمريكية تريد أن تطوع الحركات الإسلامية في تنفيذ الأجندة الأمريكية عبر السماح لها بالمشاركة في السلطة، أو حتى الانفراد بها. فبدلاً من الاعتماد على النظم العلمانية لماذا لا تجعل الإسلاميون هم أنفسهم الذين يقومون بتنفيذ المطالب الأمريكية، أي بيد الإسلاميين نحارب الإسلام وهنا مكمن الخطر الكبير، بل الفتنة الكبيرة التي تنتظر الحركة الإسلامية، والمتابع لمجمل ما نشر من تقارير، ودراسات غربية حول الظاهرة الإسلامية يلاحظ بوضوح محاولة نقل الصدام الحضاري داخل الحالة الإسلامية، فبدلا من أن يكون الصراع بين الإسلام والغرب يكون الصراع والصدام داخل الحضارة الإسلامية ذاتها، بل وداخل الحالة الإسلامية. ومنذ كتاب (الفرصة السانحة) لريتشاد نيكسون وهو منشور قبل أحداث سبتمبر نجد الحديث عن الإسلام التقليدي، والإسلام السياسي، والإسلام الأصولي، والإسلام السلفي، والإسلام المعتدل، والإسلام المتشدد والجهادي، فهم يرون الظاهرة الإسلامية من منظور تفتيتها وتجزئتها، وغرس عوامل الصراع والنزاع داخل أطرافها رغم أن الجميع يشملهم مفهوم الإسلام، والجماعة والأمة طالما أنهم يلتزمون بقواعد الفهم للكتاب والسنة كما فهمها سلف هذه الأمة وخيرها وهم الصحابة والتابعون، وتابعوهم بإحسان،. فالمحاولة الأمريكية الجديدة من الإصلاح، والحوار مع الإسلاميين اليوم هي بغرض توريط الحركة الإسلامية ذاتها في تحقيق أهداف الأجندة الأمريكية، ومن أجل بذر بذور الصراع والشقاق داخل الحالة الإسلامية، ومن ثم فالحركة الإسلامية تواجه لحظة خطر حقيقة نرى أنها تفرض الوعي بالمخاطر المحاقة التي تجعل الهدف من الوجود الإسلامي لهذه الحركات في الميزان. فالحركة الإسلامية بالأساس هي حركة للأمة، ومعبرة عن ضميرها. ووجودها بالأساس قائم على الدعوة إلى الدين الصحيح، وتذكير الناس بالتمسك بدينهم (( ( - ( - ( - - رضي الله عنه - - ( - - - - ( ( - ( - { - - - ( - - ((- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنهم - - ( - - - ( { } - رضي الله عنهم - - } الله أكبر ( { - - فهرس - - رضي الله عنه -( - ((- عليه السلام - - (( - بسم الله الرحمن الرحيم - ( { - رضي الله عنه - - ( - - تم بحمد الله )) [الزخرف: 43] وحين يتعارض هذا المقصد الرئيسي مع الحوار الأمريكي، أو حتى الوصول إلى السلطة؛ فإن الحركة الإسلامية عليها التمسك بدعوتها ووظيفتها التي أعطتها شرعية وجودها، يقول تعالى: (( صدق الله العظيم ( - - رضي الله عنه - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - جل جلاله -( } تم بحمد الله ( { } تم بحمد الله ( - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((( - - رضي الله عنه - - - فهرس - ( { ( - ( - - - ( - - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( تم بحمد الله ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - صلى الله عليه وسلم -( - (( { الله أكبر ( الله - - ( - - رضي الله عنه - تمت ( قرآن كريم - رضي الله عنهم - - ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ( - - - - جل جلاله -( - ( - - - - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - - قرآن كريم ( - ( - ((( - ( - - - )) [آل عمران: 104] وقوله تعالى: (( ( المحتويات ( - - ( - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنهم - - - { } تم بحمد الله ( - ( تمهيد - رضي الله عنهم - - ( - ( - ( - ( } - } - جل جلاله - - ( - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( - - - ( - - صلى الله عليه وسلم -( - ((- رضي الله عنهم - - ( - - - ( - - - ( قرآن كريم - رضي الله عنهم - - (- جل جلاله - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ( - - تمهيد - ( - ( - - - )) [آل عمران:110] ومن يقرأ تقرير مؤسسة راند يعرف كيف يفكر الأمريكيون تجاه الحركة الإسلامية وتجاه العالم الإسلامي، فاللحظة الحاضرة هي لحظة فتنة وخطر تستدعي أقصى روح من الوعي والتثبت والتثبيت (( - سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - تمت - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ( - - جل جلاله -( - ( - - صلى الله عليه وسلم - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - { - - - المحتويات - ( - ( صدق الله العظيم - - ( - - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - - ( { - - (( - - { ( - - ( - - - )) [الإسراء:74].(/72)
إن العقل الأداتي الغربي هداه شيطانه إلى التفكير بتغيير قواعد اللعبة من وجهة نظره، بنزع المقاومة والتحدي عن الأمة في مواجهة مشاريعه، بجعل من ينفذونها هم من المسلمين أنفسهم، وإذا كانت حربه ضد العالم الإسلامي تمت بأيدي علمانية من أبناء العالم الإسلامي فها هو يسعى لخطوة خطيرة وشيطانية، وهي استخدام الإسلاميين أنفسهم لتحقيق مآربه وأهدافه، فليحذر قادة الحركات الإسلاميين وعموم العاملين في حقل العمل الإسلامي من خطر اللحظة الأمريكية القادمة، وليتمسكوا بثوابتهم وقواعدهم، وقيمهم، ولا ينجرفوا لمخاطر الألعاب السياسية، ويدركوا أنهم دعاة إلى الله، وأنهم موقعون عن الله، ومعبرون عن الأمة، وهم دعاة المقاومة والرباط والصمود والمواجهة، وإلا فالخطر القادم وهو حركة إسلامية بلا معالم ولا ثوابت ولا مرجعيات. وحينها تجري علينا سنن الله الكونية فيما نطلق عليه سنة الاستبدال والتغيير (( - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم { - - عليه السلام - قرآن كريم - رضي الله عنه - - - - ( - ( - ( - - رضي الله عنه - - ( - - - - ( تم بحمد الله ( قرآن كريم - - ( المحتويات ( - - عليه السلام - - ( - - ( - بسم الله الرحمن الرحيم ( بسم الله الرحمن الرحيم - صدق الله العظيم } - ( قرآن كريم ( الله أكبر قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - - - ( - فهرس - ( - - ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - )) [محمد: 38] فالله حفظ الأمة بالذكر، ولم يجعل حفظها وفعلها وحيويتها مرهونة بإمام أو جماعة أو طائفة أو ملة، وستبقى سنة الله جارية فيها لا تتبدل ولا تتغير (( - ( الله أكبر ( { ( صدق الله العظيم (- رضي الله عنه - صدق الله العظيم - عز وجل - - - عليه السلام - - ( - } - - رضي الله عنه - الله أكبر - رضي الله عنه - - ( - (- صلى الله عليه وسلم - - - - - - ( الله أكبر ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((((( { - رضي الله عنه - مقدمة - )) [الحجر:9] (1). أ.هـ
ويدلي الأستاذ طارق ديلواني بحديث صريح حول ما سبق وهو يجيب على سؤال مفاده: هل ثمة تقارب بين أمريكا والإسلاميين؟ فيقول:
(سؤال بات مطروحاً بقوة بين مناصري، ومؤيدي الحركات الإسلامية وتحديداً جماعة الإخوان المسلمين وقاعدتها الجماهيرية العريضة. ومن الضروري أن يمتلك الإسلاميون إجابة واضحة... ربما كان هذا سؤال اللحظة الذي فرضه تجاوز الحديث الأمريكي حدود التلميح إلى التصريح بأنه لا ممانعة أمريكية من وصول الإسلاميين للسلطة، وهو ما يستدعي البحث عما إذا كان هذا تحولا حقيقيا في الموقف الأمريكي من الإسلاميين؟ أم أنها فزاعة للتهديد في إطار الضغوط المتصاعدة على الأنظمة الحاكمة؟
وأتصور أن أولى خطوات محاولة الإجابة على السؤال تبدأ بضرورة مراجعة الرؤية التقليدية التي تستبد بنا حين نتحدث عن أمريكا والإسلاميين باعتبار أن العداء والكراهية هو سيد الموقف، في حين أن أموراً تغيرت، ومياها جرت في نهر العلاقات بين «الشيطان الأكبر» و «الخطر الأخضر» نقول أن الحال لم يعد كما كان.
ولفهم وقائع ما جرى في نظرة الأمريكان للإسلاميين لابد من التوقف عند أحداث 11 سبتمبر ، فقد أثار الحدث هزة عنيفة في المجتمع الأمريكي تجاوزت الغضب على الإسلام والمسلمين إلى الدعوة لإعادة النظر في السياسة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي التي باتت ترى أن ديكتاتورية بعض الأنظمة العربية هي التي أفرزت العداء لأمريكا باعتبارها راعية لهذه الأنظمة.
على أن النظرة الأمريكية للحوار مع الإسلاميين معنية فقط بالإسلاميين «المعتدلين» المتبعين لأسلوب العمل السلمي دون غيرهم. وهنا ينبغي الحديث عن عدة نماذج إسلامية مقبولة لأمريكا لا تتعدى حدود النموذج الإخواني وإسلاميي تركيا تحديداً.
ثمة تجارب إسلامية مشجعة إذا بالنسبة للأمريكيين ومنها تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا كما أسلفنا، وسجل العمل السلمي للإخوان المسلمين في مصر والأردن واليمن والمغرب وغيرها من الدول العربية.
إلا أنه لا يمكننا أن نحصر النماذج التي ستعتمد أمريكا الحوار معها، ويمكن القول أن أي تيار إسلامي يتمتع بالعقلانية والانفتاح على الحكومات والشعوب سيكون مرشحاً للحوار مع الأمريكيين.
ومن المهم الإشارة لتصريحات مسئولي الإدارة الأمريكية في هذا الصدد، فهي تصريحات توضح حقيقة الرغبة الأمريكية الجامحة للشروع في حوار وتقارب مع الإسلاميين. تصريحات مسئولي الإدارة الأمريكية وعلى رأسهم وزيرة الخارجية «كونداليزا رايس» التي تكشف عن اقتناع الولايات المتحدة بأهمية التحاور مع الإسلاميين في المنطقة العربية، وأنها لا تخشى من وصول تيارات إسلامية إلى السلطة هي أكثر هذه التصريحات إثارة للجدل.
__________
(1) مشاريع الاصلاح الأمريكي والحوار مع الإسلاميين ... الخطر القادم/ كمال حبيب ، المصدر: موقع مختصر الأخبار.(/73)
فهي تشير بوضوح إلى أن بوش الذي تركزت سياسته في السابق على معاداة واستهداف الحركات الإسلامية تحول الآن إلى التقارب مع الإسلاميين. ولم تكن رايس وحدها التي صرحت بهذا، فقد قال ريتشارد هاس مدير إدارة التخطيط السياسي بالوزارة نفسها إن الولايات المتحدة لا تخشى وصول تيارات إسلامية إلى السلطة لتحل محل الأنظمة القمعية العربية التي «تتسبب بتكميمها الأفواه في اندلاع أعمال الإرهاب»، شريطة أن تصل عن طريق ديمقراطي وأن تتبنى الديمقراطية كوسيلة للحكم) (1).
والعدو الكافر لم يلجأ إلى مثل هذه الأساليب إلا عندما رأى نفسه لا يستطيع تنفيذ مخططاته، وأهدافه إلا باستخدام بعض الإسلاميين الذين يسميهم بالمعتدلين. أما من يعلنون كراهية الكافرين، والبراءة منهم، وتحريض الأمة على جهاد المحاربين الغزاة منهم، فهؤلاء شوكة في حلوق الكافرين وهم الذين يحشد الكفار لحربهم والقضاء عليهم (زعموا). وقد عرفوا عند الكفار بالأصوليين السلفيين أو الوهابيين المتطرفين.
يقول الشيخ سفر الحوالي حفظه الله تعالى: (يقول باول شميدس في كتابه : (الإسلام قوة الغد العالمية) عبارة خطيرة جداً لكنها حقيقة : إنه قد تبين من التاريخ أو من استقرائه أنه أينما وجدت الحركة الوهابية فإنه يوجد معها مقاومة الغرب ومقاومة المستعمر) (2). وبهذه المناسبة اتوجه بالنصح لإخواني الدعاة وطلبة العلم بأن يحذروا مكر الأعداء من الكفار والمنافقين حتى لا يستخدموهم، ويوظفوهم دون أن يشعروا في تحقيق حربهم الظالمة على الطائفة المنصورة والحر تكفيه الإشارة.
__________
(1) موقع العصر.
(2) آفة الاستعجال للشيخ سفر ، ص29.(/74)
والكفرة الصليبيون يستخدمون في حرب هذا التيار الصادق المجاهد من المسلمين شتى الوسائل، فتارة بالاستئصال والتصفية والإبادة، وتارة بتسليط الحكومات العميلة والمنفاقين عليهم، وتارة بتسليط بعض الإسلاميين عليهم ليواجهوهم ويشاغبوا عليهم. (( ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - - - رضي الله عنهم -( - - فهرس - - رضي الله عنه -( (( فهرس ( - ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم ( - ( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - عليه السلام - - - - جل جلاله -( - - صلى الله عليه وسلم - - ( } - } - - - - - صدق الله العظيم - - قرآن كريم ( - فهرس - ((- رضي الله عنه - - )) [يوسف:21] (( - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - } ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه -((( - ( تمهيد (- رضي الله عنهم - - ( - - - )) [الأنفال:30] وقال تعالى: (( } تمت ( { - ((( - { - - - } - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( { (( - ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - - (- عليه السلام - قرآن كريم ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - } - - صلى الله عليه وسلم - - - ((- عليه السلام - - ( - صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ( - - ( تمهيد - رضي الله عنهم - - ( - - - - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ( { (( - ( - - - - ( { المحتويات ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - قرآن كريم ( - - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - - رضي الله عنه - - ( - - رضي الله عنهم - مقدمة { المحتويات ( بسم الله الرحمن الرحيم - - قرآن كريم ( - فهرس - ((( - - - صدق الله العظيم - ( - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - (- صلى الله عليه وسلم -( - - ( - - - - فهرس - ( { - بسم الله الرحمن الرحيم } - جل جلاله -- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - ((- رضي الله عنه -( - )) [الأنفال: 36] ولخوف الكفرة من الطائفة المنصورة التي تتمسك بما كان عليه الرسول × وأصحابه وتوالي وتعادي في الله تعالى والذين يسمونهم بالوهابيين(1)، أو الأصوليين المتشددين تراهم يجندون مراكز دراساتهم وبحوثهم وعملاءهم في تتبع هذه الطائفة، وتتبع كتبها، ورموزها وأنشطتها، وأثرها في المجتمعات، فهذا (مركز الحرية الدينية بيت الحرية) الأمريكي يتابع نشاط الدعاة في أمريكا في المساجد والمراكز الإسلامية ويستخرج الكتب والرسائل والمطويات والفتاوى التي فيها العقيدة الصحيحة وفيها كراهية الكافر والبراءة منه والحذر من التشبه به ومداهنته وينتهي إلى كتابة تقرير مطول يصل إلى (120) صفحة، وقد نشر هذا التقرير موقع (www islamdaily net.) ويقول التقرير في مقدمته: (إن هذا التقرير هو الخطوة الأولى في جهد يسعى إلى احتواء هذا الفكر المدمر الذي تنشره الوهابية داخل الأراضي الأمريكية، ونأمل أن يُوفق في إزالة تلك الكتيبات التي تنشر الحقد داخل المساجد، والمكتبات والمراكز الإسلامية الأمريكية. إن هذه المنشورات التي تم تحليلها في هذا التقرير وغيرها من المطبوعات التي تعمل على تأييد فكر الكراهية، لا مكان لها في أمة قامت على أساس الحرية الدينية والتسامح).
ومما جاء في هذا التقرير قولهم: (إن انتشار التطرف الإسلامي من قبل المذهب الوهابي يعتبر من أخطر التحديات الفكرية التي نواجهها في وقتنا الحاضر. ويؤكد السناتور جون كيل رئيس لجنة الإرهاب؛ وهي لجنة فرعية للجنة القضائية ، والذي عقد جلسة استماع حول المذهب الوهابي: أن عدداً متزايداً من الأدلة المقبولة وبحوث الخبراء تشير إلى أن الفكر الوهابي الذي يهيمن على الكثير من الجماعات، ويمولها هنا في الولايات المتحدة يتناقض مع قيم التسامح والفردانية والحرية كما نفهمها نحن).
__________
(1) مصطلح الوهابيين مصطلح حادث أراد محدثوه تشويه صورة المتمسكين بما كان عليه السلف وأهل السنة والجماعة من عقيدة وشريعة وأخلاق، وإلا فما جاء به الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى إنما هو في الكتاب والسنة وفهم الصحابة رضي الله عنهم، ولكن لأن أعداء الإسلام وأعداء السنة لا يستطيعون مواجهة القرآن والسنة مباشرة فقد اتجهوا إلى مواجهة الملتزمين بهما ووصفوهم بالوهابيين المتطرفين ليتوصلوا (إن استطاعوا) إلى هدم القرآن والسنة.(/75)
وجاء في هذا التقرير أيضاً قولهم: (وفي كتاب بعنوان حقيقة التوحيد والشرك طبع بواسطة وزارة الشؤون الإسلامية السعودية والذي وجدت بعض النسخ منه في مسجد الفاروق في بروكلين بنيويورك. قال المسؤول الديني الراحل المفتي العام ابن باز: إن الإسلام منذ عهد آدم ومروراً بالأنبياء الذين جاءوا من بعده كانوا يدعون إلى توحيد الله، ولكن اليهود والنصارى أصبحوا ضالين وكفارا عندما رفضوا محمد بالرغم من وجود من يوحد الله بينهم) وبناءاً على الرؤية الوهابية ، فإنه يجب على المسلم دينياً أن يزرع العداوة بينه وبين الكافرين، وإن كراهيتهم دليل على أن المؤمن متبرئ منهم بالكامل).
ومما جاء في هذا التقرير أيضاً قولهم: (ورداً على أسئلة بعض المسلمين الذين يعيشون في الغرب عن الكيفية التي يمكنهم التعامل بها مع غير المسلمين يقدم الخبراء في اللجنة الدائمة بما فيهم المفتي العام بن باز، والعثيمين سلسلة من الأجوبة تنصح في الغالب بمزيج من الشك والكراهية والتبشير المعادي. ولقد وجدت هذه الفتاوى في عدد من المساجد في الولايات المتحدة).
وفي موطن آخر من هذا التقرير يقولون: (ويقول الكتاب والوعاظ الوهابية لقرائهم، أو مستمعيهم بشكل مستمر أن عبارة ((المَغضُوبِ عَلَيهِمْ)) التي في بداية القرآن يقصد بها اليهود، وعبارة ((الضَّالِّينَ)) تشير إلى المسيحيين، ونفس التعاليم توجد في وثيقتين من المجموعة إحداهما صادرة عن الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء تم الحصول على نسخة منها في أحد المساجد بهيوستن، والأخرى في فتوى موجهة إلى المسلمين المسافرين والمهاجرين).
ويقولون أيضاً: (لقد طالب الإسلاميون بالجهاد رداً على التهديدات المزعومة. ولكن الوهابية عادة لا يفهمون الجهاد على أنه وسيلة دفاعية خالصة، بل يعتقد الوهابية أن الفتوحات الإسلامية السابقة، كانت وسائل لنشر الدين الجديد، ونوع من الجهاد الإلزامي، أو الحرب المقدسة: لقد كانت غايته نشر الإسلام في المناطق التي كانت تحت حكم الكفار، أي دار الكفر، وإخضاعها، ومن ثم إقامة حكم الإسلام وتطبيق الشريعة وتأمين القوة السياسية والهيمنة العسكرية للمسلمين).
ويقولون في تقريرهم عن الوهابية والمرأة: (إن الوهابية وغيرهم من السلفيين يعتبرون المرأة مصدراً أساسياً للفتنة من الناحيتين الاجتماعية والأخلاقية. وتستدعي هذه الحالة يقظة دائمة في جانب الرجال، وخصوصاً السلطات الإسلامية، للتأكد من أن النساء مستورات بالشكل الملائم من خلال إخفائهن خلف الأبواب المغلقة، أو تحت الأحجبة والعباءات).
ويقول أحد الكتب التي طبعت بواسطة معهد العلوم الإسلامية والعربية وتم الحصول على نسخ منه في مسجد الإسلام في واشنطن: (من بين أكثر الأمور أهمية في تقليد الكفار ، وأشدها خطراً على المسلمين، هي فتنة النساء، وهي من سمات الكفار. والهدف من ذلك هو إبعادهن عن فطرتهن، وحجابهن، وحيائهن، وذلك حتى يفتنوا بهن الرجال. لأن النساء تحب بريق الحياة المادية، ويملن إلى التقليد، ويتكيفن معه ويبالغن فيه، لأن النساء خلقن من أجل إغراء الرجال وتجميل أنفسهن لهم) (1).
ومن وسائل أمريكا وحلفائها الصليبيين في محاربة الطائفة المنصورة التي تسميها بالوهابية تشجيع الطوائف الصوفية في محاربتها ومواجهتها.
نقلت مفكرة الإسلام بتاريخ 1/4/1426هـ عن إحدى المجلات الأمريكية ما يلي:
(كشفت مجلة "يو إس نيوز" الأمريكية عن سعي الولايات المتحدة لتشجيع ودعم الصوفية كإحدى وسائل التصدي للجماعات الإسلامية.
ويعتقد بعض الاستراتيجيين الأمريكيين أن أتباع الصوفية ربما كانوا من بين أفضل الأسلحة الدولية ضد «القاعدة» وغيرها من الإسلاميين المتشددين.
ويمثل المتصوفون وأساليبهم الصوفية الغامضة اختلافاً واضحاً مع الطوائف الأصولية الإسلامية، كالطائفة «الوهابية»، على حد زعم المجلة.
وكانت الأضرحة الصوفية قد تعرضت للتحطيم في إطار الصراع الطويل بين الصوفية والأصولية في الجزيرة العربية، كما وصفت كذلك الأساليب الصوفية بأنها ارتداد عن الدين، على حد زعم المجلة.
وبحسب مجلة «يو إس نيوز» فإن الصوفية تسعى للعودة ثانية، حيث يوجد عشرات الملايين في وسط وجنوب شرق آسيا وغرب إفريقيا، ومئات الملايين الآخرين من التابعين للتقاليد الصوفية.
وقد صرح أحد متخصصي الأنثربولوجي ويدعى «روبرت دانين»، والذي كان قد درس المتصوفين الأفارقة، أنه: «سيكون من الحماقة تجاهل الاختلافات بين الصوفية والأصولية»، حيث قد وصف الصراع بين المتصوفين والأصوليين بأنه يشبه «حرب العصابات»، على حد قوله.
وقد استرعى ذلك الصراع انتباه صناع السياسة الأمريكية، ولأنه ليس في إمكانهم دعم الصوفية بصورة مباشرة، فإنهم يسعون إلى دعم من هو على علاقة بهم.
__________
(1) موقع (WWW islamdaily net).(/76)
ومن بين التكتيكات السياسية في هذا الشأن استخدام الدعم الأمريكي لاستعادة الأضرحة الصوفية حول العالم، وترجمة مخطوطاتهم التي ترجع للعصور الوسطى، وكذلك دفع الحكومات لتشجيع نهضة الصوفية في بلدانهم.
ووفقاً للمصدر: فإن تلك الفكرة كان قد انتهجها الملك محمد السادس عاهل المغرب، والذي كان قد جمع في هدوء زعماء الصوفية المحليين بالمغرب، وقدم ملايين الدولارات كمعونة لاستخدامها كحصن ضد الأصولية المتشددة(1).
وبعد هذه النقولات التي تكشف مكر الكفرة ووسائلهم الخبيثة في تغيير العقول، والأفكار وتشكيك المسلمين في ثوابتهم، وقيمهم قد يرد سؤال وجيه ألا وهو: ما علاقة هذا الموضوع بالأمن وأعداء الأمن؟
والجواب بإيجاز أن هذا المكر، وهذا الغزو بهذه الوسائل المتنوعة من الكفرة وإخوانهم المنافقين قد تنطلي على بعض المسلمين سواء المثقفين منهم أو العامة وهذا بدوره يؤدي إلى الانحراف عن الحق والدين الحق ويقود إلى التبعية للكفار والتأثر بتصوراته وأفكاره . ولا يخفى ما في ذلك من خلل في أمن الدين والعقيدة . وهذا يقود المجتمع المسلم إلى الزعزعة والاضطراب والتعرض للمصائب والعقوبات واختلال الأمن.
ثانياً: العدوان على أمن الأخلاق والأعراض والبيوت والأسر
لم يعد خافياً على أحد ما في مجتمعات المسلمين من هجمة شرسة على القيم والأخلاق والأعراض، حيث لا يفتأ الكفرة وإخوانهم الذين نافقوا في القديم والحديث في زعزعة الأخلاق، وثلب الأعراض، وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وسعيهم لتفكيك بيوت المسلمين وأسرهم، كما تفككت بيوتهم وأسرهم. وقد بين الله عز وجل حالهم ووصفها لنا كما في قوله تعالى: (( ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - ( - ( - تمت - صلى الله عليه وسلم - - - - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - - ( المحتويات ( تمهيد ( - فهرس - - رضي الله عنه -( ( - - ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ((( - { - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((( - ( - - رضي الله عنه - - ( المحتويات (- عليه السلام - قرآن كريم { - } ( - - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - } - قرآن كريم ( - - (( - - ( - ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - - ((- رضي الله عنه -( )) [النساء: 27] وقال سبحانه عن المنافقين الذين جاءوا بالأفك على عائشة رضي الله عنها: (( - - ( { - رضي الله عنه -((( - { - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم - - (- رضي الله عنه -( - تمت - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم -( - (( فهرس - ( { - رضي الله عنه -(( - ( - (( - - - - (( - ((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( المحتويات ( - مقدمة - ( - - - - - رضي الله عنه -( ( - (( - - صلى الله عليه وسلم - - - (( - - عليه السلام - - ( الله أكبر - - - - - ( - - رضي الله عنه - - ( - - - رضي الله عنهم - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم فهرس - ((- رضي الله عنه - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - فهرس - (( - - )) [النور: 19] ومع أن هذا شأن الكفرة والمنافقين من قديم الدهر، إلا أن هذا المكر وهذا الغزو الخبيث لم يمر على البشرية في تاريخها، كما يمر اليوم في واقعنا المعاصر وذلك لتسخيرهم الوسائل الإعلامية المختلفة التي لم تعرفها البشرية من قبل في نشر الفساد والرذيلة والشهوات والانحلال وبخاصة بعد ظهور وسائل الاتصال السريعة كالقنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية (الانترنت)؛ فأصبح المسلم في خطر، وأصبحت المجتمعات الإسلامية في خطر عظيم لا يمسك سماء إيمانها إلا من يمسك السموات والأرض أن تزولا. ومما يزيد الأمر خطورة وكارثية تهالك كثير من المسلمين على هذه القنوات، وفتح بيوتهم لها دون رقيب أو حسيب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكفى بذلك ثلباً لأمن الأخلاق والأعراض، وكفى به عدواناً على أمن البيوت والأسر، وكفى به تعريضاً للأفراد والمجتمعات لسخط الله عز وجل وعقوبته في الدنيا والآخرة. وأي عداء أشد من هذا العداء الذي يعرض الناس للشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة. وأسوق فيما يلي بعضاً مما يقوم به الكفرة والمنافقون من عدوان على أمن الأخلاق والأعراض والبيوت بإجازة:
__________
(1) مفكرة الإسلام www. Islammem O.CC 1/4/1426هـ.(/77)
أولاً: إثارة الشهوات، ونشر الرذيلة، وإفساد الأخلاق بما يقوم به الكفرة والمنافقون في وسائلهم الإعلامية المختلفة من مجلة وصحيفة ومذياع وتلفاز وقنوات فضائية وشبكات عنكبوتية، من نشر للعهر والفساد والإباحية التي تلهب الشهوة في نفوس المتعاطين معها، والتي تقود إلى الخبث والزنا، وفساد الأسر والبيوت والأعراض والنسل. وليس المقام هنا مقام تفصيل وتوثيق فأمر هذه الوسائل الخبيثة واضحة وجلية. وإن لم يرحمنا ربنا ويكف عنا شر هذه الوسائل؛ فإن الكارثة عظيمة، والعاقبة وخيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم،. والمراد هنا فضح هؤلاء المفسدين وبيان خطرهم على أمن الفرد والأسرة والمجتمع في الدنيا والآخرة. فهلا انتبهنا إلى هؤلاء الأعداء الحقيقيين لأمننا من الكفرة والمنافقين.
ثانياً: الحملة الشعواء على المرأة ولباسها وحجابها وعملها والدعوة إلى تحررها، والتمرد على قوامة زوجها إلى آخر هذه الصيحات العدوانية التي يريد أصحابها أن تكون المرأة سلعة رخيصة بيد الرجل يتمتع بها حيث شاء، كما يريدون أن يخلو البيت المسلم من مربية الأجيال، بحيث تترك أولادها وزوجها بلا سكن ولا رعاية، لتعمل مع الرجل الأجنبي خارج بيتها. ولا يخفى ما في هذا من نشر للفساد والفجور، ومن تفكيك للأسر والبيوت. كما تفككت أسرهم وبيوتهم. قال تعالى: (( } - - صلى الله عليه وسلم - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( قرآن كريم - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ((( - - - - - رضي الله عنهم - - - - } - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( الله أكبر قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - - - ( } ( - - - عليه السلام - قرآن كريم - رضي الله عنهم - - )) [النساء: 89] ويشترك في هذه الجريمة الكفار الحاقدون، وأولياؤهم من المنافقين والشهوانيين.
فمما يتعلق بلباس المرأة وحجابها فقد سلكوا في ذلك طريقاً فكرياً يبثون فيه الشبهات ويدلسون ويلبسون، ويغرون ويحرضون. وآخر عملياً بما يقومون به من إغراق لأسواق المسلمين من ألبسة فاضحة تنافي الشروط الشرعية للباس المرأة المسلمة، وذلك مما تنتجه بيوت الأزياء العالمية الفاجرة. فتارة نرى اللباس القصير الذي لا يستر جسد المرأة المطلوب ستره، وتارة بملابس رقيقة تشف ما تحتها، وتارة بملابس ضيقة تحجم ما تحتها، وتارة بملابس تشابه لباس الكافرات أو لباس الرجال. ومما يؤسف له أن كثيراً من المسلمات أقبلن على مثل هذه الألبسة، ووقعن في حمأة التقليد الأعمى للكافرات مما ترتب عليه من فتنة بهن وعليهن . قال رسول الله ×: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) (1) وقال أيضاً: ((إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) (2).
وليس المقام هنا مقام التفصيل والرد على دعاة تحرير المرأة والمنادين بسفورها، فهذا له مقام آخر(3) وإنما المراد هنا بيان أعداء أمن البيوت والأسر والأخلاق، وأنهم هم أولئك المفسدون المتبعون للشهوات من الكفار والمنافقين.
ثالثاً: الحملة الحاقدة من الكفار وأذنابهم المنافقين في الغرب والشرق على الأسرة المسلمة، والسعي إلى كل ما من شأنه إضعافها، وتفكيكها، حيث غاظهم ما يرون في مجتمعات المسلمين من ترابط وتراحم وتكافل بين أفراد الأسرة المسلمة؛ فعقدوا من أجل ذلك مؤتمرات وندوات يهاجمون فيها بقاء المرأة في بيتها ويحرضونها على الخروج بحجة العمل، والحصول على حريتها، كما هاجموا فيها كثرة النسل وسعوا إلى إشاعة تحديد النسل أو منعه بحجة الكثافة السكانية التي يترتب علهيا المجاعات والأمراض وعدم الاستيعاب!!، كما سعوا في مثل هذه المؤتمرات إلى النيل من أحكام الإسلام في الطلاق والتعدد بحجة المحافظة على حقوق المرأة، ومساواتها بالرجل والحفاظ على كرامتها زعموا، مع أنهم أعدى أعداء المرأة، وهم أعداء الأسرة لأنهم بذلك يجرونها إلى ما وصلت إليه المرأة والأسرة عندهم من إهانة وابتذال وهتك أعراض، وتفكك وانحلال.
رابعاً: ومما يسيء إلى أمن البيوت والأسر والأعراض إغراق مجتمعات المسلمين وبيوتهم بالخدم والخادمات. وهذا أثر من آثار خروج المرأة للعمل خارج منزلها. بل إن أكثر بيوت المسلمين اليوم تعج بالخادمات والسائقين دون حاجة إليهم؛ اللهم إلا الفخر والمباهاة والكسل والترف. ولا يخفى ما يترتب على وجود هؤلاء الخدم بنحلهم المختلفة، وأخلاقهم السيئة عند أغلبهم من فساد أخلاقي لكثير من البيوت، وتفكيك لها، وإهمال لتربية البنين والبنات، والاعتماد على الخدم في ذلك. وأعداء أمن الأسر والأخلاق يسعون جهدهم لمزيد من ذلك لما يرونه من آثار مدمرة للأسر والأخلاق وذلك ما كانوا يبغون.
__________
(1) البخاري (5096) ، مسلم (2740).
(2) مسلم (2742).
(3) انظر: كتاب (عودة الحجاب) للدكتور محمد اسماعيل المقدم حفظه الله.(/78)
خامساً: تشجيع السياحة إلى بلاد الكفر والخنا والفجور، وتسهيل السفر إليها بأرخص الأثمان، لما يعلمه هؤلاء المفسدون من تأثير ذلك في استمراء الفساد، وألف النفوس له. وبالتالي تقليد أهله، والوقوع في براثنه، والتأثر بما يرونه من عادات سيئة، وأخلاق رذيلة سواء كان ذلك في الأفكار، أو الأخلاق، أو الهدي الظاهر. وبالتالي رجوع هؤلاء السياح وهم يحملون هذه العادات والأخلاق من الكفار، ويدعون إليها قولاً وعملاً. والذي يتولى كبر هذه الأعمال هم أرباب الفساد، وأعداء أمن الأخلاق والأعراض من الكفار والمنافقين والشهوانيين.
سادساً: إغراق أسواق المسلمين بوسائل الترف المتنوعة، وضخها بشكل مكثف، سواء كان ذلك في أصناف المأكولات أو المشروبات، أو المركوبات أو المساكن، والتوسع الزائد في تكميلها وتحسينها مما أدى إلى صرف الهم والتفكير فيها، والتنافس عليها، بل تجاوز ذلك إلى الوقوع في الشبهات والحرام جراء الاهتمام الكبير بها. ولا يخفى ما في ذلك من فساد في الأخلاق وركون إلى الدنيا وزينتها، ونسيان الآخرة وأهوالها، علاوة على ما تحدث من ترهل وكسل، وقعود عن المهام العالية، وتخلفاً عن ركب المصلحين والمجاهدين في سبيل الله تعالى الذين ضحوا بأنفسهم وأموالهم في سبيل الله عز وجل، وزهدوا في الدنيا وترفعوا على متاعها الزائل.
سابعاً: الهجمة الشرسة من الكفار والمنافقين على أهل الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاولة تحجيمهم وتشويه سمعتهم. ولا يخفى ما في ذلك من حقد دفين وغيظ شديد في قلوب المفسدين من رؤيتهم لهؤلاء المصلحين – الذين هم بحق صمام أمان المجتمعات- وهم يحاربون الفساد والرذيلة، ويضيقون الخناق على المفسدين، وبذلك يدرأون عقوبة الله عز وجل وعذابه. وهذا لا يريح أهل الفساد بل يزعجهم ويغيظهم، ولذلك فهم لا يفتأون يعادون أهل الحسبة ويضعون العقبات في طريقهم ويسعون لتشويه سمعتهم.
ثامناً: تسليط المخدرات والمسكرات على مجتمعات المسلمين، وذلك لما لها من الآثار السيئة المدمرة على الأخلاق والأعراض وانتشار الجريمة وزعزعة الأمن في حياة الفرد والأسرة والمجتمع، وتعريض المجتمعات لعقوبة الله تعالى في الدنيا والآخرة.
ثالثاً: الاعتداء على أمن المال والاقتصاد
إن العدوان على أموال الناس واقتصادهم من قبل الكفار، وأذنابهم المنافقين لم يعد خافياً على أحد من المهتمين بأمر هذا الدين وأهله، حتى آل الأمر إلى أن يكون المال دُولة بين الأغنياء، الذين احتكروا المال، وأوقدوا فيه نار الربا، وأغرقوا الفقراء – وهم الكثرة من المسلمين – بسيل من الديون التي تتضاعف مع الزمن، فأكل القوي فيها الضعيف، ومحقت فيه بركة المال وأُكل المال بالباطل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأسوق فيما يلي بعض صور هذا العدوان على أمن الأموال والاقتصاد:(/79)
أولاً: التشبه بالكفار في حبهم العظيم للمال وكونه غاية عندهم لا يبالون من أي جهة حصلوا عليه من حلال أو حرام. ولذلك صدروا إلى ديار المسلمين صنوفاً من البضائع المحرمة، وأدخلوا على مجتمعات المسلمين وسائل كثيرة من المعاملات المحرمة. ومن أعظمها وأخطرها نشر الربا الصريح، واستحداث المعاملات المصرفية التي تقوم على الربا تارة، وعلى الجهالة والغرر تارة، وعلى التحايل تارة. ولا يخفى ما في ذلك من محق لبركة المال، وغش وتحايل على المسلمين، وظلم للفقراء وما أكثرهم. وفي كل ذلك عدوان على أمن الناس في أموالهم، ومؤذن بعقوبة من الله عز وجل قال الله تعالى: (( - - رضي الله عنهم - - - - - صلى الله عليه وسلم - - ((- رضي الله عنه - - - ((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( } - قرآن كريم ( { ( - - - { - - - } - - صلى الله عليه وسلم -( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنه - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله } - - قرآن كريم - رضي الله عنه - - ( - - - - - تمت ( { بسم الله الرحمن الرحيم ( - - ( - - رضي الله عنه -((( - ( تم بحمد الله ( - - تم بحمد الله * تمت ( - - ( ( المحتويات { - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنهم -((( - - } - قرآن كريم ( الله أكبر - - ( - - ( - - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( - - - (( - ( - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } تمت ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( تمهيد ( - ( المحتويات ( تمهيد فهرس - - ( ( } - صلى الله عليه وسلم -((( - ( المحتويات ( تمهيد ( - (- عليه السلام - قرآن كريم ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم - - قرآن كريم ( - ( - (( - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - قرآن كريم ( - فهرس - ((( - )) [البقرة: 279،278].
ثانياً: استنزاف الكفار لأموال المسلمين، وسحب رؤوس أموال المسلمين إلى الاتجار بها في ديار الكفار. ولا يخفى ما في ذلك من دعم لاقتصاد الكفرة. وفي المقابل إضعاف لاقتصاد المجتمعات المسلمة. فوق أن غالب هذه الاستثمارات الخارجية يقوم على الربا والتحايل والمعاملات المحرمة . المهم عندهم كسب المال بأية وسيلة كانت ولا يخفى ما في ذلك من إضعاف للمسلمين، ونهب لأموالهم وتسلط على مقدراتهم.
ثالثاً: نشأ من غزو الكفار وعدوانهم على الدين والأخلاق والأعراض، والذي سبق الكلام عنه أن قل الخوف من الله عز وجل وقل الوازع الديني، فانتشرت الجرائم ومنها السرقات، والاعتداء على أموال الناس بالقوة أو بالخلسة.
رابعاً: إشغال مجتمعات المسلمين باللهث وراء الدنيا، وجرهم إلى صنوف من المعاملات التي جعلتهم في دوامة من أمرهم، وجعلتهم في سعار شديد، وتنافس ممقوت على كسب المال. وأذكر من ذلك تجارة الأسهم التي في أغلبها هي أشبه شيء بالقمار والميسر، حيث يصبح الرجل غنياً ويمسى فقيراً ويمسى عاقلاً ويصبح منهاراً كئيباً. وقد أدى هذا إلى عمى القلوب عن الآخرة، وعن شئون المسلمين ومآسيهم. وهذا ما يريده الأعداء الكفرة وإخوانهم المنافقون.
خامساً: تضييق الخناق على الجمعيات الخيرية للمسلمين التي كان لها الأثر العظيم في مواساة فقراء المسلمين في كل مكان، وكفالة أيتامهم ودعاتهم، وطباعة الكتب الإسلامية ونشرها، ونصر المجاهدين في سبيل الله تعالى، وإغاثة اللاجئين والمنكوبين من المسلمين. ولم يقف الأمر عند التضييق، بل ذهبوا إلى مصادرة أموال هذه الجمعيات أو تجميدها، وتخويف الناس وإرهابهم من دعم هذه الجمعيات، أو الإنفاق في وجوه الخير. فهل بعد هذا من عدوان على المال بل إنه تعداه إلى العدوان على الأنفس وإطعامها وكسوتها وإغاثتها.
سادساً: امتصاص الخيرات من الأراضي المسلمة وبخاصة البترول والنفط والتحكم في إنتاجه وأسعاره.
سابعاً: إغراق أسواق المسلمين بآلاف الأصناف من البضائع المختلفة التي تستورد من بلاد الكفار . وهذا بدوره يقوي اقتصاد الأعداء من الكفرة ويجعل بلاد المسلمين بلادا مستوردة ومستهلكة لا منتجة مصدرة. بل إن الكفار يضعون العوائق أمام كون بلدان المسلمين مصنعة منتجة تستغني عن مصانع الكفار. ولا يخفى ما في ذلك من عدوان على أموال المسلمين وإرادتهم وإضعاف لاقتصادهم . فوق ما في ذلك من تبعية للأعداء وبخاصة فيما يتعلق بالغذاء والطعام. ولا يخفى على ذي لب أن أمة لا تمتلك وتنتج غذاءها فإنها لا تمتلك أمنها. فالأمن على الغذاء ليس هو فقط أمن أكل وشرب يأمن صاحبه فيه من الموت بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى أن يؤثر على أمن الدين والنفس والعرض. لأن المرأ تحت وطأة الجوع معرض أن يتنازل عن دينه أو عن عرضه عياذاً بالله تعالى.(/80)
ثامناً: القيام بالحملات الدعائية الفاجرة الكاذبة التي تروج السلع، وتخدع الناس وتؤزهم إلى شرائها أزاً. وبهذا تمتص الأموال من جيوب الناس، ولو كانوا كارهين. ولا يخفى ما في ذلك من أكل لأموال الناس بالباطل لأنه يقوم على الخداع والكذب والدجل. وفي هذا عدوان على أموال الناس ولو كان برضاهم.
ثانياً: فئة أهل الأهواء والشبهات
تختلف هذه الفئة عن التي قبلها في أن هذه الفئة تعد من أهل القبلة، ولكنها فارقت طريق أهل السنة والجماعة وهو ما كان عليه الرسول × وأصحابه، وذلك بما ابتدعت من البدع المحدثة في الاعتقادات، والأعمال، متعلقة ببعض الشبهات والتأويلات الباطلة؛ فنشأ من ذلك خلل في أمن بعض الضروريات التي جاء الإسلام للمحافظة عليها وصيانتها من الاعتداء سواء بإتلافها أو إضعافها. ولكي يتبين لنا خطر هذه الفئة على أمن الناس أذكر بعض أصنافها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر.
المثال الأول: طائفة الخوارج:
ومن أهم أصول هذه الطائفة تكفير مرتكب الكبيرة بمجرد ارتكابها والحكم عليه بالخلود في النار إن مات مصراً عليها بدون توبة . وقد أدى بهم هذا المعتقد الفاسد إلى تكفير عموم الناس ممن ليس منهم ثم استحلال دمائهم وأموالهم، والخروج على الأمة بالسيف. ومن هذا يتضح لنا عداءهم للأمن وذلك من جهتين:
الجهة الأولى: كون هذا المعتقد مخالفاً للعقيدة الصحيحة التي كان عليها الرسول × وأصحابه الكرام. وهذا خلل في الدين واعتداء على أمن العقيدة وثوابتها، وتعريض أصحابها لعذاب الله عز وجل إن هم ماتوا عليها، لأن الخوارج من الفرقة الضالة المفارقة للفرقة الناجية التي أخبر عنها الرسول × في قوله : ((والذي نفسي بيده لتتفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار... الحديث)) (1).
الجهة الثانية: ما تقوم به هذه الفئة من خروج على الناس المخالفين لهم من أهل الإسلام، واستحلال دمائهم وأموالهم . ولا يخفى ما في هذا الفعل الشنيع من عدوان على أمن الناس في دمائهم وأموالهم وإثارة للخوف والرعب بينهم.
المثال الثاني: طائفة المرجئة:
وتأتي هذه الطائفة في مقابل طائفة الخوارج، حيث تساهلت في الدين وأحكامه، فحصرت الإيمان في تصديق القلب، وزاد بعضهم قول اللسان أما الأعمال، والالتزام الظاهر بشرائع الإسلام فليس عندهم من الإيمان. ولا يخفى ما في هذا المعتقد الفاسد من خلل في أمن الناس وسلامتهم وذلك من جهتين:
الأولى: كون هذا المعتقد الفاسد مخالف لما عليه الرسول × وأصحابه وفي هذا اعتداء على أمن العقيدة وثوابتها وتعريض لعذاب النار المتوعد به الفرقة الضالة المفارقة لما عليه الرسول × وأصحابه.
الثانية: ما يتسبب فيه هذا المعتقد من نشر للفساد والمعاصي وذلك لفصل الأعمال عن الإيمان، وكون المعاصي لا تؤثر في الإيمان مما يؤدي إلى الجرأة على الفساد وبهذا تختل أمن المجتمعات، ويتعرض أمن الناس في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم للخطر. كما أن من آثار المذهب الارجائي إضعاف شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة الفتنة ولا يخفى ما في إضعاف هذه الشعيرة العظيمة من خلل في أمن المجتمعات، وفتح الباب لأهل الفساد بدون مدافعة ولا إنكار.
المثال الثالث: طائفة الصوفية:
الصوفية ليسوا على درجة واحدة، لأن منهم الزنادقة الباطنيون أهل الاتحاد والحلول والمشركون بالله عز وجل الشرك الأكبر، ومنهم المبتدعة الذين لم تصل بدعتهم إلى الخروج من الملة كأهل العبادات المبتدعة، والزهد المخالف لحقيقة التوكل على الله عز وجل فهؤلاء هم المعنيون في هذا المثال. أما الزنادقة منهم والمشركون بالله عز وجل، والباطنيون فإنهم يلحقون بالفئة الأولى من أعداء الأمن والدين من الكفرة والمنافقين.
وعداء المتصوفة المبتدعة من أهل القبلة يتمثل فيما يلي:
أولاً: الابتداع في الدين، والتعبد لله عز وجل بما لم يأذن به الله سبحانه إن هو إلا اعتداء على أمن الدين، والتشريع، وانحراف عما كان عليه الرسول × وأصحابه وخير الكلام كلام الله عز وجل وخير الهدي هدي رسوله × .
ثانياً: إن ما يقوم عليه التصوف من الغلو في الزهد، وترك الدنيا، والانحراف في مفهوم التوكل على الله عز وجل وفعل الأسباب، والانحراف في مفهوم القضاء والقدر؛ كل ذلك ينشأ عنه انحراف في السلوك والممارسات والمواقف. ومن أخطرها ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى، والرضى بالأمر الواقع، وترك المجال لأهل الكفر والنفاق والفسوق والعصيان ليفسدوا في الأرض، ويعرضون أمن الناس بسبب هذا الفساد إلى الخطر سواء في دينهم أو أنفسهم أو أعراضهم أو أموالهم؛ كما أنه لا يخفى أن الأمر والنهي ومدافعة الفساد لمن أهم الأسباب في دفع عقوبات الله عز وجل عن المجتمعات في الدنيا والآخرة، وسبب رئيسي في تحقيق الأمن والاستقرار والطمأنينة في حياة الناس.
__________
(1) رواه ابن ماجه (3992) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3526).(/81)
ثالثاً: فئة أهل الشهوات والفسق والمجون
وهؤلاء ليسوا من الكفار والمنافقين، وليسوا من المبتدعة المنتسبين إلى الفرق الضالة في المعتقد والأفكار؛ لكنهم من عصاة أهل السنة، ومن أهل الفسوق والمجون واللهو واللعب المتبعين للشهوات والأخلاق الرذيلة، وهم أيضاً ليسوا على درجة واحدة في السوء؛ فمنهم الماجن الفاسد في نفسه وبيته، ومنهم الداعي إلى الفساد الذي يساهم بماله وتفكيره وجهده في التصدر للفساد، واستخدام الوسائل المتاحة في ذلك وهؤلاء أشد جرماً من الفاسدين في أنفسهم فقط. ولا يخفى ما لأهل الفسق والمجون والشهوات من أثر خطير على أمنهم في أنفسهم، وعلى أمن الناس الذين يضلونهم وينشرون الفساد بينهم ، فكم من مستقيم على دينه ظل بسببهم، وكم من نفس تلفت أو لحقها أذى بسببهم، وكم من عقل اغتالته المسكرات والمخدرات بسببهم، وكم من عرض انتهك بسببهم، وكم من مال اعتدي عليه بسببهم. والمقصود أن أثر هذه الفئة ظاهر وجلي في تهديد أمن الناس في ضرورياتهم وحاجاتهم. وهم الذين يستخدمهم أعداء الدين من الكفرة والمنافقين في تمرير الفساد والخنا والرذيلة والفجور، حيث وافق فساد الكفرة ومخططاتهم الخبيثة هوى في نفوس هؤلاء الجهلة، وأهل الشهوات، ووافق حباً للدنيا في قلوبهم فأسهموا في تنفيذ مخططات الكفرة المفسدين في بلاد المسلمين. وهؤلاء هم الذين أمرنا الرسول × بالأخذ على أيديهم حتى لا تغرق سفينة المجتمع بسببهم وذلك في قوله (( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم ونجوا ونجو جميعاً)) (1).
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعتمه تتم الصالحات، والحمد لله الذي هدانا للإسلام والسنة – على ضعفنا وتقصيرنا- وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله عز وجل. والحمد لله الذي أنعم ويسر بكتابة هذه الرسالة في ضوء قوله تعالى: (( - - - صلى الله عليه وسلم - - - ( (((( - { - ( - - (( - - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - ( - } تمت ( { ( - (( - ( - - - قرآن كريم ( - فهرس - (( - - )) أسأله سبحانه وتعالى أن يرزقني فيها الإخلاص، وأن يكون ما جاء فيها موافقاً لما جاء عن النبي × وأصحابه الكرام . كما أسأله سبحانه أن يغفر لي ما كان فيها من الزلل والخلل.
ويبقى في ختام هذه الرسالة أن أشير إلى أهم الأفكار، والوقفات التي وردت فيها.
الوقفة الأولى: ذكرت في مقدمة الرسالة الدوافع، التي كانت سبباً في كتابة هذا الموضوع، وذكرت أن من أهمها كثرة الحديث في الآونة الأخيرة عن الأمن والسلام والإرهاب، وكيف حصل اللبس والتضليل في هذه المفاهيم فتلاعب بها الكفرة والمنافقون؛ فأردت في هذا الموضوع كشف هذا التلبيس، وتحرير هذه المصطلحات تحريراً شرعياً مبيناً في ذلك الوسائل التي يمكن أن يُحصل بها على الأمن، فذكرت أنه لا يمكن ذوق طعم الأمن والطمأنينة إلا في ظل الإسلام؛ وأن من يحول بين الناس وبين دين الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقاً ومعاملات لهو العدو الحقيقي للأمن والسلام.
__________
(1) البخاري (2493).(/82)
الوقفة الثانية: ذكرت بعد ذلك بعض الآيات، والأحاديث الواردة في الأمن، وما يضاده من الخوف والترهيب والإرهاب. وأطلت الوقوف عند آية الأنعام التي هي عنوان هذه الرسالة وما قبلها وبعدها من الآيات، وذلك في محاجة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه وبيانه لهم بأن الجدير بالخوف والقلق والانزعاج هو الكافر المشرك. والجدير بالأمن والاهتداء هم أهل الإيمان الذين سلمهم الله من الظلم؛ وأنه بقدر ما يسلم العبد من الشرك والظلم بأنواعه يحصل له الأمن التام في الدنيا والآخرة . وبقدر ما عنده من الظلم ينقص أمنه بقدر ذلك، حتى إذا وصل الظلم إلى الشرك الأكبر حرم مطلق الأمن في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى عن محاجة إبراهيم لقومه: (( - رضي الله عنهم - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - } - صلى الله عليه وسلم - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( - - عليه السلام - - ((- صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - قرآن كريم (( - - - - صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - عليه السلام - - ((- صلى الله عليه وسلم - - ( - - - ( - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات - - ( - ( } - - رضي الله عنه - - ( - (( مقدمة ( - ( المحتويات ( تمهيد ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - جل جلاله - - ( - (( - ( - - - - - صلى الله عليه وسلم - - - ( (((( - { - ( - - (( - - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - ( - } تمت ( { ( - (( - ( - - - قرآن كريم ( - فهرس - (( - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - عليه السلام - - (- رضي الله عنهم - - - ( { - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ((( - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( المحتويات ( - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - } - - المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( - - تم بحمد الله )) [ الأنعام: 82،81]. وقد سبق تفصيل القول حول هذه الآيات فليرجع إليه.
الوقفة الثالثة: تحدثت بعد ذلك عن مصادر الأمن وحصرتها في طاعة الله عز وجل وتوحيده، واجتناب محرماته ونواهيه من الشرك والفسوق والعصيان. وفصلت القول في أن هذا لا يوجد إلا بالالتزام بدين الله عز وجل الذي ارتضاه لعباده، ألا وهو دين الإسلام، الذي كله خير وصلاح وأمن وأمان لكل من التزم واستسلم له. وذكرت من ذلك أمثلة كثيرة مما أنزله الله عز وجل في كتابه، أو شرعه على لسان رسوله × من الأحكام والتشريعات التي تتضمن وتكفل الحياة الآمنة المطمئنة لكل من أخذ بها، وذكرت ذلك على مستوى الأمن النفسي عند الأفراد، وفي أمن الأسر والبيوت، وأمن المجتمعات، وأمن البشرية بعامة. وذكرت في أمن البشرية أن الجهاد في سبيل الله عز وجل إنما شرع لأمن البشرية التائهة التي يستعبدها حفنة من الطواغيت يضللونها، ويحولون بينها وبين الحق والأمن والسلام فيأتي الجهاد ليزيل هذه العقبات الشيطانية، ويكسر هذه الحواجز الطاغوتية لينزاح الباطل عن طريق الحق فيصل إلى الناس واضحاً جلياً لينعموا في ظلاله في الدنيا، ويفوزوا بالجنة في الآخرة دار السلام والأمان الدائمين السرمديين.
الوقفة الرابعة: بينت في المبحث السابق أيضاً المفهوم الشامل للأمن، وأنه أشمل من أمن الناس على دمائهم وأموالهم، بل إن أمن الدين والعقيدة والشريعة أهم من ذلك كله، وبينت أن الأمن بمفهومه الشامل يعني أمرين:-
الأول: في الدنيا وهو حماية الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بالمحافظة عليها، وحمايتها من المخاطر؛ ألا وهي حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وأن أي اعتداء على أمن هذه الضروريات هو اعتداء على الأمن. وكذلك حماية المجتمعات من عقوبة الله عز وجل لها على ما يظهر فيها من المنكرات على أيدي أعداء الأمن.
الثاني: السعي للحصول على الأمن الحقيقي الذي هو أمن الآخرة متمثلاً ذلك في أمن القبر وفي الأمن في دار السلام يوم القيامة وأن أي جهة تسعى لتفويت هذا الأمن على الناس فإنما هي العدو الحقيقي للأمن والسلام.(/83)
الوقفة الخامسة: ذكرت في ضوء الحديث عن المفهوم الشامل للأمن من هم الأعداء الحقيقيون لأمن الناس في الدنيا والآخرة، وفضحتهم وبينت أنهم أولئك الذين يحولون بين الناس وبين الالتزام بهذا الدين سواء بالشبهات، أو الشهوات وذلك بالاعتداء على أمن الناس في ضرورياتهم الخمس وهم بذلك يعرضون الناس للخوف والعذاب في الدنيا والآخرة، وذكرت أنهم ثلاث فئات:
الأولى: فئة الكفار والمنافقين
الثانية: فئة أهل البدع والشبهات
الثالثة: فئة أهل الشهوات والفسوق.
وبعد:
فما كان في هذه الرسالة من حق وصواب فمن الله عز وجل، فهو المان به وحده. وما كان فيه من زلل وخطأ فهو مني ومن الشيطان. وأستغفر الله منه. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
ضحى الخميس 8/6/1426هـ(/84)
فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:
فإن الله عز وجل خلق الثقلين الجن والإنس ليعبدوه، وسخر لهم ما في السموات والأرض ليستعينوا بذلك على القيام بهذه الغاية العظيمة. قال الله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات:56]، وجعل ذلك مركوز في عقولهم وفطرهم ولكن من رحمته سبحانه أنه لم يكلهم إلى ذلك فحسب بل أعانهم بإنزال الكتب وإرسال الرسل ليبينوا للناس غاية خلقهم ومصيرهم، ويعرفوهم بربهم سبحانه وأسمائه وصفاته وكيفية عبادته، ووعدهم إن هم قاموا بذلك بأن يأمنوا ويسعدوا ويسلموا في الدنيا على أنفسهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم، وفي الآخرة لهم الأمن التام بدخولهم دار السلام آمنين مطمئنين. وتوعدهم إن هم أعرضوا عن عبادته سبحانه وكفروا به بالخوف والجوع والمعيشة الضنك، والشقاء في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة. قال الله تعالى : "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" [الأعراف:96]، وقال تعالى: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ" [المائدة: 66،65]، وقال تعالى : "وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً" [الجن: 17،16]، وقال سبحانه: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" [طه: 124].
ولقد ذكَّر الله عز وجل مشركي قريش بهذه النعمة العظيمة ليوحدوه ويتركوا ما هم عليه من الشرك فقال سبحانه: "فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ" [قريش: 4،3] وقال سبحانه: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ" [العنكبوت: 67].
إذن فالأمن نعمة عظيمة من نعم الله عز وجل على عباده يطلبها الناس ويبحثون عنها بشتى الوسائل. وهو ضرورة من ضرورات الحياة. ولكن الناس يتفاوتون ويتشتت سعيهم في طلبها، حيث أخطأها الكثير منهم، ووفق الله عز وجل القليل من عباده إلى سبيل تحصيلها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وإن المتأمل في عالمنا المعاصر ليرى دون عناء ما يعج به من المخاوف والمزعجات والمقلقات، والقتل، والجوع، والأمراض النفسية والأسرية والاجتماعية ويرى الهلع على وجوه الكثير من الناس من جراء ما يهدد وجودهم وأعراضهم وأموالهم وقبل ذلك دينهم. وقد صاحب ذلك حملة ماكرة خبيثة ملبسة مضللة من الكفار، وأذنابهم المنافقين في وسائل إعلامهم المختلفة وذلك بالتلاعب بالمصطلحات، والتلبيس على الناس في معنى الأمن ووسائله، ومعنى الإرهاب وطرائقه. وجاءوا بزخرف من القول ليصرفوا الناس عن الأسباب الحقيقية للمخاوف وذهاب الأمن فأبعدوهم عن الأسباب الحقيقية لاختلال الأمن في حياة الأفراد والمجتمعات والدول والتي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم، وجعلها سنناً ثابتة لا تتغير ولا تتحول. وجاءوا بأسباب أملتها عليهم أهواؤهم ومصالحهم؛ فجعلوا الحق باطلاً والباطل حقاً. وهكذا شأن شياطين الجن والإنس الذين أخبرنا الله عز وجل عنهم بقوله: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ" [الأنعام: 112].
فبيَّن سبحانه في هذه الآية الكريمة أن تضليل شياطين الإنس والجن للناس بأقوالهم المزخرفة المضلِّلة لا ينطلي إلا على من ضعف دينه وإيمانه بالآخرة. وإلا فإن المؤمن بربه الذي يصدر عن كتابه سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لا يصغي لهذا المكر ولا يرضاه ولا يقبله.(/1)
يتحدث الاستاذ : ضميرية عن هذه الحرب الشرسة فيقول: (وإذا كانت الحروب العسكرية، ليست الميدان الوحيد للنزال والصراع، وليست الوسيلة المضمونة للغلبة على المسلمين، ولا الأداة المشروعة في المواثيق الدولية؛ فإنَّ هناك ميداناً آخر للنزال، وهو ميدان الفكر والإعلام، والدعاية والمعلومات، فليكنْ ذلك وسيلة مأمونةً ومضمونةَ التأثير في التشويه والتشويش.
والصورة القريبة لهذه الحرب الجديدة التي نراها اليوم ونعيش أحداثها، هي هذه الهجمة الشَّرسة على الإسلام والمسلمين بإلصاق تهمة «الإرهاب» و «التعصب» و «الأصولية»... بعد أن أسقطوا على هذه الألفاظ كلَّ نعوت الشرِّ والسُّوء. وقد كان اليهود وراء نشر هذه المصطلحات وإشاعتها، ثم وجدت قبولاً عند الدوائر المعادية للإسلام والمسلمين، وانتقلت بعد ذلك، عن طريق العدوى والتقليد الأعمى، إلى الصحافة ووسائل الإعلام العربية، بعد انتشار الصحوة الإسلامية، وفي أعقاب عودة شباب هذه الأمة إلى دينهم، بعد رحلة التيه والضياع والتغريب. في الوقت الذين يصفون أنفسهم بأنهم دعاة الأمن والسلام!!!
ولذلك كان من التخطيط اليهودي الصليبي أن يُرمى الإسلام والمسلمون بهذه التهم، وأن يُخلط بينها وبين حقِّ المسلمين في العمل على نشر الدعوة الإسلامية وحمايتها، وتعبيد الناس لربِّ العالمين، ومحاربة الأعداء لاستنقاذ المسلمين المستضعفين، وردّ حقوقهم المغتصبة...
وعند إشاعة هذه التهمة يدخل الإسلام والمسلمون في قفص الاتهام، ويُضطرُّون لإنفاق الجهد في الدفاع عن النفس، والعمل على نفي التهمة بكل الوسائل والأساليب، وعلى جميع المستويات، ويستتبع هذا: مواقفُ التبرير والتنازل والتمحُّل، ويومئذ يفرح الأعداء الماكرون بنجاح المخطط الذي أتقنوا تنفيذه حيث تبادلوا المواقع مع المسلمين، ووقفوا موقف الهجوم علينا، وهم الغارقون في الطين، والضالعون في الجريمة، والمفسدون في الأرض، بكل ألوان الفساد الديني والخلقي والسياسي والاجتماعي والأُسَري، بل إنهم هم المفسدون للحياة الفطرية والطبيعية في البر والبحر)(1).
ولما كانت الحملة على الإسلام وثوابته ومفاهيمه شديدة وشرسة ولاسيما في هذه السنوات الأخيرة من قبل الكفار وإخوانهم من المنافقين في ديار الإسلام؛ أصبح جهاد الدفع في هذه الحرب متعيناً على كل قادر بلسانه وقلمه وبيانه وماله، وذلك لرفع اللبس عن المسلمين وإزالة الشبهات وبيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، وذلك بالرجوع إلى القرآن وهديه ومجاهدة الأعداء به قال تعالى: "فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً" [الفرقان: 52].
ومشاركة مني مع إخواني المجاهدين للكفار والمنافقين ضد هذا الغزو الماكر الخبيث أكتب هذه الرسالة المتواضعة والتي تحمل قوله تعالى : "فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" [الأنعام: من الآية81] لعلي أجلي فيها المعنى القرآني الرباني للأمن وأسبابه ومصادره، ومعنى الإرهاب وضوابطه. ولعلي أن أسهم بذلك في إزالة اللبس والتدليس الذين تعرض له مفهوم الأمن والإرهاب، وانخدع به كثير من الناس، وأبين فيه إن شاء الله تعالى من هم الأعداء الحقيقيون للأمن وغير ذلك من المباحث. وقبل الدخول في صلب الموضوع ألخص بعض الدوافع التي دفعت إلى كتابة هذه الموضوع المهم ليتبين لنا أهميته، ومن أهم هذه الدوافع ما يلي:
أولاً: بيان نعمة الله عز وجل على عباده في الأمن وأن كثير من الناس في غفلة عن هذه النعمة العظيمة وأكثرهم لا يشكرون، وبيان عظمة هذه النعمة في عصرنا الحاضر بالذات، ولا سيما ونحن نرى من حرمها وقد أحاطت بهم المخاوف والأفزاع والقتل والتشريد وسلب الأموال وهتك الأعراض من كل جانب، وبيان أن هذه النعمة لا يقدرها حق قدرها إلا من فقدها. والحديث عن الأمن هو حديث عن ضرورة من ضروريات الحياة الإنسانية.
ثانياً: بيان المعنى الصحيح للأمن في الدنيا، وأنه أشمل من كونه في الأنفس والعقول والأموال والأعراض فحسب، بل إن أعظم الأمن هو الأمن في الأديان وحماية الناس من أن يفتنوا في دينهم وعقيدتهم. وهذا المفهوم الشامل قد غاب عن حياة كثير من الناس اليوم. وقد أسهم في تغييبه الإعلام الماكر للكافرين وإخوانهم من المنافقين حيث لم يضعوا للدين وحمايته أي اعتبار في تحقيق الأمن. مع أن الله عز وجل قد أفهمنا في كتابه الكريم أن أَيَّ خلل في أمن الناس فمصدره الخلل في دينهم وإيمانهم، فبضعف الدين والإيمان، أو غيابه يحصل اختلال الأمن في بقية ضروريات الإنسان من نفس ومال وعقل وعرض. فلعل في هذه الرسالة بسطا للمفهوم الشامل للأمن، وبيانا لسنة عظيمة من سنن الله التي لا تتبدل ولا تتحول، والتي ترسم لنا حقيقة الأمن وميزانه، ومتى يتحقق ومتى يختل وذلك في قوله سبحانه : "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" [الرعد: 11].(/2)
ثالثاً: مواجهة التلبيس المضلل للناس في هذا الزمان من أعداء هذا الدين من الكفار والمنافقين الذين أنتهزوا الأحداث الأخيرة في توظيفها ضد الدين وأهله، وحاولوا خداع الناس وتضليلهم بتحريف معنى الأمن والإرهاب عن معناهما الشرعي إلى المعنى الذي يريدونه، وتوظيفه في حرب الإسلام وأهله. فانطلى هذا التلبيس على كثير من المسلمين، وأصاب الكثير منهم الخوف والهلع من الكفار. ولعل في هذه الرسالة كشفا لألاعيب الأعداء وتلبيسهم وبيان تلاعبهم بالمصطلحات. يتحدث الأستاذ ضميرية عن خطورة التلبيس والتلاعب بالمصطلحات في قلب الحقائق فيقول: (في أدبنا العربي ألوان من الكتابة الطريفة؛ فلا يكاد يخطر ببالك فنٌّ من الفنون، أو باب من أبواب القول، إلا وتجد فيه مبحثاً في كتاب، أو تجد فيه كتاباً قائماً برأسه. ولعلَّ أول ما يخطر بالذاكرة عند هذا القول: ما كتبه العلاّمة اللغوي الأديب، أبو منصور الثعالبي (المتوفى 429هـ) في كتابه «تحسين القبيح وتقبيح الحسن»، وقد جمع فيه ما قيل من نثر أو شعر في تحسين ما تمَّ التعارف على تقبيحه، وتقبيح ما اتفق الناس على تحسينه، وأودعه لُمَعاً من غُرر البلغاء ونُكَت الشعراء في تحسين القبيح وتقبيح الحسن؛ إذ هما غاية البراعة والقدرة على جزل الكلام في سرِّ البلاغة وسحر الصناعة...
وليس عجبا كذلك – إذا اختلت المفاهيم، وانقلبت الموازين وتبدلت القيم- أن يصبح الحياء عيبا قبيحا، فيقال : الحياء يمنع الرزق، وقد قُرِنَتِ الهيبةُ بالخيبة، والحياءُ بالحرمان. وقال بعضهم: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان وأموركم بالوقاحة والإبرام، ودَعُوا الحياءَ لربَّات الحجال...
وقد يذمُّ المرء شيئاً حسنا يعتقد حُسْنه وفائدته، ولكنه يقبِّحه ويذمّه ليخلص من حرج، أو ليعتذر عمّا بَدَر منه؛ فيمدحه تارة ويذمُّه أو يقبِّحه تارة أخرى...
طرأتْ هذه الفكرةُ، (تقبيحُ الحسنِ وتحسينُ القبيح)، على ذهني وأنا أتابع بعض الأخبار والكتابات حيال الإرهاب، وقد تكاثرت في هذه الآونة، وتناولها الكاتبون والباحثون والمحلِّلون من زوايا مختلفة، وبأساليب شتى، ولأغراض متباينة... تماماً كما تعوَّدنا أن نجد كلَّ بضع سنوات اهتماماً بظاهرةٍ أو مشكلة – حقيقية أو مصطنعة- تطفو على السطح، وتسخَّر من أجلها جميع وسائل الإعلام ومنافذ النشر؛ فأحياناً يعيش العالم في حالة هوس بالمؤتمرات المحلية والإقليمية والدولية، تعقد هنا وهناك، وأحياناً أخر نلحظ عناية بالحديث عن الاستنساخ والهندسة الوراثية، وفي مرحلة أخرى يعيش العالم في حمَّى الجمرة الخبيثة مقترناً بالأرهاب، ثم يتناسى الناس، أو يتناسى أصحاب المصلحة، الحديث عن الأولى ولا يزال الاهتمام بالثانية (الإرهاب) يتنامي ويتعاظم، حيث يتعاظم تأثير الدعاية والإعلام والإعلان في هذا العصر، وأصبح وسيلة من وسائل الضغط على الرأي العام، وقوةً خطيرة مؤثِّرة في الإقناع)(2).
ويبين ابن القيم رحمه الله تعالى خطر التلبيس عند قوله تعالى: "وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" [البقرة: 42] فيقول: (فنهى عن لبس الحق بالباطل وكتمانه. ولبسه به: خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر. ومنه التلبيس، وهو التدليس والغش الذي يكون باطنه خلاف ظاهره، فكذلك الحق إذا لبس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحق وتكلم بلفظ له معنيان: معنى صحيح، ومعنى باطل فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح ومراده الباطل فهذا من الإجمال في اللفظ)(3). ولخطورة تلبيسهم نجد من أبناء المسلمين من هو سمَّاع لهم يردد ما يزخرفون به دون تفكير وتمحيص.
رابعاً: فضح الأعداء الحقيقيين لأمن الناس الذين يتترسون وراء مكافحة الإرهاب، والحرص على توفير الأمن للناس؛ مع أنهم مصدر الإرهاب والخوف والجرائم والفساد، وبيان ذلك بالأدلة الموثقة من أقوالهم وأفعالهم وجرائمهم الشنيعة، وإفسادهم للدين والنفس والعقل والمال والعرض بشتى وسائلهم، وبيان ما تعانيه مجتمعاتهم من الأمراض النفسية والاجتماعية البشعة التي أتلفت الأنفس والأموال والأعراض، وساعدهم في ذلك أناس من المنافقين من بنى جلدتنا غرتهم أنفسهم، وشياطينهم من الأنس والجن فراحوا ينفذون ما يريده الغرب الكافر في تغريب الأمة، والسير بها في ركاب الغرب، ووضعوا أنفسهم جنباً إلى جنب في خندق الكفار في مواجهة مصلحي الأمة ومجاهديها بحجة مكافحة التطرف والإرهاب. فكان لابد من فضح هؤلاء وأسيادهم وتعريف الناس بأنهم هم الأعداء الحقيقيون للأمن، وبيان خداعهم للناس؛ لأنه ما دام أن الحق مختلط بالباطل. وسبيل المجرمين لم يتميز عن سبيل المؤمنين؛ فإن أمر هذا الدين سيبقى مشوهاً عند الناس، وسيبقى الإلتباس فيه قائماً، مما يؤدي إلى ظهور الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق؛ عياذاً بالله من ذلك.(/3)
كما أن استبانة سبيل المجرمين ومناهجهم تساعد في تميز الصف المؤمن، وتنقيته من شوائب النفاق والمنافقين. وهذا أمر مهم وعامل أساس لإظهار الحق وإزهاق الباطل: "لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ" [الأنفال: 42] فالملاحظ في الآونة الأخيرة كثرة الكتابة عن الأمن والإرهاب والإرهابيين، وتناول الكتاب والباحثون ووسائل الإعلام المختلفة هذه الظاهرة من زوايا مختلفة؛ بعضهم عن خبث ومكر وبعضهم عن جهل وتغرير، ولا يزال الاهتمام بالإرهاب وما يتفرع عنه يتنامى، ويتعاظم بفضل الدعاية والإعلان والإعلام، حتى أصبح حديث الناس ووسيلة ضغط على الرأي العام. وتبنى ذلك دولٌ ذات قوة ونفوذ كدولة أمريكا الطاغية تحدوها مصالح خاصة وأهداف غير خفية على المتأملين والمستبصرين. والأدهى من ذلك أن تنطلي هذه الدعايات الكاذبة الباطلة على كثير من المسلمين. فكان لابد من تبصير الناس بحقيقة الحال، وبما يراد لهم من وراء هذه الدعايات المزخرفة التي لا تعدو أن تكون موجهة للثابتين على أصول هذا الدين والمستعصين على الكفار وما يريدون، والذين يعلنون بغضهم وبراءتهم من الكفار ومحاربة ومجاهدة المعتدين المحاربين منهم.
خامساً: بيان عظمة دين الإسلام، وأنه إنما جاء رحمة للعالمين، وأنه مهما بحث الناس عن الأمن والسلام بعيداً عنه فلن يجدوا إلا الخوف والشر والشقاء، ومن أراد الأمن والراحة والسلام في الدنيا والآخرة فلن يجدها إلا في ظل الإسلام والإيمان. وسأبين في هذا المبحث إن شاء الله تعالى أثر الالتزام بعقيدة الإسلام وأحكامه على أمن الفرد في نفسه، وعلى أمن الأسر، وعلى أمن المجتمعات البشرية كلها، وأنه لا مصدر للأمن إلا من هذا الدين الرباني القائم على عبادة الله وحده وطاعته وذكره وشكره. ومن ابتغى الأمن في غيره فقد ضل سواء السبيل. قال الله تعالى: "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ" [النحل:112]، وقال تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" [الأنعام:82].
سادساً: مقاومة الحرب الموجهة اليوم من الكفار، وأذنابهم من المنافقين على عقيدة الإسلام الراسخة، وعلى أهلها المتمسكين بأصولها وثوابتها، واتهام هذه الفئة من المسلمين بأنهم منبع الفكر الإرهابي، وأنهم متطرفون لأنهم ينادون بعقيدة الولاء والبراء وما تقتضيه من موالاة المؤمن ومناصرته، وعداوة الكفار وجهادهم، وفضح كل ما يستخدمونه في هذه الحرب من وسائل الإعلام، والمال في تمرير هذه الدعوى والتي انخدع بها بعض المنتسبين لهذا الدين، بل بعض المنتسبين للعلم وأخذوا يرددون ما يقوله الأعداء، دون وعي لخطورة هذا الأمر.
سابعاً: توجه أنظار كثير من الناس اليوم إلى توفير الأمن على أنفسهم وأرزاقهم في الحياة الدنيا فحسب، ونسيان الأمن الحقيقي والسعادة الكبرى في الآخرة، وعدم أو ضعف الحرص على توفيرها، وفعل الأسباب التي توصل إلى الأمن يوم الفزع الأكبر، والفوز بدار الأمن والسلام، والتي أعدها الله عز وجل لعباده المتقين . قال تعالى: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ" [الحجر: 46،45] وقال سبحانه: "وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" [يونس: 25]. فلعل في هذه الدراسة تنبيه لنفسي ولإخواني المسلمين إلى الحرص الشديد، والسعي الحثيث إلى الأخذ بأسباب الأمن من عذاب الله تعالى في الدنيا وفي البرزخ ويوم القيامة الذي من أمن فيه فهو الآمن على الحقيقة. وكيف لا وهم الذين منَّ اللهُ عز وجل عليهم بالسلامة المطلقة من كل خوف وحزن وهم وغم وتعب ووصب في جنات الخلد والنعيم . قال الله عز وجل عنهم: "وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ" [فاطر:35،34].
وفي ختام هذه المقدمة السريعة أشير إلى أهم فصول هذه الرسالة التي سأتناولها بالبحث المفصل إن شاء الله تعالى.
الفصل الأول: وفيه مبحثان
المبحث الأول : تعريفات (الأمن – الإرهاب)
المبحث الثاني: ذكر بعض ما ورد من الآيات والأحاديث في ذكر الأمن والإرهاب وما يتفرع عنهما.
الفصل الثاني: المفهوم الشامل للأمن وأنواعه ومصادره.
الفصل الثالث: من هم أعداء الأمن؟
الخاتمة.
_____________
(1) يسألونك عن الأرهاب، د. عثمان ضميرية ص10،9 (بتصرف يسير).
(2) يسألونك عن الأرهاب، ص 12-14 باختصار.
(3) الصواعق المرسلة 3/926.
الفصل الأول(/4)
تعريف الأمن والإرهاب
وذكر بعض ما ورد فيهما من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية
وفيه مبحثان :
المبحث الأول: ... تعريفات (الأمن – الإرهاب).
المبحث الثاني: ذكر بعض ما ورد من الآيات والأحاديث في الأمن والإرهاب وما يتفرع عنهما.
المبحث الأول
تعريف الأمن والإرهاب وأصل اشتقاقهما
لابد في بداية هذا البحث من إلقاء بعض الأضواء اللغوية على معنى هاتين الكلمتين وأصل اشتقاقهما، لنصل بعد ذلك إلى تحديد المعنى الاصطلاحي لهما والخلاف المنتشر حول ذلك، قبل الحكم على هذا المصطلح وأصحابه الذين ينطبق عليهم، أو الحكم لهم؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره.
وتزداد أهميةُ هذا التحديد للمصطلح – أيّاً كان- إذا وضعنا بالحسبان أنَّ اللغة هي أداة التفكير والبيان، وهي وسيلة التفاهم والتخاطب بين الناس، كما أنَّ الألفاظ التي ينطق بها الإنسان ويعبِّر بها عما في نفسه، قد تختلف دلالتها ومعانيها، عندما تغدو مصطلحاً فنيّاً يشيع استعماله في علمٍ من العلوم، أو في فنٍ من الفنون.
ومن الجدير بالذكر هنا: التذكيرُ بأنَّ كلَّ مصطلح علميِّ ينشأ في بيئة فكرية وحضارية تؤثر فيه، وتجعله ينطوي على اتجاهات عقلية وحضارية تتفق وشخصية البيئة والأمة وذاتيتها. وهذا كلُّه يعطي دليلاً آخر على أهمية تحديد المصطلحات العلمية ومعانيها، لئلا يلتبس الأمر ويقع الخلط والفساد والخلاف في النظر والاستدلال(1).
أولاً: تعريف الأمن:
قال في لسان العرب: (الأمان والأمانة بمعنىً، وقد أمنت فأنا آمن... والأمن: ضد الخوف، والأمانة : ضد الخيانة... فأما آمنته المتعدي فهو ضد أخفته. وفي التنزيل "وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ" [قريش:4].
قال ابن سيده: الأمن نقيض الخوف. أمن فلاناً يأمن أمناً وأمَناً... والأمنة: الأمن ومنه "أَمَنَةً نُعَاساً" [آل عمران:154] و"إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً" [الأنفال:11]... وفي الحديث : «النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد. وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى الأمة ما توعد»(2) أراد بوعد السماء: إنشقاقها وذهابها يوم القيامة. وذهاب النجوم : تكويرها وانكدارها وإعدامها. وأراد بوعد أصحابه ما وقع بينهم من الفتن. وكذلك أراد بوعد الأمة ... وعن اللحياني: ورجل أمن وأمين بمعنى واحد. وفي التنزيل: "وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ" [التين:3] أي: الآمن يعني مكة وهو من الأمن... وقوله عز وجل: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ" [الدخان:51] أي قد أمنوا فيه من الغِيَر... والمأمن: موضع الأمن. والأمين: المستجير ليأمن على نفسه) (3).
ويقول الاستاذ محمد البرزنجي: (والمتدبر لآيات القرآن الكريم يرى أن الآيات القرآنية تتحدث عن مستويين من الأمن أو نوعين منه:
الأول: الأمن على مستوى الفرد (عامل الأمن النفسي).
الثاني: الأمن على المستوى الجماعي (الأمة).
أولاً: الأمن الفردي أو (عامل الأمن النفسي): يذكر الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام وهو يحاور قومه المشركين: "فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" [الأنعام: 82،81].
من المعروف أن عقيدة التوحيد تأخذ مساحة واسعة من الآيات القرآنية؛ وفي هذه الآية رَبْطٌ واضح وعلامة قوية بين رسوخ عقيدة التوحيد في النفس البشرية وبين الأمن والاطمئنان؛ أما الذين لم تخالط عقيدة التوحيد قلوبهم، ولم تملأ نفوسهم فلن يشعروا أبداً بذلك الاطمئنان والأمن النفسي؛ فهُمْ في الدنيا وَجلُونَ من سخط الله، وفي الآخرة ينتظرهم عذاب من الله أليم، ويظلون طول حياتهم يخافون من المستقبل المجهول، ولا يعرفون معنى لوجودهم في هذا الكون الرحيب..
ثانياً: الأمن الجماعي (أمن الأمة الإسلامية): قال الحق سبحانه: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ".
قال الشوكاني في تفسير هذه الآية : والمعنى أنه سبحانه يجعل لهم مكان ما كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمناً، ويُذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه بحيث لا يخافون إلا الله ولا يرجون غيره)(4).
وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيدٌ من تحديد معنى هذا المصطلح عند ذكر بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في ذلك.
ثانياً: تعريف الإرهاب:
جاءت الراء والهاء والباء لتدل على أصلين: أحدهما يدلُّ على خوفٍ، والآخر على دقَّةٍ في الشيء وخفّةٍ فيه.(/5)
فمن الأصل الأول: (رَهِب) يَرْهَبُ رهَبَاً ورُهْبَاَ، ورَهْبَة: خاف. و(رهَب فلاناً ورهّبَه واسترهبَهُ): خوّفه وفزّعه. و(استرهبه)- أيضاً: استدعى رهبته حتى رهبه الناس. و(ترهّبَه): توعّده. و(الرّاهبة): الحالة التي تُرهِب أي تُفْزِع وتخوِّف.
و(ترهَّب الرَّاهبُ): انقطع للعبادة في صومعته. و(الرَّاهِبُ) المتعبِّد في صومعةٍ من النصارى، يتخلى عن أشغال الدنيا وملاذّها، زاهداً فيها معتزلاً أهلها. ويجمع على (رُهْبَان). وقد يكون الرهبان واحداً، فيجمع على رَهَابِين ورَهَابِنَة. و(الرَّهْبانيَّة والرَّهْبَنَة): التخلِّي عن أشغال الدنيا، وتَرْكُ ملاذها، والزهدُ فيها والعزلةُ عن أهلها. وأصلها من الرَّهْبَة، ثم صارت اسماً لما فضل عن المقدار وأفرط فيه.
وقال ابن الأثير: الرَّهبانيَّة منسوبة إلى الرَّهْبَنَة بزيادة الألف (والإرْهَابُ): الإزعاج والإخافة، تقول: يَقْشَعِرُّ الإهابُ إذا وقع منه الإرهابُ. ومن المجاز قولهم: أرهب الإبلَ عن الحوض: ذادها عنه وطردها، و(أرهبَ عنه الناسَ بأسُه ونجدتُه). ويقال: «لم أرهبْ بك»، أي: لم أسْتَرِبْ، وقالت العربُ: رَهَبُوتٌ خيرٌ من رَحَمُوتِ. يعني لأَن تُرهِب خير من أن تَرْحَم. أو لأَن تُرهَب خير من أن تُرْحَم. والمعنيان متلاقيان. وقال الراغب الأصفهاني في المفردات: (الرهبة والرُّهْبُ والرَّهَب: مخافة مع تحرز واضطراب).
ومن الأصل الثاني: وهو الدِّقَّة والخِفَّةُ: (الرَّهْب): النَّصل الرقيق، والجمع رهاب، والرَّهْب أيضاً، الجملُ الضَّامر، والناقة المهزولة. و(الرَّهاب): غُضروف كاللسان معلَّق في أسفل الصدر مشرف على البطن)(5). وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيدٌ عن هذا المصطلح عند الحديث عن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في ذكر هذا المصطلح.
وأما تعريف الإرهاب في الاجتهاد الفقهي المعاصر فقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة تاريخ 10/1/2001 بياناً عن الإرهاب قالوا فيه: «الإرهاب هو العدوان الذي يمارسه أفرادٌ أو جماعات أو دول بغياً على الإنسان (دينه، دمه، ماله، عقله، عرضه) ويشمل صنوف التخويف والأذى والتهديد والقتل بغير حق وما يتصل بصور الحرابة وإخافة السبيل وقطع الطريق...» (6). وتجدر الإشارة إلى أنه لم يأت في الكتاب ولا في السنة ذكر مصطلح (الإرهاب) البتة.
أما تعريفها في اللغات الأجنبية فيقول د. ضميرية:
(أتتْ كلمة (الرهبة) من اللغة اللاتينية، وبعد أن ضربت بجذورها في لغات المجموعة اللاتينية، انتقلت فيما بعد إلى لغات أوروبية أخرى، فهي في اللغة الفرنسية (Terreur)، وفي اللغة الإنجليزية (Terror).
وقد عرّفها قاموس «المورد» بمعان تندرج في ثلاث مجموعات، الأولى تنتظم المعاني الآتية: رُعب، ذعر، فظاعة. وفي المجموعة الثانية : كلُّ ما يوقع الرعب في النفوس، ومظهر رهيب، ومصدر قلق، وشخص أو شيء مروِّع، وبخاصة طفل مزعج. وجاءت المعاني الآتية في المجموعة الثالثة: الإرهاب، وعهد الإرهاب.
وفيه أيضاً: (Terrorism) إرهاب، ذعر ناشيء عن الإرهاب، وكذلك (Terrorist) الإرهابي. و(Terrorize): يرهب، يروِّع، يكرهه على الإرهاب، أو يأمره به.
كما يعرِّف «قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية» المصطلحَ على أنه: حكمٌ من طريق التهديد، كما وجَّهه ونفّذه الحزب الموجود في السلطة في فرنسا، أيام ثورة 1789-1794) (7).
المبحث الثاني
ذكر بعض الآيات والأحاديث
الواردة في الأمن والإرهاب
أولاً: ذكر بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في ذكر (الأمن)
ورد في كتاب الله عز وجل آيات عديدة في ذكر الأمن وما يتصرف عنه وكذلك في الأحاديث النبوية.
فأما الآيات التي تحدثت عن الأمن فأذكر منها ما يلي:
الآية الأولى: قوله تعالى: "وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" [الأنعام: 82،81،80].
وهذه الآية من سورة الأنعام هي الأصل الذي سأنطلق منه إن شاء الله تعالى في تأليف هذا الكتاب وما يحتويه من فصول ومباحث، لأن فيها تحديداً لمفهوم الأمن في نظر الشرع. وفيها تحديد لمصدر الأمن الحقيقي، وتحديد لأعداء الأمن وأسباب فقده أو ضعفه.
ونظراً لهذه الأهمية الكبيرة لهذه الآية فيحسن بنا أن نقف على المعاني الكبيرة التي تتضمنها من خلال أقوال بعض المفسرين الذين أطالوا الوقوف عندها.
يقول شيخ المفسرين الإمام الطبري رحمه الله تعالى:(/6)
«يقول تعالى ذكره: وجادل إبراهيم قومه في توحيد الله وبراءته من الأصنام، وكان جدالهم إياه قولُهم: أن آلهتم التي يعبدونها خير من إلهه. قال إبراهيم: «أتحاجوني في الله»، يقول: أتجادلوني في توحيدي الله وإخلاصي العمل له دون ما سواه من آلهة «وقد هدان»، يقول: وقد وفقني ربي لمعرفة وحدانيته، وبصرني طريق الحق حتى أيقنتُ أن لا شيء يستحق أن يعبد سواه «ولا أخاف ما تشركون به»، يقول: ولا أرهب من آلهتكم التي تدعونها من دونه شيئاً ينالني به في نفسي من سوء ومكروه. وذلك أنهم قالوا له: «إنا نخاف أن تمسَّك آلهتنا بسوء من برص أو خبل، لذكرك إياها بسوء»! فقال لهم إبراهيم: لا أخاف ما تشركون بالله من هذه الآلهة أن تنالني بضر ولا مكروه، لأنها لا تنفع ولا تضر «إلا أن يشاء ربي شيئاً»، يقول: ولكن خوفي من الله الذي خلقني وخلق السموات والأرض، فإنه إن شاء أن ينالني في نفسي أو مالي بما شاء من فناء أو بقاءٍ، أو زيادة أو نقصان أو غير ذلك، نالني لأنه القادر على ذلك... «وسع ربي كل شيء علماً»، يقول: وعلم ربي كل شيء، فلا يخفى عليه شيء، لأنه خالق كل شيء، ليس كالآلهة التي لا تضر ولا تنفع ولا تفهم شيئاً، وإنما هي خشبة منحوتةٌ، وصورة ممثلة «أفلا تتذكرون»، يقول: ألا تعتبرون، أيها الجهلة، فتعقلوا خطأ ما أنتم عليه مقيمون، من عبادتكم صورةٍ مصوّرة وخشبة منحوتة، لا تقدر على ضر ولا على نفع، ولا تفقه شيئاً ولا تعقله، وترككم عبادة من خلقكم وخلق كل شيء، وبيده الخير، وله القدرة على كل شيء، والعالم بكل شيء...
«وكيف أخاف ما أشركتم »: وهذا جواب إبراهيم لقومه حين خوفوه من آلهتهم أن تمسَّه، لذكره إياها بسوء، في نفسه بمكروه، فقال لهم: وكيف أخاف وأرهب ما أشركتموه في عبادتكم ربَّكم فعبدتموه من دونه، وهو لا يضر ولا ينفع؟ ولو كانت تنفع أو تضر لدفعت عن أنفسها كسري إياها وضربي لها بالفأس! وأنتم لا تخافون الله الذي خلقكم ورزقكم، وهو القادر على نفعكم وضركم في إشراككم في عبادته إياه «ما لم ينزّل به عليكم سلطاناً»، يعني: ما لم يعطكم على إشراككم إياه في عبادته حُجّة، ولم يضع لكم عليه برهاناً، ولم يجعل لكم به عذراً «فأي الفريقين أحقّ بالأمن»، يقول: أنا أحق بالأمن من عاقبة عبادتي ربي مخلصاً له العبادة، حنيفاً له ديني، بريئاً من عبادة الأوثان والأصنام، أم أنتم اللذين تعبدون من دون الله أصناماً لم يجعل الله لكم بعبادتكم إياها برهاناً ولا حجة «إن كنتم تعلمون»، يقول: إن كنتم تعلمون صدق ما أقول، وحقيقة ما أحتجُّ به عليكم، فقولوا وأخبروني: أيُّ الفريقين أحق بالأمن؟...
"الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ"
اختلف أهل التأويل في الذي أخبر تعالى ذكره عنه أنه قال هذا القول: أعني: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ"، الآية.
فقال بعضهم: هذا فصلُ القضاء من الله بين إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم، وبين من حاجّه من قومه من أهل الشرك بالله، إذ قال لهم إبراهيم: «وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأيّ الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون»؟ فقال الله تعالى ذكره، فاصلاً بينه وبينهم: الذين صدَّقوا الله وأخلصُوا له العبادة، ولم يخلطوا عبادتهم إياه وتصديقهم له بظلم يعني: بشرك ولم يشركوا في عبادته شيئاً، ثم جعلوا عبادتهم لله خالصة، أحق بالأمن من عقابه مكروه عبادته ربَّه، من الذين يشركون في عبادتهم إياه الأوثان والأصنامَ، فإنهم الخائفون من عقابه مكروه عبادتهم. أمَّا في عاجل الدنيا فإنهم وَجلُون من حلول سخط الله بهم، وأما في الآخرة، فإنهم الموقنون بأليم عذاب الله...
وقال آخرون: هذا جوابٌ من قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم لإبراهيم، حين قال لهم: «أيّ الفريقين أحق بالأمن؟ فقالوا له: الذين آمنوا بالله فوحّدوه أحق بالأمن، إذ لم يلبسوا إيمانهم بظلم.
"وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ"
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: «وتلك حجتنا»، قول إبراهيم لمخاصميه من قومه المشركين: «أي الفريقين أحق بالأمن»، أمن يعبد رباًّ واحداً مخلصاً له الدين والعبادة، أم من يعبد أرباباً كثيرة؟ وإجابتهم إياه بقولهم: «بل من يعبد ربّاً واحداً أحق بالأمن»، وقضاؤهم له على أنفسهم، فكان في ذلك قطع عذرهم وانقطاع حجتهم، واستعلاء حجة إبراهيم عليهم. فهي الحجة التي أتاها الله إبراهيم على قومه) (8) م.هـ.(/7)
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عند قوله سبحانه: "وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" [الأنعام:81].
(يقول لقومه: كيف يسوغ في عقل، أو عند ذي لب أن أخاف ما جعلتموه لله شريكاً في الإلهية وهي ليست بموضع نفع، ولا ضر وأنتم لا تخافون أنكم أشركتم بالله في إلهيته أشياء لم ينزل بها حجة عليكم ولا شرعها لكم. فالذي أشرك بخالقه وفاطره وباريه – الذي يقرُّ بأنه خالق السماوات والأرض ورب كل شيء ومليكه ومالك الضر والنفع- آلهة لا تخلق شيئاً وهي مخلوقة، ولا تملك لنفسها ولا لعابديها ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وجعلها نداً له ومثلا في الإلهية تعبد ويسجد لها ويخضع لها ويتقرب إليها أحق بالخوف ممن لم يجعل مع الله إلهاً آخر، بل وَحّدَه وأفرده بالإلهية والربوبية والعظمة والسلطان والحب والخوف والرجاء فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون. فحكم الله سبحانه بينهما بأحسن حكم خضعت له القلوب، وأقرت به الفطر، وانقادت له العقول فقال: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" [الأنعام:82](9) .
ويقول في موطن آخر عند نفس الآية أيضاً:
(ولما نزل قوله تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" [الأنعام:82].
قال الصحابة: وأينا يارسول الله لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال: ذلك الشرك، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: "إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ"(10) [لقمان:13].
فلما أشكل عليهم المراد بالظلم، وظنوا أن ظلم النفس داخل فيه، وأن من ظلم نفسه أي ظلم كان لا يكون آمناً، أجابهم – صلوات الله وسلامه عليه- بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق، هو الشرك. وهذا والله الجواب الذي يشفي العليل ويروي الغليل، فإن الظلم المطلق التام هو الشرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها، والأمن والهدى المطلق: هو الأمن في الدنيا والآخرة والهدى إلى الصراط المستقيم؛ فالظلم المطلق التام مانع من الأمن والهدى المطلق. ولا يمنع ذلك أن يكون مطلق الظلم مانعاً من مطلق الأمن ومطلق الهدى، فتأمله. فالمطلق للمطلق والحصة للحصة)(11).
ويقول صاحب الظلال- رحمه الله تعالى- عند هذه الآية:
(إن الفطرة حين تنحرف تضل؛ ثم تتمادى في ضلالها، وتتسع الزاوية ويبعد الخط عن نقطة الابتداء، حتى ليصعب عليها أن تثوب.. وهؤلاء قوم إبراهيم – عليه السلام- يعبدون أصناماً وكواكب ونجوماً. فلا يتفكرون ولا يتدبرون هذه الرحلة الهائلة التي تمت في نفس إبراهيم. ولم يكن هذا داعياً لهم لمجرد التفكير والتدبر. بل جاءوا يجادلونه ويحاجونه. وهم على هذا الوهن الظاهر في تصوراتهم وفي ضلال مبين.
ولكن إبراهيم المؤمن الذي وجد الله في قلبه وعقله وفي الوجود كله من حوله، يواجههم مستنكراً في طمأنينة ويقين «قال: أتحاجوني في الله وقد هدانِ؟»..
أتجادلونني في الله وقد وجدته يأخذ بيدي، ويفتح بصيرتي، ويهديني إليه، ويعرفني به، لقد أخذ بيدي وقادني فهو موجود- وهذا هو في نفسي دليل الوجود- لقد رأيته في ضميري وفي وعيي، كما رأيته في الكون من حولي. فما جدالكم في أمر أنا أجده في نفسي ولا أطلب عليه الدليل. فهدايته لي إليه هي الدليل؟!.
«ولا أخاف ما تشركون به»..
وكيف يخاف من وجد الله؟ وماذا يخاف ومن ذا يخاف؟ وكل قوة- غير قوة الله- هزيلة وكل سلطان- غير سلطان الله- لا يُخاف؟!
ولكن إبراهيم في عمق إيمانه، واستسلام وجدانه، لا يريد أن يجزم بشيء إلا مرتكناً إلى مشيئة الله الطليقة، وإلى علم الله الشامل:
«إلا أن يشاء ربي شيئاً. وسع ربي كل شيء علماً».
فهو يكل إلى مشيئة الله حمايته ورعايته؛ ويعلن أنه لا يخاف من آلهتهم شيئاً، لأنه يركن إلى حماية الله ورعايته. ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما شاء الله، ووسعه علمه الذي يسع كل شيء.
«وكيف أخاف ما أشركتم، ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا؟ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟».(/8)
إنه منطق المؤمن الواثق المدرك لحقائق هذا الوجود. إنه إن كان أحد قميناً بالخوف فليس هو إبراهيم، وليس هو المؤمن الذي يضع يده في يد الله ويمضي في الطريق. وكيف يخاف آلهة عاجزة – كائنة ما كانت هذه الآلهة، والتي تتبدى أحياناً في صورة جبارين في الأرض بطاشين؛ وهم أمام قدر الله مهزولون مضعوفون!- كيف يخاف إبراهيم هذه الآلهة الزائفة العاجزة، ولا يخافون هم أنهم أشركوا بالله ما لم يجعل له سلطاناً ولا قوة من الأشياء والأحياء؟ وأي الفريقين أحق بالأمن؟ الذي يؤمن به ويكفر بالشركاء؟ أم الذي يشرك بالله مالا سلطان له ولا قوة؟ أي الفريقين أحق بالأمن، لو كان لهم شيء من العلم والفهم؟!
هنا يتنزل الجواب من الملأ الأعلى ؛ ويقضي الله بحكمه في هذه القضية:
"الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ"
الذين آمنوا وأخلصوا أنفسهم لله، لا يخلطون بهذا الإيمان شركاً في عبادة ولا طاعة ولا اتجاه. هؤلاء لهم الأمن، وهؤلاء هم المهتدون..)(12) أ.هـ.
وبعد هذا الاستعراض لأقوال بعض المفسرين في تفسيرهم لهذه الآيات من سورة الأنعام يمكننا الوصول إلى الفوائد التالية:
الفائدة الأولى:
إن الثبات والطمأنينة والسكينة لا تسكن إلا في قلب الموحد لربه المتبرئ من الشرك وأهله، فإذا ذهب التوحيد فليس هناك إلا الخوف والقلق والاضطراب.
الفائدة الثانية:
قوة حجة الموحد، وارتفاعها على حجة المشركين الداحضة المتهافتة، وقوتها وقهرها لكل حجة تخالفها.
الفائدة الثالثة:
توحيد الله عز وجل والبراءة من الشرك تثمر لصاحبها الأمن والأمان والهداية والسلامة من المخاوف في الدنيا ويوم موته ويوم القيامة. والعكس من ذلك الشرك- والعياذ بالله تعالى- فإنه يورث لصاحبه الخوف والشقاء والخذلان في دنياه ويوم موته ويوم يبعث يوم القيامة حياً. والعبد محتاج إلى الأمن في جميع أحواله ولكن حاجته إلى الأمن والسلامة في هذه المواطن أشد، ولذلك امتن الله عز وجل على أنبيائه وأوليائه الموحدين بذلك كما في قوله تعالى عن يحي ابن زكريا عليهما الصلاة والسلام: "وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً" [مريم:15] وذكر مقولة عبده ورسوله عيسى عليه الصلاة والسلام في مهده : "وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً" [مريم:33]. ويعلق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على هذه الآيات بقوله: (قيل: ما الحكمة في تقييده السلام في قصتي يحيى والمسيح صلوات الله عليهما بهذه الأوقات الثلاثة؟
فَسِرُّه والله أعلم: أن طلب السلامة يتأكد في المواضع التي هي مظان العطب، ومواطن الوحشة، وكلما كان الموضع مظنة ذلك تأكد طلب السلامة، وتعلقت بها الهمة، فذكرت هذه المواطن الثلاثة لأن السلامة فيها آكد وطلبها أهم، والنفس عليها أحرص، لأن العبد فيها قد انتقل من دار كان مستقراً فيها موطن النفس على صحبتها وسكناها إلى دار هو فيها معرض للآفات والمحن والبلاء؛ فإن الجنين من حين خرج إلى هذه الدار انتصب لبلائها وشدائدها ولأوائها ومحنها وأفكارها كما أفصح الشاعر بهذا المعنى حيث يقول:
تأمل بكاء الطفل عند خروجه
تجد تحته سراً عجيباً كأنه
وإلا فما يبكيه منها وإنها
... ... إلى هذه الدنيا إذا هو يولد
بكل الذي يلقاه منها مهدد
لأوسع مما كان فيه وأرغد
ولهذا من حين ابتدرته طعنة الشيطان في خاصرته فبكى لذلك ولما حصل له من الوحشة بفراق وطنه الأول وهو الذي أدركه الأطباء والطبائعيون. وأما ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فليس في صناعتهم ما يدل عليه، كما ليس فيها ما ينفيه؛ فكان طلب السلامة في هذه المواطن من آكد الأمور.
الموطن الثاني: خروجه من هذه الدار إلى دار البرزخ عند الموت ونسبة الدنيا إلى تلك الدار كنسبة داره في بطن أمه إلى الدنيا تقريباً وتمثيلاً، وإلا فالأمر أعظم من ذلك وأكبر. وطلب السلامة أيضاً عند انتقاله إلى تلك الدار من أهم الأمور.
الموطن الثالث: موطن يوم القيامة يوم يبعث الله الأحياء. ولا نسبة لما قبله من الدور إليه. وطلب السلامة فيه آكد من جميع ما قبله؛ فإن عطبه لا يستدرك، وعثرته لا تقال، وسقمه لا يداوى، وفقره لا يسد. فتأمل كيف خص هذه المواطن بالسلام لشدة الحاجة إلى السلامة فيها.(/9)
واعرف قدر القرآن، وما تضمنه من الأسرار، وكنوز العلم والمعارف التي عجزت عقول الخلائق عن إحصاء عشر معشارها. وتأمل ما في السلام من الزيادة على السلامة من الأنس وذهاب الوحشة. ثم نزل ذلك على الوحشة الحاصلة للعبد في هذه المواطن الثلاثة عند خروجه إلى عالم الابتلاء، وعند معاينته هول المطلع إذا قدم على الله وحيداً مجرداً عن كل مؤنس إلا ما قدمه من صالح عمل، وعند موافاته القيامة مع الجمع الأعظم ليصير إلى إحدى الدارين التي خلق الله واستعمل بعمل أهلها. فأي موطن أحق بطلب السلامة من هذه المواطن، فنسأل الله السلامة فيها بمنه وكرمه ولطفه وجوده وإحسانه) (13) أ.هـ.
الفائدة الرابعة:
أمن الناس واهتداؤهم ليس على درجة واحدة، وإنما يتفاوت الناس في الحصول عليهما، أو فقدهما حسب ما يكون عند العبد من الإيمان والتوحيد، وذلك حسب الفئات التالية:
الفئة الأولى: من يكون لهم الأمن التام والاهتداء التام في جميع أحوالهم في الدنيا والآخرة وهم الذين حققوا التوحيد، وسلموا من ظلم العباد وأدوا الواجبات، وتركوا المحرمات وماتوا على توبة نصوح من جميع الذنوب.
الفئة الثانية: من يحصل لهم الأمن والاهتداء بدخولهم الجنة في نهاية أمرهم بسبب ما معهم من التوحيد، لكنهم معرضون للخوف في الدنيا أو في البرزخ، أو يوم القيامة بسبب ظلمهم لأنفسهم ببعض المعاصي التي لم يتوبوا منها، أو بظلمهم للعباد؛ فهؤلاء أَهل الأمن والاهتداء الناقصين.
الفئة الثالثة: من حرموا أصل الأمن والاهتداء بسبب ما تلبسوا به من الظلم الأكبر وهو الشرك بالله عز وجل، فهؤلاء ليس لهم أمن، ولا اهتداء لا في الدنيا ولا في البرزخ ولا في الآخرة، وإنما هم في عذاب وخوف لا ينقطع.
وهذا ما فهم من كلام ابن القيم السابق رحمه الله تعالى. وأزيد الأمر وضوحاً بما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عند كلامه عن أنواع الظلم الثلاثة حيث يقول رحمه الله تعالى: (فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة؛ كان له الأمن التام، والاهتداء التام. ومن لم يسلم من ظلمه نفسه؛ كان له الأمن والاهتداء مطلقاً، بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى. وقد هداه إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه نفسه. وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنما هو الشرك» أن من لم يشرك الشرك الأكبر، يكون له الأمن التام، والاهتداء التام. فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف، لم يحصل لهم الأمن التام ولا الاهتداء التام الذي يكونون به مهتدين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من غير عذاب يحصل لهم؛ بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط، ومعهم أصل نعمة الله عليهم، ولابد لهم من دخول الجنة. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما هو الشرك» إن أراد به الشرك الأكبر، فمقصوده أن من لم يكن من أهله، فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة وهو مهتد إلى ذلك. وإن كان مراده جنس الشرك؛ فيقال: ظلم العبد نفسه كبخله لحب المال ببعض الواجب؛ هو شرك أصغر. وحبه ما يبغضه الله حتى يكون يقدم هواه على محبة الله شرك أصغر، ونحو ذلك. فهذا صاحبه قد فاته من الأمن والاهتداء بحسبه. ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الظلم بهذا الاعتبار)(14) أ.هـ.
وقد أكد هذا المعنى الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لقوله تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" حيث قال: (فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا، لا بشرك، ولا بمعاصي، حصل لهم الأمن التام، والهداية التامة. وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم يحصل لهم كمالها.
ومفهوم الآية الكريمة، أن الذين لم يحصل لهم الأمران، لم يحصل لهم هداية، ولا أمن، بل حظهم الضلال والشقاء)(15).
هذا ما يتعلق بالآية الأولى من الآيات الي ذكر فيها الأمن، مصدره وثمرته وقد أطلت الكلام فيها لأهميتها، ولأنها – كما ذكرت- ترسم الأصل القويم للأمن وتحدد معناه وتكشف لنا الحقيقة الكبرى التي مفادها أن الأمن والسلام، والطمأنينة والسعادة في الدنيا والآخرة لا يمكن الحصول عليها إلا في ظل الإسلام والإيمان، والبراءة من الشرك والكفر سواء على مستوى الفرد أو الجماعة أو الدول أو البشرية بأسرها، وأن الإعراض عن الله عز وجل وعبادته وعبادة غيره من الشركاء والأهواء إنما يعني ذلك الخوف والقلق والإرهاب والشقاء، في الدنيا كما هو الحاصل اليوم لمعظم البشرية، والعذاب والعناء والشقاء في الآخرة.(/10)
الآية الثانية: قوله تعالى: "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ" [النحل:112].
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية: (وهذه القرية هي مكة المشرفة التي كانت آمنة مطمئنة لا يهاج فيها أحد وتحترمها الجاهلية حتى إن أحدهم يجد فيها قاتل أبيه وأخيه فلا يهيجه مع شدة الحمية فيهم، والنعرة العربية، فحصل لها في مكة من الأمن التام مالم يحصل في سواها وكذلك الرزق الواسع. كانت بلدة ليس فيها زرع ولا شجر، ولكن الله يسر لها الرزق، يأتيها من كل مكان؛ فجاءهم رسول منهم يعرفون أمانته وصدقه يدعوهم إلى أكمل الأمور، وينهاهم عن الأمور السيئة فكذبوه، وكفروا بنعمة الله عليهم، فأذاقهم الله ضد ما كانوا فيه وألبسهم لباس الجوع الذي هو ضد الرغد. والخوف الذي هو ضد الأمن، وذلك بسبب صنيعهم وكفرهم، وعدم شكرهم "وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"(16)أ.هـ
الآية الثالثة: قوله تعالى : "أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ" [النحل: 45-47].
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآيات: (هذا تخويف من الله تعالى لأهل الكفر والتكذيب، وأنواع المعاصي، من أن يأخذهم بالعذاب على غِرَّة، وهم لا يشعرون. إما أن يأخذهم العذاب من فوقهم، أو من أسفل منهم، بالخسف أو غيره. وإما في حال تَقَلُّبِهم وشغلهم، وعدم خطور العذاب ببالهم، وإما في حال تخوفهم من العذاب. فليسوا بمعجزين الله، في حالة من هذه الأحوال، بل هم تحت قبضته، ونواصيهم بيده. ولكنه رؤوف رحيم، لا يعاجل العاصين بالعقوبة، بل يمهلهم ويعافيهم ويرزقهم وهم يؤذونه، ويؤذون أولياءه. ومع هذا يفتح لهم أبواب التوبة ويدعوهم إلى الإقلاع عن السيئات، التي تضرهم، ويعدهم بذلك أفضل الكرامات ومغفرة ما صدر عنهم من الذنوب.
فليستح المجرم من ربه، أن تكون نعم الله عليه نازلة في جميع الحالات، ومعاصيه صاعدة إلى ربه في كل الأوقات, وليعلم أن الله يمهل ولا يهمل، وأنه إذا أخذ العاصي أخذه أخذ عزيز مقتدر. فليتب إليه، وليرجع في جميع أموره إليه، فإنه رؤوف رحيم.
فالبدار البدار إلى رحمته الواسعة، وبره العميم، وسلوك الطرق الموصلة إلى فضل الرب الرحيم، ألا وهي تقواه، والعمل بما يحبه ويرضاه)(17).
الآية الرابعة: قوله تعالى: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ" [الأعراف: 96-99].
وأقتطف بعض ما ذكره سيد قطب رحمه الله تعالى عن هذه الآيات حيث يقول: (ولقد ينظر بعض الناس فيرى أمماً يقولون: إنهم مسلمون- مضيقاً عليهم في الرزق، لا يجدون إلا الجدب والمحق!.. ويرى أمماً لا يؤمنون ولا يتقون، مفتوحاً عليهم في الرزق والقوة والنفود. فيتساءل: وأين إذن هي السنة التي لا تتخلف؟ ولكن هذا وذلك وهم تخيله ظواهر الأحوال. إن أولئك الذين يقولون إنهم مسلمون لا مؤمنون ولا متقون. إنهم لا يخلصون عبوديتهم لله ولا يحققون في واقعهم شهادة أن لا إله إلا الله... ويوم كان أسلاف هؤلاء الذين يزعمون الإيمان مسلمين حقاً دانت لهم الدنيا وفاضت عليهم بركات من السماء والأرض وتحقق لهم وعد الله. فأما أولئك المفتوح عليهم في الرزق، فهذه هي السنة.. «ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا، وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء»! فهو الابتلاء بالنعمة الذي مر ذكره. وهو أخطر من الابتلاء بالشدة، وفرق بينه وبين البركات التي يعدها الله من يؤمنون ويتقون. فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به، وكان معه الصلاح والأمن والرضى والارتياح.. وكم من أمة غنية قوية ولكنها تعيش في شقوة، مهددة في أمنها، مقطعة الأواصر بينها، يسود الناس فيها القلق وينتظرها الانحلال. فهي قوة بلا أمن، وهو متاع بلا رضى، وهي وفرة بلا صلاح، وهو حاضر زاهٍ يترقبه مستقبل نكد. وهو الابتلاء الذي يعقبه النكال..(/11)
إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى بركات في الأشياء، وبركات في النفوس، وبركات في المشاعر؛ وبركات في طيبات الحياة. بركات تنمي الحياة وترفعها في آن. وليست مجرد وفرة مع الشقوة والتردي والانحلال.
وبعد أن يقرر السياق القرآني تلك السنة الجارية التي يشهد بها تاريخ القرى الحالية. وفي اللحظة التي تنتفض فيها المشاعر، ويرتعش فيها الوجدان على مصارع المكذبين الذين لم يؤمنوا ولم يتقوا، وغرهم ما كانوا فيه من رخاء ونعماء، فغفلوا عن حكمة الله في الابتلاء.. في هذه اللحظة يتجه إلى الغافلين السادرين، يوقظ فيهم مشاعر الترقب أن يأتيهم بأس الله في أية لحظة من ليل أو نهار، وهم سادرون في النوم واللهو والمتاع: "أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ" [الأعراف: 97-100].
إن سنة الله لا تتخلف، ومشيئة الله لا تتوقف. فما الذي يؤمنهم أن يأخذهم الله بذنوبهم كما أخذ من قبلهم؟ وأن يطبع على قلوبهم فلا يهتدوا بعد ذلك. بل لا يستمعوا إلى دلائل الهدى، ثم ينالهم جزاء الضلال في الدنيا والآخرة. ألا إنه مصارع الخالدين قبلهم، ووراثتهم لهم، وسنة الله الجارية. كل أولئك كان نذيرا لهم أن يتقوا ويحذروا؛ وأن يطرحوا عنهم الأمن الكاذب، والاستهتار السادر، والغفلة المردية؛ وأن يعتبروا بما كان في الذين خلوا من قبلهم. عسى ألا يكون فيهم لو كانوا يسمعون!
وما يريد الله للناس بهذا التحذير في القرآن أن يعيشوا مفزعين قلقين؛ يرتجفون من الهلاك والدمار أن يأخذهم في لحظة من ليل أو نهار. فالفزع الدائم من المجهول، والقلق الدائم من المستقبل، وتوقع الدمار في كل لحظة.. قد تشل طاقة البشر وتشتتها؛ وقد تنتهي بهم إلى اليأس من العمل والنتاج، وتنمية الحياة وعمارة الأرض.. إنما يريد الله منهم اليقظة والحساسية والتقوى، ومراقبة النفس، والعظة بتجارب البشر، ورؤية محركات التاريخ الإنساني، وإدامة الاتصال بالله، وعدم الاغترار بطراءة العيش ورخاء الحياة.
والله يعد الناس الأمن والطمأنينة، والرضوان والفلاح في الدنيا والآخرة، إذا هم أرهفوا حساسيتهم به، وإذا هم أخلصوا العبودية له؛ وإذا هم اتقوه فاتقوا كل ما يلوث الحياة. فهو يدعوهم إلى الأمن في جوار الله لا في جوار النعيم المادي المغري. وإلى الثقة بقوة الله لا بقوتهم المادية الزائلة. وإلى الركون إلى ما عند الله لا إلى ما يملكون من عرض الحياة.
ولقد سلف من المؤمنين بالله المتقين لله سلف ما كان يأمن مكر الله، وما كان يركن إلى سواه. وكان بهذا وذاك عامر القلب بالإيمان، مطمئنا بذكر الله، قويا على الشيطان وعلى هواه، مصلحاً في الأرض بهدى الله، لا يخشى الناس والله أحق أن يخشاه.
وهكذا ينبغي أن نفهم ذلك التخويف الدائم من بأس الله الذي لا يدفع، ومن مكر الله الذي لا يدرك. لندرك أنه لا يدعو إلى القلق إنما يدعو إلى اليقظة، ولا يؤدي إلى الفزع إنما يؤدي إلى الحساسية، ولا يعطل الحياة إنما يحرسها من الاستهتار والطغيان) (18).
الآية الخامسة: قوله تعالى: "وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً" [الجن: 17،16].
فذكر الله سبحانه في هذه الآية أن إغداق الرزق، والأمن على ذلك مرهون بالاستقامة على طاعة الله تعالى، وأن العذاب والشقاء والحزن في الدنيا والآخرة ثمرة الإعراض عن ذكر الله تعالى وطاعته.
الآية السادسة: ما قصه الله تعالى علينا من دعوة مؤمن آل فرعون لقومه وتخويفه لهم من عذاب الله تعالى الذي أصاب الكفار من قبلهم كالغرق والصيحة والريح، وخوفه عليهم من عذاب الله الأبدي يوم القيامة إن هم كفروا ولم يؤمنوا بما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام من التوحيد وعبادة الله وحده.
قال الله تعالى: "وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ" [غافر: 30-32] إلى قوله: "وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ" [غافر: 42،41].(/12)
الآية السابعة: قوله تعالى: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [النور: 55].
والآيات في بيان أن الأمن والطمأنينة، والرغد في العيش، والسعادة في النفوس دنياً وأخرى مرتبط بالإيمان بالله تعالى، وتوحيده وطاعته. وأن الخوف والفزع والجوع والقلق مرتبط بالكفر بالله تعالى ومعصيته كثيرة جداً. وأكتفي بما ذكرته آنفاً لبيان المقصود والحمد لله رب العالمين.
وأما الأحاديث الواردة في ذكر الأمن وما يتعلق به فمنها ما يلي:
الحديث الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: «الله أكبر. اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحبه ربنا ويرضى. ربنا وربك الله»(19).
الحديث الثاني: عن سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطي عن أبيه وكانت له صحبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه. فكأنما حيزت له الدنيا»(20).
الحديث الثالث: عن ابن رفاعة الزرقي عن أبيه قال قال أبي لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استووا حتى أثني على ربي، فصاروا خلفه صفوفاً فقال (اللهم لك الحمد كله اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين. اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق)(21).
الحديث الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم) (22).
الحديث الخامس: عن حذيفة ابن اليمان رضي الله تعالى عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة وحدثنا عن رفعها قال ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة فتقبض، فيبقى أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك، فنفط فتراه منتبراً وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال إن في بني فلان رجلاً أميناً ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ولقد أتى علىَّ زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما رده علي الإسلام، وإن كان نصرانيا رده عليّ ساعيه. فأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلانا وفلانا» (23).
الحديث السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على أناس جلوس فقال: «ألا أخبركم بخيركم من شركم قال: خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره. وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره»(24).
الحديث السابع: عن شرحبيل بن السمط عن سلمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه. وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن من الفتان»(25).
الحديث الثامن: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المستشار مؤتمن»(26).
الحديث التاسع: عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً حتى أرى من لهواته. إنما كان يبتسم . قالت: وكان إذا رأى غيما أو ريحاً عُرف في وجهه، قالت: يارسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عُرف في وجهك الكراهية؟ فقال: ياعائشة ما يُؤمني أن يكون فيه عذاب؟ عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: "هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [الأحقاف: 24] (27).
الحديث العاشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما ينبغي لذي الوجهين أن يكون أميناً»(28).
ومن الآثار:(/13)
• ... عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيرا أَمِنَّاه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة»(29).
• ... وعن الأعمش عن شقيقٍ قال قال عبد الله (كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير، ويتخذها الناس سنة. فإذا غيرت قالوا غيرت السنة. قالوا ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن قال إذا كثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلت أمناؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة(30).
• ... وقال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مُكذِبّا(31).
• ... وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه. ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل. ويذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق. وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة. لقول الله تعالى: "وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ" [آل عمران: 135](31).
التعليق على الأحاديث والآثار السابقة:
يتبين لنا من الأحاديث والآثار السابقة أمور مهمة تتعلق بالأمن منها:
أولاً: أن حاجة العبد إلى الأمن مطلوبة في الدارين. وهو إليها في الدار الآخرة أحوج وأفقر. وهذا لا يتأتى إلا بتوحيد الله تعالى وطاعته والجهاد في سبيله سبحانه والبعد عن معاصي الله ومساخطه.
ثانياً: إن ضعف الأمن والأمانة في الناس إنما تكون بضعف أديانهم، وضعف خوفهم من الله عز وجل. فهؤلاء الذين ينبغي أن لا يؤمن جانبهم. أما من يخاف الله تعالى ويعبده وحده لا شريك له، فهو الذي يأمنه الناس، ولا يخافون بوائقه. كما جاء في مناصحة الحسن البصري رحمه الله تعالى لمن استشاره في من يزوج ابنته فقال له: (زوجها من يخاف الله ويتقيه فإنه إن أحبها أحسن إليها وأن أبغضها لم يظلمها).
ثالثاً: المؤمن لا تراه إلا خائفاً من ذنوبه لا يأمن على نفسه من الانحراف أو العقوبة لكنه خوف لا يقنطه من رحمة الله تعالى.
رابعاً: ينبغي للمؤمن أن يلح على ربه سبحانه بطلب الأمن والعافية والسلامة في الدنيا والآخرة، لأن الله عز وجل هو الذي بيده التوفيق والتسديد، والأمن والأمان والسلامة والعافية. وهذا كثير في أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: ذكر بعض الآيات والأحاديث الواردة في الإرهاب والرهبة وما في معناهما:
فأما الآيات من كتاب الله عز وجل فقد جاءت الكلمات المشتقة من (ر هـ ب) في اثني عشر موضعاً، بصيغة الفعل الماضي، والمضارع والأمر، والمصدر، واستعمال الرهبة في القرآن الكريم إنما كان في الخوف من الله تعالى خشية له وفرقاً من عذابه. ومن ذلك:
• ... قوله تعالى: "وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ" [الأعراف: 154]، أي يرهبون ربهم ويخشون عقابه، أو يرهبون ما يغضب ربهم من الشرك والمعاصي.
• ... وقوله تعالى: "وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ" [البقرة: 40] أي: فاخشون وحدي، ولا تخشوا أحداً سواي.
• ... وقوله تعالى: "وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ" [النحل: 51].
• ... وقوله تعالى: "فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ" [الأنبياء: 90] والمعنى أنهم يدعون ربهم في وقت تعبدهم، وهم بحال رغبةٍ ورجاءٍ وخوف في حالٍ واحدة؛ لأن الرَّغبة والرَّهبة متلازمتان.
• ... وفي بعض الآيات الكريمة جاءت الرَّهْبَة بمعنى الخوف الطبعي أو الجبلِّي مما يخاف منه المرء، كما في قوله تعالى: "اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ" [القصص:32]. فقد أمر الله تعالى موسى - عليه السلام - أن يضمَّ يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحيّة.
• ... وفي بعضها الآخر جاء الحديث عن الرهبة والاسترهاب من شخص لأخر، كما في قوله تعالى: "قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ" [الأعراف: 116]. أي أنَّ سحرة فرعون لما ألقوا سحرهم صرفوا أعين الناس عن إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه والتخييل، وأرهبوهم وأفزعوهم.(/14)
وكذلك المنافقون يرهبون المسلمين أشدَّ من رهبتهم من الله، لأنهم لا يفقهون عظمة الله تعالى، كما قال الله تعالى عنهم: "لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ" [الحشر:13].
• ... وفي آياتٍ كريمةٍ أخرى جاءت كلمة الرهبان والرهبانية للدلالة على الترهب عند النصارى. وهو التعبُّد واستعمال الرهبة. والرهبانية هي الغلو في تحمل التعبد. كما في قوله - سبحانه وتعالى- : "ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ" [الحديد:27].
• ... وقوله تعالى: "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ" [المائدة: 82].
• ... وقوله تعالى: "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" [التوبة: 31].
• ... وقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" [التوبة: 34].
• ... ومن معاني الإرهاب : (الرعب) كما في قوله تعالى: "سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ" [آل عمران:151].
ويضيف الدكتور ضميرية في كتابه (يسألونك عن الإرهاب) بعد استعراضه لهذه الآيات فيقول: (وبقي بعد هذه الآيات آية كريمة واحدة قد يتأوَّلُها بعضهم على وجهٍ يحلو له أن يفهم منه معنىً مريباً من المعاني التي أُلبست لهذه الكلمة في الهجمة الشرسة على الإسلام والمسلمين باسم محاربة الإرهاب، ولذلك نخصها بوقفة أخرى سريعة نستجلي فيها المعنى من خلال السياق.
فقد جاءت كلمة «ترهبون» في آية كريمة واحدة، في سياق الأمر بإعداد العُدَّة من السلاح ونحوه لتخويف الكفار والمنافقين، الذين نخاف خيانتهم وغدرهم ونقضهم للعهود والمواثيق.
قال الله تعالى: "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ" [الأنفال: 55-60].
يقول شيخ المفسِّرين، الإمام الطبري- رحمه الله- في تأويل الآية الأخيرة: وأعدِّوا لهؤلاء الذين كفروا بربهم، الذين بينكم وبينهم عهد، إذا خفتم خيانتهم وغدرهم ، أيها المؤمنون بالله ورسوله "مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ" يقول: ما أطقتم أن تُعِدُّوه لهم من الآلات التي تكون قوة لكم عليهم، من السلاح والخيل "تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ" يقول: تخيفون بإعدادكم ذلك عدو الله وعدوكم من المشركين. ونقل عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في تفسير قوله تعالى: "تُرْهِبُونَ بِهِ" قال: تُخزون به عدو الله وعدوكم(32).
وقال العلاّمة المفسِّر البِقَاعيُّ: "تُرْهِبُونَ": تخوّفون تخويفاً عظيماً باهراً، يؤدي إلى الهرب، على ما أجريت العوائد، "بِهِ" أي بذلك الذي أمرتكم به؛ من المستطاع أو من الرباط، "عَدُوَّ اللَّهِ" أي عدو الله الذي له العظمة كلها، لأنه الملك الأعلى "وَعَدُوَّكُمْ" عدو المجاهدين و"آخَرِينَ" وترهبون به آخرين. ويحمل على المنافقين(33).
وقال عبدُ الحقِّ بنُ عطية الأندلسيُّ في تفسيره:(/15)
(الخطاب في هذه الآية لجميع المؤمنين، والضمير في قوله تعالى (لهم) عائد على الذين ينبذ إليهم العهد، أو على الذين لا يُعجزون- على تأويل من تأول ذلك في الدنيا- ويحتمل أن يعود على جميع الكفار المأمور بحربهم في ذلك الوقت، ثم استمرت الآية في الأمة عامة، إذ الأمر قد توجَّه بحرب جميع الكفار ) (34) أ.هـ(35)
وأختم الكلام عن آيات الأنفال السابقة ببعض المقتطفات التي ذكرها سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآيات حيث يقول: (هذه الآيات كانت تواجه حالة قائمة بالفعل في حياة الجماعة المسلمة، عند نشأة الدولة المسلمة بالمدينة. وتزود القيادة المسلمة بالأحكام التي تواجه بها هذه الحالة.
وهي تمثل إحدى قواعد العلاقات الخارجية بين المعسكر المسلم وما حوله من المعسكرات الأخرى، ولم تدخل عليها إلا تكميلات وتعديلات جانبية فيما بعد، ولكنها ظلت إحدى القواعد الأساسية في المعاملات الإسلامية الدولية.
إنها تقرر إمكان إقامة عهود تعايش بين المعسكرات المختلفة؛ ما أمكن أن تصان هذه العهود من النكث بها؛ مع إعطاء هذه العهود الاحترام الكامل والجدية الحقيقية(36). فأما إذا اتخذ الفريق الآخر هذه العهود ستاراً يدبر من ورائه الخيانة والغدر؛ ويستعد للمبادأة والشر؛ فإن للقيادة المسلمة أن تنبذ هذه العهود، وتعلن الفريق الآخر بهذا النبذ؛ وتصبح مطلقة اليد في اختيار وقت الضربة التالية للخائنين الغادرين.. على أن تكون هذه الضربة من العنف والشدة بحيث ترهب كل من تحدثه نفسه بالتعرض للمجتمع المسلم سراً أو جهراً! فأما الذين يسالمون المعسكر الإسلامي؛ ويريدون عدم التعرض للدعوة الإسلامية، أو الحيلولة دون وصولها إلى كل مسمع؛ فإن للقيادة المسلمة أن توادعهم ما دام ظاهرهم يدل على أنهم يجنحون إلى السلم ويريدونها... ولفظ «الدواب» وإن كان يشمل كل ما دب على الأرض، فيشمل الأناسي فيما يشمل. إلا أنه- كما أسلفنا- يلقي ظلاً خاصاً حين يطلق على الآدميين.. ظل البهيمة.. ثم يصبح هؤلاء الآدميون شر البهيمة التي تدب على الأرض! وهؤلاء هم الذين كفروا حتى بلغ بهم الكفر ألا يصير حالهم إلى الإيمان! وهم الذين ينقضون عهدهم في كل مرة ولا يتقون الله في مرة!...
هؤلاء الذين لا يستطيع أحد أن يطمئن إلى عهدهم وجوارهم.. جزاؤهم هو حرمانهم الأمن كما حرموا غيرهم الأمن؛ وجزاؤهم هو تخويفهم وتشريدهم، والضرب على أيديهم بشدة لا ترهبهم وحدهم، إنما ترهب من يتسامع بهم ممن وراءهم من أمثالهم. والرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده من المسلمين، مأمورون- إذا التقوا بأمثال هؤلاء في القتال- أن يصنعوا بهم ذلك الصنيع.
"فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ"
وإنه لتعبير عجيب، يرسم صورة للأخذ المفزع، والهول المرعب، الذي يكفي السماع به للهرب والشرود. فما بال من يحل به هذا العذاب الرعيب؟ إنها الضربة المروعة يأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بها هؤلاء الذين مردوا على نقض العهد، وانطلقوا من ضوابط الإنسان، ليؤمن المعسكر الإسلامي أولاً، وليدمر هيبة الخارجين عليه أخيراً؛ وليمنع كائناً من كان أن يجرؤ على التفكير في الوقوف في وجه المد الإسلامي من قريب أو من بعيد.
إنها طبيعة هذا المنهج التي يجب أن تستقر صورتها في قلوب العصبة المسلمة. إن هذا الدين لابد له من هيبة، ولا بد له من قوة، ولا بد له من سطوة، ولابد له من الرعب الذي يزلزل الطواغيت حتى لا تقف للمد الإسلامي، وهو ينطلق لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من كل طاغوت. والذين يتصورون أن منهج هذا الدين هو مجرد الدعوة والتبليغ، في وجه العقبات المادية من قوى الطاغوت، هم ناس لا يعرفون شيئاً عن طبيعة هذا الدين!
وهذا هو الحكم الأول يتعلق بحالة نقض العهد فعلاً مع المعسكر الإسلامي؛ وما ينبغي أن يتبع في ضرب الناقضين للعهد وإرهابهم وإرهاب من وراءهم بالضربة القاصمة المروعة الهائلة.
فأما الحكم الثاني فيتعلق بحالة الخوف من نقض العهد وتوقع الخيانة؛ وذلك بظهور أفعال وأمارات تدل على أن القوم يهمون بنقض العهد فعلاً:
"وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ"(/16)
إن الإسلام يعاهد ليصون عهده؛ فإذا خاف الخيانة من غيره نبذ العهد القائم جهرة وعلانية؛ ولم يخن ولم يغدر؛ ولم يغش ولم يخدع؛ وصارح الآخرين بأنه نفض يده من عهدهم. فليس بينه وبينهم أمان... وبذلك يرتفع الإسلام بالبشرية إلى آفاق من الشرف والاستقامة، وإلى آفاق من الأمن والطمأنينة.. إنه لا يبيت الآخرين بالهجوم الغادر الفاجر وهم آمنون مطمئنون إلى عهود ومواثيق لم تنقض ولم تنبذ؛ ولا يروع الذين لم يأخذوا حذرهم حتى وهو يخشى الخيانة من جانبهم.. فأما بعد نبذ العهد فالحرب خدعة، لأن كل خصم قد أخذ حذره؛ فإذا جازت الخدعة عليه فهو غير مغدور به إنما هو غافل! وكل وسائل الخدعة حينئذ مباحة لأنها ليست غادرة!
إن الإسلام يريد للبشرية أن ترتفع؛ ويريد للبشرية أن تعف؛ فلا يبيح الغدر في سبيل الغلب؛ وهو يكافح لأسمى الغايات وأشرف المقاصد؛ ولا يسمح للغاية الشريفة أن تستخدم الوسيلة الخسيسة...
وفي مقابل هذه الصناعة وهذه النظافة يعد الله المسلمين النصر، وَيُهوِّن عليهم أمر الكفار والكفر!
"وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ"
فتبييتهم الغدر والخيانة لن يمنحهم فرصة السبق، لأن الله لن يترك المسلمين وحدهم، ولن يفلت الخائنين لخيانتهم. والذين كفروا أضعف من أن يعجزوا الله حين يطلبهم، وأضعف من أن يعجزوا المسلمين والله ناصرهم.
فليطمئن أصحاب الوسائل النظيفة - متى أخصلوا النية فيها لله- من أن يسبقهم أصحاب الوسائل الخسيسة. فإنما هم منصورون بالله الذي يحققون سنته في الأرض، ويعلون كلمته في الناس، وينطلقون باسمه. يجاهدون ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بلا شريك.
ولكن الإسلام يتخذ للنصر عدته الواقعية التي تدخل في طوق العصبة المسلمة؛ فهو لا يعلق أبصارها بتلك الآفاق العالية إلا وقد أمن لها الأرض الصلبة التي تطمئن عليها أقدامها؛ وهيأ لها الأسباب العملية التي تعرفها فطرتها وتؤيدها تجاربها؛ وإلا إذا أعدها هي للحركة الواقعية التي تحقق هذه الغايات العلوية:
"وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ"
فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد؛ والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها؛ ويخص «رباط الخيل» لأنه الأداة التي كانت بارزة عند من كان يخاطبهم بهذا القرآن أول مرة.. ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في تلك الحين مما سيجد مع الزمن لخاطبهم بمجهولات محيرة- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- والمهم هو عموم التوجيه:
"وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ"
إنه لابد للإسلام من قوة ينطلق بها في «الأرض» لتحرير «الإنسان».. وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة: أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها؛ فلا يصدوا عنها، ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها.. والأمر الثاني : أن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على «دار الإسلام» التي تحميها تلك القوة.. والأمر الثالث: أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي، وهو ينطلق لتحرير «الإنسان» كله في «الأرض» كلها.. والأمر الرابع: أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية، فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها؛ ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده؛ ومن ثم فالحاكمية له وحده سبحانه...
وينبغي للمسلم ألا يتمتم ولا يجمجم وهو يعلن هذه الحقيقة الكبيرة.. ينبغي ألا يستشعر الخجل من طبيعة منهجه الرباني.. وينبغي أن يذكر أن الإسلام حين ينطلق في الأرض إنما ينطلق لإعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده، وتحطيم ألوهية العبيد! إنه لا ينطلق بمنهج من صنع البشر؛ ولا لتقرير سلطان زعيم، أو دولة، أو طبقة، أو جنس! إنه لا ينطلق لاسترقاق العبيد ليفلحوا مزارع الأشراف كالرومان؛ ولا لاستغلال الأسواق والخامات الرأسمالية الغربية؛ ولا لفرض مذهب بشري من صنع بشر جاهل قاصر كالشيوعية وما إليها من المذاهب البشرية.. إنما ينطلق بمنهج من صنع الله العليم الحكيم الخبير البصير؛ ولتقرير ألوهية الله وحده وسلطانه لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من العبودية للعبيد..
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون الذين يقفون بالدين موقف الدفاع؛ وهم يتمتمون ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي! والجهاد الإسلامي.
ويحسن أن نعرف حدود التكليف بإعداد القوة. فالنص يقول:
"وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ"(/17)
فهي حدود الطاقة إلى أقصاها. بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها. كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة.
"تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ"
فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض. الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون؛ ومن وراءهم ممن لا يعرفونهم، أو لم يجهروا لهم بالعداوة، والله يعلم سرائرهم وحقائقهم. وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم.. والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء.. وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض؛ ولتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله) (37) أ.هـ
وأما الأحاديث الواردة في ذكر الرهبة وما في معناها: فأذكر منها ما يلي:
الحديث الأول: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم به) قال فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغت اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت قلت ورسولك قال (لا ونبيك الذي أرسلت»(38).
الحديث الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الناس سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال سلوني لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم فلما سمع ذلك القوم أرموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمرٍ قد حضر قال أنس فجعلت ألتفت يمينا وشمالاً فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل من المسجد كان يلاحى فيدعى لغير أبيه فقال يانبي الله من أبي قال أبوك حُذافة ثم أنشأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، عائذا بالله من سوء الفتن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أر كاليوم قط في الخير والشر إني صورت لي الجنة والنار فرأيتهما دون هذا الحائط»(39).
الحديث الثالث: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرب من أجلٍ، ولا يباعد من رزقٍ أن يقول بحق، أو يذكر بعظيم»(40).
الحديث الرابع: عن أبي بردة رضي الله عنه قال: مررت بالربذة فإذا فسطاط فقلت لمن هذا؟ فقيل لمحمد بن مسلمة فاستأذنت عليه فدخلت عليه فقلت رحمك الله إنك من هذا الأمر بمكانٍ، فلو خرجت إلى الناس فأمرت ونهيت فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنه ستكون فتنة وفرقة واختلاف، فإذا كان ذلك فأت بسيفك أحدا فاضرب به عرضه، واكسر نبلك، واقطع وترك، واجلس في بيتك، فقد كان ذلك وقال يزيد مرة: فاضرب به حتى تقطعه ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة، أو يعافيك الله عز وجل فقد كان ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعلت ما أمرني به ثم استنزل سيفا كان معلقا بعمود الفسطاط فاخترطه فإذا سيف من خشب فقال قد فعلت ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذت هذا أرهب به الناس»(41).
الحديث الخامس: عن عبد الله بن خباب بن الأرت عن أبيه قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة، فأطالها قالوا يارسول الله صليت صلاة لم تكن تصليها قال أجل إنها صلاة رغبة ورهبة. إني سألت الله فيها ثلاثا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة سألته أن لا يهلك أمتي بسنةٍ فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها»(42).
الحديث السادس: عن عمران ابن حصين رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي «ياحصين كم تعبد اليوم إلها قال أبي: سبعة. ستة في الأرض وواحدا في السماء. قال فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء. قال: ياحصين أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك قال فلما أسلم حصين قال يارسول الله علمني الكلمتين اللتين وعدتني فقال قل اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي»(43).
الحديث السابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير ويحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا»(44).(/18)
الحديث الثامن: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه : «رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى علي. رب اجعلني لك شكارا، لك ذكارا، لك رهابا، لك مطيعاً، إليك مخبتاً، إليك أواها منيبا. رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، واهد قلبي وسدد لساني، وثبت حجتي واسلل سخيمة قلبي»(45).
الحديث التاسع: عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عجب ربنا عز وجل من رجلين رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحيه إلى صلاته، فيقول ربُّنا أيا ملائكتي انظروا إلى عبدي ثار من فراشه، ووطائه ومن بين حيه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي ورجل غزا في سبيل الله عز وجل، فانهزموا فعلم ما عليه من الفرار، وماله في الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي، فيقول الله عز وجل لملائكته انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي ورهبة مما عندي حتى أهريق دمه»(46).
الحديث العاشر: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«عليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام»(47).
وبعد استعراض الآيات والأحاديث السابقة نخلص إلى معنى الرهبة وما في معناها في الكتاب والسنة حيث أنها تدور حول الخوف من الله عز وجل ومن عقابه وهي بذلك تكون عبادة لله عز وجل يتعبد العبد بها لله تعالى وهي مما يمدح الله عز جل عباده المؤمنين وأوليائه المتقين. ومن ذلك «عليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام».
كما أنها تأتي بمعنى الخوف من المخلوق أو إخافة المخلوق كما جاء في حديث أبي بردة في اتخاذه سيف من خشب يرهب به من يريد به شرا وذلك أيام الفتن، وكما جاء في حديث أبي سعيد السابق (لا يمنعن أحدكم رهبة الناس..)
وتأتي بمعنى الخوف الطبيعي كما في قوله تعالى: "وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ" وغالب استعمالها في القرآن الكريم في الخوف من الله تعالى خشية منه سبحانه ومن عقابه كما جاءت في إرهاب الكفار المحاربين وإخافتهم ليرتدعوا وليرتدع من خلفهم من الكفار عن الإضرار بالمسلمين أو الوقوف في طريق نشر الحق والتوحيد وقد سبق التفصيل في هذا الأمر عند قوله تعالى: "تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ" وبالجملة فهذه معاني الرهبة في الكتاب والسنة. ولم يرد في الكتاب والسنة أي إشارة إلى شيء من المعاني التي يلبسها الناس اليوم لهذه الكلمة أو يسقطونها عليها عندما يستعملونها بصيغة الإرهاب التي لا يوجد لها أي ذكر في القرآن الكريم ولا في الحديث الصحيح أو غير الصحيح، كما أن كتب اللغة تكاد تخلو من هذه الصيغة التي لم تشتهر وتدرج على الألسنة والأقلام إلا في الآونة الأخيرة، وفي أعقاب وقائع وحوادث معينة. ولذلك يجدر التأكيد على الفرق الكبير بين المعنى اللغوي والقرآني للكلمة وبين المعنى السياسي والاجتماعي المأخوذ عن اللغات الأجنبية(48).
______________
(1) ... انظر: يسألونك عن الأرهاب، (بتصرف).
(2) ... مسلم (2531).
(3) ... لسان العرب 1/140 (باختصار).
(4) ... مجلة البيان ، العدد 124 (باختصار).
(5) ... انظر: «معجم مقاييس اللغة» : 2/447، و«تهذيب اللغة»: 6/260، «الصحاح»: 1/140، و«أساس البلاغة»: 1/385، و«لسان العرب»: 3/1748، و«تاج العروس»: 2/537-542، و«النهاية في غريب الحديث والأثر»: 1/280-281، و«ديوان الأدب»: 2/79، و«المعجم الوسيط»: 1/376-377، و«المفردات للأصفهاني» ص366، (عن كتاب يسألونك عن الإرهاب ص23).
(6) ... يسألونك عن الإرهاب، د. ضميرية.
(7) ... سألونك عن الأرهاب، ص22.
(8) ... انظر: تفسير الطبري ت: شاكر 11/488-504 باختصار.
(9) ... الصواعق المرسلة 1/488، 489.
(10) ... رواه البخاري (3429)، مسلم (198).
(11) ... الصواعق المرسلة 3/1057، 1058.
(12) ... في ظلال القرآن، 2/1142،1141.
(13) ... بدائع الفوائد 2/168-169 عن بدائع التفسير 3/136،135.
(14) ... مجموع الفتاوى 7/82،81.
(15) ... تفسير السعدي 2/39.
(16) ... تفسير السعدي، 3/88.
(17) ... نفس المصدر السابق، 3/63،62.
(18) ... في ظلال القرآن 3/1340-1341 (باختصار).
(19) ... رواه الدارمي في سنته (1639) وقال الألباني صحيح بشواهده. انظر تخريج الكلم الطيب، ص:139.
(20) ... رواه الترمذي في الزهد باب التوكل على الله وقال حسن غريب، ورواه ابن ماجه (4141) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6042).
(21) ... رواه أحمد في مسنده (3/424).
(22) ... النسائي. وقال الألباني في صحيح النسائي: حسن صحيح (4622) ورواه الترمذي (2775).
(23) ... البخاري (6497) ومسلم (230).
(24) ... مسلم (1913) والنسائي (3167).
(25) ... رواه الترمذي (2263) وقال: حسن صحيح.
(26) ... الترمذي (2369) وأبو داود وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4277).
(27) ... البخاري (4829).(/19)
(28) ... رواه أحمد (7877) والبخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني في الأدب المفرد (313).
(29) ... رواه البخاري (2641).
(30) ... رواه الدارمي في المقدمة 190،189.
(31) ... البخاري في الإيمان باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله.
(32) ... انظر: تفسير الطبري 14/31-40.
(33) ... تفسير البقاعي 8/314.
(34) ... المحرر الوجير 6/356.
(35) ... يسألونك عن الإرهاب ص26-28.
(36) ... لا يقصد هنا العهوداً الدائمة وإنما العهود المؤقتة أو المطلقة ريثما يكون بالمسلمين قوة لاعلاء كلمة الله في كل مكان.
(37) ... في ظلال القرآن 3/1539-1543 باختصار.
(38) ... رواه مسلم 4885،4884.
(39) ... البخاري (93) والترمذي (3056).
(40) ... رواه أحمد 3/50 وصحح إسناده أحمد شاكر (11494).
(41) ... ابن ماجه في الفتن (3962) وصححه الألباني ورواه أحمد واللفظ له 3/493.
(42) ... رواه الترمذي (2675) وقال حسن غريب.
(43) ... رواه الترمذي (3483) وقال حسن غريب.
(44) ... البخاري (6522).
(45) ... رواه ابن ماجه وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3081).
(46) ... رواه أحمد (3949) وقال شاكر إسناده صحيح.
(47) ... رواه أحمد 3/82 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/215: ورجاله ثقات.
(48) ... انظر (يسألونك عن الإرهاب) ص29.
=============
الفصل الثاني
المفهوم الشامل للأمن وأنواعه ومصادره
وفيه مبحثان :
المبحث الأول: ... الأمن في الحياة الدنيا.
المبحث الثاني: الأمن بعد الموت.
الفصل الثاني
المفهوم الشامل للأمن وأنواعه ومصادره
عندما يذكر الأمن ومتعلقاته عند كثير من الناس اليوم، فإنما يفهمون منه الأمن على النفوس، وعلى الأموال والأعراض من الاعتداء ويقصرونه على هذه الأمور فحسب، مع أن الأمن بمفهومه الشامل عندما يطلق فإنما يعني أموراً هي في مجموعها أشمل وأعم من هذا الفهم القاصر لمتعلقات الأمن. وهذا ما سيتم تفصيله إن شاء الله تعالى في هذا الفصل ومباحثه. فأقول وبالله التوفيق:
إن حاجة العبد إلى الأمن في ضرورياته الأساسية لا تقل عن حاجته إلى الطعام والشراب، ولكن هذه الضروريات تتفاوت في أهميتها؛ فالأمن على الدين والعقيدة يحتل في الأهمية المرتبة الأولى ثم يليه الأمن على الأنفس والعقول والأعراض والأموال. ومع ذلك فإن غالب من يتكلم في الأمن لا يرد على باله، وفي كلامه، أو كتاباته الأمن على الدين والعقيدة، وأنها مقدمة على سائر الضروريات؛ بل ينحصر الكلام في الأمن على الأنفس والأموال فحسب كما أن هؤلاء أيضاً يقصرون حديثهم عن الأمن في هذه الحياة الدنيا الزائلة الفانية، ولا يتطرقون للأمن الحقيقي السرمدي ألا وهو الأمن في القبور، والأمن يوم النشور يوم الأهوال والفزع الأكبر، والأمن التام الأبدي في جنات النعيم.
وفي هذا الفصل سيتم إن شاء الله تعالى مناقشة الصور المختلفة للأمن وبحث المواطن التي يحتاج الناس إلى الأمن فيها، وذلك من خلال المباحث التالية:
المبحث الأول: الأمن في الحياة الدنيا
المبحث الثاني: الأمن بعد الموت
المبحث الأول
الأمن في الحياة الدنيا
الأمن في هذه الدنيا لا يتحقق إلا إذا أمن الناس فيها على الضروريات التالية:
1- ... الأمن على الدين في العقيدة والشريعة
2- ... الأمن على النفوس
3- ... الأمن على العقول
4- ... الأمن على الأعراض
5- ... الأمن على الأموال
وكل هذه الضروريات لا يتوفر الأمن فيها إلا بطاعة الله عز وجل، وتوحيده واجتناب معاصيه ومساخطه. وإن لم يكن ذلك فإن سنة الله عز وجل نافذة على عباده الذين عصوه بأنواع العقوبات التي تورث الخوف وانعدام الأمن على هذه الضرورات؛ فلا يأمن الناس إذا عصوا ربهم لا على أديانهم ولا أنفسهم ولا عقولهم ولا أعراضهم ولا أموالهم. والواقع والتاريخ يشهد بذلك "وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" [النحل: 33]، وهذا ما حذر منه مؤمن آل فرعون قومه وذلك في قوله تعالى: "وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ" [غافر: 31،30] وهذا ما أخبر به ربنا عز وجل عن القرية الآمنة بقوله: "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ" [النحل:112].
وفي ضوء الآيات السابقة وما في معناها نخلص إلى أن الأمن الشامل الحقيقي لا يتحقق في دنيا الناس، ولا يصدق على أن فرداً أو طائفة أو مجتمعاً أو دولة في وضع آمن، حتى يكونوا آمنين على دينهم وعقولهم من الشبهات والضلالات والأفكار المنحرفة عن عقيدة التوحيد وأخلاق الإسلام وشريعته.(/20)
وكذلك آمنين على أنفسهم ودمائهم من الاعتداء والتهديد وإلحاق الأذى،.
وكذلك آمنين على أعراضهم من كل ما من شأنه أن يلحق الضرر والأذى بها من فتن الشهوات والعبث مما يكون سبباً في إشاعة الفاحشة بين المؤمنين والاعتداء على الأعراض.
وكذلك آمنين على أموالهم من السلب والاعتداء، وانتشار المال الحرام، وأكل الأموال بالباطل.
وبدون الأمن على هذه الضروريات الخمس لا يكون الفرد، ولا المجتمع، ولا الدولة، ولا البشرية في أمن ولا أمان. وأكبر شاهد لذلك ما يعيشه العالم اليوم سواء على مستوى الفرد أو الأسرة أو المجتمع، أو البشرية بأسرها من القلق والخوف والاعتداء الصارخ على هذه الضروريات الأساسية التي جاء الإسلام في الدنيا لحفظها وصيانتها لينعم الناس في ظله بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام.
وعندما غاب شرع الإسلام عن أكثر بقاع الأرض عقيدة وشريعة، وأعرض أكثر الناس عن طاعة الله تعالى، وتوحيده، وانتشر الكفر والشرك والفسوق والعصيان رأينا عقوبة الله عز وجل وسنته التي لا تتخلف في القوم الظالمين حيث انتشر الخوف والرعب والقلق والشقاء بين الناس، وتسلط بعضهم على بعض، وسادت شريعة الغاب، وأصبح الإنسان لا يأمن على دينه ولا نفسه ولا عقله ولا ماله ولا عرضه إلا من رحم الله عز وجل ووفقه لتوحيده وطاعته التي هي مصدر الأمن والسلام والسعادة.
ونخلص مما سبق إلى النتائج التالية:
الأولى: أن من أراد أن يأمن في هذه الحياة الدنيا من عذاب الله عز وجل، ويحصل على الأمن والسلام في دينه ونفسه وعقله وماله وعرضه، ويحصل على الأمن يوم القيامة، فلن يجد ذلك إلا في ظل الإسلام الحقيقي الذي هو توحيد الله عز وجل، وأحكامه وطاعته، والدخول في السلم كافة، قال الله تعالى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [النحل: 97] وقال سبحانه: "أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ" [الجاثية: 21]. ومن ذهب يبحث عن الأمن والسعادة في غير طاعة الله عز وجل وتوحيده؛ فمثله كمن رأى سراباً حتى إذا جاءه لم يجد شيئاً، بل لن يجد إلا الخوف والرعب والقلق والشقاء. قال تعالى: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" [طه: 124].
الثانية: أن الأمن لا يتحقق في حياة الناس بمجرد أمنهم على دمائهم وأموالهم فهذا أمن ناقص . بل إن ذلك لن يتحقق إلا بالأمن التام الذي يأمن فيه الناس على دينهم وأنفسهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم وبدون ذلك فلا يطمع في أمن ولا سلام.
الثالثة: أن من كان سبباً في فتنة الناس في دينهم، وصدهم عن الحق بنشر الشبهات والأفكار المنحرفة، أو كان سبباً في إفساد أخلاق الناس ببث الفساد والشهوات المحرمة؛ فإن هؤلاء وأمثالهم هم أعداء الأمن الحقيقيون وهم دعاة الإرهاب والفساد والفتنة . فيجب فضحهم وإخراجهم من مخابئهم التي يتترسون فيها بدعوى الحرص على أمن الناس ومكافحة الإرهاب. وسيأتي التفصيل عن أعداء الأمن والسلام في فصل قادم إن شاء الله تعالى.
مستويات الناس في حاجتهم إلى الأمن في هذه الحياة الدنيا
يمكن تقسيم الناس في طلبهم للأمن إلى المستويات التالية:
الأول: ... الأمن النفسي على مستوى الفرد
الثاني: ... الأمن الأسري
الثالث: ... أمن المجتمعات
الرابع: ... أمن البشرية
أولاً: الأمن النفسي على مستوى الفرد
وهو شعور الإنسان بالأمن الداخلي في نفسه، وقلبه وتفكيره، وإحساسه بالطمأنينة والسكينة، وبعده عن أسباب الخوف والقلق والانزعاج. وهذا لا يتأتى إلا إذا أمن العبد على دينه فلم يفتن فيه، وأمن على نفسه من الظلم والاعتداء، وأمن على عرضه وعقله وماله. وكل هذا لا يطمح في الحصول عليه إلا في ظل الدين الذي أكمله الله عز وجل للأمة، ورضيه لها ديناً ألا وهو دين الإسلام العظيم، الذي شرع الله عز وجل فيه من العقائد والأحكام ما إذا أخذ العبد بها، فإنه يحصل على الأمن والأمان، والسكينة والإطمئنان سواء ما يكون من أنسه بالله عز وجل الناشيء عن محبته سبحانه، وتوحيده، والتوكل عليه، والتعبد له بأسمائه وصفاته الحسنى، وإيمانه بقضاء الله وقدره، ويقينه باليوم الآخر الذان يشعان في القلب الطمأنينة والأنس والسعادة. أو ما يكون في أحكامه عز وجل وتشريعاته التي تكفل فيها المحافظة والرعاية لمقاصد هذا الدين والأمن عليها في هذه الدنيا ألا وهي حفظه الضروريات الخمس وحمايتها من التلف أو الضيق والحرج.
أولاً: حصول الأمن النفسي بتوحيد الله عز وجل ومعرفته(/21)
فأما ما يتعلق بحصول الأمن النفسي، والطمأنينة الداخلية الناجمة عن توحيد الله عز وجل ومعرفته بأسمائه وصفاته ومحبته واليقين بلقائه فقد كفانا الحديث عنها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حيث يقول: (فقر العبد إلى أن يعبد الله سبحانه وحده لا يشرك به شيئاً ليس له نظير فيقاس به، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الغذاء والشراب والنفس، فيقاس بها، لكن بينهما فروق كثيرة، فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بإلهه الحق الذي لا إله إلا هو، فلا يطمئن إلا بذكره، ولا يسكن إلا بمعرفته وحبه، وهو كادح إليه كدحا فملاقيه، ولا بد له من لقائه، ولا صلاح له إلا بتوحيد محبته وعبادته وخوفه ورجائه، ولو حصل له من اللذات والسرور بغيره ما حصل فلا يدوم له ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في حال وبهذا في حال، وكثيراً ما يكون ذلك الذي يتنعم به هو أعظم أسباب ألمه ومضرته.
وأما إلهه الحق فلا بد له منه في كل وقت وفي كل حال، وأينما كان فنفس الإيمان به ومحبته وعبادته وإجلاله وذكره هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، ودلت عليه السنة والقرآن، وشهدت به الفطرة والجنان، لا كما يقوله من قل نصيبه من التحقيق والعرفان، وبُخس حظه من الإحسان: إن عبادته وذكره وشكره تكليف ومشقة، لمجرد الابتلاء والامتحان، أو لأجل مجرد التعويض بالثواب المتفضل كالمعاوضة بالأثمان، أو لمجرد رياضة النفس وتهذيبها ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان، كما هي مقالات من بُخس حظه من معرفة الرحمن، وقل نصيبه من ذوق حقائق الإيمان، وفرح بما عنده من زبد الأفكار وزبالة الأذهان، بل عبادته ومعرفته وتوحيده وشكره قرة عين الإنسان، وأفضل لذة للروح والقلب والجنان، وأطيب نعيم ناله من كان أهلاً لهذا الشان، والله المستعان، وعليه التكلان...
وكما أنه لا نسبة لنعيم ما في الجنة إلى نعيم النظر إلى وجهه الأعلى سبحانه، فلا نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته ومعرفته والشوق إليه والأنس به، بل لذة النظر إليه سبحانه تابعة لمعرفتهم به ومحبتهم له، فإن اللذة تتبع الشعور والمحبة، فكلما كان المُحب أعرف بالمحبوب، وأشد محبة له، كان التذاذه بقربه ورؤيته ووصوله إليه أعظم) (1).
ويقول في موطن آخر: (فإنه لا شيء أحب إلى القلوب من خالقها وفاطرها، فهو إلهها ومعبودها، ووليها ومولاها، وربها ومدبرها ورازقها، ومميتها ومحييها، فمحبته نعيم النفوس، وحياة الأرواح، وسرور النفوس، وقوت القلوب، ونور العقول، وقرة العيون، وعمارة الباطن.
فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة، والعقول الزاكية أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب، ولا أسر، ولا أنعم من محبته والأنس به، والشوق إلى لقائه. والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك فوق كل حلاوة، والنعيم الذي يحصل له بذلك أتم من كل نعيم، واللذة التي تناله أعلى من كل لذة، كما أخبر بعض الواجدين عن حاله بقوله: «إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيب».
وقال آخر: «إنه ليمر بالقلب أوقات يهتز فيها طربا بأنسه بالله وحبه له».
وقال آخر: «مساكين أهل الغفلة، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها».
وقال آخر: «لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف».
ووجدان هذه الأمور وذوقها هو بحسب قوة المحبة وضعفها، وبحسب إدراك جمال المحبوب والقرب منه. وكلما كانت المحبة أكمل، وإدراك المحبوب أتم والقرب منه أوفر، كانت الحلاوة واللذة والسرور والنعيم أقوى.
فمن كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرف، وفيه أرغب، وله أحب، وإليه أقرب؛ وجد من هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه. ولا يعرف إلا بالذوق والوجد، ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حبا لغيره، ولا أنسا به، وكلما ازداد له حباً ازداد له عبودية وذلاً، وخضوعاً ورقاً له، وحرية عن رق غيره.
فالقلب لا يفلح ولا يصلح ولا يتنعم ولا يبتهج ولا يلتذ ولا يطمئن ولا يسكن، إلا بعبادة ربه وحبه، والإنابة إليه. ولو حصل له جميع ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن إليها، ولم يسكن إليها، بل لا تزيده إلا فاقة وقلقاً، حتى يظفر بما خلق له، وهيء له: من كون الله وحده نهاية مراده، وغاية مطالبه. فإن فيه فقراً ذاتياً إلى ربه وإلهه، من حيث هو معبوده ومحبوبه وإلهه ومطلوبه، كما أن فيه فقراً ذاتياً إليه من حيث هو ربه وخالقه ورازقه ومدبره. وكلما تمكنت محبة الله من القلب وقويت فيه أخرجت منه تألهه لما سواه وعبوديته له:
فأصبح حُرًا عزَّةً وصيانة
... ... على وجهه أنوارُهُ وضياؤُه
وما من مؤمن إلاَّ وفي قلبه محبة لله تعالى، وطمأنينة بذكره، وتنعم بمعرفته، ولذة وسرور بذكره، وشوق إلى لقائه، وأنس بقربه، وإن لم يحس به، لاشتغال قلبه بغيره، وانصرافه إلى ما هو مشغول به، فوجود الشيء غير الإحساس والشعور به.(/22)
وقوة ذلك وضعفه وزيادته ونقصانه: هو بحسب قوة الإيمان وضعفه وزيادته ونقصانه.
ومتى لم يكن الله وحده غاية مراد العبد ونهاية مقصوده، وهو المحبوب المراد له بالذات والقصد الأول، وكل ما سواه فإنما يحبه ويريده ويطلبه تبعاً لأجله، لم يكن قد حقق شهادة أن لا إله إلا الله، وكان فيه من النقص والعيب والشرك بقدره، وله من موجبات ذلك من الألم والحسرة والعذاب بحسب ما فاته من ذلك.
ولو سعى في هذا المطلوب بكل طريق، واستفتح من كل باب، ولم يكن مستعيناً بالله، متوكلاً عليه، مفتقراً إليه في حصوله، متيقناً أنه إنما يحصل بتوفيقه ومشيئته، وإعانته، لا طريق له سوى ذلك بوجه من الوجوه لم يحصل له مطلوبه، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن)(2).
ويقول أيضاً: (ففي القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته.
وفيه حُزنٌ، لا يذهبه إلا السرورُ بمعرفته، وصدق معاملته.
وفيه قلقُ، لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار منه إليه.
وفيه نيرانُ حسراتٍ، لا يطفئُها إلا الرِّضى بأمره ونهيه، وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك، إلى وقت لقائه.
وفيه طلبٌ شديدٌ، لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبهُ.
وفيه فاقةٌ، لا يسدها إلا محبته، والإنابةُ إليه، ودوام ذكره، وصدقُ الإخلاص له. ولو أُعطي الدنيا وما فيها لم تُسَدَّ تلك الفاقة منه أبداً(3).
ويوضح رحمه الله تعالى طريق الوصول إلى هذه الحياة السعيدة فيقول:
(فإن قلت: قد أشرت إلى حياة غير معهودة بين أموات الأحياء، فهل يمكنك وصف طريقها، لأصل إلى شيء من أذواقها، فقد بان لي أن ما نحن فيه من الحياة حياة بهيمية، ربما زادت علينا فيها البهائم بخلوها عن المنكدات والمنغصات وسلامة العاقبة؟
قلت: لعمر الله! إن اشتياقك إلى هذه الحياة، وطلب علمها ومعرفتها لدليل على حياتك، وأنك لست من جملة الأموات.
فأول طريقها أن تعرف الله، وتهتدي إليه طريقاً يوصلك إليه، ويحرق ظلمات الطبع بأشعة البصيرة، فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة، فينجذب إليها بكليته، ويزهد في التعلقات الفانية، ويدأب في تصحيح التوبة، والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة، وترك المنهيّات الظاهرة والباطنة، ثم يقوم حارساً على قلبه، فلا يسامحه بخطرة يكرهها الله، ولا بخطرة فضول لا تنفعه، فيصفو بذلك قلبه عن حديث النفس ووسواسها، فيُفدى من أسرها، ويصير طليقاً، فحينئذ يخلو قلبه بذكر ربه ومحبته والإنابة إليه، ويخرج من بين بيوت طبعه ونفسه إلى فضاء الخلوة بربه وذكره كما قيل.
وَأَخْرُجُ مِنْ بَينِ البُيوتِ، لَعَلَّني
... ... أُحدث عَنْك النّفس في السرِّ خَالياً
فحينئذ يجتمع قلبه وخواطره وحديث نفسه على إرادة ربه، وطلبه والشوق إليه.
فإذا صدق في ذلك رزق محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، واستولت روحانيته على قلبه، فجعله إمامه ومعلمه، وأستاذه وشيخه وقدوته، كما جعل الله نبيه ورسوله هادياً إليه، فيطالع سيرته ومبادئ أمره، وكيفية نزول الوحي عليه، ويعرف صفاته وأخلاقه، وآدابه في حركاته وسكونه، ويقظته ومنامه، وعبادته، ومعاشرته لأهله وأصحابه، حتى يصير كأنه معه من بعض أصحابه.
فإذا رسخ قلبه في ذلك فتح عليه بفهم الوحي المنزل عليه من ربه، بحيث لو قرأ السورة شاهد قلبُه ما أنزلت فيه، وما أريد بها، وحظه المختص به منها، من الصفات والأخلاق، والأفعال المذمومة، فيجتهد في التخلص منها كما يجتهد في الشفاء من المرض المخوف، وشاهد حظه من الصفات والأفعال الممدوحة، فيجتهد في تكميلها وإتمامها.
فإذا تمكن من ذلك انفتح في قلبه عين أخرى، يشاهد بها صفات الرب جل جلاله، حتى تصير لقلبه بمنزلة المرئي لعينه، فيشهد علو الرب سبحانه فوق خلقه، واستواءه على عرشه، ونزول الأمر من عنده بتدبير مملكته، وتكليمه بالوحي، وتكليمه لعبده جبريل به، وإرساله إلى من يشاء بما يشاء، وصعود الأمور إليه، وعرضها عليه.
فيشاهد قلبه رباً قاهراً فوق عباده، آمراً ناهياً باعثاً لرسله، منزلاً لكتبه، معبوداً مطاعاً، لا شريك له ولا مثيل، ولا عدل له، ليس لأحد معه من الأمر شيء، بل الأمر كله له، فيشهد ربه سبحانه قائماً بالملك والتدبير، فلا حركة ولا سكون، ولا نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا قبض ولا بسط إلا بقدرته وتدبيره، فيشهد قيام الكون كله به، وقيامه سبحانه بنفسه، فهو القائم بنفسه، المقيم لكل ما سواه.
فإذا رسخ قلبه في ذلك شهد الصفة المصححة لجميع صفات الكمال، وهي «الحياة» التي كمالها يستلزم كمال السمع والبصر والقدرة والإرادة والكلام، وسائر صفات الكمال، وصفة «القيومة» الصحيحة المصححة لجميع الأفعال، فالحي القيوم: من له كل صفة كمال، وهو الفعال لما يريد.(/23)
فإذا رسخ قلبه في ذلك فُتح له مشهد «القرب» و «المعية» فيشهده سبحانه معه، غير غائب عنه، قريباً غير بعيد، مع كونه فوق سماواته على عرشه، بائناً من خلقه، قائماً بالصنع والتدبير، والخلق والأمر، فيحصل له- مع التعظيم والإجلال- الأنس بهذه الصفة، فيأنس به بعد أن كان مستوحشاً، ويقوى به بعد أن كان ضعيفاً، ويفرح به بعد أن كان حزيناً. ويجد بعد أن كان فاقداً، فحينئذ يجد طعم قوله: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه».
فأطيب الحياة على الإطلاق حياة هذا العبد، فإنه محب محبوب، متقرب إلى ربه، وربه قريب منه، قد صار له حبيبه لفرط استيلائه على قلبه، ولهجه بذكره، وعكوف همته على مرضاته، بمنزلة سمعه وبصره ويده ورجله، وهذه آلات إدراكه وعمله وسعيه، فإن سمع سمع بحبيبه، وإن أبصر أبصر به، وإن بطش بطش به، وإن مشى مشى به) (4).
ويصف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى شعوره بالأمن النفسي والسعادة التي يعيشها وذلك في رسالة إلى أصحابه يخبرهم فيها عن هذه النعمة ومنشئها فيقول:
(بسم الله الرحمن الرحيم: "وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ"، والذي أُعرِّف به الجماعة أحسن الله إليهم في الدنيا وفي الآخرة، وأتم عليهم نعمته الظاهرة والباطنة؛ فإني -والله العظيم الذي لا إله إلا هو- في نعم من الله ما رأيت مثلها في عمري كله، وقد فتح الله سبحانه وتعالى من أبواب فضله ونعمته وخزائن جوده ورحمته مالم يكن بالبال؛ ولا يدور في الخيال ما يصل الطرف إليها، يسرها الله تعالى حتى صارت مقاعد، وهذا يعرف بعضها بالذوق من له نصيب من معرفة الله وتوحيده وحقائق الإيمان...
فإن اللذة والفرحة والسرور، وطيب الوقت، والنعيم الذي لا يمكن التعبير عنه إنما هو في معرفة الله سبحانه وتعالى، وتوحيده والإيمان به، وانفتاح الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية، كما قال بعض الشيوخ: لقد كنت في حال أقول فيها: إن كان أهل الجنة في هذه الحال إنهم لفي عيش طيب. وقال آخر: لتمر على القلب أوقات يرقص فيها طرباً، وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان والمعرفة...
وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله والتقرب إليه بما يحبه، ولا تمكن محبته إلا بالاعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة لا إله إلا الله، وهي ملة إبراهيم الخليل – عليه السلام- وسائر الأنبياء والمرسلين صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين...
والعبد إذا أنعم الله عليه بالتوحيد فشهد أن لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه- والإله هو المعبود، الذي يستحق غاية الحب والعبودية بالإجلال والاكرام، والخوف والرجاء، يفنى القلب بحب الله تعالى عن حب ما سواه، ودعائه والتوكل عليه وسؤاله عما سواه. وبطاعته عن طاعة ما سواه- حلاه الله بالأمن والسرور، والحبور، والرحمة للخلق، والجهاد في سبيل الله؛ فهو يجاهد ويرحم. له الصبر والرحمة، قال الله تعالى: "وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ"، وكلما قوي التوحيد في قلب العبد قوي إيمانه وطمأنينته، وتوكله، ويقينه) (5).
ويتحدث سيد قطب رحمه الله تعالى عن الأمن النفسي عند قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً" [البقرة:208] فيقول: (والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام. عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضى واستقرار. لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال. سلام مع النفس والضمير. سلام مع العقل والمنطق. سلام مع الناس والأحياء. سلام مع الوجود كله ومع كل موجود. سلام يرف في حنايا السريرة. وسلام يظلل الحياة والمجتمع. سلام في الأرض وسلام في السماء.
وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره لله ربه، ونصاعة هذا التصور وبساطته.. إنه إله واحد. يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه؛ فلا تتفرق به السبل، ولا تتعدد به القبل؛ ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك- كما كان في الوثنية والجاهلية- إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح.
وهو إله قوي قادر عزيز قاهر.. فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود. وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح. ولم يعد يخاف أحداً أو يخاف شيئاً، وهو يعبد الله القوي القادر العزيز القاهر. ولم يعد يخشى فوت شيء، ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء.
وهو إله عادل حكيم، فقوته وقدرته ضمان من الظلم، وضمان من الهوى، وضمان من البخس، وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات. ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد، ينال فيه العدل والرعاية والأمان.(/24)
وهو رب رحيم ودود. منعم وهاب. غافر الذنب وقابل التوب، يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. فالمسلم في كنفه آمن آنس، سالم غانم، مرحوم إذا ضعف، مغفور له متى تاب.
وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام؛ فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه، وما يطمئن روحه، وما يضمن معه الحياة والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام..
والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه، ونفي القلق والسخط والقنوط.. إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض؛ والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة.. إن الحساب الختامي هناك؛ والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب. فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه. ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس، فسوف يوفاه بميزان الله، ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد، فالعدل لابد واقع. وما الله يريد ظلماً للعباد.
والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات. لا تحرج ولا حياء. فهناك الآخرة فيها عطاء، وفيها غناء، وفيها عوض عما يفوت. وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة؛ وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين؛ وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود!...
وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر الله، في طاعة الله، لتحقيق إرادة الله.. وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار؛ والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق؛ وبلا قنوط من عون الله ومدده؛ وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء.. ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء الله وأعداءه. فهو إنما يقاتل لله، وفي سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله؛ ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة.
كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة الله مع هذا الكون كله. قانونه قانونه، ووجهته وجهته، فلا صدام ولا خصام، ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة، وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته، وتهتدي بالنور الذي يهتدي به، وتتجه إلى الله وهو معها يتجه إلى الله) (6).
ويقول أيضاً في موطن آخر (ويسكب الإسلام في النفس السكينة والأمن والسلام، بالركون إلى الله والاطمئنان إلى جواره، والثقة في رحمته ورعايته وحمايته، ويتميز الإسلام بأن العلاقة فيه مباشرة بين الرب والعبد، لا يدخل فيها كاهن ولا قسيس، ولا تتعلق بإرادة مخلوق في الأرض ولا في السماء.
وفي ظل هذه الصلة المباشرة يحس الفرد أنه يرتكن إلى القوة التي ليس فوقها قوة، والتي لا تعدلها قوة. وهي أبداً حاضرة، وفي متناوله أن يركن إليها، ويستعينها، متى أخلص نفسه لها فلم يشرك بها في شعوره قوة، ولم يحسب لغيرها في ضميره حساباً: "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" [غافر:6]، "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" [البقرة: 186].
وفي ظل هذه القوة تتضاءل قوى الأرض جميعاً، وتتساقط أغشية العظمة الكاذبة، والجبروت الزائف، ويبدو الأقوياء والأغنياء وأصحاب الجاه والنفوذ والسلطان جميعاً، أقزاماً ضعافاً ضئالاً لا يملكون لإنسان نفعاً ولا ضراً: "قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا" [التوبة:51].
فكل قوى الأرض لا تقدر على ذبابة: "وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ" [الحج:73].
وفي ظل هذه القوة يأمن الفرد على رزقه ومكانته، أمنه على حياته وسلامته، فما من قوة وما من أحد يملك أن يضاره في رزق ولا في مركز ولا في شيء من أمور الدنيا وأمور الآخرة، وإنه لقوي قوي، وكفء لكل قوة تتصدى له، لأنه يستمد من تلك القوة الكبرى التي لا ينضب لها معين، والتي تصرف الكون كله، وتصرف الجبابرة والسلاطين: "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [آل عمران:26].(/25)
فإذا تكاتفت قوى الأرض جميعاً لتبغي به الأذى، فما هي بقادرة إلا أن يشاء الله. فإذا شاء الله أن يناله الأذى، فهنالك حكمة سامية لله، وهناك خير أعلى من خير الفرد المحدود، بل هنالك خير لهذا الفرد قد لا يعلمه اللحظة، ولكن الخالق الأعظم المحيط بالكائنات يعلمه: "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" [البقرة:216].
وما على الفرد إلا أن يسلم نفسه لله، وإلا أن يجعل رضا الله غايته وإلا أن يجاهد لتكون كلمة الله العليا..
وبذلك كله تطمئن النفس وتسكن وتثق، فلا تهزها الأحداث، ولا تذهب بها الأهوال. ولا تفزع من شيء ولا تخاف: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" [الرعد: 28] (7).
ويصف الخواء الروحي والقلق النفسي الذي يعيشه أفراد المجتمعات الكافرة بالله عز وجل فيقول: (إن العالم الذي نعيش فيه اليوم- في أنحاء الأرض- هو عالم القلق والاضطراب والخوف؛ والأمراض العصبية والنفسية – باعتراف عقلاء أهله ومفكريه وعلمائه ودارسيه، وبمشاهدات المراقبين والزائرين العابرين لأقطار الحضارة الغربية.. وذلك على الرغم من كل ما بلغته الحضارة المادية، والإنتاج الصناعي في مجموعه من الضخامة في هذه الأقطار . وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي التي تأخذ بالأبصار.. ثم هو عالم الحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة، وحرب الأعصاب، والاضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك!
إنها الشقوة البائسة المنكودة، التي لا تزيلها الحضارة المادية، ولا الرخاء المادي، ولا يسر الحياة المادية وخفضها ولينها في بقاع كثيرة. وما قيمة هذا كله إذا لم ينشئ في النفوس السعادة والرضى والاستقرار والطمأنينة؟
إنها حقيقة تواجه من يريد أن يرى؛ ولا يضع على عينية غشاوة من صنع نفسه كي لا يرى! حقيقة أن الناس في أكثر بلاد الأرض رخاء عاماً.. في أمريكا، وفي السويد ، وفي غيرهما من الأقطار التي تفيض رخاء مادياً.. إن الناس ليسوا سعداء.. إنهم قلقون يطل القلق من عيونهم وهم أغنياء! وأن الملل يأكل حياتهم وهم مستغرقون في الإنتاج! وأنهم يغرقون هذا الملل في العربدة والصخب تارة. وفي «التقاليع» الغربية الشاذة تارة. وفي الشذوذ الجنسي والنفسي تارة ثم يحسون بالحاجة إلى الهرب. الهرب من أنفسهم. ومن الخواء الذي يعشش فيها! ومن الشقاء الذي ليس له سبب ظاهر من مرافق الحياة وجريانها . فيهربون بالانتحار.
لماذا؟
السبب الرئيسي طبعاً هو خواء هذه الأرواح البشرية الهائمة المعذبة الضالة المنكودة- على كل ما لديها من الرخاء المادي- من زاد الروح.. من الاطمئنان إلى الله... وخواؤها من الأهداف الإنسانية الكبيرة التي ينشئها ويرسمها الإيمان بالله، وخلافة الأرض وفق عهده وشرطه) (8).
مسألة مهمة: إن الأمن الذي يشعر به المؤمن في طاعة الله عز وجل، ويجده في محبة الله تعالى والأنس به، واليقين بلقائه لا يعني أنه لا يتعرض للخوف والفزع في الدنيا بل إن من سنة الله عز وجل في عباده المؤمنين أن يبتليهم ويمحصهم بصنوف من البلاء. ومن أنواع البلاء: المخاوف والهموم والأذى الذي يتعرضون له من أعداء الله عز وجل لكنهم بما عندهم من الإيمان، والتوكل على الله تعالى، والثقة في كفايته، ورجاء الأجر عنده يوم القيامة كل ذلك من شأنه أن يخفف عليهم المخاوف ويسكب في نفوسهم الأمن والطمأنينة والسكينة والثبات. والأمثلة على ذلك كثيرة وكثيرة.
• ... فهؤلاء أنبياء الله تعالى وصفوته من خلقه لم يتعرض أحد من البشر إلى الأذى والمخاوف مثل ما تعرضوا له، ولكنهم واجهوا ذلك كله بالطمأنينة، والاستعانة بالله تعالى وتفويض الأمور إليه.
• ... فهذا إمام الحنفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام تعرض للمخاوف وصنوف الابتلاءات فثبته الله تعالى وأبدله الله تعالى بالأمن والأمان. قال الله تعالى عن محاولة قومه إحراقه: "قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ" [الأنبياء:69،68] وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «حسبنا الله ونعم الوكيل. قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا «إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) (9).(/26)
• ... وهذا موسى عليه الصلاة والسلام حينما ألقته أمه رضيعاً في التابوت ثم في البحر وخافت أمه عليه قال الله عز وجل: "وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ" [القصص: 7] ولما هدد فرعون موسى بالقتل قال تعالى عنه: "وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ" [غافر:27] وقال تعالى عن حالة الأمان التي تمكنت من قلب موسى عندما أدركه فرعون وقومه عند البحر: "فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ" [الشعراء: 60-62].
• ... وهذا سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم لما أدركه الطلب من قريش وهو مختفي في غار ثور وذلك في حادث الهجرة قال الله عز وجل عنه: "إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" [التوبة:40].
• ... وهؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لما حصل لهم ما حصل يوم أحد من الخوف والفزع، ثم جاءهم الخبر بعد انتهاء المعركة أن قريشاً تريد الرجوع لاستئصالهم قال الله عز وجل في وصف حالة الأمن التي واجهوا بها هذه المخاوف: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" [آل عمران: 173] بل إن الله عز وجل قد أنزل على طائفة منهم النعاس في جو المعركة قال تعالى: "ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ... الآية" [آل عمران: 154].
وقد يزين الشيطان لبعض الناس، ويصدهم عن الهدى بتخويفهم أن يتخطفهم الناس، ويتعرضوا للخوف والأذى إن هم آمنوا واستقاموا وذلك عندما يرون المؤمنين وهم يؤذون ويبتلون ويمتحنون. ولكن هذا من تزيين الشيطان. وقد ذكر الله عز وجل هذا الموقف من كفار قريش وذلك في قوله تعالى: "وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا" [القصص:57].
«فهؤلاء لا ينكرون أنه الهدى، ولكنهم يخافون أن يتخطفهم الناس. وهم ينسون الله، وينسون أنه وحده الحافظ، وأنه وحده الحامي؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى الله؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله. ذلك أن الإيمان لم يخالط قلوبهم، ولو خالطها لتبدلت نظرتهم للقوى، ولاختلف تقديرهم للأمور، ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في جوار الله، وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن هداه. وأن هذا الهدى موصول بالقوة موصول بالعزة؛ وأن هذا ليس وهماً وليس قولاً يقال لطمأنة القلوب، إنما هو حقيقة عميقة منشؤها أن اتباع هدى الله معناه الاصطلاح مع ناموس الكون وقواه، والاستعانة بها وتسخيرها في الحياة. فالله خالق هذا الكون ومدبره وفق الناموس الذي ارتضاه له. والذي يتبع هدى الله يستمد مما في هذا الكون من قوى غير محدودة، ويأوى إلى ركن شديد، في واقع الحياة...
إنها النظرة السطحية القريبة، والتصور الأرضي المحدود، هو الذي أوحى لقريش وهو الذي يوحي للناس أن اتباع هدى الله يعرضهم للمخافة، ويغري بهم الأعداء، ويفقدهم العون والنصير، ويعود عليهم بالفقر والبوار. وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله والسير على هداه. يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية! وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا» فلما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان.
وقد رد الله عليهم في وقتها بما يكذب هذا العذر الموهوم. فمن الذي وهبم الأمن؟ ومن الذي جعل لهم البيت الحرام؟ ومن الذي جعل القلوب تهوى إليهم تحمل من ثمرات الأرض جميعاً؟ تتجمع في الحرم من كل أرض وقد تفرقت في مواطنها ومواسمها الكثيرة:
"أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ" [القصص:57].
فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى الله، والله هو الذي مكن لهم هذا الحرم الآمن منذ أيام أبيهم إبراهيم؟ أفمن أمنهم وهم عصاة، يدع الناس يتخطفونهم وهم تقاة؟!
«ولكن أكثرهم لا يعلمون»
لا يعلمون أين يكون الأمن وأين تكون المخافة. ولا يعلمون أن مرد الأمر كله لله) (10).(/27)
ونزول الخوف وتكدير أمن المؤمنين هو من لوازم الابتلاء والتمحيص وهو سنة ربانية على طريق التمكين لأولياء الله عز وجل . قال تعالى: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" [البقرة:155] وقال تعالى: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" [البقرة: 214] والناس يتساوون في الرخاء ويتباينون في الشدة وهذا من حكمة الابتلاء بالمخاوف ونهايته أمن الصف المسلم من الدخلاء وزيادة الإيمان والتسليم للمؤمن قال تعالى: "وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً" [الأحزاب: 22].
ثانياً: حصول الأمن النفسي من التزام الأحكام الشرعية
وأما حصول الأمن والسلامة للفرد من جهة الأحكام الشرعية التي شرعها الحكيم العليم البر الرحيم فهي من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى عناء واستقصاء . بل مجرد استعراض بعض هذه الأحكام والتشريعات كاف لظهور الحكمة العظيمة، والمصالح العميمة التي ينعم بها العبد المسلم، ويستروح في ظلها ويشعر بالأمن والسلام وهو يسير في ضوئها.
وقبل أن أسوق بعض الأحكام، والآداب الشرعية التي شرعها الله عز وجل لتكفل للفرد أمنه النفسي، وتحفظ له ضرورياته الخمس وتحميها من العدوان والضيق والحرج. أنقل ما كتبه سيد قطب رحمه الله تعالى عن سلام الأفراد، وأمنهم وأنه اللبنة الأولى لسلام المجتمعات وسلام البشرية بأسرها حيث يقول:
(إن الإسلام يبدأ محاولة للسلام أولاً في ضمير الفرد، ثم في محيط الأسرة، ثم في وسط الجماعة. وأخيراً يحاول في الميدان الدولي بين الأمم والشعوب.
إنه ينشد السلام في علاقة الفرد بربه، وفي علاقة الفرد بنفسه، وفي علاقة الفرد بالجماعة. ثم ينشده في علاقة الطائفة بالطوائف، وعلاقة الأفراد بالحكومات. ثم ينشده في علاقة الدولة بالدول بعد تلك الخطوات.
وإنه ليسير في تحقيق هذه الغاية الأخيرة في طريق طويل، يعبر فيه من سلام الضمير، إلى سلام البيت، إلى سلام المجتمع، إلى سلام العالم في نهاية المطاف.
لا سلام لعالم ضمير الفرد فيه لا يستمتع بالسلام.. تلك هي فطرة الإسلام.. فإذا شاء أن يقيم السلام العالمي على أساس ركين، فهو يبدؤه هنالك في قرارة الضمير..
وللفرد في النظام الإسلامي قيمة أساسية، فهو اللبنة الأولى في بناء الجماعة، وفي ضميره تنبت الذرة الأولى للعقيدة، وفي سلوكه تستحيل العقيدة المكنونة حقيقة ظاهرة، بل يستحيل هو ذاته ترجمة حية لهذه العقيدة.
وفي ضمير الفرد يغرس الإسلام بذرة السلام. السلام الإيجابي الذي يرفع الحياة ويرقيها، لا السلام السلبي الذي يرضى بكل شيء، ويدع المبادئ العليا تداس في سبيل العافية والسلامة. السلام النابع من التناسق والتوافق، المؤلف من الطلاقة والنظام! الناشيء من إطلاق القوى والطاقات الصالحة البانية، ومن تهذيب النزوات والنزعات، لا من الكبت والتنويم والخمود. السلام الذي يعترف للفرد بوجوده وبنوازعه وبأشواقه، ويعترف في الوقت ذاته بالجماعة ومصالحها وأهدافها، وبالإنسانية وحاجاتها وأشواقها، وبالدين والخلق والمثل.. كلها في توافق واتساق) (11).
وأسوق فيما يلي بعض الأحكام الشرعية التي أنزلها الله عز وجل في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم والتي من شأنها أن يأمن الفرد في ظلالها على دينه وعلى نفسه وعقله وماله وعرضه.
أولاً: ما ورد من الأحكام الشرعية بقصد الأمن على الدين ودرء الفساد الواقع أو المتوقع عليه:
أ - ... النهي عن الجلوس مع الخائضين في دين الله تعالى المثيرين للشبهات والشهوات. قال الله تعالى: "وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" [الأنعام: 68].
ومن ذلك تحذيره صلى الله عليه وسلم من جليس السوء الذي يجر جليسه إلى الضلال والانحراف في الاعتقاد والسلوك. قال صلى الله عليه وسلم: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير. فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة»(12). وجليس السوء قد يكون من أهل الشبهات أو أهل الشهوات.(/28)
ب - ... التحذير من طاعة شياطين الأنس والجن؛ لكونهم يقودون من أطاعهم إلى الكفر والمعاصي، والوقوع في سخط الله عز وجل. قال الله تعالى: "وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ" [الأنعام: 121]، وقال تعالى: "وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً" [الفرقان: 27-29]، ومن ذلك نهي السلف رحمهم الله تعالى عن قراءة كتب أهل البدع وأهل الشهوات لما تجر من خلل في عقيدة المسلم وسلوكه وأخلاقه.
ج- ... النهي عن الجدال في الدين، والمراء فيه؛ لأن ذلك يقود إلى التعصب والهوى، والتكبر على الحق؛ وبالتالي الانحراف عن الدين الصحيح. قال الله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" [غافر: 56]. ومن ذلك ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، وهم يختصمون في القدر، فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب فقال: «بهذا أمرتم أو لهذا خلقتم. تضربون القرآن بعضه ببعض، بهذا هلكت الأمم قبلكم» قال عبد الله بن عمرو: ما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عنه»(13). وعندما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخة من التوراة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضب وقال: «أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب. والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية... الحديث»(14). ومن ذلك نهي السلف عن مجالسة أهل البدع وقراءة كتبهم.
د- ... الأمر بالهجرة من مكان الشرك إلى بلد الإسلام، ومن بلد البدعة إلى بلد السنة؛ حتى يأمن العبد على دينه ولا يفتن، قال الله تعالى: "وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً" [النساء:100]، وقال تعالى معنفاً على من تمكن من الهجرة بدينه فلم يهاجر ففتن في دينه: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً" [النساء: 97].
... ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن»(15).
هـ- ... الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى، لما في الجهاد والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من درء الشر والفساد عن الدين من قبل المفسدين الصادين عن سبيل الله تعالى. ولولا ذلك لفسد على الناس دينهم. قال الله تعالى: "وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" [الحج: 40]. وقال سبحانه: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" [الأنفال:39 ].
و- ... الوعيد الشديد لمن يضل الناس ويصد عن سبيل الله تعالى. قال الله عز وجل: "لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ" [النحل:25 ]. وقال صلى الله عليه وسلم «من سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا تنقص من أوزارهم شيء»(16).
ز- ... تحريم الوسائل المفضية إلى الشرك كتحريم الصور، والتبرك بالقبور وتشييدها، وبناء القبب عليها، أو التبرك بالصالحين وآثارهم، والغلو فيهم، وغير ذلك من الوسائل الشركية. ومن هذا الباب : النهي عن سب آلهة المشركين حتى لا يسبوا الله عز وجل، أو يسبوا دين الإسلام. قال تعالى: "وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ" [الأنعام :108].
ح- ... تحريم القول على الله تعالى بلا علم، لما في ذلك من نشر للشرك والبدع. ومن هذا الباب التحذير من الفتوى بلا علم أو الفتوى بهوى.(/29)
ط- ... التحذير الشديد والمتكرر في الكتاب والسنة من الركون إلى الدنيا، والغفلة عن الآخرة لأن ذلك يؤدي إلى الغفلة، ورقة الدين، وترك الاستعداد للرحيل، قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ" [فاطر: 5].
ي- ... الحث على طلب العلم، والتفقه في الدين، والتحذير من الجهل، والتقليد الأعمى، والهوى والكبر التي هي أصل الانحراف عن الدين والزيغ عن الحق وأهله . قال الله عز وجل: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ" [الحج:3، 4].
ثانياً: ما ورد من الأحكام الشرعية للحفاظ على النفوس وأمنها ودرء الفساد الواقع والمتوقع عليها:
أ - ... يؤمن الإسلام الفرد من كل اعتداء. اعتداء فرد مثله أو اعتداء حاكم عليه إلا بحق. قال صلى الله عليه وسلم «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة»(17). وقال يوم النحر في خطبة الوداع: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا... الحديث»(18).
ب - ... وشرع الله عز وجل القصاص في قتل العمد، حفاظاً على الأنفس، وحياة لها وذلك في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" [البقرة: 179،178]. وتوعد الله عز وجل قاتل العمد بالعذاب العظيم يوم القيامة قال سبحانه: "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً" [النساء:93] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا يزال المؤمن في فسحة من دينه مالم يصب دماً حراماً»(19).. كما شرع الكفارة في قتل الخطأ وذلك في قوله تعالى: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا... الآية" [النساء: 92].
ج- ... كما حرم الله عز وجل الاعتداء على النفس فيما دون القتل كالضرب أو إتلاف عضو من أعضاء الجسد وشرع في ذلك القصاص وذلك في قوله تعالى: "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [المائدة: 45].
د- ... الأمر بالأكل والشرب من غير إسراف، قال تعالى: "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ... الآية" [الأعراف:32،31 ] وذلك للحفاظ على بقاء الحياة، وقوة الجسم، وصحته. ومن ذلك إباحة أكل الميتة والمحرمات عند انعدام الأكل الحلال من باب الضرورة للحفاظ على النفس من التلف، قال تعالى: "إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [البقرة: 173].
هـ- ... النهي عن الإشارة بالسلاح إلى المعصوم خشية إيذائه بجرح، أو إتلاف عضو، أو قتل عن طريق الخطأ والمزاح، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار»(20).
و- ... الوعيد الشديد على من يضرب أبشار الناس، ويعذبهم بجلد أو غيره بغير حق. قال صلى الله عليه وسلم :«صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة؛ لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا»(21).
... وقال صلى الله عليه وسلم : «من ضرب بسوط ظلماً أقتص منه يوم القيامة»(22).(/30)
... وعن هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنهما أنه مر بالشام على أناس من الأنباط وقد أقيموا في الشمس وصب على رؤوسهم الزيت فقال: ما هذا؟ قيل: يعذبون في الخراج ، وفي رواية: حبسوا في الجزية. فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا» فدخل على الأمير فحدثه فأمر بهم فخلوا»(23).
ز- ... الأمر بالتداوي للمحافظة على عافية البدن والنهي عن إيراد ممرض على مصح وبخاصة إذا جعل الله عز وجل في المرض خاصية العدوى. قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بحرام»(24).
... وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم :«لا يوردن ممرض على مصح»(25).
ثالثاً: ما ورد من الأحكام الشرعية في حماية العقل مما يتلفه أو يضره ويؤمنه من الشرور:
أ- ... تحريم كل مسكر ومخدر، ومذهب للعقل، أو مضعف له قال الله عز وجل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ" [المائدة: 90-91]. وقد رتب الشارع حد الجلد عقوبة لشارب المسكر .
ب- ... التحذير من الوساوس الشيطانية، والخواطر الرديئة التي إن فُسح لها المجال فإنها تؤذي العقل وتغتاله، وتجعله نهباً للأفكار والوساوس السيئة التي تقوده إلى الاضطراب والقلق والحيرة. كما شرع لحفظ العقل ما شرع لحفظ الجسم ووقايته من الآفات. فكما أن الطعام والشراب ضروريان لحفظ النفس فهما أيضاً ضروريان لحفظ العقل والتفكير السليم.
ج- ... تحريم كل ما من شأنه أن يتلف العقل، أو يضعفه، أو يصير صاحبه مجنوناً أو سفيهاً، أو يجعله مصاباً بالأمراض النفسية التي تحد من نشاطه بحيث يكون سلبياً انعزالياً، أو تهيجه بحيث يكون عدوانياً متهوراً. وهذه الآفات تأتي إما من الاعتداء على الرأس، وما يحويه من المخ والأعصاب، أو تناول المخدرات والمنبهات والمفترات. أو بتراكم الهموم والمصائب والأحداث التي لا يكون لصاحبها مخرج منها ولم يجد من يواسيه، ويفرج عنه كربته، ويقضي حاجته مع القدرة على ذلك.
... ولذلك جاء في شرعنا المطهر الأمر بإغاثة الملهوف، وتفريج الكرب عن المكروبين، وتسلية المصابين، والتيسير على المعسرين، والانطلاق في حاجة المحتاجين، وهذه بدورها تخفف على أهل المصائب والكربات كرباتهم، وتضعف من تأثيرها الضاغط على العقل والتفكير، قال صلى الله عليه وسلم :« المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة»(26).
د- ... النهي عن مجالسة أهل الأهواء والشبهات، أو القراءة في كتبهم لما في ذلك من تلويث للعقل السليم، وسبباً من أسباب انحرافه واضطرابه، واختلال موازينه وتفكيره.
رابعاً: ما ورد من الأحكام الشرعية في المحافظة على عرض المسلم ونسله وحمايتها من الاعتداء.
أ- ... تحريم التجسس على المسلم، وإساءة الظن به، وتحريم الغيبة والنميمة حماية لعرض المسلم من أن ينتهك، أو يمس بسوء. ولما في ذلك من الإفساد والإحزان للمسلم. قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ" [الحجرات:12].
ب- ... تحريم السخرية والتنابز بالألقاب لما في ذلك من إحزان المسخور منه، ولما يترتب على ذلك من الشحناء والإحن والبغضاء. قال الله عز وجل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [الحجرات: 11].(/31)
ج- ... الأمر بغض البصر عن النساء الأجنبيات والرجال الأجانب حماية للعرض والنسل؛ وذلك لما يقود إلى الفتنة، والوقوع في الزنا الذي يدنس الأعراض ويخلط الأنساب والنسل. قال الله تعالى: "قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا... الآيات" [النور:31،30].
د- ... نهي النساء عن التبرج، وإظهار الزينة المحرمة للرجال الأجانب، وأمرهن بالحجاب حفاظاً على عرض المسلم والمسلمة، وصيانة لهما من الابتذال والاعتداء. وثمرة ذلك الشعور بالأمن والأمان على الأعراض والأنساب. قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً" [الأحزاب: 59].
... ومن ذلك النهي عن الخلوة بالمرأة الأجنبية لقوله صلى الله عليه وسلم :«لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم»(27).
هـ- ... تحريم سب المسلم، ولعنه قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (28)وقوله صلى الله عليه وسلم : «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»(29).
و- ... تحريم الزنا والعقوبة المغلظة لمرتكبه وذلك بالرجم حتى الموت للمحصن أو الجلد مائة جلدة للبكر مع التغريب.
ز- ... تحريم قذف المسلمين والمسلمات في أعراضهم، بدون بينة شرعية وفي ذلك صيانة لعرض المسلم من الابتذال وإشعار له بالأمن والأمان. قال الله تعالى: "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [النور:4].
ح- ... تحريم أذى الجار والاعتداء عليه في نفسه أو عرضه أو ماله. قال صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن . والله لا يؤمن. والله لا يؤمن. قيل ومن يارسول الله. قال الذي لا يأمن جاره بوائقه»(30) ولما سُئِل الرسول صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم قال صلى الله عليه وسلم : «أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت: إن ذلك لعظيم، قال: قلت ثم أي قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي قال: أن تزاني بحليلة جارك»(31).
خامساً: ذكر بعض ما ورد من الأحكام الشرعية التي تحفظ للمسلم ماله وتحميه مما يهدد أمنه وسلامته.
أ- ... تحريم الغش في البيع والشراء، وكل ما من شأنه أن يكون أكلاً للمال بالباطل ومن ذلك بيوع الغرر والجهالة والتدليس والبخس وغيرها. قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ... الآية" [النساء: 29] وقال صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا»(32). وقال أيضاً: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبيع بعضكم على بيع بعض... الحديث»(33).
ب- ... حماية أموال الناس من السرقة وذلك بترتيب حد السرقة وهو قطع اليد كما في قوله تعالى: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" [المائدة:38].
ح- ... الأمر بكتابة الدين حسماً للاختلاف والشقاق وحفظاً لمال المسلم من الضياع، قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ... الآية" [البقرة: 282].
د- ... تحريم الربا حماية للفقراء والمحتاجين من تسلط الأغنياء عليهم وحفظاً للأموال من أن تؤكل بالباطل قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" [البقرة: 278-280 ].
هـ- ... الإذن لمن اعتدي على ماله بالدفاع عن ماله. ولو قتل بسبب ذلك فهو شهيد قال صلى الله عليه وسلم : «من قتل دون ماله فهو شهيد»(34).
و- ... تحريم الرشوة والغلول، والأكل من المال العام بغير حق، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي»(35) وقال تعالى في الغال: "وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ... الآية" [آل عمران: 161] وقال صلى الله عليه وسلم : «إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة»(36).(/32)
ز- ... تحريم الاعتداء على مال المسلم بالغصب، أو التحايل، أو تغيير منار الأرض، أو أخذ المكوس والضرائب بغير حق، أو إنكار الدين والأمانة وعدم ردها إلى أهلها. قال الله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا... الآية" [النساء:58] وقد مر قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام... الحديث»(37) وقال أيضاً: «من ظلم شبرا من الأرض طوقه من سبع أرضين»(38)، ومن أكل المال بالباطل التحايل بأكله بالقمار والميسر والخداع.
ح- ... تحريم شهادة الزور على مسلم لأكل ماله، وضياع حقه قال صلى الله عليه وسلم : «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، قال رجل : وإن كان شيئاً يسيرا يارسول الله؟ فقال: «وإن قضيباً من أراك»(39).
ط- ... تحريم الخيانة والغدر في العقود والعهود، والكذب فيها؛ لأن ذلك من خصال المنافقين؛ وفيها ضياع حق المسلم وذهاب ماله قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ... الآية" [المائدة:1]، وقال صلى الله عليه وسلم «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»(40).
... هذا بعض ما ضمنه الإسلام لمن دخل فيه من الأمن النفسي، والاطمئنان القلبي الناشئين من الإيمان بالله تعالى، ومعرفته، والأنس به واليقين بلقائه. وبما فيه من الأحكام الشرعية التي تضمن الأمن للمسلم في دينه ونفسه وعقله وعرضه وماله . فالحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله "يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" [الحجرات:17].
ثانياً: أمن البيت والأسرة
يتحدث سيد قطب رحمه الله تعالى عن سلام البيت والأمن الأسري فيقول: (البيت مثابة وسكن؛ وفي ظله تنبت الطفولة، وتدرج الحداثة، ومن سماته تأخذ سماتها وطابعها، وفي جوه تتنفس وتتكيف.. وكم من أحداث وحوادث وقعت على مسرح المجتمع، وأثرت في سير التاريخ، تكمن بواعثها الخفية في مؤثرات بيتية.
والفرد الذي لا يستمتع في بيته بالسلام، لن يعرف للسلام قيمة، ولن يتذوق له طعماً، ولن يكون عامل سلام وفي أعصابه معركة، وفي نفسه قلق، وفي روحه اضطراب.
والإسلام يتجه إلى بذر بذور السلام في البيت، في ذات الوقت الذي يتجه فيه إلى الضمير الفردي، وإلى المجتمع الدولي.. فكلها حلقات متضامنة، وفيما بينها ترابط واتصال.
• ... يبدأ الإسلام أولاً بتصوير العلاقة البيتية تصويراً رفافاً شفيفاً، يشع منه التعاطف، وترف فيه الظلال؛ ويشيع فيه الندى، ويفوح منه العبير: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً" [الروم:21]، "هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ" [البقرة: 187] فهي صلة النفس بالنفس، وهي صلة السكن والقرار، وهي صلة المودة والرحمة، وهي صلة الستر والتجمل. وإنك لتحس في الألفاظ ذاتها حنوا ورفقاً، وتستروح من خلالها نداوة وظلاً. وإنها لتعبير كامل عن حقيقة الصلة التي يفترضها الإسلام لذلك الرباط الإنساني الرفيق الوثيق. ذلك في الوقت الذي يلحظ فيه أغراض ذلك الرباط كلها بما فيها امتداد الحياة بالأولاد، فيمنح هذه الأغراض كلها طابع النظافة والبراءة، ويعترف بطهارتها وجديتها، وينسق بين اتجاهاتها ومقتضياتها، ذلك حين يقول: "نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ" [البقرة: 223]. فيلحظ كذلك معنى الإخصاب والإكثار.
يحيط الإسلام هذه الخلية، أو هذا المحضن، أو هذه المثابة، بكل رعايته وبكل ضماناته. وحسب طبيعة الإسلام الكلية، فإنه لا يكتفي بالإشاعاتْ الروحية، بل يتبعها التنظيمات القانونية، والضمانات التشريعية.
فأولاً: لابد في هذا الارتباط من الرضى والاستئذان، فلا تزوج المرأة بغير إذنها ورضاها: «لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن وإذنها الصموت»(41).
ولابد فيه من الرؤية ليكون هذا الرضى جدياً وقائماً على حقيقة، ومنبعثاً من شعور: «فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما»(42).
وثانياً: لابد فيه من علانية وإشهاد، فلا يتم في السر والخفاء كما تتم الجريمة ، ولابد من إيجاب وقبول صريحين يشهد عليهما الشهود، فلا يبقى ظل من شك أو غموض في قيام هذا الارتباط، حتى ليستحب دق الدفوف لهذه المناسبة زيادة في الإعلان!
وثالثاً: لابد فيه من نية التأبيد لا التوقيت؛ فإذا نوى أو صرح بأن يكون هذا الزواج موقوتاً بزمن لم ينعقد. لأن هذا الارتباط مقصود به السكن والاستقرار، مقصود به أن يركن إليه الزوجان في اطمئنان، وأن يبنيا في ظله الحياة وهما واثقان آمنان.(/33)
ولكي يهيء الإسلام للبيت جوه، ويهيء للفراخ الناشئة فيه رعايتها أوجب على الرجل النفقة وجعلها فريضة، كي يتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب، وما تهيء به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها. فالأم المكدودة بالعمل للكسب، المرهقة بمقتضيات العمل، المقيدة بمواعيده، المشتتة الطاقة فيه.. لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها. وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والخانات، وما يشيع فيها ذلك الأرج الذي يشيع في البيت. فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تنشئها امرأة؛ وأرج البيت لن يفوح إلا أن تطلقه زوجة، وحنان البيت لن يشيع إلا أن تتولاه أم. والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال والملال!
إن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة، أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول، في عصور الانتكاس والشرود والضلال.
وفي سبيل الاستقرار البيتي وقطعاً لدابر الفوضى والنزاع فيه، جعل الإسلام القوامة فيه للرجل، وذلك تمشياً مع سياسة التنظيم التي يحرص عليها الإسلام حرصاً شديداً، والتي جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر الرجال أن يؤمروا عليهم أحدهم حتى لو خرج ثلاثة في أمر فأحدهم أمير.
أيضاً. فأي الزوجين كان المنطق كفيلاً بأن يسلمه القيادة؟ المرأة المشبوبة العواطف والانفعال بحكم وظيفتها الأولى في رعاية الأطفال، وتعطير جو البيت بالجمال؟ أم الرجل الذي كلفه الإسلام الإنفاق لتخلو المرأة إلى عبئها الضخم، وتنفق فيه طاقتها ووسعها؟ لقد جعل له الإسلام القوامة، تحقيقاً لنظامه المطرد أن تكون في كل عمل قيادة وقوامة، واختاره لأنه بخلقته وتجاربه أصلح الإثنين لهذه الوظيفة.
وهكذا حين تعرض المسألة في بساطتها هذه، وفي وضوحها، ينكشف ذلك اللغط الهاذر الذي تلوكه ألسنة الفارغين، والفارغات في هذا الزمان حول هذا النظام، ويتجلى أن فراغ الحياة وفراغ القلوب وفراغ العقول، هو الذي ينشئ ذلك اللغط، ويجعله موضوع جدل ومادة حديث. وهو نظام قصد به الإسلام أن يكون حلقة من حلقات السلام في البيت، وضمانة للاستقرار فيه والنظام. ولكن في عهود الانتكاس، وفي فترات الفراغ من جديات الأمور ، لا يبقى للمجتمع ما يحفل به إلا الفتات والقشور، وإلا الهذر واللجاج!) (43).
• ... وعن تحريم الاختلاط المحرم والتبرج وأثر ذلك في إشاعة الأمن والسلام في جو البيت والأسرة يقول رحمه الله تعالى:
(وفي سبيل السلام البيتي، وإشاعة الثقة واليقين فيه كان النهي عن التبرج، وكان التحرج من الاختلاط، وكان الأمر بالحشمة والتحفظ، حتى لأمهات المؤمنين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ" [الأحزاب:59]، "قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [النور: 31،30].
إن من حق الرجل كما أن من حق المرأة أن يطمئن كلاهما إلى رفيقه، وألا يتعرض للإغراء الذي قد تنجرف معه عواطفه عن شريكه، إن لم يقده الانحراف إلى الانزلاق والخطيئة، مما يهدد ذلك الرباط المقدس، ويطيِّر عن جوه الثقة الكاملة والاطمئنان.(/34)
هذا الانحراف في العواطف، والانزلاق إلى ما هو أبعد، واقع كل يوم وكل لحظة في المجتمعات التي ينطلق فيها الاختلاط، وتنطلق فيها المرأة متزينة متبرجة، وتنطلق معها شياطين الفتنة والإغراء. وهذر فارغ يكذبه الواقع ما تلهج به ألسنة الببغاوات هنا، وألسنة الشاردين هناك من أن الاختلاط يهذب المشاعر، ويصرف الطاقات المكبوتة، ويعلم الجنسين آداب الحديث وآداب المعاشرة، ويزود بالتجربة التي تصون من الزلل. وأن الاختيار القائم على التجربة الكاملة- حتى عنصر الخطيئة- كفيل بأن يمسك الشريكين كلاً لصاحبه، لأنه إنما اختاره عن رضى، وبعد تجربة.
أقول: هذر يهدمه الواقع، واقع الانحرافات الدائمة والتحولات المستمرة في العواطف، وتحطيم البيوت بالطلاق وغير الطلاق، وانتشار الخيانات الزوجية المزدوجة في تلك المجتمعات) (44) .
ثم يتحدث رحمه الله تعالى عن التكافل العائلي داخل الأسرة وضمان حق الزوج والزوجة والأولاد والوالدين فيقول: (... الإسلام يعني بأمن الأسرة التي يضمها البيت جميعاً، وينظم العلاقات بينهم جميعاً، ويقرر التكافل بينهم جميعاً. وفي التكافل حقوق وواجبات، ومزايا وتكاليف، تنتهي كلها إلى ثقة متبادلة، واطمئنان إلى الحياة والمستقبل، وشعور بالأمن فيها والقرار.
إن عاطفة الأمومة وحدها تكفي في رعاية الوليد؛ وإن عاطفة الأبوة وحدها تكفي في النهوض له وللأم بالنفقة، ولكن الإسلام يضيف إلى العاطفة الفطرية التكليف الصريح. شأنه في ذلك شأنه في كل جوانب الحياة. إنه يبث العقيدة ويستثير الوجدان، ولكنه لا يدع التكاليف غامضة مبهمة، ولا يكلها لمجرد الوجدان والعاطفة. وإنما يحددها بالنص ويؤيدها بالتشريع. وكذلك يفعل في حق الطفولة. "وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً" [الإسراء: 31].
"وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ" [البقرة: 233].
فأما الوالدان فلهما حقهما المقابل- وفي الإسلام كل حق يقابله واجب- يزيد عليه ما يناسب الأبوة والأمومة من احترام وطاعة وأدب، ومن رفق في حالة كبرهما وعطف، وإن الألفاظ التي يعبر بها القرآن عن هذه المعاني لتسيل انعطافاً ورقة وشفافية: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً" [الإسراء: 24،23] وللوالدة بقدر ما تعبت وبقدر ما عطفت "وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ" [لقمان: 14] ولابد من لفتة في الآيتين إلى اقتران الإحسان للوالدين بعبادة الله في الأولى، واقتران الشكر للوالدين بالشكر لله في الثانية، ففي هذا الاقتران إيحاء ظاهر المعنى لا يخفى.
وينسحب هذا التكافل بين أفراد الأسرة جميعاً... هذا التكافل العائلي الواسع النطاق- مضافاً إلى ما أسلفنا من النظم الإسلامية لشؤون البيت- دعائم للسلام والأمان في مثابة البيت. وشعار الإسلام في هذا هو ذلك الذي قدمناه في أول الفصل: «الفرد لا يستمتع في بيته بالسلام، ولن يعرف للسلام قيمة ، ولن يتذوق له طعماً، ولن يكون عامل سلام، وفي أعصابه معركة، وفي نفسه قلق، وفي روحه اضطراب»)(45).
وحتى الطلاق الذي ظاهره اضطراب لسلام الأسرة والبيت فإنه حين يلتزم بالأحكام الشرعية في إيقاعه فهو في حقيقته أمن وسلام حينما لا يكون منه بد. وفي ذلك يقول سيد قطب رحمه الله تعالى:
(والطلاق ؟ إنه صمام الأمن في هذه الخلية. إنه أَبغض الحلال إلى الله ولكنه مكروه تبيحه الضرورة ، تحقيقاً للسلام الحقيقي في جو البيت حين يعزّ السلام عن كل طريق سواه. وإنه لاعتراف بالمنطق الواقع الذي لا تجدي في إنكاره حذلقات المتحذلقين، ولا تدفع وجوده كذلك أحلام الشعراء. إن هنالك حالات واقعية تتعذر فيها الحياة الزوجية، فإمساك الزوجين على هذا الرباط مرغمين لا يؤدي إلى خير، ولا ينتهي إلى سلام.
والإسلام لا يسرع إلى رباط الزوجية المقدس فيفصمه لأول وهلة، ولأول بادرة من خلاف. إنه يشد على هذا الرباط بقوة، ويستمسك به في استماتة، فلا يدعه يفلت إلا بعد المحاولة واليأس والمحال.(/35)
إنه يهتف بالرجال: "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً" [النساء:19] .. فيميل بهم إلى التريث والمصابرة حتى في حالة الكراهية، ويفتح لهم تلك النافذة المجهولة: "فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً" [النساء:19] .. فما يدريهم أن في هؤلاء النسوة المكروهات خيراً. وأن الله يدخر لهم هذا الخير فلا يجوز أن يفلتوه، إن لم يكن ينبغي لهم أن يستمسكوا به ويعزوه! وليس أبلغ من هذا في استحياء الانعطاف الوجداني واستثارته، وترويض الكره وإطفاء شرته.
فإذا تجاوز الأمر مسألة الكره والحب إلى النشوز والنفور، فليس الطلاق أول خاطر يهدي إليه الإسلام، بل لابد من محاولة يقوم بها الآخرون وتوفيق يحاوله الخيرون: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً" [النساء:35].
فإذا لم تجد هذه الوساطة، فالأمر إذن جد، وهنالك مالا تستقيم معه هذه الحياة، ولا يستقر لها قرار. وإمساك الزوجين على هذا الوضع إنما هو محاولة فاشلة، يزيدها الضغط فشلاً. ومن الحكمة التسليم بالواقع، وإنهاء هذه الحياة على كره من الإسلام، فإن أبغض الحلال إلى الله الطلاق. ولعل هذه التفرقة تثير في نفس الزوجين رغبة جديدة لمعاودة الحياة، فكثيراً ما نتفقد الشيء بعد أن نفقده، ونرى حسناته عندما نحرمه. والفرصة لم تضع: "الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ" [البقرة: 129].. على أن الطلاق يجب ألا يقع في فترة الحيض. بل ينبغي أن يقع في طهر لم يكن فيه وطء. وهذه مهلة يمد فيها الإسلام، عسى أن يسكن الغضب إن كان هو الذي يوحي بالطلاق. ثم هناك فترة العدة في حالة الدخول بالزوجة، بعد الطلاق الأول، ثلاثة أشهر على وجه التقريب إن لم يكن هناك حمل، وحتى الوضع إن كان. وعليه أن ينفق عليها في هذه الفترة ولا يقتر في النفقة. وفي خلالها يجوز له إن كان قد ندم أن يراجع زوجه، وأن يستأنفا حياتهما بلا أي إجراء جديد. فهو طلاق رجعي ، والحياة الزوجية قابلة للاستئناف بأيسر الأسباب.
فإذا تركت مدة العدة تمضي دون مراجعة، صار الطلاق بائناً. ولكن الفرصة بعد لم تضع، وفي استطاعتهما أن يستأنفا هذه الحياة متى رغبا، ولكن بعقد جديد.
وتلك هي التجربة الأولى، وهي تكشف لكلا الزوجين عن حقيقة عواطفهما، وعن جدية الأسباب التي انفصلا بسببها. فإذا تكررت هذه الأسباب أو جدّ سواها، واندفع الزوج مرة أخرى إلى الطلاق، فعندئذ لا تبقى سوى فرصة واحدة، وهي الثالثة. وفي الثانية نذير. فإذا وجدا أن الحياة مستطاعة من جديد، وإذا كشفا في مشاعرهما عن بقية من ود، أو عن دفين من حب عاودا الحياة. فأما إذا كانت الثالثة، فالعلة إذن عميقة، والمحاولة غير مجدية. ومن الخير له ولها أن يجرب كل منهما طريقه؛ ومن الخير كذلك أن يتلقى الزوج إن كان عابثاً أو متسرعاً نتيجة عبثه أو تسرعه: "فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ" [البقرة:230 ] لا على طريقة «المحلل» الشائعة، والتي لا يعترف بها الإسلام، ولا تقرها شريعته. ولكن على أن تتزوج زواجاً حقيقياً جديداً، منوياً فيه التأبيد لا التوقيت. فإذا حدث لأمر ما أن طلقت من زوجها الجديد أو مات عنها، فلزوجها الأول أن يتزوجها من جديد. وأن يستأنفا معاً رحلتهما في الحياة.
ولا يجوز أن تنسى في هذا المجال توصيات الإسلام في كل خطوة وفي كل مرحلة بحسن المعاملة وتوفية النفقة، تأليفاً للقلوب النافرة في فترة العدة، فقد يعود إليها ودها، وتجبر شعوبها، وتستأنف الحياة صافية من جديد: "وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ" [البقرة: 231].
ذلك هو الطلاق في الإسلام.. صمامة أمن لا تنطلق إلا حيث لا يكون مفر من انطلاقها، ومحاولة بعد محاولة في التوقي والاستصلاح والمراجعة، وفرصة بعد فرصة تكشف للزوجين عن حقيقة مشاعرهما، وعن أخطائهما في السلوك أو أخطائهما في التقدير، أو أخطائهما في الشعور) (46) أ.هـ.
وإضافة إلى ما ذكره سيد قطب رحمه الله تعالى من صور الأمن الأسري في شريعة الإسلام أذكر أيضاً الصور التالية:(/36)
• ... إشعار كل فرد من أفراد الأسرة بمسؤوليته والأمانة الملقاة على عاتقه. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته»(47).
• ... الأمر بالمحافظة على حرمة البيوت، ووجوب الاستئذان عند دخولها. قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" [النور: 28،27].
• ... النهي عن التجسس على البيوت، والاطلاع على ما بداخلها من عورات. قال تعالى: "وَلا تَجَسَّسُوا" [الحجرات:12] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه»(48). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلا اطلع على بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص أو مشاقص، قال: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختله ليطعنه(49).
• ... الأمر بحفظ العورات، وذلك للتربية على سلامة الأعراض، وأمنها في البيوت حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، ولو كانوا أطفالاً. قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" [النور: 59،58].
• ... الأمر بإشاعة السلام في البيت، وذلك بالسلام على الأهل عند الدخول إلى البيوت قال الله تعالى: "فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" [النور: 61].
• ... الأمر بالعدل بين الزوجات حتى تعيش الزوجة في أمان من الظلم، وسلامة من الجور قد اطمأنت على حقوقها، قال الله تعالى: "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً" [النساء:4،3].
• ... الأمر بالعدل بين الأولاد في العطية، وغيرها حتى يأمن أفراد الأسرة ولا تنتشر بينهم العداوة والبغضاء، قال صلى الله عليه وسلم: «فاتقوا الله وأعدلوا بين أولادكم»(50).
• ... وأهم من كل ما سبق الحفاظ على أمن العقيدة والأخلاق لأفراد الأسرة وأمرهم بطاعة الله تعالى ووقايتهم من أسباب عقوبته في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ... الآية" [التحريم: 6] وقوله صلى الله عليه وسلم: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع... الحديث»(51).
_______________
(1) ... اغاثة اللهفان 1/41-42 (باختصار).
(2) ... اغاثة اللهفان 2/544-545.
(3) ... مدارج السالكين 3/164.
(4) ... مدارج السالكين 3/267-268.
(5) ... مجموع الفتاوى ، 8/30-35 (باختصار).
(6) ... في ظلال القرآن 1/208،207.
(7) ... السلام العالمي والإسلام ص59-61 (باختصار).
(8) ... في ظلال القرآن 1/326.
(9) ... البخاري (4563).
(10) ... انظر في ظلال القرآن (باختصار) 5/2704،2703.
(11) ... السلام العالمي والإسلام ص38،37.
(12) ... البخاري (5534).
(13) ... ابن ماجه في المقدمة ، باب القدر حديث (85) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (69).
(14) ... مسند أحمد (14736). وقال الساعاتي في الفتح الرباني: قال في التنقيح رجال أحمد رجال الحسن ومعنى (متهوكون): أي متحيرون.(/37)
(15) ... البخاري في الإيمان، باب من الدين الفرار من الفتنة ، الحديث رقم (19).
(16) ... مسلم (1017).
(17) ... البخاري (6878)، ومسلم (1676) واللفظ للبخاري.
(18) ... البخاري (1739).
(19) ... البخاري (6862).
(20) ... البخاري (7072).
(21) ... مسلم (2128).
(22) ... البخاري في الأدب المفرد (185). وصححه الألباني في صحيح الجامع (6374).
(23) ... مسلم (2613).
(24) ... أبو داود (3874) وصححه الألباني في صحيح أبو داود.
(25) ... البخاري (5771).
(26) ... البخاري (2442).
(27) ... البخاري (5233) ومسلم (1341).
(28) ... البخاري (10) ومسلم (41).
(29) ... البخاري (48) ومسلم (64).
(30) ... البخاري (6016).
(31) ... البخاري (7532)، مسلم (86).
(32) ... مسلم (101) ، (102).
(33) ... مسلم (2564).
(34) ... البخاري (2480).
(35) ... الترمذي (1337) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1074).
(36) ... البخاري (3118).
(37) ... البخاري (1739).
(38) ... البخاري (1612).
(39) ... مسلم (137).
(40) ... البخاري (34)، ومسلم (58).
(41) ... البخاري (5236) ومسلم (1419).
(42) ... ابن ماجه (1865) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1511).
(43) ... السلام العالمي والإسلام ص67-71.
(44) ... السلام العالمي والإسلام 73/72.
(45) ... المصدر السابق (100-102 باختصار).
(46) ... المصدر السابق 85-88.
(47) ... البخاري (893)، مسلم (1829).
(48) ... أبو داود (5171) وصححه الألباني في صحيح سن أبي داود (4308).
(49) ... أبو داود (5172) وصححه الألباني في صحيح سن أبي داود (4309).
(50) ... البخاري (2587) ومسلم (1623).
(51) ... أبو داود (495) وصححه الألباني في صحيح سن أبي داود (466).
ثالثاً: أمن المجتمع
لقد سبق بيان أن أمن المجتمع واستقراره مرهون بطاعة الله تعالى، والتزام أحكامه الشرعية، وبدون ذلك فلا يطمع مجتمع على وجه الأرض في أمن ولا رخاء ولا طمأنينة، وواقع الأمم والمجتمعات في القديم والحديث يشهد بذلك. ويرى الناس هذه السنة الربانية ماثلة للعيان. وأرى أن الحاجة هنا تدعو إلى تكرار بعض الآيات التي سبق ذكرها في مبحث سابق لمناسبتها للمقام ومن ذلك:
• ... قوله تعالى: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" [الأعراف: 96].
• ... وقوله تعالى: "وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً" [الجن: 17،16].
• ... وقوله تعالى: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ" [المائدة: 66،65].
• ... وقوله تعالى: "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ" [النحل: 112].
• ... وقوله تعالى: "فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ" [قريش:4،3].
والآيات في هذا المقام كثيرة جداً. وما ذكرته هو على سبيل المثال، لا على سبيل الحصر.
وقد شرع الله عز وجل في كتابه الكريم، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أحكاماً، وآداباً سامقة تحفظ للمجتمع أمنه، وتحميه من الآفات والشرور التي تكدر عليه أمنه وسلامته. وقبل الدخول في ذكر نماذج من هذه الأحكام الرفيعة النظيفة أقدم لذلك ببعض ما كتبه سيد قطب رحمه الله تعالى عن أمن المجتمع في ظل الإسلام حيث يقول: (في المجتمع تتشابك المصالح، وتتراحم الدوافع، ويكثر الشد والجذب، ويتكرر الأخذ والعطاء. وفي المجتمع يتبادل الأفراد، وتتعامل الجماعات، وتتفاعل القوى، وتتنافس المقدرات. وفي المجتمع يندمج الفرد، ويندمج البيت، وتندمج الأسرة، ويحف بها جميعاً ذلك السياج الضخم الذي يشمل نشاطها جميعاً، ويمثل اتجاهاتها جميعاً، ويؤثر فيها ويتأثر بها في كل اتجاه.(/38)
وعندما يفرض بعض المذاهب الاجتماعية أن العلاقة بين الفرد والفرد هي أبداً علاقة الصراع والخصومة، وأن العلاقة بين الأفراد والسلطات هي أبداً علاقة الكبت والإجبار... يقرر الإسلام أن العلاقة بينهم جميعاً- في المجتمع المسلم- هي علاقة الود والرحمة، وعلاقة التضامن والتعاون، وعلاقة الأمن والسلام. ويقرر أن القاعدة التي تقوم عليها حياتهم هي قاعدة التناسق بين الحقوق والواجبات، والتعادل بين المغانم والمغارم، والتوازن بين الجهد والجزاء. ويقرر أن الغاية المقدرة لهم جميعاً هي امتداد الحياة، وإنماء الحياة، وترقية الحياة والتوجه بكل نشاط فيها وبكل نية وكل عمل إلى الله خالق الكون والحياة.
ومن ثم ينتهي كل نشاط فردي، وكل نشاط اجتماعي، كما ينتهي كل تنظيم وكل إنتاج، إلى السلام الكلي، الذي ينسق بين مختلف النوازع والاتجاهات، ومختلف القوى والطاقات، ومختلف الأفراد والجماعات. لأن هنالك أفقاً أعلى من أفق المصالح الوقتية التي تثير الشحناء، وتؤجج العداوات.
إن المذاهب الغربية منطقية مع البيئة التي نشأت فيها. بيئة الحضارة الغربية المادية، التي تنفي من الحياة كل هدف أبعد من هدف المصلحة المباشرة القريبة، وتنفي عن الإنسانية عنصر التطلع إلى ما هو أبعد من الذات. فحين تحكم الحياة كلها هذه الفكرة المادية لا يكون هنالك مجال لغير الصراع القاسي بين الطبقات في المجتمع، ولا يكون هنالك مجال لغير قوانين العمل وظروف الإنتاج، ومن ثم تصبح مسألة «صراع الطبقات» حقيقة مادية واقعة لا فكاك منها، ولا أمل في اجتنابها، ولا سبيل كذلك لتجاهلها.
فأما حين يحكم الحياة منهج كالمنهج الإسلامي، وحين يأخذ نظام الإسلام الاجتماعي سبيله إلى التنفيذ العملي، وحين يصبح القانون الإسلامي نافذاً كما أراده الله لا كما أراده المحرفون من رجال الدين. عندئذ تصبح «الجبرية المادية» كما تصبح «حتمية صراع الطبقات» مسألة تحكمية لا تستند إلى واقع ولا منطق، لأنها تحكم على بيئة أخرى، ونظام آخر، حكماً مستمداً من بيئة معينة تحكمها الأفكار المادية وتنفي منها الأهداف العليا للحياة) (1) أ.هـ.
وبعد هذه المقدمة نتعرف فيما يلي على بعض صور السلام والأمن الذي يعيشه المجتمع المسلم في ظل شريعةالإسلام التي أنزلها الحكيم العليم، اللطيف الخبير، الرؤوف الرحيم "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" [البقرة: 185]، "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ" [الإسراء: 9]، "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" [المائدة: 50].
الصورة الأولى: يظهر للمتدبر لأحكام الله عز وجل الشرعية التي تتعلق بالمعاملات بين الناس أنها تقوم على كل ما يحقق التواد والتراحم بين المسلمين. ويمنع كل ما من شأنه إيقاع العداوة والبغضاء وإثارة الشحناء والأحقاد بينهم ومن هذه التشريعات:
• ... قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [الحجرات: 13،12].
والآيات واضحة الدلالة في الحرص على إشاعة الأمن والسلام والمحبة بين أفراد المجتمع المسلم، وسد الباب أمام كل سبب يكدر على المسلمين أمنهم وتوادهم وتراحمهم، ويؤكد هذا قوله صلى الله عليه وسلم : «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(2)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا»(3).
• ... وقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ" إلى قوله تعالى في نفس الآية: "ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا" [البقرة: 282].(/39)
ومن الحكم البالغة في تشريع آية الدين هو المحافظة على أموال الناس، والقضاء على أسباب الاختلاف والشحناء، وسوء الظن التي تعكر على الأمن والسلام بين الناس في المجتمع المسلم. ومن ذلك تحريمه صلى الله عليه وسلم أنواعاً كثيرة من البيوع لما تفضي إليه من البغضاء والشحناء، والقطيعة بين المسلمين كقوله صلى الله عليه وسلم : «لا يبتاع المرء على بيع أخيه ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد»(4). ونهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة والملامسة والمنابذة لما فيها من الجهل والغرر والغبن، ومن ذلك تحريم الغش والاحتكار والتطفيف وغيرها من صور الظلم في المعاملات التي من شأنها إثارة العداوة والشحناء بين المسلمين.
• ... نهيه صلى الله عليه وسلم عن التهاجر بين المسلمين وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم :«لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالي يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»(5). بل إنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يتناجى إثنان في حضرة ثالث منعاً لسوء الظن وإيذاء المسلم وإحزانه. قال صلى الله عليه وسلم : «إذا كانوا ثلاثة فلا يناجي إثنان دون الثالث فإن ذلك يؤذيه»(6).
• ... تحريم النميمة بين الناس لما فيها من الإفسادي والتفريق بين المسلمين وتقطيع الأرحام وإثارة الشحناء، قال صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل الجنة قتات»(7) أي نمام.
• ... تحريم الكبر والخيلاء، والتعالي على الناس: قال الله تعالى: "وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ" [لقمان: 18] وقال سبحانه : "وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً" [الإسراء: 37] وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد»(8) ولا يخفى ما في الكبر من التعالي على الناس، وظلمهم واحتقارهم؛ فإذا اختفت هذه الآثار ساد الأمن والسلام والمحبة والإخاء.
• ... تحريم الخمر والميسر ورتب على شرب الخمر عقوبة وحداً. كل ذلك من أجل حماية المجتمع مما يكدر أمنه وسلامته ومما يثير الشحناء والعداوة بين أفراده ، قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ" [المائدة:91،90].
• ... تحريم الربا لما يثيره من الأحقاد في المجتمع، فليس يغيظ النفس أكثر من أن يلجأ المحتاج إلى صاحب المال فينتهز الفرصة السانحة والضرورة الملجأة للفقير ويفرض على أخيه ضريبة حراماً، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" [البقرة:278-280].
إن المال ينبغي أن يعطى للمحتاج قرضاً حسناً بلا فائدة لتنتشر في المجتمع روح المودة والرحمة والسلام والتضامن.
• ... نهيه صلى الله عليه وسلم وتحذيره من الوقوع في صفات المنافقين وخصالهم التي تؤدي بصاحبها إلى التفرق والبغضاء وفقدان الأمن والسلام. قال صلى الله عليه وسلم : «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»(9).
• ... تحريم إيذاء المسلمين وبخاصة إيذاء الجار، قال صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن (ثلاثا) قيل من يارسول الله قال: من لا يأمن جاره بوائقه»(10).
الصورة الثانية: صورة التراحم، والترابط، والمحبة، والتكافل التي يحض الإسلام الناس عليها، ويعد عليها بالثواب في الدنيا والآخرة، ويعيش الناس في أجوائها عيشة الأمن والسلام. ومن ذلك :
• ... قوله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [الحجرات:10].
• ... وقوله تعالى: "لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً" [النساء:114].(/40)
• ... وقوله تعالى في وصف الأنصار مع إخوانهم المهاجرين رضي الله عن الجميع: "وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ" [الحشر:10،9]. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»(11).
• ... وقوله تعالى في فريضة الزكاة التي تحقق المحبة والتكافل والسلام في المجتمع المسلم: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" [التوبة:60]. وحذر المتصدق بماله من المن به، وجرح نفس المتصدق عليه وذلك في قوله عز وجل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى" [البقرة:264].
• ... وقوله عز وجل في وصف الأبرار من عباده: "يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً" [الإنسان: 7-9].
• ... وقوله صلى الله عليه وسلم : «مثل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا. وشبك بين أصابعه»(12).
• ... حثه صلى الله عليه وسلم على إفشاء السلام بين الناس والتهادي لأن ذلك يورث المحبة والألفة والسلام. قال صلى الله عليه وسلم : «لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم. أفشوا السلام بينكم»(13). وقال صلى الله عليه وسلم : « ليسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير»(14) وقال صلى الله عليه وسلم : «تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدر»(15).
• ... أمره صلى الله عليه وسلم بقضاء حوائج المسلمين بإغاثة ملهوفهم والتفريج عن مكروبهم، والتيسير على معسرهم. وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة»(16) ولا يخفى ما في ذلك من إشاعة المحبة والأمن والسلام بين أبناء المجتمع.
• ... النهي عن زجر اليتيم والسائل. قال تعالى: "فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ" [الضحى: 10،9] والحث على إطعامهما ورحمتهما والتضامن معهما.
• ... وقد وصلت الرحمة، ووصل الأمن والسلام في شريعة الإسلام إلى الحيوان البهيم فقد قال صلى الله عليه وسلم : «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه، ثم أمسكه بفمه، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له» قالوا يارسول الله: وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: نعم. في كل ذات كبد رطبة أجر»(17).
• ... وقوله صلى الله عليه وسلم : «والشاة إن رحمتها رحمك الله»(18).
• ... وقوله صلى الله عليه وسلم : «عُذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعتمها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض»(19).
ويتحدث سيد قطب رحمه الله عن المجتمع الإسلامي الذي يسوده الحب، والأمن والسلام، ويقارنه بالمجتمعات الكافرة فيقول: (والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني، في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة، والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال.. كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام.
هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق. هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره. ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب، تختلف درجة صفائه، ولكنه يظل في جملته خيراً من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر، وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية!...
ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة، وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام، أو التي عرفته ثم تنكرت له. هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري، وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين.(/41)
وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو «السويد» حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام. وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي، وإعانات المرض التي تصرف نقداً، والعلاج المجاني في المستشفيات. وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان، مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين، وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت.. وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب..
ولكن ماذا؟ ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري، وخلو القلوب من الإيمان بالله؟
إنه شعب مهدد بالانقراض، فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط! والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات، ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة. والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب. ثم الانتحار.. والحال كهذا في أمريكا.. والحال أشنع من هذا في روسيا..) (20).
الصورة الثالثة: حرم الإسلام كل صور الاعتداء سواء كان ذلك على الأنفس والأعراض، أو العقول، أو الأموال، ورتب على اقتراف ذلك العقوبات الدنيوية والأخروية، وذلك حتى يعيش الناس في مجتمعاتهم آمنين على أنفسهم وأعراضهم وعُقولهم وأموالهم. ومن أجل ذلك حرم الله الزنا، وحرم الوسائل المفضية إليه حفاظاً على الأعراض. وشرع العقوبة على الزاني المحصن حد الرجم، وغير المحصن جلد مائة جلدة كما قال تعالى: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" [النور:2]. وحفاظاً على أمن النفوس شرع عقوبة القصاص في القتل والجراحات وبين الحكمة في ذلك بقوله تعالى: "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].
وشرع لحفظ الأموال والممتلكات عقوبة قطع يد السارق وذلك في قوله تعالى: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" [المائدة: 38].
والإسلام عندما شرع الحدود، والعقوبات لحفظ أمن المجتمع قد بدأ قبل ذلك بسد الذرائع المفضية إلى هذه الجرائم، والتذكير بمراقبة الله عز وجل، والخوف من سخطه وعذابه. ومع ذلك فهنالك في المجتمعات أناس لا ينفع فيهم الوعظ ولا التذكير، ولا يلتزمون بترك الوسائل المفضية إلى الجريمة فعندها تأتي الحدود التي من شأنها أن تحفظ للبيوت، والمجتمعات أمنها وسلامتها. ومن العجائب والغرائب أن ينبري أعداء هذا الدين من الكفار والمنافقين، ويصفون هذه الحدود والعقوبات أنها قسوة ووحشية "كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً" [الكهف:5] وعميت أبصارهم وبصائرهم عن هذه الجرائم وما تحدثه في الأفراد والبيوت، والمجتمعات من جرائم فظيعة، ووحشية عاتية في الأنفس والأموال والأعراض. لكنها عندهم ليست قاسية، ولا وحشية لملائمتها لأهوائهم وشهواتهم وأفكارهم العفنة.
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: (وتسمع من الببغاوات هنا، ومن الشاردين هناك أنها عقوبة قاسية. أما تحطيم البيوت، وقلق الضمائر، وتدليس الأنساب، فما هي بقاسية. قاسية لأن المترفين والمترفات، والداعرين والداعرات، يحسون – وهم يصفونها بالقسوة- وقع السياط على جلودهم الناعمة المترهلة، ونقح الأحجار في أجسادهم اللينة الرخيصة. إنهم يدافعون عن أنفسهم وهم يتشدقون باسم القوانين المتحضرة، وينعتون حدود الإسلام بالقسوة أو بالهمجية. وهم الهمج المنتكسون إلى حياة البهيمية الأولى) (21).
الصورة الرابعة: في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما ينشأ عن ذلك من إضفاء الأمن والسلام على المجتمع، لأن الأمر والنهي هما صمام الأمان للمجتمعات من وقوع العقوبات بأهلها سواء كانت هذه العقوبات من داخل المجتمع بفعل سفهائه، وتركهم من غير أمر ونهي. أو من خارجه بتسليط الأعداء على مجتمعات المسلمين، أو بعقوبات كونية ينزلها الله عز وجل على من يشاء من الأمم المكذبة والفاسقة.
قال الله تعالى: "فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ" [هود: 116].(/42)
وقال صلى الله عليه وسلم «مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها؛ فكان الذين في أسفلها إذا استقوا مروا على من فوقهم، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا ! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً»(22).
وقال صلى الله عليه وسلم : « إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه»(23). وقال صلى الله عليه وسلم : «والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا, ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض»(24).
والواقع والتاريخ يشهد أنه ما من مجتمع ضعفت فيه هذه الشعيرة، أو عدمت إلا وعاش الناس في خوف، وعناء وشقاء واضطراب. والعكس من ذلك حينما تقوى هذه الشعيرة، وتحيا فإن الناس يعيشون في أمن وسلام على أديانهم وأنفسهم وعقولهم وأعراضهم وأموالهم.
الصورة الخامسة : في نظام الحكم
نظام الحكم في الإسلام كفيل بإقرار العلاقات بين الراعي والرعية على أساس من السلم والعدل، والطمأنينة ينهض عليها بناء السلام الاجتماعي سليماً راسخ الأركان.
والحدود الإسلامية للحكم هي تنفيذ شرع الله عز وجل، والحكم به بين العباد؛ لا يراع فيه تفضيل فرد على فرد، ولا طبقة دون طبقة، ولا إيثار جماعة على جماعة، ولا تمييز حاكم على محكوم. كلهم عباد الله والشريعة فيها حكم الله تعالى والكل أمامها سواء. وطاعة الحاكم مرهونة بإقامة هذه الشريعة وتنفيذها والحكم بين الناس بالعدل.
هذا النظام الإسلامي كفيل باستقامة الرعاة، ورضى الرعية، وبإقرار السلام بينهما وتوطيده. لا بالعسف والجور؛ ولا بالكبت والإجبار، ولا بالقسوة والجبروت، ولا بالخوف والذل، ولكن بالرضى والقبول والطاعة المنبعثة من أعماق الضمير، لا رياء ولا نفاقاً ولا تظاهراً كذاباً.
إنه وسيلة من وسائل الاستقرار، لا تفضلها وسيلة ولا تعدلها. وهو حلقة من حلقات السلام الشامل، غير منفصلة من السلسلة المتماسكة، في فكرة الإسلام الكبرى عن الحياة.
والحكم الإسلامي يستمد عدالته أول ما يستمد من عدالة الشريعة ذاتها. فهو كما أسلفنا ليس من صنع فرد، ولا من صنع طائفة، حتى تظن به الظنون، ويخشى أن يميل مع الهوى، أو أن يتلبس بالخطأ، فيفوته تحقيق العدالة المطلقة.
فأما عند التنفيذ فقد ناط الإسلام ذلك بوضوح القانون، وبضمير القاضي ورقابة الجماعة. وكل فرد في الجماعة الإسلامية منوط به هذه الرقابة، منوط به أن يدفع الظلم حين يقع، وأن ينبه الحاكم حين يطغى، والقاضي حين يخطئ، وإنه ليبوء بالإثم حين يكتم الشهادة. أو حين يقر بالخطأ، ولا ينبه إليه إذ يراه.
والعدل الذي يتطلبه الإسلام هو العدل المطلق الذي لا يتأثر بالمحبة والشنآن. ولا بالمال والجاه والحكام. وآيات العدل في القرآن صارمة حازمة حاسمة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً" [النساء:135]، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" [المائدة: 8]، "وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" [الأنعام:152]، "وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [المائدة: 42]، "فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ" [الشورى: 15]، "وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" [البقرة: 188] (25).
رابعاً: أمن العالم والبشرية جميعاً(/43)
قال الله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" [الأنبياء: 107] وقال عز وجل : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ" [يونس: 58،57]. وقال سبحانه: "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ" [إبراهيم: 1].
يتبين لنا من هذه الآيات، وما في معناها أن هذا الدين الذي أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم، والوحي الذي أنزل إليه إنما هو رحمة وأمن، وسلام وخير للبشرية جمعاء؛ إن هي أخذت به، واستسلمت به. والمتأمل في هذا الدين عقيدة وأحكاماً وآدابا وأخلاقاً يرى اليسر والرحمة والسلام والسعادة واضحة بجلاء. وما سبق استعراضه في أمن الأفراد والأسر والمجتمعات إن هو إلا غيض من فيض، وللمثال لا الحصر؛ فالحمد لله الذي هدانا للإسلام وماكنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. ولقد اختصر هذا المعنى ربعي بن عامر رضي الله عنه عندما سأله قائد الفرس عن سبب غزوهم لبلادهم فقال: (إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).
وقبل ذلك أجاب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه النجاشي ملك الحبشة عندما سأله عن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقال: (أيها الملك. كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، نقطع الأرحام ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف؛ فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه، وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله وحده لنوحده ونعبده، ونخلع ماكنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله عز وجل، ولا نشرك به شيئاً وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام).
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على قوله تعالى: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" [المائدة:16،15] فيقول:
(لقد رضي الله الإسلام دينا، وهو يهدي من يتبع رضوانه هذا ويرتضيه لنفسه كما رضيه الله له يهديه «سبل السلام»..
وما أدق هذا التعبير وأصدقه؛ إنه «السلام» هو ما يسكبه هذا الدين في الحياة كلها، سلام الفرد. وسلام الجماعة. وسلام العالم، سلام الضمير، وسلام العقل، وسلام الجوارح، سلام البيت والأسرة، وسلام المجتمع والأمة، وسلام البشر والإنسانية، السلام مع الحياة، والسلام مع الكون، والسلام مع الله رب الكون والحياة. السلام الذي لا تجده البشرية- ولم تجده يوماً- إلا في هذا الدين؛ وإلا في منهجه ونظامه وشريعته، ومجتمعه الذي يقوم على عقيدته وشريعته.
حقاً إن الله يهدي بهذا الدين الذي رضيه، من يتبع رضوان الله، «سبل السلام». سبل السلام كلها في هذه الجوانب جميعها. ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق سبل الحرب في الجاهليات القديمة أو الحديثة.. ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها كل من ذاق حرب القلق الناشيء من عقائد الجاهلية في أعماق الضمير، وحرب القلق الناشيء من شرائع الجاهلية وأنظمتها وتخبطها في أوضاع الحياة.
وقد كان المخاطبون بهذه الكلمات أول مرة يعرفون من تجربتهم في الجاهلية معنى هذا السلام، إذ كانوا يذوقونه مذاقاً شخصياً؛ ويلتذون هذا المذاق المريح.
وما أحوجنا نحن الآن أن ندرك هذه الحقيقة؛ والجاهلية من حولنا ومن بيننا تذيق البشرية الويلات، من كل ألوان الحرب في الضمائر والمجتمعات قروناً بعد قرون!
ما أحوجنا نحن الذين عشنا في هذا السلام فترة من تاريخنا؛ ثم خرجنا من السلام إلى الحرب التي تحطم أرواحنا وقلوبنا، وتحطم أخلاقنا وسلوكنا، وتحطم مجتمعاتنا وشعوبنا، بينما نملك الدخول في السلم الذي منحه الله لنا؛ حين نتبع رضوانه؛ ونرضى لأنفسنا ما رضيه الله لنا!
إننا نعاني من ويلات الجاهلية؛ والإسلام منا قريب، ونعاني من حرب الجاهلية وسلام الإسلام في متناول أيدينا لو نشاء؛ فأية صفقة خاسرة هذه التي نستبدل فيها الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ ونشتري فيها الضلالة بالهدى؟ ونؤثر فيها الحرب على السلام؟(/44)
إننا نمتلك إنقاذ البشرية من ويلات الجاهلية وحربها المشبوبة في شتى الصور والألوان. ولكننا لا نملك إنقاذ البشرية، قبل أن ننقذ نحن أنفسنا، وقبل أن نفيء إلى ظلال السلام، حين نفيء إلى رضوان الله، ونتبع ما ارتضاه. فنكون من هؤلاء الذين يقول الله عنهم إنه يهديهم سبل السلام.
والجاهلية كلها ظلمات ظلمة الشبهات والخرافات والأساطير والتصورات، وظلمة الشهوات والنزعات والاندفاعات في التيه، وظلمة الحيرة والقلق والانقطاع عن الهدى، والوحشة من الجانب الآمن المأنوس. وظلمة اضطراب القيم وتخلخل الأحكام والقيم والموازين. والنور هو النور.. هو ذلك النور الذي تحدثنا عنه آنفاً في الضمير وفي العقل وفي الكيان وفي الحياة وفي الأمور..
"وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"
مستقيم مع فطرة النفس ونواميسها التي تحكمها. مستقيم مع فطرة الكون ونواميسه التي تصرفه. مستقيم إلى الله لا يلتوي ولا تلتبس فيه الحقائق والاتجاهات والغايات) (26).
ولا يتبين ما في هذا الدين من رحمة وأمن وسلام، وخير للبشرية إلا حينما نستعرض وضع البشرية المنكودة، وما عاشته من تيه وركام قبل مجيء الإسلام، وكذلك حال الأمم الكافرة في واقعنا المعاصر، وما هي عليه من نكد وحيرة واضطراب وشقاء وعناء، وظلم وشريعة غاب يأكل فيها القوي الضعيف، ويعيش الناس فيها عيشة البهائم العجماوات. يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: (جاء الإسلام ، وفي العالم ركام هائل، من العقائد والتصورات، والفلسفات والأساطير، والأفكار والأوهام، والشعائر والتقاليد، والأوضاع والأحوال. يختلط فيها الحق بالباطل، والصحيح بالزائف، والدين بالخرافة، والفلسفة بالأسطورة. والضمير البشري- تحت هذا الركام الهائل- يتخبط في ظلمات وظنون، ولا يستقر منها على يقين. والحياة الإنسانية- بتأثير هذا الركام الهائل- تتخبط في فساد وانحلال، وفي ظلم وذل، وفي شقاء وتعاسة؛ لا تليق بالإنسان، بل لا تليق بقطيع من الحيوان!
وكان التيه الذي لا دليل فيه، ولا هدى ولا نور، ولا قرار ولا يقين هو ذلك التيه الذي يحيط بتصور البشرية لإلهها وصفاته، وعلاقته بالكون وعلاقة الكون به، وحقيقة الإنسان، ومركزه في هذا الكون، وغاية وجوده الإنساني، ومنهج تحقيقه لهذه الغاية، ونوع الصلة بين الله والإنسان على وجه الخصوص. ومن هذا التيه، ومن ذلك الركام كان ينبعث الشر كله في الحياة الإنسانية، وفي الأنظمة التي تقوم عليها...
والذي يراجع ذلك الجهد المتطاول الذي بذله الإسلام لتقرير كلمة الفصل في ذات الله – سبحانه- وفي صفاته. وفي علاقته بالخلق وعلاقة الخلق به؛ ذلك الجهد الذي تمثله النصوص الكثيرة- كثرة ملحوظة- في القرآن المكي بصفة خاصة، وفي القرآن كله على وجه العموم.
الذي يراجع ذلك الجهد المتطاول، دون أن يراجع ذلك الركام الثقيل، في ذلك التيه الشامل، الذي كانت البشرية كلها تخبط فيه؛ والذي ظلت تخبط فيه أيضاً كلما انحرفت عن منهج الله أو صدت عنه، واتبعت السبل. فتفرقت بها عن سبيله الواحد المستقيم.
الذي يراجع ذلك الجهد ، دون أن يراجع ذلك الركام، قد لا يدرك مدى الحاجة إلى كل هذا البيان المؤكد المكرر في القرآن؛ وإلى كل هذا التدقيق الذي يتتبع كل مسالك الضمير وكل مسالك الحياة.
ولكن مراجعة ذلك الركام تكشف عن ضرورة ذلك الجهد، كما تكشف عن عظمة الدور الذي جاءت هذه العقيدة لتؤديه في تحرير الضمير البشري وإعتاقه، وفي تحرير الفكر البشري وإطلاقه؛ وفي تحرير الحياة. والحياة تقوم على أساس التصور الاعتقادي كيفما كان.
عندئذ ندرك قيمة هذا التحرر في إقامة الحياة على منهج سليم قويم، يستقيم به أمر الحياة البشرية، وتنجو به من الفساد والتخبط ومن الظلم أو الاستذلال، وندرك قيمة قول عمر – رضي الله عنه- «ينقض الإسلام عروة عروة من نشأ في الإسلام ولم يعرف الجاهلية».. فالذي يعرف الجاهلية هو الذي يدرك قيمة الإسلام، ويعرف كيف يحرص على رحمة الله المتمثلة فيه، ونعمة الله المتحققة به.
إن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها، وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها.. إن هذا كله لا يتجلى للقلب والعمل، كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية – السابقة للإسلام واللاحقة- عندئذ تبدو هذه العقيدة رحمة. رحمة حقيقية؛ رحمة القلب والعقل، ورحمة بالحياة والأحياء، رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق، وقرب وأنس، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق. وصدق الله العظيم: "أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" [الملك: 22] (27).
ويذكر رحمه الله تعالى صوراً من ركام الجاهلية ورجسها وعنتها في القديم والحديث فيقول:
(ومن أرجاسها- وأصل هذه الأرجاس جميعاً- الشرك والوثنية الهابطة الساذجة؛ كما يصورها في إجمال الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه:(/45)
«انغمست الأمة في الوثنية، وعبادة الأصنام بأبشع أشكالها. فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة، صنم خاص، بل كان لكل بيت صنم خصوصي. قال الكلبي: كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر، كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به. وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضاً، واشتهرت العرب في عبادة الأصنام، فمنهم من اتخذ بيتاً، ومنهم من اتخذ صنماً، ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجراً أمام الحرم، وأمام غيره مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت، وسموها الأنصاب. وكان في جوف الكعبة- البيت الذي بني لعبادة الله وحده- وفي فنائها ثلاثمائة وستون صنماً. وتدرجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة جنس الحجارة. روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي، قال: كنا نعبد الحجر ، فإذا وجدنا حجراً هو خيراً منه ألقيناه واتخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً جمعنا حشوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به. وقال الكلبي: كان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً، أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها، فاتخذه رباً، وجعل ثلاث أثافي لقدره، وإذا رحل تركه.
«وكان للعرب- شأن كل أمة مشركة في كل زمان ومكان- آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب. فكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله، فيتخذونهم شفعاء لهم عند الله، ويعبدونهم، ويتوسلون بهم عند الله. واتخذوا كذلك معه الجن شركاء لله، وآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم، وعبدوهم. قال الكلبي: كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن. وقال صاعد: كانت حمير تعبد الشمس، وكنانة القمر، وتميم الدبران، ولخم وجذام المشتري وطي سهيلاً. وقيس الشعرى العبور. وأسد عطارداً».
ويكفي أن يتصفح الإنسان هذه الصورة البدائية الغليظة من الوثنية، ليعرف أي رجس كانت تنشره في القلوب والتصورات وفي واقع الحياة! ويدرك النقلة الضخمة التي نقلها الإسلام للقوم، والطهارة التي أسبغها على تصوراتهم وعلى حياتهم سواء. ومن هذه الأرجاس تلك الأدواء الخلقية والاجتماعية، التي كانت في الوقت ذاته من مفاخرهم في أشعارهم! ومن مفاخراتهم في أسواقهم! من الخمر إلى القمار إلى الثارات القبلية الصغيرة، التي تشغل اهتماماتهم، فلا ترتفع على تلك التصورات المحلية المحدودة...
هانت عليهم الحرب، وإراقة الدماء حتى كانت تثيرها حادثة ليست بذات خطر. فقد وقعت الحرب بين بكر وتغلب ابني وائل، ومكثت أربعين سنة أريقت فيها دماء غزيرة، وما ذاك إلا أن كليباً رئيس معد، رمى ضرع ناقة البسوس بنت منقذ فاختلط دمها بلبنها، وقتل جساس بن مرة كليباً، واشتبكت الحرب بين بكر وتغلب. وكان كما قال المهلهل أخو كليب: «قد فنيت الحياة، وثكلت الأمهات، ويتم الأولاد. دموع لا ترفأ، وأجساد لا تدفن...
وكذلك حرب داحس والغبراء. فما كان سببها إلا أن داحساً فرس قيس بن زهير، كان سابقاً في رهان بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر، فعارضه أسدي بإيعاز من حذيفة، فلطم وجهه وشغله، ففاتته الخيل. وتلا ذلك قتل، ثم أخذ بالثأر. ونصر القبائل لأبنائها، وأسر، ونزح للقبائل، وقتل في ذلك ألوف من الناس.
وكان ذلك علامة فراغ الحياة من الاهتمامات الكبيرة التي تشغلهم عن تفريغ الطاقة في هذه الملابسات الصغيرة، إذ لم تكن لهم رسالة للحياة، ولا فكرة للبشرية، ولا دور للإنسانية، يشغلهم عن هذا السفساف. ولم تكن هناك عقيدة تطهرهم من هذه الأرجاس الاجتماعية الذميمة. وماذا يكون الناس من غير عقيدة إلهية؟ ماذا تكون اهتماماتهم؟ وماذا تكون تصوراتهم؟ وماذا تكون أخلاقهم؟..
ومن أرجاسها ما حكته عائشة – رضي الله عنها- وهي تصور أنواع الاتصال بين الجنسين في الجاهلية كما جاء في صحيح البخاري في هذه الصورة الهابطة الحيوانية المزرية:(/46)
«إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء؛ فنكاح منها نكاح الناس اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته، فيصدقها، ثم ينكحها؛ والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه! ويعتزلها ولا يمسها أبداً حتي يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه! فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الرجل! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع. ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها. فإذا حملت ووضعت، ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت؛ فهو ابنك يافلان. تسمي من أحبت منهم باسمه؛ فيلحق به ولدها. ولا يستطيع أن يمتنع منه الرجل! والنكاح الرابع : يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها- وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً- فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن، ووضعت حملها، جمعوا لها. ودعوا لهم القافة. ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطه. ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم»(28).
ودلالة هذه الصورة على هبوط التصور الإنساني وبهيميته لا تحتاج إلى تعليق. ويكفي تصور الرجل، وهو يرسل امرأته إلى «فلان» لتأتي له منه بولد نجيب. تماماً كما يرسل ناقته أو فرسه أو بهيمته إلى الفحل النجيب، لتأتي له منه بنتاج جيد!
ويكفي تصور الرجال – ما دون العشرة! يدخلون إلى المرأة مجتمعين «كلهم يصيبها!».. ثم تختار هي أحدهم لتلحق به ولدها!
أما البغاء- وهو الصورة الرابعة- فهو البغاء! يزيد عليه إلحاق نتاجه برجل من البغاة! لا يجد في ذلك معرة! ولا يمتنع من ذلك!
إنه الوحل الذي طهر الإسلام منه العرب، وزكاهم ، وكانوا – لولا الإسلام- غارقين إلى الأذقان فيه!
ولم يكن هذا الوحل في العلاقات الجنسية إلا طرفاً من النظرة الهابطة إلى المرأة في الجاهلية. يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم :«ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين»:
«وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن وحيف، تؤكل حقوقها، وتبتز أموالها، وتحرم من إرثها، وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجاً ترضاه، وتورث كما يورث المتاع أو الدابة. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان الرجل إذا مات أبوه أو حموه، فهو أحق بامرأته، إن شاء أمسكها أو يحبسها حتى تفتدي بصداقها، أو تموت فيذهب بمالها».. وقال السّدي: إن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه، فإذا مات وترك امرأته، فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه فهو أحق بها أن ينكحها بمهر صاحبه، أو يُنكحها فيأخذ مهرها. وإن سبقته فذهبت إلى أهلها فهي أحق بنفسها». وكانت المرأة في الجاهلية يطفف معها الكيل، فيتمتع الرجل بحقوقه ولا تتمتع هي بحقوقها، يؤخذ مما تؤتي من مهر، وتمسك ضراراً للاعتداء. وتلاقي من بعلها نشوزاً أو إعراضاً، وتترك في بعض الأحيان كالمعلقة. ومن المأكولات ما هو خالص ومحرم على الإناث. وكان يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من غير تحديد.
وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد. ذكر الهيثم بن عدي- على ما حكاه عنه الميداني- أن الوأد كان مستعملاً في قبائل العرب قاطبة. فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة. فجاء الإسلام، وكانت مذاهب العرب مختلفة في وأد الأولاد. فمنهم من كان يئد البنات لمزيد الغيرة ومخافة لحوق العار بهم من أجلهن. ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء، أو شيماء (سوداء) أو برشاء (برصاء) أو كسحاء (عرجاء) تشاؤماً منهم بهذه الصفات. ومنهم كان يقتل أولاده خشية الإنفاق، وخوف الفقر...
وكانوا يقتلون البنات ويئدونهن بقسوة نادرة في بعض الأحيان، فقد يتأخر وأد المولودة لسفر الوالد وشغله، فلا يئدها إلا وقد كبرت، وصارت تعقل، وقد حكوا في ذلك عن أنفسهم مبكيات. وقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق...
إن الجاهلية هي الجاهلية. ولكل جاهلية أرجاسها وأدناسها. لا يهم موقعها من الزمان والمكان. فحيثما خلت قلوب الناس من عقيدة إلهية تحكم تصوراتهم، ومن شريعة- منبثقة من هذه العقيدة- تحكم حياتهم، فلن تكون إلا جاهلية في صورة من صورها الكثيرة. والجاهلية التي تتمرغ البشرية اليوم في وحلها، لا تختلف في طبيعتها عن تلك الجاهلية العربية أو غيرها من الجاهليات التي عاصرتها في أنحاء الأرض، حتى أنقذها منها الإسلام وطهرها وزكاها.(/47)
إن البشرية اليوم تعيش في ماخور كبير! ونظرة إلى صحافتها وأفلامها ومعارض أزيائها، ومسابقات جمالها، ومراقصها، وحاناتها، وإذاعاتها، ونظرة إلى سعارها المجنون للحم العاري، والأوضاع المثيرة، والإيحاءات المريضة، في الأدب والفن وأجهزة الإعلام كلها، إلى جانب نظامها الربوي، وما يكمن وراءه من سعار للمال، ووسائل خسيسة لجمعه وتثميره، وعمليات نصب واحتيال وابتزاز تلبس ثوب القانون. وإلى جانب التدهور الخلقي والانحلال الاجتماعي، الذي أصبح يهدد كل نفس وكل بيت، وكل نظام، وكل تجمع إنساني. نظرة إلى هذا كله تكفي للحكم على المصير البائس الذي تدلف إليه البشرية في ظل هذه الجاهلية.
إن البشرية تتآكل إنسانيتها، وتتحلل آدميتها، وهي تلهث وراء الحيوان، ومثيرات الحيوان. لتلحق بعالمه الهابط! والحيوان أنظف وأشرف وأطهر. لأنه محكوم بفطرة حازمة لا تتميع، ولا تأسن كما تأسن شهوات الإنسان حين ينفلت من رباط العقيدة، ومن نظام العقيدة، ويرتد إلى الجاهلية التي أنقذه الله منها والتي يمتن الله على عباده المؤمنين بتطهيرهم منها) (29).
ونظرة خاصة للمجتمعات البشرية الكافرة اليوم ترينا حالة الشقاء والخوف، والحيرة والضنك التي تعيشها هذه المجتمعات؛ سواء على مستوى الأمن النفسي للأفراد؛ حيث القلق والأمراض النفسية والانتحارات، أو على مستوى الأمن الأسري في البيوت؛ حيث الضياع والتفكك الأسري، وهتك الأعراض، وكثرة أولاد الزنا، أو على مستوى المجتمعات حيث الجرائم الفظيعة على الأنفس والأموال والأعراض والعقول التي تفتك بها الخمور والمخدرات والكفر والإلحاد.
ويصف سيد قطب بعض أحوال هذه البشرية عندما تكفر بنعمة الإيمان والتوحيد فيقول:
(وما بدلت البشرية هذه النعمة إلا أصابها العقاب الشديد في حياتها على الأرض قبل عقاب الآخرة. وها هي ذي البشرية المنكودة في أنحاء الأرض كلها تعاني العقاب الشديد، وتجد الشقوة النكدة؛ وتعاني القلق والحيرة؛ ويأكل بعضها بعضاً؛ ويأكل الفرد منها نفسه وأعصابه، ويطاردها وتطارده بالأشباح المطلقة، وبالخواء القاتل الذي يحاول المتحضرون أن يملأوه تارة بالمسكرات والمخدرات، وتارة بالحركات الحائرة التي يخيل إليك معها أنهم هاربون تطاردهم الأشباح!
ونظرة إلى صورهم في الأوضاع العجيبة المتكلفة التي يظهرون بها: من مائلة برأسها، إلى كاشفة عن صدرها، إلى رافعة ذيلها، إلى مبتدعة قبعة غريبة على هيئة حيوان! إلى واضع رباط عنق رسم عليه تيتل أو فيل! إلى لابس قميص تربعت عليه صورة أسد أو دب!
ونظرة إلى رقصاتهم المجنونة، وأغانيهم المحمومة، وأوضاعهم المتكلفة وأزيائهم الصارخة في بعض الحفلات والمناسبات، ومحاولة لفت النظر بالشذوذ الصارخ، أو ترضية المزاج بالتميز الفاضح..
ونظرة إلى التنقل السريع المحموم بين الأهواء والأزواج والصداقات والأزياء بين فصل وفصل، لا بل بين الصباح والمساء!
كل أولئك يكشف عن الحيرة القاتلة التي لا طمأنينة فيها ولا سلام. ويكشف عن حالة الملل الجاثم التي يفرون منها، وعن حالة الهروب من أنفسهم الخاوية وأرواحهم الموحشة. كالذي تطارده الجِنَّةُ والأشباح.
وإن هو إلا عقاب الله، لمن يحيد عن منهجه، ولا يستمع لدعوته: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً" [البقرة:208].
ويقول في موطن آخر:
(والنظر إلى الواقع في حياة المجتمعات التي «تحررت» من قيود الدين والأخلاق والحياء في هذه العلاقة، يكفي لإلقاء الرعب في القلوب. لو كانت هنالك قلوب!
لقد كانت فوضى العلاقات الجنسية هي المعول الأول الذي حطم الحضارات القديمة. حطم الحضارة الإغريقية، وحطم الحضارة الرومانية، وحطم الحضارة الفارسية. وهذه الفوضى ذاتها هي التي أخذت تحطم الحضارة الغربية الراهنة، وقد ظهرت آثار التحطيم شبه كاملة في انهيارات فرنسا التي سبقت في هذه الفوضى...
وبدأت هذه الآثار تظهر في أمريكا والسويد وانجلترا، وغيرها من دول الحضارة الحديثة...
وقد أجرت المعاهد العلمية عدة استفسارات عن (الحب الحر) في السويد فتبين أن الرجل تبدأ علاقاته الجناسية بدون زواج في سن الثامنة عشرة. والفتاة في سن الخامسة عشرة. وأن 95 في المائة من الشبان في سن 21 سنة لهم علاقات جنسية!
وإذا أردنا تفصيلات تقنع المطالبين بحرية الحب، فإننا نقول: إن 7 في المائة من هذه العلاقات الجنسية مع خطيبات، و27 في المائة منها مع حبيبات! و58 في المائة منها مع صديقات عابرات!
وإذا سجلنا النسب عن علاقة المرأة الجنسية بالرجل قبل سن العشرين. وجدنا أن 3 في المائة من هذه العلاقات مع أزواج و37 في المائة منها مع خطيب! و64 في المائة منها مع صديق عابر!
وتقول الأبحاث العلمية: إن 80 في المائة من نساء السويد مارسن علاقات جنسية كاملة قبل الزواج و20 في المائة بقين بلا زواج!(/48)
وأدت حرية الحب بطبيعة الحال إلى الزواج المتأخر، وإلى الخطبة الطويلة الأجل. مع زيادة عدد الأطفال غير الشرعيين كما قلت.
والنتيجة الطبيعية بعد ذلك أن يزيد تفكك الأسرة. إن أهل السويد يدافعون عن «حرية الحب» بقولهم: إن المجتمع السويدي ينظر نظرة احتقار إلى الخيانة بعد الزواج، كأي مجتمع متمدن آخر! وهذا صحيح لا ننكره! ولكنهم لا يستطيعون الدفاع عن الاتجاه إلى انقراض النسل. ثم الزيادة المروعة في نسبة الطلاق... والجيل الجديد ينحرف، وهذه ظاهرة جديدة تهدد الجيل الجديد في السويد وباقي دول اسكندنافيا. إن افتقادهم للإيمان يجرفهم إلى الانحراف، وإلى الإدمان على المخدرات والخمور. وقد قدر عدد أطفال العائلات التي لها أب مدمن بحوالي 175 ألفاً. أي ما يوازي 10 في المائة من مجموع أطفال العائلات كلها. وإقبال المراهقين على إدمان المخدرات يتضاعف. إن من يقبض عليهم البوليس السويدي في حالة سكر شديد من المراهقين بين سن 15 و17 يوازي ثلاثة أمثال عدد المقبوض عليهم بنفس السبب منذ 15 عاماً. وعادة الشرب بين المراهقين والمراهقات تسير من سيء إلى أسوأ.. ويتبع ذلك حقيقة رهيبة.
إن عُشر الذين يصلون إلى سن البلوغ في السويد يتعرضون لاضطرابات عقلية! ويقول أطباء السويد: إن 50 في المائة من مرضاهم يعانون من اضطرابات عقلية تلازم أمراضهم الجسدية. ولاشك أن التمادي في التمتع بحرية عدم الإيمان سيضاعف هذه الانحرافات النفسية، ويزيد من دواعي تفكك الأسرة، ويقربهم إلى هوة انقراض النسل(30).
والحال في أمريكا لا تقل عن هذه الحال، ونذر السوء تتوالى، والأمة الأمريكية في عنفوانها لا تلتفت إلى النذر. ولكن عوامل التدمير تعمل في كيانها، على الرغم من هذا الرواء الظاهري؛ وتعمل بسرعة، مما يشي بسرعة الدمار الداخلي على الرغم من كل الظواهر الخارجية!!!
لقد وجد الذين يبيعون أسرار أمريكا وبريطانيا العسكرية لأعدائهم، لا لأنهم في حاجة إلى المال. ولكن لأن بهم شذوذاً جنسياً ، ناشئاً من آثار الفوضى الجنسية السائدة في المجتمع...
...وكذلك من المعروف أن هناك مكاتب مهمتها البحث عن الزوجات الهاربات والبحث عن الأزواج الهاربين! وذلك في مجتمع لا يدري فيه الزوج إن كان سيعود فيجد زوجته في الدار أم يجدها قد طارت مع عشيق! ولا تدري زوجة إن كان زوجها الذي خرج في الصباح سيعود إليها أم ستخطفه أخرى أجمل منها أو أشد جاذبية! مجتمع تعيش البيوت فيه مثل هذا القلق الذي لا يدع عصباً يستريح!!!
وأخيراً يعلن رئيس الولايات المتحدة أن ستة من كل سبعة من شباب أمريكا لم يعودوا يصلحون للجندية بسبب الانحلال الخلقي الذي يعيشون فيه.
وقد كتبت إحدى المجلات الأمريكية منذ أكثر من ربع قرن تقول:
«عوامل شيطانية ثلاثة يحيط ثالوثها بدنيانا اليوم. وهي جميعها في تسعير مستمر لأهل الأرض، أولها: الأدب الفاحش الخليع الذي لا يفتأ يزداد في وقاحة ورواج بعد الحرب العالمية الأولى بسرعة عجيبة. والثاني: الأفلام السينمائية التي لا تذكي في الناس عواطف الحب الشهواني فحسب، بل تلقنهم دروساً عملية في بابه. والثالث: انحطاط المستوى الخلقي في عامة النساء، الذي يظهر في ملابسهن، بل في عريهن، وفي إكثارهن من التدخين، واختلاطهن بالرجال بلا قيد ولا التزام. هذه المفاسد الثلاث إلى الزيادة والانتشار بتوالي الأيام. ولابد أن يكون مآلها زوال الحضارة والاجتماع النصرانيين وفناءهما آخر الأمر. فإن نحن لم نحد من طغيانها، فلا جرم أن يأتي تاريخنا مشابهاً لتاريخ الرومان، ومن تبعهم من سائر الأمم، الذين قد أوردهم هذا الاتباع للأهواء والشهوات موارد الهلكة والفناء، مع ما كانوا فيه من خمر ونساء، أو مشاغل رقص ولهو وغناء».
والذي حدث أن أمريكا لم تحد من طغيان هذه العوامل الثلاثة، بل استسلمت لها تماماً وهي تمضي في الطريق الذي سار فيه الرومان!...
... وكتب الطبيب العالم العالمي ألكسيس كاريل في كتابه: «الإنسان ذلك المجهول»:
«بالرغم من أننا بسبيل القضاء على إسهال الأطفال والسل والدفتريا والحمى التيفودية.. الخ. فقد حلت محلها أمراض الفساد والانحلال. فهناك عدد كبير من أمراض الجهاز العصبي والقوى العقلية؛ ففي بعض ولايات أمريكا يزيد عدد المجانين الذين يوجدون في المصحات على عدد المرضى الموجودين في جميع المستشفيات الأخرى. وكالجنون، فإن الاضطرابات العصبية وضعف القوى العقلية آخذ في الازدياد. وهي أكثر العناصر نشاطاً في جلب التعاسة للأفراد، وتحطيم الأسر.. إن الفساد العقلي أكثر خطورة على الحضارة من الأمراض الحديثة التي تثير علماء الصحة والأطباء اهتمامهم عليها حتى الآن) (31) .(/49)
ونظرة ثانية إلى ما يسود العالم اليوم من المخاوف، والحروب والدمار. كل ذلك يؤكد لنا تلك السنة الإلهية، والحقيقة الشرعية التي مفادها أن لا أمن ولا سلام ولا سعادة في هذه الدنيا إلا في ظل الإسلام الذي ارتضاه الله عز وجل ديناً لعباده، والذي يقوم على توحيد الله عز وجل، وطاعته وتحكيم شرعه. ومفادها أيضاً في الصورة المقابلة أن الناس إذا لم يعبدو الله عز وجل، ويحكموا شرعه، وأعرضوا عن دينه وذكره، فإنهم لن يذوقوا طعم الأمن، ولا طعم السلام، ولا طعم الرخاء والسعادة. قال الله عز وجل: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" [الأنعام:82] وقال سبحانه: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" [الأعراف: 96] وقال سبحانه: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً" [طه: 124].
وقد رأينا في الصفحات السابقة تلك الصورة المشرقة، والحياة الهنيئة الآمنة التي يجدها المسلم في نفسه وفي أسرته وبيته وفي مجتمعه، وذلك في ظل الإسلام، وتوحيد الله عز وجل، وتحكيم شرعه، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. ومن واجب شكر الله عز وجل على هذه النعمة العظيمة أن يحافظ عليها وأن يتجنب أسباب زوالها، كما أن من واجب شكرها على المسلمين السعي في إهدائها، وإيصالها إلى من حرمها من البشرية في هذا العالم بقدر المستطاع. وإذا لم نسع للحفاظ على هذه النعمة العظيمة في أنفسنا ومجتمعاتنا بطاعة الله عز وجل، وإذا لم نسع لإبلاغها للناس المحرومين منها، فإننا لن نكون مضيعين لأنفسنا في التيه فحسب، بل نكون مضيعين للبشرية كلها حين تحرم من هذا الخير الذي لو وجدته لوجدت عنده الأمن والسلام والطمأنينة بعد طول الشرود والقلق والعناء. فلنقدر تبعتنا تجاه أنفسنا وتجاه البشرية بأسرها.
وهنا يرد سؤال هام. ألا وهو: ما الوسيلة إلى إيصال هذا الخير الذي هو دين الإسلام إلى البشرية لتهنأ به وتسعد في ظلاله بالأمن والسلام؟
والجواب: في قوله تعالى: "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [آل عمران: 104].
وقوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً... الآية" [البقرة: 143].
ومن هاتين الآيتين يتضح لنا تلك الأمانة العظيمة والمسؤولية الجسيمة الملقاة على كاهل المسلمين، وبخاصة العلماء، والدعاة والأغنياء منهم، التي توجب عليهم إيصال التوحيد المتمثل في دين الإسلام، وما يتضمن من أحكام كلها عدل وخير ومصلحة وأمن وسلام ورحمة إلى الناس كافة. وفي هذا يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: (والمسلمون إذن مكلفون تبعات إنسانية تجاه هذه البشرية بحكم وصايتهم هذه عليها، ووصاية كتابهم على كتبها. هم مكلفون أن يحققوا في الأرض ذلك السلام الذي أسلفنا خطواته في الضمير والبيت والمجتمع؛ وعرفنا أسسه ومبادئه من إفراد الله سبحانه بالألوهية وبالربوبية وبالحاكمية؛ ومن العدل والمساواة والحرية، ومن ضمانات الحياة القانونية والمعيشية؛ ومن منع البغي وإزالة الظلم، وتحقيق التوازن الاجتماعي، والتكافل والتعاون، وإزالة أسباب الفرقة والخصام والنزاع بين الأفراد وبين الجماعات، وسد الذرائع التي تدعو إلى قيام الطبقات وتميزها وصراعها. إلى آخر ما سبق بيانه في الفصول المتقدمة من هذا الكتاب. وقد جاءت هذه الأمة وسطاً عدلاً بين طرفي التفريط والإفراط في كل اتجاهات الحياة، كما ترسم لها حدود هذا الدين ومبادئه التي عرضنا طرفاً منها في مجال السلام، فكان عليها أن تنهض بهذا العبء، وألا تنكل عنه، لأنه نصيبها المقدر لها في الحياة من خالق الحياة: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً" [البقرة:143]، "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [آل عمران:110].)(32) أ.هـ
ويمكن أداء هذه الأمانة عن طريق اثنين:
أولهما: البلاغ العام بوسائله المختلفة المسموع منها، والمقروء والمشاهد الذي يبين للناس حقيقة التوحيد، وحقيقة دين الإسلام، وما فيه من الخير والأمن والسلام والرخاء في الدنيا لمن اتبعه. وفي الآخرة ينجو من دار الشقاء والعذاب والهموم والغموم، ويفوز بدار السلام والأمان في جنات ونعيم ادخلوها بسلام آمنين.
وهذا الأمر يستوجب جهوداً ضخمة، وتضحيات وأموال وتنظيم وتخطيط.(/50)
ثانيهما: الجهاد في سبيل الله تعالى. وذلك حين يحول الطواغيت بين الناس وبين البلاغ الموجه لهم؛ فحينئذ يشرع الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لا لإكراه الناس على الإسلام . وإنما لرفع الفتنة عن المؤمنين كما هو الحال في جهاد الدفع، أو لإزالة وتكسير الحواجز والطواغيت الذين يحولون بين الناس وبين أن يصل إليهم الحق بصورته النقية، ويقيم فيهم شرع الله تعالى والتوحيد الذي قامت عليه السموات والأرض، وأنزلت من أجله الكتب وأرسلت الرسل، الذين ختم بهم رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة. كما هو الحال في جهاد الطلب.
والجهاد ضرورة شرعية وحكم قدري. لأن حكمة الله عز وجل اقتضت أن يكون هناك صراع بين الحق والباطل؛ وذلك بأن يقيض للحق وأهله أعداءً من الباطل وأهله يمكرون في الأرض ويصدون الناس عن سبيل الله عز وجل. وحينئذ تأتي شعيرة الجهاد لتدفع عن الناس هؤلاء الطواغيت الذين هم أعداء البشرية بحق، وأعداء أمنها وسلامها ورخائها، وذلك لوقوفهم في سبيل هذا الدين الذي هو أساس أمن الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
إذن نستطيع القول وبأعلى صوتنا: أن الجهاد في الإسلام شرع لأمن البشرية، وخيرها، وإن سقط فيه من سقط من القتلى، لأن هؤلاء القتلى إما أن يكونوا مسلمين فهم شهداء عند الله عز وجل وآمنين في جنات النعيم، وإما أن يكونوا كفارا فلا أسف عليهم لأنه بزوالهم يزول عن الناس أعداء الأمن الحقيقيون، الذين يحولون بينهم وبين الحياة الآمنة الرخية في الدنيا والآخرة. وماذا تساوي التضحيات والجراحات، والقتل في ساحات الجهاد بالنسبة إلى مآلات الجهاد، الذي فيه سعادة البشرية، وأمنها وإنقاذها من استعباد الطواغيت لها؛ وما يترتب على ذلك من ظلم وإرهاق وشقاء في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى في مشروعية الجهاد وحكمته: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ" [الأنفال:39] فإذا زالت الفتنة –وهي الشرك والكفر- وصار الدين كله لله فثم الأمن والسلام للناس. وحينئذ لا إكراه في الدين بعد وضوح الحق والباطل، قال الله تعالى: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" [البقرة:256] ومن اختار البقاء على دينه بعد ذلك فسيبقى آمنا له حقوقه وله الحماية من الدولة المسلمة على أن يدفع الجزية مقابل هذه الحقوق إذا كان قادراً.
(والأمة الإسلامية مكلفة أن تنشر التوحيد في العالم، وأن ترفع الظلم والفتنة عن الناس، وتمتعهم بالعدل، والأمن والسلام بكل صنوفه: سلام الفرد، وسلام البيت والأسرة، وسلام المجتمع ثم سلام الإنسانية في النهاية...
وهذه الخطوط تصور طبيعة السلام العالمي في الإسلام؛ فليس هو سلاماً بالمعنى الضيق أي تجنب القتال بأي ثمن، وأياً كانت الأسس التي يقوم عليها ترك القتال. إن هنالك سلماً رخيصة دنية، هي السلم التي تقام على حساب البشرية، وعلى حساب المبادئ العليا للإنسانية، كما أرادها الله في الأرض لبني الإنسان، وهذه هي السلم التي يحذر الله المسلمين منها: "فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ" [محمد:35] الأعلون لأنكم تمثلون الصورة العليا للحياة، والتي لابد لها من النصر حين يؤمن الناس بها لأنها من كلمة الله: "إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" [محمد:7]، "وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ" [الحج: 41،40] (33) أ.هـ.
لقد انتضى الإسلام السيف، وناضل وجاهد في تاريخه الطويل. لا ليكره أحداً على الإسلام ولكن ليكفل عدة أهداف كلها تقتضي الجهاد.(/51)
جاهد الإسلام أولاً ليدفع عن المؤمنين الأذى، والفتنة التي كانوا يسامونها؛ وليكفل لهم الأمن على أنفسهم، وأموالهم، وعقيدتهم. وقرر ذلك المبدأ العظيم "وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ" . فاعتبر الاعتداء على العقيدة والإيذاء بسببها، وفتنة أهلها عنها أشد من الاعتداء على الحياة ذاتها. فالعقيدة أعظم قيمة من الحياة وفق هذا المبدأ العظيم. وإذا كان المؤمن مأذوناً في القتال ليدفع عن حياته وعن ماله، فهو من باب أولى مأذون في القتال ليدافع عن عقيدته ودينه. وقد كان المسلمون يسامون الفتنة عن عقيدتهم ويؤذون، ولم يكن لهم بد أن يدفعوا هذه الفتنة عن أعز ما يملكون. يسامون الفتنة عن عقيدتهم، ويؤذون فيها في مواطن من الأرض شتى. وقد شهدت الأندلس من بشاعة التعذيب الوحشي والتقتيل الجماعي لفتنة المسلمين عن دينهم، وفتنة أصحاب المذاهب المسيحية الأخرى ليرتدوا إلى الكثلكة، ما ترك إسبانيا اليوم ولا ظل فيها للإسلام! ولا للمذاهب المسيحية الأخرى ذاتها! كما شهدت بيت المقدس، وما حوله بشاعة الهجمات الصليبية التي لم تكن موجهة إلا للعقيدة والإجهاز عليها؛ والتي خاضها المسلمون في هذه المنطقة تحت لواء العقيدة وحدها، فانتصروا فيها؛ وحموا هذه البقعة من مصير الأندلس الأليم. وما يزال المسلمون يسامون الفتنة في أرجاء المناطق الشيوعية والوثنية والصهيونية والمسيحية في أنحاء من الأرض شتى. وما يزال الجهاد مفروضاً عليهم لرد الفتنة إن كانوا حقاً مسلمين!
وجاهد الإسلام ثانياً لتقرير حرية الدعوة- بعد تقرير حرية العقيدة- فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود والحياة، وبأرقى نظام لتطوير الحياة. جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها؛ ويبلغه إلى أسماعها وإلى قلوبها. فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن ومن شاء فليكفر. ولا إكراه في الدين. ولكن ينبغي قبل ذلك أن تزول العقبات من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافة؛ كما جاء من عند الله للناس كافة. وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن يسمعوا وأن يقتنعوا، وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا. ومن هذه الحواجز أن تكون هناك نظم طاغية في الأرض تصد الناس عن الاستماع إلى الهدى، وتفتن المهتدين أيضاً، فجاهد الإسلام ليحطم هذه النظم الطاغية؛ وليقيم مكانها نظاماً عادلاً يكفل حرية الدعوة إلى الحق في كل مكان وحرية الدعاة. وما يزال هذا الهدف قائماً، وما يزال الجهاد مفروضاً على المسلمين ليبلغوه إن كانوا مسلمين!
وجاهد الإسلام ثالثاً ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه. وهو وحده النظام الذي يحقق حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان؛ حينما يقرر أن هناك عبودية واحدة لله الكبير المتعال؛ ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر في جميع أشكالها وصورها. فليس هنالك فرد ولا طبقة ولا أمة تشرع الأحكام للناس، وتستذلهم عن طريق التشريع، إنما هنالك رب واحد للناس جميعاً هو الذي يشرع لهم على السواء، وإليه وحده يتجهون بالطاعة والخضوع ، كما يتجهون إليه وحده بالإيمان والعبادة سواء. فلا طاعة في هذا النظام لبشر إلا أن يكون منفذاً لشريعة الله، موكلاً عن الجماعة للقيام بهذا التنفيذ. حيث لا يملك أن يشرع هو ابتداء، لأن التشريع من شأن الألوهية وحدها، وهو مظهر الألوهية في حياة البشر، فلا يجوز أن يزاوله إنسان فيدعي لنفسه مقام الألوهية وهو واحد من العبيد!
هذه هي قاعدة النظام الرباني الذي جاء به الإسلام. وعلى هذه القاعدة يقوم نظام أخلاقي نظيف تكفل فيه الحرية لكل إنسان، حتى لمن لا يعتنق عقيدة الإسلام، وتصان فيه حرمات كل أحد حتى الذين لا يعتنقون الإسلام، وتحفظ فيه حقوق كل مواطن في الوطن الإسلامي أياً كانت عقيدته. ولا يكره فيه أحد على اعتناق عقيدة الإسلام، ولا إكراه فيه على الدين إنما هو البلاغ.
جاهد الإسلام ليقيم هذا النظام الرفيع في الأرض ويقرره ويحميه. وكان من حقه أن يجاهد ليحطم النظم الباغية التي تقوم على عبودية البشر للبشر، والتي يدعي فيها العبيد مقام الألوهية، ويزاولون فيها وظيفة الألوهية-بغير حق- ولم يكن بد أن تقاومه تلك النظم الباغية في الأرض كلها وتناصبه العداء. ولم يكن بد كذلك أن يسحقها الإسلام سحقاً ليعلن نظامه الرفيع في الأرض، ثم يدع الناس في ظله أحراراً في عقائدهم الخاصة. لا يلزمهم إلا بالطاعة لشرائعه الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والدولية. أما عقيدة القلب فهم فيها أحرار. وأما أحوالهم الشخصية فهم فيها أحرار، يزاولونها وفق عقائدهم؛ والإسلام يقوم عليهم يحميهم، ويحمي حريتهم في العقيدة ويكفل لهم حقوقهم، ويصون لهم حرماتهم، في حدود ذلك النظام.
وما يزال هذا الجهاد لإقامة هذا النظام الرفيع مفروضاً على المسلمين: "حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ" [البقرة: 193].. فلا تكون هناك ألوهية للعبيد في الأرض، ولا دينونة لغير الله.(/52)
لم يحمل الإسلام السيف إذن ليكره الناس على اعتناقه عقيدة؛ ولم ينتشر بالسيف على هذا المعنى كما يريد بعض أعدائه أن يتهموه! إنما جاهد ليقيم نظاماً آمناً يأمن في ظله أصحاب العقائد جميعاً. ويعيشون في إطاره خاضعين له وإن لم يعتنقوا عقيدته...
"لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" [البقرة:256] .. نعم ولكن: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ" [الأنفال: 60]..
وهذا هو قوام الأمر في نظر الإسلام. وهكذا ينبغي أن يعرف المسلمون حقيقة دينهم، وحقيقة تاريخهم؛ فلا يقفوا بدينهم موقف المتهم الذي يحاول الدفاع؛ إنما يقفون به دائماً موقف المطمئن الواثق المستعلي على تصورات الأرض جميعاً، وعلى نظم الأرض جميعاً، وعلى مذاهب الأرض جميعاً. ولا ينخدعوا بمن يتظاهر بالدفاع عن دينهم بتجريده في حسهم من حقه في الجهاد لتأمين أهله؛ والجهاد لكسر شوكة الباطل المعتدي؛ والجهاد لتمتيع البشرية كلها بالخير الذي جاء به؛ والذي لا يجني أحد على البشرية جناية من يحرمها منه، ويحول بينها وبينه. فهذا هو أعدى أعداء البشرية، الذي ينبغي أن تطارده البشرية لو رشدت وعقلت. وإلى أن ترشد البشرية وتعقل، يجب أن يطارده المؤمنون، الذين اختارهم الله وحباهم بنعمة الإيمان، فذلك واجبهم لأنفسهم وللبشرية كلها، وهم مطالبون بهذا الواجب أمام الله) (34).
وبعد وضوح الغاية من الجهاد في الإسلام، وأنه يهدف إلى إنقاذ البشرية مما هي عليه من الكفر والظلم، اللذان هما مصدر الخوف والشقاء، وانعدام الأمن، ويرهب أعداء الله عز وجل الذين هم في الحقيقة أعداء البشرية وأعداء أمنها، ويزيلهم من طريق الحق والأمن والسلام، لينتشر التوحيد في الناس.
ومع ذلك فالجهاد في الإسلام الذي هذه غايته له أحكام وآداب سامقة تدل على سماحة هذا الدين ورحمته بالناس. وأسوق فيما يلي بعض هذه الأحكام المتعلقة بالجهاد والتي تدل على حرص هذا الدين، على أمن الناس، وانتشار التوحيد والعدل والأمن والسلام بينهم، وأن القتال ليس مقصوداً لذاته في الإسلام وإنما لإزالة أعداء الإيمان والتوحيد والسلام الذين يمنعون أن يكون الدين كله لله.
أولاً: يحرم الإسلام على المجاهدين في سبيل الله عز وجل أن يقتلوا غير المحاربين لهم، فمن اعتزل قتال المسلمين من الكفار فلا يجوز قتله ولا تخويفه. كما جاء في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده للمجاهدين في سبيل الله تعالى.
• ... فعن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيراً. ثم قال له : «أغزوا باسم الله في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله أغزوا ولا تغلُّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا»(35).
• ... وروى مالك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: «ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له، ولا تقتلن أمرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً»(36).
• ... وقال زيد بن وهب : أتانا كتاب عمر رضي الله عنه وفيه : «لا تغلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا واتقوا الله في الفلاحين»(37). ومن وصاياه: «لا تقتلوا هرماً ولا امرأة ولا وليدا وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان وعند شن الغارات».
ثانياً: يشدد الإسلام في الوفاء بالعهود والعقود، وينهى عن الغدر والخيانة، قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" [المائدة:1] وقال عز وجل: "وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً" [الإسراء:34] وقال تعالى: "إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" [التوبة:41] وعندما تظهر القرائن على خيانة المشركين المعاهدين، ويخشى خيانتهم فإن الإسلام يشعرهم بانتهاء العهد، وينبذه إليهم قال تعالى: "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ" [الأنفال:58].
ثالثاً: إذا خضع الكفار لشريعة الله تعالى، وبقي منهم من بقي على كفره فإنه لا يكره على الإسلام، وإنما يدفع الجزية مقابل حمايته والقيام بحقوقه في ظل الدولة الإسلامية. وقد عاش الذميون حياة عادلة آمنة في ظل الإسلام لم يكونوا يجدونها في ظل دولهم الكافرة. ومنها أن الذمي يحرم الاعتداء عليه في نفسه وماله وعرضه وإذا عجز عن دفع الجزية لم يجبر عليها.(/53)
• ... رأى عمر رضي الله عنه شيخاً ضريراً يسأل على باب فسأل فعلم أنه يهودي فقال له: ما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: الجزية والحاجة والسن، فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله، فأعطاه ما يكفيه ساعتها، وأرسل إلى خازن بيت المال: «انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته، ثم نخذله عند الهرم. "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ" [التوبة:60]. وهذا من مساكين أهل الكتاب».
• ... ولما سافر إلى دمشق مر بأرض قوم مجذمين من النصارى، فأمر أن يعطوا من الصدقات وأن يجري عليهم القوت.
• ... وكان من آخر وصاياه رضي الله عنه لمن يخلفه من بعده قوله: «وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله أن يوفي لهم بعهدهم وأن لا يكلفوا إلا طاقتهم».
• ... ولما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن وعسكر أبو عبيدة في فحل، كتب الأهالي المسيحيون في هذه البلاد إلى العرب يقولون: «يامعشر المسلمين أنتم أحب إلينا من الروم، وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا، وأرأف بنا، وأكف عن ظلمنا، وأحسن ولاية علينا. ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا». وغلق أهل حمص أبواب منازلهم دون جيش هرقل، وأبلغوا المسلمين أن ولايتهم، وعدلهم أحب إليهم من ظلم الإغريق وتعسفهم.
فإذا نحن ألقينا من هذه القمة الشامخة التي يقف عليها الإسلام في سلمه وحربه، نظرة على المستنقع الآسن الذي تلغ فيه الحضارة الغربية سلماً وحرباً، أدركنا بُعْد الشقة بين نظام ينزله الله للبشر، ونظام يضعه الناس للناس. وأدركنا كم خسرت البشرية يوم تنكرت لنظام الله. وهي تتعثر في تكبر مضحك وفي تعالم مضحك، تريد أن تقول: إنها تريد لنفسها خيراً مما أراد الله، وإنها تملك لنفسها خيراً مما أعطاها الله!
وستظل هذه البشرية تطلع في طريق كلها منحدرات وآكام؛ وتلغ في كل مستنقع آسن من صنع الحضارة الكافرة المغرورة الضالة عن الله. إلى أن يتسلم الإسلام الزمام، فيقود البشرية الحائرة إلى مثابة العدل والنظام والسلام.
ولقد شهدت البشرية في الحقبة التي سيطرت فيها أوربا مُثُلاً من عهود الغابة، وصوراً من شرائع الذئاب. شرائع الغدر والنفاق والخسة، ونقض العهود، وخيانة الوعود، وتمزيق الاتفاقيات، ووصف المعاهدات بأنها قصاصات من الورق. كما شهدت من وحشية الحرب ما تخجل الوحوش أن تأتيه. وكان آخر هذه الوحشية السافرة قنبلتا هيروشيما وناجازاكي.
وستشهد البشرية في مستقبلها القريب من ألوان الخيانة والغدر، ومن صنوف الوحشية والبربرية ما يتفق مع روح هذه الحضارة المادية الكافرة، التي لا تؤمن بدين ولا خلق، ولا تقيد نفسها بمبدأ ولا ضمير، مما يتمشى مع الفكرة المادية الغليظة التي تسيطر على هذه الحضارة، فتنفي من الحياة كل عنصر غير المصلحة المباشرة والعنصرية اللئيمة...
والسماحة الإنسانية، عنصر هام لإقرار السلام، تفقده كل الحضارات التي تُظلل العالم اليوم. هذا العالم الذي تمزقه العصبيات الدينية، والعصبيات العنصرية، والعصبيات المذهبية، ويقف على شفا جرفٍ هار بسبب تلك العصبيات الذميمة، التي تنقصها روح السماحة الإنسانية، وروح العدالة الحقيقية، والتي تنطلق وفي إثرها الأحقاد والحزازات، والمطامع الاقتصادية وغير الاقتصادية، فتحيل الحياة البشرية جحيماً في الحرب وجحيماً في السلم، وتنشر فيه المجاعات والمخاوف؛ وتقف الأمم بعضها من بعض موقف الحذر الدائم والقلق الدائم، وتثقل على أعصاب الناس فتصيبهم بالضغط العصبي والدموي، وتدعهم في تربص بأنفسهم وسواهم، وفي ذعر لا أمن فيه، وحقد لا سلام فيه، وظلمة لا بصيص فيها. ومع هذا كله، تجد تلك الحضارات البائسة معجبين ومدافعين . وهي تسوم البشرية شقاء بعد شقاء، وحرباً بعد حرب، وبلاء بعد بلاء. لماذا؟ لأنها تملك تسخير الحديد والنار والكهرباء والبخار، وتملك صنع القنبلة الذرية والقنبلة الهيدروجينية والأقمار الصناعية، ولا تملك ذرة واحدة من ذرات المحبة ولا عنصراً واحداً من عناصر السماحة، ولا طاقة واحدة من طاقات الإنسانية!
ألا إنه المسخ الذي يصيب الروح البشرية في عصر الظلام الروحي والانتكاس. وما هنالك من بلسم يمس هذه الروح فيشفيها، وما هنالك من شعاع يضيء ظلماتها وخوافيها، إلا أن يقود الإسلام البشرية مرة أخرى، فيردها إلى السماحة الإنسانية، ويحيل كشوفها وعلومها أداة رحمة وحضارة وسلام) (38).
______________
(1) ... السلام العالمي والإسلام 104،103.
(2) ... البخاري (6011)، مسلم (5186).
(3) ... البخاري (6065)، مسلم (2559).
(4) ... البخاري (2160).
(5) ... البخاري (6077)، مسلم (2560).
(6) ... البخاري (6288)، مسلم (2183).
(7) ... البخاري (6056)، مسلم (105).
(8) ... مسلم (2865).
(9) ... البخاري (34)، مسلم (58).
(10) ... البخاري (6016).
(11) ... البخاري (13)، مسلم (45).
(12) ... البخاري (481)، مسلم (2585).
(13) ... مسلم (54).
(14) ... البخاري (6231)، مسلم (2160).
(15) ... الترمذي (2130).(/54)
(16) ... مسلم (2699).
(17) ... البخاري (2363) ومسلم (2244).
(18) ... الأدب المفرد (373) وصحيح الألباني في السلسلة الصحيحة (26).
(19) ... البخاري (2365)، ومسلم (2242).
(20) ... في ظلال القرآن 1/209-211 (باختصار) وهذه الاحصائيات كما هو ظاهر قديمة فكيف بالاحصائيات المعاصرة التي هي أشنع وأفظع.
(21) ... السلام العالمي والإسلام ، ص81.
(22) ... البخاري (2493) ومسلم .
(23) ... أبو داود (4338) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3644).
(24) ... أبو داود (4336).
(25) ... انظر: السلام العالمي والإسلام ص122-128 (باختصار وتصرف يسير).
(26) ... انظر: في ظلال القرآن 2/863،862.
(27) ... خصائص التصور الإسلامي ص35-61، باختصار شديد.
(28) ... البخاري (5127).
(29) ... في ظلال القرآن 1/508-511 (مع تقديم وتأخير) واختصار.
(30) ... ومعلوم أن هذه الاحصائيات كانت إبان حياة سيد قطب رحمه الله تعالى. فكيف بالاحصائيات المعاصرة إنها بلا شك أفظع وأشنع.
(31) ... في ظلال القرآن 2/632-637 (باختصار).
(32) ... السلام العالمي والإسلام، ص 169،168.
(33) ... انظر: السلام العالمي والإسلام (بتصرف يسير) ص173،172.
(34) ... في ظلال القرآن 2/294-299 (باختصار).
(35) ... مسلم (1731).
(36) ... الموطأ 447 .
(37) ... السنن الكبرى للبيهقي 9/91.
(38) ... انظر: السلام العالمي والإسلام (باختصار) ص185-187.
=============
المبحث الثاني
الأمن عند الموت وبعده
مر بنا قوله تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" [الأنعام: 82]، وفهمنا من هذه الآية أن الأمن والإهتداء في الدنيا والآخرة لا يكونان إلا لمن آمن بالله ووحده، وأطاعه، ولم يلبس إيمانه بظلم. ولكن الناس يتفاوتون في هذا الأمن والاهتداء حسب تحقيقهم للإيمان وخلوصهم من الظلم. فإن خلص الإيمان من الشرك الأكبر الذي هو أعظم الظلم، وخلص من ظلم العباد، وخلص من ظلم العبد لنفسه بما دون الشرك من الكبائر والمعاصي وذلك باجتنابها أو التوبة الصادقة منها قبل الموت؛ فإن هذا الصنف من الناس يحصلون على الأمن التام في الدنيا وعند الموت وبعد الموت في البرزخ ويوم القيامة. وهم الذين وصفهم الله عز وجل بقوله: "الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" [النحل:32] وبقوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ" [فصلت: 30-32].
أما إذا شاب الإيمان شيء من الظلم، فينظر إلى هذا الظلم فإن كان من الظلم الأكبر الذي هو الشرك بالله عز وجل، فإن صاحبه محروم من مطلق الأمن في الدنيا والآخرة؛ فلا يشعر في الدنيا بأمن ولا سعادة ولا طمأنينة لفقده الإيمان. ولا ينعم بالأمن عند موته، بل تغشاه كرب الموت وغمراته وزجر ملائكة العذاب وضربهم له كما قال تعالى: "وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ" [الأنفال: 50] ولا يؤمنون في قبروهم بل الفزع والعذاب المؤلم إلى يوم القيامة )النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ" [غافر:46] ويوم القيامة يحزنهم الفزع الأكبر، ويدخلون دار الشقاء والخوف والعذاب الأليم.
أما إذا كان هذا الظلم ما دون الشرك الأكبر كمظالم العباد، أو الكبائر والمعاصي التي مات العبد وهو مصر عليها، فإن هذا يحصل له الأمن في نهاية المطاف بدخوله الجنة دار الأمن والسلم بما معه من الإيمان والتوحيد والعمل الدال على صدق إيمانه؛ لكنه معرض للمخاوف والعذاب في البرزخ ويوم القيامة، حتى يتطيب ويزول خبثه، ويتهيأ لدخول الجنة دار الطيبين، لأن الجنة لا يدخلها إلا طيبا قال تعالى عن أهل الجنة: "طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ" [الزمر:73]. وقد يدرك العبد الظالم لنفسه ظلما دون الشرك أحد الأسباب التي تحول بينه وبين عقوبة ذنوبه فلا يعذب. ومن هذه الأسباب ما ذكرها شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى بقوله:
«على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب:(/55)
أحدها: التوبة: وهذا متفق عليه بين المسلمين؛ قال تعالى: "أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" [التوبة:104]..
السبب الثاني: الاستغفار لقوله صلى الله عليه وسلم : «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر الله لهم».(1)..
السبب الثالث: الحسنات الماحية كما قال تعالى: "وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ" [هود:114] وقال صلى الله عليه وسلم : «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر»(2)..
السبب الرابع: دعاء المؤمنين للمؤمن مثل صلاتهم على جنازته؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه» (3)...
وهذا دعاء له بعد الموت، فلا يجوز أن تحمل المغفرة على المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر. وكفرت عنه الصغائر وحده، فإن ذلك مغفور له عند المتنازعين، فعلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت.
السبب الخامس: ما يعمل للميت من أعمال البر كالصدقة ونحوها...
السبب السادس: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة كما قد تواترت عنه أحاديث الشفاعة مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي»(4)...
السبب السابع: المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى – حتى الشوكة يشاكها- إلا كفر الله بها من خطاياه»(5).
السبب الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة؛ فإن هذا مما يكفر به الخطايا.
السبب التاسع: أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها.
السبب العاشر: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد(6).
تنبيه مهم:
دأب كثير من الناس في حديثه عن الأمن اقتصاره في ذلك على الأمن في الحياة الدنيا، وعدم التطرق عند الحديث عن الأمن عن أمن الآخرة وأهوالها، ولا عن أمن القبر ونعيمه وعذابه ولذا يحرص أكثر الناس اليوم على توفير الأمن في حياتهم الدنيا وبخاصة على النفس والأهل والمال والعرض، ويبذلون ما في وسعهم من الأسباب لتحقيق السلام والأمن والسعادة في حياتهم الدنيا. والقليل القليل منا من يوجه همه وتفكيره وحركته للفوز بالأمن الحقيقي والسلام السرمدي يوم يبعث الله من في القبور ويحصل ما في الصدور )وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ" [الروم:14] فريق في الجنة آمنون سالمون منعمون أبد الآباد، وفريق في السعير معذبون مكروبون لا يموتون فيها، وما هم منها بمخرجين أبد الآباد. قال الله تعالى: "وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ" [المعارج: 28،27] وقال سبحانه: "أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [فصلت: 40]. فأي الدارين أحق بتوفير الأمن فيها أدار الدنيا الفانية الزائلة بأفراحها وأتراحها، أم الدار الباقية السرمدية بنعيمها أو عذابها؟ لاشك أن منطق الشرع والعقل يؤثر الآخرة على الأولى. والعاقل من مهد لنفسه ليرتاح الراحة التامة الكاملة الأبدية في دار الخلد والسلام. والعاجز الأحمق من غفل عن ما بعد الموت وعن اليوم الآخر وانشغل بدنياه الفانية الزائلة عما وراءه من الأهوال والأفزاع والحساب والعذاب "يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ" [عبس: 34-37]، و"يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ" [الحج:2].
والعجب كل العجب أنه مع كل هذا التذكير، والتنبيه والتحذير من ربنا الرحمن الرحيم من هذا اليوم العصيب، وأثره على أمن مستقبلنا الأبدي، إلا أن حالنا في هذا الزمان حال الغافل اللاهي عن كل هذه التحذيرات، فلا تكاد تجد منا- إلا من رحم الله- إلا من هو منشغل بالتفاهات من هذه الدنيا الدنية، قد استهلكت عليه وقته، وأصبح في دوامة مستمرة منذ أن يصبح وحتى ينام آخر الليل.
وما هنالك أشد من مرض الغفلة، ولكن الأدهى والأمر أن يكون المرء من أهل الغفلة وهو لا يشعر بذلك، وهذه الحالة – والعياذ بالله- قد تتحول إلى جمود وتحجر وقسوة، ثم إلى لجاج وعناد.(/56)
وإذا كان الكتاب والسنة قد اهتما غاية الاهتمام بتفاصيل هذا اليوم المشهود، وخوفا منه ومن أهواله، فإنه من الحمق والجهل أن لا نهتم بما اهتم به كتاب ربنا – سبحانه- وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
والدليل على هذا الحمق أن نجد الكثير منا – إلا من رحم الله- يكد ويتعب من أجل مستقبل قريب يسعى – بزعمه – لتأمينه، وهذا المستقبل بالإضافة إلى ما قد مرّ من عمرْ الإنسان لا يتعدى في الغالب الستين أو السبعين سنة، وقليل من يتجاوز ذلك، ولنفرض أنه مائة أو أكثر، فماذا يساوي بالنسبة إلى المستقبل البعيد الأبدي السرمدي والذي لا نهاية له؟ إنه لا يساوي شيئاً، فلماذا نحن بأمن المستقبل القريب الفاني مشتغلون وعليه مثابرون، وعن أمن مستقبلنا الأبدي السرمدي منشغلون ولاهون؟ إنه لابد من وقفة محاسبة وتأمل.
إن أعظم قضية يجب أن ينشغل بال كل واحد منا بها هي: قضية وجوده وحياته والغاية منها، وقضية مستقبله ومصيره وشقائه وسعادته فيه؛ فلا يجوز أن يتقدم ذلك شيء مهما كان شأنه، فكل أمر دونه صغير، وكل خطب سواه حقير، وهل هناك خطب أعظم وأفظع من أن يخسر الإنسان نفسه وأهله ويخسر سعادته وسعادتهم؟! فماذا بقى له بعد ذلك! وما قيمة الدنيا الفانية وزخرفها وزينتها وراء ذلك؟ قال تعالى: "قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ" [الزمر:15].
ولو لم يكن في انتظارنا إلا الموت وسكراته وغصصه لكفى به واعظاً ومكدِّراً، فكيف ووراءه يوم البعث والحساب والجزاء والجنة أو النار.
يومٌ تحار فيه العقول، وتذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، ويكون الولدان فيه شيباً. فاللهم اجعلنا في ذلك اليوم من الآمنين.
ولا يفهم مما سبق أن لا يهتم المسلم بدنياه، والأخذ بأسباب الأمن والسلامة فيها؛ وإنما كان المقصود أن لا ننسى ولا نغفل عن الأمن الأبدي الحقيقي وهو الأمن يوم القيامة، وأن يكون اهتمامنا وسعينا لأن نكون من الآمنين في الدار الآخرة أكبر وأشد من سعينا لذلك في الدنيا الفانية الزائلة. مع أن طاعة الله عز وجل وخوف اليوم الآخر يحصل بهما الأمن في الدنيا قبل الآخرة كما سبق بيانه. إذن فالأمن في الدارين مصدرهما طاعة الله وتوحيده واتقاء مساخطه، وأسباب عقابه.
وأرى في هذا المقام أن أعيد ما نقلته سابقاً عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عند قوله عز وجل: "وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً" [مريم:15] ثم تكرار هذا مع عيسى عليه الصلاة والسلام في قوله: "وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً" [مريم: 33] لمناسبته المقام.
قال رحمه الله تعالى: (قيل : ما الحكمة في تقييد السلام في قصتي يحيى والمسيح صلوات الله عليهما بهذه الأوقات الثلاثة؟
فسرُّه والله أعلم: أن طلب السلامة يتأكد في المواضع التي هي مظان العطب ومواطن الوحشة، وكلما كان الموضع مظنة ذلك تأكد طلب السلامة، وتعلقت بها الهمة؛ فذكرت هذه المواطن الثلاثة لأن السلامة فيها آكد وطلبها أهم، والنفس عليها أحرص، لأن العبد فيها قد انتقل من دار كان مستقراً فيها، موطن النفس على صحبتها وسكناها إلى دار هو فيها معرض للآفات والمحن والبلاء؛ فإن الجنين من حين خرج إلى هذه الدار انتصب لبلائها، وشدائدها ولأوائها ومحنها، وأفكارها؛ كما أفصح الشاعر بهذا المعنى حيث يقول:
تأمل بكاء الطفل عند خروجه
تجد تحته سراً عجيباً كأنه
وإلا فما يبكيه منها وإنها
... ... إلى هذه الدنيا إذا هو يولد
بكل الذي يلقاه منها مهدد
لأوسع مما كان فيه وأرغد
ولهذا من حين ابتدرته طعنة الشيطان في خاصرته فبكى لذلك، ولما حصل له من الوحشة بفراق وطنه الأول. وهو الذي أدركه الأطباء والطبائعيون. وأما ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فليس في صناعتهم ما يدل عليه، كما ليس فيها ما ينفيه فكان طلب السلامة في هذه المواطن من آكد الأمور.
الموطن الثاني: خروجه من هذه الدار إلى دار البرزخ عند الموت ونسبة الدنيا إلى تلك الدار كنسبة داره في بطن أمه إلى الدنيا تقريباً وتمثيلاً، وإلا فالأمر أعظم من ذلك وأكبر. وطلب السلامة أيضاً عند انتقاله إلى تلك الدار من أهم الأمور.
الموطن الثالث: موطن يوم القيامة يوم يبعث الله الأحياء ولا نسبة لما قبله من الدور إليه. وطلب السلامة فيه آكد من جميع ما قبله؛ فإن عطبه لا يستدرك، وعثرته لا تقال، وسقمه لا يداوى، وفقره لا يسد. فتأمل كيف خص هذه المواطن بالسلام لشدة الحاجة إلى السلامة فيها.(/57)
واعرف قدر القرآن وما تضمنه من الأسرار وكنوز العلم والمعارف التي عجزت عقول الخلائق عن إحصاء عشر معشارها. وتأمل ما في السلام من الزيادة على السلامة من الأنس وذهاب الوحشة، ثم نزل ذلك على الوحشة الحاصلة للعبد في هذه المواطن الثلاثة عند خروجه إلى عالم الابتلاء، وعند معاينته هول المطلع إذا قدم على الله وحيداً مجرداً عن كل مؤنس إلا ما قدمه من صالح عمل، وعند موافاته القيامة مع الجمع الأعظم ليصير إلى إحدى الدارين التي خلق لها، واستعمل بعمل أهلها. فأي موطن آخر يطلب السلامة من هذه المواطن. فنسأل الله السلامة فيها بمنه وكرمه ولطفه وجوده وإحسانه) (7).
وقال الإمام الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره عند هذه الآية:
وقد ذكر عن ابن عيينة في ذلك ما حدثني أحمد بن منصور المروزي(8) قال: أخبرني صدقة بن الفضل(9) عن سفيان بن عيينه قال: أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن، يوم ولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه فقال: "وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً" (10) [مريم:15].
خاتمة هذا الفصل
وأنهي هذا الفصل بالتمهيد للفصل الذي يليه. وهو الخروج من هذا الفصل بنتيجة مهمة ألا وهي: أن أعدى أعداء البشرية وأظلم الظالمين لها، وأعداء الأمن والسلام هم أولئك الذين يحاربون منهج التوحيد والإيمان أن يستقر في حياة الناس، ويحاربون شريعة الله عز وجل وأحكامها وآدابها أن تستقر في المجتمعات، ويريدون للناس أن لا يأمنوا في دنياهم على أديانهم ولا أنفسهم ولا أعراضهم ولا أموالهم ولا عقولهم. ويريدون لهم الشقاء والعذاب في نار جهنم يوم القيامة، فهؤلاء وأمثالهم يجب مطاردتهم ومحاصرتهم ومجاهدتهم حتى يصبحوا عاجزين عن هذا الظلم والفساد الذي يزاولونه، وأن ترصد لفضحهم وحربهم الأنفس والأموال. وهذا من أعظم غايات الجهاد وهنا أذكر بقول الله تعالى: "فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" [الأنعام: 81] وأخاطب به كل عاقل منصف: أي الفريقين أحق بالأمن، والدعوة إلى الأمن في الدنيا والآخرة؟ أهم دعاة التوحيد والإيمان والفضيلة أم دعاة الشرك والكفر والفساد والرذيلة؟ لقد حسم الله عز وجل الجواب بقوله سبحانه: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" [الأنعام: 82] وأضم إلى آية الأنعام السابقة الآيات التالية والتي يوضح الله عز وجل فيها من هم دعاة الأمن وأهله ومن هم دعاة الشر والعذاب وأهله وأن لا التقاء بينهما. وهي من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى تعليق.
• ... يقول الله تعالى: "وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيما" [النساء:27].
• ... ويقول عز وجل: "وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ" [البقرة: 221].
• ... ويقول الله عز وجل عن مؤمن آل فرعون وهو يدعو قومه: "وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ" [غافر: 42،41].
وبعد: فأترك التفصيل عن أعداء الأمن والسلام هنا لأتحدث عنه في الفصل الثاني، الذي سأفصل فيه إن شاء الله تعالى الكلام عن هؤلاء الأعداء وأصنافهم وأساليبهم الماكرة الخبيثة أسأل الله عز وجل العون والتوفيق والسداد.
______________
(1) ... البزار (3247) وقال الهيثمي في المجمع 10/215 رجاله ثقات وصححه الألباني في السلسلة (970).
(2) ... مسلم في الطهارة (233).
(3) ... مسلم في الجنائز (948).
(4) ... أحمد 3/213 والترمذي (2430) وقال حسن صحيح.
(5) ... البخاري (5641) ومسلم (2573).
(6) ... مجمع الفتاوى 7/487-501 (باختصار).
(7) ... بدائع التفسير 3/135، 136.
(8) ... في الطبري : (أحمد بن منصور الفيروزي) وهو خطأ والتصحيح من تفسير ابن كثير طبعة الشعب 5/212.
(9) ... في الطبري: (أخبرني صدقة بن الفضل سمعت إن عطية) هو خطأ، والتصويب من تفسير ابن كثير ط. الشعب 5/212
(10) ... تفسير الطبري 16/58.
============
الفصل الثالث
أعداء الأمن والسلام(/58)
إذا أردنا الوصول إلى توصيف دقيق لأعداء الأمن والسلام؛ فإنه يمكننا القول بأنهم أعداء الله ورسوله الذين يرفضون الإهتداء بهدى الله عز وجل، ودينه الذي ارتضاه للناس كافة والمتمثل في الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله عز وجل. ألا وهو دين الإسلام عقيدة وشريعة، وهم الذين يصدون الناس عن هذا الدين بالإرهاب تارة، وبالترغيب تارة، وهم الذين يمكرون، ويضللون ويلبسون الحق بالباطل، حتى يخلو الجو لباطلهم وأهوائهم وشهواتهم واستعبادهم لعباد الله عز وجل ليميلوا بهم ميلاً عظيما.
وقد مر بنا في الفصل السابق تلك الصور المضيئة للأمن والسلام والسعادة لمن يعيش في ظل الإسلام، سواء في نفسه أو في بيته أو في مجتمعه أو في دولته وعالمه. كما تبين لنا أيضاً حال من عاش بعيداً عن الإسلام في ظل أهواء البشر، وعبودية بعضهم لبعض من الخوف والقلق، وعدم الأمن في مناحي الحياة كلها وفي ضروريات الإنسان كلها.
فكل من ناصب هذا الدين العداء، وسعى لصد الناس عنه، وحرمهم من نعمة الأمن في ظلاله. وكان سبباً في حلول عقوبة الله عز وجل في الناس سواء في الدنيا أو في الآخرة في عذاب النار، فهو العدو الحقيقي لأمن الناس، وسلامتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة؛ سواء كان هذا الصد عسكرياً أو فكرياً أو أخلاقياً، وسواء كان هذا العداء على الدين والأخلاق، أو على الأنفس والأموال والأعراض.
وأجدني في هذا المقام محتاجاً لإعادة الآيات التي ختمت بها الفصل السابق لمناسبتها القوية في هذا المقام، مع ذكر آيات أخرى تشابهها مع التعليق على بعضها بمقتطفات من ظلال القرآن.
الآية الأولى: قوله تعالى: "وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" [البقرة: 221].
(إن طريق المشركين والمشركات إلى النار، ودعوتهم إلى النار، وطريق المؤمنين والمؤمنات هو طريق الله. والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه.. فما أبعد دعوتهم إذن من دعوة الله!
ولكن أويدعو أولئك المشركون والمشركات إلى النار؟ ومن الذي يدعو نفسه أو غيره إلى النار؟!
ولكنها الحقيقة الأخيرة يختصر السياق إليها الطريق! ويبرزها من أولها دعوة إلى النار، بما أن مآلها إلى النار، والله يحذر من هذه الدعوة المردية .. "وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" فمن لم يتذكر، واستجاب لتلك الدعوة فهو الملوم!) (1).
الآية الثانية: قوله تعالى: "وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً" [النساء:27].
فماذا يريد الله بالناس، حين يبين لهم منهجه، ويشرع لهم سنته؟ إنه يريد أن يتوب عليهم. يريد أن يهديهم. يريد أن يجنبهم المزالق. يريد أن يعينهم على التسامي في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة.
وماذا يريد الذين يتبعون الشهوات، ويزينون للناس منابع ومذاهب لم يأذن بها الله، ولم يشرعها لعباده؟ إنهم يريدون لهم أن يميلوا ميلاً عظيماً عن المنهج الراشد، والمرتقى الصاعد والطريق المستقيم.
وفي هذا الميدان الخاص الذي تواجهه الآيات السابقة: ميدان تنظيم الأسرة؛ وتطهير المجتمع؛ وتحديد الصورة النظيفة الوحيدة، التي يحب الله أن يلتقي عليها الرجالُ والنساء؛ وتحريم ما عداها من الصور، وتبشيعها وتقبيحها في القلوب والعيون. في هذا الميدان الخاص ما الذي يريده الله وما الذي يريده الذين يتبعون الشهوات؟
فأما ما يريده الله فقد بينته الآيات السابقة في السورة، وفيها إرادة التنظيم، وإرادة التطهير، وإرادة التيسير، وإرادة الخير بالجماعة المسلمة على كل حال.
وأما ما يريده الذين يتبعون الشهوات فهو أن يطلقوا الغرائز من كل عقال: ديني، أو أخلاقي، أو اجتماعي. يريدون أن ينطلق السعار الجنسي المحموم بلا حاجز ولا كابح، من أي لون كان. السعار المحموم الذي لا يقر معه قلب، ولا يسكن معه عصب، ولا يطمئن معه بيت، ولا يسلم معه عرض، ولا تقوم معه أسرة. يريدون أن يعود الآدميون قطعاناً من البهائم، ينزو فيها الذكران على الإناث بلا ضابط إلا ضابط القوة أو الحيلة أو مطلق الوسيلة! كل هذا الدمار، وكل هذا الفساد، وكل هذا الشر باسم الحرية، وهي – في هذا الوضع- ليست سوى اسم آخر للشهوة والنزوة!(/59)
وهذا هو الميل العظيم الذي يحذر الله المؤمنين إياه، وهو يحذرهم ما يريده لهم الذين يتبعون الشهوات. وقد كانوا يبذلون جهدهم لرد المجتمع المسلم إلى الجاهلية في هذا المجال الأخلاقي، الذي تفوق فيه المسلمون، وتفردوا بفعل المنهج الإلهي القويم النظيف. وهو ذاته ما تريده اليوم الأقلام الهابطة والأجهزة الموجهة لتحطيم ما بقى من الحواجز في المجتمع دون الانطلاق البهيمي، الذي لا عاصم منه، إلا منهج الله، حين تقره العصبة المؤمنة في الأرض إن شاء الله) (2).
الآية الثالثة: "وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ" [غافر: 42،41].
(وهم لم يدعوه إلى النار. إنما دعوه إلى الشرك. وما الفرق بين الدعوة إلى الشرك والدعوة إلى النار؟ إنها قريب من قريب. فهو يبدل الدعوة بالدعوة في تعبيره في الآية التالية: "تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ" [غافر:42].
وشتان بين دعوة ودعوة. إن دعوته لهم واضحة ومستقيمة. إنه يدعوهم إلى العزيز الغفار. يدعوهم إلى إله واحد تشهد آثاره في الوجود بوحدانيته، وتنطق بدائع صنعته بقدرته وتقديره. يدعوهم إليه ليغفر لهم فهو القادر أن يغفر، الذي تفضل بالغفران: "الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ".. فإلى أي شيء يدعونه؟ يدعونه للكفر بالله عن طريق إشراك ما لا علم له به من مدعيات وأوهام وألغاز!) (3).
الآية الرابعة: قوله تعالى: "وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً... الآية" [النساء: 89] ومثلها قوله تعالى: "وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ" [البقرة: 109].
وذلك ما يفعله الحقد اللئيم بالنفوس. الرغبة في سلب الخير الذي يهتدي إليه الآخرون. لماذا؟ لا لأن هذه النفوس الشريرة لا تعلم. ولكنها لأنها تعلم(4).
الآية الخامسة: "وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" [البقرة: 217].
وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر؛ وعلى فتنة المسلمين عن دينهم، بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم. وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل. إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين؛ ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين. إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويرهبهم ويخيفهم. فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل، ويرهبه كل باغ، ويكرهه كل مفسد. إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج، ومن منهج قويم، ومن نظام سليم. إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد. ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون. ومن ثم يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه، ويردوهم كفاراً في صورة من صور الكفر الكثيرة. ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم، وفي الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين، وتتبع هذا المنهج، وتعيش بهذا النظام. والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام، وينبهها إلى الخطر، ويدعوها إلى الصبر على الحرب وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة والعذاب الذي لا يرفعه عذر ولا مبرر(5).
الآية السادسة: قوله تعالى: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ... الآية" [البقرة:120].
(فتلك هي العلة الأصيلة. ليس الذي ينقصهم هو البرهان؛ وليس الذي ينقصهم هو الاقتناع بأنك على الحق، وأن الذي جاءك من ربك الحق. ولو قدمت إليهم ما قدمت، ولو توددت إليهم ما توددت. لن يرضيهم من هذا كله شيء إلا أن تتبع ملتهم وتترك ما معك من الحق.
إنها العقدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان. إنها هي العقيدة. هذه حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة. إنها معركة العقيدة هي المشبوبة بين المعسكر الإسلامي وهذين المعسكرين اللذين قد يتخاصمان فيما بينهما، وقد تتخاصم شيع الملة الواحدة فيما بينها، ولكنها تلتقي دائماً في المعركة ضد الإسلام والمسلمين!(/60)
إنها معركة العقيدة في صميمها وحقيقتها. ولكن المعسكرين العريقين في العداوة للإسلام والمسلمين يلونانها بألوان شتى، ويرفعان عليها أعلاماً شتى، في خبث ومكر وتورية. إنهم قد جربوا حماسة المسلمين لدينهم وعقيدتهم حين واجهوهم تحت راية العقيدة. ومن ثم استدار الأعداء العريقون فغيروا أعلام المعركة. لم يعلنوها حرباً باسم العقيدة – على حقيقتها- خوفاً من حماسة العقيدة وجيشانها. إنما أعلنوها باسم الأرض، والاقتصاد، والسياسة، والمراكز العسكرية، وما إليها. وألقوا في روع المخدوعين الغافلين منا أن حكاية العقيدة قد صارت حكاية قديمة لا معنى لها! ولا يجوز رفع رايتها، وخوض المعركة باسمها. فهذه سمة المتخلفين المتعصبين! ذلك كي يأمنوا جيشان العقيدة وحماستها؛ بينما هم في قرارة نفوسهم -الصهيونية العالمية، والصليبية العالمية، بإضافة الشيوعية العالمية- جميعاً يخوضون المعركة أولاً، وقبل كل شيء لتحطيم هذه الصخرة العاتية التي نطحوها طويلاً، فأدمتهم جميعاً!!!
إنها معركة العقيدة . إنها ليست معركة الأرض، ولا الغلة، ولا المراكز العسكرية، ولا هذه الرايات المزيفة كلها. إنهم يزيفونها علينا لغرض في نفوسهم دفين؛ ليخدعونا عن حقيقة المعركة وطبيعتها، فإذا نحن خدعنا بخديعتهم لنا، فلا نلومن إلا أنفسنا. ونحن نبعد عن توجيه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمته، وهو – سبحانه- أصدق القائلين. "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" فذلك هو الثمن الوحيد الذي يرتضونه. وما سواه فمرفوض ومردود!) (6) . أ.هـ
فهل بعد هذه الآيات عذر لمن يجهل حقيقة أعداء هذا الدين، بل أعداء أمن البشرية والعالم أجمع؟ إن من يجهل حقيقة هذا العداء لم يتدبر كتاب ربنا سبحانه الذي فيه الكفاية والغنية، وفيه الحماية والحصانة من تلبيس الملبسين وتضليل المضللين.
وإن من أهداف هذا الفصل من هذه الرسالة هو فضح مكر الماكرين من الملبسين والمضللين الذين يرفعون عقيرتهم بمكافحة الإرهاب، وادعاؤهم حماية أمن الناس وسلامتهم، موظفين هذا المكر في محاربة المصلحين الذين يدعون إلى توحيد الله عز وجل،وتعبيد الناس لرب العالمين ومحاربة الفساد والظلم والكفر التي هي مصدر شقاء الناس، وخوفهم وقلقهم، ومع ذلك يتهمهم هؤلاء الماكرون الملبسون بأنهم أعداء الأمن، ودعاة الإرهاب. وما أشبه هؤلاء الماكرين بإخوانهم وسلفهم من الكفار والمنافقين الذين قص الله عز وجل لنا أقوالهم الجائرة في الأنبياء والمصلحين، ووصفُهم لهم بأنهم مفسدون قال الله عز وجل عن اتهام فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام: "وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ" [غافر:26] وقال عن تحريض الملأ من قوم فرعون على أصحاب موسى عليه الصلاة والسلام: "وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ... الآية" [الأعراف:127]. وقال عز وجل عن المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم : "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ" [البقرة: 12،11].
إذن فهي شنشنة قديمة، وسنة متبعة من الكفار والمنافقين ضد عباد الله المصلحين: "أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ" [الذاريات:53].
وينطبق علهيم المثل العربي المشهور (رمتني بدائها وانسلت) فهم أهل الإرهاب، وهم أعداء البشرية وأمنها ومع ذلك يتترسون وراء محاربة الإرهاب ونشر الأمن لينشروا الإرهاب والخوف والظلم بين الناس "وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" [الأنفال:30].(/61)
يتحدث الأستاذ سليم الزغل عن (التطرف الديني والإرهاب)، وإلصاق الغرب الكافر، وأذنابه هذه التهمة بالمتمسكين من المسلمين بعقيدتهم فيقول: (لقد أصبحنا في العالم الإسلامي المنكود نردد ما يقوله الغرب والشرق عنا من التطرف والغلو والتشدد، ونستخدم هذه المصطلحات ضد إخواننا وأبنائنا ممن ساروا مع قافلة الصحوة، وتشبثوا بأهداب هذا الدين الحنيف، وما ذلك إلا تنفيذاً لكل ما لقنته لنا الهيئات الاستعمارية حول كون تلك الحركات، والجماعات، والمنظمات متطرفة متعصبة أصولية إرهابية، فسِرْنا وراءهم بحماس يفوق حماسهم، سرنا وراءهم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، ولو دخلوا جحر ضب لدخلناه وراءهم، كما قال رسول هذه الأمة صلى الله عليه وسلم .. قوافل الشباب المسلم والذين ألقي بهم في سجون الطغاة، وقُطِّعوا إرباً إرباً وذاقوا من صنوف العذاب ما لا تتوهمه الأوهام، وقتل الكثير على أعواد المشانق، وفعلت ببعضهم الفاحشة، وقضى آلاف منهم عشرات الأعوام في الأقبية والزنازين والسراديب المظلمة.. خرجوا بعدها إلى الحياة لكي يجدوا أن الأبناء تشردوا، وأن الأسر قد تبعثرت بعد أن عبثت بها الأيدي الآثمة، وحيل بينهم وبين لقمة العيش الكريمة. كل تلك الكؤوس المترعة تجرَّعوها حتى الثمالة، لا لذنب اقترفوه، وإنما لأنهم قالوا: "رَبُّنَا اللَّهُ"، وتنفيذاً لرغبات الأسياد في الشرق والغرب حصل ما حصل.
إننا نتساءل وبكل لغات العالم: من هو المتطرف.. الضحية أم الجلاد؟؟! ولماذا قامت الدنيا ولم تقعد في فرنسا لأن بعض التلميذات العربيات ارتدين اللباس الإسلامي؟؟ وبدأ الإعلام الآثم يمارس سياسة التحريض ضد الإسلام والمسلمين، ويصورهم على أنهم وحوش هذا العالم وصار الخطاب عن التطرف الإسلامي والإرهاب الديني، أين هو التطرف؟؟ إننا لم نشاهد هذا الزخم الإعلامي ولم نرقب مثل هذه التحذيرات المرعبة، ولا طرقت أسماعنا بالأحاديث المفزعة عن الإرهاب والتطرف والهمجية وسكاكين الصرب كانت تخوض في بحور الدماء في البوسنة والهرسك، إدارات المدارس والوزارات والحكومات والهيئات الشعبية هناك، كلها وقفت تنادي بطرد العرب والمسلمين. واليهود والنصارى دقوا الطبول لأن اللحن أعجبهم، الكل صار يهتف بنغمة متناسقة تنادي بوقف التطرف الديني. من هو المتطرف – بالله عليكم- التلميذات العربيات أم الحاقدون عليهن من أعداء الإسلام؟! الصليبيون عندما احتلوا مدينة القدس ذبحوا كل أهلها عن بكرة أبيهم حتى خاضت الخيل في بحور الدماء إلى بطونها، وعندما دخلها صلاح الدين الأيوبي وحررها من النصارى وأهل الصليب أعطى أهلها الأمان وعاملهم معاملة الرجال الكرماء.
اليهود في فلسطين، والصرب في البلقان، والبوذيون في بورما، والهندوس في الهند وكشمير، والأمريكان في بلاد الأفغان والعراق، والشيوعيون في جمهوريات آسيا الوسطى خصوصاً في تركمانستان وطاجيكستان، والشيشان، كل هذه الملل وغيرها تمارس القتل والذبح والاغتصاب والتصفية العرقية، وكل ما هو محرم إنسانياً وحيوانياً، يمارسون ذلك ضد المسلمين في طول الأرض وعرضها لا لشيء سوى أنهم مسلمون- تحت مظلة الحماية التي توفرها لهم الأمم المتحدة- (الأمم المتحدة ضد كل مما يمتَ إلى الإسلام بصلة) – ممثلة بالدول الخمس الدائمة العضوية بمجلس الأمن، والتي تشكل عصابة تروج للإنحراف والجريمة، والتخطيط الآثم للاعتداء على المسلمين وإذلالهم، وهتك أعراضهم والزج بهم في أتون الفضيحة الكبرى، فقط لأنهم مسلمون!! إذن من هم المتطرفون دينيا؟؟ ومن هم الإرهابيون على الحقيقة؟؟)(7).
ونظراً لبعد الكثير منا اليوم عن كتاب الله عز وجل وما ذكر فيه من صفات المؤمنين وبيان سبيلهم، وصفات المجرمين وبيان سبيلهم، فإني في هذا الفصل سأبسط القول إن شاء الله تعالى في بيان أصناف المعادين لهذا الدين، والمعادين لأمن الناس، وسلامتهم في الدنيا والآخرة وأدعم ذلك بأقوالهم وأفعالهم الشنيعة التي تفضحهم، وتبين أساليبهم الماكرة في التسلط على الناس وإضلالهم، وسفك دمائهم، وهتك أعراضهم، وضياع أموالهم. والخروج في نهاية هذا الفصل بالجواب الواضح المبين لقوله تعالى: "فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ"، والذي قد أجاب الله عز وجل عنه في كتابه الكريم بقوله: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" من غير حاجة إلى هذا التفصيل ولكن ما الحيلة فيمن بعد عن كتاب الله عز وجل فلم يتدبره. إنه لابد له من هذا التفصيل.
أصناف المعادين للأمن والسلام المتمثل في دين الإسلام الحق
الأول: فئة الكفار والمنافقين
ثانياً: فئة أهل الأهواء والشبهات
ثالثاً: فئة أهل الشهوات والفسق والمجون
وهذه الفئات ليست على درجة واحدة في الخطورة فخطر فئة الكفار والمنافقين هي أشدها ثم فئة أهل الأهواء ثم أهل الشهوات.
أولاً: فئة الكفار والمنافقين(/62)
لقد سبق في الصفحات السابقة ذكر الآيات من كتاب الله عز وجل التي يبين الله تبارك وتعالى فيها خطر الكفار والمنافقين على أمن المسلمين بخاصة، وعلى أمن البشرية بعامة، وأنهم يسعون جهدهم، ومكرهم بالليل والنهار ليردوا المسلمين عن دينهم، ويفتنوهم عنه، ويحولوا بين الناس وبين وصول الدين الحق إليهم. وكفى بهذا عداء وقضاءً على أمن الناس حيث الشقاء والخوف والظلم في الدنيا، والعذاب الأليم في الدار الآخرة. فهم والله أعداء البشرية كافة. ولو أن الناس علموا حقيقة حالهم وأهدافهم ومخططاتهم لجاهدوهم وحاربوهم بكل وسيلة ومن كل صوب وفي كل زمان ومكان.
والكفار في عدائهم وحربهم للأمن والسلام يستخدمون وسائل ماكرة كثيرة أذكر منها ما يلي:
أولاً: أسلوب الغزو العسكري والإرهاب والقتل والتشريد والأسر وهتك الأعراض، وسلب الأموال. وهذا أمر واضح لا يشك فيه عاقل. والتاريخ يشهد، وواقعنا المعاصر شاهد على ذلك. ومن مكرهم وخبثهم أنهم يحسنون استثمار الفرص، ويوظفونها في تنفيذ مخططاتهم الماكرة. ومن خبثهم وتلبيسهم أنهم يبررون حروبهم وعدوانهم على أمن الناس في دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم بمكافحة الإرهاب، ونشر الأمن والحرية. ومن الغريب والعجيب أن يوجد من غفلة الناس، بل ومن بعض المسلمين من يصدق هذا المكر. ولأنْ وجدت الغفلة فيما مضى، فلا عذر اليوم لأحدٍ من المسلمين بأن تنطلي عليه هذه الأباطيل؛ وبخاصة بعد أن ظهر إرهاب الكفرة الأمريكان وحلفائهم ووحشيتهم في حربهم على أفغانستان والعراق وما يفعلونه بأسارى المسلمين في سجون جوانتانامو، وأفغانستان، والعراق. اللهم إلا أن يكون منافقاً مرتداً يتولى الكفار مقابل مناصب، وعرض من أعراض الدنيا أو حقد دفين على الإسلام وأهله. والمنافقون بتوليهم الكفار وخيانتهم للمسلمين يعدون من أعدى أعداء الأمن والسلام، حيث يتواطأون مع الكفار في غزوهم لبلدان المسلمين، ويرحبون بهم. ولولا هؤلاء المنافقون وأمثالهم لما استطاع الكفار دخول بلاد المسلمين ولما وجدوا لهم موطأ قدم في بلدان المسلمين(*). ونظرة في واقعنا المعاصر إلى غزو الأمريكان وحلفائهم لأفغانستان والعراق تطلعنا على الصورة السوداء للمنافقين في كلا البلدين؛ فلولا أن قدر الله عز وجل وجود هؤلاء المنافقين في بلاد الأفغان والعراق وقتالهم دون الأمريكان كزمرة المنافقين الكرزاييّن المتأمركين الذين أتت بهم أمريكا على ظهور الدبابات وزمرة المنافقين من الرافضة والعلمانيين الذي تولوا الأمريكان وجاءت أمريكا بقياداتهم من ديارها لما استطاع الأمريكان أن يواجهوا جيوش المسلمين الذين قامت لإعلاء كلمة الله تعالى في أرض أفغانستان والعراق.
ولذا فإن المنافقين من أخطر الطوائف، وأشدهم عداء للأمة. بل هم أخطر من الكفار الصرحاء، لأن الكافر يعرف ويحذر منه أما المنافق فلا يعرفه الناس، وبالتالي ينخدعون به، ويحصل منه اللبس والتضليل والكيد للأمة في الظلام. ولذلك كانت عقوبته عند الله عز وجل أشد من الكافر الواضح . قال تعالى: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا" [النساء: 145].
وقد حذرنا الله عز وجل من المنافقين وعداوتهم وكيدهم للإسلام وأهله وذلك بتوليهم للكفار، ونصرتهم لهم، وفرحهم بانتصارهم على المسلمين. قال الله عز وجل: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" [الحشر:11] وقال تعالى: "بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً" [النساء: 139،138] وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ" [آل عمران: 118-120].(/63)
وفي التاريخ أمثلة كثيرة للمصائب والكوارث العظيمة الناشئة من تواطأ المنافقين مع الكفار في احتلال بلاد المسلمين. ويكفينا من ذلك ما فعله الرافضي المنافق الباطني ابن العلقمي في خيانته للخليفة العباسي المستعصم بالله، واجتياح جيوش التتار لعاصمة الخلافة الإسلامية، وقتلهم المقتلة العظيمة للمسلمين وهتك أعراضهم ونهب أموالهم.
وأسوق فيما يلي بعضاً من صور العداء والإرهاب الذي يقوم به الكفار والمنافقون وبخاصة في العصر الحديث على بني الإنسان بعامة وعلى المسلمين بصفة خاصة.
يقول الأستاذ ضميريه في كتابه «يسألونك عن الإرهاب»:
(.. وأما الغربيون المعاصرون؛ الذين يزعمون محاربة الإرهاب، وينصبون أنفسهم لزعامة العالم والسيطرة على الشعوب المستضعفة والمقهورة، فهم الإرهابيون حقيقةً: أصلاً ونشأة وتاريخاً وواقعاً...
لكنهم يفعلون كما يفعل وعَّاظ الاستعمار ومشعوذو السياسة لتخدير الأمم المستضعفة؛ فيقبِّحون لها العنصرية، وهم من حماتها؛ ويزهِّدونها في الجنسية، وهم من دعاتها.
فهل يعي الناس أن أمريكا – زعيمة العالم الغربي- إنما قامت على استئصال الهنود الحمر بطريقة لا تجد لها مثيلاً في البشاعة، والهمجية، والمذابح الدموية، وإتلاف المحاصيل الزراعية، وتخريب البيوت، وقتل المواشي، تلك الأعمال التي أثارت الاشمئزاز والقرف، وكلُّ ذلك باسم المسيحية والتبشير، وباسم الإنقاذ والخلاص، ونشر الحرية والديمقراطية، والقيام بالواجب والمهمة الدينية، ومقتضيات الشجاعة والرجولة!
وهذا شيء لا نقوله من عندنا، ولا ننقله عن كاتب مسلم قد يُتَّهم بالتعصب ضد أولئك القوم، وإنما نستدعي شاهداً من القوم أنفسهم، ونجتزئ بفقرات من شهادته المطوّلة:
• ... يروي لنا المطران «برتولومي دي لاس كازاس» وثائق إبادة الهنود الحمر في القارة الأمريكية على أيدي المسيحيين الأسبان، وهو شاهد عيان على ما ارتكبته مسيحيةُ عصره من فظائع ومذابح في القارة الأمريكية. وشهادته هذه فوق الشبهات؛ لأنّ أحداً لا يستطيع أن يتهمه في دمه الإسباني، أو في دينه المسيحي. حتى الرهبان من رجال الدين الذين وصفهم أحد الزعماء الهنود بأنهم لا يعبدون إلا الذهب. وصفهم «لاس كازاس» بقوله: «كانوا يسمُّون المجازر عقاباً وتأديباً لبسط الهيبة وترويع الناس. كانت هذه سياسة الاجتياح المسيحي: أول ما يفعلونه عندما يدخلون قرية أو مدينة هو ارتكاب مجزرة مخيفة فيها.. مجزرة ترتجف منها أوصال هذه النعاج المرهفة».
ثم يقول: ثَمَّة استهتار وطيش يتعاظمان في أنفس هؤلاء الذين يسفكون كل هذه الدماء، ويستأصلون هذه الأراضي الشاسعة من أهلها وأصحابها بقتل مليار من البشر، وبنهب الكنوز التي لا تقدر بأثمان. إنهم يحتالون بأساليب مختلفة من أجل أن تسمحوا لهم بالمضي في الفتوح التي لا يمكن السماح بها من غير الاعتداء على حرمات الله، واختراق القوانين الطبيعية، ومن غير اقتراف الخطايا المنكرة التي تستأهل العذاب الشديد.
إن الذين ذهبوا إلى هناك من أدعياء المسيحية: أبادوا الشعوب الهندية الوادعة، ومحوا ذكرها من وجه الأرض، إما بالاجتياحات الدموية المتوحشة، وإما باستعباد مَنْ تبقّى استعباداً فظاً غليظاً شنيعاً، لم يشهد مثله البشر ولم تعرفه الدواب. أما من كان يحلم بالحرية أو يفكر فيها أو يحاول الخلاص من عذابه، كما يفعل ذلك كل إنسان: فمصيره القتل. إلى أنواع منوعة من الجور والطغيان الجهنمي والتخريب.
قتل المسيحيون كلَّ هذه الأنفس البهية، وفتكوا كلَّ ذلك الفتك باسم الدين، ليحصلوا على الذهب، ويكتنزوا الثروات، ويصلوا إلى مراكز أكبر من أشخاصهم. إنَّ جشعهم وتطاول شهواتهم الجامحة: أدّى بهم إلى احتقار هذه الشعوب المتواضعة الحالمة الودودة، ونَهْبِ ثروات هذه الأراضي الخصبة البهيجة. (إنني أقول الحقيقة لأني شاهدتها بأم عيني). كان المسيحيون ينظرون إلى الهنود الحمر لا كما ينظرون إلى الحيوانات (وياليتهم اعتبروهم حيوانات) بل أقلّ قدراً من الدوابِّ وأحطّ شأناً من الزِّبْل..) (8).أ.هـ
ويقول أيضاً:
(والفكر الأصولي الإنجيلي قائم على الإرهاب والتدمير والتخريب، وتصريحات الوعاظ السياسيين في الكنيسة المرئية، كلها طافحة بالتهديد بحرب نووية ستنشب حول «أورشليم»، وكثيراً ما كانوا يضربون في مواعظهم وتصريحاتهم على وتر «هرمجدُّون».(/64)
يقول الأصولي الأمريكي بات روبرتسون: «كنت أتمنى أن أستطيع القول إننا سنحصل على السلام، ولكني أومن بأن هرمجدُّون مقبلة. إن هرمجدُّون قادمة، وسيخاض غمارها في وادي مجدو، إنها قادمة، إنهم يستطيعون أن يوقعوا على اتفاقيات في السلام التي يريدون. إن ذلك لن يحقق شيئاً، هناك أيام سوداء قادمة إن مشاكل إفريقيا لن تحل، وكذلك مشاكل أمريكا الوسطى، ومشاكل أوربا. إن الأمور ستتوجه نحو الأسوأ. إنني لا أخطط لولوج جهنم القادمة. إن الله سوف يهبط من عليائه. ياإلهي إنني سعيد من أجل ذلك! إنه قادم ثانية! إنني لا أكترث لمن تسبب هرمجدُّون القلق والمتاعب؟ إنها تنعش روحي!»أ.هـ
• ... وهل ينسى العالم قنبلتي هيروشيما، وناغازاكي اللتين أحدثتا دماراً رهيباً وذهب ضحيتهما مئات الألوف من النساء، والأطفال والعجزة؟ ففي السادس من شهر أغسطس عام 1945م ألقت أمريكا القنبلة الأولى على مدينة هيروشيما، وفي اليوم الثاني قنبلة أخرى على مدينة ناغازاكي اليابانيتين.
ويصف الطيار الأمريكي الذي قام بإلقاء القنبلة ذلك العمل (المتحضر المتمدن السلمي المسالم) فيقول: رأيت المدينة أمامي فسويتها بالأرض وانتهى كل شيء. ثم أرسل تلكسا إلى القاعدة الجوية في تينان يقول فيه: «تحقق التدمير والنتائج ممتازة».
• ... وهل يغيب عن البال: أنهم هم الذين يدعمون يهود في عدوانهم الغاشم على فلسطين، والمقدسات الإسلامية فيها، واستئصالهم للشعب الفلسطيني من دياره، وفي العدوان الهمجي، والمجازر التي يقومون بها منذ اللحظة الأولى التي زرع فيها الصليبيون ذلك السرطان في جسم الأمة الإسلامية في فلسطين؟ ثم راحوا يدعمونهم بكل وسائل الدعم العسكري، والاقتصادي والمالي والأدبي، على كل صعيد وفي كل مناسبة. وبخاصة في المحافل الدولية، وفي مجلس الأمن باستعمال حق النقض (الفيتو) ضد أيِّ مشروع قرارٍ يُصوَّت عليه لصالح الفلسطينين، أو يكون فيه إدانة لإسرائيل، وإن كان لا يترتب عليه أي موقف عملي، أو أثر واقعي. والموقف الراهن من المجازر الأخيرة التي يتعرض لها الفلسطينيون رجالاً ونساء وأطفالاً، وأجنَّةً في بطون الأمهات، ببشاعتها وهمجيتها: دليل واقعيٌّ وشاهد صادق على ذلك الانحياز الظالم ، حتى البيوت والأشجار والمزارع، لم تكن بمنأى عن التخريب والعدوان. مع ما يكتنف ذلك من ضعف وتخاذل في موقف المسلمين بعامة من إخوانهم الفلسطينيين، وفي موقفهم من القضية برمَّتها حين اختزلوها وحصروها بالعرب دون المسلمين، ثم أصبحت قضية الفلسطينيين وحدهم، وقضية شخص أو أشخاص، يحكم فيها اليهود والصليبيون والمتآمرون) (9).
وأما ما فعلوه في هذه السنوات من إرهاب وقتل وهتك وتشريد في بلدان المسلمين، فهو أوضح من أن يفصل فيه، ولكن أذكر هنا ما فعلوه في بلاد الأفغان، والرافدين المسلمتين، وعن ذلك يقول د. ضميرية:
(ثم، هل يغيب عن البال – في هذه الأيام التي نعيشها- التدخل الأمريكي – المتحالف مع القوى الغربية الصليبية والفئات العميلة لها- في أفغانستان، التي قُتل فيها خلال ثلاثة أشهر فقط (من 7 أكتوبر حتى 7 ديسمبر) نتيجة القصف الأمريكي ما لا يقل عن (5000) أفغاني، جلُّهم من المدنيين من الرجال، والشيوخ الطاعنين في السن، ومن الأطفال والنساء والعجائز!) (10).
ويقول الدكتور محمد السلومي في كتابه : (القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب):
«إرهاب الحرب ضد الإرهاب». بهذا العنوان كتب الصحفي البريطاني (روبرت فيسك) عن أفغانستان فقال: وهكذا بدأت الإصابات تتزايد من (قندهار)، تصلنا قصص مرعبة عن مدنيين دُفنوا تحت الأنقاض، وأطفال مُزقوا إربا بقنابل الأمريكيين، وقد رفضت حركة طالبان – لحسن حظ الأمريكيين- السماح للصحفيين الغربيين بالدخول إلى البلاد للتحقق من تلك التقارير.
ففرار اللاجئين الأفغان بالآلاف عبر الحدود هو دليل ساطع أنهم لا يفرون من حركة طالبان، بل من قنابلنا وصواريخنا، فحركة طالبان لا تطهر عرقياً مواطنيها من الباشتون، فاللاجئون يتحدثون بحرارة عن خوفهم ورعبهم من القنابل التي تتساقط على مدنهم. هؤلاء الناس مذعورون من (حربنا ضد الإرهاب) وهم ضحايا بريئة، مثلهم مثل من قتلوا في مركز التجارة العالمي يوم 11 أيلول، فأين نحن من ذلك؟ هذا سؤال مهم، فحين تهب عواصف الشتاء الباردة في وديان جبال أفغانستان ستبدأ على الأغلب مأساة جديدة؛ مأساة لن يكون في وسع أي مغرض أو خبير تجاهلها أو تجنبها، سنقول إن الآلاف الذين ماتوا أو على وشك الموت من الجوع والبرد هم ضحايا طالبان أو دعم طالبان للإرهاب... وقالت رئيسة البرلمان الأوروبي نيكول فونتين: إنه يجب حظر استخدام قنابل إنشطارية في أفغانستان، واعتبرت أن استمرار اللجوء إلى هذه الأسلحة خطأ إنساني وسياسي.
وأضافت في بيان صدر بهذا الخصوص : إن للقنابل الإنشطارية عواقب الألغام المضادة للأفراد؛ لأنها تظل منتشرة بصورة مهددة؛ وذلك في مناطق بكامل طوال سنوات!!(/65)
وفي باريس أعلن الناطق باسم وزارة الخارجية الفرنسية (فرنسوا ريفاسو)؛ أن فرنسا تأسف وتندد بمقتل أولى ضحايا المدنيين في انفجار القنابل الانشطارية التي ألقتها الولايات المتحدة على أفغانستان...
ويرى (روبرت فيسك) أن الغرب بحضارته أصبح مجرم حرب في أفغانستان، أو كما عبر عن ذلك بقوله: أصبحنا (مجرمي حرب) منذ قرار ضرب أفغانستان وتجييش الجيوش والتحالفات لها قبل إعلان الأدلة والوثائق المدينة لهؤلاء أو هؤلاء.
وهذا ما عبر عن معناه وزير العدل الأمريكي السابق (رمزي كلارك) في مقابلته مع قناة الجزيرة القطرية؛ حيث وصف عمليات القصف الأمريكي على أفغانستان بأنها : (جرائم حرب بالتأكيد؛ وجرائم ضد الإنسانية، وضد السلام، ووفقاً للمادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة يقول: نحن الأمريكيين نذهب هناك بمفردنا، ونحاول جلب الكثيرين إلى جانبنا لنقتل ونغتال من نشاء كما يحدث...) (11).
(وأما العراق؛ فقد أصابه ما أصابه من التدمير، والتخريب الذي لحق بالمؤسسات المدنية والبنية التحتية والفوقية، والتجويع والإذلال، والتقتيل للرجال والنساء، والأطفال الذين بلغ عدد من مات منهم، بسبب الحصار وسوء التغذية ونقص العلاج (مليون) طفل.
ويبدو أن هذا كله ليس إرهاباً في نظر الصليبيين، بل هو أمنٌ وسلامٌ، وحريةٌ واطمئنانٌ.. حتى ولو وصل استخدام أحدث الأسلحة، لتجريبها على الشعب، ولاستخدامها في التهديد بتفكيك وتجزئة البلد الواحد إلى دويلات عرقية وطائفية؛ فقد اقترح مستشار سياسي لجورج بوش الابن، أن تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية القوة الجوية ووسائل أخرى لاقتطاع أجزاء أخرى من العراق.
وهذا الذي تقدم ، كتبناه قبل بداية العدوان الأمريكي البريطاني والقوى المتحالفة معها على العراق فيما عرف بحرب الخليج الثالثة واحتلال العراق عام 2003م، والذي يحصل فيها الآن من المبالغة في الإفساد والتدمير، والإذلال والتقتيل، مع معرفة الدوافع الحقيقية.. يفصح عن حقيقة القوم ونواياهم، وعن أخلاقهم وحضارتهم وقيمهم، وعن منظماتهم الدولية والإنسانية المزعومة؛ فقد بلغ عدد القتلى من الرجال والنساء والأطفال في الأيام الأخيرة من العدوان على مدينة «الفلوجة» وغيرها من المدن العراقية المقاومة للاحتلال بالآلاف ، ومثل هذا العدد أو أكثر من المصابين.
• ... وفي 11/3/1424هـ الموافق 2/5/2004م عرضت القنوات الإخبارية صوراً منقولة عن (قناة سي بي س الأمريكية) يظهر فيها تعذيب الأسرى العراقيين في «سجن أبو غريب» قرب بغداد، بلغت الغاية في الوحشية والهمجية والظلم وامتهان الكرامة الإنسانية، والتعذيب الذي يؤدي إلى القتل، فظهر في الصورة جندي أمريكي يضع قدمه على المواطن العراقي السجين، وفي صورة أخرى يتبول الجندي الأمريكي على السجين وسط استهزاء الجنود وإظهار الاحتقار، وفي صورة ثالثة ظهر المعتقلون عراة والمجندات يتحسَّسن بعض المواضع من أجسادهم ويتندرن بهم ، مما دعا الهيئات العالمية إلى استنكارها وشجبها، وإظهار الاشمئزاز.
ولئلا يقول قائل: هذه تصرفات فردية من الجنود لا تعبِّر عن القيم الأمريكية والبريطانية، ولا يرضى عنها المسؤولون، كما أنهم لم يعلموا بها عند وقوعها، نشير إلى ما أوردته الوكالات وبثته القنوات الفضائية في 20-23/3/1424هـ فقد نقلت عن الواشنطن بوست أن وزارة الدفاع وافقت على وسائل تعذيب استخدمت في سجن أبو غريب وغوانتانامو. وذكرت أن مسؤولين بوزارة الدفاع والعدل (الأمريكي) وافقوا على لائحة سرية تتضمن عشرين أسلوباً في التحقيق مع المعتقلين، منها تعليقهم بصورة معكوسة ، وتعريضهم للحرارة والبرد، وتسليط أضواء قوية عليهم، والوقوف ساعات طويلة، والتعرية. وهذه أول وثيقة رسمية تسمح للمحققين بإرهاق المعتقلين جسدياً ونفسياً قبل الاستجواب.
كما جاء في المصادر نفسها – وفي غيرها كثير- أن الجنود الأمريكيين الذين ظهرت صورهم في تعذيب المعتقلين العراقيين يقولون: إنهم تلقوا أوامر من المخابرات بالتعذيب. كما نقلت الواشنطن بوست أن الجندية التي شاركت في انتهاكات أبو غريب تقول: إنها تلقت أوامر من الاستخبارات العسكرية بتحويل حياة المعتقل إلى جحيم قبل استجوابه!
كما ذكرت وسائل الإعلام: أن التقارير تفيد أن المسؤولين بوزارة الدفاع لديهم علم بكل صور التعذيب، وأن ذلك كله مسجل على أشرطة الفيديو.
ثم توالت بعد ذلك الأخبار في كل وسائل الإعلام عن انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان في معتقلات وسجون أفغانستان وغوانتانامو على يد القوات الأمريكية وقوى التحالف الآثم معها.(/66)
• ... وهم – الغربيون الصليبيون- الذين انتهكوا كل الأعراف الدولية في حربهم الصليبية الإرهابية في أفغانستان بقتل المدنيين والأبرياء الأطفال والعجزة، وقصف القرى الآمنة المسالمة، وقصف مراكز الإغاثة والمستشفيات والتجمعات المدنية الآمنة في المناسبات الاجتماعية.. ومتابعة الفارين في الكهوف والمغارات في الجبال، وانتهاك كل الأعراف الدولية والقواعد القانونية، باسم محاربة الإرهاب في بلد من أفقر بلاد العالم وأقلها شأناً في السلاح والقوة العسكرية والمادية، بعد الحرب ضد الشيوعية الغاشمة، التي أنهكتها واستنفذت طاقاتها وشبابها، ثم جاءت بحكومة من صنعها، رغم إرادة الجميع، حتى إن رئيس الحكومة طلب أخيراً «تعزيز حرسه الشخصي بقوات أمريكية خاصة ومتخصصة في حماية الشخصيات».
• ... وأما طريقة التعامل مع أسرى الحرب في أفغانستان؛ فيرسم لها تقرير «منظمة أصدقاء الإنسان الدولية» صورةً قاتمة بشعة، تتنافى مع كل الأعراف الدولية والقواعد الإنسانية، فقد أعربت المنظمة في هذا التقرير عن استيائها الشديد للأسلوب الذي تعامل به القوات الأمريكية أسرى الحرب الذين احتجزتهم في أفغانستان، ثم رحلتهم إلى قاعدة (غوانتانامو)، وشبَّهت المنظمة- التي تتخذ من (فيينا) مقراً لها- ملابسات ترحيل الأسرى، وطريقة احتجازهم برحلات أساطيل الرقيق البحرية من إفريقيا إلى أمريكا منذ منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، مشدِّدة على أنها تراقب بقلق بالغ عمليات نقل أسرى الحرب وظروف احتجازهم.
• ... ولا يغيبنَّ عن البال أن أسلوب الإرهاب هو الذي سلكته أمريكا مع الدول الأخرى لتضمَّها إلى التحالف الأمريكي الدولي، من خلال «من لم يكن معنا فهو ضدنا ومع الإرهاب»، حتى صارت غالبية الدول التي يخوفها الشيطان من أوليائه، تتسابق في تسليم أبنائها ومواطنيها والمقيمين على أرضها، لمجرد الشبهة بأنهم يمكن أن يكونوا من المتعاونين أو المنتمين إلى هذا التنظيم أو ذاك. تسلمهم إلى أمريكا لتنفي عن نفسها تهمة الإرهاب الأمريكية، ولتحصل منها على شهادة حسن السيرة والسلوك، ولتبرهن على نظافة سجلها في حقوق الإنسان، وهذه بادرة جدُّ خطيرة لا نجد لها سابقة في تاريخنا وعلاقاتنا مع الآخرين، بل هي تشكل الآن سابقة يقاس عليها فيما بعد، ويخشى أن تصبح قاعدة في العلاقات الدولية.
• ... وأيُّ إرهاب أكثر من التدخل في الشؤون الداخلية للدول المستقلة ذات السيادة، والتلويح والتهديد بتغيير القيادات والأنظمة، والضغط عليها –بكل الوسائل والأساليب- لتعديل مناهجها التعليمية والتربوية ولإعادة تشكيل العالم وفق النظرة الأمريكية التي يتبناها صقور إدارة بوش؟.
وفي هذا المعنى يقول روبرت دريفس: إن النزاع مع العراق هو حدث بارز صُمم لخلق صدمة مزلزلة تموج في أرجاء المنطقة، وحول العالم، وتبشر باقتراب حقبة جديدة من النفوذ الإمبراطوري الأمريكي، كما أنه من المحتمل أن يُدخل الولايات المتحدة في نزاع مع دول عديدة في الشرق الأوسط.. وفي الشرق الأوسط؛ فإن تغيير النظام الوشيك في العراق، ليس سوى خطوة أولى في إعادة تنظيم كلية للمنطقة بأسرها، وفقاً للمحافظين الجدد الذين بدؤوا – بسعادة- إطلاق لقب «عصابة سرية» على أنفسهم. ومثل لعبة الدمينو (حيث يتسبب حدثٌ بتعاقب أحداث مشابهة)؛ فإن الأنظمة في المنطقة ابتداء بإيران، وسوريا، والعربية السعودية، ثم لبنان، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وأخيراً السودان وليبيا، واليمن، والصومال مرشحة لأن تستسلم، أو تنهار، أو تواجه العمل العسكري الأمريكي. ولهذه البلاد قال زعيم العصابة السرية ريتشارد بل، العضو المقيم في المشروع الأمريكي ورئيس لجنة سياسة الدفاع: يمكننا نقل رسالة قصيرة من كلمتين: (أنت التالي). إن ذلك يشبه المتسيد على الملعب، فأنت توسع أحدهم ضرباً، وعندها يتأدب كل شخص آخر) (12).
ويتحدث الدكتور محمد السلومي حفظه الله تعالى في كتابه (القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب) عن التعاون الأمريكي اليهودي في إرهاب المسلمين وزعزعة أمنهم فيقول:
(الكاتب الأمريكي (ديفيد ديوك) يؤكد أن الدعم الأمريكي (الأعمى) لإسرائيل هو السبب الرئيسي لهجمات سبتمبر:(/67)
لقد أبرزت المقالة لهذا الكاتب بعض جوانب دعم أمريكا للإرهاب، وسوف أختار من هذا المقال بعض المقتطفات التي تتسق وطبيعة الموضوع، وباختصار شديد يقول الكاتب بعنوان: (فلتفتح أمريكا أعينها وترى الحقيقة في هدوء. 6 مليارات دولار سنوياً لمدة نصف قرن تتلقاها إسرائيل من أمريكا). «الحقيقة المؤكدة التي لا مراء فيها هي أن الفلسطينيين والكثيرين من العرب الذين يدعمونهم ظلوا مستهدفين طيلة نصف قرن من قبل الإرهاب الإسرائيلي الذي لا يرحم؛ ففي نهاية الأربعينيات سيطر الصهاينة على فلسطين وطردوا حوالي (700.000) فلسطيني من بيوتهم، من خلال أعمال الإرهاب التي مورست ضدهم على نطاق واسع؛ مثل تلك المذبحة التي راح ضحيتها (254) فلسطينياً غالبيتهم من الشيوخ والنساء والأطفال في (دير ياسين)؛ تلك المذبحة الوحشية التي ارتكبت بدم بارد، تميزت به جرائم اليهود من خلال بقر بطون النساء الحوامل، وبعد أن قاموا بإراقة دماء أولئك الأبرياء أشاعوا على الملأ تفاصيل تلك المذبحة الرهيبة؛ لدفع أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين إلى الفرار؛ تاركين بيوتهم وأملاكهم وأموالهم التي لم يُسمح لهم حتى الآن بالعودة إليها.
وتنفيذاً لسياسة التطهير العرقي؛ تستمر إسرائيل في منع السكان الفلسطينيين الذين ولدوا في فلسطين، والذين عاش ذووهم لأجيال لا تعد ولا تحصى من العودة إلى ديارهم، وفي الوقت نفسه تعطي حوافز مغرية لليهود الذين لم يسبق لهم العيش في فلسطين؛ ليهاجروا إليها من أقصى أركان العالم.
كل فلسطيني وكل عربي يعرف جيداً أن إسرائيل وعلى مدى نصف قرن من العنف؛ ليس بوسعها القيام بكل ذلك دون الدعم المادي والعسكري والدبلوماسي الذي تتلقاه من الولايات المتحدة، وهم يعرفون أيضاً أن اللوبي اليهودي يحكم السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وأن الصهاينة في وسعهم الحصول على ما يريدون من الكونجرس في الأمور التي تهمهم، وكان الدعم الأمريكي للغزو الوحشي، والاحتلال الذي قامت به إسرائيل للبنان في الثمانينيات؛ هو السبب الرئيسي في تفجير مقر قوات المارينز وسقوط (300) شاب أمريكي. ويؤكد الكاتب الأمريكي اشتراك أمريكا في الجرائم الإسرائيلية؛ فيقول مؤكداً على إرهاب دولته:
«ويعرف العرب أيضاً أن كل قنبلة تقتل شعبهم تأتي من أمريكا، وكل رصاصة ودبابة وطائرة هي إما مصنوعة وإما مدفوعة من أمريكا، ويشكل ذلك بلايين الدولارات تُرجمت إلى دعم حقيقي وفعَّال، مكَّن الدولة اليهودية من بث الرعب في صفوف الشعب العربي على مدى نصف قرن. ورغم أن إسرائيل غزت لبنان وقتلت الآلاف من الأبرياء فإن أمريكا لم تهدد بقصف تل أبيب (كما حدث في العراق)؛ إذا رفضت إسرائيل تنفيذ قرارات الأمم المتحدة بالانسحاب، ويقول الكاتب: وإذا أجرينا مقارنة يسيرة بين تفاعل أمريكا حيال الغزو العراقي للكويت، وتفاعلها حيال الغزو الإسرائيلي للبنان، ستتضح لنا الصورة بشكل أوضح) (13).
• ... ويتحدث عن الإرهاب اليهودي على المسلمين في فلسطين فيقول:
(يتميز الكيان الصهيوني بسن قوانين إرهابية تجيز انتهاك حرمة وكرامة الإنسان، وتزيد من معاناة الشعب الفلسطيني المضطهد، ومن ذلك قوانين الاعتقال الإداري، التي تجيز اعتقال أي مشتبه به لمدة معينة، وتمديدها إذا رأى القائمون على الأجهزة الأمنية ذلك.
والاعتقال الإداري عبارة عن أمر عسكري، يقره ضابط برتبة عميد، بدون لائحة اتهام وبدون محاكمة، ودون إبلاغ المعتقل ما هي الاتهامات المنسوبة إليه.
ويطال هذا النوع من الاعتقال أي فلسطيني لمجرد الشبهة، ولا حاجة فيه إلى الأدلة، أو الأسباب الداعية إلى الاعتقال، وكان المعتقل يمكث في السجن ثمانية عشر يوماً، ثم يُطلق سراحه، أو يمدد اعتقاله مدة مماثلة أخرى، ثم صدر قرار بزيادة المدة إلى ثلاثة أشهر، ثم إلى ستة أشهر قابلة للتمديد.
ويعاني الفلسطينيون خلال فترة الاعتقال الإداري معاناة لا توصف، حيث يقوم المحققون خلال هذة الفترة بتعذيب المعتقل بكافة الوسائل والأساليب البشعة دون حساب أو رقابة، وذلك بحجة خطر المعتقل، وضرورة نزع الاعترافات التي يمكن أن توقف بعض العمليات، وتكشف مخططات قوى المقاومة...
ويشهد على إرهاب هذا الكيان ما يجري في الزنازين المرعبة من أعمال وحشية، وممارسات لا إنسانية، وجرائم بشعة يندى لها الجبين.
فالسجون الصهيونية الكالحة لا تعرف الرحمة، ولا تعترف بها، وداخلها مفقود، والخارج منها مولود، وهي بحق معتقلات الموت البطيء التي شُيدت لقتل الإنسانية والعزة والكرامة في نفوس أبناء فلسطين ومن أعانهم، أو انتصر لهم من إخوانهم المسلمين.(/68)
ولم يكن إنشاء هذه السجون فقط من أجل اعتقال وتعذيب المقاتلين، وجنود المقاومة، أو تأديب المعارضين، وحبس المتظاهرين، وإنما لأهداف أخرى أشمل وأعم، من مثل بث الرعب، ونشر الخوف بين الفلسطينيين جميعاً دون استثناء، وتجنيد العملاء والخونة بالإسقاط والإكراه ووسائل التعذيب المختلفة، وتدريب الإسرائيليين على التحقيق وكيفية التعامل الوحشي مع أعدائهم، وتحطيم المعنويات لدى الشعب الفلسطيني، وكسر شوكة المقاومة، وغرس الشعور باليأس من الخلاص في قلوب الناس، وتوفير الحماية والأمن للمستوطنين المغتصبين المحتلين للأرض، وغير ذلك...
• ... وجرائم أخرى بحق النساء:
في 13/9-2001، وبينما كانت الأسيرات يجلسن في غرفهن، اقتحمت قوة من السجانات غرف الأسيرات، وصادرن جميع أمتعتهن وممتلكاتهن، واقتيدت الأسيرات مها العك، وعبير عمرو، وسعاد غزال، ورابعة حمايل (14 سنة) إلى قسم آخر ، حيث لا يوجد سوى السجناء المدنيين المجرمين، وبعد ذلك قامت قوة من السجانات بالدخول إلى غرف العزل، وبدأت بالاعتداء بالضرب العنيف على الأسيرات، بعد أن قام السجانون والشرطة بتقييد أيدي وأرجل الأسيرات، ورشهن بالغاز، وربطهن بالأسرة بشكل مؤلم، فقضين طول الليل يصرخن من شدة الألم.
• ... سياسة الإعدام الميداني للمعتقلين:
أكثر من 19 مواطناً عذبوا وأعدموا عند تنفيذ عملية الاعتقال.
أعدمت سلطات الاحتلال الصهيوني 19 مواطناً فلسطينياً، ألقي القبض عليهم وهم على قيد الحياة ، خلال عام من انتفاضة الأقصى، وتمت عملية الإعدام حين تنفيذ عملية الاعتقال، وقبل اقتيادهم إلى مراكز تحقيق رسمية، والمقصود بالإعدام هنا هي عملية تصفية المعتقل بعد إلقاء القبض عليه مباشرة، خارج نطاق القوانين المعمول بها رسمياً، والمطبقة حول إجراءات الاعتقال، وتمت عمليات القتل بعدة أساليب هي:
- ... إطلاق النار بشكل مباشر على المعتقل عند إلقاء القبض عليه.
- ... عدم السماح بتقديم الإسعافات الطبية للجرحى، الذين تم اعتقالهم حتى يفارقوا الحياة.
- ... تعذيب المعتقلين ميدانياً حتى الموت.
ومعظم المعتقلين الذين أعدموا تم تشويه جثثهم، والتنكيل بها بشكل بشع، ولا إنساني.
وتنفرد حكومة الكيان الصهيوني المتعاقبة في تنفيذ هذه السياسة، التي تعتبر جزءاً أساسياً من التوجه الرسمي لها، منذ عام 1967م، وكانت قضية الباص رقم 300 عام 1948م قد فتحت ملفات العديد من حالات إعدام معتقلين بعد القبض عليهم، وذلك بعد الكشف عن هذه القضية التي تم خلالها إعدام مجدي أبو جامع من قطاع غزة، وزميل له بعد إلقاء القبض عليهما، إثر عملية اقتحام فاشلة لباص إسرائيلي.
وقبل خمس سنوات قتل ناحوم كورمان، ضابط الأمن في مستوطنة بيتار الصبي حلمي شوشة من قرية حوسان المجاورة، بعد أن اشتبه بقيامه بإلقاء الحجارة على سيارة مستوطنين، وذلك في صورة بشعة تصور وحشية الاحتلال، حيث داس على رأسه، وظل يركله في رأسه لأكثر من ساعة، ثم قام بإطلاق النار على رأسه بدم بارد، وانسحب من المكان) (14).
• ... وأما ما يقوم به المنافقون المتنفذون في كثير من بلدان المسلمين من الإرهاب والسجن والتعذيب لدعاة المسلمين ومصلحيهم ومجاهديهم فلا يحتاج إلى تفصيل لأنه لا يخفى على أحد, فأين من يتكلم عن الإرهاب عن هذا الإرهاب والتخويف والتضييق على المصلحين وأهليهم وذويهم.
• ... وفي ختام الحديث عمَّا يقوم به الكفار والمنافقون من إرهاب وتقتيل وتشريد وتخويف للآمنين أود الحديث عن (مجلس الخوف والإرهاب والاستعمار) وهو ما يسمى زوراً وبهتاناً (بمجلس الأمن). وعن دوره التآمري الخبيث في إضفاء الشرعية على ما تقوم به الدول الكافرة من قتل وعدوان على المسلمين، واحتلال لبلدانهم ومقدراتهم، وما يصاحب ذلك من تغيير للعقائد والأفكار والأخلاق، يتحدث الدكتور محمد طاهر حكيم في كتابته عن حقيقة مجلس الأمن فيقول:
(كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن دور مجلس الأمن ومهامه في تحقيق الأمن والسلام العالميين إبان تعرض المسلمين لمآس ونكسات وويلات من أعدائهم في شتى أنحاء المعمورة، ولا سيما في البوسنة وفلسطين وكشمير، والعراق، وأفغانستان على سبيل المثال لا الحصر.
وظن بعضهم أن مجلس الأمن سيفرض الأمن ويعيد السلام إلى المناطق المنكوبة، ويحقق الأهداف التي قام من أجلها؛ وهي إقامة العدل ونصر المظلوم وردع المعتدي، وغاب عن هؤلاء أن المنظمة الدولية غدت أداة طيعة في أيدي الأقوياء لتحقيق خططهم وتنفيذ مآربهم.(/69)
إن مجلس الأمن تتحكم في قراراته خمس دول فقط الأعضاء الدائمون وهم: أمريكا، روسيا، بريطانيا، فرنسا، والصين، التي تسعى من خلال قراراته لتحقيق مصالحها الخاصة، وفرض سيطرتها على الدول الضعيفة والإسلامية منها بالذات، ويقال عن أي قرار يصدر عن هذا المجلس بأنه قرار دولي. أو يعبر عن إرادة المجتمع الدولي. وهذا عجيب وما أكثر عجائب هذا الزمن. ومنها أن يقال عن القرار الصادر من خمس دول بأنه «دولي»، ويفرض على باقي دول العالم، دون أدنى حق لها في إبداء الرأي أو الاعتراض عليه، بل إنه بإمكان دولة واحدة من هذه الدول الخمس إفشال أي قرار لا يعجبها، بصرف النظر عن مواقف باقي الدول، ومع هذا يقال عن أي قرار يصدر عن مجلس الأمن بأنه قرار دولي.
خذ مثالاً شعب البوسنة المسلم، وما حدث له من وحشية وهمجية لا نظير لها، حيث يعيش شعب بكامله تحت الإرهاب، والحكم العسكري، ونظام المعسكرات الذي يذكرنا بأساليب «النازية» أو «الفاشية» أو «الشيوعية». ومجلس الأمن الذي يتبجح بالدفاع عن حقوق الإنسان، وقواعد القانون الدولي، وحق جميع شعوب الأرض في العيش في سلام متباطئ متخاذل، لأن هناك بعض الأعضاء الدائمين في المجلس لا يرون ما يراه العالم ودوله وشعوبه قاطبة، فهل بعد هذا يصح أن يقال عن أي قرار يصدر من مجلس الأمن بأنه قرار دولي؟ أين مكمن التزوير؟ إن مجلس الأمن لا يعبر عن المجتمع الدولي، بل هو يعبر عن هيمنة أعضائه الدائمين على «القرار الدولي» ولذا يحسن تسميته بـ «مجتمع القوة» أو «مجتمع الخاصة» الذي يحكم باسم المجتمع الدولي، ولذا فإن تسمية قراراته بالدولية زور وباطل.
إن هذا الوضع القائم ما هو إلا امتداد لحقبة الاستعمار، الذي ولى بمظهره العسكري، ليحل بمظهره السياسي، فهذا المجلس في الحقيقة أصبح مجلس استعمار وليس مجلس أمن...
الحقيقة أن بعض المسلمين يبالغ في حسن الظن بمجلس الأمن عندما يلجأ إليه، ويتوقع منه أن ينظر إلى قضايانا بعين العطف والرحمة أو على الأقل بعين العدل والإنصاف.
وتغيب عن أذهاننا حقيقة مهمة وهي: أن المجلس عبارة عن التكتل اليهودي (أمريكا) النصراني (بريطانيا وفرنسا) الشيوعي (روسيا والصين)، فهل يرجى للمسلمين خير من هؤلاء؟ أليس هؤلاء هم أعداؤنا، أليس الله قد حذرنا منهم، ومن الاعتماد عليهم وموالاتهم؟ ألم يخبرنا الله تعالى وهو أصدق القائلين "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا" فكيف نأمل الخير ممن حذرنا الله منهم.
هل نتوقع مناصرة قضايانا ممن زرعوا النبتة الخبيثة (إسرائيل) في قلب العالم الإسلامي؟ أم نتوقع ذلك من روسيا وهي التي لطخت يديها بدماء المسلمين الأبرياء في دول آسيا الوسطى وأفغانستان، وهي التي تزود إسرائيل باليهود، والأيدي الفنية الماهرة، وتزود مجرمي الصرب بالأسلحة ضد مسلمي البوسنة العزل.
أما فرنسا فلها موقفها من قضايا المسلمين بعامة ومن قضية البوسنة بخاصة فعندما قام ميتران بزيارته المشبوهة (لسراييفو) قال للرئيس المسلم علي عزت : «ليكن في علمك بوضوح أن فرنسا لن تسمح مطلقاً بوجود دولة مسلمة على عتبات أوروبا يحكمها المسلمون».
وقد عبر نائب الرئيس البوسني أيوب غانيتش عن موقف الأوروبيين من قضية بلاده ، فقال: إن أوروبا أظهرت وجهها الحقيقي، وإن تدمير البوسنة وفناء أهلها سيكون على يد أوروبا وليس على يد الصرب فقط.
فهل نأمل مناصرة قضايا المسلمين من هذه الدول، أم نأمل ذلك من الصين العضو الخامس في مجلس الأمن وهي التي لا زالت تستعمر تركستان الشرقية، وتعمل التقتيل والتهجير حيال المسلمين هناك، وتزود مجرمي الصرب بالأسلحة والمعدات...
ثم إن قرارات مجلس الأمن تفرض على الدول الضعيفة ولا سيما الإسلامية منها، كما تفرض على هذه الدول العقوبات الاقتصادية والتجارية والعسكرية، والمقاطعة الدولية إذا لم تخضع لرغبة وهيمنة مجلس الأمن، بل وتدرج أسماؤهم في قائمة الدول المساندة للإرهاب والمنتهكة لحقوق الإنسان.. الخ كما هو حال بعض الدول الإسلامية المعروفة للجميع. أما الدول الكافرة والمحتلة لأراضي المسلمين والتي تحظى بمساندة وتأييد أعضاء مجلس الأمن الدائمين، فلا تلزم بتطبيق أي قرار صادر عن مجلس الأمن، ولا يفرض عليها أي عقوبات إلا صورياً ذراً للرماد في العيون، بل هي في كثير من الأحيان تعربد يمنة ويسرة وتهزأ بقرارات المجلس «الموقر» دون أن يثير ذلك حفيظة المجلس، أو أن يكون فيه التحدي للمجتمع الدولي، وهذا يؤكد أن المجلس لن يقف مع أي قضية للمسلمين مهما كانت إذا كان الطرف الآخر فيها من غير المسلمين...
ويأتي بعد هذا دور القوات الأممية التي ترسل هنا وهناك لتؤمن الخائفين، وتدافع عن المظلومين، وتستر عورات المضطهدين إلى آخر مصطلحات الرحمة، وحماية الإنسانية، التي ترفع لواءها قوات الأمم المتحدة في كل مكان، فماذا فعلت هذه القوات؟(/70)
ذكرت صحيفة «الجارديان» الصادرة في 28 أغسطس 1993م عددا من تهم الفساد الموجهة إلى جنود الأمم المتحدة في سراييفو وأخطر هذه التهم أن هذه القوات تقوم بالمتاجرة بالمخدرات وتهريبها، وقال المراسل: إن الجنود الفرنسيين الذي يعملون تحت قيادة الأمم المتحدة يقومون بعمليات اغتصاب واسعة ضد المسلمات، وأنهم كانوا يعطون الصرب شحنات الأغذية والأدوية مقابل إعطائهم نساء مسلمات بوسنيات من المعتقلات لاغتصابهن.
وقال مراسل «الديلي تلغراف»: إن ضباطاً كباراً من الأمم المتحدة هم الذين كانوا يشرفون على أسواق الدعارة في البوسنة.
وذكرت «نيويورك نيوز» الصادرة في 17/5/1414هـ ، أن أكثر من خمسين ضابطاً من فرنسا وكندا وأوكرانيا ونيوزيلندة ودولة إفريقية لم يذكر اسمها كانوا يترددون على معتقل يديره الصرب يعج بالأسيرات من النساء المسلمات اللاتي أجبرن على ممارسة البغاء.
هذه بعض أعمال وجرائم ذوي القبعات الزرقاء، لكن السؤال: من يتولى التحقيق في ذلك إذا كان الخصم هو الحكم... ؟
إن المرء يقف حائراً أمام تصرفات هذه المنظمة التي تكيل بمكيالين، وتزن بميزانين، فهي لا تحب نصرة المسلمين، أو حتى السماح للآخرين بمساعدتهم، أو حتى حمايتهم، أو حتى حماية الأبرياء منهم؛ لكن عندما يكون الأمر متعلقاً ببعض الجنود غير المسلمين فيظهر الوجه الآخر للمنظمة الدولية، فتقلق وتحزن على بضعة جنود أسبان، ولا تتأثر على تقتيل مئات الآلاف من المسلمين، وتشريدهم وتهجيرهم، واغتصاب نسائهم ونهب ممتلكاتهم.
إن هذا الشعور الذي ينتابنا نحو هذه المنظمة وسكرتيرها يجعلنا نكرر ونرفع صوتنا مع الكاتب الذي يقول: (إن عالمنا مليء بالأكاذيب وإن هيئة الأمم وميثاق حقوق الإنسان كذب في كذب، وحماية الشعوب من التفرقة العنصرية كذب في كذب، وحماية الدول من الإعتداء هو كذب في كذب)، وكذلك نكرر مع الرئيس علي عزت (إن الغرب حينما يتعلق الأمر بالإسلام مستعد لأن يخون مبادئه وقيمه التي ينادي بها).
إن الحقيقة الناصعة التي لا تحتاج إلى إثبات هي أن قضايانا لن يحلها أحد سوانا «وما حك جلدك مثل ظفرك»، وإن أمة لا تملك الدفاع عن نفسها لا تستحق الحياة والبقاء. والحقيقة أن ما اغتصب بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، ذلك هو المنطق البدهي الذي تشهد له حقائق التاريخ الإنساني قديماً وحديثاً ، فلولا ذلك لما خرج الرومان من العالم العربي في عصر الفتوحات، ولما طرد المسلمون الصليبين المعتدين الغزاة من أراضيهم، ولما غادرت فرنسا الجزائر، وأمريكا فيتنام، وروسيا أفغانستان.
لكن إلى متى نظل نتشبث بمجلس الأمن؟ وإلى متى نبقى مخدوعين بـ «المجتمع الدولي» ؟ إن شرور اليهود والهندوس والصليبين والشيوعيين واعتداءاتهم على المسلمين لن تقهرها «شرعية دولية» ولا قرارات شجب وإدانة واستنكار، وإنما تهزمها وحدة المسلمين واتفاقهم وقوتهم وتفوقهم التقني والعلمي والعسكري، والاتحاد والتعاون فيما بينهم في كل المجالات ولا سيما المجالات الدفاعية والعسكرية.
والله من وراء القصد... (15) أ.هـ
وهذا نص شعري نشرته مجلة البيان بعنوان «رسالة إلى مجلس الأمن» !! بل «إلى مجلس الخوف»:
يامجلساً قد خان حمل
كم ذاقَ غدرَك مسلمٌ
في البُسنْة الثكلى هنا
وعلى ثرى الشيشانِ منـ
كشميرُ أنت عدوّها
في دولةِ الغصبِ التي
آثارُ غدرِك كلّما
تنسى الدماءَ بأرضنا
كم من سياطِ الغدرِ في
وبَدوتَ مِنْ إثر المهانة
يامجلسَ الخوفِ الذي
دعْ عنكَ نظْم القولِ يا
يا من يرومُ عداءَنا
لسنا الأذلاءَ الذيـ
لسنا كمن تُلْقي لهمْ
فلنا على دربِ الكرامةِ
كم في جهود الأمن مِنْ
فاسند حِياض الظلم في
وامكُرْ فمكرُ الله كم
... ... عهود ميثاق الشرف
يلقى المذَلّةَ والشظف
كَ دماءُ شعبِ لم تَجِفْ
كَ مواقفُ الغدرِ الدّنِفْ
والدمعُ فيها لم يكفْ
تلقى المعَزة والكَلَفْ
هَدَرَ المُعربدُ أو عَصَفْ
وبغيرها تبكي النّطَفْ
قاعاتِ خوفِك والحَسَفْ
تحتَ أقدامِ السّخَفْ
من جُرحِ أمتِنا ارتَشَفْ
مَن حِبرُ مكرك لم يجفْ
إنّا وربِك لم نَخَفْ
ن لهمْ عنِ العليا جَنَفْ
في الجَهْرِ أطنانَ العَلَفْ
من أرُومَتها سَلَفْ
خوفٍ على أهلِ الشَرَفْ
عصرِ التخاذلِ والتلف
أودى بمِثِلكَ في سَلَفْ(16)
ثانياً: أسلوب غزو العقيدة والعقول والأخلاق(17)
وهذا الأسلوب من العداء للمسلمين، وأمنهم الفكري والأخلاقي قد يكون أخطر من الأسلوب العسكري السابق بيانه، ذلك لأن العداء العسكري بالتقتيل والتشريد، والاحتلال العسكري للبلاد يستنهض الهمم، وينبه الغافلين، ويوقظ النائمين. أما الغزو العقدي على العقول والأخلاق، فيسري في الناس، وهم في غفلة عن ذلك، وبخاصة إذا اشتغل أكثر الناس بدنياهم ولهوهم وشهواتهم.(/71)
وهذا النوع من الغزو والعداء لأمن الناس وسلامتهم في الدنيا والآخرة لم يسلم منه بلد من بلدان المسلمين. بينما الغزو العسكري الظاهر كان في بعض البلدان كأفغانستان والعراق والشيشان وفلسطين. ومما ساعد الكفار على هذا الأسلوب من العدوان أناس من بني جلدتنا مهدوا لهذا الغزو، وفتحوا صدورهم وأيديهم له، وساهموا بشكل فعال في تنفيذ مخططات الكفار على بلدان المسلمين. وهؤلاء هم المنافقون الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان.
وهؤلاء هم الذين سبق ذكرهم عند الكلام عن تعاون المنافقين مع الكفار في غزوهم واحتلالهم لبلدان المسلمين، وتوليهم للكفار، وخيانتهم للمسلمين كما قال تعالى في الآية السابقة: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" [الحشر:11] وهم الذين قال الله عز وجل فيهم : "بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً" [النساء: 139،138] وهم الذين وصفهم الله عز وجل بقوله: "الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [التوبة: 67].
ولولا المنافقون لما استطاع الكفار أن يحققوا أهداف غزوهم لبلدان المسلمين سواء كان ذلك الغزو عسكرياً أو ثقافياً وأخلاقياً . ومن أشد المنافقين عداوة وخطراً في صفوف المسلمين اليوم الرافضة وزنادقة الصوفية والعلمانيون والحكام المتنفذين في أكثر بلدان المسلمين. وتاريخ هذه الطوائف معروف في حياتهم وتواطئهم مع الكفار الغزاة، وفتح بلدان المسلمين لجيوش الكفار العسكرية، أو جيوشهم الفكرية والثقافية، وتضليل المسلمين بها. وأسوق فيما يلي صوراً من هذا العدوان الآثم من الكفار المنافقين على ثوابت الأمة وأخلاقها، وضرورياتها الأساسية:
أولاً: العدوان على أمن الدين وثوابته:
إن عداوة الكفار وإخوانهم من المنافقين لأمن الدين والعقيدة وثوابتها معروف منذ وجد الصراع بين الحق والباطل، والتوحيد والشرك، والهدى والضلال. وكان يأخذ أشكالاً وصوراً مختلفة حسب الزمان والمكان. ولقد شهدت السنوات الأخيرة بعد حرب أفغانستان والعراق غزواً خطيراً صريحاً على هذا الدين وثوابته وأمنه وسلامته أعلن فيها الكفار موقفهم الصريح من دين الإسلام وكشفوا عن خططهم ونواياهم. كما أخرج المنافقون قرونهم، وأفصحوا عن أنفسهم بممالأتهم للكفار، ومسارعتهم في فتح البلاد لهم ولأفكارهم وثقافاتهم، وفرحوا بها، بل كانوا أكثر من الكفار حرصاً ومسارعة على مسخ هوية الأمة، وإبعادها عن دينها الذي هو مصدر عزها وسعادتها وأمنها في الدنيا والآخرة.
وإن أخطر غزو يوجهه الكفار اليوم إلى بلدان المسلمين وساعدهم في ذلك المنافقون، بل وينفذونه لهم، إنما هو غزوهم لعقول وأفكار المسلمين، وتغيير نظرتهم الصحيحة للإسلام، وذلك بوصفهم الإسلام أنه عقيدة وجدانية بين العبد وربه في صلاته ومسجده وأذكاره وتسبيحاته، وأن لا دخل له في توجيه دفة الحياة الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. كما أنهم حرب على عقيدة الولاء والبراء بوصفها تثير العداء بين بني الإنسان. وهم حرب على شعيرة الجهاد بوصفها عدوان وكراهية وإرهاب وإكراه!! وهو حسب مكرهم وتضليلهم يتعارض مع سماحة الإسلام ورحمته!!(/72)
ومن هذا المنطلق في غزوهم الماكر يوجهون حربهم الدعائية والاستئصالية لكل من يرفض هذا الفهم الأمريكي النفاقي للإسلام ويصمونه بالمتطرف والإرهابي والأصولي والوهابي إلى آخر هذه المسميات. أي أن من يفهم الإسلام بالفهم الذي جاء في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً" [البقرة: 208] وقوله سبحانه: "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" [النساء: 65] وقوله عز وجل: "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" [الأنعام: 163،162] وأن من يفهم التوحيد أنه ولاء وبراء ولاء للمؤمنين، وعداوة وبراءة للكافرين كما قال تعالى: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ" [الممتحة: 4]. ومن يفهم الإسلام أنه دين الله الحق الذي ارتضاه لعباده، ولا يرضى ديناً غيره، ويسعى لنشره في العالم بالدعوة والتبليغ والجهاد والسنان إذا وقف في طريقه من يصد الناس عنه كما قال تعالى: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ" [الأنفال:39]. إن كل من يفهم الإسلام بالفهم السابق في الولاء والبراء، والحكم والتحاكم، والجهاد والدعوة فهو الإرهابي الذي ينبغي أن يحارب، ويصفى فكرياً أو جسدياً، ومن فهم الإسلام من المسلمين بهذه النظرة الأمريكية، كما هي نظرة المنافقين والمخدوعين من المسلمين؛ فهو المحبوب عند الكفار والمقبول لديهم وهو العالم المرن المتسامح المعتدل!!!
ولذلك فهم لا يفتأون يركزون على بعض الرموز والطوائف الإسلامية الذين يصفونهم بالمعتدلين، ويستخدمونهم في تنفيذ مخططاتهم الماكرة في غزوهم للعقول والأفكار.
وكون الكفار يفهمون الإسلام بهذا الفهم له ما يفسره. ولكن ما عذر المخدوع من المسلمين في هذا الفهم الذي يريده الكفار والمنافقون بالمسلمين، وكتاب الله عز وجل بين أيديهم، وآيات التوحيد والولاء والبراء والحكم والتحاكم والجهاد والدعوة واضحة بينة فيه. لا غموض فيها ولا التباس؟ لكنه البعد عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . أو هو الشعور بالهزيمة النفسية والاحباط، والتبعية. ولكن أين نحن من تحذير الله عز وجل في قوله سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" [آل عمران: 101،100].
(إن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم، تحمل ابتداء معنى الهزيمة الداخلية، والتخلي عن دور القيادة الذي من أجله أنشئت الأمة المسلمة. كما تحمل معنى الشك في كفاية منهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعداً في طريق النماء والارتقاء. وهذا بذاته دبيب الكفر في النفس، وهي لا تشعر به ولا ترى خطره القريب.
هذا من جانب المسلمين. فأما من الجانب الآخر، فأهل الكتاب لا يحرصون على شيء حرصهم على إضلال هذه الأمة عن عقيدتها. فهذه العقيدة هي صخرة النجاة؛ وخط الدفاع، ومصدر القوة الدافعة للأمة المسلمة. وأعداؤها يعرفون هذا جيداً، يعرفونه قديماً ويعرفونه حديثاً، ويبذلون في سبيل تحويل هذه الأمة عن عقيدتها كل ما في وسعهم من مكر وحيلة، ومن قوة كذلك وعُدة. وحين يعجزهم أن يحاربوا هذه العقيدة ظاهرين يدسون لها ماكرين. وحين يعييهم أن يحاربوها بأنفسهم وحدهم، يجندون من المنافقين المتظاهرين بالإسلام، أو ممن ينتسبون- زوراً- للإسلام، جنوداً مجندة، لتنخر لهم في جسم هذه العقيدة من داخل الدار، ولتصد الناس عنها، ولتزين لهم مناهج غير منهجها، وأوضاعاً غير أوضاعها، وقيادة غير قيادتها..) (18).(/73)
هذا كتاب ربنا عز وجل ينطق بالحق، وكأنه يخاطبنا الآن، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا نهتدي لولا أن هدانا الله عز وجل. وكلام الله عز وجل وموعظته وتحذيراته تكفينا؛ ولكن نظراً لأن بعض المسلمين اليوم قد هجر القرآن الكريم، إما تلاوة، أو تدبراً، أو عملاً؛ فإن الحاجة تدعو إلى نقل بعض ما كتبه الملأ الذين كفروا في مراكز بحوثهم ودراساتهم الاستراتيجية، وما رسموه من خطط خبيثة ماكرة لمواجهة الإسلام الحق، وبث الشبهات بالوسائل المختلفة وتغييره في نفوس أهله حسب الفهم الذي يريدون، وهو الذي حذرنا الله عز وجل منه في كتابه الكريم.
يقول الأستاذ حسن الرشيدي في مقال بعنوان (إسلام على الطريقة الأمريكية):
(تعتقد الولايات المتحدة أن حربها ضد الإرهاب قد تنتهي غداً أو بعد غد، أو حتى بعد عقد من الزمن، وذلك بانتصار الأقوى على الأضعف، ولكن في الوقت نفسه يظن قسم من مفكريها وسياسييها أن اقتلاع الغضب من الصدور، والكراهية من القلوب في عالم تحركه العواطف أمر يحتاج إلى جهود كثيرة وعقود طويلة.
ففي استطلاع أجراه شبلي تلحمي البروفيسور في جامعة ميريلاند الأمريكية كانت نتائجه كالآتي: معظم المستفتين من مصر والأردن والسعودية ولبنان يحبذون دوراً أكبر لعلماء الدين في الحياة العامة. 6% فقط من الذين شملهم الاستطلاع يثقون بأن الولايات المتحدة ستُدخل الديمقراطية إلى العراق، وباقي الدول العربية ، فيما الغالبية العظمى تعتقد بأن أمريكا تريد فقط الاستيلاء على النفط، وتدعيم سيطرة إسرائيل على الشرق الأوسط. وأشار الاستطلاع أنه في حال تطبيق الديمقراطية، فإن الحركات الإسلامية لها الأغلبية الكاسحة في العديد من الدول العربية. فالاستطلاع يشير إلى أن الاكتساح العسكري الأمريكي مهما بلغ مداه فإنه لن ينزع كره أمريكا، ومن ثم لن تقضي على محاولة الإيقاع بها، والانتقام منها في أقرب فرصة سانحة، لذلك لجأت أمريكا إلى ما اصطلح على تسميته بالإسلام الأمريكي (أو الإسلام العلماني)...
وهو الوصف الذي أطلقته صحيفة ليبراسيون الفرنسية، أو ما يطلق عليه: العلمانية المؤمنة. ويعرفها الدكتور محمد يحيى بأنها طرح فكري يتقبل العلمانية تماماً لكنه يسوغها إسلامياً، ويخلق لها شرعية إسلامية مزعومة باعتبارها نوعاً من أنواع التجديد، والاجتهاد في المجال السياسي والاجتماعي، مسموح به في إطار «أنتم أعلم بشؤون دنياكم»..
ويضيف إن طرح العلمانية المؤمنة يسمح بوجود هامشي للدين على سبيل التمويه مرشح للتعميم على البلدان الإسلامية، كنموذج جاهز للتطبيق، يحل محل شتى الأفكار والاتجاهات الإسلامية الموجودة، ويبشر بالعلمنة كسبيل وحيد أمام هذه الدول للانضمام إلى النطاق العالمي الجديد والدخول في ركب العولمة.
وتزيد صحيفة الإيكونوميست البريطانية هذا المفهوم وضوحاً، فتعرف العلمانية المؤمنة بأنها علمانية متصالحة مع الدين مثل العلمانية الأمريكية، وليست معادية له مثل علمانية فرنسا وأتاتورك...
وباستقراء الواقع تبين كثرة وتعدد الوسائل والأساليب التي تحاول الولايات المتحدة أن تعمم بها هذا الطرح الفكري على المسلمين. وهذا إنما يدل على الرغبة العارمة والمحمومة في فرض الإسلام الأمريكي على المسلمين. ولقد شغلت مراكز الدراسات والأبحاث الأمريكية، وكذلك المفكرون وصانعوا القرار، بابتكار وإيجاد أساليب لتوصيل ذلك المفهوم المشوه للإسلام، ومنها:
1- ضم علماء المسلمين الراغبين في هذا الفكر: تقول بولا دوبريانسكي وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون العالمية: «يتحدث الكثير من المسلمين عن الإرهاب وهم يعارضونه، لكن ذلك غير كاف، علينا أن نواصل القيام بالمزيد لحث المسلمين في الخارج على التحدث علناً عن قيم دينهم التي تعلي من شأن الحياة»، وأضافت: «يجب أن نفكر خارج الإطار التقليدي، ونوظف وسائل خلاقة للنهوض بالحرية الدينية، وهنا أفكر في تمويل علماء مسلمين، أو أئمة، أو أصوات أخرى للمسلمين».
... ويشرح مسؤول بوزارة الخارجية الأمريكية هذه المسألة فيقول: «إننا نريد ضم مزيد من علماء المسلمين إلى برامج التبادل الثقافي والأكاديمي التي تمولها أمريكا.. إننا مشغولون ببذل جهد أكبر لكي نصل لهذه المجتمعات الإسلامية وهذا الجمهور.. والهدف هو دعم أصوات التسامح في الدول الأخرى».
... هذا التسامح يعني التخلي عن العقيدة الإسلامية التي تجعل للمسلم هوية تحقق له شخصيته واستقلاله.(/74)
2- ... رصد مصادر التأثير في الشعائر الإسلامية: فمنذ حوالي عشرة أعوام انتبه المصلون في أحد المساجد بمركز الفتح التابع لمحافظة أسيوط لوجود شخص أجنبي ، يمسك في يده بجهاز كاسيت وينصت باهتمام شديد للشيخ أثناء خطبة الجمعة، ويدون الملاحظات، وعندما تجمع حوله بعض المصلين للاستفسار عن شخصيته، وسبب وجوده حاول الهرب، فأمسكوا به وسلموه إلى الشرطة التي فوجئت بالنتائج: فالرجل الأجنبي أمريكي الجنسية، يهودي هكذا قيل. كان موجوداً بالمسجد ليتابع بدقة خطبة الجمعة، وأنه لم يترك مسجداً تقريباً بأسيوط إلا وقد دخله، والسبب أنه يعد دراسة مهمة جداً عن تأثير خطبة الجمعة في المصلين في مصر.
3- ... محاولة التأثير في أصول الدين والتفسير والحديث من أجل الاتفاق على مذهب وسط جديد يجمع كل الميزات؛ من نشر قيم التسامح والمحبة والوداعة، وهذا ما يطلق عليه «تجديد الخطاب الديني»: ففي دراسة أمريكية أعدت مؤخراً في إطار سلسلة من الدراسات الشاملة بهذا الشأن، أعدها خبراء أمريكان، تقول هذه الدراسة: اعتقدنا لسنوات طويلة أن حربنا مع هذا الكتاب يجب أن تستمر، وأن نقنع الآخرين بأن يغيروا الكلمات والآيات الواردة في هذا الكتاب، ولم يقل لنا أحد إن هذا ضرب من الخيال؛ لأن المسلمين ببساطة ليسوا هم واضعوا الكتاب أو بعض آياته، هم يعتقدون أنه هدية السماء لهم، وأن من يبدله أو يغيره شرير وفاسد، ومن يملك هذا هو الله وحده، وأننا في كل اللقاءات والمنتديات التي جمعتنا بالعديد من الشخصيات الأوسطية كانوا يتحدثون عن كتابهم المقدس باحترام بالغ وتقديس عظيم، وعندما كنا نتحاور عن معاني ما ورد في هذا الكتاب عن اليهود والقتال، وإجبار الآخرين على الدخول في الإسلام، والعديد من العادات السيئة (على حد زعمهم) كان الأوسطيون يرون أن ذلك مرده بالأساس للفتاوى والتفسيرات المصاحبة لهذا الكتاب، ناهيك عن آراء رجال الدين؛ لذا فإن المسلمين على الرغم من أنهم ظاهرياً ينتمون لدين واحد، وأن القرآن هو الذي يجمع بينهم؛ فإنهم في الحقيقة مختلفون ومنقسمون على أنفسهم إزاء تعدد وتضارب رجال الدين الذين ينتمون لتفسيراتهم.
إن أفضل وسيلة للتعامل مع المسلمين هي التأثير في أفكارهم واتجاهاتهم الدينية؛ من خلال الفتاوى والكتب الأخرى وليس من خلال الكتاب المقدس.
وتستمر هذه الدراسة الخطيرة فتقول: يعتمد هذا المنهج على مقومات؛ منها إظهار الاحترام الكامل للكتاب المقدس للمسلمين، والتأكيد على أن هذا الكتاب محل تقدير من الإدارة الأمريكية، وأنه يتم التعامل معه بوصفه كتاباً دينياً سماوياً، ولا يشكل خلافاً في التعامل بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، وأن منهج الاحترام الواجب للكتاب المقدس للمسلمين سيؤدي إلى الشعور بالود والتعاطف بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى.
إن المنهج الرئيس في تغيير ما هو قائم يتعلق بقسم مهم لدى المسلمين يطلقون عليه الفتاوى، وهو يشمل آراء رجال الدين الكبار أو المعروفين لدى غالبية هؤلاء الناس، وفي الوقت الراهن توجد مؤسسات دينية تمارس هذا الدور (الإفتاء)، ويلاحظ أن غالبية الإرهابيين مارسوا جهودهم المتواصلة في ترويج أفكارهم السيئة بين الآخرين اعتماداً على فتاوى معينة صدرت في أزمنة مختلفة تحث على القتل والتخريب وتدمير الممتلكات الخاصة والعامة.
وتقتضي الخطة الأمريكية أن تبذل جهوداً كبيرة من أجل تنقية هذه الفتاوى من مواطن الإرهاب، والعنف لصالح نشر روح التسامح والمحبة، ولهذا تؤكد الدراسة ضرورة اتباع تعليمات تقضي بابتداع أنواع جديدة من الفتاوى الإسلامية فيما يتعلق باليهود، وإلغاء مبدأ الجهاد بالنفس أو جهاد الأموال، الذي أصبح موضوعاً شائكاً في إطار مقاومة الإرهاب، والترويج لفتاوى أخرى تحث على التعامل المباشر مع حضارة وقيم الولايات المتحدة والدول الأوروبية،. وإن نقل هذه القيم للمجتمعات الإسلامية سيزيدها تطوراً يتفق مع الإسلام. وعلى سبيل المثال لابد أن تصدر فتاوى جديدة تؤكد حرية المرأة، والقضاء على الانغلاق الذي اعتمد على فتاوى قديمة مما أجهض دور المرأة سياسياً، وفتاوى أخرى حول الإخاء الإسلامي المسيحي اليهودي، وأن هذا الإخاء لا يستهدف سوى إرضاء الله.
مطلوب أيضاً وفقاً للدراسة فتاوى تفصيل أخرى جديدة حول الاستعانة بالدول الصديقة في حال تهديد الأمن الداخلي أو الخارجي لأي دولة إسلامية، حتى لو كان هذا الصديق غير إسلامي، وفتاوى تكرس لأهمية الديمقراطية الغربية، وأنها أفضل أنواع الحكم في العالم، وحول ضرورة قتال الإرهابيين والتخلص منهم داخلياً، وتشجيع الآخرين على القيام بأدوار مهمة من أجل وقف تمويل الإرهاب.(/75)
ولم تنس الدراسة أن تشترط ضرورة صدور هذه الفتاوى عن رجال دين معتدلين بطبعهم، واقترحت أن يتم إنشاء معهد ديني علمي متخصص للدراسات الإسلامية في واشنطن، وأن يشرف على هذا المعهد الخارجية الأمريكية، وأن يتم إبرام اتفاقيات تعاون مع الدول العربية من أجل الاعتراف بالدرجة العلمية الكبرى التي يمكن الحصول عليها من خلال هذا المعهد، وكيفية إمداده بالدعاة والمدرسين، على أن يتوسع المعهد في فترة لاحقة وتصير له فروع في كل البلاد العربية.
وأكدت الدراسة أهمية مصادرة كل الكتب الدينية المذهبية القديمة التي تحوي تفسيرات واضحة وصريحة حول القتل والتدمير والاعتداء على حريات الآخرين، وكذلك تنقية الأجواء من آراء عدد كبير من المفكرين والكتاب الحاليين التي تحض المسلمين على الإرهاب والعنف، وهؤلاء تحديداً يجب حصارهم إعلامياً وفكرياً، وملاحقة النظم التي تسمح من خلال أجهزة إعلامها ببث مواد دينية تثير مشاعر عدائية، بعد أن بدؤوا في التزايد مؤخراً في العديد من الدول العربية، ويعملون على إثارة تجمعات كبيرة للقيام بأعمال غير مقبولة نحو الأمريكان، ولابد من إلغاء فكرة إنشاء قنوات إعلامية دينية متخصصة، وأن يتم بدلاً منها إنشاء قنوات دينية اجتماعية تؤكد التواصل بين الحضارات، والأديان مؤكدين أن استمرار قناة دينية في البث يؤدي في النهاية لإشاعة ثقافة التطرف.
وإمعاناً في الاستخفاف بعقول المسلمين، وحضارتهم وتاريخهم تطالب الدراسة بتشكيل لجنة من علماء الدول الإسلامية من المعتدلين (بالطبع) الذي تختارهم الحكومات من أجل مراجعة تفسيرات الكتب الدينية، وخاصة التي تحمل أفكاراً إرهابية.
وترى الدراسة بعد تحليل ومراجعة المذاهب الأربعة، والكثير من الكتب الشارحة لهذه المذاهب وكافة التعليقات الأخرى الأجنبية أن المذاهب الأربعة تضمنت أفكاراً قديمة غير لائقة وغير مقبولة في الوقت الراهن، وأن من الأفضل أن يتفق علماء الإسلام المتطور على مذهب وسط جديد يجمع هذه المذاهب بعد تنقيتها. ويتم اختيار لجنة تنسيقية بين أكبر عدد من الدول الإسلامية، تسعى للتوصل لصياغة علمية جديدة لهذا المذهب المعتدل. وهكذا يكون تجديد الخطاب الديني.
4- ... تعديل مناهج التعليم بما يناسب المفاهيم الخاصة بالإسلام الأمريكي: في ندوة بعنوان «الإسلام الليبرالي والليبرالية الإسلامية» في المؤتمر السنوي السادس والخمسين لمعهد الشرق الأوسط الذي عقد في 11 أكتوبر قال أكبر أحمد، رئيس دائرة الدراسات الإسلامية بمركز ابن خلدون، وأستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الأمريكية بواشنطن، دي. سي: إن التعليم هو مفتاح الإصلاح.
... وقال: إنه يجب التأكيد على أهمية التعليم في العالم الإسلامي. ومضى قائلاً إنه: «عن طريق التعليم وحده يستطيع المسلمون إعادة اكتشاف جوهر الإسلام»، وطبعاً الإسلام بالمفهوم الأمريكي.
5- ... الاستعانة بالمسلمين الأمريكيين: وفي الندوة نفسها قالت السيدة عزيزة الهبري، أستاذ القانون في معهد تي. سي. وليامز للقانون بجامعة رتشموند بولاية فرجينيا، «إنه لمناقشة الديمقراطية والإصلاح في العالم الإسلامي بنجاح، من المهم أن ندرك أن الأفكار الليبرالية كفصل الدين عن الدولة موجودة في الإسلام ، وأنها ليست أفكاراً أمريكية فحسب».
... وأضافت: «إنه بدلاً من نقل أفكار غربية إلى العالم الإسلامي، ينبغي للمسلمين أن يركزوا على مفاهيم الإصلاح الإسلامية الموجودة فعلاً».
... وقالت السيدة الهبري إن هناك حاجة إلى التأكيد بشكل أقوى على الحضارة الإسلامية، وإن واضعي السياسة الأمريكية بحاجة إلى الاستعانة بالمسلمين الأمريكيين في بناء جسور بين العالمين.
6- ... تشجيع ما يعرف بالمسلمين الليبراليين: وفي الندوة نفسها قال السيد مقتدر خان، مدير الدراسات الدولية ورئيس دائرة العلوم السياسية بكلية أدريان بولاية مشيغان، «إن المسلمين المعتدلين والليبراليين يعتقدون أن هدف الإسلام هو تنوير المجتمع، وأن الاختيار الأول للمسلمين لمعالجة المشاكل والعقبات هو الاجتهاد، بينما الاختيار الأخير هو الجهاد. أما المسلمون المتزمتون فإن اختيارهم الأول هو الجهاد ولا يشكل الاجتهاد خياراً لهم». ومضى السيد خان إلى القول إن: الاجتهاد أسلوب حياة؛ فهو حرية التفكير ومصدر أساسي من مصادر التنوير..
7- ... تخطي الحكومات والوصول للشعوب مباشرة: ويستخلص وولفوتيز أنه بينما تشن أمريكا حرباً على الإرهاب فإنها تفكر في الحرب الأوسع؛ أي الصراع ضد أعداء التسامح والحرية في العالم.
... وأحد أسلحتنا في هذه الحرب هو مدى قدرتنا على تخطي الحكومات والوصول إلى الشعوب والأفراد، وخصوصاً الأصوات التي تصارع من أجل أن تعلو فوق التطرف...(/76)
هذه بعض الآليات الأمريكية لفرض نموذجاً للإسلام، والمقام لا يتسع لسرد كل الأدوات الأمريكية، ولكن ما يعنينا أن ينتبه المسلمون بصفة عامة والإسلاميون بنحو خاص لما يدبر ويجري في هذه الأيام، فإن فقه الأولويات، وضغط الواقع ليس مسوِّغاً لتقبل هذا النوع من الإسلام الذي يفرغه من مضامينه الأساسية، وخاصة السياسية منها والتشريعية ؛ لعزله عن الحياة) (19).
وعن أهداف (أمركة الخطاب الديني للمسلمين) يتحدث الأستاذ خالد أبو الفتوح فيقول: نشرت جريدة الأسبوع القاهرية في شهر يناير الماضي تفصيلات خطط أمريكية لما أطلقت عليه: (أمركة الخطاب الديني للمسلمين)، وجاء فيما نشرته الصحيفة أن أمر تطوير الخطاب الديني كان جزءاً من الحملة الأمريكية الأولى على ما وصفته بالإرهاب...
وفي تفصيلات الخطط الأمريكية التي أوردتها الصحيفة: أن وزارة الخارجية الأمريكية شكلت لجنة تعرف باسم : (لجنة تطوير الخطاب الديني في الدول العربية والإسلامية) وأن هذه اللجنة انتهت على حد قول الصحيفة من توصياتها فعلاً وأنه سوف يتم تبليغ الدول بها، مع توضيح أن استمرار المعونات الأمريكية مرهون بتنفيذ هذه الخطط.
وتتمثل التوصيات الأمريكية في:
- ... تهميش الدين في الحياة الاجتماعية للناس؛ وذلك عبر إغراق الشعوب العربية والإسلامية بأنماط مختلفة من الحياة العصرية الغربية، وحيازة التكنولوجيا الحديثة (التكنولوجيا ذات الطابع الترفيهي).
- ... التقريب بين الديانات الثلاث اليهودية والنصرانية والإسلام عن طريق تكوين لجنة عليا من المحمديين (أي المسلمين) والمسيحيين واليهود، لتبصير كل شعوب العالم بالتقارب بين الأديان الثلاثة، كما تتحدث الخطة، وتقترح ضمن ما تقترحه بشأن هذه اللجنة أن تعمم هذه اللجنة توصيات ملزمة لكل الدعاة في العالم العربي والإسلامي بحيث لا يخرجون عن هذه التوصيات.
- ... تحويل المسجد إلى مؤسسة اجتماعية تتضمن حدائق للأطفال والسيدات (فقدان المسجد لهيبته وخصوصيته)، وأن تتولى الإشراف عليه شخصية غير دينية ناجحة.
- ... خضوع خطبة الجمعة والخطباء تحت رقابة أجهزة الأمن في الدولة، وأن يتم البعد عن تسييس الخطبة، أو تعرضها للجانب الحياتي أو المجتمعي بمعنى (علمنة الخطبة) أي منع الحديث عن الأمريكان واليهود، أو الحديث عن الجهاد وبني إسرائيل.
- ... وتهدف الخطط الأمريكية إلى أن تصبح خطبة الجمعة حلقةً نقاشيةً للجميع لا ينفرد بها الخطيب وحده، حيث ستكون الخطبة بذلك أكثر ديمقراطية في نظرهم، كما تهدف أن تشارك المرأة في خطبة الجمعة، حيث رأوا أنه لا توجد نصوص دينية تمنع المرأة من ذلك.
- ... وأن يكفل للمرأة سبل الاختلاط مع الرجال، والمشاركة في التدريب على الانتخابات لتعليم المرأة الديمقراطية.
- ... إلغاء مادة التربية الدينية الإسلامية، مع تخصيص يوم كامل للقيم الأخلاقية والمبادئ بدلاً منها، والعمل على اكتساب الطلاب مهارات التسامح، والتحرر من اعتقاد المسلمين أنهم خير أمة أخرجت للناس!، وأن يعلم الجميع أن العقائد والأديان هي نتاج التنشئة الاجتماعية والأفكار المسبقة، وأن الانتماء للإنسانية هو الجامع لهم، أما المعتقدات فهم أحرار فيها) (20).
وعن الدعوة الخبيثة المحمومة إلى ما يسمى (تجديد الخطاب الديني) وملامحها يتحدث أيضاً الأستاذ خالد أبو الفتوح فيقول: (نشير إلى بعض الملامح التي لوحظت على هذه الحملة، وهي في نظري ما يأتي:-
- ... أن هذه الدعوة ظهرت في البلاد التي يقوى فيها النفوذ الأمريكي مع وجود نشاط ملحوظ في البلدان التي تعد تاريخياً مرجعيات العالم الإسلامي.
- ... وأنها جاءت اتساقاً مع خطة تطوير مناهج التعليم التي أملتها وأوعزت بها قوى خارجية معينة، مستغلة أحداثاً وظروفاً معروفة، فجاءت هذه الحملة استكمالاً لمخطط إعادة تشكيل العقلية المسلمة.
- ... الالتباس المتعمد في هذه الدعوة، فعلى عادة العلمانيين والتغريبيين في الإيهام والغموض عندما يتعلق الأمر بخطوة يصعب على الجماهير هضمها، جاءت الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني، فكلمة (الخطاب) تحتمل أن تكون المقصود بها (مضمون) الخطاب ومحتواه،
ولا شك أن مقصود مروجي هذه الدعوة هو تجديد مضمون الخطاب الديني، أي (تجديد) القيم والتصورات والمبادئ التي يحتويها هذا الخطاب، ولا يخفى على القارئ ما تتضمنه كلمة (تجديد) من معانٍ تشمل كون هذه القيم والمبادئ والتصورات أصبحت بالية ولا تصلح لهذا العصر، ففي معرض إيضاحه للمقصود بكلمة (الخطاب) يذكر الكاتب أحمد عبد المعطي حجازي «أن هذا العصر الذي نعيش فيه هو عصر العلم الذي نرجع إليه في كل أمر من أمور حياتنا، أو أن هذا ما ينبغي أن نفعله، فنقرأ، ونفهم، ونناقش، ونجرب، ونحلل، ونقارن لنعرف الأسباب ، ونتوقع النتائج، ونفسر ما يحدث في الطبيعة والنفس، والجسم، والمجتمع.(/77)
نعرف الآن مثلاً أن الزلزال يقع نتيجة لتصدع طبقات الأرض وتحركها، وليس لأن المدن شريرة أو لأن الآلهة ثائرة غضبى، ونعرف أن الجنون مرض يصيب العقل وله أسباب مختلفة وصور شتى وطرق في العلاج تتعدد بتعدد أسبابه وأنواعه، وليس حلولاً لجن أو شيطان في جسد المريض كما كان يعتقد الناس من قبل، وكما يعتقد كثيرون منهم حتى اليوم، وهذا هو الخطاب الذي يتفق مع روح العصر، لأنه يتفق مع العلم، أي مع العقل والتجربة، ونحن إذن أمام مصدرين للمعرفة: العقل الذي نفسر به الظواهر، ونتتبع التحولات، وننتقل من السبب إلى النتيجة، فيبدو لنا العالم مفهوماً، ونشعر بقدرتنا على التحكم فيه والسيطرة عليه. النص الذي يعتقد النصوصيون الحرفيون فئران الكتب وحفارو القبور أنه علم سابق على كل علم، وأن كل معرفة جديدة صادرة عنه ومتضمنة فيه، فالأسلاف لم يتركوا شيئاً للأخلاف، ولا جديد تحت الشمس!» (الأهرام المصرية 23/7/2003م).
ولكن غموض هذا العنوان (تجديد الخطاب الديني) لهذه الدعوة (هدم القيم والثوابت والتصورات الإسلامية واستبدالها) أفادهم فوق التعمية على مقصدهم الحقيقي تورط بعض المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية من علماء أو دعاة في الترويج لها ظناً منهم أن المقصود هو تجديد الوسائل والأساليب، وهذا تورط أعطى غطاءً مناسباً لأصحاب الدعوة الأصليين من متبجحي العلمانيين، حتى وإن همش فيما بعد هؤلاء العلماء والدعاة.
- ... تشابه مفردات هذا الخطاب عند الدعاة (البروتستانت) مع القضايا التي أثارها العلمانيون، التي تتفق بدورها مع أهداف مبادرة باول، وقد تمثلت هذه المفردات في:
1- إعلاء قيمة العقل والمصلحة بمعناهما الوضعي والمادي على النص الشرعي.
2- ... تغليب المادي والمشاهد على العاطفي والغيبي.
3- مسايرة الأحداث والخضوع لها باسم التواكب مع العصر.
4- غلبة الخطاب الدفاعي والانهزامي بدعوى دفع التهم، وخاصة الإرهاب، وهضم حقوق الإنسان عن الإسلام، مع التركيز في هذا الخطاب على تناول قضايا المرأة والأسرة، والمرتد وحرية العقيدة.
5- التأكيد على أهمية الديمقراطية، والمشاركة الشعبية، وإظهار الفئات المهمشة، وإبراز مكانتها في الإسلام.
6- ... (تلطيف) الموقف مع الآخر، بإعادة تشكيل بعض المفاهيم ذات العلاقة به (بدءاً من التكفير، ومروراً بالولاء والبراء، ووصولاً إلى الجهاد)، مع التأكيد على ضرورة التواصل مع هذا الآخر، وخاصة الغرب.
7- ... تحويل الخطاب الديني الإسلامي (الدعوة الإسلامية) إلى مجرد إحدى مفردات وسائل دعم سياسات الدولة المحلية ومواقفها الخارجية.
- ... تشابه بعض الأساليب المتبعة في نشاطات تجديد الخطاب الديني مع الأساليب السياسية الأمريكية في تحويل الاتجاهات والميول، وذلك عن طريق المشاركة في أنشطة ودورات تعقد في أمريكا، والعمل على تذويب الفوارق النفسية والفكرية بين أصحاب الاتجاهات المختلفة خاصة العقائدية بالمخالطة والمعايشة اليومية فيما بينهم: فعلى سبيل المثال: كان أول برنامج ينفذ برعاية مبادرة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط برنامجاً بعنوان (النساء كقادة سياسيين: الانتخابات الأمريكية والحملات السياسية)، وقد جلب البرنامج وفداً من 55 زعيمة سياسية عربية، ما بين مسؤولات منتخبات ومعينات، ومرشحات لمناصب، وناشطات في الدفاع عن حقوق المرأة، وقادة مجتمعات مدنية وصحفيات...
وفي المقابل يتضمن مشروع خطة تطوير الخطاب الديني في مصر والدول العربية دورات تدريبية مكثفة في القاهرة وواشنطن.. حيث من المقرر أن يلتحق بدورات واشنطن ما بين 500 إلى 600 من الدعاة، وذلك بعد الانتهاء من الدورات التدريبية في مصر.. وفي هذا الإطار كانت وزارة الأوقاف قد انتهت من دورة أخرى لعدد من الدعاة بالاشتراك مع الهيئة الإنجيلية بالقاهرة.. كانت مدتها أكثر من 6 أشهر، حيث تم اختيار الدعاة بدقة متناهية للإقامة في أحد فنادق القاهرة بمشاركة عدد مماثل من القساوسة، وكان نظام الدورة يعتمد على ورش عمل بين الأئمة والقساوسة لإعداد أبحاث علمية في قضايا شتى ثم مناقشتها مع الخبراء والمفكرين الليبراليين؛ وذلك بهدف كسر الحاجز الديني وتغيير الفكرة الذهنية عن الآخر من خلال المشاركة بين القس والخطيب، ومن ثم فإن النتيجة من هذه المشاركة ستكون في صالح الإدارة الأمريكية.. على اعتبار أنها الموجه الرئيسي لهذه الأفكار.
ومن وجهة نظر الإدارة الأمريكية فإن مثل هذه الدورات، ومن خلال مشاركة عدد من رجال الدين الكبار، الذين يرفضون الإرهاب ولديهم تفسير عقلاني للدين تسعى لترسيخ مفردات الخطاب الديني الجديد، وليس موضوعاته فقط، خاصة ما ورد في القرآن أو السنة؛ لأنه وفق رؤيتهم فإن هذه المفردات هي التي تشكل السلوك العام والتفصيلي الذي يلتزم به الأفراد.. (مصطفى سليمان، جريدة الأسبوع، 16/6/2003م)....(/78)
هل ينجحون ؟ لاشك أن تحقق ذلك، أو عدم تحققه يتوقف على عوامل كثيرة خارجية وداخلية، ولكن ما يعنينا أن في قلوب القوم أماني سادرة تبدو على ألسنتهم، وفي كتاباتهم من حين لآخر، كما أن في أذهانهم أهدافاً محددة تشير إليها مخططاتهم وأنشطتهم، ومن غير المبالغ فيه القول إن من اماني أئمتهم: محو القرآن من الوجود، ولعلمهم باستحالة ذلك فإنهم يعملون على تحقيق أهداف يظنون تحقيقها ممكنا وعلى رأس هذه الأهداف: تحريف المعاني القرآنية، وتفريغ القرآن من أهدافه ورسالته، وإبعاد المسلمين عن تدبر القرآن والعمل به، أي إنهم يريدون أن يتحول القرآن إلى حبر على ورق كما يقولون، والله من ورائهم محيط.
وحتى لا نخدع أنفسنا فإنه يجب التنبيه إلى أن تحقيقهم لهذه الأهداف أو بعضها في عالم الواقع ليس مستحيلاً شرعاً أو عقلاً، فالله عز وجل تعهد بحفظ الذكر، ولكنه لم يتعهد بحفظ معانيه في عقول المسلمين وقلوبهم، ومسيرة الانحراف في فهم الكتاب والسنة وتطبيقها مسيرة قديمة، حقق فيها أعداء الإسلام نجاحات لا يستهان بها، ومن هنا يمكن القول: إن المعوَّل عليه في الحفاظ على هذه المعاني من التحريف والتبديل وتطبيقها في واقع المسلمين في أي وقت وأي مكان: هو ما يقوم به أهل الحق أنفسهم بحسب جهدهم، ووفق سنن التغيير التي تسير بها حركة المجتمعات وليس وفق الأماني والنيات.
وقد أشار إلى هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- عندما قال: «ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر: أن هذه الأمة تتبع سنن من قبلها حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه: وجب أن يكون فيهم من يحرف الكلم عن مواضعه فيغير معنى الكتاب والسنة فيما أخبر الله به أو أمر به.
وفيهم أميون لا يفقهون معاني الكتاب والسنة، بل ربما يظنون أن ما هم عليه من الأماني التي هي مجرد التلاوة، ومعرفة ظاهر من القول هو غاية الدين، ثم قد يناظرون المحرفين وغيرهم من المنافقين، أو الكفار مع علم أولئك المحرفين [بما لم يعلمه الأميون، فإما أن تضل الطائفتان ويصير كلام هؤلاء الأميين فتنة على أولئك المحرفين]، حيث يعتقدون أن ما يقوله الأميون هو غاية علم الدين ويصيرون في طرفي النقيض، وإما أن يتبع أولئك الأميون أولئك المحرفين في بعض ضلالهم. وهذا من بعض أسباب تغيير الملل، إلا أن هذا الدين محفوظ؛ كما قال تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" [الحجر:9]، ولا تزال فيه طائفة قائمة ظاهرة على الحق، فلم ينله ما نال غيره من الأديان من تحريف كتبها وتغيير شرائعها مطلقاً، لما يُنطق الله به القائمين بحجة الله، وبيناته الذين يُحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنوره أهل العمى؛ فإن الأرض لن تخلو من قائم لله بحجة؛ لكيلا تبطل حجج الله وبيناته»(21) .
فالفيصل في المحافظة على المعاني والقيم والتصورات الإسلامية صحيحة في عقول المسلمين وقلوبهم وحياتهم هو مدى تحقيق أهل الحق لسنة التدافع مع الأطراف الأخرى، وهذا يتطلب يقظة وجهداً ونشاطاً وعملاً دؤوباً ومنظماً من جميع الأفراد.
والذي أراه أن الظرف الذي تمر به الأمة يتطلب فوق اليقظة والنشاط حلولاً غير تقليدية لاستنفار جموع الأمة، واستخراج القوى الكامنة في قطاعاتها الشعبية، بعد أن رفعت معظم الأنظمة جميع الرايات البيضاء التي في حوزتها، حتى إنهم رفعوا أخيراً ما كانوا يسترون به عوراتهم أمام شعوبهم. نسأل الله عز وجل أن ينصر دينه ويعلي كلمته) (22).
ولأجل تنفيذ هذه الأهداف الخبيثة من أعدائنا الكفرة فهم يعتمدون كثيراً على عملائهم من المنافقين في كل بلد من بلدان المسلمين في السعي لفرض هذه الأفكار، وتغيير عقول المسلمين وثوابت هذا الدين.
ولم يكتف الكفرة الغزاة بعملائهم المنافقين، بل تعدى خبثهم إلى أن يتقاربوا مع بعض الإسلاميين الذين يصفونهم بالمعتدلين من بعض الدعاة وطلبة العلم الذين هالهم ضغط الواقع، ومرارته، فراحوا يظهرون أنفسهم بمظهر التسامح، والمرونة، وقبول الرأي الآخر وحرية التفكير إلى آخر هذه المواقف الانهزامية. فانتهزت أمريكا وحلفاؤها هذا الشعور من هؤلاء الإسلاميين، فغيروا مواقفهم منهم، وأصبح من سياسية الغرب بقيادة أمريكا قبول بعض الإسلاميين من الحركات الإسلامية، حيث سعت لاستخدامهم في تمرير بعض الأفكار الخطيرة في الأصول والأحكام الإسلامية، لأن هذا أدعى لقبول الشعوب المسلمة. كما كان من أهدافها للتقارب مع بعض الإسلاميين التعرف على طبيعة الحركات الإسلامية التي كانت عندها مجهولة إلى عهد قريب. كما أن في التقارب مع الإسلاميين محاولة للضغط على النظم العربية والإسلامية لتقديم مزيد من التنازلات. وعن هذا التقارب بين أمريكا وبعض الإسلاميين وأهدافه يحدثنا الأستاذ كمال حبيب فيقول:
أهداف الحوار الأمريكي مع الحركة الإسلامية:(/79)
يرفض المسلمون الهجمة الأمريكية على حرمات مقدساتهم. وشاعت موجة كراهية عاتية للولايات المتحدة الأمريكية جعلت الأمريكان يتساءلون لماذا يكرهوننا، ومن ثم بدا للاستراتيجيين الأمريكان أن الوسيلة الأفضل لتطويع العالم الإسلامي هي دعاوى الإصلاح السياسية، وليست الدينية، ومن ثم سمعنا عن تغيير النظم السياسية التي تراها أمريكا مستبدة، وإشاعة قيم الديمقراطية بمفهومها الغربي في العالم الإسلامي. ومن خلال التعمق الأمريكي في فهم أحوال العالم الإسلامي ذهبت النخبة الاستراتيجية الأمريكية إلى أن الإصلاح السياسي في العالم الإسلامي والعربي لا يمكن بدون القوى الإسلامية باعتبارها التيار الرئيسي الجامح والفعال والمقبول جماهيرياً لدى الناس، ومن هنا كانت فكرة الحوار مع الإسلاميين ، بل وقبول وصولهم إلى السلطة في بلدانهم، لأن خطر استمرار النظم المستبدة القائمة هو أشد وطأة على الأمن القومي الأمريكي من قبول الإسلاميين في السلطة، ومن هنا كانت دعوات أمريكا على لسان أكبر المسئولين فيها للحوار مع الإسلاميين، والقوى التي وصفتها بالاعتدال في العالم الإسلامي والعربي بحيث لا تهدد هذه القوى المصالح الأمريكية والغربية، وتعترف وتقبل بقواعد اللعبة السياسية الديمقراطية، ويكاد هذا الموضوع يكون هو أهم القضايا المطروحة على أجندة السياسة العربية سواء بالنسبة للنظم السياسية، أو الحركات الإسلامية المعتدلة، وهو ما يشير إلى أن العالم الإسلامي أصبح أحد أهم مدخلات تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية.
وهنا تكمن المشكلة التي نود أن نشير إلى خطرها وهي أن السياسة الأمريكية تريد أن تطوع الحركات الإسلامية في تنفيذ الأجندة الأمريكية عبر السماح لها بالمشاركة في السلطة، أو حتى الانفراد بها. فبدلاً من الاعتماد على النظم العلمانية لماذا لا تجعل الإسلاميون هم أنفسهم الذين يقومون بتنفيذ المطالب الأمريكية، أي بيد الإسلاميين نحارب الإسلام وهنا مكمن الخطر الكبير، بل الفتنة الكبيرة التي تنتظر الحركة الإسلامية، والمتابع لمجمل ما نشر من تقارير، ودراسات غربية حول الظاهرة الإسلامية يلاحظ بوضوح محاولة نقل الصدام الحضاري داخل الحالة الإسلامية، فبدلا من أن يكون الصراع بين الإسلام والغرب يكون الصراع والصدام داخل الحضارة الإسلامية ذاتها، بل وداخل الحالة الإسلامية. ومنذ كتاب (الفرصة السانحة) لريتشاد نيكسون وهو منشور قبل أحداث سبتمبر نجد الحديث عن الإسلام التقليدي، والإسلام السياسي، والإسلام الأصولي، والإسلام السلفي، والإسلام المعتدل، والإسلام المتشدد والجهادي، فهم يرون الظاهرة الإسلامية من منظور تفتيتها وتجزئتها، وغرس عوامل الصراع والنزاع داخل أطرافها رغم أن الجميع يشملهم مفهوم الإسلام، والجماعة والأمة طالما أنهم يلتزمون بقواعد الفهم للكتاب والسنة كما فهمها سلف هذه الأمة وخيرها وهم الصحابة والتابعون، وتابعوهم بإحسان،. فالمحاولة الأمريكية الجديدة من الإصلاح، والحوار مع الإسلاميين اليوم هي بغرض توريط الحركة الإسلامية ذاتها في تحقيق أهداف الأجندة الأمريكية، ومن أجل بذر بذور الصراع والشقاق داخل الحالة الإسلامية، ومن ثم فالحركة الإسلامية تواجه لحظة خطر حقيقة نرى أنها تفرض الوعي بالمخاطر المحاقة التي تجعل الهدف من الوجود الإسلامي لهذه الحركات في الميزان. فالحركة الإسلامية بالأساس هي حركة للأمة، ومعبرة عن ضميرها. ووجودها بالأساس قائم على الدعوة إلى الدين الصحيح، وتذكير الناس بالتمسك بدينهم "فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" [الزخرف: 43] وحين يتعارض هذا المقصد الرئيسي مع الحوار الأمريكي، أو حتى الوصول إلى السلطة؛ فإن الحركة الإسلامية عليها التمسك بدعوتها ووظيفتها التي أعطتها شرعية وجودها، يقول تعالى: "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [آل عمران: 104] وقوله تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ" [آل عمران:110] ومن يقرأ تقرير مؤسسة راند يعرف كيف يفكر الأمريكيون تجاه الحركة الإسلامية وتجاه العالم الإسلامي، فاللحظة الحاضرة هي لحظة فتنة وخطر تستدعي أقصى روح من الوعي والتثبت والتثبيت "وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً" [الإسراء:74].(/80)
إن العقل الأداتي الغربي هداه شيطانه إلى التفكير بتغيير قواعد اللعبة من وجهة نظره، بنزع المقاومة والتحدي عن الأمة في مواجهة مشاريعه، بجعل من ينفذونها هم من المسلمين أنفسهم، وإذا كانت حربه ضد العالم الإسلامي تمت بأيدي علمانية من أبناء العالم الإسلامي فها هو يسعى لخطوة خطيرة وشيطانية، وهي استخدام الإسلاميين أنفسهم لتحقيق مآربه وأهدافه، فليحذر قادة الحركات الإسلاميين وعموم العاملين في حقل العمل الإسلامي من خطر اللحظة الأمريكية القادمة، وليتمسكوا بثوابتهم وقواعدهم، وقيمهم، ولا ينجرفوا لمخاطر الألعاب السياسية، ويدركوا أنهم دعاة إلى الله، وأنهم موقعون عن الله، ومعبرون عن الأمة، وهم دعاة المقاومة والرباط والصمود والمواجهة، وإلا فالخطر القادم وهو حركة إسلامية بلا معالم ولا ثوابت ولا مرجعيات. وحينها تجري علينا سنن الله الكونية فيما نطلق عليه سنة الاستبدال والتغيير "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ" [محمد: 38] فالله حفظ الأمة بالذكر، ولم يجعل حفظها وفعلها وحيويتها مرهونة بإمام أو جماعة أو طائفة أو ملة، وستبقى سنة الله جارية فيها لا تتبدل ولا تتغير ? - ? الله أكبر ? { ? صدق الله العظيم ?- رضي الله عنه - صدق الله العظيم - عز وجل - - - عليه السلام - - ? - • - - رضي الله عنه - الله أكبر - رضي الله عنه - - ? - ?- صلى الله عليه وسلم - - - - - - ? الله أكبر ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ?? مقدمة - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ????? { - رضي الله عنه - مقدمة - ? [الحجر:9] (23). أ.هـ
ويدلي الأستاذ طارق ديلواني بحديث صريح حول ما سبق وهو يجيب على سؤال مفاده: هل ثمة تقارب بين أمريكا والإسلاميين؟ فيقول:
(سؤال بات مطروحاً بقوة بين مناصري، ومؤيدي الحركات الإسلامية وتحديداً جماعة الإخوان المسلمين وقاعدتها الجماهيرية العريضة. ومن الضروري أن يمتلك الإسلاميون إجابة واضحة... ربما كان هذا سؤال اللحظة الذي فرضه تجاوز الحديث الأمريكي حدود التلميح إلى التصريح بأنه لا ممانعة أمريكية من وصول الإسلاميين للسلطة، وهو ما يستدعي البحث عما إذا كان هذا تحولا حقيقيا في الموقف الأمريكي من الإسلاميين؟ أم أنها فزاعة للتهديد في إطار الضغوط المتصاعدة على الأنظمة الحاكمة؟
وأتصور أن أولى خطوات محاولة الإجابة على السؤال تبدأ بضرورة مراجعة الرؤية التقليدية التي تستبد بنا حين نتحدث عن أمريكا والإسلاميين باعتبار أن العداء والكراهية هو سيد الموقف، في حين أن أموراً تغيرت، ومياها جرت في نهر العلاقات بين «الشيطان الأكبر» و«الخطر الأخضر» نقول أن الحال لم يعد كما كان.
ولفهم وقائع ما جرى في نظرة الأمريكان للإسلاميين لابد من التوقف عند أحداث 11 سبتمبر ، فقد أثار الحدث هزة عنيفة في المجتمع الأمريكي تجاوزت الغضب على الإسلام والمسلمين إلى الدعوة لإعادة النظر في السياسة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي التي باتت ترى أن ديكتاتورية بعض الأنظمة العربية هي التي أفرزت العداء لأمريكا باعتبارها راعية لهذه الأنظمة.
على أن النظرة الأمريكية للحوار مع الإسلاميين معنية فقط بالإسلاميين «المعتدلين» المتبعين لأسلوب العمل السلمي دون غيرهم. وهنا ينبغي الحديث عن عدة نماذج إسلامية مقبولة لأمريكا لا تتعدى حدود النموذج الإخواني وإسلاميي تركيا تحديداً.
ثمة تجارب إسلامية مشجعة إذا بالنسبة للأمريكيين ومنها تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا كما أسلفنا، وسجل العمل السلمي للإخوان المسلمين في مصر والأردن واليمن والمغرب وغيرها من الدول العربية.
إلا أنه لا يمكننا أن نحصر النماذج التي ستعتمد أمريكا الحوار معها، ويمكن القول أن أي تيار إسلامي يتمتع بالعقلانية والانفتاح على الحكومات والشعوب سيكون مرشحاً للحوار مع الأمريكيين.
ومن المهم الإشارة لتصريحات مسئولي الإدارة الأمريكية في هذا الصدد، فهي تصريحات توضح حقيقة الرغبة الأمريكية الجامحة للشروع في حوار وتقارب مع الإسلاميين. تصريحات مسئولي الإدارة الأمريكية وعلى رأسهم وزيرة الخارجية «كونداليزا رايس» التي تكشف عن اقتناع الولايات المتحدة بأهمية التحاور مع الإسلاميين في المنطقة العربية، وأنها لا تخشى من وصول تيارات إسلامية إلى السلطة هي أكثر هذه التصريحات إثارة للجدل.
فهي تشير بوضوح إلى أن بوش الذي تركزت سياسته في السابق على معاداة واستهداف الحركات الإسلامية تحول الآن إلى التقارب مع الإسلاميين. ولم تكن رايس وحدها التي صرحت بهذا، فقد قال ريتشارد هاس مدير إدارة التخطيط السياسي بالوزارة نفسها إن الولايات المتحدة لا تخشى وصول تيارات إسلامية إلى السلطة لتحل محل الأنظمة القمعية العربية التي «تتسبب بتكميمها الأفواه في اندلاع أعمال الإرهاب»، شريطة أن تصل عن طريق ديمقراطي وأن تتبنى الديمقراطية كوسيلة للحكم) (24).(/81)
والعدو الكافر لم يلجأ إلى مثل هذه الأساليب إلا عندما رأى نفسه لا يستطيع تنفيذ مخططاته، وأهدافه إلا باستخدام بعض الإسلاميين الذين يسميهم بالمعتدلين. أما من يعلنون كراهية الكافرين، والبراءة منهم، وتحريض الأمة على جهاد المحاربين الغزاة منهم، فهؤلاء شوكة في حلوق الكافرين وهم الذين يحشد الكفار لحربهم والقضاء عليهم (زعموا). وقد عرفوا عند الكفار بالأصوليين السلفيين أو الوهابيين المتطرفين.
يقول الشيخ سفر الحوالي حفظه الله تعالى: (يقول باول شميدس في كتابه : (الإسلام قوة الغد العالمية) عبارة خطيرة جداً لكنها حقيقة : إنه قد تبين من التاريخ أو من استقرائه أنه أينما وجدت الحركة الوهابية فإنه يوجد معها مقاومة الغرب ومقاومة المستعمر) (25). وبهذه المناسبة اتوجه بالنصح لإخواني الدعاة وطلبة العلم بأن يحذروا مكر الأعداء من الكفار والمنافقين حتى لا يستخدموهم، ويوظفوهم دون أن يشعروا في تحقيق حربهم الظالمة على الطائفة المنصورة والحر تكفيه الإشارة.
والكفرة الصليبيون يستخدمون في حرب هذا التيار الصادق المجاهد من المسلمين شتى الوسائل، فتارة بالاستئصال والتصفية والإبادة، وتارة بتسليط الحكومات العميلة والمنفاقين عليهم، وتارة بتسليط بعض الإسلاميين عليهم ليواجهوهم ويشاغبوا عليهم. "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" [يوسف:21]، "وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" [الأنفال:30] وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ" [الأنفال: 36] ولخوف الكفرة من الطائفة المنصورة التي تتمسك بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتوالي وتعادي في الله تعالى والذين يسمونهم بالوهابيين(26)، أو الأصوليين المتشددين تراهم يجندون مراكز دراساتهم وبحوثهم وعملاءهم في تتبع هذه الطائفة، وتتبع كتبها، ورموزها وأنشطتها، وأثرها في المجتمعات، فهذا (مركز الحرية الدينية بيت الحرية) الأمريكي يتابع نشاط الدعاة في أمريكا في المساجد والمراكز الإسلامية ويستخرج الكتب والرسائل والمطويات والفتاوى التي فيها العقيدة الصحيحة وفيها كراهية الكافر والبراءة منه والحذر من التشبه به ومداهنته وينتهي إلى كتابة تقرير مطول يصل إلى (120) صفحة، وقد نشر هذا التقرير موقع (www islamdaily net.) ويقول التقرير في مقدمته: (إن هذا التقرير هو الخطوة الأولى في جهد يسعى إلى احتواء هذا الفكر المدمر الذي تنشره الوهابية داخل الأراضي الأمريكية، ونأمل أن يُوفق في إزالة تلك الكتيبات التي تنشر الحقد داخل المساجد، والمكتبات والمراكز الإسلامية الأمريكية. إن هذه المنشورات التي تم تحليلها في هذا التقرير وغيرها من المطبوعات التي تعمل على تأييد فكر الكراهية، لا مكان لها في أمة قامت على أساس الحرية الدينية والتسامح).
ومما جاء في هذا التقرير قولهم: (إن انتشار التطرف الإسلامي من قبل المذهب الوهابي يعتبر من أخطر التحديات الفكرية التي نواجهها في وقتنا الحاضر. ويؤكد السناتور جون كيل رئيس لجنة الإرهاب؛ وهي لجنة فرعية للجنة القضائية ، والذي عقد جلسة استماع حول المذهب الوهابي: أن عدداً متزايداً من الأدلة المقبولة وبحوث الخبراء تشير إلى أن الفكر الوهابي الذي يهيمن على الكثير من الجماعات، ويمولها هنا في الولايات المتحدة يتناقض مع قيم التسامح والفردانية والحرية كما نفهمها نحن).
وجاء في هذا التقرير أيضاً قولهم: (وفي كتاب بعنوان حقيقة التوحيد والشرك طبع بواسطة وزارة الشؤون الإسلامية السعودية والذي وجدت بعض النسخ منه في مسجد الفاروق في بروكلين بنيويورك. قال المسؤول الديني الراحل المفتي العام ابن باز: إن الإسلام منذ عهد آدم ومروراً بالأنبياء الذين جاءوا من بعده كانوا يدعون إلى توحيد الله، ولكن اليهود والنصارى أصبحوا ضالين وكفارا عندما رفضوا محمد بالرغم من وجود من يوحد الله بينهم) وبناءاً على الرؤية الوهابية ، فإنه يجب على المسلم دينياً أن يزرع العداوة بينه وبين الكافرين، وإن كراهيتهم دليل على أن المؤمن متبرئ منهم بالكامل).
ومما جاء في هذا التقرير أيضاً قولهم: (ورداً على أسئلة بعض المسلمين الذين يعيشون في الغرب عن الكيفية التي يمكنهم التعامل بها مع غير المسلمين يقدم الخبراء في اللجنة الدائمة بما فيهم المفتي العام بن باز، والعثيمين سلسلة من الأجوبة تنصح في الغالب بمزيج من الشك والكراهية والتبشير المعادي. ولقد وجدت هذه الفتاوى في عدد من المساجد في الولايات المتحدة).(/82)
وفي موطن آخر من هذا التقرير يقولون: (ويقول الكتاب والوعاظ الوهابية لقرائهم، أو مستمعيهم بشكل مستمر أن عبارة (المغضوب عليهم) التي في بداية القرآن يقصد بها اليهود، وعبارة (الضالين) تشير إلى المسيحيين، ونفس التعاليم توجد في وثيقتين من المجموعة إحداهما صادرة عن الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء تم الحصول على نسخة منها في أحد المساجد بهيوستن، والأخرى في فتوى موجهة إلى المسلمين المسافرين والمهاجرين).
ويقولون أيضاً: (لقد طالب الإسلاميون بالجهاد رداً على التهديدات المزعومة. ولكن الوهابية عادة لا يفهمون الجهاد على أنه وسيلة دفاعية خالصة، بل يعتقد الوهابية أن الفتوحات الإسلامية السابقة، كانت وسائل لنشر الدين الجديد، ونوع من الجهاد الإلزامي، أو الحرب المقدسة: لقد كانت غايته نشر الإسلام في المناطق التي كانت تحت حكم الكفار، أي دار الكفر، وإخضاعها، ومن ثم إقامة حكم الإسلام وتطبيق الشريعة وتأمين القوة السياسية والهيمنة العسكرية للمسلمين).
ويقولون في تقريرهم عن الوهابية والمرأة: (إن الوهابية وغيرهم من السلفيين يعتبرون المرأة مصدراً أساسياً للفتنة من الناحيتين الاجتماعية والأخلاقية. وتستدعي هذه الحالة يقظة دائمة في جانب الرجال، وخصوصاً السلطات الإسلامية، للتأكد من أن النساء مستورات بالشكل الملائم من خلال إخفائهن خلف الأبواب المغلقة، أو تحت الأحجبة والعباءات).
ويقول أحد الكتب التي طبعت بواسطة معهد العلوم الإسلامية والعربية وتم الحصول على نسخ منه في مسجد الإسلام في واشنطن: (من بين أكثر الأمور أهمية في تقليد الكفار ، وأشدها خطراً على المسلمين، هي فتنة النساء، وهي من سمات الكفار. والهدف من ذلك هو إبعادهن عن فطرتهن، وحجابهن، وحيائهن، وذلك حتى يفتنوا بهن الرجال. لأن النساء تحب بريق الحياة المادية، ويملن إلى التقليد، ويتكيفن معه ويبالغن فيه، لأن النساء خلقن من أجل إغراء الرجال وتجميل أنفسهن لهم) (27).
ومن وسائل أمريكا وحلفائها الصليبيين في محاربة الطائفة المنصورة التي تسميها بالوهابية تشجيع الطوائف الصوفية في محاربتها ومواجهتها.
نقلت مفكرة الإسلام بتاريخ 1/4/1426هـ عن إحدى المجلات الأمريكية ما يلي:
(كشفت مجلة "يو إس نيوز" الأمريكية عن سعي الولايات المتحدة لتشجيع ودعم الصوفية كإحدى وسائل التصدي للجماعات الإسلامية.
ويعتقد بعض الاستراتيجيين الأمريكيين أن أتباع الصوفية ربما كانوا من بين أفضل الأسلحة الدولية ضد «القاعدة» وغيرها من الإسلاميين المتشددين.
ويمثل المتصوفون وأساليبهم الصوفية الغامضة اختلافاً واضحاً مع الطوائف الأصولية الإسلامية، كالطائفة «الوهابية»، على حد زعم المجلة.
وكانت الأضرحة الصوفية قد تعرضت للتحطيم في إطار الصراع الطويل بين الصوفية والأصولية في الجزيرة العربية، كما وصفت كذلك الأساليب الصوفية بأنها ارتداد عن الدين، على حد زعم المجلة.
وبحسب مجلة «يو إس نيوز» فإن الصوفية تسعى للعودة ثانية، حيث يوجد عشرات الملايين في وسط وجنوب شرق آسيا وغرب إفريقيا، ومئات الملايين الآخرين من التابعين للتقاليد الصوفية.
وقد صرح أحد متخصصي الأنثربولوجي ويدعى «روبرت دانين»، والذي كان قد درس المتصوفين الأفارقة، أنه: «سيكون من الحماقة تجاهل الاختلافات بين الصوفية والأصولية»، حيث قد وصف الصراع بين المتصوفين والأصوليين بأنه يشبه «حرب العصابات»، على حد قوله.
وقد استرعى ذلك الصراع انتباه صناع السياسة الأمريكية، ولأنه ليس في إمكانهم دعم الصوفية بصورة مباشرة، فإنهم يسعون إلى دعم من هو على علاقة بهم.
ومن بين التكتيكات السياسية في هذا الشأن استخدام الدعم الأمريكي لاستعادة الأضرحة الصوفية حول العالم، وترجمة مخطوطاتهم التي ترجع للعصور الوسطى، وكذلك دفع الحكومات لتشجيع نهضة الصوفية في بلدانهم.
ووفقاً للمصدر: فإن تلك الفكرة كان قد انتهجها الملك محمد السادس عاهل المغرب، والذي كان قد جمع في هدوء زعماء الصوفية المحليين بالمغرب، وقدم ملايين الدولارات كمعونة لاستخدامها كحصن ضد الأصولية المتشددة(28).
وبعد هذه النقولات التي تكشف مكر الكفرة ووسائلهم الخبيثة في تغيير العقول، والأفكار وتشكيك المسلمين في ثوابتهم، وقيمهم قد يرد سؤال وجيه ألا وهو: ما علاقة هذا الموضوع بالأمن وأعداء الأمن؟
والجواب بإيجاز أن هذا المكر، وهذا الغزو بهذه الوسائل المتنوعة من الكفرة وإخوانهم المنافقين قد تنطلي على بعض المسلمين سواء المثقفين منهم أو العامة وهذا بدوره يؤدي إلى الانحراف عن الحق والدين الحق ويقود إلى التبعية للكفار والتأثر بتصوراته وأفكاره . ولا يخفى ما في ذلك من خلل في أمن الدين والعقيدة . وهذا يقود المجتمع المسلم إلى الزعزعة والاضطراب والتعرض للمصائب والعقوبات واختلال الأمن.
ثانياً: العدوان على أمن الأخلاق والأعراض والبيوت والأسر(/83)
لم يعد خافياً على أحد ما في مجتمعات المسلمين من هجمة شرسة على القيم والأخلاق والأعراض، حيث لا يفتأ الكفرة وإخوانهم الذين نافقوا في القديم والحديث في زعزعة الأخلاق، وثلب الأعراض، وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وسعيهم لتفكيك بيوت المسلمين وأسرهم، كما تفككت بيوتهم وأسرهم. وقد بين الله عز وجل حالهم ووصفها لنا كما في قوله تعالى: "وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً" [النساء: 27] وقال سبحانه عن المنافقين الذين جاءوا بالإفك على عائشة رضي الله عنها: "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" [النور: 19] ومع أن هذا شأن الكفرة والمنافقين من قديم الدهر، إلا أن هذا المكر وهذا الغزو الخبيث لم يمر على البشرية في تاريخها، كما يمر اليوم في واقعنا المعاصر وذلك لتسخيرهم الوسائل الإعلامية المختلفة التي لم تعرفها البشرية من قبل في نشر الفساد والرذيلة والشهوات والانحلال وبخاصة بعد ظهور وسائل الاتصال السريعة كالقنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية (الانترنت)؛ فأصبح المسلم في خطر، وأصبحت المجتمعات الإسلامية في خطر عظيم لا يمسك سماء إيمانها إلا من يمسك السموات والأرض أن تزولا. ومما يزيد الأمر خطورة وكارثية تهالك كثير من المسلمين على هذه القنوات، وفتح بيوتهم لها دون رقيب أو حسيب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكفى بذلك ثلباً لأمن الأخلاق والأعراض، وكفى به عدواناً على أمن البيوت والأسر، وكفى به تعريضاً للأفراد والمجتمعات لسخط الله عز وجل وعقوبته في الدنيا والآخرة. وأي عداء أشد من هذا العداء الذي يعرض الناس للشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة. وأسوق فيما يلي بعضاً مما يقوم به الكفرة والمنافقون من عدوان على أمن الأخلاق والأعراض والبيوت بإجازة:
أولاً: إثارة الشهوات، ونشر الرذيلة، وإفساد الأخلاق بما يقوم به الكفرة والمنافقون في وسائلهم الإعلامية المختلفة من مجلة وصحيفة ومذياع وتلفاز وقنوات فضائية وشبكات عنكبوتية، من نشر للعهر والفساد والإباحية التي تلهب الشهوة في نفوس المتعاطين معها، والتي تقود إلى الخبث والزنا، وفساد الأسر والبيوت والأعراض والنسل. وليس المقام هنا مقام تفصيل وتوثيق فأمر هذه الوسائل الخبيثة واضحة وجلية. وإن لم يرحمنا ربنا ويكف عنا شر هذه الوسائل؛ فإن الكارثة عظيمة، والعاقبة وخيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم،. والمراد هنا فضح هؤلاء المفسدين وبيان خطرهم على أمن الفرد والأسرة والمجتمع في الدنيا والآخرة. فهلا انتبهنا إلى هؤلاء الأعداء الحقيقيين لأمننا من الكفرة والمنافقين.
ثانياً: الحملة الشعواء على المرأة ولباسها وحجابها وعملها والدعوة إلى تحررها، والتمرد على قوامة زوجها إلى آخر هذه الصيحات العدوانية التي يريد أصحابها أن تكون المرأة سلعة رخيصة بيد الرجل يتمتع بها حيث شاء، كما يريدون أن يخلو البيت المسلم من مربية الأجيال، بحيث تترك أولادها وزوجها بلا سكن ولا رعاية، لتعمل مع الرجل الأجنبي خارج بيتها. ولا يخفى ما في هذا من نشر للفساد والفجور، ومن تفكيك للأسر والبيوت. كما تفككت أسرهم وبيوتهم. قال تعالى: "وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً" [النساء: 89] ويشترك في هذه الجريمة الكفار الحاقدون، وأولياؤهم من المنافقين والشهوانيين.
فمما يتعلق بلباس المرأة وحجابها فقد سلكوا في ذلك طريقاً فكرياً يبثون فيه الشبهات ويدلسون ويلبسون، ويغرون ويحرضون. وآخر عملياً بما يقومون به من إغراق لأسواق المسلمين من ألبسة فاضحة تنافي الشروط الشرعية للباس المرأة المسلمة، وذلك مما تنتجه بيوت الأزياء العالمية الفاجرة. فتارة نرى اللباس القصير الذي لا يستر جسد المرأة المطلوب ستره، وتارة بملابس رقيقة تشف ما تحتها، وتارة بملابس ضيقة تحجم ما تحتها، وتارة بملابس تشابه لباس الكافرات أو لباس الرجال. ومما يؤسف له أن كثيراً من المسلمات أقبلن على مثل هذه الألبسة، ووقعن في حمأة التقليد الأعمى للكافرات مما ترتب عليه من فتنة بهن وعليهن . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء»(29) وقال أيضاً: «إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء»(30).
وليس المقام هنا مقام التفصيل والرد على دعاة تحرير المرأة والمنادين بسفورها، فهذا له مقام آخر(31) وإنما المراد هنا بيان أعداء أمن البيوت والأسر والأخلاق، وأنهم هم أولئك المفسدون المتبعون للشهوات من الكفار والمنافقين.(/84)
ثالثاً: الحملة الحاقدة من الكفار وأذنابهم المنافقين في الغرب والشرق على الأسرة المسلمة، والسعي إلى كل ما من شأنه إضعافها، وتفكيكها، حيث غاظهم ما يرون في مجتمعات المسلمين من ترابط وتراحم وتكافل بين أفراد الأسرة المسلمة؛ فعقدوا من أجل ذلك مؤتمرات وندوات يهاجمون فيها بقاء المرأة في بيتها ويحرضونها على الخروج بحجة العمل، والحصول على حريتها، كما هاجموا فيها كثرة النسل وسعوا إلى إشاعة تحديد النسل أو منعه بحجة الكثافة السكانية التي يترتب علهيا المجاعات والأمراض وعدم الاستيعاب!!، كما سعوا في مثل هذه المؤتمرات إلى النيل من أحكام الإسلام في الطلاق والتعدد بحجة المحافظة على حقوق المرأة، ومساواتها بالرجل والحفاظ على كرامتها زعموا، مع أنهم أعدى أعداء المرأة، وهم أعداء الأسرة لأنهم بذلك يجرونها إلى ما وصلت إليه المرأة والأسرة عندهم من إهانة وابتذال وهتك أعراض، وتفكك وانحلال.
رابعاً: ومما يسيء إلى أمن البيوت والأسر والأعراض إغراق مجتمعات المسلمين وبيوتهم بالخدم والخادمات. وهذا أثر من آثار خروج المرأة للعمل خارج منزلها. بل إن أكثر بيوت المسلمين اليوم تعج بالخادمات والسائقين دون حاجة إليهم؛ اللهم إلا الفخر والمباهاة والكسل والترف. ولا يخفى ما يترتب على وجود هؤلاء الخدم بنحلهم المختلفة، وأخلاقهم السيئة عند أغلبهم من فساد أخلاقي لكثير من البيوت، وتفكيك لها، وإهمال لتربية البنين والبنات، والاعتماد على الخدم في ذلك. وأعداء أمن الأسر والأخلاق يسعون جهدهم لمزيد من ذلك لما يرونه من آثار مدمرة للأسر والأخلاق وذلك ما كانوا يبغون.
خامساً: تشجيع السياحة إلى بلاد الكفر والخنا والفجور، وتسهيل السفر إليها بأرخص الأثمان، لما يعلمه هؤلاء المفسدون من تأثير ذلك في استمراء الفساد، وألف النفوس له. وبالتالي تقليد أهله، والوقوع في براثنه، والتأثر بما يرونه من عادات سيئة، وأخلاق رذيلة سواء كان ذلك في الأفكار، أو الأخلاق، أو الهدي الظاهر. وبالتالي رجوع هؤلاء السياح وهم يحملون هذه العادات والأخلاق من الكفار، ويدعون إليها قولاً وعملاً. والذي يتولى كبر هذه الأعمال هم أرباب الفساد، وأعداء أمن الأخلاق والأعراض من الكفار والمنافقين والشهوانيين.
سادساً: إغراق أسواق المسلمين بوسائل الترف المتنوعة، وضخها بشكل مكثف، سواء كان ذلك في أصناف المأكولات أو المشروبات، أو المركوبات أو المساكن، والتوسع الزائد في تكميلها وتحسينها مما أدى إلى صرف الهم والتفكير فيها، والتنافس عليها، بل تجاوز ذلك إلى الوقوع في الشبهات والحرام جراء الاهتمام الكبير بها. ولا يخفى ما في ذلك من فساد في الأخلاق وركون إلى الدنيا وزينتها، ونسيان الآخرة وأهوالها، علاوة على ما تحدث من ترهل وكسل، وقعود عن المهام العالية، وتخلفاً عن ركب المصلحين والمجاهدين في سبيل الله تعالى الذين ضحوا بأنفسهم وأموالهم في سبيل الله عز وجل، وزهدوا في الدنيا وترفعوا على متاعها الزائل.
سابعاً: الهجمة الشرسة من الكفار والمنافقين على أهل الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاولة تحجيمهم وتشويه سمعتهم. ولا يخفى ما في ذلك من حقد دفين وغيظ شديد في قلوب المفسدين من رؤيتهم لهؤلاء المصلحين – الذين هم بحق صمام أمان المجتمعات- وهم يحاربون الفساد والرذيلة، ويضيقون الخناق على المفسدين، وبذلك يدرأون عقوبة الله عز وجل وعذابه. وهذا لا يريح أهل الفساد بل يزعجهم ويغيظهم، ولذلك فهم لا يفتأون يعادون أهل الحسبة ويضعون العقبات في طريقهم ويسعون لتشويه سمعتهم.
ثامناً: تسليط المخدرات والمسكرات على مجتمعات المسلمين، وذلك لما لها من الآثار السيئة المدمرة على الأخلاق والأعراض وانتشار الجريمة وزعزعة الأمن في حياة الفرد والأسرة والمجتمع، وتعريض المجتمعات لعقوبة الله تعالى في الدنيا والآخرة.
ثالثاً: الاعتداء على أمن المال والاقتصاد
إن العدوان على أموال الناس واقتصادهم من قبل الكفار، وأذنابهم المنافقين لم يعد خافياً على أحد من المهتمين بأمر هذا الدين وأهله، حتى آل الأمر إلى أن يكون المال دُولة بين الأغنياء، الذين احتكروا المال، وأوقدوا فيه نار الربا، وأغرقوا الفقراء – وهم الكثرة من المسلمين – بسيل من الديون التي تتضاعف مع الزمن، فأكل القوي فيها الضعيف، ومحقت فيه بركة المال وأُكل المال بالباطل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأسوق فيما يلي بعض صور هذا العدوان على أمن الأموال والاقتصاد:(/85)
أولاً: التشبه بالكفار في حبهم العظيم للمال وكونه غاية عندهم لا يبالون من أي جهة حصلوا عليه من حلال أو حرام. ولذلك صدروا إلى ديار المسلمين صنوفاً من البضائع المحرمة، وأدخلوا على مجتمعات المسلمين وسائل كثيرة من المعاملات المحرمة. ومن أعظمها وأخطرها نشر الربا الصريح، واستحداث المعاملات المصرفية التي تقوم على الربا تارة، وعلى الجهالة والغرر تارة، وعلى التحايل تارة. ولا يخفى ما في ذلك من محق لبركة المال، وغش وتحايل على المسلمين، وظلم للفقراء وما أكثرهم. وفي كل ذلك عدوان على أمن الناس في أموالهم، ومؤذن بعقوبة من الله عز وجل قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ" [البقرة: 279،278].
ثانياً: استنزاف الكفار لأموال المسلمين، وسحب رؤوس أموال المسلمين إلى الاتجار بها في ديار الكفار. ولا يخفى ما في ذلك من دعم لاقتصاد الكفرة. وفي المقابل إضعاف لاقتصاد المجتمعات المسلمة. فوق أن غالب هذه الاستثمارات الخارجية يقوم على الربا والتحايل والمعاملات المحرمة . المهم عندهم كسب المال بأية وسيلة كانت ولا يخفى ما في ذلك من إضعاف للمسلمين، ونهب لأموالهم وتسلط على مقدراتهم.
ثالثاً: نشأ من غزو الكفار وعدوانهم على الدين والأخلاق والأعراض، والذي سبق الكلام عنه أن قل الخوف من الله عز وجل وقل الوازع الديني، فانتشرت الجرائم ومنها السرقات، والاعتداء على أموال الناس بالقوة أو بالخلسة.
رابعاً: إشغال مجتمعات المسلمين باللهث وراء الدنيا، وجرهم إلى صنوف من المعاملات التي جعلتهم في دوامة من أمرهم، وجعلتهم في سعار شديد، وتنافس ممقوت على كسب المال. وأذكر من ذلك تجارة الأسهم التي في أغلبها هي أشبه شيء بالقمار والميسر، حيث يصبح الرجل غنياً ويمسى فقيراً ويمسى عاقلاً ويصبح منهاراً كئيباً. وقد أدى هذا إلى عمى القلوب عن الآخرة، وعن شئون المسلمين ومآسيهم. وهذا ما يريده الأعداء الكفرة وإخوانهم المنافقون.
خامساً: تضييق الخناق على الجمعيات الخيرية للمسلمين التي كان لها الأثر العظيم في مواساة فقراء المسلمين في كل مكان، وكفالة أيتامهم ودعاتهم، وطباعة الكتب الإسلامية ونشرها، ونصر المجاهدين في سبيل الله تعالى، وإغاثة اللاجئين والمنكوبين من المسلمين. ولم يقف الأمر عند التضييق، بل ذهبوا إلى مصادرة أموال هذه الجمعيات أو تجميدها، وتخويف الناس وإرهابهم من دعم هذه الجمعيات، أو الإنفاق في وجوه الخير. فهل بعد هذا من عدوان على المال بل إنه تعداه إلى العدوان على الأنفس وإطعامها وكسوتها وإغاثتها.
سادساً: امتصاص الخيرات من الأراضي المسلمة وبخاصة البترول والنفط والتحكم في إنتاجه وأسعاره.
سابعاً: إغراق أسواق المسلمين بآلاف الأصناف من البضائع المختلفة التي تستورد من بلاد الكفار . وهذا بدوره يقوي اقتصاد الأعداء من الكفرة ويجعل بلاد المسلمين بلادا مستوردة ومستهلكة لا منتجة مصدرة. بل إن الكفار يضعون العوائق أمام كون بلدان المسلمين مصنعة منتجة تستغني عن مصانع الكفار. ولا يخفى ما في ذلك من عدوان على أموال المسلمين وإرادتهم وإضعاف لاقتصادهم . فوق ما في ذلك من تبعية للأعداء وبخاصة فيما يتعلق بالغذاء والطعام. ولا يخفى على ذي لب أن أمة لا تمتلك وتنتج غذاءها فإنها لا تمتلك أمنها. فالأمن على الغذاء ليس هو فقط أمن أكل وشرب يأمن صاحبه فيه من الموت بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى أن يؤثر على أمن الدين والنفس والعرض. لأن المرأ تحت وطأة الجوع معرض أن يتنازل عن دينه أو عن عرضه عياذاً بالله تعالى.
ثامناً: القيام بالحملات الدعائية الفاجرة الكاذبة التي تروج السلع، وتخدع الناس وتؤزهم إلى شرائها أزاً. وبهذا تمتص الأموال من جيوب الناس، ولو كانوا كارهين. ولا يخفى ما في ذلك من أكل لأموال الناس بالباطل لأنه يقوم على الخداع والكذب والدجل. وفي هذا عدوان على أموال الناس ولو كان برضاهم.
ثانياً: فئة أهل الأهواء والشبهات
تختلف هذه الفئة عن التي قبلها في أن هذه الفئة تعد من أهل القبلة، ولكنها فارقت طريق أهل السنة والجماعة وهو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذلك بما ابتدعت من البدع المحدثة في الاعتقادات، والأعمال، متعلقة ببعض الشبهات والتأويلات الباطلة؛ فنشأ من ذلك خلل في أمن بعض الضروريات التي جاء الإسلام للمحافظة عليها وصيانتها من الاعتداء سواء بإتلافها أو إضعافها. ولكي يتبين لنا خطر هذه الفئة على أمن الناس أذكر بعض أصنافها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر.
المثال الأول: طائفة الخوارج:(/86)
ومن أهم أصول هذه الطائفة تكفير مرتكب الكبيرة بمجرد ارتكابها والحكم عليه بالخلود في النار إن مات مصراً عليها بدون توبة . وقد أدى بهم هذا المعتقد الفاسد إلى تكفير عموم الناس ممن ليس منهم ثم استحلال دمائهم وأموالهم، والخروج على الأمة بالسيف. ومن هذا يتضح لنا عداءهم للأمن وذلك من جهتين:
الجهة الأولى: كون هذا المعتقد مخالفاً للعقيدة الصحيحة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام. وهذا خلل في الدين واعتداء على أمن العقيدة وثوابتها، وتعريض أصحابها لعذاب الله عز وجل إن هم ماتوا عليها، لأن الخوارج من الفرقة الضالة المفارقة للفرقة الناجية التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله : «والذي نفسي بيده لتتفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار... الحديث»(32).
الجهة الثانية: ما تقوم به هذه الفئة من خروج على الناس المخالفين لهم من أهل الإسلام، واستحلال دمائهم وأموالهم . ولا يخفى ما في هذا الفعل الشنيع من عدوان على أمن الناس في دمائهم وأموالهم وإثارة للخوف والرعب بينهم.
المثال الثاني: طائفة المرجئة:
وتأتي هذه الطائفة في مقابل طائفة الخوارج، حيث تساهلت في الدين وأحكامه، فحصرت الإيمان في تصديق القلب، وزاد بعضهم قول اللسان أما الأعمال، والالتزام الظاهر بشرائع الإسلام فليس عندهم من الإيمان. ولا يخفى ما في هذا المعتقد الفاسد من خلل في أمن الناس وسلامتهم وذلك من جهتين:
الأولى: كون هذا المعتقد الفاسد مخالف لما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفي هذا اعتداء على أمن العقيدة وثوابتها وتعريض لعذاب النار المتوعد به الفرقة الضالة المفارقة لما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
الثانية: ما يتسبب فيه هذا المعتقد من نشر للفساد والمعاصي وذلك لفصل الأعمال عن الإيمان، وكون المعاصي لا تؤثر في الإيمان مما يؤدي إلى الجرأة على الفساد وبهذا تختل أمن المجتمعات، ويتعرض أمن الناس في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم للخطر. كما أن من آثار المذهب الارجائي إضعاف شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة الفتنة ولا يخفى ما في إضعاف هذه الشعيرة العظيمة من خلل في أمن المجتمعات، وفتح الباب لأهل الفساد بدون مدافعة ولا إنكار.
المثال الثالث: طائفة الصوفية:
الصوفية ليسوا على درجة واحدة، لأن منهم الزنادقة الباطنيون أهل الاتحاد والحلول والمشركون بالله عز وجل الشرك الأكبر، ومنهم المبتدعة الذين لم تصل بدعتهم إلى الخروج من الملة كأهل العبادات المبتدعة، والزهد المخالف لحقيقة التوكل على الله عز وجل فهؤلاء هم المعنيون في هذا المثال. أما الزنادقة منهم والمشركون بالله عز وجل، والباطنيون فإنهم يلحقون بالفئة الأولى من أعداء الأمن والدين من الكفرة والمنافقين.
وعداء المتصوفة المبتدعة من أهل القبلة يتمثل فيما يلي:
أولاً: الابتداع في الدين، والتعبد لله عز وجل بما لم يأذن به الله سبحانه إن هو إلا اعتداء على أمن الدين، والتشريع، وانحراف عما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخير الكلام كلام الله عز وجل وخير الهدي هدي رسوله صلى الله عليه وسلم .
ثانياً: إن ما يقوم عليه التصوف من الغلو في الزهد، وترك الدنيا، والانحراف في مفهوم التوكل على الله عز وجل وفعل الأسباب، والانحراف في مفهوم القضاء والقدر؛ كل ذلك ينشأ عنه انحراف في السلوك والممارسات والمواقف. ومن أخطرها ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى، والرضى بالأمر الواقع، وترك المجال لأهل الكفر والنفاق والفسوق والعصيان ليفسدوا في الأرض، ويعرضون أمن الناس بسبب هذا الفساد إلى الخطر سواء في دينهم أو أنفسهم أو أعراضهم أو أموالهم؛ كما أنه لا يخفى أن الأمر والنهي ومدافعة الفساد لمن أهم الأسباب في دفع عقوبات الله عز وجل عن المجتمعات في الدنيا والآخرة، وسبب رئيسي في تحقيق الأمن والاستقرار والطمأنينة في حياة الناس.
ثالثاً: فئة أهل الشهوات والفسق والمجون(/87)
وهؤلاء ليسوا من الكفار والمنافقين، وليسوا من المبتدعة المنتسبين إلى الفرق الضالة في المعتقد والأفكار؛ لكنهم من عصاة أهل السنة، ومن أهل الفسوق والمجون واللهو واللعب المتبعين للشهوات والأخلاق الرذيلة، وهم أيضاً ليسوا على درجة واحدة في السوء؛ فمنهم الماجن الفاسد في نفسه وبيته، ومنهم الداعي إلى الفساد الذي يساهم بماله وتفكيره وجهده في التصدر للفساد، واستخدام الوسائل المتاحة في ذلك وهؤلاء أشد جرماً من الفاسدين في أنفسهم فقط. ولا يخفى ما لأهل الفسق والمجون والشهوات من أثر خطير على أمنهم في أنفسهم، وعلى أمن الناس الذين يضلونهم وينشرون الفساد بينهم ، فكم من مستقيم على دينه ظل بسببهم، وكم من نفس تلفت أو لحقها أذى بسببهم، وكم من عقل اغتالته المسكرات والمخدرات بسببهم، وكم من عرض انتهك بسببهم، وكم من مال اعتدي عليه بسببهم. والمقصود أن أثر هذه الفئة ظاهر وجلي في تهديد أمن الناس في ضرورياتهم وحاجاتهم. وهم الذين يستخدمهم أعداء الدين من الكفرة والمنافقين في تمرير الفساد والخنا والرذيلة والفجور، حيث وافق فساد الكفرة ومخططاتهم الخبيثة هوى في نفوس هؤلاء الجهلة، وأهل الشهوات، ووافق حباً للدنيا في قلوبهم فأسهموا في تنفيذ مخططات الكفرة المفسدين في بلاد المسلمين. وهؤلاء هم الذين أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالأخذ على أيديهم حتى لا تغرق سفينة المجتمع بسببهم وذلك في قوله «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم ونجوا ونجو جميعاً) (33).
_______________
(1) ... في ظلال القرآن 1/240.
(2) ... في ظلال القرآن 2/632،631.
(3) ... في ظلال القرآن 5/3083.
(4) ... نفس المصدر 1/102.
(5) ... في ظلال القرآن 1/227، 228.
(6) ... في ظلال القرآن 1/108.
(7) ... مجلة البيان العدد (63).
(*) ومن أشهر المنافقين في واقعنا المعاصر : الرافضة (أحفاد ابن العلقمي)، والعلمانيون المستغربون، وزنادقة الصوفية الباطنيون، وأكثر الأنظمة التي تحكم في بلاد المسلمين.
(8) ... انظر: يسألونك عن الإرهاب ص53-57 (باختصار).
(9) ... انظر: يسألونك عن الإرهاب ص59-61 (باختصار).
(10) ... المصدر السابق، ص63،62.
(11) ... القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب، ص266-283 (باختصار). ومن أراد توثيق المقولات فليرجع إلى الكتاب.
(12) ... يسألونك عن الإرهاب ص63-80 (باختصار).
(13) ... وجميع النقولات موثقة في هذا الكتاب ، وقد آثرت تركها طلباً للإختصار فليرجع إليها من شاء.
(14) ... القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب، ص102-104.
(15) ... القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب، ص214-240 (بإختصار شديد) ومن أراد التوثق من النقولات فليرجع إليها في الكتاب المذكور.
(16) ... مجلة البيان العدد (82) ص60.
(17) ... مجلة البيان العدد (127) ص 56.
(18) ... انظر: في ظلال القرآن 1/438.
(19) ... مجلة البيان العدد (192) باختصار.
(20) ... مجلة البيان العدد (195).
(21) ... مجموع الفتاوى 25/131،130.
(22) ... مجلة البيان، عدد (160) للأستاذ خالد أبو الفتوح.
(23) ... مشاريع الاصلاح الأمريكي والحوار مع الإسلاميين ... الخطر القادم/ كمال حبيب ، المصدر: موقع مختصر الأخبار.
(24) ... موقع العصر.
(25) ... آفة الاستعجال للشيخ سفر ، ص29.
(26) ... مصطلح الوهابيين مصطلح حادث أراد محدثوه تشويه صورة المتمسكين بما كان عليه السلف وأهل السنة والجماعة من عقيدة وشريعة وأخلاق، وإلا فما جاء به الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى إنما هو في الكتاب والسنة وفهم الصحابة رضي الله عنهم، ولكن لأن أعداء الإسلام وأعداء السنة لا يستطيعون مواجهة القرآن والسنة مباشرة فقد اتجهوا إلى مواجهة الملتزمين بهما ووصفوهم بالوهابيين المتطرفين ليتوصلوا (إن استطاعوا) إلى هدم القرآن والسنة.
(27) ... موقع (WWW islamdaily net).
(28) ... مفكرة الإسلام www. Islammem O.CC 1/4/1426هـ.
(29) ... البخاري (5096) ، مسلم (2740).
(30) ... مسلم (2742).
(31) ... انظر: كتاب (عودة الحجاب) للدكتور محمد اسماعيل المقدم حفظه الله.
(32) ... رواه ابن ماجه (3992) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3526).
(33) ... البخاري (2493).
================
الخاتمة(/88)
الحمد لله الذي بنعتمه تتم الصالحات، والحمد لله الذي هدانا للإسلام والسنة – على ضعفنا وتقصيرنا- وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله عز وجل. والحمد لله الذي أنعم ويسر بكتابة هذه الرسالة في ضوء قوله تعالى: "فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" أسأله سبحانه وتعالى أن يرزقني فيها الإخلاص، وأن يكون ما جاء فيها موافقاً لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام . كما أسأله سبحانه أن يغفر لي ما كان فيها من الزلل والخلل.
ويبقى في ختام هذه الرسالة أن أشير إلى أهم الأفكار، والوقفات التي وردت فيها.
الوقفة الأولى: ذكرت في مقدمة الرسالة الدوافع، التي كانت سبباً في كتابة هذا الموضوع، وذكرت أن من أهمها كثرة الحديث في الآونة الأخيرة عن الأمن والسلام والإرهاب، وكيف حصل اللبس والتضليل في هذه المفاهيم فتلاعب بها الكفرة والمنافقون؛ فأردت في هذا الموضوع كشف هذا التلبيس، وتحرير هذه المصطلحات تحريراً شرعياً مبيناً في ذلك الوسائل التي يمكن أن يُحصل بها على الأمن، فذكرت أنه لا يمكن ذوق طعم الأمن والطمأنينة إلا في ظل الإسلام؛ وأن من يحول بين الناس وبين دين الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقاً ومعاملات لهو العدو الحقيقي للأمن والسلام.
الوقفة الثانية: ذكرت بعد ذلك بعض الآيات، والأحاديث الواردة في الأمن، وما يضاده من الخوف والترهيب والإرهاب. وأطلت الوقوف عند آية الأنعام التي هي عنوان هذه الرسالة وما قبلها وبعدها من الآيات، وذلك في محاجة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه وبيانه لهم بأن الجدير بالخوف والقلق والانزعاج هو الكافر المشرك. والجدير بالأمن والاهتداء هم أهل الإيمان الذين سلمهم الله من الظلم؛ وأنه بقدر ما يسلم العبد من الشرك والظلم بأنواعه يحصل له الأمن التام في الدنيا والآخرة . وبقدر ما عنده من الظلم ينقص أمنه بقدر ذلك، حتى إذا وصل الظلم إلى الشرك الأكبر حرم مطلق الأمن في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى عن محاجة إبراهيم لقومه: "وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" [ الأنعام: 82،81]. وقد سبق تفصيل القول حول هذه الآيات فليرجع إليه.
الوقفة الثالثة: تحدثت بعد ذلك عن مصادر الأمن وحصرتها في طاعة الله عز وجل وتوحيده، واجتناب محرماته ونواهيه من الشرك والفسوق والعصيان. وفصلت القول في أن هذا لا يوجد إلا بالالتزام بدين الله عز وجل الذي ارتضاه لعباده، ألا وهو دين الإسلام، الذي كله خير وصلاح وأمن وأمان لكل من التزم واستسلم له. وذكرت من ذلك أمثلة كثيرة مما أنزله الله عز وجل في كتابه، أو شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الأحكام والتشريعات التي تتضمن وتكفل الحياة الآمنة المطمئنة لكل من أخذ بها، وذكرت ذلك على مستوى الأمن النفسي عند الأفراد، وفي أمن الأسر والبيوت، وأمن المجتمعات، وأمن البشرية بعامة. وذكرت في أمن البشرية أن الجهاد في سبيل الله عز وجل إنما شرع لأمن البشرية التائهة التي يستعبدها حفنة من الطواغيت يضللونها، ويحولون بينها وبين الحق والأمن والسلام فيأتي الجهاد ليزيل هذه العقبات الشيطانية، ويكسر هذه الحواجز الطاغوتية لينزاح الباطل عن طريق الحق فيصل إلى الناس واضحاً جلياً لينعموا في ظلاله في الدنيا، ويفوزوا بالجنة في الآخرة دار السلام والأمان الدائمين السرمديين.
الوقفة الرابعة: بينت في المبحث السابق أيضاً المفهوم الشامل للأمن، وأنه أشمل من أمن الناس على دمائهم وأموالهم، بل إن أمن الدين والعقيدة والشريعة أهم من ذلك كله، وبينت أن الأمن بمفهومه الشامل يعني أمرين:-
الأول: في الدنيا وهو حماية الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بالمحافظة عليها، وحمايتها من المخاطر؛ ألا وهي حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وأن أي اعتداء على أمن هذه الضروريات هو اعتداء على الأمن. وكذلك حماية المجتمعات من عقوبة الله عز وجل لها على ما يظهر فيها من المنكرات على أيدي أعداء الأمن.
الثاني: السعي للحصول على الأمن الحقيقي الذي هو أمن الآخرة متمثلاً ذلك في أمن القبر وفي الأمن في دار السلام يوم القيامة وأن أي جهة تسعى لتفويت هذا الأمن على الناس فإنما هي العدو الحقيقي للأمن والسلام.(/89)
الوقفة الخامسة: ذكرت في ضوء الحديث عن المفهوم الشامل للأمن من هم الأعداء الحقيقيون لأمن الناس في الدنيا والآخرة، وفضحتهم وبينت أنهم أولئك الذين يحولون بين الناس وبين الالتزام بهذا الدين سواء بالشبهات، أو الشهوات وذلك بالاعتداء على أمن الناس في ضرورياتهم الخمس وهم بذلك يعرضون الناس للخوف والعذاب في الدنيا والآخرة، وذكرت أنهم ثلاث فئات:
الأولى: فئة الكفار والمنافقين
الثانية: فئة أهل البدع والشبهات
الثالثة: فئة أهل الشهوات والفسوق.
وبعد:
فما كان في هذه الرسالة من حق وصواب فمن الله عز وجل، فهو المان به وحده. وما كان فيه من زلل وخطأ فهو مني ومن الشيطان. وأستغفر الله منه. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
ضحى الخميس 8/6/1426هـ(/90)
فإنهم يألمون
قافلة الداعيات - (ج 93 / ص 1)
كتبه : الشيخ محمد الدويش
المحتويات
مقدمة
أولا : نماذج في السفر والجهد
1. عبدالله بن سبأ
2. دعاة الباطنية
3. اليهود ودولة إسرائيل
4. المنصرون
5. طلاب الدنيا
6. المغتربون
ثانياً : التضحية بالوقت
ثالثاً: الإنفاق وبذل الأموال
رابعاً: الأذى والمخاطر
خامساً: تحمل الفشل والإحباط
· ومن الشباب من يألمون
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد:
فلا شك أيها الأخوة أنكم تدركون أن هذا العنوان جزء من آية كريمة يقول فيها تبارك وتعالى: [ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون].
إن حمل هذا الدين والقيام بأمانة تبليغه للبشرية أجمع، لأولئك الذين تسمّوا به وقصروا في الالتزام به والوفاء بحقه، أو أولئك الذين لمّا يدخلوا في هذا الدين بعد، إن حمل هذا الدين والقيام بأعبائه أمر صعب شاق على النفوس، وإن القيام بهذا الجهد لا يمكن أبداً أن يكافئه أي جهد في دنيا الناس.
ومن هنا كان هذا الدين يحتاج في حمله إلى نفوس أبيّة، إلى نفوس جادة، يحتاج الحاملون لهذا الدين والقائمون به إلى مزيد من رفع الهمة ، وإلى مزيد من الجدية حتى يكونوا مؤهلين للقيام بهذا الدين ولتحمّل أعباء نشره ومواجهة ما يواجههم في هذا الطريق، ولا شك أن هذا القرآن وهو يربي هذه الأمة ، يربيها على تقوى الله عز وجل وتوحيده وعبادته، ويربيها على الخلق والسلوك ، ويربيها على حمل أعباء هذا الدين والقيام بهذه الأمانة التي ائتمن الله عز وجل هذه الأمة عليها، لا شك أن هذا القرآن يخاطب القلوب البشرية ويخاطب الناس بكافة وسائل الخطاب وأساليبه، وليس أعظم أثراً لدى الناس من النماذج الحية التي تُعرض أمامهم؛ فالحديث النظري يحفز الكثير من الناس، لكن الصورة الحية التي يرونها بأعينهم ، أو يقرؤون عنها فتتخيلها أذهانهم وكأنهم يرونها رأي العين ، لاشك أن هذه الصورة تترك أعظم الأثر لدى الناس، إنك حين تسمع حديثاً عن رجل أصيب بحادث هشم عظامه، وأصاب جسمه بآلام مبرّحة، يترك ذلك أثراً عظيماً في نفسك ، لكنه لا يصل إلى درجة رؤيتك هذا الرجل أمامك وهو يتشحّط بدمائه ، وربما استطاع كاتب مبدع مُجيد أن يصور لك هذا المشهد وكأنك تراه بأم عينيك، فيترك أمام ناظريك صورة ربما لا تبتعد عن تلك الصورة التي رايتها شاخصة ببصرك، ولهذا يؤكد القرآن على هذه القضية فيعرض القدوات والنماذج الحية أمام هذه الأمة.
يخبر الله تبارك وتعالى أن الابتلاء سنة لمن دخل في طريق الإيمان :[أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون]، ثم يعرض القرآن أمام هؤلاء نموذجاً حيًّا من حياة السابقين الماضين، ليجعل هذه القضية شاخصة أمام أعينهم، وأن الابتلاء ليس أمراً خاصًّا بهم، قال تبارك وتعالى: [ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين] ، إذاً فالفتنة على طريق الإيمان ليست قضية خاصة بهؤلاء المخاطبين بهذا القرآن ، وليست قضية خاصة بهذه الأمة، إنما هي سنة ماضية.
وفي القرآن الكريم حديث عن سنة لا تتخلف في قيام هذه الدعوات وانتصارها ، يقول تبارك وتعالى : [أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب]، أتظنون أنكم تدخلون الجنة؟ أتظنون أن دعواكم تصدق بالإيمان والقيام بهذا الدين ولمّا يصيبكم ما أصاب من كان قبلكم ؟ لقد مستهم البأساء والضراء حتى يتساءل الرسول وهو أعلم الناس بوعد الله ، وحتى يتساءل المؤمنون معه [متى نصر الله]؟ وهو سؤال يحمل في طياته عظم ما كان يعانيه هؤلاء من البلاء والمضايقة.
وفي آية أخرى يبين الله عز وجل طبيعة هذا الدين، وطبيعة هذا النصر والتمكين لهذه الأمة [حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا فنجّي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين] ، إذاً فالنصر والتمكين للدين إنما يأتي حين يستيئس الرسل، وحين يظن أقوامهم المكذبون أن هؤلاء الرسل قد كُذبوا ما وُعدوا.
وفي غزوة أحد حين أصاب المؤمنين ما أصابهم، فعادوا من تلك الغزوة وما من بيت إلا وفيه قتيل أوجريح، وقد افتقدوا سبعين من خيارهم ومن صلحائهم وكانوا يظنون أنها ساعة وتأتي الدولة لهم.. يقول تبارك وتعالى مخبراً لهم أن هذه السنة سنة الماضين من قبل [وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين] .(/1)
فسنة هذه الأمة هي سنة الأولين السابقين سيصيبهم ما أصابهم، وما تلبث هذه النماذج حيث تعرض على المؤمنين الصادقين الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته ويتدبرون معانيه، ما تلبث هذه النماذج أن تعيد الأمل في تلك النفوس التي ربما أصابها ما أصابها من اليأس والقنوط ، ما تلبث هذه النماذج أن تعيد الحماس وأن ترفع الهمة لتلك النفوس التي ربما أصابها الضعف والفتور والقنوط.
وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم نرى نماذج من ذلك ، جاء إليه أحد أصحابه وهو خباب - رضي الله عنه - يشتكي إليه ما أصابه من المشركين وقال له: ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فغضب صلى الله عليه وسلم لأنه قرأ في حديث خباب الاستعجال واستبطاء وعد الله عز وجل؛ فقعد صلى الله عليه وسلم وقال:"لقد كان من كان قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيُشق باثنين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون". إنها سنة الماضين من قبلكم، ويمضى خباب - رضي الله عنه - وقد سمع هذا التثبيت والتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم ، يمضي بنفس صادقة جادة وعزيمة أبيّة يستمد من هذه النماذج التي عرضها له صلى الله عليه وسلم روحاً تدفعه إلى مزيد من الصبر على الابتلاء والصبر على الأذى والمضايقة، وتدفعه إلى الشعور بالأمل والاستبشار وإلى أن يطرح اليأس عنه جانباً، وأن يعلم أنه إن يصيبه ما أصابه فقد أصاب السابقين قبله ما هو فوق ذلك بكثير.
ويحكي صلى الله عليه وسلم أيضاً نموذجاً آخر فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: كأني انظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء آذاه قومه وهو يقول:"اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
إن المبادئ ليست رخيصة، وإن إصلاح المجتمعات لا يمكن أن يتم بجهود مبعثرة ونفوس هينة كسولة، إنه يحتاج إلى أن يُدفع لذلك ثمن باهظ، يحتاج إلى أن يكون أشرفُ خلق الله عز وجل يتعرضون لمثل هذا الأمر حتى يمسح أحدهم الدم عن وجهه وهو يقول : "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
بل أخبر الله عز وجل عن بعض أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم أنهم كانوا يُقتلون بغير حق؛ فحكى القرآن كثيراً عن بني إسرائيل أنهم يقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس.
إن عرض هذه النماذج الحية لها أثر عظيم في نفوس المؤمنين الصادقين الجادين، والذين يرون أن هذه قدوات أمامهم، ولهذا قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم-وقد حكى سير طائفة من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم-: [أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين]، وهي ليست دعوة خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم ، بل هو خطاب له ولأصحابه وللأمة أجمع أن يقتدوا بهدي أولئك الأنبياء.
وفي القرآن نماذج من أخبار أتباع الأنبياء الذين ساروا على طريقهم، واحتملوا في سبيل هذا الدين المشاق والمكاره، كقصة أهل الكهف الذين اختاروا أن يعيشوا في كهف خشن بعيد عن الناس، وأصحاب الأخدود الذين اختاروا أن يقذفوا في نار الدنيا، وكان هذا أحب إليهم من أن يعودوا إلى الكفر بعد أن أنقذهم الله منه؛ فكانوا أهلاً لأن يذوقوا حلاوة الإيمان ولذة الإيمان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يُكره أن يقذف في النار".
إن هذه النماذج وحدها كافية في دفع أصحاب الهمم الضعيفة وفي دفع الكسالى إلى أن يدفعوا عنهم الكسل والخمول، وأن يأخذوا بالجد والعزيمة في الدعوة لدين الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر الخير في دنيا الناس ، لكن القرآن يعرض أمام المسلمين نموذجاً آخر: ذلكم هو النموذج المنحرف، النموذج الضال، لقد كان المسلمون ربما يشعرون بنوع من اليأس والألم ويصيبهم الإحباط وهم يواجهون أعداء الله عز وجل، فيثير فيهم القرآن الكريم النظر إلى جانب آخر ربما كان له دور عظيم في إحياء نفوسهم، يقول تبارك وتعالى : [ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون] لا يصيبكم الوهن ولا الضعف وأنتم تبتغون القوم في الجهاد والدعوة ، وأن تبذلوا ما تبذلون، فإن كنتم تألمون وتدفعون الثمن فأولئك يألمون كما تألمون، إن كان يسقط منكم شهداء فأولئك يسقط منهم قتلى، إن كنتم تبذلون الوقت والجهد فأولئك يبذلون كما تبذلون.
ويقول تبارك وتعالى في آية أخرى : [إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء] .(/2)
إذن فالقضية ليست حكراً على المؤمنين، ولا على الذين يحملون الدعوة الصادقة، إنما هي سنة الله عز وجل في كل من يريد أن يحمل مبدأ يدافع عنه ويضحي في سبيله ، فهو ثمن لابد أن يدفعه كل من يريد أن ينشر مبدأً سواءً أكان حقّاً أم باطلاً، هو ثمن لابد أن يدفعه كل من يريد أن يدعو إلى عقيدة سواءً أكانت عقيدة صحيحة أم كانت عقيدة ضالة ، لاشك أن الذي يريد هذا المطلب النفيس الغالي لابد أن يدفع الثمن، ومن ثَمّ كان المؤمنون الصادقون الداعون إلى الله عز وجل وهم ينشرون دعوة الحق والتي لا حَقّ سواها، وهم ينشرون هذا المبدأ الصادق والذي تهون دونه سائر المبادئ كان هؤلاء بحاجة إلى عرض هذا النموذج، فلئن كان طريقكم شاقاً فطريق الآخرين كذلك، وأنتم تزيدون عليهم أنكم أصحاب هدف سام ونية صادقة [وترجون من الله مالايرجون] أنتم تشعرون أن كل ما تبذلونه ستلقون جزاءه عند الله عز وجل في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، أما هؤلاء فهم حطب جهنم.
فإلى نماذج مما يبذله أهل الدنيا سواءً أكانوا من حطب جهنم: أهل المذاهب الضالة الذين يدعون إلى سبيل الشيطان، أو من أولئك الذين يريدون تحصيل شهوات الدنيا وحطامها وثمنها العاجل، إنها نماذج من الذين يكدحون ويعملون في هذه الدنيا وهم لا يعملون لدين الله عز وجل، وإن اختلفت نواياهم وتباينت مواقفهم، ما بين داعٍ إلى سبيل الشيطان، وما بين رجل يبتغي الدنيا ويبتغي الشهوات.
إننا نسمع الكثير عن بذل المشقة والسفر وسائر ألوان المشاق في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، وربما تهتز نفوسنا شوقاً إلى مثل هذه الأعمال والجهود، ويتمنى كل واحد منا أن يبذل جهداً في الدعوة إلى دين الله عز وجل، ولو دعاه ذلك إلى تحمل المشقة وتحمل الصعاب وتحمل السفر، لكن حين تريد ذلك فلا تظن أنك وحدك تفعل ذلك، بل هاهم طلاب الدنيا وأرباب الدنيا يدفعون الثمن الباهظ لذلك ومن هذه النماذج:
أولا : نماذج في السفر والجهد 1. عبدالله بن سبأ
لاشك أنكم تعلمون سيرته، وأنه رجل يهودي تظاهر بالدخول في دين الإسلام حتى يهدم فيه من الداخل، لقد سافر هذا الرجل وتردد بين الأمصار، من مصر إلى الكوفة إلى اليمن إلى هنا وهناك، كل هذا الأمر لأجل أن يجمع الأحزاب ويؤلبهم على هدم دولة الإسلام وعلى إثارة الفتن والقلاقل على خليفة المسلمين عثمان - رضي الله عنه -، وبذل في ذلك ما بذل من الجهد والسفر وبذل الأموال الطائلة حتى يدعو إلى هذا المذهب الضال ، وحتى يحقق ما يريد، واستجاب له طائفة من الرعاع، وبذلوا نفوسهم في معارك أثاروها، وما موقعة الجمل وموقعة صفّين ومقتل عمر - رضي الله عنه - ومقتل عثمان ومقتل علي - رضي الله عنهم - أجمعين وتلك الفتن التي ذهب ضحيتها خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم… ما تلك الفتن أجمع إلا حصاد جهد بذله أولئك من السهر والسفر والمشقة.
2. دعاة الباطنية
حين نشأ هؤلاء الدعاة وأول ما بدأ أمرهم أرسلوا رسلهم ودعاتهم وممن تحمل مشقة السفر والغربة في ذلك داعيتان من دعاة الباطنية وهما: علي بن الفضل والمنصور بن حسن بن زادان… واللذان ذهبا إلى بلاد اليمن وتظاهرا بالصلاح والنسك والعبادة حتى صدقهم الناس واتبعوهم ثم أعلنوا دعوتهم الباطلة الضالة وقام داعيتهم على المنبر في اليمن هناك قائلاً :
خذ السيف يا هذه واضرب *** وغني حنانيك لي واطربي
تولى نبي بني هاشمٍ *** وجاء نبي بني عربِ
وذكر قصيدته التي هي مليئة بالكفر والضلال والدعوة لهؤلاء الباطنيين ونحلتهم، وذكر فيها إباحة الخمر والنساء :
وما الخمر إلا كماء السماء *** حلال فقد سن من مذهبِ
ولقد بذل أولئك مشقة السفر والغربة والتنكّب، وجمعوا الأموال في سبيل الدعوة إلى تلك النِحلة الضالة الباطلة ، ثم انتقلت دعوتهم بعد ذلك إلى بلاد المغرب وبذلوا فيها ما بذلوا ، وكانوا يتخفون ويصيبهم ما أصابهم حتى استطاعوا أن يقيموا دولتهم المشهورة بدولة العبيديين، وذهبوا بعد ذلك إلى قلعة آلموت والذي كان زعيمهم في ذلك الحسن بن الصبّاح والذي أنشأ فرقة الحشاشين.
أتظنون أن أولئك الضالين استطاعوا أن يدعوا بدعوتهم تلك ويقيموا دولتهم وهم قاعدون كسالى؟ أم أنهم تحملوا الغربة والمشقة والسفر وواجهوا ما واجهوا في سبيل الشيطان؟
3. اليهود ودولة إسرائيل(/3)
وها هم اليهود وقد أقاموا دولتهم، من أين أتى هؤلاء اليهود؟ إنهم شُذَّاذ الآفاق، لقد جاءوا من دول عدة ، لا تجمعهم لغة، ولا قومية، ولا تركيبة اجتماعية، لا يجمعهم إلا شيء واحد، هو أنهم يدينون باليهودية فبذلوا الجهد في تجميع شتاتهم ولَمِّ شملهم، وبذلوا الأموال حتى جاؤوا إلى تلك الأرض المقدسة وبقوا فيها، وتحملوا في سبيل ذلك ما تحملوا، حتى استطاعوا أن يحققوا أهدافهم، وهاهو أحد طغاتهم الراحلين وهو موشيه دَيّان الذي كان وزيراً في الدولة الإسرائيلية، وكان رجلها الأول في وقت من الأوقات يحكي في مذكراته كيف أنه كان يصرف الأوقات الطويلة حتى يستطيع أن يقابل أحد الزعماء في لقاء غير معلن، فيغير وجهه بالمساحيق ويزيل تلك اللفافة التي كانت على عينه، ثم يسير في رحلة طويلة إلى دولة أوروبية ثم يسير بعد ذلك في طائرة أخرى وقد أخذه الإعياء وقد سهر لمدة يومين، فيستلقي في الطائرة ويلتحف بلحاف كان معه، ثم يذهب بعد ذلك ويبقى لمدة يومين وينهي مهمته ويعود إلى منزله، ولا يجد وقتاً ليتناول الطعام فيصلح طعاماً عاجلاً بنفسه، وهي مواقف سطرها في مذكراته والوقت يقصر ويضيق عن ذكر نماذج مما يبذله هذا الرجل.
إنه يعلم ضلال مذهبه، وأنه من حطب جهنم، ومع ذلك يبذل كل ما يبذل فيتحمل السفر والمشاق والمخاطر والسهر وشظف العيش مع أنه من أعظم المسؤولين في تلك الدولة، يعيش عيشة الوزراء والعظماء.
أيكون مبدؤه أغلى من مبادئ المؤمنين الصادقين الدعاة إلى توحيد الله تبارك وتعالى؟
4. المنصرون
يحكي أحد دعاة الإسلام أنه رأى منصرة نصرانية عاشت في قرية نائية في النيجر مدة خمس وعشرين سنة ، لقد اعتادت هذه المرأة أن تعيش حياة الترف والرفاهية فهي امرأة أوروبية، ومع ذلك اختارت أن تعيش في بلاد المرض والجهل والتخلف سنوات طويلة لتدعو إلى مبدئها الضال، ومع ذلك فهي تعاني ما تعاني من قلة إقبال الناس على الاستماع لخرافاتها وخزعبلاتها كما سيأتي.
5. طلاب الدنيا
حين نترك هؤلاء الدعاة إلى سبيل الشيطان لنأخذ نموذجاً آخر -ربما كانوا من المسلمين - لكنهم ممن كانوا يجتهدون في سبيل تحصيل الدنيا -وما نحكيه ليس بالضرورة ذماً لهم ولا عيباً لهم- إنهم يبذلون جهداً مضنياً في سبيل تحصيل متاع الدنيا الزائل.
ومن هؤلاء على سبيل المثال: سائقو الشاحنات، يسير أحدهم مدة أسبوع في الطريق وهو يقود شاحنته التي تسير ببطء كما تشاهدون ذلك على الطرق، وحين يشتد به الحر يوقف شاحنته ويضطجع تحتها والرياح تهيل عليه التراب والغبار ، يبذل المشقة والجهد ويأكل طعام المسافر ويتناول شراب المسافر، ويغيب عن أهله وعن أولاده أسابيع طويلة، ويتحمل مشقة السفر ، كل ذلك من أجل أن يحصل على قوت يومه وليلته، ومثل هؤلاء أصحاب سيارات الأجرة.
أتكون الدنيا عند هؤلاء أغلى من العقيدة ومن الدين؟ فإذا كان هؤلاء يتحملون السفر والسهر والمشقة ويصبر أحدهم عن لذائذ الطعام التي اعتاد أن يأكلها كل يوم، ويفارق أحدهم أهله وزوجته وأولاده أسابيع وربما أشهر، إذا كان هؤلاء يفعلون ما يفعلون في سبيل تحصيل متاع الدنيا فما بالنا نحن؟
6. المغتربون
المغتربون الذين نراهم الآن في بلادنا، يسافر أحدهم إلى بلد لغتها غير لغته التي يعرف، وطبائع أهلها غير تلك الطباع التي يألفها هناك، ويتحمل من إيذاء الناس -وإيذاء المسلمين للأسف- وإهانتهم وازدرائهم، ويعمل الأوقات الطويلة ويبذل الجهد في سبيل تحصيل مبالغ يسيرة؛ هذه المبالغ يقترّ على نفسه فيها، ويأكل فيها الطعام الزهيد والطعام الرخيص ليوفر شيئاً من المال ليرسله إلى أهله وزوجته وأولاده، أو يوفر شيئاً من المال لأجل أن يحصل في ذلك الزواج ، أو أن يتيسر له أن يؤدي فريضة الحج، إن هذا الثمن الباهظ الذي يدفعه الرجل المغترب إنما هو لأجل تحصيل الدنيا وقوت يومه، وليس معيباً في ذلك؛ فالمرء حين يحصل الرزق الذي يعفه عن الحرام ويعفه عن مسألة الناس هو في طاعة وعبادة.
إن الدعوة لدين الله عز وجل أغلى واللهِ عند أصحابها من هذا الحطام الفاني عند أمثال هؤلاء الذين يبذلون فيه ما يبذلون، فإن كانوا يألمون فنحن أولى أن نألم، وإن كان يمسهم القرح فنحن أولى أن يمسنا القرح، ونحن نعلم أن ساعة سهر نقضيها في سبيل الله مدخرة لنا عند الله عز وجل، ونحن نعلم أن تعباً ونصباً نبذله في سبيل الله عز وجل لن يضيع وسوف نلقاه عند الله تبارك وتعالى .
ثانياً : التضحية بالوقت
وكما أن هؤلاء يتعبون ويسافرون، فهم يضحون بأوقاتهم، ويبذلونها في سبيل تحقيق مقاصدهم.
ولنأخذ على ذلك مثالاً واحداً من طلاب الدنيا:(/4)
صاحب الوظيفتين -كما يقال - يعمل في الصباح من الساعة الثامنة إلى الساعة الثانية والنصف ، فيعود إلى بيته مجهداً متعباً يتبقى له دقائق يتناول فيها الطعام والراحة، ثم ينصرف بعد صلاة العصر مباشرة إلى وظيفة أخرى أياً كانت هذه الوظيفة، ويعود بعد ذلك بعد أن مضت ساعات طويلة من العِشاء، ولا يدري ما يتبقى له من الوقت أيصرفه في الراحة؟ أم يصرفه في قضاء حاجات أهله وأولاده؟
ومن هؤلاء: العاملون في المحلات التجارية، فأحدهم في متجره بعد صلاة العصر وبعد صلاة المغرب وبعد صلاة العشاء ثم يعود بعد ذلك، وما أن يعلو النهار حتى يذهب إلى محله، وهكذا حاله وشأنه وديدنه.
ولو قُدّر لك أن تذهب بعد صلاة الفجر إلى سوق الماشية أو إلى سوق الخضار لرأيت أولئك الذين قد سبقوك، وربما جاء أحدهم من مسافة بعيدة وافترش الرصيف هناك، ونام ينتظر أن يدرك البكور ويدرك السوق في أوله، وأنت حيث يطلب منك التبكير إلى مجلس علم أو التبكير إلى بذل جهد وعمل تحتسبه عند الله عز وجل ، ربما استكثرت ذلك وظننت أن ذلك الجهد الذي تبذله جهد كثير مضنٍ ، فلو رأيت ما يبذله هؤلاء علمت أنهم يألمون أشد مما تألم ويصيبهم القرح أشد مما يصيبك وأنت ترجو من الله عز وجل أكثر مما يرجو هؤلاء، فأنت أولى بالبذل والتضحية.
ثالثاً: الإنفاق وبذل الأموال
في تقرير نشر عام 1980م (أي قبل خمس عشرة سنة، وقد تضاعفت الأرقام الآن): يقول إن عدد المنصرين يبلغ: 220 ألفاً، وفي إفريقيا وحدها 119 ألف منصِّر ومنصرة ينفقون بليوني دولار في السنة، وفي إندونيسيا ما لا يقل عن 40 ألف منصِّر كاثوليكي وبروتستانتي، وفي جزيرة بورنو وهي جزيرة إسلامية داخل إندونيسيا أكثر 1000 منصِّر ، وفي عام ثلاثة عشر وأربعمائة وألف للهجرة بلغت ميزانية التنصير 181 مليار دولار، أي ما يعادل 680 مليار ريال سعودي ، وهذا الرقم يوازي ميزانية خمس دول نفطية، هذه المبالغ كلها تصرف في سبيل التنصير، وقد نشرت الندوة العالمية للشباب الإسلامي نشرة عن جهود المنصرين جاء فيها: أن عدد المنظمات التنصيرية في العالم 42580 منظمة، وعدد المعاهد التنصيرية يزيد على 98720 معهد، وعدد المنصرين المتطوعين للعمل خارج إطار المجتمع النصراني أكثر من 273770 منصر أي ربع مليون منصر، هؤلاء هم المنصرون المتفرغون الذين يعملون خارج إطار المجتمع النصراني ، أضف إلى ذلك الذين يعملون في مجتمعات النصرانية، أضف إلى ذلك العديد من المنصرين غير المتفرغين، وعدد الكتب المؤلفة لأغراض التنصير 22100 كتاب، وعدد النشرات والمجلات الدورية المنتظمة 2270 نشرة ومجلة تُطبع منها ملايين النسخ، وعدد المحطات التنصيرية يزيد على 1900 محطة، وذكرت النشرة أن مجموع التبرعات التي حصل عليها المنصرون لعام واحد بلغ 151 مليار دولار.
إنها جهود هائلة من الطاقات البشرية والطاقات المادية، والتي تنفق في سبيل التنصير، أبعد ذلك كله يسترخص المسلمون ما يبذلونه في سبيل نصرة مبادئهم ودينهم؟
رابعاً: الأذى والمخاطر
ربما يشعر الذين يقومون بالدعوة لهذا الدين أنهم يتحملون الأذى والمخاطر، وهو شأن ليس خاصاً بالدعاة إلى دين الله عز وجل وحده، بل هو شأن السابقين كلهم كما قال تبارك وتعالى : [إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله] ، ها هو عبدالله بن سبأ وأصحابه تعرضوا لما تعرضوا له، فمنهم من قتل، وطوائف منهم حرّقهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما غلو فيه ووافقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلهم لكنهم خالفوه في طريقة قتلهم، هاهم أولئك بذلوا نفوسهم، وتحملوا التحريق والأذى في سبيل دعوتهم.
ولو قدر لك أن تقرأ عن سيرة بعض الطوائف الضالة ومنها على سبيل المثال طائفة نشأت قريباً وهي البابية ونشأت عنها البهائية، لو قدر لك أن تقرأ تلك المخاطر والأذى الذي تحمله زعيمهم الباب حتى سجن مرات عدة، وحتى أعدم هناك في إيران وما بذلته داعيتهم الكبيرة المسماة بقرة العين والتي يلقبونها بالطاهرة حيث سافرت من إيران، وسافرت إلى العتبات المقدسة كما يسمونها، وبذلت ما بذلت وتحملت المضايقة والأذى والمطاردة من أهلها ، وما بذله خلف الباب البهاء وصاحبه حتى أوذوا وسُجنوا وطردوا من إيران، ثم ذهبوا إلى العراق وطردوا من هناك حتى ذهب أحدهم إلى قبرص والآخر إلى عكا، لقد دفعوا ثمناً باهظاً وتحملوا أذى ومخاطر في سبيل نشر مبدئهم الضال.(/5)
وما يتحمله تجار المخدرات ومروجوها، إن كل هؤلاء يعلم الواحد منهم وهو يدخل هذا الطريق أنه يعرض حياته للخطر، ويعيش حياته كلها وقد سيطر عليه القلق، وهو ينتظر أن يقع في فخ أولئك الذين يريدون أن يصطادوه بالجرم المشهود، ومع كل ما يبذل في مواجهة أولئك المجرمين العتاة فإن هذا لم يصدهم عن جرائمهم، وهم يعلمون أنهم إنما يسعون لدمار البشرية، وهم يعلمون أنه لا يوجد عاقل في الدنيا يقر هؤلاء على فسادهم وجرمهم وضلالهم، ومع ذلك يتحملون اللأواء في سبيل تحصيل حطام الدنيا، أو ربما في سبيل تحقيق أهدافهم من إفساد المجتمعات ، ويدفعون الثمن الباهظ.
وانظروا إلى ما يتعرض إليه المنصرون من المخاطر … منذ عام 1965م إلى عام 1980م أي خلال خمسة عشر عاماً قُتل في مجاهل إفريقيا 218 منصراً كاثوليكيًّا ، و139 منصراً بروتستانتياً أي معدل منصرين كل شهر، ومع ذلك يصر هؤلاء وهم يقدمون كل شهر اثنين من المنصرين الذين تعبوا في تعليمهم وتدريبهم ، يصرون على نشر باطلهم ومذهبهم.
وفي كولومبيا وحدها قتل 126 منصراً خلال عشر سنوات، وفي نفس الوقت أغلقت الحكومة الكولومبية 279 مدرسة و60 كنيسة بروتستانتية، وأعدمت حكومة نيكاراجوا 6 من الرهبان المنصرين الكاثوليك عشية زيارة الباب لأمريكا الوسطى، إذن فهؤلاء الذين الآن يتربعون على عرش الدعاة إلى المبادئ في العالم كله، والذين يُتَحدث عنهم من خلال أرقام فلكية، وأرقام قياسية هاهم يتحملون المرض والمصائب والقتل والمضايقة والأذى في سبيل نشر دعوتهم ومبادئهم الضالة.
خامساً: تحمل الفشل والإحباط
يقول البعض إنني أعمل وأبذل فأواجه مواقف من الإحباط والفشل ،والإحباط والفشل ليسا وقفاً عليكم وحدكم، بل أنتم وحدكم الذين لا تعرفون الفشل لأن جهدكم حين تضيع ثمرته العاجلة وحين لا يستجاب لأحدكم فأجره مدخر عند الله تبارك وتعالى، ولا شك أن كلاًّ منا يريد أن يرى ثمرة دعوته ونتاجها عاجلاً ، لكنه حين لا يرى ذلك فهذا لا يعني الفشل ، ولا يعني الإحباط فأجره مدخر عند الله تبارك وتعالى ، أما غيركم فيعاني من ذلك أكثر مما تعانون.
لقد عرضنا جانباً مذهلاً من جهود المنصرين، وهم من أكثر الناس إحباطاً، في تقرير قدمه أحدهم كان موضوعه (مقارنة بين وضع الإسلام والنصرانية في شمال إفريقيا) بعد أن قدم هذا التقرير جاءت تعقيبات عليه منها : يقول أحدهم : قرأت ذلك والأسف يملك نفسي، ماذا كان يفعل الفرنسيون والإيطاليون عندما كانوا هناك … والثاني يقول : إحصائيات مدمرة . والثالث يقول : إن الصورة التي رسمها الأب لفنكستون للنصرانية في شمال إفريقيا هي صورة كئيبة بالتأكيد … وفي دراسة أخرى في مقارنة بين وضع النصرانية والإسلام في جنوب شرق آسيا … يقول أولئك أنهم خلال خمس سنوات في تايلند استطاعوا أن ينصروا 28 من المسلمين فقط - خلال خمس سنوات - وبعد ذلك رجع منهم اثنان إلى الإسلام … بقي أن تعلموا أن كل هؤلاء الذين نصّروا كانوا مصابين بمرض الجذام وكان دخولهم في النصرانية إنما هو لا يعدو أن يكون ثمناً لتحصيل هذا العلاج.
والمثال الثاني: الإحباط والفشل الذي يعاني منه أصحاب الشهوات، إنهم يعانون حتى يحصلوا شهواتهم من الأذى والجحيم داخل أنفسهم. كما قال تبارك وتعالى : [فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم] ، إن هؤلاء الذين يسعون إلى الشهوات يدفعون ثمناً باهظاً، ويعيشون حياة من القلق والمصائب لا تساوي بحال ما بذلوه في سبيل تحصيل هذه الشهوات، إضافة إلى ما يصيبهم من الإحباط وما يفوتهم مما كانوا يسعون إليه، أما أنت فأنت الوحيد الذي ليس في طريقك فشل؛ لأنك مهما دعوت ولم يستجب لك فأجرك مدخر عند الله تبارك وتعالى ومنزلتك محفوظة عند الله عز وجل ، أما أولئك فهم إنما يريدون سبيل الشيطان، فإن حصّلوا كان وبالاً عليهم وإن لم يحصّلوا كان مزيداً من الوبال والجهد والنكد يدخرونه رصيداً مع ما يلقونه عند الله تبارك وتعالى.
ومن الشباب من يألمون
ربما تطرحون سؤالاً مفاده: هاأنت تتحدث حديثاً ربما يعني فئة أعلى من قدرنا، فماذا عنا نحن الشباب ؟ ولهذا أحتاج حتى أعطيكم صورة قريبة أن أنقلكم إلى صورة تعيشونها في واقعكم، وترونها صباح مساء، لا يعدو دوري هنا أن أستعيد شريط الذكريات لكم، إنكم ترون طائفة من أقرانكم وأترابكم من أصحاب الشهوات، الذين يشعر أحدهم أن تحصيله لشهوته يفرض عليه أن يتعرف على مزيد من الناس وهو يعلم مغبة هذا الأمر وهذا الدور الذي يقوم به، فتراه يتحايل كثيراً في افتعال الموقف الذي يتيح له الفرصة في اللقاء مع فلان أو فلانة من الناس ليربط معه علاقة محرمة لتحصيل شهوة زائلة، ويدفع في ذلك ثمناً باهظاً من وقته، وربما من ماله لأجل أن يحصل على فرصة للحديث معه والتعرف عليه، ثم يعرض نفسه لمخاطر مع ولي أمره الشاب أو الفتاة، أو مع إدارة المدرسة، أو مع رجال الحسبة أو الأمن.(/6)
إن هذا الشاب الذي يبذل هذا الجهد المضني والطويل في التعرف على صاحبه ولا تقف دونه الحواجز والعوائق يدرك أنه ربما تعرض لمخاطر وربما دفع الثمن باهظاً، إن ذلك الشاب الذي يحتال مثلاً حتى يحصل على رقم هاتفي لفتاة تشاركه هم الفساد والسوء ويحصل عليه بعد تجارب عدة ويقضي طويلاً في الحديث معها ثم يقضي وقتاً في اللقاء معها خارج المنزل وهو لقاء محفوف بالكثير من المخاطر، إنه يدفع ثمناً باهظاً ويبذل جهداً مضنياً في سبيل تحقيق هذه الشهوة واللذة المحرمة، وهو يعلم أن طريقه محفوف بالمخاطر ومحفوف بالمشكلات.
إنهم يألمون كما تألمون، ويصيبهم القرح كما يصيبكم القرح، لكنكم ترجون من الله ما لا يرجون.
شتان بين ما يطلبه الشاب المتدين ويرجوه وهو يريد أن يقيم صلة وعلاقة مع فلان من الناس ليسدي له كلمة صادقة أو ينهاه عن رذيلة رآه عليها، ولأجل أن يستنقذ صاحبه وأخاه من براثن الشهوة والرذيلة، أو بين ما تبذله الفتاة لأجل أن تنقذ أختها، شتان بين ما يبذله هؤلاء وبين مايبذله أولئك الضالون التائهون.
هذه نماذج قصدت بها أن أدفع همتنا وهمتكم جميعاً في سبيل العمل والدعوة لهذا الدين ، وليس بالضرورة أن نتطلع إلى مثل تلك النماذج وأن نبذل كما يبذل هؤلاء إنما يبذل كلٌّ منا في موقعه ، وفي مكانه، وحيثما يشعر أنه بحاجة إلى أن يبذل الجهد، وأن يتحمل في سبيل الدعوة لدين الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا نستكثر أمراً نبذله في سبيل الله عز وجل، وأن نسترخص ونستهين بكل ما نبذله، فإذا كان هؤلاء يبذلون مع أنهم على الباطل، فنحن أولى أن نبذل ونحن على الحق، أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم ويجعلنا وإياكم جميعاً من الدعاة لدينه إنه سميع مجيب.(/7)
فئات المجتمع ودورها في الحسبة
د. إسماعيل محمد حنفي*
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..... وبعد
فإنَّ مجتمع المسلمين كالجسد الواحد في تماسكه، وفي تأثُّره كله بما يطرأ عليه من خير أو شر، ولذلك يسري على كل جزء من هذا المجتمع وعلى كل فئة فيه ما يسري على بقية الأجزاء والفئات، ولذا يحرص كل جزء أو فئة في هذا المجتمع على البقية، ويعلم أنّ حرصه عليه قد يستوجب أن يقسو عليه قليلاً قسوة الدواء المر الذي يُلزِم الطبيبُ مريضَه بشُربه. ومن هنا فإنّ فئات المجتمع كلها تسمع عن الحِسبة وأهميتها لكن قد تتساءل: ما الحسبة؟ فنقول كما بيَّن أهل العلم إنّها: " أمرٌ بالمعروف إذا ظهر تركُه، ونهيٌ عن المنكر إذا ظهر فعلُه"[1].
إنّها النصيحة، إنّها حُب الخير للآخرين بأمرِهم بما فاتهم من الخير ليفعلوه، ونهيّهم عمّا وقعوا فيه من الشّر ليقلعوا عنه..
الحسبة هذه، كيف نتصوّر أنّ مجتمعاً يستغني عنها بحجة الحريات الشخصيّة، أو عدم التدخل في شؤون الآخرين..؟
الحسبة هل يُستثنى أحد أفراد المجتمع أو مجموعاته عن المشاركة فيها؟ هل يزعم أحدٌ أنه لا يحتاج إلى أحدٍ يأمره بفعل شيءٍ واجبٍ قصّر فيه؟ أو يعينه على ترك محرم ابتُلي به؟ أو فِعل الأَولى؟ أو ترك المكروه الذي قد يجُرُّ إلى الحرام؟
إن الأفراد رجالاً ونساءً وكباراً وصغاراً حُكاماً ومحكومين، أغنياء وفقراء.. وكذلك المجموعات والمؤسسات والهيئات رسميّةُ كانت أو شعبية.. كلهم ينتظرهم دورهم الذي يناسب قدراتهم وظروفهم وإمكاناتهم وعلمهم...إلخ..
دورهم الذي لا ينبغي استصغاره أو احتقاره، ليقوم كل منهم به احتساباً على الآخرين بالحكمة وبالنية الخالصة لله بُغية الإصلاح..
إنّنا في هذه الورقة نحاول إعطاء إضاءة حول دور فئات المجتمع في الحسبة، نوضِّح المنطلقات الشرعيّة من النصوص المعتبرة، ونذكر نماذج من الشواهد التاريخية حول الموضوع بما يسند الفكرة ويثري الموضوع في حدود هذه الورقة الموجزة التي أردنا لها أن تكون مفتاحاً لهذا الباب الواسع... ليدلف منه جميع أفراد وفئات مجتمعنا اطّلاعاً فعلماً ثم عملاً ليكون الفلاح وتتحقق الخيريّة ويندحر الشر بحول الله تعالى.. آملاً أن يوفق الله تعالى القائمين على مجمع الفقه الإسلامي في مؤتمرهم المهم الذي يأتي بشعار ( الحسبة مسئولية الجميع ) ليتحول هذا الشعار بحول الله تعالى إلى فهمٍ عميق وقناعةٍ راسخة في قلوب الجميع، ثم نراها واقعاً يضبط مسيرة هذا المجتمع الذي اختار الإسلام منهجاً له.
المبحث الأول
الشّواهد الشرعيّة على مسؤولية فِئات المجتمع في الحسبة
المتأمَّل في شواهد الشرع يجد الكثير منها يفيد أنَّ الحِسبة مسئولية جميع فئات المجتمع المسلم رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، رُعاةً ورعيّة.. ونذكر فيما يلي أهم تلك الشواهد..
أولاًً: عموم الأدلة التي وردت في شأن الحسبة: حيث نجد أنَّ كثيراً من تلك الأدلة وردت في مشروعيّة الحسبة مرغِّبةً فيها أو محذرةً مِن تركِها، وهي لا تخاطب فئةً بعينها من أفراد المجتمع المسلم، بل تصدُق على الجميع... ومنها.
• قوله تعالى في صفات المؤمنين: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}(التوبة : 112 )، وذلك لأنّ الآية فصّلتْ صفات المؤمنين الذين اشترى الله تعالى أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة كما في الآية قبلها، لأنّهم بعد أن عبدوا الله بعِلمٍ واتِّباعٍ وإخلاصٍ سعوا لدعوة غيرهم وإصلاحهم حرصاً على نفعهم"فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق"[2] فاستحقوا التبشير من ربهم، فمَنْ مِنْ أفراد المجتمع لا يرغب في أن يكون في هذه الزُّمرة الطيبة ؟
• من مقتضيات الموالاة بين المؤمنين أنّهم يأمرون بعضهم بعضاً بالمعروف، ويتناهون عن المنكر، لأنّهم يحرصون على جلب الخير لهم ولإخوانهم وكذا إبعاد الضّر، ولذا استحقوا الخير من الله في الدنيا والآخرة.(/1)
ولذلك قال الله تعالى في حقِّهم:}وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{ (التوبة : 71 - 72 ) وهذا عامٌ في جميع المؤمنين، ولذا فإنَّ من يفعل خلاف ذلك فإنّه قد يخرج عن دائرة المؤمنين[3]، وممّا يؤكد ذلك قوله سبحانه: }الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{ (التوبة : 67 ).
• يقول الله سبحانه وتعالى: } كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ{(آل عمران:110) حيث إنّ الأُمة كلها تكون لها الخيرية بقيامها بالحسبة، ولو تركتها فقدت خيريتها، حيث إنّ الله تعالى "مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا التغيير وتواطؤوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم وكان ذلك سبب هلاكهم"[4].
• ويقول سبحانه: { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (الحج : 41 ) حيث إنّ الآية بيَّنت لنا هنا أن القيام بالحسبة هو واجب كل من آتاه الله سُلطة، صغيرة كانت أو كبيرة، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : (كُلُّكم راعٍ، وكُلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته ....)[5] الحديث.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير الآية: " هو شرطٌ شرَطَهُ الله عزّ وجلّ على من آتاه الله المُلك"[6]. إذاً كلُّ من تولّى مسؤوليةً في الدولة المسلمة يجب أن يعرف أن الله قد شرط عليه القيام بالحسبة من خلال ما ولاّه الله عليه، وعليه أن يتذكّر أنّ الله سبحانه له عاقبة الأمور، يؤتِي المُلك من يشاء وينزعُ المُلك ممّن يشاء ويُعزُّ من يشاء ويُذلُّ من يشاء، وهو سبحانه الحكم العدل، يعامل الناس بما يستحقون، ولولا رحمته لأهلكهم }وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ{ (الشورى : 30 ).
• يقول تعالى :} وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ (آل عمران : 104 ).
قال الإمام الشوكاني في تفسير الآية:" وفي الآية دليلٌ على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابتٌ بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهّرة، وأصل عظيم من أصولها ،وركن مشيد من أركانها، وبه يَكمُل نظامها ويرتفع سنامها"[7].
قلت: وجميع فئات المجتمع المسلم مطلوبٌ منها الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتظفر بالثمرة التي هي الفلاح.
إنَّ المجتمعات اليوم تبحث بشدّة عن التوفيق والنجاح في مشروعاتها وأعمالها، وتعقد لأجل ذلك المؤتمرات والمشاورات، وتُستنهض همم الخبراء والباحثين لمعرفة أسباب الإخفاق والفشل.
ولو نظروا إلى التوجيه القرآني لعلموا السبب، وبذلوا الجهد بعد ذلك في تحقيق ذلك السبب، ومعرفة دور كل فرد أوفئة في المجتمع تجاهه.
• عن أبي سعيد الخُدرِي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(مَن رأَى منكم منكراً فليُغيِّرهُ بيده، فإِن لم يستطع فبلسانه، فإِن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)[8].
والشاهد في الحديث :أنَّ لفظة (مَن) مِن ألفاظ العموم للعاقل،أي كل من رأى منكم منكراً، يجب عليه أن يغّيره بحسب استطاعته.مما يُفهم منه أنّ الحسبة واجبٌ على كل فرد من الأمة، كُلٌ بحسبه، وهذا ما فهمه العلماء من نص هذا الحديث، ومنهم العلاّمة ابن كثير في تفسيره -رحمه الله-[9].
• وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يجعل القيام بالحسبة أحد بنود البيعة مثل ما فعل مع الأنصار في بيعة العقبة: عن عبادة ابن
الصامت رضي الله عنه قال: " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله، أو نقوم بالحقِّ حيث كنا، ولا نخاف في الله لومة لائم"[10].
وهذا جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال :(بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم)[11].(/2)
والشاهد في ذلك أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم جعل القيام بالحسبة للمسلمين شرطاً في الذي يُبايَع عليه كالصلاة والزكاة, ولذلك قرنها بهما"[12]. ولولا أهمية الحسبة لما جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم بنداً في البيعة مع مختلف الفئات, وأنواع البيعات.
• ورد الوعيد بالعذاب على ترك الاحتساب, وهو وعيدٌ عام يشمل جميع الفئات أفراداً وجماعات...
قال سبحانه وتعالى:{ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (الأنفال : 25 ).
حيث دلت الآية على عموم العذاب لمن فعل المنكر ومن سكت عن إنكاره.. وقد فسَّر هذه الآيةَ قولُه صلى الله عليه وسلم : (إنّ الله تعالى لا يُعذِّب العامّة بعمل الخاصّة حتى تعمل الخاصة بعمل تقدرُ العامة أن تغيِّره ولا تغيره فذلك حين يأذن الله في هلاك العامة والخاصة)[13].
وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً فيما رواه حذيفة رضي الله عنه :(والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعُنَّه فلا يستجيب لكم)[14].
• ومن النصوص الأخرى التي نصّت على نزول العذاب بسبب ترك الاحتساب قوله تعالى: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ* كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} (المائدة:78-79). وكأنّ المراد أنها سُنّة ثابتة في جميع الأمم لأنّ الله ذكر لنا بني إسرائيل هنا, ولكنه ذكر لنا آخرين في مواضع أخرى {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ }(هود : 116 ) ولو فعلت أمتنا هذه ما فعله أولئك لأصابها بجميع فئاتها ما أصاب أولئك, روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنّ مَنْ كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل فيهم العامل الخطيئة فنهاه الناهي تعذيراً فإذا كان من الغد جالسه وواكله وشاربه كأنه لم يَرهُ على الخطئية بالأمس, فلما رأى الله تعالى ذلك منهم ضرب الله قلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم على لسان داوود وعيسى ابن مريم ـ عليهما السلام ـ (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) والذي نفسي بيده لتأمرُنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذنّ على أيدي المسيء ولتأطرنّه على الحق أطراً أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم)[15].
• عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : (مَثَلُ الْمُدْهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا سَفِينَةًفَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَاهَا، فَكَانَ الَّذِين فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا فَتَأَذَّوْا بِهِ فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ فَأَتَوْهُ فَقَالُوا مَا لَكَ؟ قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِي وَلَا بُدَّ لِي مِنْ الْمَاءِ، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ )[16]. فالسفينة تمثل المجتمع المسلم, الذي يضم الصالحين وغيرهم, ولو اكتفى الصالحون بأنفسهم وانغلقوا وتركوا الآخرين على أهوائهم يفعلون ما يريدون لأتى الهلاك للجميع, حيث إنّ "المجتمع الصالح هو الذي يسوده البِرّ, وتكون الغَلَبة لأهل الاستقامة, وإن كان لا يخلو من المنافقين والفاسقين, مثل القرون المفضّلة, ولا سيما الخلافة الراشدة.(/3)
والمجتمع الفاسد المنحرف هو الذي غلب عليه الشَّرُّ والأشرار, وإن كان لا يخلو من المؤمنين المجاهدين الآمرين بالمعروف النّاهين عن المنكر, لوجود الطائفة المنصورة .. ولهذا شبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم حال المجتمع كسفينة, فأصحاب المنكرات في أسفلها ويقومون بخرقها بمنكراتهم, والقِسم الثاني المجتمع في أعلى السفينة, وهم أهلُ الصلاح, فإنْ تركوا الإنكار على أصحاب المنكرات غرقوا جميعاً, وإن أنكروا نجوا ونجوا جميعاً, فالرسول صلى الله عليه وسلم جعلهم أصحاب العلو لمكانتهم, فعليهم المسؤولية الكبرى في النجاة والإصلاح, فلا يكفي صلاحهم بأنفسهم فهو لا يُنجيهم من الغرق, وهذه سُنَّة من سنن الله في المجتمعات, والذين يقومون بمهمة مقاومة المنكر وأهله والعمل على إضعاف شأنهم هم الغرباء وسط هذا الجو الموبوء بالمعاصي والنفاق, وهم الطائفة المنصورة, وهم المحقِّقون لعبودية الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, لذا فهُم أفضل من المتفرغين للذِّكر والقراءة والصِّيام وغيرها, المعتزلين الناس فلا يأمرونهم ولا ينهونهم"[17].
• إنّ مما يشير إلى مسؤولية كل أفراد المجتمع وفئاته في الحسبة ما نراه اليوم من فساد منتشر, وتقصير في الواجبات, وجرأة في محاربة دين الله, وإقبال على الحرام..
إنّ ذلك لو نظرنا فيه نجده يقع من أصناف متعددة ومن فئات يمكن أن يدخل فيها الصغار والكبار, والرجال والنساء, والعظماء والبسطاء... إلخ
وإنّ من الحكمة أن يحتسب على كل فئة من كان منها, أو قريباً منها, لأن ذلك أدعى للقبول, وربما كان في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أوردناه فيما سبق إشارة إلى هذا المعنى, وهو يتحدث عن مسؤولية كل راع عما استرعاه الله تعالى.
• ثم إنّ أهل العلم قد بينوا أنّ الحسبة تتعين ـ أي تصبح فرض عين ـ في أحوال, منها:
° إذا عُيِّن الإنسان من قبل السلطان. قال الماوردي: " إنّ فرضه ـ أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ معيِّن على المحتسب بحكم الولاية, وفرضه على غيره داخل في فروض الكفاية "[18].
° إذا كان الإنسان في موضع بحيث لا يعلم بالمنكر غيره. وهذا ينطبق على كثيرين خصوصاً في البيوت والمؤسسات.
° إذا كان القادرون على الاحتساب محصورين, أي لديهم العلم والقدرة, والآخرون ليسوا كذلك.
° إذا تغيرت الأحوال بأن كثُر الشر وقلَّ من يتصدَّى له[19]..
ولعلنا نلاحظ أنّ الحالات المذكورة يمكن أن يدخل فيها جميع فئات المجتمع دائماً أو في وقت ما، فلننتبه , ولنعلم أنّ دلالات الشرع على هذا الأمر عديدة وبوجوه كثيرة..
المبحث الثاني
الشواهد التاريخية على مسؤولية فئات المجتمع في الحسبة
إنّ التاريخ ـ كما يقولون ـ خير شاهد, وحين يسوق لنا التاريخ الوقائع وقصص الأخيار من هذه الأمة فإنّه يكون تاريخاً جديراً بالاهتمام، لأنه يرسم لنا منهجاً ينبغي علينا أن نسلكه, ونبراساً لن نضل إذا اهتدينا بنوره, يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : (عليكم بسُنّتي, وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) الحديث[20]. إنّ الخلفاء الراشدين وصحابة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم معه يمثلون أنصع صور التاريخ الإسلامي الذي يجب علينا قراءته بتمعُّن, ثم تاريخ عصر التابعين الذين تتلمذوا على أيدي الصحابة رضي الله عنهم.
لو تأملنا في مواقفهم مع الحسبة لتبيَّن لنا أنّ الجميع كانوا يشعرون بأنّ هذا الواجب يقع على عاتقهم جميعاً, وأنهم كانوا صادقين في احتسابهم, حريصين على إصلاح أحوال إخوانهم طلباً للفوز في الدارين..
ونحاول أن نسرد هنا بعض النماذج من الشواهد التاريخية التي تضيئ لنا إضاءة مهمة حول مسؤولية فئات المجتمع المختلفة في الحسبة.
أبو بكر الصديق رضي الله عنه :
احتسب رضي الله عنه بنفسه - وهو الخليفة - في أعظم منكر من المنكرات بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، وهو فتنة الارتداد المطلق، أو بالامتناع عن دفع الزكاة، أو بادِّعاء النبوة..، حيث عزم على إزالة هذا المنكر بنفسه, وأشرك أصحابه كذلك.
ولما طلب منه المسلمون البقاء بالمدينة والإكتفاء بإرسال من ينوب عنه قال: " لا والله لا أفعل, ولأواسينّكم بنفسي"[21].
"وتم بحمد الله وتوفيقه ثم بعزم الصدّيق وجهوده وجهود أصحابه رضي الله عنهم استئصال هذه الفتنة"[22].
وله رضي الله عنه مواقف عديدة في الاحتساب في مجالات أخرى.
عمر صلى الله عليه وسلم :
• كان رضي الله عنه يأتي مجزرة الزبير بن العوّام رضي الله عنه , ولم يكن بالمدينة مجزرة غيرها, فيأتي معه بالدّرة, فإذا رأى رجلاً اشترى لحماً في يومين متتابعين ضربه بالدرة, وقال: "ألا طويتَ بطنك يومين"؟[23].
• عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: "أتيتُ عمر رضي الله عنه , وفي يدي خاتمٌ من ذهب, فضرب يدي بعصاً كانت معه"[24].
• روى المسيّب بن دارم قال: "رأيتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب رجلاً ويقول: حمّلتَ جملك مالا يطيق"[25].
عثمان رضي الله عنه :(/4)
• روى عبد الرزَّاق عن الزهري أن عثمان رضي الله عنه أمر بتسوية القبور, قال: "ولكن يُرفع من الأرض شيئاً" فمرُّوا بقبر أم عمرو بنت عثمان فأمر به فسُوِّي"[26].
• عيّن رضي الله عنه شخصاً لمنع الناس من شرب النبيذ الذي فيه سكر[27].
علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
• أنكر على من ترك امرأته تذهب إلى السوق تزاحم الكفار[28].
• وكان يمر رضي الله عنه في الطريق ينادي: "الصلاة الصلاة" يوقظ الناس لصلاة الفجر[29].
ولديه رضي الله عنه مواقف أخرى عديدة في الحسبة.
ولعل ما ذُكر من شواهد يعطينا أنموذجاً عن احتساب الخلفاء وولاة الأمر بأنفسهم, وكذلك إدارتهم لشئون الحسبة من خلال تعيينهم لمحتسبين.
ومن الشواهد التاريخية في احتساب النساء:
• دخل عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما على أخته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فتوضأ عندها, فقالت له: "يا عبد الرحمن, أسبغ الوضوء, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ويلٌ للأعقاب من النار)[30].
• ذكر الإمام ابن الجوزي أنّ عَمْرة امرأة حبيب العجمي انتبهت ـ أي استيقظت ـ ليلة وهو نائم, فأنبهتْهُ في السَّحَر وقالت: "قم يا رجل, فقد ذهب الليل وجاء النهار, وبين يديك طريق بعيد وزاد قليل, وقوافل الصالحين قد سارت قبلنا ونحن قد بقينا".
إنها زوجةٌ مرحومة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (رحِم اللهُ امرأةً قامت من الليل فصَلَّتْ وأيقظتْ زوجها فإنْ أبَى نضحت في وجهه الماء)[31].
• ذكر الحافظ ابن عبد البر عن زيد بن واقد أنّ عبد الملك بن مروان حدّثه قال: "كنت أجالس بريرة رضي الله عنها ـ مولاة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ـ بالمدينة قبل أن ألي هذا الأمر, فكانت تقول لي: "يا عبد الملك إني أرى فيك خصالاً وإنك لخليقٌ أن تلي هذا الأمر؛ فإن وُلّيِتَ هذا الأمر فاحذر الدماء, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنّ الرجل ليُدفع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليها بملءِ مِحْجَمةٍ[32] من دمٍ يريقه من مسلم بغير حق)"[33].
• ذكر الإمام ابن الجوزي عن هشام بن حسان قال: كانت حفصة بنت سيرين تقول لنا: "يا معشر الشباب خذوا من أنفسكم وأنتم شباب فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب"[34].
• اجتمع بعض الناس عند رابعة العدوية فانشغلوا بذكر الدنيا بحُجَّة ذمها، فأنكرتْ عليهم. فقد ذكر ابن الجوزي عن أزهر بن مروان قال، دخل على رابعة العدوية رباح القسي، وصالح بن عبد الجليل وكلاب، فتذاكروا الدنيا، فأقبلوا يذُمّونها، فقالت رابعة: "إنِّي لأرى الدنيا بترابيعها – أي بجهاتها الأربع وكل ما فيها – في قلوبكم ". قالوا: "ومن أين توهَّمتِ علينا ؟" قالت: "إنَّكم نظرتم إلى أقرب الأشياء من قلوبكم فتكلمتم فيه"[35].
• قالت زينب بنت يحي المتوكل : خدمتُ نفيسةَ بنت الحسين أربعين سنةً فما رأيتُها نامت اللَّيل ولا أفطرت بنهارٍ، فقُلتُ لها: أما ترفقين بنفسك؟، فقالت: كيف أرفق بنفسي وقُدَّامي عقباتٌ لا يقطعها الفائزون.
ولما ظلم أحمد بن طولون قبل أن يعدل شكا الناس من ظلمه، وذكروا ذلك لنفيسة بنت الحسين، فقالت لهم: متى يركب؟ قالوا غير غد، فكتبت رقعة ووقفت بها في طريقه، وقالت يا أحمد بن طولون، فلما رآها عرفها، فترجل عن فرسه، وأخذ منها الرقعة وقرأها، فإذا هي: " ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخُوِّلتم فعسفتم، ورُدَّتْ إليكم الأرزاق فقطعتم هذا، وقد علمتم أنَّ الأقدار نافذة غير مخطئة لا سيّما من قلوبٍ أوجعتموها وأكبادٍ جوَّعتموها وأجسادٍ عرَّيتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، إعملوا ما شئتم فإنَّا صابرون، وجُوروا فإنّا بالله مستجيرون منقلبون". فعدل لوقته (رحمه الله)[36].
هذا مثال لاحتساب المؤمنات الصالحات على عموم الناس بشتى فئاتهم، ومنهم ولاة الأمر، ولمّا علِم الله سبحانه صدق أولئك النساء المحتسبات جعل البركة في ذلك الاحتساب فعادت ثمرتُه على الناس برداً وسلاماً.
ومن الشواهد التاريخية في احتساب العلماء والدُّعاة :(/5)
• لمّا وليَ هارون الرشيد (رحمه الله) الخلافة زاره العلماء يهنئونه، فكافأهم، فتفقّد سفيان الثوري فلم يجده ممّن زاره من العلماء، وكان بينهما أُخوّة وتواصل، فكتب إليه يعاتبه في ذلك، قال الرسول الذي ذهب بالرسالة إلى سفيان:" فرميتُ بالكتاب إليه، فلما رأى الكتاب ارتعد وتباعد منه كأنّه حيّةٌ عرضت له في محرابه، فركع وسجد وسلّم، وأدخل يده في كُمِّه ولفها بعباءته وأخذه فقلّبه بيده ثم رماه إلى من كان خلفه وقال:" يأخذه بعضكم يقرؤه، لأني أستغفر الله أن أمسّ شيئاً مسَّهُ ظَلاّمٌ بيده، قال: فأخذه بعضهم فحلَّهُ كأنَّهُ خائفٌ مِن فمِ حيَّة تنهشه، ثم فَضَّهُ وقرأه، وأقبل سفيان يتبسَّم تبسُّم المتعجِّب، فلما فرغ من قراءته قال:" اقلبوه واكتبوا إلى الظالمِ في ظهر كتابهِ، فقيل له: يا أبا عبد الله إنَّه خليفة فلو كتبتَ إليه في قِرطاس نقي، فقال: اكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابِه، فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يُجزى به، وإن كان اكتسبه من حرامٍ فسوف يَصلَى به، ولا يبقى شئٌ مسه ظالمٌ عندنا فيُفسد علينا ديننا، فقيل له: ما تكتب؟، فقال: اكتبوا: " بسم الله الرحمن الرحيم، من العبد المذنب سفيان بن سعيد بن المنذر الثوري إلى العبد المغرور بالآمال هارون الرشيد الذي سُلب حلاوة الإيمان، أمّا بعد، فإنِّي قد كتبتُ إليك أعرِّفُك أنِّي قد صرمتُ حبك وقطعتُ وُدَّك وقلبت موضعك، فإنّك قد جعلتني شاهداً عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمتَ به على بيت مال المسلمين، فأنفقتَهُ في غير حقِّه وأنفذتَه في غير حُكمه، ثم لم ترضَ بما فعلتَه وأنت ناءٍ عنِّي حتى كتبتَ إليّ تُشهِدني على نفسِك، أما إنِّي قد شهِدتُ عليك أنا وإخواني الذين شهِدوا قراءة كتابك، وسنؤدِّي الشهادة عليك غداً بين يدي الله تعالى، يا هارون، هجمتَ على بيتِ مال المسلمين بغير رضاهم، هل رضِيَ بفعلك المؤلَّفة قلوبهم والعاملون عليها في أرض الله تعالى والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل؟ أم رضِيَ بذلك حَملةُ القرآنِ وأهلُ العِلمِ والأراملُ والأيتام؟ أم هل رضِيَ بذلك خَلقٌ من رعيتك؟ فشُدَّ يا هارون مئزرك، وأعِدَّ للمسألة جواباً وللبلاء جُلباباً، واعلم أنّك ستقفُ بين يَدي الحكَمِ العدلِ، فقد رُزِئتَ في نفسِك إذ سُلبتَ حلاوةَ العلم والزُّهدِ ولذيذ القرآن ومجالسة الأخيار، ورضيتَ لنفسِك أن تكون ظالماً، وللظالمين إماماً، يا هارون، قعدتَ على السرير، ولبِستَ الحرير، وأسبلتَ ستراً دون بابِك، وتشبهت بالحَجَبَةِ بربِّ العالمين، ثمَّ أقعدتَ أجنادك الظَّلمة دون بابِك وسِترك،يظلمون الناس ولا يُنصِفون، يشربون الخمور ويضربون من يشربها، ويزنون ويحدّون الزاني، ويسرقون ويقطعون السارق!، أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن تحكم بها على النّاس؟! فكيف بك يا هارون غداً إذا نادى المنادِي من قِبَلِ الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} (الصافات : 22 ) أين الظَّلَمةُ وأعوان الظَّلَمة. فقدِمت بين يدِي الله تعالى ويداك مغلولتان إلى عُنقك لا يفكُّهما إلاَّ عدلك وإنصافك، والظالمون حولك، وأنت لهم سابقٌ وإمامٌ إلى النار، كأنِّي بك يا هارون وقد أُخذتَ بضِيق الخِناق وورِدتَ المشاق، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك، وسيئات غيرك في ميزانك زيادة على سيئاتك بلاءً على بلاء وظُلمة فوق ظُلمة. فاحتفِظ بوصيتي واتّعِظ بموعظتي التي وعظتك بها، واعلم أني قد نصحتُك وما أبقيتُ لك في النُّصح غاية، فاتَّقِ الله يا هارون واحفظ محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته، واحسِن الخلافة عليهم، واعلم أنَّ هذا الأمر لو بقيَ لغيرِكَ لم يصِل إليك، وهو صائرٌ إلى غيرك، وكذا الدُّنيا تنتقل بأهلِها واحداً بعد واحدٍ، فمنهم من تزوَّد زاداً نفعه، ومنهم من خَسِر دنياه وآخرته، وإنِّي أحسبُك يا هارون مِمّن خسِر دنياه وآخرته، فإيّاك أن تكتب لي كتاباً بعد هذا، فلا أجيبك عنه والسلام". قال عَبَّاد -الرسول-: فألقى إليّ (أي سفيان الثوري) الكتاب منشوراً غير مطويٍّ ولا مختوم، فأخذتُه وأقبلتُ إلى سوقِ الكوفة، وقد وقعتْ الموعظة من قلبي، فناديتُ: يا أهل الكوفة، فأجابوني، فقلت لهم: يا قوم، مَن يشتري رجلاً هرب من الله إلى الله؟ فأقبلوا إليّ بالدنانير والدراهم، فقُلتُ: لا حاجة لي في مالٍ ولكن جُبَّة صوفٍ خشنة وعباءة قطوانية، قال: فأوتيتُ بذلك ونزعت ما كان عليَّ من اللباس الذي كنتُ ألبسُه مع أمير المؤمنين، وأقبلتُ أقود البرذون وعليه السِّلاح الذي كنت أحمله حتى أتيتُ بابِ أميرِ المؤمنين هارون حافياً راجلاً، فهزأ بي من كان على باب الخليفة، ثم استؤذِن لي، فلمّا دخلتُ عليه وبَصَر بي على تلك الحالة قام وقعد، ثم قام قائماً وجعل يلطم رأسه ووجهه ويدعو بالويل والحزن ويقول: انتفع الرسولُ وخاب المرسِل، مالي وللدنيا، مالي ولمُلكٍ يزول سريعاً. ثم ألقيتُ الكتاب إليه منشوراً كما دُفِع إليَّ، فأقبل هارون(/6)
يقرأه ودمُوعه تنحدر من عينه، ويقرأ ويشهق، فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين لقد اجترأ عليك سفيان، فلو وجَّهتَ إليه فأثقَلتَه بالحديد وضيَّقتَ السِّجن كنت تجعله عِبرةً لغيره، فقال هارون: أتركونا يا عبيد الدُّنيا، المغرورُ من غررتموه، والشَّقيُّ من أهلكتموه، وإنّ سفيان أمَّةٌ وحده، فاتركوا سفيان وشأنه.
ثم لم يزَل كتابُ سفيان إلى جنب هارون يقرأه عند كلِّ صلاة حتى توفي رحمه الله"
قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله بعد أن أورد القصة: " فرحِم الله عبداً نظر لنفسِه واتَّقى الله فيما يَُقدِم عليه غداً من عمله، فإنَّه عليه يُحاسَب، وبه يُجازَى، وبالله التوفيق"[37].
قلت: ما أحوجنا إلى أمثال الإمام سفيان الثوري من العلماء الدعاة العاملين المحتسبين بصدق، وما أحوجنا إلى أمثال هارون الرشيد من ولاة الأمر المنتصحين بنصح العلماء ومواعظهم، الذين نفع الله بهم البلاد والعباد.
قال الإمام الغزالي بعد أن أورد تلك القصة مع مجموعةٍ من قصص العلماء في احتسابهم مع الأمراء:" فهذه كانت حالة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وقِلَّة مبالاتهم بسطو السلاطين، لكنهم اتّكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم ورضوا بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة، فلمّا أخلصوا لِلهِ النِيَّة أثَّر كلامُهم في القلوب القاسية فليَّنها وأزال قساوتها، وأمَّا الآن فقيَّدتِ الأطماعُ ألسن العلماء فسكتوا، وإن تكلموا لم تساعد أقوالَهم أحوالُهم، فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا حق العلمِ لأفلحوا، ففسادُ الرَّعايا بفساد الملوك، وفسادُ الملوك بفسادِ العلماء، وفسادُ العلماء باستيلاء حبِّ المالِ والجاه، ومن استولى عليه حبُّ الدنيا لم يقدِر على الحسبة على الأراذل، فكيف على الملوكِ والأكابرِ؟ والله المستعانُ على كُلِّ حال"[38].
خاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيدنا محمّد سيّد السادات، وعلى آله وصحبه أهل المكرمات ..، وبعد ..
فقد اتضح لنا أنَّ فئات المجتمع المسلم جميعها معنيّةٌ بأمر الحسبة، تشارك فيها لتحصُل على ثمراتها، كلٌ بحسب جهده وعلمه واستطاعته وظروفه، فمن قام بها حيث كانت مطلوبةً فقد أدّى الواجب وأبرأ الذمة، ومن توانَى أو قصَّر أو داهن أو جامل فقد ضيَّع الأمانة، وكان له نصيبٌ من أوزار الضالين والفاسقين الذين بثوا شرورهم في مجتمعات المسلمين فاكتوى الجميع من ذلك.. ويشركه في الوزر من سنَّ التشريعات التي تسهِّل على أهل السُّوء أداء مهامهم وتنفيذ خططهم ممَّن ولاَّه الله أمراً من أمور الأمة، فكان حريصاً على إرضاء فئامٍ من الناس من أرباب المال أو الجاه أو غيرهم أكثر من حرصه على إرضاء رب العباد الذي بيده كل شيئ..
إنَّ سلفنا الصالح عليهم رحمة الله تعالى كانوا أقرب إلى منبع النور وينبوع الهداية، وأجدر بنا أن نقرأ سيرهم وتاريخهم لنعرف كيف كانوا يحتسبون مع بعضهم البعض، ومع الآخرين حكاماً ومحكومين، أقارب وأباعد ..
إنّ سيرهم تُنبئ عن روحٍ إسلاميةٍ قويةٍ حرّكت جوارحهم فأطاعوا الله وزهدوا في الدنيا، وعاشوا مرفوعي الرؤوس عزيزي النفوس، فاستجاب لهم النَّاس وأطاعوهم رغم قسوة احتسابهم أحياناً، لكن تلك حِكمة الله وعدله في الجزاء بالإحسان إحساناً، لمَّا استجابوا لله والرسول أحياهم الله بالإيمان حتى غمر كل حواسهم وجوارحهم فتحركت بما يرضي الله، فظهر أثر ذلك على وجوههم وأقوالهم وأفعالهم، فكان تأثير احتسابهم سريعاً قريباً، ونفعه على المجتمع عظيماً عجيباً.
إن ما ذكرناه من شواهد تاريخية قليل جداً، فالمقام لا يتسع للمزيد، ولكن الإشارة تكفي، وما أوردناه يفي الآن، وأمَّا الزيادة والإضافة فإني أنتظرها من أساتذتي الكرام الذين يقرأون ما كتبت على عجل ليضيفوا إليه الكثير من الدرر ..
وأقول أخيراً: إنّنا نتطلع أن يعي الجميع في المجتمع دورهم في الحسبة، وأن يولوا الأمر عنايتهم، ويجعلوه من أولوياتهم ومن أوجب واجباتهم، وأن يدفعهم إلى ذلك ويزيد من عزمهم ما نراه من منكرٍ انتشر، وما ساد من بلاءٍ وشر .. نسأل الله أن يعيننا على التصدي لذلك وأن يرزقنا التوفيق والإخلاص.
[1] الماوردي – الأحكام السلطايّة ص 24- أبو يعلى الحنبلي – الأحكام السلطابيّة ص 284.
[2] ابن كثير (أبو الفداء اسماعيل القرشي الدمشقي)- تفسير القرآن العظيم2/392-393 دار الفكر –بيروت سنة 1981م، وانظر: الرازي (فخر الدين) التفسير الكبير المسمى مفاتيح الغيب ، 16/202 دار الكنب العلمية. بدون تاريخ.
[3] انظر: الغزالي (أبو حامد) إحياء علوم الدين 2/ 307.
[4] القرطبي .. الجامع لأحكام القرآن 4/173.
[5] صحيح البخاري: حديث رقم 2278، 2/848 وورد في مواضع أخرى، وصحيح ابن حبان: حديث رقم 4491، 10/343.
[6] القرطبي نقلا عن الضحاك- الجامع لأحكام القرآن 12/73.
[7] الشوكاني (محمد بن علي بن محمد) – فتح القدير 1/369 دار الفكر – بيروت سنة 1983م.(/7)
[8] صحيح مسلم كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأنّ الإيمان يزيد وينقص، وأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، حديث رقم (49) 1/69
[9] انظر ابن كثير(أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي) مرجع سابق 1/391
[10] صحيح البخاري، كتاب الأحكام ، باب كيف يبايع الإمام الناس، حديث رقم 99/7 – 200/1
[11] صحيح البخاري، كتاب الإيمان باب قول النبي صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة رقم الحديث 57 1/137
[12] هذه عبارة الإمام الخطابي كما وردت في عمدة القاري 2/324.
[13] الهيثمي ـ مجمع الزوائد, كتاب الفتن, باب ظهور المعاصي 7/268. وانظر: البغوي , شرح السنة, حديث رقم 4155, 14/346.
[14] صحيح سنن الترمذي, أبواب الفتن, باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
[15] الهيثمي ـ مجمع الزوائد, كتاب الفتن, باب وجوب إنكار المنكر 7/269. قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
[16] صحيح البخاري ـ باب القرعة في المشكلات 3/164.
[17] صالح بن عبد الله الدرويش ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وواقع المسلمين اليوم ص 31 – 32 دار الوطن ـ الرياض ط 1 عام 1412هـ.
وقال المؤلف: انظر: فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأبي بكر الخلّال ص 48 تجد تقرير العلماء رحمهم الله لتلك المسألة ص 32.
[18] الماوردي ( الأحكام السلطانية ص24)، أبو يعلى (الأحكام السلطانية ص 284)
[19] هذا ما رآه الشيخ العلامة ابن باز رحمه الله, انظر: كتاب الدعوة إلى الله وما ينبغي أن يتحلى به الدعاة ص 16.
[20] سنن أبي داود 5/13-15 كتاب السنة – باب في لزوم السنة، حديث رقم 4607- دار الحديث، ط: 1 سنة 1974م، سنن الترمزي 7/319- 320- كتاب العلم – باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، حديث رقم 2678 مطابع الفجر الحديثة – سوريا ط:1 سنة 1967م.
[21] الطبري ـ تاريخ الأمم والملوك 3/247. ابن كثير البداية والنهاية.
[22] الحسبة في العصر النبوي وعصر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فضل إلهي ظهير ص 18. إدارة ترجمان الإسلام سي باكستان ط 1990م.
[23] ابن الجوزي ـ مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ص 79.
[24] ابن أبي شيبة ـ المصَّنف, من كره خاتم الذهب. رواية رقم 5198, 8/279 ـ 280
[25] انظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ للخلال (مرجع سابق) ص 45.
[26] المصنَّف, كتاب الجنائز باب الحدث والبنيان, رواية رقم 6489, 3/504.
[27] انظر: تاريخ الطبري 4/398.
[28] مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله. رواية رقم 1118, 2/254 ـ 255.
[29] السيوطي ـ تاريخ الخلفاء ص 650 نشر مجموعة كتب خانة ـ كراتش.
[30] صحيح مسلم كتاب الطهارة باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما حديث رقم 240 , 1/213.
[31] مسند أحمد 18/184. سنن أبي داود (المطبوع مع عون المعبود) 4/135 المستدرك على الصحيحين 1/309, وقال: صحيح على شرط مسلم, ولم يخرجاه.
[32] المحجمة: آلة يجتمع فيها دم الحجامة عند مصه. النهاية في غريب الحديث مادة (حجم) 1/347
[33] ابن عبد البر ـ الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/1795.
[34] صفة الصفوة4/24.
[35] ابن الجوزي – المرجع نفسه4/28-29.
[36] أسامة نعيم مصطفى – قصص الصابرين والصابرات في السراء والضراء – ص 64 نقلاً عن الأعلام 5/187 دار الثقافة – عمان ط:1 سنة 2004م .
[37] أبو حامد الغزالي – إحياء علوم الدين 9/673.
[38] أبو حامد الغزالي – المرجع نفسه 9/673.
مقدمة إلى المؤتمر العلمي:الحسبة مسئولية الجميع(/8)
فاجأني رمضان !
الكاتب : علي بن صالح الجبر البطيّح
قال أحدهم : فوجئت بخبر دخول الشهر الكريم فزادت فرحتي بقدومه , لكنني لم أقم بشراء أغراض وحاجيات الشهر من المواد الغذائية ولملمتها من الأسواق , لذا انشغلت في أول الشهر أتجوّل في الأسواق فيا إلهي رأيت الزحام وتكالب الناس على المحلات التجارية فقلت : ماهذا ؟ أين أنا وهم قبل بداية الشهر بوقت كافٍ لنتفرغ في شهر الصوم للعبادة وقراءة القرآن ؟, ياليتنا بادرنا بالشراء قبل دخول الشهر لكن فات الأوان , واضطررت لإضاعة الأوقات الثمينة في البحث عما لذّ وطاب لنملأ مائدة الإفطار بصنوف وأشكال من الأطعمة والأشربة , بينما من وفقه الله تعالى بادر مبكراً بشراء مايمكن شراؤه ثم تفرغ من بداية الشهر ليعيش مع كتاب الله ولربما أنهى الختمة الأولى من القرآن !! بعدها شغلتنا المسامرة والسهر إلى قرب الفجر في أحاديث متفرقة ليليّاًعلى ما جمعناه وكدّسناه من صنوف الأطعمة والأشربة , متابعين للأخبار وغيرها عبر القنوات الفضائية , جاء أهلنا وذكّرونا بملابس العيد ومتى يتم شراؤها ؟ بعدها بدأت رحلتنا مع الأسواق من منتصف الشهر إلى نهاية الليالي العشر ومع ملابس العيد من مجمّع أسواق لآخر , هذا طويل وهذا قصير , وهذا لونه مناسب وهذا لايعجبني وهكذا دواليك فضلا عن الإكسسوارات المصاحبة والأحذية والحقائب الصغيرة وماإلى ذلك من أمور تتطلب رحلات متتابعة في الليالي الفاضلة التي تحلو فيها المناجاة مع رب الأرض والسموات , وقت النزول الإلهي , وماإن حططنا ركابنا من الأسواق وحضور المناسبات الليلية وتفويت أفضل ليالي العام حتى فاجأنا خبر العيد , عدت بعدها للسوق لاستكمال مانقص وشراء زكاة الفطر , تأملت حالي مع رمضان المبارك لكن بعد انقضائه فوجدت نفسي قد قصّرت كثيراً , ولم أنافس في الخير , غيري ختم القرآن مراراً , وأنا لم أقرأ سوى عشرين صفحة من سورة البقرة ! غيري فطّر صائمين كثر , وأنا نسيت هذا المشروع المبارك ولم أدعمه , غيري لم تفته صلاة التراويح وكذا التهجد , لكني فاتتني تكبيرات الإحرام في الفرائض , ولم أصل التراويح إلا في ليال معدودة ! غيري ... وأنا مشغول بالأسهم بيعاً وشراءً... غيري ... وأنا ...يا إلهي كيف انصرم الشهر ولم أنافس فيه ؟ ياإلهي كم غفلت عن المبادرة في الخيرات , ولم أتعرّض للنفحات ؟ لقد خاب وخسر من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له ! ياإلهي ماحصيلتي في هذا الشهر ؟ ربما لاأدركه في العام القادم فمن يضمن البقاء ؟ رب وفقني لإدراك الشهر عاماً آخر لترى ماأصنع , والله لئن بقيت ليرين الله ماأصنع , اللهم التوبة التوبة والأوبة الأوبة بدءاً من هذه اللحظة وسأجعل كل أيامي رمضان فرب الشهور واحد , ولن أنقطع لاعن القرآن ولاعن قيام الليل – بإذن الله تعالى – ومنه نستمد العون .(/1)
فاستبقوا الخيرات
سنا محمد طوط 3/9/1426
06/10/2005
جُبلت النفوس على حب الثناء و نيل الجزاء، قد علم الله -عز و جل- منها ذلك، فوعدها من الثواب أضعافاً مضاعفة على أعمال البر و التقوى و الصلاح، و أمرها بالمسارعة في الخيرات و استباقها و التنافس عليها، ثم جعل الجنة درجات، يدرك أعلاها من خاض غمار المنافسة الشريفة وسيلة و غاية فربح السباق .
لئن كان سبحانه سمّى هذه الدار دار ابتلاء و اختبار، فلأن الاختبار يفرض التنافس و التسابق. و لنتأمل قوله تعالى:(...وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[المائدة: من الآية48]
لقد أدرك ساسة الدول أهمية التنافس فشرّعوا ميادينه، و أجزلوا الحوافز مادية و معنوية، و ابتكروا الترقيات و الترفيعات، كل ذلك استثماراً للعقول و استدعاء ً للأفكار وإيقاظاً للهمم، فضلاً عما أودعه الله ابن آدم من غريزة حب التفوق منذ خلقه .
و ميادين المنافسة كثيرة جداً، فالناس فيهم الكاتب الفذ، و المقاتل الشجاع، و الصانع المبدع، و الفنان المتألق، و الدنيا تتسع لكل هؤلاء، و تحتاج كل هؤلاء، و بهؤلاء جميعهم ترتقي الحياة.
إلا أن الإنسان لا يستطيع خوض الميادين كلها، بل عليه اختيار حلبته و ميدان إبداعه، حتى لا يقوده الغرور إلى خوض ما لا يحسن، و ما لا قبل له فيه، ثم الإخفاق، كمثل الذبابة في بعض الحكايا، إذ شاهدت عربة لنقل الخضار، و قد عجزت عن متابعة التصعيد في طريق جبلية وعرة، و حاول السائق دفعها دونما جدوى. تأملت الذبابة الحمقاء جناحيها اللذين يحملانها عالياً في الفضاء، و ظنت أنها ستفلح بهما فيما أخفق فيه ذلك السائق المسمرة قدماه في الأرض، فراحت تدفع و تدفع العربة حتى هلكت.
قد جعل الله لكلٍ موهبة و مجالاً يبرع فيه ليتخذ الناس بعضهم بعضاً سخرياً، فلا يقتحم مغرور كل ميدان يناطح فيه أربابه و يطاول عمالقته، حتى إذا عجز و أخفق امتلأت نفسه حسرات و حسداً، و العياذ بالله من شر الحسد.
كما أن الأحوال ليست كلها أحوال منافسة، و إنما تكون المنافسة فيما يصلح الآخرة و يعمر الدنيا. لذلك نهى رسولنا -صلى الله عليه و سلم- أن يبيع المسلم على بيع أخيه، و نهى أن يخطب على خطبة أخيه، مبيناً أن ذلك سبب إلى الكراهية و الحسد . فيما نجد عمر و أبا بكر -رضي الله عنهما- يتنافسان في عمل الخيرات. و في الأثر عن عمر -رضي الله عنه- قال : "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه و سلم- يوماً أن نتصدق، و وافق ذلك مالاً كان عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً .
فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: أبقيت لهم. قال: ما أبقيت لهم؟ قلت: مثله. و أتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: يا أبا بكر،ما أبقيت إلى أهلك؟ قال: أبقيت لهم الله و رسوله، قلت: لا أسبقه إلى شيء أبداً".
و روح المنافسة-كما وجدناها عند عمر -رضي الله عنه- حافز إيجابي إلى تحسين الأداء و ابتكار الأساليب و الوسائل، و تشمير ساعد الجد و العزيمة، أو تستحيل إلى عواطف سلبية تولد البغضاء و التحاسد و تذهب بروح الأخوة و التعاون، فيكثر الخصام و الجدل، و تضيع في خضم ذلك كله الأهداف الكبرى لتحل محلها نزعات الثأر والتشفي. أولم يحسد ابن آدم أخاه لمّا تفوق عليه و تقبل الله قربانه فقتله؟
و روح المنافسة ما غابت عن قوم إلا حلّ بهم الخمول و الكسل و قعدوا عن العمل، كما نشهد في مجتمعاتنا الفتية من ضياع الطاقات الشابة التي هي أعظم الموارد على الإطلاق، فعقولها مصانع الإبداع، و سواعدها آلات البناء، وإرادتها منبع التغيير والإصلاح. وقد بات شبابنا كما قال ولي الدين يكن:
كأن أرؤسهم و النوم واضعها على المناكب لم تخلق بأعناقِ
و إذا نحن نراوح أماكننا على ما حبانا الله من طاقات بشرية و طبيعية، نرمق العالم من بعيد يلوح لنا عن سطح القمر و المريخ، أو نشهده يشق أرضنا ليحكم قبضته على ثروات بلادنا يشيد بها حضارته العتيدة .
و ليس الفساد الإداري المستشري في بلادنا، و الذي جعل مؤسساتنا أشبه شيء بعصابات المافيا، حيث تمارس كل القبائح الخلقية بدءاً بالوساطة و انتهاء بالرشوة، و حتى وُسّد الأمر لغير أهله، وبيعت الذمم و أُريقت الكرامة الإنسانية على مذبح الحاجة و العوز، ليس ذلك إلا أحد مظاهر غياب روح التنافس الإيجابي، في مجتمع خلا من المؤسسات المختصة التي تمنح الفرد فرصة إثبات الوجود و الحصول على دوره الطبيعي، ثم تمنحه فرص الترقي و الحوافز على اختلافها .(/1)
الأسرة نفسها مؤسسة اجتماعية يمكنها أن تمنح أبناءها فرص التفوق و الوصول، بتنويع ميادين المنافسة و مكافأة الأسبق في كل ميدان .
إنا بالعمل المؤسساتي نؤسس مجتمعاً كاملاً. نؤسسه كما نريد و نهوى.
فمتى نشدّ المآزر؟(/2)
فاستجبنا له
د. وليد بن عثمان الرشودي 12/9/1424
06/11/2003
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
تذكر حينما نزلت بك فاقة ماذا صنعت؟
تذكر حينما نزل بك كرب ماذا فعلت؟
تذكر حينما أقلقك ذلك الذنب ونكد عليك منامك كيف تعاملت معه؟
تذكر حينما ضافت بك الحيل في استصلاح ابن أو زوج أو ... أو ... ماذا فعلت؟
إنه الدعاء (وقال ربكم ادعوني استجب لكم) (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون).
الدعاء: هو محض حق الرب جل جلاله هو عنوان التوحيد ودثار التقوى هو حقيقة الافتقار إلى الله واستظهار غناه في كل حين.
الدعاء: هو ذل القلب وانكساره بين يدي ملك الملوك وقاض الحاجات.
فلا تعجب بعد ذلك للراحة التي تعتريك بعد رفع يديك ولهج لسانك بالدعاء، ولذلك يقابلك الرب بأعظم من ذلك (إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردهما صفراً أو قال خائبتين).
ما أعظم هذا الرب وأسرع إجابته وأكثر فضله حيث فهم ذلك عمر رضي الله عنه فقال: إني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل هم الدعاء. فلا تستغرب بعد لماذا تتأخر الإجابة عنا لأنا لا نعطي الدعاء حقه.
أيها القارئ لهذه الأسطر استوقفتني سورة الأنبياء بعظمتها ومن أعظم ما فيها فاستجبنا له (ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له)، (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له)، (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له)، (وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين فاستجبنا له).
قل لي بربك ألم تهز وجدانك هذه الكلمة الربانيه فاستجبنا له!! إنه فضل الدعاء والتضرع إلى الله فلا تحرم نفسك من ذلك أخي.
لقد فهم غير المسلم المتعلق بحقيقة ربوبية الله للخلق أجمعين أثر الدعاء والاستمساك به في النوائب فنادى (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) فكانت النتيجة (فلما نجاهم إلى البر) لقد استجاب الله لهم، إنها الرحمة والعظمة المتحققة في الذات الإلهية الربانية، إن الحقيقة كل الحقيقة أن كل من سأل فلابد لسؤاله أن يعطى وأن يجاب وإن تأخر زمانه أو لم تظهر آثار الإجابة لحكمة يعملها الله جل جلاله، فيا معشر القراء ما أحوج أنفسنا أولاً ثم أمتنا للدعاء لهذا اللهج بالذكر وحسن الثناء والطلب، فارفع أكف الضراعة لترى أن الإجابة تسبق العبارة، ولكن لابد أن تراعي أدب الدعاء، إنه إخلاص القلب لله والثقة بالاستجابة مع عدم اقتراح صورة معينة أو تخصيص وقت أو ظرف أو تستعجل، مع استصحاب الدعاء بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى لترى أن الإجابة تنزل عليك سريعاً سريعاً (إذ تستغيثون ربك فاستجاب لكم).
أيها الصائم: ألم تعتبر وأنت تسمع أو تقرأ آية (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) لماذا كانت خلال آيات الصيام؟ إنها آية عجيبة آية تكسب في قلب المؤمن النداوة الحلوة والود المؤنس والرضى المطمئن والثقة واليقين ويعيش منها المؤمن في جناب رضي وقربى ندية وملاذ أمين وقرار مكين، فهو الرب الذي إذا ألمت بك حاجة فررت، إليه لترى الاطمئنان والهدى والرشاد ولكن لماذا لا يستجاب لنا؟
لأننا:
1- نستعجل في طلب الإجابة (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي).
2- أكل الحرام (ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب ذلك).
3- الدعاء بما لا يليق من الإثم وقطيعة الرحم (لا يزال يستجاب لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل قيل يا رسول الله ما الاستعجال قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء).
4- كثرة الذنوب (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).
5- عدم توقير الرب حق التوقير (ما لكم لا ترجون لله وقارا).
6- عدم الشكر فإن الشكر يورث المحبة للمنعم والمحبة تورث اللذة في المناجاة واليقين بالإجابة.
وأخيراً لقد علم الكافر أثر الدعاء حتى نادى زعيمهم بطلب الصلاة من أجل الجنود الأمريكيين في العراق ومن أجل الحرائق التي سلطت عليهم، فما بالك بأهل التوحيد والإخلاص فإنهم أولى بذلك وأولى فأرفع أكف الضراعة وابذل الجهد في الدعاء تحقق لك (فاستجبنا له).(/1)
فاعلية المسلم
محمد العبده 25/9/1423
10/12/2001
كيف يكون المسلم فعالاً ؟ كيف يكون صاحب عطاء أكثر وإنتاج أكثر، إنتاج مادي ومعنوي ؟ ما العوامل التي تساعده على ذلك ؟ وما العوائق التي تضعف من عطائه؟
هذه الأسئلة تطرح نفسها على مستوى الفرد المجتمع، فقد يكون الإنسان ذكياً أو صاحب شهادات علمية كبيرة ومع ذلك فهو لا يتمتع بالفعالية المطلوبة، لأن الثقافة التي تشرّبها لا تساعده على إنجاز كبير ، وتسبب له نوعاً من العطالة الفكرية أو العلمية.
فالفعالية هي: الإنتاج الجيد والاستمرار فيه ، كما جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن أحب الأعمال إلى الله ما كان دائماً وإن كان قليلاً .
والفعالية هي الموازنة بين ما نريده على المدى القريب وما نريده على المدى البعيد، ولابد هنا أن نفرق بين " الفعالية " وبين " الكفاءة " فقد يقود الإنسان سيارته بكفاءة عالية، ولكنه غير فعال إذا كان متجهاً الوجهة الخطأ.
كما أنه لا يعتبر فعالاً من يجد نفسه في شغل دائم، فقد يكون مشغولاً بأمور صغيرة، وقد ترك أموراً كبيرة، وحاجات أساسية لم يتنبه لأهميتها، فالقاعدة التي تقول: ( أنا مشغول إذاً أنا فعّال ) غير صحيحة.
من أين تأتي الفعالية ؟
-إن أفضل النتائج المرجوة إنما تأتي من الارتكاز إلى مبادئ ثابتة، مبادئ لا تتغير ولا تتبدل بتبدل الزمان أو المكان، والمسلم يحمل أفضل المبادئ في اعتقاده وسلوكه، وهي ثوابت في داخل شخصيته، إنها مثل المنارة الثابتة التي تضيء الطريق للسالكين.
هذه المبادئ تعطي المسلم قوة في الشخصية وثقة في النفس، فخلق المسلم لا يسمح له بأن يصدق في مكان ويكذب في مكان آخر، ولا يعدل مع أشخاص ويظلم غيرهم، وهذه المبادئ تعطي المسلم رؤية واضحة حين تدلهم الأمور ويقع الناس في الحيرة، فيقف من القضايا المطروحة موقفاً واضحاً، يخفف عنه العناء الذي يساور الناس الآخرين. ولا يسمح للقضايا الشائكة أن تعيقه عن الاستمرار في عمله ودعوته.
2-الأهداف السامية وحمل (الرسالة) يفجر الطاقات ويضاعف الإنتاج، هذا ما حصل للمسلمين حين حفروا الخندق في مدة وجيزة، وهكذا فجر الإسلام الطاقات عند الصحابة حين يتحول فرد عادي مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شخصية عظيمة من عظماء التاريخ. الهدف السامي يعطي الشخصية سعة في الأفق وانشراحاً في الصدر، أما الشخص الفارغ المملوء بالأنانية والشكوى والحزن، فحري به أن ألّا يكون فعالاً.
3-وضوح الهدف ومعرفة الأولويات
وضوح الهدف من بداية الطريق يُزيلُ كثيراً من العراقيل، فالبوصلة هنا التي تحدد الاتجاه أهم من الساعة التي تضبط الوقت. ومن السيرة النبوية كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينتقل بأصحابه من مرحلة إلى أخرى وهم عالمون بمتطلباتها وينفذون مقتضياتها . ومعرفة أولويات كل مرحلة يوفر الجهد والوقت ، هل ننفق الأموال على أعمال النوافل وزخرفة المساجد ؟ وأين توضع أولوية المدارس والعمل الخيري والإنفاق علىالدعوة ؟
هل نبدأ بالأمور الأساسية أم ننشغل بالجزئيات ؟ هل نضع كل جهودنا في الردود على المخالفين أم لتأصيل المنهج ونشر الدعوة بين عامة الناس ؟ هل ننشغل بالمشاكل الكبرى للأمة ومحاولة وضع الحلول لها؟
4-من أبرز الأشياء التي تساعد على الفعالية : إقامة التوازن الذي يحفظ الطاقات من أن تهدر أو تبدد عندما يتضخم جانب على آخر، هذا التوازن سماه الله سبحانه وتعالى (قواماً) ( وكان بين ذلك قواما) وهو الوسطية والاعتدال، و به قيام الإنسان بالأعمال والواجبات على أحسن وجه، إنه توازن بين مطالب الروح ومطالب الجسد، بين الحاجات النفسية والحاجات الاجتماعية ، بين مطالب الدنيا ومطالب الآخرة، (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) بين المبادئ النظرية والممارسات العملية (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً).
والتوازن بألا ننعى الأمس وما حدث فيه ، وننطوي على الحزن ، وفي الوقت نفسه لا نحلم بالغد في غير واقعية، ويأتي التوازن بين الرغبة في الحصول (من الموظف أو العامل) على أشياء جيدة وقوية مع الاحتفاظ بالعلاقة الإنسانية العاطفية التي تجعل الإنسان يقوم بالعمل طواعية.
إن الذي ينفق أمواله حتى آخر قرش سيقعد ملوماً محسوراً كما وصفه القرآن، وقد ذم الله المسرفين والمبذرين، وهكذا أمر الإسلام بالاعتدال في المأكل والمشرب والمسكن، وإن إتلاف الأصول المادية التي نستعملها ونحتاج إليها في حياتنا اليومية مما يصيب الإنسان بالارتباك المادي، فالسيارة التي نركبها والآلة التي نستعملها إذا لم نعتن بها ونصلحها ونجددها بين الحين والآخر، فإنها ستصل إلى مرحلة لا نستطيع الاستفادة منها، وستذهب بعض الأوقات هدراً.
هل الذي يعمل إلى حد الإعياء، ولا يأخذ وقتاً لراحة، هل يمكن أن يكون فعالاً؟(/1)
أليس هذا مما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن لجسمك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً)، وفي العمل الإسلامي ألا يلاحظ أن الشخص النشيط الذي لا يرفض طلباً يكلف به، توضع عليه الأعباء كلها ؟! ومن الطبيعي أنه لا يستطيع إنجازها كلها متقنة، ولا يعطي لنفسه ولا لأولاده لا لإهله حقاً، وفي النهاية يصل إلى درجة الإعياء والإرهاق النفسي والجسدي.
5-لا نصطدم بقوانين الفطرة:
إنه من الأمور العادية أن ننتظر حتى ينضج المحصول الزراعي وننتظر المدة المعلومة حتى يأتي المولود، ولكن في البيئة الاجتماعية هل بإمكاننا أن نتجاهل هذه السنة الكونية، أو نتحايل عليها، نؤجل الدراسة إلى ما قبل الامتحان بأيام قليلة ثم نطلب النجاح؟ هل نتوقع الكسب والحصول على الثروة دون عمل؟ هل نستطيع ضغط الشخصية الإنسانية لتصبح فجأة عندها الشجاعة والكرامة والعاطفة الجيدة؟
هل تتحول المجتمعات من واقعها الحالي إلى ما هو أفضل دون جهد وإعداد وتدرج؟ إذاَ هناك سنة كونية وهي سنة الأسباب والنتائج.
6-المرونة وإعطاء مساحة مقبولة للتصرف، حتى لا نقع – لما هو التفكير السائد – في الثنائيات (الحتمية) مع أوضد، أسود ,ابيض فيكون هناك طريق ثالث أو رابع ، ولكن هذا لا يعني عدم حسم الأمور، ولا يعني أن بين الحق والباطل طريقاً ثالثا، فالمرونة المطلوبة يقع كثير منها في الاشياء العملية، وقد ترك الإسلام للمسلم مساحة للأخذ بالحد الأدنى أو الوصول إلى درجة الإحسان، فقد سمح له أن يأخذ حقه من خصمه وفي الوقت نفسه قال له (وأن تعفوا أقرب للتقوى) (وأن تصوموا خير لكم)، وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمن بأنه (كالخامة من الزرع التي تفيئها الريح يمنه ويسره (لا تنكسر) وشبه المنافق أو الكافر بشجرة الأرز التي إن انجعفت فلا تعود لحالها الأولى.
ومن المرونة ألا تسيطر على الإنسان عادة روتينية تأسره وتقيد حركته، والمسلم يقتدي هنا برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يأكل مما حضر ولا يتكلف شيئاً، ولا يعيب طعاماً، ويلبس ما يناسب مما يأتي من البلدان المجاورة دون تقيد بلباس معين.
7-إحسان العمل:
تأتي الفعالية في ترتيب الأوضاع وتنسيقها، وإحكام العمل وإجادته، فيوفر الجهد والوقت، ويعطي النفس راحة، وقد حث الله سبحانه وتعالى المسلمين على الإحسان في أعمالهم (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)، وقال تعالى (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) فهذا رفض للفوضى والتقصير والعجز، ومن الإحسان أن نقوي شخصاً من خلال التغلب على التحديات، كما نقوي عضلاتنا من خلال التدريب على حمل الأثقال، وفي مقدورنا أن نزيل ما في أنفسنا من الحسد والصراع على التوافه.
وفي مقدورنا أن نطور أنفسنا بالتفاؤل بالخير ، وامتلاك الشجاعة الأدبية التي تساعدنا على اتخاذ القرار وتبعد عنا الخوف والتردد ومحدودية الفعل.
وإذا كان المطلوب من المسلم أن يكون (شاهداً) فلابد أن يحسن الصلة بالحياة ولا يكون عاجزاً يتكيف مع أي واقع.
8-التجدد:
يمنح التجدد الإنسان نشاطاً كي يستأنف أعماله وواجباته بحيوية أكثر. والمسلم من بين سائر الناس مدفوع لهذا التجدد، ويمتلك المؤهلات لذلك، فالعبادات وعلى رأسها الصلاة تجعله في تجدد إيماني عاطفي على مدار اليوم، وما يطلبه الإسلام من علاقات اجتماعية مثل صلة الرحم وحق الجوار يعطيه الفرصة للتجدد الاجتماعي.
إن الإنسان حين يمارس رياضة عضلية شاقة، تتمزق الأنسجة، وعندئذ يقوم الجسم بالتعويض عنها خلال ثمان وأربعين ساعة، وكذلك في الرياضة الأخلاقية التي كرر ذكرها القرآن الكريم (الصبر) فإنه عندما يصل صبر المؤمن إلى أقصى الطاقة فإن الله سبحانه وتعالى يعوضه بأفضل مما كان.
وفي التجدد متابعة لتحقيق المسار الصحيح بين فترة وأخرى، حتى لا يقع الإنحراف عن المسار، وحتى لا تقيدنا خطوات وضعناها في الماضي وعندما نراجعها الآن نجد أنها غير ضرورية.
9-وتأتي الفعالية عندما لا نقع في شرك المعلومات الخاطئة، والأخبار غير الدقيقة والمبالغ فيها، فإما أن نعيش على أحلام اليقظة ، أو نقع في الخوف من شيء مجهول.
لأن المعلومات الخاطئة تجعل المسلم يعيش في أوهام ثم تتكشّف ـ فجأة ـ له الحقيقة فيصاب بالإحباط والذهول.(/2)
فاكهة المجالس
دار الوطن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فعادات سيئة وأخلاق ذميمة انتشرت بين قطاع عريض من الناس، ولعلَّ من أخطرها عادة أصبحت أساسية في كل مجلس لا يستغني عنها أصحابها – إلا من رحم الله – رغم أنها عادة ذميمة وعمل لئيم، وجريمة أخلاقية منكرة، لا يحسنها إلا الضعفاء والجبناء، ولا يستطيعها إلا الأراذل والتافهون، ولا ينتشر هذا العمل إلا حين يغيب الإيمان، وهي اعتداء صارخ على الأعراض، وظلم فادح وإيذاء ترفضه العقول، وتمجه الطباع وتأباه النفوس الكريمة، وهي كبيرة من كبائر الذنوب، ولقد جاء وصفها في كتاب الله تعالى بأبشع الصفات، قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12].
ولعظم أمرها فقد جاء الوعيد الشديد في حق مرتكبها، قال : { لما عُرج بي إلى السماء مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت: مَنْ هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم }.
ولعلك أخي القارئ عرفت ما هي هذه العادة الذميمة والعمل اللئيم، إنها الغيبة التي قال عنها ابن حجر الهيثمي: "إن فيها أعظم العذاب وأشد النكال، وقد صح فيها أنها أربى الربا، وأنها لو مزجت في ماء البحر لأنتنته وغيَّرت ريحه، وأن أهلها يأكلون الجيف في النار، وأن لهم رائحة منتنة فيها، وأنهم يعذبون في قبورهم. وبعض هذه كافية في كون الغيبة من الكبائر".
والغيبة بضاعة كاسدة وسلعة رخيصة لا يسعى لها ولا يحافظ عليها إلا ضعاف الإيمان، وهي في الوقت نفسه تجارة خاسرة للمغتاب حيث إنه يخسر كثيراً من حسناته، ويكسب كثيراً من الذنوب والسيئات.
وبعض الناس مع الأسف الشديد لا تراه دائماً إلا منتقداً، وينسى صفات الآخرين الحسنة، ويركز على أخطائهم وعيوبهم فقط، فهو مثل الذباب يترك موضع البرء والسلامة ويقع على الجرح والأذى، وهذا من رداءة النفوس وفساد المزاج.
والغيبة هي كما بيَّنها رسول الله بقوله: { أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هي ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته } [رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي].
وهي حرام لقوله : { كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه } [رواه مسلم].
والغيبة تكون في القول، والإشارة والإيماء والغمز واللمز، والكتابة والحركة، وكل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة. تقول عائشة رضي الله عنها: { دخلت علينا امرأة فلما ولَّت أومأت بيدي أنها قصيرة، فقال رسول الله : "اغتبتيها" }.
بواعث الغيبة
يقول ابن تيمية رحمه الله في بواعث الغيبة:
1- إن الإنسان قد يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون أو فيه بعض ما يقولون، لكن يرى أنه لو أنكر عليهم لقطع المجلس واستثقله أهل المجلس.
2- ومنهم من يخرج الغيبة في قالب ديانة وصلاح ويقول: ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير، ولا أحب الغيبة والكذب، وإنما أخبركم بأحواله، والله إنه مسكين، ورجل جيد، ولكن فيه كذا وكذا، وربما يقول: دعونا منه، الله يغفر لنا وله، وقصده من ذلك استنقاصه.
3- ومنهم من يخرج الغيبة في قالب سخرية ولعب ليضحك غيره بمحاكاته واستصغاره المستهزأ به.
4- ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تعجب فيقول: تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت، ومن فلان كيف فعل كيت وكيت.
5- ومنهم من يخرج الغيبة في قالب الاغتمام، فيقول: مسكين فلان غمَّني ما جرى له وما تم له، فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف، وقلبه منطوٍ على التشفي به.
6- ومنه من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر وقصده غير ما أظهر.
خطورة الغيبة
إن هذا الأمر على خطورته في الدنيا والآخرة لم يأبه به كثير من الناس، وتهاونوا في أمره تهاوناً عظيماً، بل اعتبروه فاكهة مجالسهم، فإنك لا تكاد تجلس في مجلس إلا وهذا الوباء موجود فيه. وسبب انتشاره هو عدم إدراك خطورته. فانظر – يا رعاك الله– إلى هذه النصوص الكريمة ليتبين لك شناعة الغيبة وخطورتها:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: { قلت: يا رسول الله، حسبك من صفية أنها قصيرة، فقال : "لقد قلت كلمةً لو مُزجت بماء البحر لمزجته" }.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، { أنهم ذكروا عند رسول الله رجلاً، فقالوا: لا يأكل حتى يطعم، ولا يرحل حتى يُرحل له، فقال النبي : "اغتبتموه" فقالوا: يا رسول الله، حدثنا بما فيه، قال: "حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه" }.(/1)
وروى أبو هريرة { أن رجلاً اعترف بالزنا أمام رسول الله أربع مرات، فأقام عليه الحد، فسمع الرسول رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه، فلم يدع نفسه حتى رُجم رجم الكلب، قال: فسكت رسول الله . ثم سار ساعة فمرَّ بجيفة حمار شائل برجله - أي قد انتفخ بطنه - فقال عليه الصلاة والسلام: "أين فلان وفلان؟" فقالا: ها نحن يا رسول الله، فقال لهما: "كُلا من جيفة هذا الحمار" فقالا: يا رسول الله، غفر الله لك، مَنْ يأكل من هذا؟ ! فقال رسول الله : فما نلتما من أخيكما آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة، فوا الذي نفسي بيده، إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها" } [رواه أحمد وصححه الألباني].
وروى أنس قال: { كانت العرب يخدم بعضها بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رجل يخدمهما، فاستيقظا مرة ولم يهيئ لهما طعاماً، فقال أحدهما لصاحبه: إن هذا ليوائم نوم بيتكم فأيقظاه، فقالا: ائت رسول الله فقل: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما يستأدمانك، فذهب وأخبر الرسول ، فقال الرسول : "قد ائتدما"، فجاء الغلام وأخبرهما، ففزعا وجاءا إلى رسول الله فقالا: يا رسول الله، بعثنا إليك نستأدمك فقلت: قد ائتدمتما، بأي شيء ائتدمنا. قال عليه الصلاة والسلام: "بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين أنيابكما"، قالا: استغفر لنا يا رسول الله، قال: "هو بل يستغفر لكما" }.
فانظر أخي الكريم ما هي الكلمة التي قالاها، كلمة واحدة. قالا: إن هذا ليوائم نوم بيتكم، أي إن هذا النوم يشبه نوم البيت لا نوم السفر، عاتبوه بكثرة النوم فقط فعاتبهما رسول الله.
إن كثيراً من الناس يهولون أمر الربا ويستعظمون أمره - وهو كذلك – ويتساهلون بما هو أعظم منه وهي الغيبة. قال رسول الله: { إن أربى الربا استطالة المسلم عرض أخيه المسلم }.
أخي الكريم: إن الغيبة هي أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه ذلك، سواء ذكرته بنقص في دينه أو في بدنه أو في نسبه أو في خلقه أو في فعله أو في قوله، حتى في ثوبه ونحو ذلك.
فأما البدن: فكذكر العمش والحول والقصر والسواد، وجميع ما تعلم أنه يكرهه من الصفات إلا أن يكون معروفاً بصفة من هذه الصفات ولا يميز إلا بها وهو لا يكرهها، فلا بأس بذلك.
وأما النسب: فكقولك: أبوه هندي، أو فاسق أو زبال أو أي شيء تعرف أنه يكرهه، أو انتقاصه في حسبه ونسبه.
وأما الخُلُق: فكقولك: هو سيئ الخلق، بخيل متكبر، شديد الغضب، متهور، متسرع وما شابه ذلك.
وأما في أفعاله المتعلقة بالدين: فكقولك: هو كذاب،أو خائن، أو شارب خمر، أو ظالم،أو متهاون بالصلاة، أو لا يحسن الركوع والسجود، أو ليس بارًّا بوالديه، أو لا يحفظ لسانه من الكذب والشتم والسب ونحو ذلك.
وأما فعله المتعلق بالدنيا: فكقولك: إنه قليل الأدب، متهاون بالناس ولا يحترمهم، ولا يرى لأحد على نفسه حقًّا، أو يرى لنفسه الحق على الناس، أو إنه كثير الكلام، وكثير النوم في غير وقت النوم.
وأما في ثوبه: فكقولك: إن ثوبه طويل، أو وسخ الثياب، أو رديء الملابس. وقس على ذلك باقي الأمور الأخرى.
إن بعض الناس قد يغتاب شخصاً فإذا قيل له: اتق الله ولا تتكلم في أعراض المسلمين. أجاب بقوله: أنا مستعد أن أقول ذلك أمامه، أو أن فلاناً لا يغضب مما أقول. فما يدريك يا أخي أنه لا يغضب، فلعله يجامل عندك ولكن في قرارة نفسه يتألم كثيراً من ذلك القول ويكرهه.
أخي الحبيب إن حديثك تنساه بمجرد إطلاق الكلمة وانتهاء المجلس، ولكنه محص عليك، وأنت موقوف يوم القيامة حتى يقتص منك، فيؤخذ لمن اغتبتهم من حسناتك، فإن فنيت حسناتك، أُخذ من سيئاتهم فحطَّت عليك!!. وما أشدها من مصيبة أن تفجع في ذلك اليوم العظيم بمثل هذا وأنت أحوج ما تكون للحسنة الواحدة.
وكما أنك أيضاً لا تقبل أن يكون عرضك حديث المجالس فكذلك الناس لا يقبلون ذلك لأنفسهم، فطهر لسانك وطهر مجلسك من الغيبة، ولا تسمح لأي شخص أن يغتاب أحداً عندك في مجلسك، ولو تكلم أحد فأسكته وبيّن له حرمة ذلك، ودافع عن أعراض إخوانك المسلمين إذا اغتابهم أحد عندك، فإن في ذلك أجرًا عظيماً كما قال : { من ردَّ عن عرض أخيه المسلم كان حقّاً على الله عز وجل أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة } [رواه أحمد والترمذي].
واعلم أخي الكريم أن المغتاب لو لم يجد أذناً صاغية لما اغتاب واسترسل في الحديث، فأنت باستماعك الحديث وعدم إنكارك عليه تكون مشجعاً على المعصية، وإذا لم تنكر عليه ولم تترك المجلس إذا لم يرتدع وينتهي عن الغيبة فإنك تكون شريكاً في الإثم.
وأخيراً: فإن الغيبة كما تبين آنفاً أمرها خطير والاحتراز منها صعب جدًّا إلا لمن وفقه الله وأعانه على ذلك، وجاهد نفسه في الاحتراز منها.(/2)
لذا فينبغي على المسلم أن يجاهد نفسه على تجنبها والابتعاد عنها، وليحاول أيضاً أن يعفو ويصفح عن كل من اغتابه وتكلم فيه، فإن في ذلكأجراً عظيماً، قال تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ َا يُحِبُّالظَّالِمِينَ [الشورى:40]. ولعل ذلك أيضاً يكون سبباً في أن يسخر الله له قلبَ كل من اغتابه هو فيعفو عنه ويسامحه جزاء ما فعل هو مع غيره، ولن يخسر الإنسان شيئاً إذا عفى وسامح، بل إنه سيتضاعف له الأجر بهذا العفو، ولقد عرف الصحابة رضوان الله عليهم ذلك فسارعوا إلى اغتنام مثل هذه الأجور فعفوا وسامحوا وصفت قلوبهم، ومن ذلك ما روي عن رسول الله أنه حث يوماً على الصدقة، فقام علبة بن زيد، فقال: ما عندي إلا عرضي فإني أشهدك يا رسول الله أني تصدقت بعرضي على من ظلمني، ثم جلس، فقال رسول الله بعد ذلك: أين عُلبة بن زيد؟ قالها مرتين أو ثلاثاً. فقام علبة، فقال له رسول الله : "أنت المتصدق بعرضك قد قبل الله منك".
ويقول ابن القيم في مدارج السالكين: والجود عشر مراتب، ثم ذكرها فقال: والسابعة الجود بالعرض، كجود أبي ضمضم من الصحابة، كان إذا أصبح قال: اللهم لا مال لي أتصدق به على الناس، وقد تصدقت عليهم بعرضي، فمن شتمني أو قذفني فهو في حل! فقال النبي : { من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم }.
فلنحرص كل الحرص على أن نكون كأبي ضمضم ونتأسى به ونحذوا حذوه فنعفوا ونسامح كل من ظلمنا أو اغتابنا، لعل الله أن يعفو عنا ويسامحنا، وليكن ذلك من هذه اللحظة قبل أن تضعف النفس ويثقل عليها الأمر فيما بعد.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/3)
فالنتين.. العيد المزعوم
نزار محمد عثمان*
الاحتفال بهذا العيد المزعوم اتباع لعادات النصارى التي نهينا عنها، والتي أطلت برأسها مع الانفتاح الإعلامي للمسلمين على الثقافة الغربية عبر الفضائيات والشبكة العالمية ـ الإنترنت ـ، وعيد الحب في أصله من أعياد الرومان الوثنيين ولهم فيه أساطير كثيرة، ثم ارتبط بالقديس فالنتين بعد اعتناق الرومان للنصرانية، حيث ابقوا على الاحتفال بعيد الحب ونقلوه من مفهومه الوثني (الحب الإلهي) إلى مفهوم آخر يعبر عنه بشهداء الحب، ممثلاً في القديس فالنتين الداعية إلى الحب والسلام ـ في زعمهم ـ الذي أعدمه الإمبراطور (كلوديوس الثاني) في القرن الثالث الميلادي، لأنه كان يجري عقود الزواج لجنود الإمبراطور سراً، وكان الإمبراطور قد منعهم من الزواج لضمان عدم انشغالهم عن الحرب، فعلم الإمبراطور بذلك فزج به في السجن، وحكم عليه بالإعدام. فاعتبر (القديس فالنتين) شفيع العشاق وراعيهم. وهناك أسطورة أخرى تقول إن الإمبراطور ـ السابق ذكره -كان وثنياً وكان (فالنتين) من دعاة النصرانية وحاول الإمبراطور إخراجه منها ليكون على الدين الوثني الروماني، لكنه ثبت على دينه النصراني وأعدم في سبيل ذلك في 14 فبراير عام 270م ليلة العيد الوثني الروماني.
لكل هذا لا يجوز الاحتفال بهذا العيد، ومن يظهر أي قدر من الحفاوة بهذا العيد يكون قد وقع في محاذير عديدة أهمها:
أولاً: تعظيم مناسبات وثنية يحرم على المسلم تعظيمها.
ثانياً: التشبه بالكفار أمر محرم سواء كان التشبه بهم في عقائدهم وعباداتهم، أو عاداتهم وسلوكهم. والتشبه بالكفار فيما هو من دينهم ـ كعيد الحب ـ أخطر من التشبه بهم في أزيائهم وعاداتهم.
ثالثاً: ابتداع أعياد جديدة ليست من الدين في شيء، لأن الأعياد في الإسلام عبادات تُقرِّب إلى الله تعالى، وليس في الإسلام ما يطلق عليه عيد إلا الجمعة والفطر والأضحية. والعبادات توقيفية، فليس لأحد من الناس أن يضع عيداً لم يشرعه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: مفهوم إشاعة المحبة بين الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم مفهوم مخالف للإسلام؛ فإن للكافر على المسلم العدل في المعاملة، وعدم الظلم، إن لم يكن حربياً، ولم يظاهر الحربيين ولا يلزم من ذلك بذل المحبة والمودة له.
خامساً: المحبة المقصودة في هذا العيد المزعوم هي محبة العشق والغرام خارج إطار الزوجية. ولا يجوز ذلك للمسلم لكل ما سبق يحرم الاحتفال بهذا العيد المزعوم، كما يحرم إظهار الرضا به وتقديم أي هدية أو بطاقة معايدة، كما لا يحل لمن أهديت له هدية بهذه المناسبة أن يقبلها لأن في قبولها إقرار للعيد. ومن هُنِّئ بهذا العيد فلا يرد التهنئة. قال ابن القيم رحم الله تعالى: "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم عند الله وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، ونحوه. وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك وهو لا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه" [أحكام أهل الذمة: 1/441-442].
هذا وصلى الله وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/1)
فاليوم ننجيك ببدنك
الكاتب: محمد يوسف المليفي
موريس بوكاي .. من هو موريس بوكاي ؟! وما أدراك ما فعل موريس بوكاي ؟!
إنه شامة فرنسا ورمزها الوضاء.. فلقد ولد من أبوين فرنسيين , وترعرع كما ترعرع أهله في الديانة النصراني, ولما أنهى تعليمه الثانوي انخرط طالبا في كلية الطب في جامعة فرنسا, فكان من الأوائل حتى نال شهادة الطب , وارتقى به الحال حتى أصبح أشهر وأمهر جراح عرفته فرنسا الحديثة .. فكان من مهارته في الجراحة قصة عجيبة قلبت له حياته وغيرت له كيانه..! اشتهر عن فرنسا أنها من أكثر الدول اهتماما بالآثار والتراث , وعندما تسلم الرئيس الفرنسي الاشتراكي الراحل (فرانسوا ميتران) زمام الحكم في البلاد عام 1981 طلبت فرنسا من "مصر "في نهاية الثمانينات استضافة مومياء (فرعون مصر) إلى فرنسا لإجراء اختبارات وفحوصات أثرية ومعالجة .. فتم نقل جثمان أشهر طاغوت عرفته مصر.. وهناك وعلى أرض المطار اصطف الرئيس الفرنسي منحنيا هو ووزراؤه وكبار المسؤولين في البلد عند سلم الطائرة ليستقبلوا فرعون مصر استقبال الملوك وكأنه مازال حيا..! وكأنه إلى الآن يصرخ في أهل مصر (أنا ربكم الأعلى!)
عندما انتهت مراسم الإستقبال الملكي لفرعون مصر على أرض فرنسا .. حملت مومياء الطاغوت بموكب لا يقل حفاوة عن استقباله وتم نقله إلى جناح خاص في مركز الآثار الفرنسي , ليبدأ بعدها أكبر علماء الآثار في فرنسا وأطباء الجراحة والتشريح دراسة تلك المومياء واكتشاف أسرارها, وكان رئيس الجراحين والمسؤول الأول عن دراسة هذه المومياء الفرعونية هو البروفيسور موريس بوكاي
كان المعالجون مهتمين في ترميم المومياء, بينما كان اهتمام رئيسهم( موريس بوكاي) عنهم مختلفا للغاية , كان يحاول أن يكتشف كيف مات هذا الملك الفرعوني , وفي ساعة متأخرة من الليل.. ظهرت نتائج تحليله النهائية ..
لقد كانت بقايا الملح العالق في جسده أكبر دليل على أنه مات غريقا..! وأن جثته استخرجت من البحر بعد غرقه فورا, ثم اسرعوا بتحنيط جثته لينجو بدنه!
لكن ثمة أمراً غريباً مازال يحيره وهو كيف بقيت هذه الجثة دون باقي الجثث الفرعونية المحنطة أكثر سلامة من غيرها رغم أنها استخرجت من البحر..! كان موريس بوكاي يعد تقريراً نهائيا عما كان يعتقده اكتشافاً جديداً في انتشال جثة فرعون من البحر وتحنيطها بعد غرقه مباشرة , حتى همس أحدهم في أذنه قائلا لا تتعجل فإن المسلمين يتحدثون عن غرق هذه المومياء..
ولكنه استنكر بشدة هذا الخبر , واستغربه , فمثل هذا الإكتشاف لايمكن معرفته إلا بتطور العلم الحديث وعبر أجهزة حاسوبية حديثة بالغة الدقة , فقال له احدهم :إن قرآنهم الذي يؤمنون به يروي قصة عن غرقه وعن سلامة جثته بعد الغرق .. ! فازداد ذهولا وأخذ يتساءل .. كيف يكون هذا وهذه المومياء لم تكتشف أصلا إلا في عام 1898 ميلادية أي قبل مائتي عام تقريبا , بينما قرآنهم موجود قبل أكثر من ألف وأربعمئة عام؟! وكيف يستقيم في العقل هذا , والبشرية جمعاء وليس العرب فقط لم يكونوا يعلمون شيئا عن قيام قدماء المصريين بتحنيط جثث فراعنتهم إلا قبل عقود قليلة من الزمان فقط؟؟؟
جلس (موريس بوكاي) ليلته محدقا بجثمان فرعون , يفكر بإمعان عما همس به صاحبه
له من أن قرآن المسلمين يتحدث عن نجاة هذه الجثة بعد الغرق .. بينما كتابهم المقدس (إنجيل متى ولوقا) يتحدث عن غرق فرعون أثناء مطاردته لسيدنا موسى عليه السلام دون أن يتعرض لمصير جثمانه البتة .. وأخذ يقول في نفسه : هل يعقل أن يكون هذا المحنط أمامي هو فرعون مصر الذي كان يطارد موسى؟! وهل يعقل ان يعرف محمدهم هذا قبل أكثر من ألف عام وأنا للتو أعرفه ؟!
لم يستطع (موريس) أن ينام , وطلب أن يأتوا له بالتوراة, فأخذ يقرأ في (سفر الخروج) من التوراة قوله »فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون الذي دخل وراءهم في البحر لم يبق منهم ولا واحد« .. وبقي موريس بوكاي حائراً حتى الإنجيل لم يتحدث عن نجاة هذه الجثة وبقائها سليمة بعد أن تمت معالجة جثمان فرعون وترميمه .
أعادت فرنسا لمصر المومياء بتابوت زجاجي فاخر يليق بمقام فرعون! ولكن ..(موريس
لم يهنأ له قرار ولم يهدأ له بال , منذ أن هزه الخبر الذي يتناقله المسلمون عن سلامة هذه الجثة! فحزم أمتعته وقرر أن يسافر إلى المملكة السعودية لحضور مؤتمر طبي يتواجد فيه جمع من علماء التشريح المسلمين.. وهناك كان أول حديث تحدثه معهم عما اكشتفه من نجاة جثة فرعون بعد الغرق.. فقام أحدهم وفتح له المصحف وأخذ يقرأ له قوله تعالى : فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون [يونس :92.... لقد كان وقع الآية عليه شديداً ورجّت له نفسه رجة جعلته يقف أمام الحضور ويصرخ بأعلى صوته : لقد دخلت الإسلام وآمنت بهذا القرآن.(/1)
رجع (موريس بوكاي) إلى فرنسا بغير الوجه الذى ذهب به .. وهناك مكث عشر سنوات ليس لديه شغل يشغله سوى دراسة مدى تطابق الحقائق العلمية والمكتشفة حديثا مع القرآن الكريم والبحث عن تناقض علمي واحد مما يتحدث به القرآن ليخرج بعدها بنتيجة قوله تعالى "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " فصلت :43]
كان من ثمرة هذه السنوات التي قضاها الفرنسي موريس أن خرج بتأليف كتاب عن القرآن الكريم هز الدول الغربية قاطبة ورج علماءها رجا , لقد كان عنوان الكتاب القرآن والتوراة والإنجيل والعلم .. دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة).. فماذا فعل هذا الكتاب؟؟ من أول طبعة له نفد من جميع المكتبات ! ثم أعيدت طباعته بمئات الآلاف بعد أن ترجم من لغته الأصلية (الفرنسية) إلى العربية والإنكليزية والأندونيسية والفارسية والصربكرواتية والتركية والأوردوية والكجوراتية والألمانية ..!
لينتشر بعدها في كل مكتبات الشرق والغرب , وصرت تجده بيد أي شاب مصري أو مغربي أو خليجي في أميركا, فهو يستخدمه ليؤثر في الفتاة التي يريد أن يرتبط بها..! فهو خير كتاب ينتزعها من النصرانية واليهودية إلى وحدانية الإسلام وكماله ..
ولقد حاول ممن طمس الله على قلوبهم وأبصارهم من علماء اليهود والنصارى أن يردوا على هذا الكتاب فلم يكتبوا سوى تهريج جدلي ومحاولات يائسة يمليها عليهم وساوس الشيطان.. وآخرهم الدكتور (وليم كامبل) في كتابه المسمى (القرآن والكتاب المقدس في نور التاريخ والعلم) فلقد شرّق وغرّب ولم يستطع في النهاية ان يحرز شيئا..!
بل الأعجب من هذا أن بعض العلماء في الغرب بدأ يجهز رداً على الكتاب , فلما انغمس بقراءته أكثر وتمعن فيه زيادة .. أسلم ونطق بالشهادتين على الملأ!! فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
يقول موريس بوكاي في مقدمة كتابه :لقد أثارت هذه الجوانب العلمية التي يختص بها القرآن دهشتي العميقة في البداية , فلم أكن أعتقد قط بإمكان اكتشاف عدد كبير إلى هذا الحد من الدقة بموضوعات شديدة التنوع , ومطابقتها تماما للمعارف العلمية الحديثة , وذلك في نص قد كتب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا..!
معاشر السادة النبلاء.. لا نجد تعليقا على تلك الديباجية الفرعونية .. سوى أن نتذكر قوله تعالى : "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً " .
نعم والله لو كان من عند غير الله لما تحقق قوله تعالى في فرعون " فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية "كانت حقا آية إلهية في جسد فرعون البالي..
تلك الآية التي أحيت الإسلام في قلب موريس(/2)
فتاة لا تعجبني
محمد بن سعد الدوسري
دار الوطن
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده … أما بعد :
* من أنا حتى يعجبني أو لا يعجبني؟ أنا الفضيلة، أنا الغيرة الساكنة في قلب كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، أنا العقل السليم، أنا الحياة الدافئة بأنوار الشريعة، أنا الشرف المولود، أنا الحياء الموروث، أنا ضفتا العفة، أنا الخير الذي يشع على كل بلاد ألتزمتني، أنا الحياة السعيدة.
* بعد أن عرفتم من أكون؟ لا أنسى أن أعرفكم من تكون تلك الفتاة التي لا تعجبني .. إنها فتاة، إنها صبية، إنها امرأة .. وكيف لا تعجبني؟ أبوح لكم بالجواب، إنها فتاة تخلت من أساور الإسلام، واستبدلتها بقيود الموضة وسلاسل التبعية، إنها فتاة نحرت الحياء ورمت به بعيداً بعيداً.
* كل يوم تسأل عن الموضة، وكل ليلة تساهر القمر تبحث وتفكر في أمور تخالف فطرتها التي فطرها الله عليها، أمور تافهة، وأفكار سافلة، ترى نفسها فوق الآخرين، لماذا؟ لا أدري! قد يكون بتصورها السامج وإعجابها بجمالها الكاذب.
خدعوها بقولهم حسناء *** والغواني يغرهن الثناء
* نعم! فالجمال ليس كما تتخيله هذه المسكينة التائهة؛ بل الجمال جمال العلم والأدب. أما من مشت في المنحدرات المظلمة والمستنقعات الموحلة الموحشة، فهي أقبح ما تكون عند من لا يغتر بالمظاهر.
على وجه مي مسحة من ملاحة *** وتحت الثياب الخزي لو كان باديا
* وقد يكون إعجابها بنفسها بسبب دريهمات جعلها الله تعالى في يدها، أخشى أن تنفقها ثم تكون عليها حسرة، أو بلسانها الذي يقطر غيبة في المجالس، وكذباً في الكلام ولعناً، وتشبعاً بما لم تعط، أقبح بها من خصال تورد صاحبتها شلالات البوار.
* أرجع إلى فتاتنا الصبية وصبيتنا المرأة، التي جعلت من نفسها عفناً ينجذب إليه المتسكعون في الأسواق ليلاً ونهاراً، لم يودعها ولم يردعهم دين ولا مروءة ولا حياء، إنها فتاة نزعت ذلك القناع الذي بجملها، ألا وهو قناع الحياء، لم تفكر يوماً من الأيام أن تخدم دينها، لم تفكر ساعة في أهوال القبر وعذابه، قال تعالى: إنهم كانوا لا يرجون حساباً .
* ليس عندها ولا ذرة أمل أو بقايا همة في أن تتمثل بما تمثل به النساء الصالحات؛ لتخدم هذا الكيان العظيم (الإسلام) فترفل في ثياب العز، وتنتظرها جنة عرضها السموات والأرض. إنما نظرها ماذا لبست الممثلة الفلانية؟ وما هي قصة عارضة الأزياء الفرنسية؟
هل يستوي من رسول الله قائده *** دوماً وآخر هاديه أبو لهب
وأين ما كانت الزهراء أسوتها *** ممن تقفت خطاً حمالة الحطب
* يا لها من غافلة خسرت ورب الكعبة بحديث النبي : { صنفان من أمتي لم أرهما قط: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات…} الحديث. فهي مكتسبة اسماً عارية في الحقيقة؛ فيا لها من حسرة في الدنيا، وعار بين الأهل والعشيرة، يعقبهما عذاب شديد في الآخرة، وهي أيضاً مائلة في مشيتها وفي كلماتها، مميلة للسذج من الرجال.
* كم هي ضعيفة العقل؛ فهي لا تعد الناصحين والواعظين والمشفقين عليها من نار وقودها الناس؛ إلا أنهم أناس لا يعرفون التمدن، ولا يعرفون الحضارة، ولا يفقهون الحياة الحقيقية في زعمها، وصدق الله العظيم إذ ïقول: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله .
* نعم لقد اتبعت هذه الفتاة هوها وغرها طول الأمل، فكم نبهت في الدنيا وحذرت قبل الموت؛ فأبت إلا أن تسير في الأوحال والظلمات، فلم تأبه لصيحات المحذرين من الوقوع في الهاوية، ولا لصرخات المنذرين من العذاب الأليم يوم القيامة.
* تمر الأيام تترى وهي ساهية لاهية؛ نسيت هذه أن كل يوم يمضي إنما هو نقص من عمرها، وكل ساعة تمر تدنيها من قبرها الذي يناديها كل ليلة وهي لاهية، ولابد أن تستجيب شاءت أم أبت. إن تكلمت تبين سفورها في كلامها قبل وجهها، عدوة نفسها ودينها ومجتمعها، تتبجح عند مثيلاتها وزميلاتها بما رأت عبر الفضائيات من أمور يستحي المرء من وصفها، بل وتحثهن على متابعة تلك القنوات، فتبوء بإثمها وإثم كل من رأى بسبها ما رأى.
يا حسرة على النساء !
* ضاعت الأعمار، وضلت الأعمال، والموت كل يوم يدعوها إلى أجلها، قد تكون رزقت شهادة سوف تكون حجة عليها لا لها، وقد تكون سائقة لها إلى النار لا قائدة لها إلى الجنة. هي في حقيقة أمرها جاهلة وإن نالت الشهادات العليا والمراكز العلية. ويا لهفي على الأجيال التي تخبئها أرحام تلك الناقصات.
وإذا النساء رضعن في أمية *** رضع الرجال جهالة وخمولاً
* وقد تكون تلك المرأة رزقت أخاً أو زوجاً يقوم بتوصيلها إلى الأسواق ثم يتركها وحدها، وقد ينزل معها ولكن نزوله وعدمه سواء؛ فينزل معها (وعيناها) بائنتان بحدودها التي نالت نصف الوجنتين (والكفان) ظاهران إن لم نقل (الذراعين) تقلبهما حين تريد (مكاسرة البائع) (والقدمان) واضحتان لكل متسوق، أتعجب كل العجب، وأسأل نفسي: لماذا خرج معها زوجها إذن؟(/1)
* الجواب معروف؛ فقد أخرجته هل لتحمله البضائع التي سوف تشتريها حيث اتخذته سلة لمشترياتها.
* ولتعلم علم اليقين من كانت على منوال تلك الفتاة أنها قد تكون ممن يمسي في لعنة الله، ويصبح في غضبه، وتروح وتجيء في سخطه، فلتنتبه قبل أن لا ينفعها الانتباه، ولتعلم أنها لو تنعمت بأشكال اللذائذ وأنواع النعم طوال حياتها، ثم غمست غمسة في جهنم لأنكرت أن يكون مر بها نعيم قط، كما جاء في الحديث.
* لم نزل ننظر إلى صبيتنا الفتاة وهي فترح وتمرح، كم هي مسكينة مخدوعة، غرقت في بحار الأماني، وهلكت في محيط الأمل، والموت أقرب من شراك نعلها، هي تمشي بين الأسواق وما تدري ماذا أعد الله لها، وتنام ملء جفونها ولا تعلم ماذا ينتظرها من عذاب الله، وتضحك مع زميلاتها وربها سبحانه قد يكون ساخطاً عليها. لم يدر بخلدها تلك الحفرة الضيقة ذات اللازم الدامس التي سوف توضع فيها.
* لا تحب أحداً يذكرها بالموت؛ لأنه ينغص عليها لذاتها المحرمة، تريد أن تخادع نفسها حتى يهجم عليها الموت، حينها لن تخادع نفسها حتى يهجم عليها الموت، حينها لن ترجع إلا وفريسته في يده، وسوف تكون ممن يقول: يا ليتني قدمت لحياتي ، يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله . فإذا دقت ساعة الصفر، واقترب الموت، ولاقاها الذي طالما كانت تفر منه، ولا تحب أن تسمع ذكره؛ رأيت البكاء والدموع والتأوهات، إذ جعلت تستعرض شريط الذكريات السوداء التي لطختها بالسعي في الأرض والأسواق فساداً، أغوت عدداً من الشباب، وتبرجت في الأسواق، وتحدثت بتلك المكالمات الآثمة التي لا ترضي الله، وخانت والديها، وأصبح الإسلام يشتكي إلى الله منها؛ فتقول وهي على بوابة الآخرة: رب ارجعون، لعلي أعمل صالحاً فيما تركت إنه غباء مطبق ما بعده غباء.
* إني أقول لتلك الفتاة: اعلمي أن قبرك الآن ينتظرك وهو إما وإما، إما أن يكون روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، فإن كانت الأولى فاسعدي وقري عيناً، وإن كانت الثانية فما أشقاك وأتعسك والله. فهلا جلست أيتها الفتاة فتدبرت أي الحفرتين مصيرك؟ أي القبرين جزاؤك؟
* أيتها الفتاة، ألا تذكرين إحدى زميلاتك اللاتي قد تبادلت معها بعض الحديث، ثم أخبرت بعد ذلك أنها قد أكملت الأيام التي قدر الله لها أن تعيشها، ثم هي بين اللحود .. فما تظنين أن تقول أو تعمل لو سمح لها بالعودة إلى الحياة؟ وهل فكرت وسألت نفسك: لماذا أخذها الموت وتركني؟ فقد يكون هذا رحمة من الله تعالى لك، فأراد أن يذكرك وحق لمن اتعظ بغيره أن يسمى عاقلاً.
* فإن كنت قد اغتررت بمغفرة الله ورحمته فتذكري تلك الآية التي كان يرددها أبو حنيفة رحمه الله تعالى وهو قائم بتهجد آخر الليل، فلم يستطع أن يتجاوزها من البكاء خوفاً أن يكون منهم، وهو على ما هو عليه من التقوى والخشية؛ وهي قول الله تعالى: وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون أما أنت فقد جمعت عملاً سيئاً مع أمن من عقوبة الله وهذا غاية الخسران. يقول الحسن البصري رحمه الله: إن قوماً آلهتهم الأماني بالمغفرة حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة، يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي. وكذب؛ لو أحس الظن لأحسن العمل. ثم تلا قول الله تعالى : وبدا لهم من الله ما لهم يكونوا يحتسبون .
* أختاه ، يا من ظلمت نفسها، لا تغتري بنساء الغرب الفاجرات ومن شاكلهن ممن يعيشن في الحظيرة لا الحضارة، فإن أولئك وصفهم الله تعالى بقوله: إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ثم انظري في مآلهم بعد ذلك: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون وقال تعالى منبهاً لنا نحن المسلمين: والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم فهل تريدين أن تكوني مثلهم؟ كأني بك وقد اقشعر جلدك، وقف شعر رأسك، تقولين بملء فيك: معاذ الله. فأرجو أن تقولي بعدها: توبة يا رب.
يا رب هل من توبة *** تمحو الخطايا والذنوب
وتزيل هم القلب عنـ *** ـي والكآبة والشحوب
وقفة مشرقة
* ينبغي لكل فتاة أن تنظر إلى وجهها في المرآة، فإن كان جميلاً فلتكره أن تسيء إلى هذا الجمال بفعل قبيح، وإن كان قبيحاً فلتكره أن تجمع بين قبيحين: فبح في الوجه، وقبح في الفعل.
تدبري يا غافلة !
* إلى هذه الفتاة ومثيلاتها أنثر لهن باقة من النصائح الشعرية؛ علها أن تحرك قلباً قسا من طول الأمد، والجري خلف الأمل، حتى أصبح كالحجارة أو أشد، ونفساً سكنت أرض الله تعالى وما عرفت الله طرفة عين.
يقول مالك بن دينار رحمه الله تعالى:
أتيت القبور فناديتها *** فأين المعظم والمحتقر
وأين المذل بسلطانه *** وأين القوي على ما قدر
تفانوا جميعاً فما من خبر *** وماتوا جميعاً ومات الخبر
تروح وتغدو بنات الثرى *** فتحو محاسن تلك الصور
فيا سائلي عن أناس مضوا *** أما لك فيما مضى معتبر
ويقول الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:
انظر لنفسك يا مسكين في مهل *** ما دام ينفعك التفكير والنظر(/2)
قف بالمقابر وانظر إن وقفت بها *** لله درك ماذا تستر الحفر
وأختتم كلامي بقول الشافعي رحمه الله تعالى:
لله لو عاش الفتى في دهره *** ألفا من الأعوام مالك أمره
متلذذاً فيها بكل عجيبة *** متمتعاً فيها لغاية عمره
لم يعرف الأسقام فيها مرة *** أيضاً ولا خطر الهموم بفكره
ما كان هذا كله بجميعه *** بمبيت أول ليلة في قبره
* ما احلم الله عنها حيث أمهلها أياماً وسنين لعلها تستيقظ من غفلتها؛ فتراجع حساباتها مع الله تعالى، وتنظر في مصارع مثيلاتها كيف كانت؛ فتعظ وتعتبر بغيرها قبل أن يعتبر بها غيرها أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون .
* أختاه، أرجو أن تعذريني إن قسوت في العبارة، فإنما هي صيحة مشفق، ونصيحة محذر، وصرخة غيور، كتبتها بزفرات فؤادي؛ علها أن تعيها أذنك، ويستجيب لها فؤادك، ويفيق لها عقلك، وهي تحذير وذكرى لمن كان لها قلب أو ألقت السمع.
سأظل أنفخ في الرماد لعله *** يوماً يعود الوهج للنيران
وأظل أضرع للإله لعله *** يوماً يعود الناس للرحمن
* أسأل الله أن يجعل نظرك عبراً، وصمتك فكراً، ونطقك ذكراً، وأن يجعلك هادية مهدية، تعيشين سعيدة، وتموتين شهيدة، وتحشرين مع عائشة وفاطمة وخديجة، مع اللاتي أنعم الله عليهن بالنصيحة والدعوة إلى الله والإخلاص لهذا الدين. آمين.(/3)
فتاتي والحياء [1]
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ}
قصة واقعية
حكت لي صديقتي .. كانت تسير في الطريق فإذا بفتاة جميلة ترتدي استرتش ضيق .. لا أعلم كيف ارتدته .. سمعتها تصرخ.. لماذا تصرخ؟
إنه انقطع وتكشف كل مستور .. وهي لا ترتدي تحته أي شيء آخر!!!
وصرح جميع من في الطريق غطوها .. غطوها ... أين أهلها؟ كيف نزلت من بيتها بهذا البنطلون؟
والفتاة تصرخ وتبكي .. تساءلتُ لماذا؟ وعلى ماذا تبكي؟
لقد نزع منها الحياء قبل أن تتفتق منها الملابس.
وقالت أخرى:
رأيتُ الفتاة وهذه صفاتها [ومن لم تفعل ذلك ليست بفتاة عصرية أو متحضرة] ذات المكياج المتوهج والمشي المتعوج، والسلوك المتعرج الجريئة على محادثة الرجال، التي لا تثبت على حال.
قد عمدت إلى تدقيق الحواجب، وإضاعة الواجب.
لها عطر فواح ودموع كدموع التمساح، وزميل في الصباح وصديق في الرواح.
عزيزتي الفتاة:
اعلمي أن هذه الفترة من حياتك هي فترة تغيرات شاملة وسريعة في نواحي النفس والجسد والعقل والروح، وهي فترة نمو سريع في هذه الجوانب كلها، حتى قال عنها علماء النفس: إنها فترة انقلاب كامل، وقال آخرون هي مرحلة ثورة وتوتر.
ولكن عزيزتي الفتاة لا تنسي أثناء هذه التغيرات 'الحياء'.
ـ وتساءلت في نفسي لماذا قل الحياء بين الفتيات؟
ربما يرجع ذلك إلى:
1ـ النشأة: فمن شب على شيء شاب عليه. يقول الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
ويقول آخر:
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولن تلين إذا كانت من الخشب
2ـ الاختلاط وكثرة احتكاك الفتاة بالفتى في المجالات المختلفة كالجامعة والعمل.
3ـ التأثير الخارجي من مخالطة من قل حياؤهم أو تكررت رؤيتهم، سواء كان ذلك ناتجًا عن السفر إلى الخارج أو بدون وسائل الإعلام، أو غير ذلك فإن الأخلاق حسنها وسيئها تكتسب بالمخالطة.
4ـ ولعل من الأسباب أيضًا كثرة خروج الفتاة من بيتها أو الصحبة الفاسدة أو الغرق في المعاصي وأقول أخيرًا إنني أرجع قلة الحياء عند الفتيات إلى ضعف الإيمان والجهل بمعنى الحياء.
تعالى معي عزيزتي الفتاة.. لنقف أمام هذا المشهد القرآني الجميل الذي تجسده لنا الآية الكريمة في سورة القصص {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25].
مشية الفتاة الطاهرة الفاضلة العفيفة النظيفة حين تلقى الرجال 'على استحياء' في غير ما تبذل ولا تبرج ولا تبجح ولا إغواء. جاءته لتنهي إليه دعوة في أقصر لفظ وأخصره وأدله يحكيه القرآن بقوله: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25].
[لم تقل له: أحب أن أتعرف عليه .. ما اسمك؟ أنا اسمي كذا...].
فمع الحياء الإبانة والدقة والوضوح، لا التلجلج والتعثر والربكة، وذلك كذلك من إيحاء الفطرة النظيفة السليمة المستقيمة، فالفتاة القويمة تستحي بفطرتها عند لقاء الرجال والحديث معهم، ولكنها لثقتها بطهارتها واستقامتها لا تضطرب إلاضطراب الذي يطمع ويغري ويهيج، إنما تتحدث في وضوح بالقدر المطلوب ولا تزيد. [في ظلال القرآن ـ سيد قطب].
عزيزتي الفتاة المسلمة:
ما معنى الحياء؟ هل هو خلق مكتسب أم غريزي؟
هل يمكن لمن لا حياء عنده أن يملك من الحياء ما يردعه عن المعاصي؟
وأخيرًا كيف نغرس الحياء في نفوسنا؟
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة هناك قاعدة عريضة توضحها لنا الآية، أنه لابد من حاجز بين العبد وبين المعصية وهذه الآية هي قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى[40]فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40ـ41].
فتوضح لنا الآية شقين أساسيين هما:
1ـ خوف من مقام الله تعالى.
2ـ نهي للنفس وزجر لها عن هواها متى خالف أمر الله تعالى.
وهذا الشق الثاني يكون عن طريق زراعة موانع وبناء حواجز داخل النفس ترفع مستوى تحكم وسيطرة الإنسان على نفسه.
ولذا كانت العناية الربانية ثم النبوية بهذا البناء عظيمة كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [[إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق]].
ـ ولقد روى ابن ماجه في سننه وحسنه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [[إن لكل دين خلقًا وخلق الإسلام الحياء]].
فما معنى الحياء إذن؟
ـ الحياء كما عرفه أهل العلم في اللغة أنه انقباض وانزواء وانكسار في النفس يصيب الإنسان عند الخوف من فعل شيء يعيبه.
ـ والحياء مشتق من الحياة، ولذا قال بعض الفصحاء حياة الوجه بحيائه كما أن حياة الغرس بمائة.
ـ كما عرفه علماء الشريعة بأنه خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق.
أو هو الامتناع عن فعل ما يعاب.
ـ وأخيرًا وهذا مرادنا هنا هو نهي النفس عن القبيح [وهو كل ما يغضب الله تعالى].
ونتساءل الآن هل الحياء خلق مكتسب أم غريزي؟
الحياء نوعان غريزي ومكتسب:
الحياء الغريزي: وهو الفطري الطبيعي.(/1)
والحياء المكتسب: هو الذي جعله الله تعالى من الإيمان وهو المكلف به [وهذا النوع هو مدار حديثنا] ومن كان فيه غريزة من الحياء فإنها تعينه على الحياء المكتسب.
عزيزتي الفتاة المسلمة:
لقد جاءت النصوص النبوية تؤكد على أن خلق الحياء من الإيمان في روايات كثيرة منها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [[الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان]].
وفي رواية أخرى: [[الحياء من الإيمان]]، وفي وراية [[الحياء لا يأتي إلا بخير]]، وفي رواية أخرى [[الحياء خير كله أو كله خير]].
وعن عمران بن حصين قال صلى الله عليه وسلم [[الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة ]].
فلماذا جعل الحياء من الإيمان؟
قال القاضي عياض وغيره من الشراح: [[إنما جعل الحياء من الإيمان ـ وإن كان غريزة ـ لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصد واكتساب وعلم، وأما كونه خيرًا كله ولا يأتي إلا بخير فأشكل حمله على العموم لأنه قد يصد صاحبه عن مواجهة من يرتكب المنكرات ويحمله على الإخلال ببعض الحقوق.
ـ والمراد بالحياء في هذه الأحاديث ما يكون شرعيًا، والحياء الذي ينشأ عن الإخلال بالحقوق ليس حياءً شرعيًا بل هو عجز ومهانة.
وإنما يطلق عليه حياء لمشابهته للحياء الشرعي، والحياء الشرعي هو خلق يبعث على ترك القبيح.
ومعنى أن [[الحياء كله خير ..]]. يحتمل أن يكون المعنى: من كان الحياء من خلقه الخير يكون فيه أغلب أو لكونه إذا صار عادة وتخلق به صاحبه يكون سببًا لجلب الخير له.
عزيزتي الفتاة المسلمة:
عن أبي مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم [[إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فافعل ما شئت]].
وفي شرح هذا الحديث في كتاب فتح الباري يقول: [[إن الذي يكف الإنسان عن مواقعة الشر هو الحياء، فإذا تركه صار كالمأمور طبعًا بارتكاب كل شر، وقيل: هو أمر تهديد أي إذا نزع منك الحياء فافعل ما شئت, فإن الله مجازيك عليه، وفيه إشارة إلى تعظيم أمر الحياء]].
فهل يمكن لمن لا حياء عندها أن تملك من الحياء ما يردعها عن المعاصي؟
أو يكف نفوس الحياء في نفس الفتاة؟
هذا ما سنعرفه في الجزء الثاني من المقال فتابعي معي.
فتاتي ... والحياء [2]
الجزء الثاني {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ}
كيف نغرس الحياء في نفس الفتاة؟
سؤال أحتاج إلى كثير من البحث للإجابة عنه، فلم أجد جوابًا شافيًا إلا في النصوص النبوية التي تشير بومضات إلى كيفية بناء الحياء في النفوس والوسائل المستخدمة لذلك.
[1] الوقفة الأولى مع الحديث الشريف:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [[الإيمان بضع وسبعون شعبة والحياء شعبة من الإيمان]].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء يقول: إنك لتستحي حتى كأنه يقول قد أضر بك [أي الحياء]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[دعه فإن الحياء من الإيمان]].
انظري إلى تفسير الإمام أبي عبيد الهروي لهذا الحديث بقوله:
معناه أن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي، ومن يستحي يتعفف عن فعل كل قبيح، ونجد هنا الارتباط الوثيق بين الحياء والإيمان.
ولما كان الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة، فإن الحياء يزيد وينقص، يزيد بالطاعات المؤكدة على معنى الحياء، وينقص بالمعاصي التي تخدش الحياء.
ويؤكد هذا المعنى ما رواه الحاكم في مستدركه [[الحياء والإيمان قرناء جميعًا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر]].
إذن فنفهم من الحديث أن من وسائل بناء الحياء في النفوس زيادة الإيمان، وبالتالي عليك أيتها الفتاة العناية الشديد بوسائل الثبات عل دين الله.
[2] الوقفة الثانية:
ما ورد في صحيح البخاري في كتاب الأدب عن بشير بن كعب في قوله: 'مكتوب في الحكمة: إن من الحياء وقارًا وإن من الحياء سكينة'.
قال القرطبي: معنى كلام بشير: أن من الحياء ما يحمل صاحبه على الوقار بأن يوقر غيره ويتوقر هو في نفسه، ومنه ما يحمله على أن يسكن عن كثير مما يتحرك الناس فيه من الأمور التي لا تليق بذي المروءة'.
ـ وبذا نصل إلى وسيلة أخرى من وسائل غرس الحياء وهي الوقار والسكينة.
بمعنى أن توقري غيرك أيتها الفتاة وتوقري نفسك باحترامها، ولا تكوني كمن لا تراعى قيمًا ولا تقاليد ولا أعرافًا فتصوني نفسك عن كل ما يهين نفسك.
وأيضًا يعني أن تسكن عن كثير من الأفعال التي يعاب على صاحبتها، ونراها الآن كثيرة منها: لبس الضيق والشفاف والمعاكسات في التليفون، والصداقات التي يزعمن أنها بريئة مع الشباب، والروائح في الطرقات، وغير ذلك كثير ومشاهد.(/2)
والفتاة المسلمة لها شخصيتها وسمتها، ولا تكون إمعة تجري وراء كل ناعق أو تقليد كل سفيهة وتقول: كل البنات هكذا. إن أحسن أحسنت وإن أسأن أسأت، ولكن عودي نفسك إن أحسن الناس أن تحسن وإن أساءوا أن تتجنبي إساءتهم.
[3] الوقفة الثالثة:
عن أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه قال: [[الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء]].
عزيزتي الفتاة:
[[إن النفس مجبولة على الحياء ممن أسدى إليها معروفًا ومجبولة أيضًا على رد النعمة بمثلها، فمن الأمور التي تعظم الحياء في نفسك استشعار عظم نعم الله عليك بغير أداء لحقها ورد بمثلها.
فهل تقابلي هذه النعم بالجرأة على الله سبحانه وعدم الأدب معه سبحانه ـ فهذا الشعور يولد الحياء.
[4] الوقفة الرابعة:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [[استحيوا من الله حق الحياء]].
قلنا: يا رسول الله إنا نستحي والحمد لله.
قال: ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء' [صحيح سنن الترمذي].
'استحيوا' الألف والسين والتاء في اللغة للطلب أي اسعوا وابذلوا الجهد في طلب تحصيل منزلة حق الحياء، والمراد هنا هو الحياء المكتسب الذي أمرنا بتحصيله وبذل الجهد لتحصيل أعلى مراتبه.
وينبهنا هنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحياء وهو خلق قلبي لا بد وأن يبدو أثره على الجوارح.
الرأس وما وعى: أي الأنف والأذن واللسان والعين ويشمل أيضًا الفكر.
فعليك أيتها الفتاة أن تحفظي هذه الجوارح عن المعصية {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}، واتخذي هذه الجوارح وسيلة لإرضاء الله، لا وسيلة للجرأة على محارم الله وسببًا لغضب الله عليكِ.
البطن وما حوى: أي الحياء في طيب المطعم وطهارة اليد.
ذكر الموت والبلى: وهو الشعور بأن الآخرة حاضرة عيان ليست غيبًا بعيدًا.
ومن وسائل تحقيق الحياء تذكرك بملاقاة الله والملائكة، وإذا تذكرت أن الله سيقبضك على خاتمتك التي كنت تعملين وما كنت تفكرين فيه في الدنيا فيزيد الشعور بالحياء في قلبك.
ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى: فالحيية تشعر بالقيمة الحقيقية للدنيا وتؤثر الآخرة عليها، وتحاسب على أفعالها وتستحي من الله أن تُرى في غير ما يحب الله، ومن الملائكة التي تسجل أعمالها.
قال بعض الصحابة رضي الله عنهم: [[إن معكم من لا يفارقكم فاستحيوا منهم وأكرموهم]].
وقد نبه سبحانه وتعالى على هذا المعنى بقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ[10]كِرَاماً كَاتِبِينَ[11]يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10ـ12].
'أي استحيوا من هؤلاء الحافظين الكرام وأكرموهم وأجلوهم أن يروا منكم ما تستحيون أن يراكم عليه من هو مثلكم، والملائكة تتأذى منه بنو آم، فإذا كان ابن آدم يتأذى ممن يفجر ويعصي بين يديه، وإن كان يعمل مثل عمله فما الظن بأذى الملائكة؟'
وبذلك تصل إلى درجة الإحسان وهي أعلى المراتب في الإيمان كما جاء في الحديث الشريف: 'الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك'.
عزيزتي الفتاة المسلمة...
إن الله عز وجل ـ حليم حيي ستير يحب الحياء والستر كما ورد في صحيح سنن النسائي عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا إشارة إلى أنه حيث وجد الحياء وجد الستر والعفاف، وحيث تحل الجرأة على القبائح يحل معها التكشف والفضائح.
واعلمي أن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، وزوال النعمة تكون في معصيته.
فأي جهل وحمق وظلم للنفس إذا تخليت عن حيائك وطاعتك لربك.
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء
ولك في رسول الله أسوة حسنة حيث وصف لنا أبو سيعد الخدري الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: [[كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذارء في خدرها]] متفق عليه
أليس حريًا بك أن تكوني في حياء الرسول صلى الله عليه وسلم وهو رجل وأنت امرأة؟
ألا تتشبهين بإحدى ابنتي شعيب التي كرمها الله بذكرها في القرآن ووصفها بهذا الخلق الكريم خلق الحياء عندما قال تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25].
فتاتي .. ابذلي الجهد واعزمي وجاهدي نفسك لتصلي إلى مرتبة الحياء الحق.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(/3)
فتاتي .. والاستقامة [1/2]
وافته المنية وهو يشتري حزام الإحرام:
هذا صديق العائلة كان عمره إحدى وعشرين سنة, خرج من بيته سليمًا في كامل الصحة والشباب ليشتري حزام الإحرام ... ويتوجه في اليوم التالي لأداء مناسك العمرة.... وهو في الطريق صدمته سيارة وانتقل على إثرها إلى المستشفى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ... رحمه الله .. وأحمد الله أنه توفي على هذه النية الكريمة.
قصص ومشكلات:
تقول إحدى الفتيات: أتهاون في صلاتي وأخشى أن أموت.
وتقول أخرى: صديقتي شجعتني وأنا الآن نادمة!!
وهذه امرأة تسأل: مات ابني في عز الشباب [17 سنة] ولم يصل، فماذا أفعل؟
عزيزتي الفتاة المسلمة:
ما الذي يدعو الفتيات إلى استعراض ما لديهن ولفت الأنظار إليهن أحيانًا؟
ولماذا تسعى الكثير من الفتيات إلى اقتناء المجلات غير المحافظة؟
ولماذا تتابع الفتاة الأفلام والمسلسلات الغرامية فضلاً عن الإباحية؟
ولماذا تقوم بعض الفتيات بالمراسلات والمهاتفات والمعاكسات؟
ولماذا تتهاون كثير من الفتيات في أداء فريضة الصلاة وكذلك الالتزام بالحجاب الشرعي؟
وغيرها الكثير والكثير من الأسئلة المتعلقة بنفسية الفتاة المراهقة وأفعالها.
تحليل ودراسة نفسية:
للإجابة على هذه الأسئلة لا بد أن نرجع إلى علماء النفس الذين يؤكدون أن المراهق يعيش تحولاً عضويًا وجسديًا لا يعي الكبار عنه إلا القليل، ومن ثم فإنهم لا يحسنون التعامل مع المراهق والمراهقة.
ـ إن المراهق يمر بمجموعة من التغيرات التي تحدث في نموه الجسمي والعقلي والنفسي والاجتماعي، فالمراهقة تعتبر مرحلة انتقال من الطفولة إلى الرشد.
ـ وتؤكد الدراسات الحديثة أن المراهقة ليست بالضرورة مرحلة عواصف وضغوط بينما هي مرحلة نمو سريع فقط.
فترة المراهقة ليست فترة أزمات بالضرورة:
وسوف نلاحظ أن المجتمعات الإسلامية في عهودها الأولى قد تسامى فيها الشباب نحو أعمال البطولة والجهاد أو الدعوة أو العبادة، والعلم وأعالي الأمور، مما يؤكد أن فترة المراهقة ليست فترة أزمات بالضرورة وإنما قد تحولت إلى طاقات بناءة بسبب التربية العقدية والسلوكية تحت مظلة الدين الجديد'.
ـ إن علم النفس الحديث ينكر تمامًا أن مرحلة المراهقة مرحلة مصحوبة بمظاهر سلوكية تدل على الانحراف أو سوء التوافق ـ خلافًا للمعنى الشائع عند بعض الباحثين ـ بل يرى أصحاب علم النفس الحديث أن هذه الظاهرة ما هي إلا حالات عارضة تصاحب النمو السريع للمراهق.
وكل عجز عن التكيف أو اضطراب في السلوك أو تمرد هدام فإن أساسه ما يصادفه الفتى أو الفتاة من ظروف تسبب له هذا التوتر وعدم التكيف.
وذلك نتيجة لعوامل إحباطية قد يتعرض لها الفتى أو الفتاة في الأسرة أو المدرسة أو المجتمع، وهذه العوائق وعوامل الكبت والإحباط هي التي تدعو المراهق عادة إلى العناد والسلبية وعدم الاستقرار والانحراف السلوكي في بعض الأحيان.
معادلة ولكنها ليست صعبة:
والآن نتساءل:
كيف توازن الفتاة بين هذه المرحلة العمرية وما يصاحبها من تطورات وتغيرات سريعة، وبين سعيها للاستقامة والبعد عن الحياة العابثة اللاهية؟
ـ الجواب الشافي لهذا السؤال يتجسد في هذه النصوص:
1ـ 'قل آمنت بالله ثم استقم'
2ـ {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112].
3ـ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ[13]أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:13ـ14].
عزيزتي الفتاة .. تعالى معي نغوص في أعماق هذه النصوص لنصل إلى الجواب الشافي لهذا السؤال.
1ـ عن أبي عمرو ـ وقيل أبي عمرة ـ سفيان بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت: يا رسول الله قلُ لي في الإسلام قولاً لا اسأل عنه أحدًا غيرك.
قال: 'قل آمنت بالله ثم استقم' [رواه مسلم].
استقم: أي على عمل الطاعات والانتهاء عن المخالفات.
قال العلماء: معنى الاستقامة لزوم طاعة الله تعالى.
قالوا: وهي من جوامع الكلم وهي نظام الأمور.
2ـ {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112].
فالاستقامة: الاعتدال, والمعنى: على النهج دون انحراف، وهو في حاجة إلى اليقظة الدائمة والتدبر الدائم، والتحري الدائم لحدود الطريق، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل الاتجاه قليلاً أو كثيرًا، ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة، من حركات الحياة'. [في ظلال القرآن ـ سيد قطب]
3ـ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ[13]أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:13ـ14].
ربنا الله: ليست كلمة تقال، بل إنها ليست مجرد عقيدة في الضمير إنما هي منهج كامل للحياة يشمل كل نشاط فيها وكل اتجاه وكل حركة وكل خالجة، ويقيم ميزانًا للتفكير والشعور.(/1)
'ربنا الله' فله العبادة وإليه الاتجاه، ومنه الخشية وعليه الاعتماد.
'ربنا الله' فكل نشاط وكل تفكير وكل تقدير متجه إليه، منظور فيه إلى رضاه.
'ربنا الله' منهج كامل على هذا النحو، لا كلمة تلفظها الشفاه ولا عقيدة سلبية بعيدة عن واقعيات الحياة.
'ثم استقاموا': وهذه أخرى ... فالاستقامة والاطراد والثبات على هذا المنهج درجة بعد اتخاذ المنهج ... استقامة النفس وطمأنينة القلب ... استقامة المشاعر والخوالج، فلا تتأرجح ولا تضطرب ولا تشك ولا ترتاب بفعل الجواذب والدوافع والمؤثرات ـ وهي عنيفة ومتنوعة وكثيرة ـ واستقامة العمل والسلوك على المنهج المختار.
وفي الطريق مزالق وأشواك ومعوقات، وفيه هواتف بالانحراف من هنا ومن هناك! وهؤلاء:
'فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ' الاستقامة ضمان لعدم الخوف وعدم الحزن.
'أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ'.
كلمة 'يعملون' تشير إلى أن هناك عملاً كان الخلود في الجنة جزاءه.
عملاً منبعثًا من ذلك المنهج 'ربنا الله'، ومن الاستقامة عليه والثبات.
ـ ومن ثم ندرك أن الكلمات الاعتقادية في هذا الدين ليست مجرد ألفاظ تقال باللسان، فشهادة أن لا إله إلا الله ليست عبارة ولكنها منهج.
ومن ثم ندرك القيمة الحقيقية لمثل هذه الشهادة التي ينطق بها اليوم ملايين ولكنها لا تتعدى شفاههم ولا يترتب عليها أثر في حياتهم.
عزيزتي الفتاة المسلمة:
كيف تقولين: آمنت بالله ثم تتهاونين في الصلاة؟ [أي لا تستقيمين].
كيف تقولين: آمنت بالله ثم تؤجلين الحجاب؟ [أي لا تستقيمين].
كيف تقولين: آمنت بالله ثم تضيعين وقتك مع المجلات الهابطة والمسلسلات والأفلام الخليعة؟ [أي لا تستقيمين].
كيف تقولين: آمنت بالله ثم تستمتعين بالمعاكسات والمراسلات الغرامية؟ [أي لا تستقيمين].
كيف تقولين: آمنت بالله ثم تعقين والديك وتسيئين الأدب معهم؟ [أي لا تستقيمين].
كيف تقولين: آمنت بالله ثم تجرين وراء الموضة وأحدث الصيحات وأدوات المكياج؟ [أي لا تستقيمين]
عزيزتي الفتاة ... الحياة قصيرة مهما طال بها الوقت:
وإن امرؤ دنياه أكبر همه لمستمسك منها بحبل غرور
وإذا جلست مع نفسك فستجدي شيئًا ما يحيك في صدرك إنه إحساس المعصية وعدم الاستقامة على طريق الله.
فمن أراد حفظ قوة الإيمان فذلك بثلاث أمور:
الأول: امتثال أوامر الله [الغذاء].
الثاني: اجتناب النواهي [الحمية].
الثالث: التوبة النصوح [استفراغ المواد الفاسدة والأخلاط].
واعلمي عزيزتي الفتاة أن الشيطان يستعين بأمرين:
أحدهما: الغفلة ـ فإن غفل قلبك عن الله تعالى والدار الآخرة دخل لك الشيطان من كل مدخل.
والثاني: الشهوة ـ إذا زينت في قلبك وحسنت في عينك فقد فاز بك الشيطان وإنما أخرج آدم وحواء من الجنة بهذين المدخلين الغفلة والشهوة.
المعصية تنسى العبد نفسه:
قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19]، فعاقب سبحانه من نسيه عقوبتين:
إحداهما: أنه سبحانه نسيه: أي أهمله وتركه وتخلى عنه وأضاعه فيكون بذلك الهلاك أدنى إليه من اليد للفم.
والثانية: أنه أنساه نفسه ـ فهو إنساؤه لأسباب سعادتها وفلاحها وصلاحها.
والمعاصي تزيل النعم:
فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، وزوال النعمة تكون في معصيته.
والمعصية تباعد بين العبد والملك: [أي الملك الموكل به].
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ[30]نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:30ـ31].
وقال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12].
فيقول له الملك عند الموت: 'لا تخف ولا تحزن وأبشر بالذي يسرك'.
ويثبته بالقول الثابت أحوج ما يكون عليه في الحياة الدنيا، وعند الموت، وفي القبر عند المسألة.
وهذا ليس منك ببعيد أيتها الفتاة وقد سمعت عن الكثير ممن ماتوا وهم شباب.
ولعل رسالة الأم التي تقول: مات ابني في عز الشباب [17 سنة] ولم يُصلِّ تكون عبرة لشبابنا الذين يؤجلون طاعتهم لله والاستقامة على طريقه ـ سبحانه ـ بدعوى أنهم سوف يستقيمون عندما يكبرون.
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34].
والعمر بيد الله وحده لا يدري الإنسان هل سيصل إلى مرحلة الشيخوخة أم سيقبضه الله وهو في شبابه أم أم .....
عزيزتي الفتاة المسلمة:
إن قلت آمنت بالله فعليك إذن بالاستقامة على تعاليم الله الذي آمنت به، وافخري واعتزي بهذا الإيمان وهذا الشرف العظيم أنك من عباد الله قال الشاعر:(/2)
ومما زادني شرفًا وتيهًا وكدت بأخمصي أطأ الثري
دخولي تحت قولك:ياعبادي وأن أرسلت أحمد لي نبيًا
وللحديث بقية فتابعينا.
إعداد :فريق الاستشارات التربوية بموقع مفكرة الإسلام
فتاتي ....... والاستقامة 2
فريقان على النقيض:
الأول: هذه أم قطعت لابنتها الحجاب ومنعتها من النزول من البيت.
وهذه أخرى حرمت ابنتها من المصروف حتى لا تشتري به الطرحة.
والثاني: وهذه أم تدعو ابنتها للهداية والمواظبة على الصلاة وارتداء الحجاب والفتاة لا تريد وتؤجل وتؤجل بدعوى أنها ما زالت صغيرة، وتريد أن تستمتع بالحياة وتعيش كما تعيش بنات سنها.
عزيزتي الأم من الفريق الأول:
وعزيزتي الفتاة من الفريق الثاني:
لقد ذكر العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين فصلاً في تقوية باعث الدين اخترت منها المشاهد التالية أسوقها لنموذج الأم الأول ونموذج الفتاة الثانية:
المشهد الأول:
إجلال الله ـ تعالى ـ أن يُعصى وهو يرى ويسمع.
ومن قام بقلبه مشهد إجلاله ـ سبحانه ـ لما طاوعه قلبه لذلك البتة, وهذه هي مرتبة الإحسان الذي جاء في حديث جبريل 'الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك'.
المشهد الثاني:
مشهد محبته سبحانه فيترك معصيته محبة له يقول الشاعر:
إن المحب لمن يحب مطيع
المشهد الثالث:
مشهد النعمة والإحسان، فإن الكريم لا يُقابل بالإساءة ممن أحسن إليه، وإنما يفعل هذا لئام الناس، فيمنعه مشهد إحسان الله تعالى ونعمته عن معصيته حياء منه سبحانه وتعالى.
عزيزتي الفتاة ... فكيف يكون خير الله نازلاً ومعاصيك وقبائحك صاعدة إليه فملك ينزل بهذا وملك يعرج بهذا ... فأقبح بها من مقابلة.
المشهد الرابع:
مشهد الغضب والانتقام، فإن الله تعالى إذا تمادى العبد في معصيته غضب، وإذا غضب لم يقم لغضبه شيء يقول تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12].
فتاتي .. أنت إذا غضبت عليك الأم أو الأب أو المعلمة أو من له سلطة عليك فكيف يكون حالك؟
'ولله المثل الأعلى' فكيف يكون حالك إذا غضب عليك خالقك ـ تبارك وتعالى ـ؟
المشهد الخامس:
مشهد الفوات, وهو ما يفوت بالمعصية من خير الدنيا والآخرة.
ويكفي في هذا المشهد فوات الإيمان، فكيف يبيعه بشهوة تذهب لذاتها وتبقى تبعتها ... تذهب الشهوة وتبقى الشقوة.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: 'لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن'.
قال بعض الصحابة: ينزع منه الإيمان حتى يبقى على رأسه مثل الظلة ـ فإن تاب رجع إليه, وقال بعض التابعين: ينزع عنه الإيمان كما ينزع القميص فإن تاب لبسه.
ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري: 'الزناة في التنور عراة لأنهم تعروا من لباس الإيمان، وعاد تنور الشهوة الذي كان في قلوبهم تنورًا ظاهرًا يحمى عليهم في النار.
تأملي عزيزتي الفتاة، فما أدق هذا التشبيه العجيب.
المشهد السادس:
مشهد القهر والظفر، فإن قهر الشهوة والظفر بالشيطان له حلاوة وفرحة أعظم من الظفر بعدوه من الآدميين.
المشهد السابع:
مشهد العوض، وهو ما وعد الله سبحانه من تعويض من ترك المحارم لأجله ونهى نفسه عن هواها.
قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى[40]فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40ـ41]
وهنا نلمس شقين أساسيين يعينان الفتاة هما:
1ـ خوف مقام الله.
2ـ نهي النفس عن الهوى.
فإن تحقق هذا الشقان كان الجزاء برضاء الله في الدنيا والفوز بجنته في الآخرة يقول تعالى:'فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى'.
الأول: طغيان.
والثاني: إيثار الحياة الدنيا.
والعاقبة بعد ذلك هي الجحيم والعياذ بالله.
فأيهما تؤثرين وترضين لنفسك أيتها الفتاة؟ عليك إذن الاختيار.
المشهد الثامن:
مشهد المعية
وهو نوعان: معية عامة ومعية خاصة.
فالعامة: هي إطلاع الله عليك بعينه سبحانه فهو لا تخفى عليه حال.
والخاصة: المقصود بها هنا كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128].
وقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
عزيزتي الفتاة المسلمة:
هذه المعية الخاصة خير لك وأنفع في الدنيا والآخرة، وهذه المعية تفقدها من تنال شهوتها على التمام من أول عمرها إلى آخره.
وهذا ما أكده رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في حديثه لابن عباس:
'احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك'.
المشهد التاسع:
مشهد المعاجلة:
وهو أن يخاف أن يفاجئه الأجل فيأخذه الله على غرة فيحال بينه وبين ما يشتهي من لذات الآخرة، فيا لها من حسرة.
وقد قيل: يا من لا يأمن على نفسه طرفة عين، ولا يتم له سرور يوم .. الحذر ... الحذر وكلنا يقرأ ويسمع يوميًا ـ تقريبًا ـ عن شباب ماتوا بدون سبب أو مقدمات من مرض وغيره.
المشهد العاشر:
مشهد البلاء والعافية:(/3)
فإن البلاء في الحقيقة ليس إلا الذنوب وعواقبها، والعافية المطلقة هي الطاعة وعواقبها، فأهل البلاء هم أهل المعصية وإن عوفيت أبدانهم، وأهل العافية هم أهل الطاعة وإن مرضت أبدانهم.
وقال بعض أهل العلم في الأثر المروي: إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية.
وأنت عزيزتي الفتاة المسلمة إذا رأيت غيرك من الفتيات على علاقة بشباب أو ترتدي الضيق والعجيب من الملابس أو أو أو ...... مما فيه حال البنات اليوم، احمدي الله على العافية وعلى نعمة الإيمان، ولا تتمني أن تكوني مثلهن، فقد ادخر الله لك الخير الكثير في حياتك وبعد مماتك، وادخر للأخريات ما الله به عليم من العقاب إلا إذا تبن ورجعن إلى الطريق الصحيح.(/4)
فتاوى الترابي الأخيرة تشعل حرب بيانات في السودان الخرطوم 25/03/1427
جانب من المؤتمر الصحفي للرابطة الشرعية بالخرطوم
أصدرت الرابطة الشرعية للعلماء و الدعاة في السودان بيانا بعنوان " هذا بيان للناس في كفر و ردة الترابي " قالت فيه أن الترابي (ما فتىء منذ الستينات يردد و يجتر أقوالا شاذة , و أفكارا ضالة , يفتري فيها الكذب على الله و رسةله صلى الله عليه و سلم و دينه , يلبس و يدلس بها على الناس , تصب كلها في معين واحد , و هو السعي إلى تبديل الدين و تطويعه حتى يساير ما عليه الكفار اليوم ) , و إتهم البيان الترابي بإنكار ما هو معلوم من الدين ضرورة , و بنفي ما أثبته الله و رسوله صلى الله عليه و سلم و أجمعت عليه الأمة .
و خلص البيان إلى أن الترابي " كافر مرتد , يجب أن يتوب عن جميع تلك الأقوال , و يعلن توبيه على الملأ مفصلة , و يتبرأ عن كل ما صدر منه أمام طائفة من أهل العلم " .
و دعا البيان " ولاة الأمر " إلى إستتابة الترابي و إلا نفذوا فيه حكم الردة , و دعوا إلى الحجر عليه و على كتبه و أن يمنع من المقابلات , كما قال البيان .وقد اقامت الرابطة مؤتمرا صحفيا لقاعة الشارقة حضره جمع من الاعلاميين.
إلى ذلك , قررت اكثر من (80) شخصية سياسية، ومفكرون رفع مذكرة لرئاسة الجمهورية ترفض "محاكمة الفكر" و "تنامي ظاهرة التكفير" كما قالوا.
واعلنت المجموعة في مؤتمر صحافي ، تقديم طعن دستوري في المادة 126 من القانون الجنائي باعتبارها متعارضة مع "حرية التفكير ومع أصول القرآن وميثاق حقوق الانسان ودستور البلاد" كما زعموا.
وقررت المجموعة تكوين جسم دائم للدفاع عن "حرية التفكير" ، ابرز اعضائه علي محمود حسنين، الحاج وراق، كمال الجزولي، مرتضى الغالي، رباح الصادق المهدي، الطيب زين العابدين، محمد محجوب هارون، آمال عباس، زهير السراج، و عمر القراي .واعلنت المجموعة عزمها على التنسيق مع القوى السياسية و المجتمع المدني لاتخاذ موقف جماعي رافض لأي اتجاه لتقديم الدكتور حسن الترابي للمحاكمة بشأن فتاويه الأخيرة .
و الجدير بالذكر أن مجمع الفقه الإسلامي في السودان كان قد أصدر بيانا رد فيه على إدعاءات الترابي الأخيرة و دعاه إلى التراجع عن أقواله , كما دعا للتعامل مع هذا الرجل "بما يقضي بالحق ويوقف الشر والضرر" .(/1)
فتاوى في التعزية والموت ...
سؤال1:
ماذا يفعل الجالس عند المحتضر؟ وهل قراءة سورة "يس" عند المحتضر ثابتة في السنة أم لا ؟
جواب1:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على نبينا محمد و على آله و أصحابه أجمعين .. عيادة المريض من حقوق المسلمين بعضهم على بعض. و ينبغي لمن عاد المريض أن يذكره بالتوبة ، و بما يجب عليه من الوصية . و بملء وقته بذكر الله _ عز و جل _ لأن المريض في حاجة إلى مثل هذا الشئ ، و إذا احتضر، و تيقن الإنسان أنه حضره الموت فإنه ينبغي له أن يلقنه : " لا إله إلا الله" كما أمر بذلك النبي ، صلى الله عليه و سلم ، فيذكر الله عنده بصوت يسمعه حتى يتذكر ، و يذكر الله ، قال أهل العلم و لا ينبغي أن يأمره بذلك ، لأنه ربما لضيق صدره و شدة الأمر عليه يأبى أن يقول "لا إله إلا الله "، حينئذ يكون الخاتمة سيئة ، و إنما يذكره بالفعل ، أي بالذكر عنده حتى قالوا : و إذا ذكّره فذكر فقال " لا إله إلا الله " فيسكت ، و لا يحدثه بعد ذلك ليكون آخر قوله: " لا إله إلا الله " ، فإن تكلم .. أي المحتضر فليعد التلقين عليه مرة ثانية ليكون آخر كلامه " لا إله إلا الله" . و أما قراءة " يس" عند المحتضر فإنها سنة عند كثير من العلماء لقوله ، صلى الله عليه و سلم : " اقرأوا على موتاكم (يس) . لكن هذا الحديث تكلم فيه بعضهم و ضعفه . فعند من صححه يكون قراءتها مسنوناًَ ، و عند من ضعّفه لا يكون ذلك أي قراءة " يس" مسنوناً .
الشيخ ابن عثيمين
سؤال2:
لقد سمعنا كثيرا من عامة الناس بأن الزوجة تحرم على زوجها بعد الوفاة أي بعد وفاتها و لا يجوز أن ينظر إليها و لا يلحدها عند القبر فهل هذا صحيح أجيبونا بارك الله فيكم؟
جواب2:
قد دلت الأدلة الشرعية على أنه لا حرج على الزوجة أن تغسل زوجها و أن تنظر إليه و لا حرج عليه أن يغسلها و ينظر إليها و قد غسلت أسماء بنت عميس زوجها أبا بكر الصديق رضي الله عنهما و أوصت فاطمة أن يغسلها علي رضي الله عنه ، و الله ولي التوفيق.
الشيخ ابن باز
سؤال3:
أرجوا أن توضحوا كيفية الصلاة على الجنازة كما ثبتت عن النبي صلى الله عليه و سلم، لأن كثيرا من الناس يجهلونها.
جواب3:
صفة الصلاة على الجنازة قد بينها النبي ، صلى الله عليه و سلم ، و أصحابه رضي الله عنهم ، و هي أن يكبر أولا ثم يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم و يسمي و يقرأ الفاتحة و سورة قصيرة أو بعض الآيات ، ثم يكبر و يصلي على النبي ، صلى الله عليه و سلم ، مثلما يصلي عليه في آخر الصلاة ، ثم يكبر الثالثة و يدعو للميت ، و الأفضل أن يقول : ( اللهم اغفر لحينا و ميتنا و شاهدنا و غائبنا و صغيرنا و كبيرنا و ذكرنا و أنثانا ، اللهم من أحييته من فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان ، اللهم اغفر له و ارحمه و عافه و اعف عنه و أكرم نزله و وسع مدخله و اغسله بالماء و الثلج و البرد و نقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، اللهم أبدله دارا خيرا من داره و أهلا خيرا من أهله ، اللهم أدخله الجنة و أعذه من عذاب القبر و من عذاب النار و افسح له قبره و نور له فيه ، اللهم لا تحرمنا أجره و لا تضلنا بعده) كل هذا محفوظ عن النبي ، صلى الله عليه و سلم ، و إن دعا له بدعوات أخرى فلا بأس مثل أن يقول: ( اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه و إن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته، اللهم اغفر له و ثبته بالقول الثابت .. ثم يكبر الرابعة ويقف قليلا ثم يسلم تسليمة واحدة عن يمينه قائلا : " السلام عليكم و رحمة الله" و يستحب رفع اليدين مع كل تكبيرة لثبوت ذلك عن النبي، صلى الله عليه و سلم ، وبعض أصحابه رضي الله عنهم. و يسن أن يقف الإمام عند رأس الرجل و عند وسط المرأة لثبوت ذلك عن النبي ، صلى الله عليه و سلم ، من حديث أنس و سمرة بن جندب رضي الله عنهما ، و أما قول بعض العلماء : إن السنة الوقوف عند صدر الرجل فهو قول ضعيف ليس عليه دليل فيما نعلم . و يكون حين الصلاة عليه موجها إلى القبلة لقول النبي ، صلى الله عليه وسلم ، عن الكعبة " إنها قبلة المسلمين أحياء و أمواتا " و الله ولي التوفيق.
ابن باز
سؤال4:
ما حكم الصلاة على الميت إذا كان تاركا للصلاة أو يشك في تركه لها أو نجهل حاله ؟
جواب4:(/1)
أما من علم أنه مات و هو لا يصلي فإنه لا يجوز أن يصلي عليه ، و لا يحل لأهلة أن يقدموه إلى المسلمين ليصلوا عليه ، لأنه كافر مرتد عن الإسلام و الواجب أن يحفر له حفرة في غير المقبرة و يرمى فيها و لا يصلى عليه ، لأنه لا كرامة له فإنه يحشر يوم القيامة مع فرعون و هامان و قارون و أبي بن خلف. أما مجهول الحال أو المشكوك فيه فيصلى عليه لأن الأصل أنه مسلم حتى يتبين لنا أنه ليس بمسلم و لكن لا بأس إذا كان الإنسان شاكا في هذا الرجل أن يستثني عند الدعاء فيقول : اللهم إن كان مؤمنا فاغفر له و ارحمة . لأن الاستثناء في الدعاء قد ورد في الذين يرمون أزواجهم ، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء أن الرجل إذا لاعن زوجته قال في الخامسة : " أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين" . و تقول هي في الخامسة : " أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين"
الشيخ ابن عثيمين
سؤال5:
ما حكم تأخير الصلاة على الجنازة و غسله و تكفينه و دفنه ، حتى يحضر أقارب الميت .. و ما الضابط لذلك ؟
جواب5:
تأخير تجهيز الميت خلاف السنة . خلاف ما أمر به النبي ، صلى الله عليه و سلم ، فقد قال ، عليه الصلاة و السلام ، " أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه و إن تك سوى ذلك فشر تضعوه عن رقابكم " .
ولا ينبغي الانتظار اللهم إلا مدة يسيرة كما لو انتظر به ساعة أو ساعتين و ما أشبه ذلك . و أما تأخيره إلى مدة طويلة فهذا جناية على الميت لأن النفس الصالحة إذا خرج أهل الميت به تقول: قدموني . قدموني. فتطلب التعجيل و التقديم . لأنها وعدت بالخير و الثواب الجزيل . و الله أعلم .
ابن عثيمين
سؤال6:
هل تحضر المرأة صلاة الجنازة؟
جواب6:
الصلاة على الجنازة مشروعة على الرجال و النساء لقول النبي ، صلى الله عليه و سلم : " من صلى على الجنازة فله قيراط و من تبعها حتى تدفن فله قيراطان" . قيل يا رسول الله : و ما القيراطان؟ قال " مثل جبلين عظيمين (يعني من الأجر) " . متفق على صحته. لكن ليس للنساء اتباع الجنائز إلى المقبرة لأنهن منهيات عن ذلك لما ثبت في الصحيحين عن أم عطية رضي الله عنها قالت : " نهينا عن اتباع الجنائز و لم يجزم علينا" أما الصلاة على الميت فلم تنه عنها المرأة سواء كانت الصلاة عليه في المسجد أو في البيت أو في المصلى . و كان النساء يصلين على الجنائز في مسجدة ، صلى الله عليه و سلم ، مع النبي ، صلى الله عليه و سلم ،وبعده . و أما الزيارة للقبور فهي خاصة بالرجال كاتباع الجنائز إلى المقبرة . لأن الرسول ، صلى الله عليه و سلم ، لعن زائرات القبور . و الحكمة في ذلك و الله أعلم ، ما يخشى من اتباعهن للجنائز إلى المقبرة و زيارتهن للقبور من الفتنة بهن و عليهن. و لقوله ، صلى الله عليه و سلم : " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" متفق على صحته و بالله التوفيق.
الشيخ ابن باز
سؤال7:
من فاتته الصلاة على الميت في المسجد سواء كان فردا أو جماعة هل يجوز لهم الصلاة على الميت في المقبرة قبل الدفن أو على القبر بعد الدفن؟
جواب7:
نعم يجوز لهم ذلك لكن إن أمكنهم أن يصلوا عليه قبل الدفن فعلوا و إن جاءوا و قد دفن فأنهم يصلون على القبر لأنه ثبت عن النبي، صلى الله عليه و سلم ، أنه صلى على القبر.
الشيخ ابن عثيمين
سؤال8:
ماهو الدعاء المشروع عند مواراة الميت بالتراب؟
جواب8:
ذكر بعض أهل العلم أنه يسن أن يحثى ثلاث حثيات . و أما قول " منها حلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى " ، فليس فيه حديث عن رسول الله ، صلى الله عليه و سلم ، فقد كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه و قال : " استغفروا لأخيكم و اسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل " ، فنقول اللهم اغفر له اللهم اغفر له اللهم اغفر له، اللهم ثبته اللهم ثبته ....
الشيخ ابن عثيمين
سؤال9:
ما حكم الدعاء بعد صلاة الجنازة؟
جواب9:
الدعاء مخ العبادة فسؤال العبد ربه لنفسه أو لغيره و إعلانه ضراعته و عبوديته لمولاه حينما يطلب حاجته منه رغب فيه سبحانه في كتابه فقال: " و قال ربكم ادعوني أستجب لكم " غافر 60
و قال : " ادعو ربكم تضرعا و خفية " الأعراف 55(/2)
و سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، بقوله و فعله و الأصل فيه الإطلاق حتى يثبت تقييده بوقت أو الترغيب في الإكثار منه في حال أو في وقت معين كحال السجود في الصلاة أو آخر الليل فيحرص المسلم على الإتيان به على ما بينته النصوص من إطلاق و تقييد . و قد ثبت في أحاديث صلاة الجنازة الدعاء للميت و ثبت الدعاء له بالأستغفار عند الفراغ من دفنه فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ، يزور القبور و يدعو لأهلها و يعلم أصحابه دعاء زيارة القبور كما يعلمهم السورة من القرآن و لنم يثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم ، الدعاء بعد صلاة الجنازة و لم يكن هذا من سنته و لا سنة أصحابه و لو حصل ذلك منه أو منهم لنقل كما نقل الدعاء له قي الصلاة عليه و عند زيارته و بعد الفراغ من دفنه و على ذلك يكون اعتماد الدعاء للميت أو لغيره بعد الفراغ من صلاة الجنازة بدعة ، لا يليق بالمسلم أن يفعلها لجديث : " عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين من بعدي و إياكم و محدثات الأمور ...." روا أهل السنن عن طريق العرباض بن سارية .
و صلى الله على نبينا محمد و آله و صحبه.
اللجنة الدائمة
سؤال10:
في مصر عندنا يدفنون الميت على ظهره و يده اليمنى على اليسرى فوق بطنه و لكني وجدت في السعودية بدفنون الميت على جنبه الأيمن أوجو الإفادة .
جواب10:
الصواب أن الميت يدفن على جنبة الأيمن مستقبل القبلة فإن الكعبة قبلة الناس أحياء و أمواتا و كما أن النائم ينام على جنبه الأيمن كما أمر النبي ، صلى الله عليه و سلم ، فكذلك الميت يوضع على جنبه الأيمن فإن النوم و الموت يشتىكان في كون كل منهما وفاة كما قال الله تعالى : " الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها " الزمر 42
و قال تعالى : " و هو الذي يتوفاكم بالليل و يعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى " الأنعام 60.
فالمشروع في دفن الميت أن يضجع على جنبه الأيمن مستقبلا القبلة و لعل ما شاهده السائل في بلاده كان ناتجا عن جهل في ذلك و إلا فما علمت أحدا من أهل العلم يقول أن الميت يضجع على ظهره و تجعل يداه على بطنه.
الشيخ ابن عثيمين
سؤال11:
ماهي الساعات التي نهينا أن نصلي فيها فلى موبانا؟ و لماذا لا يصلي الناس قلى الجنازة قبل صلاة الفجر أو قبل صلاة العصر إذا كانوا مجتمعين خصوصا في الحرمين للخروج من التهي؟
جواب11:
الساعات التي نهينا عن الصلاة فيها و عن دفن الميت ثلان ساعات : حين تطلع الشمس حتى ترتفع قيد رمح ، و حين يقوم قائم الظهيرة أي قبيل الزوال بنحو عشر دقائق، و إذا بقي عليها أن تغرب مقدار رمح .. هذه ثلاث ساعات لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه : " ثلاث ساعات نهانا رسول الله ، صلى الله عليه و سلم ، أن نصلي فيهن و أن تقبر فيهن موتانا". و ذكر هذه الساعات الثلاث . و أما ما بعد صلاة الفجر و بعد صلاة العصر فإنه ليس فيه نهي عن الصلاة على الميت و لهذا فلا حاجة أن نقدم الصلاة على الميت قبل صلاتي
الشيخ ابن عثيمين
سؤال12:
إذا مات ميت قبل منتصف الليل أو بعد منتصف الليل ، فهل يجوز دفنه ليلا، أو لا يجوز دفنه إلا بعد طلوع الفجر؟
جواب12:
يجوز دفن الميت ليلا ، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : مات إنسان كان النبي ، صلى الله عليه و سلم ، يعوده ، فمات بالليل فدفنوه ليلا ، فلما أصبح أخبروه ، فقال : " ما منعكم أن تعلموني؟ " قالوا : كان الليل ، و كانت ظلمة ، فكرهنا أن نشق عليك ، فأتى قبره فصلى عليه ، رواه البخاري و مسلم ، فلم ينكر دفنه ليلا ، و إنما أنكر على أصحابه أنهم لم يعلموه به إلا صباحا فلما اعتذروا إليه قبل عذرهم، و روى أبو داود عن جابر قال: رأى ناس نارا في المقبرة فأتوها ، فإذا رسول الله ، صلى الله عليه و سلم ، في المقبرة يقول : ناولوني صاحبكم ، و إذا هو الذي كان يرفع صوته بالذكر . و كان ذلك ليلا كما يدل عليه قول جابر رأي ناس نارا في المقبرة ... الخ .
و دفن النبي صلى الله عليه و سلم ليلا
و روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، حتى سمعنا صوت المساحي من آخر الليل، ليلة الأربعاء.
و المساحي هي الآلات التي يجرف بها التراب، و دفن أبو بكر و عثمان و عائشة و ابن مسعود ليلا و ما روي مما يدل على كراهة الدفن ليلا فمحمول على ما إذا كان التعجيل بدفنه ليلا لكونه ليس من ذوي الشأن فلم يبقوه إلى الصباح ليحضر عليه الناس أو لكونهم لما أساءوا كفنه عجلوا بدفنه فزجرهم لذلك ، أو محمول على بيان الأفضل ليصلي عليه كثير من المسلمين و لانه أسهل على من يشيع جنازته و أمكن لإحسان دفنه ، و اتباع السنة في كيفية لحدة و هذا إذا لم توجد ضرورة إلى تعجيل دفنه ، و الأوجب التعجيل بدفنه و لو ليلا ، و
صلىالله و سلم على نبينا محمد و آله و سلم.
اللجنة الدائمة
سؤال13:(/3)
حصل و ماتت طفلة و عمرها سنة أشهر و قبرت مع طفل قد سقط و هو في الشهر السادس و هو في بطن أمه ، فهل هذا يجوز أم لا ؟ و إن كان لا ، فما حكم الذين قبروهما في قبر واحد؟
جواب13:
المشروع أن يدفن كل ميت في قبر وحده هذه هي السنة التي عمل المسلمون بها من عهد النبي، صلى الله عليه و سلم ، إلى عهدنا هذا و لكن إذا دعت الحاجة إلى قبر اثنين أو أكثر في قبر واحد فلا حرج في هذا فإنه ثبت في الصحيحين و غيرهما أن النبي ، صلى الله عليه و سلم ، كان يجمع الرجلين و الثلاثة من شهداء أحد بقبر واحد إذا دعت الحاجة إلى ذلك و هذه الطفلة و هذا السقط اللذان جمعا في قبر واحد لا يجب الآن نبشهما لأنه قد فات الأوان و من دفنهما في قبر واحد جاهلا بذلك فإنه لا إثم عليه و لكن الذي ينبغي لكل من عمل عملا من العبادات أو غيرها أن يعرف حدود الله تعالى في ذلك العمل قبل أن يتلبس به حتى لا يقع فيما هو محذور شرعا.
الشيخ ابن عثيمين
سؤال14:
أنا رجل مقطوعة رجلي ولي زوجة أصيبت بمرض و حولت إلى إحدى المستشفيات في المملكة و كنت معها حتى توفيت ثم نقلت بعد وفاتها إلى المقبرة بواسطة سيارة الإسعاف و بعض العاملين في المستشفى و أنا معهم ، و عند إنزالها إلى القبر أنزلها أولئك الرجال الأجانب إلى القبر وحدهم أما أنا فعاجز بسبب رجلي.. و أنا محتار في هذا الأمر .. هل علي إثم في ذلك و هل في إنزال المرأة في قبرها من رجال أجانب شئ أفيدوني؟
جواب14:
ليس في إنزال المرأة في قبرها حرج إذا أنزلها غير محرمها و إنما يشترط المحرم للسفر بالمرأة لا لإنزالها في قبرها و الله ولي التوفيق.
الشيخ ابن باز
سؤال15:
قال ابن عباس رضي الله عنهما : " مر النبي ، صلى الله عليه و سلم ، بقبرين فقال : إنهما ليعذبان ، و ما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ، و أما الآخر فكان يمشي بالنميمة ، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة ، قالوا يا رسول الله لم فعلت ؟ قال يخفف عنهما ما لم ييبسا" رواه البخاري . فهل يصح لنا الاقتداء بالنبي، صلى الله عليه وسلم، في ذلك ؟ و هل يجوز وضع ما شابه الجريدة من الأشياء الرطبة الخضراء قياسا على الجريدة ؟ أو يجوز غرس شجرة على القبر لتكون دائمة الخضرة لهذا الغرض؟
جواب15:
إن وضع النبي ، صلى الله عليه و سلم ، الجريدة على القبرين و رجاءه تخفيف العذاب عمن وضعت على قبرهما واقعة عين لا عموم لها ، و أن ذلك خاص برسول الله، صلى الله عليه و سلم و أنه لم يكن منه سنة مطردة في قبور المسلمين إنما كان مرتين أو ثلاثا على تقدير تعدد الواقعة لا أكثر و لم يعرف فعل ذلك عن أحد من الصحابة و هم أحرص المسلمين على الاقتداء به، صلى الله عليه و سلم ، و أحرصهم على نفع المسلمين إلا ما روي عن بريدة الأسلمي أنه أوصى أن يجعل في قبره جريدتان و لا نعلم أن أحدا من الصحابة رضي الله عنهم وافق بريدة على ذلك . و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم .
اللجنة الدائمة
سؤال16:
شاهدت عدة قبور و هي على النحو التالي : بعض من القبور يوضع عليها ركيزة واحدة على مقدمة القبر، و البعض الثاني يضعون ركيزتين على مقدمة القبر و على المؤخرة ، و البعض الثالث يضعون ثلاث ركائز على مقدمة القبرو الوسط و المؤخرة ، و المقصود من الركيزة هو حجر يركز على القبر ، و بعض من الناس يطلقون عليه اسم النصيبة الذي تنصب على القبر .. فأريد التوضيح بالشئ الذي جائز وضعه على قبور النساء.
جواب16:
يشرع بعد دفن الميت أن يجعل على طرفي القبر لبنتين منصوبتين فقط ليعلم أنه قبر حتى و لو كان في وسط المقابر و لا فرق بين قبر الرجل و قبر المرأة و قبر الصبي ، و لا يزاد على اللبنتين و لا بأس أن يجعل إلى جنبه حجر أو نحوه يعرف به ليزار و نحو ذلك.
الشيخ ابن جبرين
سؤال17:
هل يجوز وضع قطعة من الحديد أو لافتة على قبر الميت مكتوب عليها آيات قرآنية بالإضافة إلى اسم لميت و تاريخ وفاته... الخ؟
جواب17:
لا يجوز أن يكتب على قبر الميت لا آيات قرآنية و لا غيرها لا في حديدة و لا في لوح و لا في غيرهما لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم ، نهى أن يجصص القبر و أن يقعد عليه و أن يبنى عليه . رواة مسلم . و زاد الترمذي و النسائي : " و أن يكتب عليه".
الشيخ ابن باز
سؤال18:
هل يجوز القيام عند القبر للاستغفار أو الدعاء للميت بعد دفنه و إهالة التراب عليه؟
جواب18:
نعم يجو الوقوف عند قبر الميت بعد دفنه و إهالة التراب عليه للاستغفار و الدعاء له بل ذلك مستحب لما راه أبوداود و الحاكم و صححه عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : " كان رسول الله ، صلى الله عليه و سلم ، إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم ، و اسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل"
اللجنة الدائمة
سؤال19:(/4)
لاحظت عندنا على بعض القبور عمل صبة بالأسمنت بقدر متر طولا في نصف متر عرضا مع كتابة اسم الميت عليها و تاريخ وفاته و بعض الجمل كـ (اللهم ارحم فلان ابن فلان ....) و هكذا ، فما حكم مثل هذا العمل؟
جواب19:
لا يجوز البناء على القبور لا بصبة و لا بغيرها و لا تجوز الكتابة عليها لما ثبت عن النبي ، صلى الله عليه و سلم ، من النهي عن البناء عليها و الكتابة عليها فقد روى مسلم رحمه الله من حديث جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله ، صلى الله عليه و سلم أن يجصص القبر و أن يقعد عليه و أن يبنى عليه ) و خرجه الترمذي و غيره بإسناد صحيح و زاد: "و أن يكتب عليه " و لأن ذلك نوع من أنواع الغلو فوجب منعه و لأن الكتابة ربما أفضت إلى عواقب وخيمة من الغلو و غيره من المحظورات الشرعية ، و إنما يعاد تراب القبر عليه و يرفع قدر شبر تقريبا حتى يعرف أنه قبر، هذه هي السنة في القبور التي درج عليها رسول الله ، صلى الله عليه و سلم ، و أصحابه رضي الله عنهم ، و لا يجوز اتخاذ المساجد عليها و لا كسوتها و لا وضع القباب عليها لقول النبي ، صلى الله عليه و سلم ، " لعن الله اليهود و النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " متفق على صحتة.
و لما روى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبدالله البجلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، قبل أن يموت بخمس يقول : " إن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا و لو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبابكر خليلا، ألا و إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائم و صالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإتي أنهاكم عن ذلك "... و الأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
الشيخ ابن باز
سؤال20:
هل يعتبر تخصيص أيام ثلاثة للعزاء لأهل الميت من الأمور المبتدعة و هل هناك عزاء للطفل و العجوز و المريض الذي لا يرجى شفاؤة .. بعد موتهم ؟
جواب20:
التعزية سنة لما فيها من جبر المصاب و الدعاء له بالخير و لا فرق في ذلك بين كون الميت صغيرا أو كبيرا و ليس فيها لفظ مخصوص بل يعزي المسلم أخاه بما تيسر من الألفاظ المناسبة مثل أن يقول: " أحسن الله عزاءك و جبر مصيبتك و غفر لميتك إذا كان الميت مسلما أما إذا كان الميت كافرا فلا يدعى له و إنما يعزي أقاربه المسلمون بنحو الكلمات المذكورة. و ليس لها وقت مخصوص و لا أيام مخصوصة بل هي مشروعة من حين موت الميت قبل الصلاة و بعدها و قبل الدفن و بعده و المبادرة بها أفضل في حال شدة المصيبة و تجوز بعد ثلاث من موت الميت لعدم الدليل على التحديد.
الشيخ ابن باز
سؤال21:
ما حكم من يسافر من أجل العزاء لقريب أو صديق و هل يجوز العزاء قبل الدفن؟
جواب21:
لا نعلم بأسا في السفر من أجل العزاء لقريب أو صديق لما في ذلك من الجبر و المواساة و تخفيف الام المصيبة و لا بأس في العزاء من قبل الدفن و بعجه و كلما كان أقرب من وقت المصيبة كان أكمل في تخفيف آلامها، و بالله التوفيق.
الشيخ ابن باز
سؤال22:
عندما يتوفى شخص في بعض البلدان يجلس أهل الميت لتقبل العزاء بعد صلاة المغرب لمدة ثلاثة أيام ، هل يجوز ذلك أم انه بدعة؟
جواب22:
تعزية المصاب بالميت مشروعة ، و هذا لا إشكال فيه ، و أما تخصيص وقت معين لقبول العزاء و جعله ثلاثة أيام فهذا من البدع ، و قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ن و بالله التوفيق.
اللجنة الدائمة
سؤال23:
ماهي أقسام زيارة المقابر؟
جواب23:
المقابر يزورها الإنسان للعبرة و العظة و رجاء الثواب امتثالا لأمر النبي ، عليه الصلاة و السلام ، حيث قال : " زوروا القبور فإنهاتذكر الآخرة" .. و أما من زار المقبرة من أجل التبرك بالزيارة أو يدعو أصحاب القبور ، فإن هذا شئ لا يوجد عندنا و الحمدلله ، و إن كان يوجد في بعض البلاد الإسلامية ، و هذه من الزيارات التي قد تكون بدعية فقط و قد تكون شركية.
و زيارة اقبور نوعان: نوع يقصد الإنسان شخصا معينا فهنا يقف عنده و يدعو له بما شاء الله عز و جل كمافقل عليه الصلاة و السلام حين استأذن الله عز و جل أن يستغفر لأمه فلم يأذن الله له و استأذنه أن يزورها فأذن له .. فزارها صلوات الله و سلامه عليه و معه طائفة من أصحابه.
و القسم الثاني أن تكون زيارته لعموم المقبرة ، فهنا يقف أمام القبور و يسلم كما كان ، عليه الصلاة و السلام ، يفعل ذلك إذا زار البقيع . يقول : "السلام عليكم دار قوم مؤمنين و إنا إن شاء الله بكم لاحقون . يرحم الله المستقدمين منا و منكم و المستأخرين . نسأل الله لنا و لكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم و لا تفتنا بعدهم و اغفر لنا و لهم.
الشيخ ابن عثيمين
سؤال24:
ما حكم زيارة المرأة للقبور؟
جواب24:(/5)
لا يجوز للنساء زيارة القبور لأن الرسول ، صلى الله عليه و سلم ، لعن زائرات القبور و لأنهن فتنة و صبرهن قليل فمن رحمة الله و إحسانه أن حرم عليهن زيارة القبور حتى لا يَفتن ولا يُفتن. أصلح الله حال الجميع.
الشيخ ابن باز
سؤال25:
ماهي الأشياء المحظورة على المرأة زمن الحدلد مع ذكر الدليل؟
جواب25:
المحظورعلى المرأة زمن الحداد :
أولا : أن لا تخرج من بيتها إلا لحاجة ، مثل أن تكون مريضة تحتاج لمراجعة المستشفى و تراجعه بالنهار، أو ضرورة مثل أن يكون بيتها آيلا للسقوط فتخشى أم يسقط عليها ، أو تشتعل فيه نار أو ما أشبه ذلك .. قال أهل العلم و تخرج في النهار للحاجة و أما في الليل فلا تخرج إلا للضرورة .
ثانيا الطيب ، لأن النبي، عليه الصلاة و السلام ، نهى المحادّة أن تتطيب إلا إذا طهرت ، فإنها تأخذ نبذة من أظفار (نوع من الطيب) تتطيب به بعد الحيض ليزول عنها أثر الحيض.
ثالثا: أن لا تلبس ثيابا جميلة تعتبر تزينا . لأن النبي ، عليه الصلاة و السلام ، نهى عن ذلك و إنما تلبس ثيابا عادية كالثياب التي تلبسها في بيتها بدون أن تتجمل .
رابعا: أن لا تكتحل، لأن النبي، عليه الصلاة والسلام ، نهى عن ذلك فإن اضطرت إلى هذا فإنها تكتحل بما لا يظهر لونه ليلا و تمسحه بالنهار.
خامسا: أن لا تتحلى ، أي لا تلبس حليا لأنه إذا نهي عن الثياب الجميلة فالحلي أولى بالنهي .
و يجوز لها أن تكلم الرجال و أن تتكلم بالهاتف و أن تأذن لمن يدخل بالبيت ممن يمكن دخوله و أن تخرج إلى السطح _ سطح البيت _ في الليل و في النهار . و لا يلزمها أن تغتسل كل جمعة كما يظنه بعض العامة و لا أن تنقض شعرها كل أسبوع.و كذلك أيضا لا يلزمها بل لا يشرع لها إذا انتهت العدة أن تخرج معها بشئ تتصدق به على أول من يلاقيها فأن هذا من البدع.
الشيخ ابن عثيمين
سؤال26:
عندما يموت ميت يرفعون صوت قراءة القرآن بمكبرات في بيت العزاء وعندما يحملونه بسيارة الموتى فيضعون مكبرات للصوت أيضاً حتى صار الواحد بمجرد سماعه القرآن يعلم أن هناك ميت فيتشاءم لسماعه القرآن وحتى أصبح لايفتح على قراءة القرآن إلا عند موت إنسان.ما الحكم في ذلك مع توجيه النصح لمثل هؤلاء؟
جواب26:
إن هذا العمل بدعة بلا شك فإنه لم يكن في عهد النبي،صلىالله عليه وسلم،ولا في عهد أصحابه والقرآن إنما تخفف به الأحزان إذا قرأه بينه وبين نفسه لاإذا أعلن به على مكبرات الصوت. كما أن إجتماع أهل الميت لاستقبال المعزين هو أيضاً من الأمور التي لم تكن معروفة حتى إن بعض العلماء قال إنه بدعة و لهذا لانرى أهل الميت يجتمعون لتلقي العزاء بل يغلقون أبوابهم وإذا قابلهم أحد في السوق أو جاء أحد من معارفهم دون أن يعدوا لهذا اللقاء عدته فإن هذا لا بأس به.
أما إستقبال الناس فهذا لم يكن معروفاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى كان الصحابة يعدون إجتماع أهل الميت وصنع الطعام من النياحة،والنياحة كما هو معروف من كبائر الذنوب لأن النبي صلى الله عليه وسلم، لعن النائحة والمستمعة وقال:"النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب" نسأل الله العافية، فنصيحتي لإخواني أن يتركوا هذه الأمور المحدثة فإن ذلك أولى بهم عند الله وهو أولى بالنسبة للميت أيضاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه وبنياحتهم عليه، يعذب يعني يتألم من هذا البكاء وهذه النياحة وإن كان لايعاقب عقوبة الفاعل لأن الله- تعالى- يقول:(ولاتزر وازرة وزر أخرى). والعذاب ليس عقوبة فقد قال النبي،صلى الله عليه وسلم:( إن السفر قطعة من العذاب)بل إن الألم والهم وما أشبه ذلك يعد عذاباً ومن كلمات الناس الشائعة قولهم: عذبني ضميري. والحاصل أنني أنصح أخواتي بالإبتعاد عن مثل هذه العادات التي لاتزيد من الله إلا بعداً ولا تزيد موتاهم إلا عذاباً.
الشيخ ابن عثيمين
سؤال27:
هل يجوز قراءة الفاتحة على الموتى و هل تصل إليهم ؟
جواب27:
قراءة الفاتحة على الموتى لا أعلم فيها نصا من السنة و على هذا فلا تقرأ لأن الأصل في العبادات الحظر و المنع حتى يقوم دليل على ثبوتها و أنها من شرع الله عز و جل ، و دليل ذلك أن الله أنكر على من شرعوا في دين الله ما لم يأذن به الله ، فقال تعالى (أم شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) الشورى 21 .
و ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم ، أنه قال : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " . و إذا كان مردودا كان باطلا و عبثا ينزه الله عز و جل أن يُتقرب به إليه.(/6)
و أما لإستئجار قارئ يقرأ القرآن ليكون ثوابه للميت فإنه حرام و لا يصح أخذ الأجرة على قراءة القرآم و من أخذ أجرة على قراءة القرآن فهو آثم و لا ثواب له لأن قراءة القرآن عبادة و لا يجوز أن تكون العبادة و سيلة إلى شئ من الدنيا قال الله تعالى : ( من كان يريد الحياة الدنيا و زينتها نوف إليهم أعمالهم فيها و هم فيها لا يبخسون) هود 15.
الشيخ ابن عثيمين
سؤال28:
ما حكم المرور بين القبور بالنعال؟ و ما صحة الدليل الذي ينهى عن ذلك و هو قوله صلى الله عليه وسلم : " يا صاحب السبتيب اخلع نعليك " ؟
جواب28:
ذكر أهل العلم أن المشي بين القبور بالنعال مكروه . و استدلوا بهذا الحديث . إلا أنهم قالوا إذا كان هناك حاجة كشدة حرارة الأرض و و جود الشوك فيها أو نحو ذلك فإنه لا بأس أن يمشي في نعليه .
الشيخ ابن عثيمين
السؤال 29:
ماحكم الإجتماع بعد دفن الميت لمدة ثلاثة أيام وقراءة القرآن وهو ما يسمى بالمأتم؟
الجواب29:
الإجتماع في بيت الميت للأكل أو الشرب أو قراءة القرآن بدعة، وهكذا إجتماعهم يصلون له ويدعون له كله بدعة لاوجه له. إنما يؤتى أهل الميت للتعزية والدعاء لهم، والترحم على ميتهم وتسليتهم وتصبيرهم، أما أنهم يجتمعون لإقامة مآتم وإقامة دعوات خاصة أو صلوات خاصة أو قراءة قرآن فهذا لا أصل له ولو كان خيراً لسبقنا إليه سلفنا الصالح- رضي الله عنهم وأرضاهم- فالرسول صلى الله عليه وسلم ، لم يفعله فعندما قتل جعفر بن أبي طالب وعبدالله بن أبي رواحة وزيد بن حارثة- رضي الله عنهم- في غزوة مؤتة وجاءه الوحي- عليه الصلاة والسلام- نعاهم إلى الصحابة وأخبرهم بموتهم ودعا لهم وترضى عنهم ولم يجمع الناس ولم يتخذ مأدبة ولا جعل مأتماً، كل هذا لم يفعله، صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء من خيرة الصحابة وأفضلهم. مات الصديق- رضي الله عنه- ولم يجعلوا مأتماً وهو أفضل الصحابة، قتل عمر وما جعلوا مأتماً وما جمعوا الناس ينعون عليه أو يقرأون له القرآن، قتل عثمان وعلي- رضي الله عنهما- ولم يجمع الناس لأيام معدودة بعد الوفاة للدعاء لهم والترحم عليهم أوصنع الطعام لهم. ولكن يستحب لأقارب الميت أو جيرانه أن يصنعوا طعاماً لأهل الميت يبعثون به إليهم مثل مافعل النبي ،صلى الله عليه وسلم، لما جاء نعي جعفر قال لأهله:{ اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد جاءهم ما يشغلهم}، فأهل الميت مشغولون بالمصيبة فإذا صنع طعام وأرسل إليهم فهذا هو المشروع، أما أن يحملوا بلاء على بلائهم، ويكلفوا بأن يصنعوا للناس طعاماً فهذا خلاف السنة بل هو بدعة. قال جرير بن عبدالله البجلي-رضي الله عنه- :{ كنا نعد الإجتماع إلى أهل الميت وصنع الطعام بعد الدفن من النياحة} والنياحة محرمة ، وهي رفع الصوت، والميت يعذب في قبره بما يناح عليه، فيجب الحذر من ذلك، أما البكاء بدمع العين فلا بأس به. وبالله التوفيق. .
الشيخ ابن باز
السؤال 30:
هل يجوز أن يعمل للميت صدقة بعد أربعين يوماً من وفاته؟
الجواب30:
الصدقة عن الميت مشروعة وليس لها يوم معين تكون فيه، ومن حدد يوماً معين فهذا التحديد بدعة، وقد وردإلى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء سؤال عن إقامة حفل للميت بعد أربعين يوماً من وفاته، وهذا نص الجواب عنه:{ لم يثبت عن النبي ، صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه- رضي الله عنهم- ولا عن السلف الصالح إقامة حفل للميت ولا عند وفاته ولا بعد أسبوع أو أربعين يوماً أو سنة من وفاته بل ذلك بدعة وعادة قبيحة وكانت عند قدماء المصريين وغيرهم من الكافرين. فيجب النصح للمسلمين الذين يقيمون هذه الحفلات وإنكارها عليهم عسى أن يتوبوا إلى الله ويتجنبوها لما فيها من الإبتداع في الدين ومشابهة للكافرين ، وقد ثبت عن النبي ، صلى الله عليه وسلم، أنه قال:{ بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لاشريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم }رواه أحمد في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما. و روى الحاكم عن ابن عباس رصي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال: " لتركبن ينن من كان قبلكم شبرا بشبر و ذراعا بذراع حتى لو أن أحدهم دهل جحر ضب لدخلتموه و حتى لو أن أحدهم جامع امرأته في الطريق لفعلتموه" . و أصله في الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي ا لله عنه.
اللجنة الدائمة
سؤال 31 :
عندنا في القرية و في ليلة عيد الفطر أو ليلة عيد الأضحى عندما يعرف الناس أن غدا عيد يخرجون إلى القبور في الليل و يضيئون الشموع على قبور موباهم و يدعون الشيوخ ليقرأوا على القبور ، ما صحة هذا الفعل..؟
جواب 31:(/7)
هذا فعل باطل محرم و هو سبب للعنة الله عز وجل فإن النبي صلى الله عليه و سلم ، لعن زائرات القبور و المتخذين عليها المساجد و السرج ، و الخروج إلى المقابر في ليلة العيد و لو لزيارتها بدعة فأن النبي صلى الله عليه و سلم ، لم يرد عنه أنه كان يخصص ليلة العيد و لا يوم العيد لزيارة المقبرة و قد ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : " إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار " فعلى المرء أن يتحرى في عباداته و كل ما يفعلة مما يتقرب به إلى الله عز و جل أن يتحرى في ذلك شريعة الله تبارك و تعالى لأن الأصل في العبادات المنع و الحظر إلا ما قام الدليل على مشروعيته و ما ذكره السائل من اسراج القبور ليلة العيد قد دل دليل على منعه و على أنه من كبائر الذنوب كما أشرت إليه قبل قليل من أن النبي ، صلى الله عليه و سلم ، لعن زائرات القبور و المتخذين عليها المساجد و السرج .
الشيخ ابن عثيمين
سؤال 32:
هل يجوز اطلاق المرحوم أو المغفور له ( فلان المغفور له) على من مات.
جواب 32:
الحمد لله ، و الصلاة و السلام على عبده و رسوله نبينا محمد و على آله و صحبه أما بعد :
فقد كثر في الإعلانات في الجرائد عن و فاة بعض الناس ، كما كثر نشر التعازي لأقارب المتوفين و هم يصفون الميت فيها بأنه مغفور له أو مرحوم أو ما أشبه ذلك من كونه من أهل الجنة ، و لا يخفى على كل من له إلمام بأمور الإسلام و عقيدته بأن ذلك من الأمور التي لا يعلمها إلا الله و أن عقيدة أهل السنة و الجماعة أنه لا يجوز أن يشهد لأحد بجنة أو نار إلا من نص عليه القرآن الكريم كأبي لهب ،أو شهد له الرسول صلى الله عليه و سلم ، بذلك كالعشرة من الصحابة و نحوهم ، و مثل ذلك في المعنى الشهادة له بأنه مغفور له أو مرحوم ، لذا ينبغي أن يقال بدلا منها : غفر الله له أو رحمه الله أو نحو ذلك من كلمات الدعاء للميت و أسأل الله سبحانه أن يهدينا جميعا سواء السبيل ، و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه .
الشيخ ابن باز
السؤال 33:
ما حكم تخصيص لباس معين للتعزية كلبس السواد للنساء؟
جواب33:
تخصيص لباس معين للتعزية من البدع ، فيما نرى ، و لأنه قد ينبئ عن تسخط الانسان على قدر الله عز رجل و إن كان بعض الناس يرى أنه لا بأس به ، لكن إذا كان السلف لم يفعلوه ، و هو ينبئ عن شئ من التسخط فلا شك أن تركه أولى ، لأن الإنسان إذا لبسه فقد يكون إلى الإثم أقرب منه إلى السلامة.
الشيخ ابن عثيمين
سؤال34:
ماحكم تقبيل أقارب الميت عند التعزية؟
جواب34:
تقبيل أقارب الميت عند التعزية لا أعلم فيه سنة ، و لهذا لا ينبغي للناس أن يتخذوه سنة ، لأن الشئ الذي لم يرد عن النبي صلى الله علية و سلم ، و لا عن أصحابه ينبغي للناس أن يتجنبوه .
الشيخ ا بن عثيمين
مسائل في التعزية
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى من يراه و يطلع عليه من إخواني المسلمين ، وفقني الله و إياهم إلى فعل الطاعات و جنبني و إياهم البدع و المنكرات ... آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فإن الداعي لكتابة هذه الكلمة هو النصح والتذكير والتنبيه على مسائل في التعزية مخالفة للشرع قد وقع فيها بعض الناس ولاينبغي السكوت عنها بل يجب التنبيه والحذر منها فأقول وبالله التوفيق :
على كل مسلم أن يعلم علم اليقين أن ماأصابه فهو بقضاء الله وقدره وعليه أن يصبر ويحتسب وينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى ويتعزى بعزائه ويمتثل أمره في الإستعانة بالصبر والصلاة لينال ما ُوعد به الصابرين في قوله- تعالى- :{وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون }. وروى مسلم في صحيحه عن أم سلمة –رضي الله عنها- قالت ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( مامن عبد تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها ) . وليحذر المصاب أن يتكلم بشئ يحبط أجره ويسخط ربه مما يشبه التظلم والتسخط فهو-سبحانه وتعالى – عدل لايجور وله ماأخذ وله ماأعطى وكل شئ عنده بأجل مسمى وله في ذلك الحكمة البالغة وهو الفعال لما يريد. ومن عارض في هذا أو مانعه فإنما يعترض على قضاء الله وقدره الذي هو عين المصلحة والحكمة وأساس العدل والصلاح. ولا يدعوا على نفسه لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لما مات أبو سلمة : "لاتدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون " . و يحتسب ثواب الله و يحمده .(/8)
و تعزية المصاب بالميت مستحبة لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " من عزى مصابا فله مثل أجره " . و المقصود منها تسلية أهل المصيبة في مصيبتهم و مواساتهم و جبرهم ، و لا بأس بالبكاء على الميت لأن النبي ، صلى الله عليه و سلم ، فعله لما مات ابنه إبراهيم و بعض بناته صلى الله عليه وسلم .
أما الندب و النياحة و لطم الخد و شق الجيب و خمش الوجه و نتف الشعر والدعاء بالويل و الثبور و ما أشبهها فكل ذلك محرم لما روى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله علية و سلم ، قال : " ليس منا من ضرب الخدود و شق الجيوب و دعا بدعوى الجاهلية " . و عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، برئ من الصالقة ، و الحالقة ، و الشاقة ، و ذلك لأن هذه الأشياء و ما أشبهها فيها إظهار للجزع و التسخط و عدم الرضاء و التسليم ، و الصالقة هي التي ترفع صوتها عند المصيبة ، و الحالقة هي التي تحلق شعرها عند المصيبة ، و الشاقة هي التي تشق ثوبها عند المصيبة ، و يستحب إصلاح طعام لأهل الميت ، يبعث به إليهم إعانة لهم و جبرا لقلوبهم فإنهم ربما اشتغلوا بمصيبتهم و بمن يأتي إليهم عن إصلاح طعام لأنفسهم لما روى الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي و ابن ماجه بسند صحيح عن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما قال لما جاء نعي جعفر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " اصنعوا لآل جعفر طعاما فإنه قد أتاهم ما يشغلهم " و روي عن عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما أنه قال فما زالت السنة فينا حتى تركها من تركها .
أما صنع أهل البيت الطعام للناس سواء أكان ذلك من مال الورثة أو من ثلث الميت أو من شخص يفد عليهم فهذا لا يجوز لأنه خلاف السنة و من عمل الجاهلية لأن في ذلك زيادة تعب لهم على مصيبتهم و شغلا إلى شغلهم و روى أحمد و ابن ماجه بأسناد جيد عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه أنه قال : " كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت و صنعة الطعام بعد الدفن من النياجة " و أما الإحداد فيحرم إحداد فوق ثلاثة أيام على ميت غير زوج فيلزم زوجته الإحداد مدة العدة فقط لقوله عليه الصلاة و السلام : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله و اليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر و عشرا".
أما لإحداد النساء سنة كاملة فهذا مخالف للشريعة الإسلامية السمحة و هو من عادات الجاهلية التي أبطلها الإسلام و حذر منها فالواجب إنكاره و التواصي بتركه قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : و هذا من تمام محاسن الشريعة و حكمتها و رعايتها على أكمل الوجوه . فإن الإحداد على الميت من تعظيم مصيبة الموت التي كان أهل الجاهلية يبالغون فيها أعظم مبالغة و تمكث المرأة سنة في أضيق بيت و أوحشه لا تمس طيبا و لا تدهن و لا تغتسل إلى غير ذلك مما هو تسخط على الرب و أقداره . فأبطل الله بحكمتة سنة الجاهلية و أبدلنا بها الصبر و الحمد . و لما كانت مصيبة الموت لا بد أن تحدث للمصاب من الجزع و الألم و الحزن ما تتقاضاه الطباع سمح لها الحكيم الخبير في اليسير من ذلك و هو ثلاثة أيام تجد بها نوع راحة و تقضي بها و طرا من الحزن ، و ما زاد عن ذلك فمفسدة راجحة فمنع منه ، و المقصود أنه أباح لهن الإحداد على موتاهن ثلاثة أيام و أما الإحداد على الزوج فإنه تابع للعدة بالشهور . و أما الحامل فإذا انقضى حملها سقط وجوب الإحداد لأنه يستمر إلى حين الوضع . ا. هـ . كلامه رحمه الله .
فأما عمل الحفل بعد خروج المرأة من العدة فهو بدعة إذا اشتمل على ما حرم الله من نياحة و عويل و ندب و نحوها . و لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم و لا عن السلف الصالح إقامة حفل للميت مطلقا لا عند وفاته و لا بعد أسبوع أو أربعين يوما أو سنة من وفاته بل ذلك بدعة و عادة قبيحة . فيجب البعد عن مثل هذه الأشياء و إنكارها و التوبة إلى الله منها و تجنبها لما فيها من الابتداع في الدين و مشابهة المشركين و قد ثبت عن النبي صلى الله علية و سلم قال : " بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له و جعل رزقي تحت ظل رمحي . و جعل الذل و الصغار على من خالف أمري و من تشبه بقوم فهو منهم " و ثبت عنه أيضا عليه الصلاة و السلام أنه قال :" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على النهي عن التشبه بالمشركين و عن الابتداع في الدين و الله أعلم.(/9)
فتح العزيز القَهَّار بذكر طرف من العذاب المعنوي لأهل النار
أخي الحبيب : أرجو منك أن تجلس في مكان هادئ لا يشغلك فيه أي شئ آخر عما تقرأ ، ولا تفكر الآن في أي شئ إلا الموقف الذي أدعوك لأن تتخيله .
تخيل أخي الكريم أنك تجلس في بيتك ، والذي يتكون من والديك وإخوتك ، ثم تُفاجئ أنه في ذات يوم قال لك الأب والأم : نحن نكرهك أشد الكره ولا نريد أن نري وجهك أو نسمع صوتك ، ويقول لك الإخوة نحن لا نريدك أن تكون بيننا ولا نريدك أخًا لنا ولا نحبك أساسًا ، ثم تُفاجئ بمفاجأة أخري لم تكن تتوقعها وهي أن الحجرة التي دخلت فيها لتجلس بمفردك بعيدًا عن أهلك أنها هي الأخرى تقول لك : أن لا أريدك أن تكون بداخلي ، أخرج بالخارج ... بالله عليك كيف يكون حالك أخي الحبيب . فالمكان الذي تجلس فيه يبغضك جدًا ، وصاحب المكان لا يريد أن يري وجهك وأخوتك لا يريدونك أن تكون مصاحبًا لهم ويكرهونك جدًا .. كيف يكون حالك ... لا أريدكم أن تعجبون من هذا الكلام فإنه والله هيّن جدًا بالنسبة لما ستقرأه في السطور القادمة .. فتأمل معي .
إن أهل النار يُعانون أصنافًا كثيرة من العذاب البدنيّ الحسيّ ، ولكن هناك عذاب آخر له وطأة شديدة عليهم ألا وهو العذاب المعنويّ ، ومن ذلك قضية المقت الشديد : لأنفسهم ، والمقت الشديد من الله عليهم ومن الملائكة ومن أهل النار لأنفسهم ، ومن المؤمنين لهم ، بل ومن النار نفسها ، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة .
قال عز من قائل عن مقت النار لأهلها :"إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ" (الملك :7) . قال الثوري : تغلي بهم كما يغلي الحب القليل في الماء الكثير.
"تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ" أي تكاد ينفصل بعضها عن بعض من شدة غيظها وحنقها بهم.
وقال تعالي :" إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا"(الفرقان:12) هذه الزفرة لا يبقي مَلَك مُقرب ولا نبي مُرسل إلا خرّ لوجهه ترتعد فرائصه ، "إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ" : أي : قبل وصولهم إليها ووصولها إليهم "سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا" : غليانًا كالغضبان إذا على صدره من الغضب ، "وَزَفِيرًا" : صوتًا شديدًا لأنها قد غضبت لغضب خالقها.
وقال سبحانه وتعال :" يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ"(ق:30) يسألها ربها : "هَلِ امْتَلَأْتِ؟" وذلك لكثرة ما أُلقيّ فيها ، "وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ" : أي : لا تزال تطلب الزيادة من المجرمين العاصيين ، غضبًا لربها ، وغيظًا علي الكافرين .
وأما عن مقت الملائكة لأهل النار فقد قال الله عز وجل :"وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ"(غافر:49،50) لما يسأل أهل النار الملائكة تخفيف العذاب ترد عليهم الملائكة موبخة لهم "أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ" "قَالُوا بَلَى" "قَالُوا فَادْعُوا" أي : قال الخزنة لأهل النار متبرئين من الدعاء لهم والشفاعة "فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ" أي لا يُقبل ولا يُستجاب .
وقال الله سبحانه وتعالي :" يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ"(الرحمن:41) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ باسوداد الوجوه وزرقة العيون فيجمع الزبانية ناصيته مع قدميه ويلقونه في النار .
وقال الله :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ"(التحريم:6)
"مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ" أي : طباعهم غليظة قد نُزعت من قلوبهم الرحمة ، تركيبهم في غاية الشدة والكثافة والمنظر المزعج ،فهم غليظة أخلاقهم ، شديد انتهارهم ، يُفزِعون بأصواتهم ، ويُخيفون بمرآهم ، ويهينون أهل النار بقوتهم .
وأما عن مقت أهل النار بعضهم لبعض فقد قال تعالي:"كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ"(الأعراف:38)(/1)
"كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا" كما قال تعالي :" ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا"(العنكبوت:25) "حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا" أي : اجتمعوا فيها "قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ" أي : عذبهم عذابًا مُضاعفًا لأنهم أضلونا ، وزينوا لنا الأعمال الخبيثة .
وأما عن مقت الله لهم ، ومقتهم لأنفسهم فيقول العزيز الحكيم :" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ"(غافر:10) "لَمَقْتُ اللَّهِ" إياكم في الدنيا "إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ" "أَكْبَرُ" من مقت بعضكم بعضا يوم القيامة؛ لأن بعضهم عادى بعضا ومقته يوم القيامة، فأذعنوا عند ذلك، وخضعوا وطلبوا الخروج من النار. وقال الكلبي: يقول كل إنسان من أهل النار لنفسه مقتك يا نفس؛ فتقول الملائكة لهم وهم في النار: لمقت الله إياكم إذ أنتم في الدنيا وقد بعث إليكم الرسل فلم تؤمنوا أشد من مقتكم أنفسكم اليوم. وقال الحسن: يعطون كتابهم فإذا نظروا إلى سيئاتهم مقتوا أنفسهم فينادون "لمقت الله" إياكم في الدنيا "إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ" "أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ" اليوم. وقال معناه مجاهد. وقال قتادة: المعنى "لَمَقْتُ اللَّهِ" لكم "إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُون" "أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ" إذ عاينتم النار. فإن قيل: كيف يصح أن يمقتوا أنفسهم؟ ففيه وجهان: أحدهما أنهم أحلوها بالذنوب محل الممقوت. الثاني أنهم لما صاروا إلى حال زال عنهم الهوى، وعلموا أن نفوسهم هي التي أبقتهم في المعاصي مقتوها. وقال محمد بن كعب القرظي: إن أهل النار لما يئسوا مما عند الخزنة وقال لهم مالك: "إنكم ماكثون" على ما يأتي. قال بعضهم لبعض: يا هؤلاء إنه قد نزل بكم من العذاب والبلاء ما قد ترون، فهلم فلنصبر فلعل الصبر ينفعنا، كما صبر أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا، فأجمعوا رأيهم على الصبر فصبروا فطال صبرهم، ثم جزعوا فنادوا "سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ" (إبراهيم:21) أي من ملجأ؛ فقال إبليس عند ذلك: "إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (إبراهيم:22) يقول: ما أنا بمغن عنكم شيئا "إني كفرت بما أشركتمون من قبل" [إبراهيم: 22] فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم. قال: فنودوا "لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ" .
وقال تعالي:" قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ"(المؤمنون:108) وهذا القول ـ نسأل الله العافية ـ أعظم قول علي الإطلاق يسمعه المجرمون في التوبيخ والذل والخسار ، والتأييس من كل خير ، والبشري بكل شر ، وهذا الكلام والغضب من الرب الرحيم ، أشد عليهم وأبلغ في نكايتهم من عذاب الجحيم .
بل وعن مقت المؤمنين لأهل النار يقول الله عز وجل :" فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ" أي : يوم القيامة حين يرون الكافرون في غمرات العذاب يتقلبون ، يضحك المؤمنون من شدة مقتهم لهم وهم في غاية الراحة والطمأنينة علي السُرر المُزينة .
"رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا"
"اللهم إني أسألك بأن لك الحمدَ ، لا إله إلا أنت وحدك ، لا شريك لك ، المنَّانُ ، يا بديعَ السماوات والأرض ، يا ذا الجلالِ والإكرام ، ياحيُّ ياقيومُ إني أسألك الجنة ، وأعوذ بك من النار "
" اللهم إني أسألك العفوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرة " .
" اللهم إني أسألك الجنة . اللهم إني أعوذُ بك من النار " .
" اللهم إني أسألك المعافاة في الدنيا والآخرة " .
" اللهم رَبَّنا آتِنا في الدُّنيا حَسَنَةً ، وفي الآخرةِ حَسَنَةً ، وَقِنا عَذَابَ النَّار " .(/2)
" اللهم إني أسألك من الخير كلَّه ، عاجِلِهِ وآجلِه ، ما عَلِمتُ منه ، وما لم أعلم ، وأعوذ بك من الشِّر كُلِّه عاجِلِهِ وآجِلِهِ ، ما علِمْتُ منه ، وما لم أعلم ، اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبدُك ونبيُّكَ ، وأعوذ بك من شَرِّ ما عاذ به عبدُك ونَبِيُّكَ ، اللهم إني أسألك الجنةَ ، وما قرَّب إليها من قولٍ أو عمل ، وأعوذ بك من النار ، وما قرَّبَ إليها مِنْ قولٍ أو عمل ، وأسألُك أن تجعل كُلَّ قضاءٍ قَضيْتَهُ لي خيرًا " .
" اللهم صلِّ علي محمد ، وعلي أهل بيته ، وعلي أزواجه وذريته ، كما صليت علي آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، وبارك علي محمد ، وعلي آل بيته ، وعلي أزواجه وذريته ، كما باركت علي آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد " .
المراجع :
1- تفسير ابن كثير . للحافظ ابن كثير .
2- تفسير القرطبي . للإمام محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي .
3- تفسير السعدي . للعلاّمة عبد الرحمن بن ناصر السعدي .
4- وصف الدور الثلاثة من تفسير ابن كثير . للشيخ أبو ذر القلموني .
5- مختصر النصيحة في الأذكار والأدعية الصحيحة . للدكتور محمد بن إسماعيل المقدّم .
جمع وترتيب
راجي رحمة ذو الإحسان
أبو عبد الرحمن محمد بن عمران .(/3)
فتح ذي المنة بذكر طرف من النعيم المعنوي لأهل الجنة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) أما بعد : [1]
بين يديّ الرسالة :
يجب علي كل إنسان أن يسعى حثيثًا غير متباطئ في طلب الآخرة ، وليكن منها علي حذر وخوف ولا يركن إلي الدنيا ، " وليتذكر أخيار الأحبار في تعبدهم واجتهادهم .
أمّا كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد الكل ، ثم إنه قام حتى تورمت قدماه ؟
أمّا كان أبو بكر رضي الله عنه شجي النشيج ، كثير البكاء ؟
أمّا كان في خد عمر رضي الله عنه خطان من آثار الدموع ؟
أمّا كان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن في ركعة ؟
أمّا كان عليّ رضي الله عنه يبكي بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع ؟ ويقول :" يا دنيا غُري غيري " ؟
أمّا كان الحسن البصري يحيا علي قوة القلق ؟
أمّا كان سعيد بن المسيب ملازمًا المسجد فلم تفته صلاة في جماعة أربعين سنة ؟
أمّا صام الأسود بن يزيد حتى اخضر وأصفر ؟
أمّا قالت ابنة الربيع بن خثيم له : " مالي أري الناس ينامون وأنت لا تنام ؟ فقال : إن أباك يخاف عذاب البيات " ؟
أمّا كان أبو مسلم الخولاني يُعَلِّق سَوْطًا في المسجد يؤدب به نفسه إذا فتر ؟
أمّا صام يزيد الرقاشي أربعين سنة ؟ وكان يقول : سبقني العابدون ، وقُطع بي .
أمّا صام منصور بن المعتمر أربعين سنة ؟
أمّا كان سفيان الثوري يبكي الدم من الخوف ؟
أمّا كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف ؟
أمّا تعلم أخبار الأئمة الأربعة في زهدهم وتعبدهم : أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ؟
فأحذر من الإخلاد إلي الدنيا ، وترك العمل ، فإنها حالة الكُسَالَي الزَّمْنَي [2] .
يا هذا : إنما خُلقت الدنيا لتجوزها لا لتحوزها ، ولتعبرها لا لتعمرها ، فاقتل هواك المايل إليها ، وأقبل نصحي : لا تركن إليها .
إخواني : جدوا فقد سُبقتم ، واستعدوا فقد لُحقتم ، وانظروا بماذا من الهوى علقتم ؟ ولا تغفلوا عما له خُلقتم ، ذهبت الأيام وما أطعتم وكُتبت الآثام وما أصغيتم ، وكأنكم بالصادقين قد وصلوا وانقطعتم ، أهذا التوبيخ لغيركم ؟؟ أو ما قد سمعتم ؟؟ .
ألا يعتبر المقيم منكم بمن رحل ؟؟ ألا يندم من يعلم عواقب الكسل ؟؟ آهٍ لغافل كلما جد الموت هزل ، ولعاقل كلما صعد العمر نزل .
إخواني : بادروا آجالكم ، وحاذروا آمالكم ، أما لكم عبرة فيما مضي ؟ أما لكم ما هذا الغرور الذي قد أمالكم ؟ ستتركون علي رغم آمالكم .. ما لكم ؟؟ ما لكم ؟؟ .
إخواني : صدقتم الأمل فكذبكم ، وأطعتم الهوى فعذبكم ، أما أنذركم السقم بعد الصحة ؟ والترحة بعد الفرحة ؟ في كل يوم يموت من أشباحكم ما يكفي في نعيّ أرواحكم ، فخذوا حِذركم قبل النوائب ، فقد أتيتم من كل جانب ، وتذكروا سهر أهل النار في النار ، وأحذروا فوت دار الأبرار ، وتخوفوا يوم الفصل بين الفريقين أن تمسكم النار .
أيها الطالب للدنيا وما يجد ، كيف تجد الآخرة وما تطلب ؟؟ ما مضي من الدنيا فحلم ، وما بقي فأمانيّ ، سبعة يظلهم الله في ظله ، منهم رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخشى الله .. اسمع يا من أجاب عجوزًا علي مزبلة (الدنيا) ويحك : إنها سوداء . أُخيّ : طر بجناح الجد من وكر الكسل ، تابعًا آثار الأحباب تصل .
أخي : أين أنت والطريق ؟؟ سبيلٌ نصب فيه آدم ، وناح لأجله نوح ، ورُميّ في النار إبراهيم الخليل ، وأضُجع للذبح إسماعيل ، وبيع يوسف بدراهم ، وذهبت من البكاء عين يعقوب ، ونُشرَ بالمنشار زكريا ، وذُبح الحصور يحيى ، وضني بالبلاء أيوب ، وزاد علي المقدار بكاء داود ، وتنغص في الملك عيش سليمان ، وهام مع الوحوش عيسي ، وعالج الفقر محمد صلي الله عليهم وسلم . أول قدم علي الطريق بذل الروح ، هذه الجادة فأين السالك ؟؟ هذا قميص يوسف فأين يعقوب ؟؟ هذا طور سينا فأين موسى ؟؟ .(/1)
إن الله سبحانه بعث الرسل لتكميل الفطرة وتقريرها لا بتحويلها وتغييرها ، ومن الفطرة التي فُطر الإنسان عليها حب الملذات ، أي حب الشيء الذي يلتذ به ويستمتع به ، واللذات كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيميه ثلاثة أجناس : الحسية والوهمية والعقلية ، والمقصود بالحسية : مما يكون بإحساس الجسد : من مأكول ومشرب وملبوس ومنكوح ... ، والوهمية : كالمدح والثناء والمحبة والطاعة والتعظيم ، فإن ذلك لذيذ محبوب للإنسان ، والعقلية : العلم الحق ؛ ومعرفة الله ، والحق .
فمن هذه الثلاث : اللذة الوهمية : ومنها المحبة ، فالإنسان يفرح جدًا ويلتذ بمحبة الناس له ، وكذلك فإنه يتألم جدًا بكره الناس له ومقتهم إياه ، ولذلك فإنك تجد هذا النوع من اللذة يُنعم به أهل الجنة ، وعلي الضد والنقيض يُعذب بفقده أهل النار ، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة .
أخي الحبيب : أرجو منك أن تجلس في مكان هادئ لا يشغلك فيه أي شئ آخر عما تقرأ ، ولا تفكر الآن في أي شئ إلا الموقف الذي أدعوك لأن تتخيله .
تخيل أخي الكريم أنك تجلس في بيتك ، والذي يتكون من والديك وأخوتك ، فتجد والديك يقولان لك : نحن نحبك جدًا ، ونحمد الله أن رزقنا بابٍن مثلك ، وكذلك تجد الإخوة يقولون لك أنت حبيبنا ونسأل الله أن يمتعنا بك وأن يبارك لنا في عمرك ، ثم بعد ذلك إذا ما قابلك أحد تمني أن لو جلس معك بقية حياته .. وهكذا . بالله عليك كيف يكون حالك ؟؟ بالطبع ستكون في لذة كبيرة بحصول ذلك لك .
أخي : ما بالك لو أخبرتك أن الشيخ محمد حسان حفظه الله يحبك ، وما بالك لو أخبرتك أن العلامة ابن جبرين حفظه الله يحبك ، وما بالك لو أخبرتك أن العلامة الألباني رحمه الله أخبر أنه يحبك ، وما بالك لو أخبرتك أن الشيخ ابن العثيمين رحمه الله يحبك ، فما بالك لو أخبرتك أن ابن تيميه وتلميذه يحبونك ، أو أن ابن الجوزي وابن رجب يحبونك ، أو أن أبو حنيفة ومالك والشافعيّ وأحمد يحبونك ، فما بالك لو أخبرتك أن سيدنا بلال بن رباح رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يحبك ، فما بالك لو أخبرتك أن أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يحبك ، فما بالك لو أخبرتك أن عثمان وعليّ بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما يحبانك ، فما بالك لو أخبرتك أن الفاروق عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يحبك ، فما بالك لو أخبرتك أن الصديق أبو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يحبك ، فبالله عليك ما بالك لو أخبرتك أن المصطفي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحبك ، ثم ما بالك لو أخبرتك أن رب العزة عز وجل يحبك ؟؟؟!!
بالطبع شيء عظيم جدًا ووالذي لا إله إلا هو إن العبد المؤمن المطيع لربه المنقاد لمولاه ليحبه كل شيء ؛ فيحبه الله ، وتحبه الملائكة ، ويحبه الصالحون ، بل وتحبه الجمادات ، وهذا ما ستقرأة إن شاء الله في الأسطُر القادمة ، نسأل الله أن يرزقنا من فضله وجوده وكرمه ، إنه وليّ ذلك والقادر عليه .
بدايةً أقرأ قول سيد الخلق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فعن أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ " متفق عليه .
وأقرأ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ قَالَ فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ الْمَحَبَّةُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) ، وَإِذَا أَبْغَضَ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ : إِنِّي أَبْغَضْتُ فُلَانًا فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ " . رواه الترمذي ، وصحيح برقم 284 في صحيح الجامع .
وأقرأ قول رب العزة عز وجل : (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السّمَآءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ) [سورة: الدخان - الآية: 29](/2)
فبينما لم تبك السماء ولا الأرض علي أهل النار هوانًا لهم وعدم اكتراث بهم ، وعدم تأسف عليهم ، لأن هذا الكون يمقتهم لانفصالهم عنه ، وهو مؤمن بربه ، وهم به كافرون ، وهم أرواح خبيثة منبوذة من هذا الوجود وهي تعيش فيه . وذلك لأنهم ما خلفوا وراءهم من آثارهم إلا ما يسود وجوههم ، ويوجب عليهم اللعنة والمقت من العالمين ن بينما كان الأمر كذلك لأهل النار كان علي الضد والنقيض لأهل الإيمان والعمل الصالح كما جاء عند أهل التفسير ، قال مجاهد : إن السماء والأرض يبكيان على المؤمن أربعين صباحاً فتبكي ، قال أبو يحيى : فعجبت من قوله فقال : أتعجب ! وما للأرض لا تبكي على عبد يعمرها بالركوع والسجود ! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدويّ النحل ! ، وقال عليّ وابن عباس رضي الله عنهما ، إنه يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء .
فتعالوا معيّ لنعيش معًا تلك الرحلة الجميلة التي نتذوق فيها النوع الثاني من اللذات ألا وهو اللذة العقلية التي نتعلم فيها علي علم نافع .
أولاً : حب الله عز وجل :
* قال تعالى: (قَالَ اللّهُ هََذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [سورة: المائدة – الآية: 119] درجات بعد درجات : الجنات ، والخلود ، ورضا الله ورضاهم بما لقوا من ربهم من التكريم ، فيرضي عليهم رضي لا يغضب بعده أبدًا .
* وقال تعالي : (وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [سورة: التوبة - الآية: 72]
"وَرِضْوَانٌ مّنَ اللّهِ أَكْبَرُ": أي رضا الله عنهم أكبر وأعظم ، مما هم فيه من النعيم ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقُولُ أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالُوا يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا " . متفق عليه .
* وقال تعالى: (وَالسّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [سورة: التوبة - الآية: 100] السابقون هم الذين سبقوا هذه الأمة وبدروها إلي الإيمان والهجرة والجهاد ، والمهاجرين : " الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " . والأنصار : " الَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ " . والذين اتبعوهم بإحسان : بالإعتقادات والأقوال والأعمال ، فهؤلاء الذين سلموا من الذم ، وحصل لهم نهاية المدح ، وأفضل الكرامات من الله " رضي الله عنهم " ورضاه تعالي أكبر من نعيم الجنة
ورضي الله عنهم هو الرضي الذي تتبعه المثوبة ، وهو في ذاته أعلي وأكرم مثوبة
* وقال تعالى: (سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رّبّ رّحِيمٍ) [سورة: يس - الآية: 58]
"سَلاَمٌ": حاصل لهم من رب رحيم "قَوْلاً": إذا سلَّم عليهم الرب الرحيم ، حصلت لهم السلامة التامة من جميع الوجوه ، وحصلت لهم التحية ، التي لا تحية أعلي منها ، ولا نعيم مثلها ، فما ظنك بتحية ملك الملوك ، الرب العظيم الرؤوف الرحيم ، لأهل دار كرامته الذي أحل عليهم رضوانه ، فلا يسخط عليهم أبدًا ، فلولا أن الله قدر أن لا يموتوا ، أو تزول قلوبهم عن أماكنها من الفرح والبهجة والسرور ، لحصل ذلك . فنرجو ربنا ألا يحرمنا ذلك النعيم ، وأن يمتعنا بالنظر إلي وجهه الكريم .
وأُكرر : فلولا أن الله قدر أن لا يموتوا ، أو تزول قلوبهم عن أماكنها من الفرح والبهجة والسرور ، لحصل ذلك .
ثانيًا : حب الملائكة :(/3)
* قال تعالى: (جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىَ الدّارِ) [سورة: الرعد - الآية: 23،24]
وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ:يهنئونهم بالسلامة وكرامة الله لهم ويقولون سَلاَمٌ عَلَيْكُم ، أي : حلَّت عليكم السلامة والتحية من الله وحصلت لكم ، وذلك متضمن لزوال كل مكروه ، ومستلزم لحصول كل محبوب .
في هذه الجنات يأتلف شملهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ، وهي لذة أخري تضاعف لذة الشعور بالجنان ، وفي جو التجمع والتلاقي يشترك الملائكة في التأهيل والتكريم ، في حركة رائحة غادية "يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ" ويدعنا السياق نري المشهد حاضرًا ، وكأنما نشهده ونسمع الملائكة أطوافًا أطوافًا .. سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىَ الدّارِ فهو مهرجان حافل باللقاء والسلام والحركة الدائبة والإكرام .
ثالثًا : حب الأهل (أهل الجنة) :
* قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للّهِ الّذِي هَدَانَا لِهََذَا وَمَا كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلآ أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ وَنُودُوَاْ أَن تِلْكُمُ الْجَنّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة: الأعراف – الآية: 43] وقال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَاناً عَلَىَ سُرُرٍ مّتَقَابِلِينَ) [سورة: الحجر - الآية: 47]
فهم بشر وقد عاشوا بشرًا . وقد يثور بينهم في الحياة الدنيا غيظ يكتمونه ، وغل يغالبونه ويغلبونه .. ولكن تبقي في القلب منه آثار .
وهذا من كرمه وإحسانه علي أهل الجنة ، أن الغل الذي كان موجودًا في قلوبهم ، والتنافس الذي بينهم ، أن الله يقلعه ويزيله حتى يكونوا إخوانًا متحابين ، وأخلاء متصافين ."ونزعنا ما في صدورهم من غل" هذا من جملة ما ينعم الله به على أهل الجنة أن ينزع الله ما في قلوبهم من الغل على بعضهم حتى تصفو قلوبهم ويود بعضهم بعضاً، فإن الغل لو بقيّ في صدورهم لكان في ذلك تنغيص لنعيم الجنة ، لأن المتشاحنين لا يطيب لأحدهم عيش مع وجود الآخر .
* وقال تعالى: (وَالّذِينَ آمَنُواْ وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَيْءٍ كُلّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ) [سورة: الطور - الآية: 21]
ويمضي التكريم فإذا ذريتهم المؤمنة تجتمع إليهم في هذا النعيم ، زيادة في الرعاية والعناية ، ولو كانت أعمال الذرية أقل من مستوي المتقين ، ما دامت هذه الذرية مؤمنة ، وهذا من تمام نعيم أهل الجنة ، أن ألحق الله بهم ذريتهم .
* وقال تعالى: (لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً) [سورة: الواقعة - الآية: 25،26] لا يسمعون في جنات النعيم كلامًا لا يكون فيه فائدة ، إلا كلامًا طيبًا ، وذلك لأنها دار الطيبين ، ولا يكون فيها إلا كل طيب ، وهذا دليل علي حسن أدب أهل الجنة في خطابهم فيما بينهم ، وأنه أطيب كلام ، وأسره للنفوس ، وأسلمه من كل لغو وإثم ، نسأل الله من فضله .
حياتهم كلها سلام يرف عليها السلام ، ويشيع فيها السلام ، تسلم عليهم الملائكة في ذلك الجو الناعم الآمن ، ويسلم بعضهم علي بعض ، ويبلغهم السلام من الرحمن ، فالجو كله سلام سلام .
رابعًا : حب الدار (الجنة) :
قال تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنّةُ لِلْمُتّقِينَ) [سورة: الشعراء - الآية: 90] "وأزلفت الجنة" أي قُربت وأُدنيت من أهلها مزخرفة مزينة لناظريها وهم المتقون الذين رغبوا فيها على ما في الدنيا وعملوا لها في الدنيا. فالتكريم في كل كلمة ، وفي كل حركة ، فالجنة تُقرب وتزلف ، فلا يكلفون مشقة السير إليها ، بل هي التي تجيء إليهم . فتقترب بحيث تُشاهد ويُنظر ما فيها ، من النعيم المقيم والحبرة والسرور ، وإنما أُزلفت وقُربت ، لأجل المتقين لربهم ، التاركين للشرك صغيره وكبيره ، الممتثلين لأوامر ربهم ، المنقادين له .
وبينما كان للنار شهيقًا وهي تفور ، وبينما كادت تميز من الغيظ ، كانت الجنة لأهلها لا يرون فيها شمسًا يضرهم حرها ، ولا بردًا شديدً ، بل جميع أوقاتهم في ظل ظليل ، لا حر ولا برد ، بحيث تلتذ به الأجساد ، وكانت الثمار التي فيها قريبة من مريديها سواء كان قائم أو قاعد أو مضطجع .
* وقال تعالى: (وَسِيقَ الّذِينَ اتّقَوْاْ رَبّهُمْ إِلَى الّجَنّةِ زُمَراً حَتّىَ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [سورة: الزمر - الأية: 73](/4)
فأهل الجنة يُساقون إلي الجنان بل والله تُساق إليهم .
"حَتّىَ إِذَا جَآءُوهَا": أي وصلوا لتلك الرحاب الرحيبة والمنازل الأنيقة ، وهبّ عليهم ريحها ونسيمها ، وآن خلودها ونعيمها ، وَفُتِحَتْ لهم أَبْوَابُهَا فتح إكرام لكرام الخلق ، ليُكرموا فيها ، فهو الاستقبال الطيب .. والثناء الجميل .
بل والله من ضمن هذا النعيم المعنوي العظيم العالي ، قول الحق جل وعلا :" فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ" مشهد سخرية الذين آمنوا من الذين أجرموا ، وهذا التصوير المُفصل لمواجعهم من أذى المشركين ، فيه بلسم لقلوبهم ، فالله يري كيف من المؤمنين الساخرون ، وكيف يؤذيهم المجرمون ، وكيف يتفكه بآلامهم ومواجعهم المتفكهون ، وكيف لا يتلوم هؤلاء السفلة ولا يندمون ! إن ربهم يري هذا كله .ويصفه في تنزيله .فهو إذن شيء في ميزانه .. وهذا يكفي . نعم هذا يكفي حين تستشعره القلوب المؤمنة مهما كانت مجروحة موجوعة .
ثم إن ربهم يسخر من المجرمين سخرية رفيعة عالية فيها تلميح موجع . قد لا تحسه قلوب المجرمين المطموسة المغطاة بالرين المطبق عليها الذنوب . ولكن قلوب المؤمنين الحساسة المرهفة ، تحسه وتقدره ، وتستريح إليه .
ثم إن هذه القلوب المؤمنة تشهد حالها عند ربها ، ونعيمها في جناته ، وكرامتها في الملأ الأعلى ، علي حين تشهد حال أعدائها ومهانتهم في الملأ الأعلى وعذابهم في الجحيم ، مع الإهانة والترذيل .. تشهد هذا وذلك في تفصيل وفي تطويل . وهي تستشعر حالها وتذوقه تذوق الواقع اليقين . وما من شك أن هذا التذوق يمسح علي مرارة ما كانت فيه من أذى وسخرية وقلة وضعف .
ومن ذلك قوله تعالى: (وَنَادَىَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ أَصْحَابَ النّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتّم مّا وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ) [سورة: الأعراف - الآية: 44] وفي هذا السؤال من السخرية المرة ما فيه ..إن المؤمنين علي ثقة من تحقيق وعيد الله كثقتهم من تحقيق وعده ولكنهم يسألون . سؤال تقريع وتعيير .
----------------------
[1] للشيخ العلامة الألباني رسالة في التعليق علي خطبة الحاجة بعنوان ( خطبة الحاجة ) ينبغي أن تُراجع .
[2] من بديع كلام ابن الجوزي رحمه الله .
أبو عبد الرحمن محمد بن عمران(/5)
فتح كاشغر
بقلم: محمود شيث خطاب
________________________________________
»لا يزال أهل تركستان الشرقية (سينكيانج) مسلمين حتى اليوم، ولكن القابض منهم على دينه كالقابض على الجمر«.
المدينة والسكان..
كاشغر: مدينة من أشهر مدن تركستان الشرقية وأهمها، وكانت عاصمة تركستان الشرقية، ولها مركز عظيم في التجارة مع روسيا من جهة والصين من جهة ثانية وبلاد ما وراء النهر[1] من جهة ثالثة، وتشتهر بمنسوجاتها الصوفية الجميلة.
وكانت كاشغر تعتبر قديماً من بلاد ما وراء النهر، وهي تضم قرى ومزراع كثيرة، يسافر إليها من سمرقند وإقليم الصغد، وهي في وسط بلاد الترك، وأهلها مسلمون.
وينسب إلى كاشغر علماء كثيرون، منهم أبو المعالي طفرل شاه محمد بن الحسن بن هاشم الكاشغري الواعظ، وكان عالماً فاضلاً، سمع الحديث الكثير، وطلب الأدب والتفسير، ومولده سنة 490 هـ، وتجاوز سنة 550 هـ في عمره.
ومنهم أبو عبد الله الحسين بن علي خلف بن جبرائيل بن الخليل بن صالح بن محمد الألمعي الكاشغري، كان شيخاً فاضلاً واعظاً، وله تصانيف كثيرة بلغت في الحديث وحده ما تصانيف كثيرة بلغت في الحديث وحده مائة وعشرين مصنفاً وأكثر، وتوفي ببغداد سنة 484 هـ.
وهكذا كان المسلمون في أيام عزهم، ينتقلون لطلب العلم والرزق من كاشغر شرقاً إلى الأندلس غرباً، إلى سيبيريا شمالاً، إلى المحيط جنوباً، بدون جوازات سفر ولا سمات دخول وبغير حدود ولا سدود، وقد أصبحت دولة الإسلام اليوم، دولة الإسلام الواحدة، سبعاً وثمانين دولة ما بين ملكية وجمهورية وإمارة ومشيخة ومستعمرة، يحتاج الذي يريد زيارتها –إن استطاع وسمح له- إلى عشرات سمات الدخول ومئات العراقيل وآلاف العقبات، وأصبح المسلم في دار الإسلام غريباً.
وتركستان الشرقية التي تقع فيها مدينة كاشغر، يحدها من الجنوب: الباكستان والهند (كشمير) والتبت، ومن الجنوب الغربي والغرب: أفغانستان وتركستان الغربية، ومن الشمال: سيبيريا، ومن الشرق والجنوب الشرقي: الصين ومنغوليا.
وقد اجتاحت تركستان الشرقية القوات الصينية الشيوعية سنة 1949م واحتلتها، فأطلق عليها الصينيون اسم (سينكيانج) وهي كلمة صينية تعني: المستعمرة الجديدة، وتبعهم بهذه التسمية الأوروبيون وبعض المصادر العربية الحدينة، إلا أن أهل تركستان الشرقية المسلمون يحبون أن تسمى بلادهم باسمها القديم: تركستان الشرقية، ولا يحبون تسميتها بالاسم الصيني الجديد.
وقد لعبت تركستان الشرقية دوراً تاريخياً مهماً في التجارة العالمية. وكان طريق الحرير المشهور يمر بها، وهو الطريق الذي كان يربط بين الصين، أبعد بلاد العالم القديم، والدولة البيزنطية.
وبدأ الإسلام يدخل تركستان الشرقية على عهد عبد الملك بن مروان سنة ست وثمانين الهجرية (705م)، ولكن البلاد أصبحت إسلامية حكومة وشعباً سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة الهجرية (964م) بدخول السطان ستوق بغراخان الإسلام، فشمل الإسلام البلاد كافة.
ولا يزال أهل تركستان الشرقية مسلمين حتى اليوم، ولكن القابض على دينه كالقابض على الجمر.
التمهيد للفتح..
قطع قتيبة بن مسلم الباهلي النهر –نهر جيحون- في سنة أربع وتسعين للهجرة (712م) متوجهاً إلى فرغانة. وفرغانة اسم مدينة واسم إقليم. وإقليم فرغانة من أقاليم نهر سيحون في بلاد ما وراء النهر، متاخمة لتركستان، وليس فما وراء النهر أكثر قرى من فرغانة، وربما بلغ حد القرية مرحلة لكثرة أهلها وانتشار مواشيهم وزروعهم.
أما فرغانة المدينة فكثيرة الخيرات، كثيرة القرى والحقول والمزارع، بينها وبين سمرقند خمسون فرسخاً.
واصطدمت قوات قتيبة بقوات أهل فرغانة في مدينة خجندة إحدى مدن إقليم فرغانة، فقاوم أهل فرغانة ومن معهم من الترك القادمين مدداً لهم من مدينة كاشغر المجاورة، وكانت مقاومتهم شديدة اضطر قتيبة على الاشتباك بهم مراراً، وفي كل مرة يكون الظفر فيها للمسلمين. وأخيراً انتهت مقاومة أهل فرغانة وحلفائهم الباسلة، ففتح المسلمون الإقليم كافة.
وكان سبب حشد أهل فرغانة قواتهم الضاربة في خجندة، هو لأنها أول مدن إقليم فرغانة من الغرب، وهي على حدود إقليم الصغد الشرقية التي فتحها المسلمون من قبل، فهي الخط الدفاعي الأول عن إقليم فرغانة.
وخُجندة، بلدة مشهورة بما وراء النهر، تقع على شاطئ سيحون، بينها وبين سمرقند عشرة أيام شرقاً، وهي مدينة نزهة، ليس بذلك الصقع أنزه منها، وفي وسطها نهر جار، ولأهلها سفن يسافرون بها في سيحون، وتقوم على ضفة سيحون اليسرى.
ولعل موقع هذه المدينة القريب من إقليم الصغد الذي فتحه المسلمون قبل اليوم، وتيسر وسائط النقل فيها، وكثرة موادها الغذائية، وأهميتها القصوى لإقليم فرغانة، هي أهم أسباب حشد قوات إقليم فرغانة على أرضها، وقبول المعركة الدفاعية الحاسمة عن إقليم فرغانة في ربوعها.
الفتح(/1)
كان الاحتفاظ بإقليم فرغانة بيد المسلمين، يقضي على المسلمين فتح منطقة كاشغر التي تقع شرقي إقليم فرغانة، ويقطنها الترك كما يقطنون إقليم فرغانة. وفي سنة ست وتسعين الهجرية (714م) غزا قتيبة مدينة كاشغر، وهي أدنى مدائن الصين وأقربها إلى فرغانة.
وسار قتيبة من مرو عاصمة خراسان على رأس جيشه، وحمل الناس عيالاتهم لتستقر في سمرقند.
وعبر الجيش الإسلامي نهر جيحون، فاستعمل قتيبة رجلاً على معبر النهر، ليمنع من يرجع من جنده إلا بجواز منه وبموافقته الخطية.
ومضى جيش المسلمين إلى فرغانة، مروراً بسمرقند، حيث أبقى الناس عيالاتهم فيها بحماية المسلمين من أهل سمرقند، وكان الإسلام قد انتشر فيها انتشاراً سريعاً موفقاً.
وفي فرغانة، أكمل قتيبة استعدادات جيشه للقتال، وأرسل إلى (شعب عصام) الفَعَلَة لتمهيده، حتى يجتاز الجيش بسهولة ويسر وسرعة، فأكمل الفعلة مهمتهم، وأخبروا قتيبة بإكمالها.
والفعلة هم سلاح الهندسة، كما نطلق عليه اليوم في المصطلحات العسكرية الحديثة: وهم الذين يمهدون الطرق، ويبنون القناطر والجسور، ويزيلون العقبات الطبيعية، ويؤمّنون وسائط عبور الأنهار، ويشرفون على العبور والمعابر.
ويبدو أن (شِعب عصام) أو وادي عصام، عارض من العوارض الطبيعية الوعرة، يعرقل مسيرة الجيش بقوات كبيرة، ويقع بين فرغانة والحدود الصينية القديمة.
وتقدم قتيبة على رأس جيشه من فرغانة، سالكاً الطريق التجارية التي تربط مدينة فرغانة بمدينة كاشغر، ماراً بجنوب بحيرة (جاتيركول) السوفييتية حالياً، على الحدود الصينية-السوفييتية، مقتحماً ممر (تيترك) في تركستان الشرقية.
وبعث قتيبة مقدمة أما جيشه إلى كاشغر، فتقدمت حتى وصلت إلى هدفها، بعد أن أزاحت المقاومات الطفيفة التي صادفتها في طريقها، وغنمت وسبت.
وأوغل قتيبة حتى قارب حدود الصين القديمة، ففتح كاشغر، وجنغاريا الواقعة على حدود منغوليا، وترفان على مقربة من الحدود المنغولية، وخوتن الواقعة شمالي التبت وكشمير، وقانو التي تقع تماماً في منتصف الصين الحالية.
ولكن المصادر العربية المعتمدة تقتصر على فتح كاشغر في هذه السنة ولا تقدم التفاصيل الإضافية الأخرى عن فتوح المدن الصينية الأخرى.
المفاوضات
بات الاصطدام بين المسلمين من جهة وبين ملك الصين من جهة ثانية وشيكاً، فطلب ملك الصين التفاوض بين الجانبين، وعرض التفاوض على قتيبة، فقد أوغل قتيبة حتى قارب الصين واخترق حدودها الغربية، فكتب إليه ملك الصين: «ابعث إلي رجلاً شريفاً يخبرني عنم وعن دينكم»، فوافق قتيبة على طلب ملك الصين.
واختار قتيبة من بين رجال جيشه اثني عشر رجلاً، لهم جَمال وألسن وبأس وتجمّل وصلاح، وأمر لهم بعُدّة حسنة ومتاع حسن من الخز والوشى وغير ذلك وخيول حسنة، وكان منهم هُبيرة بن المشمرج الكلابي مفوّهاً سليط اللسان، وقال لهم: «إذا دخلتم على ملك الصين، فأعلموه أني حلفتُ أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم، وأختم ملوكهم، وأجبي خراجهم»..
وسار وفدُ قتيبة إلى ملك الصين، عليهم هبيرة بن المشمرخ الكلابي، فلما قدموا الصين، دعاهم ملكها، فلبسوا ثياباً بياضاً تحتها الغلائل، وتطيبوا ولبسوا الأردية، ودخلوا على الملك، وكان عنده عظماء قومه، فأخذوا أماكنهم في مجلسه، فلم يكلم الملك الوفد ولا أحد ممن عنده.
ولما انصرف الوفد من مجلس الملك، قال الملك لمن حضره: «كيف رأيتم هؤلاء؟» قالوا: «رأينا قوماً ما هم إلا نساء».
وبالطبع قال من حول الملك ما يحب الملك أن يسمع، لا ما يجب على الملك أن يسمع، أسوة من حول أصحاب السلطان في كل زمان وكل مكان.
وفي غد دعاهم الملك إلى مجلسه، ولبسوا الوشي وعمائم الخز والمطارف –ألبسة من خزّ مربعة لها أعلام- وغدوا عليه، فلما دخلوا عليه قيل لهم: ارجعوا.
وقال الملك لأصحابه بعد انصراف وفد المسلمين: كيف رأيتم؟ فقالوا: هذه أشبه بهيئة الرجال من تلك.
وفي اليوم الثالث دعاهم الملك إلى مجلسه أيضاً، فشدوا سلاحهم، ولبسوا البيض –الخوذ والمغافر- (جمع مِغفر)، وهو زرد ينسج على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة.. وأخذوا السيوف والرماح والقسي، وركبوا خيولهم العربية المطهمة الأصيلة.
ونظر إليهم ملك الصين، فرأى أمثال الجبال المقبلة، فلما دنوا من مجلس الملك، ركزوا رماحهم ثم أقبلوا مشمرين.
وقيل لهم قبل أن يدخلوا على الملك: »ارجعوا..« لِما دخل في قلوب الملك ومن معه من رجال الصين وقادتها من خوف ورهبة.
وانصرف الوفد عائداً إلى مستقره، بعد أن أخذوا رماحهم واستعادوا سلاحهم وامتطوا خيولهم، ثم دفعوا الخيل حضراً –عدْو ذو وثب، وهو ركض الخيل بأقصى سرعتها، كالذي يجري في سباق الخيل- كأنهم يتطاردون، فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ فقالوا: ما رأينا مثل هؤلاء!(/2)
وفي مساء ذلك اليوم، بعث ملك الصين إليهم، أن ابعثوا إليّ زعيمكم. فبعثوا إليه هبيرة، فقال له الملك: قد رأيتم عظم ملكي، وأنه ليس أحد يمنعكم مني، وأنت في يدي بمنزلة البيضة في كفي، وإني سائلكم عن أمر، فإن لم تصدقوني قتلتكم.
وما كان هبيرة بحاجة إلى التهديد والوعيد، وليس هو من الرجال الذين يخيفهم التهديد والوعيد، فهو لا يكذب أبداً حتى ولو قتل على أن يكذب لا على ألا يكذب، فلا مجال لتهديده بالقتل إذا لم يصدق.
وسأل الملك هبيرة: لماذا صنعوا في الزي الأول ما صنعوا، ثم الزي الثاني، والزي الثالث؟
وكان جواب هبيرة: أما زيّنا الأول، فلباسنا في أهالينا وريحنا عندهم، وأما يومنا الثاني فإذا أتينا أمراءنا، وأما الثالث فزيّنا لعدوّنا.
وقال الملك: ما أحسن ما دبرتم دهركم، فانصرفوا إلى صاحبكم، فقولوا له: ينصرف، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثتُ عليكم من يهلككم ويهلكه.
وإذا كانت الجبال الراسيات تهتز قيد أنملة من خطرات النسيم العليل، فإن هبيرة قد اهتز يومئذ من وعيد الملك وتهديده، فلا بد له من أن يبلغ هذا الملك رسالة قتيبة بقوة وأمانة وصدق، فقال للملك في ثقة كاملة وهدوء تام: كيف يكون قليل الأصحاب مَن أول خيوله في بلادك، وآخرها في منابت الزيتون! وكيف يكون حريصاً من خلّف الدنيا وغزاك؟
وأما تخويفك بالقتل، فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه.
واستخذى الملك في مجابهة قولة الحق، فنسي تهديده ووعيده، ثم تساءل في قول ليّن رقيق: فما الذي يُرضي صاحبك؟ فأجابه هبيرة بقول فصل لا مساومة فيه: إنه حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويُعطَى الجزية.
واستخذى الملك إلى درجة الانهيار بعد أن سمع كلمة الحق تزهق الباطل، فقال: فإنا نخرجه من يمينه: نبعث إليه بتراب من تراب أرضنا فيطأه، ونبعث أبناءنا فيختمهم، ونبعث له مالاً يرضاه..
ودعا الملك بصحاف من ذهب فيها تراب من أرض الصين، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجاز الوفد فأحسن جوائزهم، فقدموا على قتيبة الذي قبل الجزية، وختم الغلمان، وردّهم إلى الملك، ووطئ تراب الصين.
وقد لجأ الوفد الإسلامي إلى تبديل أزيائهم للتأثير في معنويات ملك الصين ومن معه، مما أدّى إلى انهيار معنويات الصينيين واستجابتهم لمطالب المسلمين.
حقيقة الفتح
المؤرخون العرب يذكرون أن مدينة كاشغر هي أدنى مدائن الصين، ولكن البلدانيين العرب يذكرون أنها من مدن تركستان. وما أخطأ المؤرخون العرب، لأن حدود الصين كانت تمتد غرباً فتضمّ حدودُها تركستان الشرقية بكاملها، أو جزءاً منها في حالة اشتداد قوة ملوك الصين، وتنحسر تلك الحدود نحو الشرق، فتستقل تركستان الشرقية بحدودها الطبيعية، أو تمتد حدود تركستان الشرقية فتضم إليها أجزاء من الصين، في حالة قوة ملوك تركستان وضعف ملوك الصين. وما أخطأ البلدانيون العرب القدامى في ذكرهم أن مدينة كاشغر من مدن تركستان الشرقية، فهي في الواقع كذلك أصلاً، ولكنها تدخل في حدود الصين تارة، وتكون خارج حدودها تارة أخرى.
وقد ظلت تركستان الشرقية خاصة عرضة لهجمات الصينيين حتى أصبحت اليوم من أجزاء الصين كما هو معلوم.
ومن مراجعة تاريخ تركستان الشرقية القديم يتضح لنا أن منطقة كاشغر والمناطق التي حولها التي امتدت الفتوحات الإسلامية إليها، كانت ضمن دولة (كول تورك) التي كانت من سننة 552 م إلى سنة 745 م، ومعنى هذا أن الفتح الإسلامي في تركستان سنة ست وتسعين الهجرية (714 م) كان على عهد تلك الدولة التركية التي كانت في عداء مستمر مع جارتها الشرقية الصين، وكانت على ولاء كامل مع بلاد ما وراء النهر، وخاصة مع إقليم فرغانة، لأن العنصر التركي كان يسيطر على هذا الإقليم، فكان تعاونه مع تركستان الشرقية تعاوناً وثيقاً.
ويذكر لنا تاريخ تركستان الشرقية القديم، أن الاضطرابات شملت تركستان الشرقية سنة إحدى وعشرين ومائة الهجرية (738 م)، فاستغل الصينيون هذه الاضطرابات واعتدوا على تركستان الشرقية وضمّوها إلى بلادهم.
ولكن الأتراك من سكان تركستان الشرقية تمكنوا من الحصول على المعونات العربية الإسلامية سنة أربع وثلاثين ومائة الهجرية (751 م) على عهد الدولة العباسية في بغداد، وتمكنوا بهذا العون من إنقاذ بلادهم من حكم الصين، و هزموا الصينيين في معركة (تالاس) المشهورة.[2]
يتضح من ذلك أن الفتح الإسلامي في كاشغر والمدن الأخرى جرى في تركستان الشرقية لا في الصين، ولكن ملك الصين الذي وجد سرعة تقدم الفتوح الإسلامية ووصولها إلى حدوده الغربية مباشرة في حينه، سعى لإرضاء الفاتحين خوفاً من اختراق بلاده وفتحها، فقدم ما قدم لقتيبة إرضاء له ولمن معه من المجاهدين، وصدّاً لتيارهم الجارف بالتي هي أحسن.
الشهيد..(/3)
والسبب الحقيقي لعودة قتيبة وجيشه عن حدود الصين الغربية، كما تذكر المصادر التاريخية المعتمدة، هو وصول خبر وفاة الوليد بن عبد الملك، وتولّي سليمان بن عبد الملك الخلافة بعده، وكان ذلك سنة ست وتسعين الهجرية[3] وكان الوليد مؤيداً لقتيبة وسنداً له أسوة بقادة الحجاج بن يوسف الثقفي كافة، وكان سليمان يكرههم ولا يميل إليهم، لأن الوليد بن عبد الملك أراد أن ينزع أخاه سليمان بن عبد الملك عن ولاية العهد ويجعل بدله عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك ابنه، فبايعه على خلع سليمان الحجاجُ وقتيبة وقادة الحجاج الآخرون.
وعاد قتيبة بمن معه من جيش المسلمين، فقتل في فرغانة سنة ست وتسعين الهجرية، وهي في طريق عودته إلى خراسان، فقال رجل من العجم: ما معشر العرب، قتلتم قتيبة! والله لو كان قتيبة منا فمات لجعلناه في تابوت فكنا نستسقي به ونستفتح إذا غزونا!
وقال أحد رجالات العجم بعد مقتل يزيد بن المهلب بن أبي صفرة: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة ويزيد وهما سيدا العرب!
ورثا قتيبة كثير من شعراء العرب، فقال الفرزدق:
أتاني ورحلي بالمدينة وقعة * لآل تميمٍ أقعدتْ كل قائم
وقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلي:
كأنّ أبا حفص قتيبة لم يَسْرِ * بجيشٍ إلى جيش ولم يَعْلُ منبرا
ولم تخفق الرايات والقوم حوله * وقوف، ولم يشهد له الناسُ عسكرا
دعته المنايا فاستجاب لربّه * وراح إلى الجنات عِفّاً مطهّرا
فما رزئ الإسلامُ بعدَ محمّد * بمثل أبي حفص، فيبكيه عبْهَرا
وعبهرا: اسم ولد لقتيبة.
وقال جرير في رثاء قتيبة:
ندمتم على قتل الأمير ابن مسلمٍ * وأنتم إذا لاقيتم الله أندَمُ
لقد كنتم في غزوه في غنيمة * وأنتم لمن لقيتم اليومَ مغنَمُ
على أنه أفضى إلى حور ربّه * وتُطبق بالبلوى عليكم جهنمُ
والشعر في رثائه كثير، والثناء عليه أكثر، ولكنه كان أكبر من كل رثاء وثناء، فآثاره باقية، وفتوحه عظيمة، وأعماله لا تبلى.
يكفي أن نذكر أن مساحة فتوحه تبلغ أربعين بالمائة من مساحة الاتحاد السوفييتي[4] وثلاثاً وثلاثين بالمئة من مساحة الصين الشعبية في الوقت الحاضر.وأن سكان المناطق التي فتحها في بلاد ما وراء النهر وتركستان الشرقية ضمن الاتحاد السوفييتي والصين لا يزالون مسلمين حتى اليوم، يتبركون بقراءة القرآن الكريم، ويعتزون بالعربية لغة والإسلام ديناً، بالرغم مما يلاقونه من عنت شديد ومحن وعناء.
ولا أزال أذكر مضيفة على إحدى الطائرات الصينية، صادفتها في إحدى الرحلات في المشرق الإسلامي. فقد رأتني أتلو ما تيسر من القرآن بالمصحف –والطائرة في الجو- فوجدتها تحتفي بي حفاوة خاصة، ولا تنفك تحيطني برعايتها الفائقة. وسألتني على استحياء أن أهدي لها المصحف لأنها مسلمة، فأهديته لها، فجثت على ركبتيها ووضعته على رأسها، وعيناها تذرفان قائلة: هذه أعظم هدية تسلمتها في حياتي، وسأقدم هذا المصحف الشريف إلى والدتي المريضة فور عودتي إلى بلدي، وستفرح بهذه الهدية العظيمة فرحاً عظيماً. ومضت إلى سبيلها تؤدي عملها، وما مرت بي إلا وهتفت: الحمد لله.. أنا مسلمة.
ويومها تذكرت قتيبة الذي لم يقتله أعداء العرب والمسلمين، بل قتله المسلمون.. وترحّمتُ عليه كثيراً وأنا بين السماء والأرض –في الطائرة- وترحّمتُ على شهداء المسلمين.
مجلة الأمة، العدد 50، صفر 1405 هـ
________________________________________
[1] بلاد ما وراء النهر كان نهر جيحون القديم يعد الحد الفاصل بين الأقوام الناطقة بالفارسية والتركية، أي إيران وتوران، فما كان من شماله، أي وراءه، من أقاليم سمّاها العرب: ما وراء النهر، وهو نهر جيحون، وكذلك سمّوها: الهيطل.
[2] إسماعيل حقي شن كولر – قضية تركستان الشرقية، ص 64-65.
[3] الذهبي ، العبر ص 114
[4] هذا قبل سقوطه في أوائل التسعينات من القرن الماضي.(/4)
فتح مكة 8 هـ
كان من بنود صلح الحديبية أن من أراد الدخول في حلف محمد - صلى الله عليه وسلم - وعهده دخل فيه ، ومن أراد الدخول في حلف قريش وعهدهم دخل فيه ، فدخلت \\\"خزاعة \\\" في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ودخلت بنو بكر في عهد قريش ، وكانت بين القبيلتين حروب وثارات ، فأراد \\\" بنو بكر \\\" أن يصيبوا من خزاعة ثأراً قديماً ، فأغاروا عليهم ليلاً وقتلوا جماعة منهم ، وأعانت قريش \\\" بني بكر \\\" بالسلاح والرجال ، فأسرع عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة ، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بغدر قريش وحلفائها.وعندما شعرت قريش بخطورة الأمر سارعت إلى إرسال أبي سفيان إلى المدينة لتفادي المشكلة وتجديد الصلح مع المسلمين ، ولكن دون جدوى ، فقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بالتهيؤ والاستعداد،وأعلمهم أنه سائر إلى مكة ، كما أمر بِكَتْم الأمر عن قريش حتى يباغتها في عقر دارها. وفي يوم الأربعاء العاشر من شهر رمضان المبارك من السنة الثامنة للهجرة غادر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة في عشرة آلاف من أصحابة بعد أن استخلف عليها أبا ذر الغفاري رضي الله عنه.ولما كان بالجحفة لقيه عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، وكان قد خرج بأهله وعياله مهاجراً. ثم واصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السير وهو صائم والناس صيام ، حتى بلغ الكُدَيْدـ وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد ـ فأفطر وأفطر الناس معه ، ثم سار حتى نزل بمَرِّ الظهران ، وهناك ركب العباس بغلته البيضاء يبحث عن أحد يبلغ قريشاً لكي تطلب الأمان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يدخل مكة. وكان أبو سفيان قد خرج يتجسس الأخبار فلقيه العباس فنصحه بأن يأتي معه ليطلب له الأمان من رسول الله ، ولما دخلا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ ....ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ، و العباس يقول له :ويحك أسلم ، فأسْلَم وشهد شهادة الحق ، فقال العباس : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً ، قال : نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن ثم غادر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ الظهران متوجها إلى مكة ، وقبل أن يتحرك أمر العباسَ بأن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي ، حتى تمر به جنود الله فيراها ، فمرّت القبائل على أبي سفيان والعباس يخبره بها ، حتى مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتيبته الخضراء ومعه المهاجرون والأنصار ، فقال أبو سفيان : سبحان الله ؟ ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة ، ثم أسرع إلى قومه صارخاً بأعلى صوته : يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به \\\" ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، فقالوا : قاتلك الله وما تغني عنا دارك ؟ قال : ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد ، وتجمع سفهاء قريش وأوباشها مع عكرمة بن أبي جهل ، و صفوان بن أمية ، و سهيل بن عمرو لمقاتلة المسلمين.وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار حتى انتهى إلى ذي طوى ، وهناك وزع الجيش ، فأمَر خالد بن الوليد ومن معه أن يدخل مكة من أسفلها ، وأمر الزبير بن العوام - وكان معه راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل مكة من أعلاها - من كداء - وأن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه . وأمر أبا عبيدة أن يأخذ بطن الوادي حتى ينصب لمكة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فلقي خالد وأصحابه سفهاءَ قريش الذين عزموا على القتال ، فناوشوهم قليلاً ثم لم يلبثوا أن انهزموا ، وقُتِل منهم اثنا عشر رجلاً ، وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله على الصفا ، وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجون عند مسجد الفتح ، وضرب قبة هناك فلم يبرح حتى جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم-.ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة من أعلاها من \\\" كداء،وهو مطأطئ رأسه تواضعاً وخضوعا لله ، حين رأي ما أكرمه الله به من الفتح ، حتى إن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل. ثم نهض رسول الله والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله حتى دخل المسجد ، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه ، ثم طاف بالبيت وفي يده قوس ، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنما ، فجعل يطعنها بالقوس ويقول : { جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } ( الاسراء 81 ) ، { جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } ( سبأ 49) ، والأصنام تتساقط على وجوهها ، ثم طاف بالبيت ، وكان طوافه على راحلته ولم يكن محرما يومئذ ، فاقتصر على الطواف ، فلما أكمل طوافه ، دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة فأمر بها ففتحت ،(/1)
فلما دخلها رأى فيها الصور ورأى صورة إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام يستقسمان بالأزلام ، فقال : \\\" قاتلهم الله ، والله ما استقسما بها قط \\\" ثم أمر بالصور فمحيت ، وصلى داخل الكعبة ، ودار في نواحي البيت وكبر الله ووحده . ثم خرج - صلى الله عليه وسلم وقريش صفوفاً ينتظرون ما يصنع بهم ، فقال : يا معشر قريش ، ما ترون أني فاعل بكم ؟ قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوانه : { لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } ( يوسف 92) ، اذهبوا فأنتم الطلقاء ، ثم أعاد مفتاح البيت إلى عثمان بن طلحة ، وأمر بلالاً أن يصعد فيؤذن . وفي اليوم الثاني خطب - صلى الله عليه وسلم - خطبته المشهورة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( يا أيها الناس : إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخَّص لقتال رسول الله ، فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما حلَّت لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب ) رواه البخاري ، وخشي الأنصار بعد الفتح أن يفضل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإقامة بمكة فجمعهم وقال لهم : ( معاذ الله ، المحيا محياكم ، والممات مماتكم ) رواه مسلم.ثم بايع الرجال والنساء من أهل مكة على السمع والطاعة ، وأقام بها تسعة عشر يوماً يجدد معالم الإسلام ، ويرشد الناس إلى الهدى ، ويكسر الأصنام ، ثم قفل راجعاً إلى المدينة. فكان يوم الفتح يوماً عظيماً أعز الله الإسلام وأهله ، ودحر الكفر وحزبه ، واستنقذ البيت العتيق والحرم الآمن من أيدي الكفار والمشركين ، وبعده دخل الناس في دين الله أفواجاً وأشرقت الأرض بنور التوحيد والهداية . (الشبكة الإسلامية)(/2)
فتح مكة وعبرته لحاضر المسلمين ومستقبلهم
اللواء الركن محمود شيث خطاب
________________________________________
الموقف العام
1. المسلمون:
كانت هناك هدنة الحديبية خيراً على المسلمين، فقد قضوا خلالها على يهود في المدينة المنورة وخارجها عسكريا، فلم يعد لهم أي خطر عسكري يهدد المسلمين. كما أتاحت للمسلمين السيطرة على القبائل العربية في شمالي المدينة حتى حدود الشام والعراق، وانتشر الإسلام بين القبائل العربية كلها، فأصبح المسلمون القوة الضاربة الأولى في شبه الجزيرة العربية كلها.
ولم يبق أمام المسلمين غير فتح مكة، تلك المدينة المقدسة التي انتشر الإسلام فيها أيضاً، ولم يحل دون فتحها وعودة المستضعفين الذين أخرجوا منها بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، إليها، غير صلح الحديبية الذي يحرص النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الوفاء به.
2. المشركون:
أدى انتشار الإسلام بين قسم كبير من القبائل ومن ضمنها قريش وبقاء القسم الآخر على الشرك إلى تفرق كلمة القبائل واستحالة جمع تلك الكلمة على حرب المسلمين. ولم يبق في قريش زعيم مسيطر يستطيع توجيهها إلى ما يريد حين يريد: المسلمون فيها لا يخضعون إلا لأوامر الإسلام، والمشركون فيها بين متطرف يدعو للحرب مهما تكن نتائجها، ومعتدل يعتبر الحرب كارثة تحيق بقريش.
إعلان الحرب:
أراد بنو بكر حلفاء قريش أن يأخذوا بثاراتهم من بني خزاعة حلفاء المسلمين، وحرضهم على ذلك متطرفو قريش بقيادة عكرمة بن أبي جهل وقسم من سادات قريش، وأمدوهم سراً بالرجال والسلاح. وقامت بكر بالهجوم المباغت على خزاعة فكبدوهم خسائر بالأرواح والأموال، والتجأت خزاعة إلى البيت الحرام فطاردتهم بكر مصممة على القضاء عليهم غير مكترثة بصلح الحديبية، فانتهت الهدنة بين قريش وحلفائها من جهة وبين المسلمين وحلفائهم من جهة أخرى، وكان الذي نقض هذه الهدنة قريش وبكر.
وسارع عمرو بن سالم الخزاعي بالتوجه إلى المدينة حاملاً أنباء نقض صلح الحديبية، فلما وصل إلى المدينة قصد المسجد وقص على النبي صلى الله عليه وسلم ما أصاب خزاعة من بكر وقريش في مكة وخارجها، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: »نصرتَ يا عمرو بن سالم!«
وخرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا المدينة، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بما أصابهم فعزم النبي صلى الله عليه وسلم على فتح مكة.
وقدر قادة قريش المعتدلون وعقلاؤهم ماذا يعنيه انتهاء الهدنة بين قريش والمسلمين، فقرروا إيفاد أبي سفيان بن حرب إلى المدينة للتشبث بتثبيت العهد وإطالة مدته.
ولما وصل أبو سفيان »عسفان« في طريقه إلى المدينة لاقى بديل بن ورقة وأصحابه عائدين من المدينة، فخاف أن يكونوا جاؤوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه بما حدث بين بكر وخزاعة، مما يزيد مهمته التي جاء من أجلها تعقيداً، إلا أن بديلاً نفى مقابلته للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أبا سفيان فحص فضلات راحلة بديل فوجد فيه نوى التمر، فعرف أنه كان في المدينة.
ووصل أبو سفيان إلى المدينة، فقصد دار ابنته أم حبيبة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يجلس على الفراش فطوته دونه فقال لها: »يا بنية! أما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش، أم رغبتِ به عني؟« فقالت: »بل هذا فراش رسول الله، وأنت مشرك نجس.« فقال: »والله لقد أصابكِ بعدي شر.«
واستشفع أبو سفيان بأبي بكر الصديق رضي الله عنه ليكلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأبى.. واستشفع بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأغلظ له في الرد وقال: »أأنا أشفع لكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به.«
ودخل أبو سفيان على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعنده فاطمة رضي الله عنها، فقال علي: »والله يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.«
واستشفع أبو سفيان بفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم أن يجير ابنها الحسن بين الناس، فقالت: »ما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم.«
واستنصح أبو سفيان علياً بعد أن اشتدت عليه الأمور فنصحه أن يعود من حيث أتى، فقفل أبو سفيان عائداً إلى قريش ليخبرهم بما لقي من صدود، ولم يبق هناك شك في إعلان الحرب.
الاستعدادات للحرب:
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه بإنجاز استعداداتهم للحركة، وبعث من يخبر قبائل المسلمين خارج المدينة بإنجاز استعداداتهم للحركة أيضاً، كما أمر أهله أن يجهزوه، ولكنه لم يخبر أحداً بنياته الحقيقية ولا باتجاهه حركته، بل أخفى هذه النيات حتى عن أقرب المقربين إليه، ثم أرسل سرية أبي قتادة الأنصاري إلى بطن إضم ليزيد من اسدال الستار الكثيف على نياته الحقيقية.(/1)
ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على ابنته عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: أي بنية! أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز. فقال: فأين ترينه يريد؟ قالت: والله لا أدري.
ولما اقترب موعد الحركة، صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سائر إلى مكة. وبث عيونه ليحول دون وصول أنباء اتجاه حركته إلى قريش، ولكن حاطب بن أبي بلتعة كتب رسالة أعطاها امرأة متوجهة إلى مكة، يخبرهم فيها بنيّات المسلمين، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة، وبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما، فأدركاها وأخذا منها تلك الرسالة التي كانت معها.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً يسأله: ما حمله على ذلك؟ قال: يا رسول الله بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب: دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »أمَا إنه قد صدقكم؛ وما يدريك، لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ما شئتم«. وشفع لحالطب ماضيه الحافل بالجهاد، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين أن يذكروه بأفضل ما فيه.
قوات الجانبين
1. ... المسلمون: عشرة آلاف رجل، بقيادة الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام.
2. ... المشركون: قريش وبنو بكر، كل قبيلة منهما لها قائدها الخاص.
في الطريق إلى مكة المكرمة:
غادر المسلمون المدينة المنورة في رمضان من السنة الثامنة الهجرية قاصدين فتح مكة، وكان جيش المسلمين مؤلفاً من الأنصار والمهاجرين وسليم ومزينة وغطفان وغفار وأسلم.. وطوائف من قيس وأسد وتميم وغيرهم من القبائل الأخرى، في عدد وعُدد لم تعرفه الجزيرة العربية من قبل، وكلما تقدم الجيش من هدفه ازداد عدده بانضمام مسلمي القبائل التي تسكن على جانبي الطريق إليه. ومع كثافة هذا الجيش وقوته وأهميته، فقد بقي سر حركته مكتوماً لا تعرف قريش عنه شيئاً. فبالرغم من اعتقاد قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم في حل من مهاجمتهم، ولكنها لم تكن تعرف متى وأين وكيف سيجري الهجوم المتوقع. ولشعور قريش بالخطر المحدق بها، أسرع كثير من رجالها بالخروج إلى المسلمين لإعلان إسلامهم، فصادف بعض هؤلاء، ومنهم العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، جيشَ المسلمين في طريقه إلى مكة المكرمة.
ووصل جيش المسلمين إلى موضع مرّ الظهران على مسافة أربعة فراسخ من مكة، فعسكر المسلمون هناك. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يوقد كل مسلم في جيشه ناراً، حتى ترى قريش ضخم الجيش دون أن تعرف هويته فيؤثر ذلك في معنوياتها فتستسلم للمسلمين دون قتال، وبذلك يحقق النبي صلى الله عليه وسلم هدفه السلمي في فتح مكة بدون إراقة دماء.
وأوقد عشرة آلاف مسلم نيرانهم، ورأت قريش تلك النيران تملأ الأفق البعيد، فأسرع أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام بالخروج باتجاه النيران، ليعرفوا مصدرها ونيات أصحابها، فلما اقتربوا من موضع معسكر المسلمين قال أبو سفيان: هذه والله خزاعة حمشتها [جمعتها] الحربُ. فلم يقتنع أبو سفيان بهذا الجواب، فقال: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
وكان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من معسكر المسلمين راكباً بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ليخبر قريشاً بالجيش العظيم الذي جاء لقتالها والذي لا قبل لها به، حتى يؤثر في معنوياتها ويضطرها على التسليم دون قتال، فيحقن بذلك دماءها ويؤمن لها صلحاً شريفاً ويخلصها من معركة خاسرة معروفة النتائج سلفاً، فسمع وهو في طريقه محاورة أبي سفيان وبديل بن ورقة، فعرف العباس صوت أبي سفيان، فناداه وأخبره بوصول جيش المسلمين ونصحه بأن يلجأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ينظر في أمره قبل أن يدخل الجيش فاتحاً صباح غد، فيحيق به وبقومه ما يستحقونه من عقاب.
وأردف العباس أبا سفيان على بغلة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجّها نحو معسكر المسلمين، فلما وصلا إلى المعسكر ودخلاه أخذا يمران بنيران الجيش في طريقهما إلى خيمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مرّا ينار عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرف أبا سفيان وأدرك أن العباس يريد أن يجيره، فأسرع عمر إلى خيمة النبي صلى الله عليه وسلم وسأله أن يأمره بضرب عنق أبي سفيان، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمه أن يستصحب أبا سفيان إلى خيمته، ثم يحضره إليه صباح غد، فلما كان الصباح وجيء بأبي سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسلمَ ليحقن دمه، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئاً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.(/2)
وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستوثق من سير الأمور كما يحب بعيداً عن وقوع الحرب، فأوصى العباس باحتجاز أبي سفيان في مضيق الوادي حتى يستعرض الجيش الزاحف كله، فلا تبقى في نفسه أية فكرة للمقاومة.
قال العباس: خرجتُ بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله، ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: سليم. فيقول: مالي ولسليم! ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: مزينة. فيقول: ومالي ولمزينة! حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته قال: مالي ولنبي فلان! حتى مرّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منها إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله، يا عباس! من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة! والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً. قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: نعم إذن. عند ذلك قال العباس لأبي سفيان: النجاء إلى قومك، فأسرع أبو سفيان إلى مكة.
قبل دخول مكة المكرمة:
دخل أبو سفيان مكة مبهوراً مذعوراً، وهو يحس أن من ورائه إعصاراً إذا انطلق اجتاح قريشاً وقضى عليها. ورأى أهل ملكة قوات المسلمين تقترب منهم، ولم يكونوا حتى ذلك الوقت قد قرروا قراراً حاسماً بشأن القتال ولا اتخذوا تدابير القتال الضرورية، فاجتمعوا إلى ساداتهم ينتظرون الرأي الأخير، فإذا بصوت أبي سفيان ينطلق مجلجلاً جازماً: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان كان آمناً.
وسمعت هند بنت عتبة بن ربيعة زوج أبي سفيان التي كانت تشايع المتطرفين من مشركي قريش ما قاله زوجها، فوثبت إليه وأخذت بشاربه وصاحت: اقتلوا هذا الحميت الدسم الأحمس [أي هذا الزق المنتفخ]، قبّح من طليعة قوم.
ولم يكترث أبو سفيان بسباب امرأته، فعاود تحذيره: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
وقالت قريش: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
وأصحبت مكة المكرمة تنتظر دخول المسلمين: اختفى الرجال وراء الأبواب الموصدة، واجتمع بعضهم في المسجد الحرام، وبقى المتطرفون مصرون على القتال.
خطة الفتح:
كانت مجمل خطة الفتح تتلخص: الميسرة بقيادة الزبير بن العوام، واجبها دخول مكة من شماليها.
والميمنة بقيادة خالد بن الوليد، واجبها دخول مكة من جنوبها، وقوات الأنصار بقيادة سعد بن عبادة، واجبها دخول مكة من غربيها، وقوات المهاجرين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح واجبها دخول مكة من شماليها الغربي من اتجاه جبل هند. ومثابة اجتماع قوات المسلمين بعد إنجاز الفتح في منطقة جبل هند. وكان اجتماع قوات المسلمين بعد إنجاز الفتح في منطقة جبل هند.
وكانت أوامر النبي صلى الله عليه وسلم لقادته تنص: بألا يقاتلوا إلا إذا اضطروا اضطراراً على القتال، لغرض أن يتمّ الفتح سلمياً وبدون قتال.
الفتح:
قبل شروع أرتال المسلمين بدخول مكة المكرمة، سمع قسم من المسلمين سعد بن عبادة يقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة.. لذلك رأي النبي صلى الله عليه وسلم حين بلغه ما قال سعد، أن يأخذ الراية ويدفعها إلى ابنه قيس بن سعد، إذ كان قيس أهدأ أعصاباً من أبيه وأكثر سيطرة على نفسه، لكي يحول عليه الصلاة والسلام دون اندفاع سعد لإثارة الحرب وسفك الدماء دون مسوغ.
ودخلت قوات المسلمين مكة فلم تلق مقاومة، إلا جيش خالد بن الوليد، فقد تجمع متطرفو قريش مع بعض حلفائهم من بني بكر في منطقة الخندفة، فلما وصلها رتل خالد أمطروه بوابل من نبالهم، ولكن خالداً لم يلبث أن فرّقهم بعد أن قتل رجلان من رجاله ضلا طريقهما وانفصلا عنه، ولم يلبث صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل حين رأوا الدائرة تدور عليهم أن تركوا مواضعهم في الخندمة وفروا مع قواتهم، واستسلمت المدينة المقدسة للمسلمين، وفتحت أبوابها لهم، وعاد المستضعفون الذين أخرجوا منها بغير حق إ لى ديارهم وأموالهم.
في مكة المكرمة:(/3)
عسكر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في منطقة جبل هند، بعد أن سيطر المسلمون على جميع مداخل مكة، فلما استراح وتجمعت أرتال الجيش، نهض والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد الحرام، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت العتيق وحول البيت، وكان في الكعبة ستون وثلاثمائة صنم، يطعنها بالقوس وهو يقول: )جاء الحق وزهق الباطلُ إن الباطل كان زهوقاً( )جاء الحق وما يُبدِئُ الباطل وما يعيد( ثم دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة ودخلها، فرأى الصور تملؤها، ومن بينها صورتان لإبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام، فمحا ما في الكعبة من صور، ثم صلى ودار في البيت يكبر، ولما انتهى تطهير البيت من الأصنام والصور، وقف على باب الكعبة، وقريش تنظر ماذا يصنع، فقال: »لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. إلا كل مأثرة أو مال فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش، إن الله قد أذهبَ عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء: الناس من آدم، وآدم من تراب )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللهِ أتقاكم إن الله عليم خبير(. يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟« قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: »فإني أقول كما قال يوسف لإخوته: )لا تثريب عليكم اليوم(، اذهبوا فأنتم الطلقاء.«
طهر المسلمون البيت من الأصنام، وأتم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في أول يوم من أيام فتح مكة ما دعا إليه منذ عشرين سنة: أتم تحطيم الأصنام والقضاء على الوثنية في البيت الحرام بمشهد من قريش، ترى أصنامها التي كانت تعبد ويعبد آباؤها، وهي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً.
وأقام النبي صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوماً، نظّم خلالها شؤون مكة، وفقّه أهلها في الدين، وأرسل بعض السرايا للدعوة إلى الإسلام وتحطيم الأصنام، من غير سفك للدماء.
عبرة الفتح:
1. الكتمان:
ما أحوج المسلمين اليوم أن يتعلموا الكتمان من هذه الغزوة، فأمورهم كلها مكشوفة، بل مكشفة، وأعداؤهم يعرفون عنهم كل شيء، لا تكاد تخفى عليهم، فلا سر لدى المسلمين يبقى مكتوماً.
لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم أشد الحرص علىألا يكشف نياته لفتح مكة لأي إنسان، عندما اعتزم الحركة إلى مكة وكان سبيله إلى ذلك الكتمان الشديد.
لم يبح بنياته لأقرب أصحابه عن نفسه: أبي بكر الصديق، بل لم يبح بنياته لأحب النساء إليه عائشة بنت أبي بكر الصديق، وبقيت نياته مكتومة حتى أنجز هو وأصحابه جميع استعدادات الحركة، وحتى وصل أمر الاستحضار إلى المسلمين كافة خارج المدينة وداخلها، ولكنه كشف نياته في الحركة إلى مكة قبيل موعد خروجه من المدينة، حيث لم يبق هناك مسوغ للكتمان، لأن الحركة أصبحت وشيكة الوقوع.
ومع ذلك، بث عيونه وأرصاده، لتحول دون تسرب المعلومات عن حركته إلى قريش.
بث عيونه داخل المدينة ليقضي على كل محاولة لتسريب الأخبار من أهلها إلى قريش، وقد رأيتَ كيف اطلع على إرسال حاطب بن أبي بلتعة برسالته إلى مكة، فاستطاع حجز تلك الرسالة.
وبث عيونه وأرصاده داخل المدينة وخارجها ليحرم قريشاً من الحصول على المعلومات عن نيات المسلمين، وليحرم المنافقين والموالين لقريش من إرسال المعلومات إليها.
وبقي النبي صلى الله عليه وسلم يقظاً كل اليقظة، حذراً كل الحذر، حتى وصل إلى ضواحي مكة، ونجح بترتيباته في حرمان قريش من معرفة نيات المسلمين أعظم نجاح.
ولكي يلقي النبي صلى الله عليه وسلم ظلاً كثيفاً من الكتمان على نياته، بعث سرية أبي قتادة الأنصاري إلى بطن إضم، شمالي المدينة المنورة، بينما كان يستعد لفتح مكة في جنوب المدينة المنورة، فسارت أخبار المسلمين بأنهم يتجهون شمالاً لكتمان اتجاههم نحو الجنوب.
ولو انكشفت نيات المسلمين لقريش في وقت مبكر، لاستطاعت حشد حلفائها وتنظيم قواتها وإعداد خطة مناسبة لمقابلة المسلمين، ولاستطاعت مقاومة المسلمين أطول مدة ممكنة دفاعاً عن مكة المكرمة ولأوقعت بهم خسائر في الأرواح والأموال، وكانت قريش قد استطاعت حشد عشرة آلاف مقاتل في غزوة الأحزاب كما هو معروف، وباستطاعتها أن تحشد مثل هذا الحشد وأكثر دفاعاً عن مكة.
وليس من السهل أن يتحرك جيش ضخم تعداده عشرة آلاف مقاتل من المدينة إلى مكة بالمراحل دون أن تعرف قريش وقت حركته وموعد وصوله ونياته، حتى يصل ذلك الجيش اللجب إلى ضواحي مكة القريبة، فيفلت الأمر من قريش، ولا تعرف ما تصنع إلا اللجوء إلى الاستسلام دون مقاومة.
إن تدابير النبي صلى الله عليه وسلم في الكتمان أمّنت له مباغتة كاملة لقريش، وأجبرتها على الرضوخ للأمر الواقع: الاستسلام.
وهذا الكتمان لا مثيل له في سائر الحروب، ما أحرانا أن نتعلمه ونقتدي به ونسير على منواله.
2. بعد النظر:(/4)
القائد المتميز هو الذي يتسم ببعد النظر، بالإضافة إلى مزاياه الأخرى، ويتخذ لكل أمر محتمل الوقوع التدابير الضرورية لمعالجته، دون أن يترك مصائر قواته للاحتمالات بدون إعداد كامل.
إن النصر من عند الله، يؤتيه من يشاء، ولكن الله سبحانه وتعالى ينصر من أعدّ عدّته واحتاط لكل احتمال كبير أو صغير قد يصادفه، لذلك يشدد العسكريون على إدخال أسوأ الاحتمالات في حسابهم في أية عملية عسكرية.
لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحبس أبو سفيان في مدخل الجبل إلى مكة، حتى تمر عليه جنود المسلمين، فيحدث قومه عن بينة ويقين،ولكي لا يتكون إسراعه في العودة إلى قريش قبل أن تنهار معنوياته تماماً، سبباً لاحتمال وقوع أية مقاومة من قريش، مهما تكن نوعها ودرجة خطورتها. وفعلاً اقتنع أبو سفيان بعد أن رأى قوات المسلمين كلها، أن قريشاً لا قبل لها بالمقاومة.
وقد أدخل النبي صلى الله عليه وسلم في حساباته أسوأ الاحتمالات أيضاً، عند تنظيمه خطة الفتح، فكانت تلك الخطة تؤمن تطويق البلد من جهاته الأربع بقوات مكتفية بذاتها، بإمكانها العمل مستقلة عن القوات الأخرى عند الحاجة، وبذلك تستطيع القضاء على أية مقاومة في أية جهة من جهات مكة، كما تؤمن توزيع قوات قريش إلى أقسام لمقاومة كل رتل من أرتال المسلمين على انفراد، فتكون قوات قريش ضعيفة في كل مكان.
واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم هذه التدابير الفاعلة بالرغم من اعتقاده بأن احتمال مقاومة قريش للمسلمين ضعيف جداً، وذلك ليحول دون مباغتة قواته وإيقاع الخسائر لها، مهما تكن الظروف والأحوال.
فما أحرى أن يتعلم المسلمون هذا الدرس ويطبقوه في إعداد خططهم المصيرية!
3. العقيدة:
كان جيش الفتح مؤلفاً من المهاجرين والأنصار ومسلمي أكثر القبائل العربية المعروفة في حينه، لا يوحد بينه غير العقيدة الواحدة، التي يضحي الجميع من أجلها، وتشيع بينهم الانسجام الفكري الذي يجعل التعاون الوثيق بيهم سائداً.
لقد كانت انتصارات المسلمين الأولين انتصارات عقيدة بلا مراء، وكان النصر من أول ثمرات هذه العقيدة على النطاق الجماعي.
أما على النطاق الفردي، فقد رأيت كيف طوت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فراش النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها أبي سفيان، وقد جاء من سفر قاصد بعد غياب طويل ذلك لأنها رغبت به عن مشرك نجس، ولو كان هذا المشرك أباها الحبيب.
وعندما جاء أبو سفيان مع العباس ليواجه النبي صلى الله عليه وسلم، رآه عمر بن الخطاب، فغادر خيمته واشتد نحو خيمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصل إليها قال: يا رسول الله! دعني اضرب عنقه. قال العباس: يا رسول الله! إني قد أجرته، فلما أكثر عمر قال العباس: مهلاً يا عمر، ما تصنع هذا إلا لأنه من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي ما قلت هذه المقالة، فقال عمر: مهلا يا عباس، فوالله إسلامك يوم أسلمت كان أحب لي من إسلام الخطاب لو أسلم. لقد كان يمثل عقيدة المسلمين الأولين، بينما كان العباس حديث عهد بالإسلام.
وكيف نعلل إقدام المهاجرين على المشاركة في غزوة الفتح، التي لم يكن من المستبعد أن تصطرع فيها قوات المسلمين وقوات قريش؟
إن عقيدة المسلمين لا تخضع للمصالح الشخصية، بل هي رهن المصالح العامة وحدها، وقد انتصر المسلمون بالعقيدة الراسخة، وهي اليوم غائبة عنهم فذلوا وهزموا، فما أحراهم أن يعودوا إلى عقيدتهم ليستعيدوا مكانتهم بين الأمم، ولينتصروا على أعدائهم، فقد غاب عنهم النصر منذ غاب عنهم الإسلام.
4. المعنويات:
لم تكن معنويات المسلمين في وقت من الأوقات أعلى وأقوى مما كانت عليه أيام فتح مكة، البلد المقدس عند المسلمين الذين يتوجهون إليه في صلاتهم كل يوم، ويحجون بيته كل سنة. وكانت أهمية مكة للمهاجرين أكثر من أنها بلد مقدس، فهي بلدهم الذي هاجروا منه فراراً بدينهم وخلفوا فيها أموالهم وذويهم وكل عزيز عليهم.
لذلك لم يتخلف أحد من المسلمين عن هذه الغزوة إلا القليل من ذوي الأعذار القاهرة الصعبة.
أما معنويات قريش، فقد كانت متردية للغاية، فقد أثرت فيهم عمرة القضاء، كما أثر فيهم انتشار الإسلام في كل بيت من بيوت مكة تقريباً، وبذلك فقدت مكة روح المقاومة وروح القتال. ومما زاد في انهيار معنويات قريش، ما اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم من إيقاد عشرة آلاف نار في ليلة الفتح، ومرور الجيش كله بأبي سفيان قائد قريش أو أكبر قادتها، ودخول أرتال المسلمين في كل جوانب مكة.
لقد كانت غزوة الفتح معركة معنويات بالدرجة الأولى، ما أحرانا أن نتعلمها لحاضرنا ومستقبلنا.
5. السلم:
حرص النبي صلى الله عليه وسلم من خروجه لفتح مكة على نياته السلمية، ليؤلف بذلك قلوب المشركين، ويجعلها تقبل على الإسلام.(/5)
وقد عهد عليه الصلاة والسلام إلى قادته حين أمرهم أن يدخلوا مكة ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم. وبقي النبي صلى الله عليه وسلم مصراً على نياته السلمية بعد الفتح أيضاً، فقد أصدر العفو العام عن قريش قائلاً: »اذهبوا فأنتم الطلقاء«.
وكما حرص النبي صلى الله عليه وسلم الجماعي، حرص كذلك على السلم الفردي، فمنع القتل حتى لفرد واحد من المشركين، مهما تكن الأسباب والأعذار.
فقد قتلت خزاعة حلفاء المسلمين رجلاً من هذيل غداة يوم الفتح لثأر سابق لها عنده، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد الغضب، وقام في الناس خطيباً، ومما قاله: »يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر إن نفع، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاؤوا قدم قاتله، وإن شاؤوا فعقله«، أي ديته، ثم ودي بعد ذلك الرجل الذي قتلت خزاعة.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل رجلاً من المشركين أراد اغتياله شخصياً وهو يطوف في البيت، بل تلطف معه. فقد اقترب فضالة بن عمير يريد أن يجد له فرصة ليقتله، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم نظرة عرف بها طويته، فاستدعاه وسأله: »ماذا كنت تحدث به نفسك؟« قال: لا شيء، كنتُ أذكر الله! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وتلطف معه ووضع يده على صدره، فانصرف الرجل وهو يقول: ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه.
ورأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه مفتاح الكعبة بيد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، فقال عليه الصلاة والسلام: »أين عثمان بن طلحة؟« فلما جاء عثمان قال له: »يا ابن طلحة، هاكَ مفتاحك، اليوم يوم بر ووفاء«.
وقد رأى المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح يتواضع لله، حتى رأوه يوم ذلك ورأسه قد انحنى على رحله، وبدا عليه التواضع الجم، حتى كادت لحيته تمس واسطة راحلته خشوعاً، وترقرقت في عينيه الدموع تواضعاً لله وشكراً.
تلك هي سمات الخلُق الإسلامي الرفيع في السلم والوفاء والتواضع، ولكنه سلم الأقوياء لا سلم الضعفاء، ووفاء القادرين لا وفاء العاجزين، وتواضع العزة لا تواضع الذلة.
إن سلم الأقوياء القادرين هو السلام الذي يأمر به الإسلام، أما سلم الضعفاء العاجزين فهو الاستسلام الذي ينهى عنه الإسلام.
ذلك ما ينبغي أن نتعلمه من فتح مكة، لحاضر المسلمين ومستقبلهم، لحاضر أفضل ومستقبل أحس، وهي عبر لمن يعتبر.
مجلة الأمة - العدد 12 - عام 1401 هـ(/6)
فتن آخر الزمان
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
خلق الله الثقلين من الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك له وجعل الله الحياة الدنيا ميداناً للابتلاء والاختبار وبين لنا الحكمة من خلقنا وإيجادنا فقال جل وعلا في أكثر من موضع في كتابه الكريم: ? وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ...?[ هود:7]، وقال: ? إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ?[ الكهف: 7]
إذاً يريد الله من عباده أن يعملوا لعبادته وطاعته وأن يحسنوا العمل في هذه الحياة، وإحسان العمل يكون بتوحيد الله جل وعلا وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، ويكون بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباعه في كل شيء لأن الله عز وجل قد أرسل عبده ورسوله محمداً- صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق، فبشر وأنذر، ونصح وحذر، وبلغ رسالة ربه، وترك الأمة على مثل البيضاء وضوحاً وجلاءً ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. ولقد بين - صلى الله عليه وسلم - مضلات الفتن والأهواء التي تضل القلوب وتعصف بالعقول وحذر منها - صلى الله عليه وسلم - غاية التحذير، وأرشدنا ووصّانا بما يجب أن نفعله إذا هاجت الفتن. ونحن نعيش عصرنا هذا عصر الأهواء والفتن، فإننا بحاجة إلى معرفة ما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، حتى نتقي ونحذر.
ماذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتن؟، أسمعكم بعضاً مما قاله الرسول الأكرم عليه صلاة الله، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - ، قال: سألت أبا ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - قال: قلت: يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية : ?... عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ...?[ المائدة: 105]، قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحاً مطاعاً، وهوى متبع، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك العوام فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم، قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة قيل يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم ؟ قال بل أجر خمسين منكم ". وفي رواية للترمذي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسل الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر".
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو: "كيف بك يا عبد الله إذا بقيت في حثالة قد مرجت أماناتهم وعهودهم فاختلفوا وكانوا هكذا وأدخل اصابعه بعضها في بعض قال عبد الله فكيف تأمرني يا رسول الله قال تعمل بما تعرف وتدع ما تنكر وتعمل بخاصة نفسك وتدع عنك عوام الناس".(/1)
وفي الصحيحين وغيرهما عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: كنا عند عمر فقال: أيكم سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه، فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره؟ قالوا : أجل، قال: تلك يكفرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيكم سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا، قال: أنت لله أبوك، قال حذيفة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء؟ وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر: أسود مرباد كالكوز مجخياً ، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه، قال: وحدثته أن بينك وبينها باباً مغلقاً، يوشك أن يكسر، قال عمر: أيكسر ؟ لا أبا لك ، فلو أنه فتح؟ لعله كان يعاد، قال : لا بل يُكسر، وحدثته أن ذلك الباب رجل يقتل أو يموت، حديثاً ليس بالأغاليط".
"كالحصير عَوداً عَوداً"، قيل معناه: إن الفتن تحيط بالقلوب كالحصير المحبوس، ويقال: حصره القوم: إذا أحاطوا به وضيقوا عليه"، وأما قوله "عوداً عوداً" أي: مرة بعد مرة، وإما بالضم "عُوداً عُوداً" كما في الرواية الأخرى فمعناه: أن الفتن تظهر على القلوب الواحدة بعد الأخرى، كما ينسج الحصير عوداً عوداً، وشظية بعد أخرى، وقد جاء في لفظ "عَوذاً عَوذاً" بالذال فمعناه سؤال الاستعاذة منها، كما يقال غُفراً غُفراً وغفرانك، أي: نسألك أن تعيذنا من ذلك.
وعن الترمذي وأبي داؤود وغيرهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، واثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار ، إلا ملة واحدة" قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على ما أنا عليه وأصحابي".
وعن زيد بن عُميرة ، وكان من أصحاب معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنه قال: (ما كان يجلس مجلساً للذكر، إلا قال حين يجلس: الله حكمٌ قسط، هلك المرتابون، فقال معاذ بن جبل يوماً: إن وراءكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والعبد والحر ، والصغير والكبير، فيوشك قاتلٌ أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ وما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإنما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، قال: قلت لمعاذ: وما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة ، وأن المنافق يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال: ما هذه ؟ ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله يراجع، وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً)
لقد رأينا وسمعنا حكماء وعلماء يتبنون الضلالات بأقوالهم وفتاويهم ، ورأينا الجهلاء والمنافقين ينطقون أحياناً بالصواب، فقد ظهر رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك!!؟؟
وفي صحيح البخاري عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - ، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم، تروح عليهم سارحةٌ لهم ـ أي ترجع إليهم مواشيهم ـ فيأتيهم رجل لحاجة ، فيقولون: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله ـ أي ينزل عليهم العقاب غِرة ويضع العلم ـ أي الجبل يوقعه عليهم ، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة".
نعم لقد وقع ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهناك من يبيح الزنا في ديار المسلمين، ويدعو إلى الفجور والسفور وإلى نشر الفساد والرذائل بين أفراد المجتمع ، فهذه الحملات المسعورة الموجهة إلى المرأة لتدمير دينها وأخلاقها وإخراجها عن طهرها وعفافها، والقذف بها في مستنقع الرذائل والشهوات، ويسمون ذلك بغير اسمه!!
وفي ديار الإسلام من يبيح الخمور والمسكرات والمخدرات ويروج لها ويسمح بها تصنيعاً وتوريداً وتهريباً بل وإعطاء التصاريح لها وأخذ الضرائب عليها ويسمونها بغير أسمائها.(/2)
هؤلاء الذين يفعلون ذلك مستحلين للفروج والخمور والمعازف متظاهرين ومجاهرين ومستخفين بفجورهم قد مرقوا من الدين وحاربوا المسلمين. فإن الله جل وعلا يخسف بهم الأرض، وينزل عليهم العقوبات العاجلة، بتدمير بعضهم ، ومسخ آخرين قردة وخنازير، إما مسخاً حقيقياً بأن يحولهم الله قردة وخنازير كما فعل بالسابقين، وإما أن يكون مسخاً معنوياً في طباعهم وأخلاقهم فترى أحدهم قد تجرد عن إنسانيته وتحول إلى قرد أو خنزير في طباعه وأخلاقه، فلا إيمان ولا دين ولا خلق ولا غيره ولا شهامة ولا حياء فصورته صورة إنسان وطباعه وأخلاقه كطباع القردة والخنازير وهذا معروف ومشاهد يعلمه ويراه المؤمنون المتوسمون. وهذا نوع من العقاب عظيم. نسأل الله العفو والعافية ونسأل الله العفاف والتقوى، ونعوذ بالله من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
الخطبة الثانية:
إن أعظم خطر يراه اليهود والنصارى وأهل الشرك والكفر قاطبة، هو أن يجتمع المسلمون ويعتصموا بدينهم. ولذلك فقد خططوا منذ زمن بعيد على تفتيت وحدة المسلمين، وبذروا فيما بينهم عوامل التمزق والاختلاف من إحياء القوميات والوطنيات العرقية، ثم المذاهب السياسية والفكرية الهدامة التي دمرت المجتمعات ومزقتها، ثم هذه الديمقراطيات التي فرضها النظام العالمي الجديد بكل مساوئها التي تدعو صراحة إلى تحطيم كل القيم الإيمانية والأخلاقية ونشر الإباحية، وتفتيت الأسر والمجتمعات وإذابة مقوماتها وخصائصها بواسطة هذه المفاهيم الوافدة. ولقد نجح أعداء الله في ذلك أيما نجاح. لقد انفرط عقد المسلمين وتفرقوا شيعاً وفرقاً، وتمزقوا إلى طوائف ودول، ففي كل قرية منهم أمير المؤمنين ومنبر، حرب على بعضهم سلم لأعدائهم فأضاعوا دينهم ودنياهم، ولو أنهم اعتصموا بدينهم ونصحوا لأمتهم وساروا في طريق الوحدة والاجتماع لما حصل الذي حصل من تكالب الأعداء وتداعيهم على المسلمين ولن يرفع عنا هذا الذل والهوان إلا إذا رجعنا إلى ديننا وطبقنا أحكامه في حياتنا ، وآمنا بعظمة هذا الدين وحملنا رسالته للعالمين. وأحيينا الأخوة والوحدة الإسلامية وكنا كما أراد الله لنا أن نكون أمة واحدة ، ونكون كالجسد الواحد السليم الصحيح إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائره.
قضايا الإسلام والمسلمين لابد أن تكون في مقدمة اهتمامنا وإعلامنا. هذه الاستراتيجية الإعلامية التي وضعها لنا الأعداء لابد من تعديلها وتصحيحها ، نرى في كل البلدان الإسلامية أول حدث إعلامي في نشرات الأخبار الحديث عن الرئيس أو الملك، عن سفره وإقامته وعن أكله وشربه، ثم عن الفن والرياضة والاحتفالات والرقصات ثم إذا بقي وقت للحديث عن المجازر والكوارث التي يتعرض لها المسلمون في العالم تكون في مؤخرة الأنباء وتستقي تحليلاتها وصياغتها من وكالات الأنباء العالمية التي يمتلكها اليهود والنصارى.
هذه فلسطين التي باعها الزعماء وتآمروا عليها عبر قرن من الزمن لم تعد تذكر إلا أنها قضية هامشية يقرر فيها الأعداء ما يريدون أما المسلمون فقد غيّبوا عنها وكأنه لا شأن لهم بها.
هذه الحرب الطاحنة التي تدور رحاها في الشيشان ضد المسلمين ألا تستدعي من زعماء العالم الإسلامي أن يجتمعوا ويتدارسوا أمرها ويقرروا فيها قراراً أو يتخذوا حيالها رأياً، ما بالهم ما الذي أصابهم ، إنها الذلة والمسكنة والعبودية والخنوع لغير الله التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه من التشرذم والتنافر.
ولكن أليس لهذا الليل من آخر؟ بلى: ولكن لابد من الإرادة والقوة والعزيمة الصادقة أولاً في وجوب التغيير، تغيير النفوس والأفكار والانتقال من المعصية إلى الطاعة ومن التبعية الذليلة إلى التمسك بالهوية وتطبيق توجيهات القرآن، ثم الأخذ بالعمل الجاد في كل الميادين وتوجيه الأمة توجيهاً سليماً وبناءها بناء صحيحاً فما يقال في المؤسسات التعليمية هو ما ينبغي أن يقال في الإعلام والتوجيه.
لتنطلق الأمة انطلاقة موحدة لتحقيق أهدافها الربانية في هذه الحياة. وإن من خصائص هذه الأمة أنها إذا توجهت للخير والبناء فإن الله يكرمها ويختصر لها الزمن والمسافات والإمكانات ويبارك في جهدها ، فما لا يتم إنجازه إلا في مائة عام يمكن أن ينجز في خلال عقد من الزمن، إذا صدقت مع الله ، لقد استطاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتأييد الله ثم بالمؤمنين الصادقين الذين معه أن يغيروا الحياة التي كانت مملوءة ظلماً وظلاماً وجهلاً وانحرافاً. استطاعوا أن يغيروا واقعها خلال ثلاث وعشرين سنة هي عمر الدعوة والرسالة فأشرقت الأرض بنور ربها، وتحطمت عروش الطواغيت وتحررت الشعوب ودانت لله بالوحدانية ولنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة.
ولقد أراد الله لهذا الدين أن يبقى ويحكم في هذه الأرض ويظهر على كل الأديان رغم أنوف الكافرين.. ولكن لابد له من أمة تحمله ورجال يصدقوا الله.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.(/3)
سنن الترمذي5/ 257 ، حديث رقم: 3058 ، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وقال الألباني: حديث ضعيف وبعضه صحيح.
سنن الترمذي 4/ 526، حديث رقم: 2260، وصححه الألباني .
المعجم الأوسط 8/ 334 ، حديث رقم: 8791.
صحيح مسلم: كتاب الإيمان: باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، وإنه يأرز بين المسجدين: الحديث رقم:(144) . عن حذيفة رضي الله تعالى عنه .
وقيل أن الفتن تلصق بالقلوب كما يلصق الحصير بجنب النائم
سنن الترمذي: أبواب الايمان، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: باب افتراق هذه الأمة: الحديث رقم: (2778) عن أبي هريرة .
سنن البيهيقي الكبرى 10/210 ، برقم: 20705.
صحيح البخاري: باب: ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسمِّيه بغير اسمه: الحديث رقم:(5268) .(/4)
فتنة التنازلات
الكاتب: الشيخ د.سعيد بن ناصر الغامدي
تكثر الضغوط والمغريات في أزمنة التقلبات وعصر التغيرات السريعة, والمسلمون أمام هذه الامتحانات الربانية على قسمين في الجملة:
القسم الأول:
من يستجيب فيقدم التنازلات تلوَ التنازلات (فكرية أو أخلاقية أو اجتماعية أو سياسية)ويتقبل ما يلقيه شياطين الإنس والجن بحجة التقدم والعصرنة والنهضة والحضارة , وغير ذلك من المغريات الشيطانية (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم) أو بحجة دفع أذى الأعداء والحذر من دائرتهم واستباق مخططاتهم (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله)
وأصحاب الولع بالتنازلات لهم ضجيج هائل وفحيح كبير, فهم لا يكتفون بمسلسل تنازلاتهم بل يدعون إلى ذلك ويعيبون على من لم يفعل فعلهم تسرعاً في الظلم وهذا ما ختم الله به الآية السابقة في القاسية قلوبهم فقال سبحانه: (وإن الظالمين لفي شقاق بعيد) شقاق ثقافي باسم التنوع الفكري, وشقاق أخلاقي باسم الحرية الشخصية, وشقاق اجتماعي باسم تحرير المرأة, وشقاق منهجي باسم العلمانية, والغريب حقاً أنهم مع كل أنواع الشقاق يزعمون الوحدة والوفاق.
القسم الثاني:
من لديه البصيرة الكافية (علماً وعملاً) فيحذر من الدخول في مستنقع التنازلات ورماله المتحركة , لأنه يرى أن أقواماً وضعوا أقدامهم فابتلعتهم رمال الشبهات وأغرقتهم وحول التنازلات , كما أنه يغرق بين التنازلات والتدرج, والتقلب والتيسير هذا الصنف من المسلمين يطالعون نصوص الوحي المعصوم فيجدون فيها التحذير من خطوات الشيطان, ويجدون أن الله تعالى حذر أعلم واتقى وأشرف الخلق صلى الله عليه وسلم من الوقوع في فتنة التنازلات فقال له: (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) والعجب أن هذا التحذير جاء في سياق الصراع المستمر بين الحكم بما أنزل الله والحكم بالأهواء البشرية وكأنه يخاطب أهل الإسلام اليوم في صراعهم مع العلمانية , قال الله تعالى :(وإن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك). وقد يظن بعض المسلمين أنه محصن من فتنة التنازلات أو يظن أن ما يقدمه من تنازلات ليس فيه ضير كبير إنما هي نوع من المثاقفة والمعاصرة والحوار, ولخطورة التنازلات يخبر الله بهذا الخبر عن أفضل خلق الله صلى الله عليه وسلم (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً) إنها فتنة عظيمة كاد بها أهل الانحراف النبي الكريم ولكنه المعصوم المحفوظ , ومن هنا نعرف لماذا نرى فجأة بعض النكرات يستجلبون ويجعلون خبراء ومفكرين ومثقفين مراقبين وترفع لهم في الإعلام رايات وتنصب لهم في المواقع أبيات ويتخذون أخلاء وأصفياء ويوصفون بالنبوغ والذكاء بمجرد أن يتنازل ويفتري على الإسلام وعلمائه ودعاته وتاريخه (وإذاً لاتخذوك خليلاً).(/1)
فتنة الدنيا وزخرفها
والمقصود بفتنة الدنيا: هي كل ما ألهى عن الآخرة من متاع الأرض الزائل، مما تميل إليه النفوس وتحبه، وقد أجمله الله عز وجل في قوله سبحانه: (( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)) [آل عمران:14] .
وسيكون الحديث هنا- إن شاء الله تعالى– عن أشد مظاهر الدنيا فتنة ؛ فيما يلي :
أ- فتنة الأموال والأولاد: وقد ذكرها في الآية السابقة في قوله تعالى: ((وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ )) .
ب- فتنة النساء: وقد ورد ذكرها عند قوله تعالى : (( حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ)) .
ج – فتنة الجاه والشهرة وحب الرئاسة .
أ – فتنة الأموال والأهل والأولاد:
وقد ورد التحذير من هذه الفتنة في أكثر من آية من كتاب الله – عز وجل ومن ذلك قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) [التغابن:14-15]
وقوله تعالى: (( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) [الأنفال:28]
وقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)) (سورة المنافقون :9) .
وقوله تعالى: (( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)) [التوبة:55]
يقول الإمام البغوي عند تفسير آية التغابن: وقال عطاء بن يسار: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي: كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه، وقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق لهم ويقيم، فأنزل الله: (( إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ)) بحملهم إياكم على ترك الطاعة، فاحذروهم أن تقبلوا منهم.
((وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا )) .
فلا تعاقبوهم على خلافهم إياكم فإن الله غفور رحيم.
(( إَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ )) ، بلاء واختبار وشغل عن الآخرة، يقع بسببهما الإنسان في العظائم، ومنع الحق وتناول الحرام ، ((وَاللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ )) .
قال بعضهم: لما ذكر الله العداوة أدخل فيه " من " للتبعيض، فقال: ((إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ )) ، لأن كلهم ليسوا (بأعداء)، ولم يذكر "من " في قوله: ((إَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ )) لأنها لا تخلو عن الفتنة واشتغال القلب) [1] أ.هـ.
وعن بريدة- رضي الله عنه- قال: (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنبر، فحملها، فوضعها بين يديه، ثم قال: صدق الله: ((إَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَة)) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما)) [2].
ويعلق سيد قطب- رحمه الله تعالى-: على آية التغابن هذه أيضاً فيقول : (ولكن النص القرآني أشمل من الحادث الجزئي، وأبعد مدى وأطول أمداً؛ فهذا التحذير من الأزواج والأولاد كالتحذير الذي في الآية التالية من الأموال والأولاد معاً: (( إَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ )) .
والتنبيه إلى أن من الأزواج والأولاد من يكون عدواً، إن هذا يشير إلى حقيقة عميقة في الحياة البشرية؛ ويمس وشائج متشابكة ودقيقة في التركيب العاطفي، وفي ملابسات الحياة سواء، فالأزواج والأولاد قد يكونون مشغلة وملهاة عن ذكر الله، كما أنهم قد يكونون دافعاً للتقصير في تبعات الإيمان، اتقاء للمتاعب التي تحيط بهم لو قام المؤمن بواجبه، فلقي ما يلقاه المجاهد في سبيل الله! والمجاهد في سبيل الله يتعرض لخسارة الكثير، وتضحية الكثير.
كما يتعرض هو وأهله للعنت، وقد يحتمل العنت في نفسه ولا يحتمله في زوجه وولده، فيبخل ويجبن ليوفر لهم الأمن والقرار، أو المتاع والمال، فيكونون عدواً له؛ لأنهم صدوه عن الخير، وعوقوه عن تحقيق غاية وجوده الإنساني العليا.(/1)
كما أنهم قد يقفون له في الطريق يمنعونه من النهوض بواجبه؛ اتقاء لما يصيبهم من جرائه، أو لأنهم قد يكونون في طريق غير طريقه، ويعجز هو عن المفاصلة بينه وبينهم والتجرد لله، وهي كذلك صور من العداوة متفاوتة الدرجات، وهذه وتلك مما يقع في حياة المؤمن في كل آن، ومن ثم اقتضت هذه الحال المعقدة المتشابكة، التحذير من الله، لإثارة اليقظة في قلوب الذين آمنوا، والحذر من تسلل هذه المشاعر، وضغط هذه المؤثرات، ثم كرر هذا التحذير في صورة أخرى من فتنة الأموال والأولاد، وكلمة فتنة تحتمل معنيين:
الأول : أن الله يفتنكم بالأموال والأولاد بمعنى يختبركم، فانتبهوا لهذا، وحاذروا وكونوا أبداً يقظين لتنجحوا في الابتلاء، وتخلصوا وتتجردوا لله، كما يفتن الصائغ الذهب بالنار ليخلصه من الشوائب!
والثاني: أن هذه الأموال والأولاد فتنة لكم توقعكم بفتنتها في المخالفة والمعصية، فاحذروا هذه الفتنة لا تجرفكم وتبعدكم عن الله) [3] أ.هـ
أما الأحاديث الواردة في التحذير من انفتاح الدنيا وكثرة الأموال والفتنة بها فكثيرة من أصحها وأشهرها:
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم. أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله،قال:" أو غير ذلك ؟ تتنافسون، ثم تتحاسد ون، ثم تتدابرون)) [4].
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم؛ فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)) [5].
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم: يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا )) [6].
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( يأتين على الناس زمان لا يبالي المرء مما أخذ المال أمن الحلال؟ أم من حرام؟ )) [7].
ومن أجل ذلك خاف السلف- رحمهم الله تعالى- من الافتتان بزهرة الدنيا وأموالها وزخرفها، والنماذج التالية تشهد بذلك:
عن إبراهيم بن عبد الرحمن : أن عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه- أتي بطعام وكان صائماً، فقال: قتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كفن في بردة: إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وأراه قال: وقتل حمزة، وهو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا- أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام) [8].
وعن أبي حازم قال: جعل عروة بن الزبير لعائشة طعاماً فجعل يرفع قصعة ويضع قصعة، قال: فحولت وجهها إلى الحائط تبكي، فقال لها عروة: كدرت علينا، فقالت: (والذي بعثه بالحق! ما رأى المناخل من حين بعثه الله حتى قبض) [9].
وعن ميمون بن أبي شبيب قال: كان معاذ بن جبل في ركب من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمر بهم رجل فسألهم فأجابوه، ثم انتهى إلى معاذ بن جبل وهو واضع رأسه على رجله يحدث نفسه فقال: عم سألتهم؟ فقال:سألتهم عن كذا،فقالوا: كذا، وسألتهم عن كذا فقالوا: كذا، فقال معاذ- رضي الله عنه-: " كلمتان إن أنت أخذت بهما أخذت بصالح ما قالوا، وإن أنت كنت تركتهما تركت صالح ما قالوا: إن أنت ابتدأت بنصيبك من الدنيا يفتك نصيبك من الآخرة، وعسى أن لا تدرك منها الذي تريد،وإن أنت ابتدأت بنصيبك من الآخرة يمر بك على نصيبك من الدنيا فينتظم لك انتظاماً، ثم يدور معك حيثما تدور [10].
وكان عبد الواحد بن زيد: يحلف بالله لحرص المرء على الدنيا أخوف علي عندي من أعدى أعدائه، وكان يقول: يا إخوتاه لا تغبطوا حريصاً على ثروته وسعته في مكسب ولا مال، وانظروا له بعين المقت له في اشتغاله اليوم بما يرديه غداً في المعاد ثم يتكبر. وكان يقول: الحرص حرصان: حرص فاجع، وحرص نافع. فأما النافع: فحرص المرء على طاعة الله، وأما الحرص الفاجع: فحرص المرء على الدنيا) [11].
والآن يمكننا إجمال أهم مظاهر الفتنة بالأموال والأولاد فيما يلي:
1- الانشغال بها عن الآخرة والاستعداد لها والتفريط في الصالحات.
2- الحرص على المال والأولاد والمحبة الشديدة لهما تدفع إلى الوقوع في المحرمات وأخذ المال من حله ومن غير حله؛ ذلك حتى يوفر الراحة والسعادة له ولأهله وأولاده، كمن يحضر أجهزة التلفاز والفيديو والبث المباشر والمجلات الخليعة ليسعد بها أهله بزعمه.
قال الزجاج - رحمه الله تعالى-:عند آية التغابن السابقة: (أعلمهم الله- عز وجل- أن الأموال والأولاد مما يفتنون به؛ وهذا عام في جميع الأولاد،فإن الإنسان مفتون بولده؛لأنه ربما عصى الله تعالى بسببه،وتناول الحرام لأجله ، ووقع في العظائم إلا من عصمه الله تعالى ) [12].
3- التحاسد والتدابر والتباغض، بل والتقاتل على الدنيا وأموالها.
يقول الإمام ابن رجب- رحمه الله تعالى-: في تعليقه على حديث "ما الفقر أخشى عليكم " السابق ذكره:(/2)
فلما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين بعد أن كانوا إخواناً متحابين متواصلين؛ فإن فتنة الشهوات عمت غالب الخلق ففتنوا بالدنيا وزهرتها ،وصارت غاية قصدهم : لها يطلبون ، وبها يرضون، ولها يغضبون، ولها يوالون، وعليها يعادون، فتقطعوا لذلك أرحامهم، وسفكوا دماءهم، وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك [13].
4- الوقوع في صفتين ذميمتين بسبب الأموال والأولاد هما : البخل والجبن، وقد نبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليهما بقوله : ((إن الولد مبخلة مجبنة)) [14].
والبخل يدفع للوقوع في المال الحرام، وإلى أن تمنع الحقوق الواجبة، وهذا هو الشح المذموم الذي قال الله عز وجل عنه: (( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) [التغابن:16].
وهو الذي حذر منه الرسول - صلى الله عليه وسلم -بقوله :" اتقوا الشح ؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم : أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا [15].
كما أن من الفتنة بالأولاد الوقوع في الجبن والخوف والذي بدوره يصد عن القيام بواجب الدعوة والجهاد والهجرة كما مر بنا في آية التغابن السابقة؛ ذلك لما يصيبهم من العنت والمشقة بغيابه عنهم، وقد يحتمل الداعية الأذى والعنت على نفسه في سبيل الله- عز وجل- لكن القليل من يحتمله في أهله وأولاده؛ خاصة إذا تعرض لما يبعده عنهم كالسجن والتشريد.
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: (هناك فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه، وهو لا يملك عنهم دفعاً وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم، وينادونه باسم الحب والقرابة، واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاك)[16].
وفي هذا فتنة واختبار للداعية؛ ولا يثبت إلا من ثبته الله- عز وجل- وعصمه بصدق التوكل عليه وحسن الظن به،والوثوق برحمته وحفظه له ولأولاده.
وأسوق بهذه المناسبة رواية ذكرها الإمام الذهبي- رحمه الله تعالى- في السير تكشف لنا أثر الأولاد في تثبيت الداعية على عقيدته.
عن الهيثم بن خلف الدوري : أن محمد بن سويد الطحان حدثه قال: كنا عند عاصم بن علي ومعنا أبو عبيد، وإبراهيم بن أبي الليث وجماعة، وأحمد بن حنبل يضرب، فجعل عاصم يقول: ألا رجل يقوم معي، فنأتي هذا الرجل، فنكلمه؟ قال: فما يجيبه أحد، ثم قال ابن أبي الليث: أنا أقوم معك يا أبا الحسين، فقال: يا غلام: خفي. فقال ابن أبي الليث: يا أبا الحسين أبلغ إلى بناتي، فأوصيهم. فظننا أنه ذهب يتكفن ويتحنط، ثم جاء، فقال: إني ذهبت إليهن، فبكين، قال: وجاء كتاب ابنتي عاصم من واسط: يا أبانا! إنه بلغنا أن هذا الرجل أخذ أحمد بن حنبل، فضربه على أن يقول: القرآن مخلوق، فاتق الله، ولا تجبه، فو الله لأن يأتينا نعيك أحب إلينا من أن يأتينا أنك أجبت [17].
5- البغي والتكبر على الناس:
قال الله عز وجل: ((وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)) (سورة الشورى: 27) .
وقال تعالى: (( كَلَّا إِنَّ الْإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)) [العلق:6-7].
والآيات في هذا كثيرة، والتجارب شاهدة بذلك، فإن أغلب من ينعم الله عز وجل عليهم بكثرة الأموال والأولاد يظهر عليهم البطر والتعالي على الناس إلا من رحم الله- عز وجل- وهذه من أعظم الفتن بالأموال والأولاد.
6- هناك من الناس من يعذب بماله وولده في الدنيا قبل الآخرة، وتتحول عنده هذه الأمور التي يحبها الناس ويحرصون على تكثيرها من كونها مصدر نعمة وسعادة إلى أن تكون مصدر نقمة وشقاء وعذاب. وكم صرح كثير من أرباب الأموال والأولاد بهذه الحال، واعترفوا بما يعانونه من النكد والشقاء والعذاب بسبب أموالهم وأولادهم حتى أصبح لا يقر لهم قرار، ولا يهنأ لهم بال، ولا يخشعون في صلاة، ولا تطيب أنفسهم بإخراج الزكوات والصدقات، فهل بعد هذا من فتنة ؟
نعوذ بالله من هذه الحال. وصدق الله العظيم: ((وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ))(سورة التوبة :85).
وهذه الآية وإن كانت في المنافقين الكافرين إلا أنه يمكن الاستشهاد بها في هذا المقام للحذر من هذه النهاية.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا.
________________
[1] تفسير البغوى عند الآيتين (14، 15) من سورة التغابن.
[2] أبو داود في الصلاة (9 0 1 1) والترمذى في المناقب (3776) وقال: حسن غريب وصححه الألباني في صحيح الجامع (3757).
[3] في ظلال القرآن عند الآية (14، 15) من سورة التغابن.
[4] مسلم. ك . الزهد (2962).
[5] البخا ري 6/ 258، ومسلم 4/ 3274.
[6] مسلم. ك. الإيمان (118) والترمذى في الفتن (2196).
[7] البخا ري . ك .البيوع (2083).(/3)
[8] البخارى في الجنائز (1274) (1275).
[9] المطالب العالية 3/ 160.
[10] المطالب العالية 3/ 204.
[11] أورد هذه الأقوال الإمام ابن رجب- رحمه الله تعالى- في شرحه لحديث (ما ذئبان جائعان) ت. محمد حلاق ص 26.
[12] إغاثة اللهفان 1/160 .
[13] كشف الكربة ت .بدر البدر ص23 .
[14] ابن ماجه . ك. الأدب (3660) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (2957) .
[15] أبو داود 2/ 324 (1698).
[16] في ظلال القرآن. عند الآية (1) من سورة العنكبوت.
[17] سير أعلام النبلاء9 / 244.(/4)
فتنة الغربة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين، وبعد،،،
الفتنة التي ستكون محوراً للحديث:فتنة الغربة.
أولاً: فتنة الغربة: أحاديث الغربة والغرباء ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:
1- قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ] قِيلَ وَمَنْ الْغُرَبَاءُ قَالَ: [النُّزَّاعُ مِنْ الْقَبَائِلِ] رواه ابن ماجة والدارمي وأحمد .
2- قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا ثُمَّ يَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ] قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ الْغُرَبَاءُ قَالَ: [الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ]رواه أحمد.
3- وعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا] رواه مسلم.
4-وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ] فَقِيلَ مَنْ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: [أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ] رواه أحمد.
ومن خلال هذه الروايات الصحيحة لحديث الغربة يتضح لنا وصف حال أهل الغربة:
فهم: [النُّزَّاعُ مِنْ الْقَبَائِلِ] وهذا يشير إلى قلتهم.
وهم: [الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ] .
وهم: [أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ].
وتدلنا هذه الأوصاف المذكورة للغرباء أنهم:
أهل غيرة، ودعوة، وإصلاح، ولم يكونوا صالحين يائسين، مستسلمين لواقعهم الفاسد.
كما تدلنا هذه الروايات على بقاء المصلحين مهما اشتدت الغربة، ولو كانوا قلة ونزاعاً من القبائل .
لن تخلو الأرض من قائم لله بالحق حتى يأتي أمر الله؛ ولذلك صدّر الإمام الهروي منزلة 'الغربة' بقوله تعالى: { فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ...[116] } [سورة هود] .
وقال ابن القيم رحمه الله في شرحه 'لمنازل السائرين' عند هذه الآية:'استشهاده-أي: مؤلف كتاب منازل السائرين- بهذه الآية في هذا الباب يدل على رسوخه في العلم والمعرفة وفهم القرآن؛ فإن الغرباء في العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية'[ مدارج السالكين: 3/194].
من أقوال السلف في الغربة وأهلها:
قال الأوزاعي في قوله صلى الله عليه وسلم: [بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا...]:'أما إنه ما يذهب الإسلام، ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد'. وقال يونس بن عبيد:'ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها'. وعن سفيان الثوري قال:'استوصوا بأهل السنة فإنهم غرباء'.
وقال ابن رجب:'وهؤلاء الغرباء قسمان:
أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس،
والثاني: من يُصلح ما أفسد الناس، وهو أعلى القسمين وهو أفضلهما'.
وقد شرح حديث الغربة هذا أئمة أجلاء منهم: شيخ الإسلام في ['مجموع الفتاوى': 18/251]، والإمام ابن القيم في ['منزلة الغربة': 3/194] والإمام الشاطبي في كتابه النفيس['الاعتصام': 1/97] وابن رجب في 'كشف الكربة' فليرجع إلى هذه الشروحات ففيها فوائد جمة.
وخلاصة ما قاله الأئمة حول الغربة وأهلها:
1- أن الغربة المطلقة في كل الأرض لا تكون إلا قبيل قيام الساعة، أما قبل ذلك فلن تخلو الأرض من قائمين بالحق ولو كانوا قلة، ولكن قد توجد غربة تامة في مكان دون مكان، وفي جانب من الشريعة دون جانب، والله أعلم.
2- أن أهل الغربة الممدوحين في كل مكان وزمان هم الفرقة الناجية، الطائفة المنصورة، أهل السنة والجماعة، المتمسكة بالكتاب والسنة وفَهْمِ الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان.
3- أهل الغربة في كل مكان قليلون ولكن أثرهم على الناس عظيم؛ لأن من أهم أوصافهم أنهم يدعون إلى الله، ويصلحون ما أفسد الناس، ويجددون لهم دينهم.
4- المخالف لأهل الغربة كثير، والأذى الذي يتعرضون له عظيم؛ لكنهم بالحق الذي يحملونه، والمهمة الشريفة التي يؤدونها، والصبر الجميل الذي يتحلون به ثابتون مطمئنون.
5- في حديث الغربة معنى لطيف أشار إليه شيخ الإسلام بقوله:'وهو لما بدأ غريباً لا يُعرف ثم ظهر وعرف؛ فكذلك يعود حتى لا يُعرف، ثم يظهر ويُعرف'[مجموع الفتاوى: 18/305].(/1)
وفي هذا رد على من يفهم من أحاديث الغربة انحسار الإسلام، وعدم الأمل بعودته، وهذا ما يفهمه كثير من اليائسين من هذا الحديث، وفي كلام شيخ الإسلام السابق رد على هذا الفهم الخاطئ، وذلك أن الإسلام إذا عاد غريباً كما بدأ، فإنه سيعود قوياً ظاهراً كما حصل ذلك بعد غربة الإسلام الأولى.
وهذا الفهم الصحيح هو الذي تشهد له أحاديث صحيحة كثيرة منها:
قوله صلى الله عليه وسلم: [ إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا...] رواه مسلم .
قوله صلى الله عليه وسلم: [لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ] رواه أحمد.
6- الغربة في شدتها وعظم أجر أهلها ليست على رتبة واحدة وإنما هي متفاوتة، فهناك غربة أهل الإسلام بين أهل الأديان الكافرة، وأشد منها غربة أهل السنة والإيمان بين أهل الإسلام والفرق الضالة من أهل القبلة. وأشد منها غربة أهل العلم بين عامة أهل السنة. وأشد منها غربة العلماء المجاهدين الصابرين بين أهل العلم القاعدين. وهؤلاء هم الذين قال عنهم ابن القيم رحمه الله:'هم أهل الله حقاً فلا غربة عليهم' وهم الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ] قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ قَالَ: [بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ]رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة.
7- أهل الغربة وإن كانوا قلة فهم السعداء حقاً ولا وحشة عليهم، وإن خالفهم أكثر الناس؛ فحسبهم راحةً وطمأنينةً أنهم في قافلة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
مظاهر الغربة في زماننا اليوم:
يمكن إجمال أهم مظاهر الغربة في الأزمنة الحاضرة اليوم فيما يلي:
1- غربة في العقيدة: فلا يوجد مَنْ هو متمسك بعقيدة السلف من جميع جوانبها إلا القليل من الناس؛ حيث تنتشر الخرافة والشركيات، والبدع في أكثر بلدان المسلمين.
2- غربة في تطبيق الشريعة والتحاكم إليها: فلا يُحكم اليوم في أكثر بلدان المسلمين إلا بأحكام الإفرنج الكافرة.
3- غربة في الالتزام بأحكام الإسلام: سواء ما كان منها بين العبد وربه، أو بين العبد وبين الخلق؛ فلا يوجد الملتزم بها إلا القليل.
4- غربة في السلوك والأخلاق الفاضلة، وتزامن ذلك مع انفتاح الدنيا، وكثرة الشهوات.
5- غربة أهل الحق ودعاة الإسلام، وتسلط الأعداء عليهم، وإيذاؤهم لهم بأشد أنواع الأذى والنكال.
6- غربة في عقيدة الولاء والبراء: حيث مُيّعَتْ هذه العقيدة عند كثير من الناس، وأصبح ولاء أكثرهم وحبهم وبغضهم للدنيا فحسب.
7- غربة في أهل العلم: حيث قلّ أهل العلم الشرعي الصحيح، وانتشر الجهل، وكثرت الشبهات، وقلّ العاملون بالعلم والداعون إليه.
مظاهر الفتنة في أزمنة الغربة: إن من أشد ما يخشى على أهل الإسلام في أزمنة الغربة أربعة مظاهر من الفتن يمكن إجمالها فيما يلي:
1- الفتنة التي تنشأ من الوقوع في الشبهات: والتأثر بأهلها الذين هم الأكثرية في عصور الغربة، مما يحصل معه السقوط في فتن الشبهات سواء ما يتعلق منها بالعقائد، أو الأعمال، أو المخالفات الشرعية الأخرى، وتسويغ ذلك بشبهة شرعية تبرز عادة في غيبة الحق، وفشو الجهل.
2- الفتنة التي تنشأ من الوقوع في الشهوات: التي تطمّ وتنتشر عادة في عصور الغربة، وقلة أهل الحق، وانفتاح الدنيا بزخرفها على الناس؛ فلا يكاد يثبت ويستقيم على أمر الله مع كل هذه الضغوط إلا القليل الذين يعتصمون بالله، ويقومون بأمره، ويدعون إلى سبيله، أما الكثرة الكاثرة الذين ضعف صبرهم، فتراهم يتنازلون عن دينهم شيئاً فشيئاً أمام مظاهر الغربة الفاتنة؛ سواء كان ذلك التنازل في العقيدة، أو السلوك، أو التزام الأحكام.(/2)
3- فتنة اليأس والقنوط من ظهور الحق وانتصاره أمام تكالب الأعداء وتمكنهم وتسلطهم على أهل الخير بالأذى والابتلاء: مما قد يؤدي ببعض أهل الغربة إلى اليأس، وترك الدعوة حين يرى 'إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين، تهتف لهم الدنيا، وتصفق لهم الجماهير، وتتحطم في طريقهم العوائق، وتصاغ لهم الأمجاد، وتصفو لهم الحياة، وهو مهمل منكر لا يحس به أحد، ولا يحامي عنه أحد، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً... فإذا طال الأمد وأبطأ نصر الله، كانت الفتنة أشد وأقسى، وكان الابتلاء أشد وأعنف، ولم يثبت إلا من عصم الله'[في ظلال القرآن 5/2719، 2720 –باختصار-].
وإن فتنة اليأس والإحباط وترك الدعوة إلى الله في عصور الغربة لا تقف عند حد؛ بل قد تؤدي بصاحبها- والعياذ بالله- إلى الضعف والنقص في دينه شيئاً فشيئاً أمام فتن الشبهات والشهوات؛ ذلك لأن أيامَ الغربةِ أيامُ فتنٍ وإغراءات، وفشو منكرات، وظهور وتمكين لأهل الباطل والفساد.
فإن لم يكن للمسلم فئة صالحة- ولو كانت قليلة- يأوي إليها، ويدعو معها إلى الله -حسب الوسع والطاقة- ؛ فإنه لا بد أن يتأثر بالفساد وأهله- إلا من رحم الله- ومن غير المقبول أن يبقى المسلم محافظاً على دينه أمام الغربة، وهو تارك للدعوة، بعيد عن أهلها، فإما أن يؤثّر أو يتأثّر.
نعم.. يمكن أن يترك المسلم الدعوة، ويبقى محافظاً على دينه في حالة الاعتزال التام عن الناس في شعف من الجبال، ولا إخال هذا متيسراً في هذا الزمان، ثم لو كان ذلك ممكناً: فمن ذا الذي يدعو إلى الله، ويواجه الفساد.
إذن: فلن ينجو من فتنة الغربة في أي زمان أو مكان إلا أحد رجلين:
إما مجاهد في سبيل الله، داع إلى الخير، آمر بالمعروف، وناهٍ عن المنكر.
أو رجلٌ معتزلٌ عن الناس في مكان من الأرض يعبد ربه، ولا يخالط الناس.
وما سواهما فهو على شفا هلكة، ولعل هذا ما يفهم من الحديث الذي رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: [مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ أَوْ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ فِي رَأْسِ شَعَفَةٍ مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ إِلَّا فِي خَيْرٍ] .
4- فتنة العجلة، وقلة الصبر على الأذى في الغربة: مما يؤدي ببعض من يقاسي ضغوطها إلى التسرع والاصطدام مع أهل الفساد دون مراعاة للمصالح والمفاسد؛ فينشأ من جرّاء ذلك فتنة أشد، وفساد أكبر على أهل الغربة.
من :'فتن.. يجب الفرار منها' للشيخ/عبد العزيز بن ناصر الجليل(/3)
فتنة المال
الحمد لله الذي بيده خزائن السموات والأرض، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير إنه على كل شيء قدير، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويرزق من يشاء بغير حساب، وأشهد أن لا إله إلا هو ولا رب غيره ولا معبود بحق سواه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الكريم، أدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وترك الأمة على البيضاء ليللها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأتقياء الأنقياء الأخفياء البررة وعلى من تبعهم بإحسان وصدق إلى يوم الدين، ثم أما بعد:
أيها المسلمون، إن من رحمة الله بهذه الأمة أنه أخبرها بما سوف تلقاه من الفتن ودلها على سبل الوقاية والحماية منها ، جاءنا الخبر في كتاب ربنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإن من الفتن التي أخبر عنها ووقعت فيها هذه الأمة هي فتنة المال، وما أدراك ما المال، المال أذلّ أعناق الرجال، والمال غيّر المبادئ، والمال أنطق الرويبضة في أمر العامة، والمال أفسد أمور الدين والدنيا إذا أخذ بغير حق، والله سبحانه قد أخبر بأن المال مما فطر الناس على محبته وأنه شهوة من شهوات الدنيا، { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [الكهف:46]، وقال جل وعلا عن حال الإنسان مع المال: { وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً } [الفجر:20].
وربنا قد أخبر عن هذه الحقيقة بأن المال فتنة: { وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [الأنفال:28]، والله سبحانه قرر حقيقة باقية وسنة ماضية إلى أن يرث الأرض ومن عليها، وهي كذلك ميزان الله في الآخرة، أن المال ليس بمقياس على علو منزلة الإنسان عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا من عدل الله ورحمته بالأمة مصداق ذلك ما جاء في التنزيل: { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [سبأ:37].
بل إن الله سبحانه بيّن أن المال الذي قد يعطاه من لاخلاق لهم من الكفار لن يكون نافعاً لهم ولا حائلاً عن العذاب الذي يصيبهم، وهي رسالة لكل من بهرته الدينا التي يعيش فيها من حاد عن دين الله وعن شرعه ولم ينعم بهذه الشريعة، إذ يقول جل شأنه: { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة55]، { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } [آل عمران:10].
واعلموا رحمكم الله أن الفتنة بالمال أخذت صوراً شتى في كل العصور، وبرزت في عصرنا هذا، فوجب التنبيه ولفت الأنظار لها، فرُبَّ مفتون لاهٍ ساهٍ غافلٍ يظن أنه على طريق صحيح وهو في طريق هلكة -والعياذ بالله-.
وهذه الصور على سبيل الإجمال كما يلي:
الصورة الأولى:
الاشتغال بالمال- ولو كان حلالاً- عن طاعة الله وعن ذكره وشكره، كما قال تعالى: { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [المنافقون:9]، ويقول سبحانه: { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا } [الفتح:11].
فكم من رجل كان يحافظ على الصلوات وعلى قراءة القرآن وغيرها من أعمال البر، ومن إن شغلته الدنيا وجرى المال بين يديه حتى أصبح يمر عليه رمضان والمواسم الفاضلة فلا يقرأ كتاب الله، ولا يصلي، ولا يحضر مجالس الذكر، فضلاً عن غيرها من الأيام، فليحذر المؤمن وليعلم أن الذي رزقه المال هو الله -نسأل الله الثبات حتى الممات-.
وحتى نعدل في قولنا ونكون دقيقين في تصويرالواقع إن الإنسان ليقف وقفة إكبار واحترام لأناس يملكون الدنيا بأيديهم، وتجدهم من أحرص الناس على الطاعات وحضور الجماعات وكل ما يقربهم إلى رب الأرض والسموات، فهنيئاً لهؤلاء الذين حازوا خير الدنيا والآخرة، وهؤلاء هم الذين تنزل عليهم البركات وتحل عليهم المكرمات.
الصورة الثانية:(/1)
كراهية الانفاق في سبيل الله: وعلى رأسها الزكاة الواجبة، فبعض الناس ينفق الأموال الطائلة في الولائم والعزائم وفي أمور اللهو والترف، وحينما يُدعى للإنفاق فيما يعتق رقبته وينجيه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، رأيت الكراهية في وجهه، فيعرض و ينسى قول الله جل وعلا في حق المنافقين: { فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [التوبة:81 ].
ولا ننسى أولئك الأخفياء الأتقياء الذين ينفقون أموالهم في وجوه الخير، فنقول لهم أبشروا فوالله إنه عند ربنا في كتاب لا يضلّ ربنا ولا ينسى، فإن جهِلَكُم الناس فلكم موعد عند رب الأرض والسموات، يبيض فيها وجوهكم ويخلف عليكم خيراً فيما أنفقتموه.
الصورة الثالثة:
عدم التحري في المعاملات المالية وعدم السؤال عن ما يدخل إليه أمن حرام أمن حلال، والتساهل في ذلك وعدم سؤال أهل العلم عما يشكل عليه من المعاملات « ولن تزولا عبد يوم القيامة حتى يسأل عن هذا المال من أين اكتسبه وفيم أنفقه » ، وإن من أعظم الفتن التي وقع فيها بعض الناس أن يتتبع الرخص ومن يجيز له المعاملات الربوية والمحرمة -نسأل الله السلامة والعافية-، وليتذكر الإنسان يوم العرض على الله ويتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: « أيما جسد نبت على السحت فالنار أولى به ».
لقد طاشت عقول الناس مع الأسهم والمساهمات مع وجود البدائل المباحة والحمد لله. وكذلك من جوانب الفتنة بالمال، إقبال الناس على المسابقات المحرمة التي هي من الميسر، كمن يشترط للحصول على الجائزة أن تشتري من بضاعته أو أن تتصل بمال عن طريق بطاقة مسبقة الدفع للمشاركة في مسابقة كل هذا من القمار المحرم، وحتى لا نعمم قولنا، فإن من مظاهر الخير في هذه الأمة سؤال الناس وبإلحاح عن كثير من المساهمات المطروحة عبر وسائل الإعلام المختلفة مما يدل على تعظيم حرمات الله في قلوبهم نسأل الله أن يثبتهم وأن يرزقنا وإياهم الرزق الحلال المبارك.
الصورة الرابعة:
أكل أموال الناس بالباطل، والتحايل على أكلها بشتى الوسائل والحيل الملتوية، فهذا يماطل في صرف مستحقات أو بدلات لبعض الأجراء أوبعض الموظفين، وهذا يطلب الرشوة لكي يمرر المعاملات خاصة في مجال الصكوك والأراضي أو أخذ التراخيص للأنشطة التجارية، أو ترسية المناقصات والعقود، أو جحد الدائن مَنْ ديَّنهُ إذا لم يكن لديه بينة، أو من كتب عقاراً أو مؤسسة باسم شخص ثم جحده ماله وما كسبه، كل هذا من أكل أموال الناس بالباطل كما قال جل وعلا: { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة:188]،ويقول سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [النساء:29].
وليتذكر أولئك النفر الذين وقعوا في هذه الفتنة، قول النبي صلى الله عليه وسلم: « لعن الله الراشي والمرتشي »، فلا تخسر دينك ودنياك فينزع الله البركة من المال الذي تأخذه بالباطل، فكم تعطّلت مصالح لأناس وكم حرم أناس من حقوقهم بسبب هؤلاء المرتشين، فاللهم أصلح أحوال المسلمين في كل الميادين يارب العالمين.
الصورة الخامسة:
أكل مال اليتيم. يقول جل وعلا : { وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [النساء:2]، ويقول سبحانه مهدداً ومتوعداً: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [النساء:10]، فليتق الله أناس أخذوا أموال اليتامى بغير حق أو حرموهم نصيبهم من الإرث أو نحو ذلك، وليتذكروا أن هناك موعداً يلتقي فيه الخصوم عند ملك الملوك وعلام الغيوب. يامن أخذتم أموال اليتامى ظلماً اليوم عمل ولا حساب، فاغتنموا الفرصة وتوبوا إلى الله قبل فوات الأوان، فإن الجزاء من جنس العمل فإن أخذ المال بغير حقه ممحقة للبركة، وقد يلحق نزع البركة أبناءكم ومن تعولون إما في حياتكم أو بعد موتكم، فاللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا.
الصورة السادسة:(/2)
عدم إعطاء الأجير أجره، من خادم أو خادمة أو سائق أو عامل أو من بنى لك داراً، أو كان يعمل لديك في عمل أو من كان له سعي في صفقة أو عقد كل هؤلاء سوف يخاصمون من ظلموهم ولم يعطوهم حقوقهم، وقد كثر هذا في الآونة الأخيرة، وللأٍسف وهو من صور الفتنة بالمال والهلع على الدنيا -نسأل الله السلامة والعافية-. وإن عجبك لا ينقضي من أناس يجحدون رواتب العمال المساكين -الذين يصل راتب البعض إلى قيمة وجبة غداء أو عشاء عند بعض المترفين- فاللهم رحمتك.
الصورة السابعة:
سؤال الناس من غير حاجة: كمن يرفع للموسرين بأنه مستحق للزكاة وهو يكذب في ذلك، أو من يسأل الناس في المساجد وهو غير صادق، وليتذكر هؤلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: « لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مُزْعة لحم » .
وجاء في صحيح مسلم: « من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر »، وأبشر يامن أصبت بالفاقة والحاجة ولم تسأل الناس بأن الله سوف يسدّ عنك حاجتك؛ فقد جاء في الترمذي وأبي دواد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اللع ليه وسلم: « من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لن تسد فاقته، ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل ».
الصورة الثامنة:
إنفاق المال للصد عن سبيل الله، وإغواء عباد الله بأنواع من الفتن، كمن يطلق قنوات فضائية غنائية وغير غنائية فيها الفحش والتعري، أو فيها الدعوة إلى تقليد الأعداء والسير في ركابها، وفيها تخدير العقول وتعطيل الطاقات، والإعجاب بالأعداء وبعاداتهم وتقاليدهم، ونزع حاجز العداوة الذي بيننا وبينهم.
كل من أنفق هذه الأموال في هذه المنابر هو من الصادين عن سبيل الله، وكذلك من يقومون بالدعاية لها أو الترويج لها ببيع أو تسويق ونحوها -نسأل الله أن يكف أذاهم عن المسلمين وأن يصلحهم ويردهم إلى الإسلام رداً جميلاً-، وما علموا أن هذا ليس من أخلاق المسلمين، بل هو من ديدن أعداء الله الكافرين. وصدق الله إذ يقول: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } [الأنفال:36].
الصورة التاسعة:
المراءات والمباهاة بالمال والمنّ به -وخاصة إذا كانت نفقة شرعية-. وهو نوع من المنّ والأذى، كما قال جل وعلا: { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [البقرة:264].
الصورة العاشرة:
التقصير في النفقة الواجبة على الأهل والعيال. إن من صور الرحمة بالأمة ومن صور التكافل الاجتماعي، أن أوجب الله على الرجل القادر أن ينفق ويطلب المال لكي يعيل أهله ويوفر لهم سبل الراحة والاستقرار، فإن المال عصب الحياة: { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة:233].
وقد جاءت النصوص الشرعية ببيان وجوب النفقة على العيال والزوجة ومن يعول من والد أو ولد، والتحذير من التفريط في ذلك، بل رغبت في الانفاق على الأهل والعيال وأنها من الإنفاق في سبيل الله، ومن أعظم وجوه الخير التي ينفق فيها. فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك » رواه مسلم.
وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه سلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله ,ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله » رواه مسلم.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله هل لي أجرٌ في بني أبي سلمة أن أنفق عليهم ولست بتاركتهم هكذا وهكذا، إنما هم بنيَّ؟ فقال: « نعم لك أجر ما أنفقت عليهم » متفق عليه. وجاء في حديث طويل متفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لسعد بن أبي وقاص: « وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت بها حتى ما تجعل في فِي امرأتك » متفق عليه.
وجاء الوعيد على من ضيع من يعول ، فقد جاء في صحيح مسلم « كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته » ، وجاء في رواية الترمذي « كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ».
وإنه لمن المؤسف أن تجد بعض الأبناء يتمنى أن يموت والدهم من شدة تقتيرهم وبخله وعدم الإنفاق عليهم، وليعلم الرجال أن النفقة واجبة عليهم ولو كانت المرأة غنية فهو حق لها أعطاها الله.
كاتب المقال: الشيخ/ ناصر بن يحيى الحنيني
المصدر: طريق الإسلام(/3)