إن المرأة المسلمة المؤمنة تعرف عظم فضل زوجها عليها، وهي الزوجة الهينة اللينة الودود الولود كما وصفها الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم قال: 'ألا أخبركم بنسائكم في الجنة ؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ودود ولود إذا غضبت أو أسيء إليها أو غضب زوجها قالت: هذه يدي في يدك، لا أكتحل بغمض حتى ترضى' [رواه الطبراني وغيره].
إن هذا التراضي بين الزوجين وهذا التواضع من قبل الزوجة ولين الجانب ليس فقط يصلح ما بينها وبين الزوج وإنما يكون سببًا في دخول الجنة بإذن الله وقد كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول لزوجته: 'إذا رأيتني غضبتُ فرضني وإذا رأيتك غضبتِ رضيتكِ وإلا لم نصطحب'.
فالزوج أيضًا مطالب بأن يرضي زوجته عند الغضب، يعني عندما تغضب، ولكن الزوج غالبًا ما يعتبر نفسه على حق، وهذا من صفات الرجال بصفة عامة، وعلى الزوجة أن تدرك هذا الأمر ولا تتهمه دائمًا، ولكن الزوجة الواعية هي من لا تستثير غضب زوجها، وإذا عرفت أن أمرًا ما يغضبه فلا تأتيه، حفاظًا على مشاعره، وإن أخطأت فعليها بالاعتراف بالخطأ وأن لا تأخذها العزة بالإثم وترفض اعتبار نفسها مخطئة، فالزوج بطبيعته لن يقبل هذا.
والحديث الشريف يقول للمرأة أن تتنازل قليلاً عن كبريائها وتذهب إلى زوجها لترضيه وتصيغ ذلك في أسلوب رائع، بأن تأخذ يده بيدها وتقول: لا ترى عيني النوم حتى ترضى، يعني لن أتركك تنام وأنت بهذه الحالة من الغضب.
وعلماء النفس ينصحون الأزواج بأن لا يبيت أحدهم غضبان، وأن ينتهي أي خلاف بينهما قبل النوم لأن نوم أحد الزوجين والغضب يأكله لا يأتي بأثر طيب على النفس، ويكون من شأنه أن يكره الزوج زوجته أو العكس، وليس من العدل أن تنام الزوجة قريرة العين وينام زوجها غضبان منها، إن هذا لا يرضى الله تعالى فقليلاً من العناد أيتها الزوجة وكثيرًا من الحب والود واللين.
هذا ويمكن علاج العناد بتجنب الأسباب المنشئة لهذا العناد، وإذا كان العناد طبعًا عند المرأة أو عند الرجل فليصبر الطرف الآخر وليحتسب وليحاول قدر المستطاع تجنب مواطن النزاع حتى يتخلص شريكه شيئًا فشيئًا من هذه الصفة فالزمن هنا جزء كبير من العلاج.
ومن العلاج حب الزوج لزوجته وعطفه عليها واحترامها وعدم إهانتها بأي كلمة أو إشارة، فإنه بذلك يكسب قلبها ويساعدها على احترامه وعدم المكابرة والعناد.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'إذا صليت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت بعلها [زوجها] دخلت الجنة' [رواه أحمد وغيره].
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'لو كنت آمرًا بشرًا أن يسجد لبشر لأمرتُ الزوجة أن تسجد لزوجها، والذي نفس بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها'.
فابدئي أنتِ أيتها الزوجة بالخطوات الأولى من الود واللين والحب فيسير على هداها زوجك ولا تنسي وصية أمامة بنت الحارث لابنتها أم إياس عند زواجها، كوني له أمة يكن لك عبدًا' وأعظم من هذه الوصية قوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:110] فإن قدمتِ عزيزتي الزوجة الإحسان فهو لنفسك وستجدين إحسانًا، وإن قدمتِ الحب فلنفسك وستجديه حبًا وقربًا ومودة {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن:60].(/2)
عوائق أمام شرعية الديمقراطية
د. لطف الله خوجه 18/7/1427
12/08/2006
- خلاف داخلي.
- فصل وتبديل غير ممكن.
- فقرات لا تقوم إ لا ببرهان ؟!.
- أين الحل ؟.
- خلاف داخلي.
بين المعتقدين وجوب تطبيق الشريعة: انقسام حول الديمقراطية. لا يحسمه إلا إجابة مبرهنة على سؤال محوري تدور عليه القضية، يقول: هل يمكن التوفيق بين الشريعة والديمقراطية ؟.
الممانعون يقولون: كلا، لا يمكن ذلك، إلا بتعديل جذري في أحدهما.
والمؤيدون يقول: بلى، يمكن ذلك؛ فالديمقراطية: فكرة، وآلية.
الفكرة لا تتوافق مع الشريعة؛ لأنها تقوم على مبدأ: أن مصدر الأحكام هو الشعب. فهذا هو تفسير الديمقراطية (الشعب = demo، سلطة أو حكم = krates)، بينما في الشريعة: الله تعالى هو الذي له الحكم.
أما الآلية، فإنها طريقة تتضمن الخطوات السياسية، لاختيار الممثلين عن الشعب، واختيار الرئيس، من: تصويت، وترشح، وانتخابات، إلى مساءلة ومحاكمة أفراد الحكومة، على رأسهم الرئيس نفسه، وحصر نفوذ الحكومة في السلطة التنفيذية، ومنعها من السلطة التشريعية والقضائية.
فهذه آليات بعضها دل عليها الدليل الشرعي، وبعضها في دائرة الإباحة، وقد ثبتت جدواها باعتراف الجميع، فالنتيجة أنها غير مخالفة للشريعة.
وإذا كان كذلك، فنحن نأخذ هذه الآلية، ونجعلها تحت سلطة الشريعة، بدلا من سلطة الشعب.
والحامل على الأخذ بالديمقراطية: محاولة القضاء على التسلط والاستبداد بالحكم، الذي أضر بالفرد والمجتمع في الحقوق والحريات، وجعل منا أمة: متخلفة على الدوام.
وقد جربت أمم – خصوصا في أوربا – الديمقراطية، فهي الآن مثال العدالة، والتطور، والإصلاح.
* * *
- فصل وتبديل غير ممكن.
الممانعون ردوا فقالوا: أما أن الديمقراطية: فكرة، وآلية. فهذا صحيح.
وغير الصحيح هو: محاولة الفصل بين الفكرة والآلية، ثم إلحاق الآلية بفكرة جديدة.
إلا بشرط البرهنة على إمكانية الفصل والتبديل، والبرهان لا يتم إلا بتخطي ثلاثة معوقات، هي:
أولها: أن المصطلح نفسه يأبى ويرفض هذا الفصل؛ فإنه وضع لكليهما. وهكذا وضعه وفصله الذين ابتدعوه.
فهل يسوغ التصرف فيه بمثل هذا الفصل بين الفكرة والآلية، ثم إلحاق الآلية بفكرة جديدة ؟.
هنا جوابان: يسوغ، أولا يسوغ.
فمن قال: لا يسوغ. فقد أبطل فكرة الفصل والتبديل، وجرى على قانون يحترمه جميع العقلاء: أن الذي له الحق في التبديل هم الذين وضعوا قانونه، وأعطوه اسما.
فإذا جرى تبديله من آخرين، فليس لهم حق في ذلك الاسم الأول إذن؛ لأنه حينئذ يغدو شيئا آخر، غير ما وضع له، فليتخذوا له اسما جديدا، فيكون مصطلحا آخر جديد.
ومن قال: يسوغ. فقد خالف قانونا يتفق عليه العقلاء جميعهم: أن المصطلحات مهما كانت مضامينها، يجب أن تبقى كما هي.
وهذا الذي يسوغ التبديل، هو نفسه الذي لا يسمح لأحد أن يتصرف بمصطلحاته التي يقدسها، فحري به ألا يفعل ذلك مع غيره. حتى لو كان يعتقد أنها مهانة؛ لأنها تخالف الدين.
- فإنها إن كانت مهانة فلم حرص عليها، فأخذ بها ؟!.
- وإن لم تكن مهانة، فعليه أن يحفظ لأصحابها حقهم فيها، فلا يتدخل بتصرف.
وليس على الأرض أمة أولى بحفظ الحقوق والعهود، مثل أمة الإسلام.
ثانيها: أنه جمع بين متناقضين، من حيث الأصل.
فالشريعة: الحكم فيها لله تعالى وحده: "إن الحكم إلا لله".
والديمقراطية: الحكم فيها للشعب وحده.
ولأنهما متناقضان: اضطر هؤلاء لتعديل فكرة الديمقراطية، وإلى تكلف الأدلة لتسند جميع الآليات شرعا.
وثالثا: ورطة التطبيق؛ فإن محاولة ضبط الديمقراطية بالشريعة: ارتداد عن فكرة الديمقراطية، لن يسمح به الليبراليون، والعلمانيون، والديمقراطيون المخلصون. ولا يمكن تطبيق هذه المحاولة إلا في حالة واحدة هي:
إذا ما خلت الساحة من الليبراليين، والعلمانيين، والديمقراطيين المخلصين.
فهل هذا يمكن حصوله ؟.
وإذا لم يمكن، فهل سيسكت هؤلاء على عملية الفصل والتبديل، وينقادون طائعين لهذه العملية ؟!.
أم هل يمكن نفيهم، ومنعهم من الدخول في العملية الديمقراطية، كيلا يزاحموا، ويفسدوا عملية التبديل ؟.
إلى اليوم لم نر تجربة ديمقراطية تحت سقف الشريعة، بل كافة الديمقراطيات تحت سقف علماني..!!.
وإلى اليوم لم نر عملية ديمقراطية لا يشارك فيها المؤمنون بالديمقراطية الحقيقة الأصلية: الحكم للشعب. بل في الغالب هم المصيطرون الغالبون.
وبعد هذا: فالذي يبدو أن من الصعوبة، وربما الاستحالة، تخطي هذه المعوقات الثلاثة ؟!!.
- إلا بقانون يبيح لكل أحد التصرف في المصطلحات التي صنعها آخرون.!!.
- وبقاعدة عقلية جديدة تسمح الجمع بين المتناقضات..!!.
- وبتخلية الساحات من المؤيدين لفكرة الديمقراطية الحقيقية، من ليبراليين وعلمانيين..!!.
* * *
فقرات لا تقوم إ لا ببرهان ؟!.
إذا سدّ الطريق أمام الحل الديمقراطي: فكيف السبيل إلى التخلص من: الاستبداد، والفساد، والتخلف ؟.(/1)
هكذا يقول المؤيدون.. وكأنهم يشيرون إلى أنه لا سبيل إلى حياة عادلة، صالحة، متقدمة إلا بالديمقراطية.
وهذه دعوى ذات فقرات، تحتاج إلى برهان:
فالتخلف، وهو التراجع عن خط الحضارة في العلوم والصناعات: مرتبط في نظرهم بالحكم الفردي.
وهذا الربط لا يثبت إلا بشرط: عدم وجود أمثلة على دول متقدمة، تحت حكم فردي غير ديمقراطي.
فإن وجدت بطل هذا الربط.
وعندما نجول ببصرنا: نجد دولا متقدمة، أو كانت كذلك، تقوم على فكرة الحزب الواحد، والحاكم المطلق. وأبرز مثال على ذلك الآن: الصين. وفي السابق: الاتحاد السوفيتي. وفي الماضي كانت أعظم دولتين في العالم قوة وحضارة، هما الفرس والرومان تحكمان حكما فرديا مطلقا. فبطلت هذه الفقرة من الدعوى.
والفساد؛ أي المالي، والسياسي، والأخلاقي، والثقافي.. إلخ، لا يصح ربطه بالحكم الفردي، وتبرئة الحكم الديمقراطي منه، إلا بشرط كسابقه: عدم وجود أمثلة على دول ذات حكم فردي خلت من الفساد.
فإن وجدت بطل هذا الربط.
وإذا سلمنا أنه من المتعذر، أن نجد صيغة تمثل العدالة الكاملة والخالية من الفساد في هذا العصر، حتى من بين الدول ذات الحكم الديمقراطي: فإنه من المؤكد أن التاريخ الإسلامي، ذات الصيغة الفردية في الحكم، قد ضم هذه الصيغ العادلة في فترات كثيرة:
- بدءا بالخلافة الراشدة، إلى نهاية ولاية معاوية، ثم خلافة عمر بن عبد العزيز، ثم الخليفة العباسي المعتضد.
- ثم السلطان نور الدين زنكي، إلى عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي.
- ثم السلطان محمود سبكتكين، إلى السلطان الغزنوي.
فهذه العهود وغيرها عهود نما فيها الإصلاح، وانتشر العدل. فبطلت هذه الفقرة الثانية من الدعوى.
والاستبداد، ومفهومه: احتكار السلطة، وتوريثها إلى القرابة، وما ينتج عنه من تحكم مطلق في الموارد المالية، وقمع للحريات، والمنع من المشاركة في القرار السياسي.
وهذا أيضا لا يصح ربطه بالحكم الفردي إلا بشرط كسابقه: عدم وجود أمثلة على دول ذات حكم فردي، عملت بالعدالة، في توزيع الثروات، وفتح الحريات دون إضرار بأحد، وأشركت الناس في القرار السياسي.
فإن وجدت بطل هذا الربط.
ولا نظن في أحد منازعة، في أن عهود الخلافة الراشدة مثال بارز على حكم فردي انتفى فيه الاستبداد، بكل صوره، ولو قلبت التاريخ وجدت أمثلة أخرى، متناثرة. فبطلت هذه الفقرة الأخيرة من الدعوى القائلة: إنه لا سبيل للتخلص من: التخلف، الفساد، والاستبداد إلا بالديمقراطية.
قد يكون الحكم الفردي سببا في هذه السلبيات، لكن أن يكون سببا لازما، فهذا باطل بالبراهين المتقدمة. فليس الحكم الفردي لازما لهذه السلبيات، وليست الديمقراطية حلا صالحا على الدوام لمنع هذه السلبيات؟!.
فإن كثيرا من الدول ذات الصيغة الديمقراطية تعاني تخلفا واضحا، ربما كانت أحسن حالا قبلها. فدول أمريكا الجنوبية، وأكثر دول شرق آسيا، وكل الدول العربية والإسلامية لم تتقدم خطوة معتبرة تقارع بها الغرب، مع أخذ كثير منها بالصيغة الديمقراطية منذ نصف قرن وزيادة.
وكذا الحال في مجالات: الإصلاح، والاستبداد. فالدكتاتورية عادت إلى هذه الدول، لكن بوجه ديمقراطي.
حتى الدول الغربية، مصدرة الديمقراطية: تعاني مشاكل كثيرة من وراء الديمقراطية..!!.
هي متقدمة: نعم. وكثير من الناس يعزو تقدمها إلى ديمقراطيتها، وهذا فيه نظر ؟!.
فدراسة فاحصة لهذا التطور الغربي، تبين أنه لولا انعقاد عزم ونية الرؤساء، والنافذين، وأصحاب المال على التقدم، لما حصل ذلك. وهذه النقطة وحدها تحتاج إلى تفصيل وبيان.
نعم الديمقراطية عامل في تقدمها، وهناك عوامل أخرى أكبر وأهم.
ومع تقدم هذه الدول إلا أنها تعاني فسادا، واستبدادا منظما مقننا، ودلائل هذا الفساد ظاهرة، فمنها:
1- مخالفة حكومات هذه الدول لشعوبها، في دخولها حروبا مدمرة، كحرب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانية في العراق. فلم تسمع لصوت شعوبها، ورفض الأغلبية، ومضت كما يمضي الدكتاتور.
2- نسب البطالة المرتفعة، والتسريح المستمر لمئات آلاف العمال، من الشركات العالمية الكبرى، دون ضمانات، تحفظ حقوقهم مستقبلا. والأمر سيزداد سوءا، فكل ما يعيشه الغرب من رفاهية لم يكن سببه الديمقراطية وحدها، بل وجود المعسكر الشيوعي، وقد زال.
3- التضليل الإعلامي الكبير في اختيار المرشحين للبرلمان، وللرئاسة، فلا يشترط في الذي يصل إلى هذه المراكز الكفاءة والأمانة، بل الثروة والنفوذ. فهذا شرط الترشح، والحصول على الدعاية الإعلامية المجانية، فالمرشح إما أن يكون ذا مال، أو متكفلا برعاية مصالح أصحاب المال.
* * *
إذا كانت السلطة في الحكم الفردي محتكرة في: أسرة، أو حي، أو قبيلة. فإنها كذلك محتكرة في الديمقراطية، لكن في أقلية ثرية ذات نفوذ مالي. فإما أن تحكم بنفسها، أو بالوكالة عنها؛ ولذا فإن غالب الأحزاب الفائزة بالحكم، لا تمس مصالح هذه الفئة المحظوظة، ولا تطبق عليها القانون، بل يتحايل لأجلها.(/2)
وفي أحسن الأحوال: فإن الديمقراطية قد لا تنجح في الحماية من استبداد كهذا دائما؛ لأن آلية الديمقراطية تسمح بمثل هذا التلاعب.
مع ملاحظة أن لكل قاعدة شذوذا، فلا يحتج لإبطال هذا التقرير بالحالات الشاذة، أو القليلة.
وإذا كان ما يؤخذ ويسلب من حقوق الأمة، في النظام الفردي: يأتي عن طريق القوة والعنف. فإن السلب والاستحواذ في النظام الديمقراطي، يأتي من طريق الالتفاف على القانون.
نعم للديمقراطية إيجابيات، لكن لها سلبيات، كالحكم الفردي. والمنهج الصحيح في الاختيار ليس القائم على مجرد وجود المنافع في الأمر المختار، فإنه معارض بوجود المفاسد، وما من شيء إلا وفيه منفعة ومضرة.
إنما المنهج: الاختيار القائم على ترجح المصلحة والمنفعة، على المفسدة والمضرة، يقول تعالى: "وإثمهما أكبر من نفعهما"؛ أي فلهذا حرم الخمر والميسر، لا لمجرد أن فيهما ضررا، فإن فيهما منافع أيضا.
* * *
- أين الحل ؟.
فما الحل إذن ؟.. هل نبقى على هذا الحال، لا إصلاح، ولا تقدم، ولا عدالة ؟.
الحل يكمن في عدم الحصر في حل واحد.
هل من المعقول أنه لا توجد طريقة للإصلاح إلا الديمقراطية ؟.
ومن المسلم به: أن المسلمين لم يعرفوا هذا النمط من الحكم، وإن ادعاه من ادعاه ؟!!، فالحقيقة أن الديمقراطية كما صيغت في الغرب، لم تطبق في أي حكم إسلامي، منذ الخلافة إلى سقوط الخلافة العثمانية.
وإطباق المسلمين على ترك ذكرها، وعدم تعاطيه: دليل عدم وجودها في التراث الشرعي، والنص الإسلامي. فهي مغفلة بالكامل، وليست إليها إشارة. وهذا أمر يعرفه من درس القضية بوضوح، بعيدا عن التلفيق.
فإذا كانت النصوص الشرعية لا تحمل هذا الحل، والمسلمون لم يعرفوه طيلة عهود الإسلام، فهذا دليل على أن هناك حلولا أحسن منه، لو كان حسنا، وإلا لما أعرض عنه الشارع فلم يدلنا عليه، مع عظيم فائدته ؟!.
فإن من المقرر شرعا: أن الله تعالى دل المؤمنين على أحسن السبل، وأحسن الطرق للقيام بعمارة الأرض، والحياة فيها، وإقامة الدين. فلم يكن ليترك دلالتهم على النظام الديمقراطي، لو كان نفعه أكبر من إثمه.
إذن الحل ليس في الديمقراطية، هكذا تنطق النصوص، بل فيما شرعه الله تعالى:
- في الدعوة، والبلاغ، والنصيحة، للحاكم، والعالم، والعامي.
- في التربية، والإصلاح، والعون، والصدقة.
- في تعليم الناس أمور دينهم، وإرشادهم في أمور دنياهم.
- في الصبر والتقوى.
- في عبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون".
فإن التضحيات حاصلة في كلا الطريقين: الديمقراطي، والإصلاحي بمنظور شرعي. فالديمقراطية لن تأتي على طبق من ذهب، بل تجربة أوربا تبين لنا: أن الشعوب تحتاج إلى مائة عام على الأقل حتى تصل إلى حقوقها، وليست كل الحقوق. فهل نحن بحاجة إلى مائة عام لتربية الناس على الديمقراطية ؟!.
فلتكن تربيتهم على الإسلام، ما دامت الثمرة تحتاج إلى قرن حتى تجتنى إذن، فالمشروع أولى بالبذل !!.
* * *
إن هذا لا يعني الانعزال، والبعد عن واقع الحياة، وترك الساحة لفئة تتحكم وتفعل ما تشاء..؟!!.
كلا، ليس كذلك، فإن هذا المبحث يختص ببيان الخلاف بين المؤيدين والمعارضين للفكرة الديمقراطية، وما يكون من نقاش بينهم حول قيام نظام ديمقراطي جديد غير مسبوق: هل تؤيد أم تمانع قيامه ؟.
ولا يختص بالموقف من نظام ديمقراطي قائم أصلا، لم يصنعه ولم يشارك في صنعه، لكنه مضطر للدخول فيه، للمزاحمة، وعدم ترك الساحة خالية.. فهذه قضية أخرى، لها توجيه آخر، ونظرة أخرى..؟!.(/3)
عوائق الإستقامة
المحتويات
مقدمة
مصادر هذا الموضوع
عوائق الاستقامة
اولا : التعلق بالشهوات
ثانيا : الجليس
ثالثا : عدم تصور خطورة الأمر
رابعا : الفهم الخاطئ للوسطية
خامسا : القدوة السيئة
سادسا : عدم وجود المعين
سابعا : ضغط البيئة
ثامنا: ثقل التكاليف
تاسعا : العجز عن اتخاذ القرار الحاسم
عاشرا: الاعتذار بالقدر
العائق الحادي عشر: التدخين
العائق الثاني عشر : التسويف
العائق الثالث عشر: انتظار المصائب
أدوار مهملة
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فهذا الموضوع يخاطب فئة مهمة من طبقات المجتمع ألا وهي فئة الشباب، ومرحلة الشباب هي مرحلة أساسية في العمر نظراً لأنها تحدد بشكل أو بآخر مصير الإنسان بعد ذلك، فهي أساس لما بعده.
- الشباب هم عماد هذه الأمة، وعليهم مسؤوليات جسيمة في بناء الأمة والنهوض بها، وهم أمل الأمة بعد الله سبحانه وتعالى في المستقبل، لذا كان لزاماً أن نعنى بهذه الفئة وهذه الطبقة من المجتمع .
- أنه يلاحظ في عصرنا هذا انتشار ألوان الانحراف والشذوذ لدى طبقات كثيرة من الشباب، تتمثل في انحراف الجوانب الأخلاقية، وانتشار الممارسات الشاذة في ذلك مما أدى إلى البعد عن طريق الاستقامة وسلوك كثير من أبواب ووسائل الانحراف .
-أن هؤلاء الشباب الذين نعنيهم يعيشون في الواقع في عالم آخر يجهله الكثير من الناس، بل كثير من آباء هؤلاء الشباب –كما سيأتي- لا يعلمون ما يصنع هؤلاء الشباب، ويجهلون تفاصيل دقيقة ومهمة جدًّا في حياة أبنائهم قبل أن تكون في حياة غيرهم من أبناء الناس.
لذا لابد أن نسعى إلى أن نلقي الضوء على هذا العالم، وأن نكتشف واقع هؤلاء الشباب، وأن نحاول أن ندرس واقعهم، وألا يكون الحديث حديثاً عاطفياً ، لأن هذا ليس منهجاً علمياً، فنحن نريد أن نتحدث عن واقع ومعرفة مع دراسة متأنية لهذا الواقع .
- اتضح لنا من خلال الدراسات التي أجريت قبل إلقاء هذه المحاضرة أن الكثير من هؤلاء الشباب وإن كان عنده انحراف و فساد فهو يحمل جوانب خيَّرة، يحمل البذرة الطيبة، ولازال على الفطرة الخيرة خاصة أن أكثر هؤلاء الشباب بل عامتهم إنما ضلاله ناشئ عن الشهوات وليس عن الشبهات ولا عن الشك، وعندما يكون الأمر بهذه الصورة فإن ذلك يدعونا إلى العناية بمثل هذا الأمر، فإنه قد يسهل تدارك أحوال الكثير منهم .
مصادر هذا الموضوع
موضوع بهذه الصورة يعني قطاعا كبيرا من الشباب لا ينبغي علاجه آنيًّا وعاطفيًّا، ولا يكون مجرد خواطر يسجلها المتحدث ثم يلقيها أمام الناس، بل ينبغي أن يكون ناشئاً عن دراسة متأنية وواعية، لذلك حرصت على التأني في هذا الموضوع و دراسته من كافة الجوانب، لذا قمت بالاعتماد على هذه المصادر :
- قمنا بإعداد استبانة أو استبانتين تم توزيعهما على فئتين من الشباب، الأولى وزعت على شباب غير مستقيمين والثانية وزعت على شباب هداهم الله تعالى للاستقامة بعد أن كانوا على طريق الانحراف، وقد تم فرز 92 استبانة للشباب غير المستقيم في المرحلة المتوسطة و200 استبانة لشباب المرحلة الثانوية، أما الفئة الثانية التي تمثل الفئة التي هداها الله تعالى فقد تم فرز 86 استبانة، بقيت في الواقع مجموعة لم نتمكن من فرزها وإخراج نتائجها، منها ما يختص ببعض المعاهد الفنية والمهنية، ومنها ما يختص ببعض الطلاب الجامعيين، ومنها ما يختص ببعض الموظفين .
2- إجراء مقابلات شفوية وحوار ونقاش مع بعض الشباب، فقمنا بزيارة بعض الشباب على الأرصفة، ومن ثم طرح الموضوع وتم النقاش معهم وأخذ وجهة نظرهم في الموضوع، لأن الموضوع يعنيهم بصورة مباشرة وسنشير إلى نتائج بعض المقابلات إن شاء الله .
3- هناك دراسة أجرتها إحدى الأخوات في بعض مدارس البنات، وتم الحصول عليها عن طريق أحد أقاربها، واستفدنا منها أيضاً، والدراسة مشابهة لهذه التي قمنا بها وإن كانت على نطاق أضيق .
4- محاولة مراجعة بعض البحوث والدراسات التي أجريت حول الطلاب ومشاكلهم.
عوائق الاستقامة
كثير من الشباب يدرك أنه على طريق خاطئ، ويتمنى أن يسلك طريق الاستقامة -وسيأتي إن شاء الله ما يؤيد ذلك - لكن هناك عوائق وحواجز تحول بينهم وبين طريق الاستقامة، وعندما نتحدث عن هذه العوائق لا نعني أنها تعتبر عذراً ومانعاً لهم، فإن كل شاب مسؤول أمام الله سبحانه وتعالى مهما كان عنده من العوائق والعقبات، فإن الله سبحانه وتعالى لم يكلفه إلا بما يستطيع، و لن يحاسبه إلا على أعماله، ولئن كان البعض يدعي أن الذي يمنعه ويحجزه عن سلوك طريق الالتزام والاستقامة هي هذه العوائق فهناك الكثير من الشباب عندهم من العوائق التي لا تقارن أبداً تلك العوائق التي يحتج بها هؤلاء الشباب .
وأول عائق من هذه العوائق وأهمها من خلال الدراسة التي أجريت هو :
اولا : التعلق بالشهوات(/1)
لقد وجدنا أن 62% من طلاب المرحلة المتوسطة و 56 % من طلاب المرحلة الثانوية و 52 % من الفئة التي هداها الله يرون أن التعلق بالشهوات يعتبر عائقاً من عوائق الاستقامة، ومن خلال الحوارات الشفوية التي أجريناها مع الشباب على الأرصفة يكاد يتفق الكثير منهم على أن هذا العائق يعتبر من أكبر العوائق التي تعوق عن طريق الاستقامة، فالشاب يعرف الحق ويراه واضحاً لكن نفسه قد تعلقت بهذه الشهوة، وقد توجهت لها، فأصبح أسيراً لا يستطيع الانتصار على نفسه، ولا يستطيع أن يترك هذا الطريق لأنه يعلم أنه سوف يخسر هذه الشهوات واللذات العاملة التي يجدها .
وأيضاً مما يؤيد هذه القضية انتشار وسائل الفساد والانحراف والإثارة ومنها :
التلفاز: وجدنا أن 86% من طلاب المرحلة المتوسطة و 85% من طلاب المرحلة الثانوية و83% من شباب الفئة الثانية الملتزمة يتابعون برامج التلفاز، فهذا يعني أن الغالبية العظمى من هؤلاء الشباب يتابع متابعة شبه كاملة لبرامج التلفاز، وتعرفون ماذا يعني الشباب في هذه البرامج وماذا يشاهدون، أتظن أنهم يتابعون الأخبار العالمية أو البرامج العلمية أو الكشوفات الجديدة أو يتابعون ما يسمى بالبرامج الدينية أم أنهم يتابعون أمراً آخر؟ ولقد وجدنا أن 45% منهم يفضل المسرحيات و43 % يفضل التمثيليات، ومعروف ما وراء ذلك من صور فاتنة ومثيرة، ومما يزيد الأمر خطورةً هو وجود أجهزة الاستقبال المباشر وانتشارها الواسع حتى أنه لا يكاد يخلو بيت إلا وفيه جهاز من هذه الأجهزة، ومع ذلك نجد صمتاً مطبقاً من كثير ممن يعنيهم من عامة المسلمين، مع أنه لا يخفى على أحد أنه تنشأ عن هذه الأجهزة مخاطر لا تحصى، ومن هذه المخاطر التي تسببها :
*مخاطر عقدية ودينية : كعرض حلقات للتنصير والتبشير والتشكيك في الدين .
*مخاطر أخلاقية : ولست بحاجة عن الحديث عما يجري في تلك القنوات التي تستقبل من كافة أنحاء العالم .
*مخاطر أمنية:فالشاب يرى في هذه القنوات كيف ترتكب الجرائم،وكيف يخطط لارتكابها،وكيف تتم أعمال السطو، وكيف تتم أعمال تهديد الناس، وهو بالتالي سيستعمل هذه الوسائل لتهديد أمن مجتمعه .
*مخاطر سياسية : فبعض بلاد المسلمين لا تعرف المظاهرات ولا أعمال العنف ولا تعرف أيضاً أعمال الشغب، فما موقف شباب المجتمع عندما يرون المظاهرات التي تقام في البلدان الأخرى ؟ أو عندما يشاهدون أعمال الشغب و الانتفاضات التي يقوم بها من يسمون بالمعارضة أو غيرهم ؟ وكيف سيكون أثر تلك الأمور عليهم ؟
ولهذا فإن واحداً من هذه المخاطر كافٍ لأن يتخذ قرار حاسم فيه، والقضية تعنيكم جميعاً، فالذي سيتضرر هم أبناؤكم وأحفادكم، وستكون النتيجة وخيمة .
الفيديو : من الوسائل الخطيرة أفلام الفيديو، فـ81% من هؤلاء الشباب يشاهدون أفلام الفيديو، ولك أن تتصور ما يشاهده هؤلاء الشباب في هذه الأفلام !!! فأكثر هذه الأفلام التي يحرص الشباب على مشاهدتها أفلام ساقطة، وهذه الأفلام كما أفاد الكثير من هؤلاء: أفلام جنسية، والبعض الآخر يقول : أفلام ساقطة، وبعضهم يقول : أفلام ممنوعة، والبعض أخذ يعبر بعبارات تشعر بذلك فأحد الشباب يقول : إذا بليتم فاستتروا، وآخر يقول : أستحي من ذكرها، وكل يدور حول هذا القصد وهذا المضمون، أما بقية الأفلام فأحسنها حالاً الذي تعرض الصور واللقطات الفاتنة المثيرة لغريزة هؤلاء الشباب، فما موقف هؤلاء الشباب عندما يشاهدون مثل تلكم الأفلام ؟
بل إنه مما يزعج ويبعث القلق أيضاً هو أن 53% من طلاب المرحلة المتوسطة و 49% من طلاب المرحلة الثانوية يشاهدون هذه الأفلام خارج منازلهم وهي قضية خطيرة، فقد لا يوجد جهاز فيديو داخل البيت فيستطيع مشاهدة هذه الأفلام خارج المنزل والأب المسكين قد لا يعلم ذلك ! ثم ما نوعية هذه الأفلام التي سيشاهدها مع زميله، وما الذي سيجري بعد ذلك عندما يقوم الشباب بالمشاهدة المشتركة لهذه الأفلام ؟ أترك الإجابة لكم!.
وفي دراسة لتحصيل درجة الماجستير لعبد العزيز الشثري بعنوان (وقت الفراغ وشغله في مدينة الرياض) توصل فيها إلى نتائج منها :
أن 67% من شباب المرحلة الثانوية يمتلكون أجهزة فيدو مع ملاحظة أن الدراسة التي أجراها هي دراسة عامة لا تختص بهذه النوعية من الشباب التي نتحدث عنها، وأيضاً أفادت الدراسة أن 45% من هؤلاء الشباب يقضي وقت الفراغ في مشاهدة الفيديو.
المجلات : تبين من الدراسة التي قمنا بإجرائها أن 37% من طلاب المرحلة المتوسطة و38% من طلاب المرحلة الثانوية و34% من الفئة الثانية يقرؤون المجلات، فهذا يعني أن ثلث هؤلاء الشباب يقرؤونها.
ومن خلال الاستبانة كان سؤال آخر هو : اذكر عوائق أخرى تعوقك عن الاستقامة ؟
فيقول أحد الشباب : إن القابض على دينه في هذا الوقت كالقابض على الجمر، والآخر يقول: التلفاز، والآخر يقول : حب الصديق وعزته علىَّ.(/2)
وكان من ضمن الأسئلة كلمة أخيرة تود أن تقولها ؟ فإليكم هذه النماذج التي كتبها مجموعة من الشباب :
يقول أحدهم : نعم، أجزم أن كثيراً من الشباب غير الملتزمين، وكان سبب ذلك ثلاثة أشياء هي : النساء الفاتنات في السوق، وكتابة الأرقام لهن، الصور الخليعة، الهاتف والمكالمات مع النساء، فقد سمعت أن بعضهن متزوجات ويكلمن وقت الفراغ مع الشباب .
شاب آخر من هؤلاء الشباب يقول : أتمنى من الله أن يجمعنا بكم في فسيح جناته، فحبذا لو أن وسائل الإعلام تقوم بواجبها الديني في عدم عرض الأفلام التي يخدعنا بها الغرب ويجدوننا ملهاة لهم، وأرجو من المسؤولين منع أفلام الفيديو الخليعة، لما لها من تأثير مباشر على شباب وشابات المسلمين، هذا كلام لا يقوله أحد الملتزمين أو المستقيمين بل يقوله أحد المتابعين لهذه الأفلام، وشاب آخر يوجه إلى إيجاد حل لمشكلة الحجاب والبرقع التي أساء الكثير من النساء استعمالها وأصبحن فتنة للكثير من الشباب .
ثانيا : الجليس
قد يفكر الشاب بالاستقامة، بل إنه قد يقدم عليها، بل قد يخطو خطوات عملية في ذلك، ولكن عندما يعود إلى جلسائه وزملائه سرعان ما يعود إلى حالته السابقة، والذين تم سؤالهم شفوياً اتفق أكثرهم على أن الجليس والصديق يعتبر من أهم العوائق التي تعوق الشاب عن الاستقامة، فنجد أن 48% من الفئة الثانية و 36%من طلاب المرحلة الثانوية و 29% من طلاب المرحلة المتوسطة يعتبرون ذلك من أهم الأسباب .
ومن خلال سؤال وجه للشباب عن كيفية التقائك بصديقك، فأجاب 58% من الفئة الثانية و51% من طلاب المرحلة الثانوية و 48% من طلاب المرحلة المتوسطة أنهم يلتقون بأصدقائهم يومياً، وهذا يعني قوة تأثير الصديق عندما يلتقي معه يوميًّا.
وفي بحث أجراه طالبان من طلاب قسم علم النفس في جامعة الإمام عن أسباب الجنوح أفاد 84% من أفراد العينة الجانحة أن لهم أصدقاء و56% أن أصدقاء ساهموا في انحرافهم، وهذا من وجهة نظرهم، وقد تكون النسبة الحقيقية أكثر من ذلك .
وفي دراسة أخرى أجريت لأسباب الجنوح في قسم علم النفس بجامعة الإمام أجراها عبدالرزاق الجنيدل توصل فيها إلى أن 62% من الجانحين ساهم زملاؤهم وأصدقاؤهم في انحرافهم .
وفي دراسة أيضاً أجراها سعد الأسمري عن دور التوجيه والإرشاد النفسي في الوقاية من الانحراف في المرحلة الثانوية المطورة بمنطقة الرياض وتقدم بها للمعهد العالي للعلوم الأمنية للحصول على درجة الماجستير، ومن النتائج التي وصل إليها أن 27% من هؤلاء الشباب يقول : لا أستطيع رفض طلبات صديقي ولو كانت ضارة -من وجهة نظره هو- لكنا نعلم أنه عندما يسلك طريق الانحراف فهناك طلبات كثيرة لا يرى أنها ضارة، وبالتالي لن يرفض هذه الطلبات، فإذا كان ثلث هؤلاء تقريباً لا يستطيع رفض طلبات صديقه لسبب أو لآخر فلك أن تتصور أثر الجليس بعد ذلك على زميله .
ولاشك أن الشاب عندما يعرف أن هذا الأمر بهذه الخطورة فحينئذٍ أظن أنه يوافقنا على أن أول قرار يجب أن يتخذه عندما يفكر بالاستقامة هو أن يغير جلساءه، وأن يتخلى عنهم، أما إذا تصور أنه سيسلك طريق الاستقامة وطريق الالتزام مع أصدقائه ومع جلسائه السابقين الذين يوجهونه ويشاركونه ويشجعونه على الانحراف فهذا التصور بعيد وتصور محال، و المرء على دين خليله ويحشر يوم القيامة مع من أحب، والكثير من الشباب يستجيب للموعظة ويتأثر بها بل يعزم عزيمة صادقة على التوبة، بل يسلك خطوات عملية في ذلك، ولكن عندما يعود إلى جلسائه لا يستمر، لأنهم سيسخرون منه، وقد يكون يحقق لهم مصالح متنوعة، ومن جانب آخر هذا الزميل يعرف عنهم معلومات يخشون أن تتسرب منه عندما يسلك طريق الاستقامة، لذا فإنهم لن يألوا جهداً في استعمال كافة ألوان الضغط عليه حتى يحرفوه عن هذا الطريق .
لذلك إذا كان الشاب جادًّا فعلاً، ويريد أن يسلك طريق الاستقامة فأول قرار يتخذه -بعد التوبة الصادقة لله عز وجل- هو أن يتخلى عن جميع هؤلاء الجلساء، وأن يقول لزميله أو صديقه : "هذا فراق بيني وبينك "، ويجب أن يعلم أنه عندما يفقد أولئك فإنه لن يعيش وحيداً، بل يستبدل أولئك بالجلساء الأخيار الذين يقول الله تعالى عنهم : ( الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) [ الزخرف:67] ، ويوم القيامة يود أن يفتدي الإنسان من النار بالأهل والأصحاب والأحباب بل من ضمنهم أبوه وأمه ، قال الله تعالى : ( يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصحبته وبنيه لكل امرئٍ منهم يومئذٍ شأن يغنيه ) [عبس:34-37] ، وتنقطع هذه الأواصر التي هي أقوى من أواصر الصداقة وتبقى علاقة الأخوة والمحبة في الله، فلماذا لا تستبدل تلك الصداقة السيئة التي تقودك إلى الوبال في الدنيا والآخرة والتي سرعان ما يتخلى أصحابها عنك فتأتي يوم القيامة قائلاً : ( يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً ) [ الفرقان:28]؟ .
ثالثا : عدم تصور خطورة الأمر(/3)
كثير من هؤلاء الشباب مع إدراكه لخطأ الطريق الذي هو عليه ورغبته في الاستقامة إلا أنه لا يتصور خطورة هذا الذي يسير عليه، فتراه يتساهل ويتهاون بالمعاصي بل بالكبائر والموبقات، ولا يمنعه أي وازع عن ارتكاب أي معصية أو أي فاحشة، بل تجده يسعى إليها بكل وسيلة، بل يساهم في نشرها بكل الوسائل، كما أن بعضهم قد يفعل بعض الأمور المخرجة من الإسلام كترك الصلاة أو السخرية و الاستهزاء بالدين وأهله ، و مع ذلك كله يشعر بأن الأمر ليس فيه خطورة . وكنت أتحدث مع مجموعة من الشباب من أصحاب هذه الممارسات، وهم أصحاب سفر للخارج، ويمارسون المضايقات للفتيات في الأسواق، ولهم مواقف ومشكلات كثيرة مع رجال الحسبة، ومع ذلك كله يقولون : نحن بخير، القضية هي قضية أخطاء وكلٌ يقع في هذا الخطأ ولازلنا نصلي ونصوم ونمارس ألوان الشعائر التعبدية.
أمر آخر وهو أن التعلق بهذه المعاصي قد يؤدي بالإنسان إلى سوء الخاتمة، فهذا الشاب قد يصلي وقد يعمل أعمالاً لا تخرجه من الإسلام، ولكنه عندما يكون منهمكاً في هذه الشهوات غارقاً فيها فإنه قد يختم له بخاتمة سوء فيقول بكلمة الكفر قبل موته، ومعروف مصيره ونهايته، تصوروا أن أحد هؤلاء الشباب كان غارقاً في الشهوات، وكان على موعدٍ مع أحد صديقاته لكنها تأخرت عليه فقلق عليها فلما جاءته لم يملك إلا أن سجد لها، فإلى هذه الدرجة يصل بالإنسان التعلق بالشهوة ؟
أحدهم كان صالحاً مستقيماً و تعلق بعلاقة محرمة شاذة مع أحد الشباب، وقبل موته قال كلمة عافانا الله وإياكم أدت به إلى سوء الخاتمة، حيث قال : رضاك أشهى إلي من رحمة الخالق الجليل .
أمر آخر أيضاً وهو أن هذه المعاصي قد تتدرج بالإنسان فتقوده بعد ذلك إلى الكفر والتخلي والانسلاخ من كافة الواجبات الشرعية .
أحد الشباب اتصل بي وكنت لا أعرفه، يشكو إلي أنه وقع في جريمة الزنا مع فتاة، وهذا الشاب لا يسعى إلى إيجاد حل لهذه القضية، بل يقول هل يجوز لي بعد ذلك أن أتزوج هذه الفتاة أو لا يجوز ؟! فقلت له : لماذا الاستخفاف بهذا الأمر ؟ وكيف تقع فيه ؟ فقال : يا أخي هذا خطأ، وكل إنسان يقع فيه، وكل ابن آدم خطاء، فعندما يتعامل الإنسان مع هذه المعاصي بهذا الاستخفاف وهذا المنطق فإنه بلا شك لن يرى حاجة وضرورة لأن يشتكي لأحد هذه المعاصي، ولن يسعى للتخلي عنها، فقلت له : فرق بين ما تقع فيه من نظرة محرمة أو شهوة محرمة وغير ذلك من المعاصي وبين من كانت له لقاءات طويلة مع فتاة حتى أوقعت به في جريمة الزنى !! ففيه فرق شاسع بين الأمرين، وهذا دليل على ضعف إيمانك وعلى استخفافك بهذه المعصية، بل إنك تسأل بعد ذلك : هل يجوز لي أن أتزوج ممن عاشرتها تلك العشرة المحرمة ؟! .
فمع إدراك بعض الشباب لخطأ الطريق الذي هم عليه فإنهم لا يدركون خطورة الأمر الذي هم عليه، وأظن أنهم لو أدركوا ذلك لاستطاعوا أن يتجاوزوا الكثير من تلكم العقبات .
رابعا : الفهم الخاطئ للوسطية
كلمة يتفق عليها الجميع لكن يبقى فهمها وتفسيرها، فالجميع يتفقون على أن المغالاة والمبالغة في التشدد والغلو أمر غير مرغوب فيه، ويتفقون على أن الانحراف والتفريط والكسل هو الآخر أمر غير مرغوب فيه، ويتفق الجميع على سلوك طريق الوسط، ومن الشباب من عندما تناقشه يقول لك : نعم أنا لست أسلك طريق الانحراف، ولا أنا من الشباب الملتزمين والمستقيمين، ولكني أسلك طريق الوسط، وهذا أمر نتفق عليه، بل إن سنة الله في الكون قائمة على الوسطية، و دين الله قائم على الوسطية في كل أمر، ولكن نقطة الخلاف هي تحديد الوسطية، فعندنا ثلاث مناطق : الأولى منها هي منطقة الغلو، والمنطقة الثانية الوسطية، والثالثة هي الانحراف، وتحديد هذه المناطق يختلف الناس فيه، فما هو ضابط الوسطية ؟ وما هو مفهوم الوسطية ؟ فهل المقصود بالشاب الوسط مثلاً الذي لا يتورع عن النظرة الحرام سواءٌ كانت في التلفاز أم في الفيديو أم في الشارع ؟ وهل المقصود بأن الوسط هو الذي لا يتورع عن بعض الممارسات التي يعتبرها سهلة وهينة – وكل معصية لله عز وجل لا شك أنها يجب أن تعظم في نفس المؤمن – هل هذا هو مفهوم الوسطية؟ وهل يعني التشدد الخلل والمبالغة ؟ و هل يعني التورع التام عن النظر المحرم بكافة قنواته ووسائله أو الحرص على العبادة ومحاسبة النفس عليهما تشدداً وتطرفاً ؟
و للأسف فإن مفهوم الوسطية جزء من المفاهيم التي أصابها الانحراف و الغبش في مجتمعاتنا، وتبعاً له مفهوم الغلو والتساهل التي أصابها هي الأخرى الغبش في أفهام كثير من الناس، فيقيس الشاب الوسطية بنفسه، فالطريق الذي يسير عليه هو الطريق الوسط، فما كان أعلى منه فهو تشدد، وما كان أدنى منه فهو انحراف .(/4)
إن طريق الوسطية هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالذي نهى عن الغلو هو النبي صلى الله عليه وسلم، وأول من خُوطب بالوسطية هو النبي صلى الله عليه وسلم، وإن هذه الأمة أمة وسط، فالمعيار للوسطية ؟ هو حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحياة أصحابه وحياة السلف الصالح وما زاد عنه فهو غلو، وما كان دون ذلك فهو إهمال وانحراف وتفريط .
خامسا : القدوة السيئة
قد يجد الشباب مظاهر سلبية وأخطاء من بعض الشباب الملتزمين ، فهؤلاء ضمن غيرهم ليسوا معصومين من الوقوع في الخطأ، ومع محبتنا لهؤلاء الشباب الملتزمين، ومع أننا نُسر برؤيتهم، ومع أنهم ولا شك حققوا ألواناً من الانتصار على النفس وعلى الشهوات، بل إن سلوكهم طريق الاستقامة أصلاً وطريق الالتزام في وسط هذه الشهوات وهذه الفتن، هذا بحد ذاته يعتبر انتصاراً، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعينهم وأن يثبتهم على هذا الطريق، فإن بعض هؤلاء الشباب قد يقع في أخطاء خاصة تجاه أمثال هؤلاء الشباب غير الملتزمين، فيأتي هذا الشاب غير المستقيم ويرى الشاب الآخر المستقيم قد وقع في هذه الأخطاء، فيرى شابًّا ملتزماً مهملاً في دراسته، أو يراه على سوء خلق،أو يراه مقصراً في أي جانب من الجوانب، فيقول أتريدونني أن أكون مثل فلان من الناس.
قال لك بأن هذا هو النموذج الذي تريد أن تصل إليه، فليس كل هؤلاء الشباب على هذه الشاكلة، قد تكون أنت نظرت إلى فعل واحد، أو إلى شخص واحد أو إلى عينة واحدة، فرأيت فعلاً أن هؤلاء الشباب يقعون في مثل هذه الأخطاء، فتخيلت أن جميع الشباب الملتزم بهذه الصورة، فلنفرض جدلاً أن هؤلاء الشباب الملتزمين يمارسون هذه الأخطاء، فهل هذا عذر لك عند الله سبحانه وتعالى أن تسلك طريق الانحراف، وأن ترتكب ألواناً من الكبائر والموبقات بحجة أن هؤلاء الشباب قدوة صالحة ؟ فليس عذراً لك لو كان الناس جميعاً يسلكون طريق الانحراف، بل لو كان أستاذك أو جميع الناس من حولك يدعونك ويرغمونك على طريق الانحراف، فكيف لمجرد أنك ترى بعض المواقف مع أننا نجزم أنها ليست عامة بل هي مواقف وحالات فردية.
وعندما وجه سؤال لهؤلاء الشباب : اذكر عوائق أخرى تعوقك عن طريق الاستقامة ؟
فهذه بعض الإجابات والعبارات التي وردت:
- بعضهم يقول : الملتزمون أنفسهم بتصرفاتهم التي يفعلونها للنفاق والرياء . فهو يكثر من اتهامهم بالرياء والنفاق، والسبب أنه يرى الشاب عنده حرص على العبادة والصلاة والطاعة فيراه قد وقع في خطأ، ومن خلال هذا الخطأ يتهمه بالرياء والنفاق، والشاب الملتزم قد ينهاك عن الغيبة و يغلظ أمرها لكنه قد يقع فيها، وإذا منعنا الناس من الإصلاح لخطأ وقعوا فيه فمن ينصح الناس، يقول الشاعر:
إذا لم يعظ الناس من هو مذنب *** فمن يعظ العاصين بعد محمد
- والآخر يقول : الملتزمون سبب عدم استقامتي لقيامهم ببعض التصرفات السيئة، وتدخلهم فيما لا يعنيهم واحتقار الآخرين .
و عندما طلب من أحدهم توجيه كلمة للملتزم قال : يترك العزلة والأنانية، ويكسر الحواجز بينه وبين غير الملتزمين .
ونسأل كثيراً عن الملاحظات التي ترد على هؤلاء، فيجيبنا أحد الشباب بكلمة رائعة كتبها وهو غير ملتزم فقال: إن العيون موجهة إليكم، عيون أهل الشر وعيون أهل الخير، فكونوا على أهبة الاستعداد.
سادسا : عدم وجود المعين
قد لا يجد الشاب من يعينه على طريق الاستقامة أو طريق الخير، والبشر لا يستغنون عن ذلك، ولذلك يخاطب الله سبحانه وتعالى نبيه فيقول : (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم ) [ الكهف:28] ، وهاهو موسى يدعو ربه فيقول (واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزري) [ طه:29-31] ، ويقول تعالى له: (سنشد عضدك بأخيك ) [ القصص:35]، فإذا كان الأنبياء يحتاجون إلى من يعينهم على هذا الطريق فغيرهم من باب أولى، ولذلك فإن 80% من طلاب المرحلة المتوسطة و 71% من طلاب المرحلة الثانوية و79% من فئة الشباب الملتزم أفادوا بأن الرفيق الصالح من الأسباب المعينة على الاستقامة.
إذاً فابحث عن هذا الجليس فإنه خير معين لك .
سابعا : ضغط البيئة(/5)
قد تكون البيئة تضغط على الشاب، فقد يكون الشاب في بيت غير محافظ، فهذا أحدهم يقول: السبب في عدم استقامتي والدي الذي لا يشهد حتى صلاة الجمعة، ويقترف أمامي كافة أنواع الفساد والانحراف، فماذا تريدني أن أصنع بعد ذلك، وإن كانت هذه الحالات قليلة لكن هناك ضغط آخر قد لا يستطيع تحمله بعض الشباب وهو السخرية، ولذلك بعض الشباب قد يعتبر السخرية عائقاً من عوائق الاستقامة و الالتزام، فهو عندما يسلك طريق الاستقامة والالتزام سيواجه سخرية من القريبين والبعيدين، بل للأسف إن البعض من الآباء والأقارب يمارسون ألواناً من هذه السخرية مع أبنائهم ويتهمونهم بنوع من التشدد فيشكل هذا نوعاً من الضغط النفسي على الشاب فلا يستطيع أن يتحمله، ولذلك فإن 27% من طلاب المرحلة المتوسطة و20% من طلاب المرحلة الثانوية يعتبرون السخرية عائقاً من عوائق الاستقامة.
ونلاحظ هنا أنه كلما تقدم سن الشاب أصبح أكثر قدرة على تحمل ضغط الآخرين، فإنه لصغر سنه قد لا يستطيع أن يتحمل ويواجه هذه السخرية، وغاية ما تقوله لهؤلاء الشباب أن عزاءكم فيما تواجهون أن أنبياء الله عليهم صلوات الله وسلامه عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام قد وُوجهوا بالسخرية والإيذاء، فلن تكونوا خيراً من أنبياء الله، فإذا سُخر من أنبياء الله فغيرهم من باب أولى .
ثامنا: ثقل التكاليف
فغير المستقيم يعلم أنه سيترتب على استقامته تكاليف شرعية مثل التخلي عن الشهوات وتحمل بعض الواجبات وبعض الأعباء التي لا يحرص عليها كالاستيقاظ لصلاة الفجر، وسيعرف أن الحياة والتكاليف ستكون ثقيلة عليه، ولذلك قد يتردد في الالتزام بهذا الأمر، فمثلاً 34% من طلاب المرحلة المتوسطة و 35% من طلاب المرحلة الثانوية ذكروا أن من عوائق الالتزام عدم القدرة على تحمل الالتزام، إذاً ثلث هؤلاء الشباب يرون أنهم لن يستطيعوا تحمل تكاليف حياة الاستقامة والالتزام، فنقول لهم: نعم إن هذه التكاليف قد تكون ثقيلة في البداية ولا بد منها لأنها ضريبة الالتزام، قال الله تعالى :(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله آلا إن نصر الله قريب ) [البقرة:214] فهي ضريبة لسلوك درب السعادة، وضريبة للحصول على طريق الجنة، فإن الجنة حفت بالمكاره والنار حفت بالشهوات، وثمن لابد أن يدفعه الشاب، لكنه إذا قام بهذه التكاليف سرعان ما ينسى هذه المشقة التي نتصور أنها عبئاً على كاهل هؤلاء الشباب فتصبح لذة وسعادة يجدها المرء في طاعة الله سبحانه وتعالى .
تاسعا : العجز عن اتخاذ القرار الحاسم
من النتائج المفاجئة أن 92% من طلاب المرحلة المتوسطة و 92% من طلاب المرحلة الثانوية سبق أن فكروا بالالتزام،إذاً القضية ليست قضية عدم قناعة بل هو فكر فعلاً أن يسلك طريق الالتزام، بل إن 74% من طلاب المرحلة المتوسطة و71% من طلاب المرحلة الثانوية فكروا أكثر من ثلاث مرات، فهذا يعني أنه قد تكرر تفكيره وعزمه على هذا الأمر، بل إن كثيراً منهم قد خطا خطوات عملية في ذلك لكنه لم يستطع فما هو السبب؟ قال بعضهم: ضعف الإرادة، فهذا الشاب يبقى أمامه قرار يجب أن يتخذه، وقرار حاسم سيغير حياته كلها، قرار يودع به حياة الغفلة والإعراض، ويسلك طريق الالتزام والاستقامة، وهذا القرار سيحتاج إلى عزيمة قوية.
وإليكم هذه العبارات التي قالها بعض الشباب من خلال الكلمة الأخيرة :
- يقول أحدهم :كنت أتمنى منذ الصغر أن أكون شيخاً وخطيباً.
ويقول آخر : أشكر الأستاذ على هذا الاستبيان، وإن شاء الله في الاستبيان القادم يكون ردي على سؤالك : هل أنت ملتزم أم لا، فأقول وبكل سرور: إنني ملتزم بإذن الله وجزاك الله خيراً .
إذاً ما الذي يمنعك من الالتزام ؟ وما الذي يمنعك من الاستقامة ؟ إذا هو اتخاذ هذا القرار .
عاشرا: الاعتذار بالقدر
فمثلاً يقول أحدهم: كل شيء موجود لكن ينقص توفيق الله سبحانه وتعالى، فالذي يمنعك ويحول بينك وبين طريق الاستقامة توفيق الله تعالى، ألم تر أنك تجتهد في دراستك وتُجد للاستعداد للامتحان، فلماذا لا تنتظر توفيق الله الذي تنتظره حتى يقودك لطريق النجاح في الامتحان، فمطالب الدنيا تجتهد فيها ولا تنتظر توفيق الله، وأما الهداية فلا تجتهد وتنتظر توفيق الله .
أيضاً كثير من الشباب عندما وجهنا له سؤالاً يقول : إنك لا تهدي من أحببت، وأن الهداية بيد الله سبحانه وتعالى، نعم الهداية بيده سبحانه وتعالى والضلالة كذلك بيد الله سبحانه وتعالى، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"يكتب للإنسان رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد" فأنت الآن تسلك طريق الشقاوة وتقول :لم يرد الله هدايتي فاخترت أحد الطريقين، فما بالك تجتهد في طلب الرزق ولا تتكل على القدر، و تتجنب المخاطرة خشية الموت ولا تتكل على القدر، أما طريق الشقاوة وارتكاب الشهوات فتسلكها ولا تحتج بالقدر، فهذه مجرد مخادعة نفسية .(/6)
العائق الحادي عشر: التدخين
أحدهم قال في كلمته الأخيرة: عائق آخر كنت أنتظر أن تسألني عنه، وهو عائق التدخين الذي أعاني منه شخصياً، وأيضاً بعض الشباب الذي وُجه لهم السؤال الشفوي أفادوا أن التدخين مما يعوقهم عن سلوك طريق الاستقامة، ولهؤلاء نقول : إن هذا الدين قد نزل على أقوام يتغنون بالخمر وأحدهم يقول :
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة *** تروي عظامي بعد موت عروقها
ولا تدفني في الفلاة فإنني *** أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
وقال آخر :
ونشربها فتتركنا ملوكاً *** وأسداً ما ينهنهنا اللقاء
والكثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يشربون الخمر، بل كانوا مدمنين عليها، وكانوا يتغنون بها، وعندما نزل تحريمها تخلوا عنها ،ولا يشك أحد أن التعلق بالخمر أشد على الإنسان من التعلق بالتدخين.
العائق الثاني عشر : التسويف
وقد ورد أيضاً ضمن العوائق التي ذكرها الشباب ووردت فيه إجابات شفوية لبعض الشباب فيقول أحدهم : إن البعض منا يقول حتى أتزوج، والبعض منا يقول حتى أتخرج، حتى يتقدم بي العمر، وهذا نسى أو جهل أنه قد تخطفه المنية قبل أن يعمل ما أراد، ويقول أحدهم في الكلمة الأخيرة: إن شاء الله مهما بعُد الزمن فسوف أعود إلى الله، وأعمل الأعمال الصالحة إن شاء الله تعالى، إذاً ما الذي يمنعه ؟ الذي يمنعه هو التسويف، فهو يقول لابد أن أعود إلى الله وإلى الاستقامة والالتزام ولو بعد زمن.
العائق الثالث عشر: انتظار المصائب
وهذا أيضاً تكرر في الإجابات الشفوية، فعندما تسأل الشاب يقول : أنه ينتظر أن يحصل له حادث أو أن يموت له قريب أو أن يحصل له أمر يعظه ويدعوه ليسلك طريق التوبة، أيضاً من الإجابات التي وردت عن العوائق الأخرى يقول أحدهم : حادث، أو كالأمور الأخرى التي تؤثر على الشباب حتى يسلك طريق الاستقامة .
ويقول أحدهم : حادث مروع يشاهده، وآخر يقول : أن يرى حادثاً أو يموت أحد أقربائه، والكثير من الشباب أجابوا أن هذه من الوسائل التي تؤثر على الشاب، فحينئذٍ نسأل هذا السؤال : افترض أنه لم يحصل لك هذا الشيء، بل مت أنت قبل أن يحدث لك ما يهز مشاعرك، فما هو مصيرك ؟و تصور أنك في مصير من اتعظت به.
البعض من الشباب كان من سبب استقامته أنه لما عاد من سفر الخارج اكتشف أن عنده بعض الأمراض فخشي أن تكون أمراضاً جنسية، وأصابه الذعر والخوف، وبعد ذلك قرر التوبة، وبعد إجراء التحاليل اكتشف أنه لم يكن مرضاً جنسيًّا وإنما كان مرضاً عاديًّا.
و بعد الحديث عن هذه العوائق ننتقل إلى نقطة أخرى وهي الأخيرة :
أدوار مهملة
بقي أن أقول أن ما عرضته عن هذه العوائق إنما هو مجرد عرض لها، وبقي الحديث عن أدوار مهملة يجب أن تستغل لإنقاذ هؤلاء الشباب :
1- خطبة الجمعة :
فـ 75% من المتوسطة والثانوية يرون أن خطبة الجمعة لا تؤثر على الشباب في سلوك طريق الالتزام، وقال أحدهم بالحرف الواحد: خطبة الجمعة يحضرها الجميع، وهي ليست مثل المحاضرات والأشرطة حيث يحضرها جميع المسلمين وينصتون لها ويسمع فيها الشاب ما لا يسمعه في غيرها، فيجب أن يعتني بها، ويجب أن يوجه خطاب خاص لهؤلاء الشباب فيه نقاش عقلي منطقي وموعظة تسلك كافة الأساليب والوسائل لمخاطبة أمثال هؤلاء الشباب، فهؤلاء الشباب يشتكون أنهم لا يخاطبون بخطب الجمعة، ولا توجه لهم هذه الخطب.
2 - إمام المسجد:
من أهم مسؤوليات إمام المسجد المساهمة في دعوة الناس إلى الله سبحانه وتعالى، فإمام المسجد يقابل هذا الشاب في المسجد وعند منزله وعند المحلات التجارية وفي الحي ، فما دوره ؟
86% من طلاب المرحلة المتوسطة و80% من المرحلة الثانوية و 81% من الفئة الملتزمة يقولون أنهم لم يتلقوا نصيحة من إمام المسجد، إن مهمته ليست محصورة في إمامة الناس، فأينها في إنكار المنكرات، وفي نصح هؤلاء الشباب وفي توجيههم، خاصة أنه يعيش معهم وفي الحي ويلتقي معهم كل يوم ولا يقتصر أيضاً على إلقاء الكلمات لأنه قد يلقي كلمة وهؤلاء يخرجون بعد الصلاة .
3- الأب:
مما يؤسف له أن 55% من طلاب المرحلة المتوسطة و 51% من المرحلة الثانوية و 76% من الفئة الملتزمة لم يتلقوا نصيحة من والدهم ، مع أن دور الأب لا يقتصر على النصيحة، فإذا كان أكثر من نصف الآباء لم يوجه لابنه النصيحة الخاصة بالالتزام فماذا بعد ذلك، وانظر إلى ما يقوله هؤلاء الشباب عن آبائهم :
في الدراسة التي أشرت إليها وهي دور التوجيه والإرشاد النفسي في الوقاية من الانحراف تبين أن 28% من الطلاب يقولون : لا يأخذنا والدنا إلى النزهة خارج المنزل لماذا ؟ لأنه يذهب مع أصحابه !! فالشاب يريد أن يذهب خارج المنزل للنزهة فإذا لم يأخذه والده من سوف يأخذه ؟ ومع من سيذهب ؟ .
وقال 21%: قليلاً ما يسألني أبي عن أحوالي .
وقال 17% : عندما أعود متأخراً لا يسألني والدي .(/7)
فهذا فقط مجرد السؤال لكن الذين يسألون لا يعني أنهم يهتمون، فقد يسأل الأب :أين كنت فيقول : مع فلان، فتنتهي القضية عند مجرد السؤال دون اكتشاف الخطأ، ولو اكتشف الخطأ فماذا يصنع ؟.
وقال 44.5% : لا أستطيع التحدث مع والدي بصراحة، فإذا لم يستطع فمع من سيتحدث ومن سيوجهه ؟ ولهذا لن يجد إلا أصدقاء السوء.
أيضاً عندما وجه سؤال لهؤلاء الشباب أفاد الكثير منهم أن الآباء لا يعلمون حقيقة ما يفعله أبناؤهم، فهو يعرف أن ابنه يذهب ويأتي مع فلان لكن ماذا يصنع ابنه فهو لا يدري .
وهذه صورة تتكرر فيقف الأب في مركز الهيئة أو عند رجال الشرطة وبعد أن يقع ابنه في مصيبة أو جريمة ويقول لم أكن أتوقع هذا ويجهل أن القضية كانت منذ سنوات، ولئن نسيت فإني لا أنسى موقف شاب رأيته يبكي أمامي ويوجه اللوم لأبيه الذي اكتشف أنه يدخن وعاتبه فقال له : الآن وقد وقعت في هذا الأمر منذ ثلاث سنوات، إن السبب هو أنت، فإذا كان التدخين الذي تظهر عليه علامات ظاهرة أصلاً قد لا يكشفه الأب إلا في مرحلة متأخرة فما بالك بالممارسات الأخلاقية التي قد تكون أخطر .
فكثير من الآباء لا يعرف ماذا يصنع ابنه، فإما أنه يحسن الظن، أو يعرف أنه يذهب مع فلان ابن فلان ويظن معرفته وغيرها من الأمور التي يخدر بها نفسه .
وطلب من الشباب توجيه رسالة للأستاذ، الداعية، الأب.
يقول أحدهم : مؤاخاة الابن والتحدث معه بصراحة وسماع مشاكله، لماذا فلان أباه لا يفعل شيء من .........
والآخر يقول : إذا كان رب البيت .................. .
والآخر يقول : إن من واجب الأب مساعدة ابنه في فك عوائق الالتزام .
والآخر يقول : أبي أعطني جزءاً من وقتك .
والآخر يقول : الأب لا يدري ماذا بابنه أو ماذا يفعل ابنه .
والآخر يقول : لا تقطع عملك الصالح في الدنيا ( أو ولد صالح يدعو له ) .
هذه هي عبارات الشباب الذين ليسوا على طريق الاستقامة و الالتزام وهذه بعض رسائلهم لآبائهم، وغيرها كثير، فكلها تعكس صورة الإهمال، وصورة الغيبوبة المطلقة عند الكثير من الآباء عن واقع أبنائهم إما أنه يجهل واقع أبنائه ولا يريد أن يعلم، أو أنه يهمل ولا يدرك المسؤولية، أو قد يدرك للأسف أن ابنه في طريق الانحراف وطريق الغواية ومع ذلك لا يحرك ساكناً وكأن الأمر لا يعنيه .
ما موقف هذا الأب الذي يأتي أول الناس إلى المسجد وابنه قد لا يشهد الصلاة، وتجد الأب أحياناً يتهجد بالليل وابنه في الخارج لا يدري ماذا يصنع .
إن الذي نريد منك أن تؤدي المسؤولية التي عليك التي سيسألك الله عنها يوم القيامة، فما الذي يدفعك أن تترك الدنيا وتأتي إلى المسجد قبل الأذان ؟!! .و ما الذي يدفعك إلى أن تهجر لذة الفراش وتقوم الليل ؟!! . وما لذي يدفعك إلى الاجتهاد في النوافل والصدقة ؟!! . أليس مرضاة الله عز وجل، ألا يدفعك ذلك للشعور بالمسؤولية؟
أنا لا أدعو الآباء أن يشكُّوا بأبنائهم،ولكن أدعو الأب أن يكون واقعيًّا، ويعرف حقيقة ما يجري، وبدلا من أن تسهر مع فلان أو فلان أو أن تجلس مع زملائك تتبادلون الأحاديث، خذ أبناءك إلى نزهة، واقض وقتك مع أبنائك، وقدم لهم البديل الذي يشغل أوقاتهم، وابحث لهم عن الجلساء الصالحين.
وعندما وجه سؤال للشباب عن قدر وقت الفراغ اليومي في الإجازة أجاب أكثر من نصفهم أنه سبع ساعات يوميًّا ، فماذا يصنع بهذه الساعات وهو يقول لوالده أعطني جزءاً من وقتك؟
أقول إن عرض هذه النتائج والحديث عنها طويل جدًّا وبقيت جوانب أخرى، خاصة الجوانب الإيجابية لم نتحدث عنها، ستكون موضوع الحديث في المحاضرة القادمة بعنوان (من حق إخوتنا علينا)(/8)
عوائق الاستقامة
يتناول الدرس فئة مهمة من طبقات المجتمع ألا وهي : فئة الشباب، ومرحلة الشباب؛ نظراً لأنها تحدد بشكل , أو بآخر مصير الإنسان بعد ذلك، فهي أساس لما بعده فعرض لأهم العوائق التي تواجه الشباب وتقف حائلا أمام استقامته .
الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد : فهذا الموضوع يخاطب فئة مهمة من طبقات المجتمع ألا وهي : فئة الشباب، ومرحلة الشباب مرحلة أساسية في العمر ؛ نظراً لأنها تحدد بشكل , أو بآخر مصير الإنسان بعد ذلك، فهي أساس لما بعده .
لماذا الشباب ؟
الشباب هم عماد هذه الأمة، وعليهم مسئوليات جسيمة في بناء الأمة والنهوض بها، وهم أمل الأمة بعد الله سبحانه وتعالى في المستقبل ؛ لذا كان لزاماً أن نعنى بهذه الطبقة من المجتمع .كذلك يلاحظ انتشار ألوان الانحراف والشذوذ لدى طبقات كثيرة من الشباب، تتمثل في : انحراف الجوانب الأخلاقية، وانتشار الممارسات الشاذة في ذلك مما أدى إلى البعد عن طريق الاستقامة , وسلوك كثير من أبواب , ووسائل الانحراف .
و هؤلاء الشباب الذين نعنيهم يعيشون في الواقع في عالم آخر يجهله الكثير من الناس، بل كثير من آباء هؤلاء الشباب –كما سيأتي- لا يعلمون ما يصنع هؤلاء الشباب، ويجهلون تفاصيل دقيقة ومهمة جدًّا في حياة أبنائهم قبل أن تكون في حياة غيرهم من أبناء الناس.
لذا لابد من إلقاء الضوء على هذا العالم، وأن نكتشف واقع هؤلاء الشباب، ونحاول أن ندرس واقعهم، وألا يكون الحديث حديثاً عاطفياً ، لأن هذا ليس منهجاً علمياً، فنحن نريد أن نتحدث عن واقع , ومعرفة مع دراسة متأنية لهذا الواقع , و قد اتضح لنا من خلال الدراسات التي أجريت قبل إلقاء هذه المحاضرة : أن الكثير من هؤلاء الشباب _ وإن كان عنده انحراف و فساد _ فهو يحمل جوانب خيرة ، يحمل البذرة الطيبة، ولازال على الفطرة الخيرة خاصة أن أكثر هؤلاء الشباب بل عامتهم إنما ضلاله ناشئ عن الشهوات , وليس عن الشبهات ولا عن الشك، وعندما يكون الأمر بهذه الصورة فإن ذلك يدعونا إلى العناية بمثل هذا الأمر، فإنه قد يسهل تدارك أحوال الكثير منهم .
مصادر هذا الموضوع: موضوع يعني قطاعا كبيرا من الشباب ؛ لا ينبغي علاجه آنيًّا وعاطفيًّا، ولا يكون مجرد خواطر يسجلها المتحدث , ثم يلقيها أمام الناس، بل ينبغي أن يكون ناشئاً عن دراسة متأنية وواعية ؛ لذلك حرصت على التأني في هذا الموضوع , و دراسته من كافة الجوانب، بالاعتماد على هذه المصادر :
1- قمنا بإعداد استبانة , أو استبانتين تم توزيعهما على فئتين من الشباب :
الأولى : وزعت على شباب غير مستقيمين .
والثانية : وزعت على شباب هداهم الله تعالى للاستقامة بعد أن كانوا على طريق الانحراف. وقد تم فرز [ 92] استبانة للشباب غير المستقيم في المرحلة المتوسطة و [200] استبانة لشباب المرحلة الثانوية .
أما الفئة الثانية التي تمثل الفئة التي هداها الله تعالى , فقد تم فرز[ 86 ] استبانة، و بقيت مجموعة لم نتمكن من فرزها , وإخراج نتائجها : منها ما يختص ببعض المعاهد الفنية والمهنية ... ومنها ما يختص ببعض الطلاب الجامعيين ... ومنها ما يختص ببعض الموظفين.
2- إجراء مقابلات شفوية , وحوار , ونقاش مع بعض الشباب، فقمنا بزيارة بعض الشباب على الأرصفة، ومن ثم طرح الموضوع , وتم النقاش معهم , وأخذ وجهة نظرهم في الموضوع؛ لأن الموضوع يعنيهم بصورة مباشرة _ وسنشير إلى نتائج بعض المقابلات إن شاء الله _ .
3- هناك دراسة أجرتها إحدى الأخوات في بعض مدارس البنات، وتم الحصول عليها عن طريق أحد أقاربها، واستفدنا منها أيضاً، والدراسة مشابهة لهذه التي قمنا بها , وإن كانت على نطاق أضيق .
4- محاولة مراجعة بعض البحوث , والدراسات التي أجريت حول الطلاب , ومشاكلهم.
عوائق الاستقامة: كثير من الشباب يدرك أنه على طريق خاطئ، ويتمنى أن يسلك طريق الاستقامة لكن هناك عوائق وحواجز تحول بينهم , وبين طريق الاستقامة، وعندما نتحدث عن هذه العوائق لا نعني أنها تعتبر عذراً , ومانعاً لهم، فإن كل شاب مسئول أمام الله سبحانه وتعالى مهما كان عنده من العوائق والعقبات ؛ فإن الله سبحانه وتعالى لم يكلفه إلا بما يستطيع، و لن يحاسبه إلا على أعماله، ولئن كان البعض يدعي : أن الذي يمنعه , ويحجزه عن سلوك طريق الالتزام والاستقامة هي هذه العوائق , فهناك الكثير من الشباب عندهم من العوائق التي لا تقارن أبداً تلك العوائق التي يحتج بها هؤلاء الشباب . و أول عائق من هذه العوائق , وأهمها من خلال الدراسة التي أجريت هو :(/1)
أولاً: التعلق بالشهوات: لقد وجدنا أن [ 62% ] من طلاب المرحلة المتوسطة و [ 56 % ] من طلاب المرحلة الثانوية و [ 52 % ] من الفئة التي هداها الله يرون أن التعلق بالشهوات يعتبر عائقاً من عوائق الاستقامة، ومن خلال الحوارات الشفوية التي أجريناها مع الشباب على الأرصفة يكاد يتفق الكثير منهم على أن هذا العائق : يعتبر من أكبر العوائق التي تعوق عن طريق الاستقامة، فالشاب يعرف الحق , ويراه واضحاً لكن نفسه قد تعلقت بهذه الشهوة ، فأصبح أسيراً لا يستطيع الانتصار على نفسه، ولا يستطيع أن يترك هذا الطريق ؛ لأنه يعلم أنه سوف يخسر هذه الشهوات واللذات التي يجدها . و مما يؤيد هذه القضية انتشار وسائل الفساد , والانحراف , والإثارة , ومنها :
التلفاز: وجدنا أن : [ 86% ]من طلاب المرحلة المتوسطة , و [ 85% ] من طلاب المرحلة الثانوية , و [ 83% ] من شباب الفئة الثانية الملتزمة : يتابعون برامج التلفاز، فهذا يعني أن الغالبية العظمى من هؤلاء الشباب يتابع متابعة شبه كاملة لبرامج التلفاز، وتعرفون ماذا يعني الشباب من هذه البرامج , وماذا يشاهدون . أتظن أنهم يتابعون الأخبار العالمية , أو البرامج العلمية , أو الكشوفات الجديدة , أو يتابعون ما يسمى بالبرامج الدينية , أم أنهم يتابعون أمراً آخر؟ ولقد وجدنا أن :
[ 45% ] منهم : يفضل المسرحيات , و [ 43 % ] يفضل التمثيليات، ومعروف ما وراء ذلك من صور فاتنة ومثيرة، ومما يزيد الأمر خطورةً هو وجود أجهزة الاستقبال المباشر , وانتشارها الواسع حتى أنه : لا يكاد يخلو بيت إلا وفيه جهاز من هذه الأجهزة، ومع ذلك نجد صمتاً مطبقاً من كثير ممن يعنيهم من عامة المسلمين، مع أنه لا يخفى على أحد ما ينشأ عن هذه الأجهزة من مخاطر لا تحصى، ومنها :
*مخاطر عقدية , ودينية : كعرض حلقات للتنصير , والتبشير , والتشكيك في الدين .
*مخاطر أخلاقية : ولست بحاجة عن الحديث عما يجري في تلك القنوات التي تستقبل من كافة أنحاء العالم .
*مخاطر أمنية:فالشاب يرى في هذه القنوات كيف ترتكب الجرائم،وكيف يخطط لارتكابها،وكيف تتم أعمال السطو، و تهديد الناس، وهو بالتالي سيستعمل هذه الوسائل لتهديد أمن مجتمعه .
*مخاطر سياسية : فبعض بلاد المسلمين لا تعرف المظاهرات , ولا أعمال العنف , ولا تعرف أيضاً أعمال الشغب، فما موقف شباب المجتمع عندما يرون المظاهرات التي تقام في البلدان الأخرى ؟ أو عندما يشاهدون أعمال الشغب , و الانتفاضات التي يقوم بها من يسمون بالمعارضة أو غيرهم ؟ وكيف سيكون أثر تلك الأمور عليهم ؟ ولهذا فإن واحداً من هذه المخاطر ؛ كافٍ لأن يتخذ قرار حاسم فيه،والقضية تعنيكم جميعاً، فالذي سيتضرر هم أبناؤكم وأحفادكم، وستكون النتيجةوخيمة .
الفيديو : من الوسائل الخطيرة أفلام الفيديو،فـ [ 81 % ] من هؤلاء الشباب يشاهدون أفلام الفيديو، ولك أن تتصور ما يشاهده هؤلاء الشباب في هذه الأفلام !!! فأكثر هذه الأفلام التي يحرص الشباب على مشاهدتها أفلام ساقطة، وهذه الأفلام كما أفاد الكثير من هؤلاء: أفلام جنسية، والبعض الآخر يقول : أفلام ساقطة، وبعضهم يقول : أفلام ممنوعة، والبعض أخذ يعبر بعبارات تشعر بذلك فأحد الشباب يقول : إذا بليتم فاستتروا، وآخر يقول : أستحي من ذكرها، وكل يدور حول هذا القصد وهذا المضمون، أما بقية الأفلام فأحسنها حالاً الذي يعرض الصور , واللقطات الفاتنة المثيرة لغريزة هؤلاء الشباب، فما موقف هؤلاء الشباب عندما يشاهدون مثل تلكم الأفلام ؟
بل إنه مما يزعج , ويبعث القلق أيضاً هو أن : [ 53% ] من طلاب المرحلة المتوسطة , و [ 49% ] من طلاب المرحلة الثانوية يشاهدون هذه الأفلام خارج منازلهم , وهي قضية خطيرة، فقد لايوجد جهاز فيديو داخل البيت , فيستطيع مشاهدة هذه الأفلام خارج المنزل , والأب المسكين قد لا يعلم ذلك .... ثم ما نوعية هذه الأفلام التي سيشاهدها مع زميله، وما الذي سيجري بعد ذلك عندما يقوم الشباب بالمشاهدة المشتركة لهذه الأفلام ؟ أترك الإجابة لكم!.
وفي دراسة لتحصيل درجة الماجستير لعبد العزيز الشثري بعنوان : 'وقت الفراغ وشغله في مدينة الرياض ' توصل فيها إلى نتائج منها :
أن : [ 67% ] من شباب المرحلة الثانوية يمتلكون أجهزة فيديو مع ملاحظة أن الدراسة التي أجراها هي دراسة عامة لا تختص بهذه النوعية من الشباب التي نتحدث عنها، وأيضاً أفادت الدراسة أن : [ 45% ] من هؤلاء الشباب يقضي وقت الفراغ في مشاهدة الفيديو.
المجلات : تبين من الدراسة التي قمنا بإجرائها أن : [ 37% ] من طلاب المرحلة المتوسطة , و [ 38% ] من طلاب المرحلة الثانوية , و [ 34% ] من الفئة الثانية يقرءون المجلات، فهذا يعني أن ثلث هؤلاء الشباب يقرءونها.
ومن خلال الاستبانة كان سؤال آخر هو : اذكر عوائق أخرى تعوقك عن الاستقامة ؟(/2)
فيقول أحد الشباب : إن القابض على دينه في هذا الوقت كالقابض على الجمر، والآخر يقول: التلفاز، والآخر يقول : حب الصديق وعزته علىَّ.
وكان من ضمن الأسئلة :كلمة أخيرة تود أن تقولها ؟ فإليكم هذه النماذج التي كتبها مجموعة من الشباب : يقول أحدهم : نعم، أجزم أن كثيراً من الشباب غير ملتزمين، وسبب ذلك ثلاثة أشياء هي : النساء الفاتنات في السوق , وكتابة الأرقام لهن .... الصور الخليعة .... الهاتف والمكالمات مع النساء، فقد سمعت أن بعضهن متزوجات , ويتكلمن وقت الفراغ مع الشباب .
شاب آخر من هؤلاء الشباب يقول : أتمنى من الله أن يجمعنا بكم في فسيح جناته، فحبذا لو أن وسائل الإعلام تقوم بواجبها الديني في عدم عرض الأفلام التي يخدعنا بها الغرب , وأرجو من المسئولين منع أفلام الفيديو الخليعة، لما لها من تأثير مباشر على شباب وشابات المسلمين . هذا كلام لا يقوله أحد الملتزمين , أو المستقيمين بل يقوله أحد المتابعين لهذه الأفلام، وشاب آخر يوجه إلى إيجاد حل لمشكلة الحجاب والبرقع التي أساء الكثير من النساء استعمالها , وأصبحن فتنة للكثير من الشباب .
ثانيا : الجليس: قد يفكر الشاب بالاستقامة، بل إنه قد يقدم عليها، بل قد يخطو خطوات عملية في ذلك، ولكن عندما يعود إلى جلسائه وزملائه سرعان ما يعود إلى حالته السابقة، والذين تم سؤالهم شفوياً اتفق أكثرهم على أن الجليس والصديق يعتبر من أهم العوائق التي تعوق الشاب عن الاستقامة، فنجد أن : [ 48% ] من الفئة الثانية , و [ 36% ] من طلاب المرحلة الثانوية , و [ 29% ] من طلاب المرحلة المتوسطة يعتبرون ذلك من أهم الأسباب .
ومن خلال سؤال وجه للشباب عن كيفية التقائك بصديقك، فأجاب [ 58% ] من الفئة الثانية , و [ 51 % ] من طلاب المرحلة الثانوية , و [ 48% ] من طلاب المرحلة المتوسطة أنهم يلتقون بأصدقائهم يومياً، وهذا يعني قوة تأثير الصديق عندما يلتقي معه يوميًّا. وفي بحث أجراه طالبان من طلاب قسم علم النفس في جامعة الإمام عن أسباب الجنوح أفاد [ 84% ] من أفراد العينة الجانحة أن لهم أصدقاء , و [ 56% ] أن أصدقاءهم ساهموا في انحرافهم، وهذا من وجهة نظرهم، وقد تكون النسبة الحقيقية أكثر من ذلك .
وفي دراسة أخرى أجريت لأسباب الجنوح في قسم علم النفس بجامعة الإمام أجراها : عبدالرزاق الجنيدل توصل فيها إلى أن : [ 62% ] من الجانحين ساهم زملاؤهم , وأصدقاؤهم في انحرافهم .
وفي دراسة أيضاً أجراها : سعد الأسمري عن : ' دور التوجيه والإرشاد النفسي في الوقاية من الانحراف في المرحلة الثانوية المطورة بمنطقة الرياض ' وتقدم بها للمعهد العالي للعلوم الأمنية للحصول على درجة الماجستير، ومن النتائج التي وصل إليها أن : [ 27% ] من هؤلاء الشباب يقول : لا أستطيع رفض طلبات صديقي ولو كانت ضارة -من وجهة نظره هو- لكنا نعلم أنه عندما يسلك طريق الانحراف , فهناك طلبات كثيرة لا يرى أنها ضارة، وبالتالي لن يرفض هذه الطلبات، فإذا كان ثلث هؤلاء تقريباً لا يستطيع رفض طلبات صديقه لسبب , أو لآخر فلك أن تتصور أثر الجليس بعد ذلك على زميله .
ولاشك أن الشاب عندما يعرف أن هذا الأمر بهذه الخطورة ؛ فحينئذٍ أظن أنه يوافقنا على أن أول قرار يجب أن يتخذه عندما يفكر بالاستقامة هو : أن يغير جلساءه، وأن يتخلى عنهم، أما إذا تصور أنه سيسلك طريق الاستقامة , وطريق الالتزام مع أصدقائه , ومع جلسائه السابقين الذين يوجهونه ويشاركونه , ويشجعونه على الانحراف , فهذا التصور بعيد وتصور محال، و المرء على دين خليله ويحشر يوم القيامة مع من أحب . والكثير من الشباب يستجيب للموعظة , ويتأثر بها بل يعزم عزيمة صادقة على التوبة، بل يسلك خطوات عملية في ذلك، ولكن عندما يعود إلى جلسائه لا يستمر، لأنهم سيسخرون منه، وقد يكون يحقق لهم مصالح متنوعة، ومن جانب آخر هذا الزميل يعرف عنهم معلومات يخشون أن تتسرب منه عندما يسلك طريق الاستقامة، لذا فإنهم لن يألوا جهداً في استعمال كافة ألوان الضغط عليه ؛ حتى يحرفوه عن هذا الطريق .(/3)
لذلك إذا كان الشاب جادًّا فعلاً، ويريد أن يسلك طريق الاستقامة فأول قرار يتخذه -بعد التوبة الصادقة لله عز وجل- هو أن يتخلى عن جميع هؤلاء الجلساء، وأن يقول لزميله أو صديقه : 'هذا فراق بيني وبينك '، ويجب أن يعلم أنه عندما يفقد أولئك فإنه لن يعيش وحيداً، بل يستبدل أولئك بالجلساء الأخيار الذين يقول الله تعالى عنهم : ] الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [ 67 ] [ سورة الزخرف ، ويوم القيامة يود أن يفتدي الإنسان من النار بالأهل والأصحاب والأحباب بل من ضمنهم أبوه وأمه ، قال الله تعالى: ] يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [ 34 ] وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [ 35 ] وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [ 36 ] لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [ 37 ] [ سورة عبس ، وتنقطع هذه الأواصر التي هي أقوى من أواصر الصداقة , وتبقى علاقة الأخوة والمحبة في الله، فلماذا لا تستبدل تلك الصداقة السيئة التي تقودك إلى الوبال في الدنيا والآخرة والتي سرعان ما يتخلى أصحابها عنك , فتأتي يوم القيامة قائلاً : ] يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا [ 28 ] [ سورة الفرقان .
ثالثا : عدم تصور خطورة الأمر: كثير من هؤلاء الشباب مع إدراكه لخطأ الطريق الذي هو عليه , ورغبته في الاستقامة إلا أنه لا يتصور خطورة هذا الذي يسير عليه، فتراه يتساهل, ويتهاون بالمعاصي بل بالكبائر والموبقات، ولا يمنعه أي وازع عن ارتكاب أي معصية , أو أي فاحشة، بل تجده يسعى إليها بكل وسيلة، بل يساهم في نشرها بكل الوسائل، كما أن بعضهم قد يفعل بعض الأمور المخرجة من الإسلام : كترك الصلاة , أو السخرية و الاستهزاء بالدين وأهله ، و مع ذلك كله يشعر بأن الأمر ليس فيه خطورة . وكنت أتحدث مع مجموعة من الشباب من أصحاب هذه الممارسات، وهم أصحاب سفر للخارج، ويمارسون المضايقات للفتيات في الأسواق، ولهم مواقف , ومشكلات كثيرة مع رجال الحسبة، ومع ذلك كله يقولون : نحن بخير، القضية هي قضية أخطاء , وكلٌ يقع في هذا الخطأ , ولازلنا نصلي , ونصوم , ونمارس ألوان الشعائر التعبدية.
ونسي هؤلاء أمرا خطيرا : وهو أن التعلق بهذه المعاصي قد يؤدي بالإنسان إلى سوء الخاتمة، فهذا الشاب قد يصلي , وقد يعمل أعمالاً لا تخرجه من الإسلام، ولكنه عندما يكون منهمكاً في هذه الشهوات , غارقاً فيها ؛ فإنه قد يختم له بخاتمة سوء , فيقول بكلمة الكفر قبل موته، ومعروف مصيره ونهايته، و تصوروا أن أحد هؤلاء الشباب كان غارقاً في الشهوات، وكان على موعدٍ مع أحد صديقاته لكنها تأخرت عليه , فقلق عليها , فلما جاءته لم يملك إلا أن سجد لها، فإلى هذه الدرجة يصل بالإنسان التعلق بالشهوة ؟ .... و آخر : كان صالحاً مستقيماً , و تعلق بعلاقة محرمة شاذة مع أحد الشباب، وقبل موته قال كلمة _ عافانا الله وإياكم _ أدت به إلى سوء الخاتمة، حيث قال : رضاك أشهى إلي من رحمة الخالق الجليل .
أمر آخر : وهو أن هذه المعاصي قد تتدرج بالإنسان , فتقوده بعد ذلك إلى الكفر , والانسلاخ من كافة الواجبات الشرعية .... أحد الشباب اتصل بي وكنت لا أعرفه، يشكو إلي أنه وقع في جريمة الزنا مع فتاة، وهذا الشاب لا يسعى إلى إيجاد حل لهذه القضية، بل يقول هل يجوز لي بعد ذلك أن أتزوج هذه الفتاة أو لا يجوز ؟! فقلت له : لماذا الاستخفاف بهذا الأمر ؟ وكيف تقع فيه ؟ فقال : يا أخي هذا خطأ، وكل إنسان يقع فيه، وكل ابن آدم خطاء .... فعندما يتعامل الإنسان مع هذه المعاصي بهذا الاستخفاف , وهذا المنطق ؛ فإنه بلاشك لن يرى حاجة وضرورة لأن يشتكي لأحد هذه المعاصي، ولن يسعى للتخلي عنها، فقلت له : فرق بين ما تقع فيه من نظرة محرمة , أو شهوة محرمة , وغير ذلك من المعاصي , وبين من كانت له لقاءات طويلة مع فتاة حتى أوقعت به في جريمة الزنا !! فبين الأمرين فرق شاسع ، وهذا دليل على ضعف إيمانك , وعلى استخفافك بهذه المعصية، بل إنك تسأل بعد ذلك : هل يجوز لي أن أتزوج ممن عاشرتها تلك العشرة المحرمة ؟! فمع إدراك بعض الشباب لخطأ الطريق الذي هم عليه , فإنهم لا يدركون خطورة الأمر الذي هم عليه، وأظن أنهم لو أدركوا ذلك لاستطاعوا أن يتجاوزوا الكثير من تلكم العقبات .(/4)
رابعا: الفهم الخاطئ للوسطية : كلمة يتفق عليها الجميع لكن يبقى فهمها وتفسيرها: فالجميع يتفقون على أن المغالاة والمبالغة في التشدد والغلو أمر غير مرغوب فيه، ويتفقون على أن الانحراف , والتفريط , والكسل هو الآخر أمر غير مرغوب فيه، ويتفق الجميع على سلوك طريق الوسط، ومن الشباب من عندما تناقشه يقول لك : نعم أنا لست أسلك طريق الانحراف، ولا أنا من الشباب الملتزمين والمستقيمين، ولكني أسلك طريق الوسط، وهذا أمر نتفق عليه، بل إن سنة الله في الكون قائمة على الوسطية، و دين الله قائم على الوسطية في كل أمر، ولكن نقطة الخلاف هي تحديد الوسطية، فعندنا ثلاث مناطق:
الأولى منها : هي منطقة الغلو .... والمنطقة الثانية : الوسطية .... والثالثة : هي الانحراف . وتحديد هذه المناطق يختلف الناس فيه، فما هو ضابط الوسطية ؟ وما هو مفهوم الوسطية ؟ فهل المقصود بالشاب الوسط مثلاً الذي لا يتورع عن النظرة الحرام : سواءٌ أكانت في التلفاز أم في الفيديو أم في الشارع ؟ وهل المقصود بأن الوسط هو الذي لا يتورع عن بعض الممارسات التي يعتبرها سهلة وهينة – وكل معصية لله عز وجل لا شك أنها يجب أن تعظم في نفس المؤمن – هل هذا هو مفهوم الوسطية؟ وهل يعني التشدد الخلل والمبالغة ؟ و هل يعني التورع التام عن النظر المحرم بكافة قنواته , ووسائله , أو الحرص على العبادة , ومحاسبة النفس عليهما تشدداً , وتطرفاً ؟
وللأسف , فإن مفهوم الوسطية , و الغلو , والتساهل من المفاهيم التي أصابها الانحراف في أفهام كثير من الناس، فيقيس الشاب الوسطية بنفسه : فيعتبر الطريق الذي يسير عليه هو الطريق الوسط، فما كان أعلى منه فهو تشدد، وما كان أدنى منه فهو انحراف .
إن طريق الوسطية هو : ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالذي نهى عن الغلو هو النبي صلى الله عليه وسلم، وأول من خُوطب بالوسطية هو النبي صلى الله عليه وسلم، وإن هذه الأمة أمة وسط، فالمعيار للوسطية : هو حياة النبي صلى الله عليه وسلم , وحياة السلف الصالح , وما زاد عنه فهو غلو، وما كان دون ذلك , فهو انحراف, وتفريط .
خامسا : القدوة السيئة: قد يجد الشباب مظاهر سلبية , وأخطاء من بعض الشباب الملتزمين ، فهؤلاء ضمن غيرهم ليسوا معصومين من الوقوع في الخطأ، ومع محبتنا لهؤلاء الشباب الملتزمين، ومع أننا نُسر برؤيتهم، ومع أنهم ولا شك حققوا ألواناً من الانتصار على النفس وعلى الشهوات، بل إن سلوكهم طريق الاستقامة أصلاً وطريق الالتزام في وسط هذه الشهوات والفتن، هذا بحد ذاته يعتبر انتصاراً، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعينهم , وأن يثبتهم على هذا الطريق، فإن بعض هؤلاء الشباب قد يقع في أخطاء خاصة تجاه أمثال هؤلاء الشباب غير الملتزمين، فيأتي هذا الشاب غير المستقيم ويرى الشاب الآخر المستقيم قد وقع في هذه الأخطاء، فيرى شابًّا ملتزماً مهملاً في دراسته، أو يراه على سوء خلق،أو يراه مقصراً في أي جانب من الجوانب، فيقول أتريدونني أن أكون مثل فلان من الناس.
من قال لك بأن هذا هو النموذج الذي نريد أن تصل إليه، فليس كل هؤلاء الشباب على هذه الشاكلة، قد تكون أنت نظرت إلى فعل واحد، أو إلى شخص واحد أو إلى عينة واحدة، فرأيت فعلاً أن هؤلاء الشباب يقعون في مثل هذه الأخطاء، فتخيلت أن جميع الشباب الملتزم بهذه الصورة، فلنفرض جدلاً : أن هؤلاء الشباب الملتزمين يمارسون هذه الأخطاء، فهل هذا عذر لك عند الله سبحانه وتعالى أن تسلك طريق الانحراف، وأن ترتكب ألواناً من الكبائر , والموبقات بحجة أن هؤلاء الشباب قدوة صالحة ؟ فليس عذراً لك لو كان الناس جميعاً يسلكون طريق الانحراف، بل لو كان أستاذك , أو جميع الناس من حولك يدعونك , ويرغمونك على طريق الانحراف، فكيف لمجرد أنك ترى بعض المواقف مع أننا نجزم أنها ليست عامة بل هي مواقف ، وحالات فردية.
وعندما وجه سؤال لهؤلاء الشباب : اذكر عوائق أخرى تعوقك عن طريق الاستقام ؟
فهذه بعض الإجابات والعبارات التي وردت: بعضهم يقول : الملتزمون أنفسهم بتصرفاتهم التي يفعلونها للنفاق والرياء .... فهو يكثر من اتهامهم بالرياء والنفاق، والسبب أنه يرى الشاب عنده حرص على العبادة ,والطاعة , فيراه قد وقع في خطأ، ومن خلال هذا الخطأ يتهمه بالرياء والنفاق، والشاب الملتزم قد ينهاك عن الغيبة , ويغلظ أمرها لكنه قد يقع فيها، وإذا منعنا الناس من الإصلاح لخطأ وقعوا فيه , فمن ينصح الناس ؟ يقول الشاعر:
إذا لم يعظ الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد
وآخر يقول : الملتزمون سبب عدم استقامتي ؛ لقيامهم ببعض التصرفات السيئة، وتدخلهم فيما لا يعنيهم واحتقار الآخرين .... و عندما طلب من أحدهم توجيه كلمة للملتزم قال : يترك العزلة والأنانية، ويكسر الحواجز بينه , وبين غير الملتزمين .(/5)
ونسأل كثيراً عن الملاحظات التي ترد على هؤلاء، فيجيبنا أحد الشباب بكلمة رائعة كتبها وهو غير ملتزم فقال: إن العيون موجهة إليكم، عيون أهل الشر, وعيون أهل الخير، فكونوا على أهبة الاستعداد.
سادسا : عدم وجود المعين: قد لا يجد الشاب من يعينه على طريق الاستقامة أو طريق الخير، والبشر لا يستغنون عن ذلك، ولذلك يخاطب الله سبحانه وتعالى نبيه فيقول: ] وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ... [ 28 ] [سورة الكهف , وهاهو موسى يدعو ربه فيقول :] وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي [ 29 ] هَارُونَ أَخِي [30 ] اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [ 31 ] [سورة طه ،ويقول تعالى له: ] قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ... [ 35 ] [سورة القصص، فإذا كان الأنبياء يحتاجون إلى من يعينهم على هذا الطريق , فغيرهم من باب أولى، ولذلك فإن [80% ] من طلاب المرحلة المتوسطة , و [ 71% ] من طلاب المرحلة الثانوية , و [ 79% ] من فئة الشباب الملتزم : أفادوا بأن الرفيق الصالح من الأسباب المعينة على الاستقامة إذاً فابحث عن هذا الجليس ؛ فإنه خير معين لك .
سابعا : ضغط البيئة: قد يقع الشاب تحت ضغط البيئة ، فقد يكون الشاب في بيت غير محافظ، فهذا أحدهم يقول: السبب في عدم استقامتي والدي الذي لا يشهد حتى صلاة الجمعة، ويقترف أمامي كافة أنواع الفساد ، فماذا تريدني أن أصنع بعد ذلك ؟ وإن كانت هذه الحالات قليلة , لكن هناك ضغط آخر قد لايستطيع تحمله بعض الشباب , وهو السخرية، ولذلك فإن بعض الشباب يعتبر السخرية عائقاً من عوائق الاستقامة.
فهو عندما يسلك طريق الاستقامة , سيواجه سخرية من القريبين والبعيدين، بل للأسف إن البعض من الآباء والأقارب يمارسون ألواناً من هذه السخرية مع أبنائهم ويتهمونهم بنوع من التشدد فيشكل هذا نوعاً من الضغط النفسي على الشاب , فلا يستطيع أن يتحمله، ولذلك فإن : [ 27% ] من طلاب المرحلة المتوسطة , و [20% ] من طلاب المرحلة الثانوية يعتبرون السخرية عائقاً من عوائق الاستقامة. ونلاحظ هنا أنه كلما تقدم سن الشاب أصبح أكثر قدرة على تحمل ضغط الآخرين، فإنه لصغر سنه قد لا يستطيع أن يتحمل ويواجه هذه السخرية، وغاية ما نقوله لهؤلاء الشباب : أن عزاءكم فيما تواجهون أن أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم وعلى نبينا : قد وُوجهوا بالسخرية والإيذاء، فلن تكونوا خيراً من أنبياء الله، فإذا سُخر من أنبياء الله , فغيرهم من باب أولى .
ثامنا: ثقل التكاليف: فغير المستقيم يعلم أنه سيترتب على استقامته تكاليف شرعية مثل التخلي عن الشهوات , وتحمل بعض الواجبات وبعض الأعباء التي لا يحرص عليها كالاستيقاظ لصلاة الفجر، وسيعرف أن الحياة والتكاليف ستكون ثقيلة عليه، ولذلك قد يتردد في الالتزام بهذا الأمر، فمثلاً : [ 34% ] من طلاب المرحلة المتوسطة , و [ 35% ] من طلاب المرحلة الثانوية ذكروا : أن من عوائق الالتزام عدم القدرة على تحمل الالتزام . إذاً ثلث هؤلاء الشباب يرون أنهم لن يستطيعوا تحمل تكاليف حياة الاستقامة والالتزام، فنقول لهم: نعم إن هذه التكاليف قد تكون ثقيلة في البداية ولا بد منها لأنها ضريبة الالتزام، قال الله تعالى : ] أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ [ 214 ] [ سورة البقرة , فهي ضريبة لسلوك درب السعادة، وضريبة للحصول على طريق الجنة، فإن الجنة حفت بالمكاره والنار حفت بالشهوات، وثمن لابد أن يدفعه الشاب، لكنه إذا قام بهذه التكاليف ؛ سرعان ما ينسى هذه المشقة ؛ فتصبح لذة وسعادة يجدها المرء في طاعة الله سبحانه وتعالى .
تاسعا : العجز عن اتخاذ القرار الحاسم: من النتائج المفاجئة أن : [ 92% ] من طلاب المرحلة المتوسطة , و [ 92% ]من طلاب المرحلة الثانوية سبق أن فكروا بالالتزام .... إذاً القضية ليست عدم قناعة بل هو فكّر فعلاً أن يسلك طريق الالتزام، بل إن : [74% ] من طلاب المرحلة المتوسطة , و[ 71% ] من طلاب المرحلة الثانوية فكروا أكثر من ثلاث مرات، فهذا يعني : أنه قد تكرر تفكيره وعزمه على هذا الأمر، بل إن كثيراً منهم قد خطا خطوات عملية في ذلك , لكنه لم يستطع , فما هو السبب؟
قال بعضهم: ضعف الإرادة، فهذا الشاب يبقى أمامه قرار يجب أن يتخذه، وقرار حاسم سيغير حياته كلها، قرار يودع به حياة الغفلة والإعراض، ويسلك طريق الاستقامة، وهذا القرار سيحتاج إلى عزيمة قوية , وإليكم هذه العبارات التي قالها بعض الشباب من خلال الكلمة الأخيرة :(/6)
يقول أحدهم :كنت أتمنى منذ الصغر أن أكون شيخاً وخطيباً.... ويقول آخر : أشكر الأستاذ على هذا الاستبيان، وإن شاء الله في الاستبيان القادم يكون ردي على سؤالك : هل أنت ملتزم أم لا، فأقول , وبكل سرور: إنني ملتزم بإذن الله وجزاك الله خيراً .... إذاً ما الذي يمنعك من الالتزام ؟ وما الذي يمنعك من الاستقامة ؟ الجواب : هو اتخاذ هذا القرار .
عاشرا: الاعتذار بالقدر: فمثلاً : أحدهم يقول: كل شيء موجود لكن ينقص توفيق الله سبحانه وتعالى، فإذا كان الذي يمنعك , ويحول بينك , وبين طريق الاستقامة هو توفيق الله تعالى، فلماذا تجتهد في دراستك , وتُجد للاستعداد للامتحان، و لا تنتظر توفيق الله الذي تنتظره حتى يقودك لطريق النجاح في الامتحان ؟ فمطالب الدنيا : تجتهد فيها , ولا تنتظر توفيق الله، وأما الهداية فلا تجتهد , وتنتظر توفيق الله .... أيضاً كثير من الشباب عندما وجهنا له سؤالاً يقول :ما الذي يمنعك من الاستقامة ؟ كان الجواب : إنك لا تهدي من أحببت، وأن الهداية بيد الله سبحانه وتعالى .
نعم الهداية بيده سبحانه وتعالى , والضلالة كذلك بيد الله سبحانه وتعالى، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الإنسان يكتب له : رزقه , وأجله , وعمله , وشقي أم سعيد , فعن عبد اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ أَنَّ : [ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى لَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وابو داود وابن ماجة وأحمد . فلماذا تسلك طريق الشقاوة وتقول :لم يرد الله هدايتي , فهلا اخترت طريق الاستقامة كما تجتهد في أمور الدنيا من طلب الرزق و غيره , ولا تتكل على القدر؟ فهذه مخادعة للنفس .
العائق الحادي عشر: التدخين: أحدهم قال في كلمته الأخيرة: عائق آخر كنت أنتظر أن تسألني عنه، وهو عائق التدخين الذي أعاني منه شخصياً . وأيضاً بعض الشباب الذين وُجه لهم السؤال الشفوي أفادوا أن التدخين مما يعوقهم عن سلوك طريق الاستقامة، ولهؤلاء نقول : إن هذا الدين قد نزل على أقوام يتغنون بالخمر , وأحدهم يقول :
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفني في الفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
وقال آخر :
ونشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً ما ينهنهنا اللقاء
والكثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يشربون الخمر، بل كانوا مدمنين عليها، وكانوا يتغنون بها، وعندما نزل تحريمها تخلوا عنها ،ولا يشك أحد أن التعلق بالخمر أشد على الإنسان من التعلق بالتدخين.
العائق الثاني عشر : التسويف : ومن العوائق التي ذكرها الشباب , ووردت في إجابات شفوية ما ذكره بعضهم قائلا : إن البعض منا يقول : أستقيم بعد الزوج .... والبعض منا يقول : حتى أتخرج .... حتى يتقدم بي العمر ... و نسى هذا , أو جهل : أنه قد تخطفه المنية قبل أن يعمل ما أراد . ويقول أحدهم في الكلمة الأخيرة: إن شاء الله مهما بعُد الزمن , فسوف أعود إلى الله، وأعمل الأعمال الصالحة إن شاء الله تعالى .... إذاً ما الذي يمنعه , فهو يقول : لابد أن أعود إلى الله وإلى الاستقامة , ولو بعد زمن ؟ الذي يمنعه هو : التسويف.
العائق الثالث عشر: انتظار المصائب: وهذا أيضاً تكرر في الإجابات الشفوية، فعندما سألنا بعض الشباب قال : إنه ينتظر أن يحصل له حادث , أو أن يموت له قريب , أو أن يحصل له أمر يعظه ويدعوه ليسلك طريق التوبة ....و كثير من الشباب أجابوا بأن هذه الأمور من الوسائل التي تؤثر في الشاب , فيستقيم . وحينئذٍ نسأل هذا السؤال : افترض أنه لم يحصل لك هذا الشيء، بل مت أنت قبل أن يحدث لك ما يهز مشاعرك، فما هو مصيرك ؟ !
و بعد الحديث عن هذه العوائق ننتقل إلى نقطة أخرى , وهي الأخيرة. أدوار مهملة: بقي أن أقول أن ما عرضته عن هذه العوائق إنما هو مجرد عرض لها، وبقي الحديث عن أدوار مهملة يجب أن تستغل لإنقاذ هؤلاء الشباب :(/7)
1- خطبة الجمعة : فـ [ 75% ] من المتوسطة والثانوية يرون أن خطبة الجمعة لا تؤثر على الشباب في سلوك طريق الالتزام، وقال أحدهم _ بالحرف الواحد _: خطبة الجمعة يحضرها الجميع، وهي ليست مثل المحاضرات والأشرطة , حيث يحضرها جميع المسلمين , وينصتون لها , ويسمع فيها الشاب ما لا يسمعه في غيرها، فيجب أن يعتني بها، ويجب أن يوجه خطاب خاص لهؤلاء الشباب فيه نقاش : عقلي منطقي , وموعظة تسلك كافة الأساليب والوسائل لمخاطبة أمثال هؤلاء الشباب . فهؤلاء الشباب يشتكون أنهم لا يخاطبون بخطب الجمعة، ولا توجه لهم هذه الخطب.
2 - إمام المسجد: من أهم مسئوليات إمام المسجد : المساهمة في دعوة الناس إلى الله سبحانه وتعالى، فإمام المسجد يقابل هذا الشاب في المسجد , وعند منزله , وعند المحلات التجارية , وفي الحي ، فما دوره ؟ [ 86% ] من طلاب المرحلة المتوسطة , و [80 % ] من المرحلة الثانوية , و [81% ]من الفئة الملتزمة يقولون : أنهم لم يتلقوا نصيحة من إمام المسجد، إن مهمته ليست محصورة في إمامة الناس، بل في إنكار المنكرات أيضا ، وفي نصح هؤلاء الشباب وفي توجيههم، خاصة أنه يعيش معهم في الحي , ويلتقي معهم كل يوم . ولا يقتصر أيضاً على إلقاء الكلمات ؛ لأنه قد يلقي كلمة وهؤلاء يخرجون بعد الصلاة .
3- الأب: مما يؤسف له أن : [ 55% ] من طلاب المرحلة المتوسطة , و [ 51% ]من المرحلة الثانوية , و [ 76% ] من الفئة الملتزمة : لم يتلقوا نصيحة من والدهم ، مع أن دور الأب لا يقتصر على النصيحة، فإذا كان أكثر من نصف الآباء لم يوجه لابنه النصيحة الخاصة بالالتزام فماذا بعد ذلك؟ وانظر إلى ما يقوله هؤلاء الشباب عن آبائهم _ في الدراسة التي أشرت إليها وهي دور التوجيه والإرشاد النفسي في الوقاية من الانحراف _ تبين أن : [ 28% ]من الطلاب يقولون : لا يأخذنا والدنا إلى النزهة خارج المنزل لماذا ؛ لأنه يذهب مع أصحابه !! فالشاب يريد أن يذهب خارج المنزل للنزهة , فإذا لم يأخذه والده من سوف يأخذه ؟ .... ومع من سيذهب ؟ .
وقال : [ 21% ] : قليلاً ما يسألني أبي عن أحوالي .... وقال : [ 17% ] : عندما أعود متأخراً لا يسألني والدي .... مجرد السؤال فقط لا يحدث .... لكن الذين يسألون لا يعني أنهم يهتمون، فقد يسأل الأب ابنه: أين كنت ؟ فيقول : مع فلان، فتنتهي القضية عند مجرد السؤال دون اكتشاف الخطأ، ولو اكتشف الخطأ فماذا يصنع ؟
وقال : [ 44.5% ] : لا أستطيع التحدث مع والدي بصراحة .... فإذا لم يستطع , فمع من سيتحدث , ومن سيوجهه ؟ لن يجد إلا أصدقاء السوء . أيضاً عندما وجه سؤال لهؤلاء الشباب أفاد الكثير منهم : أن الآباء لا يعلمون حقيقة ما يفعله أبناؤهم .... فهو يعرف أن ابنه يذهب ويأتي مع فلان , لكن ماذا يصنع ابنه ؟ لا يدري !
وهذه صورة تتكرر : فيقف الأب عند رجال الشرطة بعد أن يقع ابنه في مصيبة , أو جريمة , ويقول : لم أكن أتوقع هذا , ويجهل أن القضية كانت منذ سنوات، ولئن نسيت فإني لا أنسى موقف شاب رأيته يبكي أمامي , ويوجه اللوم لأبيه الذي اكتشف أنه يدخن , وعاتبه قائلاله : الآن وقد وقعت في هذا الأمر منذ ثلاث سنوات، إن السبب هو أنت ....فإذا كان التدخين الذي تظهر آثاره على المدخن , قد لا يكتشفه الأب إلا في مرحلة متأخرة فما بالك بالممارسات اللاأخلاقية التي قد تكون أخطر ؟ .... كثير من الآباء لا يعرف ماذا يصنع ابنه، فإما أنه يحسن الظن، أو يعرف أنه يذهب مع فلان بن فلان , ويظن معرفته .... وغيرها من الأمور التي يخدر بها نفسه .
وطلب من الشباب توجيه رسالة للأستاذ، و الداعية، و الأب , فقال أحدهم : مؤاخاة الابن والتحدث معه بصراحة , وسماع مشاكله، لماذا فلان أباه لا يفعل شيء من .... وآخر يقول : إذا كان رب البيت .... وآخر يقول : إن من واجب الأب مساعدة ابنه في التغلب على عوائق الالتزام .
والآخر يقول : أبي أعطني جزءاً من وقتك.... وآخر يقول : الأب لا يدري ماذا بابنه , أو ماذا يفعل ابنه .... وآخر يقول : لا تقطع عملك الصالح في الدنيا فإنه : [ إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ] رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وأحمد والدارمي .
هذه عبارات للشباب الذين ليسوا على طريق الاستقامة , وهذه بعض رسائلهم لآبائهم، وغيرها كثير، فكلها تعكس صورة الإهمال، وصورة الغيبوبة المطلقة عند الكثير من الآباء عن واقع أبنائهم : إما أنه يجهل واقع أبنائه ولا يريد أن يعلم، أو أنه يهمل , ولا يدرك المسئولية، أو قد يدرك للأسف أن ابنه في طريق الانحراف , ومع ذلك لا يحرك ساكناً وكأن الأمر لا يعنيه .(/8)
ما موقف الأب الذي يأتي أول الناس إلى المسجد , وابنه قد لا يشهد الصلاة .... وتجد الأب أحياناً يتهجد بالليل , وابنه في الخارج لا يدري ماذا يصنع .... إننا نريد منك أن تؤدي المسئولية التي عليك التي سيسألك الله عنها يوم القيامة .... فما الذي يدفعك إلى أن تترك الدنيا , وتأتي إلى المسجد قبل الأذان ؟!! و إلى أن تهجر لذة الفراش , وتقوم الليل ؟!! و إلى الاجتهاد في النوافل والصدقة ؟!! . أليس مرضاة الله عز وجل .... ألا يدفعك ذلك للشعور بالمسئولية؟
نحن لا ندعو الآباء إلى أن يشكُّوا في أبنائهم، ولكننا ندعو الأب إلى أن يكون واقعيًّا .... إلى أن يعرف حقيقة ما يجري، وبدلا من أن تسهر أيها الأب مع فلان , و فلان , خذ أبناءك إلى نزهة .... واقض وقتك مع أبنائك .... وقدم لهم البديل الذي يشغل أوقاتهم .... وابحث لهم عن الجلساء الصالحين. و في الختام أقول : إن عرض هذه النتائج , والحديث عنها طويل جدًّا, وبقيت جوانب أخرى، خاصة الجوانب الإيجابية لم نتحدث عنها، و ستكون موضوع حديثنا في محاضرة قادمة بعنوان [ من حق إخوتنا علينا ] نسأل الله أن يوفقنا للحق والصواب ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من محاضرة عوائق الاستقامة للشيخ محمد الدويش(/9)
عوائق في طريق الالتزام
يتناول الدرس العوائق النفسية والاجتماعية وقرناء السوء التي تؤثر على البعض فتقف عائقا أمام رجوعهم إلى فطرتهم التي فطرهم الله عليها وهي التوحيد، ويعرض لأهم الحلول للتغلب على تلك العقبات .
الحمد لله, وصلى الله على عبده, و نبيه محمد, وآله وصحبه وسلم, أما بعد ... فالإسلام فطرة مركوزة في ضمير كل إنسان: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [30] ' سورة الروم , وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله قال: [إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ]رواه مسلم وأحمد . يعنى : في أصل الفطرة على التوحيد, وهذه الفطرة قد يعتريها في كثير من الأحيان ما يحرفها إلى طرق الغواية ، ولكنها سرعان ما تستيقظ إذا سمعت داعي الله, و تزيل الركام، ثم تفور وتتمرد حتى تجد طريقها المستقيم الذي هداها الله إليه.
وهذا يفسر لنا عدداً من الأمور :
أولاً :ما نجده من حرص أعداء الإسلام في القديم والحديث على أن لا يسمعوا صوت الإسلام إلى الناس،لأن صوت الحق مهما كان ضعيفاً؛فإنه يجد في داخل الإنسان تحركاً واستجابة ؛ ولذلك لما جاء العقيل بن عامر الدوسى إلى مكة مازال القرشيون به حتى أقنعوه بأن يضع في أذنيه قطناً حتى لا يسمع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم, فلما جاء إلى الكعبة ورأى الرسول رجع على نفسه بلائمة وقال: [ لعمرك أنك رجل لبيب عاقل فما يضيرك أن تسمع منه فإن كان حقاً قبلته وإن كان غير ذلك رددته] فسمعه فأسلم. وقد قص الله علينا قصة الجن الذين استمعوا إلى قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم لما رفضه أهل الطائف, وردوا دعوته، وخرج مهموماً محزوناً ، حتى إذا كان ببطن نخلة؛ جلس يصلى ويقرأ القرآن، فصرف الله إليه نفراً من الجن ، فلما سمعوا القرآن : } قَالُوا أَنصِتُوا [29] {سورة الأحقاف, أنصتوا ، وهذا هو السر: فمن أنصت وجد الهداية في قلبه, ولم يرجعوا مسلمين فقط بل دعاة, ومنذرين إلى قومهم: }فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ[29]{ سورة الأحقاف, بمجرد ما سمعوا آيات معدودة من القرآن الكريم، وهذا ما نجده اليوم في القوى التي تحارب الإسلام, فإنها تجند كافة طاقتها للحيلولة بين الناس وبين سماع صوت الدعاة إلى الله؛ لأنهم يعرفون: أن كثيراً من الناس إذا سمعوا القرآن والإسلام اهتدوا, فهذا يفسره لنا: أن الفطرة تستجيب لصوت الحق.
ثانياً : وكذلك يفسر لنا ما نلحظه من توجه كثير من الناس، شيباً وشباناً، ذكوراً وإناثاً إلى الإسلام, و هو يعبر عنه بالصحوة الإسلامية، والتي أقضت مضاجع أعداء الإسلام ، ولا يمكن تجاهل جهود العلماء والدعاة والجمعيات الإسلامية وغيرها والوسائل المختلفة: من الكتب والمجلات والأشرطة،كسبب من أسباب نمو هذه الصحوة, لكن أعتقد_ والله أعلم_ : أن حجم الصحوة الإسلامية، أضخم مما يتوقع من تلك الوسائل, ولا يمكن أن تفسر هذه الوسائل الصحوة الإسلامية، لكن يفسرها لطف الله تعالى بهذه الأمة, ولذلك يقال:
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان
عقبات و عوائق
وفي طريق التوجه للإسلام عقبات وعوائق كثيرة، قد تجعل بعض الناس يهم بالاستقامة لكن لا يقدم عليها, وسوف أعرض لخمسة عوائق في نظري هي من أهم العقبات.
أولا: العقبة النفسية: وذلك أن نفوس كثير من الناس تحول دونهم ودون الاستقامة في بعض الأحوال والأحيان، وذلك لأن الله قسَّم بين الناس أخلاقهم وطباعهم كما قسم بينهم أرزاقهم، فتجد من الناس من هو مجبول على خصال الخير: من الصدق, والإخلاص,والكرم, كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: [ إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ] قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمْ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا ؟ قَالَ: [بَلْ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا] قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ . رواه أبو داود وأجمد .(/1)
وفي المقابل: تجد آخرين جبلوا على ضد ذلك: من البخل أو الجبن ... ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لما فتح مكة: [ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ] رواه مسلم, وأبو داود, وأجمد . وكان تعليل ذلك أن أبا سفيان يحب الفخر كما قاله العباس رضى الله عنه. ولا شك أن الإسلام يهذب هذه الطباع كما هذب أبا سفيان فأصبح المؤمن الباذل المجاهد. ولكن في واقع الناس تفاوت كبير، وعقبات سببها نفس الإنسان التي بين جنبيه, فقد يهم الإنسان مثلاً بالإنفاق في سبيل الله: من مساعدة المحتاجين، أو القيام على المشاريع الخيرية، فيحول بينه وبين هذا طبيعة البخل الموجودة في نفسه... وقد يهم آخر بأن ينطلق في ميدان الدعوة إلى الله ، وتعليم أو تعلم العلم، فلا يكاد يبدأ بذلك حتى تغلبه طبيعة حب الراحة والكسل، فتقعده عن هذا المجال. وقد يوجد في طبيعة بعض الناس شيء من العجب والكبر وحب الفخر، فتجد هذا الإنسان لا ينشط إلا في المجالات التي يكون فيها فرصة للظهور... وبعض الناس قد يكون لديهم عقد نفسية، إما بسبب تأثير البيئة التي عاشوا فيها، أو بسبب ظروف معينة مرُّوا بها، أو بسبب انحراف وقع فيه بعضهم لفترة معينة، ثم خرج منه ، فترك هذا الانحراف أثره في نفسه، فهذه العقد النفسية لا يكاد الإنسان يتخلص منها بسهولة، وتظل تشده إلى الوراء، وقد يصاب من جراء ذلك بأنواع من الوساوس والأفكار والهواجس ، فالعوائق النفسية هي أول ما يواجه الإنسان؛ لأن بقية العوائق من خارج النفس، و إذا استطاع الإنسان أن يتغلب على نفسه، فإنه يكون أقدر على التغلب على العوائق الأخرى.
كيف نتغلب على هذا العائق ؟
أولا: مجاهدة النفس، فلابد من المجاهدة المستمرة، بحيث يدافع الإنسان هذه الخواطر عن نفسه، لأنه ما من إنسان إلا وفي نفسه شيء من هذه الخواطر، تقل أو تكثر؛ ولذلك يقول الله: } وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [69] { سورة العنكبوت, فعلى هذا الشاب مثلاً الذي يقول: كلما قمت بعمل صالح، قال لي الشيطان : أنت مراء ، هذا العمل لن ينفعك بل سيضرك، فنقول: أول خطوة هي المجاهدة، ودفع هذه الأشياء ما استطعت، وينبغي أن يحذر الشاب من ترك الأعمال الصالحة، بحجة الخوف من الرياء، لأن هذا مدخل من مداخل الشيطان ؛ لأن الشيطان يأتيك عند كل عمل صالح، حتى تتركه، والحل أن تعلم أن هذا باب من أبواب المجاهدة فتحة الله عليك، وإذا علم الله منك الصدق في هذا، فأبشر بقوله: }لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا{ سورة العنكبوت.
ثانيا: معالجة العوائق والعقبات النفسية ، بأن يعلم الإنسان أنه وإن كانت فيه خصال ذميمة، فإن فيه خصالاً حميدة، فعلى الإنسان أن ينمى الصفات الطيبة الموجودة في نفسه ، لأن الصفة الطيبة إذا كبرت ونمت تغلبت على غيرها.
ثالثًا: البحث عن القرناء الصالحين، الذين يتعلم منهم الخلق الفاضل، فإن العلم بالتعلم, والحلم بالتحلم، فإذا صاحبت الصالحين سرعان ما تدب إليك أخلاقهم وطباعهم، والعكس بالعكس.
ثانياً : العقبة الاجتماعية: لاشك أن المجتمع له ضغط كبير على الإنسان، ولذلك في الحديث: [ أَنَّ عَبْدًا قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ التَّوْبَةُ فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنِّي قَتَلْتُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ قَالَ بَعْدَ قَتْلِ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ نَفْسًا قَالَ فَانْتَضَى سَيْفَهُ فَقَتَلَهُ بِهِ فَأَكْمَلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ التَّوْبَةُ فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنِّي قَتَلْتُ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ اخْرُجْ مِنْ الْقَرْيَةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ قَرْيَةِ كَذَا وَكَذَا فَاعْبُدْ رَبَّكَ فِيهَا] رواه البخاري ومسلم و أحمد وابن ماجه . فقبض روحه في الطريق ... على ما هو معروف في القصة, و الشاهد: أن هذا العالم بين له أنه لو عاد إلى مجتمعه الأول؛ لعاد إلى خطيئته مرة ثانية، لأنها بلدة سوء ، وأمره أن يغير البيئة ، وينتقل إلى بيئة صالحة، تعينه على الاستقامة. ولذلك أمر تبارك وتعالى بالهجرة، ولها مفهوم شامل عند السلف فهم يعرفون الهجرة بأنها: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام و من بلد المعصية إلى بلد الطاعة, ومن بلد البدعة، إلى بلد السنة . كل هذا من الهجرة، فالهجرة إنما شرعت لإخراج الإنسان من البيئة الفاسدة المنحرفة، وضغط المجتمع، ووضعه في بيئة صالحة تعينه على الطاعات.
كيف نتغلب على هذا العائق ؟(/2)
أولاً : البحث عن البيئة الطيبة، والقرناء الطيبين ؛ لأن الإنسان إذا كان عليه ضغط من جهة احتاج أن ينفس من جهة أخرى, فإذا ارتبط بقوم صالحين يبث لهم أحزانه ويجدهم على شاكلته يصلون كما يصلى، ويصومون كما يصوم ، وأخلاقهم أخلاقه، واهتماماتهم هي اهتماماته فيشعر بالأنس معهم.
ثانيا: الصبر، فإن الله يقول: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ …[200] {سورة آل عمران, فأمرنا بالصبر - ولذلك كان الصبر واجباً على الإنسان - لكنه سبحانه ثنَّى بقوله: }وَصَابِرُواْ { لأنك قد تصبر مرة ؛ ولكن إذا تكرر عليك الإيذاء، والسخرية وعبارات التوبيخ ربما ينفذ صبرك, وتجزع, لذلك قال: }وَصَابِرُواْ {والمصابرة تعنى: استمرار الصبر, فكلما آذاك الآخرون صبرت, وإذا صبروا على باطلهم، فصابر أنت على حقك:} وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[200] {سورة آل عمران وأشد ما يكون الصبر في هذا الوقت الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ] رواه الترمذي . فالقابض على الجمر يحس بلسع النار في راحته، ولذلك فهو في كل لحظة يهم بإلقاء هذه الجمرة، حتى يسلم من إحراقها، وكذلك القابض على دينه في أزمان الغربة، يحس بصعوبة الإمساك بالدين فتحدثه نفسه في كل لحظة بالتخلي عن هذا الأمر الذي يتعذب من أجله ، ولكن حين يمسك بهذا الجمر، يجزى بأوفى الجزاء، وله أجر خمسين كما في الحديث الصحيح: [ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ قَالَ بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ] رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه .يعنى من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه لا يكاد يجد المعين و الناصر، أما هم فكانوا يجدون أعواناً على الخير، فلا بد من الصبر ... ألم تعلم أن من الأنبياء من بعث فلم يؤمن به أحد، ففي الحديث: [ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطَ وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلَ وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ] رواه أجمد والبخاري ومسلم . نبي بعث ما آمن به نفر واحد، كم عانى هذا النبي ... كم تعب ... كم سخر منه ... ولم يقبل منه، ومع ذلك صبر فيأتي يوم القيامة ويقيم الحجة على أمته. ومع الصبر فلا بد للمسلم أن يعلم أن هناك ملجأً إذا أغلقت جميع الأبواب فإنه لا يغلق، وهو باب الله تبارك وتعالى ، فإنه لا يغلق في وجه طارق ، والله أكرم الأكرمين يعطي بلا حساب. فما من عبد يرفع رأسه إلى الله سائلاً بصدق وإلحاح إلا أجابه الله تعالى, لا شك في هذا : [وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ] كما أخبر عليه الصلاة والسلام.رواه البخاري و أحمد وأبو داود .
ثالثاً : قرناء السوء: وقرناء السوء هم جزء من المجتمع، ولكنني أشرت إليهم إشارة خاصة، لعظم تأثيرهم على القرين؛ لأن الشاب وكذلك الفتاة في فترة المراهقة بالذات قد يشعر بالانفصال عن البيت؛ لذلك تجد الشاب يحرص على ألا يأتي أصحابه إلى بيته لماذا ؟ لأنه لايريدهم أن يروا بعض الأشياء التي هو غير مقتنع بها، قد يحرص على أن لا يروا والده مثلاً، أن لا يدخلوا المجلس، لأنه مقتنع أن صفة المجلس وشكله لا يناسب أن يراه أصدقاؤه ، وفي المقابل عنده نوع من الارتماء في أحضان القرناء والأصدقاء، لذلك يتلقى عنهم الكثير، فهم مدرسة يتلقى عنهم كثيراً من الأخلاق والقيم والمعارف والأساليب وغيرها 00 وكثير منهم ضحايا المخدرات، ضحايا السفر إلى الخارج، ضحايا العكوف على الأفلام الهابطة. هم إنما عرفوا هذه الأشياء وتعرفوا عليها بواسطة القرناء السيئين، الذين زينوا لهم الباطل ودعوهم إليه.
كيف نتغلب على هذا العائق ؟
على الإنسان أن يعرف أين يضع قدميه، أن يبحث عن القرناء الطيبين، وعلى الأب أن يراعى أين يكون ابنه، لأنه لابد له من قرين لكن إما أن يكون صالحاً يعينه على الخير، وإما يكون فاسداً يعينه على الشر.(/3)
رابعاً : الوسائل المسموعة والمقروءة والمرئية: في البلاد الأجنبية والغربية يقال: أنها بلاد لا يوجد فيها دكتاتورية - كما يعبرون - فيها حرية و ديمقراطية، إلى غير ذلك من الشعارات التي يطنطنون بها ، ولكن يكتشف العلماء في تلك البلاد التي تتشدق بالحرية والديمقراطية أن فيها دكتاتورية من نوع آخر. صحيح أنهم لا يفرضون عليهم الأشياء التي يريدونها من خلال وسائل الإعلام، ولكنهم إذا أرادوا إقناع شعوبهم بشيء ركزوا عليه من خلال الأفلام والتمثيليات والبرامج وغيرها، حتى يقنعوا شعوبهم بهذا الأمر، ومن ثم يقبلوا طائعين عليه، وليس بالقوة، وهذا نوع من الديكتاتورية أخطر من الحديد والنار وغيرها ، وهذه الوسائل المسموعة والمقروءة والمرئية ، لها رواج وهى تدخل في كل بيت، بل أقول: إنها تدخل في كل قلب, وعقل .
موقفنا تجاه هذه الوسائل :
أولاً: لا بد من اختيار الجيد المفيد: من الكتب, و المجلات, و المقالات, و البرامج, وتجنب ما يضر بالدين والأخلاق _ وهو الأغلب_ فكم من مجلة صالحة ؟ هي تعد على الأصابع، لكن كم يوجد من مجلات منحرفة في السوق ؟ أعتقد أنها بالآلاف: من مجلات للفن، للسينما، للرياضة، للمرأة ... وقل غير ذلك من الوسائل الأخرى، من الوسائل المرئية من الأفلام: كم شريط فيديو يتداول بين الناس طيب صالح، ويعرض أشياء مفيدة؟ أشرطة محدودة, لكنك تجد ركاماً هائلاً من الأشرطة، تبدأ بالحب وتنتهي بالحب ولا تعرف في قاموسها إلا الحب؛ فعلى الإنسان أن يعرف كيف يختار الجيد ولو كان قليلاً.
ثانياً: على الدعاة إلى الله عز وجل أن يحرصوا على الاستفادة من هذه الوسائل، بالصورة الصحيحة.
ثالثاً:لابد من حرب على كل وسيلة, أو مادة فاسدة، والحرب لها وسائل شتى:
أ- تحذير الناس منها وبالذات المواد المنحرفة .
ب- كذلك مخاطبة المسئولين عنها بشرط أن يكون هذا الخطاب مدعوما بالوثائق والمعلومات الدقيقة ، وليس مجرد خطاب حماسي، و الذين جربوا ذلك يؤكدون أن هذا الطريق لا يخلوا من ثمرات .
خامساً : هو ما يمكن أن نسميه تجاوزاً المؤسسة الدينية أو الإسلامية: وأعني بذلك أهل الخير أنفسهم. فهل يمكن أن يكون أهل الخير عقبة في طريق الالتزام، وهم الذين بذلوا أنفسهم وجهودهم وأوقاتهم في سبيل الإسلام ؟ وقد أشرت في بداية حديثي أن الصحوة التي يعيشها المسلمون اليوم، هي في الغالب أثر من آثار جهود هؤلاء الخيرين، ولكن مع ذلك كما قيل:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
وحين يتحدث الإنسان عن أهل الخير، فإنه من باب الحرص على الكمال عملاً بقول الشاعر:
ولم أرى في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام
فأقول: ما يتعلق بالمؤسسة الإسلامية فإنها تتحمل مسئولية في ضعف التزام بعض الناس بالإسلام، أو عدم التزامه بالإسلام وأشير في ذلك إلى جانبين هما:(/4)
أولاً : أن كثيراً من طلاب العلم أو الدعاة قصَروا حديثهم على طبقة المتدينين والملتزمين بالإسلام, هذا هو الغالب لا يخاطبون إلا الملتزمين من خلال وسائل معينة من محاضرة، برنامج، كتاب ...ولكن في حالات قليلة يخاطبون غير الملتزمين بالإسلام, والواجب أن يتحرك الدعاة لمخاطبة المجتمع كله بالإسلام, ودعوة غير الملتزمين إلى الالتزام بالإسلام، بالوسائل المناسبة من خلال الاحتكاك والمخالطة والاتصال والدعوة وغشيان الأماكن التي يتواجدون فيها ، وباستخدام الوسائل التي يمكن أن تصل إليهم، ما لم تكن محرمه؛ فإن الإنسان لا يجوز له أن يغشى المحرم بحال من الأحوال، ولذلك تجد كثيراً من الناس يعيشون في عالم آخر وهم في نفس المجتمع، لا يدرون ماذا يجرى في مجتمعات المنحرفين .والعكس بالعكس كثير من المنحرفين لا يدرون ما عند الطيبين, وربما ردوا بضاعتهم قبل أن يعرفوها, أو يتعرفوا عليها؛ لذلك ينبغي أن نقيم الجسور مع هؤلاء الناس بهدف إصلاحهم, ودعوتهم إلى الله . والرسول صلى الله عليه وسلم كان يغشى نوادي أهل قريش ومحافلهم, ويدعوهم إلى الله ، فكلنا يعلم أنه كان يأتي إلى عكاظ ومجنة وذي الحجاز، ويغشى منازل الناس في منى ومزدلفة وغيرها في مواسم الحجيج، ويقول لهم: [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا] رواه أحمد ، والناس ينظرون إليه ويقلبون رءوسهم وأبصارهم ؛ حتى قيَّض الله له من سمع وأجاب، فينبغي ألا تدوم هذه العزلة بين الطيبين وبقية طبقات المجتمع، وقد يقول بعض الأخوة : فأين الولاء والبراء، فأقول: نعم الولاء والبراء, أولاً هو مع الكافرين بالدرجة الأولى، وحتى الكافر تدعوه إلى الله بالأسلوب المناسب، وتجب دعوته إذا استطعت إلى ذلك سبيلاً، فإذا علمت إصراره وعناده, فحينئذ تتبرأ منه. وأما الإنسان المسلم المنحرف, فإن الواجب في حقه أن يدعى إلى الله بالوسائل المناسبة, فلا تتوقع أنه بمجرد أن تقول له: يا فلان إن ما تصنعه حرام ينتهي عنه, قد يكون يعلم أن ما يصنعه حرام لكن عنده عوائق وعقبات كما ذكرنا، فتحتاج إلى التدرج معه حتى يتجاوز هذه العقبات، فإذا علمت أن هذا الإنسان مصر ومستهزأ، فحينئذ تهجره وتتركه وتتبرأ منه وتتخذ طريقاً غير طريقه.(/5)
ثانياً : وهو في مسئولية الطيبين والصالحين عن التزام الناس بالإسلام، وهو ما يتعلق بالقرناء الصالحين، وهؤلاء القرناء هم البيئة التي يعتمد عليها بعد الله في أخذ الشباب من البيئات المنحرفة وإيجاد محضن صالح لترك بيئتهم ، ولكن ينبغي الحذر من تسلل بعض الأمراض, أو بعض الأوضاع التي لا تتناسب مع هؤلاء الشباب مثلاً: أحياناً يشعر الشاب حين يدخل مع قوم طيبين صالحين، أنه في جو ملئ بالوقار وسمت الهيبة، والبعد عن كل ما يمت إلى التبسط والمزاح بصلة، ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثير التبسم, ومن أمثلة ذلك:ماذكره أنس: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا كَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدِيَّةَ مِنْ الْبَادِيَةِ فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ]وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ فَقَالَ الرَّجُلُ : أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَرَفَهُ وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : [مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ] فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ أَوْ قَالَ: لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ] رواه أحمد .و كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لأنس: [ يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ] رواه الترمذي وأبو داود وأحمد . كل إنسان له أذنان، لكنه يخاطب أنسا بهذا ممازحة له ومباسطة له.وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ عَلَيْنَا وَلِي أَخٌ صَغِيرٌ يُكْنَى أَبَا عُمَيْرٍ وَكَانَ لَهُ نُغَرٌ يَلْعَبُ بِهِ فَمَاتَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَرَآهُ حَزِينًا فَقَالَ:[مَا شَأْنُهُ] قَالُوا مَاتَ نُغَرُهُ فَقَالَ:[يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد ... ومزاح الرسول صلى الله عليه وسلم كثير في الباب، فلا بد أن تكون الأجواء فيها قدر من السعة والمرونة ، وفرصة لشاب أن يتحرك يميناً وشمالاً ، ويعبر عن بعض الأشياء الموجودة في نفسه .
و كذلك مما يجب أن يراعى: أن بعض مجتمعات الشباب ، قد يكون فيها نوع من القضاء على شخصية الواحد منهم، يشعر الشاب بأن شخصيته تصهر وتذاب في وسط إخوانه، فإذا قال رأياً يقال: يا أخي ما سألناك، وإذا قال : لِمَ حدث كذا وكذا ؟ يقال له : نحن أعلم, فيشعر الشاب أنه لا يستطيع أن يحقق ذاته في وسط هؤلاء الطيبين: فإما أن يتخلى عن شخصيته وأما أن يتخلى عنهم, وحينئذ فالشباب ينقسمون في هذه الحالة إلى فئات:
منهم: من يكون إنساناً ذا مواهب، وعنده قدرات، فيترك هذه البيئة وقد ينحرف، ولا يجد القرناء الطيبين, وقد يسوء ظنه بهم ...
و منهم: من يكون ضعيف الشخصية، تابعاً وقد يستمر معهم، لكن لو تغير عليه الشخص الذي يحتمي به, أو انتقل إلى بلد آخر أو مكان آخر, أو تعرف على أناس آخرين ... فإنه قد ينحرف ولا يستطيع أن يعيش مع هؤلاء والأصدقاء الجدد, وحتى لو لم ينحرف؛ فإنه قد يتمسك بهؤلاء الأشخاص أو بهذا الشخص ، أكثر مما يتمسك بالمبادئ وهو الدين الذي اجتمعوا عليه ، ويصبح عنده نوع تقليد وتبعية تمنعه من نقد الأخطاء ـ ونقد الأخطاء لابد منها ـ لذا ينبغي أن يكون للشاب قيمته ومكانته، في المجتمع الصغير الذي يعيش فيه ... له رأيه ... له مشاركتة ... له احترامه وتقديره.(/6)
كذلك يلاحظ أن الشاب الذي يدخل مع زملاء طيبين قد يشعر أنه لابد أن يدفع ضريبة قوية حتى يستمر معهم, مثلاً لابد أن يشارك في كل النشاطات، لابد أن يحضر محاضرات، لا بد أن يحفظ شيئاً من القرآن، لابد أن يحضر دروساً علمية، وهو غير مؤهل لذلك, ولا يرغب، وقد يكون جاء من بيئة منحرفة تماماً, فيشعر أن هذه ضريبة باهظة لا يستطيع أن يؤديها, وبالتالي يبحث عن أناس آخرين, والرسول عليه الصلاة والسلام كان يعطى كل إنسان بحسبه، فالناس مثل الآنية، هناك إناء كبير يسع الكثير، وآخر صغير، فأنت تعطى كل إنسان بحسبه, و على سبيل المثال، أتى رجل يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن الصلاة والزكاة والصوم والحج، وإذا انتهى منها قال : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قال:[لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ] فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود وابن ماجه وأحمد ، فينبغي أن يوجد مكان في أوساط الطيبين والصالحين، حتى لمن يريد أن يلتزم فقط بأركان الإسلام ، ويبتعد عن المحرمات.. وحين أقول بعض المآخذ على الدعاة وطلاب العلم والطيبين، فإن هذه الأشياء هي قطرة مغمورة في بحر حسناتهم، وهم على ما هم ، خير الناس ، وخير القبائل ولكن هذا لا يمنع وجود أخطاء ولا يمنع من السعي لتعديلها.
أسأل الله لي ولكم التوفيق، والثبات والصلاة والسلام على عبده ورسوله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من محاضرة : عقبات في طريق الالتزام لفضيلة الشيخ/ سلمان العود(/7)
عوائق وعلاجات في طريق الدعوة
رئيسي :الدعوة :
العوائق الداخلية في الحركة الإسلامية: وتأتى أهمية معرفة العوائق، وضرورة مدارستها من عدة أمور منها :
أولًا: أن هذه المعرفة هي الطريقُ لتحقيق النصر: حيث إنه لا يكفي لقيام أمر ما أن تتحقق موجباتُه بل لابد أن تنتفي معوقاتُه.
ثانياً: أن المجتمع المسلم لا يبنيه إلا أصحاب الحركة الإسلامية: ولذلك كان لابد من نقاء الحركة من جميع الشوائب التي تُمثل العوائق في تحقيق الغاية.
ثالثاً: أن النظر بالعوائق ومعرفتها ليتجنبها الدعاةُ؛ منهجٌ سلفيٌ أصيل : فهذا حذيفةُ بن اليمان الصحابي الجليل يقول :' كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي' رواه البخاري ومسلم .
رابعاً: أنه السبيل إلى إتمام البناء الإسلامي الشامخ.
خامساً : وحتى لا يخدع أصحاب الدعوة والحركة الإسلامية: فَتنخُر بهم دابة البشر من حيث لا يشعرون، وهذا أمرٌ بينه الفاروق رضي الله عنه حين قال:'إنما تنتقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية'.
تعريف الدعوة :
لغة: يقول صاحب القاموس المحيط: دعا ودعاء ودعوى، أي: الإمالة والترغيب.
اصطلاحاً: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:' الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسلُه بتصديقهم فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا به' 'الفتاوى 15 / 157'.
مصادر الداعية:
أولا: القرآن الكريم :ففي القرآن الكريم آيات كثيرةٌ تتعلق بأخبار الرسل الكرام، وما جرى لهم مع أقوالهم، وما خاطب الله تعالى به خاتمهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:} وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ[120]{ 'سورة هود'. وقال تعالى:} لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[111]{ 'سورة يوسف'.
ثانيا: السنة النبوية: من لُطف الله سبحانه أن جعل النبي صلى الله عليه وسلم يمر في ظروف متعددةٍ لا حصر لها حتى يكاد الإنسان يجزم أنه كما قال الصحابة رضوان الله عليهم:'إن أحدنا ليفقِدُ سوطَهُ فيجدهُ في القرآن'.
ثالثا: سيرة السلف الصالح : من الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان، حيث كانوا أعلم من غيرهم بِمُرادِ الشارع، وفقهِ الدعوة إلى الله، وما زال أهل العلم يستدلون بسيرتهم.
رابعاً: استنباطات الفقهاء :يعتني الفقهاء باستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، ومن هذه الأحكام ما يتعلق بأمورِ الدعوة إلى الله، مثل: أحكام الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد والحسبة، وقد أفردوا لهذه أبواباً خاصة.
خامسا: التجارب: فهي مَعلمٌ جيدٌ للإنسان لاسيما لمن يعمل مع الناس، وللداعي تجارب كثيرة في مجال الدعوة هي حصيلةُ عملهِ المباشر مع الناس، ومباشرتهِ للوسائل فعلا في ضوء ما فهمه من المصادر السابقة؛ لأن التطبيق قد يظهر له وجه خطئه فيتجنبه في المستقبل، وهذا هو المأمول من المؤمن فإن:' المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين' وكما أن الداعي يستفيد من تجاربه الخاصة، ويستفيد أيضا من تجارب الآخرين في مجال الوسائل والأساليب فإن:' الحكمة ضالة المؤمن يأخذها من أي وعاء خرجت'.
ضوابط في الدعوة:
أولا: وضوح الغاية في أعماق الداعية حتى لا يزيغَ به الهوى أو تنحرفَ له رغبةً.
ثانيا: القدوة الحسنة: وهي من أبرز وسائل الدعوة إلى الله، وجذب الناس إلى الإسلام، فالسيرة الطيبة الزاكية، والأفعال الحميدة والصفات الرفيعة تجعل الداعية قدوة طيبة وأسوة حسنة لكل الناس؛ لأنه يكون بها كالكتاب المفتوح يقرأ الناس فيه معاني الإسلام فيقبِلُون عليها، وينجذبون إليها.
وللقدوة الحسنة أصلان كبيران:
? الأول: حسن الخلق: يجب على الداعية أن تتوفر فيه تلك الطبيعة الرحيمة، اللينة، المعدة لأن تتجمع عليها القلوب، وتتكاتف حولها النفوس.
? الثاني: موافقة العمل القول: فيجب أن يحذر الداعي من مخالفة أفعاله لأقواله؛ فإن النفس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعمله، ولا يوافق فعله قوله ولهذا قال شعيب صلى الله عليه وسلم:} وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[88]{ 'سورة هود'.
قواعد عامة فيمن يعمل على إزالة المنكر:
القاعدة الأولى: الإيمان لمن يتولى هذه المهمة.
القاعدة الثانية: الاستقامة في المزيل للمنكر والرفق واللين.
القاعدة الثالثة: القدرة على تغيير المنكر.(/1)
القاعدة الرابعة: أن يكون المنهي عنه منكراً.
القاعدة الخامسة: أن يكون المنكر ظاهراً بغير تجسس.
القاعدة السادسة: ألا يسبب الإنكار منكرا أكبر منه.
المعوقات الداخلية للحركة الإسلامية:
العائق الأول : وجود المنشقين عن جسم الحركة الإسلامية : إن أشد ما تعانيه قيادات العمل الإسلامي، وأكثر ما يُشغلها عن عملها اليومي وجودُ أولئك الذين نزغ الشيطان بينَهُم وبين إخوانِهم بعد أن تركوا قولَ الأحسن، وفعلَ الأحسن:} وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا[53]{ 'سورة الإسراء'. وهذا العائق الضخم -المنشقين- إنما يأتي من أمور لابد من بيانها:
الإشاعة : وهي: أخبارٌ مشكوكٌ في صحتِها، ويتعذرُ التحقُقُ من أصلِها، وتتعلق بموضوعات لها أهمية لدى الموجه إليهم، ويؤدي تصديقُهم أو نشرِهم لها إلى إضعاف روحهم المعنوية.
غياب معنى الحب والاعتراف بالود: قال الإمام الشافعي رحمه الله :'الحر من راعى وداد لحظة أو انتمى لمن أفاده لفظة'.
عدم الحركة والعمل من قبل المنشقين: قال تعالى:} إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ [39]{ 'سورة التوبة'. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:'إذا لم ينفروا في سبيل الله عذبهم الله بأن يُلبسهم شيعاً، ويُذيقُ بعضهم بأس بعض'' الفتاوي 15 / 44'.
الاشتغال بالغيبة والنميمة والغمز واللمز: قال الفضيل بن عياض:' إذا ظهرت الغيبة ارتفعت الأخوة' . ومن خلال الاستقراء تبين أن الذين يقعون في هذا المرض الخبيث إنما يقومون بالدفاع عن أنفسهم حقيقة، مع أنهم كانوا بإمكانهم أن يعمدوا إلى الطريق بقنواته السليمة بعيداً عن الانتقام للذات وانتهاج سبيل الموبقات.
التحدث في المجالس العامة والخاصة بأخطاء الدعاة والقيادات : إن من أكبر الأمور التي تُشغل أجواء الانشقاق هو هذا الكلام المشاع الذي لا يعرف ورعاً مانعاً ولا حكمةً مصحِحة، ولذلك انتبه عبدالرحمن بن عوف لهذه المسألة فطلب من عمر رضي الله عنه ألاَّ يتحدث عن يوم السقيفة في موسم الحج؛ مخافة الإنشقاق والفتنة، فقال رضي الله عنه لأمير المؤمنين في الحج:' لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ فِي النَّاسِ وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ وَأَنْ لَا يَعُوهَا وَأَنْ لَا يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا فَيَعِي أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَكَ وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا ' رواه البخاري.
هذه هي الأسباب التي تُسهم في الانشقاق والتي يدفعها الداء الخفي' حب الرئاسة'. قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية ؟ قال :' حب الرياسة' فقال شيخ الإسلام ابن تيمية معقباً:' فهي خفية تخفى عن الناس، وكثيراً ما تخفى على صاحبها'' الفتاوى : 16 / 346'.
العائق الثاني : ضعف الرابط بين القيادة والقاعدة من حيث الثقة والصلة : فتختلف الكلمة ويدب التنازع الذي هو طريق الفشل، قال الله تعالى:} وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [46]{ 'سورة الأنفال'.
العائق الثالث: ضعف الروح العلمية في الحركة الإسلامية: ومن صور الضعف:
? النظر إلى الأمر لا باعتبار الحق الذي فيه بل باسم وشخص من يقول: ومن هذا حذر علي رضي الله عنه فقال:'اعرف الحقَ تعرف أهله'.
? عدم الحرص على الازدياد العلمي: وبهذا قال الرافعي رحمه الله:' إن لم تزد شيئاً على الدنيا كنت زائداً على الدنيا' .
? الغفلة عن التأصيل الشرعي للأعمال اليومية: إن الحركة الإسلامية غاياتُها ربانية، ووسائِلُها كذلك، وعندما تغفل الحركة عن ذلك، وتتخذ وسائل غير منضبطة بالشرع؛ تكون قد سدت على نفسها خيراً كثيراً، وبذلك يقول ابن القيم رحمه الله:' جعلوا الشريعة قاصرة لا تقومُ بمصالحَ العباد محتاجةً إلى غيرها وسَدُّوا على نفوسِهم طُرقاً صحيحةً من طرق معرفة الحق'.
العائق الرابع : شبه العزلة عن قوى الشعب : وهو عدم انفتاح الحركة، ودورانها في داخلها وهذه آتية من:
?عدم فهم قضية الاستعلاء الإيماني .
?اليأس من استجابة الجماهير باعتبار أن الجماهير يُصفقون لكل حاكم، ورميهم بالفسق.
?مطالبة الجماهير بما يُطالب به أصحاب الحركة.
?عدم التفريق بين الثبات على الأسس والقواعد والضوابط، ومفهوم تجديد الأساليب والتحرك.(/2)
?عدم مشاركة الجماهير في احتياجهم وأعمالهم –كالأمثلة الآتية-: الاشتغال بأعمال إنقاذ الناس من المجاعة، تشجير المناطق الصحرواية، إنشاء مراكز للتعليم، ومستشفيات للعلاج وغير ذلك.
العائق الخامس: حب الدنيا وتعظيم الذات: إن حب الدنيا يُعطى للقلب استعداداً للفتنة، فيكون الداعية كحوض ماءٍ راكدٍ ترسَّب الطين في قعرِه، تُلقِىْ فيه حجراً صغيراً فيختلطُ كُلَه، وقد كنتَ تظنهُ زلالاً. أما الحوضُ النظيف، فإن إلقاء الحجر فيه يزيده جمالاً بما أحدث من دوائر الأمواج التي تعكس ظلال الأغصان الخضراء. ولهذا الأمر كان تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الوهن الذي هو:'حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ' رواه أبو داود وأحمد. وحب الدنيا هو الطريق بعد ذلك إلى حُب الذاتِ المتمثل في حب البروز، والعمل فقط في الصف الأول والبحثُ عن الأضواء.
ولِنتَلافى هذا العائق: لابد من وضوح ما كان عليه سلفنا رضوان الله عليهم، فهذا الإمام الحسن البصري رحمه الله يقول عنه الأمراء:' احتجنا إلى دينه واستغنى عن دنيانا'.
العائق السادس: ضعف التخطيط : إن الحركة لا تدع نفسها للظروف والمصادفات تُسيرُها سيراً عشوائياً، تعمل مالا تُريده، وتُريد مالا تعلمه، وتُدفع دفعاً إلى السير في غير طريقها، ولكن يجب أن تسير في خطٍ واضح المعالم، محدد المراحل، بين الأهداف، معلوم الوسائل، على أن هذا التخطيط يكون بقدر الاحتياج مناسباً للمرحلة، متناسباً مع المرحلية زيادة ونقصاً.
العائق السابع: إثارة الشبهات على الدعوة والدعاة في أوساط الدعاة :
? والمراد بالشبهة:ما يثير الشك والارتياب في صدق الداعي، وحقيقةُ ما يَدعو إليه، فتمنع المدعو من رؤية الحق والاستجابة له، أو تؤخر هذه الاستجابة.
? مراد مثيري الشبهات: يحتج الكثير ممن يثيرون الشبهات حول الدعوة والدعاة، أن هذا من قول الحق.. وإنكار المنكر !! وهم في الغالب ليسوا كذلك، إذ يقترن بقولهم الحق الذي يزعمون الكثير من المفاسد التي تُشير إلى أن هدفهم هو الفضيحة لا النصيحة..!!
أصول رد الشبهات: إن تتبع الشبهات والرد عليها أمر يصعب على الإنسان لأمرين:
الأول: إن أصحاب الحركة ما داموا يتحركون.. فلابد أن يصدر عنهم الخطأ، وهذا أمر يدل على الحركة والعيش في الواقع.
الثاني: إن الذي يبحث عن الشبهات ويقيمُ كيانَه على أعراض الناس، إنما يمثلُ دور الذباب في حياة البشر الذي يحوم باحثاً عن القيح الناتج عن الأجزاء المريضة في الجسم.
? الأصل الأول: الاحتكام إلى الكتاب والسنة:} وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [10]{ 'سورة الشورى'.
? الأصل الثاني: أن كلَ إنسان يُؤخذ من كلامه ويُرد إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم.
?الأصل الثالث: أن رجالات الدعوة ليسوا مجرد علماء يُلقون الدرس على طلبة العلم، ويحققون المسائل العلمية، ولكنهم رجال أبصروا تضعضع الأمة الإسلامية وتأخرها وبعدها عن دينها إلى غير ذلك مما تعانيه الأمة الإسلامية، فأخذوا على أنفسهم بعد توفيق الله أن يُعيدوا بناء الأمة من جديد ببناء الشخصية الإسلامية.
العائق الثامن : الضعف في الاهتمام التربوي : فمن منعطفات الحركة الإسلامية:' أن تتخفف من قيود التربية والتكوين والالتزام بتعاليم الإسلام لتكوين القاعدة المتينة، وتلجأ إلى الأسلوب السياسي على نمط الأحزاب السياسية، وتنخدع حينئذ بالكثرة التي تقبل بسبب احتمال المغانم، ولعدم وجود التزامات تربوية...'' من فقه الدعوة: صـ 35' فالاهتمام بتكوين الشخصية الإسلامية؛ هو حجر الزاوية في البناء الإسلامي .
ومن نتائج الضعف في الاهتمام التربوي:
التوسع العددي مع عدم وجود القاعدة الصلبة: إن الحركات الإسلامية يجب أن تعلم خطورة استقطاب رجل الشارع والجماهير الواسعة فهي من المزالق التي تنساق لها الحركة الإسلامية قبل حصول المقدار اللازم من الوعي الإسلامي، والعدد الكافي من أصحاب التربية الصلبة، إن هذا النوع من التجميع ممكن لكنه لا يستمر طويلًا. حيث إن إيجاد جماهير تنتسب للدعوة أمر سهل، ولكنها تنفر من الخطوات الحكيمة، وتندفع اندفاعات غير موجهة ولا هادفة، وربما طوعت الإسلام لقبول ما ليس منه، وحملت مفاهيم مشوبة بنظريات الفكر، وعقائد مختلطة بالبدع.
عدم اعتماد المرحلية والتدرج في الخطوات: لأن السير الطبيعي هو أن تسير الحركة سيراً منسجما تماماً مع قدرتها وقوتها، فهي تمشي ببطء عند الضعف، وتسرع الخطى عند القوة، أو سنوح الفرصة.
الاستعجال واعتساف الطريق: إن من الخطأ اعتساف الطريق، واستعجال الثمرة قبل نضوجها، فالحركة الإسلامية يجب أن تعتمد طريق الرسول صلى الله عليه وسلم منهجاً ولو طال الطريق:}وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ[126]{ 'سورة آل عمران' .. } فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [ 15] {'سورة الشورى'.(/3)
عدم القدرة على الاحتفاظ بالأعضاء:فيحس الفرد في الجماعة أنه في دائرة ضيقة لا تتسع، وأنه يدور في حلقة مفرغة، فيتولاه السأم، لأن الجماعة لا تعتبر بيئة صالحة لنمو الفرد واستثمار وقت فراغه.
العائق التاسع: محاولة إدخال الدعوة في عموميات العوام: بات من المقرر عند الدعاة أن هناك قواعد أثبت الواقع والفهم السليم أنه لا خلاف عليها نحو:
أن مهمة الدعوة إدخال المَلِك في دين الله لا دخول الدعوة في دين الملك.
أنه لا التقاء مع المخالفين في أصول الدين في منتصف الطريق... ومن مثل هذه كثير أصبح واضحاً لأهل الدعوة، وعلى ذلك لن نقف عندها .
حوار هاديء عند قضايا جديدة:
? دخول العوام في منهج الدعاة لا دخول الدعوة في عموميات العوام:قد يخطر على قلب أحد خواطر غريبة فيقول بعد قراءة العنوان: أَتُريد دين الله أن يكون خاصاً بفئةٍ معينةٍ من الناس؟
والجواب:لا تعجل، فالمراد في حديثنا هذا مفهوم: إدخال العوام في صفوف الدعاة عن طريق التخلي عن الموازين والضوابط التي جعلتها الدعوة أساساً لبنائها.
وإن أردت أن تسمع فأعطني سمعك لأسمعك ماذا يقال من أفريقيا البعيدة :'عليك بتنزيل مستواك الإيماني' و'على الحركة الإسلامية تنزيل مستوى التدين!! '. ومن آسيا:' ضرورة التساهل في الشروط – أي شروط وموازين أفراد الحركة-' .
هناك حقيقة في النفس البشرية لا يمكن إغفالها وهي: حب التملك والمكاثرة:}أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ [1]{ 'سورة التكاثر' ويعبر عن هذه القضية البعض: بالحرص على التجنيد . وهذه تشتد في البلاد التي نظامها كما يسمونه:'ديمقراطي' فيكون الشعار:' كلما جندت شخصاً ساعدت على حصولنا على مقعد انتخابي في أي مركز من مراكز التوجيه والتأثير' .
وهنا يفهم المراد بقولهم السابق:'نزل مستواك الإيماني' بمعنى: إذا رأيت الذي معك لا يحرص على هدى النبي صلى الله عليه وسلم فلا شيء، فالأمر فيه خلاف عند العلماء، وإذا أراد أن يذهب إلى 'دار السينما' مثلًا؛ فلا حرج من ذهابك معه، فالصور الموجودة عبارة عن خيال وليست حقيقة، وهناك من جوز من العلماء!! وهكذا بعد فترة يجد الداعي المسلم نفسه خالياً من محتواه الذي يُميزه عن غيره من أصحاب الأحزاب الأرضية، ويظل الاختلاف قائماً بالأسماء دون المسميات.
وهذا من ثم ينسحب على الجماعة فتُنزل من مستوى التدين عندها لكي تستطيع أن ترضي أكبر عدد من القطاعات ليتسنى لها كسب أكثر عدد ممكن من الأصوات!! وعندئذ تفقد الحركة أصالتها كما فقد الفرد محتواه. وتتغير الصورة وتدخل الجماعة في دين العوام .
العائق العاشر : حب الدعاة والتعلق بهم لدرجة عمى العيون والأبصار والافتتان بهم : قديماً قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه مبيناً منهج معرفة الحق: 'لا يُعرفُ الحقُ بالرجال بل يعرف الرجالُ بالحق، اعرف الحقَ تعرف أهله'.
فعندما يُفتن الإنسان بشيخه لا يرى عيبه، بل الأكثر من ذلك أن ينظر إلى شذوذ شيخه على أنه قاعدة علمية، على الناس أن يأخذوا بها.
العائق الحادي عشر:نسيان قاعدتي القبول: الإخلاص وموافقة الشرع: كثرة الانتصار، وانتفاشة العضلات، وتصفيق المؤيدين كل هذه وأمثالها تنسى الداعية الضوابط الأولى التي كان يرتكز علها في بداية الطريق.. وهذا المرض قد يكون متوقعاً في بدايته حيث يسهل إزالته بموقف إيماني يرجعه إلى صوابه الأول، فها هي الانتفاشة تحصل للجيل الأول، فيصيبهم البهرج وتُخدش القلوب فيأتي الشافي الأعظم، والنور الساطع ليرجع الناس إلى أصولهم وقواعدهم:} ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [24] وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [25] وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [26] ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ واَلرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [27] وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [ 28]{ 'سورة الأنفال'. فكانت هذه الآيات البلسم الشافي الذي لا يحتاج إلى بيان ، في إرجاع النفوس إلى صفاء ونقاء أوقات البداية، وصدق من قال:' واشوقاه لأوقات البداية' } وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الأرْضِ... [26] { 'سورة الأنفال'. وفي هذه اللحظات، وعند الرجوع للمعين الصافي يكون الترديد من الجميع:' اللهم لا حول ولا قوة لنا إلا بك ، اللهم بك نصول وبك نجول' .(/4)
العائق الثاني عشر :حلاوة المظهر وخداع البصر : التي يصطنعها أعداء الله ليخدعوا بها الحركة، فيظنون السائل ماء وهو شراب مسكر، يذهب بلباب الرجال؛ فيضلون الطريق. ومن أمثلة هذه الصورة: ما يظنه الكثير من المسلمين في البلاد التي تنتشر فيها المظاهر الإسلامية أنهم على الخير، وأن الأحزاب الباطلة كالشيوعية والماسونية وغيرها من الاتجاهات اللادينية محاربة، ومقضي عليها، فلذلك لسنا بحاجة إلى حركة إسلامية، فالناس بخير، والمساجد منتشرة، والجمع قائمة، وهكذا يظن الجميع أن الأرض مخضرة.
العائق الثالث عشر :سقوط قيادة العمل الإسلامي في الدنيا وحبها : إن قيادة العمل الإسلامي تكليف وتعب وجهد أكثر مما هي تشريف، وهي مغرم وليست مغنماً.. هذه حقيقة، ولكنها تخفى على الجميع في لحظات إقبال الدنيا وبهرجها وزينتها.. ولتصوير ذلك لابد من ذكر ما ذكره الطبري قال : دخل ذات يوم عبد الرحمن بن عوف على أبى بكر في علته التي مات فيها فقال :'أراك بارئا يا خليفة رسول الله، فقال أبو بكر: أما إني على ذلك لشديد الوجع ، ولما لقيتُ منكم يا معشر المهاجرين أشدُ على من وجعي.. إني وليتُ أموركَم خيرُكم في نفسي- يقصد عمر بن الخطاب- فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه...' فإذا كان معاشر المهاجرين حرصوا عليها فما بالنا نحن!!
العائق الرابع عشر: ظهور مفاهيم مغلوطة من جراء نظرات محصورة:إن الناظر في خلافات أصحاب الحركة يرى أن السبب متمثل في أن كل واحد منهم نظر إلى جانب من الحركة وجعله هو الحركة، وخاصم وفاصل عليه، وخطأ الآخرين في ضوئه، مع أن الحركة تشمل الجوانب كلها. ولتوضيح هذا الموقف نذكر هذه الصورة :
انقسم أهل الدعوة على رأيين: هل الحركة الإسلامية حركة تغييرية أو إصلاحية ؟ ودارت منازعات واتهامات.. وفي هذا المجال نقول: لا خلاف بين الفريقين فالحركة الإسلامية إصلاحية في مجال الإصلاح، وتغييرية في مجال التغيير. والناظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يرى قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالأعمال الإصلاحية: من محاربة المفاسد، ودعوة إلى الأخلاق، في نفس الوقت الذي كان يعرض نفسه صلى الله عليه وسلم على القبائل ليكون دولة الإسلام بهم التي تقوم بعمل التغيير للوجه الجاهلي للجزيرة العربية، فعلى ذلك فلا مبرر للصراع والاتهامات على أن يكون الهدف النهائي للحركة الإسلامية هو عبادة الله بمفهومها الواسع، وهدم الطاغوت كما قال الله تعالى: }أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ [36]{ 'سورة النحل'.
العائق الخامس عشر:الافتتان ببهرج التخطيط والعلم الإداري : نتيجة لاحتكاك شباب الدعوة في العلوم الإدارية والتقسيمات الفنية من خلال دراستهم الجامعية. واحتكاكاتهم اليومية في مجالات الوظائف العامة والخاصة، وعن طريق سماع المحاضرات العامة.. حصاد هذه الأمور كلها خرجت نبتة غريبة عن الحس الإيماني، والضوابط الشرعية، والأدب الإسلامي. فأخذت تسفه مناهج العمل الإسلامي، وتصفها بالسذاجة تارة، وبعدم مواكبة تطور الواقع تارة أخرى، لذلك فهي لا تخطط بل تسير بتخبط، والأدهى من ذلك إقران ما يرونه تخبطاً بالبركة الإيمانية، فيقولون بأن الحركة تسير بالبركة، فيفهم من ذلك أن البركة الإيمانية تصادم الحركة التخطيطية!!
إن التخطيط نسبي يختلف من أمر إلى آخر، ويؤخذ بقدره وينظر إليه على أنه وسيلة لإنتاج أفضل وأسرع، لا أنه غاية في نفسه، ثم إن المراد والمطلوب الشرعي هو استغراق الجهد البشري لطاقته في تحصيل أمر من الأمور، مع الاستعانة بالله تعالى الذي خلق الأسباب ومقتضياتها.
ثم يجب ألا يغيب عن تفكير المفتونين بالتخطيط أن كل مرحلة من مراحل الدعوة تستلزم طبيعة، وصورة مناسبة للتخطيط، فالمرحلة الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حين كان الأمر مقصوراً على الاتصال الفردي بأهل مكة، والتعبد في شعب أبي طالب، والتدارس في دار الأرقم بن أبي الأرقم؛ تختلف عن مرحلة الهجرة والتحرك للهجرة.(/5)
وهكذا تبدأ القضية بأهمية التخطيط، وتنتهي بضرورة التغيير وعدم الجمود.. تغيير وتغيير حتى لا يبقى شئ مستقراً، ومن ثم تضيع الأصول، فيقوم بناء ويسقط آخر ،، ويسقط الذي قام ليقوم غيره ، وبهذا يحدث القلق، وعدم الاستقرار الذي هو مراد أعداء الحركات الإسلامية وبهذا يقول الدكتور محمد المبارك:'إن الدعوة إلى التغيير المستمر دعوة يهودية ماكرة يراد بها قلب المجتمعات، وإحداث القلق، ومنع الاستقرار، وقد استغلت فكرة التطور أقبح استغلال لمحاربة الأخلاق، وباسم التقدم والتطور لمحاربة الإسلام وتشريعه ونظمه ومثله العليا. ولعل مبدأ الانحراف في التفكير الإسلامي في هذا الجانب أن ينظر الدعاة إلى المنهج الإسلامي كمنهج من مناهج التفكير البشري الأخرى فيغفلون عن كونه ديناً ربانياً، سيقف صاحبه بين يدي الله يوم القيامة. وتأتى خطورة هذا الطرح بكونه يلاقي استواء لدى الشباب الذين من عادتهم أخذ كل ما هو ثوري ومتغير لما فيه من خروج على المألوف وإشباع للغرور الفردي '.
العلاج الأول:البناء العقدي النظري الواضح: أن تكون الأسس واضحة جلية مستقاة من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مهتدية بهدى سلفنا رضوان الله عليهم، فيكون العمل قائماً على قواعد، وتأصيلات مستقرة.
العلاج الثاني: الثقة وأثرها في الاطمئنان: إن الهزات التي تنتاب الفرد وتكاد تسقط به من قافلة المسير إنما مرجعها إلى الاختلال الذي يحصل للنفس المتعلقة ببحثها عن ذاتها. ففي غيبة الثقة الرابطة والماسكة لبناء الحركة ترى الفرد المضطرب بعد أن ينظر إلى نفسه وما يحوزه من ملكات أو صناعات: من قوة في العبارة، وسلاسة في الأسلوب، وفصاحة باللسان، ورصانة في القلم، فيعتلي المنبر خطيباً يهز الجماهير، ويكتب الصحيفة كاتباً يشد انتباه المشاهير، ثم يعاود النظر إلى نفسه وذاته ومكوناته، ثم يلتفت في الجهة الأخرى إلى ما أعطي من كرسي في العمل الإسلامي، فيرى الفارق الكبير بين ذاته في المجتمع الكبير المعاش، وبين ذاته في إطار غير الحركة الإسلامية، فيرى الفارق بين المكانين فيقع في نظرة بعيدة عن ميزان الثقة تجعل من النفس أوتاراً حادة متحركة صارخة في نفسه:' قد وقع عليك الظلم في حركة تحارب الظلم' ، ويبدأ الصراع ويتحرك شياطين الإنس والجن بإشعال نار الفتنة التي وجدت في النفس المضطربة أرضاً وبيئة.
العلاج الثالث : الاهتمام بالفرد قبل مؤسسة العمل : إن الأساس في العمل الإسلامي هو تحسس نهج النبي صلى الله عليه وسلم في واقعه العملي في المرحلة المكية والحياة المدنية في مراحلها التي دارت بين التأسيس والتكوين إلى مرحلة الخروج والجهاد لمقارعة الباطل في دولته ومن خلف حصونه، فنرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يهتم فقط بالعلاقات الحسية بين الأفراد وبين قيادتهم بل حتى بالعواطف النفسية.. فهذا حاطب بن أبي بلتعة يهدم جانباً من أهم الجوانب في التكوين التنظيمي ومع ذلك يخفف عنه النبي صلى الله عليه وسلم روعه، ويهديء من انتصار المجموعة القيادية للحق، وذلك بعد أن علم صدق المخالف، وأنه لم يعمد إلى هذا الفعل يبتغي الهدم والانتصار للنفس على حساب جماعة المسلمين بل لشبهة عرضت له؛ لذلك عندما قال الغاضب للحق -عمر بن الخطاب رضي الله عنه - يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ فقال له القائد العام :' وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ' رواه البخاري ومسلم. وكان هذا البيان الرحيم الذي لمس أهداب النفس الحساسة قد أطفأ الفتنة، وطمأن القاعدة بأن الفرد هو الأصل، ولن يسحق ويهدد من أجل البناء التنظيمي للدولة. وكان ذلك بعد اعتراف الجندي وتوبته واستغفاره وإقراره ، بقوله:' فَقَالَ وَاللَّهِ مَا نَافَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ' ثم بين الشبهة التي عرضت له.. وما أحوجنا اليوم إلى قيادة إيمانية تتحسس الرضى والغضب، والفرح والسرور - من نظرات أفرادها، وزفرات تنفساتهم.
العلاج الرابع: أهمية ترابط أصحاب الدعوة الإسلامية في إطار واحد: إن من أهم أسباب النصر، وتحقيق الهدف؛ وحدة الصف، ووحدة القيادة، ووحدة التوجيه.. فإن أهم ما تسعى إليه القوى الضاربة للقوى الإسلامية هو تفتيت القوى الإسلامية، فينظر الناظر إلى نموذج الدول العربية التي يتحرك فيها الدعاة فيجد فيها أكثر من خمس وعشرين حركة كلها في نهاية لافتاتها كلمة 'الإسلامية' وهكذا تتوزع الطاقات، وتضيع الجهود، وتبرز القيادات المتناحرة، ويضحك الأعداء على كراسيهم، فالأصل في هذه الجماعات أن تكون في إطار واحد .(/6)
العلاج الخامس : المحاسبة: إن محاسبة النفس البشرية لذاتها المفردة أمر حرص عليه الأقدمون والمحدثون حين يؤمنون الاستمرارية بالخير والانقطاع عن الشر، فهذا الخليفة الثاني الفاروق عمر بن الخطاب يقول:' حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم'. هذا في مجال متابعة الفرد لنفسه الذي بفساده وانحرافه لا يضر إلا نفسه- وإن كان الأمر له تأثير على من حوله- فلن يعدو في تأثيره على أعداد لا تكثر على أصابع اليد، ومع ذلك كان هذا الحرص على المتابعة والتصحيح والتصويب، فيكون من باب أولى على الجماعة كجماعة أن تحاسب نفسها بمعرفة مواطن الصواب للاستمرار بها. ووضع اليد على أماكن الخلل لعلاجها، وإزالة الأجزاء المريضة.
العلاج السادس: بناء الحركة بالفرد: الحركة والعمل قوامها الفرد والمؤسسة فإذا أحكمنا هذا وهذا؛ ضمنا- بعد توفيق الله - حسن السير وقوة الإنتاج. والداعية إلى الله تعالى عندما يتربى على الصدق يكون كالسهم الذي ينطلق فيخرق الباطل من غير انكسار. وإذا اجتمعت السهام، وانطلقت انطلاقة واحدة على نقطة واحدة؛ فهي بمشيئة الله خارقة، وعلى ذلك فبعد صياغة الفرد لابد من التلاحم والتآزر.
العلاج السابع: انغماس ومشاركة علماء الشريعة في الحركة الإسلامية: في هذا العلاج نعلن:' يا علماء الشريعة: مكانكم في أوساط الدعاة، فلا تبخلوا، ولا تضعفوا، ولا تركنوا ' نعم من خلال الحركات الإسلامية يتم التغيير والإصلاح، فهي الأبواق التي بنيت الحوادث صلابة معدنها، ونقاء سريرتها، وصدقها مع ربها بعد أن تكتشف الأنظمة الزائفة، والدمى المتحركة، والأطعمة الفاسدة، بعد أن انكشفت الأيدي الصانعة للفطير اليهودي بالدماء العربية المسلمة!! فيا علماء الشريعة: أنتم ورثة الأنبياء، فالأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً ولا علماً خاملًا كسولًا، بل علماً وعملًا وفهماً وحركة، قلماً وسيفاً.
فالجهاد والدعوة والعمل تحتاج إلى إيمان وخشية، وهذه قد قررها الله للعلماء: } إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ...[28]{ 'سورة فاطر' فلا تتركوا إدارة العمل من داخله، وترضوا بما يخططه أعداء الله لكم من بقائكم خارج إطار التوجيه والتقنين، فمن ضروريات مهامكم المحافظة على سير الحركة في حدود الفهم الإسلامي.
العلاج الثامن: الالتزام الصحيح:} قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[108]{ 'سورة يوسف'. هذا البيان الإلهي ردده يوسف ومن قبله ومن بعده من الأنبياء عليهم السلام، ونردده اليوم نحن ورثة الأنبياء.. فهو النور والوضوح في الدعوة، بدون مماراة وتطبيب على الأكتاف، وخلط في المستقى والإعطاء.. إنها دعوة الله، وهو المتكفل سبحانه بها، وقد ألزم نفسه بحفظها فقال:} إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[9]{ 'سورة الحجر'.
وعلى هذا الذي سلف ذكره: فعلى الدعاة اليوم أن يعرضوا الإسلام كما أمر الله، وبالذي أمر الله بدون خلط .. يعرضونه بإخلاص مبتغين من عملهم وجه الله تعالى وجناته، لا يبتغون مدحاً ولا ثناء، يتخلصون من حظوظ أنفسهم، لا ينتظرون نتاج دعوتهم في الدنيا، ولا يأملون حتى تحقيق نصر هذا الدين في حياتهم..وهذا هو ما كان يربي الله تبارك وتعالى نبيه عليه، فيقول سبحانه:} وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ...[46]{ 'سورة يونس' أي: من العذاب، والهزيمة .} ...أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ...[46]{ 'سورة يونس' قبل أن نريك هزيمة الكفار، ونصر المؤمنين.
العلاج التاسع: إيجاد الحماسة في نفوس الشباب: إن الشباب الذين يتخبطون في الظلمات يُنادون الدعاة لإنقاذهم من الظلمة التي يعيشون فيها، وحتى يستطيع الدعاة ذلك لابد لهم من الحماس الذي يدفعهم للتحرك، والسهر، والجد، للأخذ بأيدي التائهين إلى الطريق المستقيم.
فلابد للدعاة من حماسة تحرك نفوسهم ومشاعرهم وقلوبهم لهذا الدين.. حماسة لإنقاذ البشرية من الضلالة والغي إلى طريق الهدي والخير.. حماسة لأولئك المسلمين الذين يعذبون في بقاع الأرض.
وهذه الحماسة تُزرع من خلال:
? الإسلام بشموله، ومدى صلاحيته للبشر.
? التفكير بالواقع المرير الذي نعيش فيه وبعده عن الإسلام، وكيف ننقذه؟
? الاطلاع على التاريخ الإسلامي الذي اعتز به المسلمون الأوائل.
? حاجة الناس في وقتنا الحالي إلى الإسلام.
? إيجاد الفهم الدقيق للإسلام بأن تتوفر العقلية المبتكرة للدعوة، العقلية التي تستطيع أن تتصرف في أي وقت وأي موقف.
? الإيمان العميق.
العلاج العاشر: بناء رجل الدعوة: من المسلَّم به أن قوة الأساس في أي بنيان تتناسب طردياً مع الثقل الذي سيقام عليه، ولما كان حمل الدعوة الإسلامية هو أثقل ما يمكن أن يحمله الإنسان، فلابد أن يكون حملة الدعوة من القوة والصلابة ما يجعلهم أهلا لحمل هذه الدعوة العظيمة.(/7)
العلاج الحادي عشر: أهمية وجود المربي: لابد للداعية من أن يجعل من نفسه أداة تربوية، تربي الناس بصغار الأخلاق وكبارها، مستنيرة بالقرآن الكريم، وهدى الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالمربي ليس بدعاً من الأمر، فهو عنصرٌ مهم في مهمة الأنبياء فهذا كعب بن مالك رضي الله عنه يصف لنا بيعة العقبة الثانية فيقول : بعد أن اجتمع النفر من الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ كل منهم من الآخر ما أراد لدينه ولنفسه، قال لهم صلى الله عليه وسلم:' أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ' رواه أحمد. فلما بايعهم خاطبهم قائلًا:' أَنْتُمْ كُفَلَاء عَلَى قَوْمكُمْ كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى اِبْن مَرْيَم' رواه ابن أبي شيبة في 'مصنفه' وابن سعد في 'الطبقات' والحاكم في 'المستدرك'. إذن فسلالة الدعوة، وسبيل التربية الربانية؛ اتخاذ كفلاء على الأفراد، يقومون بتربيتهم وتقويمهم على ما يحب الله ويرضي.
العلاج الثاني عشر: زيادة الفهم والفقه للدعوة: لقد أثبت الواقع أن الدعاة بحاجة إلى ما نطلق عليه الآن مصطلح: 'فقه الدعوة '، والذي نعني به:'الفهم والإدراك العميق لماهية الدعوة الإسلامية، وحقيقتها، وسبيلها، ومقتضياتها' حيث أن فقه العامل لدعوة الله لا يقتضي منه أن يعمل على ترديد نظريات العمل الإسلامي في جوانبه المتعددة من تربية وتخطيط وتنظيم.. إلخ بكلمات تنطق، ولكن بترجمة ذلك إلى وقائع محسوسة، يسهم في الدفع المباشر، والتطوير الفعلي، والكسب الحقيقي لذلك العمل.
وهنا استعراض لبعض الجوانب التي يجب أن يفقهها الأخ وهو في مجال تحركه في الدعوة :
أن يفقه حق الفقه طبيعة مهمته، وأدوار الدعوة ومراحلها.
وأن يكون تفكيره ليس مجرد تفكير نظري ليس له رابط بواقع الدعوة ومشاكل الطريق.
وإن من الفقه أن يسلك الأخ نفسه وبمن معه من إخوانه المسلك الذي يبرز ويرسخ شعورهم بشمول الدعوة.
أن يربط يوميات نشاطه، وإخوانه، وتفكيرهم، والوقائع الجزئية والكبيرة في حياتهم الإسلامية بأهداف الدعوة.
عليه أن يركز جهوده وإخوانه للوصول بالعمل الإسلامي إلى درجة حسنة من المتانة، وبالتربية الروحية والأخلاقية إلى عمق كبير، وبالوعي السياسي إلى نضج كاف، وبالفكر الإسلامي إلى صفاء كامل لا تشوبه شائبة.
من كتاب:' طريق الدعوة الإسلامية' للشيخ/ جاسِم بن محمد بن مُهَلْهِل اليَاسين(/8)
عوامل إصلاح المجتمع
القسم : إملاءات > مقالات
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام الأتمان والأكملان على عبده ورسوله نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخواني وأبنائي في هذه الجامعة، وأسأله عز وجل أن يجعله لقاء مباركاً، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعاً، وأن يجعلنا هداة مهتدين وصالحين مصلحين، وأن يعيذنا جميعاً من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. ثم أشكر القائمين على هذه الجامعة على دعوتهم لي لهذا اللقاء، واسأل الله أن يوفقهم جميعاً لما فيه رضاه، ولما فيه صلاح أبناء الجامعة وموظفيها والقائمين عليها، ولما فيه صلاح المسلمين عموماً، وأن يزيدهم هدى وتوفيقاً وأن يعيذنا جميعاً وسائر المسلمين من كل ما يغضبه، ويخالف شرعه، إنه جواد كريم.
أيها الإخوة وأيها الأبناء الكرام. كلمتي أرجو أن تكون موجزة، ثم بعدها الجواب عما يتقدم به الأبناء من الأسئلة حسب الإمكان وعنوانها: "عوامل إصلاح المجتمع". المجتمع في أشد الحاجة إلى الإصلاح، المجتمع الإسلامي وغير الإسلامي، ولكن بوجه أخص المجتمع الإسلامي في أشد الحاجة إلى أن يسير على النهج القويم، وأن يأخذ بالعوامل والأسباب والوسائل التي بها صلاحه، وأن يسير على النهج الذي سار عليه خيرة هذه الأمة، خليل الرحمن وصفوته من عباده، سيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
ومعلوم أن العوامل التي بها صلاح المجتمع الإسلامي وغير الإسلامي، هي العوامل التي قام بها إمام المرسلين، وخاتم النبيين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وقام بها صحابته الكرام وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون المهديون: أبو بكر الصديق ، وعمر الفاروق، وعثمان ذو النورين، وعلي المرتضى، أبو الحسن، ثم من معهم من الصحابة رضي الله عن الجميع، وجعلنا من أتباعهم بإحسان.
ومن المعلوم أن هذه العوامل قام بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في مكة أولا، ثم في المدينة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا الذي صلح به أولها كما قال أهل العلم والإيمان، ومن جملتهم الإمام المشهور مالك بن أنس إمام أهل الهجرة في زمانه، والفقيه المعروف، أحد الأئمة الأربعة قال هذه المقالة، وتلقاها أهل العلم في زمانه وبعده، ووافقوا عليها جميعا: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها).
والمعنى: أن الذي صلح به أولها وهو اتباع كتاب الله وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم هو الذي يصلح به آخرها إلى يوم القيامة.
ومن أراد صلاح المجتمع الإسلامي، أو صلاح المجتمعات الأخرى في هذه الدنيا بغير الطريق والوسائل والعوامل التي صلح بها الأولون فقد غلط، وقال غير الحق، فليس إلى غير هذا من سبيل، إنما السبيل إلى إصلاح الناس وإقامتهم على الطريق السوي، هو السبيل الذي درج عليه نبينا عليه الصلاة والسلام، ودرج عليه صحابته الكرام ثم اتباعهم بإحسان إلى يومنا هذا، وهو العناية بالقرآن العظيم، والعناية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوة الناس إليهما والتفقه فيهما، ونشرهما بين الناس عن علم وبصيرة وإيضاح ما دل عليه هذان الأصلان من الأحكام في العقيدة الأساسية الصحيحة.
ومن الآراء التي يجب على المجتمع الإسلامي الأخذ بها، وبيان المحارم التي يجب على المجتمع الإسلامي الحذر منهل، وبيان الحدود التي حدها الله ورسوله، حتى يقف عندها، كما قال عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا}[1] وهي المحارم نهى عن قربانها باقتراف المعاصي، كما نهى عن تعدي الحدود التي حدها لعباده وهي ما فرضه عليهم، وألزمهم به من العبادات والأحكام.
والرسول صلى الله عليه وسلم أول عمل عمله، وأول أساس رسمه، أنه دعا الناس إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له.
هذا أول عمل، وهذا أول أساس تكلم به ودعا إليه وسار عليه، هو دعوة الناس إلى توحيد الله، وإرشادهم إلى تفاصيل ذلك.
والكلمة التي دلت على هذا المعنى هي قول: لا إله إلا الله هذه هي الأساس المتين، ومعها شهادة أن محمداً رسول الله.
هذان الأصلان والأساسان المهمان: هما أساس الإسلام، وهما أساس صلاح هذه الأمة، من أخذ بهما واستقام عليهما عملاً وعلماً ودعوةً وصبراً، استقام له أمره وأصلح الله به الأمة، على قدر جهاده وقدرته وأسبابه، ومن أضاعهما أو أضاع أحدهما ضاع وهلك.(/1)
ولما بعث الله نبيه عليه الصلاة والسلام، وأنزل القرآن، كان أول ما نزل عليه: اقرأ، ثم المدثر، فقام إلى الناس ينذرهم ويدعوهم إلى توحيد الله ويحذرهم نقمة الله عز وجل، ويقول: ((يا قوم قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)) فاستكبر المشركون واستنكروا هذا؛ لأنه ليس الأمر الذي اعتادوه، وليس الأمر الذي أدركوا عليه أسلافهم، ولهذا استنكروه، وقالوا عند ذلك: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}[2] وقالوا: {أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} وقبلها قوله سبحانه: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}[3] فرد الله عليهم بقوله: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ}[4]
وبسبب تساهل الكثير من العلماء وطلبة العلم، وأعيان أهل الإسلام الذين فقهوا توحيد الله، بسبب التساهل في هذا الأصل الأصيل، انتشر الشرك في بلدان كثيرة، وعبدت القبور وأهلها من دون الله، وصرف لها الكثير من عبادة الله، فهذا يدعو صاحب القبر، وهذا يستغيث به، وهذا ينذر له، وهذا يطلبه المدد كما فعلت قريش وغيرها في الجاهلية مع العزى، وكما فعل غيرهم مع اللات ومع مناة، ومع أصنام أخرى، وكما يفعل المشركون في كل زمان مع أصنامهم وأوثانهم، في التعظيم والدعاء والاستغاثة، والتمسح والتبرك وطلب المدد.
وهذا من دسائس الشيطان ومن مكائده، فإنه أحرص شيء على إزاحة الناس عن عقيدتهم ودينهم، وعلى إبعادهم عنها بكل وسيلة.
فالواجب على طلبة العلم - وهم أمل الأمة بعد الله عز وجل في القيادة المستقبلة، وهم رجال الغد في أي جامعة تخرجوا - أن يقودوا السفينة بحكمة وإخلاص وصدق، وأن يعنوا بالأساس وأن يعرفوا العامل الوحيد العظيم الذي عليه الارتكاز، والذي يتبعه ما سواه، وهو العناية بتوحيد الله والإخلاص له، والعناية بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله حقاً، وأن الواجب اتباعه، والسير في منهاجه، وأن صحابته هم خير الأمة، وهم أفضلها، فيجب حسن الظن بهم، واعتقاد عدالتهم، وأنهم خير الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم حملة السنة وحملة القرآن، فوجب السير على منهاجهم والترضي عنهم جميعاً، واعتقاد أنهم خير الناس، وهم أفضل الناس بعد الأنبياء كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) وهناك أحاديث أخرى دلت على ذلك.
فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، هم خير الناس بعد الأنبياء، وهم أفضل الناس، وهم على مراتب في الفضل، فأفضلهم الخلفاء الراشدون ثم بقية العشرة المشهود لهم بالجنة، ثم الباقون على مراتبهم، وعلى حسب علمهم وفضلهم.
فوجب أن نعني بهذا الأساس وأن ندعو الناس إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، وألا نغلو في القبور والأنبياء والأولياء ونعبدهم مع الله، ونصرف لهم العبادة من دعاء أو خوف أو رجاء أو نحو ذلك.
ويجب على طالب العلم وعلى القائد أن يعظم أمر الله ونهيه، وأن يستقر خوف الله في قلبه، فوق جميع الأشياء، وأن يعظم أمره ونهيه، وألا يبالي بما يرجف به المرجفون ضد الحق وأهله ثقة بالله، وتصديقاً لما وعد رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم وكافة الرسل كما في قوله جل وعلا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}[5] الآية،
فطالب العلم العالم والموجه، والقائد البصير لا يبالي بإرجاف عباد القبور، ولا بإرجاف الخرافيين، ولا بإرجاف من يعادي الإسلام من أي صنف، بل يصمد في الميدان، ويصبر ويعلق قلبه بالله، ويخافه سبحانه، ويرجو منه النصر جل وعلا، فهو الناصر وهو الولي سبحانه وتعالى، وقد وعد أن ينصر من ينصره فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[6] ويقول سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[7] لكن بالشرط وهو التمسك بدين الله، والإيمان به، والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، والاستقامة على دين الله.
هذا هو السبب، وهذا هو الشرط في نصر الله لنا، كما قال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ}[8].(/2)
وفي الآية الأخرى يقول سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}[9]
فهذا وعده عز وجل لمن استقام على الإيمان والهدى والعمل الصالح: أن الله يستخلفه في الأرض ويمكن له دينه، ويؤمنه ويعيذه من شر الأعداء ومكائدهم وينصره عليهم.
ومن تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله تعظيم سنته، والدعوة إليها وتنفيذ مقاصدها، والتحذير من خلافها، وتفسير القرآن الكريم بها فيما قد يخفى من آياته، فإنه يفسر بالسنة ويوضح بها، فالسنة توضح القرآن وتبينه وتدل عليه، وتعبر عنه، كما قال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[10]
هذا الأساس العظيم يجب أن يكون منه المنطلق للدعاة المخلصين، والمصلحين في الأرض، الذين يريدون أن يتولوا إصلاح المجتمع والأخذ بيده إلى شاطئ السلامة، وسفينة النجاة، كي يرتكز هذا الإصلاح على أعظم عامل، وهو الإخلاص لله في العبادة والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام، وتعظيم أمره ونهيه، باتباع شريعته والحذر مما يخالفها.
ثم بعد ذلك ينظر في العوامل الأخرى التي هي تابعة لهذا الأساس، فيدعو إلى أداء فرائض الله من صلاة وزكاة وصوم وحج، وغير ذلك وينهى عن محارم الله من الشرك وما دونه من سائر المعاصي والشرور، ويسعى بالإصلاح بين الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وإصلاح ذات البين، إلى غير ذلك.
فهو ساع بكل جهده إلى إقامة أمر الله في أرض الله، وإلى ترك محارم الله والوقوف عند حدود الله، وإلى الحذر من البدع المحظورة في الدين، هكذا يكون المصلح الموفق يأخذ العوامل عاملاً عاملاً مع مراعاة الأساس المتين، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله علماً وعملاً، فهو يعلمها الناس ويعمل بها في نفسه، فيوحد الله، ويخصه بالعبادة وينقاد لشريعته خلف رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، يتلقى السنة ويعظمها كما عظمها الصحابة، ويسير على نهجها وعلى مقتضاها مع كتاب الله كما سار الصحابة، فإن علم الصحابة من كتاب الله ومن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ما عندهم كتب أخرى، وإنما جاءت الكتب بعدهم.
أما الصحابة والتابعون فكانت سيرتهم، وكانت أعمالهم مستقاة من الكتاب العظيم، يتدبرونه ويقرؤونه بقصد صالح، بقصد العلم وإلإفادة والعمل، ومن السنة كذلك يدرسونها ويحفظونها، ويأخذون منها العلم والعمل.
هكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان التابعون لهم بإحسان قبل وجود المؤلفات في الحديث وغير الحديث.
فقدر لنفسك مع أولئك، واستنبط من كتاب ربك، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كلام أهل العلم ما يعينك على فهم كتاب الله، وعلى فهم السنة، وكن حريصا على العلم والفقه في الدين حتى تستطيع أن توجه المجتمع إلى الطريق السوي، وتأخذ بيده إلى شاطئ السلامة، وحتى تعلم كيف تعمل، فتبدأ بنفسك، وتجتهد في إصلاح سيرتك ومسابقتك إلى كل خير، فتكون مع أول الناس في الصلاة، ومع أول الناس في كل خير، وتكون من أبعدهم عن كل شر، تمتثل تنفيذ كتاب الله، وتنفيذ سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في أعمالك وفي أقوالك مع زملائك وإخوانك وأعوانك.
هكذا يكون المؤمن، وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم، وهكذا كان أتباعهم من التابعين، وأتباع التابعين والمصلحين، وأئمة الهدى يدرسون كتاب الله، ويعملون بما فيه ويقرئونه الناس ويعلمونهم إياه، ويرشدونهم إلى معانيه، ويعلمونهم السنة ويحثونهم على التمسك بها والفقه فيها، ويوصونهم بتعظيم الأوامر والنواهي، والوقوف عند الحدود التي حدها الله ورسوله مدة حياتهم في هذه العاجلة.
فكل عامل من عوامل الإصلاح يتطلب إخلاصاً وصدقاً. فالدعوة إلى توحيد الله تحتاج إلى إخلاص وصدق وبيان معنى لا إله إلا الله، وأن معناها: لا معبود حق إلا الله، وأن الواجب الحذر من الشرك كله دقيقه وجليله، وتحذير الناس منه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما فعل أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.(/3)
وبتدبر القرآن العظيم يتضح هذا المعنى كثيراً، وهكذا السنة تعظيمها والدعوة إليها بعد الإيمان أن محمداً رسول الله، وأن الواجب اتباعه وأن الله أرسله إلى الناس كافة، عربهم وعجمهم، جنهم وإنسهم، ذكورهم وإناثهم، فعلى جميع أهل الأرض أن يتبعوه، كما قال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[11] وقال قبلها سبحانه: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[12]
فمن اتبعه وعظم أمره ونهيه فهو المفلح، ومن حاد عن ذلك وتبع الهوى والشيطان فهو الخاسر الهالك ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والعوامل تتعدد بحسب ما تدعو إليه، وما تنهى عنه، فأنت تجتهد في اختيار العامل الذي تقوم به العامل الشرعي الذي عرفت أصله، وعرفت مأخذه من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنت تدعو الناس إلى دين الله، وإلى أداء فرائض الله، وإلى ترك محارم الله على الطريقة التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والعوامل والمجتمعات تختلف، فالمجتمع المحارب للدين، والذي ليس فيه قائد يعينك على الإصلاح والتوجيه تعمل فيه كما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، تدعو إلى الله بالحسنى وبالأسلوب الحسن، وبالكلمات اللينة، حتى يدخل ما تقول في القلوب ، وحتى يؤثر فيها فيحصل بذلك انجذاب القلوب إلى طاعة الله وتوحيده، وتتعاون مع إخوانك ومن سار على نهجك في دعوة الناس وإرشادهم بالطرق اللينة في المجتمعات التي يمكن حضورها حتى يثبت هذا الإيمان في القلوب، وحتى ينتشر بين الناس بأدلته الواضحة.
وفي المجتمع الإسلامي، ووجود القائد الإسلامي الذي يعينك يكون لك نشاط أكثر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاتصال بالمسئولين عند وجود المعاندين، والذين يخشى من عنادهم الخطر على المجتمع، وتكون مع ذلك سالكاً المسلك القويم بالرفق والحكمة والصبر، كما قال عز وجل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[13] فلا بد من صبر وتواص بالحق، ودعوة إليه، حتى تنجح في مهمتك، وكذلك المسئولون والكبار الذين يخشى من شرهم على الدعوة، ينصحون بالأسلوب الحسن، ويوجهون، ويدعون بالكتابة والمشافهة من أعيان الأمة ورجالها وقادتها وأمرائها، كما قال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[14] الآية، وكما قال سبحانه لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[15]
فالواجب على المصلحين والدعاة أن يسلكوا هذا السبيل، وأن يعالجوا مشكلات المجتمع بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يخاطبوا كل إنسان بما يليق به، حتى ينجحوا في مهمتهم، ويصلوا إلى غايتهم.
وعلى الداعي أيضا إلى الله سبحانه والراغب في الإصلاح أن يراعي عاملين آخرين، سوى العاملين السابقين وهما: عامل التناصح والتواصي بالحق مع إخوانه وزملائه ومع أعيان المجتمع وقادته وعامل الصبر على ما قد يقع من الأذى من الأعيان أو غيرهم عملاً بما دلت عليه السورة السابقة وهي قوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}
وتأسيا بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، كما قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في آخر سورة الأحقاف وهي مكية: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ}[16] الآية، وقال سبحانه في سورة آل عمران وهي مدنية: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[17] وقال فيها سبحانه لما نهى عن اتخاذ البطانة من المشركين: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}[18] وقال سبحانه في آخر سورة النحل، وهي مدنية أيضا: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}[19](/4)
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وكل من سلك مسلك الرسل من الدعاة والمصلحين، نجح في دعوته، وفاز بالعاقبة الحميدة والنصر على الأعداء ومن سبر ذلك، ودرس أخبار المصلحين وسيرتهم علم ذلك وتحققه، فأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يصلح أحوال المسلمين، ويمنحهم الفقه في الدين، وأن يوفق قادتهم لكل خير، ويصلح لهم البطانة، وأن يعيذ المسلمين جميعاً في كل مكان من مضلات الفتن، ومن طاعة الهوى والشيطان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
________________________________________
[1]- البقرة الآية 187.
[2]- ص الآية 5.
[3]- الصافات الآيتان 35-36.
[4]- الصافات الآية 37.
[5]- إبراهيم الآيتان 13-14.
[6]- محمد الآية 7.
[7]- الروم الآية 47.
[8]- الحج الآيتان 40-41.
[9]- النور الآية 55.
[10]- النحل الآية 44.
[11]- الأعراف الآية 158.
[12]- الأعراف الآية 157.
[13]- العصر الآيات كلها.
[14]- آل عمران الآية 159.
[15]- طه الآية 44.
[16]- الأحقاف الآية 35.
[17]- آل عمران الآية 186.
[18]- آل عمران الآية 120.
[19]- النحل الآيتان 127-128.(/5)
عوامل الافتراق في العمل الإسلامي
د. عبد الوهاب بن لطف الديلمي*
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، أما بعد:
فإن معرفة الثغرات التي ينفذ منها الشيطان، للتحريش وإفساد ذات البين، في صفوف العلماء والدعاة الذين يحملون جميعاً همّ الدعوة إلى الله سبحانه، ويسعون لتحقيق غاية واحدة، وهي التمكين لدين الله، مع وجود اختلاف في الأساليب والوسائل، أو تحديد الأولويات في الدعوة، دون أن يكون بينهم تباين في معتقد، أو تفريط في شيء من الثوابت، إن معرفة هذه الثغرات وتحديدها وحصرها ييسر لمن يريد السعي إلى رأب الصدع القائم بين الدعاة على مستوى الأفراد أو الجماعات، ويضع لها العلاج المناسب إذا ما صدقت النوايا، ووجدت الرغبة الصادقة في ردم الهوة، وإزالة الجفوة القائمة.
والمتتبع لأسباب الافتراق القائم يجد أنه من السهل معالجته؛ إذا خلت النفوس من الأهواء، وأدركت الخطر المحدق بالإسلام وأهله، وأن الكل مستهدف من قبل الأعداء، وأن الشقاق القائم بين الدعاة لا يثمر سوى توسيع دائرة الخلاف، واستنزاف القوى والجهود والأوقات في معارك جانبية، يقطف ثمارها العدوّ، ويشغل الجماعات، ويصرفها عن أهدافها الحقيقية، ويحدث فتنة بين أفراد الجماعات، كما يحمل عامة المسلمين على الشك في صدق الدعاة، وينفث في صدروهم الحيرة، فلا يدرون مع من الحق، وفي الجو مرتع خصب لغلبة الأهواء، وشيوع البدع.
والدعاة هم أولى الناس بمعرفة حرص الإسلام على جمع الكلمة، وتوحيد الصف، وإزالة كل أسباب الفرقة، وبحسن الظن بالمسلم، وصفاء النفوس، وسلامة الصدر، ومعرفة الطبيعة البشرية في الاختلاف لأسباب كثيرة، يُعذر معها المخالف، طالما والخلاف لا يخرج عن دائرة الاجتهاد فيما لا نص فيه، على أن هناك ضمانات للحافظ على الأخوة الإيمانية عند الاختلاف: مثل الاحتكام إلى نصوص الوحيين، ومعرفة مأخذ كل طرف، وأيهما أقرب إلى الصواب، و مثل فتح باب الحوار بين المختلفين، مع الالتزام بآداب الحوار، ونبذ العصبية والأنانية، والخضوع والاستسلام للحق، إذا جاء على لسان المخالف، وعند تمسك كل طرف برأيه لغلبة ظنه أنه الأرجح والأصوب، فيبقى كلُ على رأيه مع حسن الظن، والحرص التام على حفظ وصيانة الأخوة الإيمانية، وأن ينظر كل طرف إلى ما عند الآخر من الخير، ويتعاون الجميع على ما أمروا أن يتعاونوا عليه: (وتعاونوا على البر والتقوى..) [سورة المائدة: 2]، مع إحياء روح التناصح الذي لا يستغني عنه أحد، وفي هذه الحال تتوحد الجهود والطاقات وتتوجه نحو غاية واحدة، وهو الأليق بمثل هذه الجماعات، وحينئذ يغلقون على الشيطان منافذ الفتنة ويُسقط في أيدي العدوّ المتربص، ويتجه الدعاة بالأمة نحو الأهداف المطلوبة بخطوات متسارعة، ويصبحون قدوة صالحة لغيرهم.
وقد ساهمت ــ بحمد الله ــ مساهمة متواضعة، في محاولة بيان أسباب الاختلاف وآثاره السيئة، وذكر نماذج من تاريخ المسلمين في الماضي والحاضر؛ ليأخذ الدعاة من ذلك العظة و العبرة، وإدراك ما يحدثه الخلاف من ويلات، لا على مستوى الأفراد والجماعات، بل على مستوى المسلمين جميعاً، كما هي سنة الله سبحانه، وقد ذكرت مع ذلك بعض الحلول النظرية التي تحتاج من الجماعات والأفراد إلى مواقف عملية صادقة تدل على حرصهم في الخروج بالأمة من المعاناة التي حلت بها..
سائلاً الله تعالى أن يطهر النفوس من كل الأدواء، وأن يرزق الجميع الإخلاص لوجهه.
وفي الختام أشكر القائمين على إدارة جامعة الخرطوم على هذه البادرة الطيبة، والخطوة المباركة، في محاولة إيجاد العلاج للداء المستحكم بكثير من النفوس.
سائلاً الله تعالى أن يجزل لهم المثوبة، وأن يكلل أعمالهم بالنجاح وهو ولي التوفيق والقادر عليه..
والحمد لله رب العالمين
د. عبد الوهاب لطف الديلمي
عوامل الافتراق
الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ... أما بعد:
فقد أثرت الكتابة عن عوامل افتراق في العمل الإسلامي، نظراً إلى أن الاهتداء إلى الثغرات ومعرفة جوانب الشر، والسعي إلى إصلاح الخلل، يؤدّي بالتالي إلى إدراك الخير، وتجنّب مواطن السوء. وقد كان من فطنة حذيفة رضي الله عنه حرصه على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشر مخافة أن يدركه.
والعوامل التي يمكن الحديث عنها، منها ما هي عوامل مباشرة تؤدّي بنفسها إلى الافتراق، ومنها ما هي عوامل غير مباشرة، لكنها تورث هذه النتيجة؛ نظراً لكونها بعيدة عن هدي الشرع. وكل أمر قام على غير الهداية الربانية فهو فائم على هوى.. لا يورث إلا شراً أو فساداً.
وقبل الدخول في البحث أود أن أقول:(/1)
إن وحدة العمل الإسلامي، وتقارب وجهات النظر في السير بالمدعوّين، وردم هوة الخلاف والجفوة القائمة، سواء أكانت بين أفراد أو جماعات، من أهم أسباب وحدة المسلمين وصيانتهم من منزلقات العداوات والفرقة، واستحلال الأعراض ونهشها بغير حق، وكيل الاتهامات التي ينفث بها الشيطان في الصدور، ويسعى إلى الوقيعة من خلالها.
ذلك أن الدعاة هم القدوة لعامة الناس، فإن أحسنوا كانوا مصابيح هدى، وإن أساؤا كانوا عامل فتنة للناس. وما من داعية ولا جماعة تنشغل بالدعوة إلى الله تعالى إلا ويوجد في الساحة الإسلامية من يتعلق به، ويقتدي به، ويسمع لرأيه، ويثق به. فإذا كان الداعية لا يتقي الله سبحانه في إخوانه من الأفراد والجماعات، فإن مواقفه تنعكس على أتباعه ومحبيه، مما يشيع بين الناس سوء الظن والشقاق، والجرأة في أطلاق الألسن في الأعراض، والتشكيك في النوايا والأعمال، وبهذا تحدث فتنة عامة عارمة.
على أنه مما لاشك فيه أنّ أحداً لا يسلم من الوقوع في الخطأ ــ إلا من عصم الله سبحانه من أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام ــ وما دعا الله سبحانه جميع عباده إلى التوبة في قوله: (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) [سورة النور: 31]. إلا لعلمه بضعف الإنسان، وأنه لا يسلم من الزلة والهفوة وإن صغرت.
كما أن الخلاف طبيعة بشريّة، وعوامل الخلاف بين البشر كثيرة، ولا يكمن تجاهلها ولا طمس حقيقتها، ولذلك وجدت عند خير القرون، إذاً ليس عيباً أن يحدث الخلاف، ولكن العيب والقبح، أن يجر الخلاف إلى العدواة والفرقة والشتات، وأن يفضي التنازع إلى القطيعة واستباحة الأعراض، وسوء الظن، وأن يُعجب كل ذي رأي برأيه.
كما أن من المقت أن لا يرجع المختلفون ــ عند التنازع ــ إلى العاصم من الفرقة والعداوة، وهو ما أرشد الله عز وجل إليه بقوله: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) [سورة النساء: 59]، (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) [سورة النساء: 65]، وإذا كانت القضايا المتنازع فيها مما لا نص فيه، فالأمر فيه سعة، وليس لأحد أن يحمل الآخر قسراً على اتباع فهمه واستنباطه، وإلا شنّع عليه، وسفه رأيهُ، وأطلق فيه لسانه، فهذا ليس من أخلاق الدعاة إلى الله تعالى، والواجب إحياء معاني الأخوة الإيمانية في النفوس، وإشاعة عواملها، والحرص عليها ،ودوام تذكّر ما أشار إليه الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله: ((إن الشيطان قيد يئس أن يعبده المصلون في الجزيرة العربية، ولكن في التحريش بينهم))([1]).
والتحريش: الإغراء، وإيقاع الفتن بين الناس، وحمل بعضهم على بعض بإيقاع الفساد بينهم. انتهى من كلام ابن الأثير الجزري.
وينبغي الوقوف عند كلمة (المصلّون) فإن الحديث يعني: أن صلاة المصلين لم تحمل الشيطان على اليأس من الإيقاع بينهم، وحملهم على أن يبغي بعضهم على بعض، وهذا فيه إرشاد واضح لمن هو من أهل الصلاة، أن يحرس نفسه من نزعات الشيطان، وأن يحمي قلبه من مصايد الشيطان وأن يتذكر دائماً قول الله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) [سورة الحجرات: 10].
ومن أبرز معالم المؤمنين، أنهم يحافظون على الصلوات، وحريٌّ بهم أن يستفيدوا منها في كونها: (تنهى عن الفحشاء والمنكر) [سورة العنكبوت: 45]، ومن أعظم الفحشاء والمنكر الاستطالة في عرض الرجل المسلم، وعند التنبّه إلى مقاصد الشيطان يستيقظ الإيمان في نفس العبد، ويسد منافذ الشيطان إلى نفسه: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) [سورة الأعراف: 201].
أما عوامل الفُرقة ذات التأثير المباشر، فنذكر منها ما يفتح الله به، فنقول و بالله التوفيق. منها:
(1) الإعجاب بالرأي:
فإنه يحمل على الغرور، واحتقار رأي المخالف، وقد يحمل على رفض الحق إذا جاء على لسان المخالف، وقد ينتقل بصاحبه إلى التشنيع على من لا يوافقه، ولذلك جاء التحذير منه في السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام: عن أبي ثعلبة الخشني يرفعه: ((ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شُحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنياً موثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك والعوام))([2]).
والمعجب بنفسه وبرأيه لا يرى إلا نفسه، ولا يتهمها بعيب ولا بنقص، بل قد يصرّ على رأيه ولو تبين له وجه الخطأ فيما يذهب إليه، وقد يوالي ويعادي على أساس موافقته ومخالفته، وينسى ما يوصي به الإسلام من لين الجانب ووجوب حسن التعامل وخفض الجناح مع كل مؤمن، وأن الله تعالى قد أرشد إلى ذلك بقوله: (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) [سورة المائدة: 54]، (أشداء على الكفار رحماء بينهم) [سورة الفتح: 29].
(2) الحسد والبغي والغيرة:(/2)
فقد يرى بعض المنتسبين إلى العلم ما عند غيره من أهل العلم، أو المشتغلين بالدعوة إلى الله عز وجل من حظ إقبال الناس عليه، وحضور مجالسه، والتعلق به، والتلقي عنه، والتأثر به، وفي المقابل يرى عزوف الناس عنه، وقلة حظه ومكانته عندهم فيحمله ذلك على الحسد والغيرة بل على البغي، فلا يتورّع في اللمز والطعن ولو من طرف خفي ويسعى في التشكيك فيه، وفي جهوده ودعوته وعلمه، وقد يحمله ذلك على القطيعة وكل هذا من البغي.
(3) التعصب لرأي أو عالم أو جماعة أو مذهب أو غير ذلك:
فقد يصل التعصب بالمرء إلى حد العَمَى عن إدراك الحق، وكم أحدث التعصب من فتن ووقيعة بين الذين ابتُلُوا به، حتى غلب عليهم التعامل بالظلم، وفقدان العدل والإنصاف أو ــ على الأقل ــ حسن الظن.
والمتعصب ينسى أن كل إنسان يؤخذ من قوله ويُرد، إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وأن أحداً من أئمة الهدى لم يدَّعِ لنفسه العصمة من الزلل، وأقوالهم في ذلك مشهورة، ولم يلزموا أحداً بما أوصله إليه اجتهادهم، إذا خالف الحق، وإذا كان الشخص قد تعلق بفرد أو جماعة أو مذهب، فإن من لازم الصدق والمحبة، أن يقف عند حدود العدل والحق، وأن يقول للصواب: هذا صواب، وللخطأ: هذه خطأ، وأن لا يقر باطلاً، ولا ينتصر له، ولا يدعو إليه، فقد عمل الإسلام على تغيير المفاهيم الخاطئة، التي سادت في الجاهلية ،ومنها علي سبيل المثال النصرة على سبيل العصبية، لا على سبيل الحق ،حيث غيّر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) فقال رجل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: ((تحجزه، أن تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره))([3]).
والمخالفة في قول أو فعل لا تعني الانتقاص، ولا الاحتقار، لمن خالفته إذا كان الصواب لم يحالفه وإذ الحق أحق أن يتبع، وقد كان بعض علماء السلف إذا خالف شيخه في شيء يقول: ومع حبّي لشيخي فإني لا أوافقه في هذا الأمر، فإن الحق أحب إلي أو نحوها.
(4) شهوة الزعامة وحب الصدارة والجاه والمنصب:
بحيث يصل صاحب هذا المرض إلى حد أنه يسعى إلى أن يكون متبوعاً لا تابعاً، وآمراً لا مأموراً، وأن يشار إليه بالبنان أينما حل وأينما ارتحل، وقد يكون هذا المرض عند كثير ممن ابتلوا به خفياً يحرص أن يستره بشعار أو دثار من التدين المفتعل، وإظهار الحرص على الإسلام، ويفضي على نفسه هالة بأساليب معينة تفرض على الآخرين الالتفاف حوله، والقداسة له، حتى يشعروه بأنه لو لا هو للإسلام لضاع، ويغيب عن نفسه واجبه نحو نفسه من مجاهدتها، واتهامها، والتفتيش عن عيوبها، والعمل على تنقيتها مما علق بها مما قد يُرْديْها، بل تراه يعمل جاهداً على أن يبرر كل أعماله وفتاواه، ومواقفه، ويبحث في كل شاردة عن مستند يؤيّد كل تصرفاته، حتى كأنه ذلك الرجل الذي لا تزل قدمه، ولا يخطئ لسانه، حتى يصبح الشرع أحياناً تابعاً لهواه.
وهذا الداء من أعظم عوامل التمزيق لصف العاملين للإسلام، عندما يصبح الانصياع للحق مفقوداً، وتصبح شهوة العظمة هي الطاغية على المبتلى بها، ولا يرى إلا نفسه، ولا يدعوا إلا إلى نفسه.
(5) تغليب جانب التشاؤم من الآخرين:
وحمل أعمالهم وتصرفاتهم على محامل سيئة، حتى يصير الأصل عنده هو سوء الظن في الأفراد والجماعات، فكل الأفراد والجماعات في نظرِهِ فاقد الرشد، بعيدة عن الصواب، ساذجة في تفكيرها وتصرفاتها.
وكان الأفضل بالمختلفين في اجتهاد أو فهم، أو وسيلة، أو هدف أن يلتقوا، وأن يكون حسن الظن هو الغالب عليهم، وأن يتحاوروا في جوانب الافتراق، مع تجردهم للحق ونزاهة تامة من الهوى، ورغبة صادقة في الحرص على الوصول إلى الحق، وأن يتهم كل واحد من المفترقين رأيه، ويحتمل الحق عند غيره، وأن يتواضع لقبول الحق إذا جاء على لسان غيره، وأن يعرف أن الإسلام لا يصان حماه، ولا تحمى بيضته إلا بالتعاون على البر والتقوى، وأن عند كل إنسان وجماعة من الإمكانات والقدرات ما ليس عند الآخرين، وأن الإسلام هو الإطار الجامع للجميع، كما ينبغي أن يعي كل فرد، وكل جماعة أن عند غيره مثل ما عنده ــ أو أكثر ــ من الغيرة على دين الل، والحرص على الدفاع عن حياضه والذود عنه. وإذا كان هناك وجهات نظر أدت إلى شيء من الاختلاف؛ فلا ينبغي أن يكون ذلك حاملاً على القطيعة وكيل الاتهامات بدون حق، والله عز وجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) [سورة المائدة: 8].
والأصل ــ عند وجود جهود تبذل في خدمة الإسلام ــ أن يبتعد الدعاة عن أسلوب النقد والتجريح، وأن يقدّر كلٌ منهم جهد الآخر، سعيه في خدمة الإسلام، وأن يكمل بعضهم بعضاً، لا أن يضادّه، ويسفهه، ويشتغل بتجريحه ونشر معايبه ويسئ الظن به.
(6) إقامة مبدأ الولاء والبراء على أساس الاختلاف في القضايا الجزئية:(/3)
وهذا مبدأ قائم على الهوى، وهو مبدأ مجانب للحق، يجر بأفراد الجماعة التي تبنت هذا المبدأ إلى أن يغرس في نفوسهم الغلّ، والشحناء، والبغضاء لإخوانهم المسلمين، الذين يخالفونهم في جزئية معينة، مما يؤدي إلى فساد ذات البين، ويورث القطيعة والهجر، وعدم المناصحة، وقد يؤدي إلى إطلاق الألسن في الأعراض، واستحلال الغيبة، وهذه فتنة كبيرة، لا يمكن تداركها، إذا شاعت، ولا القضاء عليها إذا تأصلت، إلا أن يشاء الله تعالى.
(7) الخلط بين الثوابت وبين القضايا الفرعية:
الخلط بين الثوابت التي لا يجوز لأحد تجاوزها أو التهاون فيها، والتفريط في الحفاظ عليها، والإلتزام بها، وبين القضايا الفرعية التي يسع الناس الخلاف فيها، وأن لا تكون سبباً للمفاصلة، وهذه من القضايا التي تدخل في باب الاجتهاد، والاجتهاد إذا ما حدث من أهله في أي قضية من القضايا المستجدة التي لا نص فيها؛ فإن المجتهد لا يفوته حظ الأجر عند الاجتهاد، سواء أصاب، فله أجران أو أخطأ فله أجر، كما صح ذلك عن الرسول عليه الصلاة والسلام.
والذي يصيب الأجر الواحد عند خطئه، لا يُجَرّم على خطئه، ولا يقاطع ويفاصل في شأن قضية أو قضايا فرعية اجتهادية، وعندما يحدث الخلط بين هاتين القضيتين، تحدث الخصومة التي لا يوجد لها مبرر شرعي، والرسول عليه الصلاة والسلام أجاز يوم بني قريظة الذين بادروا بصلاة العصر عند دخول وقتها، وقبل وصولهم إلى بني قريظة، كما أجاز الذين لم يُصلّوا إلا بعد وصولهم، بل الله سبحانه أجاز يوم بني النضير، الذين قطعوا النخل والذين لم يقطعوه، إذ كل منهما رأى في فعله المصلحة: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله) [سورة الحشر: 5].
وإذا لم تتسع الصدور لمثل هذا الخلاف، بل ضاقت به، فإنها تحمل أصحابها على اتهام الآخرين بالسعي لهدم الإسلام، وتشويه حقائقه ،والتحلل من واجباته، وانتهاك حرماته، إلى غير ذلك من العبارات التي تتجاوز حد الأدب الواجب في التعامل مع العاملين في الحقل الإسلامي ،وفي أمور لا تستوجب كل ذلك. وهذه المعركة بطبيعتها تستنزف الجهود، وتبدد الطاقات، وتشغل الأفراد والحركات بمعارك جانبية، تبعدها عن معركة الساعة، وتحمل العاملين للإسلام على الانشغال بالقضايا المصيرية، وهذا كله ضرب من البغي الذي ذمه الله سبحانه في كتابه العزيز.
(8) الانشغال بتتبع عثرات وسقطات الآخرين:
وغضّ الطرف عن المحاسن مهما كثرت، وجعل الاهتمام منُصبّاً على الأخطاء التي لا يسلم منها بشر، وعندما يمتلئ القلب غيظاً وحقداً على فرد أو جماعة، لا يبقى أمام الإنسان سوى التفتيش عن عيوب الآخرين، والتنقيب عنها، وبل قد يحمل الأقوال والأفعال الحسنة على محامل سيئة، ويحكم على النوايا بالسوء، والأصل فيمن حسن قصده ،ونبل هدفه، وصحت غايته أن يغتفر له ما قد يقع منه من زلات، وأن ينظر إلى كثرة محاسنه، التي يغتفر في جانبها بعض هفواته وعثراته، فقد عفى النبي صلى الله عليه وسلم عن حاطب زلته لسابقته وجهاده، وكونه من أهل بدر، بل قال عليه الصلاة والسلام فيه وفي أمثاله من أهل بدر ــ لعمر ــ: ((وما يدريك لعل الله اطلع عليهم، فقال: اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنة))([4]).
(9) وجماَعُ ذلك كله في الهوى:
فإنه مصدر كل بلية، ومنبع كل فتنة وانحراف، وأصل كل عدول عن الحق والعدل، فإنه ما استحكم في نفس أي شخص إلا أرداه، وربما زين له الحق باطلاً ،والباطل حقاً، والله سبحانه لم يجعل بين الحق والهوى واسطة، بل حصر الاتباع بين اتباع الحق، أو اتباع الهوى، فقال سبحانه: (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله..) [سورة القصص: 50]. وقد ورد في القرآن الكريم آيات متعددة في ذم الهوى، وبيان موارده الوخيمة:
- قال تعالى: (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا..) [سورة النساء: 135].
- (قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذن وما أنا من المهتدين) [سورة الأنعام: 56].
- (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) [سورة ص: 26].
- (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن) [سورة المؤمنون: 77].
وأما أسباب الافتراق غير المباشرة التي تؤول بأصحابها إلى الافتراق فمن أهمها :(/4)
(أ) الوقوع في المعاصي، وتجاوز حدود الشرع في الأمر والنهي، مع السكوت وعدم إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد ورد التحذير من العواقب الوخيمة التي يجر إليها الانغماس في المعاصي، وأنها تورث العداوة والبغضاء، وذلك أن أهم عوامل الأخوة الإيمانية هو الاستقامة على دين الله سبحانه، والذي على أساسه يقوم الولاء والبراء الذي يعني: المحبة، والنصرة، و المعونة، فإذا انحرف الناس عن منهج الله اختل دافع الأخوة، ومما ورد من النصوص الدالة على ذلك قوله تعالى: (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) [سورة المائدة: 14]. فقد أخبر الحق سبحانه في هذه الآية، أن نسيان النصارى حظاً مما ذكروا به أورثهم العداوة والبغضاء فيما بينهم، ولم يذكر الله سبحانه ذلك لنا إلا ليحذرنا من الوقوع فيما وقع فيه من قبلنا.
وقال تعالى: (إلا تنفروا يعذبكم الله عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم) [سورة التوبة: 39]، والوعيد بالعذاب في هذه الأمة يشمل العذاب في الدنيا والآخرة، وقد يكون من العذاب العاجل، أن يجعل الله بأس الأمة بينها إذا هي أضاعت فريضة الجهاد، لأنها إذا أمسكت عن بذل طاقاتها وإمكاناتها في سبيل الله سبحانه، عادت عليها بالوبال، وبددتها في الحروب الداخلية التي قد تنشب فيما بينها عقوبة لها.
وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على الخلل اليسير الذي قد يحدث أثناء الصلاة، في عدم رصّ الصفوف وتسويتها على ما هو فوقه من الذنوب، وأخبر أن هذه الذنوب من شأنها أن تؤدي إلى اختلاف الوجوه والقلوب، والتي تعني العداوة والبغضاء، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ــ وفي رواية "وجوهكم"))([5]).
فإذا شاعت المعاصي، وأضاع الناس معها إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كانت العاقبة الحتمية هي هذه، أعني انحراف القلوب عن بعضها، وفقدان المحبة الإيمانية، وإذا كان هذا أمراً مشيناً في حق أي مسلم، فهو في حق الدعاة أعظم قبحاً، وأكثر زراية بهم.
(ب) الجدل بالباطل، بحيث يكون غاية المحاور، هو مجرد السعي إلى التغلب على الآخرين طلباً للعلو والفخر، والتعالي عليهم، والظهور بمظهر العالم المتبحر، وليس الغرض إظهار الحق، وتحرير مكان الخلاف، وجمع الأدلة وتمحيصها ومعرفة ما قد يكون منها متعارضاً أو ضعيفاً أو منسوخاً، إلى غير ذلك من طرق الاستدلال، بحيث ينتهي الأمر بالمتحاورين إلى رأي موحد في القضية، وقد يتمسك كل طرف برأيه عند الاختلاف في مأخذ الاستدلال أو الاختلاف في الفهم، ومع بقاء حسن الظن، وسلامة الصدور، والإعذار، والحرص على أن لا يُخدش حمى المحبة بسوء يكدره. ولكن عند غلبة الهوى وحب الظهور وتأثير نزع الشيطان يتحول الأمر معه إلى عداوة وافتراق وتبادل الاتهامات بما يوغر الصدور، ويفتح أبواب شر يصعب إغلاقها ،وينهار بسببها بنيان المحبة والمودة. وقد وردت نصوص في الكتاب والسنة تحذر من الجدال الباطل، ومن ذلك قوله تعالى: (ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق) [سورة الكهف: 56].
(الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا) [سورة غافر: 35]
(وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم إذا لمشركون) [سورة الإنعام: 121].
(إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلى كبر ما هم ببالغيه) [سورة غافر: 56].
ولما للجدل والمراء من آثار سيئة على النفوس، فإن النبي عليه الصلاة والسلام، رغب في تركه، ففي الحديث: ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً))([6])، وروى الدارمي في مقدمة سننه آثاراً في التحذير من الجدال والمراء منها:
(1) عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: ".. وكفى بك إثماً أن لا تزال مماريا..".
(2) عن ميمون بن مهران رضي الله عنه أنه قال: "إياك والخصومة والجدال في الدين ..".
(3) عن مسلم بن يسار قال: "إياكم والمراء، فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته".
وأما الآثار المترتبة على الافتراق فمن أهمها :
(1) تصدّع صف المسلمين، وضياع قوتهم، الذي يؤول بهم إلى الفشل، الذي حذر منه القرآن الكريم، في قوله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) [سورة الأنفال: 46].
(2) تسلط الأعداء على المسلمين: فالأعداء لا يتمكنون من استباحة دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم والاستيلاء على ديارهم، إلا إذا وهنوا عن مقاومته، وضعفوا عن مواجهته ،ومن أعظم عوامل الضعف: الفرقة والشتات الناتج عن الاختلاف.(/5)
(3) الهلاك الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه و سلم، وأخبر أنه سبب هلاك الأمم قبلنا، فعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: ((أنه سمع رجلاً يقرأ آية سمع النبي صلى الله عليه وسلم قرأ خلافها، فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلاكما محسن، فاقرآ، فإنّ من كان قبلكم اختلفوا فأهلكهم))([7]).
وعند أحمد من حديث طويل عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة..))([8])، وهناك أحاديث أخرى تحض على لزوم الجماعة وتحذر من الفرقة، منها قوله عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعَدُ، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة))([9]).
ومنها حديث النعمان بن بشير ــ من حديث طويل ــ: ((والجماعة رحمة والفرقة عذاب..))([10]). ومنها حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ((ثلاث لا يُغلُّ عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم))([11]).
(4) كون الأمة تصبح بسبب الاختلاف فرقاً فتتبدد قوتها في الفرق المتناحرة، وتفقد بسبب ذلك واجب التناصر فيما بينها، بحيث لو اعتدى العدوّ على فرقة لوقفت الأخرى موقف المتفرج، بل قد تتشفى بما ينزل بغيرها، وهذا من أعظم الكوارث التي تحل بالأمة.
(5) تبديد الطاقات والجهود، فيما يعود بالضرر على المسلمين، ولا يجلب لهم أي نفع في وقت هم أحوج ما يكونون إلى توفير هذه الأوقات والجهود لمواجهة المؤامرات التي تحاك ضدهم، وهم على علم أن هناك من يستهدفهم جميعاً، ويعتبرهم خطراً عليه وعلى مصالحه.
(6) فقدان ثقة العامة بالدعاة، لأن الفرقة والشتات تحمل كل فئة وكل طائفة من المختلفين على التشكيك في الآخر، والتنفير منه، واتهامه بأسوأ الاتهامات، مما يجعل العامة في حيرة، بل وينفرهم من الأخذ بآرائهم ونصائهم وتوجيهاتهم، والعودة إليهم عند النوازل.
(7) تغليب الهوى عند التنازع على تحكيم الدليل، فإن القلوب إذا ملئت غيظا ًوعداوة لأي سبب من الأسباب، فإن ذلك يودي بصاحبها إلى تجاوز الحد في الخصومة، ولا يحتكم حينئذ إلى عقل أو دليل، بل يتحكم الهوى فيه فيورد صاحبه موارد الهلاك، وتستباح الأعراض وتنشأ القطيعة والهجر، والتدابر الذي حرّمه الإسلام على المسلمين، والتي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم (الحالقة).
(8) تغّلب أصحاب الأهواء: فعند وجود الخلاف بين أصحاب الحق من أهل السنة والجماعة وتمزقهم، قد يحمل أصحاب البدع والأهواء على التضافر والتعاون للسعي في توسيع هوة الخلاف، والتشكيك في نوايا وأهداف ومنهج وسلوك هؤلاء المتناحرين، واهتبال الفرصة في نشر أهوائهم وبدعهم، وبالتالي يجدون لهم موضع قدم في التأثير على العامة، وإقصاء أصحاب الحق عن مواقعهم في مجال الدعوة إلى الله سبحانه، وقيادة الأمة والأخذ بأيديها إلى مواطن الصواب والرشاد والهدى.
(9) إتاحة الفرصة للأعداء ــ الذين يتربصون بالدعاة الدوائر ــ بتشويه سمعتهم، والعمل على توسيع دائرة الخلاف، وإشعال نار الفتنة بين المختلفين، حتى يصعب بعد ذلك الوئام والوفاق وحسن التفاهم، وردم الهوة، وتسود العداوة والبغضاء بين الأخوة بسبب أوهام، أو قضايا جزئية لا تستحق كل ذلك، وهناك يدرك الجميع الندامة عند مآل الأمور إلى هذه الحال، والتي لا يحمد عقباها.
(10) وأخيراً الوزر الذي يتحمله كل من كان سبباً في وقوع الفتن، والشقاق والقطيعة، وفساد ذات البين في صف أهل السنة والجماعة، و كذا حدوث ما سبق ذكره من الآثار السلبية التي تجر على المسلمين بلاءً وشؤماً.
نماذج تاريخية ومعاصرة لمآسي الافتراق
وأما الأمثلة على ما حل بالمسلمين من الكوارث والمآسي بسبب الاختلاف سواء في أعصُرِ خلت، أو في تاريخنا المعاصر فأكثر من أن تحصى، والذي يعود إلى صفحات التاريخ تتمزق أحشاؤه، ويمتلئ قلبه أسىً وحزناً، على ما حلّ بالمسلمين من الفتن، والحروب الداخلية التي أوهنت قوى المسلمين ومزقت صفوفهم، وجعلتهم شيعاً وأحزاباً.
ومن أبرز هذه الآثار: وقعة الجمل ، والحرب في صفين، ومقتل الحسين، ووقعة الحرة والاضطراب الذي أصاب البلاد الإسلامية بعد موت يزيد بن معاوية، ومقتل عبد الله بن الزبير، وكانت هذه الفتن وغيرها في ذلك الحين والإسلام غضاً طرياً، ولكنه الخلاف الذي يهلك الحرث والنسل، والتاريخ مليء بالمآسي التي حدثت في شرق البلاد وغربها، وقد استغل الأعداء فترات الضعف والتمزق والحروب التي مُني بها المسلمون فنفذوا من خلالها.(/6)
وأما مآسي الافتراق وآثاره السيئة على المسلمين، في التاريخ المعاصر القريب، فمن أبرز ذلك: الآثار السيئة التي تركها الخلاف بين قادة الجهاد الأفغاني، وما تزال المعاناة قائمة يجني ويلاتها الشعب الأفغاني. وكذا الخلاف الذي ظل فترة طويلة لدى الفصائل الفلسطينية؛ وما يزال حال أبناء فلسطين الذين لم تجمعهم كلهم راية واحدة، يقاسون من ويلات هذا التمزق، ويوجد في صفوفهم المندسون الذين لا يألونهم خبالاً. وكذا الحروب التي نشبت بين الفصائل المتناحرة من أبناء الصومال لفترة طويلة، سفكت فيها الدماء، وفُقد فيها الأمن وانتشرت المجاعة، وخربت البلاد، وشرد الكثير منهم إلى دول كثيرة، إلى غير ذلك من الويلات التي لحقت بهم. وما مآسي الجزائر بخافية على أحد.
وهذه سنة ماضية في كل أمة نَخَر في جسمها داء الخلاف، وأنها تؤول إلى الذوبان والتآكل والضعف، إلا أن يتداركها الله سبحانه برحمته فتعود إلى صوابها وتحتكم إلى شرع ربها سبحانه .
وبعد الحديث عن بعض الأدواء الموجبة للفرقة والآثار السلبية المترتبة عليها، أود أن أشير إلى حرص الإسلام على سلامة الصدور، والحفاظ على أخوة الإيمان، واجتماع الكلمة، ووحدة الصف، والتحذير مما يضادها. وفيما يلي عرض بعض نصوص الوحيين الدالة على ذلك، فمما جاء في الكتاب العزيز قوله تعالى:
(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصحبتم بنعمته إخواناً) [سورة آل عمران: 103].
(إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) [سورة الحجرات: 10].
(هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنون وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) [سورة الأنفال: 62ــ63].
وهذه الآية فيها إشارة إلى أن المؤمنون الذين نصر بهم رسوله وأعز بهم دينه، ما كان لهم ليفعلوا ذلك وهم على حالهم التي كانوا عليها في الجاهلية من التناحر، والتباغض و العداوات المتناهية، فإن الفرقة والشتات والتنازع ذريعة الفشل والخذلان وذهاب القوة.
وقال تعالى:
(وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) [سورة المؤمنون: 52].
(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) [سورة الأنبياء: 92].
(إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص) [سورة الصف: 4].
ومما ورد في السنة:
قول النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع ــ ذلك من آخر ما أوصى به أمته ــ: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم آلا فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))([12]).
ومما ورد في السنة أيضاً، قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا))([13]).
وقوله: ((على كل مسلم صدقة، قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال: يعمل فينفع نفسه ويتصدق، قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير، قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر فإنها صدقة))([14]).
وقوله: ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، و لا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخواناً؛ المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره، والتقوى ههنا ــ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ــ بحسب أمرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه))([15]).
وقوله: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا))([16]).
وقوله: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))([17]).
وقوله" ((ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً عند موطن تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله عز وجل في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر امراءاً مسلماً في موطن ينتقص فيه عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته))([18]).
وقوله: ((يامعشر من أسلم بلسانه، ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيّروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله))، ونظر ابن عمر يوماً إلى بيت ــ أو إلى الكعبة ــ فقال: ((ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك))([19]).
وقوله" ((..وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم))([20]).
وقوله: ((دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين))([21]).
وقوله: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة))، قالوا بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة))([22]).(/7)
ومن ذا الذي لا تسعه نصوص الكتاب والسنة؟ و لا يقف عند حدودها؟ ولا يهتدي بهديها؟ وأيّ جماعة أو دعوة قامت على غير هذا البنيان وهي تدّعي لنفسها السير في الطريق إلى الله تعالى في حين أنها لا تقول في شأن هذه النصوص وأمثالها: سمعنا وأطعنا؟ ومتى تترفع النفوس عن دنايا الأمور وسفاسفها؟ ومتى تدرك بعين البصيرة إلى واقع المسلمين اليوم؟ وتحمل همّ الخروج بها من المآزق والمحن التي تمر بها، بدلاً من تعميق الجراح ،وتوسيع الهوّة بين العاملين لدين الله سبحانه، والتي تصرف الجهود إلى ساحات بعيدة عن ساحة المعركة؟
إن المتأمل في التشريعات الربانية على اختلاف أنواعها، وسواء في مجال الإيمان أو العبادات أو المعاملات، يجد أن من أهم مقاصد الشريعة فيها هو تقوية روح الأخوة الإيمانية والحفاظ عليها، والتحذير من كل ما يؤثر فيها سلباً.
فالأمة الإسلامية تحمل عقيدة واحدة، وتمارس عبادات يستوي فيها جميع الأفراد، ومنها ما تمارس جماعة للرمز إلى وحدة الأمة، ولتذكير الأمة دائماً بما ينبغي أن تكون عليه من ألفة القلوب، ووحدة الصف، واجتماع الكلمة.
كما أبطلت الشريعة كل معاملة تؤدي إلى البغضاء والشحناء، بل حرّمتها وحذرت منها، مثل الغش، والجهالة، والغرر، والنجش، وبيع الرجل على بيع أخيه، وتلقي الركبان، إلى غير ذلك مما قد يؤدي إلى النزاع والخلاف المفضي إلى العداوة وهدم بنيان الأخوة الإيمانية.
وهذه المعاني التي راعاها الإسلام في مقاصده، لم تعد على ذكر دائم عند كثير من المسلمين، وهم يمارسون العبادات والمعاملات في حياتهم اليومية، مما جعل سلوكهم في معاملاتهم وعلاقاتهم لا تنعكس عليه آثار هذه العبادات والمعاملات.
ولم يكتف الإسلام بهذا، بل أقام روابط المحبة، والاحترام المتبادل، بين أفراد المجتمع المسلم بصور كثيرة، ورتب على إهمالها العقوبة، كما رتب على القيام بها أجراً عظيماً، وذلك من خلال الحقوق والواجبات التي فرضها بين الأب وابنه، وبين الزوج والزوجة، وبين ذوي الأرحام، وبين الجار وجاره، وبين الحاكم والمحكوم، وبين المترافقين في سفر وغيره، وبين الغني والفقير، وبين المسلم وأخيه المسلم عموماً، كل ذلك من أجل أن تظل روابط الأخوة الإيمانية، مع روابط القرابة في غاية المتانة، بحيث لا يتطرق إليها خلل، ولا بشوبها كدر .
والعاملون في مجال التعليم والدعوة إلى الله سبحانه، هم أكثر الناس حاجة إلى إدراك هذه المعاني وتطبيقها في واقع حياتهم، حتى تتلاشى كل أسباب الفرقة والنزاع، وتتمثل فيهم القدوة الحسنة لسائر المسلمين.
ويمكن الإشارة هنا إلى بعض المقترحات التي يمكن الالتقاء عليها لردم الفجوة القائمة بين العاملين، غير أن هذه المقترحات وغيرها مما قد يتقدم به بعض المصلحين لا يمكن لها أن تكون ذات تأثير لمعالجة المشكلات القائمة إلا إذا صدقت النوايا، وصلحت المقاصد، وتجردت النفوس من الحظوظ الشخصية، وقدمت المصلحة العامة على المصالح الخاصة والنزعات الفردية.
ومن هذه المقترحات ما يأتي:
(1) تطهير الأفراد والجماعات من التلوّث بروح الحزبية الضيقة، وتعميق مفهوم عالمية الدعوة الإسلامية، وأن الإسلام يسع كل من دخله من بابه الواسع، وأن الذين يحصرون أنفسهم في إطارات ضيقة، هم أصحاب المصالح الدنيوية، الذين يبحثون لأنفسهم عن موضع قدم فيما يتكالب عليه الناس من المصالح العاجلة، والدعاة إلى الله عز وجل هم أصحاب الوراثة النبوية ــ على صاحبها الصلاة والسلام.
الله عز وجل خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله :(قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) [سورة الأعراف: 158].
والأصل في الداعية المسلم أنه يريد الخير لكل أبناء المعمورة، كما أن دعوته لا تنحصر في طائفة أو زاوية معينة، تبعاً لنظرة الإسلام الشاملة إلى الكون والإنسان، والحياة، والربط بين الدنيا والآخرة، ولذلك فالداعية لا تؤثر فيه العوامل المحيطة به، ولا يجعل وزناً لِلَون ولا لغة، ولا جنس، ولا غيرها، بل المعيار الصحيح عنده هو معيار التقوى (ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [سورة الحجرات: 13].(/8)
(2) التعلق بالمبادئ والمثل التي يدعو إليها الإسلام، لا الأفراد، مهما كانت مكانتهم العلمية أو الاجتماعية، وهذا الاتجاه هو الذي يجعل العمل الإسلامي، والأخوة الإيمانية في مأمن من الانحراف، والميل عن الجادة، فإن الأفراد إلى انقراض، كما أنهم معرضون للوقع في الخطأ، ولا توجد عوامل البقاء إلا في مبادئ الإسلام، والتي تكفل الله تعالى بحفظها وصيانتها: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [سورة الحجر: 9]، وهذا لا يعني عدم الولاء الذي دعا إليه الإسلام للجماعات أو الأفراد بقدر ما عندهم من الصلاح والتقوى، إلا أنه ولاء في حدود المشروع، الذي لا يوصل إلى مرحلة القداسة أو اعتقاد العصمة أو إلغاء موالاة الآخرين. وعند الانتماء إلى فرد أو جماعة، فإن المنتمي في هذه الحال إذا دعا إلى ما ينتمي إليه، فالواجب أن يدعو إلى ما عليه الجماعة من الهدى الذي لا يخرج عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والحذر من الدعوة إلى أفراد أو جماعات دعوة مجردة عن المبادئ، وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ: "وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها، غير النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينصب لهم كلاماً يوالي عليه ويعادي عليه، غير كلام الله ورسوله، وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يرقون به بين الأمة، يوالون به على ذلك الكلام، أو تلك النسبة ويعادون"([23]).
(3) حمل المسلمين على السلامة عند صدور زلة، والتماس العذر لهم، خاصة من عرف ورعه وحرصه على التزام الحق، من أهل العلم والدعاة إلى الله تعالى، فإن سوء الظن يوغر الصدور، ويحمل على الجفاء، و الله عز وجل يقول في كتابه الكريم :(يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم) [سورة الحجرات: 12].
وفي الحديث: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث))([24]).
وقد نال رجل من الصحابة الشهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة، ولم يكن لكثير عمل كان يعمله، غير أنه لما سأله عبد الله بن عمرو بن العاص عن سر هذه الشهادة قال: ((إني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه))([25]).
فسلامة الصدر، بلّغته هذه المنزلة، وهو الأمر الذي ينبغي أن يكون عليه حال كل مسلم، وإن كان هذا مرتقاً صعباً، فلعل العبد يبلغ ذلك بمجاهدته نفسه.
(4) قد يكون الخلاف والجفاء والتعصب الممقوت ناشئاً عن تعدد الجماعات، وعلاج ذلك أن يوجد الوعي عند جميع الجماعات، وجميع أفرادها، إن الجماعات أصبحت واقعاً، لا يمكن تجاهله ولا إلغاؤه، وأن كل جماعة لها وسائلها وغاياتها، ومناهجها، في خدمة الإسلام، وهو اختلاف عند إدراك الحقيقة لا يضر ما دامت جهود الجميع تصب في الدعوة إلى الإسلام، والذود عنه، ورعاية شباب المسلمين وحسن تربيتهم وتنشئتهم، ولم يكن هناك ضرر من تعدد المذاهب الفقهية إلا فيما حدث عند المتأخرين من التعصب الذي كان منشؤه الجهل، وهذه ما يخشى من حدوثه عند أتباع الجماعات إذا طال بهم الزمن، وفقدوا إدراك حقيقة منشأ كل جماعة وأهدافها، وأن الإسلام يسع الجميع، وأن العدو الذي من أجله قامت الجماعة ليس جماعة أخرى أو فراداً من المسلمين، وهذا المرض قد يسري في الأفراد إذا لم يتداركه قادة الجماعات من وقت مبكر بحسن التوعية، ووجود التنسيق بين القادة، والتعاون على البر والتقوى، والتحذير من أي مظهر من مظاهر الشقاق، هذا كله إذا تعذر الوصول إلى وحدة تجمع العاملين للإسلام في إطار واحد يتدارسه العاملون ويصلون فيه إلى تصور موحد يجمعهم على قيادة موحدة، وهو الأمثل.
(5) الواجب على قادة كل جماعة أن تبذل أقصى جهدها في التربية الجادة لأفرادها على منهاج النبوة، فالعلماء العاملون هم حملة الوراثة النبوية، لحديث: ((العلماء ورثة الأنبياء))([26]).
والواجب في حقهم أن تتمثل فيهم القدوة الحسنة لأتباعهم، وأن يأخدوا بأيدي أتباعهم إلى أقصى ما يمكن من الكمالات البشرية، وأن يجعلوا أسوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتمكنوا من إحياء السلوك الإسلامي في أفرادهم، وإبراز أخلاق السلف الصالح في حياتهم الخاصة والعامة، والعمل على اجتثاث رواسب الأخلاق الذميمة.(/9)
وإذا ما نجح الدعاة في الوصول بأفرادهم إلى هذا المستوى، فإن الإيمان إذا وقر في القلوب، وغمرتها التقوى، وتطهرت النفوس من الرذائل، فإن ذلك كفيل بأن يثمر صدق المودة للمؤمنين، ووضع قاعدة الولاء والبراء في مكانها الصحيح، فقد أخبر الله سبحانه في كتابه أن الإيمان يورث الأخوة، وذلك في قوله سبحانه: (إنما المؤمنون إخوة) [سورة الحجرات: 10]، وهذا إخبار منه سبحانه عن طبيعة الإيمان الصادق، ومعنى ذلك، أن هذه الأمراض التي نشكو منها، لا يمكن أن يصاب بها إلا من ضعف إيمانه، فلم يعرف حق أخوة الإيمان، ولا يمكن التخلي عنها إلا بصدق الإيمان، ومعرفة حقوق الأخوة الإيمانية، وإحيائها والقيام بها، والدعوة إليها، ونبذ كل مظهر من مظاهر الجاهلية.
سائلاً الله تعالى التوفيق والسداد وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم
([1]) مسلم برقم 2812.
([2]) رواه أبو داود برقم 4341، والترمذي 3085، وهو صحيح لغيره.
([3]) البخاري 8/59.
([4]) البخاري 8/55، في الاستتابة.
([5]) رواه مسلم وغيره.
([6]) أبو داود:4800. قال بن الأثير الجزري: ربض المدينة ما حولها من العمارة.
([7]) رواه البخاري: 6/16، وأحمد2: /419.
([8]) 1/178.
([9]) رواه الترمذي عن عمر رضي الله عنه: رقم 2165، وأحمد: 1/18،26.
([10]) أخرجه أحمد: 4/238، 375.
([11]) الترمذي: رقم 2658، وابن ماجة في المقدمة، باب 18، وفي المناسك، باب 76، وأحمد: 3/225 و4/80، 82 .
([12]) رواه البخاري ومسلم.
([13]) رواه مسلم.
([14]) رواه البخاري ومسلم.
([15]) رواه مسلم.
([16]) رواه مسلم.
([17]) متفق عليه.
([18]) رواه أحمد وأبو داود.
([19]) رواه الترمذي.
([20]) رواه البخاري ومسلم.
([21]) رواه أحمد والترمذي.
([22]) رواه أبو داود والترمذي.
([23]) الفتاوى20/164.
([24]) متفق عليه.
([25]) الحديث رواه أحمد 3/166.
([26]) رواه البخاري تعليقاً في كتاب العلم، ورواه أبو داود والترمذي وأحمد.
* مدير جامعة الإيمان ـــ صنعاء(/10)
عوامل الافتراق في العمل الإسلامي
رئيسي :المنهج :الأحد 29 جمادى الآخرة 1425هـ - 15 أغسطس 2004
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، وصحبه، أما بعد:
فإن معرفة الثغرات التي ينفذ منها الشيطان، للتحريش وإفساد ذات البين، في صفوف العلماء والدعاة الذين يحملون جميعاً همّ الدعوة إلى الله سبحانه، ويسعون لتحقيق غاية واحدة، وهي التمكين لدين الله، مع وجود اختلاف في الأساليب والوسائل، أو تحديد الأولويات في الدعوة، دون أن يكون بينهم تباين في معتقد، أو تفريط في شيء من الثوابت، إن معرفة هذه الثغرات وتحديدها وحصرها؛ ييسر لمن يريد السعي إلى رأب الصدع القائم بين الدعاة على مستوى الأفراد، أو الجماعات، ويضع لها العلاج المناسب إذا ما صدقت النوايا، ووجدت الرغبة الصادقة في ردم الهوة، وإزالة الجفوة القائمة.
والمتتبع لأسباب الافتراق القائم يجد أنه من السهل معالجته؛ إذا خلت النفوس من الأهواء، وأدركت الخطر المحدق بالإسلام وأهله، وأن الكل مستهدف من قبل الأعداء، وأن الشقاق القائم بين الدعاة لا يثمر سوى توسيع دائرة الخلاف، واستنزاف القوى والجهود والأوقات، ، ويحمل عامة المسلمين على الشك في صدق الدعاة، وينفث في صدروهم الحيرة، فلا يدرون مع من الحق، وفي الجو مرتع خصب لغلبة الأهواء، وشيوع البدع.
والدعاة هم أولى الناس بمعرفة حرص الإسلام على جمع الكلمة، وتوحيد الصف، وإزالة كل أسباب الفرقة، وبحسن الظن بالمسلم، وصفاء النفوس، وسلامة الصدر، ومعرفة الطبيعة البشرية في الاختلاف لأسباب كثيرة، يُعذر معها المخالف، طالما والخلاف لا يخرج عن دائرة الاجتهاد فيما لا نص فيه.
والعوامل التي يمكن الحديث عنها، منها ما هي عوامل مباشرة تؤدّي بنفسها إلى الافتراق، ومنها ما هي عوامل غير مباشرة، لكنها تورث هذه النتيجة؛ نظراً لكونها بعيدة عن هدي الشرع. وكل أمر قام على غير الهداية الربانية فهو قائم على هوى، لا يورث إلا شراً أو فساداً.
أولا:عوامل الفُرقة ذات التأثير المباشر:
1- الإعجاب بالرأي: فإنه يحمل على الغرور، واحتقار رأي المخالف، وقد يحمل على رفض الحق إذا جاء على لسان المخالف، وقد ينتقل بصاحبه إلى التشنيع على من لا يوافقه، ولذلك جاء التحذير منه، فعن أبي ثعلبة الخشني مرفوعًا: [ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ يَعْنِي بِنَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ]رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة.
والمعجب بنفسه وبرأيه لا يرى إلا نفسه، ولا يتهمها بعيب ولا بنقص، بل قد يصرّ على رأيه ولو تبين له وجه الخطأ، وقد يوالي ويعادي على أساس موافقته ومخالفته.
2-الحسد والبغي والغيرة: فقد يرى بعض المنتسبين إلى العلم ما عند غيره من أهل العلم، أو المشتغلين بالدعوة إلى الله من إقبال الناس عليه، وحضور مجالسه، والتعلق به، والتلقي عنه، والتأثر به، وفي المقابل يرى عزوف الناس عنه، وقلة حظه ومكانته عندهم، فيحمله ذلك على الحسد والغيرة بل على البغي، فلا يتورّع في اللمز والطعن ولو من طرف خفي، ويسعى في التشكيك فيه، وفي جهوده ودعوته وعلمه، وقد يحمله ذلك على القطيعة وكل هذا من البغي.
3- التعصب لرأي، أو عالم، أو جماعة، أو مذهب، أو غير ذلك: فقد يصل التعصب بالمرء إلى حد العَمَى عن إدراك الحق، حتى يغلب عليه التعامل بالظلم، وفقدان العدل والإنصاف، أو-على الأقل- حسن الظن. والمتعصب ينسى أن كل إنسان يؤخذ من قوله ويُرد، إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وأن أحداً من أئمة الهدى لم يدَّعِ لنفسه العصمة من الزلل، وأقوالهم في ذلك مشهورة، ومن لازم الصدق والمحبة: أن يقف عند حدود العدل والحق، وأن يقول للصواب: هذا صواب، وللخطأ: هذه خطأ، وأن لا يقر باطلاً، ولا ينتصر له، ولا يدعو إليه، فقد عمل الإسلام على تغيير المفاهيم الخاطئة، التي سادت في الجاهلية ،ومنها علي سبيل المثال النصرة على سبيل العصبية، لا على سبيل الحق ،حيث غيّر ذلك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: [انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا] فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ:[تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ]رواه البخاري.
والمخالفة في قول أو فعل لا تعني الانتقاص، ولا الاحتقار، لمن خالفته إذا كان الصواب لم يحالفه؛ إذ الحق أحق أن يتبع، وقد كان بعض علماء السلف إذا خالف شيخه في شيء يقول: ومع حبّي لشيخي فإني لا أوافقه في هذا الأمر، فإن الحق أحب إلي، أو نحوها.(/1)
4- شهوة الزعامة، وحب الصدارة والجاه والمنصب: بحيث يصل صاحب هذا المرض إلى حد أنه يسعى إلى أن يكون متبوعاً، وآمراً، وأن يشار إليه بالبنان أينما حل وارتحل، وقد يكون هذا المرض عند كثير ممن ابتلوا به خفياً يحرص أن يستره بشعار من التدين المفتعل، وإظهار الحرص على الإسلام، ويفضي على نفسه هالة بأساليب معينة تفرض على الآخرين الالتفاف حوله، والقداسة له، حتى يشعروه بأنه لولا هو للإسلام لضاع، ويغيب عن نفسه واجبه نحو نفسه من مجاهدتها، واتهامها، والتفتيش عن عيوبها، والعمل على تنقيتها مما علق بها مما قد يُرْديْها، بل تراه يعمل جاهداً على أن يبرر كل أعماله وفتاواه، ومواقفه، ويبحث في كل شاردة عن مستند يؤيّد كل تصرفاته، حتى كأنه ذلك الرجل الذي لا تزل قدمه، ولا يخطئ لسانه، حتى يصبح الشرع أحياناً تابعاً لهواه.
وهذا الداء من أعظم عوامل التمزيق لصف العاملين للإسلام، عندما يصبح الانصياع للحق مفقوداً، وتصبح شهوة العظمة هي الطاغية على المبتلى بها، ولا يرى إلا نفسه، ولا يدعوا إلا إلى نفسه.
5- تغليب جانب التشاؤم من الآخرين: وحمل أعمالهم وتصرفاتهم على محامل سيئة، حتى يصير الأصل عنده هو سوء الظن، فالكل في نظرِهِ فاقد الرشد، بعيد عن الصواب، ساذج في تفكيره وتصرفاته. وكان الأفضل بالمختلفين في اجتهاد، أو فهم، أو وسيلة، أو هدف أن يلتقوا، وأن يكون حسن الظن هو الغالب عليهم، وأن يتحاوروا في جوانب الافتراق، مع تجردهم للحق، ورغبة صادقة في الحرص على الوصول إلى الحق، وأن يتهم كل واحد من المفترقين رأيه، ويحتمل الحق عند غيره، وأن يتواضع لقبول الحق إذا جاء على لسان غيره.
6- إقامة مبدأ الولاء والبراء على أساس الاختلاف في القضايا الجزئية: وهذا مبدأ قائم على الهوى، ومجانب للحق، يجر بأفراد الجماعة التي تبنت هذا المبدأ إلى أن يغرس في نفوسهم الغلّ، والشحناء، والبغضاء لإخوانهم المسلمين، الذين يخالفونهم في جزئية معينة، مما يؤدي إلى فساد ذات البين، ويورث القطيعة والهجر، وعدم المناصحة، وقد يؤدي إلى إطلاق الألسن في الأعراض، واستحلال الغيبة، وهذه فتنة لا يمكن تداركها، إذا شاعت، إلا أن يشاء الله تعالى.
7- الخلط بين الثوابت وبين القضايا الفرعية: الخلط بين الثوابت التي لا يجوز لأحد تجاوزها، أو التهاون فيها، وبين القضايا الفرعية التي يسع الناس الخلاف فيها، وأن لا تكون سبباً للمفاصلة، وهذه من القضايا التي تدخل في باب الاجتهاد، والاجتهاد إذا ما حدث من أهله في أي قضية من القضايا المستجدة التي لا نص فيها؛ فإن المجتهد لا يفوته حظ الأجر عند الاجتهاد، سواء أصاب، فله أجران أو أخطأ فله أجر، كما صح ذلك عن الرسول عليه الصلاة والسلام. والذي يصيب الأجر الواحد عند خطئه، لا يُجَرّم على خطئه، ولا يقاطع ويفاصل في شأن قضية، أو قضايا فرعية اجتهادية، وعندما يحدث الخلط بين هاتين القضيتين، تحدث الخصومة التي لا يوجد لها مبرر شرعي.
8- الانشغال بتتبع عثرات وسقطات الآخرين: وجعل الاهتمام منُصبّاً على الأخطاء التي لا يسلم منها بشر.
9- وجماَعُ ذلك كله في الهوى: فإنه مصدر كل فتنة وانحراف، وما استحكم في نفس أي شخص إلا أرداه، وربما زين له الحق باطلاً ،والباطل حقاً، والله سبحانه لم يجعل بين الحق والهوى واسطة، بل حصر الاتباع بين اتباع الحق، أو اتباع الهوى، فقال سبحانه:{ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ...[50]}[سورة القصص]. وقد ورد في القرآن الكريم آيات متعددة في ذم الهوى، وبيان موارده الوخيمة.
ثانيًا:أسباب الافتراق غير المباشرة التي تؤول بأصحابها إلى الافتراق:
1- الوقوع في المعاصي، وتجاوز حدود الشرع في الأمر والنهي، مع السكوت وعدم إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وقد ورد التحذير من عواقب الانغماس في المعاصي، وأنها تورث العداوة والبغضاء، وذلك أن أهم عوامل الأخوة الإيمانية هو الاستقامة على دين الله، والذي على أساسه يقوم الولاء والبراء الذي يعني: المحبة، والنصرة، و المعونة، فإذا انحرف الناس عن منهج الله؛ اختل دافع الأخوة، ومما ورد من النصوص الدالة على ذلك قوله تعالى:{ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ...[14]}[سورة المائدة]. فقد أخبر سبحانه في هذه الآية، أن نسيان النصارى حظاً مما ذكروا به؛ أورثهم العداوة والبغضاء فيما بينهم، ولم يذكر الله سبحانه ذلك لنا إلا ليحذرنا من الوقوع فيما وقع فيه من قبلنا.(/2)
وقال تعالى:{ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ...[39]}[سورة التوبة]. والوعيد بالعذاب في هذه الأمة يشمل العذاب في الدنيا والآخرة، وقد يكون من العذاب العاجل، أن يجعل الله بأس الأمة بينها إذا هي أضاعت فريضة الجهاد؛ لأنها إذا أمسكت عن بذل طاقاتها وإمكاناتها في سبيل الله سبحانه، عادت عليها بالوبال، وبددتها في الحروب الداخلية التي قد تنشب فيما بينها عقوبة لها. وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على الخلل اليسير الذي قد يحدث أثناء الصلاة، في عدم رصّ الصفوف وتسويتها على ما هو فوقه من الذنوب، وأخبر أن هذه الذنوب من شأنها أن تؤدي إلى اختلاف الوجوه والقلوب، والتي تعني العداوة والبغضاء، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:
[اسْتَوُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ] رواه مسلم . فإذا شاعت المعاصي، وأضاع الناس معها إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كانت العاقبة الحتمية هي انحراف القلوب عن بعضها، وفقدان المحبة الإيمانية، وإذا كان هذا أمراً مشيناً في حق أي مسلم، فهو في حق الدعاة أعظم قبحاً، وأكثر زراية بهم.
2- الجدل بالباطل: بحيث يكون غاية المحاور، هو مجرد السعي إلى التغلب على الآخرين طلباً للعلو، والتعالي عليهم، والظهور بمظهر العالم المتبحر، وليس الغرض إظهار الحق، وتحرير مكان الخلاف، وجمع الأدلة وتمحيصها، بحيث ينتهي الأمر بالمتحاورين إلى رأي موحد في القضية، وقد يتمسك كل طرف برأيه عند الاختلاف في مأخذ الاستدلال، أو الاختلاف في الفهم، ومع بقاء حسن الظن، وسلامة الصدور، والإعذار، والحرص على أن لا يُخدش حمى المحبة بسوء يكدره.
ولكن عند غلبة الهوى، وحب الظهور، وتأثير نزغ الشيطان؛ يتحول الأمر معه إلى عداوة وافتراق، وتبادل الاتهامات بما يوغر الصدور، ويفتح أبواب شر يصعب إغلاقها ،وينهار بسببها بنيان المحبة والمودة. وقد وردت نصوص في الكتاب والسنة تحذر من الجدال الباطل.
ثالثًا:الآثار المترتبة على الافتراق:
1- تصدّع صف المسلمين، وضياع قوتهم: الذي يؤول بهم إلى الفشل، الذي حذر منه القرآن الكريم، في قوله تعالى:{ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ...[46]}[سورة الأنفال].
2- تسلط الأعداء على المسلمين: فالأعداء لا يتمكنون من استباحة دماء المسلمين، وأعراضهم وأموالهم، والاستيلاء على ديارهم، إلا إذا وهنوا عن مقاومته، وضعفوا عن مواجهته ،ومن أعظم عوامل الضعف: الفرقة والشتات الناتج عن الاختلاف.
3- الهلاك الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه و سلم، وأخبر أنه سبب هلاك الأمم قبلنا:
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ: سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً سَمِعْتُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافَهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَأَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: [كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ لَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا]رواه البخاري.
وهناك أحاديث تحض على لزوم الجماعة وتحذر من الفرقة، منها:
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [...عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ...] رواه الترمذي وأحمد.
4- كون الأمة تصبح بسبب الاختلاف فرقاً، فتتبدد قوتها في الفرق المتناحرة، وتفقد بسبب ذلك واجب التناصر فيما بينها: بحيث لو اعتدى العدوّ على فرقة لوقفت الأخرى موقف المتفرج، بل قد تتشفى بما ينزل بغيرها، وهذا من أعظم الكوارث التي تحل بالأمة.
5- تبديد الطاقات والجهود، فيما يعود بالضرر على المسلمين، ولا يجلب لهم أي نفع: في وقت هم أحوج ما يكونون إلى توفير هذه الأوقات والجهود؛ لمواجهة المؤامرات التي تحاك ضدهم، وهم على علم أن هناك من يستهدفهم جميعاً، ويعتبرهم خطراً عليه، وعلى مصالحه.
6- فقدان ثقة العامة بالدعاة: لأن الفرقة والشتات تحمل كل فئة وكل طائفة من المختلفين على التشكيك في الآخر، والتنفير منه، واتهامه بأسوأ الاتهامات، مما يجعل العامة في حيرة، بل وينفرهم من الأخذ بآرائهم ونصائهم وتوجيهاتهم، والعودة إليهم عند النوازل.
7- تغليب الهوى عند التنازع على تحكيم الدليل: فإن القلوب إذا ملئت غيظا ًوعداوة لأي سبب من الأسباب، فإن ذلك يودي بصاحبها إلى تجاوز الحد في الخصومة، ولا يحتكم حينئذ إلى عقل أو دليل، بل يتحكم الهوى فيه، فيورد صاحبه موارد الهلاك، وتستباح الأعراض، وتنشأ القطيعة والهجر، والتدابر الذي حرّمه الإسلام على المسلمين، والتي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحالقة، فقال: [إِيَّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ]رواه الترمذي وأبوداود وأحمد.(/3)
8- تغّلب أصحاب الأهواء: فعند وجود الخلاف بين أصحاب الحق من أهل السنة والجماعة وتمزقهم، قد يحمل أصحاب البدع والأهواء على التضافر والتعاون للسعي في توسيع هوة الخلاف، والتشكيك في نوايا وأهداف ومنهج وسلوك هؤلاء المتناحرين، واهتبال الفرصة في نشر أهوائهم وبدعهم، وبالتالي يجدون لهم موضع قدم في التأثير على العامة، وإقصاء أصحاب الحق عن مواقعهم في مجال الدعوة إلى الله ، وقيادة الأمة والأخذ بأيديها إلى مواطن الرشاد.
9- إتاحة الفرصة للأعداء، الذين يتربصون بالدعاة الدوائر: بتشويه سمعتهم، والعمل على توسيع دائرة الخلاف، وإشعال نار الفتنة بين المختلفين، حتى يصعب بعد ذلك الوئام والوفاق وحسن التفاهم، وردم الهوة، وتسود العداوة والبغضاء بين الأخوة بسبب أوهام، أو قضايا جزئية لا تستحق كل ذلك، وهناك يدرك الجميع الندامة عند مآل الأمور إلى هذه الحال، والتي لا يحمد عقباها.
10- الوزر الذي يتحمله كل من كان سبباً في وقوع الفتن، والشقاق والقطيعة: وفساد ذات البين في صف أهل السنة والجماعة، و كذا حدوث ما سبق ذكره من الآثار السلبية التي تجر على المسلمين بلاءً وشؤماً.
رابعًا:حرص الإسلام على سلامة الصدور، والحفاظ على أخوة الإيمان، واجتماع الكلمة، ووحدة الصف، والتحذير مما يضادها:
وفيما يلي عرض بعض نصوص الوحيين الدالة على ذلك:
1- فمما جاء في الكتاب العزيز: قوله تعالى:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا...[103]}[سورة آل عمران].
وقوله:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[10]}[سورة الحجرات].
وقوله:{ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ[62]وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[63]}[سورة الأنفال]. و في هذه الآية إشارة إلى أن المؤمنين الذين نصر بهم رسوله، وأعز بهم دينه، ما كان لهم ليفعلوا ذلك وهم على حالهم التي كانوا عليها في الجاهلية من التناحر، والتباغض و العداوات المتناهية، فإن الفرقة والشتات والتنازع ذريعة الفشل والخذلان وذهاب القوة.
2- ومما ورد في السنة: قول النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع- وذلك من آخر ما أوصى به أمته-: [فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ]رواه البخاري ومسلم.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا...]رواه مسلم، والترمذي-واللفظ له-.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا-وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ] رواه مسلم.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا]رواه مسلم.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ]رواه البخاري ومسلم.(/4)
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا عِنْدَ مَوْطِنٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ]رواه أبوداود وأحمد.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ] قَالُوا: بَلَى قَالَ:[ صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ]رواه الترمذي وأبوداود وأحمد.
ومن ذا الذي لا تسعه نصوص الكتاب والسنة؟ ولا يقف عند حدودها؟ ولا يهتدي بهديها؟ وأيّ جماعة، أو دعوة قامت على غير هذا البنيان وهي تدّعي لنفسها السير في الطريق إلى الله في حين أنها لا تقول في شأن هذه النصوص وأمثالها: سمعنا وأطعنا؟ ومتى تترفع النفوس عن دنايا الأمور وسفاسفها؟ ومتى تدرك بعين البصيرة واقع المسلمين اليوم؟ وتحمل همّ الخروج بها من المآزق والمحن التي تمر بها، بدلاً من تعميق الجراح ،وتوسيع الهوّة بين العاملين لدين الله، والتي تصرف الجهود إلى ساحات بعيدة عن ساحة المعركة؟
إن المتأمل في التشريعات الربانية على اختلاف أنواعها، وسواء في مجال الإيمان أو العبادات أو المعاملات، يجد أن من أهم مقاصد الشريعة فيها هو: تقوية روح الأخوة الإيمانية، والحفاظ عليها، والتحذير من كل ما يؤثر فيها سلباً. فالأمة الإسلامية تحمل عقيدة واحدة، وتمارس عبادات يستوي فيها جميع الأفراد، ومنها ما تمارس جماعة للرمز إلى وحدة الأمة، ولتذكير الأمة دائماً بما ينبغي أن تكون عليه من ألفة القلوب، ووحدة الصف، واجتماع الكلمة. كما أبطلت الشريعة كل معاملة تؤدي إلى البغضاء والشحناء، بل حرّمتها وحذرت منها.
والعاملون في مجال التعليم والدعوة إلى الله سبحانه، هم أكثر الناس حاجة إلى إدراك هذه المعاني وتطبيقها في واقع حياتهم، حتى تتلاشى كل أسباب الفرقة والنزاع، وتتمثل فيهم القدوة الحسنة لسائر المسلمين. وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
من بحث:'عوامل الافتراق في العمل الإسلامي' د. عبد الوهاب بن لطف الديلمي(/5)
عوامل الانحراف عن الدين
* مرتضى المطهري
البحث عن العوامل المؤدية للإعراض عن الدين، بحث طويل؛ وهذا السؤال، يطرح بالخصوص على أولئك المعتقدين بفطري الدين.
وأنقل هنا عن كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) حديثاً حول هذا المجال؛ حيث تعرض (وولنز أوسكار لند برج)، في مقالته لعوامل الانحراف؛ فذكر عاملين:
يقول: ويرجع فشل بعض العلماء، في فهمهم وقبولهم لما تدل عليه المبادئ الأساسية، التي تقوم عليها الطريقة العلمية من وجود الله والإيمان به، إلى أسباب عديدة نخص اثنين منها بالذكر:
1 ـ يرجع إنكار وجود الله في بعض الأحيان، إلى ما تتبعه بعض الجماعات أو المنظمات الإلحادية أو الدولة: من سياسة معينة ترمي إلى شيوع الإلحاد، ومحاربة الإيمان بالله، بسبب تعارض هذه العقيدة مع صالح هذه الجماعات أو مبادئها.
2 ـ وحتى عندما تحرر عقول الناس من الخوف، فليس من السهل أن تتحرر من التعصب والأهواء؛ ففي جميع المنظمات الدينية المسيحية، تُبذل محاولات لجعل الناس يعتقدون منذ طفولتهم، في إله هو على صورة الانسان بدلاً من الاعتقاد بأن الانسان قد خُلق خليفة الله على الأرض، وعندما تنمو العقول بعد ذلك، وتتدرب على استخدام الطريقة العلمية، فإن تلك الصور التي تعلموها منذ الصغر، لا يمكن أن تنسجم مع أسلوبهم في التفكير، أو مع أي منطق مقبول؛ وأخيراً عندما تفشل جميع المحاولات في التوفيق بين تلك الأفكار الدينية القديمة، وبين مقتضيات المنطق والتفكير العلمي، نجد هؤلاء المفكرين يتخلصون من الصراع بنبذ فكرة الله كليّةً؛ وعندما يصلون إلى هذه المرحلة، ويظنون أنهم قد تخلصوا من أوهام الدين، وما ترتب عليها من نتائج نفسية، لا يحبون العودة إلى التفكير في هذه الموضوعات؛ بل، يقاومون قبول أية فكرة جديدة تتصل بهذه الموضوعات، وتدور حول وجود الله.
إن هذين العاملين كانا سبباً لانحراف الكثيرين عن الدين فإن الكثير والمثقفين منهم بالخصوص قد انحرفوا، لتعرضهم على المفاهيم الدينية إبان طفولتهم؛ من الأبوين اللذين لا يمتلكان معرفة صحيحة، حولها، أو بسبب دعاة الدين الجهلاء، الذين لا يملكون إلا هذه التصورات الخاطئة والمشوهة، بحيث لا تتلائم مع العقل والعلم والمنطق.
ومن الواضح أن الانسان حين ينضج عقلياً، ويتعرف على المنجزات العلمية، والمنطقية، فلا يمكنه أني تقبل مثل هذه التصورات والمفاهيم المشوهة، غير المعقولة وغير المنطقية، للمفاهيم الدينية؛ ومن هنا يندفعون للانحراف، أو الإلحاد؛ لأنهم يعتقدون بأن الإيمان بالله، يتحدد بهذه الصور المشوهة، التي عرفتها أذهانهم؛ لذلك ينكرون الله.
ولعل هذا هو الدافع، لانحراف الكثيرين من المثقفين عن الدين، وبالحقيقة أنهم لا يرفضون المفاهيم الحقيقية لله والدين، بل مفاهيم أخرى.
وإن الكثير قد انحرفوا، نتيجة للايحاءات الغبية المشوهة للأمهات، والآباء والمبلغين الجهلة؛ لذلك امتلأت أذهانهم ـ في مجال المسائل الدينية ـ بالكثير من التصورات، والمفاهيم الخاطئة؛ وهي التي دفعتهم إلى التشكيك في الدين؛ بل إلى الإعراض عنه؛ ومن هنا يلزم علينا أن نبذل جهوداً كثيرة، من أجل عرض الصورة الصحيحة والحقيقية للأصول، والمسائل الدينية.
وقد أحسستُ شخصياً بهذه الحقيقة المرة، لذلك بذلتُ مختلف الجهود والنشاطات، وبشتى الوسائل؛ من أجل توضيح المفاهيم والتصورات الاسلامية الأصيلة، بصورتها الحقيقية، غير المشوهة والمنحرفة، وقد دلّت تجاربي في هذا المجال، على أن هذا العمل كان ناجحاً ومثمراً جداً.
ولكن لا تنحصر عوامل الانحراف في هذين العاملين، فهناك عوامل أخرى نذكر بعضها:
1 ـ من العوامل التي تؤدي لانحراف الناس وتنفرهم من الدين والله، وكل القيم المعنوية، هو تلوث المحيط، بالأوحال الشيطانية، وغرق الأفراد، وغيبوبتهم في عبادة اللذة، والشهوة، والهوى؛ حيث تحفل تلك البيئة الاجتماعية بكل ما يُشعل لهيب الشهوة، والغرائز الحيوانية؛ ومن الواضح أن الغيبوبة في الشهوات الحيوانية المنحطة، تتنافى وكل المشاعر السامية، سواء كانت دينية أو أخلاقية أو علمية أو فنية أو غيرها؛ فإنها، كلها ستموت، وتنطفئ، نتيجة الحياة الحيوانية هذه.
فن عبدَ الشهوة، والغارق بأوحالها، كما لا يحس بالمشاعر الدينية الرفيعة؛ كذلك يفقد الإحساس بالعزة والشرف، والسيادة، والرجولة، والشجاعة، والتضحية؛ ويغدو أسيراً لشهواته المادية الحسية، ويضعف ويضمر إحساسه بالأمور المعنوية جميعها، سواء الدينية منها أو الأخلاقية أو العلمية أو الفنية وغيرها.
لذلك لو أرادت أمه، أن تقتل من الأمة الأخرى، روح الدين، والأخلاق، والشجاعة، والرجولة؛ عليها أن تغرقها بوسائل اللهو، وموائد الشهوة واللذة؛ وتجارب التاريخ تشهد على هذه الحقيقة المرة.(/1)
وما حدث في الأندلس الاسلامي، حين خرج من يد المسلمين، هو نموذج لذلك، فقد وفر أعداء الاسلام لهم كل وسائل المتعة المحرمة، ومثيراتها؛ فقد أوقفوا الحقول النظرة لصنع الخمرة، وغمروها بالحانات والفتيات المنحرفات، اللواتي أخذن يخطرن بكل خلاعة في شوارعها؛ فماتت روح الدين والشرف؛ ونتيجة لذلك تمكن أعداء الدين من السيطرة على الأندلس، بكل سهولة، ونجحوا في إبادة المسلمين.
وقد استخدم الاستعمار الغربي اليوم هذه الطريقة، وبصورة أكثر دقة في البلاد الاسلامية.
إذن، فالغرق في الشهوات، يؤدي إلى ضمور الإحساس الديني، وضعف تأثيره؛ بل، وقد صرح القرآن الكريم بذلك؛ فانه لو صارت القلوب قاتمةً، مظلمة، وتكدرت وقسمت، فحينئذ لا يجد نور الإيمان منفذاً إليها؛ كما في قوله تعالى: (إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) المنافقون/ 6.
2 ـ ان البعض ممن حملوا مسؤولية الارشاد للدين، لم يعرفوا واقع الدين، وحقيقته ولا أسلوب الدعوة إليه؛ فبدلاً من الدعوة إلى تعديل الغرائز البشرية، وتوجيهها التوجيه الصحيح، نراهم يدعون لمحاربة الغرائز والميول الفطرية البشرية، ويشيعون بأن الدين يعادي هذه الغرائز الفطرية، ويدعو إلى القضاء عليها.
فإن للبشر رغبات، وغرائز، فطرية كثيرة، وكلها دخيلة في تكامل الانسان وسعادته.
فالرغبات لم تُخلق عبثاً ولغواً، حتى تقتل وتحارب، ويقضى عليها؛ كما هو الأمر في أعضاء الانسان الخارجية، فلم توضع عبثاً في بدن الانسان.
كذلك ميول الانسان، فإن هناك الكثير من الميول الفطرية، أمثال حب الاستطلاع والمعرفة، والرغبة في الثروة، والميل لتشكيل الأسرة؛ ومنها الدافع الديني أيضاً.
ولا يُوجد بين هذه الميول صراع وقتال، ولا تضاد وعداء حقيقي، وكل واحدة منها لها نصيبها في مجال العمل؛ فإذا استعملت في حدودها المقررة لها، وإذا منح لها نصيبها بعدالة، فسوف تعيش فيما بينها بسلام، وإنما يبدأ الصراع بينها حين يعطي الفرد لأحدها نصيباً أكثر، على حساب الميول الأخرى، فيشبعها أكثر من الحد المقرر لها.
ومن مميزات الاسلام أنه قد اعترف بجميع الميول الفطرية في الانسان، ولم يرفضها، ولم يمنح لإحداها، سهماً ونصيباً أكثر ما تستحقه.
وهذا هو معنى فطرية التعاليم والقوانين الاسلامية، أي تلاحم هذه القوانين، وعدم عدائها ومعارضتها للفطرة البشرية؛ أي كما أن الإيمان والعبادة في الاسلام، من أجل تربية وتنمية الإحساس الفطري الكامن في النفس الانسانية، وكذلك التعاليم الاسلامية، فإنها متلائمة مع الفطرة البشرية ومتلاحمة معها.
ولكن بعض الأفراد الذين يتظاهرون بالتقدس والزهد، والذين يدّعون بأنهم الدعاة إلى الدين، يحاربون كل شيء باسم الدين، ويرفعون هذا الشعار في أحاديثهم وخطاباتهم، فهم يقولون: لو أردت أن تصبح مؤمناً، متديناً حقاً؛ فيجب أن تقتل في نفسك كل الميول والغرائز: الميل للثروة، والغريزة الجنسية، والرغبة في الزوجة والأولاد، والرغبة في المعرفة والاستطلاع، والظهور، واقبع في غرفتك، منعزلاً بعيداً عن المجتمع؛ وعلى وفق هذا الرأي، إذا أراد الفرد أن يستجيب للدافع الديني، فيلزم عليه أن يحارب الدوافع والميول الأخرى كلها.
ولكن لو فُهِم الزهد بأنه الهروب من المجتمع، والعزلة، وترك العمل؛ لو عُرف الدين أنه يحارب الغريزة الجنسية، وأنه يعتبرها أمراً قبيحاً، يجب على المتدين اجتيازها، وعدم الاستجابة لها، والانسان الأفضل، هو الذي يتجنب المرأة طوال عمراه، وكذلك لو عرف عن الدين أنه عدو العلم، وأنه يحرض على إحراق العلماء وقتلهم، والتنكيل بهم، وغيرها من الشائعات والتصورات الخاطئة والمنحرفة عن الدين؛ نعم، هذه وغيرها، ستزرع في النفوس العداء، لمثل هذا الدين.
فيلزم على دعاة الدين:
1 ـ أن يتعرفوا على التعاليم الدينية الأصيلة، وأن يكونوا بأنفسهم من العلماء والمحققين في المسائل الدينية، وأن لا يلقوا في أذهان الناس، تلك التصورات والمفاهيم المنحرفة، وغير المعقولة، باسم الدين، حيث أن هذا الفهم للدين يؤدي إلى الانحراف عنه، وإلى الكثير من التيارات المعارضة له.
2 ـ تطهير البيئة الاجتماعية من الأوحال التي تلوثها.
3 ـ أن تكون لهم تلك الرؤية الواقعية للغرائز كلها، فلا يحاربون الغرائز الفطرية، باسم الدين، وآنذاك سترى بأن الناس (يدخلون في دين الله أفواجاً) النصر/ 2.(/2)
عوامل النجاح
النجاح > "أنا" و "ألس"
________________________________________
في الأمس وبعد صلاة العصر، أحسست بتعب وكسل يسري في جسدي، فقررت أن أذهب هذا الكسل بالمشي، وفعلاً بدأت في المشي لكن بدون تحديد وجهة معينة، وهذه المرة قصدت أن أسير بدون وجهة محددة حتى أرى إلى أين أصل بهذه الطريقة.
سرت في طريقي ومررت على إحدى المدارس ثم سرت بالشارع المحاذي لها حتى وصلت لمفترق الطرق وهنا بدأ عقلي بالتفكير في اتخاذ قرار اختيار أحد الطرق، وبدأت أتردد بين هذا الطريق أو هذا، لم لا يكون هذا؟! وهكذا استمرت الحيرة حتى قطعت الشك باتخاذ قرار في السير في طريق يشق مكانه بين مجموعة من المنازل، وسرت حتى وصلت لأحد المساجد وهناك وجدت شخصين أعرفهما فسلمت عليهما وسألاني: إلى أين المسير؟ قلت: لا أدري، فضحكا واعتبرها مزحة مسلية في ذلك اليوم.
أكملت سيري حتى متى ما اكتفيت، قررت الرجوع إلى البيت، فرسم عقلي بسرعة أقصر الطرق للعودة إلى البيت وفي دقائق وصلت لهدفي المنشود.
في قصة أليس في بلاد العجائب حدث مشابه لهذا، إذ كانت تمشي أليس ووصلت إلى مفترق الطرق، وعندها التقت بالقط الذي يختفي ويظهر بطرق عجيبة فسألته:
• ... في أي طرق أسير؟
• ... ألس! هذا يحدد على حسب المكان الذي تودين الذهاب له.
• ... ليس لي هدف معين للوصول له.
• ... إذاً لا فرق في اختيار أحد الطرق، فكل الطرق تؤدي إلى اللاهدف!
ما أريد إيصاله من خلال هذه القصة، أن أوضح بالمثال العملي، أن تحديد الأهداف ووضوح الطريق الذي ستسلكه لتحقيق الأهداف عاملان مهمان للوصول إلى النجاح، وأن عدم تحديد الأهداف يؤدي إلى عدم وضوح الطريق المؤدي لهذه الأهداف، بل ويؤدي إلى التشتت وعدم التركيز وتضييع الوقت في ما لا فائدة منه.
تأليف: عبد الله المهيري
عوامل النجاح
________________________________________
النجاح، ذلك الشيء الذي يسعى إليه كل الناس، ويتسائل الناس كلهم، ما هو النجاح؟ وكيف نصل إلى النجاح؟ ولا توجد إجابات مباشرة لهذه الأسئلة، لأن النجاح له عوامل كثيرة ومختلفة تحدد كيف سيصل الفرد للنجاح، وتختلف هذه العوامل باختلاف الأفراد والمجتمعات، لكن هناك عوامل كثيرة مشتركة بين النجاح والناجحين، نستعرضها هنا بدون تفاصيل مطولة، وسنفصل في كل نقطة في مواضيع لاحقة:
وجود رسالة للحياة، وهو عامل مشترك بين كل الناجحين والمتميزين، والرسالة هي الغاية التي يريد الفرد تحقيقها في حياته، وهي أمر مستمر ولا ينتهي إلا بموت الفرد، لذلك يعتبر النجاح رحلة مستمرة لا تتوقف، وهو في مراحل يكون نجاح باهر وفي أحيان يكون فشلاً أو نجاحاً باهتاً، والفرد الذي وضع رسالة لحياته والتزم بها نجده أكثر حرصاً على وقته وأكثر حرصاً على إنجاز أهدافه وترك إنجازات بارزة من بعد وفاته. هذا هو العامل الأول المشترك بين الناجحين، وجود رسالة للحياة.
التخطيط وتحديد الأهداف، وهذا أمر بديهي، لأن من التزم برسالة يؤديها في حياته سيضع أهدافاً لتحقيق هذه الرسالة، وسيخطط ليحقق أهدافه بالتدريج، والتخطيط للحياة قد يكون عبارة عن أهداف عامة وخطط تفصيلية وقد يكون تخطيط مفصل لفترة معينة، والتخطيط يساعد الإنسان على التركيز وعدم التشتت في أعمال جانبية لا تحقق أهدافه.
تنظيم الوقت أو إدارة الذات، وهو التخطيط اليومي، أي كيف سيقضي هذا الإنسان يومه؟ وتنظيم الوقت هو الذي يحدد نجاح الفرد أو فشله في النهاية، لأن اليوم الناجح الذي استفاد منه الفرد يقرب إلى النجاح ويقرب من تحقيق الأهداف وإنجاز الرسالة، واليوم الذي لم يستفد منه ولم يستغله فسيأخره عن تحقيق أهدافه وأداء رسالته، لذلك إدارة الذات واستغلال الوقت هو الذي يحدد نجاحك وفشلك.
التعامل مع الآخرين، وهو فن يجب ان يتعلمه كل شخص يود ان يحقق اهدافه، فلا نجاح من غير علاقات ولا نجاح من دون التعامل مع الآخرين والتعاون معهم، وسنفصل في أهمية العلاقات وأهمية التعاون مع الآخرين في دروس مفصلة قريباً إن شاء الله.
التجديد والإبداع، التجديد والإبداع متلازمان، وهما أمران ضروريان لكل شخص، إذ أن الروتين اليومي الممل يمتص من طاقة وحماسة الإنسان، فلزم عليه ان يجدد حياته، يجددها من جوانبها الروحية والعقلية والنفسية والجسدية، ولهذا تجد الناجحون يحرصون على تطوير أنفسهم من خلال عدة وسائل، ويحرصون على تطوير وسائلهم لتحقيق أهدافهم.
هذه أهم العوامل المشتركة بين الناجحين، سنعمل على تفصيلها في مواضيع قادمة.
تأليف: عبد الله المهيري
خطوة رائعة نحو النجاح
________________________________________
أنت شخص متميز تبحث عن النجاح وأحداث تغيير فعال في حياتك وتسألني كيف عرفت ذلك ؟(/1)
أقول لك .. بسيطة ، إن الإنسان المتميز بحق عادة ما يبحث عن أساليب تساعده على تغيير نفسه وحياته نحو الأفضل وهذا هو الذي قادك إلى قراءة هذه الأسطر .. يقول "انتوني روبينز" في كتابة الرائع "أيقظ العملاق داخلك" : "وتقول الإحصائيات أن أقل من 10% ممن يشترون كتاباً ما هم فقد الذين يتعدون في قراءتهم الفصل الأول" والحقيقة أن هؤلاء الذين لا يعرفون كيف يستفيدون من الكتب التي يشترونها يهدرون ثروات جبارة يمكنها أن تغير حياتهم ولا شك أنك أخي القارئ أختي القارئة ليست ممن يميلون لخداع أنفسهم بالاستهتار بما يقرؤون ، وأنا على ثقة من أنك ستحاول الإفادة مما سنكتبه في هذه الصفحة عامة وفي هذه الأسطر خاصة والتي تتناول موضوع النجاح في الحياة والتي نقتبس بعضها من كتاب "أيقظ العملاق داخلك Awaken the Giant Within". وبعض المراجع الأخرى .
وتسألني كيف استفيد مما تكتبين ؟ أقول لك حاول أن تقرأ هذا الموضوع أكثر من مرة ثم لتكن معك مذكرة خاصة تنقل فيها كل جملة تشعر أنها تؤثر فيك أو كل فكرة تجد أنه بالإمكان تطبيقها ، ثم اشرع في التطبيق في الحال . كل يوم طبق فكرة أو أكثر وستذهل من النتيجة الرائعة التي ستصل إليها بمشيئة الله تعالى بعد ستة أشهر من الآن ، وأحب أن أكرر أن الذي لا يطبق لا يحصل على نتيجة . يقول تعالى في كتابة : ( ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) .. إذن فزمام أمرك في يدك وكلما تقدمت البحوث في مجال النفس الإنسانية كلما وجدناها تقترب من النصائح والحكم التي وردت في القرآن الكريم خاصة وفي الكتب السماوية عامة وهذا ليس بالأمر المستغرب لأن الذي خلق الإنسان والذي أنزل الكتب السماوية هو إله واحد وكلما تطور الإنسان في عمله كلما اكتشف أكثر حكمة الحياة وعظمة الخالق العظيم . ولكي يكون التغيير الذي ستحدثه في حياتك ذا قيمة حقيقة فلا بد أن يكون تغييرا دائماً ومستمراً ، وكلنا خبرنا التغيير في لحظة من لحظات حياتنا وربما شعرنا أحيانا بالإحباط وخيبة الأمل فكثير من الناس يحدثون بعض التغييرات في حياتهم وهم يشعرون بالخوف لماذا؟ لأنهم وبعقولهم الباطنة يعتقدون أن هذا التغيير لم يكون إلا مؤقتاً وسنضرب على ذلك مثلاً : تجد أن أحد الأشخاص الذين تعرفهم يعاني من وزن زائد وكلما نوى أن يطبق نظاماً غذائياً معيناً لخفض وزنه الزائد تجده يؤجل موعد بدء هذا النظام أو أن يستمر فيه لفترة ثم يوقفه والسر في ذلك يكمن في أن هذا الشخص يدرك بعقله الباطن أن أي ألم سيتحمله من أجل إنقاص وزنه أو أحداث أي تغيير في حياته سيعود عليه في النهاية بمردود قصير الأمد ، وبتعبير آخر أنه يعلم داخل عقله اللاوعي أنه سيعود مرة أخرى إلى حالة زيادة الوزن التي كان عليها .
ويتحدث "روبينز" عن الكيفية التي بها غير حياته قائلاً : "لقد اتبعت في معظم سنوات حياتي ما أعتبره المبادئ المنظمة للتغيير الدائم" .
سنحاول أن نتعلم أنا وأنت بإذن الله تعالى هذه المبادئ التي يمكنها أن تغير حياتنا إلى الأفضل وبشكل دائم . ولكن وفي هذه اللحظة بالتحديد سنحاول أن نتعرف على واحد من أهم المبادئ للتغيير يمكننا أن نستخدمها في الحال لكي نغير بها حياتنا . ورغم بساطة هذه المبادئ إلا أنها قوية وفعالة للغاية عندما تطبق بعناية ومهارة . وهذه المبادئ تفيد على المستوى الفردي والجماعي بل والعالمي .(/2)
إذا أردت في يوم من الأيام أن تحدث تغييرا حقيقيا في حياتك فأول شئ عليك أن تفعله هو أن تعلي من مستوياتك أو تزيد من مقاييسك (To Raise your Standards) وسنوضح ذلك بعدة أمثلة ، على المستوى الصحي لا تكتف بأن عندك مرض واحد بل ليكن المستوى الصحي الذي تحلم به هو أن تعالج هذا المرض وتكتسب لياقة بدنية وتزيد من طاقتك ، وعلى المستوى الروحي لا تكتفي بأنك تؤدي الفروض بل ابحث عن السنن والنوافل وتعمق في دينك أكثر وتقرب يوماً بعد يوم الى الله تعالى ولا تقل ( أنا بخير وهذا يكفيني ) فأنت لن تقف مكانك بل تأكد أنك إذا لم تتقدم فسوف تتأخر ، وعلى المستوى الأسري لا تقل لنفسك ( حالتي معقولة ) بل حاول أن تبحث عن سعادة أكثر احلم بمراكز أعظم لأولادك وخطط لذلك من الآن . أقوى مجال في حياتك هو المجال الروحي وهذا وفقا لأحدث البحوث النفسية لذا فإنك إذا أحدثت تغييراً في باقي مجالات حياتك ) اجتماعي - صحي - نفسي - مهني - عقلي ) سيكون يسيراً للغاية وهذا ما يفسر لنا سر تحول العرب بعد دخولهم الإسلام ، فبعد أن كانوا أناسا خاملي الذكر أصبحوا بالإسلام قوة جبارة تحكم العالم بالعدل والسلام وخرج منهم علماء في شتى مجالات الحياة أناروا العالم بنور العلم الذي بهداه تقدم الغرب وصنعوا حضارتهم الحالية التي ننبهر من روعتها رغم أنها وليدة حضارتنا الإسلامية والتي نجهل قوتها الكامنة . أن أول شئ ينبغي عليك أن تغيره في نفسك هو الطلبات التي تطلبها من نفسك اكتب كل الأشياء التي لا تقبلها في حياتك سواء بسواء من نفسك أو من الآخرين ثم اسأل نفسك ( هل ما أعاني منه سببه فيّ أم في غيري ) إذا كنت ممن يقولون دائماً لأنفسهم ( أنا ملاك أنا ليست بي عيوب ) فرجاء لا تكمل معنا قراءة هذا الموضوع فهو ليس لك ، أما إذا كنت ممن يعتقدون أنك بشر وكما أن لك مميزات فلك عيوب وأنت على استعداد أن تمحو هذه العيوب وتقوي هذه الميزات فتستفيد بمشيئة الله تعالى مما نكتب أقصى فائدة وستحقق نجاحات رائعة فقط اعرف نفسك بصدق ووضوح وإذا ما تأكدت أن الخطأ بالفعل من الطرف الآخر ففكر في طريقة لطيفة لتغيير هذا الموقف الذي لا تحتمله ، كن أمينا مع نفسك فلحظات الأمانة والصدق مع النفس لا تُعدل بملء الأرض ذهبا ثم اسأل نفسك ما هي الأمور التي لن أستطيع أن أتحملها – أجب على الورق . ثم أكتب كل الأشياء التي تتمنى من أعماق قلبك أن تحققها ثم فكر في هؤلاء العظماء والنتائج الرائعة التي وصلوا إليها في حياتهم بعد أن أخذوا عهداً على أنفسهم أن لا يقبلوا بأقل من المستوى الذي حلموا به . تأمل حياة العظماء وعلى رأسهم رسل الله صلوات الله عليهم وسلامه . أدرس سيرة الصحابة رضوان الله عليهم والصحابيات رضوان الله عليهن ، تفكر في سيرة العلماء من القادة والمصلحين من أهل الشرق والغرب ابن سينا وابن حيان والفارابي وخالد بن الوليد وسيف الدين قطز وإسحاق نيوتن وإنيشتاين وحسن البنا وإبراهام لينكولن وهيلين كيلر وماري كوري والمهاتما غاندي وسويكيرو هونا وغيرهم من الناجحين الذين قرروا وبكل قوة أن يخطوا خطوة إيجابية رائعة في حياتهم وهي أن يرفعوا من مقاييسهم فالقوة التي توفرت لديهم متوفرة لك أيضا ستكون أيضا بين يديك فقط إذا كانت لديك الشجاعة لكي تحصل عليها ، أن تغيير المنظمات والشركات والدول أو العالم كله يبدأ بخطوة واحدة بسيطة وهي ( أن تغير نفسك ) .
إعداد: حنان عيسى عبد الظاهر - جريدة الشرق (القطرية)
الحياة مباراة كرة قدم
________________________________________
تخيل معي أنك في جالس في ملعب لكرة القدم، تنتظر مبارة بين فريقين من أعرق الفرق في بلادك، وبدأت المبارة وبدأت الهجمات من الفريقين وبدأ تسجيل الأهداف، وتحمس الجمهور وراح يغني ويشدو، وكل يغني على ليلاه!! أعني كل يشجع فريقه.
وفي خضم هذه الفوضى العامرة، فجأة!! وإذ بمجموعتين من الشباب، كل مجموعة اتجهت صوب المرمى حملته وهربت به لخارج المعلب!! صار الملعب من دون أهداف، في تصورك هل سيكمل اللاعبين اللعب؟ وكيف سيلعبون؟ ولأي جهة يتجهون؟ بالتأكيد سيتوقفون. لكن تصور لو أن الحكم أصر على إكمال المباراة، تخيل معي كيف سيقضي اللاعبين التسعين دقيقة من وقت المبارة، ليس هناك أي هدف، واللعب عشوائي، والجمهور لن يبقى في الملعب لمشاهدة مباراة من دون أهداف.
الحياة تتشابه مع المباراة تماماً، فاللاعب هو أنت، والمرمى يمثل أهدافك في الحياة، وحدود الملعب هي الأخلاقيات والعادات والشارئع التي يجب عليك أن لا تتجاوزها، والمدرب هو كل شخص يرشدك ويوجهك ويحاول أن يفيدك في حياتك، والفريق الخصم يمثل العقبات التي تواجهك في الحياة، واللاعبين الذين معك في الفريق هم أصدقائك وكل شخص يسير معك في مسيرة الحياة، والحكم هو الذي كل فرد يرشدك إلى أخطائك، وإذا أدخلت الكرة في مرمى الخصم فقد حققت هدفك.(/3)
وقبل دخولك المباراة يجب أن تخطط للوصولة إلى الهدف وتحقيق أعلى نسبة من الأهداف، وكذلك عليك أن تتدرب وتتمرن حتى تستعين بالتدريب على المباراة.
إذا كانت المباراة وهي من أمور الدنيا تتطلب أهدافاُ وتخطيطاً واستعداداً، فكيف بالحياة عند المسلم، أليس هو الأولى بالتخطيط والتمرين وتحديد الأهداف ثم السعي لتحقيق الأهداف، والاستعانة بالأصدقاء لتحقيق هذه الأهداف، والاستعانة بأشخص يمتلكون الحكمة حتى يرشدونه لتحقيق هذه الأهداف؟
تأليف: عبد الله المهيري
كتابة الأهداف خطوة أولى على طريق النجاح
________________________________________
لكي تحدد الأهداف التي تهمك، والتي ستستخدمها في خطتك، قم بعمل قائمة بكل شيء تتمنى أو تحلم بتحقيقه، في شتى مجالات حياتك، أيا كان هذا الحلم صغيرا أم كبيرا، اكتبه على الورق. فكتابتك لكل أهدافك على الورق في هذه المرحلة ستوسع من أفق تفكيرك. وفي هذه المرحلة لا تحاول التفكير في الكيفية التي ستحقق بها هذه الأهداف، وذلك لأنك إن قمت بالتفكير في كيفية إنجازها في هذه المرحلة المبكرة من وضع الخطط والأهداف ستقلّص وتقيّد اعتقادك بقدرتك على تحقيقها. فهذه الأهداف لا تزال من وجهة نظرك بعيدة عن متناول يديك.
قد تتساءل في نفسك "لماذا إذن أكتب قائمة بأهدافي الحقيقية؟!" إن كانت أهدافك تمثّل أهمية بالنسبة لك، عند كتابتك لها ستبدأ في رؤية فرص جديدة في الحياة لم تكن تراها من قبل، وستجد نفسك منجذبا لا شعوريا تجاه هذه الفرص، وستبدأ في تنمية قدراتك لكي تأخذك خطوة بخطوة نحن تحقيق أحلامك. لذلك ضع كل ما يخطر ببالك من أهداف على الورق.
وتأكد أنه لن تكون لديك الرغبة في تحقيق هذه الأهداف إلا إذا كان الخالق سبحانه وتعالى قد منحك القوة لتحقيقها، وسيساعدك قيامك بتنظيم هذه الأهداف وتحديد الأولويات منها على تحقيقها.
ستلاحظ أنك في بعض الأحيان لن تحقق هدفا بالطريقة التي خططت لها. وفي أحيان أخرى ستجد أن تجربتك لبعض الخطط الإبداعية واتخاذك بعض الخطوات الفعلية تقودك في اتجاهات لم تتوقعها من قبل، وفي الغالب تكون أعظم وأكثر نجاحا من تلك التي وضعتها في خططك. وذلك لأن الخطط وضعت على أساس مقدرتك الحالية، وهذه المقدرة تتغير مع الوقت.
وعليك أيضا بالإضافة لقائمة الأهداف أن تضع قائمة بالاحتياجات الخاصة والمهارات اللازمة لتحقيق التحسّن المطلوب لإنجاز الأهداف.
فعلى سبيل المثال إن كنت راغبا في التعمق بدراسة أحد مجالات العلوم المختلفة لكي تزيد من دخلك، لكن لا يوجد لديك الوقت الكافي لعمل ذلك. ضع هدفا لنفسك بأن تلتحق بفصل للقراءة السريعة، أو أن تدرس مقرر عن الذاكرة والتركيز. وبالتالي سيكون بإمكانك أن تفعل الكثير في وقت قليل.
والآن توكل على الله، واخطوا أول خطوة على طريق النجاح، وأسأل الله تعالى أن يعينك ويوفقك.
________________________________________
ترجمة بتصرف عن : Born to succeed – colin turner
إعداد: جريدة الشرق – القطرية
مقولات في النجاح
________________________________________
1. ... الحياة إما أن تكون مغامرة جرئيه ... أو لا شيء ( هيلين كيلر )
2. ... ليس هناك من هو أكثر بؤساً من المرء الذي أصبح اللا قرار هو عادته الوحيدة ( وليام جيمس )
3. ... إذا لم تحاول أن تفعل شيء أبعد مما قد أتقنته .. فأنك لا تتقدم أبدا (رونالد .اسبورت )
4. ... عندما أقوم ببناء فريق فأني أبحث دائما عن أناس يحبون الفوز ، وإذا لم أعثر على أي منهم فأنني ابحث عن أناس يكرهون الهزيمة ( روس بروت )
5. ... إن أعظم اكتشاف لجيلي ، هو أن الإنسان يمكن أن يغير حياته ، إذا ما استطاع أن يغير اتجاهاته العقلية ( وليام جيمس )
6. ... إن المرء هو أصل كل ما يفعل ( ارسطو )
7. ... يجب أن تثق بنفسك .. وإذا لم تثق بنفسك فمن ذا الذي سيثق بك !!؟؟
8. ... إن ما تحصل عليه من دون جهد أو ثمن ليس له قيمه .
9. ... إذا لم تفشل ، فلن تعمل بجد .
10. ... ما الفشل إلا هزيمة مؤقتة تخلق لك فرص النجاح .
11. ... الهروب هو السبب الوحيد في الفشل ، لذا فإنك تفشل طالما لم تتوقف عن المحاولة .
12. ... إن الإجابة الوحيدة على الهزيمة هي الانتصار ( ونستون تشرشل).
13. ... لعله من عجائب الحياة ،إنك إذا رفضت كل ما هو دون مستوى القمة ، فإنك دائما تصل إليها (سومرست موم )
14. ... إن ما يسعى إليه الإنسان السامي يكمن في ذاته هو ، أما الدنيء فيسعى لما لدى الآخرين (كونفويشيوس )
15. ... قد يتقبل الكثيرون النصح ، لكن الحكماء فقط هم الذين يستفيدون منه ( بابليليوس سيرس )
16. ... ليس هناك أي شي ضروري لتحقيق نجاح من أي نوع أكثر من المثابرة ، لأنه يتخطى كل شيء حتى الطبيعة .
17. ... عليك أن تفعل الأشياء التي تعتقد أنه ليس باستطاعتك أن تفعلها .( روزفلت )
18. ... من يعش في خوف لن يكون حراً أبدا ( هوراس )(/4)
19. ... الرجل العظيم يكون مطمئناً ، يتحرر من القلق ، بينما الرجل ضيق الأفق فعادة ما يكون متوتراً (كونفويشيوس )
20. ... إن عينيك ليست سوى انعكاسا لأفكارك ( د إبراهيم الفقي )
21. ... إن الاتصال في العلاقات الإنسانية يتشابه بالتنفس للإنسان ، كلاهما يهدف إلى استمرار الحياة ( فرجينيا ساتير )
22. ... افعل الشيء الصحيح فأن ذلك سوف يجعل البعض ممتناً بينما يندهش الباقون ( مارك توين )
23. ... أن العالم يفسح الطريق للمرء الذي يعرف إلى أين هو ذاهب ( رالف و.أمرسون )
24. ... إنسان بدون هدف كسفينة بدون دفة كلاهما سوف ينتهي به الأمر على الصخور ( توماس كارليل )
25. ... ليست الأهداف ضرورية لتحفيزنا فحسب ، بل هي أساسية فعلاً لبقائنا على قيد الحياة (روبرت شولر)
26. ... إن السعادة تكمن في متعه الإنجاز ونشوه المجهود المبدع ( روزفلت )
27. ... إن الاتجاه الذي يبدأ مع التعلم سوف يكون من شأنه أن يحدد حياه المرء في المستقبل ( أفلاطون )
28. ... ليس هناك وصفاً للقائد أعظم من أنه يساعد رجاله على التدريب على القوه والفعالية والتأثير .( منسيوس )
29. ... إن الاكتشافات والإنجازات العظيمة تحتاج إلى تعاون الكثير من الأيدي
30. ... ومن يتهيب صعود الجبال * * * يعش أبد الدهر بين الحفر
31. ... الوطنية لا تكفي وحدها … ينبغي ألا نضمر حقدا أو مرارة تجاه أي كان .
32. ... في كل الأمور يتوقف النجاح على تحضير سابق وبدون مثل هذا التحضير لابد أن يكون هناك فشل
33. ... إن قضاء سبع ساعات في التخطيط بأفكار وأهداف واضحة لهو أحسن وأفضل نتيجة من قضاء سبع أيام بدون توجيه أو هدف
34. ... الحكمة الحقيقية ليست في رؤيا ما هو أمام عينيك فحسب !! بل هو التكهن ماذا سيحدث بالمستقبل
35. ... اغرس اليوم شجره تنم في ظلها غداً
36. ... عندما تعرض عليك مشكله أبعد نفسك عن التحيز والأفكار المسبقة ..وتعرف على حقائق الموقف ورتبها ثم اتخذ الموقف الذي يظهر لك انه أكثر عدلاً وتمسك به .
37. ... يجب أن تكون عندنا مقبرة جاهزة لندفن فيها أخطاء الأصدقاء .
38. ... مع كل حق مسؤولية ..فلماذا لا يذكر الناس إلا حقوقهم .؟؟
39. ... خلق الله لنا يدين لنعطي بها فلا يجب إذا أن نجعل من أنفسنا صناديق للادخار وإنما قنوات ليعبرها الخير فيصل إلى غيرنا .
40. ... أعمالنا تحددنا بقدر ما نحدد نحن أعمالنا !!
41. ... إن أرفع درجات الحكمة البشرية هي معرفة مسايرة الظروف وخلق سكينه وهدوء داخليين على الرغم من العواصف الخارجية .
42. ... البحث يعلم الإنسان الاعتراف بخطئه والافتخار بهذه الحقيقة أكثر من أن يحاول بكل قوته الدفاع عن شيء غير منطقي خوفا من الاعتراف بالضعف بينما الاعتراف علامة القوة .
43. ... إن الخصال التي تجعل المدير ناجحا هي الجراءة على التفكير والجراءة على العمل والجراءة على توقع الفشل ..!!
44. ... قدرتك على حفظ اتزانك في الطوارئ ووسط الاضطرابات وتجنب الذعر هي العلامات الحقيقية للقيادة .
45. ... الرئيس هو ذلك الرجل الذي يتحمل المسؤولية فهو لا يقول غُلب رجالي إنما يقول غٌلبت أنا …فهذا هو الرجل حقاً.
46. ... نحن نعيب على الآخرين أنهم يرتكبون نفس أخطائنا .!!!
47. ... امدح صديقك علناً … عاتبه سراً !!!!
48. ... أول الشجرة .. (( النواة ))!!!
49. ... إذا نفذت عملاً خطأ سوف تنفذه رديئاً .
50. ... يستحيل إرضاء الناس في كل الأمور … ولذا فإن همنا الوحيد ينبغي أن ينحصر في إرضاء ضمائرنا !
51. ... الأفضل أن تصل مبكراً ثلاث ساعات من أن تتأخر دقيقه واحدة .
52. ... السيطرة ضارة إلا سيطرتك على نفسك ..!!
53. ... لا يقاس النجاح بالموقع الذي يتبوأه المرء في حياته .. بقدر ما يقاس بالصعاب التي يتغلب عليها ..!!
54. ... العبرة في عدد الإنجازات المحققة بغض النظر عن من الذي حققها .!
55. ... من اكثر الأخطاء التي يرتكبها الإنسان في حياته … كانت نتيجة لمواقف كان من الواجب فيها أن يقول لا …فقال نعم !!!
56. ... الصلاح مصدر قوه فالرجل المستقيم الصدوق النافع قد لا يصبح مشهوراً أبداً … لكن يصير محترماً ومحبوباً من جميع معارفه .. لأنه أقام أساساً متيناً من النجاح وسوف يأخذ حقه من الحياة .
57. ... إن على المرء أن لا ينسى الجانب الإنساني في تعامله مع الآخرين سواء في حياته العملية أو الاجتماعية .
58. ... إذا حُملت المسؤولية لمن لا يستحقها فسوف يكشف عن خلقه الحقيقي دائماً.
59. ... إذا كنت تجد المتعة في عملك فسيجد الآخرون المتعة في العمل تحت إمرتك .
60. ... قد تكون أفضل الطرق أصعبها ولكن عليك دائما بإتباعها إذ الاعتياد عليها سيجعل الأمور تبدو سهله .
61. ... عامل من أنت مسؤول عنهم كما تحب أن يعاملك من هو مسؤول عنك ..!!
62. ... تعود على العادات الحسنه وهي سوف تصنعك ..!!(/5)
63. ... غالبا ما يكون النجاح حليف هؤلاء الذين يعملون بجرأة، ونادراً ما يكون حليف أولئك المترددين الذي يتهيبون المواقف ونتائجها. (جواهر لال نهرو)
64. ... لا يجب أن نحكم على ميزات الرجال بمؤهلاتهم، ولكن باستخدامهم لهذه المؤهلات.
65. ... نحن نسقط لكي ننهض... ونهزم في المعارك لنحرر نصراً أروع.. تماما كما ننام لكي نصحوا أكثر قوةً ونشاطاً. (بروانبخ)
66. ... الرجل الناجح هو الذي يظل يبحث عن عمل، بعد أن يجد وظيفة !!
67. ... ينقسم الفاشلون إلى نصفين: هؤلاء الذين يفكرون ولا يعملون، وهؤلاء الذين يعملون ولا يفكرون أبداً. (جون تشارلز سالاك)
68. ... لا يصل الناس إلى حديقة النجاح دون أن يمروا بمحطات التعب والفشل واليأس، وصاحب الإرادة القوية لا يطيل الوقوف في هذه المحطات.
69. ... إننا ندفع ثمنا غالياً من جراء خوفنا من الفشل. إنه عائق كبير للتطور يعمل على تضييق أفق الشخصية ويحد من الاستكشاف والتجريب، فلا توجد معرفة تخلو من صعوبة وتجربة من الخطأ والصواب .... وإذا أردت الاستمرار في المعرفة عليك أن تكون مستعداً طيلة حياتك لمواجهه خطورة الفشل. (جون جاردينر)
70. ... يلوم الناس ظروفهم على ما هم فيه من حال.. ولكني لا أؤمن بالظروف فالناجحون في هذه الدنيا أناس بحثوا عن الظروف التي يريدونها فإذا لم يجدوها وضعوها بأنفسهم. (برنارد شو)
71. ... جوهر الإدارة هو قوه التنبؤ قبل حدوث الاشياء (هنري فابول)
إعداد: جنة(/6)
عوامل انهيار النظام الأمريكي
قراءة في كتاب ما بعد الأمبراطورية لإيمانويل تود د. بسطامي محمد خير*
مقدمة
من الحقائق اليقينية عند كل عاقل أن الدول دول ، والتاريخ دورات متعاقبة مصداقا لقول الله تعالى ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) ، وكم من دول كثيرة وممالك عظيمة قامت وسادت ثم دالت وزالت .
والقرآن ملئ بالشواهد التاريخية والتجارب البشرية الدالة على تحقق هذه السنة الإلهية في ظهور الدول وعلوها ثم ضعفها واضمحلالها . ونحن نقرأ فيه مثلا قول الله تعالى: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا) وقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِى الاٌّ وْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْاْ فِى الْبِلَادِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) . ولقد اهتم المؤرخون المسلمون بدراسة أسباب نشأة الدول وتأسيسها وعوامل ضعفها وهرمها ، من أولئك ابن خلدون في مقدمة تاريخه المشهورة وتلميذه ابن الأزرق في كتابه المعروف . ثم انتقل هذا العلم إلى الغربيين ومن أشهر من كتب في ذلك من المعاصرين المؤرخ الانجليزي آرنولد توينبي الذي درس أكثر من ثلاثين حضارة وحاول تحليل عوامل نهضتها وسقوطها .
وهناك دراسات كثيرة في هذا المجال ، ومن هذه الدراسات كتاب ذاع صيته في الغرب وتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعا لفترة طويلة ، وهو كتاب (ما بعد الإمبراطورية عوامل إنهيار النظام الأمريكي ) لايمانويل تود الذي يتحدث عن عوامل ضعف الولايات المتحدة الأمريكية ويتنبأ بانهيارها الوشيك . وتأتي غرابة الكتاب ووجه العجب فيه أنه يأتي في وقت لا يكاد يخطر في بال أحد أن هذا العملاق القوي الضخم الذي قد وصل إلى أوج هيمنته على العالم وسيطرته ونفوذه على البلاد والشعوب ، يمكن أن يهوي ويسقط .
ولا شك أن نشأة الدولة الأمريكية الحديثة ونهضتها السريعة وسيادتها وقيادتها للعالم ، أمر فريد ومتميز فقد اكتشفت أمريكا في الوقت الذي بدأت فيه أوربا تقدمها الحديث في عصورها الوسطى ، واندفع إليها المهاجرون من كل حدب وصوب ، تحركهم دوافع شتى من ابتغاء الرزق والثراء ، وطلب العدل والحرية والفرار من الظلم والاستبداد . ووجدوا فيها أرضا بكرا وسهلا ممهدا ترعرعت فيه افضل ما عرفه العقل الأوربي من أفكار ونظم ومخترعات ومكتشفات وتجمعت فيها الخبرات والثروات. وحين استقلت الدولة الأمريكية عن بريطانيا في العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر الهجري ، بدأت تشق طريقها نحو الصعود حتى استوت على ساقها واشتد ساعدها وصارت قوة عالمية عظمي علميا وعسكريا واقتصاديا وسياسيا . وصار تأثيرها واضحا في صنع التاريخ المعاصر منذ الحرب العالمية الأولى ، وتبوأت مكانة القطب الأعظم منذ الحرب العالمية الثانية ، وصارت القطب الأوحد منذ انهيار القطب السوفيتي قبل عشرين سنة .
ورغم هذه القوة الظاهرة والهيمنة العالمية الفائقة لأمريكا ، فإن سيلا من الكتب والبحوث بأيدي أمريكين وأوربيين بدأت تظهر معلنة بداية نهايتها ، ومع اختلاف منطلقات هذه الكتب ومناهجها واتجاهاتها إلا أنها تخلص إلى نتيجة واحدة هي أن أمريكا تسير نحو السقوط .
ويعرض الكتاب الذي بين أيدينا في مقدمته بعض هذه الكتب ليبين أوجه الاختلاف بينه وبينها . ويأتي في مقدمة هؤلاء (أعداء أمريكا التقليديون) ، ومن أمثلتهم المشهورة المفكر الأمريكي نعيم شومسكي ، وبقايا اليساريين ومناهضي العولمة على اختلاف مشاربهم وبلدانهم الذين يرون أن أمريكا قوة خارقة لكنها شريرة بطبيعتها وتجتمع فيها سوءأت النظام الرأسمالى ، ومهما ازدادت قوتها وتصاعدت فإن المتناقضات التي بداخلها لا بد أن تهوي بها . ومن الأسماء البارزة في التنبؤ بضعف النظام الأمريكي وسيره نحو الهبوط ، كتب ومقالات ظهرت في العقدين الماضيين من كتاب ومفكرين من داخل المؤسسة الحاكمة في أمريكا ، منهم بول كينيدي وروبرت غيلبن من زاوية اقتصادية ، و صموئيل هنتنغتون من زاوية ثقافية دينية ، وهنري كسنجر وبريجينسكي من زاوية سياسية . وقد أجمع هؤلاء على أن هيمنة أمريكا العالمية قد بدات العد التنازلي ، ويصفونها بأنها امبراطورية تنهار ، لأنها لا تستطيع أن تصمد طويلا أمام التنمية البشرية والاقتصادية الصاعدة لدول العالم الأخرى .(/1)
ومما يميز كتاب ما بعد الامبراطورية الذي بين أيدينا ، أنه معتدل في بظرته غير متحامل ، ولا ينطلق من دوافع عاطفية أو تحيز سياسي ، بل يعتمد التحليل العلمي القائم على الإحصائيات وطرق البحث المتبعة في العلوم الاجتماعية . وهو لا يذهب في نظرته إلى التطرف الذي يحلم بزوال أمريكا من خريطة العالم ، ولكنه يذهب إلى أنها ستصبح خلال عقود قليلة دولة مشغولة بمشكلاتها الداخلية وسوف يضعف دورها العالمي من الدولة العظمى الوحيدة ، إلى دولة مماثلة لمكانة الدول الأخرى إن لم تكن أقل منها ، وسوف يكون المنافس الأقوى منها ما يسميه كتلة أوراسيا التي تشمل أوربا وروسيا واليابان والصين . وفي نظر الكاتب أن أمريكا قد بلغت أوج قوتها وعظمتها وشكلت إمبراطورية بمعنى الكلمة خلال الخمسين سنة الممتدة من الحرب العالمية الثانية إلىعام 1990 ، ولكنها خلال العقدين الماضيين قد دخلت مرحلة ما بعد الإمبراطورية وأنها تسير نحو الهرم والضعف بخطى حثيثة ، ولهذا جعل عنوان كتابه "ما بعد الإمبراطورية" . ومؤلف الكتاب هو إيمانويل تود ، فرنسي من أصول أمريكية ، درس العلوم السياسية ونال الدكتوراة في التاريخ من جامعة كمبردج باتجلترا ، ويعمل باحثا متخصصا في المعهد الوطنى للدراسات السكانية في باريس . وبهذا تجمعت لدية خبرات في السياسة والتاريخ والدراسات السكانية . وقد ادهش تود العالم عام 1976 بكتاب عنوانه "السقوط الأخير" تنبأ فيه بتضعضع الإتحاد السوفيتي ، ليس بسبب الضغوط الأمريكية أو الأوربية ، بل اعتمادا على تحليل علمي مثل اتجاهات السكان في روسيا ، وخاصة معدلات وفيات الأطفال العالية آنذاك ، كمؤشر على تدني المستوى الصحي في الدولة ، وعلى اتجاهات الاقتصاد المنخفضة في الانتاج وغيره . وخلص أن هذا التعفن الداخلى للاتحاد السوفيتي سوف يعصف به في النهاية ، وأنه مهما بدا عملاقا في ظاهره إلا أن فرعون في حقيقته عار تماما . ولم تمض سنوات حتى صدقت نبؤة تود وانهار الاتحاد السوفيتي . وبمثل هذا التحليل يخلص تود إلى أن أمريكا لن تظل على حالها وأنها ستسقط على الاكثر قبل عام 2050 . فما العوامل التي تجعله واثقا في استقرائه للمستقبل هكذا ؟
يرجع تود تقهقر قوة الولايات المتحدة إلى ثلاثة عوامل أساسية: عسكرية واقتصادية وثقافية . ويدعي تود أن من المدهش حقا أن هذه الجوانب الثلاثة هي ذاتها التي تزهى بها أمريكا أمام العالم وتدعى أنها أسباب قوتها ، وتخيل بها للناس أنها عملاق لا يغالب . ولهذا فإن تود يصف ذلك بقوله أن أمريكا بهذا الزخرف والزينة لشكلها الخارجي تتحول من شبه إمبراطورية حقيقية في حقبة ازدهارها إلى ما قبل العقد الأخير من القرن العشرين ، إلى إمبراطورية مظهرية زائفة ، تبدو منتفخة ولكنها في حقيقتها واهية هشة ومتآكلة .
هل يصدق أحد أن أمريكا ضعيفة عسكريا؟ يورد تود بعض الحجج لدعم رأيه . مما لا شك فيه أن أمريكا تملك ترسانة ضخمة من العتاد الحربي لا يقارن بأي دولة أخرى ولا دول أوربا مجتمعة ، ولكنها فيما يبدو ليست لديها أية ثقة في جنودها ومقدراتهم القتالية الأرضية ، وقد كشفت الحروب الصغيرة الأخيرة التى خاضتها في الصومال ولبنان وخاصة فيتنام ، هذا الضعف البشري الذي لا يبدو أنها تستطيع معالجته . ومن أجل النصر تستخدم تفوقها الخارق في المجال الجوى والضرب بعيد المدى ، ولا تهاجم إلا دولا ضعيفة لا تستطيع حيلة ولا تجد سبيلا لصد عدوانها ، وتحشد لها مع هذا الحلفاء والأتباع من إجل هزيمتها بالرعب والخوف . وقد أضحى هذا الأسلوب الأمريكى في القتال هو المفضل وهو ما استخدمته في إفغانستان وفي العراق رغم كثرة عدد ضحاياه بين المدنيين ، وثمنه الباهظ وتكاليفه الخرافية إذ يحتاج لصنع تقنية متطورة ومتقدمة تلحق خسائر فادحة بالأعداء ولا تستطيل يدهم لالحاق الأذى بها . وهكذا تضطر الولايات المتحدة لأن تقدم نصيب الأسد من ميزانيتها من أجل ترسانة سلاحها ، وخاصة أن استراتجيتها العسكرية قد فرضت عليها أن تنشر قواتها في بقاع متناثرة من المعمورة . وتبين الإحصائيات أن لأمريكا قواعد عسكرية في أكثر من ثلاثين بلد من ألمانيا في وسط أوربا إلى اليابان في أقصى الشرق ، ومن دول شرق أوربا الشيوعية السابقة إلى الشرق الأوسط ، ومن أمريكا اللاتينية إلى شرق آسيا . وينوء الاقتصاد الأمريكي بهذا الحمل الثقيل العبء الضخم الذي لا يستطيع منه فكاكا مما يزيد أزمته وورطته . ورغم تخفيض الصرف العسكري ما بين عامي 1990 و1995 إثر تعالي المعارضة الشعبية ، إلا أن الصرف عاد إلى مستويات عليا بعد ذلك .(/2)
أما وضع أمريكا الإقتصادي فهو من أقوى العوامل التي يعتمد عليها تود في توقعه اضمحلالها ، ويسوق لذلك عددا من المؤشرات الدالة على الضعف والوهن . من ذلك العجز الكبير في الميزانية وفي حجم التبادل التجاري . إذ أن أمريكا قد فتحت الباب دون قيود لاستيراد البضائع من أوربا واليابان عملا بسياسة السوق الحرة ، وقد أدى ذلك للإضرار بالصناعة المحلية وتحولت أمريكا تدريجيا من منتج إلى مستهلك نهم لا يشبع ، وقد كان نصيبها من الناتج العالمي بعيد الحرب العالمية الثانية 40% وقد صار الآن 22% تقريبا , وهو رقم يساوي ناتج الاتحاد الأوربي ولا يمنح الولايات المتحدة تفوقا كبيرا . واختل أيضا الميزان التجاري لصالح الدول المصدرة لأمريكا ، حتى أضحى العجز فيه في الفترة بين 1991 2001 من خمسين بليون دولار الي 450 بليونا . ومن أجل تغطية هذا العجز في الميزانية وفي التبادل التجاري صارت أمريكا حسب ما يصفها تود بالوعة تمتص الأموال من أوربا واليابان دون أن تستطيع تقديم منتوج بديل فقد زادت الأموال المتدفقة إلى أمريكا من 88 بليون دولار في سنة 1990 إلى 865 بليون في سنة 2001 . وهكذا أضحت البلاد غير قادرة على تغطية نفقات استهلاكها ومعيشتها العالية ، وفي أمس الحاجة للعالم الخارجي ، وعاد الهدف الرئيسى لسياستها الخارجية بسط هيمنتها على العالم من أجل السيطرة على الموارد العالمية وخاصة البترول . وبجانب هذه المشكلات فإن المجتمع الأمريكى تتجسد فيه سوءات النظام الرأسمالي المتمثلة في الفوارق الطبقية وازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء .
وستكون النتيجة النهائية لهذا الضعف الاقتصادي زعزعة مكانة الدولار كإحتياطي للنقد العالمي وانهيار سوق الأوراق المالية انهيارا أسوأ بكثير مما شهده العالم في أي وقت سايق وقد يؤدي ذلك إلى تعويم قيمة الدولار مما سيكون عاقبته أن تقصم القشة ظهر البعير .
أما في الجانب الثقافي فيرى تود أن أمريكا فقدت مبادئها التى أسهمت في نهضتها من ديمقراطية وحرية ، وأصبح مجتمعها مفلسها من الناحية الخلقية تسوده عدم المساواة الاقتصادية والعنف والعنصرية العرقية . ولقد أصبحت الطبقة الرأسمالية الغنية والنخبة من المثقفين هي التى تقبض على زمام الحكم ، وتلاشى دور الطبقة الوسطى من المجتمع ، وتراجعت الديمقراطية الشعبية وتحولت إلى فئوية وطغمة من الأقلية ، ورويدا ورويدا أخذ طابع الاستبداد يغلب عليها ومن أمثلة ذلك مصادرة الحريات العامة بحجة المحافظة على الأمن القومي .
هذا الضعف الذي أصاب أمريكا جعلها تنهج سياسة تثير القلق في تعاملها مع العالم ، فقد كانت أمريكا الأب العالمي الذي يرعى الحريات ولكنها في نظر تود قد أضحت الآن المخرب العالمي الذي يضع العقبات أمام السلام العالمي . ويتساءل تود متعجبا أن أمريكا مثلا باستطاعتها حل مشكلة الصراع العربي الإسرائيلى ولكنها من الواضح لا تريد للمنطقة أن تستقر . ويصف تود سياسة الولايات المتحدة الخارجية بأنها سياسة الرجل المجنون ، لأن أمريكا في حقيقة الأمر تمتلئا رعبا من أن يتخلى عنها العالم وهي في أشد الحاجة إليه حتى لتوفير لقمة العيش لشعبها . ويقول ("ان الخوف من ان تصبح الولايات المتحدة غير ذات فائدة، والخوف من العزلة التي تنتج عن هذا الوضع، هما بالنسبة الى الولايات المتحدة اكثر من ظاهرة جديدة. انهما انقلاب حقيقي لمركزها التاريخي) .
ويتحدث تود عن بعض التصرفات التي تفسر هذه النفسية الخائفة من أن يفلت العالم من بين يديها . فمن ذلك أن أمريكا يخدم أهدافها أن تشتعل مناطف كثيرة في العالم ولا تسعى لإطفاء حريقها حتى يشعر العالم دوما بحاجته إلى تدخلها العسكري الذي يتيح لها بسط نفودها وتقوية هيمنتها . وفي نفس السياق يقول تود أن المبالغة في تضخيم خطر الإرهاب ما هو إلا أسطورة الغرض منها تسويغ الهيمنة وحشد الأعوان للوقوف بجانب أمريكا حفاظا على الأمن العالمي الموهوم . ومن أجل إظهار القوة وترويع العالم تقوم أمريكا بحروب ضد الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة بحجج واهية مثل حرب أفغانستان والعراق ، حروب القصد منها الدعاية وإخفاء الضعف الأمريكي الذي بدا العالم يكتشفه .(/3)
وفي حين أن أمريكا تتراجع سياسيا هكذا فإن كثيرا من دول العالم تزداد نماء بفضل انتشار التعليم وانخفاض مستويات الأمية . وعلى وجه الخصوص فإن المحاور المنافسة لأمريكا تزداد قوة وتماسكا ، فأوربا واليابان والصين وروسيا وايران كلها في صعود مستمر ، ولا يمكنها أن تستمر في مجاملة أمريكا على حساب مصالحها ولن تتحلى بالسماحة دوما مع الحماقات الأمريكية ، وستجد نفسها مضطرة للوقوف ضدها . فقد سعت أمريكا في سياستها تجاه روسيا مثلا إلى غايتين لم يتحققا ، أولها كان تفتيت روسيا وثانيهما إبعادها من أوربا ، لكن عودة روسيا للساحة العالمية بوعى ومهارة جعلا روسيا قادرة على تفويت الفرصة أمام تحرش أمريكا بآسيا الوسطى والاقتراب من أوربا بزيادة حجم تبادلها التجاري معها سبعة أضعاف تجارتها مع أمريكا . ويبدو أن التقارب الأوربي الروسي والياباني - أو مايسمية تود الأوروآسيوي – سيعيد التوازن المفقود على المستوى العالمي . وستكون المحصلة النهائية أن تفقد أمريكا كثيرا من حلفائها وتتقلص امبراطوريتها . وستجد نفسها في عالم يشعر بأنها قد أضحت عبئا عليه دون أن تقدم له أي نفع.
وفي الختام يتساءل تود ما ذا بوسع العالم أن يصنع من أجل تدبير حكيم وإدارة عاقلة لصدمة انهيار أمريكا؟ ويدعي تود أن هذا التقويم الذي قدمه في كتابه ليس الغرض منه تحقيق مغانم لشعب على شعب أو لدولة لدولة إنما للتفاكر في خير البشرية والعالم . ومن أجل ذلك فهو يقترح أن يسعى العالم لتقوية المحاور المنافسة لأمريكا من أجل بناء قوة سياسية جديدة راشدة ، وينصح بزيادة التقارب بين العالم العربي والإسلامي وأوربا واليابان ، ويقول أنه بعكس ما تسعى إليه أمريكا فإن وجود توازن نووي قد يعيد التوازن الدولى ، ومن السبل إلى ذلك أيضا إصلاح الأمم المتحدة وجعلها قوة أمن وسلام حقيقة ونقل بعض هيئاتها من أمريكا حتى لا تتركز في مكان واحد .
وقبل إنهاء هذا العرض تبقى كلمة أخيرة عن وضع العالم الإسلامي ودوره في هذا التحول القادم . لم يتعرض تود لهذه القضية بتفصيل إذ أنه لم ير في هذه المنطقة غير أنها تابع مثلها مثل كثير من مناطق العالم الضعيفة الأخرى . ولكنه في معرض حديثه عن ظاهرة انتشار التعليم والحداثة في العالم المتمثلة عنده في مؤشر انخفاض معدلات الإنجاب ، يلاحظ ان الإسلام يتراجع أمام هذا التطور والتحديث . ولعله من المناسب ان يذكر هنا أن السودان قد انخفض فيه معدل الإنجاب من 6,6 طفل للمرأة الواحدة في عام 1981 إلى 4,9 طفل للمرأة الواحدة في 2001 ، في حين نقص هذا المعدل في إحدى عشرة دولة مسلمة إلى أقل من ثلاثة أطفال للمرأة الواحدة . ولكن يبدو أن الرجل قليل البضاعة في معرفته بالإسلام وبالعالم الإسلامي فهو يعيد مقولات المستشرقين عن هذه المنطقة . ومن المؤسف أنه لا توجد دراسات علمية دقيقة تستكشف المستقبل الإسلامي ، لكن بشارات كثيرة تدل على أن الصحوة الإسلامية رغم الصعاب والعقبات الكثيرة في طريقها إلا أنها تتقدم في طريق العلو والظهور ، ولعله يحسن هنا أن نتمثل بأبيات من الشعر تقول:
والحمد لله أولا وآخرا .(/4)
عوامل ظهور الإرجاء والتكفير
هاني بن عبد الله الجبير 7/5/1427
03/06/2006
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، أمّا بعد:
فلا شك (أن معرفة أصول الأشياء ومبادئها) واستطلاع العوامل المؤدية إلى نشأتها وظهورها (وأصل ما تولد فيها من أعظم العلوم نفعًا، إذ المرء ما لم يحط علمًا بحقائق الأشياء يبقى في قلبه حسكة) (1) .
وذلك أن استطلاع هذه العوامل أساس علاجها، ولذا كان (النظر في سبب المرض ينبغي أن يقع أولاً ثم في المرض ثانيًا ثم في الدواء ثالثًا) (2).
كما أن معرفتها طريق قطع مادتها لمنع تكررُّها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) (3).
وإن الناظر في هذين الفكرين المتضادين – فكر الإرجاء، وفكر التكفير المعاصرين – والباحث في عوامل نشأتهما وظهورهما لابد أن يعيدهما جميعًا إلى سببين أصليين، ذكرهما الشاطبي فقال: (.. الاختلاف الحاصل بين الأمة له سببان .. أحدهما لا كسب للعباد فيه ، وهو الراجع إلى سابق القدر ، والآخر هو الكسبي ، وهو المقصود بالكلام) (4).
فأما القدر فإن الله تعالى أراد –لحكمة عظيمة– أن لا يكون الناس كلهم أمة واحدة، بل منهم الشقي والسعيد؛ كما قال تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" [سورة هود : 118 ، 119] . فأتباع الرسول الأمين هم المرحومون وهم الفرقة الناجية ، ومن سواهم فهو من أهل الوعيد على اختلاف درجاتهم(5).
أما الأسباب الكسبيّة فهي التي ستكون موضع تناولنا في هذه العجالة الموجزة، بعد إيضاح مقدمتين:
المقدمة الأولى: الأفكار لا تموت! .
إن أية فكرة تطرأ على المجتمع فإنها تبقى مهما شاخت وأصابا الهرم، وهذا مما لا ينكر، فإن الناظر في التاريخ الإسلامي ومذاهبه يجد أن التيارات الفكريّة، تقوى حينًا وتستفحل، وتخبو حينًا وتضعف، ولكن لا تموت بل تبقى ضعيفة حتى تجد من يثيرها، وهكذا فإن أي مذهب وجد في تاريخ الأمة فإنه لا يستغرب أن يظهر إذا وجد من يتبناه، سواء كان ظهورًا تامًا أم ناقصًا؛ وسواء ظهر بصورته الأولى أو بصورةٍ مختلفة.
والاتجاه التكفيري والإخراج من الإيمان بفعل الكبائر، اتجاه له وجود في التاريخ الإسلامي في مذهبي الخوارج والمعتزلة، وهو اتجاه بقي وإن كان على ضعف إلى هذا العَصْر(6).
كما أن مذهب الشيعة يعتمد على تكفير الغالي ممثلاً في تكفير الصحابة رضي الله عنهم(7)، وهذا الفكر موجود في الأمة بقوّة في أماكن مختلفة يمثله طوائف متعددة .
وكما أن التكفير موجود ، فالإرجاء أمره أظهر وأبين، فإنه انتشر في الأمة في العصور المتأخرة انتشارًا قويًا ، وحسبك أن تعلم أن الأشاعرة والماتريديّة يتبنون هذا الفكر(8)، لتعلم بعد ذلك كم من المعاهد الإسلامية الكبرى قد تبنَّت هذا الاتجاه .
المقدمة الثانية : تغيير الظاهر لا يغير الباطن .
فإن من المعلوم أن العبرة بحقائق الأشياء ومعانيها، وليس بصورها ومبانيها ، ولذا كان مما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيشرب ناسٌ من أمته الخمر يسمونها بغير اسمها(9).
وهذا العصر شهد ظهورًا للتكفير والإرجاء، وقد ألبس ثياب منهج السلف ؛ فنسب إليه، واستدل بأقوالهم على إثباته، وادعى بأنه هو اعتقاد الفرقة الناجية، وربما ترك من الاتجاه أفكارًا معينة لتبرأ ساحة معتقده إذ لا يوافقهم في هاتيك الأفكار .
مع أنه لا يلزم عند نسبة طائفة إلى اتجاه عقدي أن تتلاقى جميع الأفكار بينهما بل العبرة في الاتفاق في أساس الاتجاه، ولذا لما عدد العلماء الفرق المبتدعة ردوها إلى فرقٍ أمات لها مع التفاوت بينها في الآراء .
وما ذكر أبو الحسن الأشعري المرجئة، ذكر اختلافهم في الإيمان على اثنتي عشرة فرقة(10). وكذلك لما شرع في مقالات الخوارج ذكر جماع رأيهم، ثم اختلافهم بعد ذلك وتكفير بعضهم لبعض(11)!
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: (... لأن هؤلاء وأمثالهم لم يكونوا خبيرين بكلام السلف، بل ينصرون ما يظهر من أقوالهم بما تلقوه عن المتكلمين من الجهميّة ونحوهم من أهل البدع، فيبقى الظاهر قول السلف، والباطن قول الجمهيّة الذين هم أفسد الناس مقالة في الإيمان) (12).
عوامل النشأة والظهور :
أوّلاً : عدم التلقي عن أهل العلم الأثبات :
فبسبب انتشار التعليم وفشو الكتابة في هذا الزمن كثر التلقي والأخذ من كتب العلم مباشرة دون مشافهة العلماء، وترتب على ذلك خطأ كثير . كعدم فهم المصطلحات الشرعية على الوجه المطلوب وعدم تحرير مسائل النزاع ، وعدم التنبه لما في بعض الآراء من غلط .(/1)
وهذه المفاسد وغيرها جعلت السلف يمنعون من تلقي العلم ممن كانت وسيلته التي استفاد بها العلم هي التلقي من الكتب، كما قال أبو زرعة: (لا يفتي الناس صُحُفي) (13) ولعلي أشير إلى مسألتين أجعلهما مثالاً لما يترتب على الأخذ عن الكتب من سوء الفهم، المسألة الأولى: عدم فهم الفرق بين تولي الكافر الذي هو ناقض من نواقض الإسلام، وبين موالاة الكافر الذي هو معصية فقط.
والذي ترتب عليه التكفير بعموم، حصول المخالفة مع احتمال أن يكون الفعل الظاهر هو المعصية وليس الكفر . ومثال ذلك فعل حاطب ابن أبي بلتعة -رضي الله عنه- لما كاتب قريشًا بأمر مسير النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إليهم، لفتح مكة، فهذا من موالاة الكفار ، ويحتمل أن يكون موالاة لغرض من أغراض الدنيا ( وهو حفظ أهله وماله بمكة ) كما يحتمل أن يكون مواليًا لهم في دينهم ولذا سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن فعله، فقال: (إني كنت امرءًا من قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدًا يحمون قرابتي وما فعلت ذلك كفرًا) (14). وبذلك عرف أن فعله معصية وليس كفرًا، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه (إنه شهد بدرًا ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم) . ولو كان كفرًا لحبط عمله وما نفعه حضوره بدرًا(15) كما قال تعالى: "لإن أشركت ليحبطن عملك" [سورة الزمر: 65].
فلما غفل من قرأ كلام أهل العلم عن التفريق بين ما يكون كفرًا، وما لا يكون كذلك، وقع الغلط في هذا الباب .
المسألة الثانية : عدم معرفة المراد بأهل السنة والجماعة، فإنّ هذا المصطلح يطلق بإزاء اعتقاد سلف هذه الأمة، الأشاعرة والماتريدية على عقيدتهم ، كما أنهم يطلقون على مذهبهم مذهب السلف. فمثلاً في شرح القاري على منظومة بدء الأمالي - وهي في اعتقاد الأشاعرة - قال: (ليست العبادات المفروضة محسوبة من الإيمان، ولا داخلة في أجزائه .. وهذا ما عليه أكابر العلماء كأبي حنيفة وأصحابه، وجمهور الأشاعرة ومذهب مالك، والشافعي، والأوزاعي، وهو المنقول عن السلف، وكثير من المتكلمين ونقله في شرح المقاصد عن جميع المحدثين .. ولا ينتفي الإيمان بانتفائها) (16).
وقال ابن حجر في تعريفه للإيمان: (فالسلف قالوا هو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وأراد بذلك أن الأعمال شرطٌ في كماله.. والمعتزلة قالوا: هو العمل، والنطق، والاعتقاد. والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطًا في صحته؛ والسلف جعلوها شرطًا في كماله) (17).
وفي كل ما سبق عدم تحرير لمسائل الاعتقاد على نهج السلف، بل هو على طريقة المرجئة من تأخير العمل عن الإيمان ، ومع ذلك فقد نسب للسلف.
وهو إما عدم فهم لمرادهم ، أو استعمال لهذا المصطلح في معنى آخر . وهو على كُلٍّ مثال لما في الأخذ من الكتب من إشكاليّة سببّت الخلط في باب الإيمان .
قال الشاطبي: (وإذا ثبت أنه لابد من أخذ العلم عن أهله ؛ فلذلك طريقان :
أحدهما: المشافهة ، وهي أنفع الطريقين وأسلمهما؛ للخاصيّة التي جعلها الله تعالى بين المعلم والمتعلم ، يشهدها كل من زاول العلم والعلماء؛ فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب ، ويحفظها ويردها على قلبه فلا يفهمهما ، فإذا ألقاها إليه المتعلِّم فهمها بغتة ..
الطريق الثاني : مطالعة كتب المصنفين وهو أيضًا نافع بشرطين :
الأول: أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله، ما تيم له به النظر في الكتب وذلك يحصل بالطريق الأول، ومن مشافهة العلماء أو مما هو راجع إليه، وهو معنى قول من قال: كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب ومفاتحه بأيدي الرجال. والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئًا دون فتح العلماء وهو مشاهد معتاد والشوط الآخر: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم، فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين..) (18).
الثاني : المواقف المضادّة
فإن لردود الأفعال دورًا واضحًا في ظهور الفكر الغالي، والتكفير، والإرجاء في هذا العصر.
فأما فكر التكفير فإنه (يكاد معظم الذين حللوا ظاهرة الغلو لدى هذه الجماعات، يتفقون على أن من أهم الأسباب التي دفعت بهؤلاء إلى اتخاذ هذا الموقف المتطرف: الحرب التي تعرّض لها أتباع هذه الجماعات وما نتج عنها من ردود فعل تجاه المجتمع حكامًا ومحكومين، فإن من شباب الجماعات الإسلامية ، الذين كانوا يمثلون خيرة الشباب في المجتمع المصري بدلا من أن يجدوا العون لتحقيق آمالهم في حياة إسلامية كريمة لفقت ضدهم التهم زورًا وبهتانًا. ووجدوا أنفسهم في غياهب المعتقلات وأصبحوا نهبًا لسياط الجلادين وآلات التعذيب، في الوقت الذي أطلقت فيه أيادي أعداء الإسلام يعملون بكل حرية لهدم قيم الإسلام وتعاليمه) (19).
بل ربما أخذت النساء رهائن ووضعن في السجون وعذبن حتى يعود الرجال الهاربون(20).(/2)
ونتيجة لما سبق فقد شعر هؤلاء بأن من قام بهذا العمل البشع ، زيادة على تقصيره في تطبيق الشريعة ، وغيرها من أنواع المخالفات؛ لا يمكن أن يكون مسلمًا وبذلك برز فكر التكفير قويًا لدى بعض الفئات .
ولما وجد هذا الفكر تصدى له أهل العلم بالبيان، إلا أن المواقف الانفعالية والمناقشات العقلية، والمعارك الكلامية، ولدت ردّة فعل مقابلة، نتج عنها التوسع في استخدام شرط الاستحلال للتكفير، حتى اشترطوا في أعمال الكفر الصريحة كإهانة المصحف، وسب الرسول، وإلغاء شريعة الله، فقالوا: لا يكفر فاعلها إلا إذا كان مستحلاً بقلبه، وكل هذا بغرض التثبت في إطلاق الكفر! (21)
وحصروا الكفر بناء على ذلك في الجحود والاستحلال(22).
وقد صرح من يعتقد ذلك بأنه فعله (ردًا على الوالفين في تكفير المسلمين، من الذين جعلوا مسألة تكفير الحكام من أصول مسائلهم الكبرى وفتنتهم العظمى)، و(أن الحركيين الإسلاميين بالغوا في تكفير العصاة والمخالفين وبخاصّة حكام المسلمين) (23).
وهكذا كان لردود الأفعال دور في ظهور الغلو في كلا الجانبين المتقابلين .
ثالثًا : عدم القدرة على التعامل مع الوضع الراهن
فإن في هذا المعصر من المشكلات ما لم يمدَّ على الأمّة مثله، من هجر التحاكم لكتاب الله، والإيغال في إيذاء الناصحين، وتكالب الأمم، والتصريح بعداوة الدين من بعض من ينتمي إليه، وبأنه غير صالح للتطبيق، كل ذلك على نحو غالب، ولهذا يفارق ما مضى على الأمة فإنها وإن وجد فيها النقص والخطأ فإنها لم تشهده بشكل غالب إلا في العصور المتأخر.
وقد ترتب على ذلك احتياج الأمة إلى فقيه النفس، القادر على التعامل مع هذه المشكلات، وإبداء الحل الشرعي لها، الذي لا يحاول تسويغ الواقع على حساب الدين، ولا يغيّب نفسه عن تأمل ودراسة واقع الأمة والمجتمع.
وبدلاً من أن يخرج الفقيه المتمكن من الاجتهاد في نوازل العصر، فقد شهد القرنان الماضيان وما قبلهما سدًا لباب الاجتهاد ، ومنعًا منه، بل صار القول بالاجتهاد من الكبائر، بل ربما وصل حد الكفر، ولقد كان من التهم الموجهة من خصوم الدعوة السلفية إلى علمائها دعوى الاجتهاد! (24)
وفي محاولة التعامل مع الواقع – في ظل غياب الفقهاء المتمكنين – برز الاتجاهان اتجاه لم يستطع التعامل مع الأخطاء، فدعا إلى عزلة الناس ومفاصلة المجتمع الجاهلي بمؤسساته ونظمه ، وحكم على المجتمعات بالكفر لرضاها به وعدم قيامها (بالحد الأدنى من الإسلام) (25).
واتجاه آخر سوغ الواقع بكل أشكاله، وقرر أن من تكلم بالشهادتين فهو من أهل الإسلام ، ولو فعل ما فعل من ضروب الكفر، والشرك، حتى نعلم أنّه في قلبه جاحدًا أو مستحلًّ.
والحقيقة أن من أيقن بالإسلام وصدق به عالمٌ لا محالة أنه بقواعده العامة، وكلياته حالُّ لكل وضع ، شافٍ لكل عيي، ومن أتقن أصوله وفهم مقاصده، لن يعجزه أن يجد لكل نازلة من النوازل من الشرع حكمًا وحلاًّ إذا صدق النية ورزق التوفيق.
رابعًا : المقاصد السقيمة لأدعياء العلم
ومن أبرز هذه المقاصد والتي دفعت إلى ظهور هذين الاتجاهين ، التعصب للمشايخ ، ومحاولة تسويغ الواقع ، وعدم الرجوع للحق بعد تبينه. والجامع لكل ذلك أنه اتباعٌ للهوى.
واتباع الهوى اعتقادٌ يتبعه استدلال، ويتلوه تحريف لكل دليل مخالف ، بعكس أهل الحق الذين يتبعون الأدلة ثم ينقادون لها فيعتقدون بعدما يستدلون .
قال ابن تيمية: (إن السلف كان اعتصامهم بالقرآن، والإيمان، فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف صار أهل التفريق والاختلاف شيعًا، صار هؤلاء عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم ، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به ، وما خالفها تأولوه .. والمقصود أن كثيرًا من المتأخرين لم يصيروا يعتمدون في دينهم لا على القرآن، ولا على الإيمان الذي جاء به الرسول، بخلاف السلف، فلهذا كان السلف أكمل علمًا وإيمانًا، وخطؤهم أخف، وصوابهم أكثر كما قَدّمناه) (26).
وقد يزيد من قوة تأثير هذا السبب أن يعرض العلماء (الربانيون) عن إيضاح الحق وبيان الموقف الصحيح لأي عذر.
خامسًا: عدم رد المتشابه للمحكم
فقد أخبر الله تعالى أن من آياته المتشابه، ومنها المحكم، وبيّن سبيل مرضى القلوب من ابتاع المتشابه وعدم رده للمحكم، وفي المقابل يكون سبيل الراسخين في العلم رد المتشابه إلى المحكم .
والمتشابه، هو: غير واضح الدلالة مما له تصريف وتأويل فيمكن حمله على المعنى الفاسد من حيث لفظه وتركيبه(27). قال تعالى: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخرُ متشابهات فأما الذين في قلوبهم مرض فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله" [سورة آل عمران:7].
والواقع في من يتبنى مناهج مخالفة لهدي السلف أنّه يعمد إلى نص فيجعله عمدته وكأنه لا معارض له، كيف وقد عَارَضَهُ ما هو أرجح منه، أو يجعل ما ورد في مسألة مخصوصة هو القاعدة العامَّة دون العكس.(/3)
** ** **
وبعد! فما سبق وقفات يسيرة في هذا الموضوع الذي يستحق أن يتوسع فيه أكثر والله الموفق لا إله إلا هو .
________________________________________
(1) ما بين القوسين تضمين من مجموع الفتاوى [10/368] . والحسكة: الشوكة .
(2) تضمين من زاد المعاد (4/8) .
(3) صحيح البخاري (6133)؛ صحيح مسلم (2998) . عن أبي هريرة رضي الله عنه .
(4) الاعتصام (2/164) .
(5) انظر: تفصيل هذا المعنى في تفسير ابن كثير (2/466 ) ؛ مجموع الفتاوى (4/236)؛ الاعتصام (2/170).
(6) انظر: بحثًا مستفيضًا عن حركة الإباضية وأماكن انتشارها في العالم الإسلامي وشيئًا من أبرز آرائها في كتاب دراسة عن الفرق وتاريخ المسلمين. د. أحمد محمد جلي ص 90 وما بعدها .
(7) نقل إحسان إلهي ظهير في كتابه السنة والشيعة ص 49 عن الكشي في كتابه رجال الشيعة ص 12 ، 13 أن كل الصحابة ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة: المقداد بن الأسود، أبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي .
(8) فعند جمهور الأشاعرة أن الإيمان هو التصديق فقط ، وقيل ومعه إقرار اللسان وعليه الماتريدية ولهم تفصيل . انظر: شرح الطحاوية لعبد الغني الميداني ص 98؛ نظم الفرائد في المسائل الخلافية بين الماتريدية والأشاعرة لشيخ زاده ص 225 .
(9) سنن ابن ماجة (3385)؛ مسند أحمد (5/318) عن عبادة بن الصامت ؛ سنن ابن ماجة (3384) عن أبي أمامة ؛ صحيح ابن حبان (15/ 160) ؛ سنن أبي داود (3688)؛ مسند أحمد (5/432) عن أبي مالك الأشعري وله طرق.
(10) مقالات الإسلاميين (1/213) .
(11) المصدر السابق (1/167) .
(12) مجموع الفتاوى (7/143).
(13) الفقيه والمتفقه (2/97) . والصحفي الذي أخذ علمه عن الصُحُف ( وهي الكتب ) .
(14) صحيح البخاري (4890)؛ صحيح مسلم (161) .
(15) في كتاب ضوابط التكفير ص (294) مزيد تفصيل .
(16) ص(54). دار إحياء الكتب العربية عام 1345هـ .
(17) فتح الباري (1/61).
(18) الموافقات (1/145).
(19) تضمين من كتاب دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين ص (108) بتصرف .
(20) انظر: التكفير جذوره أسبابه مبرراته، د. نعمان السامرائي ص (44).
(21) انظر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي ص (391).
(22) صيحة نذير ص (39).
(23) الملحق ب لكتاب حقيقة الخلاف بين السلفية الشرعية وأدعيائها ص 161 . وهو المتضمن لنص توبة أحد المقصودين بفتوى اللجنة الدائمة للإفتاء رقم 20212 في 7/2/1419هـ .
(24) انظر: مزيدًا من البحث في هذه المسألة في كتاب الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر لعلي بن بخيت الزهراني (2/89 فما بعدها) .
(25) البيّنة . جمال سلطان ص (50)؛ (والحد الأدنى) مبدأ لدى (جماعة المسلمين) المعروفة بالتكفير والهجرة . بين المراد به في المرجع السابق وانظر : ضوابط التكفير ، د. عبد الله القرني ص (105وما بعدها) .
(26) مجموع الفتاوى (13/58) .
(27) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/7 ، 9). دار عالم الكتب .(/4)
عوامل هزيمة الأمة ...
بسم الله الرحمن الرحيم
مما لا شك فيه أن هذه الأمة أمة منتصرة بنصر الله سبحانه لها ، وهي ظاهرة على غيرها من الأمم ، ولن تفقد هذه الأمة خيريتها أو تنهزم انهزاماً مطلقاً مهما أصابها الوهن وظن الكافر الحاقد أنها قد تودع منها ، أو لم يعد يرجى برؤها ، وهذه حقيقة دلت عليها النصوص الشرعية من وجهين :
الأول : وعد الله سبحانه لها بالنصر ، قال تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) . (55) النور وقال سبحانه : ( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) . (47) النور و الحديث المتواتر الذي جاء عن واحد وعشرين صحابيا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خافهم ، إلا ما يصيبهم من اللأواء ، حتى يأتي أمر الله ، وهم ظاهرون على الناس ) .
الثاني : حفظ الله سبحانه لهذه الأمة وعدم تسلط الكافرين عليها ، قال تعالى : (وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) . (141) النور وقال سبحانه : (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ) . (111) آل عمران وفي الحديث عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ) .رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو يعلى في مسنده والطبراني في الكبير وصححه الذهبي والألباني .
وهذه النصوص تدل على بقاء الأمة وعدم هلاكها ،ونجاتها في الدنيا والآخرة ، إلا أن هذا البقاء وإن تحقق لها ، فلا يعني أنها ستكون منتصرة تحت أي ظرف إذ لا بد من التفريق بين بقائها وعدم هلاكها ، وبين انتصارها وثباتها على النصر ، إذ أتاها وعد الله بالنصر مقيداً بقيامها على طاعة ربها ونصر دينه قال تعالى : ( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) . (40) الحج وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) . (7) محمد وقال سبحانه : (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) . (120) آل عمران وبهذا يُعلم بأن نصر الله لهذه الأمة منوط بأمرين 1 : نصر الأمة لدينها . 2 : تحققها على التقوى والصبر . فإن فقدت الأمة هذين الأمرين فستكون النتيجة انهزامها وتسلط الأعداء عليها وقد أحببت في هذه العجالة أن ألقى الضوء على أبرز الأمور التي إن وقعت فيها الأمة أذاقها الله سبحانه لباس الهزيمة والخزي ، ومنها ما هو عام ، ومنها ما هو متفرع عن العام تم درجه تحت نقطة منفصلة للتنبيه على خطورته ، وقد راعيت بذلك الترتيب وقد جاء وفق الاجتهاد لا النص والله سبحانه ولي التوفيق
أولاً : الإعراض عن ذكر الله تعالى :(/1)
قال تعالى : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ ) . (22) السجدة وقال سبحانه : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً ) . (57) الكهف فالإعراض عن ذكر الله سبحانه من أعظم الذنوب التي يستحق عليها الناس عقاب الله سبحانه ، وقد بين الله سبحانه أن المعرضين عن الذكر من أظلم الناس ، وقد قرنهم الله سبحانه بالمكذبين بدينه الكاذبين عليه ، وبالصادين عن سبيله قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) . (93) الأنعام وقال سبحانه : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) . (114) البقرة ثم بين سبحانه أنه منتقم من المجرمين ، وهم المعرضون عن الذكر ، ولا ريب بأن المعرض عن الذكر لا ينتظر النصر من الله ، بل عليه أن ينتظر انتقام الله سبحانه منه .
ثانياً : مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم :
قال تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) . (63) النور وفي الحديث عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ) .سبق تخريجه ، فمخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من اعظم ما يستحق عليه المسلمون العقاب من الله سبحانه ، وقد أوضحت الآية الكريمة أنه يترتب على كل من يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تصيبه فتنة ، أي في دينه كالبدعة أو الشرك وغير ذلك ، أو يصيبه عذاب أليم ، كالقتل أو الحبس وما إلى ذلك ، كما أوضح الحديث الشريف أن الذي يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم يُجعل عليه الذل والصغار ، فأي عقاب أعظم من ذلك ؟!
ثالثاُ : مخالفة سبيل المؤمنين :
قال تعالى : ( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً ) . (115) النساء وهذه الآية الكريمة تربط ما بين مشاققة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإتباع غير سبيل المؤمنين ،فكل من أتبع غير سبيل المؤمنين ، يكون قد شاق الرسول صلى الله عليه وسلم لذا استحق الوعيد من الله سبحانه ، والمقصود بسبيل المؤمنين سبيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ومن تبعهم بإحسان ، وهم أهل السنة والجماعة ، قال سبحانه: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) التوبة وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصور كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة وفي رواية : قالوا : يا رسول الله، من الفرقة الناجية؟ قال : من كان على مثل ما أنا عليه اليوم، وأصحابي. وفي رواية : قال : هي الجماعة.) . رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه ، وهو حديث صحيح .
رابعاً : ترك الجهاد في سبيل الله :(/2)
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . (39) التوبة وفي الحديث الذي رواه أبو داود عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم). صححه الألباني . فترك الجهاد في سبيل الله سبحانه إثم عظيم ، وخطر كبير يترتب على المتخلفين عنه العذاب الأليم والهلاك ، فالعذاب الأليم واضح من قوله تعالى : (يعذبكم عذاباً أليما ) والهلاك متضمن من قوله تعالى : ( ويستبدل قوماً غيركم ) . وأما الحديث فهو صريح بوقوع الذل على المتخاذلين ، وأن رفع الذل عنهم منوط برجوعهم إلى دينهم وفي مقدمة أعمال الدين ، الجهاد في سبيل الله ، وقد بينت النصوص أيضاً أن نصر المؤمنين ، وهزيمة الكافرين يكون من خلال الجهاد في سبيل الله سبحانه قال تعالى : (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ) . (14) التوبة . وعليه فإن ترك الجهاد في سبيل الله من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى فشل المسلمين وضرب الذل عليهم .
خامساً : ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
قال تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) . (79) المائدة وفي الحديث عن حذيفة رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن اللَّه أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم). رواه التِّرمذيُّ وقال حديث حسن . وعن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) . البخاري . فالآية الكريمة تدل على أن بني إسرائيل لعنوا ، أي خرجوا من رحمة الله سبحانه لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وما يقع على بني إسرائيل ، يقع على غيرهم إذا أتوا بمثل ما أتى به بنو إسرائيل ، فالعبرة بمعصية الله وليست متعلقة بقوم معينيّن ، وأما الحديث فهو صريح الدلالة بأن من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستحق العقاب من الله سبحانه ، وعليه فإن تركت الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عاقبها الله سبحانه ، ومن أنواع العقاب أنه يسلط أعداءها عليها . ويذلهم بسبب ذنوبهم .
سادساً : التمسك بالدنيا والإعراض عن الطاعة :(/3)
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . (39) التوبة وقال سبحانه : ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) . (24) التوبة وفي الحديث عن عمرو بن عوف قال : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح فقدم بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين رآهم ثم قال: ( أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشئ. قالوا أجل يا رسول اللّه. قال فأبشروا أو أملوا ما يسركم، فواللّه ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ) .. رواه الترمذي وقال هذا حديث صحيح. وفي الحديث عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قيل يا رسول الله: فمن قلة يومئذ؟ قال: لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت) . رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني . فإن التمسك بالدنيا وتقديمه على الدين سبب مباشر في وقوع الذل والهوان على الأمة .
سابعاً : التفرق والإختلاف :
قال تعالى : (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) . (46) الأنفال . وقال سبحانه : (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) . (105) آل عمران وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رجلا قرأ آية، سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم خلافها، فأخذت بيده، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : ( كلاكما محسن. قال شعبة : أظنه قال : لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا ) . البخاري . وهذا الخلاف شامل لأمور الدين والدنيا ، بل الواجب على المسلمين أن يكونوا كالجسد الواحد معتصمين بحبل الله جمعياً من غير تفرق أو اختلاف ، وإلا فإن مصيرهم إلى الهلاك .
ثامناً : العدواة والبغضاء :(/4)
قال تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) . (91) المائدة وفي الحديث عن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم : أفشوا السلام بينكم ) . رواه الترمذي وحسنه الألباني . فالآية صريحة بأن الشيطان يريد أن تدب العداوة والبغضاء في الأمة ، وذلك لإفسادها الذي يترتب عليه هلاكها ، والحديث واضح الدلالة بان الحسد والبغضاء مما يفسد على الناس دينهم فيستحقوا عليه العقاب ، وإن أعظم ما يولد العداوة والبغضاء والتحاسد في الأمة : أولاً : الجدال في الدين فعن رافع بن خديج أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يكون قوم من أمتي يكفرون بالله وبالقرآن وهم لا يشعرون كما كفرت اليهود والنصارى قال قلت جعلت فداك يا رسول الله وكيف ذاك قال يقرون ببعض القدر ويكفرون ببعضه قال قلت ثم ما يقولون قال يقولون الخير من الله والشر من إبليس فيقرون على ذلك كتاب الله ويكفرون بالقرآن بعد الإيمان والمعرفة فما يلقى أمتي منهم من العداوة والبغضاء والجدال أولئك زنادقة هذه الأمة في زمانهم يكون ظلم السلطان فينالهم من ظلم وحيف وأثرة ثم يبعث الله عز وجل طاعونا فيفني عامتهم ثم يكون الخسف فما أقل ما ينجو منهم المؤمن يومئذ قليل فرحه شديد غمه ثم يكون المسخ فيمسخ الله عز وجل عامة أولئك قردة وخنازير ثم يخرج الدجال على أثر ذلك قريبا ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بكينا لبكائه قلنا ما يبكيك قال رحمة لهم الأشقياء لأن فيهم المتعبد ومنهم المجتهد مع أنهم ليسوا بأول من سبق إلى هذا القول وضاق بحمله ذرعا إن عامة من هلك من بني إسرائيل بالتكذيب بالقدر قلت جعلت فداك يا رسول الله فقل لي كيف الإيمان بالقدر قال تؤمن بالله وحده وإنه لا يملك معه أحد ضرا ولا نفعا وتؤمن بالجنة والنار وتعلم أن الله عز وجل خالقهما قبل خلق الخلق ثم خلق خلقه فجعلهم من شاء منهم للجنة ومن شاء منهم للنار ) رواه الطبراني في المعجم الكبير
الثاني : الحرص على الدنيا : فعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: لما أتي عمر بكنوز كسرى قال له عبد الله بن أرقم الزهري: ألا تجعلها في بيت المال؟ فقال عمر: لا نجعلها في بيت المال حتى نقسمها، وبكي عمر، فقال له عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن هذا ليوم شكر ويوم سرور ويوم فرح، فقال عمر: إن هذا لم يعطه الله قوما قط إلا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء ) . رواه البيهقي في السنن الكبرى كتاب قسم الفيء والغنيمة .
تاسعاً : كثرة المعاصي :
قال تعالى : (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . (165) آل عمران وقال سبحانه : (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً ) . (79) النساء وفي الحديث عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه). وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث). متفق عليه ، وما يحمل على المعصية الجهل ، والكبر وغير ذلك ، ومن أبرز المعاصي التي إذا تفشت في الأمة هلكت الربا قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ) . (279) البقرة وكذلك موالاة الكافرين قال تعالى : (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ (28) آل عمران وغير ذلك من المعاصي التي حذر الله سبحانه المؤمنين من الوقوع فيها لئلا يهلكوا .
عاشراً : الامتناع عن فعل الخير ومن ذلك الصدقة :(/5)
قال تعالى : (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) . (195) البقرة وقد جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة ما نقله القرطبي رحمه الله تعالى قال : روى البخاري عن حذيفة: "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: نزلت في النفقة. وروى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبدالرحمن بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه! لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: سبحان الله! أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل: "وأنفقوا في سبيل الله" الآية. والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. فلم يزل أبو أيوب مجاهدا في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية، فقبره هناك. فأخبرنا أبو أيوب أن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الآية نزلت في ذلك. وروي مثله عن حذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك.
الحادي عشر : ترك الحكم بما أنزل الله سبحانه :
قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنيَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ) . (63) النساء ففي هذه الآية الكريمة يتضح أن المنافقين تقع عليهم المصائب بسبب إعراضهم عن الحكم بما أنزل الله سبحانه ، وهذه المصائب تتمثل بالهزيمة والذل والتعذيب وغير ذلك ، وفي الحديث عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر المهاجرين! خصال خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم من غيرهم فأخذوا بعض ما كان في أيديهم ،وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل ويتخيروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم). أخرجه ابن ماجه كتاب الفتن وحسنه الألباني . وقد يؤخذ علي أن أخرت هذا الأمر عن غيره رغم شيوعه وأهميته ، ولكن كما ذكرت فالمسألة لا تتعلق بالترتيب ، إنما بذكر بعض الأسباب التي تستحق عليها الأمة الهزيمة إن وقعت فيها ، كما أنه هنالك الكثير من الأمور إذا فعلتها الأمة عذبت ، ولكنها تدخل ضمناً تحت عموم هذه الأسباب ،وأسأل الله تعالى أن يهدينا جمعياً للعمل بما يحبه ويرضاه ،ويرزقنا اجتناب ما نستحق عليه العقاب منه ، كما أساله سبحانه أن ينفعني وإخواني بهذه الرسالة الموجزة المختصرة ، وأن يجعلها في ميزان حسناتي يوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، وصلِ اللهم وسلم على نبينا محمد بن عبد الله ن وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين .
وكتب : إبراهيم بن عبد العزيز
2 /ربيع الأول /1425 هـ(/6)
عودة الابن الضال
يوماً بعد يوم يتزايد ويتسع التيار الذي شقّه فلاسفة العلم المحدثون والذي يؤكد ـ أكثر فأكثر ـ التحام العلم بالإيمان.
إن معطياتهم تتميز بالرصانة وتتناول بالتحليل قدرة العلم البشري والآفاق التي تمكن من الوصول إلى بعضها ، ووقف إزاء بعضها الآخر ناكصاً ، عاجزاً .. وهم في سبرهم لغور العملية العقلانية للإنجاز العلمي، ودراستها بعمق وروية ، يقدمون للقارئ قناعات مدعمة بالأدلة والكشوف ، ليس إلى نكرانها من سبيل.
إنهم أبناء العصر الذي خفّت فيه حدّة الوهج المعُشي الذي كان يوماً قد حوّل ببريقه الوحشي جماعات العلماء والدارسين إلى عبّاد خاشعين في محاريب الوثنية العلمية.
يومذاك ما كان بمقدور أحد من الناس أن يقف قبالة (العلم) ناقداً معترضاً .. ما كان بمقدور أحد أن يشكك بقدرة هذا الصنم على أن يمدّ إرادته إلى كل مكان ، وأن يشمل برؤيته الموضوعية كل صغيرة وكبيرة ، فلا ينال أحد من نتائجه التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .. إن أحدنا لا يستطيع أن يتحدى الشمس بنظرة ثابتة ، وإلاّ فقد قدرته على الإبصار .. كان العلم هو هذه الشمس التي تسلب البصر ممن يختار أن يتحداها.
يومذاك كتب السير جيمس ستيفن (1884 م) فصلاً يعتبر مثالاً للآراء العلمية في تلك الفترة .. قال: «إذا كانت الحياة الإنسانية في نشأتها قد استوفى العلم وصفها ، فلست أرى بعد ذلك مادة باقية للدين ، إذ ما هي فائدته وما هي الحاجة إليه؟ إننا نستطيع أن نسلك سبيلنا بغيره ، وإن تكن وجهة النظر التي يفتحها العلم لنا لا تعطينا ما نعبده ، فهي كفيلة أن تعطينا كثيراً مّما نستمتع به ونتملاًه .. إننا قادرون على أن نعيش عيشة حسنة بغير الديانة... » .
لكن الزمن يمضي ومعطيات العلم الغزيرة تزداد تدفّقاً وعطاء كأمواج البحر ، يدفع بعضها بعضاً ويضرب بعضها بعضاً .. ويتبين يوماً بعد يوم وعقداً بعد عقد أن ما كان حقاً بالأمس غدا اليوم باطلاً ، وما هو مقبول اليوم ، سيرفض في غد أو بعد غد.. إن نتائج الجهد العلمي ليست سواء فبعضها قاطع بصدقه كالسكين ، وبعضها الآخر ـ وهو كثير ـ اجتهادات ونظريات ، وبعضها الثالث ـ وهو أكثر من الكثير ـ ظنون وتخمينات ، وبعضها الرابع ـ وهو أكثرها ـ ميول وتحزّبات ونرجسّية وهوى.
وبعدما انطوت قرون الوهج والبريق ـ الثامن عشر والتاسع عشر ومطالع العشرين ـ جاء الوقت لكي يعاد النظر في مسألة حدود العلم وقدراته .. ولكي يتصدّى للحكم رجال ينطلقون من باحة العلم نفسه: المختبر ، لكي يصدروا حكمهم فيكون أكثر منطقية وأشد إقناعاً.
ويبقى العلم ـ بعد هذا كله ـ يداً واحدة لا تستطيع أن تمضي بالحياة قدماً صوب الكمال .. وتبقى الحاجة الملحّة إلى اليد الأخرى .. يد الدين .. إذا ما أرادت البشرية تحركاً جاداً صوب الأحسن والأرقى .. تحركاً لا يضلله غرور ولا يحبطه اعتماد أعمى على اليد الواحدة. هذا إذا لم نكن خاطئين ، والخطأ ـ كما يقول السياسي الفرنسي العجوز تاليران ـ أكبر من الجريمة أحياناً .. وذلك في تصور العلم والدين: يدين ، قد تعملان بتوازٍ.. نعم.. ولكنهما يدان منفصلتان .. هذه يد يمنى وتلك يد يسرى.. والأحرى أن نقول بأنه التيار الواحد الذي يلتقي فيه ويمتزج ويتداخل العلم والدين ، وتنمحي الثنائيات التي جاءتنا من الغرب ، ولم نذق لها طعماً في تجربتنا مع ديننا القيّم «الإسلام» .. هنا حيث يكون الدين «علماً» إلهياً شاملاً وحيث يغدو العلم عبادة و«ديناً».
المرجع : مجلة المنار، العدد72، رجب 1424هـ.(/1)
عودة البعث .. إرهاب للشيعة أم حرب للمقاومة
أحمد فهمي
في 23 مايو من العام الماضي أصدرت سلطات الاحتلال الأمريكية في العراق قرارا بحل وزارة الدفاع العراقية ، وتسريح العاملين في الجيش ليجد أكثر من 400 ألف عسكري عراقي أنفسهم في الشارع ، كما شكلت "لجنة اجتثاث " البعث وأوكلت رئاستها إلى أحمد الجلبي الشيعي زعيم المؤتمر الوطني العراقي وأحد ألد أعداء حزب البعث ، ليتشرد حوالي 30 ألف عراقي أغلبيتهم الساحقة من السنة ومن بينهم المدرسون والعاملون في الإدارات الحكومية المختلفة وأساتذة الجامعات ، وكان من المقرر أن يتم إبعاد عددا مماثلا في الفترة القادمة ، ولكن فجأة قررت الإدارة الأمريكية أن تعدل عن قرارها وتعيد عشرات الآلاف من الذين تم إبعادهم ، وكانت الحجة أن هناك ظلم وقع على هؤلاء الذين لم يكن انتماؤهم إلى البعث أصيلا بل كانوا مجبرين عليه .. وهنا ثارت ثائرة الشيعة واعتبروا أن ذلك ردة عن تعهدات أمريكية سابقة لهم ، وفقدت لجنة اجتثاث البعث نفوذها إلى حد كبير ، واختلفت التفسيرات لهذا القرار العجيب المفاجئ ، وطرحت احتمالات مختلفة ، وفسرت الإدارة الأمريكية القرار بأنه إجراء عادي لرفع الظلم عن الذين تسبب بطء الإجراءات في إبعادهم عن أعمالهم ، وأكدت أنها لن تسمح بعودة الذين شاركوا في عمليات الاغتيال أو التعذيب ، كما لن تسمح بعودة فكر البعث وأيديولوجيته .. ونسلط الضوء في النقاط التالية على أهم الأسباب الحقيقية التي دفعت الأمريكيين لاتخاذ هذا القرار وعلى الاحتمالات المتوقعة في الفترة المقبلة .
أولا : لا يمكن اعتماد التبسيط أو التصريحات المباشرة مدخلا لفهم الأداء السياسي الأمريكي في العراق ، فالبعض يفسر هذا الأداء من خلال مفهومات مستقلة غير مرتبطة بالوقائع على الأرض ، فيعتمد مثلا على نظرية المؤامرة ، أو على حقيقة التورط الأمريكي لكي يطلق أحكاما مسبقة على مفردات السياسة الأمريكية في العراق ، وهذا منهج خاطئ لن يوصل إلى نتائج صحيحة ، والصواب أن تقدر الأمور بقدرها ، وأن يفسر الأداء الأمريكي من خلال منظومة شاملة تتكون من عدة مفهومات تجمع ما سبق وغيره ، وعلى ضوء ذلك نقول أن القرار الأمريكي بإعادة كوادر البعث السابقين لم يكن من أجل رفع الظلم عنهم ،ولم يكن كذلك إجراءا عاديا بل هو قرار له ما وراءه كما سنعرف لاحقا ..
ثانيا : تحدثنا في مقال سابق عن مفهوم " القرد وقطعة الجبن " في تفسير التعامل الأمريكي مع إشكالية العلاقة بين السنة والشيعة في العراق ، وأنها تسعى دوما لكي يكون الميزان مائلا لأحد الأطراف لكي تفسح المجال لتراكم ضغوطات كبيرة مع الوقت تدفع في اتجاه اعتدال الميزان ، وهنا تبدأ في اتخاذ قرارات تبدو لأول وهلة أنها تصب في اتجاه المساواة بين الكفتين ، ولكن عند التأمل يتبين أنها تسعى لإمالة الكفة إلى الناحية الأخرى ، فالسنة وقع عليهم ظلم بين بسبب الإبعاد بدعوى الانتماء البعثي ، وتعرض كثيرون للانتقام بسبب هذه الإدعاءات التي تحكََم فيها الشيعة في رقاب السنة ، وبعد سنة كاملة تأتي الإدارة الأمريكية لتقول للشيعة : ها قد أشبعتم رغبة الانتقام ، فدعونا نفكر بطريقة أخرى ، ومن ثم تأمر بعودة البعثيين لكي يبدأ الشيعة في البكاء واللطم حزنا على عودة البعثيين ، ووفق ذلك يمكن تفسير تعيين سمير الصميدعي المنتمي إلى السنة وزيرا للداخلية بدلا عن نوري بدران الشيعي ، ومثل هذه الإجراءات من شأنها أن تجعل العلاقة بين السنة والشيعة في حالة توتر دائم ..
ثالثا : كان الأمريكيون يغالون في دور البعثيين السابقين في المقاومة ، وقبل اعتقال صدام حسين كان الناس يعتقدون أنه يدير المقاومة في جميع أنحاء العراق بالريموت كونترول ، ولكن بعد اعتقاله لم يبد على المقاومة أي تأثر سواء بسبب توقفه عن القيادة المزعومة ، أو بسبب الانتقام لاعتقاله ، ومثل ذلك ينطبق على أهم قادة البعث ، وبالتالي فإن الحديث عن دور مبالغ فيه لحزب البعث في المقاومة غير صحيح ، وقبل القرار الأخير بدا واضحا الترويج لدور البعث في المقاومة ، وفي الفلوجة تحدثت تقارير عن مفاوضات بين المقاومة الإسلامية والبعثية في المدينة وبين الاحتلال ، وتقارير أخرى ذكرت الأزمات التي يثيرها البعثيون بسبب إبعادهم عن العمل ، وفي لقاء عقد الجمعة الماضية في محافظة صلاح الدين (200 كلم جنوب بغداد) مسقط رأس صدام حسين ، أكد رئيس إحدى العشائر السنية في المحافظة للحاكم الامريكي بول بريمر أنه : " في محافظة صلاح الدين هناك 6750 بعثيا سابقا يسببون المشاكل، وإذا لم نعطهم أجورهم وإذا ما قام أحد آخر بذلك فإننا نخشى أن نخسر سلطتنا عليهم مما سيجعلهم ينضمون إلى معسكر المخربين " وحتى لو كان ذلك حقيقيا فإن الغرض منه التشويش على المقاومة وإظهارها على أنها محاولات شغب يمكن استيعابها ببعض الدولارات ، وليست حركة نضالية من أجل طرد المحتل ..(/1)
رابعا : يقدم البعض تفسيرا آخر للقرار بأنه يهدف إلى تحجيم النفوذ الشيعي المتنامي خاصة مع تداعيات أزمة الصدر ومحاولات بعض أعضاء مجلس الحكم التهديد بالاستقالة احتجاجا على أداء الاحتلال ، ولذلك أبرز الأمريكيون للشيعة سلاح البعث – الذي يرهبونه – من جديد لترتبك حساباتهم ..
خامسا : اكتشف الأمريكيون أنه لابد من الجمع بين السنة والشيعة في الجيش والشرطة بنسبة متساوية ، وذلك للطبيعة الطائفية المعقدة في العراق ، وفي بعض الأحيان لا يمكن الاستعانة بقوات شيعية ضد السنة دون أن يثير ذلك مشاكل كبيرة ، كما حدث في الفلوجة عندما أعلن انتفاض قنبر المتحدث باسم أحمد الجلبي أن هناك قوات من ميلشيات أحزاب شيعية تشارك مع الأمريكيين في حصار المدينة السنية ، وفي المقابل فقد يكون من الأنسب أحيانا أخرى أن يستخدم السنة في ضرب الشيعة ، والشيعة في ضرب السنة ، وقد ذكرت تقارير صحفية أن وزير الداخلية سمير الصميدعي السني عزل ضباطا شيعة في وزارته واستبدل بهم ضباطا من السنة العرب والأكراد بسبب امتناع هؤلاء عن المشاركة في قمع تيار الصدر ، فكان لابد من عودة عدد كبير من العسكريين السابقين , أو بعبارة أخرى لم يذكرها أحد : عودة الكثير من كوادر المخابرات العراقية الأكثر كفاءة للتعامل مع المقاومة السنية ..
سادسا : تبين في الفترة السابقة بعد الاحتلال أن الكوادر الشيعية عجزت عن سد الفراغ الذي تركه استبعاد الكوادر السنية المعروفة بكفاءتها وتميزها في شتى المجالات ، وقد أحدث ذلك ربكة في جميع المسارات والوزارات ، وأصبح من المسلم به أن عودة المبعدين ضرورة لا مفر منها حتى يستقر الحال نسبيا للأمريكيين ، وحتى تنعم الإدارات الحكومية في الفترة المقبلة بعد 30 يونيو بحالة من الهدوء ..
سابعا : تسعى سلطات الاحتلال الأمريكية إلى إيجاد مجموعات عراقية شبيهة بتلك التي كونتها لمحاربة صدام ، وهذه المجموعات سيصبح هدفها الرئيس بعد سقوط صدام العمل على سد الفراغ القيادي والسياسي بين السنة لمنع الطموح الإسلامي من شغل هذا الفراغ ، وقد تحدثت مصادر عراقية عن عودة ناشطين في حزب البعث إلى تنظيم صفوفهم ، وذكرت أن هناك ثلاث صحف على الأقل تصدر اليوم في العراق ناطقة أو شبه ناطقة باسم حزب البعث, وهي مجهولة مصادر التمويل وتتمتع بانتشار لا بأس به في عدد من مدن العراق. ورأت أن للبعثيين "الجدد" طموحات سياسية على ما يبدو, فهم يتحركون بواجهات جديدة بهدف إقناع الأمريكيين بالتعامل معهم مع استمرارهم بإشهار العداء لهم ، وفي مقابل الكلام عن بداية قبول الأمريكيين بمفاوضة شخصيات بعثية , ترى المصادر الأمنية أن عودة البعث مرتبطة إلى حد كبير بأدوار عدد من الدول المحيطة بالعراق ، ومن المتوقع أن اجهزة الاحتلال على صلة قوية بالعديد من القيادات العراقية التي ستظهر في الوقت المناسب لكي تحتل مكانها في الهرم القيادي ، ولعلنا نذكر وزير الدفاع العراقي الذي سلم نفسه إلى الاحتلال وأطلق سراحه سريعا ونقلت التقارير وقتها عن إعداده لدور مستقبلي في حكم العراق .. ومع هذه الاحتمالات السابقة فإن المجال يبقى مفتوحا لغيرها ، خاصة وأن هناك رؤية أخرى تفسر الأداء السياسي الأمريكي بأن ما يحكمه حاليا هو : التخبط والتناقض في اتخاذ القرارت ، سواء على مستوى السيطرة الفعلية في العراق ، أو على مستوى القيادات والمسؤولين في البنتاجون والخارجية الأمريكية والبيت الأبيض(/2)
عودة الغربة ...
الحمد لله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، والصلاة والسلام علي إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وعلى أصحابه وأهل بيته وأزواجه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
فإن مما لا شك فيه أننا نعيش زمن غربة شديدة، وهذا أمر أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه سيقع بقوله في حديث أبي هريرة عند مسلم: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء"، وقد تتبع الحافظ ابن رجب طرق وروايات هذا الحديث في رسالته الثمينة (كشف الكربة في وصف أهل الغربة)، ويمكن تلخيص الخصال التالية لأهل الغربة:
1. أهل الغربة هم النزاع من القبائل ( رواية أحمد وابن ماجة من حديث ابن مسعود)، أي أنهم قلة قليلة جداً كما كان المسلمون في العهد المكي يسلم الواحد والاثنان من القبيلة المؤلفة من ألوف وقبائل ليس فيهم مسلم واحد.
2. أهل الغربة يصلحون إذا فسد الناس (رواية الآجري).
3. أهل الغربة يفرون بدينهم من الفتن.
4. أهل الغربة يصلحون ما أفسد الناس من سنة الرسول – صلى اله عليه وسلم - (رواية الترمذي من حديث كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده).
5. أهل الغربة قوم قليل، في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم (رواية أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو).
6. أهل الغربة فرارون بدينهم، يبعثهم الله مع عيسى - عليه السلام-.
وإن من الخطأ أن يظن الظان أن الغربة الثانية سببها قلة من ينتسبون إلى الإسلام، بل هم كثير ولكنهم غثاء كغثاء السيل، أما أهل الغربة فهم الفئة المتمسكة بالسنة عقيدة وعملاً ومنهجاً، وهذا الذي فهمه الإمام الأوزاعي من هذا الحديث حين قال: " أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة، حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد"، وكان الحسن البصري –رحمه الله – يقول لأصحابه: "يا أهل السنة، ترفقوا – رحمكم الله – فإنكم من أقل الناس"، وكان سفيان الثوري –رحمه الله – يقول: "استوصوا بأهل السنة فإنهم غرباء"
والسبب الرئيس لغربة الدين أمران: الشهوات و الشبهات. وقد خشي الرسول –صلى الله عليه وسلم – على أمته منهما كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن أبي برزة "إنما أخشى عليكم الشهوات التي في بطونكم و فروجكم ومضلات الفتن"، ولما فتحت كنوز كسرى على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – بكى، فقال: إن هذا لم يفتح على قوم قط إلا جعل الله بأسهم بينهم، ولعله – رضي الله عنه – تذكر قول المصطفي – عليه السلام–: "كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم. أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله. قال: أو غير ذلك؟ تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون" [أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما].
وعندما شبه النبي – صلى الله عليه وسلم – الغربة الثانية بالغربة الأولي فإن علينا أن نوازن بين المجتمعين (المجتمع المكي والمجتمع الراهن) لنستجلي مواضع الشبه في الجوانب التالية:
قلة العدد:
كان عدد الداخلين في الإسلام قليل (نزاع القبائل)، وهذا الذي ذكّر الله به المؤمنين بعد تكوين المجتمع المدني "وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ" (الأنفال: من الآية26)، وهذا هو حال أهل السنة السائرين على منهاجهم إيماناً وعقيدة وسلوكاً في هذا الزمان فهم اليوم قليل - نسأل الله أن يجعلنا منهم-.
وجود الشهوات:
فقد كانت أبواب المغريات مفتوحة على مصراعيها للحيلولة دون وصول هذا الدين في آذان أهل مكة ومن حولها، وسلكوا شتى وسائل الترغيب والترهيب لصد الراغبين في دخول الإسلام أو لإرغام الداخلين فيه للخروج منه، وقد نال قائد الغرباء في المجتمع المكي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من ذلك الكثير، وعرضوا عليه الملك والزوجة والمال، وعندما استطاع محمد أن يطرب قلوب القوم بالوحي الإلهي، سعي أولئك أن يطربوا أسماعهم بالوحي الشيطاني وأحضروا القينات والمعازف.
أما الشهوات في غربتنا فحدث ولا حرج، حتى أجلب إبليس وأعوانه من شياطين الإنس علينا بخيله ورجله، وامتطي صهوة الثورة التقنية والإتصالات ليفتح أبواب الشهوات في غرفة النوم عند غياب الرقيب عبر القنوات الفضائية ليلقي محاضراته وفي أكاديمياته وعلى الهواء مباشرة!
وجود الشبهات:
أثار كفار قريش شبهات كثيرة حول الإسلام والرسول –صلى الله عليه وسلم – ووصفوه بأنه ساحر، وكاهن ومجنون، وأنه يفرق بين المرء وأحبته، وأن الذي يأتيه شيطان ما يلبث أن يتركه، واستعانوا بعلماء سوء من يهود المدينة لإثراء شبهات حول الدعوة، حتى أنهم تحملوا كل المسؤوليات وأصدروا وثيقة تأمين عجيبة "اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم"، ويحدثنا الصحابي أبو ذر الغفاري أن أهل مكة حذروه من سماع كلام محمد حين قدم إليها قبل اعتناق الإسلام حتى إنه وضع القطن في أذنيه!(/1)
وتدور الأيام ويعود الإسلام غريباً وتصاغ الشبهات العظام ويتولى كبرها أهل الملل والأديان ومن افتتن بهم من أبناء المسلمين اللذين شكلوا طابوراً خامساً يفتتون في عضد الأمة ويصطادون في الماء العكر، ورمي من التزم بالسنة بالإرهاب، وأعيد صياغة "عبادة رب محمد سنة على أن يعبد محمد الأصنام سنة" في قالب التسامح والتعايش ودين إبراهيم وحوار الأديان وطمس الكراهية ضد الأديان، ومحو مفهوم الولاء والبراء والجهاد، والتهكم بسنن المصطفي - عليه السلام - وإخراج المرأة من نور العباءة السوداء إلى ظلمة حضارة الرجل الأبيض!
من يعصهم أكثر ممن يطيعهم:
وهذا واضح في المجتمع المكي حتى أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – انتابه شيء من اليأس فكان الله دائماً يسليه في غربته "فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً" (الكهف:6)، "وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ" (الأنعام:35).
أما في غربتنا فهو واضح أيضاً، فإن علماء السنة اللذين يعرفون الحق ويرحمون الخلق لا يسمع لنصائحهم ولا يستجاب لمبادراتهم، ويطرق جميع الأبواب للمشورة إلا بابهم، وهل نقموا منهم إلا أنهم سلكوا سبيل السلف في نصح الأمة؟ وهل هم إلا الدعاة لمنع خرق السفينة، ليس أدق من وصف غربتنا من هذا الحديث الذي رواه الطبراني بإسناد فيه نظر من حديث أبي أمامة مرفوعاً: "إن لكل شيء إقبالاً وإدباراً، وإن من إقبال هذا الدين ما كنتم عليه من العمى والجهالة وما بعثني الله به، وإن من إقبال هذا الدين أن تفقه القبيلة بأسرها حتى لا يوجد فيها إلا الفاسق والفاسقان فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما قُمِعَا وقُهِرَا واضطُهدا، وإن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها حتى لا يُرى فيها إلا الفقيه والفقيهان فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما فأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر قُمعا واضطُهدا، فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعواناً ولا أنصاراً".
وتأمل كلام أحمد بن عاصم الأنطاكي - وكان من كبار العارفين في زمان أبي سليمان الداراني - يقول: إني أدركت من الأزمنة زماناً عاد فيه الإسلام غريباً كما بدأ، وعاد وصفُ الحق فيه غريباً كما بدأ، إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتوناً بحب الدنيا، يُحب التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلاً في عبادته مخدوعاً صريعاً غدره إبليس، وقد صعد به إلى أعلى درجة من العبادة وهو جاهل بأدناها فكيف له بأعلاها؟ وسائر ذلك من الرعاع، همج عوج وذئاب مختلسة، وسباع ضارية وثعالب ضوار، هذا وصف عيون أهل زمانك من حملة العلم والقرآن ودعاة الحكمة. خرجه أبو نعيم في (الحلية)، وبعد أن أورد ابن رجب هذا الأثر عقب عليه قائلاً:"فهذا وصف أهل زمانه فكيف بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله ولم تدر في خياله؟" ونحن نعقب على ذلك ونقول: وكيف الحال إذا علم الأنطاكي والحنبلي أن اليهود والنصارى يملون على المسلمين دينهم ويرسمون الخطوط الحمراء التي يحظر على المسلمين تجاوزها حتى وهم في البلاد الإسلامية!! وكيف الحال إذا علما أن شيخاً مقعداً أفني حياته نصرة للأقصى من براثن اليهود يغتال ثم لا يستنصر!!
و تأمل أيها المغترب قول الحسن: لو أن رجلاً من الصدر الأول بُعِثَ اليوم ما عرف من الإسلام شيئاً إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله لئن عاش إلى المنكرات فرأى صاحب بدعة يدعو إلى بدعته أو صاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله - عز وجل - وقلبه يحن إلى السلف الصالح فيتبع آثارهم ويستن بسنتهم ويتبع سبيلهم كان له أجر عظيم. [أخرجه الإصبهاني]
ولعلنا في زمن الغربة نسلي أنفسنا بصفات أهل الغربة التي سطرها الإمام علي - رضي الله عنه - ولعله قال هذه الكلمات في أواخر أيامه حين هجمت عليه الهموم من كل جانب، فقوم فرطوا فيه حتى أخرجوه من دائرة الإسلام وقوم أفرطوا في تعظيمه حتى عدُّوه إلهاً من دون الله يقول - رضي الله عنه-: "والله هم الأقلون عدداً والأعظمون عند الله قدراً، يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، هَجَم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما أستوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها متعلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه، آه آه شوقاً إلى رؤيتهم" [رواه أبو نعيم عن كميل بن زياد].
عبد الباقي شرف الاسلام(/2)
عودة المغترب
عمر أبو ريشة
"زار الشاعر بلده الحبيب سورية، بعد اغتراب مديد، وكان يحسب أنه سوف يلقى الاحتفاء به والتكريم له، فغادر سورية بلده الحبيب، ونظم هذه القصيدة الرائعة، وأوصى ألا تُنْشر إلا بعد وفاته."
ألفيتُ منزلَها بوجهي موصدا ما كان أقربه إليَّ وأبعدا
كلَّت يداي على الرتاج، وعربدتْ في سمعِيَ المشدوهِ قهقهة الصدى
ما كنتُ أحسبُ أن أطوفَ به على غصص النوى وأعودَ عنه مُجهدا
فكم اختزلتُ حدودَ دنيانا على أعتابه وكم اختصرتُ به المدى
ما بالها تصغي؟ -وأحلف إِنها تصغي- وتأبى أن تردَّ على النّدا؟
أَخَبَتْ نجومي في مدار لحاظها؟ فتساوت الدنيا لديها مورِدا ؟
ليست بأول بدعة أوجدتُها وأضعتُها عبر الضلالة والهدى
وحملتها ذكرى ولم أُرْخِصْ لها عهداً ، أَأَشقى عهدُها أم أسعدا؟
الذكرياتُ .. قطافُ ما غرستْ يدي كَفِلَ الحنينُ بقاءَها وتعهَّدا
هي كل زادي هوَّنَتْ صعبَ السَّرى ورمتْ على قدميّ غطرسةَ الردى
كم نعمةٍ شَمخَتْ عليَّ فهِجتُها وشربْتُ نزفَ جراحها مُسْتَبْرِدا
وكم استخفَّ بيَ الهوى فصلبتُه وركعتُ تحت صليبه متعبِّدا
وتقاتلتْ فيَّ الظنونُ وطابَ لي في حالتيها أن أُذَمَّ وأُحمَدا
جئتُ الحياةَ فما رأتنيَ زاهداً في خوض غمرتها.. ولا مترددا
إني فرضتُ على الليالي ملعبي وأبيتُ أن أمشي عليه مُقيَّدا
يا غربتي .. كم ليلةٍ قطّعْتُها نِضْوَ الهموم على يديك مُسَهَّدا
أطمعتِني في كل حلم مترف وضربتِ لي في كل أفق موعِدا
فوقفتُ أقتبلُ الرياحَ وما درتْ من كان منا العاصفَ المتمردا
ومضيتُ .. أنتعلُ الغمام وربما أشفقتُ خدَّ النجم أن يتجعدا
وأطلتُ في التّيه المُشِتِّ تنقُّلي وحملتُ ما أبلاه فيَّ وجدَّدا
ورجعت أستسقي السراب لسروة نسيتْ لياليها حكايات الندى
فكأنما المجد الذي خلدتُه لم يكفني فأردتُ مجداً أخلدا
ما أكرم الوتر الذي أسكتُّهُ لأجُرَّ أنفاسي عليه تنهُّدا
كم سلسلت فيه الشموخَ أناملي ورمتْ به سمعَ الزمان فردَّدا
خلع الفتونَ على الشجون وصانها من أن تهون ترجُّعاً وتوجُّدا
أهفو إليه وما يزال غبارُه متجمعاً في صدره متلبدا
أفديه بالباقي من السلوى إذا أرجعتُه ذاك اليتيمَ المفردا
يا غربتي أشجاكِ طول تلفُّتي صوب الديار تهالكاً وتجلدا
أتَعِبتِ من نظري إليكِ معاتباً ؟ ومللتِ من صخبي عليكِ مندِّدا؟
ذاك التجنِّي لم تطيقي حمله مني، ولم تتوقعي أن ينفدا
أطلقتِني .. وتبعتِني.. وأريتِني ملءَ الدروب خيالكِ المتوددا
أنا عند ظنكِ سادر في موطني أزجي خطايَ على ثراهُ مشرَّدا
وأغضُّ من طرفي حياءً كلما عدَّدْتُ أعراسي عليه، وعدَّدَا
أيامَ تستبق الرجالُ نداءه وأشقُّ موكبَهم فتيِّياً أمردا
وبناتُ كلِّ عجيبةٍ ، مجلوةٌ رصداً على هضباته متوعدا
كم علَّمَتْنِي أن تدوسَ جباهَهَا قدمي ، وكم علمتها أن تحقدا
لعبتْ ببرد صبايَ بين جراحه فالتفَّ حول ثخينِهِنَّ ، وضمَّدا
تأبى البنوَّةُ أن أقول وهبتُه وتركت كل هبات غيري حُسَّدا
أَأَمُرُّ منه وصاحبايَ كهولتي والعنفوانُ ، ولا يمدُّ لنا يدا ؟
أنا ما شكوت على اللقاء صدودَه عني، متى صدَّ الكريمُ تعمُّدا ؟
تلك الذوائبُ من لِدَاتي دونه رمحٌ تكسَّرَ أو حسامٌ أُغمِدا
أخذتْ بناصيتيه أيدي عصبةٍ كانت على سود الليالي هجَّدا
جاز الزمانُ بها حدود مجونه فأقام منها كلَّ عبدٍ سيدا
تشقى العلى إن قيلَ كانت جندَها ما كان للجبناءِ أن تتجنَّدا
نظرتْ إلى شرف الجهاد فراعَها فسعتْ إلى تعهيره، فاستشهدا
من كلِّ منْفضِّ السبيل ِ، لقيطِهِ شاءت به الأحقادُ أن تتجسَّدا
عقد الجفونَ بذيل كل سماوةٍ وأراد ملعبَها كسيحاً مقعدا
العاجزُ المقهورُ أقتَلُ حيلةً وأذلُّ منطلَقاً ، وأنذلُ مقصِدا
نشر الخسيس من السلاح أمامه واختار منه أخسَّه ، وتقلَّدا
وحبا إلى حرم الرجال، ولم يذُقْ من قُدسِ خمرتهم ولكنْ عربدا
وافتَنَّ في تزييف ما هتفوا به وارتدَّ بالقِيَمِ الغوالي مُنْشِدا
البغيُ أروع ما يكون مظفراً إن سُلَّ باسم المكرمات مهنَّدا
لا يخدعنِّكَ دمعُه وانظر إلى ما سال فوق أكفه ، وتجمَّدا
لم تشربِ الحُمَّى دماءَ صريعِها إلا وتكسو وجنتيه تورُّدا
وأزاحت الأيام عنه نقابه فأطلَّ مسْخاً بالضلال مزوِّدا
ترك الحصون إلى العدى متعثراً بفراره، وأتى الحِمَـ مُسْتأسِدا
سكِّينه في شدقه ولعابُه يجري على ذكر الفريسة مُزبدا
ما كان هولاكو ، ولا أشباهه بأضلَّ أفئدةً و أقسى أكبُدا
هذي حماة عروسةُ الوادي على كِبْر الحداد، تُجيل طرفاً أرمدا
هذا صلاح الدين يخفي جرحه عنها، ويسأل: كيف جُرْحُ أبي الفدا
سرواتْ دنيا الفتح هانتْ عنده وأصاب منها ما أقام وأقعدا
ما عفَّ عن قذف المعابد باللظى فتناثرت رِمماً، وأجَّتْ موقدا
كم سُجَّدٍ فاجأهم، وما كانوا لغير الله يوماً سُجّدا
عرَفَتْهمُ الجُلَّى أَهِلَّة غارة وغزاةَ ميدانٍ ، وسادة منتدى
يا شامُ.. ما كذب العِيانُ، وربما شهق الخيالُ أمامه ، وترددا(/1)
أرأيتِ كيف اغتيل جيشُك وانطوت بالغدر رايةُ كل أروعَ أصيدا؟
وانفضَّ موكب كل نسر لو رأى لِعُلاكِ ورداً في النجوم لأوردا
من للبقايا من تراث غاضب في القدسِ؟ من يسعى إليها مُنجدا؟
درجتْ عليها الغاشياتُ ولم تدع فيها بناءً للشموس مشيّدا
روَّتْ بأقداح المسيج غليلها ورمت بها، وهوت تُذرِّي المزودا
لمن الخيام على العراء تزاحمت وكست مناكبَه وِشاحاً أسودا ؟
مرت بها غُبْرُ السنين ولم تزل نصباً على جرح الكرامة شُهَّدا
شابتْ بنات اليتم في أحضانها ورجاؤهنَّ كشملهن تبددا
ومن الخليج إلى المحيط عمومةٌ وخؤولة طابت وعزت مَحِتدا
وقفت تشد على الجراح وكِبرُها يرنو إلى الشرف الذبيح مصفَّدا
والحاكمون.. الثأر راح مفرِّقاً ما بينهم، والعار جاء موحِّدا
كم ملعب للتضحيات تواعدوا أن يقطعوه شائكاً ومُعبَّدا
حتى إذا الخطب استحرَّ تواكلوا وتهالكوا فوق الأرائك أعبُدا
وتأنقوا في ستر ذلِّ خنوعهم فجلَوْهُ نهجاً بالدَّهاء مؤيدا
أنا لم أكن يا شام أعرف فيهمُ الـ ـندْبَ العيوفَ ولاالنجيد المسعدا
ترفُ الحياةِ.. ذليلُهُ ورخيصُهُ نادى على حرماتهم أن تُورَدا
ونزا على أحلامهم فتهوَّدت وسرى إلى سلطانهم، فتهودا
يا شام.. أوجعُ من وجومك زفرةٌ داريتُها، وأردتُها أن تخمدا
زخرتْ بما ادّخرت منايَ إلى غدٍ إني أخاف أرى مصارعها غدا
لا يا عروس الدهر سفرُكِ ما روت صفحاتُهُ إلا العلى والسؤددا
كم دون هيكلك الموشَّى بالسنى من طامعٍ أُردي وطاغٍ أُلحدا
وكم انثنت عنك الخطوب حَيِيَّةً ويداكِ ما انتهتا، وكبْرُك ما ابتدا
جمدتْ عيونُ الشرق من سهرٍ على ميعادِ وثبتكِ الجموحِ على العِدا(/2)
عورة المرأة أمام النساء
فضيلة الشيخ /علي بن محمد الريشان 12/9/1423
27/11/2001
مقدمة :
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبي الهدى والرحمة وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين وبعد :
فقد اختلف أهل العلم رحمهم الله في الشيء الذي يجوز أن تظهره المرأة أمام النساء من زينتها ، فبعض أهل العلم أجاز لها أن تظهر ما فوق السرة وتحت الركبة أمام المرأة لأدلة رأوا أنها تفيد جواز إظهار ذلك . وخالفهم آخرون فمنعوا المرأة من إظهار ما زاد على ما جرت العادة – أعني عادة نساء السلف الصالح – إظهاره في البيت وحال المهنة .
ومعلوم أنه عند التنازع والاختلاف فإنه يجب الرجوع إلى الكتاب والسنة قال الله – عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) " النساء 59" .
فإلى أدلة الفريقين ثم ذكر الراجح بعون الله تعالى :
أولاً : أدلة المانعين من إظهار ما زاد على ما يظهر عادة :
الدليل الأول :
قال الله تعالى : (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) "النور 31 " .
قالوا : في الآية الأمر بغض البصر عما لا يحل وحفظ الفرج عما حرم الله، والنهي عن إبداء الزينة إلا ما ظهر منها دون قصد .
وفيها أيضا النهي عن إبداء وإظهار شيء من الزينة الخفية إلا لأزواجهن أو آبائهن .. الخ ما ذكر في الآية ، فهؤلاء جاءت الآية بإباحة إظهار شيء من الزينة الخفية للمرأة مما جرى عرف من نزل عليهم القرآن بإظهاره أمامهم ، وخص الزوج بعدم إخفاء شيء من الزينة الباطنة عنه لأدلة أخرى .
وقد فسّر السلف الآية بنحو ما قلنا فقد روى ابن جرير رحمه الله (307/9) : من طريق عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه قال : ( ولا يبدين زينتهن إلى لبعولتهن ) إلى قوله ( عورات النساء ) .
قال : الزينة التي تبديها لهؤلاء قرطها وقلادتها وسوارها ، فأما خلخالها وعضداها ونحرها وشعرها فإنه لا تبديه إلا لزوجها ، وعند البيهقي فيه زيادة انظر السنن الكبرى ( 7/152 رقم 13537) .
وهذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنه وإعلاله بضعف عبد الله بن صالح لا شيء فعبد الله بن صالح ثبت في كتابه ، وهذه الرواية من كتاب وهي صحيفة على بن أبي طلحة ، التي رواها عن عبد الله بن صالح جمع غفير من أئمة أهل الحديث .
أما الانقطاع بين على بن أبي طلحة وابن عباس فقد عرفت فيه الواسطة وهم الأثبات من تلاميذ ابن عباس رضي الله عنه عكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير ، وقد اعتمدها الأئمة رحمهم الله ، فانظر ـ إن شئت ـ صحيح البخاري وتفسير ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم من أئمة السلف رحمهم الله وإعلال بعض المتأخرين بالعلل السابقة المذكورة غفلة عن منهج السلف في تعاملهم مع أمثال هذه الصحيفة .
وروى رحمه الله أيضا من طريق ابن علية عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى : )ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن (الآية . قال: تبدي لهؤلاء الرأس . وإسناده صحيح .
وروي عن إبراهيم النخعي رحمه الله من طريق سفيان عن منصور عن طلحة عن إبراهيم قال : هذه ما فوق الذراع. وهذا إسناد صحيح ، ومن طريق أخرى قال : ما فوق الجيب . ولكن في سنده من يُجهل.
وما جاء في تفسير ابن عباس رضي الله عنه وقتادة وإبراهيم وما قاله ابن جرير رحم الله الجميع في تفسيره لهذه الآية فيه تحديد للمواضع التي يجوز للمرأة أن تبديها لمن ذكر في الآية إلا من خُص بمزيد الاطلاع على الزينة الخفية لأدلة أخرى وهو الزوج فقط .
الدليل الثاني :
ثبت في السنة من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان..."رواه الترمذي(117) وابن خزيمة(1685) وابن حبان (5598،5599) وغيرهم.
وقد أعل بالوقف ، ولكن الصحيح ثبوته مرفوعاً كما رجحه جمع من الأئمة الحفاظ منهم الدارقطني رحمه الله وتفصيل هذا فيه طول .
ففي هذا الحديث أن المرأة عورة ، والعورة لا يجوز إظهار شئ منها إلا ما ثبت جواز إظهاره بأدلة أخرى سيأتي ذكر شئ منها في موضعه إن شاء الله تعالى .
الدليل الثالث :(/1)
روى الإمام أحمد (22131،22129) وغيره من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن أسامة بن زيد أن أباه أسامة قال كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة كانت مما أهداها دحية الكلبي فكسوتها امرأتي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :"مالك لم تلبس القبطية ؟ " قلت: يا رسول الله كسوتها امرأتي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مرها فلتجعل تحتها غِلالة إني أخاف أن تصف حجم عظامها " .
وهذا الحديث وإن كان من رواية ابن عقيل عن محمد بن أسامة بن زيد ، والأول وصف بسوء الحفظ خاصة لما كبر والثاني جهل حاله بعض الأئمة كالدارقطني رحمه الله .
إلا أن هناك من ثبت ابن عقيل من الأئمة ، ونقل البخاري عن أحمد وإسحاق والحميدي الاحتجاج بحديثه، فحديثه محتج به ما لم يخالف ، ووثق محمد بن أسامة بعض الأئمة كابن سعد وابن حبان رحم الله الجميع ، وهذا الحديث جدير بالثبوت ،ولا سيما وأنه ليس في لفظه ما يُنكر .
وله شاهد ضعيف من حديث دحية الكلبي رضي الله عنه رواه أبو داود (4116) و الحاكم والبيهقي من طريقه انظر سننه الكبرى (3261) .
وعليه فإن هذا الحديث يدل على النهي عن لبس الثياب الضيقة التي تصف الأعضاء ومن المعلوم أن هذا النهي عام فيما يلبس داخل البيت وخارجه ، وإن كان خارجه أشد .
وأكثر ما يطرق المرأة في بيتها هم النساء فهن ممن منعت المرأة من لبس ما يصف عظامها أمامهن فكيف يجوز لها إظهار وكشف ما فوق السرة ودون الركبة .
فائدة :
بعض أهل العلم جعل تفسير حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهم كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا " . فقال : إن الكاسيات العاريات منهن من يلبس الثياب الضيقة التي تصف أعضاء الجسد.
الدليل الرابع :
روى البخاري رحمه الله في صحيحه (5240) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها " . وهذا النهي عن المباشرة لأنه قد يفضي إلى تطليق الواصفة أو الافتتان بالموصوفة ، كما أن فيه إسقاطاًً لمعنى الحجاب والمقصود منه ـ ينظر الفتح عند شرح الحافظ ابن حجر رحمه الله لهذا الحديث ـ وإظهار ما لم تجر العادة وعرف النساء بإظهاره من أقوى الوسائل للوقوع في هذا المحظور كما هو معلوم بداهة، فيكون منع إظهار ما زاد على المعتاد من جهتين :
الأولى : لأنه من العورة كما سبق تقريره ، والثاني : لأنه وسيلة للوقوع في المحظور الذي جاء الحديث النبوي السابق ذكره بالزجر عنه .
الدليل الخامس :
روى مسلم رحمه الله في صحيحه ( 1/266) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد " وهو عند أبي داود (4018) ، الترمذي (2793) .وفي هذا الحديث النهي عن النظر إلى عورة المرأة وهي ما سوى المظهر عرفاً ولو لم يحصل الوصف من الناظرة عن المنظور إليها .
ثانياً : أدلة القائلين بأن عورة المرأة من المرأة كعورة الرجل من الرجل :
ذهب جمهرة من الفقهاء إلى أن عورة المرأة من المرأة كعورة الرجل من الرجل وإلى أن للمرأة أن ترى من المرأة ما يجوز أن يراه الرجل من الرجل،واستدلوا ـ كما يتبين بالاستقراء والتتبع ـ لقولهم هذا بأدلة وهي :
الدليل الأول:
عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ما فوق الركبتين من العورة وما أسفل من السرة من العورة " رواه الدارقطني (879) والبيهقي من طريقه (3237).
قالوا : هذا الحديث نص صريح في تحديد العورة وهو عام للرجال والنساء فليس في الحديث تحديد فيحمل على العموم . كما يشهد له الحديث التالي .
الدليل الثاني :
ما جاء من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" علموا صبيانكم الصلاة وأدبوهم عليها في عشر وفرقوا بينهم في المضاجع ،وإذا زوج أحدكم أمته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى عورتها والعورة ما بين السرة والركبة " رواه البيهقي (3236) . ورواه أبو داوود (4113) بلفظ : " إذا زوج أحدكم عبده أمته ، فلا ينظر إلى عورتها " وجاء تفسير هذه اللفظة برواية أخرى وهي عند أبي داود (496) أيضاَ :" فلا ينظر إلى ما فوق الركبة ودون السرة " .
الدليل الثالث :
عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إنها ستفتح لكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتاً يقال لها الحمامات فلا يدخلنها الرجال إلا بالأزر وامنعوها النساء إلا مريضة أو نفساء "
رواه أبو داود (4007) ، وابن ماجه (3854).(/2)
الدليل الرابع :
عن ابن عباس رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احذروا بيتاً يقال له الحمام " قالوا : يا رسول الله إنه يذهب الدرن وينفع المريض قال : " فمن دخله فليستتر " . والحديث فيه جواز دخول الحمام بشرط الاستتار أي للعورة ، وليس في الحديث منع النساء من دخوله إلا بشرط وهو الاستتار للعورة فقط ، فإذاً الضرورة إلى انكشاف ما سوى العورة متحققة فيما بينهن ، وسبق تحديد العورة في حديث أبي أيوب وحديث عبد الله بن عمرو والذي جاء من طريق عمرو بن شعيب .
الدليل الخامس :
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما كتبه إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه :" بلغني أن نساءً من نساء المسلمين قبلك يدخلن الحمام مع نساء مشركات فإنه عن ذلك أشد النهي فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن يرى عورتها غير أهل دينها " .
ففي هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه النص على إباحة رؤية العورة للنساء المؤمنات فيما بينهن ويحمل على ما سوى العورة المغلظة .
الدليل السادس :
قال صلى الله عليه وسلم : " لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة " . ففي هذا الحديث دليل على التساوي في حدود العورة بدلالة الاقتران والقياس ، وقد ثبت عندنا أن عورة الرجل من الرجل ما بين السرة إلى الركبة فكذلك المرأة .
الدليل السابع :
إجماع أهل العلم على جواز قيام المرأة بتغسيل المرأة كما يغسل الرجل الرجل ، فكما للرجل الاطلاع على ما فوق السرة ودون الركبة من الرجل حياً و ميتاً ، فيجوز إذن أن تظهر المرأة للمرأة ما فوق السرة ودون الركبة لوجود المجانسة التي تبيح ذلك ، فالناظر والمنظور إليه كلاهما من النساء .
وردوا على من احتج عليهم بالآية بأنها لا تفيد ما فهمه المانعون لأن دلالة الاقتران ضعيفة ومن القرائن على ضعف مأخذ القائلين بها ذكر البعل في الآية ، فهي إذا لا تفيد التساوي فيما يجوز إظهاره ، بل غاية ما تفيده اشتراكهم في المنع من اطلاعهم على جزء من الزينة الخفية كل بحسبه ، وللنساء الاطلاع على ماعدا ما بين السرة والركبة وإظهاره فيما بينهن للأدلة السابق ذكرها .
اعتراض المانعين :
وقد رد المانعون على أدلة هؤلاء بأن هذه الأدلة التي احتجوا بها تنقسم إلى قسمين : قسم صريح غير صحيح ، وقسم صحيح غير صريح ، وتفصيل ذلك فيما يلي :
أولاً :حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه والذي جعلوه نصاً في تحديد العورة لعموم الرجال والنساء .
لا يصح البتة فقد رواه الدارقطني والبيهقي من طريق سعيد بن راشد عن عباد بن كثير عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي أيوب رضي الله عنه ، وسعيد بن راشد وعباد بن كثير متروكان ، فسقط هذا الحديث .
ثانياً : حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" علموا صبيانكم الصلاة ... " الحديث جاء من طريق الخليل بن مرة عن ليث بن أبي سليم عن عمرو بن شعيب به ، ولا يصح، فالخليل ضعيف، وليث مختلط لم يتميز حديثه ، فيكفي علة واحدة من هاتين العلتين لرده.
ورواية أبي داود التي جاءت من طريق الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ :" إذا زوج أحدكم عبده أمته أو أجيره ، فلا ينظر إلى عورتها ".
ورواه وكيع عن أبي حمزة الصيرفي داود بن سوار ـ فقلب اسمه ـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً بلفظ :" فلا ينظر إلى ما فوق الركبة ودون السرة " .
فإن الرواة عن عمرو بن شعيب قد اضطربوا في هذا الحديث فجاء كما في الروايات السابقة النهي عن النظر إلى عورة الأمة إذا زوجت ، وحددت فيما بين السرة والركبة .
وجاءت رواية أخرى من طريق النضر بن شميل عن أبي حمزة الصيرفي وهو سوار بن داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً : " وإذا زوج أحدكم عبده أو أمته أو أجيره ، فلا تنظر الأمة إلى شئ من عورته ، فإن ما تحت سرته إلى ركبته من العورة " رواه الدارقطني وهي عند البيهقي جميعها في سننه ، انظر (2/320).(/3)
وهذه الرواية فيها تحديد العورة للسيد وهو الرجل بخلاف الرواية الأولى ، مما يدل على اضطراب الراوي في ضبط هذه اللفظة ولا سيما الرواية الأخيرة فمدارها على أبي حمزة الصيرفي ومجمل أقوال الأئمة فيه أن فيه ضعفاً ، فهذا الاضطراب منه ، بل ذكر الدارقطني عنه أنه لا يتابع على رواياته ، وقد رواها بواسطة محمد بن جحادة الثقة عن عمرو بن شعيب كما عند البيهقي (3235) ، فهذه علة أخرى لروايته هذا الحديث ، لذلك قال البيهقي رحمه الله كما في سننه الكبرى (2/320)بعد روايته لهذه الألفاظ :[ وهذه الرواية إذا قرنت برواية الأزواعي دلنا على أن المراد بالحديث نهي السيد عن النظر إلى عورتها إذا زوجها وأن عورة الأمة ما بين السرة والركبة و سائر طرق هذا الحديث يدل وبعضها ينص على أن المراد به نهي الأمة عن النظر إلى عورة السيد بعد ما زوجت أو نهي الخادم من العبد الأخير عن النظر إلى عورة السيد بعدما بلغنا النكاح فيكون الخبر وارداً في بيان مقدار العورة من الرجل لا في بيان مقدارها من الأمة ] أ.هـ كلامه رحمه الله .
وانظر : سنن البيهقي الأحاديث(3237،3236،3235،3234،3233،3224،3223،3219) .
كما أن هذا الحديث بألفاظه المختلفة لو صح فيه تحديد عورة الأمة ، لا المرأة الحرة . والفرق في الاستتار بين الأمة والحرة لا يخفى ، وهذا ثابت بالأدلة الصحيحة من سنته صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة رضي الله عنهم ، مع العلم أن بعض أهل الحديث لم يثبت هذه الرواية ولم يعرج عليها في تحديد عورة الرجل .
وينظر كلام الإمام ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن (6/18) .
ثالثاً : حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً : " تفتح لكم أرض العجم ..." رواه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي عن عبد الرحمن بن رافع عن عبد الله بن عمرو به . وهذا لا يصح ، ففيه الأفريقي وضعفه أشهر من أن يُعرف ، وشيخه عبد الرحمن بن رافع مجهول . ولو صح فليس فيه رخصة إلا لذوات الحاجة من النساء ، ولا يلزم من الدخول انكشاف العورات كما هو معلوم .
رابعاً : حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه مرفوعاً : " احذروا بيتاً يقال له الحمام .." رواه البزار (211-مختصر زوائده للحافظ ابن حجر ) فقال: أخبرنا يوسف بن موسى أخبرنا يعلى بن عبيد أخبرنا سفيان الثوري عن ابن طاووس عن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه .
وظاهر هذا الإسناد الصحة ولذلك اغتر به بعض العلماء فصححه ، ولكن الصواب فيه أنه مرسل كما رواه جمع من الحفاظ .
قال البزار رحمه الله : ( رواه الناس عن طاووس مرسلاً ، ولا نعلم أحداً وصله إلا يوسف عن يعلى عن الثوري ) أ.هـ كلامه .
والذي يظهر أن الخطأ في وصله من يعلى بن عبيد روايه عن الثوري فهو وإن كان ثقة ففي روايته عن الثوري ضعف ، وقد جاءت أحاديث أصح منه إسناداً تعارضه والذي قبله منها :
ما رواه أبو داود ( 2006) والترمذي (2803) من طريق أبي المليح الهذلي أن نساء من أهل حمص أو من أهل الشام دخلن على عائشة فقالت: أنتن اللاتي يدخلن نساءكن الحمامات سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها " وقد صحح هذا لحديث جمع من العلماء . وفي الباب أحاديث أخرى عن جمع من الصحابة منهم : عمر وأبي أيوب وجابر الأنصاريين وعبد الله بن عمرو وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم جميعاً انظر : مسند أحمد وسنن الترمذي وسنن النسائي ومستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان وغيرهم ، وبعضها يشهد لبعض كما قال بعض أهل العلم.
مع أن الحافظ الحازمي رحمه الله قال في كتابه الاعتبار (187) : ( باب النهي عن دخول الحمام ثم الإذن فيه بعد ذلك.. ـ ثم قال في آخره ـ وأحاديث الحمام كلها معلولة ـ يعني المرفوعات ـ وإنما يصح فيها عن الصحابة رضي الله عنهم ) أ.هـ كلامه ،وقد ضعفها كذلك الحافظ عبد الحق الأشبيلي كما في الأحكام الوسطى له (1/244).
خامساً : ما جاء عن عمر رضي الله عنه فيما كتبه إلى أبي عبيدة رضي الله عنه . فهذا الأثر لا يصح :
فقد رواه عبد الرزاق (1134) عن ابن المبارك عن هشام بن الغاز عن عبادة بن نسي ـ قال ابن الأعرابي ـ : وجدت في كتاب غيري عن قيس بن الحارث قال : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بلغني فذكره . ورواه عبد الرزاق أيضاً (1136) من طريق إسماعيل بن عياش عن هشام بن الغاز عن عبادة بن نسي عن قيس بن الحارث قال : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة فذكره .
ولكن رواه سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش عن هشام بن الغاز عن عبادة بن نسي عن أبيه عن الحارث بن قيس قال كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة رضي الله عنه فذكره ، فزاد فيه عن أبيه ، وجعله من رواية الحارث بن قيس .(/4)
ورواه سعيد بن منصور أيضاً عن عيسى بن يونس عن هشام بن الغاز عن عبادة بن نسي قال : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ... فذكره وانظر البيهقي رقم ( 13542) . ورواه ابن جرير رحمه الله كذلك عن عيسى بن يونس بمثله . ففي رواية ابن المبارك عند عبد الرزاق وعيسى بن يونس عند سعيد بن منصور وابن جرير عن عبادة بن نسي مرسلاً . وزاد إسماعيل بن عياش كما في رواية سعيد بن منصور عن عبادة عن أبيه عن الحارث بن قيس ، ونسي والد عبادة مجهول . وانظر : مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابن كثير رحمه الله (2/601) و سنن البيهقي (7/153)وأسقطه في رواية عبد الرزاق فيكون الأثر منقطعاً بين عبادة وقيس بن الحارث ، كما أنه جعله من رواية الحارث بن قيس بدل قيس بن الحارث.
وهذا كله يدل على اضطراب إسماعيل في روايته لهذا الأثر . بينما الأثبات رووه عن عبادة مرسلاً ، زد على ذلك الاختلاف الكثير في المتن وورود تلك اللفظة المنكرة في بعض رواياته وهي : ( فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر ـ وفي رواية أن يرى ـ عورتها إلا أهل ملتها ).
والجميع ـ المانعون والمجيزون ـ متفقون على تحريم كشف العورة وتحريم النظر إليها . فإن كان المقصود ما فوق السرة فهذا يؤيد قول من قال بأنه عورة وإن كان المقصود ما بين السرة والركبة فالجميع على اتفاق إلا من شذ بأنه لا يحل إظهاره والنظر إليه إلا لزوج أو سيد فكيف يجوز للمرأة أن تطلع النساء على عورتها إذا كان المقصود المعنى الثاني وعلى كل حال فهذه اللفظة لا تثبت .
وقد صح عن عمر رضي الله عنه خلاف ذلك :
قال عبد الرزاق (1133): عن ابن جريح أخبرني سليمان بن موسى عن زياد بن جارية حدثه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : كان يكتب إلى الآفاق : ( لا يدخلن امرأة مسلمة الحمام إلا من سقم وعلموا نساءكم سورة النور ) ففي هذا الأثر إباحة دخوله للمسلمة المريضة لحاجة الاستشفاء ، والتأكيد على الاستتار بقوله رضي الله عنه : وعلموا نساءكم سورة النور.
سادساً : ما ذكره المجيزون في احتجاجهم بحديث (أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: " لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة " وأخذهم القول بجواز إظهار ما فوق السرة ودون الركبة بدلالة الاقتران والقياس ، فيقال: معلوم أن دلالة الاقتران ضعيفة إلا بقرائن تؤيدها ، ومن العجيب أن المجيزين يأخذون بدلالة الاقتران في هذا الحديث رغم معارضته لنصوص أخرى كما تقدم في أدلة المانعين ، ولا يأخذون بها في الآية الكريمة :( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن ) الآية .
أما قياسهم فهو قياس مع الفارق " وليس الذكر كالأنثى " قدراً وشرعاً ، فلا يصح هذا القياس ،وأيضاً فإن مقدار عورة الرجل مختلف فيه بين أهل العلم ، فكيف يصح القياس على أصل مختلف فيه .
وللفائدة : ينظر صحيح البخاري/ باب ما يذكر في الفخذ ( الفتح 1/530)، وراجع سنن البيهقي(2/321،329). فإذا ذكر النهي في هذا الحديث عن النظر إلى العورة في سياق واحد لا يدل على التساوي في مقدار العورة بين الجنسين فكل بحسبه كما دل على ذلك النصوص الشرعية وعمل السلف الصالح .
سابعاً : احتجاجهم بإجماع العلماء على أن المرأة تغسل المرأة كما يغسل الرجل الرجل . فهذا لا حجة فيه لأن الغسل ليس فيه إباحة إطلاق النظر فضلاً عن أن يكون فيه جواز تعرية المرأة ، فيصح أن يكون الغسل من فوق الثوب بل هذا هو المشروع، وهذا إذا قيل بالتساوي بين حالتي الحياة والموت والآية (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ...) تخاطب المرأة بالنهي عن إبداء الزينة الخفية بالاختيار إلا لمن ذكر فيها ومن في حكمهم بالقدر المعروف شرعاً وعرفاً ، ولو قيل بجواز كشف ما فوق السرة لغير الزوج في حالة ضرورة ، وما ظهر منها في حال الضرورة أو عدم التكليف فليس من هذا الباب والله أعلم .
ثامناً : ما ذكره المجيزون من ضعف دلالة الاقتران في الآية مرجوح ، فصحيح أن دلالة الاقتران قد تكون ضعيفة ولا تدل على التساوي في الحكم إلا بقرينة وهذه القرينة موجودة لدى المانعين وهي أن جمهور السلف ـ وأخذ بها الإمام أحمد رحمه الله كما في رواية عنه ـ قالوا : إن المقصود من قوله تعالى (أو نسائهن) المسلمات أو ما ملكت أيمانهن .
وأما غيرهن فلا يحل للمرأة أن تبدي شيئاً من زينتها التي أبيح لها واعتادت إظهارها أمام النساء ، فالإضافة هنا للاختصاص ،وهذه القرينة وهي التفريق بين المسلمة والكافرة تقوي قول من أخذ بدلالة الاقتران في الآية ، وعدم خروج النساء منها واشتراكهن مع غيرهن ممن ذكر في الآية في تحديد ما يظهر لهم .
القول الراجح:
وبعد استعراض أدلة الفريقين يتبين أن القول الراجح في هذه المسألة هو قول المانعين من إظهار ما زاد على ما يظهر عادة وعرفاً وعلى الاختلاف بين الرجل والمرأة فيما هو من العورة يدل على ذلك عمل السلف الصالح من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .(/5)
فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قد أبدى ساقيه أو فخذيه أمام بعض أصحابه كما في حديث عائشة رضي الله عنها ، وأبدى ساقيه كما في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، وثبت أن أصحابه رضي الله عنهم رأوا بياض إبطيه صلى الله عليه وسلم كما رأوا جنبه صلى الله عليه وسلم وقد أثر فيه الحصير ،وكلها في الصحيح، ورأوا شعر بطنه وقد علاه التراب كما في قصة حفر الخندق ، كما ثبت حديث اغتسال سهل بن حنيف ورؤية عامر بن ربيعة له وقد كشف عن جزء كبير من جسده كما في الموطأ.
أما المرأة مع محارمها والنساء فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة في رؤية شئ من بدنها ـ الرأس والشعر والآذان ونحوها ـ فتوافق تفسير ابن عباس رضي الله عنه وقتادة رحمه الله للآية مع عمل الرعيل الأول رجالاً ونساءً فقد ثبت في الصحيح قصة زواج عائشة رضي الله عنها وتمشيط النساء لها وتزيينها للنبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه في قصة زواجه من الثيب وجوابه للنبي صلى الله عليه وسلم عن سؤاله وأنه أراد أن تقوم على أخواته وتمشطهن فلا بد حال التمشيط من رؤية الشعر والأذان والرقبة ، ولا يجادل في هذا أحد .
كما ثبت في صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما دخل على أخته حفصة رضي الله عنها ونسواتها تنطف ، والنسوات : الضفائر ، وتنطف : تقطر ماء .
كما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سلمة قال دخلت أنا وأخو عائشة على عائشة رضي الله عنها فسألها أخوها عن غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعت بإناء نحو من صاع فاغتسلت وأفاضت على رأسها وبيننا وبينها حجاب . ففيه رؤية رأسها من قبل أخيها وابن أختها أبي سلمة لأن أم كلثوم أختها أرضعته ، وغيرها من الأحاديث وخُص الزوج من بين المذكورين في الآية ، فإنه لا يمنع من الاطلاع على كامل بدن امرأته كما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء بيني وبينه واحد تختلف أيدينا فيه ، فيبادرني حتى أقول دع لي ، دع لي ، قالت : وهما جنبان . وجاء عند ابن حبان أن عطاء سأل عائشة رضي الله عنها عن الرجل ينظر إلى فرج امرأته ، فذكرت هذا الحديث بمعناه . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : ( وهو نص في المسألة ) أ.هـ كلامه .
كما ثبت عند الإمام أحمد وأبي داود والترمذي من حديث بهز بن حكيم حدثني أبي عن جدي قال قلت يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر قال : " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك " فقال الرجل يكون مع الرجل قال : " إن استطعت ألا يراها أحد فافعل " قلت والرجل يكون خالياً قال:"فالله أحق أن يستحيا منه " ، ولا يثبت حديث في منع الزوجين أو أحدهما من رؤية عورة الآخر ، ولم ينقل خبر بإسناد صحيح أو ضعيف فيما أعلم ذكر فيه تكشف النساء وإظهارهن ـ عدا ما بين السرة والركبة ـ فيما بينهن عندما يجتمعن فلو أعتقد السلف جواز ذلك والرخصة فيه لنقل ذلك عنهم ولو عن بعضهم كما نقل غيره مما هو دونه ، فهذا يدل دلالة واضحة على ضعف قول من قال بجواز كشف ما عدا ما بين السرة إلى الركبة للنساء فيما بينهن ، وأن هذا القول بني على أدلة صريحة لكنها لا تصح ، وأما ما استدلوا به من الأدلة الصحيحة فالأمر بخلاف ما ذهبوا إليه منها كما مر .
وقبل أن نختم الكلام في هذه المسألة ، يحسن ذكر أن هناك قولاً ثالثاً في المسألة وهو أن عورة المرأة من المرأة كعورتها من الرجل الأجنبي عنها ، وهذا مذهب غريب مخالف للنصوص الثابتة التي ذكر بعضها ، ولم يعلم أحد قال به سوى الإمام القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله في شرحه الرسالة لابن أبي زيد القيرواني على ما نقله ابن القطان رحمه الله في كتابه ( أحكام النظر ) ، ولا يعرف لهذا لقول دليل سوى ما رواه الحاكم رحمه الله في مستدركه ( 5/253) فقال :
باب التشديد في كشف العورة ، ثم أخرج (7438) بسنده من طريق إبراهيم بن علي الرافعي حدثني علي بن عمر بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عورة الرجل على الرجل كعورة المرأة على الرجل ، وعورة المرأة على المرأة كعورة المرأة على الرجل " ثم قال رحمه الله : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . فقال الذهبي متعقباً له : الرافعي ضعفوه أ.هـ.
وفيه علة أخرى وهي جهالة علي بن عمر ، فلا يعرف حاله ، وليس هو علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الثقة فهذا آخر غيره ، كما أن متنه غريب منكر .
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.(/6)
عولمة الوباء والتلوّث أيضاً
إبراهيم غرايبة 2/2/1426
12/03/2005
تظهر دراسات وتقارير دوليّة كثيرة جداً أن العولمة الرأسماليّة في حالتها القائمة والسائدة تهدّد على نحو خطير الدول والمجتمعات والبيئة والكون، ويصل حجم هذا التهديد إلى الكارثة والخطر، كما تكشف شبكات جماعات المناهضة للعولمة الرأسماليّة عن معلومات مذهلة حول ما تلحقه الأنشطة التابعة للعولمة الرأسماليّة من تدمير فظيع يلحق باقتصادات الدول والمجتمعات، وثقافتها ونمط حياتها ومواردها، وأنظمتها الاجتماعيّة والسياسية، والصحة والبيئة والهواء والأنهار والأرض والغابات والصحارى والبحار والمحيطات والجزر وجوف الأرض والموارد العالميّة.
فقد رافق العولمة الاقتصاديّة والإعلاميّة موجات من الأوبئة والمشكلات البيئيّة تسربت وانتشرت في العالم بنفس الآليات والأدوات التي فرضت لتسهيل مرور السلع والأموال، فقد كان للشركات الكبرى التي أُطلق لها العنان في أرجاء العالم دور كبير في تدمير البيئة في العالم ومن أمثلة ذلك: تدمير طبقة الأوزون من خلال إنتاج مبيد "بروميد الميثيل" الذي يساهم في تدمير طبقة الأوزون، ولا تزال هذه الشركات تقف حجرة عثرة أمام تطبيق بنود بروتوكول مونتريال الخاصة بمنع إنتاج هذه المواد.
وتساهم منتجات أخرى أيضا للشركات الكبرى مثل المواد الكيماوية شديدة الخطورة، والتي لا تتحلّل طبيعياً في البيئة، و تؤدي إلى تسمّم الكائنات الحيّة، والمخلفات المشعة، وتقوم كثير من الأنشطة التعدينيّة والصناعيّة على إزالة الغابات.
وتأثرت الزراعة كغيرها من النشاطات الأخرى، تأثرت بسياسات الرأسمالية التجارية والسوق المفتوح، فأصبح قطاع الزراعة مُطالباً بإنتاج مواد غذائية بتكاليف منخفضة، وأهم مظاهر هذه العولمة في الزراعة ظهور الهندسة الوراثيّة.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن الهندسة الوراثيّة ستساعد في تقليل تكلفة الغذاء وإتاحته للفقراء، ومقاومة شحّ المياه والتصحّر في الزراعة، ولكنها أخضعت الدول الفقيرة والنامية لتبعيّة في إنتاج البذور، وقضت في الوقت نفسه على البذور التقليديّة التي كانت مستخدمة، حتى إن البعض سمّى هذه الحالة بِ" الاستعمار الجينيّ".
وعندما طرحت الشركات الأوروبية والأمريكية طعامها المعدل المعالج وراثياً قوبلت الفكرة باستياء كبير وهجوم وصل في بريطانيا لحد الهجوم على مزارع الطعام المعالج وإزالة النباتات من الأرض، ونفس المصير لاقته الشركات الأمريكية التي دفعت ملايين الدولارات لتطوير تلك الأبحاث، ورفض المستهلكون تناول ذلك الطعام، وأعلن الأطباء عن احتمالات إصابة الإنسان بالخلل الجيني، وألزمت إدارة الطعام و الدواء الأمريكية الشركات والمزارعين بعدة إجراءات توضيحيّة قبل بيع ذلك الطعام.
وعندما أرادت تلك الشركات تصديره رفضته أوروبا طبعاً، وكذلك آسيا، فكانت السوق المناسبة والملائمة لهذا النوع من الطعام هو أفريقيا الجائعة، ولكن أفريقيا لا تملك ثمناً لأي طعام، فلماذا لا يُقدّم لهم الطعام كمعونات إنسانية؟ وبذلك تضرب الشركات عصفورين بحجر واحد، فتطعم الجوعى وتختبر طعامها اختباراً مباشراً، و عن طريق غطاء شرعي هو الأمم المتحدة التي تبحث عن أي جهة تقدم عوناً لمئات الآلاف من الأفارقة الذي يعانون من المجاعة و أمراض سوء التغذية.
قدمت الولايات المتحدة الأمريكية للأمم المتحدة كميات من الذرة ومنتجاتها في شكل معونات بقيمة (111) مليون دولار أمريكي، وكان 30% منها عبارة عن ذرة مهجنة وراثياً، ووزّعتها الهيئة الدولية بالفعل على الجوعى في السودان والكونغو وإثيوبيا والصومال وعدة دول أفريقية أخرى، ولم يكن لدى برنامج الغذاء التابع للأمم المتحدة التابع للأمم المتحدة علم بها، بل لم يناقش أحد الأمر.
وبنظرة على الوضع الصحي في العالم في زمن العولمة نكتشف الكثير من الحقائق المؤلمة:
حوالي (11) مليون طفل دون السن الخامسة يلقون حتفهم في البلدان النامية.
أكثر من 40 % من العبء العالمي الناتج عن الأمراض الذي يعود إلى مخاطر البيئة يقع عل كاهل الأطفال دون الخامسة.
يُتوّفى ما يتراوح بين (5-6) ملايين شخص في البلدان النامية سنوياً بسبب الأمراض المنقولة عن طريق المياه و تلّوث الهواء.
تساهم الأحوال البيئيّة المتدنيّة بنسبة 25 % من كافة الأمراض التي يمكن الوقاية منها في العالم اليوم.
أُصيب أكثر من (60) مليون شخص بفيروس نقص المناعة البشرية الإيدز.
يُصاب (8.8) مليون شخص بالسلّ سنوياً و يدفع (1.7) مليون شخص حياتهم ثمناً له.
خسائر الملاريا في أفريقيا تتجاوز (13) مليار دولار أمريكي.
وانتشرت أيضا الأمراض التي تصيب الحيوانات ولها تماسّ مباشر مع البشر.(/1)
وتتسبب سبع دول صناعية في إطلاق أكثر من 70% من غاز ثاني أكسيد الكربون في العالم، والولايات المتحدة التي تشكل أقل من 4% من سكان العالم تطلق أكثر من 25% من الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، وهذا يحتاج إلى جهد عالمي لخفض إطلاق الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وكان بروتوكول (كيوتو) الذي رفضت الولايات المتحدة أن توقع عليه التزاماً دولياً عالمياً لمعالجة سخونة الأرض.
واستخدمت التقنية والإرادة السياسية لتحويل طبيعة الأراضي والشعوب في الإنتاج، كما حدث في الصين على سبيل المثال ودول أخرى كثيرة، فتوطّن جماعات الرّحل قسراً، أو تزرع الصحراء بمحاصيل لا تناسبها، أو يُعاد التنظيم الاجتماعي والسياسي لشعوب ومجتمعات درجت على إدارة نفسها بطريقة مختلفة، وفقد الناس تقريباً المعرفة بنظم الزراعة والإنتاج التقليدية، واستخدمت التقنية الحديثة بطريقة غير مناسبة مثل الإسراف في استخدام الأسمدة والمواد الكيماوية مما أدّى إلى مخاطر صحيّة وبيئيّة مكلفة، واعتبر الملايين الذين شُرّدوا أو فقدوا مواطنهم ومصادر رزقهم، بسبب السدود والمشروعات المختلفة مجرد أفراد تضاربت اهتماماتهم مع الاحتياجات التي حددتها الدولة للمجتمع القومي.
وفي جزيرة غينيا الجديدة، حيث يوجد أكبر تنوّع ثقافي وبيولوجي في العالم أدّت مشروعات استخراج النفط والمعادن إلى حرمان الناس من أراضيهم دون تعويض، وجرت صراعات مسلحة مدمرة، وحُوّل معظم السكان إلى حالة بؤس اجتماعي واقتصادي، ولم يستفيدوا شيئاً من مشروعات الذهب والنحاس والنفط، وتلوّثت الأنهار بالسموم والكيماويات، وكذلك السهول الزراعية والغابات، وقُضِي على الأسماك والحياة البريّة من حيوانات ونباتات مختلفة.
وقد دُفعت تعويضات نقدية للسكان أدّت إلى نتائج معقّدة في حياتهم؛ فقد تحوّلت إلى نمط استهلاكي، وازدادت المهور والهجرة إلى المدن واستهلاك الكحول.. وتجاهلت الشركة التي تدير المناجم النتائج البيئية المدمرة لمشروعاتها، واعتبرت أن التعويض النقدي يكفي لإخراجها من المسؤولية.
وأظهرت تقارير منظمة الأغذية والزراعة الدوليّة أن العولمة والتحرّر الاقتصادي تزيد من التصحّر والتلوّث، وبخاصة من الأنشطة القائمة على قطع الأشجار، كما يحدث على نطاق واسع في المناطق الاستوائية، والاعتداء على الأراضي الزراعيّة، ويمكن باتّباع سياسات عادلة أن تضبط عمليات تصنيع وتجارة الأخشاب دون الإضرار بالاقتصادات القائمة عليها.
وهذا غيض من فيض، فمتابعة الكتب والتقارير والدراسات حول أخطار العولمة الرأسمالية والاقتصادية تكاد تفوق قدرة الباحث المتخصص والمتفرغ(/2)
عيد الأم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
يلحظ المسلم كثرة الأعياد في هذه الأزمنة، مثل "عيد مولد النبي، و"عيد الشجرة "، و" عيد العمال"، و" عيد الحب"، وعيد "الجلوس " و " عيد الميلاد " …الخ وهكذا ، وكل هذا من اتباع اليهود والنصارى والمشركين، ولا أصل لهذا في الدين، وليس في الإسلام إلا عيد الأضحى وعيد الفطر.
عن أبي سعيد، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لتتبعن سَنن من قبلكم شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ، حتى لو سلكوا جحر ضبٍّ لسلكتموه، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن !؟ "، رواه البخاري ( 3269 ) ومسلم ( 2669 ).
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ، فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك؟ ".رواه البخاري ( 6888 ).
أخذ القرون: المشي على سيرتهم.
وقد تابع جهلة هذه الأمة ومبتدعوها وزنادقتها الأمم السابقة من اليهود والنصارى والفرس في عقائدهم ومناهجهم وأخلاقهم وهيئاتهم. ومن ذلك اتباعهم في ابتداع " عيد الأم " أو " عيد الأسرة "، وهو اليوم الذي ابتدعه النصارى تكريماً – في زعمهم – للأم، فصار يوماً معظَّما تعطَّل فيه الدوائر، ويصل فيه الناس أمهاتهم ويبعثون لهن الهدايا والرسائل الرقيقة، فإذا انتهى اليوم عادت الأمور لما كانت عليه من القطيعة والعقوق.
والعجيب من المسلمين أن يحتاجوا لمثل هذه المشابهة وقد أوجب الله تعالى عليهم بر الأم وحرَّم عليهم عقوقها وجعل الجزاء على ذلك أرفع الدرجات.
فما هو العيد؟
قال ابن عابدين – رحمه الله -: " سُمي العيد بهذا الاسم؛ لأن لله تعالى فيه عوائد الإحسان، أي: أنواع الإحسان العائدة على عباده في كل يوم، منها: الفطر بعد المنع عن الطعام، وصدقة الفطر، وإتمام الحج بطواف الزيارة، ولحوم الأضاحي، وغير ذلك، ولأن العادة فيه الفرح والسرور والنشاط والحبور ". " حاشية ابن عابدين " ( 2 / 165 ).
عن أنس بن مالك قال كان لأهل الجاهلية يومان في كل سنة يلعبون فيهما فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال: كان لكم يومان تلعبون فيهما وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم الفطر، ويوم الأضحى.
رواه أبو داود ( 1134 ) والنسائي ( 1556 )، وصححه الشيخ الألباني.
بر الأم
قال الله تعالى: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } [ النساء / 36 ].
وقال تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } [ الإسراء / 23 ].
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك. رواه البخاري (5626) ومسلم (2548).
قال الحافظ ابن حجر:
قال ابن بطال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع؛ فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها ثم تشارك الأب في التربية، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهنٍ وفصاله في عامين }، فسوَّى بينهما في الوصاية، وخص الأم بالأمور الثلاثة، قال القرطبي: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدَّم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة، وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل: يكون برهما سواء، ونقله بعضهم عن مالك والصواب الأول." فتح الباري " ( 10 / 402).
بل إن الشرع المطهر الحكيم رغَّب في وصلها، حتى إن كانت مشركة: فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمتْ عليَّ أمِّي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدمتْ عليَّ أمِّي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: نعم صِلِي أمَّك. رواه البخاري ( 2477 ).
وإن المتتبع لأحوال الأسرة عموما وللأم خاصة في المجتمعات غير الإسلامية ليسمع ويقرأ عجباً، فلا تكاد تجد أسرة متكاملة يصل أفرادها بعضهم بعضاً فضلا عن لقاءات تحدث بينهم وفضلا عن اجتماع دائم.(/1)
ومن النادر أن تجد أسرة كاملة تتسوق أو تمشي في الطرقات. وعندما يصير الأب أو الأم في حالة الكِبَر يسارع البار ! بهما إلى وضعهما في دور العجزة والمسنِّين، وقد ذهب بعض المسلمين إلى بعض تلك الدور وسأل عشرة من المسنِّين عن أمنيته، فكلهم قالوا: الموت !! بسبب ما يعيشه الواحد منهم من قهر وحزن وأسى على الحال التي وصل إليها وتخلى عنهم فلذات أكبادهم في وقت أحوج ما يكون إليهم.
نبذة تاريخية
بدأ عيد الأم عند الإغريق في احتفالات عيد الربيع، وكانت هذه الاحتفالات مهداة إلى الإلهة الأم ديميتر، حسب أساطيرهم، فرحا بعودة ابنتها برسيفوني، من عالم الآخرة، بعد أن كان اختطفها هاديس، إله العالم السفلي لنفسه. وفي روما القديمة كان هناك احتفال مشابه لهذه الاحتفالات كان لعبادة أو تبجيل "سيبل" –أم أخرى للآلهة. وقد بدأت الأخيرة حوالي 250 سنة قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام؛ وهذه الاحتفالات الدينية عند الرومان كانت تسمى "هيلاريا" وتستمر لثلاثة أيام من 15 إلى 18 مارس.
الاحتفال بعيد الأم
يختلف تاريخ الاحتفال بعيد الأم، وأسلوب الاحتفال به، من دولة لأخرى، فالنرويج تقيمه في الأحد الثاني من فبراير، أما في الأرجنتين فهو يوم الأحد الثاني من أكتوبر، وفي لبنان يكون اليوم الأول من فصل الربيع، وجنوب أفريقيا تحتفل به يوم الأحد الأول من مايو.
أما في فرنسا والسويد فيكون الاحتفال في يوم الأحد الأخير من مايو حيث يجتمع أفراد الأسرة للعشاء معاً ثم تقدم كيكة للأم. وقبلها بأيام يقوم الصليب الأحمر السويدي ببيع وردات صغيرة من البلاستيك تقدم حصيلتها للأمهات اللاتي يكن في عطلة لرعاية أطفالهن. وفي اليابان يكون الاحتفال في يوم الأحد الثاني من مايو مثل أمريكا الشمالية وفيه يتم عرض صور رسمها أطفال بين السادسة والرابعة عشرة من عمرهم وتدخل ضمن معرض متجول يحمل اسم "أمي" ويتم نقله كل 4 سنوات يتجول المعرض في عديد من الدول.
الأحد في إنجلترا
وهو يوم شبيه باحتفالات عيد الأم الحالية، ولكنه كان يسمى أحد الأمهات أو أحد نصف الصوم، لأنه كان يُقام في فترة الصوم الكبير عندهم، والبعض يقول إن الاحتفالات التي كانت تقام لعبادة وتكريم "سيبل" الرومانية بُدِّلت من قبل الكنيسة باحتفالات لتوقير وتبجيل مريم عليها السلام، وهذه العادة بدأت بحَثِّ الأفراد على زيارة الكنيسة التابعين لها والكنيسة الأم محمَّلين بالقرابين، وفي عام 1600 بدأ الشباب والشابات ذوو الحرف البسيطة والخادمون في زيارة أمهاتهم في "أحد الأمهات" مُحمَّلين بالهدايا والمأكولات، هذا عن انجلترا. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد كانت آنا جارفس (1864-1948) هي صاحبة فكرة جعل يوم عيد الأم إجازة رسمية، فهي لم تتزوج قط وكانت شديدة الارتباط بوالدتها، وقد نذرت نفسها للدير، وتدرس في مدرسة الأحد التابعة للكنيسة النظامية "أندرو" في جرافتون غرب فرجينيا، وبعد موت والدتها بسنتين بدأت حملة واسعة النطاق شملت رجال الأعمال والوزراء ورجال الكونجرس؛ لإعلان يوم عيد الأم عطلة رسمية في البلاد، بحجة أن الأطفال لا يقدرون ما تفعله الأمهات خلال حياتهم، فعسى أن يزيد هذا اليوم من إحساس الأطفال والأبناء بالأمهات والآباء، وتقوى الروابط العائلية المفقودة. حرصت الكنيسة على تكريم آنا جارفس في جرافتون غرب فرجينيا وفلادلفيا وبنسلفانيا في العاشر من مايو 1908، وكانت هذه بداية الاحتفال بعيد الأم في الولايات المتحدة.
وكان القرنفل من ورود والدتها المفضلة وخصوصًا الأبيض؛ بحجة أنه يعبر عن الطيبة والنقاء والتحمل الذي يتميز به حب الأم، ومع مرور الوقت أصبح القرنفل الأحمر إشارة إلى أن الأم على قيد الحياة، والأبيض أن الأم رحلت عن الحياة.
وكان أول إعلان رسمي عن عيد الأم في الولايات المتحدة غرب فرجينيا ولاية أوكلاهوما سنة 1910، ومع عام 1911 كانت كل الولايات المتحدة قد احتفلت بهذا اليوم، وفي هذا الوقت دخلت الاحتفالات كلاً من المكسيك، وكندا، والصين، واليابان، وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، ثم وافق الكونجرس الأمريكي رسميًّا على الإعلان عن الاحتفال بيوم الأم، في العاشر من مايو سنة 1913، وقد اختير يوم الأحد الأول من شهر مايو للاحتفال بعيد الأم.
في العالم العربي(/2)
بدأت فكرة الاحتفال بعيد الأم في مصر على يد الأخوين "مصطفى وعلي أمين" مؤسسي دار أخبار اليوم الصحفية، فقد وردت إلى علي أمين رسالة من أم تشكو له جفاء أولادها وسوء معاملتهم لها، وتتألم من نكرانهم للجميل. وتصادف أن زارت إحدى الأمهات مصطفى أمين في مكتبه، وحكت له قصتها التي تتلخص في أنها ترمَّلت وأولادها صغار، فلم تتزوج، وأوقفت حياتها على أولادها، تقوم بدور الأب والأم، وظلت ترعى أولادها بكل طاقتها، حتى تخرجوا في الجامعة، وتزوجوا، واستقل كل منهم بحياته، ولم يعودوا يزورونها إلا على فترات متباعدة للغاية، فكتب مصطفى أمين وعلي أمين في عمودهما الشهير "فكرة" يقترحان تخصيص يوم للأم يكون بمثابة تذكرة بفضلها، وأشارا إلى أن أهل الغرب يفعلون ذلك، وإلى أن الإسلام يحض على الاهتمام بالأم، فانهالت الخطابات عليهما تشجع الفكرة، واقترح البعض أن يخصص أسبوعا للأم وليس مجرد يوم واحد، ورفض آخرون الفكرة بحجة أن كل أيام السنة للأم وليس يومًا واحدًا فقط، لكن أغلب القراء وافقوا على فكرة تخصيص يوم واحد، وشارك القراء في اختيار يوم 21 مارس ليكون عيدًا للأم، وهو أول أيام فصل الربيع؛ ليكون رمزًا للتفتح والصفاء والمشاعر الجميلة. واحتفلت مصر بأول عيد أم في 21 مارس سنة 1956. ومن مصر خرجت الفكرة إلى البلاد العربية الأخرى. واقترح البعض في وقت من الأوقات تسمية عيد الأم بعيد الأسرة؛ ليكون تكريمًا للأب أيضًا، لكن هذه الفكرة لم تلق قبولاً كبيرًا، واعتبر الناس ذلك انتقاصًا من حق الأم، أو أن أصحاب فكرة عيد الأسرة "يستكثرون" على الأم يومًا يُخصص لها. وحتى الآن تحتفل البلاد العربية بهذا اليوم من خلال أجهزة الإعلام المختلفة. ويتم تكريم الأمهات المثاليات اللواتي عشن قصص كفاح عظيمة من أجل أبنائهن في كل صعيد. انتهى
ولا عجب بعدها من معرفة أن أكثر من يحتفل بهذه الأعياد اليهود والنصارى والمتشبهون بهم، ويُظهرون ذلك على أنه اهتمام بالمرأة والأم، وتحتفل بعض الأندية الماسونية في العالم العربي بعيد الأم كنوادي الروتاري والليونز. وبالمناسبة فإن يوم عيد الأم وهو 21 مارس هو رأس السنة عند الأقباط النصارى، وهو يوم عيد النيروز عند الفرس المجوس.
الحكم الشرعي في عيد الأم:
الإسلام غني عما ابتدعه الآخرون سواءً عيد الأم أو غيره، وفي تشريعاته من البر بالأمهات ما يغني عن عيد الأم المبتدع.
1. قال علماء اللجنة الدائمة:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد:
أولا: العيد اسم لما يعود من الاجتماع على وجه معتاد إما بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع أو نحو ذلك فالعيد يجمع أمورا منها: يوم عائد كيوم عيد الفطر ويوم الجمعة، ومنها: الاجتماع في ذلك اليوم، ومنها: الأعمال التي يقام بها في ذلك اليوم من عبادات وعادات.ثانيا: ما كان من ذلك مقصودا به التنسك والتقرب أو التعظيم كسبا للأجر، أو كان فيه تشبه بأهل الجاهلية أو نحوهم من طوائف الكفار فهو بدعة محدثة ممنوعة داخلة في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه البخاري ومسلم، مثال ذلك الاحتفال بعيد المولد وعيد الأم والعيد الوطني، لما في الأول من إحداث عبادة لم يأذن بها الله، وكما في ذلك التشبه بالنصارى ونحوهم من الكفرة، ولما في الثاني والثالث من التشبه بالكفار، وما كان المقصود منه تنظيم الأعمال مثلا لمصلحة الأمة وضبط أمورها كأسبوع المرور وتنظيم مواعيد الدراسة والاجتماع بالموظفين للعمل ونحو ذلك مما لا يفضي إلى التقرب به والعبادة والتعظيم بالأصالة، فهو من البدع العادية التي لا يشملها قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في امرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، فلا حرج فيه بل يكون مشروعاً.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء " فتاوى اللجنة الدائمة " ( 3 / 59، 61 ).
2. وقالوا – أيضاً -:
لا يجوز الاحتفال بما يسمى " عيد الأم " ولا نحوه من الأعياد المبتدعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "، وليس الاحتفال بعيد الأم من عمله صلى الله عليه وسلم ولا من عمل أصحابه رضي الله عنهم ولا من عمل سلف الأمة، وإنما هو بدعة وتشبه بالكفار.
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 3 / 86 ).
3. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز:(/3)
اطلعتُ على ما نشرته صحيفة (الندوة) في عددها الصادر بتاريخ 30 / 11 / 1384 هـ تحت عنوان (تكريم الأم.. وتكريم الأسرة) فألفيت الكاتب قد حبذ من بعض الوجوه ما ابتدعه الغرب من تخصيص يوم في السنة يحتفل فيه بالأم وأَوْرَدَ عليه شيئا غفل عنه المفكرون في إحداث هذا اليوم وهي ما ينال الأطفال الذين ابتلوا بفقد الأم من الكآبة والحزن حينما يرون زملائهم يحتفلون بتكريم أمهاتهم واقترح أن يكون الاحتفال للأسرة كلها واعتذر عن عدم مجيء الإسلام بهذا العيد؛ لأن الشريعة الإسلامية قد أوجبت تكريم الأم.
ولقد أحسن الكاتب فيما اعتذر به عن الإسلام وفيما أورده من سيئة هذا العيد التي قد غفل عنها من أحدثه ولكنه لم يشر إلى ما في البدع من مخالفة صريح النصوص الواردة عن رسول الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام ولا إلى ما في ذلك من الأضرار ومشابهة المشركين والكفار فأردت بهذه الكلمة الوجيزة أن أنبه الكاتب وغيره على ما في هذه البدعة وغيرها مما أحدثه أعداء الإسلام والجاهلون به من البدع في الدين حتى شوهوا سمعته ونفروا الناس منه وحصل بسبب ذلك من اللبس والفرقة ما لا يعلم مدى ضرره وفساده إلا الله سبحانه.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التحذير من المحدثات في الدين وعن مشابهة أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " متفق عليه وفي لفظ لمسلم " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد "، والمعنى:
فهو مردود على ما أحدثه وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة: " أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة " خرجه مسلم في صحيحه، ولا ريب أن تخصيص يوم من السنة للاحتفال بتكريم الأم أو الأسرة من محدثات الأمور التي لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته المرضيون، فوجب تركه وتحذير الناس منه، والاكتفاء بما شرعه الله ورسوله.
وقد سبق أن الكاتب أشار إلى أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتكريم الأم والتحريض على برها كل وقت وقد صدق في ذلك فالواجب على المسلمين أن يكتفوا بما شرعه الله لهم من بر الوالدة وتعظيمها والإحسان إليها والسمع لها في المعروف كل وقت وأن يحذروا من محدثات الأمور التي حذرهم الله منها والتي تفضي بهم إلى مشابهة أعداء الله والسير في ركابهم واستحسان ما استحسنوه من البدع, وليس ذلك خاصا بالأم بل قد شرع الله للمسلمين بر الوالدين جميعا وتكريمهما والإحسان إليهما وصلة جميع القرابة وحذرهم سبحانه من العقوق والقطيعة وخص الأم بمزيد العناية والبر؛ لأن عنايتها بالولد أكبر ما ينالها من المشقة في حمله وإرضاعه وتربيته أكثر قال الله سبحانه: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } الإسراء/23، وقال تعالى: { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } لقمان/14، وقال تعالى: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } محمد/22، 23.
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور، وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله أي الناس أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك ثم الأقرب فالأقرب.
وقال عليه الصلاة والسلام " لا يدخل الجنة قاطع "، يعني: قاطع رحم، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أحب أن يبسط له في رزقه ويُنسأ له في أجَله فليصل رحمه "، والآيات والأحاديث في بر الوالدين وصلة الرحم وبيان تأكيد حق الأم كثيرة مشهورة وفيما ذكرنا منها كفاية ودلالة على ما سواه وهي تدل مَنْ تأملها دلالة ظاهرة على وجوب إكرام الوالدين جميعا واحترامهما والإحسان إليهما وإلى سائر الأقارب في جميع الأوقات وترشد إلى أن عقوق الوالدين وقطيعة الرحم من أقبح الصفات والكبائر التي توجب النار وغضب الجبار نسأل الله العافية من ذلك.
وهذا أبلغ وأعظم مما أحدثه الغرب من تخصيص الأم بالتكريم في يوم من السنة فقط ثم إهمالها في بقية العام مع الإعراض عن حق الأب وسائر الأقارب ولا يخفى على اللبيب ما يترتب على هذا الإجراء من الفساد الكبير مع كونه مخالفا لشرع أحكم الحاكمين وموجباً للوقوع فيما حذر منه رسوله الأمين.(/4)
ويلتحق بهذا التخصيص والابتداع ما يفعله كثير من الناس من الاحتفال بالموالد وذكرى استقلال البلاد أو الاعتلاء على عرش الملك وأشباه ذلك فإن هذه كلها من المحدثات التي قلد فيها كثير من المسلمين غيرهم من أعداء الله وغفلوا عما جاء به الشرع المطهر من التحذير من ذلك والنهي عنه وهذا مصداق الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: " لتتبعن سَنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن "،
وفي لفظ آخر: " لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قالوا: يا رسول الله فارس والروم؟ قال: فمن؟ "، والمعنى فمن المراد إلا أولئك فقد وقع ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من متابعة هذه الأمة إلا من شاء الله منها لمن كان قبلهم من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الكفرة في كثير من أخلاقهم وأعمالهم حتى استحكمت غربة الإسلام وصار هدي الكفار وما هم عليه من الأخلاق والأعمال أحسن عند الكثير من الناس مما جاء به الإسلام وحتى صار المعروف منكرا والمنكر معروفا والسنة بدعة والبدعة سنة عند أكثر الخلق بسبب الجهل والإعراض عما جاء به الإسلام من الأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة المستقيمة فإنا لله وإنا إليه راجعون
ونسأل الله أن يوفق المسلمين للفقه في الدين وأن يصلح أحوالهم ويهدي قادتهم وأن يوفق علماءنا وكتابنا لنشر محاسن ديننا والتحذير من البدع والمحدثات التي تشوه سمعته وتنفر منه إنه على كل شيء قدير وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ومن سلك سبيله واتبع سنته إلى يوم الدين.
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " ( 5 / 189 ).
4. وقال الشيخ صالح الفوزان:
ومن الأمور التي يجري تقليد الكفار فيها: تقليدهم في أمور العبادات، كتقليدهم في الأمور الشركية من البناء على القبور، وتشييد المشاهد عليها والغلو فيها. وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "، وأخبر أنهم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه الصور، وإنهم شرار الخلق، وقد وقع في هذه الأدلة من الشرك الأكبر بسبب الغلو في القبور ما هو معلوم لدى الخاص والعام وسبب ذلك تقليد اليهود والنصارى.
ومن ذلك تقليدهم في الأعياد الشركية والبدعية كأعياد الموالد عند مولد الرسول صلى الله عليه وسلم وأعياد موالد الرؤساء والملوك، وقد تسمى هذه الأعياد البدعية أو الشركية بالأيام أو الأسابيع – كاليوم الوطني للبلاد، ويوم الأم وأسبوع النظافة – وغير ذلك من الأعياد اليومية والأسبوعية، وكلها وافدة على المسلمين من الكفار؛ وإلا فليس في الإسلام إلا عيدان: عيد الفطر وعيد الأضحى، وما عداهما فهو بدعة وتقليد للكفار، فيجب على المسلمين أن ينتبهوا لذلك ولا يغتروا بكثرة من يفعله ممن ينتسب إلى الإسلام وهو يجهل حقيقة الإسلام، فيقع في هذه الأمور عن جهل، أو لا يجهل حقيقة الإسلام ولكنه يتعمد هذه الأمور، فالمصيبة حينئذ أشد، { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً } الأحزاب/21.
من خطبة " الحث على مخالفة الكفار"
5. وقال شيخ الإسلام:
وبهذا يتبين لك كمال موقع الشريعة الحنيفية، وبعض حكم ما شرع الله لرسوله [ من ] مباينة الكفار ومخالفتهم في عامة الأمور؛ لتكون المخالفة أحسم لمادة الشر وأبعد عن الوقوع فيما وقع فيه الناس، فينبغي للمسلم إذا طلب منه أهله وأولاده شيئاً من ذلك أن يحيلهم على ما عند الله ورسوله ويقضي لهم في عيد الله من الحقوق ما يقطع استشرافهم إلى غيره فإن لم يرضوا فلا حول ولا قوة إلا بالله ومن أغضب أهله لله أرضاه الله وأرضاهم. فليحذر العاقل من طاعة النساء في ذلك وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء "، وأكثر ما يفسد الملك والدول طاعة النساء، ففي صحيح البخاري عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة "... وقد قال صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين لما راجعنه في تقديم أبي بكر: " إنكن صواحب يوسف "، يريد أن النساء من شأنهن مراجعة ذي اللب كما قال في الحديث الآخر: " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب ذي اللب من إحداكن ".
قال بعض العلماء: ينبغي للرجل أن يجتهد إلى الله في إصلاح زوجته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " من تشبه بقوم فهو منهم ".
" مجموع الفتاوى " ( 25 / 324 – 326 ).
6. وسئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن حكم الاحتفال بما يسمى عيد الأم؟.
فأجاب:(/5)
إن كل الأعياد التي تخالف الأعياد الشرعية كلها أعياد بدع حادثة لم تكن معروفة في عهد السلف الصالح وربما يكون منشؤها من غير المسلمين أيضا؛ فيكون فيها مع البدعة مشابهة أعداء الله سبحانه وتعالى، والأعياد الشرعية معروفة عند أهل الإسلام، وهي عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع ( يوم الجمعة ) وليس في الإسلام أعياد سوى هذه الأعياد الثلاثة، وكل أعياد أحدثت سوى ذلك فإنها مردودة على محدثيها وباطلة في شريعة الله سبحانه وتعالى، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " أي: مردود عليه غير مقبول عند الله وفي لفظ: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "، وإذا تبين ذلك فإنه لا يجوز في العيد الذي ذكر في السؤال والمسمى عيد الأم، لا يجوز فيه إحداث شيء من شعائر العيد، كإظهار الفرح والسرور، وتقديم الهدايا وما أشبه ذلك، والواجب على المسلم أن يعتز بدينه ويفتخر به وأن يقتصر على ما حده الله تعالى لعباده فلا يزيد فيه ولا ينقص منه، والذي ينبغي للمسلم أيضا ألا يكون إمعة يتبع كل ناعق بل ينبغي أن يُكوِّن شخصيته بمقتضى شريعة الله تعالى حتى يكون متبوعا لا تابعا، وحتى يكون أسوة لا متأسياً؛ لأن شريعة الله - والحمد لله - كاملة من جميع الوجوه كما قال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا }، والأم أحق من أن يحتفى بها يوماً واحداً في السنة، بل الأم لها الحق على أولادها أن يرعوها، وأن يعتنوا بها، وأن يقوموا بطاعتها في غير معصية الله عز وجل في كل زمان ومكان.
" فتاوى إسلامية " (1 / 124) ومجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " (2 / 301، 302).
والله أعلم.(/6)
عيد الأم! نبذة تاريخية وحكمه عند أهل العلم ...
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
تمهيد
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن وقوع متابعة أمته للأمم السابقة من اليهود والنصارى والفرس ، وليس هذا – بلا شك – من المدح لفعلهم هذا بل هو من الذم والوعيد ، فعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لتتبعن سَنن من قبلكم شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ ، حتى لو سلكوا جحر ضبٍّ لسلكتموه ، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن !؟ " ، رواه البخاري ( 3269 ) ومسلم ( 2669 ) .
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ ، فقيل : يا رسول الله كفارس والروم ؟ فقال : ومن الناس إلا أولئك ؟ " .رواه البخاري ( 6888 ) .
أخذ القرون : المشي على سيرتهم .
وقد تابع جهلة هذه الأمة ومبتدعتها وزنادقتها الأمم السابقة من اليهود والنصارى والفرس في عقائدهم ومناهجهم وأخلاقهم وهيئاتهم ، ومما يهمنا – الآن – أن ننبه عليه في هذه الأيام هو اتباعهم ومشابهتم في ابتداع " عيد الأم " أو " عيد الأسرة " ، وهو اليوم الذي ابتدعه النصارى تكريماً – في زعمهم – للأم ، فصار يوماً معظَّما تعطَّل فيه الدوائر ويصل فيه الناس أمهاتهم ويبعثون لهن الهدايا والرسائل الرقيقة ، فإذا انتهى اليوم عادت الأمور لما كانت عليه من القطيعة والعقوق .
والعجيب من المسلمين أن يحتاجوا لمثل هذه المشابهة وقد أوجب الله تعالى عليهم بر الأم وحرَّم عليهم عقوقها وجعل الجزاء على ذلك أرفع الدرجات .
تعريف العيد
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
فالعيد اسم لما يعود من الاجتماع على وجه معتاد ، عائد : إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك " اقتضاء الصراط المستقيم " ( 1 / 441 ) .
وقال ابن عابدين – رحمه الله - : " سُمي العيد بهذا الاسم ؛ لأن لله تعالى فيه عوائد الإحسان ، أي : أنواع الإحسان العائدة على عباده في كل يوم ، منها : الفطر بعد المنع عن الطعام ، وصدقة الفطر ، وإتمام الحج بطواف الزيارة ، ولحوم الأضاحي ، وغير ذلك ، ولأن العادة فيه الفرح والسرور والنشاط والحبور " . " حاشية ابن عابدين " ( 2 / 165 ) .
كم عيد في الإسلام ؟
يلحظ المسلم كثرة الأعياد عند المسلمين في هذه الأزمنة ، مثل " عيد الشجرة " ، و " عيد العمال " و " عيد الجلوس " و " عيد الميلاد " …الخ وهكذا في قائمة طويلة ، وكل هذا من اتباع اليهود والنصارى والمشركين ، ولا أصل لهذا في الدين ، وليس في الإسلام إلا عيد الأضحى وعيد الفطر .
عن أنس بن مالك قال كان لأهل الجاهلية يومان في كل سنة يلعبون فيهما فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال : كان لكم يومان تلعبون فيهما وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما : يوم الفطر ، ويوم الأضحى .
رواه أبو داود ( 1134 ) والنسائي ( 1556 ) ، وصححه الشيخ الألباني .
بر الأم
قال الله تعالى : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } [ النساء / 36 ] .
وقال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } [ الإسراء / 23 ] .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : ثم أمك ، قال : ثم من ؟ قال : ثم أمك ، قال : ثم من ؟ قال : ثم أبوك . رواه البخاري ( 5626 ) ومسلم ( 2548 ) .
قال الحافظ ابن حجر :
قال ابن بطال : مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر ، قال : وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها ثم تشارك الأب في التربية ، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهنٍ وفصاله في عامين } ، فسوَّى بينهما في الوصاية ، وخص الأم بالأمور الثلاثة ، قال القرطبي : المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر ، وتقدَّم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة ، وقال عياض : وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب ، وقيل : يكون برهما سواء ، ونقله بعضهم عن مالك والصواب الأول .
" فتح الباري " ( 10 / 402 ) .
بل وحتى الأم المشركة فإن الشرع المطهر الحكيم رغَّب بوصلها :(/1)
فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : قدمتْ عليَّ أمِّي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : قدمتْ عليَّ أمِّي وهي راغبة أفأصل أمي ؟ قال : نعم صِلِي أمَّك . رواه البخاري ( 2477 ) .
الأم في بلاد الكفر
إن المتتبع لأحوال الأسرة عموما وللأم خاصة في المجتمعات الغير إسلامية ليسمع ويقرأ عجباً ، فلا تكاد تجد أسرة متكاملة يصل أفرادها بعضهم بعضاً فضلا عن لقاءات تحدث بينهم وفضلا عن اجتماع دائم .
وكما قال بعض المشاهدين لبلاد الكفر : إنك قد تجد في الأسواق أو الطرقات أما وابنها أو ابنتها ، أو أبا وابنه وابنته ، لكنه من النادر أن تجد الأسرة كاملة تتسوق أو تمشي في الطرقات .
وعندما يصير الأب أو الأم في حالة الكِبَر يسارع البار ! بهما إلى وضعهما في دور العجزة والمسنِّين ، وقد ذهب بعض المسلمين إلى بعض تلك الدور وسأل عشرة من المسنِّين عن أمنيته ، فكلهم قالوا : الموت !! وما ذلك إلى بسبب ما يعيشه الواحد منهم من قهر وحزن وأسى على الحال التي وصل الواحد منهم إليها وتخلى عنهم فلذات أكبادهم في وقت أحوج ما يكون الواحد إليهم .
وقت عيد الأم عند الدول
الاحتفال بعيد الأم يختلف تاريخه من دولة لأخرى ، وكذلك أسلوب الاحتفال به ، فالنرويج تقيمه في الأحد الثاني من فبراير ، أما في الأرجنتين فهو يوم الأحد الثاني من أكتوبر ، وفي لبنان يكون اليوم الأول من فصل الربيع ، وجنوب أفريقيا تحتفل به يوم الأحد الأول من مايو.
أما في فرنسا فيكون الاحتفال أكثر بالعيد كعيد الأسرة في يوم الأحد الأخير من مايو حيث يجتمع أفراد الأسرة للعشاء معاً ثم تقدم كيكة للأم.
والسويد أيضا عندها عطلة عيد الأسرة في الأحد الأخير من مايو وقبلها بأيام يقوم الصليب الأحمر السويدي ببيع وردات صغيرة من البلاستيك تقدم حصيلتها للأمهات اللاتي يكن في عطلة لرعاية أطفالهن . وفي اليابان يكون الاحتفال في يوم الأحد الثاني من مايو مثل أمريكا الشمالية وفيه يتم عرض صور رسمها أطفال بين السادسة والرابعة عشرة من عمرهم وتدخل ضمن معرض متجول يحمل اسم "أمي" ويتم نقله كل 4 سنوات يتجول المعرض في عديد من الدول .
عيد الأم ، نبذة تاريخية
قال بعض الباحثين :
يزعم بعض المؤرخين أن عيد الأم كان قد بدأ عند الإغريق في احتفالات عيد الربيع، وكانت هذه الاحتفالات مهداة إلى الإله الأم "ريا" زوجة "كرونس" الإله الأب، وفي روما القديمة كان هناك احتفال مشابه لهذه الاحتفالات كان لعبادة أو تبجيل "سيبل" –أم أخرى للآلهة. وقد بدأت الأخيرة حوالي 250 سنة قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام؛ وهذه الاحتفالات الدينية عند الرومان كانت تسمى "هيلاريا" وتستمر لثلاثة أيام من 15 إلى 18 مارس .
الأحد في إنجلترا
وهو يوم شبيه باحتفالات عيد الأم الحالية، ولكنه كان يسمى أحد الأمهات أو أحد نصف الصوم، لأنه كان يُقام في فترة الصوم الكبير عندهم، والبعض يقول إن الاحتفالات التي كانت تقام لعبادة وتكريم "سيبل" الرومانية بُدِّلت من قبل الكنيسة باحتفالات لتوقير وتبجيل مريم عليها السلام ، وهذه العادة بدأت بحَثِّ الأفراد على زيارة الكنيسة التابعين لها والكنيسة الأم محمَّلين بالقرابين، وفي عام 1600 بدأ الشباب والشابات ذوو الحرف البسيطة والخادمون في زيارة أمهاتهم في "أحد الأمهات" مُحمَّلين بالهدايا والمأكولات، هذا عن انجلترا أما عن الولايات المتحدة الأمريكية فكانت هناك قصة أخرى.
الولايات المتحدة
آنا.م.جارفس: (1864-1948):
هي صاحبة فكرة ومشروع جعل يوم عيد الأم إجازة رسمية في الولايات المتحدة، فهي لم تتزوج قط وكانت شديدة الارتباط بوالدتها، وكانت ابنه للدير، وتدرس في مدرسة الأحد التابعة للكنيسة النظامية "أندرو" في جرافتون غرب فرجينيا، وبعد موت والدتها بسنتين بدأت حملة واسعة النطاق شملت رجال الأعمال والوزراء ورجال الكونجرس؛ لإعلان يوم عيد الأم عطلة رسمية في البلاد، وكان لديها شعور أن الأطفال لا يقدرون ما تفعله الأمهات خلال حياتهم، وكانت تأمل أن يزيد هذا اليوم من إحساس الأطفال والأبناء بالأمهات والآباء، وتقوى الروابط العائلية المفقودة
البداية:
قامت الكنيسة بتكريم الآنسة آنا جارفس في جرافتون غرب فرجينيا وفلادلفيا وبنسلفانيا في العاشر من مايو 1908، وكانت هذه بداية الاحتفال بعيد الأم في الولايات المتحدة .
وكان القرنفل من ورود والدتها المفضلة وخصوصًا الأبيض ؛ لأنه يعبر عن الطيبة والنقاء والتحمل والذي يتميز به حب الأم، ومع مرور الوقت أصبح القرنفل الأحمر إشارة إلى أن الأم على قيد الحياة، والأبيض أن الأم رحلت عن الحياة .(/2)
وأول إعلان رسمي عن عيد الأم في الولايات المتحدة كان غرب فرجينيا ولاية أوكلاهوما سنة 1910، ومع عام 1911 كانت كل الولايات المتحدة قد احتفلت بهذا اليوم، ومع هذا الوقت كانت الاحتفالات قد دخلت كلاً من المكسيك، وكندا، والصين، واليابان، وأمريكا اللاتينية وأفريقيا ، ثم وافق الكونجرس الأمريكي رسميًّا على الإعلان عن الاحتفال بيوم الأم، وذلك في العاشر من مايو سنة 1913، وقد اختير يوم الأحد الأول من شهر مايو للاحتفال بعيد الأم .
عيد الأم العربي
بدأت فكرة الاحتفال بعيد الأم العربي في مصر على يد الأخوين "مصطفى وعلي أمين" مؤسسي دار أخبار اليوم الصحفية.. فقد وردت إلى علي أمين ذاته رسالة من أم تشكو له جفاء أولادها وسوء معاملتهم لها، وتتألم من نكرانهم للجميل.. وتصادف أن زارت إحدى الأمهات مصطفى أمين في مكتبه.. وحكت له قصتها التي تتلخص في أنها ترمَّلت وأولادها صغار، فلم تتزوج، وأوقفت حياتها على أولادها، تقوم بدور الأب والأم، وظلت ترعى أولادها بكل طاقتها، حتى تخرجوا في الجامعة، وتزوجوا، واستقل كل منهم بحياته، ولم يعودوا يزورونها إلا على فترات متباعدة للغاية، فكتب مصطفى أمين وعلي أمين في عمودهما الشهير "فكرة" يقترحان تخصيص يوم للأم يكون بمثابة تذكرة بفضلها، وأشارا إلى أن الغرب يفعلون ذلك، وإلى أن الإسلام يحض على الاهتمام بالأم، فانهالت الخطابات عليهما تشجع الفكرة، واقترح البعض أن يخصص أسبوع للأم وليس مجرد يوم واحد، ورفض آخرون الفكرة بحجة أن كل أيام السنة للأم وليس يومًا واحدًا فقط، لكن أغلبية القراء وافقوا على فكرة تخصيص يوم واحد، وشارك القراء في اختيار يوم 21 مارس ليكون عيدًا للأم، وهو أول أيام فصل الربيع؛ ليكون رمزًا للتفتح والصفاء والمشاعر الجميلة.. واحتفلت مصر بأول عيد أم في 21 مارس سنة 1956م .. ومن مصر خرجت الفكرة إلى البلاد العربية الأخرى .. وقد اقترح البعض في وقت من الأوقات تسمية عيد الأم بعيد الأسرة ليكون تكريمًا للأب أيضًا، لكن هذه الفكرة لم تلق قبولاً كبيرًا، واعتبر الناس ذلك انتقاصًا من حق الأم، أو أن أصحاب فكرة عيد الأسرة "يستكثرون" على الأم يومًا يُخصص لها.. وحتى الآن تحتفل البلاد العربية بهذا اليوم من خلال أجهزة الإعلام المختلفة.. ويتم تكريم الأمهات المثاليات اللواتي عشن قصص كفاح عظيمة من أجل أبنائهن في كل صعيد . انتهى
ولا عجب بعدها من معرفة أن أكثر من يحتفل بهذه الأعياد اليهود والنصارى والمتشبهون بهم ، ويُظهرون ذلك على أنه اهتمام بالمرأة والأم وتحتفل بعض الأندية الماسونية في العالم العربي بعيد الأم كنوادي الروتاري والليونز .
وبالمناسبة فإن يوم عيد الأم وهو 21 مارس هو رأس السنة عند الأقباط النصارى ، وهو يوم عيد النوروز عند الأكراد .
الموقف الشرعي من عيد الأم :
الإسلام غني عما ابتدعه الآخرون سواءً عيد الأم أو غيره ، وفي تشريعاته من البر بالأمهات ما يغني عن عيد الأم المبتدع .
فتاوى أهل العلم
1. قال علماء اللجنة الدائمة :
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد :
أولا : العيد اسم لما يعود من الاجتماع على وجه معتاد إما بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع أو نحو ذلك فالعيد يجمع أمورا منها : يوم عائد كيوم عيد الفطر ويوم الجمعة ، ومنها : الاجتماع في ذلك اليوم ، ومنها : الأعمال التي يقام بها في ذلك اليوم من عبادات وعادات .ثانيا : ما كان من ذلك مقصودا به التنسك والتقرب أو التعظيم كسبا للأجر ، أو كان فيه تشبه بأهل الجاهلية أو نحوهم من طوائف الكفار فهو بدعة محدثة ممنوعة داخلة في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم " من احدث في امرنا هذا ما ليس منه فهو رد " رواه البخاري ومسلم ، مثال ذلك الاحتفال بعيد المولد وعيد الأم والعيد الوطني لما في الأول من إحداث عبادة لم يأذن بها الله ، وكما في ذلك التشبه بالنصارى ونحوهم من الكفرة ، ولما في الثاني والثالث من التشبه بالكفار ، وما كان المقصود منه تنظيم الأعمال مثلا لمصلحة الأمة وضبط أمورها كأسبوع المرور وتنظيم مواعيد الدراسة والاجتماع بالموظفين للعمل ونحو ذلك مما لا يفضي إلى التقرب به والعبادة والتعظيم بالأصالة ، فهو من البدع العادية التي لا يشملها قوله صلى الله عليه وسلم : " من أحدث في امرنا هذا ما ليس منه فهو رد " فلا حرج فيه بل يكون مشروعاً .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 3 / 59 ، 61 ) .
2. وقالوا – أيضاً - :
لا يجوز الاحتفال بما يسمى " عيد الأم " ولا نحوه من الأعياد المبتدعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ، وليس الاحتفال بعيد الأم من عمله صلى الله عليه وسلم ولا من عمل أصحابه رضي الله عنهم ولا من عمل سلف الأمة ، وإنما هو بدعة وتشبه بالكفار .(/3)
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 3 / 86 ) .
3. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز :
اطلعتُ على ما نشرته صحيفة (الندوة) في عددها الصادر بتاريخ 30 / 11 / 1384 هـ تحت عنوان (تكريم الأم.. وتكريم الأسرة) فألفيت الكاتب قد حبذ من بعض الوجوه ما ابتدعه الغرب من تخصيص يوم في السنة يحتفل فيه بالأم وأَوْرَدَ عليه شيئا غفل عنه المفكرون في إحداث هذا اليوم وهي ما ينال الأطفال الذين ابتلوا بفقد الأم من الكآبة والحزن حينما يرون زملائهم يحتفلون بتكريم أمهاتهم واقترح أن يكون الاحتفال للأسرة كلها واعتذر عن عدم مجيء الإسلام بهذا العيد ؛ لأن الشريعة الإسلامية قد أوجبت تكريم الأم .
ولقد أحسن الكاتب فيما اعتذر به عن الإسلام وفيما أورده من سيئة هذا العيد التي قد غفل عنها من أحدثه ولكنه لم يشر إلى ما في البدع من مخالفة صريح النصوص الواردة عن رسول الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام ولا إلى ما في ذلك من الأضرار ومشابهة المشركين والكفار فأردت بهذه الكلمة الوجيزة أن أنبه الكاتب وغيره على ما في هذه البدعة وغيرها مما أحدثه أعداء الإسلام والجاهلون به من البدع في الدين حتى شوهوا سمعته ونفروا الناس منه وحصل بسبب ذلك من اللبس والفرقة ما لا يعلم مدى ضرره وفساده إلا الله سبحانه.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التحذير من المحدثات في الدين وعن مشابهة أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين مثل قوله صلى الله عليه وسلم : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " متفق عليه وفي لفظ لمسلم " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " ، والمعنى :
فهو مردود على ما أحدثه وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة : " أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة " خرجه مسلم في صحيحه ، ولا ريب أن تخصيص يوم من السنة للاحتفال بتكريم الأم أو الأسرة من محدثات الأمور التي لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته المرضيون ، فوجب تركه وتحذير الناس منه ، والاكتفاء بما شرعه الله ورسوله .
وقد سبق أن الكاتب أشار إلى أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتكريم الأم والتحريض على برها كل وقت وقد صدق في ذلك فالواجب على المسلمين أن يكتفوا بما شرعه الله لهم من بر الوالدة وتعظيمها والإحسان إليها والسمع لها في المعروف كل وقت وأن يحذروا من محدثات الأمور التي حذرهم الله منها والتي تفضي بهم إلى مشابهة أعداء الله والسير في ركابهم واستحسان ما استحسنوه من البدع, وليس ذلك خاصا بالأم بل قد شرع الله للمسلمين بر الوالدين جميعا وتكريمهما والإحسان إليهما وصلة جميع القرابة وحذرهم سبحانه من العقوق والقطيعة وخص الأم بمزيد العناية والبر؛ لأن عنايتها بالولد أكبر ما ينالها من المشقة في حمله وإرضاعه وتربيته أكثر قال الله سبحانه: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } الإسراء/23 ، وقال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } لقمان/14 ، وقال تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } محمد/22 ، 23 .
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال : ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور ، وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا رسول الله أي الناس أحق بحسن صحابتي ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : ثم أمك ، قال : ثم من ؟ قال : ثم أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أبوك ثم الأقرب فالأقرب .
وقال عليه الصلاة والسلام " لا يدخل الجنة قاطع " ، يعني : قاطع رحم ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : من أحب أن يبسط له في رزقه ويُنسأ له في أجَله فليصل رحمه " ، والآيات والأحاديث في بر الوالدين وصلة الرحم وبيان تأكيد حق الأم كثيرة مشهورة وفيما ذكرنا منها كفاية ودلالة على ما سواه وهي تدل مَنْ تأملها دلالة ظاهرة على وجوب إكرام الوالدين جميعا واحترامهما والإحسان إليهما وإلى سائر الأقارب في جميع الأوقات وترشد إلى أن عقوق الوالدين وقطيعة الرحم من أقبح الصفات والكبائر التي توجب النار وغضب الجبار نسأل الله العافية من ذلك .(/4)
وهذا أبلغ وأعظم مما أحدثه الغرب من تخصيص الأم بالتكريم في يوم من السنة فقط ثم إهمالها في بقية العام مع الإعراض عن حق الأب وسائر الأقارب ولا يخفى على اللبيب ما يترتب على هذا الإجراء من الفساد الكبير مع كونه مخالفا لشرع أحكم الحاكمين وموجباً للوقوع فيما حذر منه رسوله الأمين .
ويلتحق بهذا التخصيص والابتداع ما يفعله كثير من الناس من الاحتفال بالموالد وذكرى استقلال البلاد أو الاعتلاء على عرش الملك وأشباه ذلك فإن هذه كلها من المحدثات التي قلد فيها كثير من المسلمين غيرهم من أعداء الله وغفلوا عما جاء به الشرع المطهر من التحذير من ذلك والنهي عنه وهذا مصداق الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " لتتبعن سَنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ، قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن " ،
وفي لفظ آخر: " لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، قالوا : يا رسول الله فارس والروم ؟ قال : فمن ؟ " ، والمعنى فمن المراد إلا أولئك فقد وقع ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من متابعة هذه الأمة إلا من شاء الله منها لمن كان قبلهم من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الكفرة في كثير من أخلاقهم وأعمالهم حتى استحكمت غربة الإسلام وصار هدي الكفار وما هم عليه من الأخلاق والأعمال أحسن عند الكثير من الناس مما جاء به الإسلام وحتى صار المعروف منكرا والمنكر معروفا والسنة بدعة والبدعة سنة عند أكثر الخلق بسبب الجهل والإعراض عما جاء به الإسلام من الأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة المستقيمة فإنا لله وإنا إليه راجعون
ونسأل الله أن يوفق المسلمين للفقه في الدين وأن يصلح أحوالهم ويهدي قادتهم وأن يوفق علماءنا وكتابنا لنشر محاسن ديننا والتحذير من البدع والمحدثات التي تشوه سمعته وتنفر منه إنه على كل شيء قدير وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ومن سلك سبيله واتبع سنته إلى يوم الدين .
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " ( 5 / 189 ) .
4. وقال الشيخ صالح الفوزان :
ومن الأمور التي يجري تقليد الكفار فيها : تقليدهم في أمور العبادات ، كتقليدهم في الأمور الشركية من البناء على القبور ، وتشييد المشاهد عليها والغلو فيها . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ، وأخبر أنهم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ، وصوروا فيه الصور ، وإنهم شرار الخلق ، وقد وقع في هذه الأدلة من الشرك الأكبر بسبب الغلو في القبور ما هو معلوم لدى الخاص والعام وسبب ذلك تقليد اليهود والنصارى .
ومن ذلك تقليدهم في الأعياد الشركية والبدعية كأعياد الموالد عند مولد الرسول صلى الله عليه وسلم وأعياد موالد الرؤساء والملوك ، وقد تسمى هذه الأعياد البدعية أو الشركية بالأيام أو الأسابيع – كاليوم الوطني للبلاد ، ويوم الأم وأسبوع النظافة – وغير ذلك من الأعياد اليومية والأسبوعية، وكلها وافدة على المسلمين من الكفار ؛ وإلا فليس في الإسلام إلا عيدان: عيد الفطر وعيد الأضحى ، وما عداهما فهو بدعة وتقليد للكفار ، فيجب على المسلمين أن ينتبهوا لذلك ولا يغتروا بكثرة من يفعله ممن ينتسب إلى الإسلام وهو يجهل حقيقة الإسلام ، فيقع في هذه الأمور عن جهل ، أو لا يجهل حقيقة الإسلام ولكنه يتعمد هذه الأمور ، فالمصيبة حينئذ أشد ، { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً } الأحزاب/21 .
من خطبة " الحث على مخالفة الكفار"
5. وسئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن حكم الاحتفال بما يسمى عيد الأم ؟.
فأجاب :(/5)
إن كل الأعياد التي تخالف الأعياد الشرعية كلها أعياد بدع حادثة لم تكن معروفة في عهد السلف الصالح وربما يكون منشؤها من غير المسلمين أيضا؛ فيكون فيها مع البدعة مشابهة أعداء الله سبحانه وتعالى ، والأعياد الشرعية معروفة عند أهل الإسلام ، وهي عيد الفطر ، وعيد الأضحى ، وعيد الأسبوع ( يوم الجمعة ) وليس في الإسلام أعياد سوى هذه الأعياد الثلاثة ، وكل أعياد أحدثت سوى ذلك فإنها مردودة على محدثيها وباطلة في شريعة الله سبحانه وتعالى ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " أي : مردود عليه غير مقبول عند الله وفي لفظ : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ، وإذا تبين ذلك فإنه لا يجوز في العيد الذي ذكر في السؤال والمسمى عيد الأم ، لا يجوز فيه إحداث شيء من شعائر العيد ، كإظهار الفرح والسرور ، وتقديم الهدايا وما أشبه ذلك ، والواجب على المسلم أن يعتز بدينه ويفتخر به وأن يقتصر على ما حده الله تعالى لعباده فلا يزيد فيه ولا ينقص منه ، والذي ينبغي للمسلم أيضا ألا يكون إمعة يتبع كل ناعق بل ينبغي أن يُكوِّن شخصيته بمقتضى شريعة الله تعالى حتى يكون متبوعا لا تابعا ، وحتى يكون أسوة لا متأسياً ؛ لأن شريعة الله - والحمد لله - كاملة من جميع الوجوه كما قال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } ، والأم أحق من أن يحتفى بها يوماً واحداً في السنة ، بل الأم لها الحق على أولادها أن يرعوها ، وأن يعتنوا بها ، وأن يقوموا بطاعتها في غير معصية الله عز وجل في كل زمان ومكان .
" فتاوى إسلامية " ( 1 / 124 ) ومجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " ( 2 / 301 ، 302 ) .
6. وقال شيخ الإسلام – في التعليق على موضوع مقارب - :
وبهذا يتبين لك كمال موقع الشريعة الحنيفية ، وبعض حكم ما شرع الله لرسوله [ من ] مباينة الكفار ومخالفتهم في عامة الأمور ؛ لتكون المخالفة أحسم لمادة الشر وأبعد عن الوقوع فيما وقع فيه الناس ، فينبغي للمسلم إذا طلب منه أهله وأولاده شيئاً من ذلك أن يحيلهم على ما عند الله ورسوله ويقضي لهم في عيد الله من الحقوق ما يقطع استشرافهم إلى غيره فإن لم يرضوا فلا حول ولا قوة إلا بالله ومن أغضب أهله لله أرضاه الله وأرضاهم . فليحذر العاقل من طاعة النساء في ذلك وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " ، وأكثر ما يفسد الملك والدول طاعة النساء ، ففي صحيح البخاري عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " . .. وقد قال صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين لما راجعنه في تقديم أبي بكر : " إنكن صواحب يوسف " ، يريد أن النساء من شأنهن مراجعة ذي اللب كما قال في الحديث الآخر : " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب ذي اللب من إحداكن " .
قال بعض العلماء : ينبغي للرجل أن يجتهد إلى الله في إصلاح زوجته ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " من تشبه بقوم فهو منهم " .
" مجموع الفتاوى " ( 25 / 324 – 326 ) .
والله أعلم .
المصدر موقع الإسلام سؤال وجواب(/6)
عيد الأم
إبراهيم بن محمد الحقيل 8/4/1427
06/05/2006
يقصد منه تكريم الأم لأمومتها، ويحتفل به في استراليا والمملكة المتحدة والدول الاسكندنافية، وفي إنجلترا يراعى أن يوافق مع عيد ديني يسمى يوم أحد الأمومة، والولايات المتحدة أكثر الدول احتفالاً به، واعترف به رسمياً في الغرب عام 1914م وهو في أمريكا في الثاني من مايو، ومن مراسيمه أن يشجع الأطفال في هذه الدول على إرسال بطاقات عيد الأم البريدية، وتقديم الهدايا علامة على الحب والاحترام (1)، وقد تسرب هذا العيد إلى المسلمين عبر بعض الهيئات والمنظمات الدولية والأهلية حتى صار يعرف بيوم الأمومة العالمي (2) .
________________________________________
(1) الموسوعة العربية العالمية (16/707).
(2) لعل للغرب ما يسوغ اختراع هذا اليوم وأمثاله، إذ لا قيمة –في ظل فلسفتهم المادية- للروابط الأسرية عندهم، ولا أهمية للقرابة، ولا حق للأم التي حملت ثم ولدت ثم أرضعت وسهرت، فتحتاج أمهاتهم ولو يوماً من السنة يتذكرن فيه أولادهن ويرسلون إليهن الهدايا وبطاقات معايدة، ولكن الذي لا يمكن فهمه وتفسيره إلا على وجه التبعية البغيضة تقليد بعض أبناء المسلمين لأساتذتهم في الغرب وإحياء (يوم الأمومة) في ديار أهل الإسلام، مع أن المسلمين ليسوا محتاجين يوماً ولا أسبوعاً ولا شهراً يكرمون فيه أمهاتهم؛ إذ إن دينهم يحتم عليهم بر والديهم العمر كله، ويجعل جزاء ذلك الجنة؛ فما الداعي إلى نقل يوم الأمومة إلى ديار المسلمين؟
وقد نادى مؤخراً أحد العرب باختراع عيد للأب كما للأم عيد، وأجيب طلبه في بلده وصار للأب عيد رسمي معترف به!!(/1)
عيد الأمة الاجتماعي ...
مصطفى صادق الرافعي ...
ما أشد حاجتنا نحن المسلمين إلى أن نفهم أعيادنا فهما جديدا، نتلقاها به ونأخذها من ناحيته، فتجيء أياما سعيدة عاملة، تنبه فينا أوصافها القوية، وتجدد نفوسنا بمعانيها، لا كما تجيء الآن كالحة عاطلة ممسوحة من المعنى، أكبر عملها تجديد الثياب، وتحديد الفراغ، وزيادة ابتسامة على النفاق...
فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في اليوم لا اليوم نفسه، وكما يفهم الناس هذا المعنى يتلقون هذا اليوم؛ وكأن العيد في الإسلام هو عيد الفكرة العابدة، فأصبح عيد الفكرة العابثة؛ وكانت عبادة الفكر جمعها الأمة في إرادة واحدة على حقيقة عملية، فأصبح عبث الفكرة جمعها الأمة على تقليد بغير حقيقة؛ له مظهر المنفعة وليس له معناها.
كان العيد إثبات الأمة وجودها الروحاني في أجمل معانيه فأصبح إثبات الأمة وجودها الحيواني في أكثر معانيه، وكان يوم استرواح من جدّها، فعاد يوم استراحة الضعف من ذلّه، وكان يوم المبدأ، فرجع يوم المادة!.
ليس العيد إلا إشعار هذه الأمة بأن فيها قوة تغيير الأيام، لا إشعارها بأن الأيام تتغير؛ وليس العيد للأمة إلا يوما تعرض فيه جمال نظامها الاجتماعي، فيكون يوم الشعور الواحد في نفوس الجميع، والكلمة الواحدة في ألسنة الجميع؛ يوم الشعور بالقدرة على تغيير الأيام، لا القدرة على تغيير الثياب.. كأنما العيد هو استراحة الأسلحة يوما في شعبها الحربي.
وليس العيد إلا تعليم الأمة كيف تتسع روح الجوار وتمتد، حتى يرجع البلد العظيم وكأنه لأهله دار واحدة يتحقق فيها الإخاء بمعناه العملي، وتظهر فضيلة الإخلاص مستعلنة للجميع، ويهدي الناس بعضهم إلى بعض هدايا القلوب المخلصة المحبة، وكأنما العيد هو إطلاق روح الأسرة الواحدة في الأمة كلها.
وليس العيد إلا إظهار الذاتية الجميلة للشعب مهزوزة من نشاط الحياة، وإلا ذاتية للأمم الضعيفة؛ ولا نشاط للأمم المستعبدة، فالعيد صوت القوة يهتف بالأمة: اخرجي يوم أفراحك، اخرجي يوما كأيام النصر!.
وليس العيد إلا إبراز الكتلة الاجتماعية للأمة متميزة بطابعها الشعبي، مفصولة من الأجانب، لابسة من عمل أيديها، معلنة بعيدها استقلالين في وجودها وصناعتها، ظاهرة بقوتين في إيمانها وطبيعتها، مبتهجة بفرحين في دورها وأسواقها، فكأنّ العيد يوم يفرح الشعب كله بخصائصه.
وليس العيد إلا التقاء الكبار والصغار في معنى الفرح بالحياة الناجحة المتقدمة في طريقها، وترك الصغار يلقون درسهم الطبيعي في حماسة الفرح والبهجة، ويعلمون كبارهم كيف توضع المعاني في بعض الألفاظ التي فرغت عندهم من معانيها، ويبصرونهم كيف ينبغي أن تعمل الصفات الإنسانية في الجموع عمل الحليف لحليفه، لا عمل المُنابذ* لمنابذه، فالعيد يوم تسلط العنصر الحي على نفسية الشعب.
وليس العيد إلا تعليم الأمة كيف توجه بقوتها حركة الزمن إلى معنى واحد كلما شاءت؛ فقد وضع لها الدين هذه القاعدة لتخرج عليها الأمثلة، فتجعل للوطن عيدا ماليا اقتصاديا تبتسم فيه الدراهم بعضها إلى بعض، وتخترع للصناعة عيدها، وتوجد للعلم عيده، وتبتدع للفن مجالي زينته، وبالجملة تنشئ لنفسها أياما تعمل عمل القادة العسكريين في قيادة الشعب، يقوده كل يوم منها إلى معنى من معاني النصر.
هذه المعاني السياسية القوية هي التي من أجلها فرض العيد ميراثا دهريا في الإسلام، ليستخرج أهل كل زمن من معاني زمنهم فيضيفوا إلى المثال أمثلة مما يبدعه نشاط الأمة، ويحققه خيالها، وتقتضيه مصالحها.
وما أحسب الجمعة قد فرضت على المسلمين عيدا أسبوعيا يشترط فيه الخطيب والمنبر والمسجد الجامع ـ إلا تهيئة لذلك المعنى وإعدادا له؛ ففي كل سبعة أيام مسلمة يوم يجيء فيشعر الناس معنى القائد الحربي للشعب كله.
ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلا رجال فيهم أرواح المدافع، لا رجال في أيديهم سيوف من خشب. ...(/1)
عيد الحب قصته، شعائره، حكمه
إبراهيم بن محمد الحقيل 14/1/1427
13/02/2006
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فإن الله - سبحانه وتعالى - اختار لنا الإسلام دينا كما قال - تعالى - :(إن الدين عند الله الإسلام) (آل عمران: 19) ولن يقبل الله - تعالى - من أحد ديناً سواه كما قال - تعالى - (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (آل عمران: 85)وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -(والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) (رواه مسلم 153). وجميع الأديان الموجودة في هذا العصر سوى دين الإسلام أديان باطلة، لا تقرب إلى الله - تعالى -، بل إنها لا تزيد العبد إلا بعدا منه - سبحانه وتعالى - بحسب ما فيها من ضلال.
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -أن فئاماً من أمته سيتبعون أعداء الله - تعالى - في بعض شعائرهم وعاداتهم، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى، قال: فمن؟! ) أخرجه البخاري (732) ومسلم (2669).
وفي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال الرسول - صلى الله عليه وسلم- : ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلاً بمثل حذو النعل بالنعل حتى لو كان فيهم من نكح أمه علانية كان في أمتي مثله) أخرجه الحاكم (1/129).
وقد وقع ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وانتشر في الأزمنة الأخيرة في كثير من البلاد الإسلامية إذ اتَّبع كثير من المسلمين أعداء الله - تعالى - في كثير من عاداتهم وسلوكياتهم وقلدوهم في بعض شعائرهم، واحتفلوا بأعيادهم.
وكان ذلك نتيجة للفتح المادي، والتطور العمراني الذي فتح الله به على البشرية، وكان قصب السبق فيه في الأزمنة المتأخرة للبلاد الغربية النصرانية العلمانية، مما كان سبباً في افتتان كثير من المسلمين بذلك، لا سيما مع ضعف الديانة في القلوب، وفشو الجهل بأحكام الشريعة بين الناس.
وزاد الأمر سوءاً الانفتاح الإعلامي بين كافة الشعوب، حتى غدت شعائر الكفار وعاداتهم تنقل مزخرفة مبهرجة بالصوت والصورة الحية من بلادهم إلى بلاد المسلمين عبر الفضائيات والشبكة العالمية -الإنترنت- فاغتر بزخرفها كثير من المسلمين.
وفي السنوات الأخيرة انتشرت ظاهرة بين كثير من شباب المسلمين -ذكوراً وإناثاً- لا تبشر بخير، تمثلت في تقليدهم للنصارى في الاحتفال بعيد الحب. مما كان داعياً لأولي العلم والدعوة أن يبينوا شريعة الله - تعالى - في ذلك. نصيحة لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ؛ حتى يكون المسلم على بيِّنة من أمره ولئلا يقع فيما يخل بعقيدته التي أنعم الله بها عليه.
وهذا عرض مختصر لأصل هذا العيد ونشأته والمقصود منه، وما يجب على المسلم تجاهه.
قصة عيد الحب
يعتبر عيد الحب من أعياد الرومان الوثنيين، إذ كانت الوثنية سائدة عند الرومان قبل ما يزيد على سبعة عشر قرناً. وهو تعبير في المفهوم الوثني الروماني عن الحب الإلهي.
ولهذا العيد الوثني أساطير استمرت عند الرومان، وعند ورثتهم من النصارى، ومن أشهر هذه الأساطير: أن الرومان كانوا يعتقدون أن (رومليوس) مؤسس مدينة (روما) أرضعته ذات يوم ذئبة فأمدته بالقوة ورجاحة الفكر.
فكان الرومان يحتفلون بهذه الحادثة في منتصف شهر فبراير من كل عام احتفالاً كبيراً، وكان من مراسيمه أن يذبح فيه كلب وعنزة، ويدهن شابان مفتولا العضلات جسميهما بدم الكلب والعنزة، ثم يغسلان الدم باللبن، وبعد ذلك يسير موكب عظيم يكون الشابان في مقدمته يطوف الطرقات. ومع الشابين قطعتان من الجلد يلطخان بهما كل من صادفهما، وكان النساء الروميات يتعرضن لتلك اللطمات مرحبات، لاعتقادهن بأنها تمنع العقم وتشفيه.
علاقة القديس فالنتين بهذا العيد:
(القديس فالنتين) اسم التصق باثنين من قدامى ضحايا الكنيسة النصرانية قيل: إنهما اثنان، وقيل: بل هو واحد توفي في روما إثر تعذيب القائد القوطي (كلوديوس) له حوالي عام 296م. وبنيت كنيسة في روما في المكان الذي توفي فيه عام 350م تخليداً لذكراه.
ولما اعتنق الرومان النصرانية أبقوا على الاحتفال بعيد الحب السابق ذكره، لكن نقلوه من مفهومه الوثني (الحب الإلهي) إلى مفهوم آخر يعبر عنه بشهداء الحب، ممثلاً في القديس فالنتين الداعية إلى الحب والسلام الذي استشهد في سبيل ذلك حسب زعمهم. وسمي - أيضا - (عيد العشاق) واعتبر (القديس فالنتين) شفيع العشاق وراعيهم.(/1)
وكان من اعتقاداتهم الباطلة في هذا العيد أن تكتب أسماء الفتيات اللاتي في سن الزواج في لفافات صغيرة من الورق، وتوضع في طبق على منضدة، ويدعى الشبان الذين يرغبون في الزواج ليخرج كل منهم ورقة، فيضع نفسه في خدمة صاحبة الاسم المكتوب لمدة عام يختبر كل منهما خلق الآخر، ثم يتزوجان، أو يعيدان الكرة في العام التالي يوم العيد أيضاً.
وقد ثار رجال الدين النصراني على هذا التقليد، واعتبروه مفسداً لأخلاق الشباب والشابات فتم إبطاله في إيطاليا التي كان مشهوراً فيها، لأنها مدينة الرومان المقدسة ثم صارت معقلاً من معاقل النصارى. ولا يعلم على وجه التحديد متى تم إحياؤه من جديد. فالروايات النصرانية في ذلك مختلفة، لكن تذكر بعض المصادر أن الإنجليز كانوا يحتفلون به منذ القرن الخامس عشر الميلادي. وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين انتشرت في بعض البلاد الغربية محلات تبيع كتباً صغيرة تسمى(كتاب الفالنتين) فيها بعض الأشعار الغرامية؛ ليختار منها من أراد أن يرسل إلى محبوبته بطاقة تهنئة، وفيها مقترحات حول كيفية كتابة الرسائل الغرامية والعاطفية.
أسطورة ثانية:
تتلخص هذه الأسطورة في أن الرومان كانوا أيام وثنيتهم يحتفلون بعيد يدعى (عيد لوبركيليا) وهو العيد الوثني المذكور في الأسطورة السابقة، وكانوا يقدمون فيه القرابين لمعبوداتهم من دون الله - تعالى -، ويعتقدون أن هذه الأوثان تحميهم من السوء، وتحمي مراعيهم من الذئاب.
فلما دخل الرومان في النصرانية بعد ظهورها، وحكم الرومان الإمبراطور الروماني (كلوديوس الثاني) في القرن الثالث الميلادي منع جنوده من الزواج؛ لأن الزواج يشغلهم عن الحروب التي كان يخوضها، فتصدى لهذا القرار (القديس فالنتين) وصار يجري عقود الزواج للجند سراً، فعلم الإمبراطور بذلك فزج به في السجن، وحكم عليه بالإعدام.
أسطورة ثالثة:
تتلخص هذه الأسطورة في أن الإمبراطور المذكور سابقاً كان وثنياً وكان (فالنتين) من دعاة النصرانية وحاول الإمبراطور إخراجه منها ليكون على الدين الوثني الروماني، لكنه ثبت على دينه النصراني وأعدم في سبيل ذلك في 14 فبراير عام 270م ليلة العيد الوثني الروماني (لوبركيليا).
فلما دخل الرومان في النصرانية أبقوا على العيد الوثني (لوبركيليا) لكنهم ربطوه بيوم إعدام (فالنتين) إحياء لذكراه، لأنه مات في سبيل الثبات على النصرانية كما في هذه الأسطورة، أو مات في سبيل رعاية المحبين وتزويجهم على ما تقتضيه الأسطورة الثانية.
شعائرهم في هذا العيد:
من أهم شعائرهم فيه:
1- إظهار البهجة والسرور فيه كحالهم في الأعياد المهمة الأخرى.
2- تبادل الورود الحمراء، وذلك تعبيراً عن الحب الذي كان عند الرومان حباً إلهياً وثنياً لمعبوداتهم من دون الله - تعالى -. وعند النصارى عشقاً بين الحبيب ومحبوبته، ولذلك سمي عندهم بعيد العشاق.
3- توزيع بطاقات التهنئة به، وفي بعضها صورة (كيوبيد) وهو طفل له جناحان يحمل قوساً ونشاباً. وهو إله الحب عند الأمة الرومانية الوثنية تعالى الله عن إفكهم وشركهم علواً كبيراً.
4- تبادل كلمات الحب والعشق والغرام في بطاقات التهنئة المتبادلة بينهم عن طريق الشعر أو النثر أو الجمل القصيرة، وفي بعض بطاقات التهنئة صور ضاحكة وأقوال هزلية، وكثيراً ما كان يكتب فيها عبارة (كن فالنتينيا) وهذا يمثل المفهوم النصراني له بعد انتقاله من المفهوم الوثني.
5- تقام في كثير من الأقطار النصرانية حفلات نهارية وسهرات مختلطة راقصة، ويرسل كثير منهم هدايا منها: الورود وصناديق الشوكولاته إلى أزواجهم وأصدقائهم ومن يحبونهم (انظر للمزيد من المعلومات حول أساطيرهم فيه : الموسوعة العربية العالمية (17/203) وموسوعة أغرب الأعياد وأجب الاحتفالات لسيد صديق عبد الفتاح (169 : 171)، وأعياد الكفار وموقف المسلم منها للكاتب ص (37).
الغرض من العرض السابق:(/2)
ليست الأساطير المعروضة آنفا حول هذا العيد ورمزه (القديس فالنتين) مما يهم العاقل فضلا عن مسلم يوحد الله - تعالى -، لأن الأساطير الوثنية عند الأمتين الرومانية والنصرانية كثيرة جداً كما هو ظاهر لكل مطلع على كتبهم وتواريخهم، لكن هذا العرض السابق لبعض هذه الأساطير مقصود لبيان حقيقة هذا العيد لمن اغتر به من جهلة المسلمين، فصاروا يحتفلون به تقليداً للأمة الضالة - النصرانية - حتى غدا كثير من المسلمين - مع الأسف - يخلط بين الإله والأسطورة، والعقل والخرافة، ويأخذ كل ما جاء من الغرب النصراني العلماني ولو كان أسطورة مسطورة في كتبهم، أو خرافة حكاها رهبانهم. وبلغ من جهل بعض من ينتسبون للإسلام أن دعونا إلى لزوم أخذ أساطير النصارى وخرافاتهم ما دمنا قد أخذنا سياراتهم وطياراتهم وصناعاتهم، وهذا من الثمرات السيئة للتغريب والتقليد، الذي لا يميز صاحبه بين ما ينفعه وما يضره، وهو دليل على تعطيل العقل الذي كرم الله به الإنسان على سائر الحيوان، وعلى مخالفة الديانة التي تشرف المسلم بالتزامها والدعوة إليها، كما هو دليل على الذوبان في الآخر - الكافر - والانغماس في مستنقعاته الكفرية، وفقدان الشخصية والاستقلالية، وهو عنوان الهزيمة النفسية، والولع في اتباع الغالب ماديا في خيره وشره وحلوه ومره، وما يمدح من حضارته وما يعاب منها، دون تفريق ولا تمييز، كما ينادي بذلك كثير من العلمانيين المنهزمين مع أنفسهم، الخائنين لأمتهم.
نظرات في الأساطير السابقة : -
من نظر إلى ما سبق عرضه من أساطير حول هذا العيد الوثني يتضح له ما يلي:
أولاً : أن أصله عقيدة وثنية عند الرومان، يعبر عنها بالحب الإلهي للوثن الذي عبدوه من دون الله – تعالى-. فمن احتفل به فهو يحتفل بمناسبة تعظم فيها الأوثان وتعبد من دون من يستحق العبادة وهو الخالق - سبحانه وتعالى -، الذي حذرنا من الشرك ومن الطرق المفضية إليه فقال تعالى مخاطباً الرسول - صلى الله عليه وسلم - (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين. بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) (الزمر: 65، 66). وقضى – سبحانه - بأن من مات على الشرك الأكبر لا يجد ريح الجنة، بل هو مخلد في النار أبداً كما قال الله - تعالى - (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيدا) (النساء: 116). وقال الله – تعالى - على لسان عيسى - عليه السلام - أنه قال لقومه (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) (المائدة: 72). فالواجب الحذر من الشرك ومما يؤدي إليه.
ثانياً: أن نشأة هذا العيد عند الرومان مرتبطة بأساطير وخرافات لا يقبلها العقل السوي فضلا عن عقل مسلم يؤمن بالله - تعالى - وبرسله عليهم الصلاة والسلام.
فهل يقبل العقل السوي أن ذئبة أرضعت مؤسس مدينة روما وأمدته بالقوة ورجاحة الفكر، على ما في هذه الأسطورة مما يخالف عقيدة المسلم لأن الذي يمد بالقوة ورجاحة الفكر هو الخالق - سبحانه وتعالى - وليس لبن ذئبة!!
وكذلك الأسطورة الأخرى التي جاء فيها أن الرومان يقدمون في هذا العيد القرابين لأوثانهم التي يعبدونها من دون الله - تعالى - اعتقاداً منهم أن هذه الأوثان ترد السوء عنهم وتحمي مراعيهم من الذئاب. فهذا لا يقبله عقل سوي يعلم أن الأوثان لا تضر ولا تنفع علاوة على ما فيه من الشرك الأكبر.
فكيف يقبل عاقل على نفسه أن يحتفل بعيد ارتبط بهذه الأساطير والخرافات، فضلاً عن مسلم منَّ الله - تعالى - عليه بدين كامل وعقيدة صحيحة؟!
ثالثاً: أن من الشعائر البشعة لهذا العيد عند الرومان ذبح كلب وعنزة ودهن شابين بدم الكلب والعنزة ثم غسل الدم باللبن…الخ فهذا مما تنفر منه الفطر السوية ولا تقبله العقول الصحيحة.
فكيف يحتفل من رزقه الله - تعالى - فطرة سوية، وأعطاه عقلاً صحيحاً، وهداه لدين حق بهذا العيد الذي كانت تمارس فيه هذه الممارسات البشعة؟!
رابعاً: أن ارتباط القديس (فالنتين) بهذا العيد ارتباط مختلف فيه وفي سببه وقصته، بل إن بعض المصادر تشكك أصلاً في هذا القديس وتعتبره أسطورة لا حقيقة لها. وكان الأجدر بالنصارى رفض هذا العيد الوثني الذي تبعوا فيه الأمة الرومانية الوثنية، لا سيما وأن ارتباطه بقديس من قديسيهم أمر مشكوك فيه!! فإذا عيب ذلك على النصارى الذين بدلوا دينهم وحرفوا كتبهم، فمن الأولى والآكد أن يعاب على المسلم إذا احتفل به. ثم لو ثبت أن هذا العيد كان بمناسبة إعدام القديس فالنتين بسبب ثباته على النصرانية، فما لنا وله، وما علاقة المسلمين بذلك؟!(/3)
خامسا: أن رجال الدين النصراني قد ثاروا على ما سببه هذا العيد من إفساد لأخلاق الشباب والشابات فتم إبطاله في إيطاليا معقل النصارى الكاثوليك. ثم أعيد بعد ذلك وانتشر في البلاد الأوربية، ومنها انتقل إلى كثير من بلاد المسلمين. فإذا كان أئمة النصارى قد أنكروه في وقتهم لما سببه من فساد لشعوبهم وهم ضالون فان الواجب على أولي العلم من المسلمين بيان حقيقته، وحكم الاحتفال به، كما يجب على عموم المسلمين إنكاره وعدم قبوله، والإنكار على من احتفل به أو نقله من النصارى إلى المسلمين وأظهره في بلاد الإسلام. وذلك يحتمه واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق، إذ بيان الباطل وفضحه، والنهي عنه وإنكاره مما يجب على عموم المسلمين كل حسب وسعه وطاقته.
لماذا لا نحتفل بهذا العيد؟!
كثير ممن يحتفلون بهذا العيد من المسلمين لا يؤمنون بالأساطير والخرافات المنسوجة حوله، سواء ما كان منها عند الرومان أو ما كان عند النصارى، وأكثر من يحتفلون به من المسلمين لا يعلمون عن هذه الأساطير شيئا، وإنما دفعهم إلى هذا الاحتفال تقليد لغيرهم أو شهوات ينالونها من جراء ذلك.
وقد يقول بعض من يحتفل به من المسلمين: إن الإسلام دعا إلى المحبة والسلام، وعيد الحب مناسبة لنشر المحبة بين المسلمين فما المانع من الاحتفال به؟!
وللإجابة على ذلك أوجه عدة منها:
الوجه الأول: أن الأعياد في الإسلام عبادات تقرب إلى الله - تعالى - وهي من الشعائر الدينية العظيمة، وليس في الإسلام ما يطلق عليه عيد إلا عيد الجمعة وعيد الفطر وعيد الأضحى. والعبادات توقيفية، فليس لأحد من الناس أن يضع عيداً لم يشرعه الله - تعالى - ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وبناءً عليه فإن الاحتفال بعيد الحب أو بغيره من الأعياد المحدثة يعتبر ابتداعاً في الدين وزيادة في الشريعة، واستدراكاً على الشارع - سبحانه وتعالى -.
الوجه الثاني: أن الاحتفال بعيد الحب فيه تشبه بالرومان الوثنيين ثم بالنصارى الكتابيين فيما قلدوا فيه الرومان وليس هو من دينهم. وإذا كان يمنع من التشبه بالنصارى فيما هو من دينهم حقيقة إذا لم يكن من ديننا فكيف بما أحدثوه في دينهم وقلدوا فيه عباد الأوثان!!
وعموم التشبه بالكفار - وثنيين كانوا أم كتابيين - محرم سواء كان التشبه بهم في عقائدهم وعباداتهم -وهو أشد خطراً - أم فيما اختصوا به من عاداتهم وأخلاقهم وسلوكياتهم كما قرر ذلك علماء الإسلام استمداداً من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم :
1- فمن القرآن قول الله تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) (آل عمران 105) وقال تعالى: ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) (الحديد 16) فالله - تعالى - حذر المؤمنين من سلوك مسلك أهل الكتاب - اليهود والنصارى - الذين غيروا دينهم، وحرفوا كتبهم، وابتدعوا ما لم يشرع لهم، وتركوا ما أمرهم الله - تعالى - به.
2- ومن السنة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -(من تشبه بقوم فهو منهم) (أخرجه أحمد 3/50 وأبو داود 5021) قال شيخ الإسلام: (هذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله - تعالى - (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (الاقتضاء 1/314) وقال الصنعاني: (فإذا تشبه بالكافر في زي واعتقد أن يكون بذلك مثله كفر، فإن لم يعتقد ففيه خلاف بين الفقهاء: منهم من قال: يكفر، وهو ظاهر الحديث، ومنهم من قال: لا يكفر ولكن يؤدب) (سبل السلام 8/248)
3- وأما الإجماع فقد نقل ابن تيمية أنه منعقد على حرمة التشبه بالكفار في أعيادهم في وقت الصحابة - رضي الله عنهم - كما نقل ابن القيم اتفاق أهل العلم على ذلك. (انظر الاقتضاء 1/454) وأحكام أهل الذمة (3/1245)
والتشبه بالكفار فيما هو من دينهم -كعيد الحب- أخطر من التشبه بهم في أزيائهم أو عاداتهم أو سلوكياتهم، لأن دينهم إما مخترع وإما محرف، وما لم يحرف منه فمنسوخ، فلا شيء منه يقرب إلى الله - تعالى - فإذا كان الأمر كذلك فإن الاحتفال بعيد الحب تشبه بعباد الأوثان -الرومان- في عباداتهم للأوثان، ثم بأهل الكتاب في أسطورة حول قديس عظموه وغلوا فيه. وصرفوا له ما لا يجوز صرفه للبشر بأن جعلوا له عيداً يحتفلون به.(/4)
الوجه الثالث: أن المقصود من عيد الحب في هذا الزمن إشاعة المحبة بين الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم وهذا مما يخالف دين الإسلام فإن للكافر على المسلم العدل معه، وعدم ظلمه، كما أن له إن لم يكن حربياً ولم يظاهر الحربيين البر من المسلم إن كان ذا رحم عملاً بقوله - تعالى - ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة: 8). ولا يلزم من القسط مع الكافر وبره صرف المحبة والمودة له، بل الواجب كراهيته في الله - تعالى - لتلبسه بالكفر الذي لا يرضاه الله - سبحانه - كما قال - تعالى - (ولا يرضى لعباده الكفر) (الزمر: 7).
وقد أوجب الله - تعالى - عدم مودة الكافر في قوله سبحانه : (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) (المجادلة: 22) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - تعالى - ( فأخبر سبحانه أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرًا، فمن واد الكفار فليس بمؤمن، والمشابهة الظاهرة مظنة المودة فتكون محرمة) (الاقتضاء 1/490) وقال أيضا: (المشابهة تورث المودة والمحبة والموالاة في الباطن كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر).
ولا يمكن أن تجتمع محبة الله - تعالى - ومحبة ما يحبه مع محبة الكفر وشعائره وأهله في قلب واحد، فمن أحب الله - تعالى - كره الكفر وشعائره وأهله.
الوجه الرابع : أن المحبة المقصودة في هذا العيد منذ أن أحياه النصارى هي محبة العشق والغرام خارج إطار الزوجية.
ونتيجتها: انتشار الزنى والفواحش، ولذلك حاربه رجال الدين النصراني في وقت من الأوقات وأبطلوه ثم أعيد مرة أخرى.
وأكثر شباب المسلمين يحتفلون به لأجل الشهوات التي يحققها وليس اعتقاداً بخرافات الرومان والنصارى فيه. ولكن ذلك لا ينفي عنهم صفة التشبه بالكفار في شيء من دينهم. وهذا فيه من الخطر على عقيدة المسلم ما فيه، وقد يوصل صاحبه إلي الكفر إذا توافرت شروطه وانتفت موانعه.
ولا يجوز لمسلم أن يبني علاقات غرامية مع امرأة لا تحل له، وذلك بوابة الزنى الذي هو كبيرة من كبائر الذنوب.
فمن احتفل بعيد الحب من شباب المسلمين، وكان قصده تحصيل بعض الشهوات أو إقامة علاقات مع امرأة لا تحل له، فقد قصد كبيرة من كبائر الذنوب، واتخذ وسيلة في الوصول إليها ما يعتبره العلماء كفراً وهو التشبه بالكفار في شعيرة من شعائرهم.
موقف المسلم من عيد الحب
مما سبق عرضه في بيان أصل هذا العيد، وقصته، والمقصود منه، فإنه يمكن تلخيص ما يجب على المسلم تجاهه في الآتي:
أولاً: عدم الاحتفال به، أو مشاركة المحتفلين به في احتفالهم، أو الحضور معهم لما سبق عرضه من الأدلة الدالة على تحريم التشبه بالكفار. قال الحافظ الذهبي - رحمه الله تعالى -: (فإذا كان للنصارى عيد ولليهود عيد كانوا مختصين به فلا يشركهم فيه مسلم كما لا يشاركهم في شرعتهم ولا قبلتهم. أهـ (تشبه الخسيس بأهل الخميس، رسالة منشورة في مجلة الحكمة (4/193)
ثانياً : عدم إعانة الكفار على احتفالهم به بإهداء أو طبع أدوات العيد وشعاراته أو إعارة، لأنه شعيرة من شعائر الكفر، فإعانتهم وإقرارهم عليه إعانة على ظهور الكفر وعلوه وإقرار به. والمسلم يمنعه دينه من إقرار الكفر والإعانة على ظهوره وعلوه. ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم لا من طعام ولا لباس ولا اغتسال ولا إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة أو غير ذلك. ولا يحل فعل وليمة ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك، ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار الزينة. وبالجملة: ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم، بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام) (مجموعة الفتاوى 25/329).
وقال ابن التركماني: (فيأثم المسلم بمجالسته لهم وبإعانته لهم بذبح وطبخ وإعارة دابة يركبونها لمواسمهم وأعيادهم.) (اللمع في الحوادث والبدع 2/519-520).
ثالثاً: عدم إعانة من احتفل به من المسلمين، بل الواجب الإنكار عليهم، لأن احتفال المسلمين بأعياد الكفار منكر يجب إنكاره. قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - : (وكما لا نتشبه بهم في الأعياد، فلا يعان المسلم بهم في ذلك، بل ينهى عن ذلك. فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب دعوته، ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته، خصوصاً إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم كما ذكرناه، ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم في العيد من الطعام واللباس ونحو ذلك، لأن في ذلك إعانة على المنكر) (الاقتضاء 2/519-520).(/5)
وبناءً على ما قرره شيخ الإسلام فإنه لا يجوز للتجار المسلمين أن يتاجروا بهدايا عيد الحب من لباس معين أو ورود حمراء أو بطاقات تهنئة صممت لأجله أو غير ذلك، لأن المتاجرة بها إعانة على المنكر الذي لا يرضاه الله - تعالى - ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
كما لا يحل لمن أهديت له هدية هذا العيد أن يقبلها؛ لأن في قبولها إقرار لهذا العيد.
رابعاً: عدم تبادل التهاني بعيد الحب، لأنه ليس عيدًا للمسلمين. وإذا هنئ المسلم به فلا يرد التهنئة. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: (وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم عند الله وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه. وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك وهو لا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه) (أحكام أهل الذمة 1/441-442).
خامساً: توضيح حقيقة هذا العيد وأمثاله من أعياد الكفار لمن اغتر بها من المسلمين، وبيان ضرورة تميز المسلم بدينه والمحافظة على عقيدته مما يخل بها، وتذكيره بمخاطر التشبه بالكفار في شعائرهم الدينية كالأعياد أو بعاداتهم وسلوكياتهم، نصحا للأمة وأداءً لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بإقامته صلاح العباد والبلاد، وحلول الخيرات، وارتفاع العقوبات كما قال - تعالى - (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)(هود: 117).
أسأل الله - تعالى - أن يحفظ المسلمين من مضلات الفتن، وأن يقيهم شرور أنفسهم ومكر أعدائهم إنه سميع مجيب. وصلى الله وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/6)
عيد الحب
فتوى فضيلة الشيخ / محمد بن صالح العثيمين
السؤال : فقد انتشر في الآونة الأخيرة الاحتفال بعيد الحب - خاصة بين الطالبات - وهو عيد من أعياد النصارى ، ويكون الزي كاملاً باللون الأحمر الملبس والحذاء ويتبادلن الزهور الحمراء .. نأمل من فضيلتكم بيان حكم الاحتفال بمثل هذا العيد ، وما توجيهكم للمسلمين في مثل هذه الأمور ، والله يحفظكم ويرعاكم ؟
الجواب : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
الاحتفال بعيد الحب لا يجوز لوجوه :
الأول : أنه عيد بدعي لا أساس له في الشريعة .
الثاني : أنه يدعو إلى اشتغال القلب بمثل هذه الأمور التافهة المخالفة لهدي السلف الصالح - رضي الله عنهم - فلا يحل أن يحدث في هذا اليوم شيء من شعائر العيد سواء كان في المآكل أو المشارب أو الملابس أو التهادي أو غير ذلك وعلىالمسلم أن يكون عزيزاً بدينه وأن لايكون إمعه يتبع كل ناعق .
أسأل الله تعالى أن يعيذ المسلمين من كل الفتن ما ظهر وما بطن وأن يتولانا بتوليه وتوفيقه .
كتبه / محمد الصالح العثيمين في 5/11/1420هـ .
من مطوية ( رسالة ) دار القاسم الرياض 11442 ص ب 6373 هاتف 4775311 فاكس 4774432(/1)
عيد الغطاس (1)
إبراهيم بن محمد الحقيل 25/12/1425
05/02/2005
وهو يوم (19 يناير) وعند الأقباط يوم (11 من شهر طوبة) وأصله عندهم أن يحيى بن زكريا –عليهما الصلاة والسلام- والمعروف عندهم بيوحنا المعمدان عمّد المسيح ابن مريم –عليه الصلاة والسلام- في نهر الأردن، وعندما غسله اتصلت به روح القدس، فصار النصارى لأجل ذلك يغمسون أولادهم في الماء في هذا اليوم وينزولون فيه بأجمعهم(2).
وعلى هذا المفهوم تحتفل به الكنائس الأرثوذكسية، وأما الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية فلهم مفهوم آخر في الاحتفال به، وهو إحياء ذكر تقديس الرضيع المسيح –عليه الصلاة والسلام- على يد الرجال الثلاثة الذين قدموا من الشرق.
________________________________________
(1) وأصل كلمة (غطاس) إغريقية وهي تعني الظهور، وهو مصطلح ديني مشتق من ظهور كائن غير مرئي ، وقد جاء في التوراة أن الله –تعالى- تجلى لموسى – عليه الصلاة والسلام- على هيئة أجمة محترقة ، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا. انظر: الموسوعة العربية العالمية (16/709) والموسوعة العربية الميسرة (2/1247).
(2) مجلة الإسلام، عدد (43)، ص(24)، وقد ذكر المسعودي في مروج الذهب (1/357) أن لهذا العيد –في وقته- شأناً عظيمًا بمصر، يحضره آلاف النصارى والمسلمين، ويغطسون في نهر النيل ويزعمون أنه أمان من المرض ونشرة للدواء.(/1)
عيد الفلوجة
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجة 30/9/1426
02/11/2005
1- عيد الفلوجة
العيد في الفلوجة هذا العام له مذاق خاص، يختلف عن أعياد البلاد، التي فيها العباد..!!.
عيد الفلوجة يحكي لنا أعياد قرى مهجورة.. يحكي آثار بلدان أثرية تاريخية بائدة..!!.
عيد الفلوجة شبح عيد، يأتي في غير وقته، يأتي في ليل مظلم، مخيف، لا أحد يفرح به، ولا أحد يتهيء له..!!.
عيد الفلوجة:
- حزن، لا فرح..
- كرب، لا فرج..
- إبادة، لا حياة..
- صواريخ وقنابل، لا حلوى وتهاني..!!.
بلد صغير من بلاد الإسلام يحتضر تحت أسلحة الإجرام القذرة، على أيدي من حرم الإنسانية والكرامة، دع عنك العدالة والحرية.. أيدٍ متلطخة بدماء بريئة: طفل صغير، وفتاة يافعة، وامرأة ضعيفة، وشيخ فان.
تضرب ضرب الجبناء، في كل ناحية، دون تمييز، في كل بيت، وركن، وشارع، غرضها تدمير المدينة بالكامل، بمن فيها من المسلمين، ألم تروهم في الوسائل الإعلامية كيف يقصفون، وكيف يطلقون نيرانهم بصورة عشوائية ..؟!!.
جثث الناس في الشوارع بالمئات، والجرحى بالمئات، وآباء ينظرون صغارهم المصابين حتى الموت، فلا مغيث، ولا مسعف، ولا قبور تؤوي، فالبلدة محاصرة، مسجونة:
- أبوابها: القنابل المحرمة، والصواريخ المدمرة.
- نوافذها الرصاص والغازات السامة.
والمسعفون ممنوعون من الدخول، بخلوا عليهم حتى بالقبور..!!.
والإعلامييون ممنوعون من الدخول، فأين الحرية الإعلامية والديمقراطية، التي ينادي بها..؟!!..
الحقيقة لا حرية ولا ديمقراطية، إنما دكتاكتورية، وتسلط بالقوة، يتخفى وراء الحرب على الإرهاب.
فأين الذين يزينون هذه المبادئ، ويدعون إلى فتح البلاد، والصدور لأصحابها، والترحيب بهم..؟!.
* * *
بيوت الله المعظمة، مساجد الله المحرمة، هدمت، وضربت، ودنست.. ولو حدث مثل هذا الجرم الكبير في وقت مضى، لهب المسلمون من كل الأرض لتطهير الأرض، وتلقين المعتدي درسا يفهمه لأجيال.
فإن امرأة مسلمة مأسورة عند الروم استغاثت بالمعتصم، الخليفة العباسي، لما ضربها الحارس، فخرج المعتصم بجيش قاده بنفسه، ناذرا تخليصها، فما رجع إلا وفيا بنذره..
فأين مثال المعتصم اليوم ؟!!.
بل أين المسلمون، اليوم..؟.
إننا في حالة مزرية، وحق لنا أن نتوارى خجلا مما نحن عليه، ولعل الله تعالى أراد أن يذيقنا شيئا من العذاب، فنزع منا الفرحة بالعيد، وبالمال الذي بين أيدينا، والترف الذي نعيش به، لما أعرضنا عن نصرة إخواننا.
* * *
مساكين هم أهل الفلوجة، وأطفال الفلوجة:
- إنهم يرجون الأمان، لا يرجون حلوى العيد..
- يرجون علاج جرحاهم، لا التزين للعيد..
- يرجون أكفانا وقبورا لموتاهم، لا ثيابا جديدة يلبسونها للعيد.
سمعنا استغاثتهم، لكننا قلنا لهم: وما لكم تستغيثون بموتى..؟!!..
ابحثوا عن أحياء فاستغيثوا بهم، أجدى لكم..
- فما ترجون من قعدة عجزة، أو شبه عجزة..؟!!.
- ما ترجون من مترفين، لاهين، لا هم إلا بطونهم وفروجهم..
- ما ترجون من قوم أمثلهم طريقة من إذا سمع بمصابكم تحوقل، واسترجع، ورأى أنه أدى ما عليه..
- ما ترجون ممن لا يدري بكم، ولا يسمع بكم، ولا يرى لكم عليه حقا ؟؟!!.
ارفعوا شكواكم إلى مولاكم، الذي بيده كل شي، لكن نرجوكم أن تسألوه أن يغير ما بنا من ذل وخور، فربما كان دعاؤكم أرجى للقبول، فنحن قد دعوناه، ولا ندري، فربما لم نعد أهلا لأن يستجاب لنا، مما بنا من البلايا والرزايا، التي لا تنتهي، بل كل يوم تنشأ وتستحدث..!!.
* * *
2- دفع المعتدي مشروع.
بعض الناس يرجع باللوم على المجاهدين، أو المقاومين، وعنده أنه يجب ترك المقاومة، حتى تسلم هذه البلدة، وغيرها من البلاد المسلمة، من عدوان همجي كهذا..؟؟!!.
لكن لو أخذنا بقوله هذا وطردناه، فيلزم منه ترك المقاومة أبدا، وكليا، مهما احتل المعتدي بلدا من بلاد المسلمين، حتى تسلم من الدمار، ولو فعل المسلمون كذلك، فسلموا للعدو إذا شاء النزول ببلدهم، لصارت كل بلاد الإسلام، كلها مستعمرات لكافر محارب ظالم، لا يعرف عدلا ولا قسطا، يفرض ما يشاء من قوانين ينتهك بها شريعة الله تعالى، ولعادت عهود الاستعمار تارة أخرى، فهل يقبل بهذا عاقل، فضلا عن مسلم، مأمور بالجهاد في سبيل الله تعالى أمرا واجبا، وفرضا لازما، يعاقب على تركه..؟!، قال تعالى:
- "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا * الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا".
- "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز".(/1)
نعم لتصحيح أخطاء قد يقع فيها المقاومون المجاهدون، وبيان الحكم الشرعي فيها، وهم غير منزهين من الخطأ، وربما انتسب إليهم من ليس منهم، أما إلغاء دفع المحتل كليا، وإبطال جهاد المعتدي، فهذه لا ندري كيف يمكن تقريرها شرعا..؟!!.
حتى قوانين البشر، وفطر البشر، وعقول البشر تنطق وتفصح بالقول: أن مقاومة المحتل، ودفعه للخروج من البلاد أمر مشروع واجب، فرض، وأن كل من توانى، وتخاذل بغير عذر فهو إما جبان، أو في صف العدو. وشريعة الله تعالى موافقة للفطر والعقول، والمنطق الصحيح.
وليعلم أن أي بلد يحتله الكافر، فيهب أهله للدفاع عنه، وفي سبيله يبلون البلاء الحسن، فذلك فأل خير للبلاد الأخرى، أن لا سبيل لهذا المحتل أن يتمدد ناحيتهم باحتلال وعدوان، فإن الذي يغريه بأكل البلاد والعباد هو سكوتهم، ورضاهم، أما إذا وجد دفعا وجهاد ومقاومة، اضطر للرجوع، وكفى شره.
* * *
3- مثل الجسد الواحد
قال النبي الأكرم، صلوات ربي وسلامه عليه:
- (مثل المؤمنين في: توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم. مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). متفق عليه من حديث النعمان بن بشير
هكذا هم المؤمنون، وإلا فليسوا بمؤمنين: متوادين، متراحمين، متعاطفين، متداعين سهرا ومرضا. إذا اشتكى بعضهم.. نعم ليسوا بمؤمنين إذا لم يكونوا مثل ذلك، كذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم، فضرب للمؤمنين مثلا، كما ضرب لغيرهم مثلا، فمثل المؤمنين هو: التواد، والتراحم، والتعاطف، والتداعي بالسهر والمرض، حيث تلم المصيبة ببعضهم.
فمثل المؤمنين مثل الجسد الواحد، فالجسد الواحد أعضاء، كل عضو متصل بغيره بعروق، وأنسجة، وعظام، والدم يجري في جميعها عبر العروق، ينقل إليها الحياة، والغذاء، ومعها الأفراح والآلام، فما يحل بعضو من ألم يسري إلى الأعضاء، فتألم معه، وتسهر معه، وتطلب الدواء معه.
وأمة الإيمان مثلها مثل هذا الجسد الواحد، والفرق: أن ألم الجسد ينتقل عبر قنوات محسوسة، أما ما يلم بالأمة من ألم فينتقل إلى بعضها عبر قناة الروح، فأرواحهم المتآلفة، المتعارفة، يجري بينها الشعور والإحساس المتوافق، أكثر مما يجري بين أعضاء الجسد في بعض الأحيان، فيألم بعضهم لألم بعض، ويحزن، ويكرب، ويغتم، ويغضب، ويسخط، ويقلق، ويضطرب، ويمرض، ويسهر الليالي.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).
وكما أن تداعي الأعضاء بالسهر والحمى دليل حيويتها، وصحتها، وحياتها، فكذلك تداعي الأمة بالسهر والحمى لأجل بعضها، فإن لم تتداع، ولم تسهر، فهي ميتة، كجسد ميت، أو في أحسن أحوالها: مريضة مرضا وبائيا.
* * *
وفي تداعي سائر الأعضاء لأجل شكوى عضو، فائدة سوى بيان حياتها وصحتها، هو: اجتماعها، وتكاتفها في وجه العدو، الذي سبب الشكوى. فتستنفر جميعها لنجدة المصاب، وتقوم جميعها بدفع هذا المعتدي، وحراسة الثغور، وكف المتسللين، والقضاء على هذه الفتنة الطارئة، وهذه حقيقة علمية يعرفها الأطباء، أن الجزء المصاب يكون محط توجه جميع قوى الجسد، لمنع انتشار الإصابة، ولقتل كل القوى المهاجمة، حتى يعود الجزء إلى صحته، ويعود الأمن والطمأنينة والسلامة للجسد.
كذلك أيضا تداعي الأمة لأجل بعضها، دليل: اجتماعها، وتكاتفها في وجه العدو، الذي سبب الشكوى. وفي ذلك النصر لا محالة، فما الهزيمة إلا من التفرق والتشرذم، قال تعالى:
- "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين".
وقد عرف في حال الجسد: أن تداعي أعضاءه حين الشكوى. يتم بصورة تلقائية، لا يملك المرء منعه، أو رفضه، أو إيقافه، غير أنه في حال فقدان الإحساس عند بعض الأعضاء، تحصل الغفلة عن الخطر، وهلاك العضو من ثم، حيث لم يفطن إلى ما حل به.
كذلك في حال الأمة، يحصل التداعي بصورة تلقائية، فالأرواح تخاطب الأرواح، وتناديها شاكية، مستغيثة، فتسمعها، فتستجيب لها، فتنتصر لها بما تستطيع، فإن حصل تراخ، وخمول، وبرود، فمرده فقدان الأرواح حياتها، وسريان الشلل إليها، وهذا بالضبط ما اعترى الأمة اليوم..!!.
* * *
4- الأمة الساكتة.
فالأمة اليوم خاملة، متراخية، باردة في نصرة إخوتها المظلومين، المضطهدين، الذين احتلت بلادهم، وانتهكت حرماتهم، وما أكثرهم، وأبرز مثال قريب: مدينة الفلوجة. هذه المدينة التي استحوذت على الأخبار، منذ العشر الأواخر من رمضان، إلى العيد، وحتى نهاية الأسبوع الأول من شوال، بما حصل فيها من آلام تعجز عن حملها الجبال، لم نملك حيالها سوى أن نحوقل، ونسترجع، وندعو على المعتدين المحتلين، ونحن في حيرة من صمت المسلمين، إلا قليلا:
- وكأنها ليست مدينة من مدن الإسلام..!!.
- وكأنها خالية من الشيوخ، والنساء، والأطفال..!!.
- وكأنه لم يمت فيها أبرياء، لا ذنب لهم، إلا أنهم لم يخرجوا منها، لسبب أو غيره..!!.(/2)
- وكأنه لم تهدم مساجدها، وتدنس بأقدام الصليبين، أعداء ملة الإسلام..!!.
- وكأننا لم نر الجرحى يقتلون بدم بارد، وأمام عدسات التصوير، وعلى مرأى من العالم أجمع..!
- وكأننا لم نر المدينة، بيوتها مدمرة، والجثث تحت الجدران، وفي الشوارع تنهشها الكلاب.
ما عدنا أصحاب فعال، حتى القول بخلنا به، فلم يعد أحد يسمع لنا صوتا، ولا حتى همسا..!!.
لم نقول هذا؟..
ولم نطلب من المسلمين أن يفعلوا أو يقولوا.. فيخرجوا من هذه السلبية، واللامبالاة، والصمت المخجل؟!!.
ما نقول ذلك إلا:
- لنرعى حق الله تعالى في إخواننا.
- ولنكون مؤمنين حقا.
- وكذلك لنحمي أنفسنا؛ فإن تداعي الأعضاء لأجل عضو اشتكى: يحميها من انتشار البلوى وعمومها. ونحن إذا نصرنا إخوة لنا حين يظلمون: فنحن نحمي أنفسنا أن يؤذينا هذا العدو، كما آذى واستباح حرمات إخواننا، هذه هي الحقيقة:
- فدفاعك عن أخيك، دفاعك عن نفسك، ودفاعه عنك، دفاعه عن نفسه.
وإذا احتل بلد من بلاد المسلمين، فهب المسلمون لنصرتها، ودفع العدوان عنها، فإن تلك النصرة ستحفظ بقية البلاد، خاصة القريبة، من أن ينالها عدوان هذا المعتدي؛ لأنه حينئذ يشتغل بنفسه، فيعد خسائره، ويضمد جراحه، ويدفن موتاه.
والنصرة لا يلزم أن تكون بالبدن، بل قد تكون باللسان بتأييدهم في جهادهم، أو على الأقل الإعلان عن معارضة العدوان على الضعفاء من: شيوخ، وأطفال، ونساء، وجرحى، ومن ليس له يد في قتال، والقيام بذلك في أمام أمم الأرض، وفي المحافل، فإن للكلمة أثرها، لو استغلت.
وما وقع في الفلوجة عين الظلم، حيث قتل عن عمد وقصد، وأوذي من ليس له ذنب إلا أنه من أهل الفلوجة، ولو لم يكن له دور في قتال: كالشيوخ، والنساء، والجرحى، والأطفال. والكل شاهد ذلك، فالعدو كان يرمي من غير تمييز..
ومهما اختلف المسلمون في الأعمال التي يقوم بها المقاومون للاحتلال، وطرق مقاومتهم، بين مجيز ومانع، فإن الذي لا يختلف عليه اثنان: أن قتل من لم يشارك في قتال، ولا مقاومة، مثل الضعفة والعجزة: جريمة، وعدوان. لا تقره، شريعة، ولا قانون وضعي، حتى المحاكم العسكرية في كل الدول لا تقرها، وتعاقب عليها. فلم إذن هذا السكوت على مثل هذا الاعتداء الآثم؟!!..
إن اعتراض المعترضين على أعمال المقاومة، وأساليبها، لا يجوز بحال أن يكون سببا في السكوت عن الظلم الواضح الواقع على هذه المدينة، التي رحمها، وأشفق عليها لما حل بها، حتى غير المسلمين..!!.
* * *
- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة) متفق عليه.
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم، لايخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام: عرضه، وماله، ودمه. التقوى ههنا، بحسب امرئ من الشر، أن يحقر أخاه المسلم). رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه، ما يحب لنفسه). متفق عليه
- وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) رواه البخاري
* * *
لا يظلمه.. لا يسلمه.. لا يخذله.. لا يخونه.. لا يكذبه.. لا يحقره..
كل هذه محرمات بين المسلمين المؤمنين.
ينصره ظالما أو مظلوما.. يحب له ما يحب لنفسه.. يكون في حاجته..يفرج كربته.. يستره..
كل هذه واجبات بين المسلمين المؤمنين.
فانظر كيف يريد منا الله تعالى أن نكون.. وانظر كيف نريد أن نكون:
تعرف قدر خضوعنا لله تعالى.. وتسليمنا له جل شأنه.. تقف على قدر ما نحن عليه من إيمان..!!.
نعم.. لا نقر الخطأ، فمن اعتدى وتجاوز الشريعة من المسلمين، ألزمناه احترام الحدود، ومنعناه وكففناه، ولو كان مجاهدا، ولو كان داعية، ولو كان ذا نية صالحا.
وعندما ندعو لنصرة إخواننا المستضعفين في الفلوجة وغيرها من بلاد الإسلام المظلومة، فتلك الدعوة لا تتضمن ختما بصواب كل ما يفعله المجاهدون المقاومون للمحتل..كلا، لكننا أمام عدوان تحت سمعنا وبصرنا، وليس خلف ظهرنا، فنحن ندري به، ونسمع به، ونراه، وحينئذ واجب الإيمان يلزمنا أن ننصرهم، ونرفض ما يحدث لهم، فإنها إبادة بمعنى الكلمة، وليست حربا متكافئة، والمحتل بمقدوره أن يجنب المدينة الدمار، وأن يجتنب قتل الضعفاء الأبرياء، وذلك بمواجهة من تصدى لقتالهم وجها لوجه، فالمواجهة المباشرة تقلل من الدمار، والقتل العشوائي، لكنه لا يفعل، مؤثرا سلامة جنوده، معتمدا على ما معه من أسلحة، فيرمي في كل ناحية، وبكثافة كبيرة، لعل إحداها تصيب هدفا..!!.(/3)
وبذلك هو يتعمد، ولا يبالي بقتل الضعفاء الأبرياء، وتدمير ممتلكاتهم، بأبشع الطرق، وهذه هي الجريمة حقا، وهذا ما لا يسمع المسلمين السكوت عليه، مهما اختلفوا في تفاصيل طرق جهاد المحتل.
وفي هذه الأحوال لا ينفع الناس أن يقول كل: نفسي، نفسي. فالسنة في المسلم يخذل المسلم، أو يسلمه معلومة، والنار إذا اشتعلت في دار لن تقف عند حده.
إن من دواعي سكوت بعض المسلمين عن النصرة: خشيتهم أن يوصموا بالإرهاب، أو بدعم الإرهاب. وهذه الخشية لا معنى لها، ولا محل لها هنا، فالعالم وشعوب العالم، بل حتى العدو المحل نفسه، يعلم أن قتل الذين لا يحاربون من المستضعفين، وهدم الديار: جريمة تحلل العقوبة. ولذا شرع في محاكمة الجندي الذي قتل الجريح بدم بارد، ولو ظاهرا..!!، لأن قانونه يمنع من ذلك، ولأنه هكذا هي قوانين الحرب في العالم.
إن على المسلم ألا يخش إلا الله تعالى، وأن يسعى في نصرة المسلمين في كل مكان يحتل فيه العدو أرضهم، ويؤذيهم، وعليه أن يسعى في نصرة العزّل وأولي الضعف.
* * *(/4)
عيد القيامة ويسمى عيد الفصح
إبراهيم بن محمد الحقيل 8/2/1427
08/03/2006
وهو أهم أعياد النصارى السنوية ويسبقه الصوم الكبير الذي يدوم أربعين يومًا قبل أحد الفصح (1).
ويحتفل به عامة النصارى إلى اليوم في أول أحد بعد كمال الهلال من فصل الربيع في الفترة ما بين (22 مارس و25 إبريل) والكنائس الشرقية الأرثوذكسية تتأخر عن بقية النصارى في الاحتفال به، وهو بشعائره وصيامه وأيامه فصل كامل من السنة النصرانية (2).
________________________________________
(1) وهذا العيد يحتفلون في ذكراه بعودة المسيح –عليه السلام- أو قيامته بعد صلبه وهو بعد يومين من موته على حد زعمهم وهو خاتمة شرائع وشعائر متنوعة هي:
أ - بداية الصوم الكبير وهو أربعون يومًا قبل أحد الفصح، ويبدؤون الصوم بأربعاء يسمونه أربعاء الرماد؛ حيث يضعون الرماد على جباه الحاضرين ويرددون (من التراب نبدأ وإليه نعود).
ب – ثم بعده خمسون يومًا تنتهي بعيد الخمسين أو العنصرة.
ج – أسبوع الآلام وهو آخر أسبوع في فترة الصوم، ويشير إلى الأحداث التي قادت إلى موت عيسى –عليه السلام- وقيامته كما يزعمون.
د – أحد السعف وهو يوم الأحد الذي يسبق الفصح، وهو إحياء ذكرى دخول المسيح بيت المقدس ظافرًا.
هـ- خميس العهد أو الصعود ويشير إلى العشاء الأخير للمسيح واعتقاله وسجنه.
و - الجمعة الحزينة وهي السابقة لعيد الفصح وتشير إلى موت المسيح على الصليب؛ حسب زعمهم.
ز – سبت النور وهو الذي يسبق عيد الفصح، ويشير إلى موت المسيح، وهو يوم الانتظار وترقب قيام المسيح أحد عيد الفصح. وتنتهي احتفالات عيد الفصح بيوم الصعود أو خميس الصعود؛ حيث تتلى قصة رفع المسيح إلى السماء في كل الكنائس، ولهم فيه احتفالات ومهرجانات باختلاف المذاهب والبلاد النصرانية، ويسمون خميسه وجمعته السابقة له: الخميس الكبير، والجمعة الكبيرة، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- انظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/473) وانظر أيضًا الأمر بالاتباع للسيوطي (141). وهو الخميس المقصود برسالة الحافظ الذهبي –رحمه الله تعالى- (تشبه الخسيس بأهل الخميس)، وهذا الخميس هو آخر يوم صومهم ويسمونه أيضًا خميس المائدة أو عيد المائدة وهو المذكور في سورة المائدة في قوله –تعالى-: "قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" [المائدة:114].
=وكان لهم من الأعمال الغريبة في هذه الأعياد شيء كثير، ذكره كثير من ا لمؤرخين، فمن ذلك: جمع ورق الشجر وتنقيعه والاغتسال به والاكتحال، وكان أقباط مصر يغتسلون في بعض أيامه في النيل ويزعمون أن في ذلك رقية ونشرة. ويوم الفصح عندهم هو يوم الفطر من صومهم الأكبر، ويزعمون أن المسيح –عليه السلام- قام فيه بعد الصلبوت بثلاثة أيام وخلص آدم من الجحيم، إلى غير ذلك من خرافاتهم. وقد ذكر الذهبي: أن أهل حماة يعطلون فيه أعمالهم لمدة ستة أيام، ويصبغون البيض، ويعملون الكعك، وذكر ألوانًا من الفساد والاختلاط الذي يجري فيه آنذاك، وذكر أن المسلمين يشاركون فيه وأن أعدادهم تفوق أعداد النصارى –والعياذ بالله- انظر نخبة الدهر (280) والبدء والتاريخ للمقدسي (4/47).
وذكر ابن الحاج: أنهم يجاهرون بالفواحش والقمار ولا أحد ينكر عليهم. انظر: المدخل (1/390): ولعل هذا ما دفع شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- إلى إنكار ما رآه من المسلمين من تقليد النصارى في أعيادهم وشعائرهم؛ فإنه ذكر شيئًا كثيرًا من ذلك في كتابه القيم الاقتضاء، وكذلك ألف الذهبي رسالته آنفة الذكر.
(2) انظر في هذا العيد أيضًا: تاريخ ابن الوردي (1/80) والكامل (1/125) وتاريخ الطبري (1/735) وتاريخ ابن خلدون (2/147) ومجلة المشرق الكاثوليكية عدد (4)، ص 241-253 والموسوعة العربية العالمية (16/709) والموسوعة العربية الميسرة (2/1247).(/1)
عيد النيروز
إبراهيم بن محمد الحقيل 8/2/1427
08/03/2006
ومعنى النيروز: الجديد، وهو ستة أيام؛ حيث كانوا في عهد الأكاسرة يقضون حاجات الناس في الأيام الخمسة الأولى، وأما اليوم السادس فيجعلونه لأنفسهم وخواصهم ومجالس أنسهم، ويسمونه النيروز الكبير، وهو أعظم أعيادهم(1).
ويحتفل بعيد النيروز أيضًا البهائيون، وذلك في ختام صيامهم الذي مدته (19) يومًا وذلك في (21آذار) (2).
والنيروز أيضاً أول يوم من السنة عند القبط ويسمى عندهم: (عيد شم النسيم) ومدته عندهم ستة أيام أيضاً تبدأ من (6حزيران) (3) وقد مضى ذكر شم النسيم عند الفراعنة فلا يمنع أن يكون الأقباط أخذوه من تراث الفراعنة وآثارهم، ولا سيما أن الجميع في مصر.
________________________________________
(1) انظر في هذا العيد أيضًا: تاريخ ابن الوردي (1/80) والكامل (1/125) وتاريخ الطبري (1/735) وتاريخ ابن خلدون (2/147) ومجلة المشرق الكاثوليكية عدد (4)، ص 241-253 والموسوعة العربية العالمية (16/709) والموسوعة العربية الميسرة (2/1247).
(2) مجلة الأزهر، عدد (10)، ص1485، وذكر أصحاب الأوائل أن أول من اتخذ النيروز حمشيد الملك، وفي زمانه بعث هود –عليه السلام- وكان الدين قد تغيّر، ولما ملك حمشيد جدّد الدين وأظهر العدل، فسمي اليوم الذي جلس فيه على سرير الملك نيروزًا، فلما بلغ من عمره سبعمائة سنة ولم يمرض ولم يوجعه رأسه تجبر وطغى، فاتخذ شكلاً على صورته وأرسلها إلى الممالك ليعظموها، فتعبّدها العوام، واتخذوا على مثالها الأصنام، فهجم عليه الضحاك العلواني من العمالقة باليمن فقتله كما في التواريخ. ومن الفرس من يزعم أن النيروز هو اليوم الذي خلق الله فيه النور. ويعتبر النيروز عيد رأس السنة الفارسية الشمسية ويوافق الحادي والعشرين من شهر مارس من السنة الميلادية، وكان من عادة عوامهم إيقاد النار في ليلته ورش الماء في صبيحته. انظر: شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد، للسفاريني (1/578)، وحاشية الحلو والتركي على المغني لابن قدامة (4/428).
(3) موسوعة الأديان والمذاهب المعاصرة (1/415).(/1)
عيد بأية حال عدت ياعيد!
2/10/1422
أ.د.ناصر بن سليمان العمر- المشرف العام على موقع المسلم
وكل عيد ونحن وأنتم والمسلمون بخير. .
فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة يغزلن للناس مايملكن قطميرا
يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
تذكرت أبيات الصاحب بن عباد قبيل عيد هذا العام وأنا أقلب النظر في حال الأمة يمنة ويسرة، وجراحات المسلمين ضاربة أطنابها شرقاً وغرباً، وكأنه اختزل لنا هذه الحال في تلك الأبيات التي تفيض أسى وحزناً
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد ** تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
ففي فلسطين ما يُدمي القلب، ويُحدث الأسى، وبنو صهيون قد طغوا وبغوا وتجبروا، وفي أفغانستان أهوال تشيب لها الولدان، فلم تنعم بالأمن منذ أكثر من عشرين عاماً، ابتداء بجرائم الروس وفظائعهم، وانتهاء بكبرياء الغرب وغطرستهم، وتحزب الأحزاب وتكالبهم ضد شعب بريء مستضعف قد أوهنته الحروب، واشتدت عليه الخطوب، ولجأ إلى الله يشكو ظلم الظالمين، وخذلان الجيران والمسلمين والمحبين، ولا يزال في الشيشان جرح ينزف، ودماء تسيل، وضاعت أصوات الثكالى وآهات المكلومين في زحمة هذه المآسي والآلام، حتى كدنا أن ننسى أن هناك مصيبة في بلاد الشيشان، أما كشمير والفليبين والأرخبيل، فتشكو حالها إلى الله، فلم تعد أخبارها تثير الحزن، أو جراحها تهز الوجدان، وذهبت صراخاتها أدراج الرياح.
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لا مست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
بل إنني تذكرت وأنا أقلب النظر في مآسي المسلمين وجراحاتهم حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهو
يذكر لنا القتال الذي سيجري مع الروم، وكان مما قاله في هذا الحديث العظيم:"يقتتلون مقتلة – إما قال: لا يرى مثلها، وإما قال: لم يرى مثلها، حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخر ميتاً، ثم قال: فبأي غنيمة يفرح أو أي ميراث يقاسم" رواه مسلم.
تذكرت هذا الحديث وأنا أسمع أخبار المسلمين وأعداد القتلى بالمئات بل بالآلاف، فقلت: بأي عيد نفرح أم بأي مناسبة نحتفل ؟ !
ومما زاد في الحزن والأسى ما أسمعه من استعدادات كبرى تجرى للاحتفال بالعيد، وفيها من المآثم وكفر النعمة والاختلاط ما لا يخفى، والذين يشاركون في هذه الاحتفالات يقعون في جملة من الأخطاء، ويرتكبون عدداً من الذنوب والآثام، فكيف يكون شكر الله على نعمة هذا الشهر، وما أكرمنا به من الصيام والقيام والعبادة، بمثل هذه السفاهة وخفة الأحلام !
وكيف يحتفل الناس باللهو والعبث، وجراحات المسلمين تنزف، والعدو قد استباح الدماء والأعراض، ألا نخشى أن يحلّ بنا ما حذّر الله منه في كتابه " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمرناها تدميراً ".
ألا نتذكر قوله – تعالى-: "وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ".
بينما دلّنا- سبحانه- كيف يكون شكره في ختام هذا الشهر الكريم " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبّروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ".
إن شكر الله وحمده، والثناء عليه يكون بالمحافظة على دينه، والأخذ على أيدي السفهاء، وقصرهم على الحق قصراً، وأطرهم عليه أطراً، ودعم الجهاد ومساعدة المجاهدين الذين يجاهدون لإعلاء كلمة الله والدفاع عن شرعه، وردّ كيد المعتدين في نحورهم من اليهود والنصارى، والمشركين، والعلمانيين، ومن حالفهم من المنافقين والمهزومين.
تذكرت ونحن نستقبل هذا العيد المبارك ما شدا به محمود غنيم –رحمه الله- في قصيدته الرائعة، فأشجاني وأثار كوامن في النفس مدفونة:
ما لي وللنجم يرعاني وأرعاه أمسى كلانا يعاف الغمض جفناه
لي فيك ياليل آهات أرددها أواه لو أجدت المحزون أواه
كم صرّفتنا يد كنا نصرّفها وبات يملكنا شعب ملكناه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
ومع تلك المآسي والجراحات، فإن هناك الأمل المشرق، والمستقبل الباهر -بإذن الله- الذي يبشر بفتح عظيم وانتصار قادم، بدت بوادره تظهر في زحمة الآلام والأحزان.
إن هذه الفواجع تحمل في رحمها نوراً ساطعاً، وبشرى لا تخفى على ذي عينين، ستنير ما بين المشرق والمغرب _بإذن الله_.(/1)
ولقد أرشدنا - صلى الله عليه وسلم - وعلمنا كيف يكون التفاؤل في أقسى الظروف والأحوال، فهاهو - صلى الله عليه وسلم - وهو يحدث عائشة -رضي الله عنها- ويجيبها عن سؤالها: هل مرّ عليه يوم أشد من يوم أحد، فقال: " لقد لقيت من قومك -وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة- إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بـ (قرن الثعالب) فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: "إن الله -عز وجل- قد سمع قول قومك لك ، وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال، وسلّم علي، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً" رواه مسلم.
أي تفاؤل أعظم من هذا التفاؤل؟ يخرج هائماً على وجهه من شدة ما يلاقي من قومه، ومع ذلك يقول لملك الجبال تلك المقالة. إنها تدل على قوة إيمان، وثقة بالنصر، وبعد عن اليأس، وأمل مشرق، وتفاؤل لا يحدّه حدّ، فلم تكن تلك الظروف المحيطة به -مع ما فيها من آلام وأحزان- لتحول بينه وبين هذا الأمل، واستشراف المستقبل، وحسن الظن بالله.
إنه قد خرج عن الدائرة الضيقة التي يعيش فيها إلى الأفق الرحب، والأمل الواسع، والتطلع إلى المستقبل بثقة لا تعرف اليأس والقنوط.
وتمضي السيرة تؤكد لنا هذا المنهج الذي يربي عليه - صلى الله عليه وسلم - أمته، فعندما جاء الصحابة يشكون له حالهم، وما يلاقونه من قريش، كما في حديث خباب، فيفاجئهم - صلى الله عليه وسلم - بمقولته الرائعة، التي تنقلهم من هذا الضيق والعناء، إلى المستقبل الباهر، والفضاء الرحب، والسيادة المطلقة "والله ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه" ثم يختم ذلك بمقولة تدل على إدراك عميق لطبيعة النفس البشرية "ولكنّكم تستعجلون".
أما قصة الهجرة عندما لحقه سراقة ليدلّ عليه قريش، ثم حدث لفرس سراقة ما حدث، وبعد أن أعطاهم الأمان وطلب الدعاء، إذا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له كلاماً يدلّ على ما تحمله نفسه - صلى الله عليه وسلم - من ثقة بالله، وتفاؤل لا يعرف الحدود، مع أنه قد خرج من أحبّ البلاد إليه طريداً خائفاً من قريش، ليس معه إلا صاحبه - رضي الله عنه - فإذا هو يبشّر سراقة بأنه سيلبس سواري كسرى، إنه هنا - صلى الله عليه وسلم - يبشّر بسقوط مملكة من أعظم الدول والممالك في ذلك الزمان، وهي مملكة فارس التي كانت تتقاسم مع الروم السلطة والملك.
إنه بون شاسع، وفرق عظيم بين الحال التي كان عليها وهو يقول لسراقة ما قال، وبين ما يبشّره به من فتح عظيم، ونصر لهذا الدين يتخطى الجزيرة إلى مملكة من أعظم الممالك في التاريخ وهكذا كان.
إن تربية النفس على التفاؤل في أعظم الظروف وأقسى الأحوال، منهج لا يستطيعه إلا أفذاذ الرجال، والمتفائلون وحدهم هم الذين يصنعون التاريخ، ويسودون الأمم، ويقودون الأجيال.
أما اليائسون والمتشائمون، فلم يستطيعوا أن يبنوا الحياة السوية، والسعادة الحقيقية في داخل ذواتهم، فكيف يصنعونها لغيرهم، أو يبشّرون بها سواهم، وفاقد الشيء لا يعطيه.
ومكلف الأشياء ضد طباعها متطلّب في الماء جذوة نار
إننا بحاجة إلى أن نربى الأمة على التفاؤل الإيجابي، الذي يساهم في تجاوز المرحلة التي تمرّ بها اليوم، مما يشدّ من عضدها، ويثبّت أقدامها في مواجهة أشرس الأعداء، وأقوى الخصوم؛ ليتحقق لها النصر- بإذن الله-.
والتفاؤل الإيجابي، هو التفاؤل الفعّال، المقرون بالعمل المتعدي حدود الأماني والأحلام.
والتفاؤل الإيجابي هو المتمشّي مع السنن الكونية، أما الخوارق والكرامات فليست لنا ولا يطالب المسلم بالاعتماد عليها، أو الركون إليها، وإنما نحن مطالبون بالأخذ بالأسباب، وفق المنهج الرباني،
والتفاؤل الإيجابي هو التفاؤل الواقعي الذي يتّخذ من الحاضر دليلاً على المستقبل دون إفراط أو تفريط، أو غلوّ أو جفاء.
والتفاؤل الإيجابي هو المبنيّ على الثقة بالله، والإيمان بتحقق موعوده، متى ما توافرت الأسباب، وزالت الموانع "ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض".
والمتأمل للواقع اليوم يرى من المبشّرات مالا يستطيع جاحد أن ينكره، ويكفي من ذلك أن هذه الأمة أصبحت الشغل الشاغل للعالم يحسب لها العدو ألف حساب، وما تحالف العالم اليوم بقيادة أمريكا ضد المسلمين باسم (مكافحة الإرهاب) إلا دليل على قوة شأن الأمة، وأنها بدأت تسير نحو طريق العزة والكرامة، والمجد والخلود، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ولكنكم تستعجلون".(/2)
وتأمّل معي هذه البشرى "لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم".
وعضّ على هذا النبراس العظيم " فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون "
--------------------------------------------------------------------------------
* مقال للشيخ نشر بتاريخ 2/10/1422 في العديد من المواقع(/3)
عيد رأس السنة الميلادية
إبراهيم بن محمد الحقيل 7/12/1426
07/01/2006
وللاحتفال به شأن عظيم في هذه الأزمنة؛ حيث تحتفل به الدول النصرانية وبعض الدول الإسلامية، وتنقل تلك الاحتفالات بالصوت والصورة الحية من شتى بقاع الأرض، وتتصدر احتفالاته الصفحات الأولى من الصحف والمجلات، وتستحوذ على معظم نشرات الأخبار والبرامج التي تبث في الفضائيات، وصار من الظواهر الملحوظة سفر كثير من المسلمين الذين لا تقام تلك الاحتفالات النصرانية في بلادهم إلى بلاد النصارى لحضورها والاستمتاع بما فيها من شهوات محرمة غافلين عن إثم الارتكاس في شعائر الذين كفروا(1)
________________________________________
للنصارى في ليلة رأس السنة (31 ديسمبر) اعتقادات باطلة، وخرافات كسائر أعيادهم المليئة بذلك، وهذه الاعتقادات تصدر عن صنّاع الحضارة الحديثة وممن يوصفون بأنهم متحضرون ممن يريد بعض من بني قومنا اتباعهم حذو القذة بالقذة حتى في شعائرهم وخرافاتهم لكي نضمن مواقعنا في مصافّ أهل التقدم والحضارة، وحتى يرضى عنها أصحاب البشرة البيضاء، والعيون الزرقاء!!
ومن اعتقاداتهم تلك : أن الذي يحتسي آخر كأس من قنينة الخمر بعد منتصف تلك الليلة سيكون سعيد الحظ، وإذا كان عازبًا فسيكون أول من يتزوج من بين رفاقة في تلك السهرة، ومن الشؤم دخول منزل ما يوم عيد رأس السنة دون أن يحمل المرء هدية، وكنس الغبار إلى الخارج يوم رأس السنة يكنس معه الحظ السعيد، وغسل الثياب والصحون في ذلك اليوم من الشؤم، والحرص على بقاء النار مشتعلة طوال ليلة رأس السنة يحمل الحظ السعيد... إلخ تلك الخرافات. انظر: مجلة الاستجابة، عدد (4)، ص 29.(/1)
عيد عاشوراء
إبراهيم بن محمد الحقيل 6/1/1427
05/02/2006
حيث اتخذه العبيديون يوم حزن ونوح ولطم وصراخ وبكاء وإنشاد للمراثي وسب للصحابة –رضي الله عنهم- وعطلوا فيه الأسواق، وكانوا يعدون فيه سماطًا عامًا يوضع عليه الخبز والعدس الأسود علامة للحداد، ولما زالت دولتهم وجاء بنو أيوب قلبوه موسم فرح وابتهاج(1), وأصبح النواصب يتزينون فيه ويوسعون على عيالهم ابتهاجًا بقتل الحسين –رضي الله عنه-(2).
________________________________________
(1) الإبداع في مضار الابتداع (269-272).
(2) وضع كل فريق –من الروافض والنواصب- من الأحاديث المكذوبة ما يؤيد به مذهبه، وقد نبه العلماء على تلك الأحاديث: كابن الجوزي في الموضوعات، والسخاوي في المقاصد الحسنة، والملا علي قاري في الأسرار المرفوعة، وغيرهم، ولم يصح فيه إلا أحاديث صيامه شكرًا لله –عز وجل- على نجاة موسى –عليه الصلاة والسلام- وإغراق فرعون، وليس لهذا الصيام علاقة بما جرى من الفتنة التي قتل فيها الحسين –رضي الله عنه- ومن زعم خلاف ذلك فقد كذّب الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في بيان سبب صيام عاشوراء.(/1)
عين جالوت الواقعة والمغزى
الإعصار
د. عماد الدين خليل
--------------------------------------------------------------------------------
في منتصف عام 758 هـ (1260 م) بعث هولاكو من الشام برسله يحملون رسالته المشهورة إلى سلطان مصر المملوكي: سيف الدين قطز..
كان هولاكو في قمة انتصاراته.. وكان المغول قد اكتسحوا القوى الإسلامية واحدة بعد الأخرى، وهدموا متاريسها وجدرانها، وسووا الطريق أمام جحافلهم المتقدمة غرباً.. ما من قيادة إسلامية، من أواسط آسيا وحتى أطراف سيناء، إلا وأذعنت لهم طوعاً أو كرهاً.. وكان السيف الوثني المغولي يعلو على السيوف، وكان الرأس الذي لا ينحني له يُطاح به في التوّ واللحظة.. وحتى أولئك الذين اختاروا السلامة ولووا رؤوسهم عجزاً عن المجابهة وهروباً من الموت.. وقعوا في مصيدة الموت التي كان المغول يتفننون في نصبها وفي تعذيب خصومهم وهم يتقلبون في شباكها.
والذي حدث في بغداد معروف.. ومعروف أيضاً المصير المفجع الذي آلت إليه أكبر قوتين إسلاميتين في المشرق: الخوارزميون في بلاد فارس وما وراء النهر، والعباسيون في العراق..
سنوات عديدة والمطاردات الرهيبة لا تفتر بين المغول وبين السلطان الخوارزمي الأخير جلال الدين منكبرتي.. وصراع الحياة والموت يعرض مشاهده الدامية في مساحات واسعة من الأرض، شهدت جهات ما وراء النهر وشمالي الهند وبحر قزوين وشمالي العراق والجزيرة الفراتية والأناضول بعضاً منها..
وعبثاً حاول السلطان أن يتصل بالأمراء المحليين من إخوانه المسلمين في سبيل تشكيل جبهة إسلامية موحدة لمقاومة السيل الزاحف، لأنه –هو- عبر سنوات حكمه الطويلة قد مارس خطيئة التمزيق والتفتيت وإشعال نار الخصومة والعداء بين القيادات الإسلامية بعضها ضد بعض.. وأخيراً استسلم لليأس وتخلف عنه كثير من أنصاره، ووجد نفسه في قلة من أصحابه وحيداً غريباً، مطارَداً في جبال ديار بكر.. ويذكر معاصروه كيف أن البكاء كان يغلب عليه في الليل والنهار، وكيف أنه هرب إلى الخمر يختبئ وراء غيبوبتها من شبح النهاية القريب.. وما لبث أحد سكان المنطقة أن طعنه بسكين وقضى عليه.
وأما العباسيون فأمرهم معروف.. وما شهدته بغداد حاضرة المسلمين الكبرى، غدا مثلاً يضرب على مداولة الأيام بين الناس.
ولكن ما شأن الإمارات المحلية؟
لم يكن مصيرها –بطبيعة الحال- بأحسن من مصير دول الإسلام الكبرى.. بعضها هادن ونافق ودعا إلى السلم وهو في مواقع الضعف والهوان، فلم ينجه ذلك من سيوف المغول، وبعضها الآخر وقف الوقفة التي تقتضيها كرامة المسلم ولقي من صنوف الأذى ما يشير إلى بشاعة الطرائق التي اعتمدها المغول لإلقاء الرعب في قلوب الخصوم..
قُتِلَ الكاملُ الأيوبي أميرُ ميافارقين في ديار بكر شرّ قتلة، إذ كان المغول يقطعون لحمه قطعاً ويدفعون بها إلى فمه حتى مات، ثم قطعوا رأسه وحملوه على رمح وطافوا به في بلاد الشام. وكان يتقدم الموكب مغنون وطبالون، وأخيراً علِّق في شبكة بسور أحد أبواب دمشق، ويقال أنه بقي هناك حتى تحرير المدينة من قبضة الغزاة.
ووضع الملك الصالح أمير الموصل في دهن ولباد وألقي في الشمس حتى تحول الدهن إلى ديدان بعد أسبوع، فشرعت الديدان تأكل جسده حتى مات على تلك الصورة البشعة بعد شهر.. أما ابنه الذي كان طفلاً في الثالثة من عمره فشقوه نصفين على ساحل نهر دجلة على مرأى من الناس.. وغير هؤلاء كثيرون لقوا مصارع لا تقل شناعة وبؤساً.. وما جرى في مدن الجزيرة الفراتية وشمالي الشام يعد واحداً مما شهدته الكثير من المدن والإمارات على مدى المشرق الإسلامي كله..
فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام؟
والمؤرخ ابن الأثير المتوفى عام 630 هـ، وهو يستعرض وقائع عام 617 هـ ويسطر بدايات خروج المغول على بلاد الإسلام، يتحدث عن الهول الذي ألمَّ بمعالم الإسلام، وقد كان في مطالعه يومها.. فماذا لو طال العمر بالمؤرخ المذكور وشهد أحداث العقود التالية.. ومآسيها؟(/1)
يقول الرجل: »لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدّم إليه رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فياليتَ أمي لم تلدني، وياليتني مت قبل حدوثها وكنتُ نسياً منسياً. إلا أني حدّثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً. فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمّت الخلائق وخصّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق اللهُ سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن، لم يبتلوا بمثلها، لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بخت نصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس.. وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قُتِلوا؟ فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا.. إنهم لم يبقوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم«.
الانكسار من الداخل
كان الهجوم المغولي السريع الكاسح قد منح هؤلاء المغيرين سلاحاً نفسياً خطيراً: الرعب الذي كان ينقض على خصومهم من الداخل فيهزمهم قبل أن تلتمع السيوف أمام عيونهم.. إنه السيف الأكثر حدة والذي كان يذبح فيه القدرة على الحركة.. لقد كان المسلمون يومها يعانون من شلل تام أو نصفي أفقدهم الأرجل التي يسيرون عليها والأيدي التي يضربون بها.. وهذه الوقائع التي يرويها ابن الأثير تكاد تكون تجسيداً »كاريكاتيرياً« مضحكاً محزناً للأمر الذي آل إليه الكثيرون من أبناء عالم الإسلام.
يقول الرجل: »لقد حكي لي عن حكايات يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذي ألقى الله سبحانه وتعالى في قلوب الناس منهم، حتى قيل إن الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية أو الدرب وبه جمع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم واحداً بعد واحدٍ لا يتجاسر أحد أن يمد يده إلى ذلك الفارس. ولقد بلغني أن إنساناً منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض ومضى التتري فأحضر سيفاً وقتله به! وحكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر وقال لنا حتى يكتف بعضنا بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف أمرهم. فقلت لهم: هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل، فأخذت سكيناً وقتلته، وهربنا فنجونا«!!
التحدي
في هذه الظروف السياسية والنفسية، ومن خلال وهج السيوف التي تقطر دماً وأصداء المعارك التي أثار نقعها سيل لا أول له ولا آخر من خيول الغزاة بعث هولاكو برسالته تلك إلى سلطان مصر المملوكي: سيف الدين قطز.. وكان الطاغية يعرف جيداً خلفية الرعب والانهزام التي رسمتها العقود الأخيرة على مدى خارطة عالم الإسلام وفي أعماق نفوس أبنائه، فعرف كيف ينتقي كلماتها.. قال: »مِن ملك الملوك شرقاً وغرباً، الخان الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء.. يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها ومن الأعمال، إنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه وسلّطنا على من حل به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتَبَر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم قبل أن ينكشف الغطاء فتندموا ويعود عليكم الخطأ.. وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد وطهرنا الأرض من الفساد وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب وعلينا الطلب. فأي أرض تأويكم؟ وأي طريق تنجيكم؟ وأي بلاد تحميكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع.. فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا ولأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم. فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذر من أنذر.. فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب قبل أن تضرب الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزاً ولا كافياً ولا حرزاً، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقد أنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذّرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم«.
فمن اختار الجهاد يصحبني!(/2)
كان الرسالة بمثابة التحدي النهائي لآخر قيادة إسلامية، وعلى ضوء الموقف الذي ستقرر هذه القيادة اتخاذه سيتوقف مصير عالم الإسلام وحضارته التي صنعها كدح القرون الطوال.
كل المؤشرات كانت تقود إلى الاستسلام للتحدي والإذعان لضروراته..
ولكن الإيمان له منطق آخر.. إنه لا يمنح القدرة على الحركة في ظروف الشلل التام فحسب، ولكنه يهب بصيرة نافذة تخترق حجب العمى والظلام لكي تطل على الأفق الذي يشع ضياء..
وبالحركة القديرة والرؤية الصائبة تجابه القيادات الفذة تحديات التاريخ ومحنه وويلاته فتخرج منها ظافرة وتحقق بالاستجابة قفزة نوعية في مجرى الفعل والتحقق.
قرأ سيف الدين قطز الرسالة واستدعى أمراءه ليعرض الأمر عليهم.. وجرى هذا الحوار.
قطز: ماذا ترتؤون؟
ناصر الدين قيمري: إن هولاكو، فضلاً عن أنه حفيد جنكيزخان، فإن شهرته وهيبته في غنى عن الشرح والبيان، وإن البلاد الممتدة من تخوم الصين إلى باب مصر كلها في قبضته الآن، فلو ذهبنا إليه نطلب الأمان فليس في ذلك عيب وعار! ولكن تناول السم بخداع النفس واستقبال الموت أمران بعيدان عن حكم العقل! إنه ليس الإنسان الذي يطمأن إليه، فهو لا يتورع عن احتزاز الرؤوس وهو لا يفي بعهده وميثاقه، فإنه قتل فجأة الخليفة وعدداً من الأمراء بعد أن أعطاهم العهد والميثاق، فإذا ما سرنا إليه فسيكون مصيرنا هذا السبيل!
قطز: والحالة هذه، فإن كافة بلاد ديار بكر وربيعة والشام ممتلئة بالمناحات والفجائع، وأضحت البلاد من بغداد حتى الروم خراباً يباباً، وقضي على جميع من فيها من حرث ونسل.. فلو أننا تقدمنا لقتالهم وقمنا بمقاومتهم فسوف تخرب مصر خراباً تاماً كغيرها من البلاد، وينبغي أن نختار مع هذه الجماعة التي تريد بلادنا واحداً من ثلاثة: الصلح أو القتال أو الجلاء عن الوطن. أما الجلاء عن الوطن فأمر متعذر، ذلك لأنه لا يمكن أن نجد لنا مفراً إلا المغرب، وبيننا وبينه مسافات بعيدة..
قيمري: وليس هناك مصلحة أيضاً في مصالحتهم إذ أنه لا يوثق بعهودهم!
عدد من الأمراء: ليس لنا طاقة ولا قدرة على مقاومتهم، فمر بما يقتضيه رأيك..
قطز: إن الرأي عندي هو أن نتوجه جميعاً إلى القتال، فإذا ظفرنا فهو المراد، وإلا فلن نكون ملومين أمام الخلق.
الظاهر بيبرس: أرى أن نقتل الرسل ونقصد كتبغا –قائد المغول- متضامنين، فإن انتصرنا أو هُزِمنا فسنكون في كلتا الحالتين معذورين.
أيد الأمراء كافة هذا الرأي.. وكان على قطز أن يتخذ قراره.. وقد اتخذه فعلاً.. قتل الرسل وعلق رؤوسهم على باب زويلة أياماً.. ورفع رأسه متحدياً بمواجهة الطاغية، وأصدر أوامر بالتجهز للقتال »جهاداً في سبيل الله ونصرة لدين رسول الله صلى الله عليه وسلم«..
وإذ رأى تردداً وجبناً ونكوصاً من عدد من الأمراء ألقى كلمته المؤثرة: »يا أمراء المسلمين! لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين«..
وما كان للأمراء جميعاً، إزاء قيادة مؤمنة كهذه، إلا أن يخلعوا رداء العجز والوهن ومحبة الدنيا.. ويقفوا متحدين بمواجهة الفتنة التي إن لم تدفع بالدم فإنها لن تكتفي لضرب الذين ظلموا منهم خاصة!
اليوم الفصل
انطلقت القوات الإسلامية بقيادة سيف الدين قطز واجتازت سيناء باتجاه غزة سالكةً الطريق المحاذي للبحر، وتولى الظاهر بيبرس قيادة المقدمة. ولم يكن في غزة سوى قوة صغيرة من المغول بقيادة بايدر الذي أرسل إلى القائد المغولي كتبغا الذي أنابه هولاكو لإتمام الغزو غرباً، يخطره بحركة الجيش الإسلامي، غير أن المسلمين اكتسحوا عساكره قبل أن تصل إليه النجدة.
كان كتبغا في بعلبك، فتجهز علىالفور للمسير إلى وادي نهر الأردن بعد أن يتجاوز بحر الجليل، غير أن منعه اشتعال ثورة المسلمين في دمشق ضد السلطة المغولية وأنصارها من النصارى المحليين حيث حطمت دورهم وكنائسهم، واشتدت الحاجة إلى العساكر المغولية لإعادة الأمن إلى نصابه. وفي تلك الأثناء كان قطز يواصل السير على الساحل الفلسطيني ثم انعطف إلى الداخل ومضى شمالاً لتهديد مواصلات كتبغا إذا حدث وتقدم إلى فلسطين.(/3)
عبر كتبغا نهر الأردن وتوجه صوب الجليل الشرقي، فبادر قطز على الفور بالانعطاف بقواته باتجاه الجنوب الشرقي مجتازاً الناصرة حيث وصل في الرابع عشر من رمضان (المصادف الثاني من أيلول عام 1260م) إلى عين جالوت. وفي صبيحة اليوم التالي قدم الجيش المغولي تعززه كتائب كرجية وأرمنية، دون أن يعلم أن جيش المماليك أضحى قريباً منه. وكان قطز يعرف جيداً تفوق جيشه في العدد على العدو ولذا أخفى قواته الرئيسية في التلال القريبة ولم يعرض للعدو إلا المقدمة التي قادها بيبرس. وما لبث كتبغا أن وقع في الفخ إذ حمل بكل رجاله على القوات الإسلامية التي شهدها أمامه، فأسرع بيبرس في تقهقره إلى التلال بعد أن اشتدت مطاردة كتبغا له، فلم يلبث الجيش المغولي بأسره أن جرى تطويقه فجأة، وجرت بين الطرفين معركة طاحنة، واضطربت قوات المماليك بعض الوقت، فدخل قطز المعركة لجمعهم، ولم تنقضِ سوى بضع ساعات حتى بدأ تفوق المسلمين في الميدان، وسحقت زهرة القوات المغولية ووقع قائدهم نفسه أسيراً. وبأسره انتهت المعركة، إذ جرى حمله مقيداً بالأغلال إلى السلطان حيث احتزّ رأسه!
توجه السلطان قطز إلى دمشق بعد أيام قلائل من المعركة حيث استقبل استقبال الأبطال وهرب نواب المغول منها بعد أكثر من سبعة أشهر من خضوعها لسيطرتهم، وقام قائده الظاهر بيبرس بملاحقة فلول العدو شمالاً وتطهير البلاد منهم، حيث قتل وأسر عدداً كبيراً، وتمكن خلال شهر واحد من دخول حلب، المعقل الشمالي، وتخليصه من قبضة الغزاة. وهكذا تم تحرير بلاد الشام وفلسطين من أقصاها إلى أقصاها. ومع أن هولاكو أرسل العساكر لاسترداد حلب فإنهم اضطروا للانسحاب بعد أربعين يوماً أجروا أثناءها المذابح في عدد كبير من المسلمين انتقاماً لمصرع كتبغا، غير أن ذلك كان كل ما استطاع هولاكو أن يفعله للانتقام لقائده الشهير.
لقطات من المعركة
· تقدم الملك المظفر إلى سائر الولاة بإزعاج الأجناد في الخروج للسفر ومن وجد منهم قد اختفى يضرب بالمقارع! فلما كان الليل ركب السلطان وحرك أعلامه وقال: أنا ألقى التتار بنفسي. فلما رأى الأمراء مسير السلطان ساروا على كره!
· أقسم المظفر لقادة الصليبيين في فلسطين أنه متى تبعه منهم فارس أو راجل يريد أذى عسكر المسلمين رجع وقاتلهم قبل أن يلقى التتر!
· أمر الملك المظفر بالأمراء فجمِعوا، وحضهم على قتال التتار وذكرهم بما وقع بأهل الأقاليم من القتل والسبي والحريق، وخوّفهم من وقوع مثل ذلك، وحثّهم على استنقاذ الشام من التتر ونصرة الإسلام والمسلمين، وحذّرهم عقوبة الله، فضجوا بالبكاء وتحالفوا على الاجتهاد في قتال التتر ودفعهم عن البلاد.
· عندما اصطدم العسكران اضطرب جناح عسكر السلطان وانتقض طرف منه فألقى الملك المظفر عند ذلك خوذته عن رأسه إلى الأرض وصرخ بأعلى صوته: »واإسلاماه!« وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة، فأيّده الله بنصره..
· مرّ العسكر في أثر التتر إلى قرب بيسان فرجع التتر والتقوا بالمسلمين لقاء ثانياً أعظم من الأول فهزمهم الله وقتل أكابرهم وعدة منهم، وكان قد تزلزل المسلمون زلزالاً شديداً فصرخ السلطان صرخة عظيمة سمعه معظم المعسكر وهو يقول: »واإسلاماه!« ثلاث مرات: »يا الله انصر عبدك قطز على التتار!« فلما انكسر التتار الكسرة الثانية نزل السلطان عن فرسه ومرغ وجهه على الأرض وقبلها، وصلى ركعتين شكراً لله تعالى ثم ركب، فأقبل العساكر وقد امتلأت أيديهم بالمغانم!
· كتب السلطان إلى دمشق يبشر الناس بفتح الله وخذلانه التتر، وهو أول كتاب ورد منه إلى دمشق. فلما ورد الكتاب سرّ الناس به سروراً كثيراً وبادروا إلى دور النصارى الذي كانوا من أعوان التتار فنهبوها وخربوا ما قدروا على تخريبه، وقتلوا عدة من النصارى واستتر باقيهم، وذلك أنهم في مدة استيلاء التتر هموا مراراً بالثورة على المسلمين وخربوا مساجد ومآذن كانت بجوار كنائسهم، وأعلنوا بضرب الناقوس وركبوا بالصليب وشربوا الخمر في الطرقات ورشّوه على المسلمين!
· لما بلغ هولاكو كسرة عسكرة وقتل نائبه كتبغا، عظم عليه فإنه لم يكسر له عسكر قبل ذلك..
· .. وأتم الملك المظفر السير بالعسكر حتى دخل دمشق، وتضاعف شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر العظيم، فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر لاستيلائهم على معظم بلاد الإسلام، فابتهجت الرعايا بالنصرة عليهم وبقدوم الملك المظفر إلى الشام. وفي يوم دخوله إلى دمشق أمر بشنق جماعة من المنتسبين إلى التتر فشنقوا.. وأنشد بعض الشعراء:
واستجدّ الإسلامُ بعد دحوضِهِ
هلك الكفرُ في الشآم جميعاً
رع سيف الإسلامِ عند نهوضِهِ
بالمليك المظفر الملك الأو
فاعتززنا بسحره وببيضهِ
ملك جاءنا بعزم وحزم
دائما ً مثل واجبات فروضِهِ
أوجب الله شكر ذاك علينا
الأرقام التي يريدها الله ورسوله
فليس من المبالغة القول بأن عين جالوت شهدت معركة حاسمة على المستويات العسكرية والسياسية والعقيدية والحضارية عموماً..(/4)
ها هنا، في قلب فلسطين، وبعد ما يقرب من مضي قرن على معركة حطين الفاصلة، أجرى التاريخ نزالاً لا يقل حسماً بين قوتين متقابلتين: الإسلام والوثنية، التحضر والجاهلية، والالتزام بالقيم والانفلات منها.. وكان انتصار المسلمين يعني انتصار على الوثنية، والتحضر على الجاهلية، والقيم على الانفلات..
ومؤشرات الثقة بالنفس والإيمان بالنصر والقدرة على تجاوز الهزائم والنكسات والتي كادت تصل بالمسلمين إلى نقطة الصفر.. جاءت هذه المعركة المباركة لكي ترتفع بها ثانية صوب الأرقام التي تليق بمكانة المسلمين في العالم.
وها هنا –أيضاً- نشهد المعادلة الواضحة التي لا تمنح جوابها العادل إلا إذا تجمع طرفاها في تكافؤ متقابل: الأخذ بالأسباب، والإيمان الواثق العميق بالله وبعدالة القضية التي يجاهد المسلمون من أجلها.. وبدون تحقق هذا التقابل فلن يكون هناك نصر أو توفيق.. ولن يحتاج الأمر إلى مزيد شواهد أو نقاش، فإن مجرى التاريخ الإسلامي الطويل يعرض علينا عشرات بل مئات وألوفاً من الشواهد علىهذا الذي تعرضه علينا واقعة عين جالوت..
وهذه شهادة المؤرخ الإنجليزي المعاصر ستيفن رنسيمان في كتابه الحروب الصليبية يقول: »تعتبر معركة عين جالوت من أهم المعارك الحاسمة في التاريخ.. ومن المحقق لو أن المغول عجلوا بإرسال جيش كبير عقب وقوع الكارثة لتيسر تعويض الهزيمة، غير أن أحكام التاريخ حالت دون نقض ما اتخذ في عين جالوت من قرار. فما أحرزه المماليك من انتصار أنقذ الإسلام من أخطر تهديد تعرض له. فلو أن المغول توغلوا إلى داخل مصر لما بقي للمسلمين في العالم دولة كبيرة شرقي بلاد المغرب، ومع أن المسلمين في آسيا كانوا من وفرة العدد ما يمنع من استئصال شأفتهم، فإنهم لم يعودوا يؤلفون العنصر الحاكم. ولو انتصر كتبغا النصراني، لازداد عطف المغول على النصارى ولأصبح للنصارى السلطة لأول مرة منذ سيادة النحل الكبيرة في العصر السابق على الإسلام. على أنه من العبث أن نفكر في الأمور التي قد تحدث وقتئذ، فليس للمؤرخ إلا أن يروي ما حدث فعلاً إذ أن معركة عين جالوت جعلت سلطة المماليك بمصر القوة الأساسية في الشرق الأدنى في القرنين التاليين، إلى أن قامت الدولة العثمانية.. فما حدث من ازدياد قوة العنصر الإسلامي وإضعاف العنصر النصراني لم يلبث أن أغوى المغول الذين بقوا في غرب آسيا على اعتناق الإسلام. وعجلت هذه المعركة بزوال الإمارات الصليبية، لأن المسلمين المظفرين، حسبما تنبأ مقدم طائفة فرسان التيوتون، أضحوا حريصين على أن يتخلصوا نهائياً من أعداء الدين«.
ولم يشأ رنسيمان أن يشير إلى أن انتماء مغول غربي آسيا إلى الإسلام لم يكن بسبب وجودهم في قلب أكثرية إسلامية فحسب، بل وهذا هو الأهم، لما يمتلكه الإسلام نفسه من قدرة ذاتية على الجذب والتأثير، وفاعلية دائمة في التغلب على العناصر المناوئة الغريبة واحتوائها.
ومهما يكن من أمر فإن المعركة الفاصلة حققت وحدة بين مصر والشام كانت ذات قيمة استراتيجية كبيرة في صراع الإسلام ضد خصومه التاريخيين.. إذ أصبحت الدرع الذي يقي المسلمين هجمات المغول الشرسة، ويمكن –في الوقت نفسه- من مجابهة التحدي الصليبي ومحاولة استئصال وجوده من الأرض الإسلامية.
وليس ثمة غير الوحدة من طريق
إنها الوحدة نفسها التي سهر عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود على إقامتها، وجاء الناصر صلاح الدين من بعدهما لكي يبني عليها انتصاراته الحاسمة ضد الصليبيين الغزاة ويحرر القدس.. وها هي معركة عين جالوت تشد الآصرة مرة أخرى وتمنح المسلمين الأرضية التي سيتحركون عليها عبر العقود القادمة لمجابهة الخصوم ودفعهم إلى إحدى اثنتين: الاذعان لكلمة الإسلام أو العودة من حيث جاؤوا.. لقد ملأت المعركة الفراغ المخيف الذي كان يمكن أن يتمخض عن سقوط الخلافة العباسية وتفتت السلاجقة من قبل، فأتاحت للقيادة المملوكية الشابة أن تعوض عالم الإسلام عما فقدَ هناك..
.. وهناك البعد الحضاري
وثمة من يقول بأن المعركة خدمت أوربا نفسها وحفظت مدنيتها، كما يرى بروان وغيره، وهذا حق.. فإن المغول كانوا يطمحون لغزوها وتخريبها، ولكن تقليم أظافرهم في عين جالوت فضلاً عن عوامل أخرى صدّهم عن المضي في الطريق إلى نهايته.
هذا إلى أن المعركة حققت للحركة الحضارية الإسلامية القدرة على مواصلة المسير، وعلى أن تتجاوز محنة الدمار والتخريب الذي شهدته بغداد.. فها هي ذي في مصر والشام والمغرب تنجز المزيد من العطاء وتتحقق بالإبداع في جوانب عديدة وساحات شتى.. وليس كما يقال من أن عالم الإسلام دخل عصر الظلمة بعد سقوط بغداد.. وليس ابن خلدون وابن كثير وابن تيمية وأبو الفدا والسيوطي والسخاوي وابن القيم والجزري.. وغيرهم كثيرون، سوى إشارات على طريق هذا التحقق المبدع الذي شهدته حضارة الإسلام يومَها..
آن الأوان لكي نتعلم من التاريخ(/5)
لقد شهد تاريخ الإسلام سلسلة متطاولة من المعارك الفاصلة، منذ وقعة بدر التي فرق الله بها بين الحق والباطل، ومكّن لدعوته الناشئة في الأرض.. وإلى أن يشاء الله.. ولكن يبقى لمعركة عين جالوت ثقلها وأهميتها وخصوصيتها.. ذلك أنها جاءت وظلام الإعصار الوثني المتحالف مع الصليبية يكاد يطبق على نور التوحيد ويطمس على ألقه.. فردّت علىالقوة بالقوة، وقارعت سيف الشيطان بسيف الله، وعلمت الناس عموماً والناس خاصة، بالانتصار الباهر الذي حققته، كيف يكون الإيمان الجاد المعزز بالرؤية الواعية والتخطيط المدروس، قديراً على تحقيق المعجزات..
واليوم وقوى الضلال، المادية والصهيونية والاستعمارية الجديدة، تتجمع مرة أخرى في محاولة شرسة للاطباق على الإسلام عقيدة وشريعة وأمة وحضارة ودولاً..
فإن لم نتعلم من (عين جالوت) سوى حقيقة أنه بالإيمان والثقة والعزم والتصميم، يمكن أن نجابه المحنة ونتفوق عليها.. فكفى بذلك من كسب تمنحنا إياه مطالعاتنا الجادة في التاريخ.. وإنه قد آن الأوان لكي نتعلم من التاريخ..
مجلة الأمة، العدد التاسع، رمضان 1401 هـ
**********************(/6)
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
إلى متى ستظلّ أمّة الإسلام راقدة في مستنقع الهمود والخنوع والهجمة الاستعمارية تنشب مخالبها في جسمها؟ بدأت بأفغانستان ثمّ العراق ودول أخرى كثيرة على قائمة إجرامها وإرهابها
عَصَفَتْ لَيَاْلِي الإِفْكِ
الشاعر: حسام هرشة
واشْدُدْ إِلَى شَمْسِ الشُّمُوخِ رِحَالا
ظُلَمٌ بِأَلْوَانِ الشُّرُورِ حُبَاْلَى
تَتَراً، يُوَحِّدُ شَرُّهَا الأَوْصَالا
هُبَلٌ يُحارِبُ خَالِداً وَبِلالا
حِقْداً يَزيدُ جُنُونَهَا اسْتِفْحالا
مَهْزُمَةً مَهْمَا الظَّلامُ تَعَالَى
سَيَزُولُ لَيْلُ فَسَادِهِ اسْتِئْصَالا
فِي كُلِّ أَرْضٍ تَرْسِمُ الأَحْوَالا
يَوْمَ العِرَاقُ يُجَرَّعُ الأَهْوَالا
دُوَلٌ إِلَى إِجْرَامِهَا تَتَوَالَى
شَرٌّ يَفُوقُ دَمَارُهُ الزِّلْزَالا
إِلا أَبَاْدَتْ مَجْدَهُ اسْتِعْجَالا
جَعَلَتْ ضِيَاءَ شُمُوخِهِ أَطْلالا
مَادَتْ بِهِ كُلُّ البِلادِ نَكَالا
حَتْفٌ وَيَهْوِي عَهْدُهُ اسْتِبْدَالا
إِفْكٌ يَجُرُّ لِظُلْمِهِ الأَذْيَالا
تَغْشَى العُقُوْلَ تُضِلُّهَا اسْتِغْفَالا
إِنْ بَاتَ يَشْجبُ أَوْ أَعَدَّ نِزَالا
إجْرَامِ فَاسْتَشْرَى يَفِيضُ وَبَالا؟
دَوْلِيَّةٍ لِشُرُورِهَا اسْتِكْمَالا
يْطَانِ حَقّاً يَسْتَزِيدُ دَلالا
يَمْضي بِسَيْلِ فَسَادِهَا إِيغَالا
وَمَجَازِرٌ لا تَرْحَمُ الأَطْفَالا
تَذَرُ النِّسَاءَ أَرَامِلاً وَثَكَالى
تَسْتَوْرِدُ الأَقْوَالَ وَالأَفْعَالا
صَوْبِ اليَمِيْنِ فَلا تَرُوحُ شِمَالا
وَهْيَاً يَحُفُّ بِهِ الَهَوانُ عُضَالا
تَطْوِي الدُّيُونَ وَتَسْكُبُ الأَمْوَالا
ـانَ تَوَثَّقَْت فِيهِ الحُرُوبُ سِجَالا
أَلْقَتْ بِهِ فِي حَتْفِهِ إِنْزَالا
أَحْلامُهُ إِشْرَاقَةً وَكَمَالا
تَسْبِي الجُحُودَ وَتَمْحَقُ الإِمْحَالا
فِي بَيْعَةٍ لا تَقْبَلُ الأَبْدَالا
أمْنِ الهَزِيلِ وَيُخْرِسُ الجُهَّالا
ـحُو الزُوْرَ وَالأَوْهَامَ وَالأَوْحَالا
تَأْبَى الخُضُوعَ وَتأْنَفُ الإِذْلالا
تَنْفِرْ مَلائِكَةُ السَّما إِرْسَالا
يُعْرِضْ يَهُنْ، خَابَ الضَّلالُ حِبَالا
فَاللهُ أَعْظَمُ قُوَّةً وَمِحَالا
تُؤْوِي جَحِيمَ ثَبَاتِكِ الضُّلاّلا
صَدَقَ النَّفِيرُ تَقَهْقَرَتْ أَوْشَالا
حَتْماً سَيَحْصُدُ مَوْجُهُ اضْمِحْلالا
حَرَّ السّنَاءِ فَيَبْعَثُ الآمَالا
ذُعْرَاً يُحِيلُ عُلُوجَهُم أَفلالا
وَالأَرْضُ تُنْبِتُ هَيْبَةً وَرِجَالا
مَا التَّضْحِيَاتُ تُقَصِّرُ الآجَالا
بَدْرَاً، كَمِ اسْتَشْرَى الهُمُودُ وَطالا
تُذْكِي البِلادَ بَسَالَةً وَقِتَالا
نُورُ ائْتِلافٍ يَجْمَعُ الأَجْيَالا
يُحْيِي النُّفُوسَ عَقِيدَةً وِفِعَالا
حَتْماً سَيَطْوِي اللّيْلَ وَالأَمْيَالا
أوْ عِزَّةٍ تَكْسُو الحِمَى اسْتِقْلا ... ... 1- يا ابْنَ العَقِيدَةِ حَطِّم الأَغْلالا
2- أَسْرِجْ إِبَاءَكَ لِلفِدَاءِ فَقَدْ بَغَتْ
3- عَصَفَتْ لَيَالِي الإفْكِ يَقذِفُ كَيْدُهَا
4- أَوْثانُ كُفْرٍ مِنْ جَدِيْدٍ قَادَهَا
5- حَرْبٌ عَلَى الإِسْلامِ غَذَّوْا عِرْقَهَا
6- خَابُوا وَبَاءَتْ بِالتَّبَابِ ظُنُونُهُمْ
7- لَنْ يُطْفِئَ الإِسْلامَ مَكْرُهُمُ الَّذِي
8- نَازِيَّةٌ بُعِثَتْ بِأمْرِيكَا الَّتِي
9- بِالأَمْسِ عَاثتْ فِي حِمَى الأَفْغَانِ والـ
10- وَغَداً إِلَى أُخْرَى وَبَعْدَ غَدٍ تلي
11- في شَرْعِهَا حَقٌ وَعَدْلٌ مُطْلَقٌ
12- مَا مُسْلِمٌ تَشْدُو بَيَارِقُ عِزِّهِ
13- مَنْ قَاْلَ "لا" وَالنَّفْسُ تَنْبضُ هَيْبَةً
14- مَنْ فَارَقَ الخِدْرَ المُبَاحَ سِلاحُهُ
15- هَذَا المَصِيْرُ وَمَنْ يَحِدْ يَعْصِفْ بِهِ
16- يَا مَجْلِسَ الجَوْرِ الَّذِي اسْتَشْرَى بِهِ
17- بَلِيَتْ ثِيَابُكَ وَافْتُضِحْتَ وَلمْ تَعُدْ
18- كُلٌّ مَصَالِحُهُ تَقُودُ قَرَارَهُ
19- لِمَ لَمْ يُبَدْ صَلَفٌ طَغَى فِي دَوْلَةِ الْـ
20- تَغْتَالُ إِسْرَائِيلُ كُلَّ وَثِيقَةٍ
21- طُغْيَانُهَا قَدْ صَارَ فِي شَرْعِيَّةِ الشَّـ
22- رِيْحُ الجَرَائِمِ لَمْ تَنَمْ وَجُنُونُهَا
23- قَتْلٌ وَتَدْمِيرٌ وَهَدْمُ مَنَازلٍ
24- سُحُبٌ مِنَ الإِرْهَابِ تَزْفُرُ غِلْظَةً
25- حُكَّامُنا "خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ" دُمَىً
26- كَبَيادِقِ الشَّطْرَنْجِ إِنْ نُقِلَتْ إِلَى
27- صُمٌ وَبُكْمٌ ثُمَّ عُمْيٌ أُلْبِسُوا
28- بَيْعُ الضَمَائِرِ وَالعُقُولِ تِجَارَةٌ
29- يَا دَوْلَةَ الشَّرِّ اعْلَمِي أَنَّ الزَّمـ
30- مَنْ يَعْلُ ذَرْوَةُ بَغْيِهِ وَحْشِيَّةً
31- وَلْتَرْقُبِي زَحْفَ الشَّهَادَةِ تَزْدَهِي
32- مُسْتَعْصِمٌ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى الَّتِي
33- زَحْفٌ تَحَصَّنَ بِالعَقِيدَةِ عِصْمَةً
34- يَطَأُ الدُّنَى بِهُدَىً يَفُلُّ خُرَافَةَ الـ
35- يَحْيَا بِظِلِّ شَرِيعَةٍ غَرَّاءَ تَمْـ
36- يَا أُمَّةَ الإِسْلامِ هُبِّي وِحْدَةً
37- يَكْفِيكِ حَبْلُ اللهِ فَاعْتَصِمِي بِهِ
38- حَبْلٌ يَعِزُّ مَنِ اسْتَجَارَ بِهِ وَمَنْ(/1)
39- مَهْمَا دَجَا البُهْتَانُ يَزْهُو قُوَّة
40- وَلْتُمْطِرِي سِجِّيلَ غَيْظِك لَعْنَةً
41- طُغَمُ الظَّلامِ وَعَنْجَهِيَّتُهَا إِذَا
42- مَهْمَا ادْلَهَمَّ الكُفْرُ قَهْراً فَاصْبِرِي
43- فَلَعَلَّ صّبْرَكَ يَشْرَئِبُّ بِهِ الضُّحَى
44- مُدِّي شِرَاعَكِ فَوْقَ بَحْرِ ظَلامِهِمْ
45- يَجْرِي الوَفَا وَدَمُ الأُبَاةِ رَوَافِدٌ
46- لَنْ يُرْفِدَ الأَعْمَارَ جُبْنٌ مٌُْعَدٌ
47- يَا جِيلَ حَمْزَةَ وابْنِ حَرِثَةَ ابْعَثُوا
48- سَتَظَلُّ بَدْرٌ جَذْوَةَ الظَّفَرِ الَّتي
49- وَامْضُوا إِلَى الفَجْرِ المُبِينِ وَقَدْ سَمَا
50- وَاسْتَنْصِرُوا ذَا البَأْسِ صِدْقا غَيْثُهُ
51- قَدْ يُبْطِئُ النَّصْرُ الخُطَى لَكِنَّهُ
52- فَاظْفَرْ بإِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ : شَهَادَةٍ(/2)
عِيْدُ الحُبّ
د . رقية بنت محمد المحارب 21/12/1424
12/02/2004
فَاجَأت نورة صديقاتها صباح أحد الأيام بوردة حمراء وضَعَتْها على صدرها، حيث بادرنها بابتسامة أتبعنها بمسائلتها: ما المناسبة ؟ أجابت : ألا تعلمن أن اليوم هو يوم الحب، وأن الناس يحتفلون به ويتبادلون التهاني .. إنه احتفال بالحب، بالرومانسية، بالصدق، إنه يوم (فالنتاين) ومضت في فخر تحدثهن عما رأت في تلك القناة الفضائية . لكن أمل _ وكانت تستمع باهتمام _ سألت نورة –متعجبة-: ما معنى فالنتاين ؟ قالت : إن معناه الحب (باللاتينية) .. ضحكت أمل التي تميزت بالثقافة والاطلاع من هذا الجواب وقالت: تحتفلين بشيء لا تعرفين معناه ! . إن فالنتاين هذا قسيس نصراني عاش في القرن الثالث الميلادي ، ومضت تقول لهن ما حدث لهذا القسيس، وأن عيد الحب ما هو إلا احتفال ديني خالص تخليدا لذكرى إحدى الشخصيات النصرانية .. وتأسفت أمل على حال بعض بناتنا اللاتي يتلقين ما يقال لهن ويعملن به دون أي تفكير .
قصة عيد الحب:
قالت أمل لصديقاتها: إن الموسوعة الكاثوليكية ذكرت ثلاث روايات حول فالنتاين، ولكن أشهرها هو ما ذكرته بعض الكتب أن القسيس (فالنتاين) كان يعيش في أواخر القرن الثالث الميلادي تحت حكم الإمبراطور الروماني كلاوديس الثاني. وفي 14 فبراير 27م قام هذا الإمبراطور بإعدام هذا القسيس الذي عارض بعض أوامر الإمبراطور الروماني .. ولكن ما هو هذا الأمر الذي عارضه القسيس ؟ قالت أمل: لقد لاحظ الإمبراطور أن هذا القسيس يدعو إلى النصرانية فأمر باعتقاله ، وتزيد رواية أخرى أن الإمبراطور لاحظ أن العزاب أشد صبرا في الحرب من المتزوجين الذين يرفضون الذهاب لجبهة المعركة ابتداء فأصدر أمرا بمنع عقد أي قران ، غير أن القسيس فالنتاين عارض هذا الأمر واستمر يعقد الزوجات في كنيسته سرا حتى اكُتشِف أَمْره وأُمِرَ به فسجُن . وفي السجن تعرف إلى ابنة لأحد حراس السجن، وكانت مصابة بمرض، فطلب منه أبوها أن يشفيها فشفيت _ حسب ما تقول الرواية _ ووقع في غرامها ، وقبل أن يُعْدَم أرسل لها بطاقة مكتوبا عليها ( من المخلص فالنتاين ) وذلك بعد أن تنصرت مع 46 من أقاربها ، وتذكر رواية ثالثة أن المسيحية لما انتشرت في أوروبا لفت نظر بعض القساوسة طقس روماني في إحدى القرى الأوروبية يتمثل في أن شباب القرية يجتمعون منتصف فبراير من كل عام، ويكتبون أسماء بنات القرية ويجعلونها في صندوق ثم يسحب كل شاب من هذا الصندوق، والتي يخرج اسمها تكون عشيقته طوال السنة، حيث يرسل لها على الفور بطاقة مكتوب عليها: (باسم الآلهة الأم أرسل لك هذه البطاقة ) . تستمر العلاقة بينهما ثم يغيرها بعد مرور السنة !! وجد القساوسة أن هذا الأمر يرسخ العقيدة الرومانية ووجدوا أن من الصعب إلغاء الطقس فقرروا -بدلاً من ذلك- أن يغيروا العبارة التي يستخدمها الشباب من ( باسم الآلهة الأم ) إلى ( باسم القسيس فالنتاين ) وذلك كونه رمزا نصرانيا ومن خلاله يتم ربط هؤلاء الشباب بالنصرانية .
وتقول رواية أخرى : أن فالنتاين هذا سئل عن آلهة الرومان (عطارد) الذي هو إله التجارة، والفصاحة، والمكر، واللصوصية، و(جويبتر) الذي هوكبير آلهة الرومان، فأجاب أن هذه الآلهة من صنع الناس، وأن الإله الحق هو المسيح عيسى. قالت أمل : تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا . وتابعت أمل : يقول أحد القساوسة إن آباءنا وأمهاتنا يستغربون ما وصل إليه هذا العيد الديني، حيث أصبحت بعض البطاقات تحتوي على صورة طفل بجناحين يدور حول قلب وقد وُجِّه نحوه سهم. سألت أمل صديقاتها : أتدرون إلى ما ذا يعني هذا الرمز ؟ إن هذا الرمز يعد إله الحب عند الرومانيين !! وقالت: إن أحد مواقع عيد الحب على الإنترنت زَيَّنَ حدوده بقلب يتوسطه صليب !
حكم الاحتفال بعيد الحب
أضافت ماجدة إلى كلام أمل ما قرأته عن حكم الاحتفال بأعياد اليهود والنصارى فقالت: في مجتمع يملؤه الحب الصادق ويسوده الاحتساب في العلاقات الأسرية إلى حد كبير، بدأت تظهر عادات غريبة على فئة قليلة من فتياتنا المؤمنات، وذلك بتأثير القنوات الفضائية، وحيث إن بعض الناس أصيب بمرض التقليد، وخاصة لأولئك الذين تفوقوا صناعيا، فإن حُمَّى التبعية سرعان ما تنتشر لا سيما في النساء قليلات الثقافة، وذلك من علامات الانهزامية، فيجدر بكل مثقفة لها شخصية متميزة أن تنتبه له _ أي التقليد - وألا تغتر بحضارتها.(/1)
حدَّث أبو واقد -رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما خرج إلى خيبر مرَّ بشجرة للمشركين يقال لها (ذات أنواط) يعلقون عليها أسلحتهم فقالوا : يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات انواط. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:( سبحان الله، هذا كما قال قوم موسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، والذي نفسي بيده لتركبُنّ سَنَنَ من كان قبلكم ) أخرجه الترمذي، وقال حسن صحيح .فحبُّ التقليد، وإن كان موجوداً في النفوس، إلا انه ممقوت شرعا إذا كان المقلِّد يخالفنا في اعتقاده وفكره خاصة فيما يكون التقليد فيه عَقَدِيّاً أو تعبُّديا أو يكون شعارا أو عادة ، ولما ضعف المسلمون في هذا الزمان ازدادت تبعيتهم لأعدائهم، وراجت كثير من المظاهر الغريبة سواء كانت أنماطا استهلاكية أو تصرفات سلوكية. ومن هذه المظاهر الاهتمام بعيد الحبّ وهو إحياء للقسيس (فالنتاين) الذي ذكرت لنا أمل قصته. وسواء اعتقد من يحتفل إحياء ذكرى فالنتاين فهو لا شك في كفره، وأما إذا لم يقصد فهو قد وقع في منكر عظيم. يقول ابن القيم : ( وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك ، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه ، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل إن ذلك أعظم إثما عند الله وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس .. وكثيرٌ من لا قدر للدين عنده يقع في ذلك ولا يدري قبح ما فعل، كمن هنأ عبدا بمعصية أو بدعة أو كفر، فقد تعرض لمقت الله وسخطه ) ا.هـ قالت أمل: وما علاقة هذا بالولاء والبراء يا ماجدة ؟ أجابت ماجدة: لما كان من أصول اعتقاد السلف الصالح الولاء والبراء وجب تحقيق هذا الأصل لكل من يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فيحبّ المؤمنين، ويبغض الكافرين، ويعاديهم، ويشنئهم، ويخالفهم، ويعلم أن في ذلك من المصلحة ما لا يحصى، كما أن في مشابهتهم من المفسدة أضعاف ذلك . وبالإضافة إلى ذلك فإن مشابهة المسلمين لهم تشرح صدورهم وتدخل على قلوبهم السرور، كما أن مشابهة الكفار توجب المحبة والموالاة القلبية؛ لأن التي تحتفل وترى مارغريت أو هيلاري يحتفلان بهذه المناسبة فلا شك أن هذا يسبب لديها نوعاً من الارتياح وقد قال الله -عز وجل-: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" [المائدة :15] وقال –سبحانه-:" لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله" [المجادلة:22] وقال –سبحانه-: " ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " [النور :2] ومن مساوئ مشابهتهم تكثير لسوادهم ونصرة لدينهم واتباع له والمسلم يقرأ في كل ركعة " اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " [الفاتحة : 6 ، 7 ] فكيف يسأل الله أن يهديه صراط المؤمنين ويجنِّبه صراط المغضوب عليهم ولا الضالين، ثم يسلك سبيلهم مختارا راضيا. وقد تقول أختي الحبيبة: إنها لا تشاركهم في معتقدهم، وإنما يبث هذا اليوم في أصحابه معاني الحب والبهجة خصوصا ، وهذه غفلة وسطحية وقد تكلمت أمل عن أصل هذا العيد، وكيف أصبح مناسبة حتى للشاذين والشاذات لتبادل الورود في الغرب ، فكيف ترضى المسلمة العفيفة الطاهرة أن تتساوى مع حثلات البشر ؟
والاحتفال بهذا العيد ليس شيئا عاديا و أمرا عابرا ، ولكنه صورة من صور استيراد القيم الغربية لطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة ، ومعلوم أنهم لا يعترفون بأي حدود تحمي المجتمع من ويلات التفلت الأخلاقي كما ينطق بذلك واقعهم الاجتماعي المنهار اليوم. ولدينا البدائل -بحمد الله- ما لا نحتاج إلى الجري وراء هؤلاء وتقليدهم، لدينا –مثلا- المكانة العظيمة للأم فنهديها من وقت لآخر، وكذلك الأب، والإخوة، والأخوات، والأزواج، ولكن في غير وقت احتفال الكفار بها.
إن الهدية التي تعبِّر عن المحبة أمر طيب ولكن أن تتربط باحتفالات نصرانية وعادات غربية فهذا أمر يؤدي إلى التأثر بثقافتهم وطريقة حياتهم .
وختمت ماجدة قولها: إن بعض التجار يفرح بهذه المناسبة؛ لأنها تنعش سوق الورود وبطاقات المعايدة، وإذا كان لا يجوز مشابهة الكفار في أعيادهم، فكذلك لا يجوز المعاونة في هذا الأمر ولا تشجيعه بأي شكل من الأشكال.(/2)
قالت نوره -وهي تزيل الورد-: إنني محتاجة إلى مثل هذه الصحبة الطيبة التي تدلني على الخير وتحبني في الله، وأسأل الله أن يجعلها ممن قال فيهم:" وجبت محبتي للمتحابيِّن فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ".جعل الله حياتنا مليئة بالمحبة والمودة الصادقة التي تكون عوناً على دخول جنات عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، وحفظ الله علينا شخصيتنا الإسلامية العظيمة وأصلح أحوال المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فتوى فضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
سؤال:فقد انتشر في الآونة الأخيرة الاحتفال بعيد الحب _خاصة بين الطالبات _ وهو عيد من أعياد النصارى ، ويكون الزي كاملا باللون الأحمر (الملبس والحذاء) ويتبادلن الزهور الحمراء .. نأمل من فضيلتكم بيان حكم الاحتفال بمثل هذا العيد ، وما توجيهكم للمسلمين في مثل هذه الأمور؟ والله يحفظكم ويرعاكم.
جواب:الاحتفال بعيد الحب لا يجوز؛ لوجوه :
الأول:أنه عيد بدْعيّ لا أساس له في الشريعة .
الثاني : أنه يدعو إلى اشتغال القلب بمثل هذه الأمور التافهة المخالفة لهدي السلف الصالح _ رضي الله عنهم _ فلا يحل أن يحدث في هذا اليوم شيء من شعائر العيد سواء في المآكل أو المشارب أو الملابس، أو التهادي، أو غير ذلك، وعلى المسلم أن يكون عزيزاً بدينه وألاّ يكون إمّعة يتبع كل ناعق . أسأل الله –تعالى- أن يعيذ المسلمين من كل الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يتولانا بتوليه وتوفيقه.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 5/ 11/ 1420 هـ(/3)
غثاء الألسنة
يتناول الدرس آفات اللسان من حيث انتشارها مع كثرة إفسادها ويذكر الأدلة من القرآن والسنة على خطر اللسان ووجوب حفظه ومتى يتكلم المسلم ومتى يسكت ثم يعرج على صور مشرقة من حفظ السلف لألسنتهم ومجاهدتهم لأنفسهم ثم يذكر صورا عكسية في واقعنا وينتهي إلى ذكر مفاسد إطلاق اللسان وحصاده المر .
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه وسلم تسليمًا كثيًرا، أما بعد،،،
غثاء الألسنة: الغُثاء بالمد والضم: ما يجيء فوق السيل، مما يحمله من الزبد والوسخ وغيره، وغثاء الألسنة: أراذل الناس وسقطهم. والغث: هو الرديء من كل شيء، وغث حديث القوم: فسد، وردأ، وغث فلان في حديثه: إذا جاء بكلام غث، لامعنى له.
وما أكثر الكلام الفاسد الذي يدور في مجالس المسلمين أيًا كانوا: كبارًا أو صغارًا، رجالا أو نساء، إن غثاء الألسنة اليوم يزكم الأنوف، ويصم الآذان، ويصيبك الغثيان والدوار وأنت تسمع حديث المجالس اليوم، لانقول ذلك في مجالس العامة ودهماء الناس فقط بل- وللأسف وأقولها بكل أسى- :حتى في مجالس الصالحين، وفي مجالس المعلمين والمتعلمين.
غثاء الألسنة: في الكذب، والنفاق، والغش، والخداع... غثاء الألسنة: في الغيبة، والنميمة، والقيل، والقال... غثاء الألسنة: في أعراض الصالحين والمصلحين، والدعاة والعلماء، في الوقت الذي سلم فيه أعداء الإسلام من اليهود والنصارى، والرافضة والمنافقين... غثاء الألسنة: في التدليس، والتلبيس، وتزييف الحقائق، وتقليب الأمور... غثاء الألسنة: في التجريح، والهمز، واللمز، وسوء الظن... غثاء الألسنة: في الدخول في المقاصد والنيات، وفقه الباطن... غثاء الألسنة: بكل ما تحمله هذه الكلمة من غثائية وغثيان.
وما هي النتيجة؟ النتيجة: بث الوهم، والفرقة، والخصام والنزاع بين المسلمين، وقطع الطريق على العاملين، وإخماد العزائم بالقيل والقال . إنك ما إن ترى الرجل حسن المظهر، وسيماه الخير، وقد تمسك بالسنة في ظاهره؛ إلا وتقع الهيبة في قلبك والاحترام والتقدير في نفسك، وما أن يتكلم، فيجرح فلاناً، ويعرض بعلان، وينتقص عمراً، ويصنف زيداً إلا وتنزع المهابة من قلبك، ويسقط من عينك... وإن كان حقًا ما يقول؟ نعم، وإن كان حقًا ما يقول، وإن كان صادقًا فيه، فلا حاجة شرعية دعت لذلك، وإن دعت تلك الحاجة، فبالضوابط الشرعية، وبالقواعد الحديثية، فإن لم تعلمها أيها الأخ الحبيب، وإن لم تعلميها أيتها المسلمة، فما نستطيع أن نقول إلا: أمسك عليك لسانك .
إن المصنفات في الجرح والتعديل مئات المجلدات، لكن اقرأ وتمعن: كيف كان الجرح فيها؟ فشتان بين الجرحين، لقد كان خوف الله عز وجل ميزاناً دقيقاً لألسنتهم رحمهم الله تعالى، وكان هدفهم هو تمييز صحيح السنة من سقيمها ولكن ما هو الهدف اليوم؟ نعوذ بالله من الهوى والحسد، ومن الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق .
إلى متى، ونحن نجهل أو نتجاهل، أو نغفل أو نتغافل عن خطورة هذا اللسان؟ مهما كان صلاحك و عبادتك، وخيرك وعلمك، ومهما كانت نيتك، فرحم الله ابن القيم يوم أن قال في' الجواب الكافي':' من العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالا؛ يذل بالكلمة الواحدة أبعد مما بين المشرق والمغرب والعياذ بالله' وقال أيضًا في الكتاب نفسه:' إن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله تعالى وما اتصل به'.
وما أجمل هذا الكلام ولذلك أقول: احذر لسانك، وانتبهي للسانك، واحبس لسانك، وأمسك عليك لسانك، فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْت:ُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: [ أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ] رواه الترمذي وأحمد،وهو صحيح بشواهده . وأنا لا أدعوك للعزلة، وإنما أقول: أمسك عليك لسانك إلا من خير كما في الحديث الآخر: [ فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ الْخَيْرِ] رواه أحمد وابن حبان، وهو صحيح كما سيأتي إن شاء الله.(/1)
وحفظ اللسان على الناس أشد من حفظ الدنانير والدراهم كما يقول محمد بن واسع رحمه الله تعالى، ولأن كثرة الكلام تذهب بالوقار، ومن كثر كلامه؛ كثر سقطه، ولأننا نرى الناس أطلقوا العنان لألسنتهم، فأصبح ذلك اللسان سلاحًا لبث الفرقة والنزاع والخصام والشتائم، وفي مجالات الحياة كلها، وبين الرجال والنساء بحد سواء، ولكثرة الجلسات، ولأن الكلام فاكهة لهذه الجلسات كان لابد من وضع ضابط، ولابد من تحذير وتذكير للناس في مثل هذه الجلسات .
و ستسمع الكثير إن شاء الله من الأسباب التي جعلتني أختار مثل هذا الموضوع من خلال هذه العناصر وهي: خطر اللسان: أدلة من الكتاب والسنة، السلف الصالح مع اللسان، صور من الواقع، النتيجة النهائية.
أدلة خطر اللسان:
من الكتاب:
قال تعالى:} مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[18] {“سورة ق” هذه الآية هي الضابط الشرعي:} إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[37]{ “سورة ق” أسمعت أيها المسكين؟! إنها رقابة شديدة، دقيقة، رهيبة، تطبق عليك إطباقا كاملًا شاملًا،كل نَفَسٍ معدود، وكل هاجسة معلومة، وكل لفظ مكتوب، وكل حركة محسوبة في كل وقت، وفي كل حال، وفي أي مكان، فقل ما شئت، وحدث بما شئت، وتكلم فيمن شئت، ولكن اعلم أن هناك من يراقبك، ويعد عليك هذه الألفاظ:} إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ[17]مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[18]{ “سورة ق” هذه الآيات، والله إنها لتهز النفس هزاً، وترجها رجاً، وتثير فيها رعشة الخوف من الله عز وجل، قال ابن عباس:} مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[18]{ “سورة ق”: [ يكتب كل ما تكلموا به من خير وشر، حتى إنه ليكتب قوله: أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت، حتى إذا كان يوم الخميس عُرِضَ قوله وعمله، فأقر فيه ما كان من خير أو شر ،وألقي سائره] .
قال تعالى:} وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ[10]كِرَامًا كَاتِبِينَ[11] يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[12]{ “سورة الانفطار” هذه الآيات تهز قلبك إن كان قلباً يخاف من الله عز وجل .
قال تعالى:} وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا[58] { “سورة الأحزاب” .
قال تعالى:} وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[36]{ “سورة الإسراء” .
قال تعالى:} إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[23]يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[24]{ “سورة النور” .
وأخيرا:} إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ[14] { “سورة الفجر” . فربك راصد ومسجل لكلماتك، ولا يضيع عند الله شيء .
أما أنت أيها المؤمن: يا من يقال ويدور عنك الحديث في المجالس، أما أنت أيها المظلوم؛ فإن لك بهذه الآية تأميناً، فلا تخف ولا تجزع فإن ربك لبالمرصاد: لمن أطلقوا لألسنتهم العنان في أعراض العباد، لبالمرصاد للطغيان والشر والفساد، فلا تجزع بعد ذلك أيها الأخ الحبيب .
من السنة:
عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِي قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ] رواه الترمذي وابن ماجه ومالك وأحمد .وكان علقمة يقول:' كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث' أي هذا الحديث؛لحرصهم رضي لله عنهم وأرضاهم .(/2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ يَنْزِلُ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ] رواه البخاري، ومسلم واللفظ له، والترمذي ومالك وأحمد . أسألك العفو يا إلهي، إن شغلنا الشاغل اليوم في مجالسنا هو بث الكلمات، ونشر الشائعات، وكم من كلمة قصمت ظهر صاحبها وهو لا يعلم. ولا شك أن فساد المجالس بسبب قلة العلم والاطلاع؛ إذ لو وجد هذا العلم لاستغلت المجالس أحسن استغلال، ولسمعت النكت العلمية، والفوائد الشرعية، والمسائل الفقهية بدلا عن القيل والقال، والغرائب والعجائب ولكن فاقد الشيء لا يعطيه وهذا أثر من آثار الجهل الذي يتفشى اليوم بين كثير من الناس .
حديث معاذ،وفيه:قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : [ أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ] قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: [ كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا] فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: [ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ] رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد .
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ] رواه البخاري والترمذي وأحمد .
وفي حديث سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ في آخره: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ: [ هَذَا ] رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد وأصله رواه مسلم .
القاعدة الشرعية في الكلام والسكوت:
وجه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لأمته تلك القاعدة الشرعية، والمعيار الدقيق، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ] رواه البخاري ومسلم وأحمد . قاعدة شرعية، تربوية، منهجية، ومعيار دقيق لك أيها المسلم ولك أيتها المسلمة يوم أن تجلس مجلسًا: [ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ] ربى هذه القلوب باليوم الآخر ؛ ولأن النفوس اليوم غفلت عن اليوم الآخر، وتعلقت بالدنيا وشهواتها ولذاتها؛ غفلت عن هذه القاعدة الشرعية النبوية، ونسيت الحساب والعذاب في اليوم الآخر، ونسيت الجنة والنار، أو غفلت عنها، وبالتالي انطلق اللسان يفري في لحوم العباد فريًا بدون ضوابط، ولاخوف ولا وجل .
لماذا هذه القاعدة؟ لأنه لا يصح أبدًا أن يؤذي المسلم إخوانه بلسانه، ولأن المسلم الصادق، والمحب الناصح هو من سلم المسلمون من لسانه ويده كما في حديث أبي موسى الأشعري المتفق عليه. والأحاديث في الباب كثيرة مستفيضة، وكم نحن بحاجة إلى من يردد هذه الأحاديث على مسامع الناس، كم نحن بحاجة أيها الأخيار إلى من يردد على المسلمين والمسلمات أمثال هذه الأحاديث؛ ليتذكروها، وليفهموها جيدًا حتى تتذكر النفس فكلما أراد اللسان أن ينطلق بكلمة؛ يحسب لها حسابها قبل أن يخرج لسانه بهذه الكلمات .
أمثلة عملية من حفظ السلف لألسنتهم:
عَنْ عُمَرَ بْن الْخَطَّابِ أَنّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: [ مَهْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ] رواه مالك. الرجل الأول بعد الأنبياء والرسل رضي الله عنه، انظر لحرصه على لسانه .
قال رجل رأيت ابن عباس آخذاً بثمرة لسانه، وهو يقول: [ ويحك ! قل خيرًا تغنم، واسكت عن شر تسلم] فقال له رجل: يا ابن عباس مالي أراك آخذاً بثمرة لسانك، تقول كذا وكذا؟ قال ابن عباس بلغني أن العبد يوم القيامة ليس هو على شيء أحنق منه على لسانه] يعني لا يغضب على شيء من جوارحه أشد من غضبه على لسانه .
وقال عبد الله بن أبي زكريا:' عالجت الصمت عشرين سنة، فلم أقدر منه على ما أريد' وكان لا يدع يغتاب في مجلسه أحد ويقول:' إن ذكرتم الله أعناكم، وإن ذكرتم الناس تركناكم' .
وعن جرير بن حازم قال: ذكر ابن سيرين رجلاً، فقال:' ذلك الرجل الأسود- يريد أن يعرّفه- ثم قال:' أستغفر الله أراني قد اغتبته' .(/3)
قال إبراهيم التيمي: أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين عاماً ما سمع منه كلمة تُعَاب . وقيل للربيع :يا أبا يزيد ألا تذم الناس؟ فقال:' والله ما أنا عن نفسي براض فأذم الناس، إن الناس خافوا الله على ذنوب الناس، وأمنوه على ذنوبهم' وصدق رحمه الله ألا ترون أننا في مجالسنا نقول: نخشى عذاب الله من فعل فلان، ونخاف من عذاب الله من قول علان، ولا نخشى من عذاب الله من أفعالنا وأقوالنا !!
صور من الواقع:
حديث العامة: فلان فيه أخطاء، وفلان الآخر فيه تقصير، والثالث فيه غفلة والرابع لا يسلم من العيب الفلاني ... وهكذا أقاموا أنفسهم لتقويم الآخرين، وجرحهم، ولمزهم . نسينا عيوبنا، وتقصيرنا، وغفلتنا، وكثرة أخطائنا، ولو أعمل عاقل فكره في الجالسين أنفسهم؛ لوجد فيهم بذاءة في اللسان، وسوءًا في المعاملة والأخلاق، فهو: إن حدث كذب، أو وعد أخلف، أو باع واشترى، فغش وخداع، وإن جاء للصلاة نقرها نقر غراب ؛مقصر في الفرائض، مهمل للنوافل، في وظيفته تأخر وهروب، وإهمال، وفي بيته وسائل للفساد، وضياع للأولاد، وعقوق للأرحام ...كل هذه النقائص، والمصائب عميت عليه، فنسيها في نفسه، وذكرها في إخوانه؛ فلم يسلم منه حتى ولا الصالحون، المخلصون!! فيا أيها الأخ: والله إني عليك لمشفق، ولك محب، فأمسك عليك لسانك، وكف عن أعراض الناس وإذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك كما قال ابن عباس، وقال أبو هريرة: [ يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه] وقال عون بن عبد الله:' ما أحسب أحداً تفرغ لعيوب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه' وقال بكر بن عبد الله المزني:' إذا رأيتم الرجل مولعًا بعيوب الناس، ناسيًا لعيبه، فاعلموا أنه قد مكر به'.
إذا رمت أن تحيا سليمًا من الأذى ودينك موفور وعرضك صين
فلا ينطقن منك اللسان بسوءة فكلك سوءات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معائبا فدعها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى ودافع ولكن بالتي هي أحسن
صورة ثانية:جلسوا مجلسهم، فبدأ الحديث فذكروا زيداً وأن فيه، وفيه ثم ذكروا قول عَمْرٍ، فأتقنوا فن الهمز واللمز، والعجيب أن معهم فلاناً الصالح العابد، والأعجب أن من بينهم: طالب العلم فلاناً الناصح الأمين، والحمد لله لم يتكلما، وسكتا، ولكنهما ما سلما؛ لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، ولأن المستمع شريك للقائل ما لم يتبع المنهج الشرعي: فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ مَنْ ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ فِي الْغِيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنْ النَّارِ] رواه أحمد . وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] رواه أحمد والترمذي، والحديث حسن بشواهده . فيا أيها المسلم إذا وُقِعَ في رجل وأنت في ملأ، فكن للرجل ناصراً، وللقوم زاجراً، وانصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا وقل للمتحدث: أمسك عليك لسانك، فإن استجاب وإلا فقم عنهم:} أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ[12]{ “سورة الحجرات” يقول ابن الجوزي في' تلبيس إبليس':' وكم من ساكت عن غيبة المسلمين إذا اغتيبوا عنده، فرح قلبه، وهو آثم بذلك من ثلاثة وجوه:
أحدها: الفرح، فإنه حصل بوجود هذه المعصية من المغتاب.
والثاني: لسروره بسلب المسلمين .
والثالث: أنه لا ينكر'.
ويقول ابن تيميه رحمه الله في' الفتاوى' 28/237: 'وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ الْغِيبَةَ فِي قَوَالِبَ شَتَّى . تَارَةً فِي قَالِبِ دِيَانَةٍ وَصَلَاحٍ فَيَقُولُ : لَيْسَ لِي عَادَةً أَنْ أَذْكُرَ أَحَدًا إلَّا بِخَيْرِ وَلَا أُحِبُّ الْغِيبَةَ وَلَا الْكَذِبَ ; وَإِنَّمَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحْوَالِهِ . وَيَقُولُ : وَاَللَّهِ إنَّهُ مِسْكِينٌ أَوْ رَجُلٌ جَيِّدٌ ; وَلَكِنْ فِيهِ كَيْت وَكَيْت . وَرُبَّمَا يَقُولُ : دَعُونَا مِنْهُ اللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُ ; وَإِنَّمَا قَصْدُهُ اسْتِنْقَاصُهُ وَهَضْمٌ لِجَانِبِهِ . وَيُخْرِجُونَ الْغِيبَةَ فِي قَوَالِبَ صَلَاحٍ وَدِيَانَةٍ يُخَادِعُونَ اللَّهَ بِذَلِكَ كَمَا يُخَادِعُونَ مَخْلُوقًا ; وَقَدْ رَأَيْنَا مِنْهُمْ أَلْوَانًا كَثِيرَةً مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ ' .
صورة ثالثة:اتهام النيات والدخول في المقاصد:ويتبعه تبديع الخلق، وتصنيف الناس، وتقسيمهم إلى أحزاب، وهم منها براء، وقد يتبع ذلك أيمان مغلظة، وإقسام بأنه العليم بفلان، والخبير بأقواله!!(/4)
فيا سبحان الله: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم قصده ومبتغاه؟ أين أنت من قول القدوة الحبيب صلى الله عليه وسلم: [ إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ] رواه البخاري ومسلم .ورحم الله ابن تيمية يوم أن قال:' وَكَثِيرٌ مِنْ مُجْتَهِدِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ قَدْ قَالُوا وَفَعَلُوا مَا هُوَ بِدْعَةٌ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ بِدْعَةٌ إمَّا لِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ ظَنُّوهَا صَحِيحَةً وَإِمَّا لِآيَاتِ فَهِمُوا مِنْهَا مَا لَمْ يُرَدْ مِنْهَا وَإِمَّا لِرَأْيٍ رَأَوْهُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ نُصُوصٌ لَمْ تَبْلُغْهُمْ . وَإِذَا اتَّقَى الرَّجُلُ رَبَّهُ مَا اسْتَطَاعَ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ : } رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا[286] { “سورة البقرة” وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ : [ قَدْ فَعَلْت] '' الفتاوى' 19/292 .
فيا أخي الحبيب: أمسك عليك لسانك، والزم الورع والتقى ومراقبة الله عز وجل، وأشغل نفسك في طاعة الله، أنفع لك عند الله، فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ: [ لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ أَعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ] فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَيْسَتَا بِوَاحِدَةٍ قَالَ: [ لَا إِنَّ عِتْقَ النَّسَمَةِ أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا وَفَكَّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا وَالْمِنْحَةُ الْوَكُوفُ وَالْفَيْءُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الظَّالِمِ فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَأَطْعِمْ الْجَائِعَ وَاسْقِ الظَّمْآنَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ الْخَيْرِ ]
رواه أحمد وابن حبان وهو صحيح . وفي حديث آخر: [ تَكُفُّ شَرَّكَ عَنْ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ] رواه البخاري ومسلم وأحمد . فانظر لفضل الله على عباده: إن كفك شرك عن الناس؛ صدقة تكتب لك عند الله، فيا أيها الكريم: إن أبواب الخير كثيرة، وأعمال البر عديدة، فأشغل نفسك فيها، فإن عجزت؛ فكف لسانك إلا من خير، وإن أبيت إلا أن تكون راصداً لأقوال الناس، حارساً لألسنتهم، فقيهاً ببواطنهم؛ فحسبنا وحسبك الله .
صورة رابعة: إصدار الأحكام بلا تثبت: سمع ذلك المتحدث، أو بعضاً من كلماته بدون إصغاء جيد المهم أنه فهم فحوى الكلام وعرف قصد المتكلم أو هكذا زعم- انتبهوا لهذه الصورة لأنها تحصل لكثير منا- أو قرأ ذلك الخبر، أو الكتاب هاهو يلتهم الأسطر نظراته تتقافز بسرعة بين الكلمات التي تساقط منها الكثير لفرط السرعة، المهم كما يزعم أنه فهم فكرة الكاتب وعرف قصده، ثم انتقل إلى المجالس ليؤدي ما تحمله ويزكي علمه، هكذا سولت له نفسه، فذكر حديث فلان وخبر علان، وأنه قال كذا وكذا، فشرّق وغرّب، وأبعد وأقرب، فقلب الأقوال، وبدل الأحوال، وما أوتي المسكين إلا من سوء فهمه، والتسرع في نقله، وكما قيل:
وكم من عائب قولا صحيحًا وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه على قدر القرائح والفهوم
صورة خامسة: نغفل أو نتغافل، فنتكلم في المجالس ونذكر العشرات بأسمائهم، فإذا ذكّرنا مذكّر، أو حذرنا غيور بأن هذه غيبة قلنا: هذا حق، وما قلنا فيه صحيح، وقد يسرد لك الأدلة والبراهين على ما يقول فيزيد الطين بلة... فيا سبحان الله! أليس النص واضحاً وصريحاً ؟ ألم يقل الصحابي لرسول الله صلي الله عليه وسلم: [ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ] فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ َ إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ] رواه مسلم والترمذي وأبوداود وأحمد والدارمي . إذاً فلا مفر فإن كان ما ذكرته صحيحا فهذه هي الغيبة وإن كان ما ذكرته كذبا فهو ظلم وبهتان، فكلا الأمرين ليس لك خيار، فأمسك عليك لسانك، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ فَقُلْتُ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ] رواه أبو داود وأحمد، وإسناده صحيح .(/5)
ويا أيتها المسلمة يا من في قلبك خوف من الله، انظري إلى قول عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا - تَعْنِي قَصِيرَةً- فَقَالَ: [ لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ قَالَتْ: وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا فَقَال:َ مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا] رواه أبوداود والترمذي وأحمد.
إذاً: ما بال نسائنا اليوم يجلسن في المجلس، فيعرضن لعشرات من النساء وتلك فيها، والأخرى فيها، وهكذا، ألا يخشين الله عز وجل؟ ألا يخفن يوم أن تقف المرأة أمام الله فيسألها عن قولها؟!
فلنحرص على أنفسنا، ولا نزيد الطين بلة ونجمع على ذلك ذنوب الآخرين في غيبتهم، وتنقصهم، وغير ذلك. وليس معنى هذا السكوت عن الأخطاء، أنني لا أطالب أن نسكت عن أخطاء الآخرين، أو حتى نتغاضى عن العصاة والفاسقين والمجاهرين، وليس معنى ذلك ألا نحذر منهم وألا نفضحهم ، لا، لانسكت ولكن بالمنهج الشرعي، وبالقواعد العلمية كما جاءت عن سلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، ولكني على يقين أن أكثر ما يقال في مجالسنا لمجرد التحدث، والتفكه، وربما الهوى، وأحقاد، وأضغان عافانا الله وإياكم منها ورحم الله عبدًا قال خيرًا فغنم، أو سكت عن سوء فسلم.
صورة سادسة: كثير من الجلساء إذا ذكر له صديقه أثنى عليه، ولو كان يعلم أنه لا يستحق ذلك الثناء، وإذا ذكر له خصمه ذمه، ولو كان يعلم أنه خلاف ما يقول، فيا أيها المؤمن أسألك بالله هل تستطيع أن تذكر العيوب الموجودة في أقرب الناس إليك عند الحاجة الشرعية لذلك؟ اسأل نفسك، وهل تستطيع أن تثني بصدق على إنسان تختلف معه في بعض الأمور؟ أنا لا أريد الإجابة، ولكن الواقع يشهد أن أكثر الناس يجورون على خصومهم؛ فيذمونهم بما ليس فيهم ويجورون أيضًا على أصدقائهم؛ فيمدحونهم بما ليس فيهم، فيا أيها المحب: أنصف الناس، وأنصف نفسك، فإن غلب عليك الهوى، فأمسك عليك لسانك لا أبا لك .
صورة سابعة: تناظر اثنان في مجلس أي: تجادلا وتناقشا فارتفعت أصواتهما، وانتفخت أوداجهما، وتقاذفا بالسب والشتائم . فنقول لهما: إن التشنج والانفعال ليس هو الأسلوب الأمثل لنصرة الحق أبداً، ولكن كم من هادئ، عف اللسان، حليم، كاظم للغيظ أقدر على نصرة الحق من غيره، وقد قال أبو عثمان بن الإمام الشافعي رحمة الله عليهما أجمعين: ما سمعت أبي يناظر أحداً قط، فرفع صوته .
وبعض الإخوة غفر الله للجميع يظن أنه من تمام غيرته على المنهج، وعظيم نصرته للحق لابد أن يقطب جبينه، ويحمر عينيه، و يرفع صوته ،وتتسارع أنفاسه، وهذا لا يصح أبداً؛ إن اختلاف الآراء، ووجهات النظر لا يدعو إلى الأحقاد والأضغان، فإن المرجو البحث عن الحق وطلبه، وليس التشفي والانتقام فينطلق اللسان بالسباب والشتائم ومقاطعة الكلام، فما من الناس أحد يكون لسانه منه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله، وانظر للأدب الجم والخلق الرفيع عند الحوار والمناقشة قال عطاء بن أبي رباح:' إن الشاب ليتحدث بالحديث، فأسمع له كأني لم أسمعه، ولقد سمعته قبل أن يولد' فهكذا يكون الأدب عند الحوار وعند المناظرة .
وأخيرًا: إطلاق العنان للسان في التحليل، والتحريم، والسخرية والاستهزاء بالدين: وهذه من أخطر الصور التي نرى أنها تفشت اليوم في مجالس المسلمين أياً كانوا رجالاً أو نساء ، صغارًا أو كباراً ، وخاصة بين الشباب، وبين العوام، وقد نهى الله عن المسارعة في إصدار التحليل والتحريم فقال:} وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ[116]{ “سورة النحل”وكان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم مع سعة علمهم وفقههم لا يكثرون من إطلاق عبارات التحليل والتحريم وهذا من شدة ورعهم ومحاسبتهم لأنفسهم، يقول الإمام مالك رحمة الله:'لم يكن من أمر الناس، ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحداً أقتدي به يقول في شئ: هذا حلال وهذا حرام ما كانوا يجترئون على ذلك وإنما كانوا يقولون: نكره هذا ، ونرى هذا حسناً ونتقي هذا ولا نرى هذا، ولا يقولون حلالا ولا حرامًا '.
النتيجة النهائية:(/6)
ضياع الحسنات في الآخرة: إن من جلس مجلسًا، ثم أطلق للسانه العنان، فهذه علامة أكيدة على إفلاسه في الدنيا والآخرة، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ قَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ] قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ فَقَالَ: [ إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ] رواه مسلم . وعَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ ] رواه مسلم . حتى البهائم يفصل بينها يوم القيامة فاحفظ حسناتك فأنت أحوج لها .
الفضيحة وهتك ستره: فالجزاء من جنس العمل، فَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ] رواه أبو داود وأحمد، وهو صحيح بمجموع طرقه. والواقع يشهد بذلك: فكم فضح الله حقيقة أولئك الذين آذوا إخوانهم بألسنتهم حتى عرفهم الناس وانكشف أمرهم .
يجتنبه الناس اتقاء شره: ويحذرونه اتقاء فحشه، وإن جلس معهم في مجالسهم، وإن ضحكوا، وإن جاملوه؛ فإنه اتقاءً لفحشه، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: [ أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ] رواه البخاري ومسلم .
البلاء موكل بالقول: فيُبْلَى المتكلم بما كان يذكره في أخيه، فاحذر أيها المسلم، واحذري أيتها المسلمة:أن تظهر الشماتة بأخ أو بأخت لك، فيعافيها الله، ثم يبتليك بما كان فيها؛ فالبلاء موكل بالقول فروي عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ]رواه الترمذي و قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ . وقال إبراهيم التيمي:' إني أجد نفسي تحدثني بالشيء فلا يمنعني أن أتكلم به إلا مخافة أن أبتلى به' . وقال ابن مسعود: [ البلاء موكل بالقول ولو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً] . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .
من محاضرة: غثاء الألسن للشيخ إبراهيم الدويش(/7)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ـ صلي الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد أحبتي في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وهذه ليلة الجمعة الموافق للعاشر من شهر الله المحرم للعام السادس عشر بعد الأربعمائة والألف للهجرة النبوية الشريفة وفي هذا الجامع المبارك جامع الراجحي بمدينة >جدة< نلتقي وإياكم مع موضوع بعنوان :غثاء الألسنة والغُثاء بالمد والضم ما يجيء فوق السيل مما يحمله من الزبد والوسخ وغيره وغثاء الألسنة أراذل الناس وسقطهم ، والغث هو الرديء من كل شيء وغث حديث القوم فسد وردأ وغث فلان في حديثه إذا جاء بكلام غث لا معني له وما أكثر الكلام الفاسد الذي يدور في مجالس المسلمين أيا كانوا كبارا أو صغارا رجالا أو نساء إن غثاء الألسنة اليوم يزكم الأنوف ويصم الآذان ويصيبك بالغثيان والدوار ويصيبك الغثيان والدوار وأنت تسمع حديث المجالس اليوم لا نقول ذلك في مجالس العامة ودهماء الناس فقط بل وللأسف وأقولها بكل أسى حتى في مجالس الصالحين وفي مجالس المعلمين والمتعلمين غثاء الألسنة في الكذب والنفاق والغش والخداع غثاء الألسنة في الغيبة والنميمة والقيل والقال غثاء الألسنة في أعراض الصالحين والمصلحين والدعاة والعلماء في الوقت الذي سلم فيه أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والرافضة والمنافقين غثاء الألسنة في التدليس والتلبيس وتزييف الحقائق وتقليب الأمور غثاء الألسنة في التجريح والهمز واللمز وسوء الظن غثاء الألسنة في الدخول في المقاصد والنيات وفقه الباطن غثاء الألسنة بكل ما تحمله هذه الكلمة من غثائية وغث وغثيث وغثيان وما هي النتيجة؟ النتيجة بث الوهم والفرقة والخصام والنزاع بين المسلمين وقطع الطريق علي العاملين وإخماد العزائم بالقيل والقال إنك ما إن ترى الرجل حسن المظهر وسيماه الخير وقد تمسك بالسنة في ظاهره إلا وتقع الهيبة في قلبك والاحترام والتقدير في نفسك وما أن يتكلم فيجرح فلانا ويعرض بعلان وينتقص عمرا ويصنف زيدا إلا وتنزع المهابة من قلبك ويسقط من عينك وإن كان حقا ما يقول نعم وإن كان حقا ما يقول وإن كان صادقا فيه فلا حاجة شرعية دعت لذلك وإن دعت تلك الحاجة فبالضوابط الشرعية وبالقواعد الحديثية فإن لم تعلمها أيها الأخ الحبيب وإن لم تعلميها أيتها المسلمة فما نستطيع أن نقول إلا أمسك عليك لسانك إن للمصنفات في الجرح والتعديل أو إن المصنفات في الجرح والتعديل مئات المجلدات لكن اقرأ فيها وتمعن فيها وكيف كان الجرح فيها فشتان بين الجرحين لقد كان خوف الله عز وجل ميزان دقيق لألسنتهم رحمهم الله تعالى وكان هدفهم هو تمييز صحيح السنة من سقيمها ولكن ما هو الهدف اليوم؟ نعوذ بالله من الهوى ومن الحسد ومن الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق أيها الأخ الحبيب أيتها الأخت المسلمة إلى متى ونحن نجهل أو نتجاهل أو نغفل أو نتغافل عن خطورة هذا اللسان؟ مهما كان صلاحك ومهما كانت عبادتك ومهما كان خيرك ومهما كان علمك ومهما كانت نيتك ومهما كان قصدك فرحم الله [ابن القيم] رحمة واسعة يوم أن قال في الجواب الكافي: من العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالا يذل بالكلمة الواحدة أبعد مما بين المشرق والمغرب والعياذ بالله وقال أيضا في الكتاب نفسه: إن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله تعالى وما اتصل فيه وما أجمل هذا الكلام ولذلك أقول أيها الأخ الحبيب ويا أيتها الغالية: احذر لسانك وانتبهي للسانك واحبس لسانك وأمسك عليك لسانك أمسك عليك لسانك هو جزء من حديث نبوي أخرجه الترمذي في سننه وأحمد في مسنده وابن المبارك و الطبراني وغيرهم من حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال صلي الله عليه وآله وسلم: "أملك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك" وفي لفظٍ "أمسك عليك لسانك" والحديث صحيح بشواهده وأنا هنا لا أدعوك للعزلة وإنما أقول أمسك عليك لسانك إلا من خير كما في الحديث الآخر "فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير" والحديث رواه [أحمد] و[ابن حبان] وغيرهما وهو صحيح كما سيأتي إن شاء الله وحفظ اللسان علي الناس أشد من حفظ الدنانير والدراهم كما يقول [محمد بن واسع] رحمه الله تعالى ولأن كثرة الكلام تذهب بالوقار ومن كثر كلامه كثر سقطه ولأننا نرى الناس أطلقوا العنان لألسنتهم فأصبح ذلك اللسان(/1)
سلاحا لبث الفرقة والنزاع والخصام والشتائم وفي مجالات الحياة كلها وبين الرجال والنساء بحد سواء ولكثرة الجلسات والدوريات والاستراحات ولأن الكلام فاكهة لهذه الجلسات كان لابد من وضع ضابط ولابد من تحذير وتذكير للناس في مثل هذه الجلسات ولأنك ستسمع الكثير إن شاء الله تعالى من الأسباب التي جعلتني أختار مثل هذا الموضوع من خلال هذه العناصر وهي: خطر اللسان أدلة من الكتاب والسنة، السلف الصالح مع اللسان، صور من الواقع، النتيجة النهائية ، واسمع قبل ذلك كلاما جميلا جدا للإمام [النووي] رحمه الله تعالى في كتاب الأذكار يوم أن قال: فصل؛ اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاما تظهر المصلحة فيه ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة ، اسمع للفقه اسمع لفقههم رحمهم الله تعالى ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة يعني كان قول الكلام أو تركه المصلحة واحدة فالسنة الإمساك عنه لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه بل هذا كثير أو غالب في العادة والسلامة لا يعدلها شيء …انتهى كلامه رحمه الله ، خطر اللسان أدلة من الكتاب والسنة هل قرأت القرآن ومر بك قول الحق عز وجل (ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيب عتيد) هل تفكرت في هذه الآية إنها الضابط الشرعي (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) أسمعت أيها الإنسان أسمعت أيها المسكين إنها رقابة شديدة دقيقة رهيبة تطبق عليك إطباقا كاملا شاملا لا تغفل من أمرك دقيقا ولا جليلا ولا تفارقك كثيرا ولا قليلا كل نَفَسٍ معدود وكل هاجسة معلومة وكل لفظ مكتوب وكل حركة محسوبة في كل وقت وفي كل حال وفي أي مكان عندها قل ما شئت وحدث بما شئت وتكلم بمن شئت ولكن اعلم أن هناك من يراقبك اعلم اعلم أن هناك من يسجل وأن هناك من يعد عليك هذه الألفاظ (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) إنها تعنيك أنت أيها الإنسان إنها تعنيكِ أنت أيتها المسلمة (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) هذه الآيات والله إنها لتهز النفس هزا وترجها رجا وتثير فيها رعشة الخوف ، الخوف من الله عز وجل قال ابن عباس: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) قال: يكتب كل ما تكلموا به من خير وشر حتى إنه ليكتب قوله أكلت شربت أو قولك أكلت شربت ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عُرِضَ قوله وعمله فأقر فيه ما كان من خير أو شر وألقي سائره واسمع للآيات من كتاب الله تقرع سمعك وتهز قلبك إن كان قلبا مؤمنا يخاف من الله عز وجل (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) (إن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) وأخيرا (إن ربك لبالمرصاد) فربك راصد ومسجل لكلماتك ولا يضيع عند الله شيء أما أنت أيها المؤمن أما أنت يا من يقال عنك ويدور عنك الحديث في المجالس أما أنت أيها المظلوم فإن لك بهذه الآية تطمينا فلا تخف ولا تجزع فإن ربك لبالمرصاد ، لبالمرصاد لمن أطلقوا لألسنتهم العنان في أعراض العباد ، لبالمرصاد للطغيان والشر والفساد فلا تجزع بعد ذلك أيها الأخ الحبيب ولنزداد بينة في خطر هذا اللسان الذي بين لحييك فاسمع لهذه الأحاديث باختصار، فعن [بلال بن الحارث المزني] ـ رضي الله تعالى عنه وأرضاه ـ أن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ قال: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه" اسمع : يكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه "وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة" والعياذ بالله والحديث أخرجه [البخاري] في صحيحه وكان [علقمة] يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث أي هذا الحديث، اسمع لحرصهم ـ رضي لله عنهم وأرضاهم: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث كما ذكر ذلك [ابن كثير] في تفسيره فأين أنت يا علقمة من أولئك الذين يلقون الكلمات على عواهنها فلا يحسبون لها حسابا كم نلقي أيها الأحبة وكم نلقى أيتها المسلمة من الكلمات تظن أنها ذهبت أدراج الرياح وهي عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينساه احسب لهذا الأمر حسابه حتى تعلم أن كل كلمة مسجلة عليك أيها الأخ الحبيب ، وعن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ يقول : "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق" والحديث أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وفي رواية لمسلم: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب" أسألك العفو يا(/2)
إلهي، إن شغلنا الشاغل اليوم في مجالسنا أيها الأحبة هو بث الكلمات ونشر الشائعات وكم من كلمة قصمت ظهر صاحبها وهو لا يعلم ولا شك أن فساد المجالس بسبب قلة العلم والإطلاع ، إذ لو وجد هذا العلم لاستغلت المجالس أحسن استغلال ولسمعت النكت العلمية والفوائد الشرعية والمسائل الفقهية بدلا عن القيل والقال والغرائب والعجائب ولكن فاقد الشيء لا يعطيه وهذا أثر من آثار الجهل الذي يتفشى اليوم بين كثير من الناس إسهال فكري، وإسهال كلامي أصاب كثيرا من مجالس المسلمين اليوم إنك تجلس المجالس الكثيرة بل ربما لم يمر عليك يوم من الأيام ولا ليلة من الليالي إلا وجلست مجلسا فبماذا خرجت من هذه المجالس؟ ما هي النتيجة وما هي الثمرة من هذه المجالس التي جلستها أيها الأخ الحبيب لا شك أن هذا أثر من آثار الجهل الذي يتفشى في صفوف المسلمين اليوم وقلة البركة حيث أصبح العلم مصدر رزق لكثير من الناس ولذلك تجد في المجلس الواحد عشرات المدرسين والمتعلمين ومع ذلك يذهب المجلس هباء بدون فائدة بل ربما ذهب والعياذ بالله بالآثام وجمع السيئات وفي حديث [معاذ] الطويل قال رضي الله تعالى عنه ـ أو قال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قال معاذ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه ثم قال" انظر الوصية "فأخذ بلسانه ثم قال: كف عليك هذا، كف عليك هذا، قلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به" بعض الناس قد يجهل أنه سيؤاخذ بكل كلمة تكلمها كانت خيرا أو شرا "وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" والحديث أخرجه الترمذي في سننه وقال: حديث حسن صحيح ، وفي حديث [سهل بن سعد] رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة" والحديث أخرجه البخاري في صحيحه وفي آخر حديث [سفيان بن عبد الله ] ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال في آخره "قال: قلت : يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: هذا" والحديث أخرجه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده والترمذي في سننه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، ثم يوجه المصطفي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لأمته تلك القاعدة الشرعية والمعيار الدقيق ولمن اختلطت عليه الأوراق وليقطع الشك باليقين وليسلم من الحيرة والتردد فيقول كما في حديث [أبي هريرة] ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ "من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليقل خيرا أو ليصمت" قاعدة شرعية تربوية منهجية نبوية ميزان معيار دقيق لك أيها المسلم ولك أيتها المسلمة يوم أن تجلس مجلسا "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر" انظر للتربية ربى هذه القلوب باليوم الآخر "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" ولأن النفوس اليوم غفلت عن اليوم الآخر وتعلقت بالدنيا وشهواتها ولذاتها غفلت عن هذه القاعدة الشرعية النبوية ونسيت الحساب والعذاب في اليوم الآخر ونسيت الجنة والنار أو غفلت عنها وبالتالي انطلق اللسان يفري في لحوم العباد فريا بدون ضوابط وبدون خوف ولا وجل لماذا؟! لماذا هذه القاعدة؟ لأنه لا يصح أبدا أن يؤذي المسلم إخوانه بلسانه ولأن المسلم الصادق والمحب الناصح هو من سلم المسلمون من لسانه ويده كما في حديث [أبي موسى الأشعري] المتفق عليه والأحاديث في الباب كثيرة مستفيضة وكم نحن بحاجة إلى من يردد هذه الأحاديث على مسامع الناس كم نحن بحاجة أيها الأخيار يا طلبة العلم أيها الصالحون كم نحن بحاجة إلى أيتها الصالحات إلى أيتها الخائفات القانتات العابدات الساجدات كم نحن بحاجة إلى من يردد على المسلمين والمسلمات أمثال هذه الأحاديث ليتذكروها وليعوها وليفهموها جيدا حتى تتذكر النفس كلما أراد اللسان أن ينطلق في كلمة يحسبها ، يحسب لها حسابها قبل أن يخرج لسانه بهذه الكلمات واسمع لرواة هذه الأحاديث من السلف الصالح ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ يوم أن سمعوها علما وعملا وامتثالا للمصادر الشرعية الكتاب والسنة وإليك الأدلة من حياتهم العملية ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ السلف الصالح مع اللسان ، أسوق إليك أيها الأخ الحبيب مواقف قليلة، قليلة جدا، كيف كان حال السلف الصالح مع ألسنتهم؟ ذكر الإمام [مالك] في الموطأ عن [عمر بن الخطاب] ـ رضي الله تعالى عنه وأرضاه ـ أنه دخل على [أبي بكر الصديق] وهو يجبذ لسانه أي: يجره بشدة وهو يجبذ لسانه فقال له عمر: مه غفر الله لك فقال أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد ، من القائل؟ الرجل الأول بعد الأنبياء والرسل ـ رضي الله تعالى عنه وأرضاه ـ القائل أبو بكر انظر لحرصه على لسانه ـ رضي الله تعالى عنه وأرضاه ـ قال رجل رأيت [ابن عباس ] آخذا بثمرة لسانه وهو يقول أي ممسكا بلسانه وهو يقول: ويحك قل خيرا تغنم واسكت عن شر تسلم ، قال:(/3)
فقال له رجل: يا ابن عباس مالي أراك آخذ بثمرة لسانك تقول كذا وكذا قال ابن عباس: بلغني أن العبد يوم القيامة ليس هو على شيء أحنق منه على لسانه ، يعني لا يغضب على شيء من جوارحه أشد من غضبه علي لسانه والأثر أخرجه [ابن المبارك] وأحمد و[أبو نعيم] وأيضا أخرجه أحمد في كتاب الزهد والمتن بمجموع طرقه حسن والله أعلم، وقال [عبد الله بن أبي زكريا]: عالجت الصمت عشرين سنة ، انظر للحساب أنظر النفس، عالجت الصمت عشرين سنة فلم أقدر منه على ما أريد ، وكان لا يدع يعاتب في مجلسه أحد ويقول: إن ذكرتم الله أعناكم وإن ذكرتم الناس تركناكم والأثر ذكره أبو نعيم في الحلية وكان [طاووس بن كيسان] ـ رضي الله تعالى عنه ـ يعتذر من طول السكوت ويقول: إني جربت لساني فوجدته لئيما *** هؤلاء هم رضي الله تعالى عنهم ـ فماذا نقول نحن على ألسنتنا وذكر [هناد بن السري] في كتابه الزهد بسنده إلى الحسن أنه قال يخشون أن يكون قولنا حميد الطويل غيبة ، حميد الطويل لأنهم بينوه أو نسبوه لأنه طويل حميد الطويل يخشون أن يكون غيبة رحمة الله عليهم أجمعين وأخرج [وكيع] في الزهد وأبو نعيم في الحلية من طريق [جرير بن حازم] قال: ذكر [ابن سيرين] رجلا فقال: ذلك الرجل الأسود، يريد أن يعرفه، ذلك الرجل الأسود ثم قال أستغفر الله إني أراني قد اغتبته، وكان [عبد الله بن وهب] رحمه الله يقول: نذرت أني كلما اغتبت إنسانا انظر للمحاسبة مرة أخري نذرت أني كلما اغتبت إنسانا أن أصوم يوما فأجهدني يعني تعبت فكنت أغتاب وأصوم فنويت أني كلما اغتبت إنسانا أن أتصدق بدرهم فمن حب الدراهم تركت الغيبة جرب هذا كلما اغتبت إنسانا أو ذكرته بسوء ادفع ولو ريالا واحدا، الله العالم بحالنا الآن سنجد أنه في آخر الشهر لم يبق من الراتب ولا ريال واحد لأننا أعرف بأنفسنا أيها الأحبة في مجالسنا والله والمستعان، قال الذهبي معلقا في السير علي قول [عبد الله بن وهب] قال: هكذا والله كان العلماء وهذا هو ثمرة العلم النافع، قال [النووي] في الأذكار: بلغنا أن [قس بن ساعدة]، و[أكثم بن صيفي] اجتمعا فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تحصى والذي أحصيته ثمانية آلاف عيب ووجدت خصلة إن استعملتها سترت العيوب كلها خصلة إن استعملتها سترت العيوب كلها كما قال: ما هي؟ قال حفظ اللسان، قال [إبراهيم التيمي]: أخبرني من صحب [الربيع بن خثيم] عشرين عاما ما سمع منه كلمة تُعَاب ، الله المستعان، عشرين عاما ما سمع منه كلمة تعاب والأثر أخرجه وذكره [ابن سعد] في الطبقات وقيل له أي للربيع :يا أبا يزيد ألا تذم الناس؟ فقال: والله ما أنا عن نفسي براض فأذم الناس، إن الناس خافوا الله علي ذنوب الناس وأمنوه على ذنوبهم، وصدق رحمه الله صدق ألا ترون أيها الأحبة الآن أننا في مجالسنا نقول: نخشى عذاب الله من فعل فلان، ونخاف من عذاب الله عز وجل من قول علان ولا نخشى من عذاب الله عز وجل من أفعالنا وأقوالنا هذا ظاهر في مجالسنا نتحدث ونقول والله نخشى من عذاب الله من أفعال فلان وعلان ولكننا ننسى أن نخاف على أنفسنا من عذاب الله من ذنوبنا وأفعالنا وأقوالنا ارجع لنفسك وانظر لعيوبها قبل أن تنظر لعيوب الآخرين وتتكلم فيهم وقال [حماد بن زيد] :بلغني أن محمد ابن واسع كان في مجلس فتكلم رجل فأكثر الكلام، فقال له محمد: ما على أحدهم لو سكت فتنقى وتوقى، أي اختار كلماته وحسب لها حسابها وقال[ بكر بن مُنَيَّر]: سمعت أبا عبد الله البخاري أمير المؤمنين صاحب الصحيح ـ رضي الله تعالى عنه وأرضاه ـ يقول: أرجو أن ألقي الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا اسمع للثقة أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا، والبخاري له كتب في الجرح والتعديل له مؤلفات في الجرح والتعديل ويقول الذهبي في السير أيضا معلقا على قول البخاري هذا: صدق رحمه الله ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس وإنصافه فيمن يضعفه فإن أكثر ما يقول يعني أشد ما يقول البخاري إذا أراد أن يجرح رجلا يقول: منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر ونحو هذا وقل أن يقول فلان كذاب أو كان يضع الحديث حتى إنه قال إذا قلت فلانا في حديثه نظر فهو متهم واهن وهذا معنى قوله لا يحاسبني الله أني اغتبت أحدا وهذا هو والله غاية الورع انتهى كلام الذهبي، هذه مواقف للسلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم مع اللسان والآن تعال إلى صور من الواقع وهي عبارة عن مواقف مبعثرة وأحداث متعددة تتكرر في مجالسنا كثيرا اخترت منها عشرة مشاهد أسوقها إليك فأصغني سمعك وفهمك وأحسن الظن في فلعلي لا أحسن التصوير أو ربما خانني التعبير وما أريد يعلم الله إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ومن الصور المشاهدة في مجالسنا وأولى هذه الصور حديث العامة أن فلانا فيه أخطاء وفلان الآخر فيه تقصير والثالث فيه غفلة والرابع لا يسلم من العيب الفلاني وهكذا أقاموا أنفسهم(/4)
لتقييم الآخرين وجرحهم ولمزهم فيا سبحان الله نسينا أنفسنا نسينا عيوبنا وتقصيرنا وغفلتنا وكثرة أخطائنا ولو أعمل عاقل فكره في الجالسين أنفسهم لوجدوا فيهم بذاءة في اللسان وسوءا في المعاملة والأخلاق فهو إن حدث كذب أو وعد أخلف أو باع واشترى فغش وخداع وإن جاء للصلاة نقرها نقر غراب ؛مقصر في الفرائض مهمل للنوافل في وظيفته تأخر وهروب وإهمال واحتيال وفي بيته وسائل للفساد وضياع للأولاد وعقوق للأرحام كل هذه النقائص وهذه المصائب عميت عليه فنسيها في نفسه عميت عليه فنسيها في نفسه وذكرها في إخوانه فلم يسلم منه حتى ولا الصالحون المخلصون فيا أيها الأخ والله إني عليك لمشفق ولك محب فأمسك عليك لسانك وكف عن أعراض الناس وإذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك كما قال [ابن عباس] وقال أبو هريرة: يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجبء في عينه وقال [عون بن عبد الله]: ما أحسب أحدا تفرغ لعيوب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه وقال [بكر بن عبد الله المزني]: إذا رأيتم الرجل مولعا بعيوب الناس ناسيا لعيبه فاعلموا أنه قد مكر به.
إذا رمت أن تحيا سليما من الأذى
ودينك موفور وعرضك صين
فلا ينطقن منك اللسان بسوءة
فكلك سوءات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معائبا
فدعها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى ...
ودافع ولكن بالتي هي أحسن(/5)
صورة ثانية من الصور التي تقع في واقعنا ، جلسوا مجلسهم فبدأ الحديث فذكروا زيدا وأن فيه وفيه ثم ذكروا قول عَمْرٍ فأتقنوا فن الهمز واللمز والعجيب أن معهم فلانا الصالح العابد الزاهد القائم الصائم والأعجب أن من بينهم طالب العلم فلانا الناصح الأمين والحمد لله لم يتكلما وسكتا ولكنهما ما سلما لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، ولأن المستمع شريك للقائل ما لم يتبع المنهج الشرعي "من رد عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار"من رد عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار والحديث أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما من حديث [أبي الدرداء] والحديث حسن بشواهده فيا أيها المسلم إذا وُقِعَ في رجل وأنت في ملأ فكن للرجل ناصرا وللقوم زاجرا وانصر أخاك ظالما أو مظلوما وقل للمتحدث أمسك عليك لسانك فإن استجاب وإلا فقم عنهم (أيحب أحدكم أن يأكل لخم أخيه ميتا فكرهتموه) واسمع لكلام [ابن الجوزي] الجميل في تلبيس إبليس قال رحمه الله: وكم من ساكت عن غيبة المسلمين إذا اغتيبوا عنده فرح قلبه وهو آثم بذلك من ثلاثة وجوه أحدها: الفرح فإنه حصل بوجود هذه المعصية من المغتاب، والثاني: لسروره بسلب المسلمين والثالث: أنه لا ينكر، انتهى كلامه رحمه الله، ويقول[ ابن تيميه] رحمه الله في الفتاوى في الجزء الثامن والعشرين صفحة سبع وثلاثين ومائتين يقول: ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى وانتبه لهذا الكلام النفيس الجميل ومنهم أي من الناس من يخرج الغيبة في قوالب شتى تارة في قالب ديانة وصلاح فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحدا إلا بخير ولا أحب الغيبة ولا الكذب وإنما أخبركم بأحواله ويقول والله إنه مسكين أو رجل جيد ولكن فيه كيت وكيت أو ربما يقول دعونا منه الله يغفر لنا وله وإنما قصده استنقاصه وهضما لجنابه ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة يخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقا وقد رأينا منهم ألوانا كثيرة من هذا وأشباهه انتهى كلامه رحمه الله ، صورة ثالثة اتهام النيات والدخول في المقاصد من أخطر آفات اللسان يتبعه تبديع الخلق وتصنيف الناس وتقسيمهم إلى أحزاب وهم منها براء وقد يتبع ذلك أيمان مغلظة وأقسام وأحلاف بأنه العليم بفلان والخبير بأقواله فيا سبحان الله أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم قصده ومبتغاه؟ أين أنت من قول القدوة الحبيب صلى الله عليه وسلم "إني لم أؤمر أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم" والحديث أخرجه البخاري في صحيحه ومسلم في صحيحه ورحم الله ابن تيميه يوم أن قال في الفتاوى في الجزء التاسع عشر صفحة اثنين وتسعين ومائة قال: وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) وفي الصحيح قال: قد فعلت، والحديث عند مسلم في كتاب الإيمان فيا أخي الحبيب أمسك عليك لسانك والزم الورع والتقى ومراقبة الله عز وجل وأشغل نفسك في طاعة الله أنفع لك عند الله فعن البراء ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: "جاء أعرابي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال دلني على عملٍ يدخلني الجنة ـ انظر للحرص ـ دلني على عمل يدخلني الجنة قال صلى الله عليه وسلم أطعم الجائع، واسق الظمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير" والحديث أخرجه أحمد وابن حبان وغيرهما وهو صحيح وعند مسلم قال: "تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك" سبحان الله انظر لفضل الله عز وجل علي عباده، إن كفك شرك عن الناس صدقة تكتب لك عند الله عز وجل، فيا أيها الأخ الكريم إن أبواب الخير كثيرة وأعمال البر عديدة فأشغل نفسك فيها فإن عجزت فكف لسانك إلا من خير وإن أبيت إلا أن تكون راصدا لأقوال الناس حارسا لألسنتهم فقيها ببواطنهم فحسبنا وحسبك الله . صورة أخري سمع ذلك المتحدث أو بعضا من كلماته بدون إصغاء جيد المهم أنه فهم فحوى الكلام وعرف قصد المتكلم أو هكذا زعم، انتبهوا لهذه الصورة لأنها تحصل لكثير منا، سمع ذلك المتحدث أو بعضا من كلماته بدون إصغاء جيد ، المهم كما يزعم أنه فهم فحوى الكلام وعرف قصد المتكلم أو هكذا زعم، أو قرأ ذلك الخبر أو الكتاب ها هو يلتهم الأسطر نظراته تتقافز بسرعة بين الكلمات التي تساقط منها الكثير لفرط السرعة ، المهم كما يزعم أنه فهم فكرة الكاتب وعرف قصده، ثم انتقل إلى المجالس ليؤدي ما تحمله ويزكي علمه، هكذا سولت له نفسه فذكر حديث فلان وخبر علان وأنه قال كذا وكذا فشرق وغرب وأبعد وأقرب فقلب الأقوال وبدل الأحوال وما أوتي المسكين إلا من سوء فهمه والتسرع في نقله أو في القراءة قول الآخرين ما لم يقولوا وقديما قيل: وما آفة الأخبار إلا رواتها
وكم من عارف قولا صحيحا
... وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه(/6)
على قدر القرائح والفهوم
صورة أخري إننا نغفل أو نتغافل فنتكلم في المجالس ونذكر العشرات بأسمائهم فإذا ذكرنا مذكر أو حذرنا غيور بأن هذه غيبة قلنا: هذا حق وما قلنا فيه صحيح وقد يسرد لك الأدلة والبراهين على ما يقول فيزيد الطين بلة فيا سبحان الله أليس النص واضح وصريح ألم يقل الصحابي لرسول الله صلي اله عليه وسلم: "أرأيت إن كان في أخي ما أقول قال ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم ـ إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته" والحديث أخرجه مسلم في صحيحه إذاً فلا مفر فإن كان ما ذكرته صحيحا فهذه هي الغيبة وإن كان ما ذكرته كذبا فهو ظلم وبهتان فكلا الأمرين ليس لك خيار، فأمسك عليك لسانك، فعن [أنس بن مالك] ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" والحديث أخرجه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه وإسناده صحيح ، وعن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها أنها ذكرت امرأة ـ اسمعي أيتها المسلمة اسمعي يا من في قلبك خوف من الله عز وجل ـ عائشة رضي الله تعالى عنها ذكرت أنها ذكرت امرأة فقالت: أنها قصيرة، وفي رواية أنها أشارت إشارة أنها قصيرة فقال النبي ـ صلي الله عليه وسلم: "اغتبتيها" وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: "اغتبتها" والحديث أيضا عند أبي داود في سننه وعند أحمد في مسنده وغيرهما وهو صحيح إذا ما بال نسائنا اليوم يجلسن في المجلس فيعرضن لعشرات من النساء فلانة وعلانة وتلك فيها والأخرى فيها وهكذا ألا يخشين الله عز وجل؟ ألا يخفن يوم أن تقف المرأة أمام الله عز وجل فيسألها عن قولها، يا سبحان الله ألهذا الحد وصلت الغفلة في نساء المسلمين!!! أن يغفلن أن مثل هذا القول سيجزين عليه أمام الله سبحانه وتعالى!!! تذكري وقوفك بين يدي الله عز وجل، احرصي أيتها المسلمة لنحرص على أنفسنا إننا ابتلينا بقلة الأعمال الصالحة في مثل هذا الزمن وابتلينا بكثرة الذنوب والتقصير في حق أنفسنا وفي حق ربنا أيها الأحبة فلماذا إذاً نزيد الطين بلة ونجمع على ذلك ذنوب الآخرين في غيبتهم وتنقصهم وغير ذلك وليس معنى هذا السكوت عن الأخطاء إنني لا أطالب أن نسكت عن أخطاء الآخرين أو حتى نتغاضى عن العصاة والفاسقين والمجاهرين وليس معنى ذلك ألا نحذر منهم وألا نفضحهم ، لا بل هذه أمور كلها مطالبون فيها شرعا هذه مطالب شرعية ولكن بالمنهج الشرعي، وبالقواعد العلمية كما جاءت عن سلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، ولكني على يقين أن أكثر ما يقال في مجالسنا لمجرد التحدث والتفكه وربما الهوى وأحقاد وأضغان عافانا الله وإياكم منها ورحم الله عبدا قال خيرا فغنم، أو سكت عن سوء فسلم، صورة أخرى قلت لبعض إخواني الزم الأدب وفارق الهوى والغضب أو أمسك عليك لسانك وابك على خطيئتك وانظر لحالك وردد ما ذكرته لك على أمثالك وقد كنت سمعت منه قيلا وقالا وجرحا وسلبا وهمزا ولمزا في أناس ما سمعنا عنهم إلا خيرا وهم من أهل الفضل فما رأيناهم إلا يعملون الخير ويدعون له ويسعون للبر وينهون عن الإثم فما استجاب لي وما سمع مني فرأيت أن ألزم الصمت معهم وفيهم ولهم وعليهم فأقبلت على واجباتي أيما إقبال، وأرحت قلبي من الأحقاد والأغلال وذهني من الهواجس والأفكار ثم جاء بعض الفضلاء وقال: يقولون فيك كيت وكيت فيعلم الله ما التفتُّ إليهم ولا تأذيت وقلت لهم: رُبَّ كلام جوابه السكوت ورُبَّ سكوت أبلغ من كلام وعلمتني الحياة أن الصفح الجميل من أحسن الشيم .
قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم ...
... إن الجواب لباب الشر مفتاح
الصمت عن جاهل أو أحمق شرف ...
أيضا وفيه لصون العرض إصلاح
أما ترى الأُسْدَ تخشى وهي صامتة
والكلب يخشى لعمري وهو نباح(/7)
ونقل [ الإمام الشاطبي] عن [أبي حامد الغزالي] رحمة الله عليهما كلاما متينا يغفل عنه بعض الناس فقال: أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جهلة أهل الحق أظهروا الحق في معرض التحدي والإذلال ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها ، انتهى كلامه رحمه الله من كتاب الاعتصام للشاطبي . صورة أخرى من صور الواقع مع اللسان في مجالسنا اليوم جلس مع صاحب له أو أصحاب فتكلموا وخاضوا، ولم يكن لهم من الأمر شيء إلا أنه شريك في المجلس ومن باب المشاركة قالها كلمة أو كليمات لم يحسب لها حسابها ولم يتبين خطرها، ظنها حديث مجالس، كان يسمع لها حسابها ولم يتبين خطرها، ظنها حديث مجالس، كان يسمع ثم يهز رأسه علامة للرضا ثم قالها، لم يظن أنه يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب فعن أبي هريرة رضي الله عنه كما في الحديث الذي أسلفناه أنه سمع النبي صلي الله عليه وسلم يقول: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب" اسمع للنصوص الشرعية واستجب لها فإن فيها حياتك ونجاتك فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ما يتبين أي: لا يتأملها بخاطره ولا يتفكر فيها ولا في عواقبها ولا يظن أنها ستؤثر شيئا وهو من نحو قوله تعالى (ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم) هكذا يلقي بعض الناس هذه الكلمات فيا أخي الكريم انتبه للسانك، إن خطر اللسان عظيم وآفاته كثيرة فأمسك عليك لسانك. صورة أيضا أخرى كثير من الجلساء إذا ذكر له صديقه أثنى عليه ولو كان يعلم أنه لا يستحق ذلك الثناء وإذا ذكر له خصمه ذمه ولو كان يعلم أنه خلاف ما يقول، فيا أيها المؤمن أسألك بالله هل تستطيع أن تذكر العيوب الموجودة في أقرب الناس إليك عند الحاجة الشرعية لذلك؟ اسأل نفسك، وهل تستطيع أن تثني بصدق على إنسان تختلف معه في بعض الأمور؟ أنا لا أريد الإجابة ولكن الواقع يشهد أن أكثر الناس يجورون على خصومهم فيذمونهم بما ليس فيهم ويجورون أيضا على أصدقائهم فيمدحونهم بما ليس فيهم فإن من أثنى عليك بما ليس فيك فقد ذمك، نعم لأن الناس يطلبونها فيك فلا يجدونها فيذمونك على فقدها لا بل الأمر أدهى من ذلك وأشد فإن الحقيقة أنه كثيرا ما تنسينا العيوب القليلة المحاسن الكثيرة وننسى القاعدة الشرعية إذا كان الماء قُلَّتَين لم يحمل الخبث أفلا نتقى الله عند الجرح والتعديل وننزل الناس منازلهم أليس قد أثنى صلى الله عليه وسلم على [النجاشي] ووصفه بأنه ملك لا يظلم عنده أحد مع أنه حينها أي النجاشي كان كافراً لم يسلم ، فيا أيها المحب أسمعت رعاك الله أنصف الناس وأنصف نفسك فإن غلب عليك الهوى فأمسك عليك لسانك لا أبا لك . صورة أخرى تناظر اثنان في مجلس أي تجادلاً وتناقشاً فارتفعت أصواتهما وانتفخت أوداجهما وتقاذفا بالسب والشتائم قلت: إن التشنج والانفعال ليس هو الأسلوب الأمثل لنصرة الحق أبداً هذه القاعدة في رأسك يا أيها الحبيب .. ولكن كم من هادئ عف اللسان حليم كاظم للغيظ أقدر على نصرة الحق من غيره وقد قال [أبو عثمان بن الإمام الشافعي] رحمة الله عليهما أجمعين ما سمعت أبي يناظر أحداً قط فرفع صوته ولهذا كان الإمام الشافعي رحمة الله تعالى عليه يقول :
إذا ما كنت ذا فضل وعلم
بما اختلف الأوائل والأواخر
فناظر من تناظر في سكون
حليماً لا تلح ولا تكابر
يفيدك ما استفاد بلا امتنان
من النكت اللطيفة والنوادر
وإياك واللجوج ومن يرائي
بأني قد غلبت ومن يفاخر
فإن الشر في جنبات هذا
يمني بالتقاطع والتدابر(/8)
فبعض الاخوة غفر الله للجميع يظن أنه من تمام غيرته على المنهج وعظيم نصرته للحق لابد أن يقطب جبينه ويحمر عينيه و يرفع صوته وتتسارع أنفاسه وهذا لا يصح أبداً إن اختلاف الآراء لا يدعو إلى الأحقاد والأضغان إن اختلاف الآراء ووجهات النظر لا يدعو إلى الأحقاد والأضغان فإن المرجو البحث عن الحق وطلبه وليس التشفي والانتقام فينطلق اللسان بالسباب والشتائم ومقاطعة الكلام، فما من الناس أحد يكون لسانه منه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله واسمع للأدب الجم والخلق الرفيع عند الحوار والمناقشة قال عطاء بن أبي رباح : إن الشاب ليتحدث بالحديث فأسمع له كأني لم أسمعه ، ولقد سمعته قبل أن يولد ، سمعت هذا الكلام الذي يقوله قبل أن يولد هذا الشخص الذي يتحدث ومع ذلك أسكت كأني لم أسمع الكلام إلا الساعة هكذا يكون الأدب عند الحوار وعند المناظرة ، وأخيرا من أعظم الصور في مجالسنا ومن أخطرها على كثير من الناس إطلاق العنان للسان في التحليل والتحريم والسخرية والاستهزاء بالدين هذه من أخطر الصور التي نرى أنها تفشت اليوم في مجالس المسلمين أياً كانوا رجالاً أو نساء ، صغارا أو كباراً ، وخاصة بين الشباب وبين العوام قضية التحليل والتحريم والسخرية والاستهزاء بالدين ولذلك إنك تسمع وترى تسرع فئات من الناس في إطلاق ألفاظ التحليل والتحريم وقد نهى الله عز وجل عن ذلك ، ونهى عن المسارعة في إصدار التحليل والتحريم فقال : (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) وكان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم مع سعة علمهم وفقههم لا يكثرون من إطلاق عبارات التحليل والتحريم وهذا من شدة ورعهم ومحاسبتهم لأنفسهم يقول الإمام مالك رحمة الله تعالى عليه: لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحداً أقتدي به يقول في شئ : هذا حلال وهذا حرام ما كانوا يجترئون على ذلك وإنما كانوا يقولون : نكره هذا ، ونرى هذا حسناً ونتقي هذا ولا نرى هذا ، ولا يقولون حلالا ولا حراما . انتهى كلامه من جامع بيان العلم وفضله أما نحن فنسمع عبارات التحليل والتحريم على كل لسان وخاصة من العامة بدون علم ولا ورع ولا دليل مما أثار البلبلة عند الناس والتقول على الله بغير علم بل والمصيبة أن بعض الناس يسخر ببعض أحكام الدين ويهزأ بالصالحين والناصحين ربما سخر باللحية أو سخر بالثوب القصير أو سخر ببعض سنن المرسلين والعياذ بالله هؤلاء والله إنهم لعلى خطر عظيم ، ألم يسمع أمثال هؤلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم : " وإن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب" ألم يسمع هؤلاء قول الحق عز وجل (ويل لكل همزة لمزة) الهُمَزَة: الطَعَّان في الناس واللمز الذي يأكل لحوم الناس، ألم يسمع هؤلاء قول الحق عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن) ألم يسمع هؤلاء لقول الحق عز وجل : ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) سبحان الله غابت عليهم هذه النصوص من القرآن والسنة ، غفلوا عن خطر ما يتقولونه في الليل والنهار في السخرية والاستهزاء بالدين ربما خرج بعضهم والعياذ بالله من الدين بسبب كلمة يقولها وهو لا يشعر فحق على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه حافظاً للسانه مقبلاً على شأنه . النتيجة النهائية لإطلاق العنان للسان أقول يا أيها الحبيب ويا أيتها المسلمة إنك أحوج ما تكون إلى العمل الصالح أحوج ما نكون إلى العمل الصالح أيها الأحبة أحوج ما نكون إلى الحسنات ،وأراك تحرص على مجاهدة النفس لعلها أن تعينك على القيام بعمل صالح من صلاة أو صيام أو صدقة وقد تنتصر عليها وقد لا تنتصر وقد لا تنتصر وإن انتصرت وقمت بالعمل فلا يسلم من شوائب كثيرة مثل الرياء والنقص وحديث النفس وغيرها من مفسدات الأعمال ومع ذلك كله فإني أراك تبذ هذه الحسنات في المجالس أراك تبذ هذه الحسنات وتنثرها في المجالس والمنتديات ماذا تراكم تقولون أيها الأخيار تقولون في رجل أخرج من جيبه عشرات الريالات ثم نثرها في المجلس وبددها ماذا تقولون عنه أهو عاقل أو مجنون ؟ إن من جلس مجلسا ثم أطلق للسانه العنان فهذه علامة أكيدة على إفلاسه في الدنيا والآخرة فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال: "أتدرون من المفلس ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته قبل أن يُقْضَى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فَطُرِحَتْ عليه ثم طرح في النار" والعياذ بالله ، والحديث أخرجه مسلم في صحيحه وعن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم(/9)
القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" رواه مسلم حتى البهائم يفصل بينها يوم القيامة فاحفظ حسناتك فأنت أحوج لها واسمع لفقه [الحسن البصري] رحمه الله يوم أن جاء رجل فقال له : إنك تغتابني فقال : ما بلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي ، وعن [ابن المبارك] رحمه الله قال : لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت والدي لأنهما أحق بحسناتي ، ففقها رضي الله تعالى عنهما أن آفات اللسان تأتي على الحسنات وقد لا تبقي منها شيئاً فضياع الحسنات نتيجة أكيدة لإطلاق العنان للسان والعياذ بالله ، نتيجة ثانية لإطلاق العنان للسان فضحه وبيان عواره وهتك أستاره ذلك الذي أطلق لسانه وأصبح يتكلم بلا ورع في المجالس والمنتديات وربما أصبح بذيء اللسان والجزاء من جنس العمل فعن [أبي برزة] رضى الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تتبعوا عورات المسلمين ولا عثراتهم فإنه من يتبع عثرات المسلمين يتبع الله عثرته ومن يتبع الله عثرته يفضحه وإن كان في بيته" والحديث أخرجه أبو داود وأحمد والبيهقي والحديث صحيح بمجموع طرقه والواقع يشهد بذلك فكم فضح الله حقيقة أولئك الذين آذوا إخوانهم بألسنتهم حتى عرفهم الناس وانكشف أمرهم . أيضاً من النتائج لإطلاق العنان للسان أنه يعد من شرار الناس فيتجنبه الناس ويحذرونه اتقاء فحشه وإن ضحكوا له وجاملوه هذه حقيقة نشاهدها في مجالسنا كثيراً أن من أطلق للسانه العنان يعد من شرار الناس فلذلك تجد أن الناس يتجنبونه ويحرصون على الابتعاد عنه اتقاء فحشه وإن جلس معهم في مجالسهم وإن ضحكوا وإن جاملوه فإنه اتقاءً لفحشه ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : "شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه أو تركه الناس اتقاء شره" ، والحديث أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما .
رابعاً: من النتائج أيضاً وهى أخيرة باختصار شديد البلاء موكل بالقول فيُبْلَى المتكلم بما كان يذكره في أخيه واحذر أيها الأخ الحبيب واحذري أيتها المسلمة احذر أن تظهر الشماتة بأخ أو بأخت لك فيعافيها الله عز وجل ثم يبتليك بما كان فيها فالبلاء موكل بالقول فعن [واصلة بن الأسمر] رضي الله عنه قال ، "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك " والحديث أخرجه الترمذي في سنته وقل : حسن ، وقال[ إبراهيم التيمي] إني أجد نفسي تحدثني بالشيء فلا يمنعني أن أتكلم به إلا مخافة أن أبتلى به والأثر عند [وكيع] في الزهد وقال [ابن مسعود] : البلاء موكل بالقول ولو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً هذه نتائج أربع باختصار من نتائج إطلاق العنان للسان وأخيراً أقول أيها المسلم ويا أيتها المسلمة في نهاية المطاف هذه شذرات حول اللسان حسبي أني اجتهدت فيها فما كان فيها من صواب فمن الله عز وجل وما كان فيها من خطأ فمن نفسي والشيطان والله ورسوله منه بريئان وأسأل الله عز وجل أن يعفو وأن يصفح عن هذا الخطأ وعن هذا التقصير ، أظن الجميع بحاجة ماسة للتذكير فيها فالعاقل يحرص والغافل يتذكر والمبلي يحذر فيا أيها السامع ، يا أيها السامع لهذه الكلمات كن أنت المستفيد الأول من هذه الكلمات ثم اعلم أنك تجالس كثيراً من الناس من أحبابك وخلانك وأصدقائك ولا تخلو المجالس من غثاء قل أو كثر فمن حقهم عليك أن يسمعوا مثل هذا الكلام ومن حقهم عليك أن يذكروا بمثل هذه الآيات وهذه الأحاديث فإن القلب يغفل وأن النفس تسلو فما أكثر الاستراحات الآن وما أكثر الجلسات وما أكثر المنتديات فاسمع وأسمع فلمثل هذا كان الموضوع فاسمع و أسمع واستفد وأفد والدال على الخير كفاعله أسأل الله عز وجل أن يجعله خالصاً لوجهه وأن ينفع به الجميع ووفقنا الله وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه اللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعيننا من الخيانة وألسنتنا من الكذب والمراء والجدال اللهم طهر ألسنتنا من الغيبة والنميمة وجنبنا الوقوع في الأعراض اللهم جنبنا الوقوع في الأعراض اللهم اجعل ألسنتنا حرباً على أعدائك سلما لأوليائك اللهم إنا نسألك سكينة في النفس وانشراحاً في الصدر اللهم اجعلنا من الصالحين المصلحين اللهم انفعنا وانفع بنا اللهم اجعلنا من الصالحين المصلحين ومن جندك المخلصين وانصر بنا الدين واجعل لنا لسان صدق في الآخرين سبحانك اللهم وبحمدك ونشهد ألا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .(/10)
غدر اليهود إلى أين يفضي بحماس؟
2/3/1425
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد بالأمس اغتالت القوات الإسرائيلية الشيخ أحمد يس، وهاهي ذي اليوم تغتال الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي، ويتساءل كثيرون أترى مثل هذه الاغتيالات تؤثر سلبياً على مستقبل المقاومة، ونحو أي طريق تقودها؟
ولجواب ذلك لابد أن نتصور أموراً منها:
أن الشيخين قد غُيّبا في السجن سنين عدداً، فما أثر ذلك على الانتفاضة ولا على حماس، بل استمرت عملياتها في تطور مطرد، من حيث نوعية العمليات، ومن جهة أدواتها وآلاتها أيضاً، فصواريخ القسام مثلاً ما عُرفت قبل سجن الشيخ، ولازال مداها يتسع حيناً بعد حين.
بالإضافة إلى أن دعوة الإسلام ليست قائمة على أشخاص بأعيانهم، بل هي دعوة أمة يحملها خلف عن سلف، فإن تولى أقوام قيض الله لها آخرين، وإن خذلتها فئام قام لنصرتها الباقين، إذا سقط الشهيد مضرجاً بدمائه.. مد اللواء إلى الشهيد الآخر، ومن جملة حملة الإسلام الذائدين عن حياضه حملة راية الجهاد في فلسطين، ولقد عرفت أرض فلسطين مجاهدين عدداً، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ولم يزد ذلك الجهاد إلاّ قوة وصلابة.
كما أن عمليات الاغتيالات، ستوطد في النفوس بغض الصهاينة واليهود أكثر، وستصرف تردد بعض القاعدين عن اللحاق بركب المجاهدين والفدائيين، ولعل العالم رأى كيف أن المدن الفلسطينية تخرج عن بكرة أبيها تشيع الجنازة، وتردد الهتافات الغاضبة التي تنم عن حنق ملأ الصدور يوشك أن يجد سبيلاً فيتنفس.
ثم إن كتائب القسام التي تمثل الجناح العسكري لحركة حماس، جهاز منفصل عن الجهاز السياسي، تربط بين الشقين وحدة الأهداف واتفاق الرؤى، غير أن لكل جهاز أسلوب عمله وخصوصيته.
وأخيراً فإن العمل المؤسسي لاينبغي أن ينهدم بغياب بعض أفراده، فالمؤسسة جهاز متكامل، يسد بعض الناس فيها وظائف محددة وأعباء معروفة، فإذا فقدوا لمرض أو سجن أو موت طبعي، كان من الطبعي أن يختار العمل المؤسسي شخصاً آخر يسد تلك الوظائف والمهام التي كان يسدها سلفه، فلئن سقط في مواجهة العدو شهداء ثابتون على المبادئ والدين، فسوف يخلفهم آخرون يطورون في أساليب مَن قبلهم، ويستفيدون مِن تجارب من سبقهم، ويلحق بهم كل يوم ممن توقظه الأحداث فئام، وإني لأرجو أن تكون هذه الأفعال نواقيس توقظ بها الأمة؛ لتهب من رقادها، وتسترد بمجموعها عزتها التي سلبت.
وفي الحدث جوانب أخرى كلها تشعر بنتائج إيجابية –رغم عظم المصاب- سوف يتمخض عنها اغتيال الشيخين، وهذا ما أرجوه لمستقبل المقاومة - إن شاء الله-.
وهناك مسألة أخرى يتساءل عنها البعض فيقولون: ما المبرر لأن تتعدى إسرائيل الخطوط الحمراء فتقدم على مثل هذه الأحداث؟ مع أن المبرر واضح، الله يقول: "إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ"، "لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ"، "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ"، ماذا نتوقع من قتلة الرسل والأنبياء؟ الذي يقرأ تاريخ اليهود منذ أرسل الله -جل وعلا- إليهم موسى -عليه السلام- يدرك أنه لا يوجد في تاريخهم شيء اسمه خط أحمر، هم يقولون لله جل وعلا - تعالى الله عما يقولون- : "وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ"، ويقولون: "إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ"، وآذوا موسى -عليه السلام- أذىً عجيباً وهو من بني جلدتهم، وقد أرسله الله -جل وعلا- لإنقاذهم حساً ومعنى، إنقاذهم من الضلالة، وإنقاذهم من فرعون الذي كان يسومهم سوء العذاب، ومع ذلك انظر ماذا فعلوا مع موسى، مرة يقولون: "اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ" بعد انتقامهم من فرعون مباشرة انظر كيف يشكرون النعمة، وكذلك في آخر المسار يقولون لموسى -عليه السلام- وهو يدعوهم إلى الجهاد والدخول إلى الأرض المقدسة: "فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ" فلا يوجد في تاريخ اليهود إلا الخيانات والغدر، هذه هي العقلية اليهودية، وبهذه العقلية يجب أن يتعامل مع اليهود، فإن طبيعتهم نقض العهود "أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ" هكذا سيرتهم متكررة أبداً، كلما وقع عهد وقع النقض، وكلما أطفأت نار حرب أشعلوها، ولكنهم ينتظرون الفرصة التي يرونها مناسبة، فمتى ما تهيأت لهم ظروف دولية أو إقليمية بادروا إلى ما تأمرهم به سجيتهم.
خاصة وأنهم يعلمون بأن المقاومة في تصاعد مستمر شاؤوا أم أبوا، وعملية بهذا النوع قد يتعلقون بها لإعادة التفاؤل إلى جندهم وقومهم في مواجهة المقاومة المتصاعدة التي ما زالت تصيبهم بخيبة أمل يوماً بعد يوم.(/1)
وقد يكون لها اعتبارات سياسية ضيقة داخل بعض أحزابهم، ولكنها - بإذن الله - ستعود عليهم بما لم يكونوا يحتسبون.
وختاماً نصيحة أوجهها للمجاهدين في أرض فلسطين بأن يتقوا الله -جل وعلا- وأن يعلموا أن إعادة فلسطين لا تكون إلا بالجهاد الحقيقي كما هو واقع منهم -جزاهم الله خيراً-ولكني أدعوهم إلى أن يأخذوا من الأحداث قوة دافعة لا قوة قاهرة، وأيضاً ليوقنوا أن الطريق طويل، ولكن في النهاية النتيجة واضحة وظاهرة وهي الانتصار الباهر -بإذن الله- فأدعوهم إلى رص الصفوف، وتوحيد الكلمة، والصدق مع الله، وأن يكون الغرض من الجهاد هو إعلاء كلمة الله ودفع الظالمين، وليس أي مطلب آخر من نحو ما يعلنه القوميون أو يعلنه ما يسمون بالوطنين من أهداف أرضية.
فأحياناً قد تختلط على بعض المجاهدين هذه المعاني، فاللهَ اللهَ في إخلاص النية لله، مَن قاتَل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، هذه هي الحقيقة لا بد أن يكون القتال لإعلاء كلمة الله -جل وعلا- لابد أن تكون الراية خالصة لله -جل وعلا- فبهذا سيُنال النصر العاجل والآجل -بإذن الله- وكل ما يبعد عن ذلك فهو من معوقات الجهاد التي يجب أن يكون المجاهدون عامة بعيدين عنها، ويجب أن يكون الإخوة في فلسطين خاصة أشد بعداً عنها، فالأمة في مشارق الأرض ومغاربها ترى في حماس والجهاد ونحوهما من حملة راية الجهاد الإسلامي القدوة والأسوة، فالله الله في حمل الأمانة والقيام بها.
أسأل الله أن يوفق المجاهدين، وأن يسدد رميهم وسهامهم ورأيهم، وأن يثبت أقدامهم، وأن يوحد كلمتهم، وأن يجمع صفوفهم، وأن ييسر لهم قيادات تخلف هؤلاء القادة، وفلسطين -والحمد لله- تذخر بعدد من الرجال الأبطال الذين تخرجوا من مدرسة هذه الدعوة المباركة، ووهبوا أنفسهم لله -جل وعلا- فأسأل الله لهم الثبات والتوفيق والسداد والعون، وأن يجعلهم خير خلف لخير سلف.
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/2)
غرابة محاولة الرسول صلى الله عليه وسلم التردي
د. الشريف حاتم بن عارف العوني 18/2/1425
08/04/2004
ورد إلى نافذة الفتاوى سؤال يتعلق بخبرِ همّ النبي عليه الصلاة والسلام بإلقاء نفسه من ذروة جبل وهو في صحيح البخاري فأجاب عنه فضيلة الشيخ/ د. الشريف حاتم بن عارف العوني - حفظه الله - وذكر أن القصة لا تصح أصلاً وقد أظهر البخاري ضعفها.
ثم وردنا تعقيب من أحد قرائنا الأعزاء على هذه الفتوى مفاده " لعل الانتحار لم يكن حرم في ذلك الوقت؟ " فعرضنا هذا التعقيب على الشيخ المجيب؛ فتفضَّل بالإجابة. جزاه الله عنا خيراً، فإليكم التعقيب والتوضيح
التعقيب:
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لماذا لم يذكر الدكتور حاتم أن المبرر في همِّ الرسول بإلقاء نفسه من الجبل هو أن الانتحار لم يكن محرمًّا في ذلك الوقت؟ فمن المؤكد أن الواقعة المذكورة كانت في بداية الوحي والرسالة في مكة المكرمة، أما الحديث الشريف: "من قتل نفسه بحديدة...." إلى آخر الحديث، فقد كان في المدينة المنورة بعد الهجرة، وكما هي القاعدة فإن الأحكام اللاحقة تنسخ الأحكام السابقة. أرجو إفادتي وتصحيح المعلومة إن كانت خطأ والنشر إن كانت صواباً، وجزاكم الله خيراً.
*****
التوضيح:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
فإن غرابة (أو نكارة) خبر محاولة النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يتردى من جبال مكة ليست من قِبل أنه فقط قتل للنفس وانتحار، بل من عدة جهات:
أولاً: هل يُتصوّر أن النبي –صلى الله عليه وسلم- شكَّ في كونه نبيًّا بعد نزول الوحي عليه؟! فإن شك هو فمن بُعث إليهم أولى بالشك!!!
ثانياً: أن النبي –صلى الله عليه وسلم- من حين علم أن ما جاءه من الوحي يقتضي أن يتحمل أعباء الرسالة، فقد ألزمه ربه – عز وجل- أن يستعد لذلك للبلاغ والدعوة العظمى. فكيف يجوز له أن يتخلى عن أداء ما كلفه وشرفه به ربه – عز وجل-؟! وما أجل وأعظم ذلك التكليف والتشريف!!!، ولا شك أن تَرْك مهمة التبليغ بهذه الصورة من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أمر مستنكر جداً، وقد عوقب نبي من الأنبياء لأمر أقل من هذا، كما قال تعالى: "وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" [الأنبياء: 87]، وقال تعالى: "ولا تكن كصاحب الحوت..." [القلم: 48].
ثالثاً: أن قتل النفس مما ارتكز في الفطر استقباحه، واتفقت عليه جميع الأديان والمذاهب والقوانين، فليس استقباح ذلك منوطاً فقط بورود الشرع به. وإلا فهل استجاز أحدٌ من المسلمين قَتْل نفسه قبل ورود الشرع به، مع ما كان ينالهم من الأذى والتعذيب، بل كانوا يؤمرون بالصبر وعدم الاستعجال. هذا والله أعلم، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.(/1)
غراس السنابل
الشيخ / عبد الملك بن محمد القاسم
غراس السنابل1-5
الحمد لله القائل: (( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ )) (آل عمران:133 ).
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده.
أما بعد:
فإن الدعوة إلى الله من أهم المهمات وأوجب الواجبات، بها يستقيم أمر الفرد ويصلح حال المجتمع، ولقد كان للمرأة المسلمة دور مبكر في الدعوة إلى الله ونشر هذا الدين، فهي أم الرجال وصانعة الأبطال، ومربية الأجيال، لها من كنانة الخير سهام، وفي سبيل الدعوة موطن ومقام، بجهدها يشرق أمل الأمة ويلوح فجره القريب.
وقد جمعت لها مائة وثلاث وثمانين سنبلة، تقطف الأخت المسلمة زهرتها وتأخذ من رحيقها، فهي سنابل مخضرة، وأرض يانعة، غرستها أخت لها في الله حتى آتت أكلها واستقام عودها.
إنها نماذج دعوية لعمل الحفيدات الصالحات، ممن يركضن للآخرة ركضا، ويسعين لها سعيا، فأردت بجمعها أن تكون دافعاً إلى العمل، ومحركة للهمم، واختصرتها في نقاط سريعة لتنوعها وكثرتها، واكتفيت بالإشارة والتذكير.
وما كان لمثلي أن يستقصي الوسائل الدعوية للمرأة المسلمة، ولكنها مساهمة يسيرة ومشاركة متواضعة.
وفي الطريق لأخذ السنابل عقبات كثيرة، وصوارف عديدة.
وهي وإن كانت تعوق المسير لكنها لا تمنع السير، بها يتضاعف الأجر وتزيد المثوبة.
فألقي- أيتها الأخت المسلمة- رداء الكسل، واستعيني بالله واستقبلي أيامك بالعزيمة والصبر، فإن أمامك غراس الآخرة، فأري الله منك خيراً.
رزقني الله وإياك أصوب العمل وأخلصه، وجعل لنا من الأجر أتمه وأكمله، وبوأك ظلال الجنة، وحرم وجهك على النار، وجعل مثواك جنات عدن تجري من تحتها الأنهار.
سنبلة العام
* من التفت يمنةً ونظر يسرةً يطاله العجب من حال العالم الإسلامي. جراح في كل مكان، وآلام وآهات في كل جسد مسلم.
كثيرة هي آمالنا، أن نعين المنكوب، ونعلم الجاهل، ونرعى الأرملة، ونكفل اليتيم، ولكنها تبقى أماني حتى تخرج إلى أرض الواقع قولاً وفعلاً.
نتساءل في أوقات كثيرة والحزن يملأ القلوب، ماذا نفعل؟! وماذا نقدم؟!
إليك يا من طال تساؤلك، وكثرت أمانيك، باب مفتوح للخير، مشروعنا الأول- كما أسمو- خطوة في درب الجهاد الطويل.
إنه مشروع دعوي يتكرر نهاية كل عام دراسي مرة واحدة، يتمثل في جمع أوراق الدفاتر المدرسية الزائدة عن الحاجة والتي لم تستعمل. وتجميعها وإعادة تغليفها بالورق المقوى، ليصبح لدينا بعد تجميع الأوراق دفتر جديد صالح للاستعمال.
في هذا المشروع البسيط ومن مدرسة واحدة في منطقة الدمام تم جمع أكثر من 4500 دفتر
نعم في عام واحد ومن مدرسة واحدة أربعة آلاف وخمسمائة دفتر.
التكاليف محدودة جدا، دباسة وأوراق لاصقة توضع فوق غلاف الدفتر الجديد، فيها معلومات عن الاسم والمدرسة، والصف إضافة إلى الغلاف المقوى الخارجي.
وقد قامت إحدى الهيئات الخيرية بإرسال هذه الدفاتر إلى أنحاء المسلمين المحتاجين إليها.
إنه مشروع دفاتر طالب العلم، للحفاظ على أموال المسلمين من أن تلقى في المخلفات وهي صالحة للاستعمال، وبالإمكان جمع بقايا الأدوات المكتبية الأخرى، كالأقلام والمساطر وغيرها، دعوة ممن بدأن العمل وسن سنة حسنة.
مدي يدك واجعلها في أيدينا كل عام، وفي أيام معدودة تساهمين مساهمة كبيرة في نشر العلم بين صفوف المسلمين، إنها أيام غالية.
لا تضيعيها في الأماني والأمنيات أيتها الحبيبة.
سنبلة مشرقة
* منذ أحد عشر عاماً كانت تلك الليلة ليلة مشرقة في حياتي، لا زلت أذكرها جيداً حيث تحدثنا عن الإسراف والتبذير في مجتمعنا وهو مجال ملاحظ ومشاهد، ولا نلقي لها بالاً.
كنا ثلاث نساء فقط في تلك الأمسية الجميلة، ولامسنا الجرح المؤلم والنزف الدائم لأموالنا، عندها تشاورنا أن يكون لنا دور في خدمة هذا الدين العظيم، هنا صممت إحدانا وبقيت أنا وأخت واحدة، انتهى الحديث، ومن ثم المجلس وقررنا العمل على قدر استطاعتنا..
بدأنا بجمع مبالغ شهرية تصل إلى مائة ريال فقط، لم ينقص من أموالنا شيء ولا رأينا في ثيابنا قلة، استمر عملنا أشهراً متتابعة ونحن ندخر مائتي ريال شهرياً وندفعها لصالح الأعمال الإسلامية الخيرية، ثم يسر الله وتوسعت الدائرة وكثر الخير، وبدأ الكثيرات يشاركننا في دفع هذا المبلغ الرمزي، مائة ريال كل شهر، حتى وصل ما نجمعه إلى مبالغ كبيرة معظمها من المعارف والأقارب والجيران.
بدأنا بإرسال رسائل إلى الخارج تحمل كتباً في العقيدة بمعدل إرسال أسبوعي يقارب مائتي رسالة وأكثر من خمسين طرداً كبيراً، يحوي أمهات الكتب إلى أنحاء العالم، واستمر عملنا طوال سنوات ماضية. نرسل من خلالها العقيدة الصحيحة والعلم النافع إلى جميع أنحاء العالم.(/1)
ورغم أن هذا هو عملنا لفترة طويلة ومستمرة، إلا أنه تبقى لدينا خلال تلك الفترة فائض مالي عن حاجة الإرسال، فكان أن أنفقناه في مشاريع أخرى عن طريق جهات خيرية معروفة، إنه مشروع بدأ بمائتي ريال. ولكن ألقي- أختي المسلمة- نظرة إلى بعض الحصاد، حفر تسعة عشر بئراً عادياً، وحفر ثلاثة آبار ارتوازية تكلفتها ستون ألف ريال، وبناء خمسة مساجد، وإرسال ألوف من الكتب، إضافة إلى مبالغ مقطوعة تدفع لمساعدة إخواننا المحتاجين في الصومال والبوسنة وغيرهما.
إنه مشروع صغير مائة ريال، حتى بارك الله فيها وجعلها تنمو وتنمو وتنمو.
سنبلة مباركة
* ريعان الشباب كفراشة تنبض بالحياة، لم يتجاوز عمرها السبعة عشر عاماً، تحمل هم الدعوة وهم الأمة، تتحرق شوقاً لرفعة راية الإسلام. همها منصرف للدعوة، عيونها تتابع المحاضرات ومتى موعدها؟ ومن ستلقيها؟ أما حفظ القرآن فقد انصرفت بكليتها نحو حفظه.
حركة لا تهدأ، فمن نصيحة رقيقة تهديها إلى إحدى زميلاتها، إلى كلمة حلوة تدعو فيها لحفظ القرآن في مصلى المدرسة، إلى قوة في إنكار المنكر وعدم الصبر على رؤيته، أما المدرسات فلهن نصيب من دعوتها.
الله أكبر!! لا تراها إلا تتقلب في أنواع العبادة.
يوما أهمها أن ترى مديرة المدرسة لا تلبس الجوارب، صعدت إليها وسلمت في أدب رفيع، وشكرت المديرة على جهدها.
وقالت: نحن ندعو لك بظهر الغيب وأنت القدوة والمربية والموجهة، ثم تبعت ذلك لا أراك تلبسين الجوارب وأنت تعلمين أن القدم عورة، وخروجك ودخولك مع البوابة الرسمية عبر أعين الرجال يا أستاذتي الفاضلة.
طأطأت مديرة المدرسة رأسها وهي تعلم صدق نصيحة الفتاة، فكان أن قبلت وشكرت، وقالت في نفسها إن الكلمة الصادقة لها رنين ووقع في النفس.
فرحت الطالبة وهي ترى المديرة تستجيب لله ولرسوله وتعود من قريب، وحمدت الله على قبول النصيحة، ولكن هناك أمراً أهمها فكرت لمن تبثه ولمن تقوله؟.
* فاجأت مدرسة العلوم الشرعية وهي قدوتها ومربيتها بسؤال عجيب. يا أستاذتي الفاضلة!! أين نصيب المستخدمات في المدرسة من الدروس وحفظ القرآن والمواعظ، هيا لنبدأ معهن، قررت مع مدرستها أن تعلمهن قصار السور ويدعين لحضور المحاضرات المدرسية، وبحثن عن داعية في المدرسة صاحبة صبر وجلد وسعة بال وقلن لها: هنا نساء في منزلة أمهاتنا لمن نتركهن؟!
إنها فتاة الإسلام، مباركة أينما كانت، مباركة أينما حلت وارتحلت!!
غراس السنابل 2- 5
إلى تلك الصور المتميزة، والإشراقات المتلألئة على جبين حفيدة عائشة وفاطمة وأسماء.
إلى الوجوه المضيئة التي تفخر بها أمة محمد- صلى الله عليه وسلم-. مائة وثلاث وثمانون سنبلة تتصاغر أمام تلك الأخت العاملة الصامتة وهي تسارع تتقي بيدها الوهن والضعف، وقطرات من العرق تجمل جبينها، ما كلت قدمها، وما تعبت يدها ولا فتر لسانها.
سنبلة الصحبة
* أثر الصحبة عجيب، تأمل قول الله تعالى في سورة الكهف عندما رفع درجة الكلب برفقته للصالحين وذكره معهم: ((سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ )) (الكهف:22).
أما هي فعندما توفيت صديقتها فقد جعلت عمرة ابنها الصغير عن هذه الصديقة، أما الأخرى فإن لسانها يلهج بالدعاء والرحمة لها.
* بدأنا طريق الهداية ونحن في المرحلة الجامعية، ثلاث قريبات جمعتنا القرابة، وزادت المقاعد الدراسية ذلك الحب والود، ثم تأصل كل ذلك محبة في الله، بدأنا في جمع مبلغ بسيط من مرتباتنا في الجامعة، به نشتري بعض الكتيبات والأشرطة، وعلى الرغم من قلة هذا المبلغ إلا أن الله بارك فيه ليشمل ما نوزعه على جميع أقاربنا ومعارفنا، وبدأ ينضم إلينا بعض فتيات العائلة حتى تيسرت أمورنا، ولم تعد المادة عائقاً نحو شراء تلك الكتب والأشرطة.
* صاحبة طاعة وقيام ليل، لا تترك النوافل، وعندما تحدث زميلاتها في المدرسة الثانوية تحث فيهن روح العمل، هيا نصلي، متى نعمل إذا كبرنا وأصبح الوقوف صعباً، والركوع مشقة، والسجود بجهد، نحن في زمن النشاط والقوة، هيا نعمل ونجد في الطاعة قبل أن يدركنا الموت أو تدب إلينا الأمراض والأسقام والأوجاع، وقبل أن تكثر مسؤولياتنا من زوج وأبناء.
* ثلاث زميلات في الجامعة تعاهدن على حفظ القرآن كاملا، وكان بينهن اتصال مستمر مساء كل يوم لتسميع ما حفظن، دقائق معدودة وفي نهاية الأسبوع يكون التسميع لبعض الآيات، من أول السورة ووسطها وآخرها ليسترجعن ويتأكدن من حفظهن، كانت النتيجة من هذا الخير في شهر ونصف حفظن سورة البقرة.
* طريق يومي تسلكه يتراوح بين عشر دقائق وخمس عشرة دقيقة، إنه طريق الذهاب إلى الجامعة والعودة.
قررت أن تجعل هذا الوقت لقراءة كتيب نافع، ومراجعة قراءة ما حفظته من كتاب الله، كثيرات يسلكن مثل هذا الطريق منذ سنوات ولكن دون فائدة.
سنبلة الحفيدة(/2)
* مدارس كثيرة بها خيرة المعلمات علماً ودعوة ونشاطاً، أما هي عندما عينت فإنها أرسلت إلى مدرسة تزخر بالمعلمات لكنهن نائمات، فلا توجد محاضرات ولا دروس، في البداية بدأت في التودد إلى المدرسات، وقالت: هن أهم عندي الآن من الطالبات، لأنهن داعيات خاملات آثرن الكسل والدعة، فقط يحتجن إلى إيقاظ.
بدأت خطوات الإيقاظ بالكتاب والشريط والهدية، حتى تحولت المدرسة إلى شعلة نشاط ومركز دعوة، حمدت إحداهن الله وهي تردد كيف ضاعت مني خمس سنوات يومياً أقف أمام الطالبات ولم أدعهن وأحدثهن، وأركز على تربيتهن!! إنها الغفلة اليوم والحساب غداً.
* شرعت المعلمة في بيان أضرار السفر والفساد والانحلال في بلاد الكفر، وعقبت بدعاء صادق، نسأل الله أن لا ندخلها ولا نذهب إليها.
ولم ينته الدعاء حتى تسلل من بين الصفوف صوتٌ حمل هم الدعوة: نعم يا معلمة، نسأل الله عز وجل ألا ندخلها إلا فاتحين!! لا فض الله فوك وجعلك وأبناءك من الفاتحين.
* تكد وتكدح للآخرة- والله- إنها تركض للآخرة ركضا، وتسعى إليها سعياً، فمن محاضرات إلى ندوات إلى نصائح، كل عمل خير لها فيه نصيب.
وفي نهاية كل شهر- علمت إحدى المدرسات من زميلاتها- أنها ترسل راتبها كاملاً لأعمال الخير، نعم كاملاً، وأقسمت لقد رأته- برباطه- ترسل به إلى كفالة أيتام وطبع كتب وتجهيز غاز.
جعل الله مستقرك جنات عدن أيتها المؤمنة، ورفع درجتك، وأعلى منزلتك، وكثر من أمثالك، ووالله لأنت حفيدة عائشة وفاطمة.
* اجتمعت معلمات المدرسة وقررن الدخول في (جمعية) مع بعض، وكل منهن تتحدث عما ستفعل بالمبلغ عندما تستلمه، أما هي فصامتة تنتظر ذلك اليوم، حتى إذا استلمت المبلغ دفعت به لبناء مسجد لعله يصيبها الأجر والثواب.
سنبلة المرض
* مرضت وأدخلت المستشفى، وكان في ذلك خير كثير لها ولمن حولها، تحولت غرفتها إلى خلية نحل ونشاط متصل، بدأت بتوزيع كتب على الممرضات والطبيبات باللغات الأجنبية واتبعتها الأشرطة.
أما المريضات فحدث ولا حرج عن عدد الكتب التي تم توزيعها حتى فاضت وزادت، ووصلت إلى صالة انتظار النساء في الدور الأرضي. أما تلك المرأة الكبيرة في السن وليس لها نصيب من العلم، فقد اشترت لها جهاز راديو بمبلغ عشرين ريالاً، ووضعت المؤشر على إذاعة القرآن الكريم، ثم تشاورت مع طبيبة داعية وقررن وضع أرفف في ممرات قسم النساء، ووضعن عليه كتباً صغيرة غالبها موجه للنساء.
أما مدير المستشفى فقد وصلته قائمة طويلة بما رأت وما تقترح، ودونت جميع ملاحظاتها في تلك الرسالة.
عجبت الطبيبات من همتها ونشاطها، فهي تتفقد النساء في غرفهن، وتسأل عن حاجتهن وما يردن.
* وعندما رأت الطبيبة امرأة ممن امتشقهن الشيطان، وهي تبرز مفاتنها، وتحمل زهوراً لتقدمها لقريبتها، سألت الطبيبة مريضتها: من أين أتت عادة الزهور، وكيف بدأنا نحرص على إحضارها لمرضانا رغم تكلفتها الباهظة.
قالت المريضة: إنها التبعية والتقلب حتى في الزهور، نحن أمة نتبع التقليد الأعمى، أرأيت في الصناعة لم نصنع قيد بعير، أما في الزهور والموضة والأزياء فحدث عن البحر ولا حرج.
سنبلة في مخيم
* غالب اجتماعات أسرتنا اجتماعات كفقاعات الصابون لا فائدة منها.
بل إن الكثير منها فيها من الذنوب والمعاصي ما الله به عليم.
وعندما أخبرني زوجي أن العائلة قررت إقامة مخيم خارج مدينتنا نمضي فيه أسبوعين كاملين، سمع أنه حرى من كبدي، والتفت إلي متعجباً.
قلت له: لا تعجب، إننا سوف نمضي أسبوعين نبحر فيهما فوق المعاصي والمنكرات، ندافع الذنوب مدافعة!!
شد من أزري وشحذ همتي وقال: هل نتركهم للشيطان يستفزهم بخيله ورجله؟ ليس لك البقاء، والله إنه باب دعوة مفتوح، اطلبي ما شئت.
هون الأمر علي واستحثني بذكر طرفٍ من سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم - حتى بدأت أفكر وأفكر.
لم يستقر لي قرار حتى هاتفة داعية مجربة ما العمل؟
فأوصتني بالإخلاص وصدق النية، والدعاء والتضرع إلى الله عز وجل. ثم قالت: سارعي إلى الهدايا التي تحبب إليك الصغار وتفرحهم، وهذا سينعكس على الكبار، ولا تنسي هدايا النساء الكبيرات من عباءات مريحة "وغطاء " للوجه، ولا تنسي سجادة للصلاة لكل أم.
إبدائي بدعوة الكبيرات في السن وترقيق قلوبهن، ثم عرجي على صاحبات القلوب الصافية والفطرة السليمة في الشابات وسترين
ما يفرحك، لك فرصة أسبوعين كاملين تدعين فيها إلى الله، متى تجدين في خيمة واحدة مثل هذا العدد لمدة أسبوعين؟!.
ونحن نسير متجهين إلى المخيم أصابني فرح عجيب من حديثها، وإنها فرصة لن تتكرر، وقررت الدعاء وبذل الأسباب، وجعلت الأيام الأولى للأطفال من توزيع الهدايا والمسابقات، وقص بعض قصص الصحابة والتابعين عليهم، ثم بدأت في مساء كل ليلة بدرس لحفظ القرآن.(/3)
كل ذلك تم أمام أعين الجميع، فسبحان من يسر وجعل حتى الشابات يقتربن ليسمعن قصص الصحابة والتابعين!! وكانت المفاجأة أسبوع واحد فإذا بي في وسط جو يملأه الفرح والسرور، حتى بعض الشابات بدأن بقيام الليل مع بداية الأسبوع الثاني.
انتهى المخيم وأملي كان دون ما تحقق، فلله الحمد والمنة!! بدأت العلاقات تقوى، وأصبح لنا اجتماع تحفه الرحمة وتتنزل فيه السكينة، شهور فإذا التأثير ينتقل إلى الآباء والإخوان، فأحمد الله عز وجل على توفيقه، ولو بقيتُ في ترددي وتخاذلي وخوفي لما تحقق من ذلك شيء، إنما هو إخلاص وعمل ودعوة.
كم من داعية وسط أسر تائهة، وكم من معلمة وسط جو لم يتغير منذ سنوات، ولكن ماذا أعدت الأخت للإجابة غداً؟! أين الأمانة؟ وأين الدعوة إلى الله؟!(/4)
غرامات التأمينات الاجتماعية
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التأمين
التاريخ ... 1/6/1425هـ
السؤال
هل يجوز دفع غرامات عدم السداد للتأمينات الاجتماعية، أو التأخير في السداد؟ حيث تطلب التأمينات الاجتماعية دفع المستحقات كاملة مع الغرامات، ولكن حساب تلك الغرامات حساب مركب أي كل شهر تأخير، أو عدم السداد يحسب مضاعفاً، ليس لدينا مانع بدفع المستحقات، ولكن الغرامات قد تصل إلى ضعف المبلغ المستحق مرتين. نأمل الجواب سريعاً، وكيفية الرد على المؤسسات الخاصة بالتأمينات الاجتماعية.
الجواب
قبل القول بجواز أو منع دفع الغرامة لعدم السداد أو تأخيره يجب أن ينظر إلى واقع (التأمينات الاجتماعية)، فإذا كانت تأخذ من الإنسان قسطاً شهرياً لمدة معينة وبعد خدمته مدة معينة أو بلوغه سناً معينة؛ تدفع له مصلحة التأمينات الاجتماعية ربعه أو ثلثه قسطاً شهرياً من مجموع ما دفعه لها من أقساط، أو أضافت إلى ذلك المجموع نسبة معينة –كما هو في نظام تقاعد موظفي الدولة- إذا كان واقع التأمينات الاجتماعية مع منسوبيها كما ذكرنا فلا شيء فيه، والمعاملة صحيحة، ويجب على الفرد دفع المستحقات من الأقساط المتخلفة دفعة واحدة أو على دفعات. يقول الرسول –صلى الله عليه وسلم-: "المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالا أو أحل حراماً" رواه الترمذي(1352)، وغيره من حديث عمرو بن عوف –رضي الله عنه-، ولعموم قول الله –سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"[المائدة: 1]، أما أخذ غرامات مركبة عن كل شهر تأخر سداده ، فهو حرام لا يجوز، فهو من الربا المحرم، وأكل لأموال الناس بالباطل، ولو شرطته مصلحة التأمينات فهو شرط باطل لا اعتبار له؛ لأنه (أحل حراماً) فلا يجوز التعامل به، وفي الحديث: "ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط.." رواه البخاري(2735)، ومسلم(1504) من حديث عائشة-رضي الله عنها-, وينبغي أن يتنبه إلى أن اشتراط تلك الغرامة المركبة عند عدم السداد أو تأخيره –ليس من قبيل ما يعرف بالشرط الجزائي؛ لأن الشرط الجزائي المعتبر يكون في مصلحة العقد ولا يناقضه، أما الشرط المسئول عنه فهو مناقض ومناف لمقتضى العقد؛ لأن المصلحة شرطت على ألا تلحقها خسارة، وعليه فهذا الشرط فاسد، مثل له العلماء بقولهم: "كما لو اشترط أحد الطرفين أن الخسارة عليه، أو لا يبيع أو يهب أو يتصدق.."، وإضافة لما سبق فإن اشتراط الغرامة النقدية عند التأخير، أو عدم السداد للأقساط النقدية أو بعضها –يجعل العقد عقداً ربوياً فيه الربا والنسيئة".
والخلاصة: إن دفع الأقساط المتأخرة أمر واجب متعين، أما دفع الغرامة مركبة أو بسيطة عند التأخير فحرام، ولا يجوز دفعها بحال، ويتعين عليك طلب إحالة الموضوع بينك وبين التأمينات إلى المحكمة الشرعية لتحكم بينكم بحكم الله.
وفق الله الجميع إلى كل خير، آمين.(/1)
غربة
شعر: عصام العطّار
تطاولَ لَيلي والسُّهادُ مُرافقي وما أطولَ الليلَ البهيمَ لآرقِ
غريبٌ يُقلّبُهُ الحنينُ على الغَضَى ويُرمضهُ شوقاً إلى كلِّ شائقِ
تناءتْ به دارٌ وأوحشَ منزلٌ وظلّله همٌّ مديدُ السُّرادقِ
وألقتهُ أحداثٌ على غاربِ النَّوى فيا ليتَ شِعري هلْ معادٌ لتائقِ؟!
تمرُّ به الأيامُ جُرحاً و أسهُماً وصبراً تحدَّى كِبرهُ كلَّ راشقِ
وشُعلةَ إيمانٍ يزيدُ اتّقادها على عَصَفاتِ الدَّهرِ عندَ المآزقِ
* * *
أحبّايَ يا مَهوى الفؤادِ تحيّةً تجوزُ إليكم كلَّ سدٍ وعائقِ
لقد هدّني شوقٌ إليكم مبرّحٌ وقرَّحَ جفني دافقٌ بعدَ دافقِ
وأرَّقني في المظلماتِ عليكمُ تكالبُ أعداءٍ سَعَوا بالبوائقِ
فمنهم عدوٌ كاشرٌ عن عدائهِ ومنهم عدوٌ في ثيابِ الأصادقِ
ومنهم قريبٌ أعظمُ الخطبِ قربهُ لهُ فيكمُ فعلُ العدوّ المُفارقِ
أردتمْ رضا الرحمنِ قلباً و قالباً ولم يَطلبوا إلا حقيرَ الدّوانقِ
فسدّدَ في دربِ الجهادِ خُطاكمُ وجنّبكمْ فيه خَفيَّ المزالقِ
* * *
بروحي شبابٌ منكمُ غيّبَ الثَّرى تهاوَوْا كِراماً صادقاً إثرَ صادقِ
بروحي الدَّمُ المُهراقُ في ساحةِ التُّقى يُلوّنُ دربَ الحق لونَ الشّقائقِ
بروحيَ ذاكَ الطُّهرُ والعلمُ والنُّهى بروحيَ ذاكَ العزمُ في كلِّ سابقِ
بروحيَ أسدٌ كبَّلَ البغيُ خَطوها وأوسعَها عَسفاً بكلِّ المرافقِ
فلمْ يرَ فيها غيرَ أصيدَ صابرٍ ولم يرَ فيها غيرَ أرعنَ شاهقِ
وغيرَ أبيٍّ باعَ في الله نفسَهُ وأرخصَها في المأزِقِ المتضايقِ
وقفتُ شَجيّاً لا أرى ليَ مَخلصاً إليكمْ وقد سُدَّتْ عليَّ طرائقي
تمنيتُ أنّي أفتديكمْ بمُهجتي وأحملُ ما حُمّلتم فوقَ عاتقي
على "منقذٍ" منّي السلامُ وصحبهِ و علَّ فِراقاً لا يطولُ لوامِقِ
شبابٌ كما الإسلامُ يرضى خلائقاً وديناً ووعياً في اسودادِ المفارقِ
قلوبهمُ طُهرٌ يفيضُ على الوَرَى وأيديهمُ تأسو جراحَ الخوافقِ
همُ السلسلُ الصافي على كلِّ مؤمنٍ وفي حومةِ الهيجاءِ نارُ الصواعقِ
أطلّوا على الدنيا كواكبَ تهتدي بنورهمُ عندَ اشتباهِ المفارقِ
وسادُوا عليها مخلَصينَ لربّهمْ فلمْ يحملوا أغلالَها في العواتقِ
سبيلُهمُ ما أوضحَ اللهُ نهجَهُ إذا حادَ عنهُ كلُّ وانٍ وفاسقِ
فلمْ يَرهبوا في اللهِ لومةَ لائمٍ ولمْ يَحذروا في اللهِ غضبةَ مارقِ
ولمْ يُطْبِهمْ يوماً ثوابُ مُساومٍ ولمْ يُصْبهمْ يوماً ثناءُ مُنافقِ
هُمُ الذّهبُ الإبريزُ سِراً ومَظهراً جباهُهُمُ بيضٌ بياضَ الحقائقِ
هُمُ الحُلمُ الرّيَّانُ في وَقدةِ الظَّما وليسَ على الآفاقِ طَيفٌ لبارقِ
هُمُ الأملُ المرجوُّ إنْ خابَ مأملٌ وأوهَنَ بُعْدُ الشَّوطِ صبرَ السّوابقِ
كأني أراهمْ والدُّنا ليستِ الدُّنا صَلاحاً و نورُ اللهِ ملءُ المشارقِ
أقاموا عَمودَ الدّينِ من بعدِ صَدعهِ وأعلَوا لواءَ الحقِّ فوقَ الخلائقِ
* * *
على البُعدِ يا أحبابُ أهفو إليكمُ خَيالُكمُ أنَّى سَريتُ مُعانِقي
أقاموا سُدودَ الظلمِ بيني وبينكمْ وما نقموا إلا يقيني بخالقي
فبتُّ على "لبنانَ" قلباً مُعذَّباً أُكابدُ في الأضلاعِ جمرَ الحرائقِ
فلا راحةٌ حتى ولو لانَ مضجعٌ ولا رَوحَ حتى في ظلالِ البَواسقِ
أُلامحُ من خلفِ الحُدودِ مَنازلاً تلوحُ كما لاحَ الشِّراعُ لغارقِ
تمنيتُ حتى ضجعةَ السجنِ بينكمْ على الصَّخرِ في جوٍّ من الجَوْرِ خانقِ
صَلابةُ أرضِ السجنِ إنْ كانَ قُربَكمْ أحبُّ وأشهى من طَريِّ النَّمارقِ
ولم ترَ وجهي عندَ نعشكَ (مُصطفى) وذلكَ جرحٌ لا يغورُ بخافقي
مكانكَ في قلبي الوَفيّ مُوطَّدٌ فأنتَ على طولِ الزَّمانِ مُرافقي
أحبّايَ صَبراً للفِراقِ وما رمتْ به غاليَ الأكبادِ أيدي الطَّوارقِ
أحبَّايَ إنْ النَّصرَ لابدّ َ قادمٌ وإني بنصرِ اللهِ أولُ واثقِ
سنصدعُ هذا الليلَ يوماً ونلتقي مع الفجر يمحو كلَّ داجٍ وغاسقِ
ونَمضي على الأيامِ عَزماً مُسدَّداً ونبلغُ ما نرجوهُ رغمَ العوائقِ
فيعلو بنا حقٌّ – عَلونا بفضلهِ - على باطلٍ – رغمَ الظواهرِ – زاهقِ
ونصنعُ بالإسلامِ دُنيا كريمةً وننشرُ نورَ اللهِ في كلِّ شارقِ(/1)
غريبٌ أنا أم زماني غريبُ؟!
غريبٌ أنا ! أم زماني غريبُ؟! ...
... وحيّرَ فكري السؤالُ العجيبُ
غريبٌ ! وكيفَ وكلُّ شعاعٍ ...
... سرى في السماء لعيني قريبُ؟
غريبٌ! وكيف وكلّ جمالٍ ...
... بهذا الوجودِ لقلبي حبيبُ؟
وكيف أكون غريباً وحولي
...
... حبورٌ ونورٌ ولحنٌ وطيبُ؟
وعندي رجاءٌ ..وفوقي سماءٌ ...
... تظلُّ، وشعرٌ ،وفكرٌ خصيب؟
وكيف أكون غريباً وشمسي ...
... أقامت بطول المدى لا تغيبُ؟
وكلُّ البرايا معي ساجداتٌ ...
... لِربّي نُلبّي ...له نستجيبُ
فذرّاتُ هذا الوجودِ تلبّي ...
... وأسمعُها لو تَشِفُّ الغيوبُ
تسبّحُ سرّاً بغير ذنوبٍ! ...
... أسبِّح جهراً وكُلّي ذنوبُ
غريبٌ أنا! أم زماني غريبُ؟! ...
... يحيّرني ذا السؤالُ العجيبُ
غريبٌ! وكيف وهذي سبيلي ...
... وغيري هوى،ضيَّعَتْهُ الدروبُ؟
وكيف ودربي ابتداهُ الرسولُ ...
... يقود القلوبَ،فتحيا القلوبُ؟
أنا إنْ سجدتُ أناجي إلهي ...
... فؤادي يطيبُ ، وروحي تذوبُ
أعيش بظلِّ النجاوى سعيداً ...
... فأدعو ،وأدعو ،وربّي يُجيبُ
وربي قريبٌ، قريبٌ، قريبُ ...
فكيف يُقال: بأني غريبُ؟(/1)
غريزة الشهوة والمراهقة
مفكرة الإسلام : إن المراهق والمراهقة يعيشان تحولا عضوياً وجسديًا لا يعي الكبار عنه إلا القليل ، ومن ثم فإنهم لا يحسنون التعامل مع المراهق والمراهقة ، ولا يجيدون بناء العلاقة معهم مما يؤدي إلى الكثير من الأخطاء التربوية والتوجيهية العلاجية.
فجسد المراهق يواجه عملية تحول كاملة في وزن وحجمه وشكله، وأبرز قضية تواجه المراهق هي قضية الشهوة والتي تعد من أخطر المنعطفات في حياة المراهق.
ولقد كثر النقاش والجدال حول موضوع ما يسمى بالثقافة الجنسية ، وانقسم الناس في التعامل مع هذه الثقافة إلى مؤيد ومعارض، وخطورة الكلام في هذا الموضوع أنه قد يكون مادة للإثارة وتحريك كوامن النفوس، ونحن في غنى عن ذلك وخصوصًا الشباب.
إن تربية الفتيان والفتيات على آداب الإسلام منذ الصغر ضرورة ملحة ليقفوا عند حدود الحلال والحرام ، فلا تهاون ولا تجاوز لهذه الحدود , وقد وضع الإسلام ضوابط تحد من انحرافات الشهوة وجعل هناك تدابير توصد باب الغواية، وسن آداب الحجاب وغض البصر وآداب الاستئذان ومنع الاختلاط ... ولو اتبعت هذه الآداب لحلت كثير من مشكلات المراهقين المتعلقة بالشهوة , وفي طريقنا لإيجاد حلول لهذه المشكلات وطرق التربية الجنسية الصحيحة نتوقف عند بعض النقاط الهامة:
1ـ الأسس والضوابط الشرعية للتربية الجنسية.
2ـ تربية الشباب والفتيات على التسامي والعفة.
3ـ حث الشباب من الجنسين على الزواج المبكر.
[1] الأسس والضوابط الشرعية للتربية الجنسية:
لقد وضع الإسلام أسسًا وضوابط لصيانة الفرد والمجتمع على حد سواء ، وسن الأحكام التي تبعد المرء عن الانحراف، فحرم الاختلاط، وفرض الحجاب، ودعا إلى غض البصر, ومن هذه الضوابط:
أ ـ البعد عن وسائل الإثارة.
ب ـ لبس الحجاب بالنسبة للفتيات.
ج ـ منع الاختلاط بين الجنسين.
أـ البعد عن وسائل الإثارة:
على الوالدين والقائمين على تربية المراهقين تجنيبهم كل ما يؤدي إلى الإثارة ، ومن ذلك قراءة القصص الخليعة ، والأفلام الخارجة عن حدود الأدب ، والمجلات التي تنشر الصور المثيرة في النوادي والشواطئ تحت اسم التمدن والتحضر.
ب ـ لبس الحجاب بالنسبة للفتيات:
وفي ذلك منع للإثارة فلا يظهر من الفتاة شيء من حسن أو جمال , ولملابس الفتاة المسلمة صفات يعرفها الكثيرون وهي:
أن لا يصف الجسم ولا يشف، وألا يشبه لباس الكافرات لأن للمسلمة شخصيتها المتميزة فلا تجري وراء الموضة أو تقلد كل ناعق , ولا يشبه لباس الفتاة المسلمة لباس الرجال كما جاء في الحديث الشريف: [[لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال]].
ومن المثيرات المحرمة أيضًا أن تتعطر الفتاة وتخرج من منزلها ، فعطر المرأة لا يكون إلا لزوجها وبيتها ، وما كان الطيب للشارع أو للنادي شأن ما تفعله الكثيرات من فتيات اليوم.
ح ـ منع الاختلاط بين الرجل والمرأة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [[ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء]]. [متفق عليه: مشكاة المصابيح، ح2 /928] , وهو بالتالي يؤكد على خطورة الاختلاط وأنه باب لما بعده.
ولقد حرم الإسلام الدخول على النساء غير المحارم لسد الذرائع الفتنة ونزغات الشيطان ، فعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[لا يخلون أحدكم بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما]]. [رواه أحمد: 1/ج 18].
وقد نهى الإسلام أيضًا عن مصافحة المرأة الأجنبية لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [[لأن يطعن في رأس رجل بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له]]. [الترغيب والترهيب للمنذري رقم 3799]
وهل نجني من الشوك العنب ؟
ماذا يجني المجتمع من الاختلاط؟
لا يخفى على أحد الآثار المدمرة للاختلاط، وهل نجني من الاختلاط إلا الفضائح، وهتك الأعراض، وتدمير الأخلاق , إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة.
هذا والنظرة الخائنة، والحركة المثيرة، والزينة المتبرجة، والجسم العاري، كلها لا تصنع شيئًا إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون، وأن يفلت زمام الأعصاب والإرادة. [دستور الأسرة في ظلال القرآن ، ص266].
[2] تربية الفتيان والفتيات على التسامي والعفة:
قال الله تعالى: { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33] , وتربية الفتيات والفتيان على معاني العفة يستلزم التقيد بآداب الإسلام وبالوسائل المؤدية إلي تهذيب النفس واتخاذ التدابير التي لا توصل إلى إثارة هؤلاء المراهقين والمراهقات.
ومن هذه التدابير:
غض البصر.
التقيد بآداب الإسلام.
الابتعاد عن مخاطر التلفاز.
التورع عن الوقوع فيما حرم الله.
أ ـ غض البصر:(/1)
[[ هو أدب نفسي رفيع ، ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطلاع على المحاسن والمفاتن ، كما أن فيه إغلاقًا للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية، ومحاولة عملية للحيلولة دون وصول السهم المسموم ]]. [في ظلال القرآن: 2:25].
هذا السهم الذي حذر منه الشرع فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [[ النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركه مخافتي أبدلته إيمانًا يجد حلاوته في قلبه ]].[أخرجه الطبراني بسنده عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه]
فعلى الفتى والفتاة أن يغضا البصر عن المناظر المثيرة كالصور والكتابات والمحادثات الجنسية ، وأحلام اليقظة , يقول الشاعر:
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
ب ـ آداب الاستئذان:
وهو أدب إسلامي أصيل سنه الإسلام لحفظ حرمة البيوت وتهذيبًا للنفوس ، حتى لا تقع عين الداخل إليها على عوراتها أو عورات من فيها.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27].
وهناك وجه آخر للاستئذان وهو خاص بمن هم داخل البيت من الأولاد والبنات في ثلاثة أحوال: قبل صلاة الفجر، وفي وقت القيلولة [الظهيرة]، ومن بعد صلاة العشاء، وعليهم أن يستأذنوا على أبويهم قبل الدخول عليهم لئلا يقع البصر على شيء يثير كوامن النفس، وهذا هو أدب الإسلام الرفيع.
ج ـ الابتعاد عن مخاطر التلفاز:
إن ما يقدم على شاشة التلفاز عملية تربوية لها أبعادها ومراميها ، وقد قامت دراسات تظهر مدى فاعلية ما يقدم من صور العنف والجرائم على الشاشة.
وللأسف فإن كثيرًا مما يعرض على شاشات التلفاز والدش لا يعبر عن الهوية الإسلامية، بل على العكس من ذلك فإنه يعبر عن الهوية الغربية الإباحية التي تشجع على الفاحشة والإثارة والاختلاط.
د ـ التورع عن الوقوع فيما حرم الله:
قال تعالى: { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] وقد نفر الإسلام من الفاحشة، وتوعد مرتكبيها بأشد العذاب في الدنيا والآخرة، وما الإيدز [نقص المناعة] وغيره من الأمراض الجنسية والأوجاع التي لم تكن في سالف الأمم إلا تحقيقًا للوعيد الذي أعده الله لمرتكب الفاحشة.
[[ وهذا الانحراف له تأثيره السلبي على سلوك المراهق النفسي والاجتماعي، بعد اكتمال النضج والتأهل للزواج، حيث تهتز الثقة في الجنس الآخر ]]. [تربية المراهق بين الإسلام وعلم النفس ص 457]
إن الإسلام لا يستقذر الجنس ولكنه يضبطه في الحدود المشروعة التي شرعها الله، ويدعو إليه عندئذ ويشجع عليه [[تناكحوا تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة]]. [رواه عبد الرازق والبيهقي].ومن ثم يضبطه ويجعله مشاعر مودة ورحمة لا مجرد جسد بهيمي هائج.[منهج التربية الإسلامية : محمد قطب، ج2/220].
[3] الزواج المبكر:
إن حاجة الشباب والشابات إلى الزواج حاجة ملحة، وإشباع الغريزة الجنسية مثل إشباع دافع الجوع والعطش، والزواج المبكر خير علاج لمشكلات المراهقين الجنسية إذا استطاعوا الباءة تحقيقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [[ من استطاع منكم الباءة فليتزوج ]], وخير معين على استجابتهم لمتطلبات التربية الجادة، والبعد عن نزغات الشياطين.
ففي الزواج سكن نفسي وإشباع غريزي، وإحساس بالنوع، وشعور بالتكامل والنضج, بدلاً من معاكسة النساء وعمل سباقات السيارات واستعراضاتها ومشاهدة الأفلام الخليعة والتسكع.
فالزواج يعين على الاستقامة ويكسر حدة الشهوة عند المراهقين، وإن لم يحصل الزواج فقد وجه الإسلام الشباب إلى السمو بالغريزة وتوجيهها بما يضبط السلوك وذلك يكون بالصوم، قال صلى الله عليه وسلم: [[ يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ]]. [أخرجه البخاري ومسلم].
كما أن تأخير الزواج مخالف للشرع مصادم للسنة الكونية والفطرة الإنسانية، ويترتب على تأخيره آثار سيئة ومدمرة لنفس المراهق ومجتمعه.
والخلاصة:
أن التربية الإسلامية للمراهقين فيما يتعلق بقضية الشهوة الجنسية هي سد كل الذرائع التي تهيج الشهوة في غير محلها فتصيب الشاب والشابة باضطراب وآلام نفسيه وصرف هذه الطاقة إلى أهداف أخرى والتسامي على ذلك إلى حينه، وعند توفر الظروف المناسبة نشجعهم على الزواج المبكر.(/2)
غزوة احد (السبت 15 شوال السنة 3هـ /625 م
غزوة أحد زمنها في منتصف شوال من السنة الثالثة للهجرة مكانها سفح جبل أحد الذي يقع في الشمال من المدينة .
لم تهدأ قريش ولم ترتح بعد هزيمتها في بدر . لأن الهزيمة التي لحقت بهم في بدر كانت قاسية جدا عليهم ، وعقدوا العزم على الانتقام من محمد وأصحابه ، وأقسم أبو سفيان ألا يترك الماء يمس جسده ما لم يثأر لأهله الذين قضى عليهم أبطال الإسلام في بدر، وتمكن في خلال عام أن يجمع من قريش وحلفائها من ثقيف وقبائل كنانة وأهل تهامة و الأحابيش ( أي غير العرب الذين تحبشوا أي تجمعوا ) حوالي ثلاثة آلاف مقاتل بينهم سبعمائة دارع ومائتي فرس وثلاثة آلاف بعير . وخرج معهم سبع عشرة امرأة تقودهن هند بنت عتبة زوج أبي سفيان ، ومعهن الدفوف والطبول لتحريض الرجال على القتال والثأر لقتلى بدر(/1)
وكانت قوات المشركين قد تجمعت في أكمة (( عينين )) قرب جبل أحد شمال المدينة ، وجعلوا خالد بن الوليد على الميمنة وعكرمة بن أبي جهل على الميسرة ، ودفعوا اللواء الأكبر إلى عبد العزى طلحة بن طلحة . ولما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم بقدوم هذا الجيش استشار أصحابه فيما يفعل ، فأشار الشبان ومن لم يحضر بدرا عليه بالخروج لملاقاة جيش الأعداء ، وأشار بعض الصحابة أن يتحصن المسلمون بالمدينة وان يتولوا الدفاع عنها ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يميل إلى هذا الاتجاه لكن الاتجاه الأول حظي بتأييد أغلب المسلمين ، وعلى هذا خرج الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس ألف من أصحابه ثم انسحب منهم ثلاثمائة يقودهم زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول ، فبقي مع النبي صلى الله عليه وسلم سبعمائة رجل ، اختار منهم خمسين راميا بقيادة عبد الله بن جبير و أوقفهم على الجبل لحماية ظهر المسلمين من خالد بن الوليد وأتباعه . وبدأت المعركة بالمبارزة كالعادة فخرج من قريش طلحة بن أبي طلحة فبرز له علي فقتله ، فتبعه أخوه عثمان فصرعه حمزة ، فخرج أخوهما اسعد فقتله علي فتقدم الأخ الرابع مسافع فصرعه عاصم بن ثابت ، ثم التقى الطرفان حيث أبلى المسلمون بلاءا حسنا وخاصة أبو دجانة سماك بن خرشة وعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب الذي اعتبرته قريش عدوها الأول فحملته دم معظم قتلى بدر ، وكانت هند بنت عتبة وعدت العبد الحبشي ( وحشي ) بالعتق من الرق إن هو قتل حمزة وفعلا تمكن من قتله لمهارته في رمي السهام ومع ذلك انتصر المسلمون وهم قلة وتقهقر المشركون وهم كثرة . ثم تحول سير المعركة لصالح المشركين الذين انتهزوا فرصة انشغال المسلمين بجمع الغنائم ، وخاصة الرماة الذين خالفوا أوامر النبي صلى الله عليه وسلم فتركوا مواقعهم طمعا في المشاركة بجمع الغنائم ، وبقي عبد الله بن جبير ومعه عشرة رماة فقط . فالتف خالد بن الوليد عليهم من وراء الجبل وقتلهم جميعا ، وانكشف المسلمون فأصابهم العدو وكانت محنة كبيرة أصيب فيها النبي صلى الله عليه وسلم في فكه وفمه . وازداد الآمر صعوبة لما شاع مقتل النبي صلى الله عليه في المعركة فانسحب بعض المسلمين إلى المدينة وتشتت البعض الآخر في ميدان المعركة . ولكن كعب بن مالك صاح بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، ابشروا هذا رسول الله …. فاندفع المسلمين فرحين بالنبأ السار ، وكانت المعركة توشك أن تكون لصالح المشركين لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجاله بالتجمع في موضع معين في أعلى جبل أحد ، حتى لا ينفرد بهم المشركون ويقضون عليهم نهائيا ، فلم يستطع المشركون الالتفاف حولهم وكان التعب قد أنهكهم . وأيقن أبو سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل في المعركة فنادى المسلمين (( يوم بيوم ، والموعد العام المقبل ببدر )) فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقول : (( نعم هو بيننا وبينكم موعد )) . وهكذا توقف القتال ، وانسحب المشركون من المعركة مكتفين بهذا النصر المؤقت بعد أن قتل منهم ثلاثة وعشرين رجلا فقط ، وقد مثلت قريش بقتلى المسلمين بطريقة وحشية فيها جدع الأنوف وقطع الآذان وبقر البطون . وكانت ذروة الانتقام ما أقدمت به هند بنت عتبة والتي اندفعت في حقد وكراهية ، وبقرت بطن حمزة بن عبد المطلب ، وقيل أن وحشي بقر بطنه ، و أخرجت كبده تلوكها بأسنانها ولفظتها . وأسفرت موقعة أحد عن هزيمة مؤقتة للمسلمين الذين عادوا إلى المدينة بعد أن فقدوا اكثر من سبعين شهيدا دفنوا في أرض المعركة ، منهم حمزة بن عبد المطلب ،عبد الله بن جحش، مصعب بن عمير، أوس بن منذر ، اياس بن اوس ، سعد بن الربيع ، وغيرهم من خيرة الصحابة رضوان الله عليهم جميعا . وفي طريق العودة ، وعند الروحاء على بعد 70 كلم ، أدرك المشركون الخطأ الكبير الذي وقعوا فيه ، فقد كان يتوجب عليهم قطف ثمرة الانتصار بالقضاء نهائيا على المسلمين ، لذلك قرروا العودة واخذ المسلمين على حين غرة وهم يبكون قتلاهم . لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد فطن لما يقومون به ، وكان أذكى منهم و أسرع ففي اليوم التالي عمد إلى تظاهرة عسكرية وصلت إلى بعد حوالي عشرة كيلومترات من المدينة فاوهم المشركين بخروجه للثأر من وقعة أحد . لذلك عدلوا عن قرارهم وعادوا إلى مكة المكرمة بعد أن انتظرهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ورجع إلى المدينة بعد أن رفع معنويات المسلمين . وقد استفاد المسلمون درسا من هذه الهزيمة فتعلموا أهمية طاعة أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ، ولن ينتصر أبدا من أراد ابتغاء عرض الدنيا . وبعد عام على الهزيمة خرج النبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين ونزل بدر في شعبان /4 هـ / 626 م لملاقاة المشركين بقيادة أبي سفيان حسب الموعد بينهما . لكن أبا سفيان خاف وجبن بعد مسيرة يومين وتراجع بجيش فيه أكثر من ألفي رجل إلى مكة المكرمة فانتظرهم المسلمون(/2)
ثمانية أيام ثم رجعوا إلى المدينة وقد ارتفعت معنوياتهم في بدر الثانية التي محت آثار هزيمة أحد .(/3)
غزوة الأحزاب مواقف وعبر
الكاتب : عبدالملك القاسم
بعد غزوة أحد أظلت المدينة سحابة حزن لفقد الأحبة شهداء في سبيل الله.. وخيم السكون حيناً على الجزيرة العربية. ولم يكن ذلك الهدوء الذي أظل المدينة إلا بداية لتحزب الأحزاب من ملل الكفر والشرك، يتحينون الفرص ويسابقون إلى العداوة! فلا يهنأ لهم بال ولا يقر لهم قرار حتى يكون معقل الإسلام ومدينته تحت أيديهم يجوسون فيها تقتيلاً وإفساداً. وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:10].
في السنة الخامسة للهجرة خرجت شرذمة من اليهود نحو كفار مكة ليأنبوهم ويحرضوهم على غزو المدينة، ومحاولة استئصال شأفة الإسلام، وقتل محمد ، والتنكيل بأصحابة! ثم خرج الرهط يحمل الحقد والكراهية للمسلمين نحو غطفان ليكتمل عقد الأحزاب.
وتداعت الجموع وأقبل الشر بخيله ورجله، فخرجت من الجنوب قريش وكنانة وأهل تهامة، ووافاهم بنو سليم وخرجت من الشرق قبائل غطفان وكذلك خرجت بنو أسد. واتجهت الأحزاب الكافرة صوب المدينة حتى تجمع حولها جيش عرمرم يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل! جيش يزيد عدده على سكان المدينة رجالاً ونساءاً، صغاراً وكباراً! في جوع منهم شديد، وبرد وزمهرير، وعدة قليلة، وما عند الله خير وأبقى!
إجتمع الأحزاب حول المدينة لسبب واحد لا غير وإن اختلفت الألسن وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217].
وفي هذا الجو المكفهر والكرب الشديد إنقسم أهل المدينة إلى قسمين: قسم آمن بوعد الله وصدق بنصر رسالته وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22].
فشدوا للقتال وقدموا المهج والأرواح وبذلوا الأسباب بحفر الخندق وحراسة المدينة ليل نهار مع ما أصابهم من الجوع والفاقه، فقد كان طعام الجيش قليلاً من الشعير يخلط بدهن سنخ متغير الرائحة لقدمه، ويطبخ فيأكلونه رغم طعمه الكرية ورائحته المنتنة لفرط الجوع، وأحياناً لا يجدون سوى التمر وقد يلبثون ثلاثة أيام لا يذوقون طعاماً! وكان أشد أمر عليهم نجم النفاق وفشل الناس وعظم البلاء واشتداد الخوف وخيف على الذراري والنساء فقد أحاطوا بالجميع وادلهم الخطب بالأمة إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ [الأحزاب:10]، وكان النبي في هذا الوقت العصيب يبشرهم بأمر عظيم! قال البراء: لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول ، فجاء وأخذ المعول فقال: { بسم الله، ثم ضرب ضربة، وقال: الله كبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر إلى قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله كبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الآن، ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتح اليمن، والله إني لأبصر صنعاء من مكاني }.
والنبي يبشر ويرفع من عزائم الصحابة وكان أحدهم من شدة الجوع يرفع عن بطنه الحجر فرفع رسول الله عن بطنه الشريف حجرين!
وأما أهل النفاق وضعفاء النفوس ممن أثّر فيهم الإرجاف فقد تزعزعت قلوبهم وانخلعت صدورهم لرؤية الجموع والعدد والعدة وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب:13]. وقال المنافقون في ما بشر النبي من خزائن كسرى وقيصر: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، وقالوا تنصلاً من الجهاد وهرباً منه: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً [الأحزاب:113].
واشتغل النبي وأصحابه بمقارعة العدو وأخذ العدة وحفر الخندق حتى فاتت المسلمين بعض الصلوات، ففي الصحيحين أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش، فقال: يا رسول الله! ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي : { والله ما صليت } وقد أهم النبي فوات الصلاة فدعا عليهم { ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس }، وبقيت الساعات العصيبة أياما وليال وزادها سوء نقض بني قريظة العهد مع الرسول فاكتمل عقد الأحزاب حول المدينة الصامدة! ولما بلغ رسول الله غدر بني قريظة تقنع بثوبه واضطجع ومكث طويلا حتى اشتد على الناس البلاء ثم نهض يقول: { الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره }! وسعى النبي لمجابهة الظرف العصيب وأن يفرق جمعهم فأراد أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة حتى ينصرفوا وتخف الوطأة على المسلمين فيلحقوا بقريش الهزيمة.(/1)
واستشار سعد بن معاذ وسعد بن عباده رضي الله عنهما في الأمر، فقالا: يا رسول الله؛ إن كان الله أمرك بهذا فسمعاً لله وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعاً، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك تعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف. فصوب رأيهما وقال: { إنما هو شيء أصنعه لكم، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة }.
وكان النبي في تلك الأيام الصعبة يبعث الحرس إلى المدينة لئلا تؤتى الذراري والنساء على حين غرّه! فالأمر مهول والأحزاب تسمع أصواتهم، والنبال تصل إلى خيل المسلمين! وقد وصف الله عز وجل تلك الساعات العصيبة بوصف عجيب كأن العين تراهم، فقال تعالى: وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:10- 11].
ولما أمر الله عز وجل بانجلاء الغمة وتفريج الكربة صنع أمراً من عنده، خذل به العدو وهزم جموعهم وفل حدهم، وساق نعيم بن مسعود للتفريق بينهم! والنبي يرفع يديه إلى السماء { اللهم منزل الكتاب سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم } وكان المسلمون يدعون ربهم "اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا".
فاستجاب الله الدعاء وبلغ الأمل وأذن بالنصر، و أرسل جنوداً من الرعب والريح قلبت قلوبهم وقدورهم، وقوضت قوتهم وخيامهم ودفنت رحالهم وآمالهم، فلم تدع قدراً إلا كفأتها ولا طنباً إلا قلعته! ولا قلباً إلا أهلعته وأرعبته.
وبعد معركة الأحزاب أزفت البشائر وأشرقت المدينة، بقول النبي : { الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم }، وفي اجتماع الأحزاب في أزمنة متفرقة ومرات عديدة خلال العصور، حكمة بالغة في الرجوع إلى الله، وصدق التوكل عليه، والإنابة والذل وإظهار الحاجة، وبذل الغالي لهذا الدين، قال تعالى: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32]. قال ابن القيم رحمه الله: "ومن ظن إزالة أهل الكفر على أهل الإسلام إزالة تامة فقد ظن بالله السوء". وعلى مر العصور وتقلب الدهور قول الصادق { بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والتمكين }، لكن الأمر مشروط بشروطه، ومقيد بقيوده إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:17].
عبدالملك القاسم(/2)
غزوة الأحزاب - مواقف وعبر
عبدالملك القاسم
دار القاسم
بعد غزوة أحد أظلت المدينة سحابة حزن لفقد الأحبة شهداء في سبيل الله.. وخيم السكون حيناً على الجزيرة العربية. ولم يكق ذلك الهدوء الذي أظل المدينة إلاً بداية لتحزب الأحزاب من ملل الكفر والشرك، يتحينون الفرص ويسابقون إلى العداوة! فلا يهنأ لهم بال ولا يقر لهم قرار حتى يكون معقل الإسلام ومدينته تحت أيديهم يجوسون فيها تقتيلاً وافساداً. وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحكيم [البروج:10].
في السنة الخامسة للهجرة خرجت شرذمة من اليهود نحو كفار مكة ليألبوهم ويحرضوهم على غزو المدينة، ومحاولة استئصال شأفة الإسلام، وقتل محمد ، والتنكيل بأصحابة! ثم خرج الرهط يحمل الحقد والكراهية للمسلمين نحو غطفان ليكتمل عقد الأحزاب.
وتداعت الجموع وأقبل الشر بخيله ورجله، فخرجت من الجنوب قريش وكنانة وأهل تهامة، ووافاهم بنو سليم وخرجت من الشرق قبائل غطفان وكذلك خرجت بنو أسد. واتجهت الأحزاب الكافرة صوب المدينة حتى تجمع حولها جيش عرمرم يبلغ عدده عشرة آف مقاتل! جيش يزيد عدده على سكان المدينة رجالاً ونساءاً، صغاراً وكباراً! في جوع منهم شديد، وبرد وزمهرير، وعده قليلة، وما عند الله خير وأبقى!
اجتمع الأحزاب حول المدينة لسبب واحد لا غير وإن اختلفت الألسن ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن ديكنم إن استطاعوا [البقرة:217].
وفي هذا الجو المكفهر والكرب الشديد انقسم أهل المدينة إلى قسمين: قسم آمن بوعد الله وصدق بنصر رسالته ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما [الأحزاب:22].
فشدوا للقتال وقدموا المهج والأرواح وبذلوا الأسباب بحفر الخندق وحراسة المدينة ليل نهار مع ما أصابهم من الجوع والفاقه، فقد كان طعام الجيش قليلاً من الشعير يخلط بدهن سنخ متغير الرائحة لقدمه، ويطبخ فيأكلونه رغم طعمه الكرية ورائحته المنتنة لفرط الجوع، وأحياناً لا يجدون سوى التمر وقد يلبثون ثلاثة أيام لا يذوقون طعاماً! وكان أشد أمر عليهم نجم النفاق وفشل الناس وعظم البلاء واشتداد الخوف وخيف على الذراري والنساء فقد أحاطوا بالجميع وادلهم الحطب بالأمة إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم [الأحزاب:10]، وكان النبي في هذا الوقت العصيب يبشرهم بأمر عظيم! قال البراء: لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول ، فجاء وأخذ المعول فقال: { بسم الله، ثم ضرب ضربة، وقال: الله كبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر إلى قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله كبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الآن، ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتح اليمن، والله إني لأبصر صنعاء من مكاني }.
والنبي يبشر ويرفع من عزائم الصحابة وكان أحدهم من شدة الجوع يرفع عن بطنه الحجر فرفع رسول الله عن بطنه الشريف حجرين!
وأما أهل النفاق وضعفاء النفوس ممن أثر فيهم الإرجاف فقد تزعزعت قلوبهم وانخلعت صدورهم لرؤية الجموع والعدد والعدة وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا [الأحزاب:13]. وقال المنافقون في ما بشر النبي من خزائن كسري وقيصر: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، وقالوا تنصلاً من الجهاد وهرباً منه: ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا [الأحزاب:113].
واشتغل النبي وأصحابه بمقارعة العدو وأخذ العدة وحفر الخندق حتى فاتت المسلمين بعض الصلوات، ففي الصحيحين أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش، فقال: يا رسول الله! ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي : { والله ما صليت } وقد أهم النبي فوات الصلاة فدعا عليهم { ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس }، وبقيت الساعات العصيبة أياما وليال وزادها سوء نقض بني قريظة العهد مع الرسول فاكتمل عقد الأحزاب حول المدينة الصامدة! ولم بلغ رسول اللع غدر بني قريظة تقنع بثوبه واضطجع ومكث طويلا حتى اشتد على الناس البلاء ثم نهض يقول: { الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره }! وسعى النبي لمجابهة الظرف العصيب وأن يفرق جمعهم فأراد أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة حتى ينصرفوا وتخف الوطأة على المسلمين فيلحقوا بقريش الهزيمة.(/1)
واستشار سعد بن معاذ وسعد بن عباده رضي الله عنهما في الأمر، فقالا: يا رسول الله؛ إن كان الله أمرك بهذا فسمعاً بالله وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان وهم لا يطعمون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعاً، فحين كرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك تعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف. فصوب رأيهما وقال: { إنما هو شيء اصنعه لكم، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة }.
وكان النبي في تلك الأيام الصعبة يبعث الحرس إلى المدينة لئلا تؤتى الذراري والنساء على حين غره! فالأمر مهول والأحزاب تسمع أصواتهم، والنبال تصل إلى خيل المسلمين! وقد وصف الله عز وجل تلك الساعات العصيبة بوصف عجيب كأن العين تراهم، فقال تعالى: وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً [الأحزاب:10- 11].
ولما أمر الله عز وجل بانجلاء الغمة وتفريج الكربة صنع أمراً من عنده، خذل به العدو وهزم جموعهم وفل حدهم، وساق نعيم بن مسعود للتفريق بينهم! والنبي يرفع يديه إلى السماء { اللهم منزل الكتاب سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم } وكان المسلمون يدعون ربهم "اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا".
فاستجاب الله الدعاء وبلغ الأمل وأذن بالنصر، و أرسل جنودا من الرعب والريح قلبت قلوبهم وقدورهم، وقوضت قوتهم وخيامهم ودفنت رحالهم وآمالهم، فلم تدع قدراً إلا كفأتها ولا طنباً إلا قلعته! ولا قلباً إلا أهلعته وارعبته.
وبعد معركة الأحزاب أزفت البشائر وأشرقت المدينة، بقول النبي : { الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم }، وفي اجتماع الأحزاب في أزمنة متفرقة ومرات عديدة خلال العصور، حكمة بالغة في الرجوع إلى الله، وصدق التوكل عليه، والإنابة والذل وإظهار الحاجة، وبذل الغالي لهذا الدين، قال تعالى: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون [التوبة:32]. قال ابن القيم رحمة الله: "ومن ظن إدالة أهل الكفر على أهل الإسلام إدالة تامة فقد ظن بالله السوء". وعلى مر العصور وتقلب الدهور قول الصادق { بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والتمكين }، لكن الأمر مشروط بشروطه، ومقيد بقيوده إن تنصروا الله ينصركم [محمد:17].(/2)
غزوة الخندق او الاحزاب ( شوال السنة 5 هـ )
زمنها شوال من السنة الخامسة للهجرة
لماذا سميت غزوة الأحزاب ؟ سميت كذلك لانه اجتمع فيها مجموعة من الأحزاب قصد القضاء على الإسلام والمسلمين في المدينة وكان يهود خيبر وبخاصة بنو النضير الذين طردوا من المدينة هم الذين جمعوا وحزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يروي ابن هشام انهم خرجوا حتى قدموا مكة على قريش فدعوهم إلى حرب محمد وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله …..
ثم خرج هؤلاء اليهود إلى غطفان وبني مرة و أشجع وأثاروهم كذلك .فاستجاب أبو سفيان لدعوة اليهود وحشد لهذه الغزوة كل قواه ، وعمل لها كل حيلة رجاء أن تنجح ، وتجمعت قوى الأحزاب في جيش هائل لعل الجزيرة العربية لم تشهده من قبل ، إذ كان عدده يربو على عشرة آلاف مقاتل . واتخذ المسلمون في هذه الموقعة موقف الدفاع فبدا الرسول صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر وكان من بين أصحابه الذين سمع مشورتهم عليه الصلاة والسلام " سلمان الفارسي " الذي أشار عليه بحفر خندقا عميقا واسعا شمال المدينة ويلتف حولها من الغرب إذ كانت الجهات الأخرى محصنة بالجبال والنخيل ، وبدأ المسلمون بحفر الخندق وشاركهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الحفر وبينما هم في ذلك الجهد والعمل تقاعس المنافقون وتخاذلوا بحجة شعورهم بالإرهاق ، واخذوا يتسللون هاربين من العمل دون إذن الرسول صلى الله عليه وسلم ويذهبون إلى بيوتهم بينما أبطال المسلمين منهمكين في الحفر وكانوا يسابقون بعضهم بعضا في الحفر كسبا للأجر وتنفيذا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وواجه سلمان الفارسي في حفره صخرة أراد كسرها لكنه لم يستطع تفتيتها لصلابتها ، طلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتركها له فامسك أداة الكسر وكبر وضرب الصخرة فانفلقت ….(/1)
وقد استغرق حفر الخندق عشرون يوما وفي رواية أخرى شهرا كاملا . من جانب آخر كان اليهود والمنافقين في المدينة يخوفون المسلمين ويضخمون أنباء الحشود المشركة ويشيعون أنه لا أمل للمسلمين في الدفاع عن المدينة وان كل قبائل العرب قد اتفقت للقضاء على الإسلام وقد وصلت بهم الوقاحة أن بعض المنافقين قال ساخرا " لقد كان محمدا يعدنا بقصور صنعاء وفارس وها نحن أحدنا لا يأمن على نفسه وهو يذهب لقضاء حاجته ! "" لقد أثر ذلك تأثيرا كبيرا على نفسية المسلمين وبدأ الكثير منهم يخاف واشتد عليهم الأمر فكانت قمة المحنة .عند ذلك حاول عدو الله حي بن اخطب أن يقوم بشيء فيه من الخبث والمكر ما يأثر على الجبهة الداخلية في المدينة وذلك انه أتى كعب بن أسد وهو زعيم بني قريظة الذين عاهدوا الرسول ألا يحاربوا ضده ، فأراد هذا الخبيث أن يدخل حصن كعب فلما علم هذا الأخير قصده أوصد دونه أبواب الحصن ، ولكن عدو الله ظل يحاور كعب حتى فتح له أبواب الحصن ومازال معه يثنيه عن العهد وكعب يقول " دعني وما أنا عليه .. فاني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاءا . إلا أن هذا الخبيث ظل معه حتى نقض عهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلم علم بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم وفدا يستكشف أخبارهم وكان الوفد مكونا من سيد الاوس في المدينة سعد بن معاذ وسيد الخزرج في المدينة سعد بن عبادة والصحابي عبد الله بن رواحة . وعاد الوفد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالخبر المؤلم ، لقد نقض يهود بني قريظة العهد ، وهكذا انضم بنوا قريضة إلى الأحزاب . واشتد البلاء والخوف فلاتوازن بين القوى .. الأحزاب عشرة آلاف مقاتل ، والمسلمون ثلاثة آلاف رجل ففي هذا الوقت العصيب حاول الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخفف البلاء عن المسلمين بمفاوضة غطفان على ثلث ثمار المدينة مقابل رجوعهم ، وكتب بذلك كتابا استشار فيه الأنصار ، أصحاب الأرض والبساتين . فقال له سعد بن معاذ " أمرا تحبه فنصنعه أم شيئا أمرك الله به لابد لنا من العمل به أم شيئا تصنعه لنا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل شيء اصنعه لكم ، والله ما اصنع ذلك إلا أني رأيت العرب قد رمتكم بقوس واحد " فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك وعبادة الأوثان ولا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا ! أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا !؟ والله ما لنا بهذا حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم . فقال عليه الصلاة والسلام فأنت وذاك ، فتناول سعد بن معاذ صحيفة الصلح المقترح فمزقها . أقام المسلمون داخل المدينة المحصنة وقريش وحلفاؤها من الخارج ولم يكن هنالك قتال مباشر بين الجيشين وقد أثبتت فكرة الخندق أنها فكرة عظيمة وكانت عاملا مهما في منع الأحزاب اقتحام المدينة ، وقد حاول بعض فرسان قريش التسلل إلى المدينة عن طريق مكان ضيق من الخندق ، ولكن فرسان المسلمين بقيادة علي بن أبي طالب رضي الله عنه تصدوا لهم وحالوا بينهم وبين ذلك وقتلوا منهم عددا كبيرا ، ثم قام رجل مسلم يخفي إسلامه يدعى نعيم ابن مسعود الأشجعي وكان أحد دهاة العرب بمكيدة بين فريقي الحلف المعادي للإسلام قريش واليهود ومشى بينهم بكلام ثبط همم بعضهم البعض فأوهن الله صفوفهم وبث الفرقة بينهم ووقعت بينهم عداوة ، وعدم الثقة في الطرف الآخر فاختلفوا اختلافا شديدا وأرسل الله الملائكة يزلزلون الأرض من تحت أقدامهم ويلقون في قلوبهم الرعب . وهبت ريح شديدة اقتلعت الخيام وقلبت القدور وأطفأت النيران وهربت الخيل في الصحراء . وهكذا رد الله كيد الكفار والمنافقين واليهود ورد المشركين عن المدينة ، وكفى الله المؤمنين شر القتال وصدق وعده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده .(/2)
غزوة بدر انتصار وقلب لموازين القوى
عبدالعزيز العبداللطيف 18/9/1424
12/11/2003
أحدثت معركة بدر الكبرى، تحويلاً كبيراً في مجريات الأحداث داخل الجزيرة العربية، كما غيرت كثيراً من المعالم الاجتماعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، ولعل أبرز ما أحدثته بادئ ذي بدء، ذلك الشرح الكبير في موازين القوى بين التجمعات السكانية والعشائر العربية، ولم يكن أحد من سكان الجزيرة العربية يتوقع آنذاك أن تغير هذه المعركة مجريات الأمور وأحداث الحياة، وكانت تسكن الجزيرة - بعد الهجرة بسنتين- فئات مختلفة توزعت بين الحواضر والبادية، كما اختلفت تحالفات تلك الفئات تبعاً لعقائدها، حيث انقسمت الجزيرة العربية بسكانها قسمين رئيسين، مجتمع الكفر والضلال والجاهلية، ويشمل فئات متعددة، أبرزها مجتمع مكة الجاهلي، ثم مجتمع العشائر والقبائل العربية التي تعيش في البادية، وهناك طائفة اليهود التي كانت تقبع حول المدينة المنورة، وتعتبر هذه التجمعات هي أركان المجتمع الكافر بين يدي غزوة بدر، وأما القسم الثاني من سكان الجزيرة العربية، فهم المسلمون الذين اتخذوا المدينة المنورة سكناً لهم، وهم المهاجرون والأنصار، وسوف أتناول هنا أثر معركة بدر على كل فئة من هذه الفئات.
غزوة بدر في مجتمع المدينة المسلم
ومجتمع المدينة مجتمع صغير، يجمع بين المهاجرين ، والأوس والخزرج من الأنصار، بايعوا الله ورسوله على الإيمان والإسلام والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته، وبعد انتهاء معركة بدر، أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رجلين إلى المدينة؛ ليزفوا البشرى لأهلها بنصر الله، وأحد هذين الرجلين من الأنصار وهو عبدالله بن رواحه شاعر الدعوة، والآخر زيد بن حارثة وهو من المهاجرين، ولما غنم أهل المدينة بنصر إخوانهم في معركة الإيمان والشرك الفاصلة، خرج رؤوسهم يستبقون وصول رسول الله إلى المدينة، ولما وصل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى منطقة الروحاء، التقى كبار رجال المدينة المسلمة، الذين قدموا له ولمن شهد بدراً معه تهانئ النصر فرحين مستبشرين بنصر الله، وهذا موقف فيه كثير من الدلالات، لقد وفد المسلمون دون خوف أو هلع أو خشية، جاءوا مرفوعي الرأس بما منحهم الله من نصر، وكانوا يعانون من الظلم والرهق والعناد الذي كانت تواجههم به مجتمعات الكفر، فلقد رفعت غزوة بدر من معنويات المسلمين، فشد الله أزرهم بذلك، فازدادوا بذلك نصرًا فوق نصرهم، وأثناء تهنئة وفود المدينة للرسول وصحبة، قال لهم أحد المقاتلين، وهو سلمه بن سلامة، ما الذي تهنئوننا به؟ فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعاً كالبدن، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا ابن أخي، أولئك الملا، وقد قصد -رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم الأشراف، وفي ذلك ما فيه من معاني العزة الإسلامية، فوصف سلمة بن سلامة لصناديد المشركين أثناء القتال بأنهم عجائز صلع كالبدن، يدل على مدى القوة التي منحها الإسلام العظيم لجنود بدر، بحيث كان كل جندي يستصغر فراعين قريش، وكفارها العتاة، الذين أذاقوا ضعاف المسلمين في مكة سوء العذاب، فقد كانوا هم الأشراف، وكانوا يعاملون المسلمين بأسوأ أشكال العنف والاضطهاد.
أما موقف المتخلفين عن بدر من أهل المدينة المسلمين، فقد كان موقفاً مؤثراً جداً، كيف لا؟ وهم لا يعرفون أن إخوانهم وقائدهم سوف يخوضون هذه المعركة الفاصلة، التي انتصرت فيها القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة المشركة، ولعل في قول الصحابي أسيد بن الخضير ما يبوح بذلك، ففي الروجاء، كان أسيد مع وفود التهنئة، وقد خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: "يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر، وأنا أظن أنك تلقى عدوًا، ولكن ظننت أنها عبر، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت..
أما مجتمع المدينة فقد كان ينتظر نتائج المعركة على أحر من الجمر، ولما وصلهم البشيران (ابن رواحه وابن حارثه) علت أصوات المسلمين بالتهليل والتكبير، وخُذِل المنافقون واليهود الذين كانوا يبشرون المسلمين بخسارة محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحبه، وكان هؤلاء يحاولون زرع الشكوك وبث الرعب في صفوف المسلمين، إلا أن خبر النصر أزعجهم، بينما عمت البهجة والسرور نفوس المسلمين، وزالت عنهم الهواجس المزعجة، التي انتابتهم نتيجة الإشاعات الكاذبة. والإرجاف المقصود، الذي نظمه اليهود والمنافقون، وهذا شأنهم في كل عصر وفي كل مكان، فهما فريقان متفقان دائماً على الكيد للمسلمين.(/1)
ولما دخل الرسول -صلى الله عليه وسلم- المدينة استقبله أهلها استقبالاً رائعاً، أما اليهود والمنافقون فقد اسودت وجوههم، واستبد بهم الخوف والحقد في آن واحد بينما ارتفعت معنويات المسلمين، وعلت شوكتهم على المشركين والمنافقين واليهود، وتسامع العرب في أرجاء الجزيرة بانتصار القلة المؤمنة، على الكثرة الكافرة، فدخلت هيبة الإسلام والمسلمين في قلوبهم، وكان لهذا أثر كبير في إيمان كثير من القبائل ودخولها في معاهدات وأحلاف مع المسلمين، بل ودخول بعضها في الإسلام فيما بعد.
صدى المعركة في مكة وآثارها على المشركين
قلنا إن معركة بدر انتهت بتغيير موازين القوى الروحية والسياسية والعسكرية والاجتماعية في الجزيرة العربية، وكان أن قفزت سمعة المسلمين العسكرية والقتالية إلى الأوج، فأصبحوا سادة الموقف، ولا سيما في منطقة المدينة وما يحيط بها، وبالمقابل، فإن سمعة قريش الكافرة تدهورت سياسياً وعسكرياً وما عادت لها هيبتها السابقة.
أما أخبار المعركة في مكة، فقد عم الذهول أرجاء مكة آنذاك، فعندما تلقى المشركون النبأ لم يصدقوا الأمر بادئ ذي بدء، حيث كانوا يتهمون ناقلي الأخبار بالجنون، فما كان يخطر ببالهم أن ينتصر المسلمون، وما كانوا يتصورون أن ألف مقاتل من خيرة شباب قريش وأمهر قادتها وأشجع زعمائها سوف يولون الأدبار أو يقتلون أو يصابون بما لم يعهدوه من الخسارة والهزيمة، بل الهزيمة النكراء أمام ثلاثمائة مقاتل من المسلمين، وكان أول من وصل من بدر إلى مكة، الحيسمان بن أياس الخزامي، الذي كان أول الفارين، وقد تجمع حوله الناس يسألونه عن نتيجة المعركة، فأبلغهم خبر الهزيمة التي نزلت بجيش مكة، وبينما كان يعدد لهم بعض أسماء الصرعى من زعماء مكة وقادتها وقف عليه صفوان بن أمية، وهو أحد زعماء المشركين الذين لم يشهدوا بدراً فذهل وانقلب به الوعي، إلا أن كبرياءه وعتوه وعناده وبغضه للمسلمين آنذاك، حاد به عن تصديق الأمر، فعاد يكذب الحيسمان وأخباره، وراح يؤكد لمن حضر من القرشيين أنه مجنون، ورغبة منه في التأكيد الزائد التفت إلى المجتمعين وخاطبهم: اسألوه- يقصد الحيسمان- عني إن كان يعقل، فقال القوم للحيسمان: ما فعل صفوان بن أمية! فقال: هو ذاك جالس في الحجر، وقد ازدادت دهشتهم حين قال لهم: لقد رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
أما هذه الأنباء فقد اختلط فيها الحابل بالنابل في مكة، وأسقط في أيدي الزعماء العتاة، الذين علت صيحات التشكيك من أفواههم، وهاج عامة الناس، واختلطت أقوالهم وتحليلاتهم للموقف وما عاد المرء منهم يعرف صوابه لهول الصدمة وعنف الخبر، وقد زاد الأمر تأكيداً عليهم، مجيء ابن سفيان بن الحارث، وهو أحد القادة المشركين الكبار، الذين قادوا المعركة وأداروها، وترأسوا دفة القتال ضد المسلمين في المعركة، فبدأ أقواله بجميع ما أخبرهم به الحيسمان، وأدلهم على هزيمة فرسان الشرك وجيوشه أمام النصر الساحق للمسلمين القلة، وفي حديث الحارث لأبي لهب ما يوضح الموقف على لسان أحد القادة، فقد سأله أبو لهب عن خبر المعركة فأجابه، "والله ما هو إلا أن لقينا القوم، فمنحناهم أكتافنا يقلبوننا كيف شاؤوا، وأيم الله – مع ذلك- ما لمت الناس، لقينا رجال بيض على خيل يلقون، من بين السماء والأرض، والله لا يقوم لها شيء)).
وهكذا تأكد خبر الهزيمة، حيث عرف كل بيت في مكة بمصابه، وعرف المقتولين منه، فقامت المناحات، إلا أن زعماء مكة أصدروا أمرًا بأن لا ينوح أحد على قتيل من قتلى هذه المعركة، وطلبوا من جميع الناس التزام الصمت والسكوت مع إظهار الجلد، وقد دفعهم إلى ذلك رغبتهم في عدم شمات المسلمين بهم، والحق أن نتيجة المعركة كانت فاجعة أليمة في مكة، فلم يكد ينجو بيت هناك من مأتم على قتيل، ولقد بلغ المصاب أن بعض الأشراف والزعماء، فقد أكثر من قتيل من أسرته في هذه المعركة التي أشعلها أبوجهل بدافع من كبريائه وخيلائه دون أن يكون لها مبرر في نظر كثير من المشركين والقادة، ومن ذلك أن صفوان بن أمية فقد في هذه المعركة أباه، كما فقد أخاه عليًا، أما أبو سفيان فقد فقد ابنه خنظله وأسر ابنه الثاني عمرو، وقد طهت هذه المعركة حياة العتاة الكبار وعلى رأسهم أبو جهل، الذي ما فتئ طيلة حياته يكيد للإسلام والمسلمين فكان بذلك فرعوناً كبيراً يكيد للدعوة وللمسلمين، وعلى الرغم من أن المعركة حطمت رؤوس طواغيت الشرك، إلا أنهم لم يستكينوا، فبعد أن أفاقوا من هول الصدمة، أخذوا يواصلون اجتماعاتهم وينظمون مؤتمراتهم، ويبحثون عن السبل التي تمكنهم من غسل العار الذي حاق بهم، فقد ازدادوا حقداً على رسول الله وازدادوا بغضاً للمسلمين، فكان أن أعنلوا التعبئة العامة لخوض معركة الثأر، ومنعوا كل رجل في مكة من اعتناق الإسلام وحاربوه أشد ما تكون الحرب.
موقف اليهود والمنافقين من المعركة وأثرها عليهم(/2)
وكان هؤلاء يسكنون المدينة، أما اليهود فكانوا معروفين، وأما المنافقون فكانوا يتغلغلون في صفوف المسلمين، وكانوا جميعاً يتمنون اندحار المسلمين، بل إنهم كانوا يتوقعون هزيمة المسلمين القلة، ونصر المشركين الكثر الأشداء الأقوياء، وقد قام كل من اليهود والمنافقين بنتظيم حملة ضخمة من الشائعات المرجفة، وذلك لبلبلة الأفكار وخلخلة المسلمين، وكان أن أشاعوا في المدينة بين المسلمين، خبر مقتل النبي عليه الصلاة والسلام، كما أشاعوا خبر هزيمة المسلمين، وتمزيق جيشهم منذ بدء المعركة، وعلى الرغم من مجيء أخبار نصر المسلمين، واندحار جيش الكفر القرشي، فقد حاول اليهود المنافقون تكذيب أخبار نصر جيش محمد صلى الله عليه وسلم. واستمروا في إرجافهم وبث شائعاتهم، حتى إن أحد المنافقين، عندما شاهد زيد بن حارثة يركب القصواء ناقة رسول الله هتف: لقد قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، وجاء فلاً أي مهزوماً. كما قالت اليهود: ما جاء زيد إلا فلاً، وكان لهذه الإرجافات والإشاعات المتلاحقة التي تعاون اليهود والمنافقون على نشرها، بعض الأثر في قلق المؤمنين في المدينة، حيث ظلت فئة منهم تترقب عودة جيش المسلمين كاملاً لتقف بنفسها على حقيقة النصر الذي كتبه الله للفئة المؤمنة.
إلا أن رؤوس الكفر من اليهود والمنافقين صعقوا مرة واحدة لدى وصول جيش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، فعلى الرغم من استمرارهم بأساليب الإرجاف والكيد، فإن حقيقة نصر المؤمنين سكنت كيدهم الذي كادوه، فعندما شاهدوا طليعة الجيش المنتصر، رجعوا واتلفأوا على أنفسهم خاسئين، وقد كادوا أن يتهموا أبصارهم عندما شاهدوا صناديد قريش وأقوياءها أسرى في يد المسلمين، فقد دهشوا أشد دهشة عندما رأوا سهيل بن عمرو، ونوفل بن الحارث، وعمرو بن أبي سفيان، والعباس بن عبد المطلب، والوليد بن الوليد أسرى مكبلين يقودهم المسلمين كالنعاج، وقد شدت أيديهم إلى الوراء يتعثرون في خطاهم كما تتعثر الدابة المكبلة، وقد صار اليهود والمنافقون في حالة من الذعر والذلة لا توصف، وذلك عندما دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة منتصراً، حيث استقبلته المدينة استقبالاً رائعاً، مما زاد من إذلال وجود اليهود المنافقين الذين دأبوا على الإرجاف والمكيدة.
فقد قلبت معركة بدر الموازين رأساً على عقب، فقد أصبحت السيطرة للمسلمين، أما مشركو المدينة فقد خافوا على بعضهم، فما كان إلا أن تظاهروا بالإسلام مع بقائهم على كفرهم، فازداد عدد المنافقين، وكان على رأسهم المنافق الكبير عبدالله بن أبي بن سلول، فقد نصح أصحابه آنذاك أن يعلنوا إسلامهم، وقد قال مشيراً إلى قوة المسلمين واشتداد شوكتهم: (هذا أمر قد توجه- أي استمر- فلا مطمع في إزالته، ثم أعلن ابن سلول إسلامه، وتبعته أحزاب النفاق، حيث تظاهروا بالإسلام خوفاً على نفوسهم أولاً، وليكيدوا للإسلام والمسلمين من داخل الصفوف المؤمنة، فظلوا يتربصون الدوائر لإسقاط الدعوة الجديدة، ولجأوا في محاربة الرسول وأصحابه إلى سلوك سبيل الدس والخيانة والخديعة، وصاروا يرسمون الخطط سراً للإيقاع بالنبي، وينتهزون الفرص لتفكيك وحدة أصحابه وإضعاف قوتهم.
ويضاف إلى هذا بعض اليهود، وهم الذين عاهدوا الرسول على عدم الإيذاء فخالفوا عهدهم، وأعلنوا سخطهم على الرسول وأصحابه بعد هذه المعركة التي حاقت بالمشركين، فصاروا يحرضون أهل مكة على الفتك بالنبي والقضاء على دعوته، وصاروا يقدمون لهم أيضاً كل مساعدة، وضربوا بذلك عهدهم الذي أعطوه للرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا فقد أفقد النصر الذي أحرزه المسلمون اليهود صوابهم، فاشتد حقدهم على الإسلام، وتضاعف نشاطهم ضد الدعوة، إلا أن المسلمين ابتعدوا عن الصدام مع اليهود آنذاك، حتى تفاقم الأمر، واتسع الخلاف بين المسلمين واليهود بسبب ما كان يكيده هؤلاء للإسلام، مما اضطر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقضي على بعضهم وأن يبعد القسم الآخر عن المدينة، لتطهيرها من فتنهم ودسائسهم ومؤامراتهم.
المعركة وأعراب الجزيرة العربية
عمت أخبار نصر المسلمين في بدر سائر الجزيرة العربية، وسمعت بها عشار الأعراب المتفرقة حول الحواضر وفي البادية، وكان هؤلاء يكنون لقريش احتراماً شديداً، لذلك فقد أثرت فيهم أخبار الانتصار الإسلامي في بدر تأثيراً كبيراً، فقد اضطرب كثير منهم وبخاصة الأعراب الذين يسكنون قرب المدينة، عندما خافوا أن تشتد قبضة المسلمين، مما يحول بينهم وبين مبدأ حياتهم القائمة على السلب والنهب.(/3)
فقد كانوا يعيشون على الإغارة وسلب أرزاق الآخرين، ويرى محمد أحمد باشميل أن خوف الأعراب من الدعوة الإسلامية لم يكن موقفاً عقائدياً، ذلك أن "مسألة الكفر والإيمان ليست ذات أهمية بالنسبة لهؤلاء الأعراب، إذا قيست بمسألة حرصهم وإصرارهم على إخضاع المنطقة لرماحهم، ينهبون ويسلبون في ظلها، كما هي شرعة الجاهلية في جميع مناطق الأعراب". ويميز باشميل بين موقف مشركي مكة والأعراب من الدعوة الإسلامية قائلاً: "فباعث قلق الأعراب من انتصار المسلمين في هذه المعركة، وانتشار نفوذهم، لم يكن باعثاً سياسياً أو عقائدياً، وهذا عكس ما عليه أهل مكة الذين يعتبرون أنفسهم حراس الوثنية وسدنة الكعبة، والزعماء الروحيين لجميع المشركين في الجزيرة بحكم وجودهم في منطقة الحرم التي يعظمها ويحج لها جميع الوثنيين على اختلافهم في تعدد الآلهة التي يعبدون من دون الله، كما أن قريشاً كانت تعتبر من الناحية السياسية والعسكرية في الدرجة الأولى بالنسبة لجميع سكان الجزيرة، مما أعطاها مركز ممتازاً بين جميع قبائل العرب في كل من الميادين، ولهذا كان حقد قريش على محمد، وبغضهم للإسلام قائماً على بواعث عقائدية وسياسية في الدرجة الأولى، ومن هنا صاروا أشد سكان الجزيرة حرصاً على القضاء على محمد وقتل دعوته على أن امتداد قوة المسلمين فيما بعد، كان سبباً في دخول كثير من القبائل في الإسلام.
وهكذا نرى أن معركة بدر كانت حداً فاصلاً بين الكفر على اختلاف اتجاهاته، وبين الإيمان الذي رسخ في القلوب، واستقر في العقول، فعقبت به الأرواح نصراً مبيناً، فقد تغيرت موازين القوى لصالح المسلمين، واندحر الكفر باندحار قريش وخيبة أمل اليهود والمنافقين.(/4)
غزوة بدر الكبرى ( الجمعة 17 رمضان السنة 2 هـ / 624 م )
غزوة بدر . تاريخها 17 رمضان . السنة الثانية هجرية
إن غزوة بدر كانت نتيجة طبيعية للهجرة إلى المدينة ،فقد أرادت قريش أن تقتل محمدا وهو بمكة ، ولكن محمدا نجا من هذه المؤامرة بفضل الله وهاجر إلى المدينة التي أصبحت مركزا إسلاميا حرا طليقا، يهدد أوثان قريش ، بالإضافة إلى تهديده لتجارتها الصاعدة والهابطة بين مكة والشام ، فأصرت قريش أن تقضي على هذا المركز الجديد الذي يهدد حياتها الدينية والاقتصادية جميعا . فكانت غزوة بدر نتيجة هذه الإفرازات ، ولكم وصف لهذه المعركة التي غيرت كل مفاهيم القوة والتي من خلالها وضعت المسلمين في الطريق السليم والصحيح فاصبح يحسب لهم ألف حساب .
قوات المسلمين ( 314 ) رجل معهم فرسان وسبعون بعير قوات العدو ( 950 ) رجل معهم ( 200 ) فرس وعدد كبير من الإبل سببها بغية الاستيلاء على قافلة قريش التجارية القادمة من الشام بقيادة أبي سفيان والتي يحميها ثلاثون إلى أربعين رجلا وهي تتكون من ألف بعير تقريبا . في المدينة المنورة في يوم الاثنين الثامن من رمضان سنة اثنتين هجرية الموافق 5 مارس 624م في هذا اليوم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحبة رجاله الذين بلغ عددهم ثلاثمائة و أربعة عشر رجلا ، وهناك عند الصفراء توقف الرسول ،و بعث برجاله لاستطلاع بدر وإلى أي مكان وصلت العير ( عير قريش ) وكان عليه الصلاة والسلام مطمئنا على مدينته ومن فيها لانه ترك فيها رجلا صالحا تقيا ، إماما للناس في صلاتهم هو عبد الله ابن أم مكتوم .
و أعطى عليه الصلاة والسلام اللواء إلى أول سفرائه مصعب بن عمير. في الوقت نفسه الذي كانت فيه قافلة أبي سفيان تواجه مصاعب الطريق ، كان المشهد في مكة قد بدأ يتهيأ لخطر قادم . فتجهزت قريش وخرجت في جمع كبير من أشرافها وسادتها ، قاصدة مكان محمد لانقاد أموالها وتجارتها على حد قولهم . استخدم أبو سفيان دهاءه وغير مجرى طريقه وسلم بقافلته .. ولما نجا ورأى انه قد سلم من الخطر أرسل إلى قومه يقول : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا . فقال أبو جهل والله لا نرجع حتى نرد بدرا ( وكان بدر أحد مواسمهم …. كل عام ) فنقيم عليه ثلاثا فننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرتنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها . لقد وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى واد ذفران ثم إلى الأضافر ثم بلد آخر لقد كان وصوله إلى بدر قبل قريش فاختار موضع يشرف على منطقة القتال وبنى فيه العريش وقام بترتيب المسلمين بشكل صفوف وهو أسلوب جديد لم تعرفه العرب من قبل ، لكن في الجهة المقابلة لم يكن للمشركين قائد أو منظم يقودهم . أقبلت قريش فلما رآها الرسول صلى الله عليه وسلم قال (( اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك ، اللهم نصرك الذي وعدتني اللهم احنهم ( أهلكهم ) الغداة )) .ثم اقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما شرب منهم رجل إلا قتل مكانه . بدأت المعركة بمبارزة ثلاثة من المسلمين لثلاثة من المشركين ، فبارز عبيدة بن الحارث عتبة بن ربيعه وبارز حمزة شيبة بن ربيعه وبارز علي الوليد بن عتبة فتغلب المسلمون على المشركين في هذه المبارزة ، بعدها اشتد القتال فكان المسلمون يردوهم بوابل من السهام فارتبك المشركون فبدأو في التفكك وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقود الصفوف بنفسه والتي أخذت تقترب من صفوف المشركين التي فقدت قادتها وبدأت في التبعثر والهروب ، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم قواته أن تشد عليهم وبدأت المطاردة التي انتهت بانتصار المسلمين على المشركين . فاخذ المسلمون في جمع الغنائم والأسرى ، فعاد عليه الصلاة والسلام إلى المدينة مع موكب الرجال حاملين لواء النصر على جبابرة مكة …. وأئمة الكفر فيها . من نتائج المعركة استشهاد أربعة عشر مسلما وقتل سبعون مشركا وأسر سبعون آخرون كلف منهم المتعلمون بتعليم أطفال المسلمين مقابل إطلاق سراحهم .(/1)
غزوة بني المصطلق ( شعبان السنة 6 هـ )
بنو المصطلق هم فرع من خزيمة سموا بني المصطلق إذ كان جدهم رقيق الصوت . ويروى في سبب هذه الغزوة أن الرسول صلى الله عليه تلقى نبأ أن بني المصطلق يحرضون على قتله عليه الصلاة والسلام ، وان زعيمهم الحارث بن ضرار هو خطيبهم في ذلك ، فلما تأكد الرسول صلى الله عليه وسلم من الخبر، أسرع فاستعد لهم ونادى بالخروج إليهم ، وكان ذلك في شعبان من السنة السادسة للهجرة ، وجعل لواء المهاجرين لأبي بكر ولواء الأنصار لسعد بن عبادة ، وزحف المسلمون ونزلوا على ماء بئر قريب من بني المصطلق يقال له " المريسيع " فتقابلا الجيشان ، ونادى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأعلى صوته : قولوا : " لا اله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم ، أحاط المسلمون ببني المصطلق ففر من
جاءو لمشاركة بني المصطلق في هذه المؤامرة ، ووقف بنو المصطلق وحدهم في مواجهة المسلمين ، وجرى تراشق بالنبال ، وسرعان ما أحس بنو المصطلق بأنهم لا يستطيعون الوقوف في وجه المسلمين وان الحرب ستأكلهم وراح الحارث بن أبي ضرار زعيمهم يقول : " أتانا من لا قبل لنابه عدة وعددا " وكان يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأصاب القوم الرعب فاستسلموا فرفعوا أيديهم والقوا بأسلحتهم ، فأسر منهم سبعمائة رجل ، وسبيت نسائهم وذريتهم ، وغنم المسلمون غنيمة كبيرة … ومما يقوله الرواة في ذلك انهم غنموا ألفا من الإبل ، وخمسة آلاف من الأغنام . وعلى هذا فالحديث عن غزوة بني المصطلق حديث قصير لان الحرب لم تكن شديدة ، ولكن لهذه الغزوة أهمية عظيمة في التاريخ ، إذ ارتبط بها حادثان خطيران أولهما الفتنة التي أوشكت أن تحدث بين المهاجرين والأنصار ، والتي كان سببها راس النفاق في المدينة عبد الله بن أبي بن سلول فأراد أن يستغل حادثة وقعت بين مهاجر وأنصاري ، ليشعل دعوة الجاهلية ، لتعظم وتأكل صفوف المسلمين . الحادثة كانت بين رجل مهاجر يسمى جهجاه بن مسعود من بني غفار أجير عمر بن الخطاب ، ورجل أنصاري هو سنان بن وبر الجهني … تزاحم الرجلان على الماء فاقتتلا ، فصرخ الأنصاري قائلا : يا معشر الأنصار ، ونادى المهاجر : قائلا يا معشر المهاجرين … فلما سمع ذلك راس النفاق ابن أبي قال : لقد نافرونا وكاثرونا في بلدنا ….. واكمل ذلك المنافق يقول .. أما والله لو رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الاذل ….. وكان زيد بن أرقم غلاما صغيرا فسمع هذا الحديث فبلغه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد حزن الرسول صلى الله عليه وسلم مما سمع ، وبينما هو في الموكب إذ التقى بأسيد بن حضير وكان رجلا من أتباع ابن أبي قبل إسلامه فقال له عليه الصلاة والسلام بعد أن رد تحيته ، أوما بلغك ما قال صاحبكم ؟ فقال عليه الصلاة والسلام انه قال : سيخرجن الأعز منها الاذل . فاستغرب الرجل وقال : هو والله الذليل وأنت الأعز …..
ثم أضاف أرفق به يا رسول الله ، فوالله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه ملكا ، وانه ليرى أنك قد اسلبته ملكه . فكان عقاب هذا المنافق أن نزل فيه قرآنا وهو القصاص منه ، وعلم ابن عبد الله بن أبي نبأ ما اقره القرآن في أبيه ، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتل أبيه .. أما الحادثة الثانية فهي حادثة الإفك والتي حملها رأس النفاق أيضا ابن سلول ، وقد تصدى القرآن الكريم لتبرئة السيدة الفاضلة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت أبا بكر الصديق رضي الله عنه ، من فوق سبع سموات . ومما يتصل بهذه الغزوة زواجه صلى الله عليه وسلم من جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، وكيف كان هذا الزواج يمنا وبركة على أسيرات بني المصطلق فاعتقهن المسلمون وهم يهتفون ، كيف نأسر أصهار رسول الله ؟ وأسلم كثير من بني المصطلق وصفت النوايا وعم الوئام بين المسلمين جميعا .(/1)
غزوة بني النضير ( ربيع الاول السنة 4هـ /626 م )
من هم بني النضير ؟ بنو النضير قبيلة من قبائل اليهود في المدينة ، عاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم على عدم الاعتداء وعدم نصر عدو له عليه الصلاة والسلام ، يسكنون في ضاحية بأطراف المدينة بها خضرة ونخيل وماء تسمى منطقة (( العوالي )) وظل عهدهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم أربع سنوات كاملة قبل أن تحدث هذه الغزوة . لما ضعفت شوكة اليهود بعد جلاء بني قينقاع عن المدينة النبوية ، أخذ بنو النضير ، يتعاونون مع مشركي قريش بعد انتصار المسلمين في بدر ، فعندما أراد أبو سفيان الثار خرج في مئتي رجل ، وأتى سلام بن مشكم وهو سيد بني النضير فاستقبله وسقاه خمرا وتعاون معه لإيذاء المسلمين .ثم هجم أبو سفيان على بعض البيوت وقتل رجلين من الأنصار ثم عاد إلى مكة المكرمة . ثم نقض بنو النضير العهد ثانية عندما رفضوا الاشتراك مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد بحجة أن القتال يدور يوم السبت وان العهد بينهم ينص على المشاركة في الدفاع داخل المدينة وأحد خارجها ، في حين أعتبر النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد غزوة موجهة إلى المدينة . ثم توالت الأحداث ضد مصلحة المسلمين بعد هزيمة أحد يوم السبت 15 شوال 3 هـ / 625 م ، فاستهانت القبائل بأمرهم وأخذت تكيد لهم ، فكانت حادثة الرجيع وهو ماء لقبيلة هذيل تعرض فيه ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للقتل والأسر ثم كانت مجزرة بئر المعونة وهو بين أرض بني عامر وبني سليم في نجد ، في صفر سنة 4 هـ ، حيث استشهد محمد بن المنذر بن عمر ومعه أربعين من المسلمين على يد عامر بن الطفيل ومن ناصره من بني سليم ، ولم ينجوا منهم سوى اثنان كعب بن زيد وعمرو بن أمية الضميري ، الذي قتل رجلين من بني عامر أثناء عودته ، رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد ضمن لهما أمنهما . وكان بنو النضير حلفاء بني عامر ، لذلك خرج النبي صلى الله عليه وسلم معه عشرة من كبار الصحابة منهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم إلى مقربة من قباء لدفع دية الرجلين ، فحاول بنو النضير قتل النبي صلى الله عليه وسلم بان يلقي عمرو بن جحاش صخرة عليه من على ظهر الجدار وهو جالس . لكن الله تعالى فضح مؤامرتهم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى المدينة . فخرج وكأنه يريد قضاء حاجة له ، فلم يفطن له أحد ، ثم تبعه أصحابه ثم أنذر النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير بالجلاء عن حصونهم ومزارعهم خلال عشرة أيام فاستعد اليهود للرحيل ، لكن زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول العوفي وعدهم بالمساعدة بألفين من العرب وحثهم على الصمود لان اخوتهم من بني قريظة لن يخذلوهم وكذلك حلفاؤهم من غطفان . رفض بنو النضير الإنذار وأخذوا يستعدون للقتال فرمموا حصونهم و أمدوها بالسلاح وزودوها بمؤونة طعام تكفي اشهر طويلة . حاصر النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير في حصونهم لمدة عشرين يوما وأخذ يقطع نخيلهم ويحرق بساتينهم ، ومنع مساعدة المنافق عبد الله بن أبي بن سلول وحلفائهم من غطفان بعد أن رفض بنو قريظة نقض العهد معه . فأيقن بنو النضير من سوء العاقبة وتملكهم الخوف والرعب وطلبوا منهم حقن دمائهم مقابل الاستسلام والجلاء ، فأجابهم إلى طلبهم شرط أن يخرج كل ثلاثة منهم في بعير يحملون عليه ما شاءوا من دون السلاح ، فخرجوا في 600 بعير فنزل بعضهم في خيبر بزعامة حي بن أخطب وسلام بن مشكم وكنانة بن الربيع ، ورحل البعض الآخر إلى أذرعات عند حدود بلاد الشام . في أمر بني النضير يقول الله تعالى : ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار )) . سورة الحشر الآية 2 لقد خربوا بيوتهم بأيديهم ، وذلك يتعلق بعقيدتهم فكل يهودي يعلق على نجاف داره صحيفة فيها وصية موسى لبني إسرائيل ، لذلك حملوها معهم عند جلائهم ، وقيل أن ما حملوه معهم هو أخشاب بيوتهم وهي غالية الثمن في شبه الجزيرة العربية . وظن بنو النضير أن هذا الجلاء هو انتصار لهم فخرجوا يرقصون في ابتهاج وسرور وقد تزينت نسائهم ويحملون الدفوف والمزامير . وقد غنم المسلمون من يهود بني النضير 50 درعا و50 خوذة و 34 سيفا ، عدا الأراضي والبساتين التي قسمت على المهاجرين حتى يصبحوا في غنى عن معونة الأنصار إخوانهم في الإسلام . وقيل أن رجلين فقط من بني النضير أسلما فلم تمس أموالهما وهما يامين بن عمير وأبو سعد بن وهب . كان إجلاء بني النضير ضربة قاصمة لليهود الذين شعروا بمرارة النزوح والهجرة ، ومع(/1)
ذلك لم يفطنوا للخطأ الكبير الذي ارتكبوه ،وهم أهل دين سماوي ، بتحالفهم مع قريش أهل الوثنية ضد المسلمين وهم أهل دين سماوي مثلهم . والتوراة عندهم توصي بالنفور من عبدة الأوثان والأصنام .(/2)
غزوة بني قريظة ( السنة 5 هـ )
غزوة بني قريظة السنة الخامسة الهجرية دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صباح اليوم الذي فرغ فيه من غزوة الخندق ولم يكد يضع السلاح حتى آتاه جبريل عليه السلام في صورة رجل يلبس عمامة يركب بغلة عليها سرج وقال له أو قد وضعت السلاح يا رسول الله ؟ قال : نعم يا جبريل فقال : جبريل : فما وضعت الملائكة السلاح بعد .. إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة فاني عامد إليهم فمزلزل بهم )) بعدها أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال لهم من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة ، وسمع المسلمون واطاعو قول نبيهم صلى الله عليه وسلم وتولى علي بن أبي طالب الراية بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم ، وانطلق الرجال في موكب المجاهدين فلقد اطمأنوا بعد الخندق بأنهم لن تغزوهم قريش بعد اليوم بل هم سيغزون أعداء الإسلام ويقاتلون أئمة الكفر في عقر دارهم هذا ما وعد به رسوله المجاهدين من المسلمين مهاجرين وأنصارا .
اقترب علي بن أبي طالب مع رجاله من حصون بني قريظة واستمع إلى حديثهم خلف الحصون فسمع مقالة قبيحة بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاد إليه ونصحه بان لا يقترب من الحصون فأدرك الرسول بثاقب نظره سبب نصيحة علي وقال له أظنك سمعت منهم كلاما مؤذيا لي . ولما أجابه علي بالإيجاب قال له لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا . تقدم الرسول صلى الله عليه وسلم من حصون بني قريضة فنادى عليهم (( هل أخزاكم الله وانزل بكم نقمته ؟ )) قالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولا .. ونزل الرسول صلى الله عليه وسلم عند بئر تسمى بئر أنا وضرب المسلمون حصارا حول حصون بني قريظة استمر خمسا وعشرين ليلة حتى شق عليهم الحصار وأجهدهم وأصابهم الرعب والخوف من المسلمين .
في هذه الظروف عرض عليهم زعيمهم كعب بن الأشرف ذلك الغدار الماكر الذي نقض كل العهود المتفق عليها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليهم ثلاثة حلول إما أن يدخلوا في الإسلام واما أن يقوموا بقتل ذراريهم ونسائهم بأنفسهم ثم يقاتلون المسلمين حتى الموت واما تبييت المسلمين ليلة السبت فان المسلمين قد أمنوا منهم فأبوا كل ذلك وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم أحد أصحابه وهو أبو لبابه وكان حليفا لهم في الجاهلية …
عندما جاءهم أبو لبابة قام إليه اليهود متوسلين وقدم إليه النساء والصبيان يبكون فرقّ لهم وقالوا له يا أبا لبابة (( أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ وكانوا لايعرفون نية الرسول صلى الله عليه وسلم )) ولذلك أجابهم أبو لبابة على سؤالهم بإشارة من يده إلى حلقه موضحا لهم انه الذبح إن هم رضوا بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم . وهنا أدرك أبو لبابة انه قد خان الرسالة وأفشى سرا من الأسرار العسكرية فندم بعد أن شعر انه تعدى حدوده وانطلق هائما على وجهه وربط نفسه إلى أحد أعمدة المسجد وقال لا ابرح حتى يتوب الله علي مما صنعت وظل في مكانه حتى نزلت توبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقه بيده الشريفة . لم يهدأ اليهود في حصون بني قريظة فأرسلوا أحدهم وهو شاس بن قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عليه أن ينزلوا على ما نزل عليه بنو النضير من ترك الأموال والخروج بالنساء والصبيان وما حملت الإبل إلا الحلقة … فرفض الرسول صلى الله عليه وسلم وتقرر بعد ذلك أن ينزل بنو قريظة على حكم رسول الله عندها قال الاوس : يا رسول الله إن بني قريظة هم موالينا .. وكانوا حلفائهم قبل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا ترضون يا معشر الاوس أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا بلى . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذلك سعد بن معاذ ، وكان سعد مصابا يداوى من جرح بليغ أصابه في غزوة الخندق فاقبلوا عليه يقولون : يا أبا عمر احسن في مواليك فإنما رسول الله ولاك لتحسن فيهم …. فأجابهم : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم …. وهنا اعتدل سعد رضي الله عنه واصدر الحكم الوحيد الذي أجراه الله على لسانه ولقد كان حكما عادلا أشفى صدور المؤمنين الذين عانوا من غدر اليهود …(/1)
وأشفى صدور المؤمنين الذين سيأتون من بعد سعد والى أن تقوم الساعة لقد حكم فيهم سعد بان تقتل الرجال ، وتقسم الأموال ، وتسبى الذراري والنساء . وهنا قال له الرسول صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة ارقعة ( سماوات ) ثم جيء بهم في بيت بنت الحارث وتم حبسهم هناك إلي أن يحين تنفيذ حكم الله فيهم فحفر لهم خندق ثم أمر بهم فضربت أعناقهم في تلك الخندق وقتل معهم يومئذ عدو الله حيي بن اخطب وهو والد أم المؤمنين صفية بنت حيي التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم . قتل من رجال بني قريظة عدد يتراوح بين الستمائة والسبعمائة وقتلت من نسائهم امرأة واحدة وذلك لأنها قتلت أحد المسلمين بطرح رحى عليه واسمه خلاد بن سويد ، وكان ممن وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من السبي ريحانة بنت عمرو ولم تزل في ملكه حتى مات . وكان نصر الله عظيما . لقد انزل الله القصاص العادل باليهود جزاء لهم على خيانتهم العهود وخاب ظن المنافقين الذين انكشف أمرهم في قوله تعالى (( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا )) الآية 12 من سورة الأحزاب بل وعدهم الكاذب وعهدهم المنقوض ووعد الله ورسوله هو الصادق . وفي نهاية ذلك اليوم مات سعد بن معاذ شهيدا متأثرا بجراحه من غزوة الخندق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ ))(/2)
غزوة بني قينقاع
في فرحة المسلمين بانتصارهم في بدر ، لم يستح أولئك اليهود أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يغرنك انك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ، أما والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس !! )) وقد نزل الوحي ينذر هؤلاء بسوء المنقلب : (( قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله ، وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين ، والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار )) كان اليهود في المدينة يلعبون لعبة خطرة بين قبيلتي الاوس والخزرج ، أهم قبائل المدينة ، وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوة مباركة أيدها الأنصار الذين بايعوه في بيعتي العقبة الأولى والثانية . وكان أول عمل قام به عليه الصلاة والسلام بعد دخوله المدينة هو المؤاخاة بين قبيلتي الاوس والخزرج ووضع حدا للصراع الذي كان بينهما ، فعاشت المدينة في سلم وأمان مطمئنين تحت راية الإسلام
واليهود كانوا مجموعة من الطوائف أغناهم بنو قينقاع ، لأنهم كانوا يشتغلون في صناعة الحلي والذهب والفضة ، وكانت أماكنهم التي يعيشون فيها محصنة ، وهم بطبيعة الحال لا يحملون خيرا في أنفسهم للمسلمين ، بل يحقدون عليهم ، فنزل في ذلك قرآنا يصف موقفهم هذا . قال تعالى : (( قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر )) . وكان سبب الغزوة لما حدث لتلك المرأة المسلمة زوج أحد المسلمين الأنصار ، التي كانت في السوق فقصدت أحد الصاغة اليهود لشراء حلي لها ، وأثناء وجودها في محل ذلك الصائغ اليهودي ، حاول بعض المستهترين من شباب اليهود رفع حجابها ن والحديث إليها ، فتمنعت ونهرته . فقام صاحب المحل الصائغ اليهودي بربط طرف ثوبها وعقده إلى ظهرها ، فلما وقفت ارتفع ثوبها وانكشفت مؤخرتها . فاخذ اليهود يضحكون منها ويتندرون عليها فصاحت تستنجد من يعينها عليهم . فتقدم رجل مسلم شهم رأى ما حدث لها ، فهجم على اليهودي فقتله ، ولما حاول منعهم عنها وإخراجها من بينهم تكاثر عليه اليهود وقتلوه .(/1)
وثار المسلمون لمقتل صاحبهم ونقض اليهود حلفهم مع الرسول ، وتظاهروا لقتال المسلمين ، وكانوا أول يهود ينقضون عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . لقد حاولوا هتك عرض امرأة مسلمة شريفة ، وقتلوا مسلما ثار لشرف المسلمة ، وهاهم يستعدون لقتال المسلمين ، وهذا شأنهم في كل العصور . ولما تنافر الفريقان واستنفر كل منهم أصحابه وأعوانه وصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فغضب عليه الصلاة والسلام اشد الغضب وقال (( ما على هذا أقررناهم )) ولما علم المسلمون بهذا الخبر هبوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لتأديب هؤلاء القوم وإخراجهم من بلدة طيبة التي يسكنها افضل خلق الله وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ، لقتال هؤلاء القوم الذين خانوا عهدهم معه ، طاعة لأمر الله تعالى الذي أعطاه الحق في ذلك من خلال الآية الكريمة التي تقول : (( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين )) . ولما أحسوا بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم ، احتموا في حصونهم المنيعة في انتظار مجيء المسلمين ، فارسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنذارا بالخروج من حصونهم ، وإلا قضي عليهم جميعا ، فجاء ردهم فيه من الفجور أكثر مما فيه من عدم التبصر بما سيحدث لهم من جراء ذلك .عند ذلك استعد الرسول واعد جنده للقتال .. فحمل لواء المسلمين حمزة بن عبد المطلب وتم حصار الحصون وكرر الرسول صلى الله عليه وسلم الإنذار مرة أخرى , فجعلوا يساومون الرسول صلى الله عليه وسلم ويراوغون علهم يجدون فرصة للانقضاض على المسلمين ، لكنهم في آخر الأمر اضطروا للاستسلام والنزول عند رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم . وجاء عبد الله بن أبي بن سلول الذي يميل إليهم ويعتبرهم قومه وخاصته . جاء الى الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا له : يا محمد احسن موالي ( أي أصحابه ) . ولما أبطأ الرسول صلى الله عليه وسلم عليه بالجواب ادخل يده في جيب درع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتمادى في طلبه ، واثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أغضبه ، وقال له : اتركني ، ولكن عدو الله قال له : أتقتل أربعمائة حاسر ، وثلاثمائة دارع ( يلبس الدرع ) قد منعوني وحموني من الأحمر والأسود أي العجم والعرب … وتحصدهم في غداة واحدة . فلما ضاق به الرسول صلى الله عليه وسلم نهره قائلا : (( هم لك … خذهم لا بارك الله فيهم …. )) وتبرأ عبادة بن الصامت من عبد الله بن أبي بن سلول وكان هو أيضا حليفهم فنزلت الآية الكريمة : ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فانه منهم ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين )) : وخرجوا من المدينة مذلولين بدون سلاح وعتاد ، واستولى المسلمون على أموالهم وعتادهم وقسم الرسول صلى الله عليه وسلم أموالهم بين المسلمين أخماسا ، واخذ له الخمس ، لينفقه على الفقراء والمحتاجين . وهكذا خرجوا إلى بلاد الشام تاركين خلفهم الأرض الطيبة التي أرادوا أن يدنسوها بخيانتهم ولم يكن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عبثا فقد هلكوا جميعا في بلاد الشام خلال فترة وجيزة . انهم اليهود أهل الغدر والخيانة أخزاهم الله في الدنيا والآخرة .(/2)
غزوة حمراء الأسد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ?[ آل عمران : 102] ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا? [النساء: 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
في أوقات الشدائد والأزمات، يحتاج المؤمن إلى الصبر والثبات والأخذ بالأسباب وصدق التوكل في الاعتماد على الله عز وجل، والاستجابة لأمره وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن ذلك من أعظم الأسلحة التي يستطيع أن يواجه بها المؤمن انتفاخات الباطل وأراجيفه، ولقد أثنى الله على المؤمنين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين أصيبوا بالجراحات المؤلمة في غزوة أحد، نتيجة للتفريط ومخالفة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن لم تلن لهم قناة واستجابوا لطلب رسول الله حيث دعاهم لملاحقة الكفار ، وذلك أن المشركين لما انصرفوا من أُحُد أذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الثاني يستنفر أصحابه في طلبهم، وقال لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر معنا بالأمس، فسار معه مائتا رجل بعضهم متألم من الجراح، ولكن تجلداً لصدقهم في متابعة رسول الله حتى كان فيهم من يحمل أخاه بسبب الجراح استجابة لطلب رسول الله ، فخرجوا حتى وصلوا حمراء الأسد، فأقاموا ثلاثة أيام ومر برسول الله معبد الخزاعي وكان مشركاً، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم في حلف رسول الله ناصحين له.
فقال: يا محمد، أما والله لقد عز علينا ما أصابك، ولوددنا أن الله عافاك فيهم ، وتابع معبد طريقه حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: ما حققنا شيئاً حيث كان الهدف استئصال الرسول وأصحابه، فلما رأى أبو سفيان معبد قال: ما وراءك يا معبد؟ قال محمد قد خرج في أصحابه في جمع لم أرَ مثله قط، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أرَ مثله قط، قال: ويحك ما تقول. قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل، فثنى ذلك أبا سفيان عن عزمه وفترت همته.
ومر بأبي سفيان ركب من عبد قيس فقال: أين تريدون ، قالوا: نريد المدينة، قال : ولم؟ قالوا: نريد الميرة، قال : فهل أنتم مبلغون محمداً رسالة، وأحمل لكم إبلكم هذه زبيباً بعكاظ، قالوا: نعم، قال أخبروه أنا أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لاستئصالهم، فمر الركب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل.
قال الله عز وجل في هذه الأحداث: ? الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ?[آل عمران:172-174].(/1)
قال الله عز وجل في هذه الأحداث: ? الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ?[آل عمران:172-174].فلم يبالوا بإرجاف المشركين وذلك لقوة إيمانهم ويقينهم بالله رب العالمين ، لقد استهانوا بجميع الآلام واسترخصوا النفوس في حب الله ورسوله وطاعتهما وكان تطلعهم إلى الشهادة أوقر في نفوسهم من حب المال والحياة، فربط الله على قلوبهم وحفهم برعايته وعنايته من أعدائهم، بفضله ورحمته حتى انقلبوا ولم يمسسهم شيء ، إنه الإيمان الذي يوجد الشجاعة ، ويفجر الطاقات الكامنة : ? الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ?[آل عمران:173].
إن تجمع الكفار وإرجافهم لا يزيد المؤمنين إلا إيماناً وتسليماً في كل زمان ومكان.
لقد انهزم المسلمون في أُحد من قبل المشركين لحكم أرادها الله عز وجل، وقد جرت العادة بأن الغالب يزداد قوة وشدة، وأن قلب المغلوب ينكسر ويضعف ويحزن ، ولكن الله سبحانه قلب القضية رأساً على عقب ، أودع قلوب الغالبين وهم الكفار المشركون الخوف والرعب والقلق ، قال تعالى: ? سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ?[آل عمران:151]. إنه وعد مؤكد من الله الجليل القادر القاهر، بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، وذلك كفيل بهزيمتهم ونصر المؤمنين عليهم.
وهذا الوعد الكريم قائم في كل معركة يلتقي فيها الكفر بالإيمان. فما من معركة يلقى فيها الذين كفروا الذين آمنوا حتى يخافوهم ويتحرك الرعب الملقى من الله في قلوبهم، ولكن المهم أن توجد حقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين ، حقيقة التوكل على الله وحده، والثقة بوعده، والتجرد من كل شك في أن جند الله هم الغالبون. وأن الذين كفروا غير معجزين في الأرض ولا سابقين لله عز وجل لابد من التعامل مع وعد الله هذا مهما تكن ظواهر الأمور تخالفه وتعارضه.
إنه الخوف والرعب يلقيه الله في قلوب الذين كفروا دائماً وأبداً ذلك لأنهم لا يستندون إلا إلى ضعف وعجز وخواء، وإنا لنجد مصداق هذا الوعد ونراه بأم أعيننا مرات ومرات، فكم من مرة يقف الباطل مدججاً بالسلاح أمام الحق الأعزل. ومع ذلك كان الباطل يحتشد احتشاد الخائف المرعوب ، ويرتجف من كل حركة وصوت.
ها هي أعظم قوة مادية تهاجم أفقر شعب .. ثم قارنوا بين خوف الأقوياء وخوف الضعفاء . مثلان بارزان اليوم في فلسطين وأفغانستان. الذين يمتلكون وسائل القتل والدمار من رعب شديد وخوف وهلع من شعوب لا تملك من المقومات المادية شيئاً سوى إيمانها بالحق ودفاعها عنه. والكفار في غاية الرعب والهلع من المسلمين، هذا ومعظم المسلمين سيما زعماؤهم يغطون في سبات عميق، فكيف إذا نهض المسلمون وهاجموا الكفر والظلم والطغيان وحملوا راية الجهاد.
إن من خصائص نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - التي أكرمه الله بها وجعلها له ولأمته أن نصر بالرعب مسيرة شهر يقذفه الله في قلوب الأعداء، فهو سلاح فتاك مدمر غير أنه لا يناله إلا من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً.(/2)
لا ينال هذا السلاح ، سلاح إلقاء الرعب والخوف في قلوب الكفار إلا من كان على مثل ما كان عليه النبي وأصحابه: ? الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ?[آل عمران:173].فإن هذا القول مطابق لما وقر في قلوبهم من زيادة الإيمان والاعتماد على الله، ولذلك قالوا: ? حَسْبُنَا اللّهُ ? يعني كافينا شر أعدائنا وكل ما يتطلبه واقع حياتنا، فنحن مطمئنون إلى إنجاز وعده بكل صدق ويقين وهو ? َنِعْمَ الْوَكِيلُ ? الكافي لنا في كل مهمة ، لقد أودع الله تلك القلوب وهي مغلوبة في أُحد أودع فيها القوة والحمية والصلابة والبسالة المنقطعة النظير، وهذا يدل على أن البواعث والصوارف من الله، وأنه مقلب القلوب، فيجب على المؤمنين اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصدقوا في التوكل على الله والاعتماد عليه ويبذلوا ما في وسعهم لمجاهدة أعداء الله، وإذا ادلهمت عليهم الخطوب وكثرت أراجيف الأعداء فليقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. فهي كلمة عظيمة ينبغي النطق بها في الشدائد والمهمات.
أخرج الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل ، قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار ، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا(إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)).
إن الخوف من الأعداء سببه الهزيمة النفسية وسبب قابليتها للذل والخذلان، ولقد رأينا كيف عالج رسول الله نفسيات الصحابة بعد وقعة أحد حيث خرج وأمرهم بالخروج لملاحقة الكفار، ليمحو ما في ضمائر أصحابه من الشعور بالهزيمة، وإنعاش لها بالنصر الحسي والمعنوي، وعلاج روحي عظيم نافع لآلام جراحاتهم. وأودع في قلوبهم أن ما أصابهم هو امتحان وتجربة، وأنه ليس نهاية المطاف، وإشعار لهم بضعف أعدائهم، حتى تتجدد فيهم القوة والروح المعنوية ، ويعلموا أن ما أصابهم لا يعود ، وسيكونون هم المنصورين دائماً بإذن الله وعونه وتوفيقه، إذا حققوا مقتضيات الإيمان دون قصور أو خلل مع بذل طاقاتهم في سبيل الدعوة والجهاد وحمل راية الإيمان والتوحيد، وإنهم وإن عاقبهم الله على أخطائهم، فإن عقوبته تكون خير وبركة إذ فيها الدروس والعظات والعبر ومعرفة سنن النصر والهزيمة، ولقد جعل الله وقاية لعباده من الهزيمة النفسية حيث وضح لهم أسباب الخوف ليعرفوها ويبتعدوا عنها غاية البعد فقد أبان سبحانه لنا بأن مصدر الخوف هو الشيطان فقال سبحانه: ?إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ?[آل عمران:175].
بين الله سبب الخوف وعلة الهلع والفزع والجبن، وأن الشيطان هو الذي يجند أولياءه من الإنس للتخذيل والإرجاف، وإثارة الرعب تارة، وإنزاله عبر برامج وفلسفات شيطانية وخطط إعلامية مضللة تارة أخرى، والغرض من ذلك هو التخويف من الكفار والمنافقين، بتضخيم شأنهم وإلباسهم لباس القوة في العدة والعدد، ويلقوا في روع الناس بأنهم لا يهزمون إلى غير ذلك من أنواع التخويف والإرهاب، وكل ذلك من فعل الشيطان وأولياءه، لأن خططهم وأهدافهم لا تنفذ ولا تتحقق إلا في ظل تضخم الشر وصولة الباطل، ولهذا فإن الله سبحانه ينهي المؤمنين من أن يساورهم شيء من الخوف من أولياء الشيطان ، فإن من يعرف الله ثم يخاف أولئك الشياطين ليس بمؤمن ، لقوله تعالى: ? فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ?[آل عمران:175]. فالخوف منهم مناف للإيمان. فيجب على المؤمنين أن لا يخافوا الكفار، وأن لا يعظم أمرهم عندهم مهما بلغوا من الكثرة والقوة، فإن القوة لله، فما علينا إلا أن نطيع الله حق الطاعة ونطيع رسوله، ونلجأ إليه سبحانه ، ونستقيم على أمره. إن فعلنا ذلك فإنه سبحانه متكفل لنا بالنصر والظفر .. فإن تخويفات الشيطان لا تؤثر إلا على أولياءه من المنافقين وفاقدي الإيمان.
فالخوف محصور فيهم لا يصل إلى المؤمنين الصادقين أبداً ، إن معظم المسلمين اليوم يعيشون غثائية متكررة، يسيطر عليها الجبن والخوف والهلع، إن المنافقين والذين في قلوبهم مرض يسارعون في الكفار يخشونهم والله أحق أن يخشوه، حتى في حالات حصول شيء من النصر على أيدي المؤمنين يسعون بكل قوة لإيقاف تلك الانتصارات رضوخاً إلى تخويف الشيطان وأولياءه من شياطين الإنس. إنهم يجندون أنفسهم مع الكفار لتنفيذ سياساتهم وتطبيق مخططاتهم وإن كانت ضدهم وضد مصالحهم ، لكنه الخوف من غير الله الذي يسوقهم إلى الكارثة والدمار. وحجة المنافقين دائماً وأبداً هي قولهم نخشى أن تصيبنا دائرة. إنَّ خُلُو قلوبهم من الإيمان بالله وعدم معرفتهم بعظمة الله جعلهم يتخبطون كالذي يتخبطه الشيطان من المس.(/3)
أيها المؤمنون لا علاج لهذه الأمراض، أمراض الوهن والخوف والغثائية إلا بالإيمان والإعداد ومقارعة الأعداء، مع اعتماد القلب على الله عز وجل والركون إليه وصدق التوكل عليه، وإذا كان التوكل على الله مطلوب في كل وقت وحين وفي كل المجالات في حياتنا ، إلا أنه يتعين في مواطن كثيرة أمر الله بها ورسوله والمؤمنين:
- أمرنا أن نتوكل عليه إن أردنا النصر والفرج فقال: ? إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ?[آل عمران: 160]
- وإذا أعرضنا على الأعداء فليكن التوكل على الله هو رفيقنا ? ... فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ?[النساء: 81]
- وإذا أعرض عنا الخلق وخذلونا فلنعتمد على الله عز وجل، ? فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ...? [التوبة: 129]
- وإذا نزلت قوافل القضاء والقدر فلنستقبلها بصدر رحب متوكلين على الله تعالى: ? قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ?[التوبة: 51]
- إذا خشينا بأس أعداء الله ووسوسة الشيطان فلا نلتجئ إلا إلى باب الله ? إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ?[ النحل: 99]
- إذا أيقنا أن الله هو الواحد القادر على كل شيء فلا يكن اتكالنا واعتمادنا إلا عليه جل وعلا: ? ... قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ?[ الرعد: 30].(/4)
غزوة خيبر ( المحرم ، السنة 7 هـ )
كانت خيبر وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على مسافة ثمانين ميلا إلى الشمال من المدينة ، وقد كانت أرضا طيبة ذات نخيل رطب ومياه عذبة جارية حتى قيل أن بها لليهود فقط في ذلك الحين أربعمائة نخلة . فقد كان يهود خيبر من أقوى اليهود بأسا في شبه الجزيرة العربية وحصونهم كثيرة ومنيعة فوق الصخور والجبال ، فلم يأمنهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأنه بإمكان الروم والفرس الاستعانة بهم للقضاء على المسلمين ، وأصبحت خيبر أكثر المناطق عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في المدينة ، فقد احتمى بها معظم اليهود الذين أجلاهم المسلمون عن المدينة وما جاورها ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى في خيبر أنها من أكبر العقبات الرئيسية التي تواجه الدعوة الإسلامية
وذلك بعدما تبين صعوبة تعايش المسلمين مع اليهود لكثرة خيانتهم وغدرهم ونقضهم العهود ، فلم يكن بد من القضاء على هذا الخطر الداهم ، فهؤلاء اليهود هم الذين تسببوا في غزوة الأحزاب ، والذين بدءوا يدبرون المؤامرات الدنيئة للهجوم على المدينة بعد أن فشلوا في غزوة الأحزاب ، ولذلك جهز الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه وأعد العدة للزحف على يهود خيبر ووادي القرى وفدك وتيماء ، وهكذا انطلق الرسول ومعه ألف وستمائة مقاتل ومائة فارس ممن كان راغبا في الجهاد في سرية تامة في محرم سنة 7 هـ / 629 م فوصل خيبر بعد ثلاثة أيام حيث فاجأ مزارعي خيبر وهم خارجون من المزارع عند الصبح ، فولوا هاربين داخل حصونهم . ونزل المسلمون في وادي الرجيع بين خيبر وأرض غطفان لمنع إمداد غطفان التي تحركت لمساعدة يهود خيبر ، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم بإرسال بعض قواته للإغارة على منازل غطفان التي عادت أدراجها لتحمي أهلها ومالها . وكان اليهود بزعامة سلام بن مشكم وقد قسموا خيبر إلى ثلاث مناطق حصينة تتألف كل منها من بضعة حصون ، الأولى نطاة ومن حصونها الصعب بن معاذ وناعم والزبير وقد جعلوها مركزا للمقاتلين والذخائر ، والثانية الكتيبة ومن حصونها القموص والوطيح والسلالم ووضعوا فيها النساء والأطفال والأموال ، والثالثة الشق ومن حصونه أبي والنزار .بدأ القتال في نطاة ، وكان سلام بن مشكم مريضا فتوفي ليخلفه الحارث بن أبي زينب الذي قتل وهو يدافع عن حصن ناعم أول حصن سقط بيد المسلمين ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بقطع أربعمائة من نخيل اليهود ليدخل الرعب في نفوسهم ، وكانت حصون خيبر تسقط بعد قتال عنيف مستميت من الطرفين . ثم سقط حصن الصعب بن معاذ ، فتراجع اليهود إلى حصن الزبير وكان منيعا فلجا المسلمون إلى قطع المياه عنه بعد أن دلهم رجل يهودي على ذلك ، فشق على اليهود الأمر فخرجوا للقتال ثم ولوا الأدبار نحو منطقة الشق ثم اتجه المسلمون نحو الشق ودخلوا حصن أبي ، ثم أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بمحاصرة منطقة الكتيبة فدخلوا حصن القموص بعد حصار عشرين يوما .(/1)
وكان اليهود ينتقلون من حصن لآخر حتى استقروا في آخر حصنين منيعين وهما الوطيح والسلالم . وبعد حصار استمر أربعة عشر يوما أدركوا أن الهزيمة ستحل بهم فطلبوا حقن دمائهم على أن يقوموا برعاية الأرض التي كانت لهم مقابل نصف مردودها ، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم شرط أن يخرجهم المسلمون متى شاءوا. وقد خمس النبي صلى الله عليه وسلم غنائم خيبر ووزعها على المسلمين ، وكان من بين الغنائم التي غنمها المسلمون في خيبر صحائف متعددة من التوراة طلبها اليهود فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسليمها لهم ، في حين أحرق الرومان الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم عندما هزموا أورشليم سنة 70 م ، كما احرق المتعصبون من النصارى صحف التوراة أثناء حروب الاضطهاد في الأندلس . وكانت من بين السبايا صفية بنت حيي بن اخطب ، فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه وتزوجها بعد أن أسلمت واعتقها وجعل عتقها صداقها . وحاولت زينب بنت الحارث وهي زوجة سلام بن مشكم قتل النبي صلى الله عليه وسلم بان أهدته شاة مسمومة بتحريض من بعض قومها ، وقد لاك منها النبي صلى الله عليه وسلم مضغة فلم يستسغها ، وكان يرافقه البشر بن البراء فاساغها ومات مسموما من أكلها . وقد اعترفت زينب بفعلها لأنها أرادت أن تستريح من النبي صلى الله عليه وسلم إن كان كاذبا أما إن كان صادقا في نبوته فسيخبر بالأمر ، وقد عفى عنها ، وقيل أمر بقتلها فأطعموها من نفس لحم الشاة . عامل النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر معاملة حسنة تختلف عن معاملته لبني قينقاع وبني النضير وبني قريظة ، لان أراضي خيبر تحتاج إلى الأيدي العاملة في الزراعة ، وهو بحاجة للمسلمين في جيش الجهاد في سبيل الله تعالى . وبعد هذا الانتصار العظيم للمسلمين على يهود خيبر ، قبل يهود فدك في شمال خيبر بدفع نصف ممتلكاتهم للرسول صلى الله عليه وسلم دون قتال ، فكانت فدك خالصة للرسول صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان يصرف ما يأتيه منها إلى أبناء السبيل . أما يهود وادي القرى فامتنعوا وقاتلوا ، ثم استسلموا بعد أن قتل منهم أحد عشر رجلا ، فعوملوا مثل معاملة يهود خيبر حيث تركت الأرض والنخيل في أيديهم مقابل نصف المردود ، وخمس النبي صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين ، وكذلك حذا يهود تيماء حذو فدك ودفعوا الجزية . وهكذا بسط الرسول صلى الله عليه وسلم شريعة الإسلام ونفوذها على اليهود فتوجب عليهم دفع الجزية ، لأنهم أهل كتاب وهم من أهل الذمة، وتضعضعت شوكة اليهود وانكسرت ، بعد أن تلاشى نفوذهم السياسي والاقتصادي في شبه الجزيرة العربية .(/2)
غزوة ذات الرقاع ( السنة 4هـ )
لماذا سميت هذه الغزوة بغزوة ذات الرقاع ؟
لقد سميت هذه الغزوة بعدة أسماء منها غزوة بني ثعلبة نسبة لبني ثعلبة الذين خرج الرسول صلى الله عليه وسلم لقتالهم ، وكانوا قد نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغزة بني أنمار ، وغزوة صلاة الخوف ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى فيها صلاة الخوف ، وسميت غزوة الأعاجيب لما شاهد فيها المسلمون من مواقف أثارت العجب .. بأحداثها
لكن الذي يهمنا هو اسم ذات الرقاع ففي رواية البخاري : روى أبو موسى الأشعري ، وهو من الصحابة الاجلاء أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع ، قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة بيننا بعير نعتقبه ( أي نتبادل ركوبه ) فنقبت أقدامنا … ونقبت قدماي ( أي جرحت ، وسال الدم منها ) وسقطت أظفاري .. ( وكان ذلك من وعورة الأرض في هذا المكان ) .ويواصل أبو موسى حديثه فيقول : فكنا نلف على أرجلنا الخرق .. ولما كنا نعصب على أرجلنا الخرق … سميت ذات الرقاع من هذه الرواية نلاحظ معاناة المسلمين في سبيل رفع راية الإسلام ، فوعورة الأرض.. ومشقة السفر .. لم تمنعهم من ملاحقة أعداء الإسلام والجهاد في سبيل نشره . فقد كانت الأحجار تضرب في أقدام أبي موسى الأشعري وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وتسيل منها الدماء ويعصبونها بخرق من القماش .. لوقف النزيف منها وبينما موكب الرسول صلى الله عليه وسلم يسير نحو القبيلة إذ يفاجأ المسلمون بجمع غفير من غطفان ، (( فتقارب الفريقان ولم يكن بينهما حرب وخاف الناس بعضهم بعضا )) حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف . ومما رأى الناس في غزوة ذات الرقاع انهم حينما شاهدوا القوم مجتمعين وهم أهل غطفان تقارب الجمعان من خوف بعضهم بعض .. ظنا منهم أنها الحرب . لكن لم تكن هناك حرب ولا قتال . فرجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بصحابته في جمادى الأولى من نفس العام ، وكفاهم الله شر القتال(/1)
غزوة مؤتة تضحيات خالدة ومشاهد آسرة
&&توفيق علي
towfeekali@hotmail.com
رغم أن النبي { لم يشهدها إلا أنها سميت بالغزوة، لأهميتها في ترسيخ دعائم الدولة الإسلامية وبث هيبتها في نفوس المناوئين والمنافقين .. فقد صمد ثلاثة آلاف من المسلمين أمام مائتي ألف من الروم، وضرب القادة المسلمون والمجاهدون كذلك دروساً رائعة في الثبات والرجولة والتضحية فداءً ونصرة لهذا الدين.. إنها غزوة مؤتة التي وقعت أحداثها في العام الثامن للهجرة المباركة. ومن المهم أن نشير بداية إلى أن التربية النبوية كانت تتماشى مع التوجيهات القرآنية وتوجه القلوب والأنظار إلى الجنة.
فمن التوجيهات القرآنية: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على" تجارة تنجيكم من عذاب أليم (10) تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (11) يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم (12) وأخرى" تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين (13) .(الصف).
ومن التوجيهات النبوية: 1 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "انطلق رسول ص وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر وجاء المشركون، فقال رسول الله ص : قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، قال عمير بن الحمام: بخ. بخ، فقال: رسول الله ص: ما يحملك على قولك: بخ.بخ؟ فقال: لا والله يا رسول الله، إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها، قال: فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل"(1).
"إن فكرة الشهادة والأمل برضوان الله ودخول الجنة قد أثبت التاريخ أنها أقوى دافع في هذا الوجود للمواجهة والموت".(2)
وهذا ما ربى عليه رسول الله صحابته رضي الله عنهم أجمعين.
كانت غزوة مؤتة وقوادها الثلاث قد قدموا نماذج لحب الاستشهاد وحب الجنة والشوق إليها، وكأن يوم استشهادهم يوم عُرس لكل منهم، فلنقف مع هذه الغزوة وقفات سريعة:
الوقفة الأولى: سبب الغزوة
كان رسول الله { قد بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى عظيم بصرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر، فأوثقه رباطاً ثم قدمه فضرب عنقه.(3) لهذا السبب جيّش النبي جيشاً لغزو الروم.
إن الجماعة المسلمة لا بد أن ُتشعر الفرد بقيمته عند قيادته وأن الجيش كله ُمستعد أن يخوض معركة للثأر له، وأنه لا يجوز أن يذهب دم الشهيد هدراً.
وعلى الجنود أن يعوا أن ذلك مرهون بإمكانات الجماعة المسلمة؛ لأن رسول الله ص في مراحل الضعف كان يمر على آل ياسر ويقول لهم: صبراً فإن موعدكم الجنة، ومأساة بئر معونة التي راح فيها سبعون من خيار المسلمين لم يتمكن رسول الله ص من الثأر لهم.
الوقفة الثانية: وصية رسول الله للجيش المسلم
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير قال: "بعث رسول الله ص المسلمين إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان، واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس، فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج. وهم ثلاثة آلاف، فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله وسلموا عليهم. فلما ودعوا عبدالله بن رواحة بكى. فقالوا: ما يبكيك يابن رواحة؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم. ولكني سمعت رسول الله ص يقرأ آية من كتاب الله عز وجل يذكر فيها النار وإن منكم إلا واردها كان على" ربك حتما مقضيا 71 (مريم). فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود! فقال المسلمون: صحبكم الله وردكم إلينا صالحين. فقال ابن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة
وضربة ذات قرع تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة
بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي
يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
وشيعهم رسول الله ص إلى ثنية الوداع، ثم وقف وهم حوله وقال: أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيراً، اغزوا في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً... وستجدون رجالاً في الصوامع معتزلين الناس فلا تتعرضوا لهم، وستجدون آخرين في رؤوسهم مفاحص المقصود عشعشة الشيطان بالكفر في رؤوسهم فاقلعوها بالسيوف. لا تقتُلن امرأة ولا صغيراً ولا كبيراً فانياً ولا تغرُقن نخلاً ولا تقلعن شجراً ولا تهدموا بيتاً(4).
الوقفة الثالثة: كيف واجه القادة عوامل الضعف النفسي؟(/1)
1 لما رأى المؤمنون جيش الروم خشوا من خوض هذه المغامرة "مائتا ألف من الروم مقابل ثلاثة آلاف من المؤمنين"، وهنا انطلق القائد الشاعر بن رواحة قائلاً: "والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة".
هكذا تكون القيادة المؤمنة مقدمة إذا تأخر الناس، ثابتة إذا تزعزع الناس، قوية إذا ضعف الناس، منتصرة إذا انهزم الناس... فالناس يموتون أما هم فيستشهدون.
2 خلجات النفس: فهذا بن رواحة رضي الله عنه راح يبرز خلجات نفسه بعد استشهاد القائد الثاني (جعفر بن أبي طالب) ويقول في شعره:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلنه أو لتكرهنه
قد طال ما قد كنت مطمئنة
مالي أراك تكرهين الجنة!
ثم تابع قائلاً:
يا نفس إلا تقتلي تموتي
هذا حمام الموت قد لقيت
إن تفعلي فعلهما هديت
أو تعرضي عنهم فقد شقيت
وانخرط في القتال حتى قضى شهيداً في سبيل الله.
3 بعد استشهاد القادة الثلاثة، كاد أن يُباد الجيش، لولا أن قيض الله سبحانه وتعالى جندياً شجاعاً ومقاتلاً مغواراً، لم يأب القيادة نكوصاً عن الموت، بل شعوراً بوجود الأكفأ منه في الجماعة المسلمة وحمل الراية، هذا الجندي هو الصحابي ثابت بن أقرم، حيث صاح: يا للأنصار. فأتاه الناس من كل وجه وهم قليل وهو يقول: إلي أيها الناس، فلما نظر إلى خالد بن الوليد قال: خذ اللواء يا أبا سليمان! فقال: لا آخذه، أنت أحق به، أنت رجل لك سن، وقد شهدت بدراً قال ثابت: خذه أيها الرجل. فوالله ما أخذته إلا لك فأخذه خالد..".(5)
"ونظرة إلى قيادة الجيش نجدها بين مولى وسفير وشاعر، ليؤكد لنا أن طاقات الإسلام كلها في خدمة المعركة. وأن وقودها في حالة الخطر هو كل شباب الإسلام بكل طاقتهم وإمكاناتهم ومواهبهم، وتخصصاتهم. وليس هناك حد فاصل بين السياسي والجندي والقائد، فكل مسلم جندي في المعركة مهما علت مرتبته واختلفت وظيفته، فلا بد من تضافر جهود كل من العالم، العسكري، الإعلامي، المفكر، المصلح، المربي، المزارع، الطبيب، المهندس، الطفل، المرأة ثم توضع هذه الجهود في خندق واحد لتقضي على الباطل وأهله ويعود للأمة مجدها وعزها، ويكون لكل من هؤلاء شرف الجهاد والدفاع عن دين الله: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (آل عمران: 103).
الوقفة الرابعة: خالد بن الوليد (سيف الله المسلول)
إن السيرة تذكر أن الله سبحانه وتعالى وفق خالد بن الوليد وهزم الروم هزيمة منكرة، بعد أن استعمل حيلة حربية بارعة في فت عضد الروم بتغيير مواقع جيشه. حتى استحق رضي الله عنه أعلى وسام في الجيش الإسلامي لم ينله أحد بعده ولا أحد قبله، أعلنه رسول الله ص على المنبر. فقال: "وأخذ الراية سيف من سيوف الله سله الله تعالى على المشركين، جعل النصر على يديه".
إنها لقفزة هائلة في الميدان العسكري من جندي مغمور إلى قائد فذ قلده رسول الله ص هذا الوسام ومضى معه حتى لقي به العرب والفرس والروم، فقال له قائد جيش الروم في اليرموك: هل أنزل الله سيفاً من السماء فأعطاكه؛ فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟
على الجماعة المسلمة أن تتفحص في نفسها، وتبحث عن أفذاذ الرجال الذين يعدل واحد منهم الألف بل المائة ألف، والذين غُمِروا أو حالت الظروف دون بروزهم وظهورهم.
وصدق رسول الله ص: "إن الله يغرس لهذا الدين بكلتا يديه وكلتا يديه يمين سبحانه وتعالى".
الوقفة الخامسة: دور الإعلام الإسلامي ومعايشة الأحداث التي تمر بها الأمة
كان المسجد آلة الإعلام في العصر النبوي. لما التقى الناس بمؤتة جلس رسول الله ص على المنبر، فكُشف له ما بينه وبين الشام فهو ينظر إلى معركتهم فقال: أخذ الراية زيد ابن حارثة فجاء الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت وحبب إليه الدنيا فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تحبب إلي الدنيا! فمضى قدماً حتى استشهد، فصلى عليه رسول الله ص وقال: استغفروا له فقد دخل الجنة وهو شهيد، ولما قتل زيد أخذ الراية جعفر بن أبي طالب فجاءه الشيطان فكره إليه الموت ومناه الدنيا، فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين يمنيني الدنيا! ثم مضى قدماً حتى استشهد فصلى عليه رسول الله ص وقال: استغفروا لأخيكم فإنه شهيد دخل الجنة وهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث يشاء، ثم أخذ الراية عبدالله بن رواحة فاستشهد ثم دخل الجنة معترضاً فشق ذلك على الأنصار فقيل: يا رسول الله: ما اعترضه؟ لما أصابته الجراح نكل فعاتب نفسه فتشجع واستشهد ودخل الجنة، فسُري عن قومه.
وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل عن أبيه قال:
لما أخذ الراية خالد بن الوليد قال رسول الله ص:: الآن حمي الوطيس.(/2)
إن معايشة الأمة في أحداثها، يعتبر من أولويات التربية، ومعايشة الأمة للمعاني العظيمة مثل الاستشهاد في سبيل الله، والتربية على الشوق للجنة، وسؤال الله معالي الأمور كطلب الفردوس الأعلى، أيضاً من أولويات التربية في الوقت الحالي.
إن نقل الخبر الصادق، سواء عن طريق المنابر أو الإذاعات المرئية والمسموعة، والجرائد والمجلات يعتبر من أنواع الجهاد، بل يعتبر من قمة الجهاد إذا نُقل من أرض المعركة حيث الأخطار والأهوال الجسام، وحيث التعرض للقتل.
الوقفة السادسة: معايشة الأطفال أحداث الأمة
كان أطفال المدينة على من اليقظة والوعي يضاهئون به يقظة ووعي أبطال الأرض:
1 كانوا يقذفون الفصيل المنهزم بالحجارة ويقولون: أنتم الفرار، ولم يخفف من وطأة هذا الهجوم إلا قول رسول الله ص لهم: بل أنتم الكرارون إن شاء الله.
2 خرجوا يشتدون مع رسول الله يستقبلون الجيش المنتصر وعلى رأسه خالد ابن الوليد سيف الله المسلول.
إن وصل الناشئ المسلم بأمته وبعالمه الإسلامي ليس مجرد عمل يؤدى لذاته، وإنما هو عمل يجب أن يربى عليه الناشئ المسلم لغرس القيم التي لابد منها لكي يمارس حياته الإنسانية، قادراً على تحقيق السعادة في معاشه ومعاده، وهذه القيم هي:
1 الالتزام بأخلاق الإسلام.
2 الانتماء للإسلام.
3 الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين(6)
"إن الأمة التي تُحسن صناعة الموت، وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة، يهب لها الله الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة، وما الوهن الذي أذلنا إلا حب الدنيا وكراهية الموت.
فلنعدّ أنفسنا لعمل عظيم، ولنعمل للموتة الكريمة لنظفر بالسعادة الكاملة... رزقنا الله وإياكم كرامة الاستشهاد في سبيله... آمين.
الهوامش
(1) رواه مسلم .
(2) المنهج الحركي للسيرة النبوية، منير الغضبان، (3-98).
(3) الرحيق المختوم (435).
(4) إمتاع الأسماع (1-345,346)
(5) امتاع الأسماع (1-348).
(6) تربية الناشيء المسلم، د. علي عبدالحليم محمود، ص 470.(/3)
غزَّة وابن تيمية .. والنشيد الوطني الصهيوني !
08-7-2006
بقلم د. سعد بن مطر العتيبي
"...ثم رأى العالم بالصوت والصورة كيف يُجلب قوت الشعب للشعب تهريبا ، عبر منفذ بري حدودي وحيد بين غزة ومصر ، في معاطف وزراءَ في حكومة شرعية !..."
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه .. أما بعد .
1) فقبل ثمانية قرون تقريبا ، مرّ العلامة المحقق أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله بغزّة ، وعقد في جامعها (لعله العمري) مجلسا علميا كبيرا ، فتعلق أهل غزّة به ، وسأله أميرها المنصوري أن يضع له برنامج عمل سياسي إسلامي ، فأجابه ابن تيمية رحمه الله إلى ذلك ، وحرّر له مشروعا متكاملا في هذا الشأن ، كتبه في ليلة واحدة ، وقدمه له صلاة الفجر ، واشتهر وانتشر تحت مسمى : (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) ، وهو الكتاب القيم المعروف المشهور ، الذي لا تخلو منه مكتبة طالب علم .
تذكرت هذا العالِم وقصته ، وأنا أفكِّر في ذلك الثغر الذي يحمل رقما قياسيا في الكثافة السكانية على مستوى العالم مع صغر مساحته ، وقلَّة موارده ، ومحاصرة أهله .
2) وغزة تاريخ إسلامي عريق دونه الشيخ عثمان الطباع في : (إتحاف الأعزة في تاريخ غزة) ، .. وغزّة هي غزّة التي عرفناها من قبل في فتوحات الفاروق رضي الله عنه ، ومرت بنا في ترجمة الإمام محمد بن إدريس الشافعي الغزي ، أحد أئمة الفقه الأربعة ، تلميذ الإمام مالك ، وشيخ الإمام أحمد رحمهم الله .
وإنِّي لأتذكر غزّة بل فلسطين المحتلة كلّها ، كلّما قرأت أو سمعت أو تذكرت آخر سورة آل عمران ، لأنَّها جمعت خصالاً نراها رأي العين في الأسرة الفلسطينية الصابرة ، المصابرة ، المرابطة ، رجلا وطفلا وامرأة وعجوزا ... غزّة التي تكاد تتجاوز حدود المعقول في صمودها واستبسال أهلها وتضحياتهم ، بل تجاوزت حدود المألوف وقاربت تجاوز حدود المعقول ، حين نعلم أنَّ حوامل غزّة يساهمن في المقاومة بتبرعهن بنوع من الأحماض البولية الخاصة بالحوامل ، لأنها توفر لمصانع الأسلحة المحلية للمرابطين مواد أولية ليدافعوا بها عنهن !!
3) تذكرت غزّة وماضيها ، و تذكرت جميع الأراضي المحتلة في فلسطين والجولان ومزارع شبعا وغيرها ، ثم تذكرت دعوات التطبيع وما يصاحبها من جهد مأزور فيما يشبه التمهيد لتطبيع المسلم عقديا من خلال القدح الجائر والاعتداء السافر على مسلمات العقيدة الإسلامية ، ودلائل النصوص القرآنية القطعية ... تذكرت تلك الجهود الخاسرة التي يتبنّاها كتّاب الخَوَر المهين في عالمنا العربي ، ما بين قاصد و جاهل ومستغفَل ، للنيل من عقيدة الولاء للمؤمنين وكأنّما هو جهد في تذليل الصعوبات العقدية أمام الغزاة المحتلين والصهاينة الغاصبين ، بوعي أو دون وعي لحقيقة المعركة ، التي يجسدها علناً النشيدُ الوطني للكيان الصهيوني :
"طالما في القلب تكمن .. نفس يهودية تتوق .. وللأمام نحو الشرق .. عين تنظر إلى صهيون .. أملنا لم يضع بعد .. حلم عمره ألفا سنة .. أن نكون أمّة حرّة على أرضنا .. أرض صهيون والقدس .." .
أقول هذا ، لأنَّنا وجدنا من الكتاب العرب من يتعاطف مع جندي أسره مقاومون شرعيون على أرضهم - وهو الحق الذي تكفله قواعد القانون الدولي - تحت دعاوى الحرص على الفلسطينيين ، في حين أنني سمعت بعضهم من قبل يردد جملة : "إخواننا في فلسطين !! إخواننا في فلسطين !!" على سبيل السخرية .. مستهجنا تعاطفنا مع إخواننا المسلمين ، داعيا إلى التقوقع في ظل العولمة ونبذ الأممية زَعَم ، وعدم التدخل فيما وراء الحدود . فيا ترى هل يظن هؤلاء أنَّ الجندي اليهودي المأسور ، دون الحدود أو يعلمون أنه وراءها ؟
4) لقد كانت صناديق الاقتراع التي نادى بها دعاة الديمقراطية امتحانا صعبا لهم ، فبعد عدد من النتائج غير المرضية لهم في عدد من البلدان ، حاولوا تدجين الأمة إعلاميا ثم طالبوا بوضع الصناديق لها مرّة بعد مرّة ، وكان مكان اختبارهم الأخير للأمة ، هو أقسى مواقع معاناتها ، فتمَّت : انتخابات المجلس التشريعي في السلطة الفلسطينية ؛ وما إن ظهرت النتائج الأولية حتى تهامس الظلمة من الإفرنج ، فلم نلبث أن سمعنا صراخ (الشرعية الدولية وحقوق الإنسان) - التي طالما يطالبون خصومهم برعايتها ، في مثل حالة الصين وكوريا الشمالية - سمعناها تصرخ في فلسطين تحت أقدام واضعيها ، وتنتهك دون قدرتهم على تبرير منطقي لما يجري منهم تجاهها ، فحوصر الشعب الفلسطيني الذي كانوا يقدّمون صورة الحرص عليه في قالب (الديمقراطية) ، وبلغ الأمر بأدعياء الديمقراطية ، والمتباكين عل حقوق الإنسان ، أن يتآمروا على الشعب الفلسطيني في مناطق السلطة بمنعه من استلام أجرة عَرَق الجبين ، التي يشتري بها - وليس منها - حليب المولود ، وغذاء الطفل ، وقوت الإنسان .(/1)
لقد أزالت هذه الانتخابات ، بقايا أوراق التوت عن سوءات دعاة الشرق الأوسط الكبير ، وبصقت في وجوه المبشرين برغده وعدالته وتفوق حقوق الإنسان فيه . لم لا ؟ ألم ير الناس كيف حوصرت حكومةٌ منتخبة في انتخابات لم يشكك أحد في نزاهتها ، مع محاولاتٍ جرت لتدارك النتيجة ولو في اللحظة الأخيرة .
لقد شهد العالم كيف خلت - ولم تكن من قبل كذلك - خزينة المالية الفلسطينية قبيل تسليمها للحكومة المنتخبة بفواق ناقة ، وكأنَّ أموال الأمة وأرزاق الناس ، ومستحقات اليتامى محلّ عبث سياسي ... والإمعان في الحصار بمنع البنوك من التعامل مع الحكومة المنتخبة - التي حصلت على أصوات لم يحصل على مثلها المرشحون في أعرق الأحزاب السياسية الغربية - بعيد إعلان النتائج .
ثم رأى العالم بالصوت والصورة كيف يُجلب قوت الشعب للشعب تهريبا ، عبر منفذ بري حدودي وحيد بين غزة ومصر ، في معاطف وزراءَ في حكومة شرعية ! إنَّ هذا الظلم والجور والتعامل غير الحضاري - ذاته - ذكرني رسالة أبي العباس ابن تيمة رحمه الله إلى ملك قبرص التي يطالبه فيها بإطلاق سراح أسرى المسلمين ، ويحذره فيها من عقوبة الظلم وسنة الله في الظالمين دولا وأفرادا .
5) ظنّ الخصوم أنّ الأمة هزمت واستسلمت ، ولكن الوهم تبدّد ، ولنا في التاريخ معتبر ، فلقد تيقنوا فيما بعد أنَّهالم تمت وإنَّما كانت مسترخية ، وربما كان منها من أخذته سِنة من النوم ، تحت شعارات القومية العربية الزائفة ، والشعارات الثورية الفارغة ، في ظاهرة صوتية لخصتها للجيل الذي لم يشهدها ، تصريحات وزير الإعلام العراقي الذي غطّى غبارُ القصف آثار أقدامه قبل أن يغادر بغداد هاربا وهو يتحدّث عن الصدّ والصمود إلى آخر نطفة دم ... لقد رُكِلَت الأمة عام النكسة ، فاستيقظت وصحت ، واكتشفت سرّ هزيمتها الحديثة ثم سرّ نصرها القديم الذي قامت عليه دولتها الأولى وما تلاها من دول الإسلام ، وحتى هذه الأحقاب المتأخرة التي تحالف فيها الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله ، في دليل مادي ملموس على سبب النصر الإلهي ؛ ولعلّ هذا سرَّ التضايق من الصحوة ، ومن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ومن قبلهما ابن تيمة إيَّاه - رحمهم الله - وكأنَّ ظَلَمَة الإفرنج ومساندي المغتصب ، يستشرفون آثار تراث هؤلاء القادة وتجربتهم في مستقبل القضية .
إنَّ ظلمة الإفرنج ومن خُدِع بهم أو وافقهم من بني جلدتنا ، يريدون من الأمة أن تموت لا أن تغرق في النوم فقط ؛ ليسرحوا ويمرحوا خارج وحي الله ، في ليبرالية مخزية ، لا تعرف دينا ولو كان الإسلام ، ولا ثابتا ولو كان عقيدة التوحيد ، ولا أصلاً يقينياً منصوصا ولو كان الولاء في أواسط الحجرات والبراء في أواخر المجادِلة . وما علم هؤلاء أنَّ من النّوم نوماً كهفياً يصحو فيه المضطهدون على زغاريد النصر ومباهج الاحتفاء .
6) إنَّ من المؤسف أن نرى التطبيع الإعلامي في إعلام العرب والمسلمين يسابق التطبيع السياسي في ظل أجواء لا تسمح لذي حياء أن يتكلم . ولكن يا ترى ماذا يستطيع أن يقول دعاة التطبيع (الصلح الدائم الذي يتم بمقتضاه الدخول في جملة من الاتفاقات متنوعة الجوانب بما في ذلك الجانب الثقافي والاقتصادي والأمني وغيرها) مع هذا الكيان الصهيوني الغاصب المحتل ، الذي لم يحترم شيخا ولم يرحم طفلا ، ولم يقدر - ولو إنسانيا - وضع امرأة حامل ! ليضعها وجنينها في عنابر قذرة ، خلف قضبان ظالمة ، ومعاملة جائرة .. ما الذي يمكنهم قوله ، ولِمَ صَمَت بعضهم عن الحديث في الحدث ، وانكفأ بعضهم على إثارة قضايا داخلية محسومة شرعا ونظاما ، وفعل بعضهم الأسوأ بما تقدم ذكره .
7) وهنا لا يفوتني أن أهمس في آذان المخلصين من الدعاة والكتاب بأنَّنا يجب أن ندرك الفرق بين الصلح مع اليهود في فلسطين بالمعنى القانوني الدولي ، وبين ما قد يضطر إليه الإخوة في الحكومة الفلسطينية الحالية من الدخول في مفاوضات والوصول إلى اتفاق هدنة سواء كان ذلك في العاجل أو الآجل ، فلنفترض أنَّ الإخوة في القيادة الفلسطينية الحالية - وهم ما بين علماء و طلبة علم أو رادّون إليهم - سلكوا هذا المسلك ، فهل يسوغ التثريب عليهم ، فضلا عن تخوينهم والنيل منهم ؟ كلا فثمة فرق بين مسألة الصلح الدائم الذي أجمع العلماء على منعه العلماء السابقون ، واتفق على تجريمه في قضية فلسطين العلماء المعاصرون ، وبين عقد هدنة مؤقتة أو مطلقة في نظر مصلحي ممن يملك آلة الاجتهاد وتقدير المصلحة المرعية في الشرع .(/2)
وبسبب الخلط في فهم هذه المسألة ، غلط بعض الناس على شيخنا العلامة / عبد العزيز بن باز - رحمه الله - حين نسبوا إليه جواز الصلح مع اليهود بالمفهوم العرفي الدولي (الصلح المؤبّد) مع أنَّه قد أوضح ما عناه وبيّنه بقوله : "الصلح بين ولي أمر المسلمين في فلسطين وبين اليهود لا يقتضي تمليك اليهود لما تحت أيديهم تمليكا أبديا ، وإنما يقتضي ذلك تمليكهم تمليكا مؤقتا حتى تنتهي الهدنة المؤقتة ، أو يقوى المسلمون على إبعادهم عن ديار المسلمين بالقوة في الهدنة المطلقة" ( مجلة البحوث الإسلامية : العدد (48) ص : 13-132 ) .
8) قد يصاب بعض الناس من أهل الغيرة والحمية ، وخاصة الشباب بنوع من الإحباط أو اليأس وهم يشهدون هذا الحدث وأمثاله ، وحق لهم أن يتألموا .. ولكن ربما تصرف بعضهم تصرفاتٍ غير مشروعة ، لا يرجعون فيها لعالم معتبر ، ولا سياسي حاذق . ولهؤلاء يقال : السكينة السكينة .. يمكنكم أن تصنعوا شيئا في نصرة المسلمين بطرق مشروعة مرجوة النفع مأمونة العواقب ، إزاء ما يجري من حصار إخواننا في غزة على سبيل المثال .
وإذا ما استبعدنا استخدام جميع الوسائل القانونية المعترف بها في سبيل مطالبة العدو بالعدالة ، ومراعاة القوانين الإنسانية الموافقة للشرع ، على المستوى الرسمي والمؤسسي في العالم العربي والإسلامي - وهي أمور يفقهها أهل الشأن - فإنَّ بإمكاننا كأفراد أن نقوم بجهود نصرة شرعية قانونية مؤثِّرة إن شاء الله تعالى ، ولو لم يكن فوريا . وهذه بعض الأمثلة للوسائل المشروعة المتاحة أذكرها على سبيل التنبيه لا الحصر :
فالمثال الأول : الدعاء لإخواننا في غزّة والقنوت لنازلتهم ، وقد أفتى بذلك في هذه القضية بالذات سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ حفظه الله لكل من سأله ، واصفا ذلك بأنّه أيسر ما يمكننا تقديمه من نصرة . كيف وقد وجدنا في الأنباء أنَّ حاخامات يهود يدعون إلى الصلاة من أجل تحرير جندي ظالم ، ويقومون على أرض مطار غزة في محاولة لتثبيت الغزاة الغاصبين ، فما أهوننا إن لم نرفع أيدينا إلى الله عز وجل نطلب منه الغوث لأهلنا في غزة ، ونتضرع إليه طلبا للطفه سبحانه بالأجنة في بطون الحوامل ، والصغار في أحضان الأمهات ، والشيوخ في زنازين الصهاينة ، والمصابين والمرضى في عنابر المشافي وغرف الإنعاش .
والثاني : الكشف الإعلامي للحقائق المتعلقة بأسرانا في فلسطين ، أعداداً وأوضاعا ، وأحوالا ، فليزر من يروم نصرة إخوتنا في فلسطين - على سبيل المثال - مواقع الأسرى على الشبكة العالمية ، وليحكِ منها للناس بعض ما يجد من معاناة امرأة أو طفل أسير أو شيخ قد بلغ من الكبر عتيا ! أو مولود فلسطيني ولد أسيرا في عنابر السجون الصهيونية الظالمة ! فربما رقّ مؤمن فانتصر بالدعاء الذي قد لا يرد ، أو اطلع ذو مالٍ فاتقى الله في ماله وبذل ، أو قرأ خصم فارعوى ورجع ، أو بلغ من هو أوعى من قاريء . ومثله كشف الحقائق المتعلقة باللاجئين الذين يحل محلهم ظلما وعدوانا قطعان المستوطنين في المغتصبات الصهيونية الظالمة .
الثالث : إبراز كل ما يتعلق بجهود المقاطعة الشعبية وأسبابها المشروعة ، من خلال مواقع المقاطعة الشعبية للكيان الصهيوني على الشبكة العالمية وغيرها ، ومنها مواقع عديدة معروفة ومليئة بالحقائق الميدانية ، والمزيد من الأفكار العملية المشروعة التي تحتاج إلى مزيد تفعيل ، لتساهم في بقاء القضية الإسلامية حية في نفوس الأمة ، وتوعية الرأي العام العالمي بها من خلال عرض كل جديد وتوضيحه مدعما بالوثائق والأدلة . وعدم نسيان الحقائق المتعلقة بالجهود الصهيونية في محاولة هدم المسجد الأقصى ، وما يجري منهم تحته من أعمال حفر وتنقيب ، وخلخلة لمبانيه ، وامتهان لأرضه ، وتهديد بذلك على أيدي العصابات الصهيونية شديدة التطرف ، وكذا محاولاتهم السيئة في تغيير التركيبة السكانية في القدس المحتلة . الرابع : كشف خطوات التطبيع الظالم ، والإفادة في ذلك من إحصائيات المواقع الموثوقة التي أنشأتها المؤسسات الإسلامية والعربية في البلاد التي تضرر أهلها من التطبيع ، ولم يجنوا منه غير الفساد في الاقتصاد والزرع والنسل ، وتيسير الاختراق الصهيوني للبلاد العربية والإسلامية ومؤسساتها الحيوية المهمة .(/3)
ولنلق الضوء على خطوات التطبيع الإعلامي ، كترداد الأسماء والمصطلحات العبرية ، مثل : (حاجز إيريز) بدل معبر بيت حانون ؛ و(حائط المبكى) بدل حائط البراق ؛ و(إيلات) بدل أم الرشراش ، و(أشكيلون) بدل عسقلان ، و(تل أبيب) بدل تل الربيع .. و (الأراضي الفلسطينية) بدل فلسطين ، إقرارا ضمنيا بأنَّ ما تبقى حق ليهود ! و (إسرائيل) للإشارة للكيان اليهودي الصهيوني المحتل أو للأراضي المحتلة عام 1948م ، والإيحاء بأنَّ هذا الجزء المحتل صار حقاً ليهود ، لا يجوز حتى التفاوض عليه ، بخلاف الأراضي المحتلة عام 1967م فلا زالت تستحق أن يُتفاوض عليها !(ينظر للمزيد : مصطلحات يهودية احذروها - مركز بيت المقدس) .
الرابع : المساهمة في إيصال طلبات أُسَرِ الأسرى الفلسطينيين وما يعانيه المأسورون ، إلى منظمات حقوق الإنسان فإنَّ الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر كما في الصحيح ، ومطالبة هذه المنظمات بالمزيد من الجهود في سبيل إحسان معاملة الأسرى وإطلاق سراحهم ، بيانا للحقيقة ، ومحاولة في التأثير على الرأي العام العالمي ، وقطعا للطريق على تباكي الصهاينة أمامها واستعطافهم لها من خلال قضايا نادرة أو مختلقة أو مدعومة بحبل من الناس . وفي هذا مساندة للجهود الرسمية المخلصة ، كالذي جرى في مجلس حقوق الإنسان في الأيام الماضية القريبة ، حين تمكنت الدول العربية والإسلامية الأعضاء فيه من تمرير قرار يؤكد إعادة طرح موضوع الانتهاكات في الأراضي العربية المحتلة على المجلس في المستقبل ، وتنظيم دورة خاصة حول الموضوع ، من خلال التصويت الذي حسم الموقف بعد تباكي اليهود وأعوانهم ، وقد اعترفت سويسرا موطن اتفاقيات جنيف بانتهاك الكيان الصهيوني للقانون الإنساني بإنزال"عقاب جماعي" بالفلسطينيين في غزة ، مع أنها صوتت ضد القرار السابق .
هذه أمثلة لبعض الأمور التي يمكننا أن نقوم بها دون عناء بصورة مشروعة مأمونة . نسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين ، وأن يوفق ولاة أمور المسلمين للقيام بكل ما يطيقون من جهد في نصرة الحق وأهله ، ورفع الظلم عن إخواننا المسلمين في كل مكان .
مجاهد يقول...
لا زلنا ندور في حلقة مفرغة وسنظل ندور حتى يستبدلنا الله بقوم غيرنا ثم لا يكونوا مثلنا والله المستعان إذا كنا أعرضنا عن الحلول في كتاب ربنا وكلام نبينا فتبا لنا ثم تب لنا أي حلول نرجوها عند الكفار أو عند الحكومات الكافرة تلك الدويلات التي وضعتها بريطانيا وفرنسا وامريكا
إذا لم نزل ندندن على هذه الحلول تمرير قرار وشجب واستنكار والله أننا نرتع في الذل والهوان لكنها كلمة واحدة نقولها وليقولها العلماء الراقدين الغافلين وهي دعوة للجهاد في سبيل الله يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر واشتغلتم بالزرع وبالضيعة وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه أو لا يضعه حتى ترجعوا إلى دينكم
رواه أبو داود (3462)، وأحمد في المسند (2/84) عن ابن عمر، وذكره الألباني في الصحيحة (11).
ومن نظر إلى الحديث وجد الدواء الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم دين إنه الرجوع إلى الجهاد والقتال في سبيل الله والله إنني أرى من هذه الظلمات بعضها فوق بعض اقتناع المسلمين بالجهاد على حد قول الشاعر
السيف أصدق إنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعبِ
لبيك صوتاً زبطرياً هرقت له ...كأس الكرى ورضاب الخرّد العربِ
أجبته معلناً بالسيف منصلتاً ..
ولو أجبت بغير السيف لم تجبِ(/4)
غفلنا عن الكراع فطمعوا في الذراع !!!
حطين
ما أصدق هذا المثل على واقعنا اليوم .. فتنازلاتنا غير منتهية .. والمطلوب منا أن نركع .. بل وننبطح لهذه اللعينة أمريكا فمن ديمقراطيتها المقيتة المتمثلة باحتلال بلاد المسلمين بدعاوى أوهى من بيت العنكبوت ومعاملتها للأسرى المنطلقة من عقلية رعاة البقر السادية إلى تلك الأحذية الأمريكية الكثيرة في طول البلاد الإسلامية وعرضها من الخونة إلى إقحام نفسها في أخص خصوصياتنا " التعليم و المناهج ، الجمعيات الخيرية ، المراكز الصيفية ، الحلقات ، المرأة وقضاياها القرآن بنكهة أمريكية ، حقوق الإنسان ..."
وآخر هذه المهازل وليس لهم آخر حول اللغة العربية ، وحتى لا أطيل على قارئ هذه السطور المقال - فأنا على يقين أن به من الحنق والغيظ ما بي ..
وأن الضغط أوشك أن يولد الانفجار وعسى أن يكون قريبا - ..
أترككم مع هذا المقال والذي نُشر في مجلة الدعوة .. العدد 1955
ما أشبه الليلة بالبارحة !!
د. محمد سالم
عندما بدأت هجمة الاستعمار الغربي على الشرق الإسلامي مع بداية القرن الثامن عشر ،
بعد أن ضعف شأن العرب والمسلمين ..
أراد المستعمرون هدم كل عوامل تماسك العرب المسلمين وكان أهم هذه العوامل وحدة الدين واللغة ..
إلا أنهم أخفقوا في هدم وحدة الدين عند المسلمين رغم محاولاتهم المتتابعة وبمختلف الوسائل والإمكانيات..
أما عن محاولاتهم لهدم وحدة اللغة فقد ظهرت الدعوة في أواخر عام 1881م إلى كتابة العلوم باللغة العامية
التي يتكلمها الناس في حياتهم العامة ..
وفي عام 1902م ألف القاضي " ولمور " أحد القضاة الإنجليز في مصر كتاباً أسماه " لغة القاهرة"
اقترح فيه كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية ..
ولكن سرعان ما انتبه الناس لما جاء في الكتاب بعدما أشادت به مجلة " المقتطف " وراحت تروج لما جاء فيه ،
وردت الصحف المصرية على ذلك مشيرة إلى موضع الخطر من هذه الدعوة التي لا تقصد إلا محاربة الإسلام في لغته ..
وراح شاعر النيل حافظ إبراهيم يكتب قصيدته المشهورة التي يقول فيها متحدثا بلسان العربية :
رجعتُ لنفسي فاتهمتُ حصاتي وناديتُ قومي فاحتسبتُ حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني عقمتُ فلم أجزع لقول عداتي
ولدتُ ولمّا لم أجد لعرائسي رجالا وأكفاءً وأدتُ بناتي
وسعتُ كتاب الله لفظا وغايةً وما ضقتُ عن آيٍ به وعظاتِ
فكيف أضيقُ اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعاتِ
أيطربكم من جانب الغرب ناعبٌ ينادي بوأدي في ربيع حياتي
ولو تزجرون الطير يوما عرفتم بما تحته من عثرة وشتاتِ
أيهجرني قومي - عفا الله عنهم - إلى لغة لم تتصل برواةِ
سرت لوثةُ الإفرنج فيها كما سرى لعاب الأفاعي في مسيل فراتِ
ولاشك من أن حافظ إبراهيم نجح في التأثير على المستمع حين تحدث على لسان اللغة مصورا حالها وما وصل إليه مآبها، وما دبر لها من مؤامرات تؤدي إلى قتلها .
كذلك نجح في مناداة اللغة لأبنائها كي يتمسكوا بها ، وفي إقناعهم بقدرتها على الوفاء بكل متطلبات العصر ، وهي التي وسعت كتاب الله .
وفي عام 1926م دعا المهندس الانجليزي " وليم ولكوكس " إلى هجر اللغة العربية مشيرا إلى تركيا التي استبدلت بالحروف العربية الحروف اللاتينية بعد انهيار الخلافة العثمانية..
والغريب أن أحد أعضاء مجمع اللغة العربية في مصر التقط الخيط ، وراح يقترح في سنة 1943م
كتابة العربية بالحروف اللاتينية ..
ويتضح من ذلك أن المستعمرين منذ زمن وجدوا من هدم اللغة العربية هدماً لإحدى الدعائم المهمة من تماسك الشعوب العربية..وتمسكهم بدينهم الإسلامي، وأن من سار في ركب المستعمر كان ذلك تملقاً للمستعمر لمصلحة سياسية، وحقداً على كتاب الله ودينه..
وبعد أن سكتت تلك الدعوة زمنا ..
طالعتنا مؤخراً الإدارة الأمريكية بإعداد مشروع هدفه تغيير شكل حروف اللغة العربية واستبدال اللغة اللاتينية بها تحت مسمى تحديث الثقافة العربية.. واعتبار هذا المشروع جزءاً من خطة الإصلاح في المنطقة العربية..
ضمن إطار مشروع " الشرق الأوسط الكبير " ..
مقدمو المشروع - وهم عدد من الخبراء المختصين - يقولون :
إن الهدف من هذا المشروع هو تحقيق تفاهم أفضل، ولغة مشتركة بين اللغة العربية وغيرها من اللغات الأخرى.
ويرى المشروع الأمريكي أن " المشكلة ليست في أن يقرأ غير العربي النصوص والأفكار والكتابات العربية باللغة اللاتينية
ولكن الأساس في هذا المشروع هو أن يتحدث العرب هذه اللغة الجديدة ويطبقونها عملياً في كل كتاباتهم ..
حيث إن الهدف الرئيس من هذا المشروع هو أن يتم تطوير دراسة مادة اللغة العربية في كل المدارس العربية والإسلامية..
وأن يتم إلغاء المناهج القائمة حالياً في هذه المدارس التي تعتمد على دراسة قواعد اللغة والصور الجمالية وإبداعاتها والكلمات والنصوص المتشابهة مثل الشعر القديم الذي ينتهي بحروف واحدة ..(/1)
وأحياناً فإن مناهج التعليم لهذه اللغة تتضمن توجيهات ومبادئ دينية قد لا تتفق على بناء التواصل مع الآخرين من غير العرب.. " !!
فما أشبه الليلة بالبارحة ..!
ويبدو أن الأصدقاء الأمريكان لا يعلمون أن العربية تتميز عن اللاتينية بعنصر جوهري يدعها في مأمن من أن يجري عليها ما جرى على تلك ..
وذلك أن العربية لغة دين سماوي ذي خطر .. وبها كُتبت أصول هذا الدين تشريعاً وحكمة وثقافة..
وعلى رأس هذه الأصول : القرآن مُعْتمد المسلم ومرجعه في شؤونه الدينية وعقيدته الروحية ..
وقد قُدِّس نص القرآن كما أُنزل بالعربية الفصحى، فبقيت ملازمة له، تكاد تُقدَّس معه نصوصها..
ولمَّا كانت العقائد الدينية راسخة في القلوب، على الرغم مما يقال من أن تطور المدنية سيقضي على تأثير العقيدة، فإن العربية باقية بقاء الإسلام.. ...
___________
لقد أوكل الله لأهل الكتاب بحفظ كتبهم فضاعت .. وتكفل بحفظ كتابه فهو محفوظ بإذن الله ..
" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ "
ولكن ما هو دور أبناء العربية تجاه هذه الحملة على العربية لأجل فصلنا عن مصادر التشريع والحضارة والتاريخ ؟!!
http://www.anashed.net/audio/shakwa/tahon_al_7yah.rm
______________________
حول القرآن الأمريكي الجديد !!!
بقلم د. صلاح عبد الفتاح الخالدي
صار كثير من المسلمين المتابعين على علم بالقرآن الأمريكي الجديد «الفرقان الحق»، الذي ألفته لجنة أمريكية إسرائيلية، واعتمده أصحاب القرار في أمريكا، والذي يراد له أن يكون هو القرآن المعتمد في الدول العربية والإسلامية، في القرن الحادي والعشرين، ليحل محل القرآن الكريم، الذي أنزله الله الحكيم!
وقد صدر الجزء الأول من هذا القرآن الأمريكي في مطلع هذا العالم 2004 وينوون إصدار احد عشر جزءاً تباعاً، أي أن «الفرقان الحق» -كما أسموه- مكون من اثني عشر جزءاً .. وسيكتمل تأليفه خلال أربع سنوات، كما يخططون..
وهم يحاربون به القرآن الكريم، ويهاجمون سوره وآياته، وأحكامه ومبادئه وتشريعاته وتوجيهاته وأفكاره وحقائقه.. صدر الجزء الأول من «الفرقان الحق» في مطلع هذا العالم، عن دارين للنشر في أمريكا هما: واين برس، وأوميجا، ويباع في المكتبات المختلفة هناك كما يباع على الانترنت في موقع «أمازون»..
والكتاب مكون من (366) صفحة مقاس 15*20سم، وعدد سوره سبع وسبعون سورة ومن أسماء تلك السور: الفاتحة، المحبة، المسيح، الثالوث، المارقين، الصلب، الزنا، الماكرين، الرعاة، الإنجيل، الأساطير، الكافرين، التنزيل، التحريف، الجنة، الأضحى، العبس، الشهيد..!!
والكتاب مطبوع باللغة العربية واللغة الإنجليزية، وكتب مقدمته اثنان من أعضاء اللجنة المكلفة بتأليفه، رمز لهما باسمي «الصفي والمهدي» والذي سمى نفسه المهدي هو من اصل عربي فلسطيني، واسمه «الدكتور أنيس سوروس» وصرح باسمه الحقيقي في موقع «أمازون» على الانترنت. بعد يومين من أحداث (11 سبتمبر 2001) ألقى أنيس سوروس محاضرة حاقدة في جامعة «هيوستن» دعا فيها إلى إبادة المسلمين، لأن الإسلام دين إرهاب وسفك دماء وان القرآن هو المصدر الأول للإرهاب، وانه يجب القضاء على هذا القرآن للقضاء على الإرهاب! واقترح على الحكومة الأمريكية طرد أي مسلم من أمريكا، وتجميع كل المسلمين في منطقة الشرق الأوسط، ثم إبادتهم بالقنابل النووية، وطلب الدعاء إلى الله كل ليلة سبت لإزالة الإسلام والقرآن..وكانت محاضرته في الجامعة في غاية العنصرية والحقد والشتم، مما اضطر رئيس الجامعة إلى الاعتذار عنها في اليوم التالي!!
وتقوم المنظمات اليهودية الكثيرة في أمريكا بالترويج للفرقان الحق، ونشره وتوزيعه على مختلف المراكز هناك، وتوزيعه على مراكز مختارة منتقاة في العالم العربي والإسلامي، وإعطائه لشخصيات مختارة في هذا العالم، لكنهم لا يريدون نشره على مستوى واسع في العالم العربي والإسلامي في هذه المرحلة على الأقل!
وقد ذكر وليد رباح رئيس تحرير صوت العروبة، التي تصدر في أمريكا، حادثة جرت له في مطلع هذا العام، تتعلق بنشر ذلك «الفرقان الحق» حيث اتصل به أمريكي عرف على نفسه بأنه «القسيس الياهو»(!!)
- والياهو اسم يهودي وليس نصرانياً- وسلمه نسخة من «الفرقان الحق» وطلب منه نشر سوره على صفحات جريدته «صوت العروبة» مقابل مليونين من الدولارات، وهو مبلغ كبير قدمه رشوة له!! فأعلن وليد رباح موافقته على النشر بشرط أن يوافق القسيس الياهو على الاشتراك في مناظرة حول القرآن و«الفرقان الحق» الذي يروجه. يكون هو الطرف الأول فيها، ويكون الطرف الثاني أي شيخ يختاره هو من المشايخ العاملين مع الجالية العربية والإسلامية في أمريكا!! فانسحب الياهو غاضباً حسيراً لأنه يعلم نتيجة المناظرة مسبقاً!!..(/2)
وقد خاطبت اللجنة الأمريكية الإسرائيلية بالفرقان الحق الذي ألفته العرب والمسلمين، وقالت في مقدمته: «إلى الأمة العربية خاصة، والى العالم الإسلامي عامة: سلام لكم ورحمة من الله القادر على كل شيء. يوجد في أعماق النفس البشرية أشواق للإيمان الخالص. و السلام الداخلي، والحرية الروحية، والحياة الأبدية.. وأننا نثق بالإله الواحد الأوحد بأن القراء والمستمعين سيجدون الطريق لتلك الأشواق من خلال «الفرقان الحق»!!.(/3)
مقامات القرني
أنشأها :
عائض بن عبد الله القرني .
الإهداء
إلى رحابك دبجّنا رسائلنا
تكاد تُحرق من أشواقنا لهبا
يا قارئ الحرف أهديناك أحرفنا
وقبلها قد بعثنا الدمع منسكبا
شوقاً إليك فهل ترضى محبتنا
مهراً وإلا بعثنا القلب والهدَبا
فغيرنا بمداد الحبر قد كتبوا
ومن دمانا كتبنا الشعر والخطبا
عنوان المؤلف
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن
أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني
وفي ربى مكة تأريخ ملحمة
على ثراها بنينا العالم الثاني
في طيبة المصطفى عهدي وموعظتي
هناك ينسج تاريخي وعرفاني
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا
بالرقمتين وبالفسطاط جيراني
النيل مائي ومن عمان تذكرتي
وفي الجزائر إخواني وتطواني
والوحي مدرستي الكبرى وغار حرا
بدايتي وبه قد شع قرآني
وثيقتي كتبت في اللوح وانهمرت
آياتاها فاقرؤوا يا قوم عنواني
فأينما ذكر اسم الله في بلدٍ
عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
العنوان
حي الرحمانية – ص . ب 379 – الرمز البريدي 11321
تليفون : 4195398 فاكس : 4196663
جوال : 055222000
مقدمة المقامَات
{ بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا }
الحمد لله وليّ النعمة ، دافع النقمة ، ما غرّد طائر بنغمة ، وهبّ صبح بنسمة، وتلألأت على ثغرٍ بسمة ، والصلاة والسلام على من زيّن ببيانه الكلام ، وأذهل بفصاحته الأنام، وطرق بوعظه الأيام ، سلالة النجب ، وصفوة العرب، أجلّ من خطب ، صاحب الحسب والنسب ، محطم الأصنام والنصب ، وعلى آله والأصحاب ، ما لمع سراب ، وهمع سحاب ، وقرئ كتاب ، وبعد :
فقد أشار عليّ الشيخ الأريب ، والشاعر الأديب ، الدكتور / أحمد بن علي القرني الأستاذ بالجامعة الإسلامية بكتابة مقامات ، هي على الفضل علامات ، فقلت له صاحب ذلك قدْ مات ، ولم يبق إلا حاسد وشمّات .
فذكرني بشريط مصارع العشّاق ، وقال : كلّ لمثله مشتاق ، فإنه للقلوب ترياق ، وليس لك عذر ولو التفت الساق بالساق ، وأحضر لي من حرصه الدفاتر ، والخاطر قبل مجيئه فاتر ، فأجّلت تفكيري ، وقد اشتعل في ليل رأسي صبح نذيري ، وقد سبقني لهذا الهمداني والحريري ، ولكن على الله المعوّل ، وكما قال الأول :
ولو قبل مبكاها بكيت صبابة
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... لكنتُ شفيت النفس قبل التندمِ
بكاها مكان الفضل للمتقدّمِ
وقد قلت لصاحبنا لا جرم أنك استسمنت ذا ورم ، وهذه سنة أهل الكرم ، والخاطر شذر مذر ، من شجون لا تبقي ولا تذر ، ولا أقول بعدت علينا الشقة ، ولكن كما قال أبو الطيب : لولا المشقة ، واعرف أن من البشر ، كشجرة العشر ، أعدى من السوس ، وأشأم من البسوس ، يأتي على غرة ، ويبحث عن العثرة ، ويقص الجُرّة ، ولو اعتذرت لنا عنده سبعين مرة .
فأقول للمادحين ، كونوا ناصحين ، وكما قيل فعين الرضا ، والمحب يمشي على جمر الغضا ، وأقول للقادحين ، كونوا مازحين ، وتذكروا : وإذا أتتك مذمتي ، واجعلوا الخطأ في ذمتي ، فقد شابت لمتي ، فإن عثر جواد بياني ، وتلعثم لساني ، فالعيب من زماني ، فما أدركت حسّان ، وما صاحبت سحبان ، وما دخلت على النعمان ، وما لقيت صُنّاع الألفاظ ، في سوق عكاظ . ولكنني مع أقوام ، على الأدب أيتام ، كلما لمع فيهم متكلم وظهر ، وقال إن الله مبتليكم من البيان بنهر ، قالوا إنما يعلمه بشر ، ولولا سواه ما اشتهر ، فيقول الحال : لكل عين قذى ، ولن يضروكم إلا أذى ، فجِدّوا كما جَدّوا ، أو سُدوا المكان الذي سَدوا . فكم نال الحساد صاحب الأدب ، وأنه ليس له في البلاغة نسب ، وما له في الفصاحة حسب ، وجاءوا على قميصه بدم كذب .
وكم انبعث من أهل البلادة أشقاها ، فصاح بهم رسول البيان ناقة الله وسقياها . وعسى عصا موسى البيان ، تكسر رأس فرعون الطغيان .
وإذا ألقى قميص يوسف الملاحة ، على بصر يعقوب الفصاحة ، نادى لسان حال المتكلمين : ادخلوا مصر الإبداع آمنين . وقد طاولت بهذه المقامات قامات ، ولامست بها هامات ، وكلما قابلني هامّات وطامّات ، قلت : أعوذ بكلمات الله التامّات .
وسوف يقرؤها صاحب ورع بارد ، وذهن جامد فيتأفف ، ويتأسف ، ويقول الرجل تكلّف وتعسّف ، فأقول : ماذا بعشك يا حمامة فادرجي ، فقد جعلت القلم واللسان أوسي وخزرجي ، وعلمت أنه مع كل بانٍ هادم ، ومن راقب الناس فهو النادم ، وقد عاب المخلوق الخالق فقال تعالى : ( يسبني ابن آدم ) .
وإذا أراد الله لعمل بشر أن ينتشر ، قيض الله له أهل خير وشر ، فصاحب الخير له نصير ، وظهير ، وخفير ، ووزير .
وصاحب الشر سبّاب عيّاب ، له من الحسد ناب ، وله من العداوة مخلاب .
وانظر إلى المعصوم ، كيف ابتلي بالخصوم ، شق الله له القمر ، فقالوا هذا سحر مستمر ، ولما جمع قريشاً وخطبها ، قالوا أساطير الأولين اكتتبها .
وأسأل الله أن يجعل هذه المقامات ، بكل فضل ملمّات ، وأن يجعلها بالحسن رائعة ، وبالفضل ذائعة ، وبالبر شائعة ، وبالأنس ماتعة ، وبالنور ساطعة ، وبالجمال لامعة ، ولكل خير جامعة ، وعن كل سوء مانعة ، وللجدل قاطعة .(/1)
محلاة بالفوائد ، مزينة بالقلائد ، متوّجة بالفرائد ، مزدانة بالشوارد ، كالماء الزلال لكل صادر ووارد ، تضمرها العقائد ، وتنشرها القصائد ، وصلى الله وسلم على صفوة الحواضر والبوادي ، الذي تشرفت بذكره النوادي ، فهو الهادي ، وإلى كل فضل منادي ، وعلى آله البررة ، والأربعة الخيرة ، وبقية العشرة ، وأهل الشجرة .
بين يدي المقامَات
{ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي }
إلهي : أسألك بالاسم الأعظم ، والوصف الأكرم ، أن تنير لي الطريق المظلم . أسألك نعمة تدفع بها نقمة ، وعلماً تؤيده رحمة ، وموهبة تقيدها حكمة ، وأملاً يدفع اليأس ، ورعاية ترد البأس ، اللهم ارحم العَبْرة ، وأقلِ العثرة ، وأزل الحسرة ، واكشف عنا حجب الضلالة ، وسحب الجهالة ، حتى نبصر آيات عظمتك بعيون اليقين ، ونقرأ أسطر صنعك ببصائر الموحدين ، اللهم أيدنا بعز سلطانك ، وأكرمنا بفهم برهانك ، أعوذ بك من زلّة ، توجب ذِلّة ، وعثرة قدم ، توجب الندم ، ونسألك إخلاص النية ، وكرم الطوية ، وندعوك بلسان الاضطرار ، أن تفتح لحكمتك منا الأسماع والأبصار ، وأن تنير بوحيك مظلم الأفكار ، وما اسود من الأسرار .
وبعد : فقد سبقني إلى هذا الفن أعلام ، لهم في الحكمة أقدام ، وفي حومة البيان أعلام ، وفي طروس الفصاحة أقلام . فمنهم من خص بمقاماته الأدب ، وثانٍ في ذكر من ذهب ، وثالثٌ في الحب ، ورابعٌ في الطب .
أما أنا فأطلقت للقلم زمامه ، وسَرَّحت خطامه ، وأزحت لثامه ، ليكتب في فنون ، ويسيل في شجون ، ذاكراً من سلف ومن خلف ، آخذاً من كل حكمة بطرف ، وربما لمحت في المقال ، بعض الخيال ، فلا تُبدِ لنا قسوة ، فلي في ذلك أسوة ، فإن الأمم استنطقت الجمادات ، واستفهمت العجماوات ، وقوّلت الكلامَ الحيوانات ، وكلّمت الأطلال ، ونسبت الحديث إلى الشجر والتلال ، تعريضاً وتلميحا، ونسبة وتصريحا .
وللعجم من ذلك ما يبهر ، ككتب بزجر جمهر ، وللروم في ذلك تآليف ، وللهنود في هذا الفن تصانيف ، ورأيت كتب اليونان ، وصاحب الإيوان ، والمانوية من أسلاف اليابان ، كلها تنسب القول للحيوان ، وتضيف وتنقل الخطاب بغير الإنسان ، حُبّاً للسلامة ، وخوفاً من الندامة
ثم جاء العرب ، روّاد الأدب ، فأطربونا بكلام الحمام ، في الحب والغرام ، ونقلوا في الأمالي ، عتاب الطلل البالي ، وأتحفونا بحِوار الأطيار ، وإظهار أسرار الديار ، حتى أسندوا الأخبار للأشجار .
فيا صاحب الدراية ، إن رأيت في هذه المقامات رواية ، فقد قصدت النفع ، ومن استطاع أن ينفع أخاه فليفعل ، وقد أحلتك على ما سلف ، ومن أحيل على مليء فليحتل.
وقد جانبت في هذه المقامات التجريح ، سواءً بالتلميح أو بالتصريح ، ودبجتها بالثناء والمديح ، لأن القول اللين ، والخلق الهين ، يجلب الود ، ويزيل الصد ، وكسر القلوب غلط ، وجرح المخاطَب شطط ، فهنا ملاينة لا مداهنة ، وليس الخبر كالمعاينة ، ومداراة لا مجاراة ، ولي في هذه المقامات رسائل ، ومن العلم مسائل .
وفيها عبر وسير ، وأشعار وأخبار ، وشجون وفنون ، وفكاهات وملاطفات ، ومشجيات ومبكيات ، ومحفوظات وعظات ، فلا تحكم بمقامة على كل المقامات ، بل طالع الجميع ليكون حكمك موات ، فإن الروض ألوان ، والشجر صنوان وغير صنوان ، والتنويع مدعاة لإثارة الذهن البارد ، ولن نصبر على طعام واحد .
وقد جانبت فيها الهمز ، والغمز واللمز ، فلا مصلحة لنا في التعرض للأشخاص والأجناس ، أو تتبع عثرات الناس ، بل نحن أحوج إلى جبر القلوب ، ودفن العيوب ، لأن مرد الكل إلى علام الغيوب . ومن وجد نقصاً فليعف عنا ، ومن غشنا فليس منا .
خذها من القلب لو أن الدجى صبغت
ثيابه بسناها المشرق الغالي
لصار نوراً كأن الشمس طلعته
والبدر وَمْضته في حُسْن إجلالي
وقد قرأت هذه المقامات على علماء وأدباء ، وشعراء وفضلاء ، طلباً للاستفادة ، وحرصاً على الزيادة ، وقد استفدت من كل جمع ضم مجلسنا ، وشاورت كل صاحبٍ كان يؤنسنا ، لأن مشاورة الأخيار ، تلقيح للأفكار ، وفي يوم الثلاثاء 21/5/1420هـ اجتمعنا بشيخنا العلامة الفطين ، صاحب الدر الثمين ، محمد الصالح بن عثيمين ، وكان اللقاء في الرياض ، والأنس قد فاض ، فقرأت عليه مقدمة المقامات ، فاستحسن ما أوردته من كلمات ، ثم قرأت عليه المقامة النحوية ، وبها لطائف نديّة ، فأضاف بعض الإضافات ، وأتحفنا ببيت من المحفوظات . نقلته في تلك المقامة ، من ذلك العلامة . وعسى ربي أن ينفعني بما كتبت ، وأن يحقق لي ما أمّلت ، من الفوز برضوانه ، وسكنى جنانه ، فقد اتصف بالعفو وكتبه ، ورحمته سبقت غضبه :
ولو سُفكت منا الدماء بحبكم ... لطِرنا مع الأشواق من لذة القتل
مقامَةُ التَّوحيد
{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ }
فيا عجباً كيف يعصى الإله
وفي كل شيء له آية ... أم كيف يجحده الجاحد
تدل على أنه واحد(/2)
التوحيد ، هو حق الله على العبيد ، وهو أول ما دعا إليه الرسل ، وبه كل كتاب نزل ، وهو أصل الأصول ، والطريق للوصول ، وبه عرف المعبود ، وعمر الوجود ، ولأجله أعدت الجنة والنار ، وسل السيف البتار ، وقوتل الكفار ، ولإقامته في الأرض دعت الأنبياء ، وعلمت العلماء ، وقتل الشهداء ، وهو أول مطلوب ، وأعظم محبوب ، وهو أشرف المقاصد ، وأعذب الموارد ، وأجل الأعمال ، وأحسن الأقوال ، وهو أول الأبواب ، وبداية الكتاب ، وأعظم القضايا ، وأهم الوصايا ، وخير زاد ، يحمله العباد ، ليوم التناد ، وهو قرة عيون الموحدين ، وبهجة صدور العابدين ، وهو غاية الآمال ، وأنبل الخصال ، بل هو أعظم الكفارات ، وأرفع الدرجات ، وأكبر الحسنات ، وهو منشور الولاية ، وتاج الرعاية ، والبداية والنهاية ، وهو الإكسير الذي إذا وضع على جبال الخطايا أصبحت تذوب ، وصارت حسنات بعد أن كانت من الذنوب .
وعلى هذا حديث (( يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة )) .
وهو الذي هز في طرفة عين قلوب السحرة . فقالوا بعزم ماض : اقض ما أنت قاض ، والمرأة التي سقت الكلب ، فغفر لها الذنب ، كان معها توحيد الرب ، والرجل الذي قتل مائة رجل ، وذهب إلى القرية على عجل ، فأدركه الأجل ، غفر له بالتوحيد عز وجل . والتوحيد كنز جليل ، في قلب الخليل ، فقال لما شاهد الكرب الثقيل ، حسبنا الله ونعم الوكيل .
ولما قال الصدّيق في الغار ، لسيد الأبرار ، لو نظر أحدهما لرآنا ولسمعنا ، قال : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } ، إنما قال ذلك بلسان الموحد ، وقد سدد بتوفيق الله وأيد .
وما فلق الله البحر للكليم ، إلا لأنه صاحب توحيد عظيم ، ونهج كريم ، ولو وضعت السموات والأرض في كفة الميزان ، ولا إله إلا الله في كفة لكان لها الرجحان ، ولو كانت في حلقة حديد لفصمتها ، وفي صخرة لفجّرتها ، ولا إله إلا الله مفتاح الجنان ، وله أسنان ، من الواجبات والأركان ، وصاحبها لا يخلد في النار ، ولا يلحق بالكفار ، وقد قالوا لأحد العلماء وقد سجن ، وفي سبيل هذه الكلمة ذاق المحن ، قل كلمة التوحيد، قال من أجلها وضعت في الحديد ، وقالوا لأحد الأولياء وقد رفع على خشبة الموت ، وقرب منه الفوت ، قل لا إله إلا الله ولا تغفل ، قال : من أجلها أقتل .
وسمع أحد الصالحين رجلاً يقول لا إله إلا الله ومد بها صوته فبكى وقال :
وإني لتعروني لذكرك هزة
كما انتفض العصور بلله القطرُ
وسمع أحد العلماء رجلاً يقول : لا إله إلا الله ، قال : صدقت وبالحق نطقت .
فيا أيها العباد خذوا من التوحيد قطرة ، وضعوه على الفطرة ، وولّوا وجوهكم شطره . ويا من أثقله الهم ، وأحاط به الغم ، وهزه الألم الجم ، قل لا إله إلا الله .
ويا من أثقلته الديون ، أو غيبته الشجون ، وبات وهو محزون ، قل لا إله إلا الله .
ويا من اشتد به الكرب ، وعلاه الخطب ، اذكر الرب ، وقل لا إله إلا الله .
هي أجمل الكلمات قلها كلما ... ضج الفؤاد وضاقت الأزمان
اقرأها بعين الروح ، قبل أن تقرأها بعينك في اللوح ، واكتبها في سويداء قلبك ، لتحملها إلى ربك ، وتتخلص من ذنبك .
ولما قيل لفرعون ، قل لا إله إلا الله ، تلعثم الحمار وتعثر ، فدس أنفه في الطين وتدثر . وقيل لأبي لهب قل لا إله إلا الله ، قال الخسيس ، أبى علي الجليس ، والأخ الرئيس ، إبليس . تقيأ شاعر البعث المخذول ، ليقول :
آمنت بالبعث رباً لا شريك له ... وبالعروبة ديناً ما له ثاني
قلنا يا شاعر البعث ، وعزة ربي ليخزينك يوم البعث . يا شاعر الخمر والحشيشة ، قد أرغم أنفك أبو ريشة ، فقال :
أمتي كم صنم مجدته ... لم يكن يحمل طهر الصنمِ
من يأخذ تعاليمه من باريس ، حشر مع شيخه إبليس .
يا مسكين ، تتعلم حروف الهجاء من بكين ، وتهجر رسالة نزل بها الروح الأمين ، على سيد المرسلين ، من رب العالمين .
يرضع الوليد حليب التوحيد ، حتى يأتيه الحليب الصناعي من مدريد ، ليرتد المريد .
صوت التوحيد يرتفع على كل صوت ، وقوته خير من كل قوت ، لخصه أبو بكر فقال : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت
لولا أن كلمة أحد ، في قلب بلال مثل جبل أحد ، ما صمد .
التوحيد له كتاب ، وله قلم جذّاب ، ومداد جميل ، وكاتب جليل ، فكتابه الكون وما فيه ، وقلمه قلبك النبيه ، ومداده دمعك المترقرق ، والكاتب إيمانك المتدفق .
التوحيد له رسالة أبدية ، ودعوة سرمدية ، ولأصحابه إلى مستقرهم ممر ، وبعد مرورهم مستقر . فرسالة التوحيد إفراد الباري بالألوهيه ، والربوبيه ، ودعوته اتباع سيد البشريه ، ورسول الإنسانيه . وممر أصحابه الصراط المستقيم ، ومستقرهم جنات النعيم .
للتوحيد منبر ، ومخبر ومظهر ، ومسك وعنبر .
فمنبره القلب ، إذا أخلص للرب ، ومخبره النيات الصالحات ، ومظهره عمل بالأركان ، وخدمة للديان ، ومسكه الدعاء والأذكار ، وعنبره التوبة والاستغفار .(/3)
للتوحيد عين وبستان ، وحرس وسلطان ، وسيف وميدان .
فعينه النصوص الواضحه ، وبستانه الأعمال الصالحه ، وحرسه الخوف والرجاء ، وسلطانه واعظ الله في القلب صباح مساء ، وسيفه الجهاد ، وميدانه حركات العباد .
وللتوحيد قضاة وشهود ، وأعلام وجنود ، وحدود وقيود .
فقضاته الرسل الكرام ، وشهوده العلماء الأعلام ، وأعلامه شعائر الدين ، وجنوده فيلق من الموحدين ، وحدوده ما جاء به الخبر ، وصح به الأثر ، وقيوده ما ورد من شروط ، للتوحيد المضبوط .
من دعائم التوحيد ، عدم صرف شيء من العبادة لغير المعبود ، وتحريم تقديم شيء من لوازم الألوهية لغير الله مما في الوجود ، وركيزته إخلاص ليس فيه رياء ، وعلامته إخبات ليس معه ادعاء .
فلا تُعبد النجوم ولكن يُعبد مُركبها ، ولا تعبد الكواكب بل يعبد مكوكبها ، ولا يُؤلّه حجر ، ولا بشر ، ولا شجر ، ولا مدر ، بل يؤلّه من فجر من الحجر الماء ، وأوجد الأحياء ، وخلق الشجر كأنها أصابع الأولياء ، فسبحان رب الأرض والسماء .
الوحي هز أبا جهل هزّا ، لأنه يتهزّى ، وسجد للاّت والعزّا . قاتل الله هبل ، ومن طاف حوله ورمل ، أو نذر له أيّ عمل ، يا من خاف على نفسه من الحريق ، والدمار والتمزيق ، احذر من الشرك { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } إذا أخلصت التوحيد جاءك النصر ، وادخر لك الأجر ، ومحا عنك الوزر .
سمع أحد العباد قارئاً يتلوا { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ } ، فقال أواه ، وارتفع بكاه ، وكان أحد الملوك الصالحين ، يسمع أحد القراء يقرأ بتلحين { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فجلس يبكي ويقول وأنا أشهد مع الشاهدين .
قال أبو معاذ الرازي ، لو تكلمت الأحجار ، ونطقت الأشجار ، وخطبت الأطيار، لقالت لا إله إلا الله الملك القهار . ولما قال فرعون اللعين : { فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى } قال : { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } ، فكأنما لكمه بالجواب ، ولطمه بالخطاب . ولما قال إمام التوحيد للنمرود العنيد { فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ } ، بهت وكُذّب ، وخسر وعُذِّب ، وهذا لظهور آيات التوحيد وقوة سلطانه ، وعزة أهله وأعوانه ، وقد أمهر يحيى بن زكريا التوحيد رأسه ، وقدم حمزة لما غمره من نور التوحيد رأسه ، ولما ذاقه جعفر ، تقطع وبالرمل تعفر ، وذبح الخلفاء على بساطه ، وضرب الأئمة على التوحيد بأيدي الظلم وسياطه ، ونحر الشهداء على فراش التوحيد وبلاطه ، وكم من موحد وضع في الزنزانة ، لما أعلن إيمانه .
ولما نطق حبيب بن زيد ، بكلمة التوحيد ، عند مسيلمة الكذاب العنيد . قطّعه بالسيف فما أَنْ ، ولا قال له تأن ، بل اشتاق إلى الجنة وحن ، ولما ذهبوا بعبد الله بن حذافة إلى القدور ، والجثث فيها تدور ، والتوحيد في قلبه يمور ، بكى وقال : يا ليت لي بعدد شعر رأسي أرواح ، لتذوق القتل في سبيل الله والجراح .
وضرب طلحة يوم أحد بالسيوف والرماح ، فما شكى ولا صاح ، حتى سال بالدم جبينه ، وشُلت يمينه ، ويبقى دينه ، لأن التوحيد قرينه . وقاتل مصعب قتال الأسود ، حتى وسّد اللحود ، لأنه وحّد المعبود . ولما حضر عبد الله بن جحش معركة أحد ، دعا واجتهد ، بكلام يبقى إلى الأبد ، فقال : اللهم هيئ لي عدواً لك شديد حرده ، قوي بأسه ، فيقتلني فيك فيجدع أنفي ، ويبقر بطني ، ويفقأ عيني ، ويقطع أذني ، فإذا لقيتك يا رب فقلت لي : يا عبد الله لم فعل بك هذا ؟ قلت : فيك يا رب . فهل سمعت نشيداً كهذا النشيد ، وهل أطربك قصيداً كهذا القصيد ، لأنه من ديوان التوحيد .
وضع أحدُ الظلمة أحدَ الأولياء ، بين يدي الأسد ليتركه أشلاء ، شمّه الأسد ثم تركه وذهب ، قيل للولي : لماذا تركك ؟ قال : بسبب التوحيد وهو أعظم سبب ، قالوا : فماذا كنت تفكر ؟ قال : كنت أفكر في سؤر الأسد هل هو طاهر أم نجس يطهر .
واعلم أن صدق التوحيد أقام بعض الأولياء ، في الليلة الظلماء ، في ذروة الشتاء ، يتوضأ بالماء ، ويقطع الليل بالصلاة والدعاء ، والمناجاة والبكاء ، وحرارة التوحيد أيقظت في الصالحين ، ذكر الله كل حين ، فلهم بالتسبيح زجل وحنين ، وعزيمة التوحيد دفعت المنفقين ، وجعلتهم بأموالهم متصدقين ، على الفقراء والمساكين .(/4)
إذا ناداك نوح التوحيد ، وقال اركب معنا أيها العبد الرشيد ، فلا تفوتك سفينة الحميد المجيد ، وَجَدَ إبراهيم بن أدهم ورقة مكتوب فيها الله وقد سقطت في الطريق فبكى وحملها ، وطهرها وطيبها ، فطهر الله نفسه ، وطيّب اسمه ، وقد أوصى صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل ، أن يكون أول ما يدعو إليه توحيد الله عز وجل . وكان يبدأ بالتوحيد خطبه ، ويخط به كتبه ، ويدعو إليه ليلاً ونهارا ، وسراً وجهارا .
المقامَة الإلهية
{ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا }
(( سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ))
تأمل في نبات الأرض وانظر
عيون من لجين شاخصات
على قضب الزبرجد شاهدات ... إلى آثار ما صنع المليك
بأحداق هي الذهب السبيك
بأن الله ليس له شريك
الله رحيم لطيف ، الله بيده الأمر والتصريف ، الله أعرف المعارف لا يحتاج إلى تعريف ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، ولا نرجو سواه ، عظيم السلطان والجاه ، أفلح من دعاه ، وسعد من رجاه ، وفاز من تولاه ، سبحان من خلق وهدى ، ولم يخلق الخلق سدى ، عظم سلطانه ، ارتفع ميزانه ، وجمل إحسانه ، كثر امتنانه .
إليك وإلا لا تشد الركائب
وفيك وإلا فالغرام مضيّع ... ومنك وإلا فالمؤل خائبُ
وعنك وإلا فالمحدث كاذبُ
علام الغيوب ، غفار الذنوب ، ستار العيوب ، كاشف الكروب ، ميسر الخطوب ، مقدر المكتوب ، عظمت بركاته ، حسنت صفاته ، بهرت آياته ، أعجزت بيناته ، أفحمت معجزاته ، جلت أسماؤه ، عمت آلاؤه ، امتلأت بحمده أرضه وسماؤه ، كثرت نعماؤه ، حسن بلاؤه . ما أحسن قيله ، ما أجمل تفصيله ، ما أبهى تنزيله ، ما أسرع تسهيله ، ليس إلا الخضوع له وسيلة ، وليس لما يقضيه حيلة .
قد كنت أشفق من دمعي على بصري
والله ما ذكرت نفسي معاهدكم ... فاليوم كل عزيز بعدكم هانا
إلا رأيت دموع العين هتانا
يسقي ويطعم ، يقضي ويحكم ، ينسخ ويبرم ، يقصم ويفصم ، يهين ويكرم ، يروي ويشبع ، يصل ويقطع ، يعطي ويمنع ، يخفض ويرفع ، يرى ويسمع ، ينصر ويقمع وليّه مأجور ، والسعي إليه مبرور ، والعمل له مشكور ، وحزبه منصور ، وعدوه مدحور وخصمه مبتور ، يسحق الطغاة ، يمحق العصاة ، يدمر العتاة ، يمزق من آذاه .
سبحان من لو سجدنا بالجباه له
لم نبلغ العشر من مقدار نعمته ... على لظى الجمر والمحمى من الأبرِ
ولا العشير ولو عشر من العشرِ
من انتصر به ما ذل ، ومن اهتدى بهداه ما ضل ، ومن اتقاه ما ذل ، ومن طلب غناه ما قل ، له الكبرياء والجبروت عز وجل .تم كمالهُ ، حسن جماله ، تقدس جلاله ، كرمت أفعاله ، أصابت أقواله ، نصر أوليائَه ، خذل أعدائَه ، قرّب أحبائه . اطلع فستر ، علم فغفر ، حلم بعد أن قدر ، زاد من شكر ، ذكر من ذكر ، قصم من كفر .
يا رب أول شيء قاله خلدي
فوالذي قد هدى قلبي لطاعته ... أني ذكرتك في سري وإعلاني
لأُذهبن بوحي منك أحزاني
لو أن الأقلام هي الشجر ، والمداد هو المطر ، والكتبة هم البشر ، ثم أثنى عليه بالمدح من شكر ، لما بلغوا ذرة مما يستحقه جل في علاه وقهر . اعمر جنانك بحبه ، أصلح زمانك بقربه ، اشغل لسانك بمديحه ، احفظ وقتك بتسبيحه . العزيز من حماه ، المحظوظ من اجتباه ، الغني من أغناه ، السعيد من تولاه ، المحفوظ من رعاه . أرسل الرسل أفنى الدول ، هدى السبيل ، أبرم الحيل ، غفر الزلل ، شفى العلل ، ستر الخلل .
مهما كتبنا في علاك قصائداً
فلأنت أعظم من مديحي كله ... بالدمع خطت أو دم الأجفان
وأجل مما دار في الحسبان
في حبك عذب بلال بن رباح ، وفي سبيلك هانت الجراح ، لدى عبيدة بن الجراح، ومن أجلك عرض مصعب صدره للرماح . ولإعلاء كلمتك قطعت يدا جعفر ، وتجندل على التراب وتعفر ، ومزق عكرمة في حرب بني الأصفر . أحبك حنظلة فترك عرسه ، وأهدى رأسه ، وقدّم نفسه ، وأحبك سعد بن معاذ فاستعذب فيك البلاء ، وجرت منه الدماء ، وشيعته الملائكة الكرماء ، واهتز له العرش من فوق السماء .
وأحبك حمزة سيد الشهداء ، فصال في الهيجاء ، ونازل الأعداء ، ثم سلم روحه ثمناً للجنة هاء وهاء . من أجلك سهرت عيون المتهجدين ، وتعبت أقدام العابدين ، وانحنت ظهور الساجدين ، وحلقت رؤوس الحجاج والمعتمرين ، وجاعت بطون الصائمين ، وطارت نفوس المجاهدين .
يا ربي حمداً ليس غيرك يحمد
أبواب كل مملّك قد أوصدت ... يا من له كل الخلائق تصمدُ
ورأيت بابك واسعاً لا يوصدُ
أقلام العلماء ، تكتب فيه الثناء ، صباح مساء ، الرماح في ساحة الجهاد ، والسيوف الحداد ، ترفع اسمه على رؤوس الأشهاد ، جل عن الأنداد والأضداد .
للمساجد دوي بذكره ، للطيور تغريد بشكره ، وللملائكة نزول بأمره ، حارت الأفكار في علو قدره ، وتمام قهره .(/5)
من أجلك هاجر أبو بكر الصديق وترك عياله ، ولمرضاتك أنفق أمواله وأعماله ، وفي محبتك قتل الفاروق ومزق ، وفي سبيلك دمه تدفق ، ومن خشيتك دمعه ترقرق . ودفع عثمان أمواله لترضى ، فما ترك مالاً ولا أرضا ، جعلها عندك قرضا . وقدَّم عليُّ رأسه لمرضاتك في المسجد وهو يتهجد ، وفي بيتك يتعبد فما تردد .
أرواحنا يا رب فوق أكفنا
لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو
كنا نرى الأصنام من ذهب ... نرجو ثوابك مغنما وجوارا
نصب المنايا حولنا أسوارا
فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
تفردت بالبقاء ، وكتبت على غيرك الفناء ، لك العزة والكبرياء ، ولك أجل الصفات وأحسن الأسماء . أنت عالم الغيب ، البريء من كل عيب ، تكتب المقدور ، وتعلم ما في الصدور ، وتبعثر ما في القبور ، وأنت الحاكم يوم النشور . ملكك عظيم ، جنابك كريم ، نهجك قويم ، أخذك أليم ، وأنت الرحيم الحليم الكريم .
من الذي سألك فما أعطيته ، والذي دعاك فما لبيته ، ومن الذي استنصرك فما نصرته ، ومن الذي حاربك فما خذلته . لا عيب في أسمائك لأنها حسنى ، لا نقص في صفاتك لأنها عليا . حي لا تموت ، حاضر لا تفوت ، لا تحتاج إلى القوت ، لك الكبرياء والجبروت ، والعزة والملكوت .
لو أن أنفاس العباد قصائد
ما أدركت ما تستحق وقصّرت ... حفلت بمدحك في جلال علاكا
عن مجدك الأسما وحسن سناكا
كسرت ظهور الأكاسرة ، قصّرت آمال القياصرة ، هدمت معاقل الجبابرة ، وأرديتهم في الحافرة . من أطاعك أكرمته ، من خالفك أدّبته ، من عاداك سحقته ، من نادّك محقته ، من صادّك مزّقته .
تصمد إليك الكائنات ، تعنو إليك المخلوقات ، تجيب الدعوات ، بشتى اللغات ، وبمختلف اللهجات ، على تعدد الحاجات ، تفرج الكربات ، تظهر الآيات ، تعلم النيات وتظهر الخفيات ، تحيي الأموات . دعاك الخليل وقد وضع في المنجنيق ، وأوشك على الحريق ، ولم يجد لسواك طريق ، فلما قال : حسبنا الله ونعم الوكيل ، صارت النار عليه برداً وسلاماً في ظل ظليل ، بقدرتك يا جليل . وفلقت البحر للكليم ، وقد فر من فرعون الأثيم ، فمهدت له في الماء الطريق المستقيم . ودعاك المختار ، في الغار ، لما أحاط به الكفار ، فحميته من الأشرار ، وحفظته من الفجار . قريب تجيب كل حبيب .
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما
ما خاب من يرجوك عند ملمّةٍ ... أنت القوي الواحد القهار
صمدت إليك البدو والحضار
لو أن الثناء ، لرب الأرض والسماء ، كتب بدماء الأولياء ، على خدود الأحياء ، لقرأت في تلك الخدود ، صحائف من مدح المعبود ، صاحب الجود ، بلا حدود .
ألسنة الخلق أقلام الحق ، فما لها لا تنطق بالصدق ، وتوحده بذاك النطق . لا تمن عليه دمعة في محراب ، فقد مزق من أجله عمر بن الخطاب ، ما لك إلى عبادتك الزهيدة تشير ، وقد نشر الأولياء في حبه بالمناشير .
فاز بلال لأنه ردد أحد أحد ، ودخل رجل الجنة لأنه أحب قل هو الله أحد ، ومدح سبحانه نفسه فقال : الله الصمد ، ورد على المشركين فقال : لم يلد ولم يولد .
سبحان من تحدى بالذباب المشركين ، وضرب العنكبوت مثلاً للضالين ، وذكر خلقه للبعوض إِزراءً بالكافرين ، وحمل الهدهد رسالة التوحيد فجاء بخبر يقين ، وأهلك ناقه أعداءه المعارضين . خلق الأبرار والفجار ، والمسلمين والكفار ، والليل والنهار ، والجنة والنار ، وأنزل كل شيء بمقدار . في القرآن برهانه ، في الكائنات امتنانه ، للمؤمنين إحسانه ، في الجنة رضوانه ، عم الكون سلطانه ، اللهم يا ذا العرش المجيد ، أنت المبدئ المعيد ، أنت الفعال لما تريد ، أنت ذا البطش الشديد ، لا ضد لك ولا نديد ، كورت الليل والنهار ، وجعلت النور في الأبصار ، وحببت العبادة إلى الأبرار ، وأجريت الماء في الأشجار ، أنت الملك الجبار ، والقوي القهار ، والعزيز الغفار ، أسألك بالأسماء التي بالسمو معروفة ، وأسألك بالصفات التي هي بالمجد موصوفة .(/6)
عن كل عيب تنزهت ، وعن كل نقص تقدست ، وعلى كل حال تباركت ، وعن كل شين تعاليت ، منك الإمداد ، ومن لدنك الإرشاد ، ومن عندك الاستعداد ، وعليك الاعتماد ، وإليك يلجأ العباد ، في النوازل الشداد . حبوت الكائنات رحمةً وفضلا، ووسعت المخلوقات حكمةً وعدلا ، لا يكون إلا ما تريد ، تشكر فتزيد ، وتكفر فتبيد ، تفردت بالملك فقهرت ، وتوحدت بالربوبية فقدرت، تزيد من شكرك ، وتذكر من ذكرك ، وتمحق من كفرك ، حارت في حكمتك العقول ، وصارت من بديع صنعك في ذهول ، أدهشت بعجائب خلقك الألباب ، وأذهلت الخلائق بالحكم والأسباب ، باب جود عطائك مفتوح ، ونوالك لمن أطاعك وعصاك ممنوح ، وهباتك لكل كائن تغدو وتروح . لك السؤدد ، فمن ساد فبمجدك يسود ، وعندك الخزائن فمن جاد فمن جودك يجود ، صمد أنت فإليك الخلائق تصمد ، مقصود أنت فإليك القلوب تقصد ، تغلق الأبواب عن الطالبين إلا بابك ، ويسدل كل حجاب عن الراغبين إلا حجابك ، خصصت نفسك بالبقاء فأهلكت من سواك ، وأفردت نفسك بالملك فأهلكت من عداك، لا نعبد إلا إياك ، ولا نهتدي إلا بهداك ، أقمت الحجة فليس لمعترض كلام ، وأوضحت المحجة فليس لضال إمام . شرعت الشرائع فكانت لك الحجة البالغة على الضلال ، وبينت السنن فما حاد عنها إلا الجهال ، نوعت العقوبة لمن عصاك ، وغايرت بين النكال لمن عاداك ، جعلت أسباب حياته مماته ، علة إِنطاقه إِسكاته ، أحييت بالماء وبه قتلت ، وأنعشت الأرواح بالهواء وبه أمت ، أشهد أنك متوحد بالربوبية ، متفرد بالألوهية ، أنت الملك الحق المبين ، وأنت إله العالمين ، وكنف المستضعفين ، وأمل المساكين ، وقاصم الجبارين ، وقامع المستكبرين .
ولما جعلت التوحيد شعاري ، مدحت ربي بأشعاري ، فقلت في مدح الباري :
هذا أريج الزهر من بستانه
السحر من إخوانه والحب من
أنا ما رويت الشعر من روما
كلا وما ساجلت من عمران
دع لامرئ القيس الغويّ ضلاله
ضل الهداية شكسبير فما روى
لما دعوت الشعر جاء ملبيا
فعففت عن مدح الأنام ترفعاً
لا سيف ذي يزن يتوج مدحتي
أو عاد أو شداد أو ذو منصب
ملك الملوك قصدته ومدحته
والله لو أن السماء صحيفة
والدوح أقلام وقد كتب الورى
لم يبلغوا ما يستحق وقصروا
لو تستجير الشمس فيه من الدجى
أو شاء منع البدر في أفلاكه
حتى الحجارة فجرت من خوفه
وتصدعت شم الجبال لبأسه
وتفتح الزهر الندي بصنعه
والحوت قدسه بأجمل نغمة
حتى الضفادع في الغدير ترنمت
هذى النجوم عرائس في محفل
يا مسرح الأحباب ضيعت الهوى
مجنون ليلى ما اهتدى لرحابه
أو ما قرا عنه وثيقة عهده
الشمس تسجد تحت عرش إلهنا ... شعر كأن الفجر في أجفانه
أخدانه والحسن من أعوانه
وما رتلت آي الحسن من لبنانه
أو حطان أو مجنونه أو قبانه
يلقي قفا نبك على شيطانه
إلا نزيف الوهم من هذيانه
يسقى كؤوس الشعر من حسانه
لا تمدحن العبد في طغيانه
أو شكر نابغة على ذبيانه
يُنمى إلى عدنان أو قحطانه
فتراكض الإبداع في ميدانه
والمزن يمطرها على إبانه
مدح المهيمن في جلالة شأنه
وزن الهباءة ضاع في ميزانه
لغدا الدجى والفجر من أكفانه
عن سيره لم يسرِ في حسبانه
والصخر خر له على أذقانه
والطلع خوفاً شق من عيدانه
يزهو مع التسبيح في بستانه
لغة تبز الحسن من سحبانه
بقصائد التقديس في غدرانه
تملي حديث الحب في سلطانه
وضللت يا ابن الطين عن عنوانه
متهتكاً عبثاً مع مجّانه
فيها حديث الصدق من قرآنه
والبدر رمز الحسن في أكوانه
والهدهد احتمل الرسالة غاضباً
غضباً على بلقيس تعبد شمسها
لولاه نوح ما نجا يوم الردى
لما دعاه يونس لباه في ... يدعو إلى التوحيد من إيمانه
فسعى لنسف الملك من أركانه
في فلكه المشحون من طوفانه
قاع البحار يضج في حيتانه
اللهم صلى وسلم على نبيك خاتم المرسلين ، ورسول الناس أجمعين ، وعلى آله وصحبه والتابعين .
المقامَة النَّبويَّة
{ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }
صلى عليك الله يا علم الهدى
هتفت لك الأرواح من أشواقها ... واستبشرت بقدومك الأيامُ
وازينت بحديثك الأقلامُ
ما أحسن الاسم والمسمَّى ، وهو النبي العظيم في سورة عمّ ، إذا ذكرته هلت الدموع السواكب ، وإذا تذكرته أقبلت الذكريات من كل جانب .
وكنت إذا ما اشتدّ بي الشوق والجوى
أُعلِّل نفسي بالتلاقي وقربه ... وكادت عرى الصبر الجميل تفصمُ
وأوهمها لكنّنها تتوهم
المتعبد في غار حراء ، صاحب الشريعة الغراء ، والملة السمحاء ، والحنيفية البيضاء ، وصاحب الشفاعة والإسراء ، له المقام المحمود ، واللواء المعقود ، والحوض المورود ، هو المذكور في التوراة والإنجيل ، وصاحب الغرة والتحجيل ، والمؤيد بجبريل ، خاتم الأنبياء ، وصاحب صفوة الأولياء ، إمام الصالحين ، وقدوة المفلحين { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } .
السماوات شيّقات ظِماءُ
كلها لهفة إلى العلَم الها ... والفضا والنجوم والأضواءُ
دي وشوق لذاته واحتفاءُ(/7)
تنظم في مدحه الأشعار ، وتدبج فيه المقامات الكبار ، وتنقل في الثناء عليه السير والأخبار ، ثم يبقى كنزاً محفوظاً لا يوفّيه حقه الكلام ، وعلماً شامخاً لا تنصفه الأقلام ، إذا تحدثنا عن غيره عصرنا الذكريات ، وبحثنا عن الكلمات ، وإذا تحدثنا عنه تدفق الخاطر ، بكل حديث عاطر ، وجاش الفؤاد ، بالحب والوداد ، ونسيت النفس همومها ، وأغفلت الروح غمومها ، وسبح العقل في ملكوت الحب ، وطاف القلب بكعبة القرب ، هو الرمز لكل فضيلة ، وهو قبة الفلك خصال جميلة ، وهو ذروة سنام المجد لكل خلال جليلة .
إنْ كان أحببت بعد الله مثلك في
فلا اشتفى ناظري من منظرٍ حسنٍ ... بدو وحضر وفي عرب وفي عجمِ
ولا تفوه بالقول السديد فمي
مرحباً بالحبيب والأريب والنجيب الذي إذا تحدثت عنه تزاحمت الذكريات ، وتسابقت المشاهد والمقالات .
صلى الله على ذاك القدوة ما أحلاه ، وسلم الله ذاك الوجه ما أبهاه ، وبارك الله على ذاك الأسوة ما أكمله وأعلاه ، علم الأمة الصدق وكانت في صحراء الكذب هائمة ، وأرشدها إلى الحق وكانت في ظلمات الباطل عائمة ، وقادها إلى النور وكانت في دياجير الزور قائمة .
وشب طفل الهدى المحبوب متشحاً
بالخير متزّراً بالنور والنار
في كفه شعلة تهدي وفي دمه
عقيدة تتحدى كل جبارِ
كانت الأمة قبله في سبات عميق ، وفي حضيض من الجهل سحيق ، فبعثه الله على فترة من المرسلين ، وانقطاع من النبيين ، فأقام الله به الميزان ، وأنزل عليه القرآن ، وفرق به الكفر والبهتان ، وحطمت به الأوثان والصلبان ، للأمم رموز يخطئون ويصيبون ، ويسدّدون ويغلطون ، لكن رسولنا صلى الله عليه وسلم معصوم من الزلل ، محفوظ من الخلل ، سليم من العلل ، عصم قلبه من الزيغ والهوى ، فما ضل أبداً وما غوى ، إنْ هو إلا وحي يوحى .
للشعوب قادات لكنهم ليسوا بمعصومين ، ولهم سادات لكنهم ليسوا بالنبوة موسومين ، أما قائدنا وسيدنا فمعصوم من الانحراف ، محفوف بالعناية والألطاف .
أثني على مَنْ أتدري من أبجله
أما علمت بمن أهديتُه كلمي
في أصدق الناس لفظاً غير متَّهمٍ
وأثبت الناس قلباً غير منتقم
قصارى ما يطلبه سادات الدنيا قصور مشيدة ، وعساكر ترفع الولاء مؤيدة، وخيول مسومة في ملكهم مقيدة ، وقناطير مقنطرة في خزائنهم مخلدة ، وخدم في راحتهم معبدة.
أما محمّد عليه الصلاة والسلام فغاية مطلوبه ، ونهاية مرغوبه ، أن يعبد الله فلا يشرك به معه أحد ، لأنه فرد صمد ،لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد .
يسكن بيتاً من الطين ، وأتباعه يجتاحون قصور كسرى وقيصر فاتحين ، يلبس القميص المرقوع ، ويربط على بطنه حجرين من الجوع ، والمدائن تفتح بدعوته ، والخزائن تقسم لأمته .
إن البرية يوم مبعث أحمد
بل كرم الإنسان حين اختار من
لبس المرقع وهو قائد أمة
لما رآها الله تمشي نحوه ... نظر الإله لها فبدّل حالها
خير البرية نجمها وهلالها
جبت الكنوز فكسّرت أعلامها
لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
ماذا أقول في النبي الرسول ؟ هل أقول للبدر حييت يا قمر السماء ؟ أم أقول للشمس أهلاً يا كاشفة الظلماء ، أم أقول للسحاب سلمت يا حامل الماء ؟
يا من تضوّع بالرضوان أعظمه
فطاب من طيب تلك القاع والأكمُ
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
فيه العفاف وفيه الجود والكرمُ
اسلك معه حيثما سلك ، فإن سنته سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها هلك ، نزل بزُّ رسالته في غار حراء ، وبيع في المدينة ، وفصل في بدر ، فلبسه كل مؤمن فيا سعادة من لبس ، ويا خسارة من خلعه فقد تعس وانتكس ، إذا لم يكن الماء من نهر رسالته فلا تشرب ، وإذا لم يكن الفرس مسوَّماً على علامته فلا تركب ، بلال بن رباح صار باتباعه سيداً بلا نسب ، وماجداً بلا حسب ، وغنيّاً بلا فضة ولا ذهب ، أبو لهب عمه لما عصاه خسر وتبّْ ، سيصلى ناراً ذات لهب .
الفرس والروم واليونان إن ذكروا
هم نمقوا لوحة بالرق هائمة ... فعند ذكرك أسمال على قزم
وأنت لوحك محفوظ من التهمِ
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ، وإنك لعلى خلق عظيم ، وإنك لعلى نهج قويم ، ما ضلّْ ، وما زلّْ ، وما ذلّْ ، وما غلّْ ، وما ملّْ ، وما كلّْ ، فما ضلّ لأن الله هاديه، وجبريل يكلمه ويناديه ، وما زلّ لأن العصمة ترعاه ، والله أيده وهداه ، وما ذلّ لأن النصر حليفه ، والفوز رديفه ، وما غلّ لأنه صاحب أمانة ، وصيانة ، وديانة، وما ملّ لأنه أعطي الصبر ، وشرح له الصدر ، وما كلّ لأن له عزيمة ، وهمة كريمة ، ونفس طاهرة مستقيمة .
كأنك في الكتاب وجدت لاءً
محرمة عليك فلا تحلُّ
إذا حضر الشتاء فأنت شمس
وإن حل المصيف فأنت ظلُّ(/8)
صلى الله عليه وسلم ما كان أشرح صدره ، وأرفع ذكره ، وأعظم قدره ، وأنفذ أمره ، وأعلى شرفه ، وأربح صفقه ، من آمن به وعرفه ، مع سعة الفناء ، وعظم الآناء ، وكرم الآباء ، فهو محمد الممجد ، كريم المحتد ، سخي اليد ، كأن الألسنة والقلوب ريضت على حبه ، وأنست بقربه ، فما تنعقد إلا على وده ، ولا تنطق إلا بحمده ، ولا تسبح إلا في بحر مجده .
نور العرارة نوره ونسيمه
وعليه تاج محبة من ربه ... نشر الخزامى في اخضرار الآسي
ما صيغ من ذهب ولا من ماسي
إن للفطر السليمة ، والقلوب المستقيمة ، حب لمنهاجه ، ورغبة عارمة لسلوك فجاجه ، فهو القدوة الإمام ، الذي يهدى به من اتبع رضوانه سبل السلام .
صلى الله عليه وسلم علم اللسان الذكر ، والقلب الشكر ، والجسد الصبر ، والنفس الطهر ، وعلم القادة الإنصاف ، والرعية العفاف ، وحبب للناس عيش الكفاف ، صبر على الفقر ، لأنه عاش فقيرا ، وصبر على جموع الغنى لأنه ملك ملكاً كبيرا ، بعث بالرسالة ، وحكم بالعدالة ، وعلم من الجهالة ، وهدى من الضلالة ، ارتقى في درجات الكمال حتى بلغ الوسيلة ، وصعد في سلّم الفضل حتى حاز كل فضيلة .
أتاك رسول المكرمات مسلماً
فأقبل يسعى في البساط فما درى ... يريد رسول الله أعظم متقي
إلى البحر يسعى أم إلى الشمس يرتقي
هذا هو النور المبارك يا من أبصر ، هذا هو الحجة القائمة يامن أدبر ، هذا الذي أنذر وأعذر ، وبشر وحذر ، وسهل ويسر ، كانت الشهادة صعبة فسهّلها من أتباعه مصعب ، فصار كل بطل بعده إلى حياضه يرغب ، ومن مورده يشرب ، وكان الكذب قبله في كل طريق ، فأباده بالصديق ، من طلابه أبو بكر الصديق ، وكان الظلم قبل أن يبعث متراكماً كالسحاب ، فزحزحه بالعدل من تلاميذه عمر بن الخطاب ، وهو الذي ربى عثمان ذو النورين ، وصاحب البيعتين ، واليمين والمتصدق بكل ماله مرتين ، وهو إمام علي حيدره ، فكم من كافر عفرّه ، وكم من محارب نحره ، وكم من لواء للباطل كسره ، كأن المشركين أمامه حمر مستنفرة ، فرت من قسوره .
إذا كان هذا الجيل أتباع نهجه
وقد حكموا السادات في البدو والحَضَرْ
فقل كيف كان المصطفى وهو رمزهم
مع نوره لا تذكر الشمس والقَمرْ
كانت الدنيا في بلابل الفتنة نائمة ، في خسارة لا تعرف الربح ، وفي اللهو هائمة ، فأذّن بلال بن رباح ، بحي على الفلاح ، فاهتزت القلوب ، بتوحيد علاّم الغيوب ، فطارت المهج تطلب الشهادة ، وسبحت الأرواح في محراب العبادة ، وشهدت المعمورة لهم بالسيادة .
كل المشارب غير النيل آسنة
وكل أرض سوى الزهراء قيعان
لا تنحر النفس إلا عند خيمته
فالموت فوق بلاط الحب رضوان
أرسله الله على الظلماء كشمس النهار ، وعلى الظمأ كالغيث المدرار ، فهز بسيوفه رؤوس المشركين هزّاً ، لأن في الرؤوس مسامير اللات والعزى ، عظمت بدعوته المنن ، فإرساله إلينا أعظم منّة ، وأحيا الله برسالته السنن ، فأعظم طريق للنجاة إتباع تلك السنة . تعلم اليهود العلم فعطلوه عن العمل ، ووقعوا في الزيغ والزلل ، وعمل النصارى بضلال ، فعملهم عليهم وبال ، وبعث عليه الصلاة والسلام بالعلم المفيد ، والعلم الصالح الرشيد .
أخوك عيسى دعا ميْتاً فقام له
وأنت أحييت أجيالاً من الرممِ
قحطان عدنان حازوا منك عزّتهم
بك التشرف للتاريخ لا بهمِ
المقامَة الكونية
{ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ }
وكتابي الفضاء أقرؤ فيه
صوراً تدهش العقول وحسن ... سوراً ما قرأتها في كتابي
يسكب السحر في الصخور الصلابِ
سبحان من له في كل شيء آية ، ليس لملكه نهاية ، وليس لعظمته غاية ، اقرأ آيات القدرة في صفحة الكون ، وطالع معجزة الخلق في الحركة والسكون ، في الليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس ، في السمك السارب ، في النمل الدائب ، في هالة النور تنشر رداء السناء ، في الفضاء ، في النهار يتماوج ، في البحر هائج مائج ، في النحل يلثم الأزهار ، في الليل يعانق النهار ، في الدمع يترقرق ، في الدماء تتدفق ، في الزهر يتشقق ، في الدواب السائمة ، في الوحوش الهائمة ، في الطيور الحائمة ، في الحيتان العائمة ، في العود يشتد ، في الظل يمتد ، في الجبال ترتدي عمائم الثلوج ، في القمر يهرول في البروج ، في الشمس تتبرج سافرة على العالم ، في النبت ما بين نائم وقائم .
في الأسرار تكنزها الضمائر ، في الأخبار تختزنها السرائر.(/9)
في الصخور كأنها تنتظر خبرًا من السماء فهي صامتة ، في الحجارة يكسرها الإنسان بفأسه وهي ساكتة ، في الفجر يطلق من عباءته النور ، في الأذهان بالأفكار تمور ، في الماء ينهمر من السماء ، ويغوص في الرمضاء ، يُقبِل بالخضرة والنماء ، ويدلف بالحياة للأحياء، يهيج أحيانا ويهدر ، ويزحف ويدمر ، لا تحدُّه الحدود ، ولا تردُّه السدود ، وعظمته سبحانه في خلق الإنسان ، وتركيبه في أحسن كيان ، حيث جعل في العينين سراجًا من النور، وأنشأ في القلب بصيرة تدرك الأمور ، وخلق العقل يقود هذا الكائن ، ويوجهه وهو ساكن ، في النبتة تشق طريقها إلى الفضاء ، وترفع رأسها إلى السماء ، في العندليب يرتجل على الغصن كالخطيب ، في الحمام يشدو بأحسن الأنغام ، يشكو الحب والهيام ، والعشق والغرام ، في الغراب يخبأ رزقه في الخراب ، ويدفن خصمه في التراب ، في الأسد يطارد القنيصة ، ويمزق الفريسة . في النحل يئِنّ ، والذباب يطِنّ ، في الزنبور يرِنّ .
في عالم النبات ، آلاف المذاقات ، ومئات الطعومات ، أخضر يعانق أحمر ، وأصفر يضم أغبر ، في الأوراق تميس في الطل ، في الحشرات تهرب إلى الظِّل .
في الناقة تحِنُّ إلى وليدها ، وتشتاق إلى وحيدها ، في الليل يخلع ثيابه على الآفاق ، في الضباب يخيّم على الأرض كالأطباق ، في النار تحرق ، في الماء يغرق .
في الضياء يسطع ، في الضوء يلمع ، في العين تدمع ، في البرق يكاد يذهب سناؤه بالأبصار ، في الصواعق تقصف الصخور والأشجار ، في الرعد يدوِّي فيملأ العالم ضجيجا ، في الروض يفوح فيعبق به الجو أريجا .
في أهل السلطان بين ولاية وعزل ، وأسرٍ وقَتْل ، وهزيمةٍ ونَصْر ، وسِجْنٍ وقَصْر ، في الموت يخترم النفوس ، ويسقط على الرؤوس ، ويأخذ الرئيس والمرؤوس ، ويبزّ العريس والعروس ، ويهدم الأعمار ، ويعطِّل الأفكار ، ويخلي الديار ، ويدخل كل دار .
في صنف من البشر ، يعيشون البطر ، له أموال كالجبال ، وآمال كأعمار الأجيال ، قصور تشاد ، كأنها لن تباد ، وحدائق غنّاء ، وبساتين فيحاء .
وفي صنف آخر فقير ، في دنياه حقير ، لا يملك الفتيل ولا القطمير ، يبحث عن الرغيف ، وينام على الرصيف ، ولقلبه من خوف الفقر رجيف .
في أهل العافية يمرحون ، وفي نعيمهم يسرحون ، وبما أوتوا يفرحون . وفي أهل البلاء ، وفي أصحاب الضنك والشقاء ، في ظلمات المحيطات ، وفي متاهات الغابات ، وفي مجاهل الفلوات . أرض تمتد بلا بشر ، صحارٍ قاحلة ليس فيها شجر ، وعوالم موحشة ما يسكنها بدو ولا حضر .
نجوم تسقط ، وكواكب تهبط ، ونيازك تلتهب ، ترمي بشرر ولهب ، مجرّات سميّة ، ومنازل قمريّة ، حدائق بأثواب الحسن تسر الناظرين ، ومشاهد في الكون جميلة تأخذ ألباب المبصرين ، رياض أنيقة تسرح فيها الغزلان ، باقات من الورود بهيجة يلعب بها الولدان .
كل في فلكٍ يسبح ، وكلٌّ في عالم يمرح ، شمس تجري كأنها تبحث عن مفقود ، قبل أن تطلع تسجد للمعبود ، آية باهرة ، وحكمة ظاهرة ، في خلق الإنسان ، ذلك الكيان ، الذي يحمل جامعات من السكنات والحركات ، فذهن متوقد ، وقلب متجدد ، وخيال يطوي الزمان والمكان ، ويناقل الإنسان ، بين خوف وأمان ، وذاكرة حافظة ، وألسنةٌ لافظة ، وشركات في كل الأعضاء ، منها يجذب الهواء ، ويسحب الماء ، ويهضم الغذاء ، ويجلب الدواءْ ، ويُذهب الداء ، ما بين دفعٍ وضغط ، وإخراج وشفط ، ومؤسّسات تشارك في بناء الجسم ، وفي قيام الرسم ، ليكون في أحسن تقويم ، وأكمل تنظيم ، في الطير وهو يبحث عن طعامه ، ويعود إلى مستقرّه ومنامه ، في الكائنات وهي في صراع محموم ، وفي هموم وغموم ، لتحصل على رزقها المقسوم ، وعيشها المعلوم ، في الإنسان وهو يفكِّر ويقدِّر ، ويقدِّم ويؤخِّر ، ويخطّط وينظر ، في الجبال ، واقفة في هيبة وجلال ، في الروابي الخضراء آية في الجمال ، في العافية والأسقام ، في الحقيقة والأحلام ، في اليقين والأوهام ، في الأقدام والأحِجام ، في السحاب والسراب ، والضباب والرضاب.
في الأحياء ، وحُبِّها للبقاء ، ومدافعتها للأعداء ، فهذا بمخلبه يصول ، وهذا بنابه يجول ، وهذا بمنقره يناضل ، وذاك بريشه يقاتل ، وآخر بسُمِّه يدفع ، وغيره بجناحه يردع ، منهم من يطير ، ومنهم من يسير ، ومنهم من يسبح ، ومنهم من يمرح ، ومنهم على رجلين ، ومنهم على يدين ، ومنهم من يطير بجناحين ، هذا يزحف ، وذاك يخطف ، وهذا في قيْدِه يرسُف ، في التقاء الأحباب والفراق ، في الضم والعناق ، في الركود والانطلاق .
في النجمة هائمة في صفحة السماء تبسم في حنادس الليل ، في البدر تفنيه الليالي ويدركه المحاق كأنه قتيل ، في روعة الإشراق ، وقد نشرت الشمس ضفائرها ونثرت جدائلها على التلال ، وبثَّت سِحْرها على الجبال .(/10)
في الطبيب يشفي من الداء ، فإذا أدركه الفناء ، بار فيه الدواء ، وعجز في علاجه الأطبّاء ، في المريض ييأس من العافية ، وتحار فيه الأدوية الظاهرة والخافية ، ثم تدركه من الله عناية شافية ، ورحمة كافية ، في البراكين تثور بالدمار ، في الزلازل تهز الديار ، في السُّم يُصنع منه الدواء ، في الماء يكون سبباً للفناء ، في الهواء يعصف فيدمر الأشياء ، في الريح تكون رخاءً فتلقح الثمار ، وتسوق الأمطار ، وتزجي السفن في البحار ، ثم تكون عاصفة هوجاء ، فتقتل الأحياء ، وتنقل الوباء ، في النخل باسقات لها طلع نضيد ، في الجبال تثبت الأرض وقد كادت تميد ، في الَّلبن يخرج من بين فرثٍ ودم، في كل مخلوق كيف وُجِد من العدم ، في الإبل كيف خُلقت ، في السماء كيف رُفعت ، في الجبال كيف نصبت ، في الأرض كيف سُطِحت ، في الضحى إذا ارتفع ، في الغيث إذا همع ، في خلق الإنسان كيف ينكس ، وفي عمره كيف يعكس ، يعمّر فيعود كالطفل ، فلا يُفرِّق بين فرضٍ ونفل ، في الطائر كيف يجمع القَش ، ويبني العُش ، ويختار عيضه ، ثم يضع بيضه ، في العجماوات ما بين جائع وبطين ، في الدود تبحث عن طعامها في الطين ، في البلبل يحبس في القفص فلا يبيض ، ويعيش بجناح مهيض ، في الحيّة وهي في الصحراء ، تنصب جسمها كأنه عود للإغراء ، فيقع عليها الهدهد ، يظنها عود مجرَّد ، فيكون طعامها ، بعد أن رأى قيامها ، في الثمرة تحمى بأشواك ، كأنها أسلاك ، في الأطعمة ما بين حلو وحامض ، وقلوي وقابض، في الناس ألف كواحد ، واحد كجيش حاشد ، في البشر ما بين عاقل حصيف، وطائش خفيف ، وتقيٍّ متنسِّك ، وفاجر متهتِّك ، في الأرواح كيف تتآلف وتتخالف ، في اختلاف الأصوات ، وتعدد الّلهجات ، وتباين النغمات ، وكثرة اللغات ، في الحر يكاد يذيب الحديد ، في البرد يحول الماء إلى جليد ، في الأرض يعلوها من الغيث بُرد أخضر ، ويكسوها من القحط رداء أغبر ، في المعادن تذوب بالنار ، فتسيل كأنها أنهار ، في السماء تتلبّد بالغيوم ، ولها وجوم ، كأن وجهها وجه مهموم ، أو طلعة مغموم ، في الشمس تكسف ، في القمر يخسف ، في كل ما ننكر ونعرف ، في كل مولود حين يوضع ، كيف يهتدي إلى الثدي فيرضع ، إن عاش الحيوان في جو معتدل كساه بالشعر ، وإن عاش في برد قارص غطاه بالوبر ، وإن عاش في الصحاري دثره بالصوف ، ليقاوم الحتوف ، حيوان الغاب يزوده بناب ، ويمنحه مخلاب ، وطير العريش يقويه بريش ليعيش ، ينبت في الصحراء شجرة جرداء ، تصبر لحرارة الرمضاء ، ووهج البيداء ، ويزرع في البستان شجرة ذات رواء وأغصان ، ندية الأفنان ، مختلفة الطعوم والألوان ، جعل الصيد في البيد ، ليحمي نفسه من التهديد ، علّم العنكبوت ، كيف تبني البيوت ، وهدى النملة لادّخار القوت ، جعل فوق العينين حاجبين ، ليحميهما من ضرر المعتدين ، وجعل أمامها رمشين ، لتكون في حرز أمين ، وجعل فيهما ماء تغتسلان به كل حين ، يسلط الرياح على السحاب ، فيقع التلاقح والإنجاب ، إن شاء جعل الهواء عليلاً ، يحمل نسيماً جميلاً ، وإن شاء جعله ريحاً عاصفة ً، مدمرة قاصفة ، سبحان من حكم الكون بالقهر ، مع علو القدر ، ونفاذ الأمر ، له الملكوت والجبروت ، وهو حي لا يموت ، أحسن كل شيء خلقه ، وتكفل بكل حي يوم رزقه ، أوجد الحب وفلقه ، تسمى بأحسن الأسماء، واتصف بأجمل الصفات والآلاء ، عطاؤه أنفع عطاء ، جلّ عن الشركاء ، نصر الأولياء ، وكبت الأعداء ، عبادته فرض ، والصدقة عنده قرض ، وسلطانه عمّ السماء والأرض ، يعلم الغيوب ، ويقدر المكتوب ، ويمحو الذنوب ، ويستر العيوب ، ويهدي القلوب ، وينقذ المكروب ، نعمه لا تعد ، ونقمه لا تصد ، وعظمته لا تحد ، وعطاياه لا ترد ، منصورٌ من والاه، سعيدٌ من دعاه ، موفَّق من رجاه ، مخذول من عصاه ، مدحور من عاداه .
من الذي قد استوى
ومن هو العظيم
ومن يجيب الداعي
ومن برى البرية
من أنزل الكتابا
من كسر الأكاسرة
من علم الإنسانا
من أسدل الظلاما
من أطعم الخليقة
الخير قد أسداه
والشر قد أباده
وهو عظيم القدرة
يفعل ما يريد
وهو المسمى بالصمد
يعرف بالآلاء
فلا تكيف في الصفة
ولا تجادل فيهِ
وقل نعم سلّمنا
واتبع الرسولا
وكن على نهج السلف
واحترم الصحابة
وكن تقيّاً واتبع
وعظم الحديثا
واطلب هديت علما
أوله التوحيدُ
واجتنب الكلاما
ومنطقاً وفلسفة
واتبع الأئمة
كالخلفاء الأربعة
كذا أبو حنيفة
ومالك بن أنسِ
والشافعي محمّدْ
وأحمد بن حنبل
وشيخنا سفيان
والبارع الأوزاعي
وأحمد الحرّاني
وبعده محمّد
وهذه وصيّة
موجزة لطيفة
نظمتها على عجل
فهو أحق من ذُكِر
أسأله التوفيقا
وأشرف الصلاةِ
المصطفى وصحبهِ
... لملكه قد احتوى
والمنعم الكريم
لأشرف المساعي
ووسع البرّية
وعلم الصوابا
من قصر القياصرة
علمه البيانا
ونشر الغماما
وأوضح الطريقة
والعبد قد هداه
والحق قد أعاده
فقدرنَّ قدره
وبطشه شديد
فقل هو الله أحد
والوصف والأسماء
وغلّط المكيّفة
كمذهب السفيهِ
يا ربنا علّمنا(/11)
ولا تكن جهولا
واحذر أخي من الخلف
والآل والقرابة
ولا تطع أهل البدع
وسر له حثيثًا
حباك ربي الفهما
يعرفه العبيدُ
والزور والآثاما
فكل هاتيك سفه
فهم نجوم الأمة
أهل العلا والمنفعة
علومه شريفة
في العلم كالمؤسسِ
في علمه مجودْ
إمامنا المبجل
بزهده مزدانُ
قد جدّ في المساعيِ
العالِم الرباني
من نجد جا يجدد
أبياتها محصيّة
في لفظها خفيفة
في ربنا عز وجل
وهو أجلّ من شُكِرْ
والفهم والتحقيقا
لصاحب الآياتِ
آنسنا بحبه
المقامَة الحديثيّة
{ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى }
من زار بابك لم تبرح جوارحه
فالعين عن قرةٍ والكف عن صلة ... تروي أحاديث ما أوليت من منن
والقلب عن جابر والسمع عن حسن
جاءني عطاء الله السمرقندي ، فبات عندي ، وكان أحد المحدثين ، ويكره الُمحْدِثين في الدين ، فقلنا : أيها الإمام ، عليك السلام : الوقت حثيث ، فحدثنا عن علم الحديث ، فتأوّه ثم قال : مات حفاظه ، فكادت تنسى ألفاظهُ ، ، وأهل الحديث هم الركب الأخيار ، أحباب المختار ، قوم تصدقوا بالأعمار على الآثار ، وقضوا الحياة في الأسفار ، لجمع كلام صفوة الأبرار :
في كل يوم لنا في الأرض مرتحل
نغدو بدار ونمسي بعد في دار
شدّوا العمائم ، وجدّوا في العزائم ، وتسلحوا بالصبر الدائم ، فلو رأيتهم وقد فتحوا الدفاتر ، وقربوا المحابر ، وكتبوا : حدثنا مسدّد بن مسرهد ، أو رواه أحمد في المسند ، أو أخرجه البخاري ، وشرحه في فتح الباري ، لهانت عندك الدنيا بما فيها ، وركبت سفينة الحديث وناديت باسم الله مجراها . ولأقبلت على العلم والكتب ، وهجرت اللهو واللعب ، واللغو والطرب .
يفوح من فم المحدث المسك التِّبتي ، لأن عليه سيماء ( نضَّر الله ، امرأً سمع مني مقالتي ) أنفاس المحدثين تنضح بالطيب ، لأنها حملت اسم الحبيب :
يكون أجاجاً دونكم فإذا انتهى
إليكم تلقى طيبكم فيطيب
بن
بنفسي ذاك المحدث إذا جلس على الكرسي ، وقد حف به الطلاب ، ونشر الكتاب ثم قال : حدثنا محمد بن شهاب ، عندها يرتحل قلبك ، ويكاد يطير لبك ، شوقاً لصاحب التركة ، لما جعل الله في كلامه من البركة . فتصبح الدنيا رخيصة مرفوضة ، لا تساوي جناح بعوضة ، وتشتاق النفوس إلى الجنة ، لما غشيتها أنوار السنة .
إني إذا احتوشتني ألف محبرةٍ
نادت بحضرتي الأقلام معلنة ... يكتبن حدثني طوراً وأخبرني
تلك المكارم لا قعبان من لبنِ
أما أخبار المحدثين في الأسفار ، وقطع القفار ، وامتطاء البحار ، وركوب الأخطار ، فقد حفلت به الأسفار . ولكنهم في سفرهم يقرؤون كتاب الكون ، في كل حركة وسكون ، فإن المحدث يجد المتعة في ارتحاله ، والبهجة في انتقاله ، من ناد إلى ناد ، ومن جبل إلى واد ، فهو يعب من المناهل ، ويسرح طرفه في المنازل ، ويطلق بصره إلى دساكر الأقطار وغياضها ، وحدائق الديار ورياضها ، فيلمح عجائب البلدان ، ويتصفح غرائب الأوطان ، ويأنس بنغم الطيور في كل بستان ، فهو في تنقل بين حيطان وغيطان ، ووديان وأفنان وألوان ، تمر به الصور والمشاهد ، ويبيت في المساجد ، ويعب الماء النمير ، من كل غدير ، له في كل بلدة أصحاب ، وله في كل قرية أحباب .
يفترش الغبراء ، ويلتحف السماء ، سلم في سفره من أذى الجيران ، وضوضاء الصبيان ، والثقيل من الإخوان ، ينام على الثرا ، في العرا ، خارج القرى ، مركوبه رجلاه ، وخادمه يداه ، البسمة لا تغادر محياه :
ومشتت العزمات لا يأوي إلى
ألِفَ النوى حتى كأن رحيله ... سكن ولا أهل ولا جيرانِ
للبين رحلته إلى الأوطانِ
قيل للفلاسفة : من سندكم ؟ قالوا : ابن سينا عن سرجيس بن ماهان ، عن أرسطاليس من اليونان .
وقيل لعلماء الكلام : من سندكم ؟ قالوا : محمد بن الجهم من خراسان ، عن الجهم بن صفوان .
وقيل للمحدثين : من سندكم ؟ قالوا : طاووس بن كيسان ، عن ابن عباس ترجمان القرآن ، عن الرسول سيد ولد عدنان ، عن الرحمن ، كان المحدِّث إذا ودّع أولاده ، وترك بلاده ، وحمل زاده ، يجد من راحة البال ، وطيب الحال ، ما يفوق فرحة أصحاب الأموال ، وما يربو على سرور من ملك الرجال .
إذا جمع بعضهم كلام الفلاسفة ، أهل الزيغ والسفه ، الذي يورث الجدال والمعاسفه ، جمع المحدثون كلام الذي ما ضل وما غوى ، وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى .
وإذا تفاخر أحدهم بجمع كلام علماء الكلام ، أهل الشقاق والخصام ، والفرقة والخصام . تفاخر المحدثون بحديث خير الأنام ، أزكى من صلى وصام ، وحج بالبيت الحرام . قال الشافعي : إذا رأيت محدثا فكأني رأيت أحد أصحاب محمد ، قلت : لأن نهجهم مسدد ، وعلمهم من الله مؤيد .
وقد أطال ثنائي طول لابسه
إن الثناء على التنبال تنبال
أنا لا أريد سَنَدي من إيوان كسرى أنو شروان ، ولا من الرومان ، ولا من اليونان، أريد سندي عن سفيان ، أو سليمان بن مهران ، أو سلمان عن رسول الإنس والجان .
تعلمني كلام الناس بلا دليل ، ولا تأصيل ، وتقول هذا كلام جميل ، وعندي التنزيل ؟(/12)
قيل للحمار ، لماذا لا تجتر ؟ قال : أكره الكذب .
وقيل للجمل لماذا لا ترقص ؟ قال : لا أعرف الطرب .
وتعلمني الفلسفة والمنطق ، وأنا ما عندي وقت للعب .
أريد أن أسمع في المجلس ، حدثنا سبعين مرة ، لتكتمل المسرّة .
أهل الحديث هموا أهل النبي وإن
لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
الحديث النبوي كلام ، لم يخمر في عقول فلاسفة اليونان ، ولم يتعفن في أدمغة فلان وفلان ، ولم يأت من أهواء أهل الطغيان . وإنما قاله من أتى بالقرآن ، تقرأ استنباط أهل الفهوم ، وتطالع كتب أرباب العلوم ، ثم تتلو حديث المعصوم ، فإذا ماء الوحي يترقرق في جنباته ، ورحيق العصمة يتدفق في قسماته ، فكان كل علم قرأته قبله نسي وانتهى ، لأنه لا يقاوم كلاماً أتى من عند سدرة المنتهى .
السموات شيقات ظماء
لكلام من الرسول جميل ... والفضا والنجوم والأنواء
تتلاشى من نوره الأضواء
ما أحسن الضم والعناق ، لجملة حدثنا عبد الرزاق ، كلما قلت أخبرنا علي بن المديني ، حفظت ديني ، سهمي لكل مبتدع يسدد ، إذا قلت حدثنا مسدد بن مسرهد .
أشرقت أمامي المسالك ، كلما قرأت موطأ مالك ، سقيم الإرادة العلمية له علاج ، عند مسلم بن الحجاج ، أدْمغُ كل منحرف بذي ، بسنن الترمذي ، أنا في صباحي ومسائي ، أدعو للنسائي .
هاجر المحدثون إلى الله لطلب كلام رسوله الأمين ، فوجدوا في أول الطريق ثواب نية الصادقين ، ووجدوا في وسطه نضرة البهاء التي دعا بها سيد المرسلين ، ووجدوا في آخر الطريق جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين .
كل صاحب فن ، ينسب إلى صاحب ذاك الفن ، إلا المحدثون فإنهم ينسبون ، إلى من أتى بالسنن ، وأهدى لنا المتن ، وتنعمت بعلومه الفطن .
ما أروع الهمم الكبار لثلةٍ
معروفة بالبر والإحسانِ
يتصيدون كلام أكرم مرسلٍ
ينفون عنه سبيكة البهتانِ
سافر أحمد بن حنبل من بغداد إلى صنعاء ، يمتطي الرمضاء ، ويركب الظلماء ، يترك الأهل ، يدفعه الجبل إلى السهل ، تشيعه الدموع ، يرافقه الجوع . لأن الرجل مشتاق، وأحد العشاق ، لذاك الترياق ، من قوارير عبد الرزاق .
دخل مكحول القرى والبوادي ، وطاف على النوادي ، وعبر كل وادي ، يطلب حديث النبي الهادي ، فصار ريحانة الشام ، وشيخ الإسلام .
ومشى أبو حاتم ، ألف فرسخ على الأقدام ، لطلب حديث سيد الأنام ، فأصبح بذلك أحد الأعلام .
تهون خطانا للمحب فلو مشى
إليكم فؤادي كان أبرد للشوقِ
المحدثون هم عسكر الرسالة ، وجنود البسالة ، ظهروا على البدع بكتائب حدثنا ، وسحقوا الملاحدة بجيوش أخبرنا .
لولا كتابة الحديث في الدفاتر ، وحمل المحدّثين للمحابر ، لخطب الدجَّال على المنابر
الله كم من أنف لمبتدع أرغم بصحيح البخاري ، وكم من صدر لمخالف ضاق بفتح الباري .
الحديث كسفينة نوح فيها من كل زوجين اثنين : رواية ودراية ، بداية ونهاية ، متون وأسانيد ، صحاح ومسانيد ، تراجم ومعاجم .
من ركب هذه السفينة نجا من غرق الضلالة ، وسلم من بحر الجهالة ، ووصل شاطئ الرسالة .
انطلقت هذه السفينة من المدينة ، ربانها المصطفى ، والركاب الصحابة الأوفياء ، نحن على مائدة المحدثين أضياف ، فلعلنا نعد منهم ، لأن المضاف إليه يأخذ حكم المضاف ، لكل طائفة رئيس ، والمحدِثّون محمد - صلى الله عليه وسلم - رئيسهم ، وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم ، ليتني خسرت ذهباً مثل ثهلان ، بمجلس واحد مع سفيان .
المحدثون بيوتهم المساجد ، وعصى التسيار التوكل ، وزادهم التقوى ، وكلامهم حدثنا وأخبرنا ، ويريدون وجهه ، والمطلب الجنة ، والمقصد رضوان الله ، والعمل الذب عن الملة ، والنسبة محمديّون .
هذه الطائفة : (( دعها فإن معها حذاؤها وسقاؤها ، ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها ، في جنات ونهر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر )) .
سلام على المحدِّثين ، ورحمة رب العالمين ، ورضوان عليهم في الخالدين ، وجمعنا بهم في الصالحين ، وإلى لقاء بعد حين :
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي
مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
المقامَة العلميّة
(( العلماء ورثة الأنبياء ))
جعلت المال فوق العلم جهلاً
وبينهما بنص الوحي بون ... لعمرك في القضية ما عدلتا
ستعمله إذا طه قرأتا(/13)
العلم أشرف مطلوب ، وأجل موهوب ، والعلماء ورثة الأنبياء ، وسادة الأولياء ، والشهداء على الألوهية ، والدعاة إلى الربوبية ، تستغفر لهم حيتان الماء ، وطيور السماء ، وتدعو لهم النملة ، وتستغفر لهم النحلة ، وَلاَيتهم لا تقبل العزل ، وأحكامهم ليس فيها هزل ، مجالسهم عبادة ، وكلامهم إفادة ، يوقعون عن رب العالمين ، ويفضلون الناس أجمعين ، وكما يُهتدى بالنجوم في ظلم البر والبحر ، فهم منائر الأرض يهتدى بهم في كل أمر ، العلم في صدورهم ، والله يهدي بنورهم ، وينزّل عليهم الرضوان في قبورهم ، هم حملة الوثيقة ، والشهداء على الخليقة ، كلامهم محفوظ منقول ، وحكمهم ماضٍ مقبول ، بهم تصلح الديار ، وتعمر الأمصار ، ويكبت الأشرار ، وهم عز الدين ، وتاج الموحدين ، وصفوة العابدين ، هم أنصار الملة ، وأطباء العلة ، يذودون عن حياض الشريعة ، ويزجرون عن الأمور الفظيعة ، وينهون عن المعاصي الشنيعة ، هم خلفاء الرسول ، ثقات عدول ، ينفون عن الدين تأويل المبطلين ، وتحريف الجاهلين ، وأقوال الكاذبين ، مذاكرتهم من أعظم النوافل ، ومرافقتهم من أحسن الفضائل ، وهم زينة المحافل ، بهم تقام الجماعات والجمع ، وبهم تقمع البدع ، هم الكواكب في ليل الجهل ، وهم الغيث يعم الجبل والسهل ، عالِمٌ واحد ، أشد على الشيطان من ألف عابد ، لأن العالِم يُدرِك الحيل ، ولا تختلط عليه السبل ، يكشف الله به تلبيس إبليس ، ويدفع الله بهم كل دجّال خسيس ، أحياء بعد موتهم ، موجودون بعد فوتهم ، علمهم معهم في البيوت والأسواق ، ويزيد بكثرة الإنفاق ، أقلامهم قاضية ، على السيوف الماضية ، بصائرهم تنقب في مناجم النصوص ، وعقولهم تركب الدر في الفصوص ، الناس يتقاسمون الدرهم والدينار ، وهم يتوزعون ميراث النبي المختار ، لو صلّى العابد سبعين ركعة ، ما عادلت من العالم دمعة ، فهم أهل العقول الصحيحة ، وأرباب النصيحة .
أما العلم شرف الدهر ، ومجد العصر ، ذهب الملك بحراسه ، وبقيت بركة العالم في أنفاسه ، فنِيَ السلاطين ، ووُسِّدوا الطين ، وخلد ذكر أهل العلم أبدا، وبقي ثناؤهم سرمدا ، العلم أعلى من المال ، وأهيب من الرجال ، به عُبِدَ الديّان ، وقام الميزان ، وبه نزل جبريل ، على صاحب الغرة والتحجيل،وبه عرفت شرائع الإسلام ، ومُيِّز بين الحلال والحرام ، وبه وُصلت الأرحام ، وحُلَّ كلُّ نزاع وخصام ، وبالعلم قام صرح الإيمان ، وارتفع حصن الإحسان ، وبيّنت العبادات ، وشرحت المعاملات ، وهو الذي جاء بالزواجر ، عن الصغائر والكبائر ، وفَقِه الناس به الفرائض والنوافل ، والآداب والفضائل ، ونصبت به معالم السُّنن ، وكُشف به وجه الفتن ، ودُلَّ به على الجنة ، ودعي به إلى السنة ، وهو الذي سحق الوثنية ، وهدم كيان الجاهلية ، ونهى عن سبيل النار ، وموجبات العار ، ووسائل الدمار ، وبه حورب الكفرة ، وطورد الفجرة ، وهو من العلل دواء ، والشكوك شفاء ، ينسف الشبهات ، ويحجب الشهوات ، ويصلح القلوب ، ويرضي علاّم الغيوب ، وهو شرف الزمان ، وختم الأمان ، وهو حارس على الجوارح ، وبوَّابة إلى المصالح ، وصاحبه مهاب عند الملوك ، ولو كان صعلوك ، وحامله ممجّد مسوّد ، ولو كان عبداً أسود ، يجلس به صاحبه على الكواكب، وتمشي معه المواكب ، وتخدمه السادة ، وتهابه القادة ، وتكتب أقواله ، وتقتفى أعماله ، وتحترمه الخاصة والعامة ، ويدعى للأمور العامّة ، مرفوع الهامة ، ظاهر الفخامة ، عظيم في الصدور ، غني بلا دور ولا قصور ، الله بُغيته ، والزهد حليته ، مسامرته للعلم قيام ، وصمته عن الخنا صيام ، رؤيته تُذكِّر بالله ، لا يعجبه إلا الذكر وما والاه ، عرف الحقيقة ، وسلك الطريقة ، به تقام الحجة ، وتعرف المحجة، وهو بطل المنابر، وأستاذ المحابر، والمحفوظ اسمه في الدفاتر .
والعلم وسام لا يخلع ، وهو من الملك أرفع ، وهو إكليل على الهامة ، ونجاة يوم القيامة ، ينقذ صاحبه من ظلمات الشك والريبة ، ويخلصه من كل مصيبة، وهو علاج من الوسواس ، وفي الغربة رضا وإيناس ، وهو نعم الجليس والأنيس ، وهو المطلب النفيس .
يغنيك عن المسومة من الخيل ، والباسقات من النخيل ، ويكفيك عن القناطير المقنطرة ، والدواوين المعطّرة .
وحسبك كفاية عن كل بناء ، وعن الحدائق الغناء ، والبساتين الفيحاء ، وهو الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً ، والمُلْك الذي من أعطيه فقد أعطي ملكاً كبيرا ، وصاحب العلم غنيٌّ بلا تجارة ، أمير بلا إمارة ، قويٌّ بلا جنود ، والناس بالخير له شهود .(/14)
مات القادات والسادات ، وذكرهم معهم مات ، إلا العلماء فذكرهم دائم ، ومجدهم قائم ، فألسنة الخلق ، أقلام الحق ، تكتب وتخط لهم الثناء ، وأفئدة الناس صحف تحفظ لهم الحب والوفاء ، كان أبو حنيفة مولىً يبيع بزّا ، ولكنه بعلمه هز الدنيا هزّا ، وكان عطاء بن أبي رباح ، خادم لامرأة في البطاح، فنال بعلمه الإمامة ، وأصبح في الأمة علامة ، وابن المبارك عبد الله، المولى الإمام الأوّاه ، والأعمش ومكحول ، كانوا من الموالي ولكنهم أئمة فحول ، فالعلم يرفع صاحبه بلا نسب ، ويشرفه بلا حسب .
وإنما يحصل العلم بخدمته كلَّ حين ، وطلبه ليُعبد به رب العالمين ، وطيُّ الليل والنهار في تحصيله ، والسهر على تفصيله ، ومذاكرته كل يوم ، والاستغناء به عن حديث القوم ، ومطالعة مصنفاته ، ومدارسة مؤلفاته ، وتقييد أوابده ، وحفظ شوارده ، وتكرار متونه ، ومعرفة عيونه .
فمن طلبه بصدق ، وحرص عليه بحق ، فهو مهاجر إلى الله ورسوله ، تفتح له أبواب الجنة عند وصوله ، وهو مرابط في ثغور المرابطين ، وجواد في صفوف المعطين ، ومداده في الأوراق ، كدماء الشهداء المهراق ، لأنه مقاتل بسيف النصوص ، قطّاع طريق الملة واللصوص ، وقد يقمع الله به الأشرار، ما لا يقوم به جيش جرار ، فإن الله يجري حجّته على لسانه ، ويُسيِّر موعظته في بيانه ، فينزع الله بكلامه حظَّ الشيطان من النفوس ، ويجتث به خطرات الزيغ من الرؤوس ، ويغسل الله بمعين علمه أوساخ القلوب .
وينفض بنصائحه أدران الذنوب ، فكلما بنى إبليس في الأرواح ضلالة جاء العالم فأزهقها ، وكلما نسج في الأنفس خيمة للباطل قام العالم فمزّقها .
صاحب المال مغموم مهموم ، خادم وليس بمخدوم ، حارس على ماله ، بخيل على عياله ، وصاحب العلم سعيد مسرور ، يعمره الحبور ، ويملأ فؤاده النور ، تعلم من السؤدد غايته ، ومن الشرف نهايته تجبى إليه ثمرات كل شيء من لطائف المعارف ، وتهوي إليه أفئدة الحكمة وهو واقف ، يأتيه طلبة العلم من كل فج عميق ، كأنما يؤمون البيت العتيق ، في قلبه نصوص الشريعة ، ينزل عليها ماء الفقه فتهتزّ وتربو ، وتنبت من كل زوج بهيج ، فترى العالم يجول فكره في الملأ الأعلى والناس في أمر مريج ، فقلب العالم له جولان في فضاء التوحيد ، وقلب الجاهل في غابات الجهل بليد ، أشرقت في قلب العالم مشكاة فيها مصباح ، وتنفس في نفسه نور الصباح ، أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها ، فاخضرت روضة العالم على أثرها.
صيد الكلب المعلّم حلال ، وصيد الكلب الجاهل حرام ووبال ، وما ذاك إلا لشرف العلم حتى في البهائم ، ومكانة المعرفة حتى في السوائم .
والهدهد حمل علماً إلى سليمان ، فسطّر الله اسمه في القرآن ،فهو بالحجة دمغ بلقيس، وأنكر عليهم عبادة إبليس ، وحمل من سليمان رسالة ، وأظهر بالعلم شجاعة وبسالة . فعليك بالعلم ، والفهم فيه الفهم ، وتصدَّق عليه بنوم الجفون ، وأنفِق عليه دمع العيون ، واكتبه في ألواح قلبك ، واستعِن على طلبه بتوفيق ربك ، وأتعِب في طلبه أقدامك ، وأشغل بتحصيله أيامك ، وإذا سهر الناس على الأغاني ، فاسهر على المثاني ، وإذا وقع القوم في الملذات ، وأدمنوا الشهوات ، فاعكف على الآيات البينات ، والحكم البالغات ، وإذا احتسى العصاة الصهباء فاكرع من معين الشريعة الغراء ، وإذا سمعت اللاهين يسمرون ، وعلى غيهم يسهرون ، فصاحب الكتاب ، فإنه أوفى الأصحاب ، وأصدق الأحباب ، وإذا رأيت الفلاّح يغرس الأشجار ، ويفجّر الأنهار ، فاغرس شجر العلم في النفوس ، وفجّر ينابيع الحكمة في الرؤوس ، وإذا أبصرت التجار يصرفون الفضة والذهب ، فاصرف الحجة كالشهب ، وأطلق الموعظة كاللهب .
يكفيك أن العلم يَدَّعيه غير أهله ، وأن الجهل ينتفي منه الجاهل وهو في جهله ، يرفع العالم الصادق بعلمه على الشهيد ، لأنه يقتل به كل يوم شيطان مريد ، العالم سيوفه أقلامه ، وصحفه أعلامه ، ومنبره ظهر حصانِه ، وحلقته حلبة ميدانه ، العالم يفرّ من الدنيا وهي تلحقه ، ويأبى المناصب وهي ترمقه ، والعلم هو العضْب المهند ليس ينبو ، وهو الجواد المضمّر الذي لا يكبو ، ولكن المقصود بهذا العلم علم الكتاب والسنة ، الذي يدلك على طريق الجنة ، وهو ما قادك إلى الاتباع ، ونهاك عن الابتداع ، فإن كسرك وهصرك ونصرك ، فهو علم نافع فإن أعجبك وأطربك وأغضبك فهو علم ضار ، ما كسرك عن الدنيا الدنية ، والمراكب الوطيّة ، والشهوات الشهية ، وهصرك عن العلو في الأرض ، ونسيان يوم العرض ، ونصرك على النفس الأمارة ، والأماني الغدارة ، فهذا هو العلم المفيد ، والعطاء الفريد .
وإن أعجبك فتكبرت ، وأطربك فتجبّرت ، وأغضبك فتهوّرت فاعلم أنه علم ضار، وبناء منهار ، علم لا يلزمك تكبيرة الإحرام مع الإمام ، فهو جهل وأوهام ، وعلم لا يدعوك إلى الصدق في الأقوال ، والإصلاح في الأعمال ، والاستقامة في الأحوال ، فهو وبال ، العلم ليس مناصب ومواكب ومراكب ومراتب ومكاسب .(/15)
بل العلم إيمان وإيقان وإحسان وعرفان وإذعان وإتقان ، فهو إيمان بما جاء به الرسول ، وإيقان بالمنقول والمعقول ، وإحسان يجوَّد به العمل ، ويحذَر به من الزلل ، وعرفان يحمل على الشكر ، ويدعو لدوام الذكر ، وإذعان يحمل على العمل بالمأمور ، واجتناب المحذور ، والرضا بالمقدور ، وإتقان تصلح به العبادة ، وتطلب به الزيادة .
المقامَة السلفيّة
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ }
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا
أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
ولا يستطيع الفاعلون فعالهم
ولو حاولوا في النائبات وأجملوا
قال الراوي : نراك صاحب تحف ، فحدثنا عن مذهب السلف ، ليقتدي به الخلف فملأه السرور ، وحضره الحبور ، وغشيه النور ، ثم أنشد :
وداعٍ دعا إذ نحن بالخيف من منى
فهيّج أشواق الفؤاد وما ندري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما
أطار بليلى طائراً كان في صدري
ثم قال ذكرتمونا خير القرون ، ونون العيون ، فحديثهم ذو شجون .
فهم أهل الاتّباع لا الابتداع ، وأهل الرواية والسماع ، والأُلفة والاجتماع ، نزل الوحي بناديهم ، وسارت السنة من واديهم ، شهدوا التنزيل ، وعرفوا التأويل ، قولهم سديد ، وفعلهم رشيد ، ومنهجهم حميد ، ومذهبهم فريد ، اعتصموا بالدليل ، وتركوا القال والقيل ، فهم صفوة كل جيل ، وخلاصة كل قبيل :
هم النجوم مسائلها إذا التبست
عليك عند السرى يا صاحبي السبلُ
اتبع طريقتهم اعرف حقيقتهم
اقرأ وثيقتهم بالحب يا رجلُ
السلف أهدى الناس سبيلا ، وأصدقهم قيلا ، وأرجحهم تعديلا .
هم أعلام يُهتدى بهم في بيداء الضلالة ، وهم أقمار يستضاء بها في ليل الجهالة ، هم الموازين الصادقة للمذاهب ، وهم المعين العذب لكل شارب ، وهم الرعيل المختار المقتدي به كل طالب . تركوا التشدّق ، والتفيهق ، والتشقق ، والتحذلق ، والتمزق .
وهجروا التعسف والتكلف ، لهم منا الحب الصادق ، والعهد الواثق ، والإجلال والتقدير ، والإكرام والتوقير ، والنصرة والتعزير ، شرف الله تلك الأقدار ، وأنزلهم منازل الأبرار ، وأسكنهم أجل دار ، وأحسن قرار ، لو كتبت دموعنا على خدودنا لما كتبت إلا حبَهم ، لو تمنت قلوبنا غاية الأماني ما تمنّت إلا قربَهم .
أما والذي شق القلوب وأوجد
المحبة المحبة فيها حيث لا تتصرمُ
وحملها قلب المحب وإنه
ليضعف عن حمل القميص ويألمُ
لأنتم على قرب الديار وبعدها
أحبتنا إن غبتموا أو حضرتموا
سلوا نسمات الريح كم قد تحمّلت
محبة صبٍّ شوقه ليس يكتمُ
السلف خير منا ، ارتفع قدرهم عنا ، سبقوا بالإيمان ، وحب الديان ، والعمل بالقرآن ، ونيل درجة الإحسان ، هم أهل الهجرة والجهاد ، والصبر والجلاد ، عندهم خير زاد ، ليوم المعاد ، وهم صفوة العباد . السلف ليسوا معطلة ، ولا معتزلة ، ولا مؤوِّلة ، ولا مجهّلة ، ولا مخيّلة .
لأن المعطلة عطلوا الباري مما دلت عليه الأحاديث والآيات ، والمعتزلة نفوا الصفات والمؤولة أوّلوا ما أتت به النصوص الواضحات ، والمجهلة قالوا إن الرسل ليس عندهم إلا تخيلات ، فضلّ الجميع في العقليات ، وجهلوا النقليّات ، فهدى الله أهل السنة لأحسن الأقوال في الظنيات واليقينيات ، والصفات ، والذات .
والسلف ليسوا خوارج أقوالهم كفرية ، وليسوا جبرية ، ولا قدرية ، ولا أشعرية .
لأن الخوارج كفّروا بالكبيرة ، وأخرجوا المسلم من الدين بالجريرة ، وحملوا السيف على أئمة الحيف ، وخلدوا الفاسق في النار ، مع الكفار ، والجبرية قالوا : إن العباد جبروا على الذنوب ، وقهروا على معصية علام الغيوب .
والقدرية قالوا لم يسبق القدر علم ولا كتاب ، والأمر مستأنف خطأه والصواب .
والأشعرية أثبتوا الأسماء وسبعاً من الصفات ، وأوّلوا الباقيات ، ولهم مقالات زائفات ، والسلف قابلوا النصوص بالإذعان والتسليم ، والتوقير والتكريم ، فأمرُّوها على ظاهرها كما جاءت من غير تمثيل ، وقبلوها من غير تعطيل ، وعرفوها من غير تكييف وفهموها من غير تشبيه ولا تزييف .
وأنا إلى السلف انتسب ، لأنني رضعت منهجهم ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، والمبتدعة ليسوا منا ولا إلينا ، لأن البقر تشابه علينا .
إذا أتاني كتاب مختوم ، عليه توقيع المعصوم ، لثمتُه بدموعي وأنفاسي ، ووضعته على راسي ، وقلت سمعاً وطاعة ، لصاحب الحوض والشفاعة .
وإذا جاءني كتاب بالباطل منمرق ، وبالبدعة مزمرق ، وبالبهتان ممخرق ، مزقته كل ممزق . واعظ الله في كل سريرة ، فإذا ألقيت قميص يوسف على يعقوب البصيرة . عاد القلب بنور الوحي بصيرا ، وارتد طرف الباطل حسيرا ، وانفل حد الزور كسيرا . سلام على السلف ، من الخلف ، ما غرد حمام وهتف ، وما حَنّ حبيب لحبيب وعطف ، وما رقص قلب صب ورجف ، وما همع دمع ونزف .(/16)
جمرك البضاعة بختم محمد ، واكتب على البطاقة لا يستبدل ولا يجدد ، واقرأ على الكيس خرج من مدينة الرسول ، وحامل الكيس هو المسئول ، واحذر من التزوير ، فإن موزع البريد بصير، وقارئ الرسائل خبير، إذا طلع فجر البشرى من المدينة أَذّنّا ، وإذا رأينا الركب من طيبة أعلنّا ، وإذا سمعنا الهتاف المحمدي أمنّا ، وكلنا حول رايته دندنّا .
خبز كانون الرسالة أبيض ، لا يأكله كل معرض ، الدقيق بالصدق مطحون ، فلا يأكله المبطون ، مالك ؟ لا تهتدي في المسالك ؟ وتقع في المهالك ، نناديك إلى أحمد بن حنبل ، فتذهب إلى أحمد بن أبي دُؤاد المغفل ، ونقول رافق إبراهيم بن أدهم ، فترافق الجعد بن درهم ، تهجر الصادق السلفي يحيى بن معين ، وتصاحب ابن سينا ، وابن سبعين ، ويعجبك كلام ابن الراوندي اللعين ، عليك بمجلس مالك وسفيان ، واهرب من الجهم بن صفوان ، عندنا حماد بن زيد ، وعندهم عمرو بن عبيد ، احذر من الكشاف ، فإنه ليس بكاف شاف ، وأحذرك الفصوص ، فإن بين أسطره اللصوص ، السلف أبرياء من الاختلاف واللّجاج ، وظلم الحجّاج ، وخرافات الحلاّج .
السلف أطهر من ماء الغمام ، وأزكى من المسك والخزام ، حسبهم تزكية الملك العلاّم ، جمعنا الله بهم في دار السلام ، هجروا العلوم المنطقية ، والقضايا السفسطية ، والعقائد القرمطية ، ولزموا الطريقة الوسطيّة .
السلف صادقون لا يكذبون ، عدول لا يظلمون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، ولهذا أمر أبو بكر الصديق بقتل مسيلمة الكذاب ، فمُزق بالحِراب : عندنا خالدان : سيف الله خالد بن الوليد ، وخالد القسري ذو البطش الشديد ، فخالد ذبح مسيلمة في اليمامة ، وخالد نحر الجعد بن درهم وهو في محراب الإمامة .
لدينا أحمدان ، ولديهم أحمدان ، صادقان ، وكاذبان ، عندنا أحمد بن حنبل ، إمام السنة المبجل ، وعلامة الحديث المفضل ، وأحمد بن تيميّة ، مجدد الأمة الإسلامية ، صاحب التدمرية والحمويّة .
وعندهم أحمد بن أبي دُؤاد ، صاحب البدعة والعناد ، والخلاف والفساد ، وأحمد غلام مرزا قاديان ، حامل الزور والبهتان ، والدجل والطغيان .
عندنا حمادان ، وعندهم حمادان ، عندنا حماد بن زيد ، الراوية المفيد ، والمحدث المجيد ، وحماد بن سلمة ، نصب للصدق علمه ، وأجرى في العلم قلمه ، وعندهم حماد عجرد ، الشاعر المعربد ، والضال الملحد ، وحماد الراوية ، صاحب الأفكار الخاوية ، أمه هاوية .
لشتان ما بين اليزيدين في الندى
يزيد بن عمرو والأغر بن حاتمِ
فهمُّ الفتى الأزدي إتلاف ماله
وهمُّ الفتى القيسيّ جمع الدراهمِ
السلف كالعيون ، علاجها أن لا تمس ، وكالدرر جماله أن لا يدس ، والسلف كالماء الزلال فلا تشوّبه بالطين ، وكلامهم مبارك متين ، لا يفهمه إلا فطين .
السلف أعلم ، وأحكم ، وأسلم ، وأحلم ، وأكرم ، والمبتدعة أظلم ، وأغشم ، وأشأم ، وأجرم ، قل لا يستوي الخبيث والطيب ، والقحط والصيّب .
الذباب إذا وقع في الإناء ، فاغمسه فإن في أحد جناحيه داء ، وفي الآخر دواء ، وإذا وقع المبتدع في إناء السنة النبوية ، فاهرقه بالكلية ، لأن في جناحيه كلها بلية .
الكلب المعلّم كُل ما صادَه ، لأنه جعل العلم زاده ، وإذا جاءك المبتدع بصيد ، فقل حرام صيدك يا بليد ، لأنك مفسد رعديد .
بشّر من سبّ السلف ، بكل تلف ، مزّق الله قلباً لا يحب الأسلاف ، وأزهق الله روحاً تهوى المبتدعة الأجلاف ، نفس لا تحترم السلف مريضة ، وروح لا توقّر السلف بغيضة . جزاء علماء الكلام الجريد والنعال ، والسياط الطوال ، والقيد والأغلال ، لأنهم اشتغلوا بالقشور وتركوا اللباب ، وفارقوا السنة والكتاب ، وخالفوا الأصحاب .
السلف : موحدون مسدّدون ، مقتصدون ، عابدون ، مجاهدون ، زاهدون ، متحدون ، متوادون ، متهجدون .
والمبتدعة : متفرقون ، متحذلقون ، متنطعون ، متفيهقون ، متشدقون ،
قلقون ، متمزقون.
نوح الهداية ، ينادي ابن الغواية : اركب معنا ، فإن القارب يسعنا ، فقال الهبل : سآوي إلى جبل ، وما علم أن أعظم جبل ، إتباع سيد الرسل ، وطاعة الملك الأجل ، والعمل بما نزل .
المقامَة اليوسفيّة
{ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ }
كأن الثريا علقت بجبينه
وفي جيده الشعرى وفي وجهه القمر
ولو نظرت شمس الضحى في خدوده
لقالت معاذ الله ما يوسف بشر
كنا نجلس كل يوم ، مع قوم ، ينتقون من الحديث درره ، ويذكرون لنا العالم بحره وبرّه . فدَلِف علينا يوماً من الأيام ، شيخ ممشوق المقام ، كثير الابتسام ، فصيح الكلام ، فنظر في وجوهنا وتوسّم ، ثم تبسّم وسلّم ، ثم جلس واتكى ، وتأوّه وشكى .
قلنا: ما الخبر ، أيها الشيخ الأغر ؟ قال : تذكرت من غبر ، أهل الأخبار والسير ، فعلمت أننا بالأثر ، قلنا : ما الاسم ، فقد أعجبنا الرسم .(/17)
قال : أنا عبيد الله بن حسان ، من أهل ميسان ، قلنا : كلامك محبوب ، فقص علينا قصة يوسف بن يعقوب ، فقال : مهما اهتم العالم بالحفظ وحرص ، لكن الذهن فتر والخاطر نكص . وكفى بقصص الله وهو يقول : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } ، لكن سوف أخبركم بوقفات ، والعفو عما نسيناه وفات .
لما نصح يعقوب يوسف أن لا يقص ما رأى ، لأنه يخشى عليه ما جرى ، فإنه ما خلا جسد من حسد ، وكم من قلب بنعم الغير فسد ، فيا أيها العبد استر جمال يوسف النعم ، خوفاً من أن تلقى في غيابة جب النقم ، فيسلط عليك ذئب البغضاء ، لا ذئب الصحراء :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوّت إنسان فكدت أطير
لا تعتذر للمخالف ، فيأخذ العذر منك وأنت واقف ، أما ترى يعقوب ، يوم خاف على ابنه الخطوب ، قال : أخاف أن يأكل الذئب يوسف ، فقالوا : أكله الذئب فلا تأسف ، فكأنهّ هيأ لهم الحجة ، حينما ضلوا في المحجّة .
وجاؤا على قميصه بدم كذب ، لأن الذئب ما خلع الثوب ، بل شقه وسحب ، والذئب لا يفتح الأزرار ، بل يمزقها بلا وقار :
يا ممعنا في السوء والعيب ... لا ينفع التهذيب في الذيب
لو علمت القافلة بمكانة يوسف : ما قالوا : يا بشرى هذا غلام ، بل لقالوا : يا بشرى هذا إمام ، وولي مقدام ، وسيد همام ، ولكن وما أدرى الليل ببدر التمام
يوسف لديه جمال وجلال ، فردعه وازع الجلال ، عن نوازع الجمال ، لما قال : معاذ الله ، حماه ربه وتولاه .
لو ترك يوسف كلمة اذكرني عند ربك وذكر هو ربَّه ، لكشف كربه ، وأزال خطبه ، وأسعد قلبه .
يوسف ما نسي إيمانه ، سُئل عن الرؤى وهو في الزنزانة ، فدعا إلى التوحيد ، لأن التوحيد حياة العبيد ، لا يرده قيد ولا يمنعه حديد .
قد قلت للذئب الوفي لصحبهِ
أأكلت يوسف في العراء بخلسة
فأجابني والله لم أهمم به
إني أحب الأنبياء ومهجتي ... يا صاحب الأظفار والأنيابِ
ودم النبوة سال في الأثوابِ
هذا معاذ الله غير صوابِ
تفدي النبي ومقلتي وإهابي
الذئاب ما تأكل الأنبياء ، ولا تلطخ أفواهها بدماء الأولياء ، لأنهم أصفياء أوفياء وإنما يقتل الأنبياء ذئاب الخليقة ، إذا عميت عليهم الحقيقة ، وأظلمت عليهم الطريقة:
الذئب أكرم عشرة من ثلة ... خانوا عهود مودة الإخوان
في سورة يوسف قميص بريء من الذئب ، وقميص بريء من العيب ، وقميص مضمخ بالطيب .
فالأول : قميص يوسف وقد مزّقه الإخوان ، والثاني : قميصه وقد مزّقته امرأة السلطان ، والثالث : قميصه وقد ألقي على يعقوب فأبصرت العينان :
كأن كل نداء في مسامعه
قميص يوسف في أجفان يعقوب
لما قال إخوة يوسف له : { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } ، نسوا أنهم هم الذين أوقعوه في هم كثير ، فهو بسبب ما فعلوه في حزنه أسير ، وفي بيته كسير ، فهم يحتجون به وقت الحاجة ، وينسونه وقت اللجاجة .
لما قال يعقوب : لا تدخلوا من باب واحد ، لأنه خاف الحاسد ، فهو في مكان النعيم قاعد ، فإذا أقبلوا في حملة ، قتلهم جملة ، فَعمِّ على الحسود الأمر ، لتضع في عينيه الجمر .
الدنيا وجهها نحس ، يباع يوسف بثمن بخس ، وحزن يعقوب يكاد يذهب بالنفس ، والفراعنة بملكهم يفرحون ، وفي دنياهم يمرحون ، وفي نعيمهم يسرحون لكن انظر إلى العواقب ، عندما تكشف عن الأولياء النوائب ، وتزول عنهم المصائب . فإذا الفرحة الغامرة ، والحياة العامرة ، و النعيم في الآخرة .
أما الفجار ، فسحابة نهار ، وراحة حمار ، ثم نكال في أسوء دار .
هَمَّ يوسفُ هَمّة ، فتذكر علو الهمة ، وإمامة الأمّة ، ففر إلى الباب ، يطلب الطريق إلى الوهاب ، بعد ما هيئت له الأسباب ، لأن يوسف من سلالة الأطياب ، فتاب وأناب .
يوسف شاب ، من العزاب ، تعرّضت له امرأة ذات منصب وجمال ، وحسن ودلال ، فغلقت الأبواب ، ورفلت في أبهى الثياب ، فتذكر يوم القيامة ، وساعة الندامة ، فقال : أواه معاذ الله ، فمنعه الله وكفاه ، وأنت تتعرض للنساء صباح مساء ، غرك الوجه المبرقع ، والحسن المرقع ، ولا تحذر وتتوقّع .
هب أن نظرتك التي أرسلتها
نظر المهيمن فيك أسرع موقعاً ... عادت إليك مع الهوى بغزالي
فخف العظيم الواحد المتعالي
في قلب يوسف من الوحي نصوص ، وفي قلبك من المعصية لصوص ، في شرايين يوسف دماء الإمامة والدين ، وفي شرايينك شهوة الماء والطين .
يوسف تخرج من جامعة { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } ، وأنت تخرجت من جامعة : يشكو العيون السود قلبي والهوى .
لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد بن عمرو والأغر بن حاتمِ
يوسف تربيته على شريعة ، وأخلاق رفيعة ، وبعضهم يربى على مجلات خليعة ، وآداب شنيعة .
وا أسفي على منهج يوسف ، في هذا الواقع المؤسف ، صورة عارية ، وكأس وجارية ، وشهوات سارية ، كلها تقول : هيت لك ، وليس عند الجيل صرخة
معاذ الله .(/18)
الآن حصحص الحق ، وبان الفرق ، فيا شباب الصدق ، قولوا في أحسن نطق : معاذ الله . من أراد السناء ، والثناء ، والعلياء ، وأن يحمي نفسه من الفحشاء ، والفعلة الشنعاء ، فليحفظ متن الأولياء : معاذ الله .
من عاذ بالله أعاذه ، وأكرم ملاذه .
المقامَة السليمانية
{ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ }
حتى سليمان ما تم الخلود له
دانت له الأرض والأجناد تحرسه ... والريح تخدمه والبدو والحضر
فزاره الموت لا عين ولا أثر
ما مر من قديم الزمان ، ملك كملك سليمان ، فقد علم منطق الطير بلا ترجمان ، وقد اجتمعت في غيبته الحيوانات والطيور ، في يوم فرح وسرور ، وهناء وحبور ، فقالت البهائم للأسد : أيها الأمير ، اجلس على السرير ، فإنك أبونا الكبير ، فتربع جالساً ، ثم سكت عابساً ، فخاف الجميع ، وأصبحوا في موقف فظيع ، فقام الحمار ، أبو المغوار ، فقال : يا حيدرة ، سكوتك ما أنكره ، فقال الأسد : يا حمار البلد ، يا رمز الجلد ، سكتُ لأن الثعلب غاب ، وقسماً لو حضر لأغرزن في رأسه الناب ، فقام الذيب يتكلم وهو خطيب مصيب ، فقال للأسد : يا أبا أسامة ، إن الثعلب قليل الكرامة ، عديم الشهامة ، فليتك تورده الندامة ، فهو لا يستحق السلامة ، وكان أحد التيوس مع الجلوس ، فانسل إلى الثعلب فوجده يلعب فقال : انتبه أيها الصديق ، فالكمين في الطريق، إن الأسد يتوعدك بالذبح ، فاجتهد معه في الصلح ، فقال الثعلب : فمن الذي دهاني عنده ، وغير علي وده ، قال التيس : هو عدوك وعدوي ، الذي في وادٍ يدوي ، هو الذيب الغادر ، صاحب الخيانة الفاجر ، قال الثعلب : أنا الداهية الدهياء ، لأنثرن لحمه في العراء ، أما سمعت الشاعر أحمد ، إذ يقول في شعر مسدد :
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
فلما حضر الثعلب إلى الأسد ، ودخل مجلسه وقعد ، قال أبو أسامة ، والثعلب أمامه : ما لكَ تأخرت يا بليد ، تالله إن الموت أقرب إليك من حبل الوريد .
قال الثعلب : مهلا أبا أسامة ، أبقاك الله للزعامة ، سمعت أنك مريض ، فذهبت إلى البلد العريض ، ألتمس لك دواء ، جعله الله لك شفاء ، قال : أحسنت ، وسهلت عليّ الأمر وهونت ، فماذا وجدت ، قال : وجدت أن علاجك في كبد الذيب مع حفنة من زبيب ، فقال الأسد للذيب ، أمرك عجيب ، وشأنك غريب ، علاجي لديك ، وقد سبق أن شكوت عليك ، فلما دنا الذيب واقترب ، سحبه الأسد فانسحب ، فخلع رأسه ، وقطع أنفاسه ، ثم سلخ لبده ، وأخرج كبده ، فصاح الغراب ، وهو فوق بعض الأخشاب ، يا أبا أسامة ، ما تترك الظلم والغشامة ، فرد عليه الأسد ، اسكت سَدّ الله فاك ، أنسيت أنك قتلت أخاك ، ودفنته في تراب ، ما أقبحك من غراب .
قال الغراب : يا ظلوم يا غشوم يا مشؤوم . أنا الذي دل على بلقيس يا خسيس ، وجيت سليمان ملك الإنس والجان ، بنبأ من سبأ ، وحملت الرسالة في بسالة ، ودعوت للتوحيد ، وهو حق الله على العبيد ، فبلقيس أسلمت بسببي ، وحسبي معروف ونسبي ، ثم أنشد الغراب :
ولقد حملت رسالة مختومة
يهدي سليمان بها بلقيسا
فوضعتها في حجرها متلطفا
كانت تقدس شمسها تقديسا
فأعرض أبو أسامة ، وقطع كلامه ، وإذا بحية لها فحيح ، أقبلت تصيح ، قد ذبل شعر رأسها وشاب ، وما بقي لها إلا ناب ، فقال الأسد : من بالباب .
قالت الحية : أنا أم الجلباب ، فقال : ما اسمك يا حية ، وما معك من قضية ، قالت : اسمي لس ، وخبري على ظاهر فقس ، أنا كنت اسكن ، في قرية من قرى فلسطين ، رأسي في الماء ، وذنبي في الطين ، فعصى أهل القرية خالقهم ، وكفروا رازقهم ، فساقني إليهم ، وسلطني عليهم ، فقذفت في بيرهم من سمي زعافا ، فماتوا آلافاً ، وهلكوا أصنافاً ، وردم الله عليهم القرية ، لأنهم أهل فرية .
فلما ملك سليمان ، اختفت القرية عن العيان ، فأراد أن يرى القرية رأي العين ، فاستدعى الرياح في ذلك الحين ، فقال للريح الشمالية ، هبي قوية ، وأخرجي لنا تلك البئر المطوية ، والقرية المنسية ، قالت : يا نبي الله أنا أضعف من ذلك بكثير ، أنا خلقني ربي لتلقيح الثمار ، بقدرة القدير ، فقال للغربية : أنت لازلت فتية ، فهبي على هذه الدار ، لنرى ما تحتها من الآثار ، قالت : يا نبي الله ، أنا خلقني ربي لتلطيف الهواء ، وتبريد الماء ، ولكن عليك بالدبور ، فإنها التي أهلكت كل كفور .
فقال سليمان : أيها الدبور ، بأسك مشهور ، وبطشك مذكور ، فأخرجي لنا القرية المنكوبة ، لنرى كل أعجوبة ، فهبت ولها هرير ، وزلزلة وصرير ، فاقتلعت التراب والحجر ، ونسفت الشجر ، حتى خرجت القرية واضحة المعالم ، كل شيء فيها قائم ، فوجد الحية في البئر ، بناب واحد صغير ، فسمى القرية باسم البئر وناب الحية ، فصار اسمها نابلس كما في السيرة المرويّة .(/19)
فقال الأسد للحمامة ، يا أم يمامة ، حدثينا عن ملك سليمان ، فلن يملك أحد مثله إلى يوم القيامة ، قالت : حباً وكرامة ، يا أيها الهزبر ، ليس الخَبَر كالخُبْر ، اعلم أنه ما أصبح يفرح بالملك بعد سليمان ، لما أعطاه الله من الملك والسلطان ، ملك الإنس والجان والطير والحيوان ، وكلم الوحوش بلا ترجمان ، بنيت له القصور من القوارير ، ونحتت له من الجبال المقاصير ، وخزنت له في البحر القناطير ، وسخر الله له الرياح ، تحمله كل صباح ، فملكه فوق ما يصفه الواصفون ، ولا يعلم ذلك إلا العارفون :
ما عاد يفرح بالولاية بعده
أبدا ولا يهني بعيش ناعم
دنيا متى ما أضحكت في يومها
أبكت غداً من قاتل أو هادم
ثم مرت النملة تقفز قفزا ، وتهمز همزا ، وهي تقول : أما علمتم بخبري المنقول ، أنا التي كلمها سليمان ، وأعطاها الأمان ، وسجلت قصتي في القرآن ، أما قلت للنمل ، ادخلوا مساكنكم ، واحفظوا أماكنكم ، ثم أنشدت :
لا تحقرنَّ صغير الجسم تحسبه
لكنها همم تسمو بصاحبها ... بالجسم يبلغ آفاقا وأمجادا
وهمتي ذكرت بي الدهر أحفادا
ثم مر الكلب ، رمز السلب والنهب ، قال : يا جماعة ، اسمعوا مني ساعة ، فأنا مقصود بالمدح والهجاء ، وما زالت الأشراف تهجو وتمدح كما ذكر صاحب الإنشاء ، فأنا أصيد الصيد ، وأقيده بقيد ، وحفظي للبيت سديد ، وبأسي لصاحبي شديد ، لكنني دائما بخس محدث ، كما ورد إن تحمل عليه يلهث ، فلي إصابات وغلطات ، والحسنات يذهبن السيئات ، فلا تظنوا أني آية في الخساسة ، ومضرب المثل في النجاسة ، بل انجس مني ، وهذه فائدة خذها عني ، من ترك العمل ، بلا علم ، وأعرض عن التقوى بعد الفهم ، وأسرف في الظلم . ثم انفض المجلس وقد امتلأت بالأنس الأنفس .
واعلم أيها الملهم أن سليمان أعظم من ملك من بني الإنسان ، وأقصر رسالة في الحديث والقديم : { إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
المقامَة الحُسَينيّة
{ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ }
مرحباً يا عراق جئت أغنيـ
فجراح الحسين بعض جراحي ... ـك وبعض من الغناء بكاء
وبصدري من الأسى كربلاء
أنا سُنيّ حسينيّ ، جعلت ترحمي عليه مكان أنيني ، أنا أحب السبطين ، لكني أقدم الشيخين ، ليس من لوازم حب الشمس أن تكره القمر ، وموالاة الحسن والحسين يقتضي موالاة أبي بكر وعمر ، لأنه يحبهم ويحبونه ، ويحترمهم ويحترمونه .
قاتل الله عبيد الله ابن زياد ، يحرّج على رؤوس العظماء في سوق المزاد .
الحسين لا يمجد بضريح ، ولا بالإسراف في المديح . لكننا نصدق في حبه ، إذا اتبعنا جَدَّه ، وحملنا وُدَّه ، وليس بأن نعكف عنده .
بعض الناس ذبابة ، يجفو القرابة ، ويسب الصحابة .
عظماؤنا ما بين مقتول ومذبوح ، ومسجون ومبطوح ، ومضروب ومجروح .
وما مات منّا سيّد حتف أنفه
ولكن بحد السيف في الروع نقتلُ
يا صاحب الفطن ، تريد أن تدخل الجنة بلا ثمن ، يا من يريدون الغروس والعروس، ابذلوا النفوس ، وقدموا الرؤوس .
تريد شراء الجنة بصاع من شعير ، وهو لا يكفي علوفاً للعير ، ولا فطوراً للبعير ، إذا ناداك المسكين ، كأنه طعنك بسكين ، وأنت تتمنى على الله الأماني ، وتشتاق لمثل تلك المغاني . أنت من سنين ، تبكي على الحسين ، من يحب الحسين بن علي ، فليطع الولي ، هذا هو الحب الجلي .
أنت مثل شيخ فزاره ، حينما قطع أزراره ، قالوا مالك ، قال : أفدي بها أخي
أبا عمارة .
جاؤا برأسك يا ابن بنت محمد
ويكبرون بأن قتلت وإنما
تركوك في الصحراء ثم كأنما ... متزملاً بدمائه تزميلا
قتلوا بك التكبير والتهليلا
قتلوا بقتلك عامدين رسولا
أنا أعلن صرخة الاحتجاج ، ضد ابن زياد والحجاج ، يا أرض الظالمين ابلعي ماءك، ويا ميادين السفاحين اشربي دماءك .
آه ما أطوله من يوم للقتله ، إذا جاء المقتول ومن قتله ، في يوم لا يكون الحاكم فيه إلا الواحد ، ولا المُلْك إلا للماجد ، وقد خاب فيه الجاحد المعاند .
الحسين شهيد ، على رغم أنف العنيد ، ما قتل وما نهب ، وما ظلم وما سلب .
وقد أخطأ ابن خلدون حينما نقل أن الحسين قتل بسيف الشريعة ، وهذا النقل من الأمور الشنيعة ، بل قال شيخ الإسلام ، علم الأعلام : قتل الحسين بسيف الظلم والعدوان ، وقتله مصيبة يؤجر عليها من استرجع من أهل الإيمان : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وإنا لرسوله عند المصائب لتابعون .
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بغالي دمعها لجمود
إن كان قَتْل الحسين من العدل ، فقد ألغى مدلول النقل والعقل ، وما عاد في الدنيا ظلم ، وما بقي في الأرض إثم ، وإذا احتاج إثبات النهار إلى كلام ، فقل على
الدنيا السلام .
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
في كربلاء ، كرب وبلاء ، على ثراها قلب ذكي ، ودم زكي .
كأن قتلك يا ابن الطيبين لنا
كأنما دفنوا الإسلام في كفن ... سيف من البغي في الأعناق مشهورُ(/20)
من المصاحفِ حاكته المقَاديرُ
الحسين ليس بحاجة إلى مآتم ، وولائم ، تزيد الأمة هزائم إلى هزائم .
الحسين على نهج جده محمد ، وعلى مذهب أبيه المسدد ، تقوى تمنع من الانحراف ، وعَدْل يحمل على الإنصاف . ولو أن الحسين صاحب دنيا ، لما بكينا ، ولو أنه طالب جاه ما اشتكينا ، لكنّه من البيت الطاهر ، صاحب النسب الباهر ، أمانته رصينة ،
وأخلاقه حصينة .
عفاء على دنيا رحلت لغيرها
كدأب عليٍّ في المواطن كلها ... فليس بها للصالحين معرّج
أبي حسنٍ والغصن من حيث يخرج
صح الخبر في السنة ، أن الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة ، فإذا قتل السيد كيف حال المسود ، وضحية الحاسد هو المحسود ، وقال جدهما المعصوم : هما ريحانتاي من الدنيا ، فهم بهذه التزكية في الدرجة العليا ، والريحانة تشم ولا تقطع ، وتمسح ولا تقلع ، جاءوا بالرأس إلى ابن زياد في العراق ، والدم مهراق ، ثم لم تبك للظلمة عيون ، ولم تتحرك شجون ، وهذا برهان على أن قلوب الظلمة كالحجارة ، وأن نفوسهم ملأت بالمرارة .
إذا لم تبك من هذي الرزايا
فمت كمداً فما في العيش خير ... ولم تفجَعْك قاضية القضايا
إذا جمع البرايا كالمطايا
لما أغمد سيف الجهاد ، سله ابن زياد ، على العلماء والعباد . لو كانت الأمة شاركت في قتل الحسين لكانت ظالمة ، ولو رضيت بذلك لأصبحت آثمة ، وقعت الأمة بين فكي زياد ويزيد ، يدوسون الجماجم ويقولون : هل من مزيد ، وتصفق له أراذل العبيد . ليل الحسين صلاة وخشوع وبكاء ، وليلهم رقص وطرب وغناء ، نهار الحسين تلاوة وذكر وصيام ، ونهارهم لهو وعشق وغرام . ولهذا وقع الخلاف وعدم الإنصاف .
إذا عَيّر الطائيَّ بالبخل ما درٌ
وقال الدجى للشمس أنت كسيفة
فيا موت زُرْ إن الحياة ذميمة ... وعيَّر قِسّاً بالفهاهة باقلُ
وقال السهى للبدر وجهك حائلُ
ويا نفس جدي إن دهرك هازلُ
يا أهل العقول ، إن قتل سبط الرسول ، وابن البتول ، أمر مهول ، فلا تخبروا أعداء الملة ، بهذه الزلة ، فإنها للأمة ذلة . الحسين ليس بحاجة إلى وضع أشعار ، ولكن إلى رفع شعار ، دعنا من ترديد القصيد ، والتباكي بالنشيد ، ولكن تابع الحسين في تجريد التوحيد ، وتوقير الشيخين أهل الرأي الرشيد .
العظماء يقتلون بالسيف أعزاء ، والظلمة يموتون على فرشهم أذلاء جبناء ،
فالعظيم قتل بتذكية شرعية ، والجبان مات ميتة بدعية . { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } .
تأخرتُ أستبقي الحياة فلم أجد
وليس على الأعقاب تدمى كلومنا ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
ولكن على أقدامنا تقطر الدما
فاتت الحسين الشهادة في بدر لأنه صغير ، فعوضه الله بها في صحراء العراق وهو كبير ، الرجل يريد أن يكتب اسمه بدم ، وهو يحب البيع لا السَّلم ، ومن يشابه أبه فما ظلم . الذين ينوحون على الحسين ويقولون قتل وهو مظلوم ، قلنا هذا أمر معلوم ، ولكن كفاكم بالنياحة جهلا . فهل كان قتل عمر وعثمان وعلي عدلا ، النياحة في الدين غير مباحة ، لأنها مخالفة للمأمور ، وفعل للمحظور ، وتسخط بالمقدور ، لو لم يقتل الحسين لمات . أفتنوحون عليه وقد كسب عز الحياة . وسعادة الوفاة .
علوٌّ في الحياة وفي الممات ... بحقٍ أنت إحدى المعجزات
من أحب الحسين فليفعل فعله في حفظ الدين ، وكراهية الظالمين ، وحب المساكين
قتل الحسين دليل على عظمة الإسلام ، لأن مهره رؤوس تقطع ، وأرواح تدفع ، وضريبته دم يسيل ، ورأس في سبيل الله يميل ، الإسلام كالأسد همته ليست سخيفة ، ولذلك لا يأكل الجيفة ، لعظمة الشمس أصابها الخسوف ، ولجلالة القمر رمي بالكسوف ، والعظماء غرض للحتوف :
قل للذي بصروف الدهر عيّرنا
أما ترى البحر تعلو فوقه جيف
وفي السماء نجوم لا عداد لها ... هل حارب الدهرُ إلا من له خطرُ
وتستقر بأقصى قعره دررُ
وليس يكسف إلا الشمس والقمر
رحم الله السبطين ، الحسن والحسين ، وعليا وفاطمة أكرموا الدين .
والصلاة والسلام على خاتم المرسلين ، وآله وصحبه أجمعين .
المقامَة التيميّة
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }
علامة العلماء والبحر الذي
افخر فإن الناس فيك ثلاثة ... لا ينتهي ولكل لج ساحلُ
مستعظم أو حاسد أو جاهلُ
قال الراوي نراك متيّم بابن تيميّة ، تذكره باليوميّة، ولك إليه ميل وحميّة ، فقال : ليس عروس إلا بمهر ، وحديثنا عن ابن تيميّة غدوّه شهر ورواحه شهر ، وحسبك أنه عالم الدهر ، ألّف الواسطيّة فذبت في حبها ، ودبّج الحمويّة فتذوّقت من لبِّها ، وجمع التدمريّة تدمّر كل شيء بأمر ربها ، آه يا أحمد ابن تيمية ، يا من اهتدى بسميِّه ، فنصر السنة وهزم الجهميّة ، بذل للطالبين بحره ، وعرّض للسيوف نحره ، ابن تيميه بطل ، هزّ الدول ، وأتْبع القول العمل .
رأيته فرأيت الناس في رجلٍ
حروفه كشعاع الشمس لو قطرت ... كالفجر في شرفٍ والدر في صدفِ
ألفاظه قلت هذا الزهر في ترفِ(/21)
ابن تيمية للشريعة ابنٌ بارّ ، هجر الدرهم والدينار ، وهو لأعداء الملة سيف بتّار ، جنته في صدره ، لأنه وحيد عصره ، وفريد دهره ، وقتله شهادة ، لأنه مجتهد في العبادة ، كثير الإفادة ، أرهب عبدة الأصنام ، وأذل خصوم الإسلام ، وسلّ على كل ملحد الحسام، كلامه شهب ، وردوده لهب ، وألفاظه ذهب .
له موقف يحمي به الدين ذكره
تشيد به الركبان في البدوِ الحضرِ
أقام عمود الدين بالنور والهدى
وسلّ حساماً فاتك الوقع بالكفرِ
تعطّل به سوق الباطل وكسد ، وخافه كل من عصى وفسد ، لأن قلبه قلب أسد .
الرجل موحد متعبد متهجد متفرد مجدد، زاهد عابد ساجد ماجد حامد رائد مجاهد، كم أزال من بدع ، وأظهر من ورع ، وكم من ملحد قمع ، سيفه على الضلال مسنون، وقلبه عن حب الدنيا مسجون ، وهو صاحب فنون ومتون وشجون .
سارت في الآفاق أخباره ، طارت في البقاع أشعاره ، كثر في الحق أنصاره، هو مدرسة الاعتدال ، وجامعة الاستقلال، ورمز النضال ، لا يهاب ولا يرتاب ولا يغتاب ،
لله درك ما تركت رسالة
أنفقت عمرك للمعالي مثلما ... يوم الوغى ويداك في الكُلاّبِ
أنفقت هذا العلم للطُلاّبِ
ابن تيميه فريد ، لا يخضع للتقليد ، وما هو ببليد ، ولكنه عبقري رشيد .
لكلامه حلاوة ، وعلى كتبه طلاوة ، نصر المعصوم ، وأفحم الخصوم ، الرجل رجل كفاح ، وإمام إصلاح ، مناضل يحب المناضلين ، ويحارب المغضوب عليهم والضالين ، همة وثّابة ، وذاكرة خلاّبة ، ولسان جذّابة، هو إمام التحرير والتحبير والتنوير، ليس بجامد ولا جاحد ، ولكنه علامة صامد ، مجاهد ، عابد . أخذ بالعزائم وتوّرع في الرّخص ، وتجرع من أجل الإسلام الغصص :
إن كان يرضيك أن تهوي جماجمنا
ما تخجل الشمس إلا من مواقفنا ... على التراب فهذا الفعل يرضينا
ولا تهاب العدى إلا مواضينا
هذا الإمام كأنه بكل فضل مخصوص ، أعاد الأمة للنصوص ، وأراحنا من ضلال صاحب الفصوص . مرة يهيل التراب على القدريّة ، وأخرى يلقي الموت على النصيرية، سجن الاعتزال ، في زنزانة الإهمال ، خرج على التتار بالنار ، وحضر ذاك العراك ، فأذاق هولاكو الهلاك ، الرجل منصور ، وخصمه مقهور .
ترك المطاعم الشهيّة ، والمراكب الوطيّة ، والمناظر البهيّة ، له مع القرآن سمر ، ومع الذكر سهر ، وله جلسةٌ في السحر :
قلت يا ليل هل بجوفك سرُّ
قال لم ألق في حياتي حديثاً ... عامر بالحديث والأسرارِ
كحديث الأحباب في الأسحارِ
صرامة في الحق ، وإصرار على الصدق ، وعلم في رفق .
زهد : فكأن الذهب تراب ، والجواهر أخشاب ، والدنيا خراب .
شجاعة : فكأن الموت عطية ، والهلاك مطيّة ، والمنيّة هديّة.
علم : فكأن البحر زخر ، والمحيط انفجر ، والغيث انهمر.
تواضع : فهو أرق من النسيم ، رحيم بالمسكين واليتيم ، هذا الإمام جاد وليس بهازل ، وعن مبدئه لا يتنازل، ولهذا سكن أعلى المنازل .
أخلاق طاهرة ، وسنة عليه ظاهرة ، وهمة بين جنبيه باهرة :
له همة لو أن للشمس عشرها
فيوماً مع الذكر الحكيم بمسجد ... لما غربت حتى يجيء لها الغربُ
ويوماً نديم للقنا والوغى حربُ
ما هذا العمق والتأصيل ، واتباع الدليل ، وغزارة التحصيل ، لو أن ابن تيمية مبتدع ما فهمناه ، ولو انصرف للدنيا لاتهمناه ، لكن الرجل صاحب سنة ، يريد الجنة ، له
عقل صحيح ، ولسان فصيح ، يفلج الخصوم بالحجة ، ويدل الناس على المحجة ، نعم الله عليه تامّة ، وهو في العلوم هامّة، ثم هو رجل عامّة، علامة الصدق في العالِم ، العزوف عن الدنايا ، وعدم الخوف من المنايا ، وجمع السجايا ، وكذلك كان ابن تيمية .
ودليل فلاح العالِم ، لزوم أحسن طريقة ، والغوص على الحقيقة ، وحب الخليقة ، وكذلك كان ابن تيمية .
وبرهان رفعة العالِم ، خشية الملك العلاّم ، وزُهد في الحطام ، ورِفق بالأنام ، وتعليم للعوام ، وكذلك كان ابن تيمية .
فتى قد حباه الله بالحسن يافعاً
ولما رأى المجد استعار ثيابه ... كأن عليه من نجابته سورْ
تردّى رداءً واسع الجيب واتزرْ
ابن تيمية تفنن في العلوم ، ودفع الخصوم ، ولم يتعلق بالرسوم .
ليس العلم عند ابن تيمية جبّة مدوّرة ، ولا عمامة مكوّرة ، ولا هيئة مصوّرة، بل العلم تقى عميق ، ودليل بتحقيق ، وفهم دقيق . وليست المنزلة عند ابن تيمية مراتب ومناصب وتكالب ، بل تضحية وجهاد ، ونفع للعباد ، وإصلاح للبلاد . سفينة علمه لعباب الجهل ماخرة ، فآتاه الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة .
معالم علم الرجل : فهم للسور ، واتباع للأثر ، وجمع للدرر ، وإيمان بالقدر ، وجهاد لمن كفر ، جعله الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر.(/22)
ليس بقليل علم فهو يغرف من معين ، ولم يتزوج فهو خاطب الحور العين ، بطح البطائحية ، وجعل المعطلة ضحية ، مزق الزنادقة ، وأغرق بالحجج كل فرقة مارقة ، صار كالحاصب ، والعذاب الواصب ، على النواصب ، وأبرم الردود والنقائض ، للروافض ، كسر ظهور النصيرية في كسروان ، وأبطل خرافات الجهل بالقرآن ، وحل ألغاز الحلولية ، ورد كيد الاتحادية ، حفر لحاداً للملاحدة ، وأخذ كل واحد منهم على حده ، ذاكرته أصابها وابل الرسالة ، وهمته جمعت الحكمة والبسالة ، وذاكرته حملت البراعة والجزالة ، يشفي بعلمه الجهل ، ويعم سيله الجبل والسهل ، ويروي بفتواه الجموع الوافدة ، ويخطب في الجموع الحاشدة ، يفسر الآية في أشهر ، فينفجر منه أنهر ، له صولات وجولات ، وعزمات ، وثبات وإخبات. واجه المغول في شقحب ، فذكرنا قصة علي ومرحب ، عجب بعضهم من شجاعته في تلك المشاهد ، وقال عنه في الليل أحسن عابد ، وفي النهار أشجع مجاهد .
في الليل رهبان وعند لقائهم
هذا ابن تيمية الذي عزّت به ... لعدوهم من أشجع الفرسانِ
هذِ الشريعة آخر الأزمانِ
إذا تكلم قالوا القرآن بين عينيه ، والسنة كلها لديه ، والحكمة تتنزل عليه ، له كلام خالد ، ولفظ شارد، يقول : كل أرض لا تشرق عليها شمس الرسالة فهي أرض ملعونة ، وكل نفس لا تنتصر على الهوى فهي نفس مسجونة ، وكل مهجة لا تبصر الحق فهي مهجة مغبونة ، ويقول : المعاصي تمنع القلب من الجولان في فضاء التوحيد ، وتحبس النفس عن محبة الرحيم الودود .
هذا الإمام بالحق يقول ، وله قبول ، جمع بين المنقول والمعقول ، له قريحة حيّة ، لا تقبل زيف القوانين الأرضيّة ، ونيّة صادقة، معه حجة ناطقة ، ونفس للحق عاشقة ، نفس تعاف الذل لغير الله حتى كأنه الكفر ، ويد بيضاء بالعطاء ومن وسخ الدنيا صفر ، رجل للملّة مديون ، وعمره للشرع مرهون ، وقلبه عن الدنيا مسجون ، وله عند ربه أجر غير ممنون . هذا الشيخ ليس بالمتكلف ، ولا للنصوص متعسّف ، عنده صفاء ذهن يغوص على الحقائق ، وقوة خاطر يدرك الدقائق.
رد على أهل التصوف ، ونهاهم عن الانحراف والتكلف ، وألزم النواصب حب القرابة ، واحترام الصحابة ، وأنكر على الرافضة الغلو والشطط ، وبيّن لهم الخطأ والغلط ، وله الكلمة البديعة ، إذ يقول : لا يسع أحد مهما كان أن يخرج عن الشريعة ، ويقول : ليس أحد يدور معه الحق حيثما دار ، غير النبي المختار (صلى الله عليه وسلم) ، وهو القائل : كل يوم وأنا أجدد إسلامي ، وأكثر لنفسي اتهامي.
وهذه مقطوعة من الراس لا من القرطاس، وهي تحية للشيخ أبي العباس:
أبداً لسِفْر المكرمات تُدبِّجُ
وتحيط برد الصالحات وتنسجُ
لك في المعالي دولة وولاية
أنت الذي بهدى الرسول متوّجُ
شيّدت صرح الدين ياعلم الهدى
بالعلم والإخلاص أنت مدجّجُ
وكان يرى أنه لا يسع أي أحد الخروج على الشريعة ، وأن الأحوال والأقوال والأفعال المخالفة لها إنما هي أمور شنيعة ، ويقول في المنطق ، وهو قول عارف محقق : لا ينتفع به البليد ، ولا يحتاج إليه الذكي الرشيد .
وهو لحم جمل ، غث على رأس جبل ، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل، والرجل له حسّاد ، لأنه تفرد وساد ، وجاهد لإصلاح كل فساد.
وهو صاحب أحوال عجيبة ، وآراءٍ مصيبة ، وله مقامات جليلة ، ومذاهب جميلة، حلم عمن حسده ، وأكرم من قصده ، خاطب السلطان بأثبت جنان، وأفصح لسان ، وطالبه بحمل الناس على السنة النبويّة، والأخلاق المحمديّة ، وشفع لأهل الحاجات ، وأرباب الضرورات. ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً ، ولم يجعل له من دون الله ملتحداً ، بل كان يكتفي بالقليل ، ويراه كافياً لمن عزم على الرحيل ، وكان يعيش على شظف ، مقتدياً بمن سلف ، ويرى أن الزائد على القوت إشغال ، وأن الدنيا دار أهوال ، وكان ينفق كلما يجد ، ولم يحجب معروفه عن أحد ، وكان الغريب ، يجد عنده من الترحيب والتقريب ، والمؤانسة وعدم التثريب.
وكان يعظّم السنة أجل تعظيم ، ويسعى في صيانتها عن كل معتدٍ أثيم ، وقد رزق السعادة في التأليف ، وأعطاه الله الحظ في التصنيف ، وقد طرقت العالم رسائله ، وأذنت في أذن الدنيا مسائله ، وشرّقت كتبه وغرّبت ، وسهّلت كل صعيب وقربت ، وفيها من حسن السبك ، ومتانة الحبك ، ما يدهش العقول ، مع جمعها بين المعقول والمنقول . وكان يعتصم بالبرهان ، ويعود إلى تحقيق وإتقان ، وأقر بعبقريته المخالف والموافق ، وعجب من سرعة بديهته المؤمن والمنافق .
وقد نشر الله علومه ، وقهر خصومه ، وثبّت بالحق جنانه ، وسدّد بالصدق لسانه ، مع تمام ديانة، وكمال أمانة ، وحسن صيانة ، وعظيم مكانة .
والرجل كالقمر الوهّاج ، والبحر الثجّاج ، سديد المنهاج ، قوي الاحتجاج ، وهو صاحب قيام وتهجد ، وأذكار وتعبد ، يلازم المسجد ، ويحب أحياناً العزلة والتوحّد ، لا يفاخر ، ولا تعجبه المظاهر ، ولا يكابر ، ولا يكاثر .(/23)
وهو الذي صال وجال ، وغلب الرجال ، في المحافل المشهودة ، والمجامع المحمودة ، وكان يرهبه الملوك، مع أنه يتواضع لكل مسكين وصعلوك.
وقرع بوعظه أسماع الظلمة ، حتى أهدروا دمه ، وعرّض نفسه للأخطار ، وخاض الأهوال الكبار ، وحسْبه الواحد القهار :
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأهون ما يمر به الوحول
وكأن هذا الإمام للدنيا عين إنسانها ، وهدية إحسانها ، ضَنّت بمثله الأعصار، وطنت بذكره الأمصار، نحْو سيبويه من شفتيه ينساب ،
ولغة الخليل في فمه تذاب ، كأن المُزَني قطرة من مزنه ، والكسائي درهم في ردنه ، طالب خصومه بقتله فصفح ، وظفر بهم فعفا وسمح ، لو رآه ابن معين، لقال هذا إنسان العين ، ولو أبصره أحمد ، لقال هذا المجتهد المتفرد ، عرف من الحديث المتن والسند ، وما وقف على الظاهر وجمد ، بل غاص في المعاني ، وقطف من أغصانها الدواني ، وكان بمورد الشريعة بصيراً ، وقد تضلع بها وعب منها ماءاً نميراً ، عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً ، ولو أدركه الثوري لكان عنده أثيرا ، وقد مدحه ابن كثير كثيراً ، وقد ذهب الذهبي يفضل مذاهبه ، ويعظّم مواهبه ، وكان يكتب العقود ، ويحل القيود ، ويقيم الحدود ، وأقام الحسبة في الأسواق ، ونشر معتقد السلف في الآفاق ، وقد انجبر به كسر الدين ، ورفع به عَلَم الموحدين ، وكسرت به قناة الأكاسرة ، وأُرغمت بدعوته أنوف الجبابرة ، وربما خطب عند الولاة بصوت مرتفع ، تكاد القلوب منه تنخلع ، سجن المزّي فأطلقه ، وجادل البطائحي فأغرقه ، ورد على الإخنائي فأشرقه .
ألف الاستقامة فأحيا بها سوق الأتّباع وأقامه ، وألّف درء التعارض ، وردّ على ابن الفارض ، وما نسينا، اعتراضه على ابن سينا ، ودحض بالرأي المصيب ، أخطاء الرازي ابن الخطيب ، وحذر من كذب الشعراء ، وزجر عن الظلم الأمراء ، وأخبر أن في الصوفية أخطاراً خفيّة ، مخالفة للسنة المصطفويّة ، ودفع بالدليل أهل التأويل ، وبالتأصيل أهل التعطيل ، وبحسن التحصيل، أهل التجهيل والتخييل ، وهو متكلم بارع ، لكل خير مسارع ، متبع للشارع ، وله إشراق في العبارة ، ولطف في الإشارة ، مع سلامة صدر ، وارتفاع قدر ، وربما كتب في الجلسة عدة كراريس ، يأتي فيها بكل مفيد نفيس ، وكان يطالع في الآية أكثر من مائة تفسير ، ثم يقلب بعد ذلك التفكير ، فيأتي بعد ذلك بعلم كثير ، وكان يمرغ جبهته ساجداً، ويدعو الله جاهداً، فيفتح عليه الفتاح العليم ، بكل معنىً كريم ، ورأيٍ مستقيم ، وكان يكثر من الابتهال والسؤال ، ويلجأ إلى الله في كل حال ، كثير التذلل لمولاه ، كثير الخشوع له إذا دعاه ، وكان يطيل الصلاه ، مخبتٌ أوّاه ، دائم الإلحاح والمناجاه ، والرجل محفوظ بعين الرعاية ، غني عن الإعلان والدعاية ، ترجم له حتى الخصوم ، والرجل ليس بالمعصوم ، لكن الله فتح عليه فتوح العارفين ، فكان آية السائلين ، وقد كشف أخطاء صاحب الكشّاف ، وبيّن مخالفته للأَسلاف ، وأظهر للأَحياء ، أغلاط صاحب الإحياء ، وزيف كتاب الفتوحات ، وأبرز ما فيه من أمور قبيحات ، وأغار على أساس التقديس ، وأخرج منه نزغات إبليس ، وسقى كأس الندامة، صاحب منهاج الكرامة ، وشرح مذهب الوسطية ، في الرسالة الواسطية ، وأظهر لدينه حميّة، في كتاب الحمويّة ، ودمّر صروح أهل المنطق في التدمريّة ، وردّ على الفلاسفة ، وأخبر أنهم أهل سفه ، وأنهم أخطأوا في الاسم والصفة ، وغلط التلمساني العفيف ، وأثبت ضلال القونوي صاحب التصنيف ، وزندق الحلاّج ، وذم الحجّاج ، وانتقد الغزالي ، وذكر أخطاء أبي المعالي ، ولام علماء الكلام ، وأهل الجور من الحكام ، وله رسالة في السياسة الشرعية ، وسِفْر في الأمور البدعيّة ، وله رسائل طويلة ، في التوسل والوسيلة .(/24)
وتكالب عليه أهل البدع ، وسُجن فما رجع ، وكان الله معه فما وقع ، وجمعوا له العلماء فبزّهم ، وهدّدوه فهزّهم ، وقد خوّفوه السلطان ، وأخرجوه من الأوطان ، فما لانت له عريكة ، وما ذابت له سبيكة ، وعرضوه للموت ، فرفع على الباطل الصوت ، وحاولوا أن يُرْشوه ، وبالمال ينعشوه ، فأبى واستعصم ، وحلف وأقسم ، لا يبيع دينه بعَرَض ، ولا يكون له دونه غرض، وكان يطلب الشهادة ، ويجّود للآخرة زاده ، ويضمِّر للجنة جواده ، وامتُحن في سبيل الله أكثر من مرّة ، وحصل له الجاه فما غرّه ، والعُصاة كانوا يتوبون على يديه ، وتزدحم الوفود عليه ، وكان يتكلم بكلام يدهش الحاضرين ، ويذهب بلب المناظرين ، وكانت الطوائف تحضر درسه ، فيذهلهم بكثرة علومه في جلسه وأقسم بعضهم ما رأينا مثلك ، وما أبصرنا شكلك ، وكانت العامة تقف إجلالاً له في الطريق فيقابلهم بخلق رقيق ، وقد آذى الحسّاد أحبابه ، ونالوا أصحابه ، فما زادهم به إلا تعلّقاً ، وعليه إلا تحرّقاً ، والكل عليه مشفق ، والعالم على حبه مطبق ، وليس في تركته دينار ولا درهم ، فأنسى الناس بزهده إبراهيم بن أدهم ، وكلما حصل له من مال ، أنفقه ذات اليمين وذات الشمال ، وهو الذي أفحم القبورية ، ونشر معتقد السلف في سوريّة ، وألزم الحكام بشريعة الإسلام ، ودفع من قَرْمط في النقليّات ، وسفسط في العقليّات ، وهو الذي قعّد للعقيدة القواعد ، ودبّج تلك الفوائد الفرائد ، وكلامه يتميز على كلام سواه ، وقد نصره الله على من عاداه ، وظهرت على يديه كرامات ، وعليه من السنة علامات ، وذكر المِزي أنه ما سمع بمثله من خمسمائة عام .
وأقسم الذهبي أنه ما رأى مثله من سائر الأقوام ، ولو طلب منه أن يحلف بين الركن والمقام ، وترجم ابن كثير لأبي العباس ، فنسي الدولة والناس ، وكتب عنه المستشرقون ، وعلى أخباره يتسابقون ، وله سيرة طويلة في دائرة المعارف ، ومخطوطات كثيرة في المتاحف ، وترجمت كتبه إلى اللغات الأجنبية ، واستفادت من أفكاره الحضارة الغربية ، والناس في كتبه ما بين مختصر ومعتصر، وناقد ومنتصر ، وقادح ومادح ، ومخرّج وشارح، وأثنى عليه المستشرق جولدزهير ، وألفت فيه عشرات الدكتوراة والماجستير ، وهو صاحب أثر ، وكتبه غرر ، ذب عن القرابة ، وأثنى على الصحابة ، له ذاكرة وقّادة ، وطبيعة منقادة ، وذهن حاد ، وعزم جاد ، إذا قصد باطلاً أزهقه ، وإذا اعترض على قولٍ مزّقه ، وقد طالعت من بعد القرن الثالث إلى زمانه ، فلم أجد مثله في عمله وذكائه وإتقانه ، ولا يغمط فضله إلا مكابر ، ولا يعاديه إلا مبتدع ماكر، وله نوافل وأوراد ، وأيامه بالطاعة أعياد ، فغفر الله ذنبه ، ولقي بالرضا ربّه ، وأنزله منازل الصادقين ، وجمعنا به مع النبيين والمرسلين ، آمين .
انظم الدمع أيها الموت شعرا
مثلما تملؤ المحاجر جمراً
ففؤادي مضرّج بسهام
قد رمته الأيام شفعاً ووترا
ليت مليون مهجة سبقته
للمنايا وقد تأخّر شهرا
فبقاء العظيم في الأرض نفع
وذهاب اللئيم يُذهب عسرا
مقامَة الإمام محمّد بن عبد الوهّاب
{ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }
أغر تشرق من عينيه ملحمة
في همة عصفت كالدهر واتقدت ... من الضياء لتجلو حندس الظلم
كأنه الغيث يسقي الأرض بالدِّيم
الإمام المجدد ، شيخ الإسلام الموحد ، الذي جدد دين النبي محمد . أصبح في الإسلام علماً معروفا ، وصار بالإمامة موصوفا . دعا في التوحيد أصل الأصول ، وتابع
الرسول ، وجمع بين المنقول والمعقول .
خرج في زمن أحوج ما يكون إلى مثله ، في علمه وعقله ، فذكّر الخلف ، عقيدة السلف ، تدرع بالعلم في فترة ركنت العقول إلى الجهل ، وتسلح بالصبر في زمن قل الناصر لأهل الفضل ، وذكّر الناس بأعظم مسألة دعا إليها الأنبياء ، وهي أهم قضية عند العلماء ، فصحح للناس أصل المعتقد الحق في ربهم تبارك في علاه ، ونفض عن عقول أهل زمانه ما نال جناب التوحيد وشوّه محيّاه . فحمى جناب التوحيد ، وسدَّ كل ذريعةٍ تفضي إلى الشرك بالولي الحميد ، لم تكن دعوته صوفيه ، بنيت على شفا جرف هار من المخالفات البدعيه ، التي تنافي الأصول الشرعية ، بل كان صاحب أثر ودليل ، وتحصيل شرعي وتأصيل . ولم تكن دعوته فكرية تبنى على افتراضات العقول ، بل أثرية سلفية تقوم على ما صح من المنقول .
هذا الإمام ، لم يشغل الأمة بعلم الكلام ، بل أسعد الناس بميراث سيد الأنام . ولم يتشدق بعلم المنطق ، بل سال بيانه بالعلم الموثق ، وجرى لسانه بالقول المحقق . وسلّمه الله من طيش الفلاسفه ، أهل الزيغ والسفه ، فكان صاحب حجة قاضيه ، على سنة ماضيه ، على طريقة من سار ، من السلف الأبرار ، يعرض المسألة في سهولة ويسر ، مجانباً المشقة والعسر ، فدنا إليه قطاف الملة المحمديه ، وجبى إليه ثمار الشريعة المحمديّه .(/25)
عرف الجادة فوصل ، ودعا إلى ما دعا إليه الرسل . كان في زمنه علماء ، وفي عصره فقهاء ، لكن منهم من ظن أن السلامة في السكوت ، ولزوم البيوت ، وطلب القوت ، ومنهم من كان في علمه لوثة من البدع ، فكيف يدعو الناس إلى ما أنزله الله وشرع ، ومنهم من اشتغل بالمناصب ، عن أداء الواجب ، فهمه ثمن بخس دراهم معدودة من الحطام ، يأخذها ثمناً لفتاوى يتخذ بها جاهاً عند الطغام .
أما هذا الإمام المحفوظ بالعناية ، المحاط بالرعاية ، فأشرقت شمسه من مطالع السنة ، وصارت قافلته الميمونة إلى الجنة .
هذا المجدد لم يأت بمرسوم من الأستانة ، ولمن يطلب المنزل لدى العامة والمكانة ، بل جاء مصلحاً يعيد الأمة إلى سيرتها الأولى الربانية ، وإلى ما كانت عليه من المحاسن الإيمانية، والتعاليم الربانية . وجد في زمن هذا الإمام ، في بلاد الإسلام ، مشائخ لهم عمائم كالأبراج ، وأكمام كالأخراج . تُفعل أمام أعينهم كل طامة ، وهمهم تبجيل العامة ، يجبون الأموال بالاحتيال ، فلا يفتي أحدهم إلا بثمن معجل ، أو برهان مؤجل ، ليصبح العلم لديهم عمامة مكوّرة ، وجبة مدوّرة ، يعظّم بها لدى الرعاع ، ويسكت عن كل شرك وابتداع . يرى أحدهم الجهال يطوفون بالقبور ، فلا يغضب ولا يثور ، لأن دماء حب الدنيا في عروقه تجمد ، فهو تائه مقلد ، بارد متبلّد .
فجاء هذا الإمام الذي ما تدنس بالدنيا جلبابه ، ولا اتسخت بالبدعة ثيابه ، وقد عقد العزم ، واتصف بالحزم ، تحدوه همة عارمة ، وعزيمة صارمة ، فدعا إلى تجديد ما اندرس من الدين ، وإظهار ما خفي من دعوة سيد المرسلين .
فكان الناس معه أقسام ثلاثة ، فأصحاب حسد ، ضل رشدهم وفسد ، لسان حالهم : لماذا اختير هذا من بيننا ، إنه يدعو إلى غير ديننا ، فكبتهم الله بنصر هذا الإمام ، وتآكل حسدهم في صدورهم على مر الأيام .
وأصحاب بدعة وهوى ، سقط نجمهم وهوى ، ذاق منهم الأمرّ ، فاحتسب الأجر وصبر . وأصحاب قلوب حيّة ، وفطر نقيّة ، عرفوا أن دعوته دعوة مرضيّة ، سلفيّة سنيّة ، فركبوا في سفينة التجديد ، مع هذا الإمام الرشيد ، حتى وصلوا معه إلى شاطئ الإصلاح ، وساحل الفلاح . فإذا رأيت من ينال هذا الإمام ، ويحط من قدر هذا الهمام ، فاعلم أنه مخذول مغرور ، أو جاهل مغمور .
واعلم أن الصادق يجعل الله لدعوته التأييد والتمكين ، والكاذب يظهر الله عواره ولو بعد حين . وهذا الإمام لم يكن مطلبه السلطان ، وجمع الجنود والأعوان ، والاستيلاء على البلدان . بل كان قصده تصحيح معتقد الناس ، وتصفية التوحيد مما أصابه من الأدران والأدناس ، وإزالة الخطأ والالتباس ، فأصاب عين الحقيقة ، ولزم أحسن طريقة ، حتى شرّقت بالخير ركائبه ، وغرّبت بالفضل نجائبه ، فتقبلها عباد الله بقبول حسن ، وعدوها عليهم من أعظم المنن ، وشرق بها من ضل رشده ، وخاب جهده ، فما ضر إلا نفسه ، وما اقتلع إلا غرسه ، وهذه سنة الله في البشرية ، وحكمته في البريّة .
لا تشرق شمس دعوة صادقة ، بالتوحيد ناطقة ، إلا قيض الله لها أنصاراً وأعداء ، لتتم سنته في المدافعة بين الفجّار والأولياء ، وليتخذ شهداء .
بدأ الإمام بالتوحيد لأنه المسألة الكبرى ، والعروة الوثقى . لأن من يعلّم الناس الفروع وقد ذهبت الأصول ، كمثل من يداوي الأجسام وقد فقدت العقول ، وكيف تفلح أمة يطوف على القبور رجالها ، وينشأ على الشرك أجيالها .
قبل أن تدرّس الناس الفروع الفقهية ، صحح لهم مسألة الألوهية ، وقضية العبوديّة ، لتأتي البيوت من أبوابها ، وترد المسببات إلى أسبابها .
وقبل أن يعلم الناس أبواب السياسة ، وطرق الوصول إلى الرئاسة ، يجب تعليمهم الدين الخالص الذي دعت إليه الأنبياء ، والتوحيد الحق الذي جاءت به الملّة الغرّاء .
هل يقر للعبد قرار وهو يسمع { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } . هل بعد هذا الإنذار من إنذار ، وهل فوق الخطر من أخطار ، والله يقول لنبيه وصفيه { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } . إن الأحزاب المفلسة ، والطوائف المبلسة ، أهملت مسألة التوحيد من حسابها ، وحجبت حقيقته عن أحزابها . فكان جزاؤها الخزي والهوان ، والذلة والخذلان، لأن أعظم المطالب العلمية ، وأكبر المقاصد العملية ، هي قضية الألوهية ، ولهذا تجد أنَّ أي دعوة قامت على غير التوحيد قد انهارت ، وأعلنت هزيمتها وبارت { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ } .
ما خُلق الكون ؟ وأوجدت فيه حركة وسكون ، إلا لمسألة عظيمة ذكرت في الكتاب المكنون : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } .(/26)
كانت دعوة الإمام المجدّد ، تنص على أن يعبد الله وحده ويوحّد ، قبل أن يعلم الناس الأحكام ، لابد أن تطهر قلوبهم من التعلق بالأوثان والأصنام ، وأن تزكى ضمائرهم من التعلق بالأنصاب والأزلام .
قد يدرك الحلولي والاتحادي مسائل الفقه وهو ضال في باب التوحيد ، وقد يلم الصوفي والقبوري بالأحكام وهو جاهل بحق الله على العبيد . ولهذا تجد من نصب نفسه للفتيا في بعض البلاد ، يشاهد مظاهر الشرك تعصف بالعباد ، ثم لا ينكر ولو بإشارة ، ولا ينهى ولو بعبارة ، فأي صلاح لمن هذه حاله ، وأي علم ينتظر لمن هذه أعماله .
لقد استقبلت الأمة دعوة هذا الإمام ، بالقبول والاهتمام ، فصار للمساجد دوي كدوي النحل بالعلم المأثور ، وصارت كتائب التوحيد تزيل القباب عن القبور ، وانتشر دعاة الحق ينفضون آثار الشرك والبدعة من الصدور ، فصار العامي بنور هذه الدعوة أصفى توحيدا ، وأخلص دينا ، من أئمة الطوائف المنحرفة ، لما جعل الله في قلبه من نور المعرفة . بعد أن عمّت الشرور ، وانطفأ النور ، وحار الناس في ظلمات الشرك بين نذور وقبور ، وسحر وكهانة وفجور ، فجدد الله بهذا الإمام معالم الدين ، وأيده بكتائب الموحدين ، فالحمد لله رب العالمين .
حمداً على جلال النعمة ، وانكشاف الغمة ، وصلاح الأمة .
المقامَة البازيَّة
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ }
إن قام سوق العلم فهو كمالك
أو غاص في التفسير قلت مجاهد
وإذا تزاحمت الوفود فحاتم ... أو مد باع الزهد فالشيباني
والفقه والتعليم كالنعمان
وكأحنفٍ في الحلم والغفران
للقلب من ذكره اهتزاز ، وللقصيد في مدحه ارتجاز ، تفرد بالمكرمات وامتاز ، وحظي بحسن الثناء وفاز ، إنه عبد العزيز بن باز . أوصلته الهمة ، إلى إمامة الأمة ، وبلغته العزيمة المنزلة الكريمة ، ودلته السنة ، طريق الجنة . خلق أرق من النسيم ، وعلم أعذب من التسنيم ، كلامه يوشى بالأثر ، كأنه در انتثر .
ابن باز : اتباع لا ابتداع ، وقبولٌ عم البقاع ، وفضله كلمة إجماع ، مع اعتصام بالدليل ، واهتمام بالتأصيل ، وبراعة في التحصيل ، يشرفه تحقيق في النقل ، وسداد في العقل ، جمع مع كرم الطبيعة ، رسوخ في الشريعة ، هجر في طلب العلم الرقاد ، فحصل واستفاد ، وأخذ الرواية بالإسناد ، حتى ترأس وساد ، وعم علمه البلاد والعباد .
ابن باز : على نهج السلف ، بلا تنطع ولا صلف ، روح بالتقوى طاهرة ، ونفس بالعلوم باهرة ، أعذب من ماء السحاب ، وأرق من دمع الأحباب .
ابن باز في هذا العصر : إمام الغرباء ، وعالم الأولياء ، وزاهد العلماء .
تقلد ابن باز أرفع المناصب ، فكان آية في أداء الواجب . حضرت له مجالس وموائد ، وحملت عنه فوائد ، وألقيت عليه قصائد ، ورويت عنه فرائد .
كانت محادثة الركبان تخبرنا
حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... عن شيخنا الباز تروي أروع الخبر
أذني بأحسن مما قد رأى بصري
لما جاء خبر وفاة هذا الإمام تعثرت به الأفواه ، وتلعثمت به الشفاه ، وقال القلب هذا خبر لا أقواه ، وقالت النفس ما أشد هذا المصاب على القلب وما أقساه .
أصيب به الإسلام وارتج أهله
كأن بني الإسلام يوم وفاته ... على فقده حتى أصيب به الصبر
نجوم سماءٍ خر من بينها البدر
ابن باز بز بعلمه الأعلام ، وأتعب بسيرته الأقلام ، وأهدى عمره للإسلام ،
وكفل بكرمه الأيتام .
لو رآه يحيى بن معين لقال : مرحباً بعلم الإسناد ، ولو أبصره حاتم الطائي لقال : أهلاً يا سيد الأجواد ، ولو لقيه الأحنف بن قيس لقال : منكم الحلم يستفاد .
ابن باز بَزَّ الأقران ، بطاعة الرحمن ، وعلم السنة والقرآن ، وإكرام الضيفان ، واحترام الإخوان ، وبر الأقارب والجيران .
سعى سعيهم قوم فلم يدركوهمو
ولكن لهم سبق الجلالة والعلا ... وما قصرّوا عند اللحاق ولم يألوا
فجاء لهم من كل ناحية فضل
إن زرته غمرك بالإكرام ، وأتحفك بالاحترام ، وآنسك بطيب الكلام ، وضيفك ألذ الطعام ، وعلمك الآداب والأحكام ، فهو يجمع الجودين ، وبما تقوم الدنيا والدين .
ابن باز أبو الدعاة ، وشيخ القضاة ، وناصح الولاة ، تحبه لتقواه ، وتحترمه لفتواه .
حاضر في الجامعات ، وتشرفت به المحاضرات ، وتعطرت بعلمه الندوات ، وطابت بلقائه الأمسيات ، وسعدت بوجوده الجلسات ، غني في زي فقير ، وزاهد في موكب أمير ومفتي في منصب وزير ، حمل كل أمر خطير ، فكان نعم المشير ، وصاحب الرأي الفطير والخمير ، عليه بسمة في وقار ، ولين في إصرار ، ودأب في استمرار ، السنة له شعار ، والصلاح له دثار ، وعليه من السكينة أنوار ، لم يكن لسانه كالمقراض للأعراض ، ولم يكن له ارتياض في جلب المال والأغراض :
عفيف من الدنيا خفيف من الخنا
فلو قسمت أخلاقه في قبيلة ... كأَن به عن كل فاحشة وقرُ
لصار لكل منهم المجد والفخرُ
ابن باز : نفع للخليقة ، وإدراك للحقيقة ، ولزوم الطريقة ، عدل في الأحكام وإنصاف ، وتواضع تعنو له الأشراف ، وكرم تشهد به الأضياف .(/27)
أثبت ابن باز أن العلم يشرف من حمله ، وأن المال يسوّد من بذله . ليس في قاموس ابن باز أن الجود يفقر ، بل صاحبه يشكر وبالخير يذكر ، لو ترجم كرم ابن باز في أبيات
لقيل : ... أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا
ولا تطع في سبيل الجود عذالا
من جاد جاد عليه الله واستترت
عيوبه وكفى بالجود سربالا
تميز ابن باز بالتعمق في الأثر ، والغوص على الدرر ، مع تصحيح الخبر ،
وصحة النظر .
ابتعد ابن باز عن شقشقة علماء الكلام ، وعقعقة الفلاسفة الطغام ، وتشدق أهل المنطق اللئام . ولم يكن يسقط على السقطات ، ولا يلقط الغلطات ، بل كان يدفن المعائب ، ويذكر المناقب ، فملأ الله بمحبته القلوب ، وطار ذكره في الشعوب .
فالعلم عنده حديث وآية ، ونور وهداية ، وعمل لغاية ، واستعداد لنهاية ، أعرض عن مذاهب المبتدعة الضلال ، وأهل الدنيا الجهال ، وأساطين القيل والقال ، وهجر الجدال ، فسلم من همز الرجال .
خلق كأن الشمس تحسده على
ضمنت له الدنيا الثناء فكلما ... كرم الطباع وزينة الأوصاف
ذكروه جاد الناس بالإتحاف
ليس في مجلسه أرقام الأسعار ، ولا فضول الأخبار ، ولا غرائب الأقطار ، ولا عجائب الأمصار ، وإنما كلام العزيز الغفار ، وحديث النبي المختار ، وما صح من آثار . ( كمثل حامل المسك إما أن تبتاع منه وإما أن يتحفك بطيبه ) .
زهد ابن باز زهد متواضع ، لم يشر إليه بالأصابع ، ويعلن على الملأ في المجامع ، لأن الدنيا عنده أهون من أن يعظم الزهد فيها ، وأحقر من أن يمدح النظر إليها ، فكان زهده صامت ، وتواضعه ساكت . خدمته ألسنة الخلق بإعلان الفضائل ، وأحبته قلوب الناس فوعت تلك الرسائل .
أفضل شيء في العالم : مراقبة الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والاستعداد للرحيل ، والرضا بالقليل ، وكذلك كان ابن باز . { فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ }
وأحب شيء في الولي : المحافظة على تكبيرة الإحرام ، والكف عن الحرام ، والرحمة بالأنام ، وسلامة الصدر من حب الانتقام ، وطهارة الثوب من الآثام ، وكذلك كان ابن باز . كانت دعوته حسبة ، وعمله قربة ، فصار إماماً في زمن الغربة .
وأكرم شيء في الرجل ، بسمة على محياه ، وصدقه في مسعاه ، وثباته في خطاه ، وإخلاصه في إعلانه ونجواه ، وكذلك كان ابن باز .
وأحسن شيء في الإنسان ، طهارة الضمير ، والاستعلاء على كل حقير ، واحترام الكبير ، ورحمة بالصغير ، وعطف على الفقير ، وكذلك كان ابن باز .
العلم ليس متوناً تحفظ ، ولا خطباً تلفظ ، ولكنه خشية وخشوع ، وتواضع وخضوع ، واتباع في الأصول والفروع ، وكذلك كان ابن باز . { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }
والعلم ليس شهادات تعلق ، ولا مناصب تتسلق ، ولا دنيا تعشق ، ولكنه تقوى ومراقبة ، وورع ومحاسبة ، وتنبيه للغافل ، وتعليم للجاهل ، وكذلك كان ابن باز .
عرفنا من العلماء من اشتهر بالخطابة ، والذكاء والنجابة ، وسرعة البديهة والإصابة وهذا أعظم ما يذكر به وعرفنا من العلماء من عندهم فهم ثاقب ، ونظر صائب ، وذهن يغوص على العجائب ، ثم ليس يذكر إلا بهذا .
وعرفنا من عنده حافظة قوية ، وفي صدره متون مروية ، وفي ذاكرته علوم محكية ، ثم هذا غاية ما عنده . ولكن ابن باز حافظة بفهم ، وذاكرة بعلم ، وسداد في روية ، وثبات مع حسن طوية ، معه حجة ناطقة ، ونية صادقة .
كالسيف إن تغمده أو تسلله ما
معروفهٌ وثباته وصفاته ... في حده عيب ولا تقصير
في صوته يوم القتال صرير
بلغ ابن باز منزلة لا يرفعه المدح ، ولا يضعه القدح ، فاستوى عنده الثناء والهجاء ، ولم ينفعه مدح الأصدقاء ، وما ضره ذم الأعداء ، لأنه يعامل رب
الأرض والسماء .
من كان فوق محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع
ليس في قاموس ابن باز تفصّح ولا تبجّح ولا تمدّح .
لا يحب الإطراء والمراء والإغراء ، لا يتزلف عنده برنين الدعاية ، ولا يتقرب لديه برخيص السعاية ، لأنه قد حقق الولاية .
ليس العلم عند ابن باز بالتفاصح ، والتمادح ، والزهو بالمشالح ، والحرص على المصالح ، بل العلم لديه حمل الشريعة في إخبات ، وطلب الفائدة بإنصات ، والعمل بالحجة في ثبات . العالم من عند الحرام كف ، وعن الشهوات عف ، وقال على غرور الدنيا تف ، وكذلك كان ابن باز .
ابن باز من مدرسة التجديد ، وليس من أهل التقليد ، بل هو صاحب حجة ، سالك المحجة ، معتصم بالبرهان ، عالم برضى الرحمن . ليس بمتعصب للمذهب ، بل يتبع الحق أينما وجد ، ولا يتجاوز الدليل إذا صح السند .
صحبت هذا الشيخ فلم أر فيه عجرفة المتطاولين ، ولا تخرص المتقوّلين ، ولا ترخص المتأولين ، ولا غرور الجاهلين ، بل دأب في تحصيل الفضيلة ، وحرص على الصفات الجليلة ، واتصف بالأخلاق الجميلة .
كان الشيخ يحترم الأئمة السالفين ، ولم يكن يجرّح المخالفين ، بل كان رفيقاً مما جعل الناس له مؤالفين .(/28)
إذا صاحبت قوماً أهل فضل
ولا تأخذ بزلة كل قوم ... فكن لهموا كذي الرحم الشفيق
فتبقى في الزمان بلا رفيق
إن التقوى إخلاص في الأعمال ، وصدق في الأقوال ، ومراقبة لله في الأحوال ، وكذلك كان هو . أدرك الشيخ شرف الزمان ، فوزع وقته في وجوه البر والإحسان ، وهذه أعظم علامة ، على بلوغه درجة الإمامة .
فهو رجل خاصة ينصح ويعظ ويتلطّف ، ولا يغلظ ويشنع ويعنف .
وهو رجل عامّة فكان بالناس رفيقا ، وبالمستضعفين رقيقا .
وهو رجل شفاعات تُلبَّى لديه الطلبات ، وتحل عنده المشكلات ، ويجيب على التساؤلات ، وتعرض عليه المعضلات .
الإمامة عند هذا الإمام : يقين عند الشبهات ، وصبر عند الشهوات ، وتحمل للمسئوليات .لم يكن هذا الإمام في فتواه يفرع المسائل حتى يحير السائل ، بل وضوح في العبارة ، ولطف في الإشارة ، فلا إسهاب يشتت الأذهان ، ولا اقتضاب يربك الحيران ، بل إصابة للقصد ، مع اختصار للجهد . فهو أدرى بقوله تعالى : { وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى } .
وقالوا : من تابع الرسول ، ووقف مع المنقول ، وترك الفضول ، نال القبول وكذلك كان رحمه الله .
وقالوا : من تقيد بالمأثور ، وآمن بالمقدور ، وعمل بالمأمور ، واجتنب المحذور ، فعمله مبرور ، وسعيه مشكور ، وهو مأجور وكذلك كان رحمه الله .
وقالوا : من أرضى الحق ، ولطف بالخلق ، وصدق في النطق ، وعمل في رفق ، حصل من الرب على القرب ، ومن الناس على الحب ، وكذلك كان رحمه الله .
ولولا أني عرفته ما وصفته ، والسبب في أنني أحببته ، لأنني صاحبته .
ولا تقل إنني بالغت في المدح بل قصرت ، ولا تزعم أنني طولت في الثناء بل اختصرت . وقد عرفت في حياتي مئات العلماء ، والأدباء ، والشعراء ، والنبلاء ، والكل فيه فضل ، والجميع فيه نبل . ولكن الذي تفرد بالفضائل واصطفاها ، وجمع حسن الشمائل وحواها ، وعرف دروس المجد ووعاها ، هو هذا الإمام الهمام .
وقد طالعت سِفْر صفات الصالحين ، وقرأت ديوان المفلحين ، وراجعت علامات الناجحين ، فوجدتها فيه منطبقة ، وعليه متّسقة .
ولو حرص الكثير لما استطاعوا ... إلى ما فيك من كرم الخصال
وابن باز جمع بين ثلاث ميمات ، لها قيمات ، ولها عليه سمات وعلامات .
فميم العلم ، والرسوخ في الفهم ، وهي إمامة مقدسة ، على الوحي مؤسسة .
وميم الكرم والسخاء ، والتي حرم منها البخلاء ، فصار هذا الشيخ بالكرم رئيسا ، وعند الناس نفيسا . وميم الحلم فلا يغضب ولا يعتب ولا يصخب ولا يضرب .
وقد قرأت عليه قطعة من مسند أحمد في المسجد ، فكان يتكلم بقول مسدد ، ورأي بالصواب مؤيّد ، ولا يتردد . وألقيت عليه قصيدتي البازيّة ، وهي فصيحة لا رمزيّة ، فقابلها بالقبول ، واللطف في القول ، ودعا لي بالتوفيق ، كأنه والد شفيق .
وألقيت عليه قصيدتي في أبي ذر ، فاستأنس وسر ، وقصائد كثيرات ، في لقاءات ومخيمات ، وندوات وأمسيات .
يا ليت أيامي تعود فذكرها ... في عهد هذا الفذ قد أشجاني
وهو أول ضيف افتتح بيتي في الرياض ، وقد أفاض عليّ من بره ما أفاض ، وما رأيت منه في حياتي الجفاء والإعراض :
أنا ممن سماحته أنالت
عليه تحية الرحمن تغدو ... وممن دربت تلك الأيادي
لما أسداه من نفع العبادِ
بل كان دائماً كثير الترحاب ، ليّن الجناب ، قريباً من الأحباب ، مكرماً للأصحاب .
وقد شجعني على الدعوة بخطاب منه مختوم ، وباسمه موسوم ، وبأنفاسه مرسوم ، وهو عندي إلى اليوم . وقد وصلت دولاً أعجمية وعربية ، وشرقية وغربية ، فما رأيت مثل هذا الإمام ، على كثرة من عرفنا من الأنام . وأظن عين المجد قد بكت عليه ، وروح التاريخ حنت إليه ، ولو فاح طيب ثناءه في الوجود لكان مسكا ، ولو نظمت مكارمه في عقد لانفصم من طوله سلكاً سلكا . وقد رثاه العامة والحكام ، ورجال الإعلام ، وحملة الأقلام ، وبكاه رجال الصحافة ، وأهل الأدب والثقافة ، ونوه بفضله العلماء ، وبكاه الشعراء ، وأثنى عليه الأدباء ، وحزن عليه الزعماء . وما سمعنا بمثل جنازته في الإسلام ، ولم نعلم أنه مر مثلها مع الأيام ، من كثرة الزحام ، وما حل بالمسلمين من الآلام .
فقد اختلط الترحم عليه بالدموع ، وماجت كالبحر الجموع ، وأعلن خبر موته الإعلام المرئي والمسموع . ووددت أن النصارى شاهدوا جنازته واليهود ، ورأوا ذلك الموقف المشهود ، وأبصروا تلك الحشود والبنود ، والوفود والجنود ، ليعلموا منزلة علمائنا ، وقَدْر حكمائنا ، وأننا أمة تقدس الديانة ، وتوقر حملة الأمانة ، وأهل الرزانة والصيانة .
ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعة
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى ... غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
لها الليل إلا وهي من سندس خضر(/29)
وقد رثيته بقصيدة بازيّة ، أصف فيها عظم الرزيّة ، أنزله الله رضوانه ، وأسبغ عليه غفرانه ، وبوّأه أكرم نزل ، وألبسه أجمل الحلل ، جزاء ما قدّم ، وأفاد وعلّم ، وأتحف وأكرم ، فله علينا حق الدعاء ، وحسن الثناء ، وهذه سنة الوفاء ، ومذهب الأصفياء ، وعسى الملك العلام ، ذو الأيادي العظام ، والمنن الجسام ، أن يجمعنا به في دار السلام ، مع السلف الكرام .
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا
عفواً لك الله قد أحببت طلعتكم
يفديك من جعل الدنيا رسالته ... فقمت أنشد أشواقي وألطافي
فهو الغفور لزلاّتي وإسرافي
لأنها ذكرتني سير أسلافي
من كل أمثاله تفدى بآلافِ
المقامَة الدّعويّة
{ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ }
أنت كنز الدر والياقوت في
محفل الأيام في شوق إلى ... لجة الدنيا وإن لم يعرفوك
صوتك العالي وعساهم يسمعوك
ترى الناس بلا دعوة أيتاماً ، لا يعرفون حلالاً ولا حراما ، ولا صلاة ولا صياما ، ولا سنناً ولا أحكاما ، فالدعوة لرئة الأحياء هواء ، ولكبد الدنيا ماء ، ولذلك أرسل الله الأنبياء ، وخط في اللوح ما شاء .
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له
وأنت أحييت أجيالاً من الرممِ
من نحن قبلك إلا نقطة غرقت
في اليم أو دمعة خرساء في القدمِ
وقد حملت القلم والدواة ، ورافقت الدعاة ، ولقيت العلماء والقضاة ، وعرفت البسطاء والدهاة ، وجبت مع إخواني البلاد ، وخالطت العباد ، فكم عرفنا من ناد وواد ، وسرنا في حاضر وباد ، فأخذت من الناس المواهب ، واستفدت من الزمان التجارب ، وميّزت المشارب ، ونزلت تلك الخيام ، والمضارب .
فالداعية الناجح ، والواعظ الصالح ، من جعل محمّداً إمامه ، فعرف هديه وكلامه ، فراش بهداه سهامه ، وجمل بسنته مقامه . والداعية من كان بالناس رفيقا ، وعاش معهم رقيقا ، وصار بهم شفيقا ، فاجتنب العنف والتجريح ، والإسراف في المديح ، فلزِم القول الليّن ، والخُلق الهيّن ، فصار لقلوب الناس طبيبا ، ولأرواحهم حبيبا .
غلام إذا ما شرّف الجمع صفقت
له منطق لو أن للسحر بعضه ... له أنفس الحضر واكتمل البشرُ
مشى بيننا من حسن طلعته السحرُ
ولي في الدعوة انتقال وارتحال ، والفضل لذي الجلال ، وليس لي في الفضل فِلْس ولا مثقال . وكانت البداية في أبها ، وهي من الشمس أبهى ، ومن الزلال أشهى ، وأهلها من أرق الناس قلوباً ، وأقلهم عيوباً ، تغلب عليهم الاستجابة ، والذكاء والنجابة .
هيّنون ليّنون أيسار بنو يسر
صيد بها ليل حفّاظون للجار
من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم
مثل النجوم التي يسري بها الساري
ثم زرت مكّة ، فعرفت من الحب يقينه وشكّه ، فصرت لأهلها بالمودة ضامناً ، وصار الأنس في قلبي كامناً ، وآمن فؤادي ومن دخله كان آمنا . فلو أن الثرى يُقَبَّل لقبّلت ، لكنني لما رأيتها كبّرت وهلّلت ، وحول البيت هرولت .
كبّرت عند ديارهم لما بدت
منها الشموس وليس منها المشرق
وعجبت من بلد مكارم أهلها
فيها السحاب صخورها لا تورق
ثم سرت إلى الرياض ، وأنا من الهم خالي الوفاض ، فلاحت لنا الأعلام النجدية ، والأماني الوردية ، ووصلنا أرض التوحيد ، وبلاد التجديد ، فوجدنا العلماء ، والكرماء ، والحلماء .
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم
قوم بآبائهم أو مجدهم قعدوا
محسدون على ما كان من نعم
لا ينزع الله منهم ماله حسدوا
ثم حملنا الشوق إلى طيبة ، وهي أمنيتنا في الحضور والغيبة ، وهي أرض الجلال والهيبة ، فيا قلب والله لا ألومك في هواك ، ولا أردك عن مناك ، لأن أحب الناس يرقد هناك . أليس في هذه الروابي مشى محمّد ، وصلى وتعبد ، وقام وتهجد .
بنفسي تلك الأرض ما أحسن الربا
وما أحسن المصطاف والمتربعا
كتبنا عليها بالدموع صحائفاً
هي الدار صارت للمحبين مضجعا
ثم رحلنا إلى جدة ، ولنا عنها مدة ، فلما وصلناها ذهب كل عناء وشدة ، وقد أخذنا من الحب عدة ، وحملنا في القلوب مودة . فلقينا بها شباباً كالسحاب ، برؤيتهم تم الأنس وطاب ، وذهب الهم والأوصاب ، أخلاقهم أرق من النسيم ، وعشرتهم أجمل من الدر النظيم .
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا
أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
بهاليل في الإسلام سادوا ولم يكن
لأولهم في الجاهلية أولُ
ثم جاءتنا برقية ، فسافرنا إلى الشرقية ، وما أبقى لنا الشوق بقية ،فقابلونا بالحفاوة والإكرام ، والحب والاحترام ، ووجدنا رقة الحضارة ، والبشاشة والنضارة ، فعجزنا عن الشكر ، وهام بنا إليهم الذكر ، وما نسيهم الفكر :
لله تلك الدار أي محلة
للجود والافضال والتكريمِ
هم كالشموس مهابة وجلالة
أخلاقهم في الحسن كالتسنيمِ
ثم قلت لصاحبي مالك في الجدال خصيم ، تقول القيصومة ، وأنا أقول القصيم ، فلما وصلنا تلك الديار، وعانقنا الأخيار ، وجدنا أهل الديانة ، والأمانة ، والصيانة . عفاف في طهر ، كأنهم نجوم زهر ، أشاد بمكارمهم الدهر .
قل للرياح إذا هبت غواديها(/30)
واكتب على أرضهم بالحب ملحمة ... حي القصيم وعانق كل من فيها
أرض الديانة قاصيها ودانيها
ثم دخلنا حائل ، والقلب إليها مائل ، فلقينا أبناء المكارم ، وعانقنا أحفاد حاتم ، فرجح حبهم في الميزان ، وحدثناهم في جامع برزان ، واعتذرت من إبطائي ، ثم ألقيت قصيدة نادي الطائي :
لا عيب فيهم سوى أن المقيم بهم
يسلو عن الأهل بل كل الأحباءِ
في حائل قد بنى الإكرام منزله
أبوهموا في المعالي حاتم الطائي
ولما هبطنا الباحة ، وجدنا الأنس والراحة ، وقد عانق القلب أفراحه ، ونسي أتراحه ، فغمد حسام الإسلام غامد ، كم بها من عابد ، وزاهد ، وساجد .
وزهرة المكارم زهران ، صرت في ليلي عندهم من الفرح سهران ، سيرتهم أطيب سيرة ، وسريرتهم أحسن سريرة ، لأنهم أبناء أبي هريرة :
في الباحة الغراء كان لقاؤنا
ما أحسن اللقيا بلا ميعادِ
شيدت بها الأخلاق في أوطانها
تلقاك بالأجواد والعبادِ
وقد هبطنا تهامة ، فلا ملل ولا سآمة ، وأقمنا أحسن إقامة ، فوجدت الجود خلفي وأمامي ، ولمست الإكرام ورائي وقدامي ، وكفاهم أن الرسول تهامي ، تفيض وجوههم مما عرفوا من الحق ، وتشرق وجوههم مما حملوا من الصدق :
أتهمت في طلب المحبة والهوى
يا ابن المحبة والوداد تهيامي
لما أتيتهموا نسيت سواهموا
ضيعت قبل وصولهم أيامي
ولما أتينا جيزان ، والجو قد زان ، نسينا من السرور الأهل والجيران ، ووجدنا الحلقات الشرعية ، والآثار القرعاوية ، والجهود الدعوية ، والكل منّا يلاحظ ، تلاميذ الحكمي حافظ ، حيث ولدت العبقرية ، ولازالت القرائح غضة طريّة ، ولمسنا العزم والهمم ، ووجدنا الجود والكرم :
جازان إني من هواك لشاك
أشجيتني وأنا الذي أشجاك
يا فتنة النّادي طربت وعادني
ما يشبه الأحلام من ذكراك
وأهم ما يُدعى إليه التوحيد ، فإنه حق الله على العبيد ، ومن أجله بعث الرسل ، وكل كتاب به نزل ، وهو رأس العمل . وعلى الداعية أن يعمل بما يقول ، ليضع الله له القبول ، فكل من ترك الهدى فهو مخذول ، كلامه ساقط مرذول .
ولتكن للداعية نوافل وأوراد ، وحسن خُلق مع العباد ، وإصلاح لنفسه وجهاد ، ومحاسبة لها قبل يوم التناد .
وليكثر من الأذكار ، بالعشي والإبكار ، وليراقب الواحد القهار ، مع قراءة سيرة الأخيار، ومصاحبة الأبرار ، والزهد في هذه الدار ، وليعتقد في نفسه التقصير ويعترف ، ويخشى مما اقترف ، ويبكي على ما سلف ، وعلى ما كان عليه السلف يقف ، وليسلم من الهلاك والتلف ، وليتقيّد بما شرع ، وليحذر البدع ، فإن النفس أمّارة ، والنفس غرّارة ، وليجوّد العبارة ، ويحسن الإشارة ، وليوقر الكبير ، ويرحم الصغير ، ويعطف على الفقير . وليأت المنابر بعزم وثاب ، وقلب غير هيّاب ، وأسلوب جذّاب ، وليعد العدة قبل أن يلقي الخطاب ، وليتذكر حديث : (( لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم )) ، فإن هذا من أجل النعم ، وليحمد ربه وليشكر ، حيث جعله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وليعلم أن معلم الخير ، وناصح الغير ، يستغفر له الطير ، والحوت في الغدير . فطوبى لمن كان للرسول خليفة ، وما أجلها من وظيفة ، فهي المنزلة الشريفة ، والدرجة المنيفة ، فهذا عمل الأنبياء ، وشغل العلماء ، وقربة الأولياء ، فهنيئاً له الأجر ، ورفعة الذكر ، وجلال القدر ، وصلاح الأمر .
فسبحان من اصطفى من عباده دعاة إلى الجنة ، أعلاماً للسنة ، له عليهم أجل نعمة ، وأعظم منّة .
المقامَات الوعظية
{ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ }
أما والله لو علم الأنام
حياة ثم موت ثم نشر ... لما خلقوا لما غفلوا وناموا
وحشر ثم أهوال عظامُ
قلنا لأحد العلماء ، النبلاء ، الأولياء : عظنا موعظة ، للقلوب موقظة ، فإن قلوبنا بالذنوب مريضة ، وأجنحتنا بالخطايا مهيضة ، فنحن قد أدمنّا الذنوب ، وعصينا علاّم الغيوب ، حتى قست منا القلوب ، فقال : واحرّ قلباه ، واكرباه ، يا ربّاه ، يا ابن آدم تذنب ولست بنادم ، الأنبياء يبكون ، والصالحون يشكون ، تتابع المعاصي ، وتستهين بمن أخذ بالنواصي ، ويحك كيف تلعب بالنار ، وتستهين بالجبار ، يغذيك ويعشِّيك ، ويقعدك ويمشيك ، ثم تنهض على عصيان أمره ، مع علوِّ قدره ، وعظيم قهره ، ويلك هذا الملك كسر ظهور الأكاسرة ، وقصّر بالموت آمال القياصرة ، وأرغم بالجبروت أنوف الجبابرة ، الروح الأمين ، وَجِل مسكين ، من خوف القويّ المتين ، ومحمد يتهجد ويتعبد، وهو الذي دعا كل موحِّد ، ومع هذا يتوعد ويهدد ، من ركن لكل كافر وملحد .(/31)
أين عقلك يا مغرور ، هل نسيت يوم العبور ، وساعة المرور ، كل طائر من خوفه يخرُّ صريعًا ، وكل كاسر يئن من خشيته وجيعًا ، أبو بكر انتفض من خوفه كالعصفور ، وصار صدره بالنشيج يفور ، وسقط الفاروق من الخشية على الرمال ، حتى حُمِل على أكتاف الرجال ، وبقي ذو النورين ، من منظر القبر يبكي يومين ، وهذا علي بن أبي طالب دموعه من التذكر سواكب ، كان عمر بن عبد العزيز ، يرتعد ولصدره أزيز ، ويقول : يا قوم ، اذكروا صباح ذلك اليوم ، ويلك والله لو أن القرآن نزل على صخر لتفجر ، ولوهبط على حجر لتكسر ، وتقرؤه وأنت لاهٍ ساه ، تتفكر في المنصب والجاه ، كأن الليالي لا تطويك ، والكلام لا يعْنيك ، تدفن الآباء والأجداد ، وتفقد الأخوة والأولاد ، وأنت لازلت في إصرار وعناد ، سبحان الله تغترّ بالشباب ، وتزيّن الثياب ، وتنسى يوم يُهال عليك التراب :
أبداً تصرُّ على الذنوب ولا تعي
وتكثر العصيان منك وتدَّعي
أبداً ولا تبكي كأنك خالد
وأراك بين مودِّعٍ ومشيِّعِ
لا تغفل ذكره ، ولا تنس شكره ، ولا تأمن مكره ، هو الذي عفر بالطين ، أنف فرعون اللعين ، وفرّق جنوده أجمعين ، مساكن من عصاه قاع قرقر ، بعد ما أرسل عليهم الريح الصرصر ، إذا غضب دمر المنازل على أهلها ، وسوّى جبالها بسهلها ، شابَ رأسُك، وما خفّ بأسك ، ومازال في المعاصي فأسك ، ما لك ما تردّك الآيات ، ولا تزجرك العظات ، ولا تتذكر الأموات ، مصرٌّ مستكبر ، تركب كل أمر منكر .
سمع ابن وهب آية { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ } ، فسقط مغشياً عليه في الدار ، ثم مات في آخر النهار ، سمع عمر ، بعض السور ، فطرح دُرّته وانقعر ، فبقي مريضاً شهر ، وصارت دموعه نهر ، قرأ سفيان سورة الزلزلة ، فسُمع له ولولة ، كأنها أصابت مقتلة ، بعض الصقور تسقط من السماء ، وإن من الحجارة لما يشقق فيخرج منه الماء ، وأغميَ من الخشية على كثير من العلماء .
كأنك ما سمعت بطورسينا
تخرُّ له الجبابر وهي تبكي
عراة نحن فيه فيا لهولٍ ... ويوم صار من طولٍ سنينا
ويحصي فيه ربي ما نسينا
كأنا ما طعمنا أو كسينا
ويحك خَف ربك ، وراجع قلبك ، واذكر ذنبك ، موسى خرّ من الخوف مغشياً عليه مصعوقاً ، ويوشع صار قلبه من الوجل مشقوقاً ، وبعضهم أصبح وجهه من الدموع محروقاً ، كيف تصبح وتمسي ، والرسل كل يقول نفسي نفسي ، أعجبتك الدور والقصور يا مغرور ، ونسيت القبور ، ويوم النشور ، يوم يحصل ما في الصدور .
والذي نفسي بيده ما تساوي الدنيا فتيلة ، ولا تعادل في القبر فزع أول ليلة ، يوم تطرح فيه وليس لك حيلة ، استنفق مالَك ، وراجع أعمالك ، وزن أقوالك .
وخطك الشيب ، وما تركت العيب ، تشاهد المصارع ، وتسمع القوارع ، وتنهال عليك الفواجع ، تنسى الرب ، يا ميّت القلب ، الصحابة من الخوف مرضى ، وطلحة ينادي : اللهم خذ من دمي حتى ترضى ، ما شاء الله ما تحضر صلاة الفجر ، ولا تطمع في الأجر ، وجعفر تقطعت بالسيوف أوصاله ، وارتفع بالفرح تهليله وابتهاله .
على شفرات السيف مزقت مهجتي
لترضى وإن ترضى عليّ كفاني
فلو كتبتْ منّا الدماء رسالةً
لخطَّت بحب الله كل جناني
ويلك أنت مهموم بالقرش ، والفرش ، والكرش ، وسعد يهتز لموته العرش .
تهاب الوضوء إذا برد الماء ، وحنظلة غُسل قتيلاً في السماء ، تعصي حي على الفلاح ومصعب بن عمير قدم صدره للرماح ، ما تهتز فيك ذرة ، والموت يناديك في كل يوم مائة مرة ، والله لو أن في الخشب قلوب لصاحت ، ولو أن للحجارة أرواح لناحت ، يحن المنبر للرسول الأزهر ، والنبي الأطهر ، وأنت ما تحن ولا تئن ، ولا يضج بكاؤك ولا يرن.
لو مُتَّ لعذرناك ، وفي قبرك زرناك ، ولكنك حيُّ تأكل وتشرب ، وتلهو وتلعب ، وتغني وتطرب .
بعض الصالحين أتى لينام ، فترك الفراش وقام ، وأخذ ينوح كما تنوح الحمام ، قالوا مالك ؟ قال : تذكرت { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } وهذه الآية كافية .
تواصل الذنب لا تدري بعاقبةٍ
وتستهين بأمر الواحد الصمد
كأن قلبك مطبوع عليه فلا
تخشى عقاباً ولا تبكي على أحد
سعيد بن المسيّب ، الإمام المحبب ، والزاهد المقرب ، ذهبت عينه من كثرة الدموع ، واصفر وجهه من الخشوع ، وهو ما بين سجود وركوع ، يزيد بن هارون ، الإمام المأمون ، عمي من البكاء ، فما أَنّ ولا اشتكى ، فقالوا له : ما فعلت عيناك الجميلتان ، فقال : أحتسبهما عند الواحد الديّان ، أذهبهما بكاء الأسحار ، وخوف الواحد القهار. والله إن فينا علّة ، ننام الليل كلّه ، كأنا لسنا من أهل الملّة .
شغلنا بالبنين وبالحطام
كأنا قد خلقنا للنوادي ... ولم نسرع إلى دار السلام
وإكثار الشراب مع الطعام(/32)
الملَك حمل الصور لينفخ ، والملائكة تكتب عليك وتنسخ ، وأنت بالذنوب ملطّخ، ما تبكي لك مقلة ، كأنك أبله ، كان ابن المبارك من البكاء يخور ، كأنه ثور منحور ، وابن الفضيل يموت في الصلاة ، لأنه سمع من الإمام قرآناً تلاه ، ترك ابن أبي ذئب القيام لأمير المؤمنين ، وقال ذكرت يوم يقوم الناس لرب العالمين ، كان ميمون بن مهران ، كأن عينيه نهران ، حفر له في البيت قبر ، إذا رآه فكأنه يُنقر في قلبه نقر ، يا ويلاه القبر القبر .
يقول أحد السلف : يا مغرور إن كنت تظن أن الله لا يراك ، وتفعل هذه الأفعال فأنت شاكّ ، فما غرّك وألهاك ، وإن كنت تعلم أنه يبصر أفعالك ، ويحصي أعمالك ، ويراقب أقوالك ، ثم تتجرَّأ على محارمه ، وتستهين بمعالمه ، فقد سُلب قلبُك ، وأُخذ لُبّك.
ولو أن قلباً يعرف الله لاستوى
لديه نعيم العيش والحدثانِ
فما هي إلا جيفة طاف حولها
كلابٌ فلا تخدعك باللمعانِ
ابن تيمية يمرغ وجهه في التراب ، وينادي يا وهّاب ، يا فاتح الأبواب ، الطف بنا ساعة الحساب ، وأنت ميّت الإرادة ، ظاهر البلادة ، عريض الوسادة . الملائكة يسبِّحون الليل والنهار لا يسأمون ، ويذكرون ربهم ولا يفترون ، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولم يعملوا سيئات ، ولم يقترفوا خطيئات ، ولم يرتكبوا موبقات ، ونحن أهل العصيان ، والتمرد والنكران ، ومع هذا ترانا لاعبين ، وفي طرق اللهو ساربين، ولِكأس الغفلة شاربين ، الأمر فصل، وجدٌّ ليس بالهزل ، يوم قمطرير ، شرُّه مستطير ، تكاد القلوب منه تطير ، تذهل المرضعة عما أرضعت ، وتُسقط الحامل ما حملت ،وترى كل نفس ما عملت ، الخلائِق تضيق نفوسهم ، الولدان تشيب رؤوسهم .
هدِّ من لهوك شيئاً هدِّ هَدّ
أرغِم النفس على فعل التقى ... إنّ أمر الله فينا جِدُّ جدّ
فاز من في عمره كَدّ كَدّ
أراد علي بن الحسين أن يلبي على الراحلة ، فسقط من الخوف بين القافلة ، فلما أفاق ، قال للرفاق : أخشى أن أقول لبيك ، فيقول : لا لبيك ولا سعديك ، مع أنه زين العابدين ، وريحانة المتهجدين ، لكن القوم عرفوا ربهم ، فبكوا ذنبهم ، وجمعوا خوفهم وحبهم ، فيا صاحب العين التي لا تدمع ، والنفس التي لا تشبع ، والقلب الذي لا يخشع ، إلى متى تؤجِّل التوبة ، أما لك أوبة :
فيا دمع هذي ليلة البين أقبلت
فهات غروباً تبرد الزفرات
ويا قلب قد عاهدتني فكذبتني
كأنك لا تجزعْ من الغدرات
العمر قصير ، والشيب نذير ، والدار جنة أو سعير ، نراك تضحك كأنك أتاك أمان، من الملك الديان ، ما لك لا تحزن، هل عبرت الصراط حتى تأمن، الندم على ما فرطت أحسن ، يا مسكين : إبراهيم الخليل ، وهو النبي الجليل، بكى ذنبه ، ودعا ربه، وقال : { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } ، فكيف بنا نحن المذنبين ، خلقك فسوّاك ، وأطعمك وسقاك، وآواك وكساك ، ومن كل بلاء حسنٍ أبلاك، ثم تعصيه وهو يراك :
نُسِجت لنا الأكفان من أعمارنا
ونظلُّ نضحك ما لنا تفكيرُ
أوَ ما ذكرت القبر أول ليلةٍ
يلقاك فيه منكر ونكيرُ
أحسن ماء دموع التائبين ، أعظم حزن حزن المنيبين ، وأهنأ نعاس نعاس المتهجدين، أجمل لباس لباس المحرمين ، ما ألذ جوع الصائمين ، ما أسعد تعب القائمين ، ما أكرم بذل المتصدقين ، أين المباني والمغاني ، أين الغواني والأغاني ، أين الأفراح والتهاني ، أين من شاد وساد ، أين ثمود وعاد ، أين ساسان ، وقحطان ، وعدنان ، وفرعون وهامان ، أين مُلْك سليمان ، أين أصحاب الأكاليل والتيجان ، { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } ، والطَّول والإنعام .
أما زرت المقابر ، أما هالتك تلك المناظر ، أما رأيت القوم صرعى، والدود في عيونهم يرعى ، عن الحديث سكتوا ، وعن السلام صمتوا ، الظالم بجانب المظلوم ، والمنتصر بجانب المهزوم ، والضعيف مع الأمير ، والغني مع الفقير ، وانظر إلى المغمور والمشهور، والغالب والمقهور ، ذهب الحُسْن والجمال ، والجاه والمال ،وبقيت الأعمال ، أموات يتجاورون ، ولا يتزاورون .
سكتوا وفي أعماقهم أخبارُ
وتغيرت تلك الوجوه وأصبحت ... وجافاهمُ الأصحاب والزوّارُ
بعد الجمال على الجفون غبارُ
ماذا أعددت عندما توقَف ، يا من هجر المصحف .
الزبير بن العوام ، بطل الإسلام ، جسمه كله جراح ، من آثار السيوف والرماح . وخالد بن الوليد ، الشجاع الفريد ، يُمزق جسمه بالسهام ، ويخطط بدنه بالحُسام ، لينتصر الإسلام ، بلال بن رباح ، يسمع حي على الفلاح ، فيجيب لسان حاله لبيك منادي الإصلاح ، يُصهر جسمه على الحجارة ، ليصبح مؤذن الإسلام على المنارة ، يعذِّبونه ، وفي الرمضاء يذيبونه ، فيردد أحد أحد ، لأنه ذاق قل هو الله أحد ، الله الصمد، يُضرب رأسه ، ويُكتم نَفَسه ، فما يزيده ذلك إلا إصرارا ، وفي طريق الحق استمرارا :
سيّدي علِّل الفؤاد العليلا
إن تكن عازماً على قتل روحي ... وأحيني قبل أن تراني قتيلا(/33)
فترفق بها قليلا قليلا
انظر لسلمان ، أقبل من خراسان ، يبحث عن الإيمان ، هجر ماله وأوطانه ، وإخوانه وخلانه ، وأعوانه وجيرانه ، يسأل عن الإمام ، بدر التمام ، رسول الإسلام ، فينطرح بين يديه ، ويلقي نفسه عليه ، ويبث شجونه إليه، فمرحباً يا سلمان يوم أتيت ، وهنيئاً لك يوم اهتديت ، واقبل هدية : سلمان منّا آل البيت :
فلا تحسب الأنساب تنجيك من لظى
أبو لهب في النار وهو ابن هاشم ... ولو كنت من قيسٍ وعبد مدانِ
وسلمان في الفردوس من خُرَسانِ
لما حضر الصحابة مدينة تستر ، وسل كل منهم سيفاً أبتر ، فنادوا بطل المعارك ، الذي يلقي نفسه في المهالك ، أعني البراء بن مالك .
والذي قال فيه المعصوم ، يوم رآه عن الدنيا يصوم : رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره ، فكان البراء لعين الإسلام قُره ، وباع نفسه من الله كل مرة ، قال الصحابة يا براء ، أقسم على رب السماء والغبراء ، على أن ينصرنا على هؤلاء الحقراء ، فأقسم على الله بالنصر ، وأن يكون أول قتيل بعد العصر ، ثم لبس أكفانه ، وودّع إخوانه ، فسل الحسام ، وفلق الهام ، وانتصر جند الإسلام .
لك الله ما هذي الشجاعة في الوغى
تقدمت حتى هابت البيض والقنا ... أأنت زحوف السيل أم أنت حيدره
وصارت رماح القوم فيك مكسره
الذي لا يحضر صلاة الصبح ، لا يطمع في الربح ، وليس بيننا وبينه صلح .
تريد نصر الإسلام ، وأنت لا تحافظ على تكبيرة الإحرام ، مع الإمام ، هذه أوهام ، السلف الصالح ، والجيل الناصح ، أعطوا الإسلام الأموال والدماء ، فأصبحت هاماتهم في السماء ، وأنت ماذا أعطيت، وماذا لدِينك أهديت ، ولأمتِّك أسديت ، حي كَمَيْت ، عشت بين لعلّ وليت، وما دريت، بأنك في الخسار هويت .
متى يستفق من عقله في غشاوة
لقد خلف البازي فينا حمامةً ... ومطلبه في هذه الأرض دينارُ
وأصبح بعد الليث في دارنا فارُ
قلبك من الذنوب مجروح ، ولا تبكي ولا تنوح ، كأنك جسد بلا روح ، ما أثّر فيك الوعظ ، وما فهمت اللّحظ ، وما ميَّزت بين المعنى واللفظ ، الحمام يبكي على الأغصان ، من فقد الخلاّن ، والغراب على البان ينحب ، وعلى الشجر يشغب ، لسفر أصحابه ، وبعد أحبابه ، وقلبك قاسي ، كما الصخر الراسي ، لا تدمع لك عين ، ولا يؤثر فيك الفراق والبَيْن ، ولا يردعك حياء ولا دِين ، الغراب قتل أخاه ، ثم ندم فواراه ، ودفنه وبكاه ، وأنت قتلت نفسك بالكبر والرياء ، وما منعك الحياء ، كأنك لست من الأحياء ، النملة أنذرت بنات جنسها ، فعادت إلى رَمسها ، تبقي لقوت يومها من أمسها ، وأنت تجاهر الواحد القاهر ، الباطن الظاهر ، بالكبائر .
أما أتاك من الرحمان موعظةٌ
مركوبك النعش ينسيك المراكب في ... ما قال في سأل منها وفي عبسا
دنياك لما ركبت الأدهم الفرسا
مالك في دنياك تتبلد ، وفي غيك تتردد ، وما فعلت كما فعل الهدهد ، سافر إلى اليمن وهو وحيد ، يدعو إلى التوحيد ، فعاد إلى سليمان ، بعد ما أعطاه الأمان ، فجاء من سبأ بنبأ ، وأنكر على بلقيس ، إذ زين لها إبليس ، تسجد للشمس ولا تسجد لمن أجراها ، وما أدرى الشمس عن الخليقة ما أدراها .
فأصبح الهدهد داعية ، أذنه للحق واعية ، وقدمه في التوحيد ساعية ، وأنت هل دعوت أحدًا ، أو مددت للخير يدًا ، أو أسمعت الهدى بلدًا .
الفيل وجّهوه لهدم البيت ، فنادى لسان حاله يا أبرهة ضللت وما اهتديت ، وظلمت واعتديت ، والله لا أنقل إلى البيت القدم ، وأموت هنا وكعبة الله لا تنهدم.
وقفت حياء عند بابك مطرقاً
فلو قطعوا رأسي لما سرت خطوةً ... ولم أنقل الأقدام من روعة الخجل
أهذا جزاء الفضل من ربنا الأجلّ
الفيل يلوي عن المعصية رأسه ، ويبرد عن المخالفة حماسه ، وأنت لا يردك عن الخطيئة باب ، ولا يحجزك عن السيئة حجاب .
لا تستهِن به فإنه قوي ، ولا تمُنَّ عليه فإنه غني ، أهلك ثمود في ناقة ، وألحْق عاداً بالساقة ، عصته أمم فهز بهم الأرض هزّا ، ثم قال : { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا } ، حطّم سد سبأ بفارة ، وأحرق إرم ذات العماد بشرارة ، ومزق أعداءه بغارة ، أعتق رقبتك من النار ، وأنقذ نفسك من البوار.
هذا عثمان بن عفان ، سمير القرآن ، جهز جيش العسرة ، وأفطر على كسرة ، قرأ القرآن يومه ، وشرى بئر رومة ، وأنت تريد الجنة ، وصدقتك بالمَمنّة ، وقد هجرت السنة
علي بن أبي طالب قدم رأسه للشبا ، وصار جسمه بالدماء مخضبا ، وذبح عدو الله مرحبا ، وأنت ما حضرت قتالاً ، ولا أنفقت مالاً ، وما ذقت في سبيله نكالاً ، نطالبك فحسب بالصف الأول ، ولا تلعب بالدين وتتأول ، ولا تأكل الحرام ومنه تتمول .
هذا سكار النفس ليس يردها
هل عندكم يا قوم ميثاق فلا ... عن غيها إلا فتى مغوارُ
تخشون أن يجتاحكم جبارُ(/34)
ألّف البخاري لك الصحيح ، وجمع لك كل حديث مليح ، كان يصلي عن كل حديث ركعتين ، وعرض عليه كتابه مرتين ، ثم هجرت صحيحه ، ولم تقبل النصيحة ، أعرضت عن أصح المؤلفات ، وأقبلت على الصحف والمجلاّت .
جمع أحمد المسند ، بالرأي المسدد ، والصدق المجرد ، والورع المجود ، طاف الدنيا على الأقدام ، من صنعاء إلى دار السلام ، فلما أصبح المسند لديك مطبوعاً ، مقروأً ومسموعاً ، جعلته في بيتك وسادة،وما فتحت جلاّدة ، ولا ذقت زاده .
جزاهمُ الله عن دين الرسول فما
لولا لطائف صنع الله ما نبتت ... أحلى مآثرهم في سالف الحقب
تلك المكارم في لحم ولا عصب
ألّف جرير ، كتاب التفسير ، وحرّره أيما تحرير ، فهو لكل مؤمن سمير ، وبكل نفع جدير ، فأغلقتَ عليه في زنزانة ، كأنك ما عرفت شانه ، ولا شكرت إحسانه ، واستبدلته بكتاب ألف ليلة وليلة ، وجعلته إلى اللهو وسيلة ، وللعب خميلة ، ولطلب الدنيا حيلة ، تغفل الآيات البينات ، والحكم البالغات ، والنصائح والعظات ، وتقبل على كتاب الأغاني ، للأصفهاني ، وهو فيما قال جاني .
خف الله واحفظ ذا الزمان فإنه
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... سريع التقضي مخلف الحسراتِ
وليلك يمضي في رؤى وسباتِ
أسأل الله بالاسم الأعظم ، والوصف الأكرم ، فإنه الأعلم الأحلم الأحكم ، أن يهدي قلبي وقلبك ، وأن يغفر ذنبي وذنبك ، وأن ينير بالوحي دربي ودربك.
المقامَة الجهادية
{ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً }
أيا رب لا تجعل وفاتي إن دنت
ولكن شهيداً ثاوياً في عصابة ... على مضجع تعلوه حسن المطارفِ
يصابون في فج من الأرض خائفِ
قال أبو شجاع ، محمد بن القعقاع : ما رأيت مثل الجهاد ، في سبيل رب العباد ، فيه تصان الملة ، ويدخل على الكفار الذلة .
قلنا يا أبا شجاع : حدثنا عن بعض التحف ، من مواقف السلف ، في ساح الوغى ، يوم قاتلوا من بغى وطغى .
فقال : كان المسلمون مع قتيبة بن مسلم في حصار كابل ، وكل ذاهل ، فأرسل إلى محمد بن واسع ، الإمام الخاشع ، فلقيه بجفن دامع ، وكف ضارع ، يشير بسبابته إلى السماء ، ويقول : يا سميع الدعاء ، عظم فيك الرجاء ، اللهم ثبت أقدامنا ، وسدد سهامنا وارفع أعلامنا ، فلما أخبروا قتيبة بما شاهدوا ، وأطلعوه على ما وجدوا .
قال : والله لإصبع محمد بن واسع خير عندي من مائة ألف شاب طرير ، ومن مائة ألف سيف شهير . ثم بدأ القتال ، فنصرهم ذو الجلال ، وانهزم الكفار ، وولوّا الأدبار .
قال : ولما حضر خالد لقتال الروم ، قدموا له قارورة مملوءة بالسموم ، وقالوا له : إن كنت متوكلاً على الله ولا تخاف ، فاشرب من هذا السم الزعاف . فقال : بسم الله ، توكلت على الله ، ثقة بالله ، ثم شرب القارورة ، فما مسه ضرورة .
ولما رأى المسلمون جيش الروم ، وكثرة القوم ، قال أحد الناس ، لما رأى البأس : اليوم نلتجئ إلى جبل سلمى وأجّا ، قال خالد : بل إلى الله الملتجى .
قال : ولما حضر المسلمون في تستر ، ما بين مهلل ومكبر ، قال المسلمون: يا براء بن مالك ، أقسم على إلهك ، عله أن يرزقنا النصر ، وعظيم الأجر . فأقسم على الديان ، فهزم الله أهل الطغيان ، وذهب البراء إلى الجنان .
والبراء هو صاحب حديث " رُبَّ رجل أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره " فأبرّ الله قسمه وبلغه كل مسرّة .
ثم قال أبو شجاع : اعلموا أن صرخات التفجع ثلاث ، سجلت أهم الأحداث .
وهي : وا معتصماه ، وا إسلاماه ، وا أماه .
فوا معتصماه : أطلقتها امرأة في عمورية ، بعد أن أهينت في البلاد الروميّة ، فسمعها المعتصم الأسد الهصور ، فترك القصور ، وخرج بجيش يمور ، فأذل أتباع نقفور ، وأخذ الكفور ، وجعله عبد للمسلمة التي صرخت باسمه من وراء البحور .
وأما وا إسلاماه : فأطلقها قطز وبيده البتار ، يوم نازل التتار ، فهزم من كفر وولّوا الأدبار .
وأما وا أماه : فهي صرخة مفجوعة ، وصيحة مقطوعة ، قالها طفل من الأندلس ، لما رأى أمه وهو في حضنها تختلس .
فقال أبو البقاء يصف هذا الشقاء :
يا رب أم وطفل حيل بينهما
كما تفرق أرواح وأبدان
أحب عبد الله بن عمرو الأنصاري " قل هو الله أحد " ، فهب إلى أُحد ، فقيل له : البينة ، على المدعي للمحبة ، فضرب في سبيل الله ثمانين ضربة .
بعضهم هوايتهم منصب شريف ، أو قصر منيف . أما ابن رواحة ، فهوايته طعنة بسيف ، حتى قال :
لكنني أسأل الرحمن مغفرةً ... وطعنة ذات قرع تقذف الزبدا
يأتي الشهيد يوم القيامة وعليه علامات ، وآيات بينات ، والبراهين على عبد الله بن جحش واضحات ، ذهاب العينين ، وقطع الأذنين ، وبتر اليدين ، لأن لكل قضية شاهدين .
كتبت بالدم آياتٍ مبيّنة
شريت جنة فردوس منعمة ... يوم الوغى ودفعت الروح والبدنا
أحضرت للسيف يوم المنحنى ثمنا(/35)
أتى إلى مؤتة جعفر ، فتقدم وما تأخر ، وكان يوم الجماجم يتعثر ، ودمه يتقطر ، فضرب بسيفه في الكفار حتى تكسر ، فلما قطعت يداه ، وأسلم الروح إلى الله ، طاب وطاب مسعاه ، أبدله الله بجناحين ، يطير بها على الرياحين ، ويتنعم في الفردوس كل حين . كل يكتب اسمه بمداد ، إلا الشهيد فإنه يكتبه بدم في سفر الأمجاد . كأن الشهيد يموت مختارا ، وغيره يموت مضطرا .كل ميت يوضع المسك معه في الأكفان ، إلا الشهيد فإن دمه كله مسك يملأ المكان .
تفوح أطياب نجد من ثيابهموا
عند القدوم لقرب العهد بالدار
آل سعد ثلاثة في العد ، أهل وعد وعهد .
اهتز عرش الله لسعد ، ووجد ريح الجنة من دون أحد سعد ، وقال - صلى الله عليه وسلم - في أحد " ارم فداك أبي وأمي يا سعد " .
فالأول : سعد بن معاذ سيد الأنصار ، وقدوة الأبرار ، الذي ألحق باليهود البوار .
والثاني : سعد بن الربيع ، المقدام الشجيع ، صاحب الموقف البديع .
والثالث : سعد بن أبي وقاص ، كان مع النبي من الخواص ، أخذ من الفُرس القصاص .
قتل عمر في المسجد بعد الفجر عندما غدت الطيور من وكورها ، لأن معلمه يقول " بارك الله لأمتي في بكورها "
من كان مبتهجاً لمقتل شيخنا
فليأت نسوتنا بوجه نهارِ
يجد القلوب مفجعات كلها
بالهم عند تبلج الأنوارِ
وقتل علي في المسجد قبل الفجر ، لأنه وقت استغفار ، ونزول للغفار ، وجلسة للأبرار ، والرجل يحب الأسحار .
يا ليتها إذ فدت عمراً بخارجةٍ
فدت علياً بمن شاءت من البشرِ
استحت خزاعة ، أن ترد الحوض يوم الشفاعة ، مزجيّة البضاعة ، فقدمت أحمد بن نصر ، الذي قتله الواثق في القصر ، فدخل الجنة بعد العصر .
قال له الواثق : وافق . قال : لا يا منافق . حاول الواثق أن يجيبه ولو بإدغام فيه غنة فقال لسان الحال : الخداع ليس من السنة ، فذبحه بعد أن اشتاق إلى الجنة .
اثنان تاجان عظيمان ، من قبيلة بني شيبان ، جاهدوا في سبيل الرحمن .
ابن حنبل والمثنى ، وكل منهما لدينه تعنّى ، وللقاء ربه تمنّى .
قدم المهاجرون أربعة خلفاء ، فقدم الأنصار أربعة قراء ، أهدت قريش مصعب بن عمير ، فأهدى الأنصار ابن الحمام عمير .
تأخر أنس بن النضر عن بدر ، فجمع بين الغزوتين في جمع وقصر ، فقتل في أحد بعد الظهر .
لما عذر الله عثمان ، يوم بيعة الرضوان ، علم الله صدقه فسعت إليه الشهادة إلى الديوان .
أبو بكر صدَّيق ، والمخطوطة لا تحتاج إلى تحقيق ، والرجل غنيٍ عن التوثيق ، فلم يقتل لأنه أخذ حكم الرفيق .
السلام على الشهداء ، فهم عند ربهم سعداء .
المقامَة الزهديَّة
(( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ))
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها
أراها وإن كانت تسر فإنها ... على أنهم فيها عراة وجوّع
سحابة صيف عن قليل تقشّع
قال سعيد بن أدهم ، ركبت الأدهم ، وذهبت إلى السلطان أطلبه في درهم ، فوضع في رجلي الأدهم ، فمر بي الزاهد علي بن دينار ، وهو أحد الأبرار ، فقال لي مالك يا سعيد ، أراك في الحديد ، فقلت : والله الولي ، ما سرقت يا علي .
قال : فما الشأن ؟
قلت : أتيت السلطان ، أطلب الجود والإحسان ، فوضعني في هذا الهوان .
فقال : أف عليك وتف ، ومن التراب استف . تطلب السلطان ، وتنسى الرحمن ، تسأل البخيل ، وتترك الجليل ، تباً لك ، أفي قلبك شك ، تأتي من أغلق بابه ، وأسدل حجابه ، وحرم أصحابه . وتترك المعبود ، الذي ملأ العالم بالجود ، وأغدق على الخلق العطاء الممدود .
قلت : يا علي غلطت غلطة ، وسقطت سقطة ، وتورطت ورطة ، ووالله لئن فرّج الله عني ، وفك هذا القيد مني ، لا آتي بشرا ، ولو طلب مجيئي بشراء ، ولا أقصد الصعلوك ، بل أقصد ملك الملوك ، فلما أطلقني من الحبس ، وعادت إليّ النفس ، تركت باب الأمير ولزمت بيتي على خبز الشعير . فعاد لي لبي ، وجعل الله غناي في قلبي ، فوالله إني أرى المترفين في حسرة ، وإن ملك كسرى عندي ما يساوي كسرة . فأنا بين المسجد والبيت أرضى بالقوت ، لا مال يفوت ، ولا ولد يموت ، ليس عندي بنز ، ولا كنز ، ولا أرز ، ولكن عندي دين وعلم وعز ، فأنا أسعد من كسرى أنو شروان ، إذا حف به الخدم في الإيوان ، وأنعم عيشاً من النعمان ، فأنا أسكن الكوخ ، وآكل العدس المطبوخ ، لا ألبس الجوخ ولا آكل الخبز المنفوخ . ليس عندي دار ، ولا عقار ، ولا حمار ، ولا دينار .
أنام بلا هموم ، وأبيت بلا غموم ، لا أعرف عَدّ المال ، ولا شد الجمال ، ولا مبايعة الرجال ، لا أعرف الريال من القرش ، ولا أميّز بين الكنب والفرش ، معي قميص ، وبطن خميص ، لا أعرف الكبسة ولا الخبيص ، ما يأتيني في النوم كوابيس ، ولا أشعر في النهار بالهواجيس .
فأنا أسعد من رأيت ، وأنعم من لقيت .معي كتاب ، أغناني عن الأصحاب ، وسلاني عن الأحباب . معي ملحفة للمنام ، وجفنة للطعام ، وعصا للقيام . لا أخاف على نفسي العين ، ولا يطلبني أحد بدين ، ولا أسأل مال هذا من أين ؟(/36)
فأنا خفيف الظهر ، دائم البشر ، قليل الوزر ، ما بعت ولا شريت ، ولا اكتريت ولا اقتنيت ، لا أخشى سقوط بيت ، ولا ذهاب مَيْت. نجوت من الضغط والسكر ، لأنني في غير الآخرة لا أتفكر ، في قلبي عيادة السعادة وفي صدري بنك السرور ، ومصرف الحبور ، وعندي علم وإيمان ونور على نور ، أعجب من الفجار والتجار ، وأقول ما هذا الشجار . أتقتتلون على جيفه ؟ ما تساوي قطيفة ، سحقا لعقولكم السخيفة .
أين كنوز قارون ؟ أين ما مضى من القرون ؟ أين ما جمعوا ، وأودعوا ، وشيدوا وأبدعوا ؟ لا قصور ، لا دور ، لا أنهار ، لا أشجار . ذهبت الأبدان والأرواح . وبلي القفل والمفتاح . فصدقني ما عاش عيشتي هارون الرشيد ، ولا الكاتب عبد الحميد ، ولا الرئيس ابن العميد ، نفسي والحمد لله رضية ، وعيشتي هنية ، وقد نجوت من كل بلية ، فأنا لا طالب ، ولا مطلوب ، ولا أخشى من كنز منهوب ، ولا من مال مسلوب . ولا أقف على الأبواب ، ولا أتمرغ على العتاب ، وما قبلت يد كذاب ، طمعا في طعام وشراب ، وما قلت للكلب يا سيدي ، ويا عضدي ، ويا مؤيّدي :
واعلم بأن عليك العار تلبسه ... من عضة الكلب لا من عضة الأسد
وأحيانا أجلس أمام كوخي وسقفي السحاب ، ومخدتي صبرة من التراب ، وجليسي الكتاب . فوالله إنني أطيب عيشاً من الناصر في الزهراء ، وسيف الدولة في حلب الشهباء ، ما استذلني متكبر ، ولا مَنَّ علي متجبر ، ولا نهرني متهوّر :
أنا لا أرغب تقبيل يد
إن جزتني عن صنيعي كنت في ... قطعها أحسن من تلك القبل
رقها أو لا فيكفيني الخجل
ثم إن هناك مصلحة لي في هذا الزهد ، وهو السلامة من الجهد ، يوم تنصب الموازين وتكشف البراهين ، فلن أقف طويلاً للقضاء ، كما يقف الأغنياء ، وكفاك بهذا حسنة ، لحديث (( يدخل فقراء أمتي الجنة ، قبل الأغنياء بخمسمائة سنة )) ، فياله من مكسب رابح ، ومن ميزان راجح ، وما عندي مال في البنوك الربويّة ، ولا مساهمات عقارية ، ولا شركات استثمارية ، بل عندي أغلى ، وأعلى ، لأن البر لا يبلى . فإذا كنز الناس الدرهم والدينار ، كنزت الأذكار ، وعمل الأبرار ، وأنا أخذت بُغْض الدرهم ، من إبراهيم بن أدهم ، والزهد في الدينار ، من مالك بن دينار ، والورع عن العطاء ، من ابن أبي رباح بن عطاء ، وأخذت قلة الرغبة من الدنيا ، من ابن أبي الدنيا ، وقد رأيت القبور ، فإذا المعظم بجانب المحتقر ، قد اجتمع بها المخبر ، والخبر ، وتغيرت بها تلك الصور ، فالمَلِك في جوار المملوك ، والغَنِيُّ في حفرة الصعلوك ، والقَوِيُّ مع الضعيف ، والوضيع مع الشريف فبعد هذا المشهد ، أقسمت أن أزهد ، فلزمت المصحف والمسجد ، أتعبد وأتهجد ، وعلى المقابر أتردد ، فعوضني ربي بالهم سرورا ، وبالحزن حبورا ، وبظلمة الدنيا نورا ، وقد هيأت حنوطي وأكفاني ، وكفاني القليل كفاني .
وهذا والله عين العقل ، وموافقة النقل ، ونهج الصالحين من بعد ومن قبل ، فمال للقوم كأنهم في نوم ، صرعتهم الشهوات ، وزلزلتهم الشبهات ، أحبوا التراب والخراب ، والثياب والشراب ، وزهدوا في الكتاب والثواب ، ونسوا الحساب والعقاب ، أنساهم القرش النعش ، في التهام وهرش ، ما تهزهم الرقائق ، ولا تردعهم الحقائق ، كلامهم في الأسعار والعمار والعقار ، وحديثهم عن الدرهم والدينار ، ما يذكرون الجنة ولا النار .
الجلوس معهم يميت القلب ، ويضاعف الذنب ، لكن الأعمى لا يرى الصباح ، والميت لا يحس بالجراح . ولكن الصخر لا يسمع الكلام ، وما لجرح بميت إيلام .
المقامَة الأدبيّة
{ أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ
أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ }
أنظم الشعر ولازم مذهبي
فهو عنوان على الفضل وما ... في اطراح الرفد فالدنيا أقل
أحسن الشعر إذا لم يبتذل
قال الراوي : سمرنا ليلة مع جماعة أبية ، لهم شوق إلى المقامات الأدبية ، والأشعار العربيّة ، فقالوا حدثنا عن الأدب ، فإنه ديوان العرب ، ومنتهى الأرب ، ونهاية الطلب .
قلنا : حباً وكرامة ، وتحية وسلامة ، فقد رضعت الآداب ، وجالست الأعراب ، وحفظت الشعر من عصر الشباب ، فالشعر عندي سمير ، وهو لنفسي روضة وغدير .
وحديثه السحر الحلال لو أنه
لم يجن قتل المسلم المتحرّزِ
إن طال لم يملّ وإن أوجزته
ودّ المحدث أنه لم يوجزِ
فقال أحد السُّمار ، من محبي الأشعار ، أفض علينا من القصائد الغراء ، التي قالها على البديهة الشعراء ، قلت : هذا فن طويل الذيل ، يأخذ في كل سبيل ، ولكن سوف أورد بعض الشواهد ، والشوارد ، والأوابد .
فهذا أبو جعفر المنصور تحدى الشعراء بقافية ، قال : من أجازها فله الجائزة وافية ، إذ يقول ، وفكره يجول :
وهاجرة وقفت بها قلوصي
يقطع حرها ظهر الغطايَه
فقام الشعراء على ركبهم جاثين ، كلهم يريد الجائزة من أمير المؤمنين ، فقال بشار بن برد ، وكان سريع الردّ :
وقفت بها القلوص فسال دمعي
على خدي واقصر واعظايَه(/37)
فأخذ بردة أبي جعفر ، وكانت من خز أصفر .
وهذا أبو تمام ، وهو شاعر مقدام ، مدح المعتصم ، فما تعثر وما وهم ، يقول :
إقدام عمرو في سماحة حاتمٍ
في حلم أحنف في ذكاء إياسِ
فقال الحارث الكندي ، ما لك قدر عندي ، أما تخاف ، تصف أمير المؤمنين بالأجلاف ، فانهد أبو تمام كالسيل معتذراً عما قيل :
لا تنكروا ضربي له من دونه
مثلاً شروداً في الندى والباسِ
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلاً من المشكاة والنبراسِ
حكم النعمان ، على نابغة ذبيان ، بالإعدام ، بعد ما اتهمه ببعض الاتهام ، فأنشده البائيَّة الرائعة الذائعة :
فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعتْ لم يبْدُ منهن كوكبُ
فعفا عنه وحباه ، وقربه واجتباه .
وأهدر البشير النذير ،دم كعب بن زهير، فعاد إليه ، ووضع يده بين يديه ،وأنشده :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يُفد مقبولُ
فحلم عليه وصفح ، وعفا عنه وسمح ، واستقام حاله وصلح .
وأصدر حاكم اليمن ، قراراً بإعدام سبعين من أهل العلم والسنن ، والفقه والفطن ، فأنشده البيحاني ، قصيدة بديعة المعاني ، هزّ بها أعطافه ، واستدر بها ألطافه ، أولها :
يا أبا المجد يا ابن ماء السماء ... يا سليل النجوم في الظلماء
فأكرم مثواه ، وعفا عن السبعين من العلماء والقضاة .
وكاد معاوية أن يفر من صفين ، يوم وقف بين الصفين ، فذكر قول ابن الأطنابة، فأوقف ركابَه :
أقول لها وقد جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
وأوشك المتنبي الشاعر الهدّار ، أن يولي الأدبار ، ويجد في الفرار ، فكرر عليه غلامه ، أبياتاً ثبتت أقدامه ، حيث يقول :
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ
فرجع مقبلا ، فقتل مجندلا . وقتل عضد الدولة الوزير ابن بقية ، ولم تردعه تقيّة ، فأنشد ابن الأنباري قصيدة كأنها برقية ، أو رواية شرقية ، اسمع مطلعها ، وما أبدعها :
علو في الحياة وفي الممات ... بحق أنت إحدى المعجزات
فسمعها عضد الدولة فتأسف ، وقال حبذا ذاك الموقف . ولما قتل محمّد بن حميد ، بكاه أبو تمام بذاك القصيد ، ورثاه بذاك النشيد :
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمرُ
فليس لعين لم يفض ماؤها عذرُ
وسب أحد الأمراء ، المعري أبا العلاء ، وهجاه أشد هجاء ، وسب أستاذه سيد الشعراء ، فقال أبو العلاء : لا تسبه أيها الأمير ، فإنه شاعر قدير ، ولم يكن له إلا قصيدة،
لك يا منازل في القلوب منازل ... أقفرت أنت و هن منك أواهل
ففهم الأمير ماذا يريد ، لأنه قصد آخر القصيد ، وهي قوله :
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ
فهي الشهادة لي بأني كاملُ
ولما زار أبو جعفر المنصور المدينة طلب شيخاً كبيرا ، وجعله عنده أجيرا ، يخبره ببيوت المهاجرين والأنصار ، فدار به إلى آخر النهار ، ولم يعطه مالا ، ونسيه إهمالا ، فقال الشيخ يا أمير المؤمنين : هذا بيت الأحوص الشاعر المبين القائل :
يا بيت عاتكة الذي اتعزل ... حذر العدا وبك الفؤاد موكّل
فتذكر أبو جعفر القصيدة ، وهي فريدة مجيدة ، يقول في آخرها :
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم
مذق الكلام يقول ما لا يفعلُ
ففهم المراد ، وأعطى الشيخ الزاد .
أقبل عالم كبير القدر ، ظاهر الأمر ، على شاعر قاعد ، فقام لهذا العالِم الوافد ، وكان العالم يرى أن القيام للقادم باطل ، ولو أن القادم رجل كامل ، فقال للشاعر دع القيام ، فأنت لا تلام ، فقال الشاعر :
قيامي والإله إليك حق
وهل رجل له لب وعقل ... وترك الحق ما لا يستقيمُ
يراك تسير إليه ولا يقومُ
وفد شاعر على وزير خطير ، بالمكرمات شهير ، فلما أبصر جلبابه ، وشاهد حُجّابه ورأى أصحابه هابه ، فأراد أن يقول مساك الله بالخير ، قال من شدة الخجل ، ومن دهشة الوجل : صبحك الله بالخير ، فقال الأمير : أصباح هذا أم مساء ، أم تريد الاستهزاء ، فقال الشاعر بلا إبطاء :
صبحته عند المساء فقال لي
ماذا الصباح وظنَّ ذاك مزاحا
فأجبتُه إشراق وجهك غرني
حتى تبينت المساء صباحا
وأنا مُحدّث لا حداثي ، من مكة مركبي وأثاثي ، ومن المدينة ميراثي ، أصل الحداثيين من البلاشفة الحمر الكفرة ، كأنهم حمر مستنفرة ، فرت من قسورة .
لا تتبلد ، أرسلناك إلى المربد ، بالحق تنشد ، وبالإسلام تغرد ، فذهبت تعربد .
اسمك محمد فلا تزد في الحروف ، لتصبح محمدوف ، لأن محمد شرعي ، ومحمدوف شيوعي ، ديوان المتنبي مجلد لطيف خفيف ، فيه لفظ منيف ، ومعنى شريف ، أنصت لشعره الدهر ، وعبر البر والبحر ، وسار غدوه شهر ورواحه شهر . وبعض الشعراء المولّدين ، لكل منهم عشرة دواوين ، كل ديوان ككيس الأسمنت ، إذا قرأت منها قصيدة سكتّ وصمتّ ، وبُهتّ وخُفتَ ثم مُتّ ، تعبنا من ركاكة الكلام ، ومن هذا الركام ، إذا سألناهم عن المعنى أكثروا من الهمز والغمز ، وقال هذا شعر الرمز ، فيه إيجاز ، وألغاز وإعجاز ، والصحيح أنه هراء وطلسمة ، وشعاب مظلمة ، وتمتمة ، وهمهمة ، وغمغمة .(/38)
وقد حكم رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في الشعر وقد رضينا حكمه فقال : (إن من الشعر لحكمة) وهو الشعر المحمود ، الذي يوافق المقصود ، وليس فيه بذاء ، ولا هجاء ، ولا ازدراء ، وكان فيه لطف بلا سخف ، مع صدق في الوصف ، وليس فيه تبذل ولا إغراب ، ولا كذب ولا إعجاب ، مع إشراق في العبارة ، ولطف في الإشارة ومتانة في السبك ، وجمال في الحبك ، فإذا كان كما وصفنا ، وصار كما عرّفنا ، فهو السحر الحلال ، وهو فيض من الجمال ، وهالة من الجلال ، يبهج العاقل ، وينبّه الغافل
واعلم أن في الشعر مختارات ، وفي القصائد أمهات ، مثل المعلقات ، وما اختاره أصحاب الحماسات ، ولا تنس الفريدة الحسناء ،
هذا الذي تعرف البطحاء
وإن تعجب فيحق لك العجب ، من قصيدة :
السيف أصدق إنباء من الكتب
وأجمل المراثي الرائعات :
علو في الحياة وفي المماتْ
أو ابن زيدون وهو يشجينا :
أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا
أو الشريف الرضي في روعة البيان ، يوم أنشد :
يا ظبية البان
وواعجباه ، من ... واحر قلباه
وما أبهى تاج الكلام ، تفت فؤادك الأيام
وأبو البقاء الراوندي يوم اهتم ، فقال :
لكل شيء إذا ما تم
واعلم رحمك الله أن في الشعر تِبْر وتراب ، وذهب وأخشاب ، ولا يخدعنك قولهم فلانٌ شاعر موّار ، فقد لا يساوي شعره ربع دينار ، فإن من الشعر مسك وعنبر ، ولؤلؤ وجوهر ، يسافر إلى سويداء قلبك ويبحر ، وينادي إنما نحن فتنة فلا تكفر .
وفي الشعر شعير ، وروث بعير ، فيه نذالة وجهالة ورذاله ، فويل لمن أشغل الناس، وسوّد القرطاس ، وجلب الوسواس ، وحاس وداس ، وفي ديار القلوب جاس ، يصيبك من شعره تثاؤب وعطاس ، ونوم ونعاس ، فإذا رأيته فقل له : لا مساس ، ولا باس عليك منه لا باس . وهذا الصنف لا يردّه عقل ، ولا يردعه نقل ، جائزته بصل وفجل ، لأنه أُشرب في قلبه العجل . إذا قام أحدهم في النوادي ، صاح المنادي : هذا شاعر الحواضر والبوادي ، وبلبل النادي ، فيصدق المسكين ، قطع بلعومه بالسكين ، فيتمايل طربا ، ويتيه عجبا ، ويقول للحضور : لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ، فإذا ألقى القصيدة ، فكأنه يأكل عصيدة ، يلوِّي راسه ، ويكظم أنفاسه ، كأنما يتخبطه الشيطان من المس ، حتى ينادي الجمهور : بس بس ، فليت قارئاً يبرك على صدره ، ويضع يده على نحره ، ويرش وجهه بماء من تبسي ، ويقرأ عليه آية الكرسي . فإذا خرج شيطان الشعر الرخيص ، وعلم أنه ليس له محيص ، قام هذا الغبي ، كأنه صبي ، ليترك الأشعار ، لأهل الاقتدار ، ويقصد البيع والإيجارة ، أو البناء والنجارة ، أو يصلح عقاره ، ويهجر القوافي ، لكل فصيح وافي .
وليت الناس سلكوا مذهبَهم ، فقد علم كل أناس مشربهم ، ويا من اشتغل بالأشعار، عليك بالأذكار ، وإدمان الاستغفار ، والخوف من القهار ، فإن اللسان ثعبان ، وأمامك قبر وميزان ، ونجاة وخسران ، ولا يكن لسانك كالمقراض للأعراض ، ولا يكن كالمقباض للأغراض ، فإن الأنفاس تكتب عليك ، وعملك منك وإليك .
وويل لمن أطلق لسانه ، وأرضى شيطانه ، وأجرى في اللهو حصانه ، من يوم تشيب فيه النواصي ، ويندم فيه كل عاصي ، ويهابه كل دانٍ وقاصي .
ويا شعراء المجون ، مالكم في الغي تلجون ، وفي النوادي تصجّون ، ولكل رأس تشجّون . ألا عقل يردع ، ألا أذن تسمع ، ألا قلب يخشع ، ألا عين تدمع ، أشغلتم القلوب ، وأنسيتم الناس علام الغيوب ، ودللتم الأمة على المعاصي والذنوب ، أشعلتم النفوس الهائجة ، أحرقتم القلوب المائجة ، لأن بضاعتكم على الأراذل رائجة ، أتظنون أنه لا حساب ولا عقاب ، ولا عذاب ولا ثواب ، الموقف أصعب مما تظنون ، والمشهد أعظم مما تتصوّرون ، إذا بعثر ما في القبور ، وحصّل ما في الصدور ، وفار التنور ، وقصمت الظهور ، وطار الكبر والغرور .
إذا جار الوزير وكاتباه
وقاضي الأرض أجحف في القضاءِ
فويل ثم ويل ثم ويل
لقاضي الأرض من قاضي السماءِ
يا شعراء المجون ، ويا أتباع كل غاو مفتون ، وهائم مجنون ، ويل لكم مما كتبت أيديكم ، وويل لكم مما تكسبون .
***********************
المقامَة الخطابيّة
{ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا }
ولسان صيرفي صارم
سحر هاروت وماروت ولو ... كذباب السيف ما مس قطع
كلم الصخر بحق لانصدع
نحن في زمن عجيب ، وفي عصر غريب ، كم بلينا بخطيب غير أديب ، ولا مصيب، إذا تكلم تلعثم ، وهمهم ، وغمغم ، وتمتم .
إذا بدأ في الكلام اعتذر ، لا يدري ما يأتي وما يذر ، لأن كلامه هذر مذر ، ابتلي الرجل بالسعال ، وكثرة الانفعال ، وسوء التعبير في المقال .
لا يزوّر الكلام في صدره تزويرا ، ولا يحبّر الخطب تحبيرا ، فلا يساوي كلامه في ميزان الشعر نقيرا ، يا ليت بعض الخطباء اشتغل بالتجارة ، أو مارس البناء والنجارة ، وترك المنبر لأهل الإبداع والجدارة .(/39)
الخطيب القدير ، والمتكلم النحرير ، له صولة وزئير ، ومنطق كالحرير ، ولسان كالسيف الطرير ، إذا وثب على المنبر ، فاح منه المسك والعنبر ، فكأن منطقه الماء الزلال، والنبع السلسال ، يأتي بالحكمة في ارتجال ، ويغلب بحجته الرجال ، فإنه الأسد إذا صال وجال ، إياّك والكلام الساقط المرذول ، والعامي المبذول ، وعليك بفصيح المنقول ، الذي يحبّذه أصحاب العقول ، ما أحوجنا إلى خطيب قوّال ، وبما يقول فعّال ، ليس صاحب إملال ، ولا إخلال ، ولا إقلال ، وإنما يدبج السحر الحلال .
وكلامه السحر الحلال لو أنه
إن طال لم يملل وإن أوجزته ... لم يجن قتل المسلم المتحرز
ود المحدث أنه لم يوجزِ
لا يشرح الصدر مثل الكلام الصادق ، والبيان الناطق ، واللفظ الدافق ، والأسلوب السامق ، أما كلام الحاكة ، وألفاظ أهل الركاكة ، فهو حُمّى الأرواح ، في الصدور رماح ، وفي القلوب جراح .
ترى بعضهم إذا تكلم لا يكاد يبين ، كأنه من الأعجميين ، ينطق بالحرف مقلوبا ، ويجعل المرفوع منصوبا ، ملأ خطبته عيوبا ، وندوبا ، وثقوبا .
غضب منه في النحو سيبويه ، وفي اللغة نفطويه ، وفي الحديث راهويه ، وفي الشعر متنبيويه .
الخطيب البارع يأسر القلوب أسرا ، ويسري بالأرواح فسبحان من أسرى ، ويسترق الضمائر فإما منّاً بعد وإما فداء ، وله على مستعمرات النفوس احتلال واستيلاء .
الخطيب الملهم يكتب على صفحات القلوب رسائل من التأثير ، ويرسم في العقول صوراً من براعة التعبير ، ويبني في الأفئدة خياماً من جلال التصوير .
هل تمل من الروضة الغنّاء إذا غنى فيها العندليب ، وحل بها الحبيب ، وأطفأ نسيمها اللهيب ، وكذلك الخطيب النجيب ، في خطبه روضات من الجمال ، وبساتين من الجلال ، ودواوين من الكمال .
تقرأ القصة لا تساوي بعرة ، ولا تهز شعرة ، فيلقيها الخطيب الأشدق ، والفصيح المتدفق ، فكأنها السحر دب في كيانك ، وكأنها الخمر هزت أركانك ، تسمع بيت الشعر لا يساوي ريالا ، ولا ترى فيه روعة ولا جمالا ، فيلقيه الخطيب المصقع ، والمتكلم المبدع ، فتبقى من حسنه مبهوتا ، كأنك لقطت ياقوتا .
الخطيب الهدّار ، كالسيل الموّار ، يقتلع الأشجار ، ويحمل الأحجار ، ويقتحم الأسوار ، لا يرده جدار ، ولا تقف في طريقه دار ، لأن الخطيب يقبل ومعه الآية الآمرة ، والموعظة الزاجرة ، والقصة النادرة ، والحجة الباهرة ، والقافية الساخرة .
تعيش معه في دنيا من الصور والألوان ، وفي عالم من المشاهد والألحان ، كأنك في إيوان ، أو بستان ، أو ديوان .
دعني من الخطباء الثقلاء ، كأن كلامهم لهيب الرمضاء ، أو وهج الصحراء ، أو وجه الشتاء ، لا طلاوة ، ولا حلاوة ، لا إبداع ، ولا إمتاع ، ولا إشباع . قوم لم تركض ألسنتهم في ميدان البيان ، ولم تذق قلوبهم حلاوة القرآن ، ولا تمتعوا بسحر الكلمات ، ولا رشاقة الجمل البالغات ، ولا عرفوا حسن السبك ، ولا براعة الحبك ، هَمُّ أحدهم صحف يتلوها على الناس بكرة وأصيلا ، لا تترك في الناس من التأثير فتيلا ، يلوك أحدهم الكلام لوكا ، كأنه يغرز في الأجسام شوكا .
أفصح الناس رسول الهدى ، وإمام الندى ، أبلغ من حضر وبدا ، وأوعظ من راح وغدا .
ما بنى جملة من اللفظ إلا
وابتنى اللفظ أمة من عفاءِ
منطق يملأ القلوب جلالاً
في حبور وبهجة وصفاءِ
إن من أعظم المتع التي عاشها الصحابة ، تلك الفصاحة ، والبراعة ، والنجابة ، التي كانوا يسمعونها من سيد الفصحاء ، وإمام البرعاء ، وأبين العرب العرباء ، كان إذا تكلم ملك المشاعر ، واستولى على الضمائر ، واستمال السرائر ، فلا يريدون بعده كلام خطيب ولا شاعر ، إذا نطق عليه الصلاة والسلام وتدفق ، فكأنه الفجر أشرق ، والماء ترقرق ، والنور في الأرواح ترفق . إن من النعيم ، عند ذاك الجيل العظيم ، سماع ذلك النبي الكريم، في منطق سليم ، وصوت رخيم ، وقول قويم ، ونهج مستقيم . ثم درج خطباء الأمة على منواله ، وسبكوا أقوالهم على أقواله ، فمن مقلٍّ ومكثر ، ومن مُؤثّرٍ ومتأثر . فأحسن الخطباء من جعل القرآن معينه ، وملأ بنور الحديث عينه ، وجعل البيان خدينه ، ثم أكثر من التدريب ، وأدمن التجريب ، وأخذ من كل فن بنصيب ، فترى له من البراعة ، ومن الجرأة والشجاعة ، ما يخلب ألباب الجماعة ، جمالاً في بيان ، وحسناً في إتقان ، مع عذوبة لسان ، وثبات جنان . غير أن البلاء ، يأتي من الأغبياء ، المعدودين في الخطباء ، فهم كالغيم في الصحو ، وكاللحن في النحو ، عبارات من حجاب البيان سافرة ، وجمل متنافرة . وتركيب غريب ، ليس عليه من سلطان الإبداع رقيب ، هَمُّ أحدهم أن يقول ، ولو أخطأ في النقول ، وعاث في العقول ، فَمَنْع هؤلاء من الخطابة إصابه ، حتى يراجع كل منهم حسابه . فليست المنابر أسواق باعة ، ولا أحواش زراعة ، ولا ورش صناعة ، إنما المنابر مواضع طاعة ، تهذب بها الأجيال ،وتصقل بها عقول الرجال
ومنطق كضياء الشمس تحسبه(/40)
يدب في الجسم مثل البرء لو نظمت ... من حسنه سحر هاروت وماروتِ
ألفاظه قلت هذا عقد ياقوتِ
فهذبْ لسانك ، وجوّد بيانك ، ودرب جنانك ، وأطلق في الفصاحة عنانك ، لتكون الخطيب المسدّد ، والمتكلم المؤيد . وحذار من ترداد الكلام ، فإنه يتحول إلى ركام ، ويصبح الخطيب أقبح في العين من الظلام ، وإيّاك والتقعر والغرابة ، فإنها من عيوب الخطابة ، ولا تكرر العبارة ، ولا تكثر الإشارة ، ولا تقحم نفسك في فنون أهل الاختصاص ، ولا تجرح الأشخاص . واخلط الترغيب بالترهيب ، والوعظ بالتأديب ، وتحبب إلى السامعين بالطَّيِّب من الكلام ، ولا تتعرض للشتم والملام ، وتألف القلوب ، وذكرهم برحمة علاّم الغيوب .
وتخولهم بالموعظة ، لتكون لقلوبهم موقظة ، وتحدث فيما يحتاجون إليه من مسائل، وما يهمهم من فضائل ، وكن لطيفاً مع الناس ، كالطبيب الآس .
واجعل إمامك في الخطابة رسول البيان ، صاحب القرآن ، سيد ولد عدنان .
فقد كان الجذع يحنّ لكلامه ، ويئن من كثرة شوقه وهيامه ، وكانت الدموع من وعظه تتحدر ، والقلوب تتفطّر ، والنفوس تتحسر ، هذا إذا أنذر وحذر ، أما إذا ذكرهم بمغفرة الغفور ، فهناك تسبح النفوس في صرح ممرّد من السرور ، وفي جدول من الحبور، فيمد كلامه نور الفطرة فالكل نور على نور .
هذا الكلام ما قاله أحد
ولا تلا مثله في الجمع سحبان
عليه من حلل الأنوار أردية
فكل قلب من الأشواق نشوان
يصدع الصخر في زجر وموعظة
وفي البشارة روض فيه ريحان
أيها الخطباء كونوا أبطالا ، ورصّعوا من الحكمة أقوالا ، ودبّجوا من الفصاحة أمثالا ، وانفروا خفافاً وثقالا ، وفقكم الله تعالى .
مقامَة التوبة
{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ }
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي
تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... جعلت الرجا ربي لعفوك سلما
بعفوك ربي صار عفوك أعظما
يا باغي الخير أقبل ، فالباب غير مقفل ، يا من أذنب وعصى ، وأخطأ وعتى ، تعال فلعل وعسى ، يا من بقلبه من الذنوب جروح ، تعال فالباب مفتوح ، والكرم يغدو ويروح ، يا من ركب مطايا الخطايا ، تعال إلى ميدان العطايا ، يا من اقترفوا فاعترفوا ، لن تنسوا { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا } ، يا من بذنب باء ، وقد أساء ، تذكر : (( يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء )) .
أسقت بغي كلبا ، فأرضت ربّا ، ومحت ذنبا ، قتل رجل مائة رجل ، ثم تاب إلى الله عز وجلّ ، فدخل الجنة على عجل .
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه ... من جود فضلك ما علمتني الطلبا
من الذي ما أساء قط ، ومن له الحسنى فقط ، ومن هو الذي ما سقط ، وأين هو الذي ما غلط ، يا كثير الأخطاء : أنسيت : كلكم خطّاء ، كم يقتلك القنوط كم ، وأنت تسمع : (( والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم )) .
اطرق الباب تجدنا عنده
لا تقل قد أغلق الباب فلا ... بسخاء وببذل وكرم
تحمل اليأس فتلقى في الندم
إذا أذنبت فتب وتندّم ، فقد سبقك بالذنب أبوك آدم ، ومن يشابه أباه فما ظلم ، وتلك شنشنة نعرفها من أخزم ، فلا تقلد أباك في الذنب وتترك المتاب ، فإن أباك لما أذنب أناب ، بنص الكتاب .
أصبحت وجوه التائبين مسفره ، لما سمعوا نداء : لو أتيتني بقراب الأرض خطايا لأتيتك بقرابها مغفره ، اطرح نفسك على عتبة الباب ، ومد يدك وقل : يا وهّاب . أرغم أنفك بالطين وناد : رحمتك أرجو يا رب العالمين .
إن جرى بيننا وبينك عتب
فالقلوب التي عرفت تلظّى ... وبعدنا وشط عنا المزار
والدموع التي عهدت غزار
يا من أساء وظلم ، اعلم أن دمعة ندم ، تزيل أثر زلة القدم . أنت تتعامل مع من عرض التوبة على الكفار ، وفتح طريق الرجعة أمام الفجّار ، وأمهل بكرمه الأشرار . أنزل بالعفو كتبه ، وسبقت رحمته غضبه .
والله ما لمحت عيني منازلكم
ولا تذكرت مغناكم وأرضكموا ... إلا توقد جمر الشوق في خلدي
إلا كأن فؤادي طار من جسدي
اسمه التوّاب ، ولو لم تذنب لما عرف هذا الوصف في الكتاب ، لأن الوصف لابد له من فعل حتى يوصف بالصواب . ما تدري بالذنب ، محى العجب ، وبالاستغفار حصل الانكسار ، لكأس الاستكبار ، وصار الانحدار ، لجدار الإصرار .
لا تصر ، بل اعترف وقر ، فإن طعم الدواء مُر ، وسوف تجد ما يسر ولا يضر ، واحذر الشيطان فإنه يغر .
اطرق الباب فإنا فاتحون ... لا تغيرك على الصحب الظنون
الاعتراف بالاقتراف ، طبيعة الأشراف ، قف بالباب ، وقل : أذنبنا ، وطف بتلك الديار وقل : تبنا ، وارفع يديك وقل : أنبنا ، { أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، سبحان من يغفر الذنب لمن أخطأ ، ويقبل التوبة ممن أبطأ .
التوبة تَجُبُّ ما قبلها ، وتعم بركتها أهلها . يقول عليه الصلاة والسلام (( التائب من الذنب كمن لا ذنب له )) ، وهذا قول يجب أن نقبله ، فهنيئاً لمن تاب وأناب ، قبل أن يغلق الباب . التائب سريع الرجعة ، غزير الدمعة ، منكسر الفؤاد ، لرب العباد ، دائم الإنصات ، كثير الإخبات .(/41)
للتائب فرحتان ودمعتان وبسمتان .
فرحة يوم ترك الذنب ، والأخرى إذا لقي الرب ، ودمعة إذا ذكر ما مضى ، والثانية إذا تأمل كيف ذهب عمره وانقضى ، وبسمة يوم ذكر فضل الله عليه بالتوبة ، وهي أجلّ نعمة ، والأخرى يوم صرف عنه الذنب وهو أفظع نقمة .
بشرى لمن عفّر جبينه ، وأشعل في قلبه أنينه ، وأضرم بالشوق حنينه ،التائب تبدل سيئاته حسنات ، لأن ما فات مات ، والصالحات تمحو الخطيئات .
للتوبة أسرار ، ولأصحابها أخبار ، فالتائب يزول عنه تصيد المعائب ، وطلب المثالب ، لأنه ذاق مرارة ما تقدّم ، فهو دائماً يتندّم ، وهو يفتح باب المعاذير ، لمن وقع في المحاذير ، ولا يفعل فعل المعجب المنّان ، الذي قال : والله لا يغفر الله لفلان ، بل يستغفر لمن أساء من العباد ، ويطلب الهداية لأهل الفساد ، والتائب يطالع حكمة الرب ، في تقدير الذنب ، وأنه لا حول للعبد ولا قوّة ، في منع نفسه من الوقوع في تلك الهوّة ، فالله غالب على أمره ، بعزته وقهره ، والتائب ذهبت عن نفسه صولة الطاعات ، والدعاوى الطويلات ، والتبجح على أهل المعاصي ، وأصبح ذليلاً لمن أخذ بالنواصي ، فإن بعض الناس إذا لم يقع في زلّة ، ولم يذق طعم الذلة ، جمحت به نفسه الأمّارة ، حتى جاوز أطواره ، فكلما ذكر له عاص تأفّف ، وكلما سمع بمذنب تأسّف ، وكأنه عبد معصوم ، في حياته غير ملوم ، يحاسب الناس على زلاتهم ، ويأخذ بعثراتهم ، فإذا أراد الله تقويمه ، ليسلك الطريق المستقيمة ، ابتلاه بذنب لينكسر لربه ، وأراه ضعف قوته فيعترف بذنبه، فيصبح يدعو للمذنبين ، ويحب التائبين ، ويبغض المتكبرين .
ومنها أن كأس الندم يتجرعه جرعة جرعه ، مع انحدار دموع الأسف دمعة دمعه، حينها ينال الولاية ، ويدرك الرعاية ، لأنه عرف سر العبودية ، ودخل باب الشريعة المحمديّة ، فإن ذل العبد مقصود ، وتواضعه محمود ، لصاحب الكبرياء المعبود .
ومنها أنه يشتغل بالاستغفار ، عن الاستكبار ، فهو دائم الفكر في تقصيره ، مشتغلاً به عن غروره ، لأن بعض الناس لا يرى إلا إحسانه ، ولا يشاهد إلا صلاحه وإيمانه ، حتى كأنه يَمنّ على مولاه ، بطاعته وتقواه ، بخلاف من طار من خوف العاقبة لبه ، وتشعب بالندم قلبه ، فهو كثير الحسرات ، على ما مضى وفات ، وهذا هو حال من عرف العبادة ، وسلك طريق السعادة .
واعلم أن لوم النفس على التقصير ، والنظر إليها بعين التحقير ، والإزراء عليها في جانب مولاها ، وعدم الرضا عنها لما فعله هواها ، يقطع من مسافات السير ، إلى اللطيف الخبير ، ما لا يقطعه الصيام ولا القيام ، ولا الطواف بالبيت الحرام ، فهنيئاً لمن على ذنبه يتحرق ، وقلبه يكاد من الأسف يتمزّق ، ودمعه على ما فرّط يترقرق .
وقفنا على الأبواب نزجي دموعنا ... ونبعث شوقاً طالما ضج صاحبه
أجمل الكلمات ، وأحسن العبارات ، لدى رب الأرض والسموات ، قول العبد : يا رب أذنبتُ ، يا رب أسأتُ ، يا رب أخطأتُ ، فيكون الجواب منه سبحانه : عبدي قد غفرت وسامحت ، وسترت وصفحت .
إن الملوك إذا شابت عبيدهمو
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً ... في رقهم عتقوهم عتق أبرار
قد شبت في الرق فاعتقني من النار
عفّر الجبين بالطين ، وناد : يا رب العالمين ، تبنا مع التائبين ، اغسل الكبائر بسبع غرفات من ماء الدموع وعفرها الثامنة بتراب المتاب ، فهذا فعل من أناب ، حتى يفتح لك الباب . تأوّه المذنبين التائبين ، أحب من تسبيح المعجبين ، من قضى ليله وهو نائم ، وأصبح وهو نادم ، أحب ممن قضاه وهو مسبّح مكبّر ، وأصبح وهو معجب متكبّر .
إذا أردت القدوم عليه ، توسل برحمته وفضله إليه ، ولا تمنن بطاعتك لديه، لا تيأس من فتح الباب ، ورفع الحجاب ، فأدم الوقوف عنده ، واخطب وده ، فإن من قصده لن يرده ، ما أحوج الجيل ، إلى آخر ساعة من الليل ، لأنها ساعة الهبات ، والأعطيات والنفحات ، إمام الموحدين ، يقول : { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } ، فجعل غاية مناه ، أن تغفر خطاياه ، وأنت تُصِرّ ، ولا تُقِرّ ، وتحسو كأس الذنب وهو مُرّ ، فأفق من سبات اللهو ولا تكن من الغافلين ، وأكثر من { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } .
المقامَة التاريخية
{ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا }
اقرأ التأريخ إذ فيه العبر
وتأمل كيف أفنى ملكهم ... ضل قوم ليس يدرون الخبر
من على الملك تولَّى وقهر
قال أبو كثير ، جرير بن الأثير ، سلوني عن التاريخ ، فإني في علمه شيخ .
قلنا : يا أبا كثير ، فضلك كبير ، فما هو التعليق ، على أحداث نذكرها لك بالتحقيق .
قال : تقدموا وتكلموا .
قلنا : مولد النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - .
قال : مولد النور ، وإشراق السرور ، وهو فتح من الله على هذا الكون ، ونبأ عظيم ما سمع بمثله في حركة ولا سكون .
قلنا : فهجرته إلى المدينة .(/42)
قال : بداية الانطلاق ، وفجر الإشراق ، بها قامت الدولة ، وصار للإسلام جولة، وللحق صولة .
قلنا : فغزوة بدر .
قال : إثبات صدق الصحابة ، واجتثاث تلك العصابة ، وقطع الرؤوس الكذابة ، وجلال للدين ومهابة .
قلنا : فوفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
قال : نزفت منها القلوب دما ، وامتلأت النفوس ألما ، وهي دليل على أن لا بقاء إلا للواحد ، وما مخلوق بهذه الدنيا خالد .
قلنا : فمعركة القادسية .
قال : مشهد من مشاهد الحق إذا هجم ، ونهاية ماحقة ساحقة لدولة العجم ، وأن من عادى الرحمن فليس له سلطان ، ولا أمان ولا صولجان .
قلنا : فمعركة اليرموك .
قال : فرار الروم كالبوم ، ولكل طاغية يوم معلوم ، وإن الدين أمضى سيف للمجاهدين .
قلنا : فعين جالوت .
قال : نهاية المغول ، ومأساة حظهم المغلول ، وجندهم المخذول ، على أيدي أتباع الرسول .
قلنا : في حطين .
قال : حطين ، تمريغ الباطل في الطين ، وهي يوم جلاء الصليب من فلسطين .
قلنا : فموت خالد بن الوليد على الفراش .
قال : دليل على أن الرجل درع حصين ، وموته مصيبة للموحدين ، وفرحة عابرة للكافرين ، وعيد للجبناء الفاشلين . وكأن القتل هاب من خالد ، فأتاه على غرة وهو قاعد .
قلنا : ففتنة القول بخلق القرآن .
قال : هي نتاج الفلسفة الشنعاء ، التي زاحم بها المأمون الشريعة الغراء ، ولكن الله نصر الحق وأتباعه ، وهزم الباطل وأشياعه .
قلنا : أحسنت في هذا الحوار ، فحدثنا عن بعض ما ورد في التاريخ من الأخبار .
قال : لما ابتلى المأمون الناس بالمحنة ، قيض الله له بطل السنة ، فكان المأمون رأساً في علوم اليونان ، وأحمد رأساً في علوم السنة والقرآن .
أما رأيت الحجاج قتل ابن الزبير ، وذبح سعيد بن جبير ، ووضع إبراهيم التيمي في بير ، ثلاث عورات لكم .
قال فرعون ثلاث كلمات مهلكات ، يقول : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } فدس أنفه في الطين ، و { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } فأخرج منها وهو لعين ، و { مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى } فأراهم سبيل الهالكين .
علي بن أبي طالب ، مرفوع بين الرافضة والنواصب ، لأنها لا تدخل على المرفوع النواصب .
يا لله العجب ، جولدا مائير امرأة ، هزمت رجال العرب ، كيف لو كانت رجلاً ذا شنب .
قال جميّل : سوف أبيد إسرائيل ، فألقى على اليمن البراميل ، قلنا : ضللت السبيل .
وقال صدام : سوف أحرق اليهود ، فأرسل إلى الكويت الجنود . قلنا : أسد عليّ وفي الحروب نعامة شرود .
يوم كانت تركيا تحكم بالشريعة السمحاء ، أرسلت للعالم الزعماء والعلماء والأدباء . فلما حكمت بمنهج الكافرين ، أرسلت للعالمين الحلاقين والراقصين والمغنيين.
أخذ العرب في فجر الإسلام قياد العالم ، فلما خفيت عليهم المعالم ، منوا بالهزائم .
فنقل الله السلطان للأكراد ، لأنهم نصروا رب العباد ، فملّكهم البلاد .
ثم أخذ الريادة السلاجقة ، وأمم لاحقة ، ثم انتقل مفتاح الأملاك ، إلى الأتراك ، فلما صاروا في ترف وانهماك ، سلب منهم المفتاح ، لأنه لا يحمله إلا من صدق في حي على الفلاح ، واعلم أن في هذا برهان ، على أن الإسلام لا يعترف بالألوان ، وليس لبلد خاص من البلدان . لكنه لكل من نصر الحق ، وأتى بالصدق .
أهدت لنا خراسان سلمان ، وأهدت صهيباً لنا الرومان ، فأهدى لهم رسولنا القرآن والإيمان .
الجيش إذا لم يصم رمضان ، يهزم في حزيران ، وجيش لا يؤمن بتعاليم جبريل ، لا ينتصر على إسرائيل .
التأريخ إن شئت جعلته شريفاً أو سخيفا ، فالتاريخ الشريف : تاريخ الفتوحات والانتصارات ، والنكبات والدروس المستفادات . والتاريخ السخيف : تاريخ القيان، وكيف كانت تضرب العيدان ، وخبر الجواري في قصر السلطان .
اشغلونا في التاريخ بأخبار سخيفة ، فقالوا : الجارية غضبت على الخليفة ، فأهداها قطيفة ، فعادت للوظيفة .
لابد أن يقرن التأريخ بالأثر ، ويُرَصَّع بالسير ، وتستفاد منه العبر .
تاريخ ابن خلدون مقدمة بلا كتاب ، لكنها عجب من العجاب . وتاريخ ابن الجوزي غرائب وعجائب ، كأنه لابد في كل قصة من مصائب . وتاريخ الطبري دقائق ، أشغلتنا عن الحقائق ، وتاريخ ابن كثير ، أحسن الجميع بلا نكير ، لكنّه طول في تراجم الشعراء ، وقصر في تراجم العلماء .
الذهبي يكتب بقلم السلف ، فتجده كثير النقد للخلف ، تخرج من مدرسة المحدّثين، فتراه يشن الغارة على المُحدَثِين .
العظمة في اتباع المعصوم ، لا في المناصب والرسوم ، والدليل على ما أقول ، أن دائرة المعارف البريطانية ، ترجمت بعشرين صفحة للدولة العباسية ، وترجمت لابن تيمية بأربعين صفحة ، لجهوده الإسلاميّة .
ألسنة البشر ، أقلام تكتب بها السير ، إذا ذكر عمر بن عبد العزيز قال الناس : رحمه الله ، وإذا ذكر الحاكم الفاطمي قال الناس : قاتله الله .(/43)
لما تولى بنو أمية الخلافة قالوا : سوف تبقى لنا دواما ، فما أكملوا ثمانين عاما . فلما تولى بنو العباس قالوا : سوف نحكم الأرض بالأثر والنظر ، حتى خروج المهدي المنتظر، فلم يبق الله لهم في الأرض مكانا ، كأنهم خبر كان .
من قرأ التاريخ هيجه على البكاء ، والاتساء ، والاقتداء . كم في التاريخ من زفرة ؟ وحسرة وعثرة ؟ لقد كان في قصصهم عبرة .
***************************
المقامَة السُّلطانيَّة
{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ }
جانب السلطان واحذر بطشه
لا تمازح أسداً في غابة ... لا تعاند من إذا قال فعل
وترفق عند أرباب الدول
قال عليُّ بن عمران : اعلموا أن السلطان ، ظل الله في الأوطان ،بهيبته تحفظ البلاد وتسعد العباد ، وبعدله تأمن الآفاق ، وتقام الأسواق ، وبسيفه تنصر الملّة ، وترفع الذلّة .
أما الظلوم الغشوم ، فمجده مهدوم ، وسيفه مثلوم ، وجنده مهزوم . اسمعوا ابن خلدون ، لعلكم تعتبرون . إن السلطان إذا عدل ، شفيت بعدله العلل ، وزال الخلل ، وذهب الزلل ، ونصر الله دولته بين الدول . أما إذا السلطان جار ، ألزمه الله الصغار ، وألبسه العار ، وسلط عليه الدمار ، وجعل مصيره النار .
قلنا يا ابن عمران : وكيف يكون العلماء مع السلطان ؟
قال : لا تقابل السلطان بالقوة ، فيلقيك في هوّة ، وكما قالت العرب في الكتب : لا تمازح الأسد ، فإنه أبو لبد . فالعالم لا يخالط السلطان حتى كأنه حاجب ، أو كاتب ، أو حاسب ، لأن الصاحب ساحب ، بل ينصحه من بعيد ، ويزوره كل عيد ،ويدعو له بالتسديد . ولا ينصحه أمام العوام ، لأنهم هوام ، أصحاب طوام ، بل يداريه ولا يماريه، وينكر عليه ولا يجاريه . ويكلمه كلاما بيِّنا ، ويقول له : قولا ليِّنا .
قلنا : فإن أعطاه السلطان مالا ، وقال يأخذه حلالا ، ويصلح به حالا .
قال : إن كان هذا المال ليشتري به دينه ، من أجل أن يذله ويهينه ، فالمنيّة ولا الدنية ، وركوب الجنائز ، ولا قبول الجوائز . وإن كان هذا العطاء من بيت المال بلا سؤال ، ولا مكر واحتيال ، فرزق ساقه الله إليك ، سواء كان بنقد أو بشيك ، فهو لك لا عليك .
قلت : فما رأيك في الخروج على السلطان ؟
قال : لا تفعل إلا إذا رأيت كفراً عندك فيه من الله برهان .
قلت : فإن حرمني وشتمني وظلمني ؟
قال : حسيبك الملك الديان ، يوم يوضع الميزان ، ويظهر البهتان .
قلت : فماذا يجعل السلطان من الصلحاء ويحمله على نهج الخلفاء الأوفياء ؟
قال : إذا شاور العلماء ، وخالف السفهاء ، وجالس الحكماء ، وصاحب الحلماء .
قلت : يا ابن عمران فماذا يفسد السلطان ؟
قال : الاشتغال عن الرعية ، والجور في القضية ، وعدم الحكم بالسويّة .
قلت : فماذا يلزم السلطان حتى يعان ؟
قال : تنفيذ الحدود ، وتقوية الجنود ، والوفاء بالوعود ، والالتزام بالعهود ، وإكرام الوفود
قلت : فماذا يجب للسلطان على الرعية ، من الواجبات الشرعية ، والحقوق المرعية ؟
قال : الدعاء له بظهر الغيب ، ولا ينشر ما فيه من عيب ، وطاعته إلا في الحرام ، والنصح له في توقير واحترام .
قلت : أخبرنا بما في سيرة الحكام من العبر ، وما ورد فيها من أثر ، فإن الله ينفع بالسير ؟
قال : انظروا ما ذكره الله في القرآن ، وما سطره في التأريخ والأعيان .
قلت : لماذا فسد الحجّاج ، ووثب على الأمة وهاج ؟
قال : الرجل بالله مغرور ، غره المدح والظهور ، فأخذ يظلم ويجور .
قلت : فمن جُلاسه ؟
قال : هم ما بين عامّي عري عن العلم ، محروم من الفهم ، أو فاجر مات قلبه ، وتبلد لبه .
قلت : ولماذا فسد الخليفة الأمين ؟
قال : أقبل على اللعب ، واشتغل بالطرب ، وأهان أهل الحسب ، وقرب الوشب .
قلت : فلماذا أيد الله عمر بن عبد العزيز ، وجعله في حرز حريز ؟
قال : الرجل اتقى ربه ، وخاف ذنبه ، وأصلح ما بينه وبين الديان ، فعمّر الله به البلدان . ركب سفينة السنة ، فأوصلته الجنة .
قلت : فأخبرنا بصفات تصلح السلطان ، وتوصله الرضوان ؟
قال : عليه بصدق الصدِّيق ، وعدل الفاروق ، وسخاء عثمان ، وشجاعة عليّ إذا التقى الجمعان .
قلت : فمن أحق الناس بإكرام السلطان ؟
قال : عالم عامل ، وعابد فاضل ، وشيخ كبير ذابل .
قلت : فمن أحق الناس بعقوبة السلطان ؟
قال : السفهاء ، الذين يحتقرون العلماء ، والمجاهرون بالمعاصي صباحاً مساء . ومن يأخذ حقوق العباد بالاعتداء .
قلت : فلماذا أحب الناس الخلفاء الراشدين ؟
قال : لأنهم كانوا صادقين ، وبربهم واثقين ، وبرعيتهم رفيقين .
قلت : فلماذا سقطت الدولة الأموية ، وقد كانت قوية ؟
قال : أخّر القوم الصلاة ، وأكرموا العصاة ، وجاروا في الأحكام ، فانقلبت بهم الأيام .
قلت : فلماذا سقط بنو العباس ، وقد كانوا أهل نجدة وبأس ؟
قال : هجر القوم المثاني ، واشتغلوا بالأغاني ، وملأوا القصور بالغواني ، وغرتهم الأماني .
قلت : فلماذا سقطت الدولة العثمانية ؟(/44)
قال : قربوا الصوفية ، وحاربوا الدعوة السلفية ، وأهانوا الرعية ، واشتغلوا بالملذات الدنيوية ، وأهملوا الشعائر الدينية .
قلت : فما معنى كلام ابن تيمية : إن الله ينصر الدولة الكافرة ، إذا كانت عادلة ويمحق الدولة المسلمة ، إذا كانت ظالمة ؟
قال : هذا كلام صحيح ، وفهم مليح . فالدول إذا عدلت قرّت ، واستقرت ، وأعطاها الله الأمان ، من روعات الزمان ، ومن مصائب الحدثان . وإذا ظلمت محقت وسحقت ، وتمزّقت وتفرّقت . وهذه سنة ماضية ، وحكمة قاضية .
قلت : ولماذا قال عمر على المنبر يوم صاح بطنه من الجوع وقرقر : قرقر أو لا تقرقر والله لا تشبع حتى يشبع الفقير المقتر ، والشيخ المعسر ؟
قال : عمر إمام العدالة ، شرح الله بالعدل باله ، صدق الله فأصلح أحواله ، وجعل التقوى سرباله . فسيرة عمر تخوف الظالمين ، وترهب الآثمين ، وهي قصة بديعة في العالمين .
قلت : ما رأيت الظالم طال عمره ، ولا حماه قصره ، ولا ارتفع قدره .
قال : أما تدري أن الله أخرج كل ظالم من قصره وجره ، وقطع دابره بالمرة ، واستنزله من برجه العاجي كأنه هرة .
قلت : مثل ماذا يا هذا ؟
قال : عجباً لك أما تعي ، وأنت بالعلم تدعي . أما أهلك فرعون وخرب داره ، وترك قصوره منهارة ، ودس أنفه في الطين كأنه فارة .
أما رأيت شاوشيسكوا رئيس رومانيا المهين ، مزقه شعبه وهو لعين ، سحبوه في الشارع كأنه تنين ، فما كان له من فئة ينصرونه وما كان من المنتصرين .
أما رأيت شاه إيران ، السفيه الغلطان ، الذي كان بكأس الظلم سكران ،أكثر من السلب والنهب ، والضرب والصلب ، فطرده شعبه كالكلب . فمات في مصر مع فرعون ، وكتب في التاريخ الشاه الملعون .
أما رأيت ماركوس رئيس الفلبين ، أحد الظلمة الكاذبين ، أذاق قومه الويلات ، وأسقاهم كأس النكبات ، فمال عليه قومه ميلة واحده ، فإذا دولته بائدة ، فصار في العالم طريدا ، وأصبح في الأرض شريدا .
قلت : أرشدتني أنار الله فكرك ، وأعلا ذكرك ، وقد حملت شكرك .
***************************
المقامَة الجامعيَّة
{ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا }
اطلب العلم وحصّله فمن
لا تقل قد ذهبت أربابه ... يعرف المقصود يحقر ما بذل
كل من سار على الدرب وصل
بكى زميلي في الجامعة عمرو بن كُلثوم ، كأنه أكل الثوم ، فلما رأيت الدمع ملأ عيونه ، تذكرت قول الشاعر : بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه .
فقلت : ما لعينك دامعة . قال : من كثرة العناء في الجامعة .
قلت : من صبر ظفر ، ومن ثبت نبت . فقال زميلي عمرو ، وكأن في قلبه جمر : حدثنا عن دراستك في كلية أصول الدين ، فإني لك بالنصح مدين .
قلت : كنت أدرس في أبها ، والعلم عندي من الشهد أشهى ،لا أخرج من الحارة، من البيت إلى المنارة ، وقليلاً ما أركب السيارة . كانت الكتب أغلى عندي من الذهب، فإذا تفردت بكتاب ، نسيت الأصحاب والأحباب .
كنت أصلي الفجر ، ثم أجلس في مصلاي لطلب الأجر ، فإذا داعبني النعاس ، قلت : لا مساس ، فإذا غدا الطير من وكره وطار ، وقضيت وجبة الإفطار ، ذهبت إلى الكلية ، ونسيت الدنيا بالكلية .
وكأن زملائي أهل جد وجلد ، والكل منهم مثابر مجتهد . ذكرونا بالصحب الأول ، وكانوا من سبع دول ، اثنان من السعودية ، أخلاقهم ندية ، وصداقتهم ودية ، وآمالهم وردية . وأربعة من اليمن ، تشتري صحبتهم بأغلى ثمن ، وأعدّها عليّ من أحسن المنن ، وواحد من أوغندا ، يهد الدروس هدا ، كأنه ليث إذا تبدا ، وطالبان من السودان أعذب من الماء عند الظمآن ، وطالب من دولة بنين ، قوي أمين ، ومن نيجيريا أربعة طلاب ، يكرمون الأصحاب ، ويتحفون الأحباب ، وواحد من الصومال ، من خير الرجال ، مع صبر واحتمال . فإن اختلفنا في الديار ، فنحن إخوة في شريعة المختار .
فاجتمع في الفصل اللسان ، والألوان ، واللّغات ، واللهجات ، من كل الجهات . فصرت أنا بينهم كسحبان وائل ، ولو أنني أعيا من باقل . فكنا في أحسن زمالة ، لا سآمة ولا ملالة ، ودرّسنا أساتذة ، بعضهم جهابذة ، فكان منهم من يحضر وينظرّ ، ويأتي الفصل وهو مبكر .
تخاله من ذكاء القلب متقداً
ومن تلهبه في العلم نشوانا
ومنهم من كان يقرأ علينا من صحف اكتتبها ، فهي تُملى عليه بكرة وأصيلا ، فكان يرتل علينا المقرر ترتيلا . وربما تعب فقال لنا : ضعوا تحت هذه الكلمة خط ، ولا يزيد على ذلك قط .
ومنهم من كان يأخذ ثلث المحاضرة في تحضير الطلاب ، من حضر ومن غاب ، وربما دلسنا عليه الغياب ، وهو لا يدري بدهاة الأفارقة والأعراب . ويأخذ ثلثها الثاني في تعريفنا بشخصه العظيم ، وما حصل له من تكريم ، فهو يردد علينا هذا الحديث السقيم .
وأما ثلثها الأخير فيشرح لنا المقرّر ، وقد تبلد ذهن كل منا وتحجّر ،مما سمعناه من الحديث المعطر .(/45)
ومنهم من شكانا وشاكيناه ، وأبكانا وأبكيناه ، فمرة يشكونا للعميد ، فنسمع الوعيد والتهديد ، فنسخر ونقول : الحمد لله على السلامة ، أسد عليّ وفي الحروب نعامة ، وربما كتبنا فيه خطابا ، فيملؤنا سبابا ، ويقول : لن أخاف من كيدكم ولا أقلق ، كما قال الأول : زعم الفرزدق .
ومنهم من عجب من إجابتي ، وكثرة إصابتي ، وأقسم لو جاز أن يعطى فوق الدرجة لأعطاها ، ولا يخاف عقباها ، فأجد الامتعاض من الزملاء ، ثم نعود إلى جو الإخاء . وقد نظمت في الأساتذة بعض الأبيات ، فيقول الزملاء : بهذه الطريقة نلت الدرجات ، فيهمزون ويلمزون ، وإذا مرّوا بنا يتغامزون . وربما أطلقت في الفصل النكات ، فيهتز الفصل من الضحكات .
أذكر مرّة ، كانت لحظة مسرة ، أن أحد الدكاترة ، وكانت أذهاننا معه فاترة ، قال لنا : إن الغزالي صاحب الأحياء مات والبخاري على صدره ، يقصد كتاب الصحيح، فقلت بلا استحياء : هذا أمر عجيب ، وخبر غريب ، لأن البخاري مات في القرن الثالث ، والغزالي في القرن السادس ، فكيف يكون البخاري على صدر الغزالي .
فقال الأستاذ : أنت قد بلبلت بالي ، قلت : قصيدة البلبلة لصفي الدين الحلي وهي مهلهلة . ثم أنشدتها بدون استئذان ، حتى أدخلتها الآذان ، ومطلعها :
يا بلي البال قد بلبلتُ بالبلبال بالي
بالنوى زلزلتين والقلب بالزلزال زالا
فقال الأستاذ وقد تميز من الغيظ : زدنا يا عائض من هذا الفيض .
فأنشدت :
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشى
قلاقل عيس كلهن قلاقل
والطلاب في ضحكهم هائمون . ثم قلت للأستاذ : سامحني يا علم الأفذاذ ، فقد تذكرت بيت الأعشى :
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني
شاوٍ مِشلٌّ شلولٌ شلشلٌ شَوِل
وشجعني أن بضاعته من العلم مزجاة ، فقلت : أزجي الوقت كما أزجاه ، وإذا ذهب العلم فليذهب الجاه .
وكنت أستأذن بعضهم في أول كل محاضرة ، ووجوه الطلاب يومئذٍ ناظرة ، فأنظم أرجوزة ، أبياتها مهزوزة ، فيتركني الأستاذ ولسان حاله يقول : دعوه على حاله ، فالله هو الذي يهب العقول . ولا أفعل هذا إلا مع أستاذ هو كلّ على مولاه ، فأريد أن أجازيه على ما أولاه .
ومرة ذهبنا في رحلة برية ، فجعلوني رائد السريّة ، فانذهل مني المدرب وتعجب ، واستغرب وتعذب ، فلم أظهر له أنني عنيد ، بل جعلت نفسي كأنني أبله بليد ، فإن صاح فينا : استعد استرحت ، وإن قال : استرح استعديت ، وإذا قال : إلى الأمام سر ، رجعت إلى الورى ، وإذا قال : إلى الخلف در مشيت إلى الأمام ، وإذا طلب منا العد بالأرقام ، قفزت عشرين رقماً للأمام ، فإن كان رقمي عشرة قلت : ثلاثون ، والناس يضحكون ، والكل مرتاحون ، إلا المدرب فقد جف ريقه ، وظهر حريقه .
وربما تساجلنا في بعض الأمسيات ، فأنظم في الحال الأبيات ، وليس هذا والله من المبالغات .
وربما أنشد بعضهم نصف بيت سابق ، فأكمله من عندي :
نحن الذين صبحوا الصباحا
فقلت :
وقد أكلنا الموز والتفاحا
وقال آخر :
حتى إذا جن الظلام واختلط
فقلت :
سمعت صوت القط من بين القطط
وكان أستاذٌ يلحن في العربية ، فكنت أقول :
واللحن عند شيخنا يجوز
كقولهم مررت بالعجوزُ
وأنشدنا أستاذ الأدب بيت صفي الدين الحلّي
سل الرماح العوالي عن معالينا
واستشهد البِيض هل خاب الرجا فينا
فذكرت حالنا المعاصر ، فقلت :
سل الصحون التباسي عن معالينا
واستشهد الرُّزّ هل خاب الرجا فينا
وأرادوا في الكلية التشجيع ، فجعلوني الطالب المثالي في الحفل الختامي الوسيع ، فجئت لآخذ الجائزة ، والنفس بالفرح فائزة ، فكان العميد يناول الجائزة المسئول ، والمسئول بدوره يناولها الطالب المقبول ، فأخذت الجائزة من العميد في استعجال ، وسلمتها المسئول في ارتجال ، فضجت بالضحك القاعة ، لأنها حركة ملفتة خَدَّاعة .
وفي المرحلة الجامعية ، كانت زمن الهمة الألمعية ، والعزيمة اللوذعية ، فقد أعانني الرحمن ، على حفظ القرآن ، وجودته على الشيخ الرباني ، عبيد الله الأفغاني ، وحفظت بعض المتون ، في بعض الفنون ، أما القراءة والمطالعة ، فكانت شمسها ساطعة ، فلم يكن لي غير المطالعة عمل ، وهي أحسن قوة لدي وأقصى أمل ، فإذا خلوت بالكتاب ، فقد اجتمع عندي أفضل الأصحاب ، وأحب الأحباب ، حينها لا يعادله عندي روضة خضراء ولا حديقة فيحاء ، فالكتاب أشرف صاحب على الدوام ، وخير جليس في الأنام ، وكنت أتعجب ممن لا يطالع ، أو يقضي وقته في الشارع . وقد أقبلت على علم الحديث بانكباب ، وقبل ذلك كنت منهمكاً في الآداب .
أما المقرر فلم أذاكره إلا وقت الامتحان ، لأنني أراه أقل من أن يصرف له كل الزمان . وفترة الجامعة ، كانت أخصب فترة عندي لحضور المخيّمات ، والرحلات والأمسيات ، ونظم المقطوعات والأرجوزات ، وما تأثرت في تلك الأيام ، بأستاذ ولا شيخ ولا إمام ، كتأثري بزميلين ، ماجدين ، عابدين ، صادقين .(/46)
أحدهما : النيجيري عبد الرشيد ، وكان عندي من أصدق من رأيت في عبادة الحميد المجيد ، كثير قيام الليل ، بعيد عن القال والقيل ، لا تراه إلا ذاكراً ، أو مذاكرا ، أو شاكرا ، له أذكار وأوراد ، وهو عليها معتاد ، وقد رزقه الله بسطة في الجسم ، وحباً للعلم . وأخبرني بأن جدته دعته إلى العبادة ، حتى صار قيام الليل له عادة .
والثاني : سراج الرحمن ، من باكستان ، وقد ملأ الله قلبه بالإيمان ، أكثر نهاره صامت ، وبالليل قانت ، متواضع ، خاشع ، طائع ، مضرب المثل في النبل والفضل .
وكان لي زميل إفريقي درس في باريس ، فكان يلقي الشبه على هيئة التدريس ، وكان مبغضا للعرب ، فلقينا منه العجب ، فكان إذا أورد شبهة انتفض ، وأقوم وأعترض، فربما غضب وأزبد ، وأرعد وتهدد ، فيغضب لي كل الفصل لأنه متطاول متوعد ، وهو مفتون بحب فرنسا ، حب لا ينسى ، وقد أغضبنا بالسفه والطيش ، ولكننا نغصنا عليه العيش . ولما تخرجنا من الكلية ، كانت النتيجة حصلتُ على الأولية ، ومع الامتياز هدية، وألقيت قصيدة عربية منها :
أيها الخريج يا نجم العلا
يا شعاع الأمل المرتقب
قل هو الرحمن آمنا به
واتبعنا هادياً من يثرب
من بلادي يطلب العلم ولا
يطلب العلم من الغرب الغبي
وبها مهبط وحي الله بل
أرسل الله بها خير نبي
فلما انتهيت من القصة ، قلت لزميلي عمرو ، هذا كل ما في الأمر . ولك مني الدعاء والشكر
المقامَة الشيطانية
{ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }
هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها ... ما بال أشيب يستهويه شيطان
قال عبد الله بن آدم : حاورت الشيطان الرجيم ، في الليل البهيم ، فلما سمعت أذان الفجر أردت الذهاب إلى المسجد ، فقال لي : عليك ليل طويل فارقد .
قلت : أخاف أن تفوتني الفريضة .
قال : الأوقات طويلة عريضة .
قلت أخشى ذهاب صلاة الجماعة .
قال : لا تشدد على نفسَك في الطاعة .
فما قمت حتى طلعت الشمس . فقال لي في همس : لا تأسف على ما فات ، فاليوم كله أوقات . وجلست لآتي بالأذكار ، ففتح لي دفتر الأفكار .
فقلت : أشغلتني عن الدعاء . قال : دعه إلى المساء .
وعزمت على المتاب . فقال : تمتع بالشباب .
قلت : أخشى الموت . قال : عمرك لا يفوت .
وجئت لأحفظ المثاني ، قال : رَوّح نفسك بالأغاني .
قلت : هي حرام . قال : لبعض العلماء كلام .
قلت : أحاديث التحريم عندي في صحيفة . قال : كلها ضعيفة .
ومرت حسناء فغضضت البصر ، قال : ماذا في النظر ؟
قلت : فيه خطر . قال : تفكر في الجمال ، فالتفكر حلال .
وذهبت إلى البيت العتيق ، فوقف لي في الطريق ، فقال : ما سبب هذه السفرة ؟
قلت : لآخذ عمرة .
فقال : ركبت الأخطار ، بسبب هذا الاعتمار ، وأبواب الخير كثيرة ، والحسنات غزيرة .
قلت : لابد من إصلاح الأحوال .
قال : الجنة لا تدخل بالأعمال . فلما ذهبت لألقي نصيحة ، قال : لا تجر إلى نفسك فضيحة
قلت : هذا نفع للعباد . فقال : أخشى عليك من الشهرة وهي رأس الفساد .
قلت : فما رأيك في بعض الأشخاص ؟ قال : أجيبك عن العام والخاص .
قلت : أحمد بن حنبل ؟ قال : قتلني بقوله : عليكم بالسنة ، والقرآن المنزل .
قلت : فابن تيمية ؟ قال : ضرباته على رأسي باليومية .
قلت : فالبخاري ؟ قال : أحرَق بكتابه داري .
قلت : فالحجاج ؟
قال : ليت في الناس ألف حجاج ، فلنا بسيرته ابتهاج ، ونهجه لنا علاج .
قلت : ففرعون ؟ قال : له منا كل نصر وعون .
قلت : فصلاح الدين ، بطل حطين ؟ قال : دعه فقد مرّغنا بالطين .
قلت : محمد بن عبد الوهاب ؟
قال : أشعل في صدري بدعوته الالتهاب ، وأحرقني بكل شهاب .
قلت : فأبو جهل ؟ قال : نحن له إخوة وأهل .
قلت : فأبو لهب ؟ قال : نحن معه أينما ذهب .
قلت : فلينين ؟ قال : ربطناه في النار مع استالين .
قلت : فالمجلات الخليعة ؟ قال : هي لنا شريعة .
قلت : فالدشوش ؟ قال : نجعل الناس بها كالوحوش .
قلت : فالمقاهي ؟ قال : نرحب فيها بكل لاهي .
قلت : ما هو ذكركم ؟ قال : الأغاني .
قلت : وعملكم ؟ قال : الأماني .
قلت : وما رأيكم في الأسواق ؟ قال : علمنا بها خفّاق ، وفيها يجتمع الرفاق .
قلت : فحزب البعث الاشتراكي ؟
قال : قاسمته أملاكي ، وعلمته أورادي وأنساكي .
قلت : كيف تضل الناس ؟
قال : بالشهوات والشبهات والملهيات والأمنيات والأغنيات .
قلت : وكيف تضل الحكام ؟
قال : بالتعطش للدماء ، وإهانة العلماء ، ورد نصح الحكماء ، وتصديق السفهاء .
قلت : فكيف تضل النساء ؟
قال : بالتبرج والسفور ، وترك المأمور ، وارتكاب المحظور .
قلت : فكيف تضل العلماء ؟
قال : بحب الظهور ، والعجب والغرور ، وحسد يملأ الصدور .
قلت : فيكف تضل العامّة ؟
قال : بالغيبة والنميمة ، والأحاديث السقيمة ، وما ليس له قيمة .
قلت : فكيف تضل التجّار ؟
قال : بالربا في المعاملات ، ومنع الصدقات ، والإسراف في النفقات .
قلت : فيكف تضل الشباب ؟(/47)
قال : بالغزل والهيام ، والعشق والغرام ، والاستخفاف بالأحكام ، وفعل الحرام .
قلت : فما رأيك في إسرائيل ؟
قال : إياك والغيبة ، فإنها مصيبة ، وإسرائيل دولة حبيبة ، ومن القلب قريبة .
قلت : فالجاحظ ؟ قال : الرجل بين بين ، أمره لا يستبين ، كما في البيان والتبيين.
قلت : فأبو نواس ؟ قال : على العين وعلى الرأس ، لنا من شعره اقتباس .
قلت : فأهل الحداثة ؟ قال : أخذوا علمهم منا بالوراثة .
قلت : فالعلمانية ؟
قال : إيماننا علماني ، وهم أهل الدجل والأماني ، ومن سمّاهم فقد سماني .
قلت : فما تقول في واشنطن ؟
قال : خطيبي فيها يرطن ، وجيشي بها يقطن ، وهي لي موطن .
قلت : فما تقول في صَدَّام ؟
فهتف يقول : بالروح والدم نفديك يا صدام ، يسلم أبو عدي على الدوام .
قلت : فما رأيك في الدعاة ؟
قال : عذبوني وأتعبوني وبهدلوني وشيبوني يهدمون ما بنيتُ ، ويقرؤون إذا غنيتُ ، ويستعيذون إذا أتيتُ .
قلت : فما تقول في الصحف ؟
قال : نضيع بها أوقات الخلف ، ونذهب بها أعمار أهل الترف ، ونأخذ بها الأموال مع الأسف
قلت فما تقول في هيئة الإذاعة البريطانية ؟
قال : ندخل بها السم في الدسم ، ونقاتل بها بين العرب والعجم ، ونثني بها على المظلوم ومن ظلم .
قلت : فماذا فعلتَ بالغراب ؟
قال : سلطته على أخيه فقتله ودفنه في التراب ، حتى غاب .
قلت : فما فعلتَ بقارون ؟
قال : قلت له : احفظ الكنوز ، يا ابن العجوز ، لتفوز ، فأنت أحد الرموز .
قلت : فماذا قلتَ لفرعون ؟
قال : قلت له : يا عظيم القصر ، قل : أليس لي ملك مصر ، فسوف يأتيك النصر.
قلت : فماذا قلتَ لشارب الخمر ؟
قال : قلت له : اشرب بنت الكروم ، فإنها تذهب الهموم ، وتزيل الغموم ، وباب التوبة معلوم
قلت : فماذا يقتلك ؟
قال : آية الكرسي ، منها تضيق نفسي ، ويطول حبسي ، وفي كل بلاء أمسي .
قلت : فمن أحب الناس إليك ؟
قال : المغنّون ، والشعراء الغاوون ، وأهل المعاصي والمجون ، وكل خبيث مفتون .
قلت : فمن أبغض الناس إليك ؟
قال : أهل المساجد ، وكل راكع وساجد ، وزاهد عابد ، وكل مجاهد .
قلت : أعوذ بالله منك ، فاختفى وغاب ، كأنما ساخ في التراب ، وهذا جزاء الكذاب .
المقامَة الأبويَّة
{ يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى
مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }
يا كوكباً ما كان أقصر عمره
جاورت أعدائي وجاور ربه ... وكذا تكون كواكب الأسحار
شتان بين جواره وجوار
هذه المقامة ، لأبنائي وصية ، وهي أعظم هديَّة ، وإنما العمل بالنية .
اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، فمن فعل ذلك فإن الله ظهيره ونصيره . وكل ما سمعتم حديثاً لصاحب الشفاعة ، فقولوا : سمعاً وطاعة .
وأوصيكم ببر الآباء والأمهات ، وأنهاكم عن منعٍ وهات ، وتضييع الصلوات ، واتباع الشهوات . والله الله في تدبر المثاني ، وهجر الأغاني ، وترك الأماني .
واعلموا أنها قامت عليكم الحجة ، وبانت المحجة . وأوصيكم بتوقير شعائر الدين ، فإنها تقوى رب العالمين . واستعدوا للرحيل ، إلى الملك الجليل ، فإنكم قادمون إليه عما قليل . وإذا سمعتم الأذان ، فأجيبوا داعي الرحمن ، فليس بعد الأذان أعمال ولا أشغال ، بل ذهاب إلى بيت ذي الجلال .
وقد دعيتم فأجيبوا الداعي ، بقلب واعي ، فإني أخشى على من تهاون بتكبيرة الإحرام ، مع الإمام ، أن يحرم التوفيق على الدوام ، وأن لا يبلغه الله المرام .
ولقد نصحت ولي تجارب جمة
ولقِيت كل معلم مأمون
فإذا النعيم وكل ماجد زائل
يفنى ويبقى سعيكم للدين
واعلم أن من صحب الفسّاق ، ونقض الميثاق ، ابتلاه الله بالنفاق .ولا تقولوا نحن في عصر الصبا ، وكم من سيف نبا ، وجَواد كبا ، فهذا كلام من غره بالله الغرور ، حتى فاجأته قاصمة الظهور ، وطرح في القبور ، وتذكروا ليلة صبحها يوم القيامة ، فما أكثر الأسف فيها والندامة . وتذكروا أول ليلة في القبر ، فلا إله إلا الله ما أعظمه من أمر ، ليلة ليس فيها جليس ولا أنيس ، يرتجف لها القلب ، ويذهب من هولها اللب ، ليس معكم فيها صديق ولا رفيق . تخلى عنكم الأحباب وترككم الأصحاب ، وجردوكم من الثياب ، ووسدوكم التراب . الأموال بعدكم قسمت ، والبيوت سكنت ، والزوجات نكحت ، فأين قلوبكم والعقول ، ما لكم في ذهول ، وأنتم في نقول .
فارقعوا بالاستغفار ما مزقته أيادي الذنوب الكبار . واغسلوا بدمع العيون غبار الذنوب ، وتولوا إلى علام القلوب ، وعليكم بالسكوت ، ولزوم البيوت ، والرضا بالقوت ، فإنه كاف لمن سيموت . والحرص على تكبيرة الإحرام ، وسلامة الصدور من الآثام ، وإطابة الطعام ، وحسن الخلق مع الأنام ، عربون صادق لدار السلام . وطهروا القلوب من الإحن ، وألزموا السنن ، وفروا من الفتن ، تجدون عونه عز وجل وقت المحن، مع إسباله عليكم ثوب المنن .(/48)
وأشرف تاج تاج الديانة ، وثوب الصيانة ، والصدق والأمانة ، والوقار والرزانة . وثوب الرياء ثوب مخرق ، ورداء الكبر رداء ممزق . والعمل بالسُّنَّة ، أقرب طرق إلى الجنة ، ومرافقة الأشرار ومصاحبة الفجار ، هي الخسار والبوار ، وهم الدعاة إلى النار ، ومن ألان كلامه ، ووصل أرحامه ، وبذل طعامه ، ونشر سلامه ، أكرم الله في الجنة مقامه . وويل لمن كان خصمه لسانه ، وأشهد على نفسه إخوانه ، واستشار في أمره شيطانه وأرخص للشهوات إيمانه . وخلوة بكتاب ، ودمعة في محراب ، وتواضع للأصحاب ، خير من القصور والقباب . وما أقبح ممن ناداه ربه إلى المسجد ، فتبلد وتردد ، ومن عود لسانه الذكر ، وقلبه الشكر ، وعقله الفكر ، وبدنه الصبر ، نال أعظم الأجر ، وحط عنه الوزر .
وكل لباس يبلى إلا لباس التقوى ، ومن كان في دنياه شقياً ، بمخالفة مولاه فهو في الآخرة أشقى ، والمأسور من أسره هواه ، والمخذول من عصى مولاه ، والمفلس من خاب مسعاه . وعليكم يا أبنائي بالصبر على المصائب ، والتجلد للنوائب ، ومجانبة الغضب ، والإجمال في الطلب ، والإخلاص في الطاعة ، والزهد والقناعة .
واعلموا أنه ليس معكم في شدائد الزمان ، غير الواحد الديَّان ، فلا يغرركم كلام الإخوان ، فإن الناس في وقت العافية أعوان ، واستنطقوا الذكر الحكيم ، واتبعوا الرسول الكريم ، وألزموا الصراط المستقيم .
واعلموا أن للذنوب كَفّارات ، وإن الحسنات يذهبن السيئات ، وأنه لا أنفع من الصالحات ، ولا أضر من الموبقات . وللذنب من الله طالب ، وعلى الضمائر مراقب ، وللأعمال محاسب . واعلموا أن شرفكم صدق اللسان ، ونسبكم الإحسان ، وكنزكم الإيمان . ولن ينقذكم من النار ، إلا طاعة العزيز الغفار ، واتباع المختار . واطلبوا الكفاف، واستتروا بالعفاف ، وخذوا وأعطوا الإنصاف ، فإن الحق كاف واف .
واسلكوا من الطرق الوسط ، ودعوا الغلو والشطط ، والتهور والغلط . واسمعوا مني نصيحة . اعلموا أن الدنيا لا تساوي تسبيحة ، ولو كانت مليحة ، لجعلها الله لأوليائه مريحة . وصونوا أنفسكم من سؤال الناس ، واستغنوا عما في أيديهم باليأس . واطلبوا العلم فإنه أجل المطالب ، وأعظم المواهب ، وهو أرفع من المناصب ، وأكرم من كل المراتب . وزينته العمل ، وخوف الأجل ، والاعتصام بما نزل . والداء العضال معاداة الرجال ، ومن سالم الناس سلم ، ومن صمت غنم . والناس لا يطلبون منكم الأرزاق ، وإنما يطلبون جميل الأخلاق . وأوصيكم بالأذكار ، في طرفي النهار ، فإنها عبادة الأبرار. ولا تهجروا تلاوة القرآن كل يوم . فإنه دواء الهموم والغموم . وركعتان في السحر خير مما طلعت عليه الشمس والقمر ، ووقروا الكبير ، وارحموا الصغير .
واحذروا أن يكون لسان أحدكم كالمقراض في الأعراض ، فإن هذا من ضعف البصيرة ، وخبث السيرة ، ورافقوا أهل الصلاح، وأحبوا أصحاب الفلاح، ولا تستصغروا شيئاً من المعاصي ، وراقبوا من يأخذ بالنواصي . وقسوة القلب يذيبها الندم ، والدمع المنسجم ، والأسف من الذنب المنصرم . ولا تتنعموا تنعم المترفين ، ولا تزروا بأنفسكم فعل الشحّاذين ، فإن المبالغة في الزينة للنساء ، والوقاحة للإماء ، والشره للسفهاء ، فكونوا أنتم العلماء الحكماء . وأدمنوا الاستغفار كل حين ، فإنه مفتاح رضى رب العالمين ، وهو قوة وتمكين ، وعلى كل كربة معين . ومن لم يراقب الحسيب ، ويردعه الشيب ، ويخاف العيب ، فليس له في الفضيلة نصيب . وويل لمن غرته دنياه ، وخدعه مناه ، وصرعه هواه . وطوبى لعبد إذا أنعم عليه شكر ، وإذا ابتلي صبر ، وإذا أذنب استغفر . وعليكم بتوقير الصحابة ، وحب القرابة ، مع لزوم مذهب السلف ، فهم أعلم وأحكم من الخلف . حفظكم الله بالدين ، وعصمكم من نزغات الشياطين .
****************************
المقامَة الصَّحفية
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا }
طوى الجزيرة حتى جائني خبر
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً ... فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
قال سعيد بن شهاب ، كنت في الشباب ، أسكن في حارة العزاب ، فتعلمت الثقافة ، ودرست اللقافة ، وقلت : أعمل في الصحافة . فذهبت إلى السكرتير ، فقال : عليك بالمدير ، فذهبت إلى المدير ، قال : عليك بالوزير ، فذهبت إلى الوزير ، فقالوا : عفواً هو في اجتماع مع السفير ، فكاد قلبي أن يطير . فقالوا : ما عنك يا شاب ، وفقت للصواب .
قلت : أريد أن أعمل لديكم مراسلاً للأخبار ، في بعض الديار .
قال : لابد أن تنقل لنا المصائب ، والعجائب والغرائب . فلا نريد منك أن تقول: فلان حفظ القرآن ، وانتصر الأفغان ، وأعلن فوزهم الشيشان ،فهذا كلام مستهلك من زمان . نريدك تقول مثلاً : تحطمت طائرة اليابان ، وسقطت عمارة في لبنان ، وانفجرت قنبلة في اليونان ، وماتت نعجة في السودان ، وانكسرت رِجْل قطة في باكستان .(/49)
وعليك بتهويل الخبر ، حتى يذاع وينشر ، فمثلاً إذا سقطت طائرة فقل : تناثر حطام الطائرة تناثراً عجيباً ، وخلف وراءه لهيباً ، وارتطمت بإحدى العمارات ، مما سبب كثيراً من الانفجارات .
قلت : فإذا لم نجد الأخبار ، ماذا نكتب للقراء الأخيار ؟
قال : من جد وجد ، وعليك بأخبار البلد ، فقل مثلاً : طلّق اليوم أبو سرور زوجته أم مستور ، لخلاف نشب بينهم قبل شهور ، بسبب غلاء المهور .
وترقى أبو شريف ، إلى رتبة عريف ، بعد جهد عنيف ، وصبر منيف . وافتتحت اليوم بقالة ، في بلدة أبو عقالة ، صاحبها مبروك بن مرزوق ، خلف ظهرك إذا دخل السوق . وشاهد الناس اليوم شيئاً في السماء ، كأنه زخات ماء ، فشعروا بالخطر ، وإذا هو زخات مطر . وطارد أحد المواطنين فارة ، حتى أخرجها من الحارة ، فماتت عند الإشارة .
وتخرج الطالب سليم بن هذلول ، من أول ابتدائي بتقدير مقبول .
ورسب الطالب خلف بن عسعوس ، في سبعة دروس ، وخيرها في غيرها .وانتطح ثوران ، في بيت الجيران ، ومر على هذا الحادث شهران .
قلت : فإن لم نجد أخبارا ، فهل تجد لنا أفكارا ؟
قال : عليك بأخبار الطقس ، فإنها خفيفة على النفس ، فقل مثلاً : هبت رياح شرقية غربية ، متجهة إلى المنطقة الجنوبية ، أحياناً تثير غباراً ، وأحيانا لا تثير غباراً . ترتفع في المرتفعات ، وتنخفض في المنخفضات . والبحر يميل إلى الحمرة ، تعلوه عند الغروب صفرة . إذا هبت عليه الرياح هاج ، وإذا سكنت ماج .
قلت : فإن لم أجد عن الطقس ما أقوله ، ولا أجد أخباراً منقولة ؟
قال : عليك بالتاريخ ، ولو عن البطيخ .
قلت : مثل ماذا ؟ قال : انقل لنا الأخبار الخفيفة ، الطريفة ، مثل : دخلت رمانة جارية هارون الرشيد ، وفي يدها عقد فريد ، فقال : ما هذا يا رمّانة ؟ قالت: هذا عقد أخذته من قهرمانه . قال : ومن قهرمانه ؟
قالت : جارية مولاتي عبدانه . قال : ومن عبدانه ؟ قالت : هي التي تسكن في الزوراء ، ويعرفها الفقراء ، فتعجب الخليفة ، من ذكاء رمانة ، وخاطب إخوانه، وقال : يا غلام أعط رمانة ألف دينار ، واجعلها من أهل الدار .
قلت : فإن لم أجد عن التأريخ ؟
قال : عليك بعلم الآثار ، فإنه قرة الأبصار ، وفيه العظة والاعتبار .
فحدثنا عن لجام بغلة ابن مقبول ، الذي وجد في استنبول ، أو الحذاء المرقع المدفون، في عهد المأمون ، أو عمامة أبي دلامة ، المدفونة في كنيسة القيامة ، أو عصا حماد الراوية ، التي كسرت في قرية الزاوية .
قلت : فإن لم أجد ؟ قال : فحدثنا بما هبَّ ودبّْ عن الطبّْ . مثل أن تخبرنا بفوائد شحم الثعالب ، إذا أذيب في قوالب ، ثم مزجت به طحال أرنب ، مع مرقة فأر مركب ، ثم طليت بها الحذاء ، فإنها تشافي من داء الإعياء . أو خبر اكتشاف دواء ضد الموت ، في بئر هوت ، الذي اكتشفه دكتور برازيلي في الأرجنتين ، عثر عليه في بريطانيا بعدما وجده في إيطاليا ، وبحث عنه في ألبانيا ، وأجرى عليه تجارب في بلغاريا ، وهو الآن جاهز للاستعمال في هنقاريا .
قلت : فإن لم أجد ؟ قال : عليكم بالسياسة ، فإنها الطريق إلى الرياسة ، فحدثنا عن غزو أوغندا لبولندا ، وهجوم هولندا على راوندا ، وحاول أن تأتي بأسماء مجهولة ، لأن عقول الناس معقولة ، وإذا لم تجد أخباراً عربيّة ، فاسرد علينا أخباراً غربيّة .
فقل مثلاً : ماتت اليوم الآنسة سوزا ، مع كلبها كوزا ، في قرية شمال غرب نوقوسا، وسقط مدير شركة هوندا ، المستر برندا ، فمات قبل أن يتغدا . والظاهر أن الشيشان ، لهم نية في غزو داغستان .
قلت : الآن عرفت سر المهنة الشريفة ، فأنا من اليوم مراسل الصحيفة . ولكن لماذا تجرّون المرفوع ، وتجزمون المنصوب والنحو أمامكم موضوع .
قال : نحن في زمن كم من مرفوع جَرّه ، وكم من مخفوض رفعه بالمرة ، وكم من مجزوم نصبه لكل مسرّة ، فنحن نعرب الكلام ، على حسب حركات الأيام .
والسلام ختام .
**********************
مقامَة القلم
{ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ }
أنصت لميمية جاءتك من أممِ
واكتب به أحرف العلياء إن له ... مدادها من معاني نون والقلمِ
نوراً من الحق يمحو حالك الظلمِ(/50)
يا أيها الذي جمع الحكم ، أما سمعت نون والقلم ، إن القلم شأنه عجيب ، ونبؤه غريب ، نحيف الجسم ، عظيم الاسم ، جميل الرسم ، إن خط في القرطاس ، أنصت له الناس ، بالقلم تجهّز الجنود ، وترفع البنود ، وتوثق العقود ، وتحل العهود، بحروفه تقضي المحاكم ، وترد المظالم ، وتقطع الجماجم ، وتعقد المواسم ، إن غضب فجر الدماء، وأباد الأحياء ، وأشعل حرباً شعواء ، وإن رضي منح المواهب ، وأعطى الرغائب ، وأهدى المناصب ، من حروفه يجنى العسل ، وتسل الأسل ، إن شاء فمداده سم الحيات ، وأم النكبات ، وسبب البلايا الموجعات ، وإن أراد جعل سطوره نورا ، وصيرها سرورا ، وملأها حبورا ، ونمقها حسناً منشورا ، هو رسول القرون الأول ، وخادم الدول ، وحافظ الملل والنحل ، إذا سال لعابه ، كثر صوابه ، وحضر جوابه ، وتزاحم عبابُه ، لا تسمع له كلاما ، ولكنه صار للحكمة إماما ، وللمعارف قائدا هماما ، لفظه أغلى من الياقوت ، به خط الوحي في الملكوت ، وهو الذي أخبرنا بطالوت وجالوت ، وهو أسحر من هاروت وماروت ، مصيبة القلم أنه يذيع الأسرار ، ولا يكتم الأخبار ، ولا يقر له قرار ، إذا تشجع ملأ الصفحات ، وعبأ المجلدات ، وبسط المختصرات ، وإذا جبن ألغز وأوجز ، وطلسم وأعجز ، وإن تحامل همز ، وغمز ونبز ، كتب به اللوح المحفوظ ، وسطر به العلم المحفوظ ، وقسم به رزق المنحوس والمحظوظ ، تخاطب به الملوك ، أهل الآفاق ، وتقطع به الجبابرة الأعناق ، ويخوف به الفسّاق ، ويحذر به أهل النفاق والشقاق، وسوء الأخلاق ، بالقلم يقضى الأمر ، ويقع القتل والأسر ، وينصت له الدهر ، وتسطر وقائع العصر .
أمضى من الألسنة ، لفظهُ ما أحسنه ، يخبر عن من مات من ألف سنة ، به تسطرّ كل سيئة وحسنة .
تصبح الأوراق به في حسن الرياض ، ويسّود به البياض ، ويذب به عن الأعراض، وبه تشفى الصدور ، من العلل والأمراض .
فتاك سفاك بتاك هتاك . كتوم غشوم ظلوم عزوم
هو الذي كتب رسائل الصفاء ، وهو دبّج أسطر الوفاء ، وهو سجل أخبار الخلفاء، دون السؤال والجواب ، والشكوى والعتاب ، والخطأ والصواب، وما كنت تتلو من قبله من كتاب ، بريشته تحل المعضلات ، وتشرح المشكلات ، وتصان المأثورات ، وتبقى المحفوظات . يخطب بلا صوت ، ويأكل بلا قوت ، ويجمع بين الحياة والموت ، به يرسم الهجر والوصل ، والولاية والعزل ، والجد والهزل .
به يقع العدل والحيف ، والحق والزيف ، وهو القاضي على السيف ، به تنسخ المعرفة ، وتنقل الفلسفة ، وتخط الزخرفة . يسفسط ويقرمط ، وينسج ويدبّج ، يهدم بكلمة بناء عام ، ويلغي بجملة كيد أقوام ، له غمغمة ، وهمهمة ، وتمتمة .
كم من عقل قلقله ، ومن قصر زلزله ، ومن بال بلبله ، ومن كيد أبطله . برسائله عرفت الأرض والسماء ، وعلى رسمه خلدت آثار الحكماء ، وبِتَصرفه سفكت الدماء ، وعلى حركته نسجت مآثر العلماء .
أفصح من اللسان ، وأحفظ من الإنسان . إذا حملته الأصابع ، فانتظر القوارع ، وارتقب الفواجع . له أزيز كأزيز المرجل ، ودبيب كدبيب الأرجل ، وحصاد كحصاد المنجل . عار من اللباس ، دقيق الرأس ، قوي البأس ، عظيم الأثر في الناس .
يشرب ولا يأكل ، ويجيب ولا يسأل . إن عبأته مدادا ، أحال بياضك سوادا . إذا غلط غطش ، وإذا احتد بطش . عقله مرهون ، وخصمه مغبون ، وعذابه غير مأمون .
إن خط بالأحمر قلت : هذا شفق ، أو دم على ورق ، وإن نسخ بالسواد ، صار المداد كنون عيون العباد . وإن كتب بالأخضر قلت : هذه طلعة بستان ، أو بهجة أفنان .
إذا سها رجع القهقرى ، وإذا شك مشى إلى الورى ، له رأس بلا عينين ، ولسان بلا شفتين ، وصدر بلا يدين ، لا يتكلم حتى يشبع ، ولا يخطب حتى يرضع، ولا يسكت حتى يوضع ، ولا يكتب حتى يقرع .
إن سلطته على مختصر شرحه ، أو على غامض أوضحه ، أو على سر فضحه ، أو على عاص نصحه .
إن كنت عربياً فهو أفصح من سحبان ، وإن كنت أعجمياً صار أنطق من الهرمزان، يسمعك وليس له أذنان . إن نمت نام ، وإن قمت قام ، وإن جوّعته صام ،وإن أهملته هام
متحذلق يقظ فإن أرسلته
بتار أعناق الأنام بلفظه ... أجرى لعاب رحيقه من صدره
سلاب أفئدة الملوك بسحره(/51)
والقلم بيانك ، وهو طوع بنانك ، وهو حاضر الفكر ، كثير الشكر ، صاحب ذكر ، إن حمله اللوذعي ، وكتب به العبقري ، سالت أودية بقدرها ، وانبجست عين من حجرها ، وإن صحبه البليد ، وخط به الرعديد ، كثر عثاره ، وتبلد حماره ، وحجب عيونه غباره ، يوافق المزاج ، في الاستقامة والاعوجاج ، والثبات والارتجاج ، مسدد إلا إذا غضب ، ومليح إلا إذا عتب ، وفصيح إلا إذا حجب ، إذا انتهى زاده ، ونفذ مداده ، وقف جواده ، هوّنوا عليه اللوم وأقلوا ، فانه لا يمل حتى تملوا ، إن لقنته حكمة وعاها ، وإن أرسلته إلى ذاكرةٍ أخرج منها ماءها ومرعاها ، وهو الذي سطر الحكمة تسطيراً ، فلم يغادر منها قليلاً ولا كثيراً ، ولا صغيراً ولا كبيراً ، وإن قصد أحداً بالأذى فلن تجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ، يرقص على نبضات قلبك ، فإن أوقفت الإملاء نادى اذكرني عند ربك ، فذكرك غذاؤه ، وكفك حذاؤه ، ومدادك ماؤه ، وجيبك وعاؤه ، يعرف طريق النجاة ، وهو عظيم الجاه ، يعذر ولو جئنا ببضاعة مزجاة ، إن غلطت غلط ، وإن جهلت ركب الشطط ، لا يغفل الشكل والنقط .
صمت الخطباء وما صمت ، وسكت الشعراء وما سكت ، ومات الملوك ولم يمت ، حذر به المصطفى الأكاسرة ، وأنذر به القياصرة ، وخوّف به الجبابرة ، صدر به قتل الحسين ، وخط به خلع الأمين . وسطر به الوحي في طور سينين ، وروى لنا الجمل وصفين ، يشعل الحرب ولا يحضرها ، ويستودع الأسرار فينشرها ، يتململ في كفك تململ السليم ، ويتقلب تقلب السقيم ، ويبكي بكاء اليتيم ، خط به أفلاطون كتاب الجمهورية ، وأقام به المعتصم وقعة عموريَّة ، ونمّق به ابن تيمية الواسطيَّة ، والحمويَّة ، والتدمريَّة ، نقل لنا سيرة ابن إسحاق ، وحديث عبد الرزاق ، وعجائب الآفاق ، وأخبار العشاق ، نقض الصعلوك ، ودفع الشكوك ، ونادم المملوك ، يفهم بالإشارة ، ويرسم العبارة ، إن كتب به الأحمق تدفق ولم يترفق ، وضل ولم يوفق ، وإن كتب به الرجل الرشيد جاءك بالقول السديد ، والعلم المجيد ، والنقل الحميد .
يطير العلم من الرأس ، فيقيده القلم في القرطاس ، وإذا حمله الأمي قال لا مساس ، مَؤدّب لا ينتقد ، و مقلّد لا يجتهد ، يسهر بلا قيام ، ويجوع بلا صيام ، له كل يوم شجون ، وعنده من الحكمة فنون ، يخون الحفظ وهو لا يخون ، صغير الجرِم ، كبير الجرُم
واسمع أبا تمام يصف الأقلام في أبدع كلام :
لك القلمُ الأعلى الذي بشباته
لعابُ الأفاعي القاتلات لعابُهُ
لهُ ريقةٌ طلٌّ ولكنَّ وقعَها
فصيحٌ إذا استنطقتَهُ وهو راكبٌ
إذا ما امتطى الخمسَ اللطافَ وأُفرغت
أطاعتهُ أطرافُ القنا وتقوَّضت
إذا استغزر الذهنَ الذكيَّ وأقبلت
وقد رفدتهَ الخنصرانِ وسدَّدت
رأَيتَ جليلاً شأنُهُ وهو مرهفٌ ... تُصابُ من الأمر الكُلى والمفاصلُ
وأَرْيُ الجنا اشتارته أيدٍ عواسلُ
بآثارهِ في الشرقِ والغربِ وابلُ
وأعجمُ إن خاطبتهُ وهو راجلُ
عليهِ شعابُ الفكرِ وهي حوافلُ
لنجواهُ تقويضَ الخيام الجحافلُ
أعاليه في القرطاسِ وهي أسافلُ
ثلاثَ نواحيهِ الثلاثُ الأناملُ
ضنىً وسميناً خطُبهُ وهو ناحلُ
**************************
مقامَة الكتاب
{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ }
أعز مكان في الدنى سرج سابح
أنيس إذا جالسته طاب قوله ... وخير جليس في الزمان كتابُ
وليس له عند الفراق عتابُ
عليك بالكتاب ، فإنه خير الأصحاب ، وهو روح المؤانسة ، وقوت المجالسة ، أقسم الله بالكتاب المسطور ، في رق منشور ، لأن الكتاب كنز الإفادة ، وعنوان السعادة ، وهو أمين لا يخون ، وعزيز لا يهون ، إن حملته في النادي شرفك ، وإن جهلت أحداً عرفك ، يقوي جنانك ، ويبسط لسانك ، بالكتاب يجلس الصعلوك ، على كراسي الملوك، يقوم الزلل ، ويسد الخلل ، ويطرد الملل ، ويشافي العلل ، يحفظ الأخبار، ويروي الأشعار ، ويكتم الأسرار ، ويبهج الأبرار ، وهو أشرف لك من المال ، وأطوع لك من الرجال ، وأنسى عندك من العيال ، وبه تبلغ الكمال .
مللت كل جليس كنت آلفه
إلا الكتاب فلا يعدله إنسانُ
عاشرته فأَراني كل مكرمة
له عليَّ رعاه الله إحسانُ
والكتاب إذا خان الصديق وفى ، وإذا تكدر الزمان صفا ، ينسيك جحود الجاحد ، وحسد الحاسد ، وضغينة الحاقد ، خليل ما أملحه ، وصاحب ما أصلحه ، وصامت ما أفصحه ، يقرؤ في كل زمان ، ويطالع في كل مكان ، على اختلاف الأعصار ، وتباعد الأمصار ، بشير ونذير ، ونديم وسمير ، إذا وعظ أبكاك ، وإن حدث أشجاك، وإذا فرح أضحكك ، وإذا بشر أفرحك ، سليم من العيب ، يحمل في الجيب ، لا يشرب ولا يأكل ، ولا يغضب ولا يجهل ، إن هجرته حفظ ودك ، وإن طلبته صار عندك .
يغنيك عن الأرحام ، والأحباب والأصحاب ، فخير جليس في الأنام كتاب .(/52)
يقودك إلى الكرامة ، ويبعدك من الندامة ، ويطرد عنك السآمة ، هو نسب ما أشرفه ، وهو بوابة المعرفة ، وخلاصة الفلسفة ، يصلك بأساطين التفسير ، من كل عالم نحرير ، وإمام شهير ، ومحقق بصير ، ويحضر لك المحدثين ، أهل الرواية الصادقين ، والدراية العارفين ، وجهابذة النقل الواعين .
ويجمع لك الفقهاء ، رواد الشريعة الغراء ، وأرباب الفهم الأذكياء ، ويتحفك بقصيد الشعراء ، ونتاج الأدباء ، وبيان البلغاء ، وإنشاء الفصحاء .
يا حروفاً قد أضاءت في الصحفْ
قدرها عنديَ لو تعلمه ... أخبرتني بأحاديث السلفْ
كل فضل وجلال وشرف
جزى الله الكتاب ، أفضل ثواب ، فقد أغناك عن البخلاء ، وكفاك الثقلاء ، وأجلسك مع النبلاء ، وعرّفك بالفضلاء ، يوفي لك الكيل ، ويقصّر عليك الليل ، هو تاجك في كل ناد ، وأنيسك في كل واد ، وهو سلوة الحاضر والباد ، وخير ما أنتجه العباد .
أما تراه خفيف الجسم موضعه
هو الذي فّخم السادات واحتفلت ... على الصدور وبين الأنف والمقلِ
به الملوك وأهل الشأن والدولِ
اصرف له أثمن الأوقات ، وأنفق عليه أعظم الهبات ، ولا تطع فيه أهل الشهوات .
هو الذي حبّب إليك الزمان ، وأجلسك في صدر المكان ، قال القط : يا أيها البط، أخرج من الشط ، فالتفت إليه ورد عليه وقال : يا سيد الجهاد ، لو كنت من القراء، لما أعظمت الافتراء ، أما طالعت في كتاب الهجرتين ، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين .
ليس المجد حلي وآنية ، ولا دف وغانية ، ولا قطوف جانية.
وليست السعادة كنز ، وبنز ، وبز ، وجنز ، ورز ، وقز ، فهذا ليس بعز .
وليس السؤدد ، بنود ، وجنود ، وحشود ، ووفود .
لكن المجد والسعادة ، والشرف والسيادة ، علم أصيل ، وبرهان ودليل ، وكتاب جليل ، يغنيك عن كل خليل .
************************
المقامَة الطبيّة
{ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }
كيف أشكو إلى طبيبي ما بي
زاد في جرعة العلاج فصارت ... والذي قد أصابني من طبيبي
مهجتي في منازل التعذيبِ
وجدنا كتاباً لابن سينا ، بعدما أغفلنا ذكره ونسينا ، فإذا هو يقول ، ورأيه مقبول: ما أهلك البَرِيّة ، وقتل البهائم في البَرِّيّة ، إلا إدخال الطعام على الطعام ، وترك المشي على الأقدام . ثم قال : عليكم بالنوم بعد الغداء ، والمشي بعد العشاء ، وترك الامتلاء ، والغذاء خير من الدواء .
وكنا جلوساً ، فجاءنا أحدهم برسالة من جالينوس ، فإذا هو يقول : يا أهل العقول ، لا يغتسل أحدكم وهو شبعان ، ولا يأكل إلا وهو جوعان ، ولا ينم وهو من الطعام ملآن ، ولا يقطع الليل وهو سهران .
وقال من اقتصد في الطعام ، وقلل من الكلام ، وهجر الاهتمام والاغتمام ، عاش في صحة وسلام ، أما سمعتم شاعركم ابن الرومي ، ليت عندنا شاعراً مثله من قومي :
فإن الداء أكثر ما تراه
يركب من طعامك والشراب
قلنا : يحق للمتنبئ المجيد ، أن يقول عنك لما مدح ابن العميد :
من مخبر الأعراب أني بعدهم
جالست جالينوس والإسكندرا
قال : بلغوا كلامي لابن الحسين ، وقالوا : شكراً مرتين .
قلنا : وقد ذكرك فقال في بعض الأمثال :
يموت راعي الضأن في سربه
ميتة جالينوس في طبهِ
فهمهم وتمتم وما تكلم .
ثم جاء صديقنا أبو عثمان الغازي ، فقلنا : حدثنا عن أبي بكر الرازي .
قال : حسبتكم تتحدثون عن الحب ، وإذا بكم تتكلمون عن الطب .
قلنا : دعنا من الشجون والعيون ، وحدثنا عن الصحون والبطون ، فضحك حتى بدت نواجذه ، وقال : مات الطب وجهابذه . ولكن أبا بكر ، طيب الذكر ، كان يدنينا ولا يقصينا ، وينصحنا ويوصينا . فيقول : الحسد يذيب الأجسام ، والحقد لا ينفع معه طعام ، والبغضاء لا يهنأ معها منام ، والذكر يشرح الصدور ، ويجلب السرور ، ويسهل الأمور ، ويدخل على النفس النور ، وإياكم والمسكر ، فإنه داء أكبر ، وحرام منكر .
قلنا : أنت حدثتنا عن طب الأبدان ، ونعرف أنك فيه من الأعيان ، فحدثنا عن طب القلوب ، فقد نسيناه من كثرة الذنوب .
قال : أما سمعتم ابن المبارك ، وهو في الأدب شارك ، حيث يقول :
رأيت الذنوب تميت القلوب
وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب
وخير لنفسك عصيانها
قلنا فماذا قال طبيب العيون ، فإنه ثقة مأمون ، قال سمعته ينشد :
وأنت متى أرسلت طرفك رائداً
لقلبك يوماً أتعبتك المناظرُ
رأيت الذي لا كله أنت قادر
عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ
قلنا فماذا قال طبيب الأذن ، قال دخلت عليه بلا إِذن ، فسمعته ينشد :
لا تسمعنّ الخنا إن كنت ذا رشد
فالأذْن نقالة والقلب حَفّاظُ
وصن سمعاك عن لغو وعن رفث
قد تدخل الناس في النيران ألفاظُ
قلنا فماذا قال طبيب الولادة ، فإنه ظاهر الإجادة ؟ قال :
ولدتك أمك باكياً مستصرخاً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكَوا ... والناس حولك يضحكون سرورا
في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
قلنا : فماذا قال طبيب الباطنيّة ، فإنه طيّب النيّة ، قال سمعته ينشد :
أكل الحرام يثير داءً دائماً(/53)
فكل الحلال فرزق ربك واسع ... في البطن لا يدري به الجراحُ
إن الذي ترك الربا مرتاحُ
قلنا : فماذا قال طبيب العظام ، فإنه من الرجال العظام ، قال سمعته ينشد :
عظامك أنقذها ولحمك من لظى
وإياك إياك الحرام فإنّه ... جهنم فالأجسام تُشوى وتحرقُ
تقطع أوصال به وتمزّق
قلنا : فماذا قال الطبيب النفسي ، قال سمعته ينشد ، حين يصبح وحين يمسي :
يا نفس هل من توبة مقبولة
أو ما ترين الموت أشهر سيفه ... ضاع الزمان وأنت في العصيان
كم راع يوم الروع من إنسان
قلنا : فمن أعظم طبيب ؟ قال : محمد الحبيب ، صاحب النهج العجيب ، والرأي المصيب ، قلنا : أوصنا بوصية ، لينة غير عصية ، فأنشد :
خذ ما أردت من العلاج فإنه
مات المداوِي والمداوَى والذي ... لابد من موت يقطع ذا العرى
صنع الدواء وباعه ومن اشترى
******************
المقامَة التجاريّة
{ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا }
فصاحة سحبانٍ وخط ابن مقلة
إذا اجتمعت في المرء والمرء مفلس ... وحكمة لقمانٍ وزهد ابن أدهمِ
ونوديْ عليه لا يباع بدرهمِ
قال أبو ريال ، دينار بن مثقال : لا تصدق من قال : أكثر التجار فجار ، فقد رأيت منهم قوماً يتصدقون ، وفي سبيل الله ينفقون ، وعلى الفقراء يغدقون .
قلنا : يا أبا ريال ، يا خير الرجال ، فما للتجار يبنون ما لا يسكنون ، ويدخرون ما لا يأكلون ، ما لهم على ربهم لا يتوكلون ؟ قال : هذا من البطر ، والترف والأشر ، ومن فعل ذلك فهو على خطر :
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر فالذي فعل الفقر
قلنا : حدثنا عن التجار الصالحين ، والأغنياء المفلحين ، قال : يكفيك عثمان بن عفان ، أرضى بماله الرحمن ، وأرغم به الشيطان ، واشترى به الجنان ، جهز في غزوة تبوك الجنود ، وشرى بئر رومة من اليهود ، وله في سبيل الله مواقف وجهود .
ولا تنسوا عبد الرحمن بن عوف ، الذي جمع بين الرجاء والخوف ، جاءته قافلة من الشام ، تحمل الطعام ، فقسمها على الأيتام ، واشترى بذلك دار السلام .
قلنا : فقص علينا قصة التاجر الفاجر ، أميّة بن خلف ، الذي جعل الله ماله للتلف .
قال يكفيكم : ويل لكل همزة لمزة ، الذي جمع مالاً وعدده ، يحسب أن ماله أخلده
قلنا : فهل للتاجر الخاسر علامات ، وهل له سمات .
قال : إذا رأيته يأكل وحده ، ويمنع رفده ، ويمسك نقده ، ويغضب ممن يجلس عنده
قلنا : فلماذا بعض التجار ، يصاب بالضغط والسكر ، قال : لأنه في كل لحظة يفكر ، ولا يشكر ، ولا يذكر ، ومزاجه معكّر ، وخاطره مكدّر .
ذكر الفتى عمْره الثاني وحاجته
ما قاته وفضول العيش أشغال
أمراض التجار : فقر الدم ، وكثرة الهم ، ودوام الغم .
فأما فقر الدم : فمن قلة الغذاء ، لأنه مشغول عن الفطور والغداء ، غائب عن العشاء .
وأما كثرة الهم : فلانشغال باله بالسندات ، وتعلقه بالشيكات ، وانصرافه إلى العقارات ، وتفكره في الواردات والصادرات .
وأما دوام الغم : فلحرصه على الزيادة ، وتذكره أولاده وأحفاده ، فتذهب عنه السعادة ، ويشغل عن العبادة . وأحب أبواب العلم إلى التاجر البخيل ، باب الحث على الاقتصاد . وأثقل باب عليه باب الجود والأجواد .
ثم قال : ولا تنس حديث : "ذهب أهل الدثور بالأجور" ، فهؤلاء أهل العمل المبرور ، والسعي المشكور ، والتجارة التي لا تبور ، وهم الذين بنوا المساجد ، لكل راكع وساجد ، وأطعموا الفقراء والمساكين ، وأسعفوا البؤساء والمحتاجين ، وبذلوا المال والطعام ، وكفلوا الأيتام ، فهم يجمعون الحسنات كل حين ، وتذكر حديث : (( لا حسد إلا في اثنتين )) .
قلنا : فما أحسن المكاسب لمن أراد التجارة ، أهو البيع أم الإجارة ؟ أم المنصب والوزارة ؟ أم الزراعة والعمارة ؟
قال : أما البيع فإذا سلم من الغش والكذب ، والخداع واللعب ، فهو أعظم سبب ، لنيل الفضة والذهب :
لا تبع في السوق ديناً غالياً
واحفظَنْ دينك من نار الكذبْ
وأما المنصب : فنصب ، ووصب ، وتعب
نصب المنصب أوهى جلدي
يا عنائي من مداراة السفل
وأما الإمارة فنعمت المرضعة ، وبئست الفاطمة ، ويعترضها أمور قاصمة :
يسرك أني نلت ما نال جعفر
وأن أمير المؤمنين أغصّني ... من الملك أو ما نال يحيى بن خالد
مغصّهما بالمرهفات البوارد
وأما الزراعة ، فهي لأهل المسكنة والضراعة ، ويجتنبها أهل البراعة ، لأنها تعب وإجهاد ، وصدود عن الجهاد :
إذا زرع القوم النخيل بأرضهم
فزرعك أغلى من نخيل الفضائل
وأما العمارة ، فتارة وتارة ، بين الربح والخسارة ، صادقة غدارة .
يا عامراً لخراب الدار مجتهدا
بالله هل لخراب الدار عمران
ولكن أحسن المكاسب ، معاملة الفتّاح الواهب ، فهو الرزاق ذو القوة المتين ، الذي لا يضيع عمل العاملين ، وإحسان المحسنين .(/54)
فإذا رأيت الناس كنزوا أموالهم في البنوك ، وأحرزوا عقارهم بالصكوك ، وأحاطوا حدائقهم بالشبوك . فاكنز حسناتك في بنك الرحمن ، وأحرز عملك من الشيطان ، وأحط نيتك من البغي والعدوان . فمن صفّى من الحرام ديناره ، وعمر بالتقوى داره ، وأكرم جاره . فقد أحسن معاملة مولاه ، وشكر ربه على ما أولاه .
واعلم أن للتجارة آدابا ، وقد ذكر لها العلماء أسبابا ، وسوف أذكرها باباً بابا .
فمنها الصدق في النطق ، واللطف بالناس والرفق .
ومنها البكور ، والطيور في الوكور ، في سعي مشكور ، لطلب ما قسمه الغفور الشكور
ومنها السلامة من الربا ، فإنه وبا ، ومصاحبة الأمانة ، ومجانبة الخيانة ، وملازمة الصيانة ، وأداء زكاة العرض ، ومساعدة المحتاج بالصدقة والقرض ، يجد ثوابه يوم العرض
وتحبيس الأوقاف ، على الفقراء الضعاف ، وإكرام الأضياف ، والمحافظة على أوقات الصلوات ، وإخلاص النية في الصدقات ، فمن فعل ذلك فهو مأجور مشكور ، وهو من أهل الدثور ، الذين ذهبوا بالأجور .
واعلم أن الشحيح ، عمله قبيح ، والكريم له أجر عظيم ، ولا ساد إلا من جاد ، وبذل معروفه للعباد .
واعلم أن من جعل ماله في صُرَّة ، ومنع بِرّه ، أخذه الموت على غِرّة .
وقد عاصرنا تاجراً كريما ، كان فضله في الناس عميما ، كان في كل باب خيرٍ من المتبرّعين ، وعن الحرام من المتورّعين . فلما مات كان موته على الناس من أعظم الخطوب ، ترك جرحاً في القلوب .
وعرفنا تاجراً بخيلا ، عاش طويلا ، كان من ماله في حياته محروما ، وذهب وترك ماله مذموما ، فلا انتفع بماله في دنياه ، ولا قدم منه لأخراه ، وقد مات غريبا ، ومن ماله سليبا ، حتى تصدق عليه بعض الناس بكفن ، وصارت هذه آية لأهل الفطن .
وقد قال المختار : (( تعس عبد الدينار )) ، لأنه يهدي صاحبه إلى النار .كما أن الدرهم قد يدور بالهم ، والذهب قد يوصل إلى لهب ، والفلوس قد تذهب بالنفوس .
وختم أبو ريال المقال ، بعد أن تحدث عن المال ، فقال :
الله أعطاك فابذل من عطيته
فالمال عاريّة والعمْر رحالُ
المال كالماء إِنْ تحبس سواقِيَه
يأسن وإن يجرِ يعذب منه سلسالُ
مقامَة المتنبي
(( شاعر الدنيا وشاغل الناس ))
لقيت أبا الطيب أحمد بن الحسين ، بعد بضع سنين ، وهو من الشعراء المحسنين .
فكلما سألنا عن الأخبار ، أجاب بالأشعار :
قلنا : من أنت ؟
قال : ... أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صممُ
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ
قلنا : أما ترى السفهاء ، ينالون العظماء .
قال : ... وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كامل
قلنا : نراك تعبت في طلبك للمجد .
قال : ... جزى الله المسير إليك خيرا
وإن ترك المطايا كالمزاد
قلنا : أما ترى أن المجد يتعب ؟
قال : ... لولا المشقة سادَ الناس كلهمو
الجود يفقر والإقدام قتال
قلنا : نرى السلف يتأثرون عند سماع القرآن ونحن لا نتأثر ؟
قال : ... لا تعذل المشتاق في أشواقه
حتى يكون حشاك في أحشائه
قلنا : نرى المنافق أحياناً يبكي ؟
قال : ... إذا اشتبكت دموع في خدود
تبين من بكى ممن تباكى
قلنا : نرى واحداً من الناس يعادل أمة في الفضل ؟
قال : ... وإن تَفُقِ الأنام وأنت منهم
فإن المسك بعض دم الغزال
قلنا : نرى لك حسّاداً كثيرين ؟
قال : ... أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني
فلا أعاتبه صفحاً وإهوانا
قلنا : بعض الناس غلب عليه سوء الظن ؟
قال : ... إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وصدق ما يعتاده من توهم
قلنا : القوميّون العرب يهددون إسرائيل من خمسين سنة ؟
قال : ... وإذا ما خلا الجبان بأرض
طلب الطعن وحده والنزالا
قلنا : نعرف أغنياء ألسنتهم سخيّة وأيديهم بخيلة .
قال : ... جود الرجال من الأيدي وجودهمو
من اللسان فلا كانوا ولا الجودُ
قلنا : من يتأمل الشريعة يملكه حبها .
قال : ... وما كنت ممن يملك الحبُّ قلبَه
ولكن من ينظر عيونك يعشقِ
قلنا : نسمع لأعداء الإسلام شبهات يثيرونها عنه ؟
قال : ... ولله سِرٌّ في علاك وإنما
كلام الورى ضرب من الهذيان
قلنا : ما رأيكم في الدنيا ؟
قال : ... لحا الله ذي الدنيا مناخا لراكب ... فكل بعيد الهم فيها معذب
قلنا : والمال ؟
قال : ... إذا المال لم يرزق خلاصاً من الأذى
فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا
قلنا : بعضهم يستطيع أن يكون أفضل فلا يفعل ؟
قال : ... ولم أر في عيوب الناس عيباً
كنقص القادرين على التمامِ
قلنا : عرفنا من تمنى الموت لسوء حاله .
قال : ... كفا بك داءً أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
قلنا : بعضهم لا يتأثر بالنقد .
قال : ... من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميّت إيلام
قلنا : نحن نردد اسم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو قصرنا في العمل بسنته .
فقال : ... نحن أدرى وقد سألنا بنجد
أطويل طريقنا أم يطولُ
وكثير من السؤال اشتياق
وكثير من ردِّه تعليلُ
قلنا : بُلينا بمثقفين عندهم ألقاب بلا حقيقة .(/55)
قال : ... أُعيذها نظراتٍ منك صادقةً
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
قلنا : أظنه لابد من مجاملة بعض الناس في هذه الحياة .
قال : ... ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوّاً له ما من صداقته بُدُّ
قلنا : كان للعلماء قدر عند الناس واليوم جُهِل قدرهم .
قال : ... أتى الزمانَ بنوه في شبيبته
فسره وأتيناهُ على هرم
قلنا : نرى العظماء لا يبالون بالمصاعب .
قال : ... إذا اعتاد الفتى خوض المنايا
فأهون ما يمر به الوحولُ
قلنا : بعض الناس يستفيد من نكبات الآخرين .
قال : ... كذا قضت الأيام ما بين أهلها
مصائب قوم عند قوم فوائد
قلنا : ما رأيك في الزمان .
قال : ... ربما تحسن الصنيع لياليـ
ـه ولكن تكدر الإحسانا
قلنا : والموت .
قال : ... الموت آتٍ والنفوس نفائس
والمستغر بما لديه الأحمق
قلنا : الذين ينكرون الحقائق .
قال : ... وكيف يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
قلنا : ومن خير جليس ؟
قال : ... أعز مكان في الدنا سرج سابح
وخير جليس في الأنام كتابُ
قلنا : هل الرأي أفضل أو الشجاعة ؟
قال : ... الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أولٌ وهي المحل الثاني
قلنا : ما أحسن وسيلة لقضاء الحاجات ؟
قال : ... من اقتضى بسوى الهندي حاجتَه
أجاب كل سؤالٍ عن هلٍ بلمِ
قلنا : أراك تجامل الناس
قال : ... ولما صار ود الناس خبا
جزيت على ابتسام بابتسامِ
قلنا : وكيف حالك الآن ؟
قال : ... وحيد من الخلان في كل بلدة
إذا عظم المطلوب قل المساعد
قلنا : نراك تسرف في المديح أحيانا .
قال : ... وقد أطال ثنائي طول لابسه
إن الثناء على التِّنبال تنبالُ
قلنا : نراك أحياناً لا تصل لمقصودك .
قال : ... ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفنُ
قلنا : متى تزور أحبابك ؟
قال : ... أزورهم وظلام الليل يشفع لي
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
قلنا : ما رأيك في شعرك ؟
قال : ... وما الدهر إلا من رواةِ قصائدي
إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
قلنا : ما رأيك في اللئام ؟
قال : ... إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
قلنا : ما رأيك في الناس ؟
قال : ... إنا لفي زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسانٌ وإجمالُ
قلنا : نراك تحسن القول ولا تعطي شيئاً .
قال : ... لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحالُ
قلنا : بعضهم يسهر على اللهو وبعضهم على العبادة .
قال : ... ما الذي عنده تدار المنايا
كالذي عنده تدار الشمولُ
قلنا : ما رأيك في أهل العشق ؟
قال : ... تفنى نفوسهمو شوقاً وأدمعهم
في إِثر كل قبيح وجهه حسنُ
قلنا : ماذا تقول في مقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟
قال : ... إذا تغلغل فكر المرء في طرف
من مجده غرقت فيه خواطره
قلنا : لماذا عاداك حسادك ؟
قال : ... أعادى على ما يوجب الحب للفتى
وأهدأ والأفكار فيّ تجولُ
قلنا : يسيء لنا بعض الناس فنستفيد من إساءتهم ؟
قال : ... رب أمر أتاك لا تحمد الفُعَّا
ل فيه وتحمد الأفعالا
قلنا : بعض العداوة نافعة .
قال : ... ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلمُ
قلنا : بماذا عاقبت حسادك ؟
قال : ... إني وإن لُمت حسّادي فما ... أنكر أني عقوبة لهمُ
قلنا : ما أحسن الحلل الملبوسة ؟
قال : ... ورفلت في حلل الثناء وإنما ... عدم الثناء نهاية الإعدامِ
قلنا : ما أحسن ما خلّف الإنسان بعد موته ؟
قال : ... كفل الثناء له برد حياته ... لما انطوى فكأنه منشورُ
قلنا : بعضهم يكثر من الحلف ؟
قال : ... وفي اليمين على ما أنت واعده ... ما دل أنك في الميعاد متهمُ
قلنا : من أحق الناس بالمجد ؟
قال : ... أحقهمو بالمجد من ضرب الطلى
وبالأمر من هانت عليه الشدائد
قلنا : ما الأمن والخوف ؟
قال : ... وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى
وما الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا
قلنا : نحن بين خوف ورجاء .
قال : ... وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه
وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي
قلنا : بلينا والدهر ما بَلي .
قال : ... إذا ما لبست الدهر مستمتعاً به
تخرقت والملبوس لم يتخرقِ
قلنا : نحن نحاول كتم مشاعرنا فما نستطيع .
قال : ... بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا
وبكاك إذ لم يجر دمعك أو جرى
قلنا : بعضهم يضع من علماء الإسلام .
قال : ... من كان فوق محل الشمس موضعه
فليس يرفعه شيء ولا يضعُ
قلنا : ما وصف من أراد العلياء ؟
قال : ... كثير سهاد العين من غير علة
يؤرقه فيما يشرفه الفكر
قلنا : تزداد همتنا عند قراءة سير السلف ؟
قال : ... فلا تسمعاه ذا المديح فإنه
شجاع متى يذكر له الطعن يشتقِ
قلنا : أظنه لا يُهرب من الموت ؟
قال : ... نعد المشرفية والعوالي
وتقتلنا المنون بلا قتالِ
قلنا : بعضهم لا يرضى إلا بالمحل العالي .
قال : ... على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
قلنا : ما رأيك في الحمَّى ؟
قال : ... وزائرتي كأن بها حياءً
فليس تزور إلا في الظلام
قلنا : والفراق ؟(/56)
قال : ... لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
قلنا : صف لنا نفسك ؟
قال : ... خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا ... لفارقت شيبي مُوجَع القلب باكيا
قلنا : أما ترى فصاحة بعض الناس ؟
قال : ... إذا سمع الناس ألفاظه
خلقن له في القلوب الحسد
قلنا : ما أحسن صفات المتقي لربه ؟
قال : ... عليك منك إذا أُخليتَ مرتقبٌ
لم تأت في السر ما لم تأت إعلانا
قلنا : بعضهم يخشع ظاهره فحسب ؟
قال : ... وإطراق طرف العين ليس بنافع
إذا كان طرف القلب ليس بمطرقِ
قلنا : ما أجمل كلام ؟
قال : ... فهو المُشيَّع بالمسامع إن مضى
وهو المضاعف حسنه إن كُرّرا
قلنا : هل للموت من طبيب ؟
قال : ... وقد فارق الناس الأحبة قبلنا
وأعيا دواء الموت كل طبيب
قلنا : الناس اختلفوا في معاني أبياتك ؟
قال : ... أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الناس جرّاها ويختصمُ
قلنا : أُدميت قدما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عاد من الطائف فما تعليقكم ؟
قال : ... إن كان سركمو ما قال حاسدنا
فما لجرح إذا أرضاكمو ألم
قلنا : أما ترى سب المنافقين لأهل الدين ؟
قال : ... ما أبعد العيب والنقصان من شرفي
أنا الثريا وذان الشيب والهرمُ
قلنا : نحن نطمع في لقاء رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة .
قال : ... وما صبابة مشتاق على أمل
من اللقاء كمشتاق بلا أمل
قلنا : عندنا شريعة فهل نضيف إليها تجارب الآخرين .
قال : ... خذ ما رأيت ودع شيئاً سمعت به
في طلعة البدر ما يغنيك عن زحلِ
قلنا : ماذا تقول لو طلب منك وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟
قال : ... الشمس من حساده والنصر من
أين الثلاثة من ثلاث خلاله
مضت الدهور وما أتين بمثله ... قرنائه والسيف من أسمائه
من حسنه وإبائه ومضائه
ولقد أتى وعجزن عن نظرائه
قلنا : هل لحسد الحاسد من دواء ؟
قال : ... سوى وجع الحساد داو فإنه
ولا تطمعَنْ من حاسد في مودة ... إذا حل في قلب فليس يحول
وإن كنت تبديها له وتنيل
قلنا : لمن يكتب النصر ؟
قال : ... لمن هوَّن الدنيا على النفس ساعة ... وللبيض في هام الكماة صليل
قلنا : لو عدت شيخ الإسلام وهو مريض فماذا تقول ؟ قال : كنت قلت :
المجد عوفي إذ عوفيت والكرم
صَحَّت بصحتك الغارات وابتهجت
وراجع الشمس نور كان فارقها
وما أخصك في برء بتهنئة ... وزال عنك إلى أعدائك الألم
بها المكارم وانهلت بها الديم
كأنما فقده في جسمها سقم
إذا سلمت فكل الناس قد سلموا
قلنا : بعض الناس يتقدم إلى المعالي بشجاعة ؟
قال : ... هو الجد حتى تفضل العين أختها ... وحتى يكون اليوم لليوم سيّدا
قلنا : كيف نعاقب الأحرار إذا أخطؤوا ؟
قال : ... وما قتل الأحرار كالعفو عنهمو ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
قلنا : هل تصلح الشدة مكان اللين والعكس ؟ قال :
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
قلنا : ماذا تقول لحبيبك لو مرض .
قال : ... وإذا صح فالزمان صحيح ... وإذا اعتل فالزمان عليل
قلنا : أما تخشى أن يشوه الإسلام من قبل بنيه .
قال : ... وكيف تعلّك الدنيا بشيء ... وأنت بعلّة الدنيا طبيب
قلنا : ألا ترى كيف تقلب بنا الزمان .
قال : ... وصرنا نرى أن المتارك محسن ... وأنّ خليلاً لا يضر وصولُ
قلنا : نشكو قلة الإنصاف من أهل زماننا .
قال : ... ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة
بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
قلنا : أحياناً نشكو ما بنا إلى الأصحاب .
قال : ... ولا تَشَكَّ إلى خلقٍ فتشمته
شكوى الجريح إلى الغربان والرخم
قلنا : كيف نعامل الناس ؟
قال : ... وكن على حذر للناس تستره
غاض الوفاء فما تلقاه في عدة ... ولا يغرك منهم ثغر مبتسمِ
وأعوز الصدق في الأخبار والقسمِ
قلنا : هل يشعر الناقصون بنقصهم ؟
قال : ... كدعواك كلٌّ يدّعي صحة العقل
ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهلِ
قلنا : معنا علماء بين أظهرنا ونرى الناس لا يستفيدون منهم .
قال : ... وليس الذي يتبّع الوبل رائداً ... كمن جاءه في داره رائد الوبل
قلنا : خلاصة تجربتك مع الناس ما هي ؟
قال : ... ومن عرف الأيام معرفتي بها
فليس بمرحوم إذا ظفروا به ... وبالناس روى رمحه غير ظالم
ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
قلنا : هل تحب الهدية ممن تحب ؟
قال : ... وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوىً يبغي عليه ثوابا
قلنا : هل من رسالة ؟
قال : ... يا من يعز علينا أن نفارقهم
وجداننا كل شيء بعدكم عدمُ
قلنا : وداعاً .
قال : ... رحلت فكم باك بأجفان شادنٍ
عليّ وكم باك بأجفان ضيغم
قلنا : لا تبك على فراقنا .
قال : ... قد كنت أشفق من دمعي على بصري
فاليوم كل عزيز بعدكم هانا
****************************
المقامَة الشِّفائية
{ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ }
(( طهور إن شاء الله ))
مرض الحبيب فزرته
وأتى الحبيب يزورني ... فمرضت من خوفي عليه
فشفيت من نظري إليه(/57)
أيها المريض ، على السرير العريض ، طهور ما أصابك ، وكفارة ما نابك ، والله قد أجابك . مع كل ونّة ، نسيم من الجنة ، ومع كل رنة ، بشرى من السنة .
بشر المريض بعافية ، أو رحمة وافية ، أو كفّارة كافية ، أو نفحة من الله شافية :
تموت النفوس بأوصابها
ولم يدر عوادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي
أذاها إلى غير أحبابها
أيها المرضى لا تكونوا يائسين ، أو أَسِفين ، وردّدوا : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } .
بقي أيوب ، في البلايا والخطوب ، ماله مسلوب ، وجسمه منكوب ، فنادى علام الغيوب ، { أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } ، فعاد من السالمين الغانمين .
بشر من أصابه الوصب والنصب ، بقصور في الجنة من قصب ، إذا صبر واحتسب.
لا تقل : آه ، ولكن قل : يا الله .
كيف أشكو إلى طبيبي ما بي
والذي قد أصابني من طبيبي
إذا أصابك جرح ، فلا تقل أح ، لأن الصبر يقول هذا ما يصح ، ولا يستحق من شكا المدح . سبحان من أحبك فابتلاك ، ليسمع نجواك ، وليصعد إليه بكاك ، وترتفع إليه شكواك .
نحن ما زلنا على العهد ولو
كلما ذقنا من الهجر لظىً ... قطعت منا على العهد رؤوس
أشرقت في حب مولانا النفوس
هنيئاً لك أنت على سرير التطهير ، وعلى كرسي التكفير ، ترعاك عناية اللطيف الخبير .
الرحمة عليك تهبط ، والخطايا تسقط ، أدخلك الكير ، لتخرج ذهبا ، إذا سلب ما أعطى فطالما وهبا ، واعلم أنه يدخر لك أجراً عجيبا ، وثواباً طيبا .
ما دام أنك منكسر القلب ، ملقىً على جنب ، فأنت قريب من الرب ، لا يغرنك المنافق فهو عير على شعير ، وبعير على شفا بير ، تأتي ضربته قاصدة ، ونفسه جامدة ، وروحه جاحدة ، فهو كشجرة الأَرْزة ، منتصبة ، متصلبة ، وفي لحظة وإذا هي متقلبة .
أما أنت يا مؤمن فأنت كالخامة مع ريح الشمال ، مرة من يمين ومرة من شمال ، لأنك شجرة جمال وجلال .
والله لو أحرقوني في الهوى حمما
منكم دوائي ودائي صرت عبدكمو ... ما اخترت غيركمو في الكون إنسانا
أرى بلاءكمو في الجسم إحسانا
يا أيها المسلم المبتلى ، حظك اعتلى ، وثمنك غلا ، وغبار المعصية عنك انجلى .
والله إنك أحب إلى ربك من المنافق السمين ، والفاجر البطين ، والعاصي الثخين ، كما أخبر الصادق الأمين .
المنافق كالخروف ، يسمن للضيوف ، ثم يذبح بسكين الحتوف .
والمؤمن جواد يضمّر ، ليقطع السير المقدّر ، ويصل إلى المحل الموقّر .
ألا بلغ الله الحمى من يريده
وجازاك ربي أيها الداء نعمة ... وبلّغ أطراف الحمى من يريدها
فقد حرّك الأشواق منك بريدها
دع الشحم يذوب ، وتذهب الذنوب ، وتخشع النفس وتتوب ، ويعود القلب عودة حميدة ، وترجع الروح رجعة مجيدة .
يا أهل الأسِرّة البيضاء ، هنيئاً لكم هذا البلاء ، وأبشروا بالشفاء . أو بمغفرة تغسل الأخطاء ، ورحمة أعظم من الدواء .
المرض يذهب الكبر والبطر ، والعجب والأشر ، لأن الرزايا إلى الجنة مطايا ، والبلايا من الرحمن عطايا ، وإلى رضوانه مطايا ، ابتلاك بالأسقام ، ليغسل عنك الآثام .
فافرح لأنه رشحك للعبوديّة ، لأن البلاء طريقة محمديّة ، يبتلى الناس الأمثل فالأمثل ، والأفضل فالأفضل ، والأكمل فالأكمل .
إذا أحب الله قوماً ابتلاهم ، وطهّرهم وجلاّهم
إنْ كان سركمو ما قال حاسدنا
فما لجرح إذا أرضاكمو ألمُ
كان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يوعك كما يوعك رجلان ، لأنه حبيب للرحمن ، كامل الإيمان ، تام الإحسان .
مرض عمران بن الحصين ، الصحابي الأمين ، ثلاثين عاما ، حمل فيها أسقاما ، وذاق آلاما ، فقال له أصحابه ، وطلب منه أحبابه ، أن يدعو ربَّه ليكشف كربه ، قال : كلا أحبه إليّ أحبه إلى ربي ، ولعله يغفر ذنبي .
وكانوا يفرحون بالبلية ، ويعدونها عطية ، ونفوسهم بمواقع القدر رضية ، ويرون المحنة منحة ، والترحة فرحة ، لأنهم تعرفوا على الخالق ، فعرفهم الحقائق .
لعلَّ عتبك محمود عواقبه
فربما صحت الأجسام بالعلل
اصبر على مرارة دواء المصيبة ، لترى أحوالاً عجيبة ، فعافيتك قريبة ، والرِّضا بمُرِّ القضا ، ولو على جمر الغضى ، وحرّ اللّظى .
اسجد على الجمر في مرضاة مولاكا
إياك أن تشتكي في الحبِّ إيَّاكا
بوّابةُ البلاء ، لا يدخلها إلاّ الأولياء ، ويرد عنها الأدعياء ، واسأل عن ذلك تاريخ الأنبياء . البلاء أعظم لأجرك ، إذا قوي أيوب صبرك ، تريد الجنة بلا ثمن ، وأنت ما مرضت من زمن ، وفي غفلة العافية مرتهن .
المرض صيحة تفتح الأسماع والأبصار ، وتذكر الأبرار ، وتنفض عن الصالحين الغبار ليكونوا من الأطهار الأخيار .
إذا ابتلى الله العبد بالسقم ، وسلّط عليه الألم ، ثم شافاه مَنَّ عليه بلحم ودم ، وما شاء من نعم ، وإن توفاه غفر له ما تأخر وما تقدم ، من الذنب واللمم .
إذا مرضت ذهب الظمأ بالغفران ، وابتلت العروق بالرضوان ، وثبت الأجر عند الديّان ، وهذّب القلب من الكبر والطغيان .(/58)
كلا إن الإنسان ليطغى ، أن رآه استغنى ، وإلى زينة الدنيا يصغى ، فعلم الله أن تهذيبه في تعذيبه ، وتقريبه في تأديبه . كلما ضرب العبد سوطا ، عاد إلى الله شوطا :
يا نائماً فوق السرير ممرضاً
مرت على آلامه أعوامُ
أبشر فإن الله زادك رفعة
في كل مكروه أتى إكرامُ
هذا المرض حماك من فعلة شنعاء ، ووقاك من داهية دهياء ، وكَفّر عنك آثار الفحشاء ، ورفرفت به روحك من الأرض إلى السماء .
بالمرض يجول القلب في سماء التوحيد ، وتطير الروح في فضاء التجريد ، ويغسل البدن بماء الإنابة ، ويفتح الله للمريض بابه ، ويسارع إليه بالإجابة .
عند المريض رسالة من ربه ، كتبت حروفها في قلبه ، فحواها : أحببناك فأدبناك ، وبالمرض قربناك ، وبالبلاء هذبناك .
ويقبح من سواك الفعل عندي
وتفعله فيحسن منك ذاكا
إبل الهدي تتقدم شوقاً للرسول - صلى الله عليه وسلم - وبيده الحربة ، تنتظر منه الضربة ، لتذوق حلاوة الألم ، من كف سيد الأمم ، وأنت تتبرم بالبلاء ، وهو عتاب من رب الأرض والسماء :
وقلتم معاذ الله أن يصرف الهوى
لغيركمو مهما حملتم لنا عتبا
فها نحن عاتبناكمو فإذا الهوى
يخون وصرتم بعد هذا الهوى غضبى
أيها المريض : أسأل الله العظيم ، رب العرش العظيم ، أن يشفيك .
****************************
المقامَة الرمضانيّة
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ }
(( ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله ))
مرحباً برمضان ، شهر التوبة والرضوان ، شهر الصلاح والإيمان ، شهر الصدقة والإحسان ، ومغفرة الرحمن ، وتزين الجنان ، وتصفيد الشيطان .
مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيام
فاغفر اللهم ربي ذنبنا ... يا حبيباً زارنا في كل عام
ثم زدنا من عطاياك الجسام
هذا شهر العتق والصدق والرفق ، رقاب تعتق ، ونفوس ترفق ، وأياد تتصدق ، باب الجود في رمضان مفتوح ، والرحمة تغدو وتروح ، والفوز ممنوح ، فيه ترتاح الروح ، لأنه شهر الفتوح ، هنيئاً لمن صامه ، وترك فيه شرابه وطعامَه ، وبشرى لمن قامَه ، واتبع إمامَه . القلب يصوم في رمضان ، عن اعتقاد العصيان ، وإضمار العدوان ، وإسرار الطغيان .
والعين تصوم عن النظر الحرام ، فتغض خوفاً من الملك العلام ، فلا يقع بصرها على الآثام . والأذن تصوم عن الخنا ، واستماع الغنا ، فتنصت للذكر الحكيم ، والكلام الكريم . واللسان يصوم عن الفحشاء ، والكلمة الشنعاء ، والجمل الفظيعة ، والمفردات الخليعة ، امتثالاً للشريعة . واليد تصوم عن أذية العباد ، ومزاولة الفساد ، والظلم والعناد ، والإفساد في البلاد. والرِجل تصوم عن المشي إلى المحرّم ، فلا تسير إلى إثم ولا تتقدّم .
والله ما جئتكمو زائراً
ولا انثنت رجلي عن بابكم ... إلا وجدت الأَرض تُطوى لي
إلا تعثرت بأذيالي
أما آن للعصاة أن ينغمسوا في نهر الصيام ، ليطهروا تلك الأجسام ، من الآثام . ويغسلوا ما علق بالقلوب من الحرام .
أما آن للمعرضين أن يدخلوا من باب الصائمين ، على رب العالمين ، ليجدوا الرضوان في مقام أمين .
إن رمضان فرصة العمر السانحة ، وموسم البضاعة الرابحة ، والكفة الراجحة ، يوم تعظم الحسنات ، وتكفّر السيئات ، وتُمحى الخطيئات .
إن ثياب العصيان آن لها أن تخلع في رمضان ، ليلبس الله العبد ثياب الرضوان . وليجود عليه بتوبة تمحو ما كان من الذنب والبهتان .
إن مضى بيننا وبينك عتب
فالقلوب التي تركت كما هي ... حين شطت عنا وعنك الديارُ
والدموع التي عهدت غزارُ
في رمضان كانت فتوحاتنا ، وإشراقاتنا ، وغزواتنا ، وانتصاراتنا .
في رمضان نزل ذكرنا الحكيم ، على رسولنا الكريم ، وهو سر مجدنا العظيم .
في رمضان التقى الجمعان ، جمع الرحمن وجمع الشيطان ، في بدر الكبرى يوم رجح ميزان الإيمان ، ونسف الطغيان ، وانهزم الخسران . في رمضان فتحت مكة بالإسلام ، وتهاوت الأصنام ، وارتفعت الأعلام ، وعلم الحلال والحرام .
في رمضان كانت حطين العظيمة ، يوم انتصرت رايات صلاح الدين الكريمة ، وارتفعت الملة القويمة ، وصارت راية الصليب يتيمة .
صيام النفس في رمضان عزوف عن الانحراف ، والانصراف والإسراف والاقتراف ، فالنفس تعلن الرجوع ، والقلب يحمل الخشوع ، والبدن يعلوه الخضوع ، والعين تجود بالدموع .
لشهر رمضان وقار فلا سباب ، ولا اغتياب ، ولا نميمة ، ولا شتيمة ، ولا بذاء ، ولا فحشاء ، وإنما أذكار واستغفار ، واستسلام للقهار ، فالمسلمون في رمضان كما قيل :
هينون لينون أيسار بنو يُسْرٍ
لا ينطقون عن الفحشاء إن نطقوا ... أهل العبادة حفاظون للجارِ
ولا يمارون إن ماروا بإكثارِ
مردة الشياطين في رمضان تصفد بالقيود ، فلا تقتحم الحدود ، ولا تخالط النفوس في ذلك الزمن المعدود .
إذا سابّك أحد في رمضان فقل إني صائم ، فليس عندي وقت للخصام ، وما عندي زمن لسيء الكلام ، لأن النفس خطمت عن الخطيئة بخطام ، وزمّت عن المعصية بزمام .(/59)
إذا قاتلك أحد في رمضان فقل إني صائم فلن أحمل السلاح ، لأنني في موسم الصلاح ، وفي ميدان الفلاح ، وفي محراب حي على الفلاح .
اغسل بنهر الدمع آثار الهوى ... تنسى الذي قد مر من أحزانِ
كان السلف إذا دخل رمضان ، أكثروا قراءة القرآن ، ولزموا الذكر كل آن ، ورقعوا ثوب التوبة بالغفران ، لأنه طالما تمزق بيد العصيان .
هذا الشهر هو غيث القلوب ، بعد جدب الذنوب ، وسلوة الأرواح بعد فزع الخطوب .
رمضان يذكرك بالجائعين ، ويخبرك بأن هناك بائسين ، وأن في العالمين مساكين ، لتكون عوناً لإخوانك المسلمين .
فرحة لك عند الإفطار ، لأن الهم ذهب وطار ، وأصبحت على مائدة الغفار ، بعد أن أحسنت في النهار .
وفرحة لك عند لقاء ربك ، إذا غفر ذنبك ، وأرضى قلبك .
بعض السلف في رمضان لزم المسجد ، يتلو ويتعبد ، ويسبح ويتهجد .
وبعضهم تصدق في رمضان بمثل ديته ثلاث مرات ، لأنه يعلم أن الحسنات ، يذهبن السيئات . وبعضهم حبس لسانه عن كل منكر ، وأعملها في الذكر ، وأشغلها بالشكر .
هذا شهر الآيات البينات ، وزمن العظات ، ووقت الصدقات ، وليس لقراءة المجلات ، والمساجلات ، وقتل الأوقات ، والتعرض للحرمات .
سلام على الصائمين إذا جلسوا في الأسحار ، يرددون الاستغفار ، ويزجون الدمع المدرار . وسلام عليهم إذا طلع الفجر ، وطمعوا في الأجر ، تراهم في صلاتهم خاشعين ، ولمولاهم خاضعين .
وسلام عليهم ساعة الإفطار ، بعد ذلك التسيار ، وقد جلسوا على مائدة الملك الغفار ، يطلبون الأجر على عمل النهار .
سبحان من جاعت في طاعته البطون ، وبكت من خشيته العيون ، وسهرت لمرضاته الجفون ، وشفيت بقربه الظنون .
ما أحسن الجوع في سبيله ، ما أجمل السهر مع قيلة ، ما أبرك العمل بتنزيله ، ما أروع حفظ جميلة .
لها أحاديث من ذكراك تشغلها
لها بوجهك نور تستضيء به
إذا تشكت كلال السير أسعفها ... عن الطعام وتلهيها عن الزاد
ومن حديثك في أعقابها حادي
شوق القدوم فتحيا عند ميعاد
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، هداية للبشرية ، وصلاحاً للإنسانية ، ونهاية للوثنية . القرآن حيث أصلح الله به القلوب ، وهدى به الشعوب ، فعمت بركته الأقطار ودخل نوره كل دار .
سمعتك يا قرآن قد جئت بالبشرى
سريت تهز الكون سبحان الذي أسرى
***************************
المقامَة الأَخباريّة
{ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ }
بينا ترى الإنسان فيها مخبراً
طبعت على كدر وأنت تريدها ... ألفيته خبراً من الأخبارِ
صفواً من الأقذار والأكدارِ
هذه أخبار الموحدين ، من أنباء الأنبياء والمرسلين ، وعباد الله الصالحين، من إذاعة إياك نعبد وإياك نستعين .
إليكم موجز الأنباء :
إبراهيم الخليل ينجو من النار ، بقدرة العزيز الجبار .
يوسف يلتقي بأبيه يعقوب بعد غياب طويل ، وصبر جميل .
موسى الكليم يضرب البحر بالعصى فينفلق ، وينجو من الغرق .
محمد - صلى الله عليه وسلم - يعلن التوحيد ، الذي هو حق الله على العبيد .
في بدر : هزيمة ساحقة ماحقة للكفار ، وانتصار المهاجرين والأنصار .
انتصار المسلمين في القادسيّة ، على الجيوش الفارسيّة .
عمر بن الخطاب ، يقع شهيداً في المحراب .
عثمان بن عفان ، يقتل وهو يقرأ القرآن .
علي بن أبي طالب يستشهد في المسجد ، وهو يتعبد .
خالد بن الوليد ، وكتائب التوحيد ، تهزم جيش الروم العنيد .
كان هذا هو الموجز وإليكم تفصيل الأنباء :
وضع إبراهيم الخليل في المنجنيق ، ورمي به إلى الحريق ، فنادى الخليل ، حسبنا الله ونعم الوكيل ، فقال للنار كوني برداً وسلاما ، فنجا إبراهيم وصار للناس إماما ،لأن ماء الإيمان ، يطفئ لهيب النيران ، ولما رأى إبراهيم النار المحماة ، نادى لسان الحال يا الله ، فتولاه مولاه ، وكفاه وحماه ، وأنقذه ونجاه ، وهذا يدلك على أن حسبنا الله ونعم الوكيل ، أقوى من كل خطب جليل ، وكرب ثقيل ، وخطر وبيل ، لأن من معه الله فمعه القوة التي لا ترام ، والعزة التي لا تضام ، والعروة التي ليس لها انفصام ، فأخلص له الطلب ، وقم بما يجب ، ترى العجب .
يوسف يلقى أباه يعقوب ، بمصر بعد أن كاده إخوانه وألقوه في غيابة الجب ، وبيع في مصر وحبس بضع سنين فشرد عن الأهل وأبعد عن الوالد ، وأصبح في حكم المفقود الفاقد ، والمشرد الشارد ، في بلاد غربة ، وحالة كربة ، وتعرضت له امرأة ذات منصب وجمال ، فقال إني أخاف الله ذا الجلال ، فنصره الله النصر العزيز ، وسخر له العزيز ، وأصبح على خزائن مصر ، إمام العصر ، وسلطان القصر ، وجمع الله له أبويه لديه ، وسلموا عليه ، وجمع الشمل ، وظهر الفضل ، وتمت الأفراح ، وزالت الأتراح ، جزاء الصبر ، وطاعة الأمر ، وكانت العاقبة للتقوى ، لأن حزب الله هو الأقوى ، فعفا يوسف عما بدر من إخوانه ، فكان مضرب المثل في الحلم لأهل زمانه ، ونسي ما مضى ، لأنه ذهب وانقضى ، فطاب الاجتماع بعد الانقطاع ، وحصل الوئام بعد الانفصام ، وتمت النعمة وزالت النقمة .(/60)
خرج موسى وفي قلبه إياك نعبد وإياك نستعين ، فلما صار وراءه فرعون اللعين ، نادى موسى : كلا إن معي ربي سيهدين ، فأنجى الله موسى ومن معه من المؤمنين ، وعفّر أنف فرعون في الطين ، لأن فرعون قال : ما علمت لكم من إله غيري وهو كذاب ، فأراه الله أن أنف الدعي يمرغ في التراب ، وكان المخذول يقول: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي وما أجراه ، يفتخر بنهر ما أجراه ، فأجرى الله الماء من على رأسه وأخزاه .
بعث في مكة رسول الهداية ، ومبعوث العناية ، فكان التوحيد عنده البداية ، هتف به في النائمين ، وأعلنه في العالمين ، فلا إله إلا الله أي نبأٍ عبر الأقطار ، وأي خبر شق الأمصار ، سابقت الفجر كتائبه ، وأخجلت الغيث سحائبة ، أعاد الفطرة إلى سيرتها على التوحيد ، وأحيا النفوس من رقدتها الكبرى إلى نهار الدين الجديد ، ففتح الله به الأسماع والأبصار ، وبشر بالجنة وحذر من النار .
وقعت غزوة بدر ، الفاصلة بين الإسلام والكفر ، حيث الباطل سُحق ، والزور مُحق في بدر نزل جبريل ، على الرسول الجليل ، فانهار جيش الكفر الذليل . الملائكة مع الصحابة تقاتل ، وفي صف المؤمنين تنازل ، لقد اشتركت السماء مع الأرض في القتال ، فكان النصر من نصيب الحق ولا يزال ، في بدر صنعت ملاحم الفداء ، ونسجت بردة الوفاء ، { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ }
قتل عمر بن الخطاب ، في المحراب ، طعنه أبو لؤلؤة النجس المجوسي فكان قتل عمر من أعظم المصائب ، ومن أفظع النوائب ، لأنه كان حصناً للسنة ، وباباً دون الفتنة ، نشر العدل ، ومحا الجهل . وبث العلم ، ودوّن الدواوين ، وكفل المساكين ، وجنّد الأجناد ، وحمى به الله البلاد ، وأسعد به العباد ، وبعدما قتل ، وقع في الأمة خلل ، وماجت الفتن ، وهاجت المحن . فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولحكمه سامعون مطيعون
قتل عثمان ، وهو يتلو القرآن ، فوقع دمه على المصحف الكريم ، وذهب هذا الإمام إلى جوار ربٍ رحيم ، بعدما جمع القرآن من الصدور إلى السطور ، وسابق إلى كل عمل مبرور . وكان أحد الأسخياء المعدودين ، والأجواد المحمودين ، قانتاً آناء الليل ، بدموع كالسيل ، محسناً إلى الأيتام ، فهو حسنة الأيام ، لا يمل من تلاوة الكتاب ، ولا يفتر من ذكر العذاب .
وقع علي بن أبي طالب شهيدا ، وسار إلى الله شهيدا ، بعدما نصر الملة ، وأدخل على الكفر الذلة ، وقمع الخوارج المارقين ، والمبتدعة المفارقين ، وكان بطل المشاهد ، وصاحب المساجد ، مع زهد معروف ، وعلم موصوف ، وفصاحة بارعة ، وعين دامعة ، وهمة عالية ، وأخلاق غالية ، وهو صاحب المواقف المحمودة ، والمآثر المشهودة
هزم سيف الله المسلول ، جيش الروم المخذول ، ورده على عقبيه مكسورا ، وطرده عن بلاد الإسلام محسورا ، بعد معركة دامية ، ووقعة حامية ، قتل فيها شهداء ، وحضرها علماء ، ثم أنزل الله نصره على أبي سليمان ، وجند الرحمن ، بعد مصاولة ومجاولة فالسيوف تتصبب دما ، والأرض تثور حمما ، والجماجم تتساقط على وقع الرماح ، والأبطال تصرع مع خروج الأرواح ، فالحمد لله على نصره ، ونفاذ أمره ، وعلو قدره .
استمعتم إلى نشرة الأخبار ، أيها الأخيار ، وإليكم حالة الطقس اليوم وغداً وأمس . القلب ملبد بالغيوم ، من كثرة الهموم ، وتراكم سحب الغموم ، رياح الذنوب تثير الأتربة ، على من له في الخطايا تجربة ، موعد شروق شمس التوحيد ، عند عودة العبيد ، إلى الولي الحميد ، يتوقع نزول الأمطار ، وذهاب الأخطار ، عند الإكثار من الاستغفار ، يخشى من نزول صواعق ، على كل كافر وخائن ومارق .
نستودعكم الله ولنا لقاء ، مع تحيات وكالة الأنباء .
************************
مقامَة الحبّ
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ }
ومن عجب أني أحن إليهمو
وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... فأسأل عنهم من لقيت وهم معي
ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
الحب على المحبين فرض ، وبه قامت السموات والأرض ، من لم يدخل جنة الحب ، لن ينال القرب ، بالحب عُبد الرب ، وتُرك الذنب ، وهان الخطب ، واحتمل الكرب .
عقل بلا حب لا يفكر ، وعين بلا حب لا تبصر ، وسماء بلا حب لا تمطر ، وروض بلا حب لا يزهر ، وسفينة بلا حب لا تبحر .
بالحب تتآلف المجرة ، وبالحب تدوم المسرة ، بالحب ترتسم على الثغر البسمة ، وتنطلق من الفجر النسمة ، وتشدو الطيور بالنغمة ، أرض بلا حب صحراء ، وحديقة بلا حب جرداء ، ومقلة بلا حب عمياء ، وأذن بلا حب صماء .
شكا ألم الفراق الناسُ قبلي
وأمّا مثل ما ضمت ضلوعي ... وروع بالجوى حي وميْتُ
فإني ما سمعت ولا رأيتُ
بالحبِّ تُرضعُ الأم وليدَها ، وتروم الناقة وحيدَها . بالحب يقع الوفاق ، والضم والعناق ، وبالحب يعم السلام ، والمودّة والوئام .(/61)
الحب هو بسِاط القربى بين الأحباب ، وهو سياج المودة بين الأصحاب . بالحب يفهم الطلاب كلام المعلم ، وبالحب يسير الجيش وراء القائد ويتقدم ، وبالحب تذعن الرعيّة ، ويعمل بالأحكام الشرعية ، تصان الحرمات ، وتقدس القربات .
بيت لا يقوم على الحب مهدوم ، جيش لا يحمل الحب مهزوم . لكن أعظم الحب وأجلّه ، ما جاءت به الملّة ، أجمل كلمة في الحب قول الرب : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } . فلا تطلب حباً دونه .
ليس حباً قطعة معزوفة
ليس حباً غزلٌ يمطرنا
أو خطابٌ بارعٌ نمقه
ما قفا نبكي هو الحب ولا
ما درى مجنون ليلى سره
إنما الحب دم تنزفه
أو دموع ثرة تبعثها
أو سجودٌ خاشع ترسمه ... من يراع الشاعر المنتحب
في سطور الكاتب الحر الأبي
والهٌ يروي صنوف العتب
ظبية البان وذكرى زينب
عبثٌ ذاك هيام الصخب
في سبيل الله خير القرب
سَحراً أصدق من قلب الصبي
فوق خد الطين فاسجد واقرب
أحب امرؤ القيس فتاة ، وأحب أبو جهل العزى ومناة ، وأحب قارون الذهب ، وأحب الرئاسة أبو لهب ، فأفلسوا جميعا ، لأنهم أخطؤوا خطأً شنيعا .
أما حب بلال بن رباح ، فهو البر والصلاح . سحب على الرمضاء ، فنادى رب الأرض والسماء ، انبعث من قلب المحب أَحدٌ أَحد ، لأن في القلب إيماناً كجبل أُحد .
إذا كان حب الهائمين من الورى
فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي ... بليلى وسلمى يسلب اللب والعقلا
سرى قلبُه شوقاً إلى العالم الأعلى
مهر الجنة عند بلال السنة ، ركعتان ودمعتان . الحب لا يعترف بالألوان ولا بالأوطان ، والدليل بلال وسلمان ، بلال أبيض القلب أسود البشرة ، فصار بالحب مع البررة ، وأبو لهب بالبغض ليس من أهل البيت ، وسلمان نال بالحب جائزة سلمان منا أهل البيت .
دعني من حب مجنون ليلى ، ومحبوب سلمى ، ومعشوق عفرا ، فلطالما لطخت بأشعارهم الطروس ، وضاقت بأخبارهم النفوس ، وخدعت بقصائدهم الأجيال ، واتبعهم الضلال .
حدثني عن أنباء الأنبياء ، وهم من أجل حب الرب يهجرون الآباء والأبناء .
فإبراهيم يتبرأ من أبيه ، ونوح من بنيه ، وامرأة فرعون تلغي بنفسها عقد النكاح ، لأن البقاء مع الكافر سفاح .
هذا هو عالم الحب بتضحياته ، بأفراحه وأتراحه ، وهو حب يصلك برضوان مَنْ رضاه مطلب ، وعفوه مكسب .
والله ما نظرت عيني لغيركمو
كل الذين رووا في الحب ملحمة ... يا واهب الحب والأشواق والمهج
في آخر الصف أو في أسفل الدرج
امرؤ القيس يصيح في نجد ، وقد غلبه الوجد ، قفا نبكِ فإذا بكاؤه على الأطلال ، وإذا دموعه تسفح على الرمال ، إنه هيام العقل بلا وازع ، وحيرة الإنسان بلا رادع .
ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - يذوق الويلات ، ويعيش النكبات ، ثم ينادي مولاه في ومناجاة إخبات، ويقول : لك العتبى حتى ترضى .
لا تضع عمري بشعر طرفة بن العبد ، وهو يشكو الحب والصد ، حب ماذا ، يا هذا ، أما علمت أن أحد الأنصار ، كان يقرأ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } بتكرار ، فسئل عن المقصود ، قال : لأن فيها مدح المعبود ، وأنا أحب تلك البنود ، فدخل الجنة بالمحبة ، لأن الله أحبه .
دعني أمسح فوق الروض أجفاني
نسيت في حبكم أهلي ومنتجعي ... فالنور موقده من بعض أشجاني
فحبكم عن جميع الناس ألهاني
شغلونا بالروايات الشرقيّة ، والمسرحيّة الغربيّة ، ويل هذا الجيل ويله ، سهر مع غراميات ألف ليلة وليله ، وفي الذكر المنزل ، والحديث المبجل ، قصص الحب الصادقة ، والمعاني الناطقة ، ما يخلب اللب ، ويستميل القلب .
الحب ليس رواية شرقية
الحب مبدأ دعوة قدسية ... بأريجها يتزوّج الأبطالُ
فيها من النور العظيم جلالُ
أخرجونا يا قوم من ظلمات عشق الأعراب ، والهيام في الأهداب ، فكل ما فوق التراب تراب ، وأدخلونا في عالم الحب الراقي ، والدواء الواقي ، الذي تطير له الأرواح، وتهتز له الأشباح ، في ملكوت الخلود ، وعلى بساط رب الوجود .
دع حب هؤلاء فإنهم مرضى ، وتعال إلى الواحد وناد : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً } .
في حالة البعد نفسي كنت أرسلها
وهذه دولة الأشباح قد حضرت ... تقبل الأرض عنكم وهي رائدتي
فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
حمزة سيد الشهداء يمزق الحب تمزيقا ، وأنتم تهيمون بروايات غراميّة لفقت تلفيقا ، نقول حدثونا عن الحب عند ابن عباس ، فتذكرون لنا عشق أبي نواس ، كفى جفاء ، فأمّا الزبد فيذهب جُفاء .
حب طلحة والزبير ، أعظم من حب شكسبير ، لأن حبهم سطر في بدر لمرضاة القوي العزيز ، وحب شكسبير كتب في شوارع لندن لمراهقي الإنجليز .
إن كنت يا شاعر الغرب كتبت رواية الحب بالحبر ، فالصحابة سجلوا قصص المحبة بدم الصبر .
لا تدري ربما عذبت بحبك ، وكتب عنك عند ربك ، هذا فراق ما بيني وبينك ، ونحن نسمع من أجل امرأة بكاءك وأنينك .
ولما جعلتُ الحبَّ خدناً وصاحبا(/62)
فلا تسمعني شكسبير ولهوه
فلي في رحاب الله ملك ودولة ... تركت الهوى والعشق ينتحبانِ
ورنة عود أو غناء غواني
أظن السما والأرض قد حسداني
كلما خرج علينا شاعر مخمور ، فاقد الشعور ، حفظنا شعره في الصدور ، وكتبناه في السطور ، وقلنا : يا عالم هذه قصصنا الغرامية ، ونسينا رسائلنا الإسلامية ، وفتوحاتنا السماوية ، التي ذهلت الإنسانية .
علمني الحب من سورة الرحمن ، ولا تكدر خاطري بهيام يا ظبية البان . أنا ما أحب لغة العيون ، ولكن أحب لغة القلوب ، ولا اتباع فلتات أبي نواس والمجنون . ولكني أرتع في رياض الكتاب المكنون { وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } .
ومعنفي في الحب قلت له : اتئد ... فالدمع دمعي والعيون عيوني
الحب الصادق في جامعة { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } ، والغرام الرخيص في مسرح الفنانين والفنّانات . استعرض نصوص الحب في وثيقة الوحي المقدس ، لترى فيها حياة الأنفس ، الحب الأرضي يقتل الإنسان بلا قيمة ، والحب السماوي يدعو العبد إلى حياة مستقيمة ، ليجد فضل الله ونعيمه .
أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرق
جهد الصبابة أن تكون كما أرى ... وجوىً يزيد وعبرة تترقرق
عيناً مسهّدة وقلباً يخفق
حب العز عند فرعون ، وحب الكنز عند قارون ، وحب البنز عند شارون ، أما حب الجنة ، فعند أبطال السُنّة ، الذين حصلوا على أعظم مِنّه .
الجعد بن درهم ذُبح على الابتداع ، وأنت تبخل بدمعة في محراب الاتباع .
سقيناهمو كأساً سقونا بمثلها
بلغنا السما جوداً وفضلاً وسؤدداً ... ولكننا كنا على الموت أصبرا
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
أتريد من الجيل أن يحب الملك العلام ، ويصلي خلف الإمام ، ويحافظ على تكبيرة الإحرام ، وأنت تُحفّظه رباعيات الخيام ، ليبلّغهم رسالة لا بعث ولا نشور ، أعوذ بالله من تلك القشور .
يا حاج ، أين حملة المنهاج ، ما ترى كيف عشق الإمارة الحجاج ، وقتل في البدعة الحلاج ، وأنت من أحرص الناس على حياة ، فبماذا تدخل الجنة يا أخاه .
من تداجي يا إبراهيم ناجي ، ومن تكلم ومن تناجي : تقول يا فؤادي رحم الله الهوى ، بل قتل الله الهوى .
من يشارك في ثورة الخبز ، لا يحضر معركة العز ، لما نسيت الأمة حب القلوب ، واشتغلت بحب البطون ، رضيت بالدون ، وعاشت في هون . { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
هل عند الأمة فراغ في الأزمان ، تسمع صوت الحرمان ، وهو ينادي :
إن العيون التي في طرفها حور
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
وهن أضعف خلق الله إنسانا
نحن بحاجة إلى صوت خبيب بن عدي وهو يلقي قصيدة الفداء، على خشبة الفناء، في إصرار وإباء ، وصبر ومضاء :
ولست أبالي حين أُقتل مسلماً
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... على أيّ جنبٍ كان في الله مصرعي
يبارك على أشلاء شلوٍ ممزّعِ
بارك الله فيك وفي أشلائك يا خبيب ، فأنت إلى قلوبنا حبيب . { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } ، اللهم اجعلنا ممن يحبك ويحب من يحبك ، ليؤنسنا قربك ، اللهم ازرع شجرة حبك في قلوبنا ، لنرى النور في دروبنا ، وننجو من ذنوبنا ، ونطهر من عيوبنا .
إليكَ وإلا لا تشد الركائب
وفيك وإلا فالغرام مضيع ... ومنك وإلا فالمؤمل خائبُ
وعنك وإلا فالمحدث كاذبُ
وإن تعجب فعجب أن ترى شاعراً بائسا ، يشكو طللاً دارسا ، فهو يبكي من نار الغرام ، ويشكو ألم الهيام ، ولو سافرت روحه في عالم الملكوت ، لصار وحبه عنده كالقوت . لو أدرك عنترة الإسلام ما كبا ، وما قال : اذكري يا عبل أيام الصبا .
جرير يشكو العيون السود ، وبشار يشكو الصدود ، والشريف الرضي يشكو فتنة الخدود ، وكأن الحياة لديهم اختصرت في امرأة حسناء ، وكأن العمر يتسع لهذا الهراء ، ويحسبون أن الناس من أجلهم تركوا المنام ، وهجروا الطعام ، إذا افتخرنا على الغرب بأن لدينا نساء حسناوات ، وفتيات فاتنات ، قالوا لنا : عندنا في ذلك مسارح ومسرحيات ، ومغامرات وغراميّات . لكن فخرنا على الناس أن لدينا رسالة ملأت الكون نورا ، والعالم حبورا ، والدنيا طهورا .
نحن الذين ملأنا جونا كرماً
والعالم الآخر المشبوه في ظلمٍ ... وقد بعثنا على قرآننا أمما
من يعبد الجنس أو من يعبد الصنما
**************************
المقامَة النحويّة
{ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا }
جَمِّل المنطق بالنحو فمن
فاللسان العضب سيف مصلت ... يحرم الإعراب في النطق اختبل
كم بسحر من حديث قد قتل
اللحن في الأقوال ، أهون من اللحن في الأفعال ، لأن اللحن في الفعل يدل على الجهل وقلة العقل ، واللحن في الكلام يدل على أن صاحبه ليس له بالعربيّة إلمام .(/63)
ونحن في زمن خفض المرفوع ، ورفع الموضوع ، وأصبح المجرور منصوبا ، والعلم بالجر مسحوبا ، وأصبحت النكرة معرفة ، والموصوف بلا صفة ، والمبتدأ بلا خبر ، والأفعال تجر ، فانظر لحال أهل التمييز ، كيف تركوا كل وصف عزيز .
واعلم أن بعض اللحن لا يصلحه سيبويه ، ولا يقيمه نفطويه ، ومن لحن عند أولي الشان ، ذهب رأسه في خبر كانْ ، وكان جعفر البرمكي عند الرشيد كالمأمور ، فلما رفع المجرور ، ترك رأسه في البلاط يدور ، وهذا أبو جعفر المنصور ، لما رأى أبا مسلم يضم المكسور ، جعل سيفه في صدره كالضمير المستور .
والعرب لا تبدأ بساكن ، لأنها تحب التنقل في المساكن ، أما تراها فتحت بالسيوف الجوازم الأقطار ، وحررت من سوء الحال الأمصار ، ولا تقف على متحرك ، لأنها تحب الساكن المتنسك ، وتبغض المتغير المتهتك .
النحو لا يعترف بالأنساب ، ولا يقيم وزنا للأحساب ، لأن الوليد بن عبد الملك كان يلحن وهو من بني أمية ، وسيبويه عالم في النحو وهو من الديار العجمية ، والبخاري كان في صحة الكلام لا يجارى ، وهو من بخارى .
هنا لحن في الذات ، ولحن في الصفات ، ولحن في الكلمات ، فلحن الذات التنكر للمعبود ، وغبش الرؤية للوجود ، ولحن الصفات هجر الآداب ، والتنابز بالألقاب ، ولحن الكلمات ، الجهل بالحركات والسكنات ، والفتحات والضمّات .
يقول النحاة : ضرب عمروٌ زيدا ، وما ذكروا لهما وصفاً ولا قيدا ، فإن كان المقصود عمرو بن العاص ، فهو من الخواص ، وإن كان المقصود عمرو بن معدي كرب ، فهو المقدام ساعة الغضب ، وإن كان المقصود عمرو بن كلثوم ، فسيفه في الأعداء مثلوم،
أما زيد فإن كان ابن ثابت ، ففي الأنصار نابت ، وإن كان ابن الخطاب ، فقد قتل في سبيل الوهاب ، وإن كان ابن حارثة ، فهو أسد كل حادثة .
قالوا : كان معروف الكرخي العابد يلحن إذا نطق ، ولكنه يعرب في الأفعال فكلما تكلم قالوا : صدق .
بلال يتكلم الحبشيّة ، وأبو لهب يتكلم القرشيّة ، ففهم بلال كلام ذي العزة والجلال ، ولم يفهم أبو لهب ، ما جاءت به الكتب ، لأن قلب بلال أحب العربي الأمين وقلب أبي لهب في الكفر مهين . دخل جوهر الصقلي باني القاهرة ، بجيوش باهرة ، فتكلم بلغة مغلوطة ، كأن لسانه مربوطة ، قال له العرب : أنت رجل لحّان ، لا تجيب في الامتحان ، أنت مولى بلا نسب ، ودخيل بلا حسب .
فقال : كيف ؟ وسل السيف ، وقال : هذا نسبي ، ونثر الذهب ، وقال : يا عرب، هذا حسبي ، فصار أفصح من سحبان ، فالسيف والذهب خطيبان .
الانتماء ليس للسان ولا البلدان ، وإنما للإيمان والقرآن ، والدليل ،البخاري محمد بن إسماعيل ، والرد على مذهب القومية الكريه ، بكتاب سيبويه . أعجميان لهم كتابان ، عظيمان عربيان ، البخاري أجل كتاب في الصحيح ، والكتاب لسيبويه الذي بز كل فصيح . سيبويه عصرنا ، وكسائي مصرنا ، من يرفع الفاعل ، وينصب المفعول ، فهذا نحوي مقبول ، يكفى الناس اليوم الآجروميّة ، وإلا تحولت الأمة إلى فارسية ورومية .
يقول ابن مالك :
كلامنا لفظ مفيد كاستقم ... اسم وفعل ثم حرف الكلم
وهذا يقصد به الأقوال ، وأنا أقول في الأفعال .
أفعالنا على الكتاب فاستقم ... كما أمرت وابتعد عن التهم
قال : ... ترفع كان المبتدا اسما والخبر ... تنصبه ككان سيداً عمر
أقول : ... يرفع ربي من يصدق الخبر ... مثل أبي بكر الجليل وعمر
****************************
يقول هو : ... والأصل في الأخبار أن تؤخرا ... وجوّزوا التقديم إذ لا ضررا
وأقول : ... والأصل في الأشرار أن تؤخرا ... وقدم الأخيار من بين الورى
القرآن كاف شاف ، بلا كشاف ، لأن الزمخشري ، في سوق البدعة مشتري ، لحن في العقيدة ، وأعرب في القصيدة ، لو شرب من معين السلف الماء الزلال ، لما ورد نهر الاعتزال . بعض الظلمة من الرؤساء كان فصيحا ، وظلم ظلماً قبيحا ، قال : أنا إمام عادل ، وورع فاضل ، فقال شعبه : أنت عادل إمام ، ولكنك قدمت وأخّرت في الكلام
لما لحن الجيل في الجمع والمثنى ، ونسي سيرة المثنى ، تعنّى وما بلغ ما تمنى .
ضرب المعتصم أحمد ، وتوعّد وهدّد ، فما أجاب بحرف ، لأن أحمد ممنوع من الصرف ، أما أحمد بن أبي دُؤاد فصرف في سوق الذهب ، لأن الورع من قلبه ذهب .
يا أيها المسلمون : اصرفوا إسرائيل ولو كانت ممنوعة من الصرف ، لأن للضرورة أحكاما في اللغة والعرف . لا تخدعك الأسماء وتنسى الأفعال ، فنصير الدين الطوسي ، صار عدو الدين المجوسي ، لأنه كسر رؤوس المسلمين بالسيوف الجازمة ، وأفتى هولاكو تلك الفتاوى الآثمة .
اشتغلنا بالفعل الماضي عن الفعل المضارع والأمر ، فكلامنا :
انتصرنا فيما مضى ، وهذا ذهب وانقضى ، وفتح أجدادنا البلاد ، وأين فتحنا اليوم يا أحفاد ، أسلافنا مبتدأ لكن أين الخبر ، ليتم الكلام المعتبر :
والخبر الجزء المتم الفائدة ... كـ الله بر والأيادي شاهدة(/64)
يقول النحاة : المصغّر ، لا يصغر . قلت : بل يصغره الله يا أعراب ، أما رأيتم ما فعل بمسيلمة الكذاب ، كيف صغّره وحقّره ، وبالتراب عفّره . أما مسلمة بن عبد الملك فلم يكن مصغّرا ، فعاش مجاهداً مظفّرا .
إذا رأيت الصفات تتقدم الأسماء ، فاعلم أن المعاني هباء ، فالمتأخرون يصفون البعض ، عند العرض ، فيقولون : علامة عصره ، وفريدة دهرة ، وقدوة الأنام ، وعلم الأعلام . بينما كان السلف يقولون : أبو بكر وعمر ، ولا يذكرون النعوت والسير ، لأن المعارف لا تعرّف ، وكامل الأوصاف لا يوصف .
احذر ثلاث كلمات ، إذا وقعت بلا إضافات صحيحات .
كلمة أنا فهي مدح الشياطين ، لما قال كبيرهم : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، ولكن قل : أنا العبد الضعيف ، أطلب عفو اللطيف .
وكلمة لي قال فرعون في القصر : أليس لي ملك مصر ، فصار في الهلاك آية لكل عصر ، ولكن قل : لي ذنوب ، أرجو رحمة علام الغيوب .
وكلمة عندي قالها قارون ، فجعلها بالخسف عبرة لكل القرون ، ولكن قل : عندي تقصير ، يصلحه اللطيف الخبير .
علي بن أبي طالب مرفوع عندنا بين الفتح والخفض ، فقد أخطأ فيه أهل النصب والرفض ، فالنواصب هضموا حقه ، ونسوا صدقة ، والروافض أنزلوه فوق المنزلة ، فصار وصفهم مهزلة .
فيا أيها الناصبي : عليٌّ مرفوع وعلامة رفعه ، علو الهمة ، وتزكية رسول الأمة .
ويا أيها الرافضي : لا تغالِ ، فعليٌّ بغير هذا الغلو عالِ .
ذكر عن سيبويه ، ذلك العالم الوجيه ، أنه أتى ليُعرِّف اسم الجلالة ، فلما وقف أمام كلمة الله وتذكر كماله ، وتأمل جماله . قال: الله أعرف المعارف ، لا يحتاج إلى تعريف ، ومن جمع الصفات لا ينقصه التوصيف .
يا أنت يا أحسن الأسماء في خلدي
تقاصرت كلها الأعلام إن ذكرت
خذها من الوحي نعتاً للجليل ولا
فارفع شعائره وانصب لخدمته
وكن مضافاً إلى أصحاب طاعته
واجزم بحكمته في نصر شرعته ... ماذا أعرف من عز ومن شرفِ
أوصافكم قد رواها عنك كل وفي
تأخذ من الجهم والكشاف والنسفي
وجر رجلك في ذل وفي أسفِ
ولا تعرف شقياً بات في ترفِ
وقف على ساكن التنزيل كالسلفِ
قال شاب لأحد الأولياء : يا ليتني أدركت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكنت خادماً بين يديه ؟
قال : لعلك ترحم بهذا لأن المضاف يأخذ حكم المضاف إليه .
زاد اليهود نقطه ، فوقعوا في ورطه ، وسقطوا سقطة ، قيل لهم قولوا : حطه ، فقالوا : حنطه .
وزاد المبتدعة حرفا ، فصرفوا عن الصواب صرفا ، قالوا : استولى مكان استوى ، وهذا من الزيغ والهوى .
للوصف صلة بالاسم ، فأبو بكر الصديق ، لما صدق في القول والاعتقاد ، عرف بهذا الوصف بين العباد ، وعمر عمر الدولة بالعدل ، وطرد الجهل ، وعثمان بن عفان ، عف عن كل فان ، وعلي بن أبي طالب ، علا في المناقب ، فسلم من المثالب .
كن بالتوحيد مرفوع الهامة ، وبالأخلاق منصوب القامة ، وليكن عليك من الصلاح علامة ، لتنجو يوم القيامة .
واعلم أن المزاح المباح ما عارض به بعضهم الألفية النحوية ، وجعلها للمطاعم الشهية .
قال ابن مالك : ... والأصل في الأخبار أن تؤخرا
وجوّزوا التقديم إذ لا ضررا
قال أحدهم : ... والأصل في الأخباز أن تحمّرا
وجوّزوا الفطير إذ لا ضررا
وقال الشيخ ابن عثيمين كان له شيخ يقول على سبيل المزاح
والأصل في الأخباز أن تقمّرا
وجوّزوا الترقيق إذ لا ضررا
***********************
مقامَة الجمال
{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ }
ليس الجمال بمئزرٍ
إن الجمال مآثرٌ ... فاعلم وإن رُدّيت بُرْدا
ومناقبٌ أورثن حمدا
الله جميل يحب الجمال ، موصوف بالجلال ، انظر نهجه ، وقد أنبت حدائق ذات بهجة ، خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وأبدع الكائنات في تصوير مستقيم ، جمال في كواكب السماء ، وحسن يكسو الأشياء ، نجوم زاهرة ، وبحار زاخرة ، كأن الأرض مكسوة بأحسن نسيج ، والحدائق فيها من كل زوج بهيج ، رسم الجمال في الكائنات ، وخط الحسن في المخلوقات .
الجمال في العين بلونها الأسود ، وبجفنها المقعد ، بسحر نظرتها ، وروعة خطرتها ، مدورة في بهاء ، متحركة في سناء ، لها في الظلام بريق ، ولها في الحركة تلفت رشيق ، عليها رمش يحميها ، ويغسلها ولا يدميها ، وهي في نهر من الماء تسبح ، وفي هالة من النور تمرح ، في نظرها أسرار ، وفي تلفتها أخبار ، لها لغة تفهمها القلوب ، ولها سحر تكاد منه النفس تذوب . في طرفها حور ، يقتل من نظر ، لها في النفوس إيماءات ، وفي الأرواح إضاءات ، يعرف بها الرضا والغضب ، والجد واللّعب :
في عيون المحب أحرف وُدٍّ
قُتلت أنفسٌ بنظرة عين ... سطرت بالدموع عند الفراقِ
وقلوب مشتاقة للتلاقي(/65)
الجمال في الفم وهو بالحسن محبوك ، وبالأسنان مسبوك ، يرسل الكلمات ، ويبعث النغمات ، بلسان فصيح ، وصوت مليح ، لا ينطق حتى يؤمر ، ولا يسكت حتى يزجر ، فيا له من خلق ما أبدعه ، ومن صنع ما أروعه { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } الجمال في الوجه ، بطلعته البهية ، وإشراقاته الرضية ، قسمات ترسم ، وقبلات عليه من البهاء تبسم ، خد بماء البشاشة يسيل ، وطرف بإيحاء الحسن كحيل ، دمع كالسيل ، وشعر كالليل . وجبين كالمهنّد ، وفم منضّد .
الجمال في قامة الإنسان ، وروعة هذا البنيان ، أذنان وصِماخان ، وعينان نضاختان، ويدان منافحتان ، ورجلان كادحتان .
الجمال في الروض الجذاب ، بجماله الخلاب ، طيور تلقي قصائد الحنان ، على منابر الأغصان ، وحمام ينشد إلياذة الفراق ، على أطراف الأوراق ، وماء يسكب ، ونسيم يكتب ، أنهار ودوح ، ومسك من الروض يفوح ، حسن باهي ، وإبداع إلهي { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } .
انظر إلى الروض واشهد أن مبدعه
وسرح الطرف فيما شئت من حسن ... رب الوجود عظيم القدر والشان
ما بين زهر وأطيار وأغصان
الجمال في الصبح إذا تنفس ، فسبحان من صوره وتقدس ، الصبح بطلعته الآسرة، وإطلالته الباهرة ، الصبح وهو يغشى العالم ، ويمر على كل قاعد وقائم ، الصبح وهو ينشر عباءته الذهبية على الوجود ، فيكاد يكلمه من حسنه الجلمود ، الصبح يوم يتوضأ الفكر في عباب نوره ، ويغتسل القلب في بحر سروره ، وتسرح النفس في مهرجان عرسه، وتنصت الروح لهمسه وجرسه .
الجمال في الليل إذا عسعس ، وأقبل في هدوء يتوجس ، يقبل الليل بردائه الأسود ، وشعره المجعد ، فيستر الأحياء بثيابه ، ويضع الأشياء تحت جلبابه ، فيملأ بجيشه المساكن ، فكل متحرك ساكن ، والليل له هيبة في العيون ، كأنه كتيبه تحمل المنون .
من لم يرى هذا الوجود بقلبه
فافتح كتاب الكون تقرأ قصة ... خسر الجمال ولم ترى عيناه
هل في الوجود حقيقة إلا هو
الجمال في الشمس وهي على الكون تتبرج ، ليتمتع في الحسن كل حيٍّ ويتفرج ، أشعة تعانق العين في صفاء ، وتداعب الروح في وفاء ، نور يطارد الظلام ، ويبعث في الكون الإشراق والوئام ، الشمس جرم هائل من النور ، فيها معاني الفرح والسرور ، تجري لمستقر لها ، فويل لمن غفل عن آياته ولها .
تقول الشمس يا بلقيس إني
حرام تسجدين لنا فهيا ... كمثلك أعبد الأحد المجيدا
نري رب الورى منا سجودا
الجمال في القمر يوم يبدأ علينا بهذا الوجه الصبيح ، والمنظر المليح ، هالة من الصفاء، وفيض من السناء ، ينزل أبراجه في وقار ، ويطارد الظلام بالأنوار ، كثيرُ إحسان ، حبيبٌ إلى كل إنسان ، إذا خسف بكى الناس ، كأن حل بهم الباس ، يتدرج في النمو حتى يكتمل ، ويهرم شيئاً فشيئاً حتى يضمحل ، فسبحان من صوّر ودبّر ، وزين القمر وكوّر.
يا بدر كم لك منة
لا تبتعد عن دارنا
رافقت من غبروا ومن ... يا أيها الشيخ الجليل
يا صاحب الوجه الجميل
عرفوا الحياة بكل جيل
والجمال في النجوم اللاّمعة ، والكواكب الساطعة ، انظر إلى السماء ، في الظلماء ، وقد رصع تاجها بالنجوم ، التي تذهب رؤيتها الهموم والغموم ، مهرجان حي من الحسن الباهر ، حفل بهيج من الجلال الظاهر ، الجوزاء تضحك في الظلماء ، كأنها حسناء في قصر أحد العظماء ، الثريا في صويحباتها ، ومع رفيقاتها ، في مشهد عجيب ، وفي صمت رهيب ، سُهيل وقد هجر الجميع واعتزل ، وهو واقف ما مشى وما نزل ، آلاف النجوم تجمل هذا الفضاء الكبير ، بتقدير اللطيف الخبير ، نجم تراه عن الجميع شاردا ، ونجم يحرق ماردا ، ونجم يُعرف به السفر ، ويستدل به البدو والحضر ، ونجم إنما هو زينه ، لهذه السماء الحسينة .
ألم تر هذا الكون في صنعه عبر
وفي كل شيء في طليعته خبر
كأن الثريا علقت بجبينه
وفي جيده الشعرى وفي وجهه القمر
الجمال في الجبال ، بالوقار قائمه ، وفي جلال القدر هائمة ، ثابتة على مر الأزمان ، باقية ما تعاقب الحدثان ، تمر بها الرياح الهوجاء ، وهي صامدة صمّاء .
عاش معها ثمود وعاد ، وساسان وشداد ، وهي باقية والجمع قد باد ، صاحبت القرون ، وشاهدت فرعون وقارون ، فبقيت وهم ماتوا ، وحضرت وهم فاتوا { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا } . وكل ما مر يدخل في جمال الذات ، وحسن الصفات .
أما جمال المعنى ، فكن معنا ، ولا تذهب وتدعنا .
فمن ذلك جمال البيان ، مثلما أشرقت به شمس القرآن ، أما رأيت حسن هذا الكتاب المقدس ، الذي على الصدق تأسس .(/66)
تأثير يسافر إلى أعماق الأرواح ، وأسر يشد ما اهتز من الصور والأشباح ، نبأ يقف العاقل متفكرا ، وخبر يجعل الإنسان متذكرا ، حقيقة تغوص في الضمائر ، وطهر يرسخ في السرائر ، موكب من النور يجتث أكوام الرذيلة ، فيض من الحق يحمل معاني الفضيلة ، قافلة من الصلاح تطوي صحراء النفوس طيا ، نهر من البر يروي القلوب العطشى رِيّا ، إيماء وإيجاز ، وإفحام وإعجاز ، عذوبة وحلاوة ، وسلاسة وطلاوة ، قوة وأصالة ، فصاحة وجزالة ، لغة جميلة ، مقاصد جليلة ، براعة استهلال ، وحسن تفصيل وإجمال ، يسافر بقلبك إلى عالم الخلود ، ويرتحل بروحك إلى حقيقة الوجود ، ويغسل ضميرك من لوثة الخيانة ، ويطهر كيانك بماء الأمانة ، مشاهد وصور ، وأحداث وعبر ، وأخبار وسير ، وقصص وأمثال ، وأفعال وأقوال ، عالم الحياة بأريجه وضجيجه ، وعالم الموت بأناته ونشيجه ، دول تمر مر السحاب ، وملوك تدس في التراب ، تقرأ هذه المعجزة الخالدة ، فإذا الأمم البائدة ، حضارات تسقط كأوراق التوت ، وممالك تتهاوى كبيت العنكبوت ، والقرآن يناديك من أطراف لبك ، ومن سويداء قلبك ، تدبر يا عبد ، جد فإن الأمر جد ، ودع الرد والصد ، استفق يا إنسان ، اهجر عالم الغفلة والنسيان .
انبعث من قبور الأشقياء ، وتعال إلى جنات الأتقياء ، انفض غبار الوثنية ، ارفض وساوس الجاهلية ، أعتق رقبتك من النار ، حصن نفسك من البوار، ارفع رأسك في سماء الكرامة ، أنت من أمة الخلافة والإمامة ، تقدم لإصلاح العالم ، فالكل سواك هائم عائم .
سمعتك يا قرآن والليل واجم
فتحنا بك الدنيا فأشرق نورها ... سريت تهز الكون سبحان الذي أسرى
فسل دولة الأخبار يرموك أو بدرا
أيها الإنسان ، شاهد الكون ، بعين الإيمان ، تنظر للشوك ولا ترى الزهور ، تشاهد الآسن ولا تبصر الطهور ، يهولك الليل بالظلام ، ولا تستمتع ببدر التمام ، تشكو من حرارة الشمس اللاذعة ، ولا تتلذذ بتلك الأشعة الساطعة .
تستوحش من وحدة الصحراء ، ولا يؤنسك فيها روعة الإيحاء ، ما لك تزعجك الرياح الهوجاء ، فأين حسنها إذا زارتك وهي رخاء ، تنظر إلى الصخر كيف تحجّر ، ولا تنظر إلى الماء منه كيف تفجر ، تبصر رداءة التراب ، ولا تدرك أنه مادة الإنجاب والإخصاب ، لا ترى من السيل إلا الدمار ، وهو مصدر النماء والعمار ، تأخذ من المصيبة العويل ، وتنسى الأجر الجزيل .
تضع على عينيك نظراة سوداء ، لترى الحياة جرداء مرداء ، فأين الندى والطل ، وأين الخضرة والظل ، تسمع نعيق الغراب ، ولا تنصت لهديل الحمام الجذاب ، انظر إلى الحياة في ثياب جمالها ، وفي رداء جلالها ، شاهد الكون وهو في عباءة البهاء ، وحلة السناء ، طالع العالم بعين الحب ، لتشاهد بديع صنع الرب ، واعلم أن الجحود إلحاد ، والتنكر فساد ، ومن لم يشاهد إلا القبيح ، فرأيه غير صحيح { قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } .
**************************
المقامَة الفقهيَّة
{ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ }
يأبى السؤال فلا يراجع هيبة
أدب الوقار وعز سلطان التقى ... والسائلون نواكس الأذقانِ
فهو المطاع وليس ذا سلطانِ(/67)
من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، والفقهاء أفضل من العابدين . بل فقيه واحد ، أشد على الشيطان من ألف عابد ، والتفاضل ليس بشجاعة الشجعان ، فليس الأسد أفضل من الإنسان ، والإنسان لا يراد منه المصارعة ، بل المحاجّة بالدليل والمقارعة ، وليس المدح بقوة البنيان ، وهل عظمت بقوة أجسامها الثيران ، ولكن العبد يراد منه الفهم ، ويفضل بالعلم ، فإذا فقه الحجة ، وعرف المحجة ، نال السعادة الأبدية ، والفضيلة السرمدية ، وقد عيّر الله أعداءه بعدم الفقه في آياته ، ووصفهم بسوء الفهم لبيّناته . وقد وصف المنافقون بضخامة الأجسام ، والتشدق في الكلام ، لكنهم ذموا بالفهم السقيم ، ووصموا بالرأي العقيم ، فقد حرمهم الله نور البصيرة ، لخبث السريرة ، ولسوء السيرة ، فليس التمايز بكثرة المال ، ولا بصفة الجمال ، ولا بكمال القوه ، ولا بتمام القوه ، إنما التمايز بتفاضل العقول ، في سوق الرد والقبول . فهنيئاً لمن ترك العنق في سيره ونصّ ، واستنبط من النص ، فإن تقليب البصيرة في صفحات الأدلة ، من أعظم حسنات خدّام الملة ، وإن تحديق القلب في مناجم الآثار ، من أفضل أعمال الأبرار ، وهل فاق وبز ، إلا من بالوحي اعتز ، فليس العلم بكثرة الرواية ، ولكنه بالفقه والدراية، وليس الفقه كلاماً يحفظ ، ولا جملاً تلفظ ، بل فهم عن الله وعن رسوله ، ومعرفة القول بدليله ، وليس الفقه حكاية آراء الرجال ، وجمع القيل والقال ، بل الفقه معرفة مقاصد الشريعة ، واستنباط المعاني البديعة . وانظر لابن عباس ، كيف بز الناس ، لما دعا له بالفقه في الدين ، سيد المرسلين ، ولما تكلم الزنادقة ، والفرقة المارقة ، في أصحاب الحديث ، واستهزؤوا بسعيهم الحثيث ، وقالوا : إنهم ينقلون أحاديث ليس لها معاني ، ولا تقوم على مباني ، مثل يا أبا عمير ، ما فعل النغير ، تصدى لهم محمد بن إدريس ، فاستنبط كل معنى نفيس ، فأفحمهم ، وفي كل بلاء أقحمهم ، وقيل لابن عباس ، في مجلس إيناس ، بم حصلت على هذا العلم ، ووصلت إلى هذا الفهم ؟ قال : بلسان سؤول ، وقلب عقول ، وامتن الله على سليمان ، وفضله على أبيه في معرفة البرهان ، لما حضر لديه الخصمان ، قال بعض العلماء : الفقه ما دلك على الرشاد ، وأبعدك عن الفساد ، ومن سجايا الفقيه ، صبره على السفيه ، ومجانبته كل أمر كريه ، فمن عقل عن الله أمره ، وعرف قدره ، فهو العالم العارف ، والمتقي الخائف .
كان أبو حنيفة يبيع البز ، ثم نال بالفقه العز ، كلما أعضلت المشكلات ، أخرج من دماغه القبسات النيّرات ، فحلها برأي جزيل ، وفهم جليل .
الفقه أغلى بضاعة في سوق العلوم ، وأشرف مواهب القوم ، فإنك تجد الفقيه محل الاعتبار ، ترمقه الأبصار ، ويعظمه ذوو الأخطار ، لأن حاجة الناس إلى الفقه شديدة ، ومجالس الفقهاء لكل الطبقات مفيدة ، وقد تجد الرجل في اللغة من الأعيان ، يشار إليه بالبنان ، وترى النحوي أصبح مرجعاً في علمه ، جهبذاً في فهمه ، وتبصر الشاعر بشعره الرائع يخلب لبّ السامع ، وتشاهد الخطيب ، يستولي على القلوب ، ويأتي بالقول المحبوب ، غير أن الفقيه الربّاني ، يجمع محاسن المعاني ، ويبلغ بهمته الأماني ، وقد بز الكل ، وارتقى المحل الأجل ، لعظيم حاجة الناس إليه ، وتزاحمهم عليه ، وقد عرفت بالتجربة ، أن الفقه أجلّ موهبة ، إذا قرن بالدليل ، وبني على التأصيل ، فإني رأيت الفقيه إماما ، وفي كل جمع مقداما ، وحضرت اجتماعات ، وندوات ، ومحاضرات وأمسيات ، فإذا الفقه أعظم مطلوب ، وأجل موهوب ، فالفقهاء يُسألون في أعضل المسائل ، وتفد لهم من الأقطار الرسائل ، والكل ينصت للفقيه بما يقرره ويمليه ، فالجميع يصحح على الفقيه عبادته ، والسلطان يقوي بالفقهاء سيادته ، ولو لحن في الخطاب ، وأبطأ في الجواب ، ولو قصر في التأريخ لما قابلوه بالتوبيخ ، لكن من قصر في الأحكام ، قوبل بالملام من كافّة الأنام ، فالعلم ما دل على الرب ، وصلح به القلب ، وهجر به الذنب ، وما سواه فليس بذي بال ، ولو تشدق به الرجال ، وقد عرفنا من دَرَس الفقه سنوات ، فصار به من السادات ، وعرفنا من أفنى عمره في بعض الفنون ، وهو في خانة النسيان مدفون ، لم يستفد منه أحد ، ولم يعرفه أهل البلد ، والسبب في اهتمام البشر ، بفقه الأثر ، لأن علم الكتاب والسنّة ، أقرب طريق إلى الجنّة ، فبهذا عظم قدر فقهاء الإسلام ، على مرّ الأيام ، فهم طائفة الموقعين ، عن رب العالمين ، وهم سرج الظلماء ، وغيث السماء .(/68)
زين الله بهم الأمة بين الأمم ، كما زين السماء بالنجوم في الظلم ، فهم كتيبة الديانة، وحملة الأمانة ، وحراس المنهاج ، وفرسان الحجاج ، وهم حفاظ النصوص الشرعية ، ومحاربو الطرق البدعية ، كلما تسلق إلى سماء الشرع كاذب ، أحرقوه بشهاب ثاقب ، وصبوا عليه العذاب الواصب ، فتوى في صحيفة ، أقوى من قذيفة ، ومسألة بدليل ، أفضل من مال جزيل ، بفتوى الفقهاء تحقن الدماء ، ويفصل بين الناس في القضاء ، وتقام الحدود ، وتنفذ الشروط والقيود ، ينفذ أحكامهم الأمراء ، ويحترم كلامهم الوزراء ، ويقوم بفتواهم البيع والشراء ، وتجلّهم المحاكم ، وتتزين بهم المواسم ، يوقر الناس ما سطروه ، ويتبعون ما حرّروه ، ويتناقل حديثهم الركبان ، وتطير مسائلهم في البلدان ، يتشوق العالم لأخبارهم ، ويفد الطلاب إلى ديارهم ، ولايتهم لا تقبل العزل ، وقولهم فصل ليس بالهزل ، والناس ينتظرون أقوالهم ، ويقلدون أفعالهم ، تشيعهم الأبصار ، ويدعو لهم الأخيار ، يتباشر الناس بقدومهم ، وينهلون من علومهم ، فهم في الوجود كالتيجان ، وكلامهم كالمرجان ، وهم أئمة الإنس والجان .
**************************
المقامَة الجغرافية
{ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ }
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
... إذا لم تفقه أسرار الجغرافيا
واعلم أن الأشياخ ، أخبرونا أن الإنسان يتأثر بالتضاريس والمناخ . فأهل الجبال ، أهل صفاء وجمال ، وأهل عاطفة واستعجال ، وأهل الصحراء ، أهل مكر ودهاء ، وصبر وجفاء ، وكلما قرب الإنسان من خط الاستواء ، كثرت حِدّته والبغضاء ، ومن يسكن القطب البارد ، فإنه ثقيل جامد ، ومن يعيش في أرض خضراء ، تجد له رقة ورواء، ولطفاً ووفاء ، ومن كانت داره في أرض مقفرة ، رأيت منه طبائع منكره ، من الغلظة والشدة ، والضيق والحدة .
فأهل جزيرة العرب ، يغلب عليهم الذكاء والأدب ، لصفاء سمائهم ، وطيب هوائهم ، وعذوبة مائهم ، ولذلك اختار الله منهم الأنبياء ، لأن طبيعة بلادهم في استواء ، واعتدال ونقاء ، فليس لهم خفة البلاد الحارّة ، لأن أمزجتهم غير قارة ، فتجدهم أهل عجلة وطيش ، والطرب عندهم ألذ من العيش . وليس لأهل الجزيرة كثافة طبع الأوربيين، لأنك تراهم على المادة مربين ، فتعلقهم بالعالم المشهود ، مع إنكار العالم المفقود ، وشكهم في غير الموجود .
وللصفات الحيوانية ، أثر على الفصيلة الإنسانية ، فتجد أهل الإبل أهل كبر وخيلاء، وأهل الغنم أهل سكينة ووقار وحياء ، كما أخبر بذلك خاتم الأنبياء ، ومعاشرة السباع ، تؤثر في الطباع ، ومن خالط الوحوش توحش ، فتجده إذا أكل يهرش وينهش ، لأن الصاحب ساحب ، والطبع جاذب . يقول المصطفى : من بدا جفا ، وأهل المدن والحواضر أهل رقه ، وفي النظر أهل دقه ، والله أرسل من القرى الحاضرة ، رسله بالشرائع الطاهرة ، لأن أهل القرى الآهلة بالسكنى أصحاب تجربه ، وأذهان مدربه ، وآداب قويمة، وفطر في الغالب مستقيمة .
وانظر إلى أهل فارس الأعاجم ، لما سكنوا الريف واشتغلوا بالزراعة فكل عليها قائم ، صرفت أذهانهم عن التفكير ، وضعفت في جانب التدبير ، فلم يكن عندهم استعداد لفهم المنقول ، لعدم خصوبة العقول .
ولما جمح الروم إلى الخيال ، وأوغلوا في التصور حتى غابوا به عن الحال ، كثر فيهم الزيغ الفكري ، والضلال النظري ، لسابق ما عندهم من دين محرّف ، وأثاره من علم متلقف . فاختير العرب للرسالة المحمديّة ، لتمام الفطرة النقية ، ووفرة الأذهان الذكية .
واعلم أن من البلدان من تنتج الكاكاو والأناناس، وبعضها تصدر الذهب والألماس، والأخرى تصدر الرجال من أهل الكرم والباس ، وبعض الدول تنتج للعالم الحديد ، وبعضها تعلم العالم التوحيد ، ولأن العالم بحاجة إلى صلاح وبِر ، أشد من حاجته إلى شعير وبُر . والجغرافي المؤمن ينظر إلى الجبال كأنها منائر تعلن الأذان ، أو أصابع مؤمن توحّد الرحمن ، ويذكّره النسيم ، بنفحة النعيم المقيم ، وقيظ الصيف الحار ، بحرارة النار ، ويذكّره برد الشتاء وله هرير ، ببرد النار والزمهرير ، وتذكّره الغابات ، حدائق الجنات ، ويتذكّر كم مرّ على الجبال من أجيال ، ثم دفنوا تحت الرمال . ويعجب من قدرة القدير ، وحكمة اللطيف الخبير ، حيث جعل كل شيء بحكمه ، وكل فعل برحمه ، فلما كانت الصحراء ، قليلة الماء ، معروضة للشمس في العراء ، أنبت فيها شجراً يناسبها ، وطبيعته تقاربها ، وانظر إلى الأشجار ، على ضفاف الأنهار ، دائمة الرواء ، كل فصل هي خضراء، تقاوم كثرة الماء ، وجعل حيوان البر بلا وبر ، قليل الشعر ، فهو على حر الرمضاء مصطبر ، وحيوان القطب عليه من الشعر غطاء ، ومن الوبر رداء ، ليعتبر بالحكمة من شاء .
يا ماسح الأرض بالأميال تذرعها
يوماً بعرضٍ ويوماً تمسح الطولا
انظر لمملكة الإبداع ضاحكة
في عالم صار بالأحياء مأهولا
*********************
المقامَة البوليسية(/69)
{ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ }
ومن عرف الأيام معرفتي بها
فليس بمرحوم إذا ظفروا به ... وبالناس روى رمحه غير ظالم
ولا في القضا الجاري عليهم بآثمِ
الأفكار الإبليسيه ، ما تردها عن العبد الهراوى البوليسيه ، بل تردها الأذكار، كما وردت عن المختار ، ولكن البوليس ، عمله نفيس ، إذا قام بالواجب ، وحمى الناس من كل سالب وناهب . وفي الآثار : عينان لا تمسهما النار ، عين بكت من خشية الجبار ، وعين باتت تحرس الديار ، ولو لم يكن في البلاد بوليس وشرطه ، لوقع الناس في ورطه ، وسوف يأكل القوي الضعيف ، ويعتدي السخيف على الشريف ، وتوزع الناس إلى أحزاب ، وكسر كل باب ، ولقفز اللص من الدريشة ، ولملّ الناس العيشة ، وسمعت دوي الرصاص ، وصاح الناس هل من مناص ، وصار أمن الناس أضحوكة ، لأنه مهدد بعصابات محبوكة ، وأصبح الليل ، يزحف كالسيل ، بكل ويل ، وتحولت الأسواق ، إلى عذاب لا يطاق ، فيسلط الله البوليس ، على جنود إبليس ، لأن من لا يردعه القرآن ، أدبه أعوان السلطان .
أرهب بسيف الله كل مكذب
فالسيف داء للخلي من التقى ... متهتك في الزور والبهتان
ومكذب الآثار والقرآن
فالذي هجر المسجد ، وذهب يعربد ، وهدّد أمن الناس وتوعد ، ليس له إلا سوط حار ، أو سيف بتّار ، ليكون عبرة لغيره من الأشرار ، ولكن على من حك العين أن لا يدميها ، لئلاّ يكون حاميها حراميها ، بل يتقي الله البوليس في العباد ، ويكون همه إصلاح البلاد ، ليعم الأمن والأمانة ، والهدوء والصيانة .
ورضي الله عن عمر ولله دَرّه ، لأنه كان في يمينه دِرّة ، أغلى من الدُّرة ، يؤدب بها من عصاه ، ويضرب بها من رفض الحق وأباه . وعمر أول من أنشأ العسة في البلد ، لردع من فسد ، وقد أحضروا له رجلاً فاسد الفكر ، ظاهر النكر ، لبّس على الناس في الدِّين ، ليكونوا مرتدين ، فزجره عمر وفضحه ، وضربه بالدرة وبطحه ، وأذهب من رأسه بهراوة السلطان ، وساوس الشيطان ، فلما أفاق الرجل من الغيبوبة ، ودماؤه مسكوبة ، صاح في رأسه مؤذن التوحيد ، أصبحنا وأصبح الملك لله الحميد ، فهذا العلاج الجذّاب ، والدواء المذاب ، يصرف من صيدلية عمر بن الخطاب :
يا ناسف الظلم ثارت هاهنا وهنا ... فظائع أين منها زندك الواري
واعلم أن من الناس طائفه ، ليست من ربها خائفه ، لا تجدي فيهم النصائح ، ولا يخافون الفضائح ، وإنما ينفع فيهم عصا خيزران ، كأنها ثعبان ، تلف على الأكتاف والأمتان ، حتى تدمع من حرها العينان ، ويصيح المضروب : الآن حصحص الحق وبان .
السوط فيه مواعظ ونصائح
ما ضمها لوح ولا ديوانُ
لغة سيفهمها غبي مارد
ما في حشايا قلبه إيمانُ
فإن لم يردع السوط من سلبْ ، ولم ترد العصا من نهبْ ، فالسيف أصدق أنباءً من الكتبْ
************************************
مقامَة الهمّة
{ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ }
أمطري لؤلؤاً سماء سرنديب
أنا إن عشت لست أعدم خبزاً
همتى همة الملوك ونفسي ... وفيضي آبار تكرور تِبرا
وإذا مت لست أعدم قبرا
نفس حرٍ ترى المذلة كفرا
السلام على أهل الهمم ، فهم صفوة الأمم ، وأهل المجد والكرم ، طارت بهم أرواحهم إلى مراقي الصعود ، ومطالع السعود ، ومراتب الخلود ، ومن أراد المعالي هان عليه كل همّ ، لأنه لولا المشقة ساد الناس كلهم ، ونصوص الوحي تناديك ، سارع ولا تلبث بناديك ، وسابق ولا تمكث بواديك ، أُمية بن خلف ، لما جلس مع الخلف ، أدركه التلف ، ولما سمع بلال بن رباح ، حي على الفلاح ، أصبح من أهل الصلاح .
اطلب الأعلى دائماً وما عليك ، فإن موسى لما اختصه الله بالكلام ، قال : { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } ، المجد ما يأتي هبة ، لكنه يحصل بالمناهبة ، لمَّا تعلمت الصيد الكلاب ، أبيح صيدها بنص الكتاب ، ولما حمل الهدهد الرسالة ، ذكر في سورة النمل بالبسالة ، نجحت النملة بالمثابرة ، وطول المصابرة ، تريد المجد ولا تَجِدّ ؟ تخطب المعالي ، وتنام الليالي ، ترجو الجنة ، وتفرط في السنّة .
قام رسولنا - صلى الله عليه وسلم - حتى تفطّرت قدماه ، وربط الحجر على بطنه من الجوع وهو العبد الأوّاه ، وأدميت عقباه بالحجارة ، وخاض بنفسه كل غارة .
يُدعى أبو بكر من الأبواب الثمانية ، لأن قلبه معلق بربه كل ثانية ، صرف للدين أقواله ، وأصلح بالهدى أفعاله ، وأقام بالحق أحواله ، وأنفق في سبيل الله أمواله ، وهاجر وترك عياله .
لبس عمر المرقّع ، وتأوّه من ذكر الموت وتوجّع ، وأخذ الحيطة لدينه وتوقّع ، عدل وصدق وتهجد ، وسأل الله أن يستشهد ، فرزقه الله الشهادة في المسجد .
عليك الجِد إن الأمر جَد
وبادر فالليالي مسرعات ... وليست كما ظننت ولا وهمتا
وأنت بمقلة الحدثان نمتا
اخرج من سرداب الأماني ، يا أسير الأغاني ، انفض غبار الكسل ، واهجر من عذل ، فكل من سار على الدرب وصل ، نسيت الآيات ، وأخّرت الصلوات ، وأذهبت عمرك السهرات ، وتريد الجنات ؟!(/70)
ويلك والله ما شبع النمل حتى جدّ في الطلب ، وما ساد الأسد حتى افترس ووثب ، وما أصاب السهم حتى خرج من القوس ، وما قطع السيف حتى صار أحدّ من الموس .
الحمامة تبني عشها ، والحمّرة تنقل قشها ، والعنكبوت ، يهندس البيوت ، والضب يحفر مغاره ، والجرادة تبني عمارة ، وأنت لك مدة ، ورأسك على المخدة ، في الحديث : (( احرص على ما ينفعك )) ، لأن ما ينفعك يرفعك ، (( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف )) ، بالقوة يبنى القصر المنيف ، وينادل المجد الشريف .
همة تنطح الثريا وعزم ... نبوي يزعزع الأجبالا
صاحب الهمة ما يهمه الحرّ ، ولا يخيفه القرّ ، ولا يزعجه الضرّ ، ولا يقلقه المرّ ، لأنه تدرع بالصبر .
صاحب الهمة ، يسبق الأمة ، إلى القمة ، { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } ، لأنهم على الصالحات مدربون ، وللبر مجربون .
الثعلب يرضى بالجيفة ، فكتب في آخر الصحيفة ، لو أسرع الحمار مثل الحصان ، لكان من الهوان يُصان ، الشمس تجري ، والقمر يسري ، وأنت نائم لا تدري ، أنت أكول شروب ، لعوب طروب ، صاحب ذنوب .
لا يدرك المجد إلا سيد فطن
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... لما يشق على السادات فعّال
الجود يفقر والإقدام قتال
لما تجرع الأحنف غصص الغضب ، صار حليم العرب ، ولما بذل روحه للموت عنترة ، شبهوه بقسورة ، ولمّا بذل حاتم ، طعامه لكل قادم ، وأنفق أمواله في المواسم ، صار مضرب المثل في الجود ، وقصة الكرم في السهول والنجود .
لما طار القمري قعد فوق الأغصان ، ولما مشى الجعلان بقي مع الديدان ، سافر العود من الهند ، فسُمي بالند ، وأقام بأرضه الخشب ، فسماه الناس الحطب .
اديسون مكتشف الكهرباء ، قضى عمره في اختراعه حتى أذهل به الحكماء ، فلا نامت أعين الأغبياء .
مكتشف الذرة ، أجرى عليها التجربة عشرة آلاف مره .
عمي بعض المحدِّثين من كثرة الرواية ، فما كلَّ ولا ملَّ حتى بلغ النهاية ، مشى أحمد ابن حنبل من بغداد إلى صنعاء ، وأنت تفتر في حفظ دعاء ، سافر أحدهم إلى مصر ، غدوّه شهر ، ورواحه شهر ، في طلب حديث واحد ، ليدرك به المجد الخالد ، لولا المحنة ، ما دعي أحمد إمام السنة ، وصل بالجَلْد إلى المجد ، ووضع ابن تيميه في الزنزانة ، فبز بالعلم زمانه . واعلم أن الماء الراكد ، فاسد ، لأنه لم يسافر ويجاهد ، ولما جرى الماء ، صار مطلب الأحياء ، بقيت على سطح البحر الجيفة ، لأنها خفيفة ، وسافر الدر إلى قاع البحر، فوضع من التكريم على النحر .
فكن رجلاً رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا
يا كثير الرقاد ، أما لنومك نفاد ، سوف تدفع الثمن ، يا من غلبه الوسن ، تظن الحياة جلسة وكبسة ، ولبسةٌ وخلسة ، بل الحياة شرعة ودمعة ، وركعة ومحاربة بدعة .
الله أمرنا بالعمل لينظر عملنا ، وقال : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } ، فالحياة عقيدة وجهاد ، وصبر وجلاد ، ونضال وكفاح ، وبر وفلاح، لا مكان في الحياة للأكول الكسول ، ولا مقعد في حافلة الدنيا للمخذول .
علو في الحياة وفي الممات ... بحق أنت إحدى المعجزات
ابدأ في طلب الأجر من الفجر ، قراءة وذكر ، أو دعاء وشكر، لأنها لحظة انطلاق الطير من وكورها ، ولا تنس : (( بارك الله لأمتي في بكورها )) .
العالم في حركة ، كأنه شركة ، وقلبك خربة ، كأنك خشبة ، الطير يغرّد ، والقمري ينشد ، والماء يتمتم ، والهواء يهمهم ،والأسود تصول ، والبهائم تجول ، وأنت جثة على الفراش ، لا في أمر عبادة ولا معاش ، نائم هائم ، طروب لعوب ، كسول أكول .
استيقظ على نبرات الخطاب الشرعي ، ودعنا من وساوس الهاجس البدعي ، لأن الشريعة ، تدعو للهمة البديعة ، تقول لأتباعها : فما وهنوا لما أصابهم ، لأنهم حملوا كتابهم، وألقوا للعالم خطابهم ، فهداهم ربهم صوابهم .
وأهل السوالف ، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ، لأن لهم في الضلالة سوابق ، فهم يتصيدون كل مارق ، عن الحق آبق ، ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ، فهبوا وتركوا مضجعهم ، ولو أراد الله بهم خيراً لأغاثهم ، ولكن كره الله انبعاثهم .
الفرس بهمته يعض لجامه ويلوك ، فركبه الملوك ، والحمار آثر المقام في الرباط ، فضرب بالسياط :
سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أو حمار
يقدم لك ابن جرير ، كتاب التفسير ، محققاً منقحا ، مدبّجا مصحّحا ، ثم لا تصطفيه ، ولا تقرأ فيه .
ألَّف ابن حجر فتح الباري في ثلاثين سنة ، فلله دره ما أجمل كتابه وأحسنه ، ثم تهمله في الرف ، كأنه دف ، مع الأسف .
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } .
ولو كان في قلب المحب صبابة ... لسار على الأقدام في الشوك والحفى
هذا الكافر مثابر ، كل يوم مغامر ، سيَّر في الأرض السيارة ، وأطار في السماء الطيارة ، جعل لغذاءك ثلاجة ، ولماءك زجاجة ، ومالك عمل إلا أن تأكل وتشرب ، وتلهو وتلعب .(/71)
ولا تقل الصبا فيه مجال
تفر من الهجير وتتقيه ... وفكركم صبي قد دفنتا
فهلاَّ من جهنم قد فررتا
أنت تفتر والملائكة لا يفترون ، وتسأم العمل والمقربون لا يسأمون ، بم تدخل الجنة، هل طعنت في ذات الله بالأسنة ، هل أوذيت في نصر السنة ، انفض عنك غبار الخمول ، يا كسول ، فبلال العزيمة أذّن في أذنك فهل تسمع ، وداعي الخير دعاك فلماذا لا تسرع . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ }
ولابد للهمم الملتهبة أن تنال مطلوبها ، ولابد للعزائم المتوثبة أن تدرك مرغوبها ، سنة لا تتبدّل ، وقضية لا تتحوّل .
جزى الله المسير إليك خيراً ... وإن ترك المطايا كالمزادِ
واعلم أن الهمة توقد القلب ، واستسهال الصعب ، وركوب الخطب ، فالعذاب بالهمة عذب . ومن عنده همة عارمة ، وعزيمة صارمة ، اقتحم بها أسوار المعالي ، وصار تاريخه قصة الليالي .
فقل للمتخلفين اقعدوا مع الخالفين ، لأن المنازل العالية ، والأماني الغالية ، تحتاج إلى همم موّاره ، وفتكات جبارة ، لينال المجد بجدارة .
وقل للكسول النائم ، والثقيل الهائم ، امسح النوم من عينيك ، واطرد الكرى من جفنيك ، فلن تنال من ماء العزة قطرة ، ولن ترى من نور العلا خطرة ، حتى تثب مع من وثب ، وتفعل ما يجب ، وتأتي بالسبب .
أقسمت أن أوردها حرة
إما فتى نال المنى فاشتفى
إذا سألت الله في كل ما
بهمة تخرج ماء الصفا ... وقاحة تحت غلام وقاحْ
أو فارس زار الردى فاستراحْ
أملته نلت المنى والنجاحْ
وعزمةٍ ما شابها قول آحْ
ألا فليهنأ أرباب الهمم ، بوصول القمم ، وليخسأ العاكفون على غفلاتهم في الحضيض ، فلن يشفع لهم عند ملكوت الفضل نومهم العريض ، وقل لهؤلاء الراقدين { إنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ } فهُبّوا إلى درجات الكمال نساءً ورجالا ، ودربوا على الفضيلة أطفالا ، وانفروا خفافاً وثقالا .
**************************
مقامَة البخلاء
{ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ }
إني نزلت بكذابين ضيفهم
جود الرجال من الأيدي وجودهموا ... عن القرى وعن الترحال مردود
من اللسان فلا كانوا ولا الجود
البخيل نذل ، والبخل خلق رذل ، وحسبك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - استعاذ من البخل ، وليت البخيل إذا علا مات ، لأن له على بخله علامات ، فمنها أن يفقد الصواب ، إذا طُرق الباب ، ويُكثر السباب ، عند رؤية الأجناب ، وإذا رأى الضيف ضاق صدره ، والتبس عليه أمره ، فتعلوه قشعريرة ، ويقع في حيرة ، ومنها أن يكثر الأعذار ، ليخرج نفسه من هذه الأخطار ، وإذا قام بضيافة ، نوّه بها وهوّ لها كأنه تولى الخلافة .
يذم الأجواد ، ويمدح الاقتصاد ، يتفجع إذا رأى طعامه يغرف من القدر ، تفجع الخنساء على أخيها صخر ، أوصى بخيل ولده ، وقد قطع بالإنفاق كبده ، فقال يا بني ما هذا الإسراف ، يا أيها المتلاف ، أما تخشى أما تخاف ، ما تؤثر فيك النصائح ، ولا تخاف الفضائح ، أين من كان يقتصد ، ويحفظ ماله ويجتهد ، كان أحدهم رحمه الله يضع ماله في صُره ، لِئلا يؤخذ على غِرّة ، ثم يُخرج الصرّة ، في كل سنة مرّة ، فيقرَأُ عليها المعوذات ، وأعوذ بكلمات الله التامات ، كان الرغيف يسد رمقه من الصباح إلى الليل ، لأنه يعلم أن الدهر أبو الويل ، فخلف من بعدهم خلف ، فيهم كل مسرف جلف ، يأكل في اليوم ثلاث وجبات ، ولا يتفكر في مصارع الأموات ، ليرتدع من هذه الزلات.
أما أخبار البخلاء ، فقد جمعها بعض الأدباء .
فمنها أن بخيلاً دخل بيته ونسي أن يغلق الباب ، فدخل على إثره فقير ممزق الثياب، فناوله البخيل قطعة خبزة ، ثم أخذ حبلاً وربطه وحزّة ، وقال والله لا أتركك تخيف مسلماً هذه الليلة ، أو تروع مؤمناً بكل حيلة .
وقدّم بخيل الطعام لضيوفه ، ثم جلس مهموماً محسورا ، وقال : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا ، وطرق فقير باب بخيل ، وقد أظلم الليل ، فلم يفتح البخيل بابه ، ولم يرفع حجابه ، فصاح الفقير بصوت كسير : أين من كانوا يفرحون إذا رأوا أضيافا ، فرد البخيل بقوله : ماتوا مع الذين لا يسألون الناس إلحافا .
وأعطى أحد الوزراء بخيلاً مائة ألف دينار ، حتى أصبح بها من الأغنياء الكبار ، فقال له جيرانه ، هنيئاً لك المبلغ الكبير ، فقال : والله ما هو بكثير ، وعندي زوجة وطفل صغير ، فإذا أراد أن يخرج منها دينارا ، قبَّله مرارا ، وقال : بأبي أنت وأمِّي ، ما أطيبك حيّا ، وما أطيبك ميتا .
وقال فقير لبخيل أعطني درهماً فقط ، فقال هذا غلط ، وجور وشطط ، لأن الدرهم مع الدرهم ، مائة درهم ، ثم يزيد إلى ألف ، ثم إلى مائة ألف ، فتريد أن تهدم مالي ، وتجوع عيالي بسؤالي ، وافرض أنني أعطيت درهما ، فلن ألبث حتى أصير مثلك معدما ، فأنت تريد أن تغشنا فارحل عنا ، ومن غشّنا فليس مِنّا .(/72)
ودخل رجل أكول على بخيل فقدم له غداءه ، وجلس حذاءه ، وقال له يوصيه ، اجعل ثلث بطنك للغذاء ، وثلثاً للماء ، وثلثاً للهواء ، قال الأكول : بل كلها للطعام ، يا سيد الكرام ، لأن الماء سوف ينش ، والهواء سوف يفش ، فقال البخيل : أنا منذر محذر ، ومن أنذر فقد أعذر .
واعلم أن البخيل كثير الأعذار ، دائم الإنذار ، فإن جئته مبكراً قال : مالك تقدمت، وإن أبطأت قليلاً قال : هداك الله تأخرت ، إذا حل به ضيف نسي الترحيب ، وقال : هذا يوم عصيب ، وإن طرق بيته طارق ، رآه كأنه سارق ، وإذا دخل عليه الضيف قلل الكلام ، وأكثر على أهله السب والخصام ، ولا يسأل الضيف عن أخباره ، بل تراه كثير القيام والقعود بداره ، وتراه لا يترك في البيت صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فهو يعرف ما له علاقة بالنفقة قد ضبطها ووعاها ، إذا نقص دينه ذكر المعاذير ، وأن الإنسان لا يسلم من التقصير ، فإذا أراد أحد التعرض لشيء من ماله ، أنكر بقلبه ويده ولسانِه ، وأظهر الحمية والأخذ بالثأر ولو من إخوانه ، قد هيأ العذر لكل حاجه ، وإلاّ لَمْ يَجِدْ استعمل الغضب واللجاجة ، فإن أتاه طالب ، ووفد إليه راغب ، قال الحقوق كثيره ، والحاجات كبيرة ، ويعيد عليك متن خير الناس ، من لا يحتاج إلى الناس ، وأفضلهم من كف عنه الباس .
ومن وصايا البخيل : عليكم يا إخوان بحفظ المال ، فإنه لا يعلم أحد بتغير الأحوال، والدنيا من حال إلى حال ، ولن ينفعك إلا مالك ، ولن يقف معك أعمامك وأخوالك ، واذكروا يا إخوان تقلب الزمان ، وقلة الأعوان ، فرحم الله من أمسك ديناره، وأغلق داره، ولم تخدعه الدنيا الغراره ، فعليكم بالاقتصاد ، فإنه مذهب الأجواد ، فقد أدركنا أقواماً من الصالحين ، كانوا يكيلون الطحين ، ويقتصدون حتى في شرب الماء، لِئلا تذهب أقوالهم هباء ، ومنهم من كان يفترش التراب ، وينام على الأخشاب ، ومنهم من كان يكتفي بوجبة ، في اليوم واحدة ، ليغيظ بجمع المال حاسده ، ثم يقول : وقد أدركت قوماً من الأولياء ، ينامون بلا عشاء ، ويكتفون بالفطور عن الغداء ،وكان أحدهم إذا حدثته نفسُه الأمارة بالسُّوء بشراء طعام ، لامها أشد الملام ، وخطمها عن شهواتها بخطام ، وزمّها عن رغباتها بزمام ، ولقد أدركت عبداً من الأبرار ، وولياً من الأخيار ، حدثته نفسه الأمارة ، بشراء خيارة ، فرجع على نفسه بالتوبيخ ، وأقسم لها لن يعطيها هواها ولو أرادت قطعة من البطيخ ، لأن القوم لما صحت منهم العقول ، تركوا الفضول ، وحفظوا أموالهم من كل مسرف جهول ، ولقد أدركنا مريم العابدة ، المقتصدة الزاهدة ، وكانت تبيع الفصفص ، ولها في ذلك علم وتخصص ، فإذا اجتمع لها ريال ، وضعتها وراء الأقفال ، وأقسمت بالله لا يزال حتى تزول الجبال ، وكانت رحمها الله ، إذا ظمأ الحمار ، ابطأت عليه بالماء ولو كان الماء في الدار ، لتعوّده التحمل والاصطبار ، وكانت تأخذ النخالة من الشعير ، فتجعلها كالخبز الفطير ، وكانت تمشي بين القرى ، تجمع قطع الفرى، وكلما وجدت عوداً أخذته ، وإذا مرت بحب جمعته ، فلا يأتي المساء ، إلا وقد أدركها الإعياء ، لكن يهون التعب ، ويذهب النصب ، إذا تذكرت صروف الأيام ، وطول الأعوام ، قال : وقد أدركت شيخاً كبيرا ، كان بالأيام بصيرا ، بقي عليه ثوبه عشرين عاما ، حتى أصبح الثوب ألواناً وأقساما ، فكلما انخرق الثوب خاطه برقعة، حتى صار مائة بقعة ، ثم جاء قوم من المبذرين ، لا يحبّون المنذرين ، يفني أحدهم ثوباً كل عام ، ولا يخاف العذاب والملام ، قال : ولقد أدركت حامد المقتصد ، وكان في حفظ المال يجتهد ، بقيت معه حذاؤه عشر سنوات ، وكان يمشي حافياً في الفلوات ، وربما حمل حذاءه بيده الكريمة ، خوفاً من العواقب الوخيمة ، فإذا نام جعلها تحت رأسه ، حرصاً عليها من غدر السارق وبأسه ، فانظر حرصهم رحمهم الله على حفظ المال ، وعدم اغترارهم بلوم الرجال ، فأين حالنا من حالهم ، ولذلك لا يقارن مالنا بمالهم ، ثم بكى حتى كادت أضلاعه تختلف ، وأخذ يقول ما أحسن أخبار من سلف، وما أكثر إسراف هؤلاء الخلف .
مقامَة السعادة
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
دع الأيام تفعل ما تشاء
ولا تجزع لحادثة الليالي ... وطب نفساً إذا حكم القضاء
فما لحوادث الدنيا بقاء(/73)
قال الراوي : جاءنا رجل مهموم ، قد أنهكته الغموم ، فهو من الحزن مكظوم ، فقال : أيها الناس ، حل بنا البأس ، وذهب منا السرور والإيناس ، وتفرد بنا الشيطان ، فأسقانا حميم الأحزان ، فهل منكم رجل رشيد ، رأيه سديد ، يصرف عنا هذا العذاب الشديد ، فقام شيخ منا ، ينوب عنا ، وهو أكبرنا سنا ، فقال : أيها الرجل الغريب ، شأنك عجيب ، تشكوا الهم والوصب ، والغم والنصب ، وأراك لم يبق منك إلا العصب، أما تدعوا الرحمن ، أما تقرأ القرآن ، فإنه يذهب الأحزان ، ويطرد الوحشة عن الإنسان ، ثم اعلم وافهم ، لتسعد وتسلم ، إن من أعظم الأمور ، في جلب السرور ، الرضا بالمقدور ، واجتناب المحذور ، فلا تأسف على ما فات ، فقد مات ، ولو أنه كنوز من الذهب والجنيهات ، واترك المستقبل حتى يقبل ، ولا تحمل همه وتنقل ، ولا تهتم بكلام الحساد ، فلا يحسد إلا من ساد ، وحظي بالإسعاد ، وعليك بالأذكار ، فيها تحفظ الأعمار ، وتدفع الأشرار ، وهي أُنس الأبرار ، وبهجة الأخيار ، وعليك بالقناعة ، فإنها أربح بضاعة ، واملأ قلبك بالصدق ، واشغل نفسك بالحق ، وإلا شغلتك بالباطل ، وأصبحت كالعاطل ، وفكر في نعم الله عليك ، وكيف ساقها إليك ، من صحة في بدن ، وأمن في وطن ، وراحة في سكن ، ومواهب وفطن ، مع ما صرف من المحن ، وسلم من الفتن ، واسأل نفسك في النعم التي بين يديك ، هل تريد كنوز الدنيا في عينيك ؟ أو أموال قارون في يديك ؟ أو قصور الزهراء في رجليك ؟ أو حدائق دمشق في أذنيك ؟ وهل تشتري ملك كسرى بأنفك ولسانك وفيك ، مع نعمة الإسلام،ومعرفتك للحلال والحرام ، وطاعتك للملك العلام ، ثم أعطاك مالاً ممدودا ، وبنين شهودا ، ومهّد لك تمهيدا ، وقد كنت وحيدا فريدا . واذكر نعمة الغذاء والماء والهواء ، والدواء والكساء ، والضياء والهناء مع صرف البلاء ، ودفع الشقاء .
ثم افرح بما جرى عليك من أقدار ، فأنت لا تعرف ما فيها من الأسرار ، فقابل النعمة بالشكر ، وقابل البلية بالصبر ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، واغفر لكل من قصّر في حقك وأساء ، واغسل قلبك سبعاً من الأضغان ، وعفّره الثامنة بالغفران ، وانهمك في العمل ، فإنه يطرد الملل ، واحمد ربك على العافية ، والعيشة الكافية ، والساعة الصافية ، فكم في الأرض من وحيد وشريد ، وطريد وفقيد ، وكم في الأرض من رجل غلب ، ومال سلب ، وملكه نهب ، وكم من مسجون ، ومغبون ومديون ، ومفتون ومجنون ، وكم من سقيم ، وعقيم ويتيم ، ومن يلازمه الغريم ، والمرض الأليم
واعلم أن الحياة غرفة بمفتاح ، تصفقها الرياح ، لا صخب فيها ولا صياح ، وهي كما قال ابن فارس :
ماء وخبز وظل
كفرت نعمة ربي ... ذاك النعيم الأجل
إن قلت إني مقل
واعلم أن لكل باب من الهم مفتاح من السرور ، للذنب رب غفور ، والفلك يدور ، وأنت لا تدري بعواقب الأمور ، وملك كسرى تغني عنه كسرة ، ويكفي من البحر قطرة ، فلا تذهب نفسك على الدنيا حسرة ، ولا تتوقع الحوادث ، ولا تنتظر الكوارث ، ولا تحرم نفسك لتجمع للوارث ، ويغنيك عن الدنيا مصحف شريف ، وبيت لطيف ، ومتاع خفيف ، وكوز ماء ورغيف ، وثوب نظيف .
والعزلة مملكة الأفكار ، والدواء كل الدواء في صيدلية الأذكار ، وإذا أصبحت طائعاً لربك ، وغناك في قلبك ، وأنت آمن في سربك ، راضٍ بكسبك ، فقد حصلت على السعادة ، ونلت الزيادة ، وبلغت السيادة .
واعلم أن الدنيا خداعة ، لا تساوي همّ ساعة ، فاجعلها طاعة .
فلما انتهى من وعظه ، أعجب بلفظه ، وحسن لحظه ، وقال له : جزاك الله عني أفضل الجزاء ، فقد صار كلامك عندي أشرف العزاء .
******************************
مقامَة الفرج بعد الشدة
{ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا }
عسى فرج يكون عسى
نعلل أنفسنا بعسى
فلا تجزع إذا حملت هماً يقطع النفسا
فأقرب ما يكون المرء من فرج إذا يئسا
إذا ضاق الأمر اتسع ، وإذا اشتد الحبل انقطع ، وإذا اشتد الظلام بدا الفجر وسطع ، سنة ماضية ، وحكمة قاضية ، فلتكن نفسك راضية ، بعد الظمأ ماء وظل ، وبعد القحط غيث وطل ، يا من بكى من ألمه ، ومرضه وكدّه ،يا من بالغت الشدائد في رده وصده ، عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده :
دع المقادير تجري في أعنتها
ما بين غمضة عين وانتباهتها ... ولا تبيتن إلا خالي البالي
يغيّر الله من حال إلى حالي
ما عرفنا لكثرة حزنك عذرك ، سهِّل أمرك ، وأرح فكرك ، أما قرأت ألم نشرح لك صدرك ، ألا تفرح ، وفي عالم الأمل تسرح ، وفي دنيا اليسر تمرح ، وأنت تسمع ألم نشرح ، يامن شكا الخطوب ، وعاش وهو منكوب ، ودمعه من الحزن مسكوب ، في قميص يوسف دواء عيني يعقوب ، وفي المغتسل البارد شفاء لمرض أيوب .
الغمرات ثم ينجلينا ... ثمت يذهبنا ولا يجينا(/74)
للمرض شفاء ، وللعلة دواء ، وللظمأ ماء ، وللشدة رخاء ، وبعد الضراء سراء ، وبعد الظلام ضياء ، نار الخليل تصبح باليسر كالظل الظليل ، والبحر أمام موسى يفتح السبيل ، ويونس بن متى يخرج من الظلمات الثلاث بلطف الجليل .
المختار في الغار ، أحاط به الكفار ، فقال الصِدِّيق هم على مسافة أشبار ، ونخشى من الدمار ، فقال الواثق بالقهار ، إن الله معنا ، وهو يسمعنا ، ويحمينا كما جمعنا .
هي الأيام والغير
أتيأس أن ترى فرجاً ... وأمر الله ينتظر
فأين الله والقدر
قل لمن في حضيض اليأس سقطوا ، وعلى الشؤم هبطوا،وفي مسألة القدر غلطوا ، اعلموا أنه ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ، كان بلال يسحب على الرمضاء ، ثم رفع على الكعبة لرفع النداء ، وإسماع الأرض صوت السماء .كان يوسف مسجوناً في الدهليز، ثم ملك مصر بعد العزيز ، كان عمر يرعى الغنم في مكة ، ثم نشر بالعدل مُلكه ، وطبعت باسمه السَّكة ، وهو الذي قطع حبل الجور وفكَّه ، وسحق صرح الطغيان ودكَّه .
يا من داهمته الأحزان ، وأصبح وهو حيران ، وبات وهو سهران ، ألم تعلم أنه في كل يوم له شأن ، يا من هده الهم وأضناه ، وأقلقه الكرب وأشقاه ، وزلزله الخطب وأبكاه ، أنسيت من يجيب المضطر إذا دعاه .
إذا اشتملت على اليأس القلوب
وأوطنت المكاره واطمأنت
ولم تر لانكشاف الضر نفعاً
أتاك على قنوط منك غوث
وكل الحادثات وإن تناهت ... وضاق بما به الصدر الرحيب
وأرست في أماكنها الخطوب
وما أجدى بحيلته الأريب
يمن به اللطيف المستجيب
فموصول بها فرج قريب
سيجعل الله بعد عسر يسراً ، ولا تدري لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً .
سينكسر قيد المحبوسين ، في زنزانات المتجبرين ، وسيسقط سوق الجلادين ، الذي قطعوا به جلود المعذبين ، وسيمسح دمع اليتامى ، وتهدأ أنات الأيامى ، وتسكن صرخات الثكالى . هل رأيت فقيراً في الفقر أبداً ، هل أبصرت محبوساً في القيد سرمداً ، لن يدوم الضر لأن هناك أحداً فرداً صمداً .
من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ، ومن كل همٍّ فرجا،بلا حول ولا قوة إلا بالله تحمل الأثقال ، وتسهل الأهوال ، وتصلح الأحوال ، ويشرح البال ويرضى ذو الجلال . بشر الليل بصبح صادق يطارده على رؤوس الجبال ، وبشر القحط بماء زلال ، يلاحقه في أعماق الرمال ، وبشر الفقير بمال ، يزيل عنه الإملاق والأمحال :
لا تيأس عند النوب
واصبر إذا ما ناب خطب
وترج من روح الإله ... من فرجة تجلو الكرب
فالزمان أبو العجب
لطائفاً لا تحتسب
واعلم أن لكل شدة ، مدة ، وإن على قدر المؤونة ، تنزّل المعونة ، وإن الله يستخرج البلاء ، بصادق الدعاء ، وخالص الرجاء .
واعلم أن في الشدائد إذابة الكبر ، واستدرار الذكر ، وجلب الشكر ، وتنبيه الفكر.
فارحل بقلبك إذا الهم برك ، واشرح صدرك عند ضيق المعترك ، ولا تأسف على ما مضى ومن هلك ، فليس بالهموم عليما درك ، واعلم أنه لا يدوم شيء مع دوران الفلك ، وعسى أن تكون الشدة أرفق بك ، والمصيبة خير لك . فإذا ضاقت بك السبل ، وانقطعت بك الحيل ، فالجأ إلى الله عز وجل .
واعلم أن الشدائد ليست مستديمة ، ولا تبقى برحابك مقيمة، ولعل الله ينظر إليك نظرة رحيمة ، والدنيا أحوال ، وألوان وأشكال ، ولن تدوم عليك الأهوال ، فسوف تفتح الأقفال ، وتوضع عنك الأغلال ، واصبر وانتظر من الله الفرج ، فكأنك بليل الشدة قد انبلج :
لا تعجلن فربما
فالعيش أحلاه يعو
ولربما كره الفتى ... عجل الفتى فيما يضره
د على حلاوته بمره
أمراً عواقبه تسره
واعلم أن الشدائد تفتح الأسماع والأبصار ، وتشحذ الأفكار ، وتجلب الاعتبار ، وتعلم التحمل والاصطبار ، وهي تذيب الخطايا ، وتعظم بها العطايا ، وهي للأجر مطايا .
فاطلب من الله الرعاية ، واسأله العناية ، فلكل مصيبة غاية ، ولكل بلية نهاية .كم من مرة خفنا ، فدعونا ربنا وهتفنا ، فأنقذنا وأسعفنا ، كم مرة جعنا ، ثم أطعمنا ربنا وأشبعنا ، كم مرة زارنا الهم ، وبرح بنا الغم ، ثم عاد سرورنا وتم ، كم مرة وقعنا في الشباك ، وأوشكنا على الهلاك ، ثم كان من الله الانطلاق والانفكاك ، أنت تعامل مع لطيف بعباده، معروف بإمداده ، جواد في إسعاده ، غالب على مراده ، فلُذ به وناده ، إذا داهمتك الشدائد السود ، وحلت بك القيود ، وأظلم أمامك الوجود ، فعليك بالسجود ، وناد يا معبود ، يا ذا الجود ، أنت الرحيم الودود ، لترى الفرج والنصر والسعود :
لطائف الله وإن طال المدى
كلمحة الطرف إذا الطرف سجى
كم فرج بعد إياس قد أتى
وكم سرور قد أتى بعد الأسى
أيها الإنسان في آخر النفق مصباح ، ولِباب الهموم مفتاح ، وبعد الليل صباح ، وكم هبت للقانط من الفرج رياح .
أيها الظمآن وراء هذا الجبل ماء ، أيها المريض في هذه القارورة دواء ، أيها المسجون انظر إلى السماء ، أيها المتشائم امسك حبل الرجاء .
كن كالنملة في صعود وهبوط ، وعلو وسقوط ، ولا تعرف اليأس ولا القنوط ، ولا تعترف بالإحباط في كل شوط .(/75)
كن كالنحلة في طلب رزقها قائمة ، وفي حسن ظنها دائمة ، وعلى الزهور حائمة ، وفوق الروض عائمة وليست مع اليأس نائمة .
كن كالهدهد ، مع كل صباح ينشد ، ومع الربيع يتجدد ، وعلى بلقيس تردد ، وسليمان له تفقد ، فأسلم لربه ووحد ، وأنكر على من كفر وألحد ، فنال المجد المخلد ، والذكر المؤبد .
أيها المشتكي وما بك داء
كيف تغدو إذا غدوت عليلا
أترى الشوك في الورود وتعمى
أن ترى فوقه الندى إكليلا
والذي نفسه بغير جمالٍ
لا يرى في الوجود شيئاً جميلا
على رؤوس الجبال شمس من الفرج شارقة ، وعلى مشارف التلال هالة من النور بارقة ، وعلى كل باب للحزن من السرور طارقة .
افتح عينيك ، ارفع يديك ، لا تساعد الهم عليك ، ولا تدعو اليأس إليك .
السمك والقرش ، والطيور والطرش ، كلها ترجو رب العرش ، فاتجه أنت إليه ، واشك الحال عليه ، فإن فرجه أسرع من البرق الخاطف ، وله في كل لحظة لطائف .
اللهم اصرف عنا المصائب ، ورد عنا النوائب ، وكُف عنا كَفّ المعائب .
اللهم سهّل الحزون ، وهوّن المنون ، وأشبع البطون ، وافتح للمضطهدين أبواب السجون ، واجعل الخائفين من أمنك في حصون ، اللهم احلل الحبال المعقدة ، وسهل الأمور المشددة ، واكشف السحب الملبّدة ، وأجب سهام الليل المسددة .
اللهم اجعل لليل همومنا صباح من الفرج يشرق ، ولظمأ أكبادنا نهر من الأمل يتدفق ، ولجراح مآسينا يد بالشفاء تترفق .
اللهم أغننا عن الناس ، وارزقنا مما في أيديهم اليأس ، ورد عنا البأس ، واجعل التقوى لنا أجمل لباس ، وأقوى أساس .
لك الحمد حتى يملأ طباق الغبراء ، وأجواء السماء ، ولك الثناء حتى تشدو به الأطيار ، وتميل به الأزهار ، ويحمله الليل والنهار .
ولك المجد يا ذا الجود ، ما قام الوجود ، وسال الماء في العود ، ونصب للحياة عمود
هل يرجى سواك ، هل يعبد إلا إيّاك ، هنيئاً لمن دعاك ، وطوبى لمن ناجاك .
والصلاة والسلام على عبدك ومصطفاك ، وحامل هداك .
وختاماً :
اشتدي أزمة تنفرجي ... قد آذن ليلك بالبلج
***************************
المقامَة الشبابيّة
{ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى }
بكيتُ على الشباب بدمع عيني
فيا أسفاً أسفتُ على شبابٍ
عَريتُ من الشباب وكان غضا
ألا ليت الشبابَ يعود يوما ... فما نفع البكاءُ ولا النَّحيبُ
نعاه الشيبُ والرأس الخضيبُ
كما يَعْرَى من الورق القضيبُ
فأخبره بما فعل المشيبُ
قال الراوي : دخلنا على جماعة من الشباب ، قد أسدلوا الشعر وأسبلوا الثياب ، ووقعوا في جدال وسباب ، فقام خطيبنا فقال وأصاب ، وأقسم بمن أنزل الكتاب ، وأجرى السحاب ، وهزم الأحزاب ، أن الشباب أمل الأمة المنشود ، وعلمها المعقود ، وسجلها المحمود ، ثم التفت إلى الشباب فقال ، وقد فاض دمعه وسال : ما لكم خالفتم السنة ، وهجرتم طريق الجنة ، تركتم هدي النبي ، وتشبهتم بالأجنبي ، قال أوسطهم طريقة ، وأعرفهم حقيقة : لماذا وجهت الكلام إلينا ، وماذا تنقم علينا ؟
قال الخطيب : سبحان الملك القدوس ، ما أغبى هذه النفوس!،أليست أوقاتكم في القيل والقال ، وإضاعة المال ، وهدر الساعات الطوال ، قصَّرتم في الطاعة ، وبالغتم في الإضاعة ، وفرطتم في صلاة الجماعة ، هجرتم القرآن ، وأطعتم الشيطان ، وغرّكم الشباب الفتّان ، ألستم أحفاد المهاجرين والأنصار ، وأبناء الأبرار ، وعليكم تعلق الآمال الكبار . فقام أصغرهم ، وهو في العين أحقرهم ، فقال : أيها الخطيب ، يكفي هذا التأنيب ، فإنهم قالوا : لا ينفع التهذيب في الذيب ، واعلم أنا في عصر الصبا ، كنبت الربى ، وكم من سيف نبا ، وضوء خبا ، وجواد كبا ، فلا تشمت بنا العِدا ، ولا تكثر المرا ، قال الخطيب : عجب ، أيها الخب ابن الخب ، أتيت بعذر أقبح من ذنب ، أتعتذر بالشبيبة ، لعمل كل خيبة ، فهذه مصيبة ، هؤلاء الصحابة ، كلٍّ حفظ شبابه ، وحمل كتابه ، وخاف حسابه ، وهل عندكم عهد وأمان ، من طروق الحدثان ، أم أنكم في لهوكم تلعبون ، ولهواكم تركبون ؟
قال قائل منهم ، وقد ناب عنهم ، يا عم : ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، وما نزع الرفق من شيء إلا شانه . ونحن في مقتبل العمر ، وفي غفلة من الدهر ، فدعنا نبهج ابتهاج الزهر ، ونقبل على الدنيا إقبال القطر ، كما قال الشاعر :
أقبل على اللذات ويحك إنه
تطوى بك الأيام والساعاتُ
واترك مواعظ من يُخوِّف بالردى
قبل الردى يا صاحبي أوقاتُ
قال الخطيب والذي قرّت بحبه العيون ، وأزال بالعلم الظنون ، إنكم في غيّكم تلعبون ، ومن حتفكم تطربون ، أين العقول هل ذهبت ، أين البصائر هل سُلبت ، أما ترون أنه يُساق بكم إلى القبور ، وكل واحد منكم مغرور ، تغترون بالمُهلة ، وتظنون أن الأمور سهلة :
فلا تقل الصبا فيه امتهال
تفر من الهجير وتتقيه ... وفكر كم صبيٍّ قد دفنتا
فهلاّ من جهنم قد فررتا(/76)
يا قوم : الأنفاس تكتب عليكم ، والمنايا تزف إليكم ، فقال أحدهم : فماذا نفعل أيها الواعظ ؟ فإني أراك تنتقد وتلوم وتلاحظ ، هل ترانا في حياتنا أخطأنا ، وعن مناد الصلاح أبطأنا ؟ قال الخطيب : أين نور الهداية ، وحسن البداية ، والاستعداد للنهاية ، المساجد منكم مهجورة ، والمقاهي بكم معمورة ،كل منكم ركب لهوه وطيشه،وأقبل على الدخان والشيشة ، تسبلون الإزار ، وتطيلون الأظفار ، وتقلّدون الكفار ، تضيّعون الصلوات ، وتقعون في الشهوات ، وتسهرون الساعات ، وتزجون الأوقات ، لم تفلحوا في دنيا ولا دين ، وأراكم في غيّكم قاعدين ، لستم في صلاح ولا طاعة ، ولا سنة ولا جماعة ، ولا صناعة ، ولا زراعة ، ولا جلب بضاعة .
شباب الغرب في المصانع عاكفون ، وإلى العمل منصرفون ، وفي التجارة محترفون ، وبالجد والمثابرة متصفون ، المهندس منهم في صناعته ، والفلاح في زراعته ، والتاجر في متابعة بضاعته ، والطبيب في عيادته .
وأنتم ماذا فعلتم ، وأروني ماذا عملتم ؟
أحدكم في الليل جيفة ، وفي النهار ريشة خفيفة ، فَصَلْتم من الجامعة ، وهجرتم القراءة والمطالعة ، وجلستم على القارعة ، كل منكم قد أزعج شارعه، شغلتكم الأغاني والأماني عن المثاني ، للرياضة تشجعون ، وللمنتخب تتابعون ، وللملاعب تسارعون ، وفي اللهو واللغو بارعون ، حياتكم فوضة ، تتابعون آخر موضة ، كأنكم أطفال الروضة.
متى عهدكم بالقرآن ، هل حفظتم شيئاً من سنة ولد عدنان ، لا تعرفون المؤلفين والمكتشفين ، والمخترعين والبارعين ، ولا تذكرون أحداً من العلماء والحكماء ، والأدباء، والأولياء ، حفظتم عن ظهر قلب أسماء المغنيّين ، واللاعبين ، واللاّهين، والمسرحيّين ، والممثلين ، عققتم الأوطان ، وأطعتم الشيطان .
هَمُّ أحدكم حذاء وساعة ، وميدالية لمّاعة ، كأنه شمّاعة .
ما لكم أهداف سامية ، ولا همم عالية ، ولا أخلاق غالية ، ما عندكم عزائم ، أصبتم بإحباطاتٍ وهزائم ، مقصد أحدكم الأفراح والولائم .
ألستم أحفاد الراشدين ، وأبناء المجاهدين ، وسلالة العابدين .
صار همّ أحدكم ثياب فاخرة ، وجلسات ساخرة ، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة . كأنكم أطفال يفرح أحدكم بركوب السيارة ، ومشاهدة الطيارة ، ومعايشة السيجارة ، تحفظون أسماء اللاعبين ، وتغفلون عن أسماء العلماء العاملين ، اتركوا الشوارع، واخرجوا إلى الجوامع ، اذهبوا إلى المصانع ، هبوا إلى المزارع ، هيّا إلى الحدادة والنجارة ، هيّا إلى الصناعة والعمارة ، هيّا إلى البيع والتجارة ، هيّا إلى الورشة والنشارة .
نريد منكم علماء وحكماء وأطباء وأدباء .
شباب الحق للإسلام عودوا
وأنتم سرّ نهضته قديماً ... فأنتم مجده وبكم يسود
وأنتم فجره الباهي الجديد
فقال أحدهم وقد تسربل بالخجل ، وتكنفه الوجل ، فتكلم على عجل ، فقال : لسنا سبب الضياع ، وإنما آباؤنا الرعاع ، أهملونا من زمن الرضاع ، ما أعطونا من ماء التربة ولو قطرة ، وفي الحديث كل مولود يولد على الفطرة .
ما كانوا يسألون عنّا ، كأنا لسنا منهم وليسوا منّا ، ربّونا تربية الدواب، وعلمونا تعليم الأعراب ، فنفوسنا من الآداب خراب .
أشغلونا بالتلفزيون ، والتلفون ، وسيّبونا في السكك مع شباب يهمزون ويغمزون ، ما أخذونا إلى المساجد ، ما عرّفونا على عالم واحد ، ما حفّظونا الآيات البيّنات ، ما علّمونا الأحاديث النبويّات ، أهملونا للمجلاّت الخليعات ، والأفلام المائعات، والسهرات الضائعات . غرسوا فينا حب الرذيلة ، وكراهية الفضيلة ، علّمونا سوء الأدب ، وكثرة الضحك من غير سبب ، وسرعة الغضب ، وإضاعة الطلب .
فقال الخطيب : قد سمعت ما قلت ، وأنت بالحق نطقت ، وبررت فيما قلت وصدقت ، ولكن ما عذركم الآن ، وقد وضح لكم الربح من الخسران ، والتوفيق من الخذلان ، وقد قال شاعر أصفهان :
هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها
ما بال أشيب يستهويه شيطان
فليس لكم عذر في الآباء ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، أيها الأبناء ،جددوا التوبة، وأصلحوا الأوبة ، وارقعوا بيد الصلاح ما تمزق من ثوب الأعمار،واغسلوا بدمع الندم ما تركته الذنوب من غبار ، واتركوا مصاحبة الفجّار ، ومصادقة الأشرار ، ومرافقة الشطار ، والتشبه بالكفار ، أقبلوا على الحياة السعيدة ، واعكفوا على الكتب المفيدة ، وتخلّقوا بالأخلاق الحميدة ، واحملوا الآداب الرشيدة ، حافظوا على تكبيرة الإحرام ، واجتنبوا الحرام ، وتوبوا من العشق والغرام ، وارتفعوا إلى منازل الكرام ، تذكّروا الموت وسكرته ، والقبر وظلمته ، والحساب ودقته ، والصراط ومزلته ، تفكروا في البعث والنشور ، يوم يبعثر ما في القبور ، ويحصّل ما في الصدور ، وينفخ في الصور ، ويعضُّ على كفه المثبور ، وتقصم الظهور .
والله لو عاش الفتى في عمره
ألفاً من الأعوام مالك أمره
ما كان ذلك كله في أن يفي
فيها بأول ليلة في قبره(/77)
فلما سمعوا كلامه ، وشاهدوا مقامه ، غلبتهم الحسرة والندامة ، ووضع كل منهم على وجهه أكمامه ، وبكوا بكاء من عاين القيامة ، وتذكر لياليه وأيامه .
فرفع الخطيب يديه ، واجتمعوا عليه ، ودنوا إليه ، فقال: اللهم يا قويّ الأسباب ، يا كريم الجناب ، افتح لعبادك الأبواب ، وتب على من تاب ، وارحم هؤلاء الشباب ، فإنك تقيل العثرات ، وتغفر الزلات ، وتعفو عن السيئات ، وتتجاوز عن الخطيئات ، اللهم أصلح قلوبهم ، واستر عيوبهم ، واحفظ غيوبهم ، واغفر ذنوبهم .
ثم قال الخطيب : هيّا بنا إلى المسجد ، لنركع ونسجد ، ونصلي ونتعبد ، ونعود إلى الله فالعود أحمد ، ونقتدي بالرسول محمّد .
فسمعوا نداءه ، وأجابوا دعاءه ، وذهبوا وراءه ، فأصلح الله لهم البال ، ووفقهم لأحسن الأعمال ، وأزكى الأقوال ، وأشرف الأحوال ، فصاروا كالنجوم الزاهرة ، والبدور الباهرة ، بقلوب طاهرة ، وأعمال بالخير ظاهرة .
***************************
المقامَة السياسيّة
(( كل بطاّح من الناس له يوم بطوح ))
من مخبر القوم شطت دارهم ونأت
عفت السياسة حتى ما ألم بها
لأنَّها جَشَّمِتني كلَّ نائبةٍ ... أني رجعت إلى كتبي وأوراقي
وقد رددت إليها كل ميثاقِ
وأنّها كلفتني غير أخلاقي
مالك في ديار السياسة تجوس ، اهرب من ساس يسوس ، أما علمت أن وجهها منحوس ، ورأسها منكوس ، وهي التي قطعت الرؤوس ، وأزهقت النفوس ، وضيّعت الفلوس ، وحملت الناس على اليمين الغموس ، طريقها معكوس ، وعلى جبينها عبوس ، سودت الطروس ، وكسرت التروس ، وخلعت الضروس ، كسفت من أجلها شموس ، وفتحت بظلمها حبوس ، وقطعت بجورها غروس ، كانت الدنيا قبلها عروس ، وهي التي عطلت الناموس ، وأباحت المحرمات للمجوس .
لا تل الأحكام وإن هموا سألوا
إن نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام وهذا إن عدل
عقرت هارون الرشيد في طرطوس ، وقتلت محمد بن حميد في طوس ، واجتاح بها ديار الإسلام أهل البوق والناقوس ، إذا أقبلت تدوس ، وإذا أدبرت تحوس ، بذريعتها لعب الأمريكان في العالم والرُّوس ، تدبّ في القلوب كالسوس ، وتختفي في العقول كالجاسوس ، عاشقها يتخبطه الشيطان كأنه ممسوس ، أشار إليها الحسين فخطفت رأسه، ومازحها الحجاج فخلعت أضراسه ، وداعبها أبو مسلم فأحرقت لباسَه،وزارها مصعب فقتلته وحراسه ، وأحبها يزيد فقطعت أنفاسه ، وصافحها المختار فمزقت أحلاسه ، وأحبها المهلب فاقتلعت أساسه ، وعشقها المتوكل فسلطت عليه جُلاّسه ،وشربها القاهر فكسرت عليه كأسه ، وعانقها ابن الزيات فأحرقت قرطاسه ، وجالسها ابن المقفع فأبطلت قياسه ، كم من ذكي ضيعت مراسه ، وكم من غبي أخرجت وسواسه ، السياسة بالنفاق نجاسة ، وبالغباء تياسة ، وبالغدر تعاسة ، وبالجور خساسة ، وبالظلم شراسة ، اجتنبها أهل الكياسة ، ومات في حبها أهل الرياسة ، بذلوا في حبها الدين والحماسة ، وما حصلوا إلا على التعاسة ، تقاتلوا عليها حسداً ونفاسة ، قُتل البرامكة لأجلها بحجة عباس وعباسة ، فأصبحوا بعد الملك خبراً في كراسة ، وبعد الوزارة دفتراً على ماصة ، هي الوسواسة ، الخناسة ، تذهب بالنجابة والكياسة ، وكم من شجاع أذهبت باسه ، وعقرت أفراسه ، أهلها يُسمّون ساسة ، كل منهم قد حمل على أخيه فاسه .
سعيد النورسي ، بالسياسة نسي ، لينين واستالين ، قتلوا بالسياسة الملايين، فكتبوا في تاريخ الملاعين ، هولاكو الغازي ، وهتلر النازي ، قتلوا باسم السياسة الإنسانية فأصبحوا في الخانة المنسية .
الكلب أكرم عشرة
من معشر طلبوا الرئاسة ... وهو النهاية في الخساسه
قبل تحقيق الرئاسه
كسر كسرى بالسياسة ظهور أهل فارس ، فقيل له :لم فعلت ذلك ؟ فقال: ساس يسوس فهو سائس ، وقصّر قيصر بالسياسة أعناق الروم ، فقيل له لم هذا الصنيع يا محروم ؟ فقال : أردت إصلاح البلاد ، ورحمة العباد .
كدعواك كل يدعي صحة العقل ... ومن الذي يدري بما فيه من جهل
بقنابل سياسة العميان ، دمرت اليابان ، وقتل الصرب الألبان ، واحتل الروس الأفغان ، وجلد المستضعفين شاه إيران ، واعتدى الألمان على الجيران . لكن ذكر كل كافر بربه ، آية : { فَكُلاَّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } .
وكل ما سبق حديثٌ عن السياسة الفاجرة الكافرة ، الساحرة الساخرة .
وهي السياسة البدعيّة ، القائمة على ظلم الرعيّة ، وإهدار الحقوق المرعيّة ، من رأسمالية ، وبعثية ، ونازية ، وشيوعية ، وصان الله من ذلك السياسة الشرعية، لأن السياسة الشرعية رحمة بالبشر ، واتباع للأثر ، ومحاربة من كفر ، وردع من فجر، وهي التي على دستور عمر ، إمام السياسة الشرعية الرسول ، أعدل العدول ، وأفقه الناس في المنقول والمعقول ، وصاحبه الصديق ، بالأمة رفيق ، له عهد مع العدل وثيق ، وقلب من التقى رقيق ، وتلميذه عمر الذي كان وهو خليفة يئن من الجوع ، ويلبس المرقوع ، وتغلبه الدموع ، أولئك هم الناس ، وبهم يضرب القياس ، ويحل الأمن ويدفع الباس .(/78)
وليس لمن خالفهم إلا الإفلاس ، والابتئاس ، والاتعاس ، ليت السيوف الحداد ، لا تعاون أهل الفساد ، في ظلم العباد ، فبسياسة الجور والعناد ، قتل الحسين بسيف ابن زياد . بأيّ سياسة يُكرم جهلة الأنباط ، وتدفع الجوائز لأهل الانحطاط، ويُجلد أحمد بن حنبل بالسياط ، على البلاط :
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ... ويا نفس جدِّي إن دهرك هازل
بأْيّ سياسة يتولى الوليد بن يزيد ، وهو الرعديد ، البليد ، المريد ، وهو الذي فتح المصحف فوجد فيه : واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ، غنته الجارية وهو في السكر ، والنكر ، شارد الفكر ، ذاهب الذكر ، تارك الشكر ، فقال من الطرب : إلى أين أطير ، قال العلماء : طر إلى السعير يا عير . { فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ }
بأي سياسة يصبح الحجاج الوزير ، صاحب الدف والزير ، ليقتل ابن الزبير ، بلا قصاص ولا تعزير .
بأي سياسة يُذبح سعيد بن جبير ، العالم النحرير ، والمحدث الشهير ، وتعطى الجوائز لزرياب ، وتخلع عليه الثياب ، والعلماء يُدفعون عند الأبواب . لو أن المأمون فقه سنة الرسول الأمين ، ولو أن المعتصم درس سنة المعصوم ، لما عذبوا أحمد بن حنبل ، سمّي أحمد النبي المبجل ، لأن أحمد بن أبي دؤاد ، أشغلهم عن الإسناد ، بأقوال أهل الفساد ، وبنقولات فلاسفة بغداد ، وجهلة السواد .
يا لها من سياسة خربانة ، تكرم الزنديق وأعوانه ، وتضع ابن تيمية في زنزانة ، وتحجب عنه إخوانه ، بالسياسة تغزو العالم المزدكية ، وتحكم بغداد الأسرة البرمكية ، ويقتل ذو النفس الزكيّة ، بأي سياسة خرج التتار ، بكل بتار ، فخربوا الديار ، وقتلوا الصالحين الأبرار ، وهدموا كل مسجد ودار، براءة من الله ورسوله إلى سياد بري، لأنه على الدماء جري ، شنق علماء المالكية ، والشنق عند مالك حرام بالكليّة .
دستم من رستم ، مع هليا مريام منجستم ، يا كم تنجستم ، وغرتكم الأماني وتربصتم . بأي سياسة سمى الشيوعيون أنفسهم بالرفاق ، وهم أهل النفاق ، والشقاق ، وسوء الأخلاق . كنىّ أبو جعفر الخراساني أبا مسلم ، فلما ذبحه قال : مت يا أبا مجرم .
أبو مسلم تبختر ، وتكبر ، وتجبر ، فبقر بطنه أبو جعفر ، بالخنجر ، فسحب بعد الملك في السلك وجرجر ، ما شاء الله يجلس الخليفة في بغداد ، على الوساد،ويصفق له العباد ، ويحرسه الأجناد ، فتغنيه الجارية بصوت جميل ، وشَعْرها يميل :
قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزلِ
فيقع الخليفة في الطرب ، فيصب على الجارية الذهب ، وأحمد بن حنبل مسجون في الحق بلا سبب . يجلس الخليفة العباسي ، على الكرسي ، ويقول : يا ناس قبّلوا رأسي ، وامسحوا مداسي ، وقربوا قرطاسي .
فيقوم شاعر طرطور ، منافق مدحور ، فيقول : ما خلق الله مثلك أيها الخليفة ، فأنت صاحب الأخلاق الشريفة ، والمعاني اللطيفة ، والأمجاد المنيفة ، فيقول الخليفة : يا غلام : أعطه ألف دينار ، واكتبوه من خدم الدار ، فشِعْره تاج الأشعار ، هذا وسفيان الثوري عالم الديار ، وزاهد الأمصار ، لا يجد كسرة خبز طيلة النهار .
بأي سياسة يشرد الشعب المسلم من فلسطين على الفور ، بوعد بلفور ، وقلوبه على الظلم تفور ، والعالم الإسلامي بارد جامد هامد ، جاحد شارد خامد ، لا يثور كأنه مغمور أو مغرور ، أو مسحور ، ويحتل فلسطين اليهود ، إخوان القرود ، بلا حدود ، ولا قيود ، ولا شهود :
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... بنوا اللقيطة من ذهل ابن شيبانا
طاروا إليه زرافات ووحدانا
في النائبات على ما قال برهانا
******************************
المقامَة المكيّة
{ لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ }
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
وهل أردن يوماً مياه مجنة ... بوادٍ وحولي إذخر وجليل
وهل تبدون لي شامة وطفيل
قال الراوي : قد أظهرت لنا يقين الحديث وشكّهْ ، فحدثنا عن مكّة ، قلنا : مكة هي المهبط والمسقط والمربط والأوسط ، فهي مهبط القرآن ، ومسقط ميلاد سيد ولد عدنان ، ومربط خيول أهل الإيمان ، وأوسط البلدان.
مكة قلب المعمورة ، على الحسن مقصورة ، وفي حجال المجد مستورة ، أذن بها الخليل ، وسُحق بها أصحاب الفيل ، بالطير الأبابيل ، اختارها علام الغيوب ، فهي مهوى القلوب ، وملتقى الدروب ، وقبلة الشعوب ، هي أرض ميلاد الرسالة والرسول ، كان لجبريل بها صعود ونزول ، منها ارتفع الإعلان والأذان والقرآن والبيان ، أذّن منها بلال بن رباح، وسُلت فيها السيوف ، وامتشقت الرماح ، وأُعلن فيها التوحيد ، وهو حق الله على العبيد ، وهي أول أرض استقبلت الإسلام ، وحطمت الأصنام .(/79)
بها بيت الملك الأجل ، والكعبة التي طاف بها الرسل ، سوادها من سواد المقل ، وهي أرض السلام ، وقبلة الأنام ، يفد إليها المحبون ، على رواحلهم يخبون . ويتجه إليها المصلون ، ويقصدها المهلّون ، فهي قبلة القلوب ، وأمنية الشعوب ، وراحة الأرواح ومنطلق الإصلاح ، على ثراها نزلت الهداية ، ومن رباها كانت البداية ، على رمالها مزقت الطغاة ، وعلى ترابها سحقت البغاة ، ومن جبالها هبت نسائم الحريّة ، ومن وهادها كان فجر الإنسانية .
تمنيت الحجاز أعيش فيها
سقى الله الحجاز وساكنيها ... فأعطى الله قلبي ما تمنى
وأمطر كل رابية ومغنى
على بساط مكة ولد العرفان ، وأكرم الضيفان ، ومن مغانيها رضع الشجعان ، وفي بطحائها هاشم وابن جدعان …
لا ينكتون الأرض عند سؤالهم
لتطلب الأعذار بالعيدانِ
بل يشرقون وجوههم فترى لها
عند السؤال كأحسن الألوانِ
وإذا الغريب أقام وسط رحالهم
ردّوه رب صواهل وقيانِ
وإذا دعا الداعي ليوم كريهة
سدوا شعاع الشمس بالفرسان
في مكة تثور شجون الحب ، وتضج بلابل القلب ، فيها التأريخ يتكلم ، والدهر يتبسم ، والذكريات تتداعى ، والأمنيات تقبل تباعاً ، هنا غمغمات السيول ، وصهيل الخيول ، وتنحنح السادات ، وتزاحم القادات ، إقبال وفود ، وانطلاق جنود ، وتزاحم حشود ، وارتفاع بنود ، هدى وضلالة ، علم وجهالة ، وهنا كرم وبسالة ، وحي ورسالة ، عالم يمور بالعبر ، ديوان يزخر بالسير ، دفتر للعظماء ، سجل للشرفاء :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامرُ
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثرُ
في مكة رؤوس بالأنفة متزاحمة ، وجيوش للثأر متلاطمة ، أفكار وحضارات ، ونواد ومحاضرات ، سير وسمر ، في ضوء القمر ، أنباء وأخبار ، قصص وأشعار، حتى كان النبأ العظيم ، وهو الرسول الكريم ، فيصغر بعده كل خبر ، وينسى من جاء ومن غبر ، فهو أعظم أثر ، جاءت به السير .
نسخت كل دواوين المكارم ما
ما
خط الأنام برسم اللوح والقلمِ
فالشمس والقمر المنشق قد خضعت
لنور وجهك من حسن ومن كرمِ
يوم بعث استدار له الزمان ، وأنصَت له الثقلان ، وتشاغلت به الأقلام ، ورحبت به الأيام ، وأنصت له الأنام ، فهو ابن مكة البار ، وبطلها المغوار ، ورسولها المختار .
إذا أقبلت على البلد الحرام ، فتذكر ذاك الإمام ، عليه الصلاة والسلام .
مكة تذكرك البأساء والنعماء ، والنور والظلماء ، والسعادة والشقاء .
مكة كتاب مفتوح ، وسِفْر مشروح ، يجمع بين أحاديث النجاة والخسران ، والكفر والإيمان ، والعدل والطغيان ، تذكرك مكة الشرك الكالح ، والجهل الفاضح ، والوهج اللافح ، يوم كانت الأوثان تُقدَّس ، والأصنام تأسس ، تسجد لها النفوس الخاوية ، والعقول الجافية ، يوم غاب الرشد ، وأفل السعد ، وغرب الميثاق والعهد ، يوم كان الإنسان كالبهيمة ، بلا قيمة ، والقلب في شباك الجريمة ، وفي ظلمات وخيمة :
فقل للعيون الرمد للشمس أعينٌ
تراها بحق في مغيب ومطلعِ
وسامح الله عيوناً أطفأ الله نورها
بأهوائها لا تستفيق ولا تعي
وتذكرك مكة يوم انفجر الفجر ، وارتفع الذكر ، ومحق الكفر، يوم أنصتت الدنيا بأُذن سميعة ، وأقبل الدهر بخطاً سريعة ، وانتفض الكون للكلمة الخالدة ، واهتز العالم بالدعوة الراشدة ، لا إله إلا الله ، لا معبود بحق سوى الله ، لا بقاء إلا لله ، وتذكرك مكة بالوحي وهو يتنزّل ، والقرآن وهو يرتّل ، وجبريل الروح ، يغدو ويروح ، وباب الرحمة المفتوح ، والعطاء الرباني الممنوح ، فيالها من ذكريات يهتز لها الجسم ذرة ذرة ، ويقوم لها الرأس شعرة شعرة ، ويا لها من صيحة دوّت في العالم فاستيقظ بها كل نائم ، واهتدى بها كل هائم ، ويا له من خبر طرق الكون فصحا ، ومحق الشرك ومحا .
توقف الزمان منصتاً ، وسُلَّ سيف الجهاد مصلتاً .
هنا الأماني هنا الأمجاد قد رفعت
هنا المعالي هنا القربى هنا الرحمُ
هنا القلوب استفاقت من معاقلها
هنا النفوس أتت للحق تزدحمُ
هنا رواء هنا فجر هنا أمل
هنا كتاب هنا لوح هنا قلمُ
التعبير يخون ، والنفس فيها شجون ، والذاكرة بالصور موّارة ، ونور الحديث قد نصب في القلب منارة ، إذا ذكرت مكة ذكر غار حراء ، والشريعة الغراء ، والوحي والإسراء ، فكأن التأريخ حضر ، وكأن الزمان اختصر ، وكأن الدنيا كلها في مكة محصورة ، وكأن الأيام في أجفان مكة مقصورة .
مكة ملاعب الصبا والشباب ، لصاحب السنة والكتاب ، فيها مسقط رأسه ، وفضاء أنفاسه ، فيها مراتعه ، ومرابعه ، ومهاجعة .
هذي بلادي وهذي منتهى أملي
هذا التراب الذي أهديته زجلي
هذا المكان به ميلاد قدوتنا
هذا رياض الهدى والسادة الأُوَلِ
كيف نعبر عن أشواقنا ، وقد سافر حبه في أعماقنا ، لأنه صلى الله عليه وسلم أملنا المنشود ، ومجدنا المحمود :
في كفك الشهم من حبل الهدى طرف
طرف
على الصراط وفي أرواحنا طرفُ
هيهات رحلة مسرانا جحافلنا
كما عهدت وعزمات الورى أنفُ(/80)
وعلى رمضاء مكة ثأر وجراح ، وعويل وصياح ، حيث عُذب بلال بن رباح ، أما تقرأ على الرمضاء ، ما كتبته الدموع والدماء ، يقرؤها كل عالم وجاهل ، وقل جاء الحق وزهق الباطل . تفجّعٌ صارخ يصعد إلى السماء ، وصيحاتٌ ثائرة تشق الظلماء ، أحدْ أحدْ ، فرد صمدْ ، على رغم من كفر وجحد ، تطلق هذه القذائف حنجرة بلال ، فتهتز بها الجبال ، وتنتفض منها التلال .
أحدٌ هتفتَ بها لكلِّ معطِّل
أنت المؤذن للرسول فرتِّلِ
واهزم بصوتك كل طاغٍ فاجر
واسحق بقولك كل زحف باطلِ
وعلى جبين مكة قبلات المحبين ، وفي جوفها زجل المسبحين ، وفي عينيها آية للسائلين ، مكة أم الخلفاء الراشدين ، مكة بلد العابدين ، وميدان المجاهدين ، وعرين الفاتحين ، وجامع الموحدين ، ومدرسة الحكام العادلين :
وفي رُبى مكة تأريخ ملحمة
على ثراها بنينا العالم الفاني
إذا قربت من مكة فتهيّأ للدخول ، واستعد للنزول ، والبس الإحرام، عند عناق البيت الحرام ، لأنك سوف تلج بيت الديَّان ، ومحط العرفان ، ودار الرضوان ، هنا المسلك الأرشد ، والمحل الأسعد ، والحجر الأسود ، هنا المقام الكريم ، والمطاف العظيم ، وزمزم والحطيم ، هنا العابدون والساجدون ، والعاكفون ، والقائمون ، والمستغفرون . هنا تسكب العبرات ، وتهمل الدمعات ، وتنبعث الآهات ، وتصعد الزفرات . هنا تغسل النفس من الأدران ، ويتخلّص القلب من الأحزان ، وتنطلق الروح من العصيان ، هنا ترمى الجمرات ، وتحط الغدرات ، وتخلع الفجرات ، وتغسل السيئات ، هنا يتجرد من الثياب ، ويتهيأ للحساب ، فحبذا هذه الرحاب ، وطوبى لهذه الشعاب ، هنا تناخ المطايا ، وتحط الخطايا ، وتكثر العطايا ، هنا السرور قد تم ، والشمل قد التم ، وذهب الهم والغم .
***************************
المقامَة المدنيّة
{ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ }
أمر على الديار ديار ليلى
وما حب الديار شغفن قلبي ... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
ولكن حب من سكن الديارا
لما وصلنا المدينة ، والنفس لمن في الروضة مدينة ، قلت : سلام يا طيبة ، لما رأيناك ذهبت الخيبة . لحبك أيتها الدار ، سال الدمع المدرار ، لمن ندخر الشجون ، لمن نخبئ الدمع الهتون ، هذا وقت البكاء يا محب ، هذه لحظة الشوق يا قلب .
المدينة تنفي خبثها ، وينصع طيبها ، ويطمئن ساكنها ، ويرتاح حبيبها .
لما رأينا الربع سال دموعنا
أنا لست أذكر ربع من قتل الهوى ... شوقاً لساكنه ومن يهواهُ
لكن أرتل ذكر من أحياهُ
إذا أتيت طيبة ، فأعط قلبك من التذكر نصيبه ، هنا المحراب ، حيث كان يصلي فيه من أُنزل عليه الكتاب ، هنا المنبر ، فتذكّر يوم كان يرقاه صاحب الجبين الأزهر ، هنا المسجد ، فالشوق يتجدد ، إذا علم أنه مصلى محمد ، هنا الروضة الخضراء ، يرقد بها من جاء بالشريعة الغراء ، هنا أُحُد جبل يحبنا ونحبه ، وهنا قباء يؤنسنا قربه ، المدينة هي محط موكب النبوة ، وبها كان للإسلام قوة ، منها سطعت شمس السُنّة ، وفيها تمت المنة ، وهي المدينة التي نصرت المختار ، بسيوف الأنصار ، بها حكم الشيخان ، وولد السبطان ، وعاش السعدان ، وترعرع الزيدان ، وأنشد الشاعران ، كعب وحسّان .
إذا دخلت المدينة فتذكر صاحب الملّة السمحاء ، والطريقة البيضاء ، هنا مسكنه ومنامه ، وممشاه وقيامه ، ورمحه وحسامه ، وشرابه وطعامه .
من المدينة خرج لبدر بجنوده ، وزحف إلى أحد في حشوده ، ومن المدينة بعث للملوك رسائله ، وعلم الناس فضائله . هي بيت ضيافته ، ودار خلافته ، في كل مكان منها له ذكريات ، وفي كل موضع له علامات .
قبل القلب على سفح اللوى
تنشد الربع وهل يخبرها ... واقفات راجفات ماثلات
دارس فيه جلال الذكريات
المدينة تذكرك ببكاء أبي بكر في الصلاة ، وورعه وتقواه ، لو وضع الصخر على بساطه لكاد أن يذوب ، ولو زجر الشيطان بنصحه لأوشك أن يتوب . جمع الفضائل كأنه يسوقها بعصاه ، وحبُّ له في القلوب فلو أشار للجيش هيا إلى الموت ما عصاه .
والمدينة تذكرك بالدولة العمرية ، وتلك المناقب الأثرية ، عدل صار في العالم قصة ، وترك في حلق كل جبار غصة ، وزهد يقول الزهد : لا نستطيع معك صبرا ، وورع يقول له القلب : لا نعصي لك أمرا ، عمر بن الخطاب ، سل عنه المحراب ، بكاء فيه وتفجّع ، ونحيب وتوجّع . وإذا بصاحب هذه الدموع الآسرة ، يهز بهيبته القياصرة والأكاسرة ، معه بردة مرقعة ، وحذاء مقطّعة ، ثم تخفق قلوب الملوك على وقع حذائه ، وينام العدل على طرف ردائه .
والمدينة تذكرك بالوقفات الإيمانية ، في الحشايا العثمانية ، والمعاهد العفانية ، طهر يغتسل في نهره ماء الغمام ، وحياء يصيد بوداعته ورق الحمام ، وسخاء تضرب به الأمثال ، وتعجز عن مجاراته الرجال .
والمدينة تذكرك بسيف الله المنتضى ، وعبده المرتضي ، علي بن أبي طالب أبي الحسن ، الخطيب اللسن ، ناصر الدين والسنن ، بطل الأبطال حيدره ، هازم الكفره ، وصاحب السيرة العطرة .
ما هزني ذكر أشجان وأطلال(/81)
لكن هنا المجد والتأريخ قد جمعا ... أو خيمة عرضت أو معهد بالي
فاكتب بدمعي آهاتي وتسآلي
إذا قالت روما : عندنا من الملاحم فصول ، وقالت باريس : عندنا ديقول، وقالت لندن : عندنا العالم المأهول ، فإن المدينة تقول : عندنا الرسول .
حي دار الهجرة ، وميدان النصرة ، وأرض الشهداء ، وجامعة العلماء . في ثرى المدينة سيد الشهداء ، حمزة المقدام ، وغسيل الملائكة الكرام ، ومن كلَّمه الرحمن ، وحفظة القرآن ، وزيد بن ثابت إمام الفرائض ، وحسّان بن ثابت شاعر الردود والنقائض، وأُبي بن كعب صاحب الذكر الحكيم ، وفيها من اهتز له العرش العظيم .
في المدينة ذكرى أبي ذر ، وهو يقول الحق المُر ، يدفع الباطل بزنده ، ويرد الدنيا بزهده ، وفيها ذكرى بلال وهو يرسل صوته في سماء الوحدانية ، وفضاء العبودية ، ومعناه تعالوا إلى ربكم أيها العباد ، وذروا الجاه والأموال والأولاد .
وذكرى أنس بن مالك خادم رسولنا ، كلما قيل : من لهذا العمل ؟ قال : أنا ، فينال بشرف خدمة المعصوم ، ما لا يناله أشراف أهل الدنيا لجلالة المخدوم ، وذكرى سعيد بن المسيَّب ، الولي المقرَّب ، ينهل الناس من مورد علمه ، ويعب العباد من نهر فهمه . وذكرى مالك بن أنس ، إذا تربع على كرسي العلم وجلس ، فكأن مجد الدنيا اختصر في تلك الساعة ، يوم تجتمع عظمة العلم وعظمة الطاعة .
وأعظم منقبة للمدينة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسكن في سويداء قلبها ، ويستولي على حبِّها ، وهذا سر مكانتها وقربها . يكفي المدينة فخراً ، أن أجلّ البشر ، وسيد البدو والحضر ، شرب ماءها ، واستنشق هواءها ، وارتدى سماءها ، وصافح ضياءها .
يكفى المدينة جلالة على مدن المعمورة ، تلك المناقب المأثورة ، وأجلّها مشي الحبيب على ثراها ، وتنقله بين قراها ، كلما طافت عينك على رباعها ، وهام قلبك في بقاعها ، ناداك منادي الذكريات ، يقول للأحياء والأموات : هنا محمد سجد، هنا محمد قعد ، هنا محمد رقد ، جلس في هذا المكان ، عبر هذه الوديان ، هرول في هذا الميدان ، نظر إلى هذه الجبال ، رقى هذه التلال ، شرب من هذا الماء الزلال ، زار هذه الدار ، نام تحت هذه الأشجار ، مضى من فوق هذه الأحجار .
في الدار أخبار يكاد حديثها
شوق فلو أن الحجارة حملت ... يدع الفؤاد وما له سلوان
ما في الحشا لتصدع الصوان
يا أيتها النخيل الباسقات ، ربما مر بكن صاحب المعجزات، والصفات الباهرات ، فهل من حديث يستفاد ، وهل من ذكريات تعاد . إن كنت تمدح المدينة بسمو قصورها، وارتفاع دورها ، وعظمة جبالها ، وكثرة تلالها ، فقد غلطت في الثناء ، وقصّرت في واجب الوفاء ، إن للمدينة أسرارا ، وإن لها أخبارا . المدينة تخاطب القلوب قبل العيون ، وتستشير الدفين من الشجون ، لأن ترابها يحتفظ في ذاكرته بمشاهد تذوب لها الأرواح ، ولا يمحوها مرور الرياح .
ابك الديار وإلا فاندب الدارا
لا تبخلن بدمع سوف تنفقه ... فإن في القلب أخباراً وأسرارا
إن شئت غصباً وإلا شئت مختارا
على ترابها آثار أقدام المختار ، وبصمات تنقله في تلك الديار ، وعلى ثراها دموع الأبرار ، ودماء الأخيار ، وفي سماءها تسبيحات المهاجرين والأنصار .
للمدينة صفحتان : صفحة الفرح ، وصفحة الأحزان .
فصفحة الفرح بها معالم النبوة الطاهرة ، وتلك الانتصارات الباهرة ، نفرح إذا ذكرنا بركات الرسالة ، ومواقف التضحيات والبسالة ، ونفرح إذا عشنا المعاني الإيمانية ، والنفحات الروحانية ، والمشاهد القرآنية ، ونفرح إذا تذكرنا كيف انتصر الحق المبين ، ودفع الباطل المهين ، وكيف استقبلت تلك القلوب أنوار الهداية ، وكيف انتهى الكفر إلى غير رجعة هذه النهاية .
ولكننا نحزن يوم فارق الحياة أكرم الأحياء ، ويوم انتقل إلى دار البقاء أجلُّ الأتقياء ، ونحزن لموت الصدّيق ، صاحب العهد الوثيق ، ونحزن إذا ذكرنا عمر الفاروق وهو بالخنجر يمزّق ، ودمه على ثيابه يتدفق ، ونحزن يوم ذُبح عثمان ، بسكين العدوان، نحزن إذا ذكرنا ذهاب ذاك الجيل القرآني الفريد ، وذاك القرن المبارك المجيد ، وتلك الطائفة الزاكية الراشدة ، وتلك الجماعة الخيّرة القائدة .
فصلى الله وسلم على من تشرّفت به تلك الأرض ، صاحب المقام المحمود يوم العرض ، عليه الصلاة والسلام ، ما هب نسيم الأسحار ، وسرى حديث السمار ، عليه الصلاة والسلام ، ما تمتم ماء ، وهبّ هواء ، وشعّ ضياء ، وارتفع سناء ، عليه الصلاة والسلام ، ما حنّ إلف ، وأومأ طرف ، وما ذرّ شارق ، وما لمع بارق ، ومادام سعد ، ودوى رعد ، وحل وعد ، وحفظ عهد ، عليه الصلاة والسلام ، ما خط قلم ، وزال ألم، ودامت نعم ، وزالت نقم ، وعلى آله وصحبه الكرام ، مادام في الأرض إسلام ، والسلام.
****************************
المقامَة النجديّة
{ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ }
(( واحرّ قلباه يا نجد ))
نحن أدرى وقد سألنا بنجد
وكثير من السؤال اشتياق ... أطويل طريقنا أم يطول
وكثير من ردِّه تعليل(/82)
إذا ذكرنا نجد ، ثار الوجد ، واستجاب المجد ، يا نجد أنتِ مهبط وحي العربيّة ، ومسقط رأس الشاعرية ، على رحابكِ سفكت دماء المحبين ، وسالت دموع المعجبين ، وعلى بساطك وقعت جواهر البيان ، وبسقت لآلي العرفان .
يا نجد أنتِ أرض الحب والغرام ، والعشق والهيام ، في رأسكِ ذاكرة الأيام ، وفي صدركِ مفكرة الأحلام ، هنا ملاعب طسم وجديس ، ومفاتن امرؤ القيس ، ومعاطن العيس ، هنا سحر القافية يلعب بالأذهان ، هنا للشعر سوق ومهرجان ، وللحب روض وبستان ، جدد التوحيد في نجد فصار غضّاً طريًّا ، وولد الحب نجديّا ، وعاش الدين بها أبديّا ، وصار الوفاء بها سرمديّا ، لنجد في قلبي منازل وخيام ، وبيوت وأعلام ، ولها في ذاكرتي صور وأفلام ، ومشاهد وأحلام .
يقول الشاعر الدكتور العشماوي وقد أشجاني ، وشعره أبكاني .
يا عائض القرني مازال الهوى
نجداً وإن زار الحجاز وأتهما
قالوا قدمت إلى الرياض فمرحباً
ألفاً وحيّا الله ذاك المقدما
يا صاحبي على نجد قفا نبكي ، ومن هواها تعالَ نشتكي ، في نجد أم البنين الأربعة ، وعامر بن صعصعة ، المطعمون الجفِنة المدعدعة ، والضاربون الهام يوم المعمعة . من نجد انطلق الموحّدون ، وأنشد منها قيس بن ميمون ، وفيها عشق عروة بن حزام والمجنون .
ـا صاحبي قفا لي واقضيا وطراً
وحدثاني عن نجد بأخبارِ
هل أمطرت روضة الوعساء أو صدحت
حمامة البين أو غنت بأشعارِ
في نجد الخزامى والشيح ، والروض الفسيح ، والشعر الفصيح ، وشذا المسك تذروه الريح ، نجد ثلاثة أحرف نون ، وجيم ، ودال .
فالنون فنون ، وشجون ، وعيون ، وفتون .
والجيم جلال ، وجمال ، وجهاد ، وجلاد .
والدال في نجد سنة وكتاب ، وعلوم ، وآداب ، وأحساب ، وأنساب ، ومجدد الدعوة محمد بن عبد الوهاب .
جاءتنا حمامة ، من اليمامة ، فأخبرتنا أن مسيلمة ترك إسلامه ، وعصى إمامه ، فخلع خالد العمامة ، وربط حزامه ، وسل حسامه ، ففصل من مسيلمة الهامة ، وقص عظامه . فأهدت نجد المجدد ، والموحد ، والمسدد.
فالمجدد ابن عبد الوهاب ، جدد للتوحيد الشباب ، وألبسه أحسن الثياب ، فجزاه الله أوفر الثواب ، والموحد حصن الهمة الحريز ، وشارح كتاب المجد الوجيز ، الملك عبد العزيز ، والمسدد الرجل الممتاز ، الذي حوى كل فضل وحاز ، عبد العزيز بن باز.
من حنجرة نجد انطلقت في الظهيرة ، صرخة ودِّع هريرة ، ومن نجد أقبل الرجل المفضال ، والداعية الرحّال ، ثمامة بن أثال . ونجد لا تقبل الرذيل ، ولا تعشق الدخيل ، ولذلك قتلت العميل ، عامر بن الطفيل، لأنه كذب بالتنزيل .
أقول لصاحبي والخيل تجري
تزود من شميم عرار نجد ... بِنا بَيْن المجرةِ والضمار
فما بعد العشية من عرار
حيّت دمشقُ نجداً فقال شاعرها ابن الخياط :
خذا من صبا نجد أماناً لقلبه
وإيّاكما ذاك النسيم فإنه ... فقد كاد ريّاها يطير بلبهِ
متى يسر كان الوجد أيسر خطبهِ
وحيّت بغدادُ نجداً فقال شاعرها الشريف الرضي :
يا صاحبي قفا لي واقضيا وطراً ... وحدثاني عن نجد بأخبار
وحيّت القاهرة نجداً فقال أمير الشعراء أحمد شوقي :
جبل التوباد حياك الحيا ... وسقى الله زماناً ورعى
وحيّت صنعاء نجداً فقد قال الأمير الصنعاني ، والعالم الرباني ، يرحب بإمام التجديد ، للتوحيد :
سلام على نجدٍ ومن حلّ في نجد
وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي
وحيّت جبال السروات نجداً فقال الشاعر الخثعمي :
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
لقد زادني مسراك وجداً على وجد
من نجد هب جيش بكر بن وائل الشجعان ، فهزموا صاحب الإيوان ، كسرى أنو شروان . وسوف يهب من نجد بنو تميم ، في جيش عظيم ، لحرب الدجال الأثيم ، كما قال الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - : (( أشد أمتي على الدجال بنو تميم )) .
من نجد هب عمرو بن كلثوم ، بسيفه المثلوم ، على الملك الغشوم ، عمرو بن هند الظلوم ، ثم أرسل إلى الشعوب ، قصيدته التي تعصف بالقلوب :
ألا هُبّي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقى خمور الأندرينا
فسارت في الناس مغربة مشرقة ، وجعلتها العرب معلقة .
ومن نجد المحدث الكبير ، والعالم الأثير ، صاحب الدر النثير ، يحيى بن أبي كثير .
نجد الهوى والسحر يا أرض الحمى
المجد فوق تراب صهوتك ارتمى
قيس وليلى والكميت وجرول
ودموع عشاق العقيدة قد همى
وإليك هذا التفجع والتوجّع ، يشيّعه قلب يتقطع ، وعين تدمع ، وعقل من الحب يُصرع ، يقول عروة في عفراء ، وهو في نجد ذات مساء :
جعلت لعراف اليمامة حكمه
فو الله ما من رقية يعلمانها
فقالا شفاك الله والله ما لنا ... وعراف نجد إن هما شفياني
ولا شربة إلا بها سقياني
بمكنون ما تحوي الضلوع يدانِ
كيف تثبت أمام هذا الشعر هذه القلوب المسكينة ، التي كأنها ذبحت من الجوى بسكينة . وضع يدك الآن على قلبك وناد : السكينة السكينة .(/83)
من نجد خرج الأعشى يتمشى ، بعد أن تعشى ، فتوجه إلى المدينة ليعلن إسلامه ، فلقيه أبو سفيان فخاف مقامه ، وأعطاه خطامه ، ليعود لليمامة ، فعاد بجمله ، وأرخى زمامه ، وأطلق خطامه ، فأسقطه فكسّر عظامه ، فباء بالخسران والندامة ، وله قصيدة فريدة ، يصف ويبعث فيها همومه المريدة ، مطلعها :
ألم تغتمض عيناك ليلة ثرمدا ... وعادك ما عاد السليم المسهدا
في نجد شعر عجب ، خذ شعر امرؤ القيس إذا شرب ، والأعشى إذا ركب ، والنابغة إذا رهب ، وزهير إذا رغب ، وابن كلثوم إذا غضب . شعر امرؤ القيس كالخمر المعتّق ، تكاد القلوب منه تتشقق ، والعروق تتفتق ، والدموع تتدفق ، فإذا سمعْتَه فترفق .
وشعر الأعشى ، كالحمَّى ، يتركك كالمغْمَى ، أو كأنك أعمى ، وهو من الغيث أهمى ، ومن النجم أسمى . وشعر النابغة سحر حلال ، لكنه يذهب عقول الرجال ، وله روعة وجمال ، وأبهة وكمال . وشعر زهير كالماء الزلال ، فيه صدق واعتدال ، وحق وجلال ، بعيد عن السخف والإملال . وشعر ابن كلثوم يسابق حسامه ، كأنه بروق تهامة ، لأن صاحبه طالب زعامة ، يريد العزة والكرامة .
لما كان الشعر في روابي نجد الخضراء ، وفي فيافيها الفيحاء ، كان آية في الحسن والنبل والبهاء . فلما دخل الشعر إلى القصور ، وسكن الدور، خرج كأنه جلد ثور، لا يطبخ في القدور ، ولا يهبط من النحور ، يحتاج البيان إلى خيمة مضروبة ، ورابية منصوبة وخضرة وخصوبة ، لترى الأمثال المضروبة ، والمعاني المرغوبة ، ولما صار القلم بجانب التلفاز ، والعقل بجوار الجهاز ، ذهب البيان والإعجاز ، وغرُب الإبداع والإنجاز .
والسلام على نجد التوحيد ، ما تردد تغريد ، وعذب نشيد ، وطاب قصيد ، وعاد عيد ، ورحمة الله عليكم أهل نجد إنه حميد مجيد .
**************************
المقامَة السُّعوديَّة
{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ }
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما
ونشرب إن وردنا الماء صفواً ... تخر له الجبابر ساجدينا
ويشرب غيرنا كدراً وطينا
السعودية أرض التوحيد ، والمجد التليد ، والنهج الرشيد . وهي أرض الإنسان ، والبيان ، والإيمان ، والقرآن . لأنها دار الإنسان السوي ، والمؤمن الرضي ، التابع للمنهج المحمدي . ولأنها أرض البيان الخلاب ، والأدب الجذّاب ، واللغة الحية ، والموهبة الأدبية . ولأنها بلاد الإيمان فمنها أرسل الإيمان إلى العالم أنواره ، وبعث إلى الدنيا قصصه وأخباره ولأنها مهبط القرآن بها نزل جبريل ، على المعلم الجليل ، بآيات التنزيل .
في هذه البلاد ، أعظم ناد للأجواد ، وأكبر واد للأجواد .
قال الموفق بن هادي : لا تلمني في حب بلادي ، فإنها سر أنسي وإسعادي ، فقد بعث منها محمد المحمود ، رسول الجود ، صاحب الحوض المورود ، والمقام المحمود ، واللواء المعقود . وفيها ولد أبو بكر ، طيب الذكر ، صاحب الشكر ، نير الفكر .
ومنها عمر ، جميل الخبر ، وناشر العدل في البشر ، وصاحب أحسن السير .
ومنها عثمان ، جامع القرآن ، ومكرم الضيفان ، وله من الرسول نوران .
ومنها علي ، البطل الولي ، والسيف الجلي ، خائض الهول حتى ينجلي .
ومنها الأسياد ، والأجواد ، والآساد .
فلما سمعنا كلام الموفق ، وإذا هو بالدليل محقق ، قلنا : ونسيت البترول ، فإنه السيف المسلول ، والشافع المقبول .
قال : كلاّ ، لمن أعرض وتولَّى ، فخرنا بالرسول ، لا بالبترول ، وسعادتنا بالذكر المنزل ، لا بالديزل ، وفرحتنا بالإسراء والمعراج ، لا بالحديد والزجاج، وبهجتنا بالمقام والبيت ، لا بالزيت ، وتاريخنا بالإعجاز ، والإنجاز ، والامتياز ، لا بالبنزين والغاز .
فقلنا له : اترك من هلكوا وبادوا ، وحدثنا عن وصول الرادوا ، ودعنا ممن يهمزون ويلمزون ، وكلمنا عن بث التلفزيون ، ومتى وصلكم التليفون ، وما كنتم قبله تعرفون ، بل بالجهل توصفون .
فقال : أخطأتم التقدير ، وخطأ العاقل كبير ، اعلموا أننا قبل الصناعة ، كنا أهل البراعة ، والشجاعة ، والذاكرة اللماعة ، وأهل الأصالة ، والرسالة ، والبسالة .
نحن الذين روى التأريخ قصتهم
ونحن أعظم من في أرضنا ظهرا
أما ترى الشمس غارت من مكارمنا
والبدر في نورنا العلوي قد سهرا(/84)
كان العالم قبل وصولنا غابة ، كأن عليه جنابة ، وكانت الدنيا قبل ميلادنا في مأتم ، تشكو وتتألم ، فلما بزغ فجر رسولنا من البطحاء ، أشرقت على نوره الأرض والسماء ، خيام العدل في بلادنا وولد الشرف مع ميلادنا ، مضرب المثل في الكرم من أوطاننا ، وأشجع الناس من ودياننا . نحن بعثنا إلى الدنيا النور ، وأزلنا منها الظلم والجور ، أذنّا في أذن الدنيا فآمنت ، ومشينا على جبالها فتطامنت ، كنا في الجاهلية الجهلاء ، أهل العزة الشماء ، فلما جاء الإسلام كنا الأعلام ، والصفوة الكرام ، شجاعة لو قابلتنا الأسود لهابت ، وعزيمة لو طرحت على الصخور لذابت ، هنا دار الفضائل ، ومنازل القبائل ، عندنا قبلة المصلين ، وكعبة الطائفين ، وملاذ الخائفين ، اختارنا الله لدينه أمناء ، وعلى الأمانة أوصياء ، من دارنا هبّت كتائب الفتوحات ، وسارت قوافل التضحيات ، عندنا محبرة ومقبرة ، محبرة لتقييد العلوم ، وتسجيل نتاج الفهوم ، ومقبرة للغزاه ، والمحاربين الطغاه ، نحن أول من حمل السيف ، وأكرم الضيف ، وأبى الحيف .
أرضنا بدماء الشهداء تفوح ، وقلوبنا بأسرار التوحيد تبوح ، عندنا الذهب الأبيض والأحمر والأسود ، فالأبيض عِلْم ينعش الأحياء ، من الشريعة السمحاء ، والأحمر دماء في عروق الأحرار ، وفي شرايين الأبرار ، والأسود بترول مدفون في الثرى ، يدلف بالحضارة للمدن والقرى .
اندهش الدهر يوم طالع صفحة جلالنا ، وهام الزمان يوم أبصر لوحة جمالنا ، وتعجب كل جيل يوم قرأ مكارم أجيالنا ، وتحطمت جماجم الغزاة على جبالنا .
دافع الله عنا يوم قصدنا صاحب الفيل ، فعاد في ثوب ذليل ، ورد الله عنا غارة الفرس الكفار ، ومزّقهم في يوم ذي قار . وأنزل الله نصره علينا في بدر ، يوم صعب الأمر ، وضاق الصدر ، فأيد رسولنا بملائكة مسوِّمين ، وكرام معلمين ، نحن خرجنا للعالم وفي قلوبنا قرآن نسكبه في قلب من وَحّد وتشهد ، وفي أيماننا سيوف نقطع بها رأس من تمرد وألحد ، عندنا قداسة الإنسان ، وقداسة البيان ، وقداسة الزمان ، وقداسة المكان.
فقداسة الإنسان ماثلة في الرسول العظيم والنبي الكريم ، وقداسة البيان قائمة في القرآن ، الذي أذهل الإنس والجان ، وقداسة الزمان ، كامنة في عشر ذي الحجة ورمضان ، وقداسة المكان في الحرم الطاهر ، والمشعر الزاهر . ليس للزمان بدوننا طعم ، وليس للتأريخ سوانا رسم ، وليس للناس إذا أُغفلنا اسم ، نحن شهداء على الناس ، ونحن مضرب المثل في الجود والبأس . كأن النور ولد معنا ، وكأنّ البشر لفظ ونحن معنى ، جماجمنا بالعزة مدججة ، وخيولنا بالعزائم مسرجة ، نحن الأمة الوسط ، لا غلط في منهجنا ولا شطط ، وسط في المكان فنحن قلب الكرة الأرضية ، وزعماء الأخلاق المرضيّة ، ووسط في الزمان فلم نأت في طفولة الإنسانية ولم نتأخر إلى شيخوخة البشريّة ، ووسط في العقيدة فنحن أهل التوحيد والمذاهب السديدة ، فلم نعتنق رهبانية النصارى ، ولم ننهج نهج اليهود الحيارى ، بل أمتنا معصومة من الضلالة ، مصونة من الجهالة .
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم
والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز وكبروا
في مسمع الكون العظيم وكبرا
أليس في بلدنا الركن والمقام ، والبلد الحرام ، وعندنا عرفات ، ومنى حيث الجمرات وزمزم والحطيم ، والمشعر العظيم ، وفي أرضنا غار حراء ، مشرق الشريعة الغراء، ونزل في أرضنا جبريل ، على المعلم الجليل ، وحمى بيتنا من الفيل ، بطير أبابيل .
ومنَّا خالد بن الوليد ، وأسامة بن زيد ، وطلحة بن عبيد .
وفي دارنا عائشة أم المكرُمات ، المبرَّأة من فوق سبع سموات ، وفاطمة البتول ، بنت الرسول ، طيبة الأصول . وفي أرضنا الحرمان ، والبيتان ، والعُمَران ، والهجرتان ، والبيعتان ، والسبطان ، والقرآن ، والإيمان ، والبيان .
نحن أهل عذوبة الألفاظ ، والجهابذة الحفَّاظ ، وفي بلادنا سوق عكاظ .
نحن الذين على خطى أمجادهم
وقف الزمان مدلها مبهورا
تيجان عزتنا النجوم فلا ترى
غيرَ الوفاء وصارما مشهورا
في بلادنا البطحاء ، حيث انطلقت الشريعة السمحاء . وعندنا نجد الأبيّة ، مطلع شمس العربية ، ومنبع المواهب الشاعرية ، والخطابية .
ولدينا عسير ، حيث المسك والعبير ، والجمال منقطع النظير ، والذكاء الشهير .
ولدينا حائل ، أهل الفضائل ، أحفاد حاتم الطائي شرف القبائل .
ولدينا الحجاز ، أهل الفضل والامتياز ، والكرم والاعتزاز .
ولدينا الإحساء ، دار الشرفاء ، وبيت الأوفياء .
فغربنا أرض النبوة المحمديَّة ، والسنة الأحمديّة ، أرض قدمت للعالم أشرف هديّة . وشرقنا أرض الخيرات ، وبلد المسرَّات ، ودار الهبات ، والأعطيات . ووسطنا دار الملكُ والإمارة ، وبيت الجدارة ، ومحل الوزارة ، والسفارة . وشمالنا أرض الجود ، والند والعود ، والأسود ، وحفظ العهود ، وإكرام الوفود . وجنوبنا أرض الهمم الوثابة ، والطبيعة الخلابة ، والأخلاق الجذَّابة ، والفهم والنجابة ، والشعر والخطابة .(/85)
نحن كتبنا التأريخ بالدماء ، ووصلنا الأرض بالسماء ، أنجبنا العلماء ، وأنتجنا الحكماء ، وأرسلنا للعالم الزعماء ، وأهدينا الدنيا الحلماء .
إذا لم يبدأ التأريخ بنا فاعلم أنه منكوس ، وإذا لم يثُنِ علينا سِفر المكارم فاعلم أنه منحوس . كسرنا سيوفنا في بدر ، على رؤوس أهل الكفر ، ثم أرسلنا شظاياه لصلاح الدين ، في حطين ، فقهر بها الملحدين . رددنا في أحد " قل هو الله أحد " فسحقنا من جحد وقطعنا دابر من فسد .
منا قائد القادسية ، الذي أسقط العجم في الخانة المنسية . ومنا قائد اليرموك ، الذي أذهب من رؤوس الروم الشكوك ، وصبغ وجوههم بالدم المسفوك .
ابدأ بنا في رأس كل صحيفة
أسماؤنا في أصلها عنوان
وإذا كتبت رواية شرقية
فحديثنا من ضمنها تيجان
نحن أرسلنا بني أمية ، ملوكاً للديار الشامية . وبعثنا لبغداد بني العباس ، أهل الجود والبأس . وجيش العجم ما أسلم ، حتى بعثنا له قتيبة بن مسلم .
ومددنا للهند السيف الحاسم ، محمد بن القاسم .
من كتب التأريخ وأهمل الجزيرة ، فقد ارتكب كبيرة ، وأتى بجريرة ، كيف يهمل الرسول والأصول ، وأهل المنقول والمعقول . كيف يأخذ البدن بلا روح ، ويجرد البستان من الدوح . كيف يبني القصر على غير أساس ؟ ويقيم الجسم بلا رأس .
تريد المسجد بلا محراب ، والمدرسة بلا كتاب ، نحن الفصول والأبواب ، ونحن السيف والنصاب ، لسجل المكرمات كُتّاب ، ولأرقام المجد حساب ، وعلى قصر الرسالة حجاب .
نحن قلب المعمورة ، وأصحاب المناقب المأثورة ، العالم يتجه إلى قبلتنا كل يوم خمس مرات ، والدنيا تنصت لندائنا بالصلوات ، والكون يستمع لتلاوتنا بالآيات ، زارنا بلال بن رباح ، فصار مؤذن دولة الفلاح ، وجاءنا سلمان من أرض فارس ، فلما أسلم صار كأنه على قرن الشمس جالس ، ووفد إلينا صهيب من أرض الروم ، فأصبح من سادات القوم ، من بلادنا تشرق شمس المعارف ، ويقام للعلم متاحف ، وتنشر للهدى مصاحف ، حتى ماؤنا يفوق كل ماء ، فماء زمزم شفاء ، ومن كل داء دواء ، ونحن بيت العرب العرباء ، وعندنا سادات الكرماء ، ولدينا أساطين النجباء ، وأساتذة الحكماء ، إن ذكرت الحرب فنحن وقودها ، وإن ذكرت الملة فنحن أسودها ، وإذا سمعت بالرسالة فنحن جنودها .
**************************
المقامَة السراتيّة
{ فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ }
كنا جبالاً في الجبال وربما
بمعابد الإفرنج كان أذاننا ... سرنا على موج البحار بحارا
قبل الكتائب يفتح الأمصارا
سَلِّمْ على السراة ، وعلى الجنوب مدنه وقراه ، لتكون مع التأريخ صادقا ، وبالحق ناطقا . في السراة رجال تكاد الأسود أن تقول من شجاعتهم رفقاً يا ناس ، ويكاد السحاب ينادي جبالها لا مساس .
بها ولد أبو هريرة سيد المُحدِّثين ، وهي ديار الخليل بن أحمد إمام النحويين ، من السراة سارت قوافل الوفود ، إلى رسول الوجود ، تعاهد على نصرة الإسلام ، ومتابعة الإمام . منها وفد جرير سيد بجيله ، صاحب المواقف الجليله ، ومنها أطل الطفيل سيد دوس ، موقد الحرب الضروس .
في جبال السروات نظم الشنفرى الأزدي لاميته العصماء . وفي روابيها سجل الخثعمي داليته الغراء . أما علمت أنها أرض القرني أويس ، وبلاد أسماء بنت عميس .
السراة حيث خصوبة التراب ، ونداوة الضباب ، وهمع السحاب .
في السراة كل خطيب وشاعر ، لأن الشعر من المشاعر .
كأن الطل بديارهم دموع حبيب ، وكأن الظل بأرضهم برد قشيب .
أرض إذا طاولت هام جبالها
وإذا دخلت غياضها ورياضها ... قالت تواضع أيها الإنسانُ
غنَّى الحمام وصفق الريحانُ
فيها مدرسة الحفظ لأن الحفظ هريري دوسي ، وهي إيوان الزهد لأن الزهد أويسي
هنا الشعر الفصيح ، والنسب الصريح ، والوجه المليح ، خطباء حفَّاظ ، يغار منهم سوق عكاظ ، لروعة تلك الألفاظ ، مع القمم همم ، ومع الشجاعة كرم ، لا تنكر أخلاقهم البديعة ، فكما قال ابن خلدون : الأخلاق تتبع الطبيعة . ذكرهم الهمداني في الإكليل ، فكان قلمه بالثناء يسيل .
بلادهم ديار الجود ، وعرين الأسود ، البخل عندهم ذنب لا يغفر ، وعدوهم بالثرى يُعفَّر ، أريحيّة يهتز منها النسيم ، وحاتمية ينشأ عليها الفطيم ، مشاعر جيَّاشة ، وأرواح هشَّاشة ، ووجوه بشَّاشة ، ماء البِشر في صفحات الوجوه يترقرق ، ودم البطولات في شرايين الأبوة يتدفق ، إصرار على القيم ، وحفاظ على الشيم .
قلوب حُشيت بالإيمان إلى الأعماق ، فليس بها مكان للكفر والنفاق .
ما دخلها فيلسوف ، لأن صوت القرآن بها يطوف ، وما حلها زنديق ، لأن أسد الرسالة في الطريق .
إذا كبر الأزدي في حومة الوغى
ويطربهم وقع الرماح فما لهم
أويسية دوسية عزماتهم ... رأيت شجاعاً سيداً وابن سيدِ
سماع لعود أو غناء لمعبدِ
كتائبهم تسعى لنصرة أحمدِ
عروبة صريحة صراحة اللبن المذاب ، والسنة فصيحة فصاحة الفجر الجذّاب .
هم أعمام حسَّان ، وأخوال سحبان ، وأجداد غسّان .(/86)
بديهتهم أسرع من الضوء إذا سرى ، وذاكرتهم أغزر من السيل إذا جرى، ما قطر للإلحاد في ديارهم قطرة ، لأنهم على الفطرة .
لو رأى جمال أرضهم كنفشيوس المسكين ، لما نظم قصيدة مرحباً يا بكِّين ، ولو أبصرها جوته شاعر الألمان ، لما أنشد إلياذة الحرمان :
فالطير يرسل للعشاق أغنية
في كل يوم لهم عيد بأرضهمُ
أرض إذا جئتها أهدتك زينتها ... والغصن يعزف والأرواح في طرب
فالسحر والشعر بين الجد واللعب
حمالة الورد لا حمالة الحطب
طاب الهوى ورقَّ الهواء ، وزان الظل وعذب الماء ، أرض تصنع بها القوافي ، مع الود الصافي ، والجمال الضافي .كأن وحي البيان ، أرسل لطير البستان ، فالتقى سحر الكلام ، مع نشيد الحمام ، ودمع الغمام :
رفقا بقلبي يا جنوب فإنني
قتل المحب يجوز في شرع الهوى ... بشر وهذا السحر يخلب عيني
لو كان دينك في الصبابة ديني
ولو عدل صاحب البوصلة لوجهها للجنوب النفيس ، وذاك الروض الأنيس ، وترك هضبة مغناطيس .
ولو رأى نابليون جبال الجنوب ووديانه ، لأراحنا من هيامه بجزيرة هيليانه .
والجنوب لم تدخله الباطنية ، ولا مذهب الظاهرية ، بل تلك الديار سنيَّة سلفيّة ، وقد رحبوا بدعوة التوحيد ، التي أطلقها المجدد الفريد ، صاحب النهج السديد ، وتقبلوا لهذه الدعوة بقبول حسن ، وصاروا على أحسن سنن .
وقد ردوا كل نحلة لا تصح ، لأنه نهي أن يورد الممرض على المصح ، وعاش أجيالها اليوم على كتب ابن تيمية ، وابن القيم الجوزية ، وكتب مجدد الدعوة السلفية .
وقد آتاهم الله أذهاناً بالبديهة سائلة ، وألسنة بالفصحى قائلة ، ينظم أحدهم الأرجوزة ، في جلسة وجيزة ، وينشأ أحدهم القصيدة ، بموهبة فريدة .
شاركوا في القادسية وقادهم جرير ، وأنزلوا رستم من على السرير ، ما عرض الإسلام على أحدهم إلا أسلم ، وما نودي يوم الروع إلا تقدم ، دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأزدي أبا ضماد ، فأجابه إلى الإسلام والجهاد . وذكر ابن القيم وفد الأزد فأطنب في ذكرهم ، وأحسن في شكرهم . وذكر حديثاً يروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في وفدهم :
علماء ، حلماء ، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء .
ومنهم محمد بن واسع الزاهد العابد ، العالم المجاهد ، صاحب الكلمات الفاصله ، التي هي إلى القلوب واصلة . ومنهم المناذرة الملوك ، ومجدهم بالجود محبوك .
وعلى بساطهم وقعت المساجلات ، وفي ديوانهم حصلت المناظرات والمحاورات .
ومنهم الغساسنة ملوك الشام ، أهل القلم والحسام ، حتى قال حسان :
إن تسألينا فإنّا معشر نجب ... الأزد نسبتنا والماء غسان
ومنهم آل المهلب أسرة الشرف والريادة ، والكرم والسيادة .
واعلم أن أصول كثير من العلماء السراة ، من جبال السراة . فعبد الغني الأزدي الحافظ الشهير ، آباؤه من السروات بلا نكير ، والطحاوي صاحب العقيدة ، من تلك البلاد المجيدة ، بل ذكر الشيخ المنسي في كتابه في تاريخ الرجال ، أن مئات المحدثين من تلك الجبال ، واحتفل النسّابة الجاسر ، بذكر مواطن القوم والمآثر ، وطالع ما كتبه عن رجالهم الذهبي في السير ، وما سطره أهل التاريخ والخبر .
وفيهم ثلاث فضائل ، لم تجتمع في غيرهم من القبائل :
سلامة الصدور ، كماء الطهور ، فليس عندهم ضغائن ، ولا دفائن ، بل غضب الواحد في لسانه ، ثم يعود إلى إحسانه .
ومنها ذكاء وقَّاد ، وطبع في الفهم منقاد ، مع غزارة في القريحة ، وأخلاق مليحة .
ومنها فصاحة وبيان ، كأن على طرف كل لسان سحبان ، وعلى شفتي كل شفة حسان . والحمد لله الذي سلمهم من برص الاسماعيلية ، وسرطان النصيرية ، وداء البطائحية ، وحمق الصوفية ، وتجهم الجهمية ، فطريقتهم محمديّة أحمديّة .
وليس عندهم صلف الخوارج المارقين ، ولا عتو الروافض المتحرقين ، وليس للزندقة عندهم قرار ، وما للبدعة ببلدهم دار ، بل هم أهل سكينة ووقار ، كما وصفهم بذلك المختار . ولم تدخلهم العجم الجفاة ، ولا طيش الأعراب الحفاة ، فهم أهل جنات وعيون، وأهل أدب وشجون .
وقد مدحهم الداعية الشهير القرعاوي ، وذكرهم بحسن المساعي ، وإجابة الداعي ، وسطر فيهم الشعراء أحسن قصائدهم ، ودبّج فيهم الخطباء أجود قلائدهم .
وسل أهل العلم ممن زارهم ، وحل دارهم ، فإنه ينقلب إلى أهله مسرورا ، بعد أن ملئوه حبورا . وما دفعني لما قلته عصبية ، أو حمية مذهبية ، بل كلمة حق ، وشهادة صدق ، وقد ذكرت فضائل غيرهم من أهل البلدان ، وما تنقصت بسببهم غيرهم من سكان الأوطان ، وانظر الإنصاف والإتحاف في المقامة المكية ، والمقامة النجدية ، واليمنيّة ، وغيرها من المقامات ، وهذا من الاعتراف بالحسنات .
واعلم أن مئات المؤرِّخين والأدباء ، سبقوني إلى ذكر مناقب جبال السروات الشمَّاء ، وأهلها الكرماء ، وقد نظم لبيد قصيده في تباله ، وحط ابن بطوطة في السراة رحاله ، ولما زارها تأبط شرا ، مدحها وقد تأبط خيرا ، وقد قال أحد شعرائها ، ينوِّه بمجد فضائلها .
نحن وجه الشمس إسلام وقوة
نحن أزد الله في يوم الردى(/87)
وأويس جدّنا من قرن
والسيوف البيض في أيماننا ... نسب حر ومجد وفتوة
قد وضعنا الكفر في سبعين هوة
أو ما تلمح مجداً في البنوة
يوم ضرب الهام من دون النبوة
****************************
المقامَة الخليجيّة
{ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا }
إن كيد مطّرف الإخاء فإننا
أو يختلف ماء الغمام فماؤنا
أو يفترق نسب يؤلف بيننا ... نغدو ونسري في إخاء تالد
عذب تحدر من غمام واحد
دين أقمناه مقام الوالد
كنت في أمر مريج ، حتى دخلت الخليج ، فقلت أين المجالس النديّة ، والأخلاق الودية ، والأماني الوردية ، قالوا في السعودية .
قلت : جاش حبي وفاض ، وليس لي على رسول الحب اعتراض ، فاقضِ ما أنت قاض ، إذا هبطت الرياض .
ولا تلم من حن قلبُه إلى قطر ، وصار دمعه مثل المطر ، فكم للمحبين من غدوة وروحة ، إلى روابي الدوحة .
وسلم على عمان ، أهل الشعر والبيان ، وإكرام الضيفان ، وهم يوم الروع شجعان
وسبحان من مرج البحرين يلتقيان ، يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان .
أحرزوا ذروة المجد وسنامه ، ونصبوا خيام الجود في المنامة .
ودخلنا أبا ظبي فوجدنا أسودها تحمي ظباءها ، والحسن قد ملأ سماءها .
فحمى الله الإمارات ، من الغارات ، فقد حققت في العلياء انتصارات ، وشيدت للعلم منارات .
كم من محب يقول من الحب انكويت ، فاسألوا الكويت ، حماها الله من العدوان ، وصانها من حسد الجيران ، ومن غيرة الإخوان .
لي في الجزيرة آمال مجنّحة
حي الكويت فلن ننسى مودتها
وفي المنامة سفر الحب نقرؤه
بلغ عمان تحيات مباركة
وطف على دوحة الأحباب مستلما
أما الإمارات فالأشواق تحملنا
خليج ما عرف الأحباب غربتنا ... في نجدنا حيث يسموا الشعر والخطبُ
محفوظة ما دهاها الهول والعطبُ
على خدود الهوى من حبنا عتبُ
أزدية ولها في أرضنا نسبُ
تلك الربى إن قلب الصب ملتهبُ
لأرضها وعليها تشهد الكتبُ
وقد أساء لنا الحساد إذ كذبوا
في الخليج دمع يترقرق ، وماء يتدفق فيها ، ذكاء وامتياز ، وزيت وغاز ، وبنزين وقاز .
وفي الخليج ضيافة حاتمية ، ودعوة إسلامية ، وصحوة عالمية ، تغذيها كتب ابن تيمية . في الخليج مكة الرسالة ، ونجد البسالة ، ومنامة الشهامة ، ودوحة الكرامة ، ومسقط الزعامة ، وفي الكويت سل المجد حسامه ، وبلغ العز في أبو ظبي تمامه .
الخليج أرض الأنبياء ، ودار الأولياء ، وروضة العلماء ، وسرادق الكرماء ، وديوان الشعراء .
من الخليج محمد الرسول الخاتم ، مصلح العالم ، ومنها حاتم المكارم . وخالد صاحب العزائم ، الملحق بالأعداء الهزائم .
من الخليج شعراء المعلقات ، والملاحم الشرقيات ، وتلك المثل الراقيات . وفيها الرجال ، والجمال ، والمال ، والسحر الحلال .
في الخليج الشدة والرخاء ، والحدائق والصحراء ، والجفاف والماء ، والأرض والسماء ، والدهماء والعلماء . هنا طائرة وباخرة ، وحضارة فاخرة ، وصحراء ساخرة ، ودنيا وآخرة . بيع وشراء وقرض ، إيراد وتصدير وعرض ، عمار وبناء فوق الأرض ، وثروات وخيرات تحت الأرض . لحركة التعمير ضجيج ، وللبترول رغاء ونشيج ، وللبساتين عطاء من كل زوج بهيج .
في الخليج يلتقي التاريخ والجغرافيا ، لترى الحب في ماء الخليج صافيا ، وتقرأ الود في عيون الخليجيين وافيا . لا يكره الخليج إلا حاسدا ، وجاحدا ، أو جامدا .
فالحاسد غلبه هواه ، وحسده أغواه ، وقد خاب مسعاه .
والجاحد أنكر الجميل ، وأكثر من القال والقيل ، والكثير من الإحسان عنده قليل .
والجامد ، بارد الإحساس ، واهم القياس ، اختلط عليه أمر الناس .
في الخليج فصاحة وقافية ، وعين صافية ، وقيم وافية ، وصيدلية شافية ، وكنوز كافية . هاجر العالم إلى الخليج بالملايين ، فالمسلم جاء يبحث عن الدين ، والجيولوجي أقبل من أجل التعدين ، والخواجة أتى ينقب عن البنزين . جاء الهندي إلى الخليج بالرز ، وجاء الإلماني بالبنز ، وجاء الإيطالي بالبز . والكل يطلب العز والكنز .
في الخليج بئر وبعير ، وأعاصير ومواصير . وشبكات ، وشيكات ، وشركات . وريال ، ورجال ، ودينار ، ودولار .
انبعث البعثي من بغداد ، وقد لبس السواد ، وحمل السكاكين الحداد ، فبقر بطون الجيران ، وحطم بفأسه الجدران ، وأذاق الموت الإخوان ، قيل له لم فعلت هذا يا خّوان .
فقال :
وأحيانا على بكر أخينا
إذا ما لم نجد إلاّ أخانا
قيل له : بالأمس كنت تهدد إسرائيل ، وأقسمت أن ترميها بطير أبابيل ، تحمل المزدوج والكيماوي في براميل ، فمالك ضللت السبيل ، يا عميل .
فقال : أما سمعت الشاعر الأصيل :
أسد علي وفي الحروب نعامة
فتخاء تنفر من صفير الصافر
ليتنا عن البعثي ما مدحنا ولا حكينا . فكم من ظلمه اشتكينا . ومن قهره بكينا .(/88)
وفي المثل : لا تعط المجنون سكِّينا .كيف تأمن من يقول : آمنت بالبعث رباً لا شريك له ، ويستعرض على جيرانه هيكله . الذي يصلي والمزدوج في جيبِه ، وينوي الموت لحبيبِه ، ويوجه الصاروخ لقريبه . فلا تثق به ولو صلى ، فقد أعرض وتولىَّ، وعن دينه تخلى ، وإلى النار تدلىَّ . لو كنت أيها البعثي نسيب حسيب ، عريب لبيب ، كنت أحرقت تل أبيب . لكنك لمولاك عصيت ، ومن الحق أبيت ، وعن هديه توليت ، ثم غزوت الكويت . لو زحفت إلى اليهود ، إخوان القرود ، كانت صفَّقت لك كل الوفود، وأعانتك الجنود ، وخفقت على رأسك البنود ، وأتاك الدعم بلا حدود .
لكن كتب عليك الشقاء ، فقاتلت الأشقّاء ، وحاربت الأصدقاء ، ليكونوا لك أرقاء ، وتركت الأعداء ، البعداء ، الألداء ، فأنت كمن ترك الدواء ، وتناول الداء .
حزب البعث العربي الاشتراكي . أربع كلمات ، ظالمات ، كاذبات ، خاطئات .
فحزب معناه : تحزيب الأمة إلى دويلات ، وتشتيتها إلى مقاطعات ، وتمزيقها إلى جماعات .
البعث معناه : بعث الإحن والأحقاد ، وتخريب البلاد ، وتعذيب العباد ، باسم صوت الجماهير من بغداد .
والعربي معناه : بلا عرب ، وزرع الغضب ، والقتال بلا سبب ، فعلى القريب لهب ، ومن العدو هرب .
والاشتراكي : تحويل المسلمين ، إلى عقيدة لينين ، واستالين ، وتوزيع الملايين على البعثيين الملاعين . قاتلهم الله آمين .
نريد من بغداد ، أن تكون بغداد المأمون والمعتصم والرشيد، لا بغداد ميشيل عفلق المريد الرعديد .
لما كانت بغداد في العصر العباسي كانت قبلة الوفود ، وعرين الأسود ، ومشرق الحب والسعود ، فلما أصبحت بغداد في يد البعث الحقود الحسود ، صارت تطلق على الجيران الاسكود ، وغاز الأعصاب حارق الجلود .
أيها الخليجيّون : ليس فخركم أنكم بلد البترول ، إنما الفخر أنكم بلد الرسول ، فلا تفرحوا لأن الزيت في أرضكم سقط ، لكن افرحوا لأن الوحي في أرضكم هبط .
أيها الخليجيّون : ليس شرفكم زيت دفق ، لكن الفخر أن في دياركم رسول صدق ، وبالحق نطق .
العالم يتجه إليكم خمس مرات ، ليصلي إلى كعبة المسرات ، لقد صرتم بهذا الحرم سادة العالمين ، وفي دنيا الأمجاد مبدعين ، ولأجل عين تكرم ألف عين ، فكونوا إخوة أجمعين ، ولا تطيعوا الشيطان اللعين .
**************************
المقامَة اليمانيَّة
(( الإيمان والحكمة يمانية ))
(( قبلات على جبين صنعاء ))
دخلنا صنعاء ، بعد ما قرأنا الدعاء ، فوجدنا صالح بن مقبول ، ينشد ويقول :
نزلنا على قيسيّة يمنيّة
فقالت وأرخت جانب الستر بيننا
فقلت لها : أما رفيقي فقومه
رفيقانِ شتّى ألّف الدهر بيننا ... لها نسب في الصالحين هِجانِ
لأية أرض أمْ من الرجلانِ
تميم وأما أسرتي فيماني
وقد يلتقي الشتّى فيأتلِفانِ
فقال أهل اليمن : أنت من ؟ قلت النسبة أزدية ، والملّة محمّدية ، قالوا : انزل غير بئيس ، ولا تعيس ، فإن منكم القرني أويس ، قلنا كفاكم قول من جاء بالشرائع الإيمانية، حيث يقول : الإيمان يمان ، والحكمة يمانية ، قالوا : صلى الله عليه وسلم كلما فاح ورد ، وثار وجد ، وتلي حمد ، وحلّ سعد ، قلنا كيف الحال ؟ يا معاشر الأقيال(1) ، يا أهل الخطب الطوال ، ويا أصحاب البديهة والارتجال ، ويا رواد الأشعار والأزجال .
ألا أيها الركب اليمانون عرِّجوا
علينا فقد أضحى هوانا يمانياّ
نُسائلكم هل سال نعمان بعدنا
وحب إلينا بطن نعمان واديا
وقد قيلت فيكم المدائح ، التي سالت بها القرائح ، وحفظها عنكم التأريخ ، فوصل بها مجدكم المريخ ، أنسيتم ما ذكره في مدحكم الهمداني ، وما سجله في مجدكم صاحب الديباج الخسرواني ، أليس ينسب إليكم السيف الهندواني ، وسمي باسمكم ركن البيت اليماني ، وسهيل أحد النجوم الدواني ، ومنكم محدث العصر الأمير الصنعاني ، والعلامة الرباني الإمام الشوكاني ، وتاج العلماء الكوكباني ، وسيد الأولياء أبو إدريس الخولاني ، ومفتي الديار العلامة العمراني ، وابن الديبع الشيباني ، وشيخ الشيوخ الأرياني ، والقاضي أحمد الحضراني ، وخطيب الخطباء البيحاني ، وأستاذ الإعجاز الزنداني ، وقد أثنى عليكم شيخ الإسلام ابن تيمية الحرَّاني ، لما شرح حديث الإيمان يماني ، ومجّدكم ابن رجب بالفقه في المعاني ، وحسبكم مدح الرسول العدناني ، فإنه خصّكم بعلم الحكمة في المثاني ، ومنكم شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم حسّان ، وملك العرب النعمان ، وخطيب الدنيا سحبان ، ومنكم سيف ذي يزن في غمدان ، أما سمعت الشاعر حيث يقول :
ألا لا أحب السير إلا مصاعداً ... ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
فميّز برقكم عن كل برق لأنه صدق ، يأتي بالغيث والودق ، وذكر امرؤ القيس التاجر اليمني في لاميته فقال :
فألقى بصحراء العبيط بعاعه ... كفعل اليماني ذي العياب المحمّلِ
__________
(1) - الأقيال : اسم لملوك اليمن .(/89)
منكم الأوس والخزرج ، والملكان الحارث والأعرج ، وعمر بن معد يكرب المقدام المدجج ، ومنكم الملكة بلقيس ، وأسماء بنت عميس ، وأبو موسى عبد الله بن قيس ، وعلى ألسنتكم تسيل القوافي ، وفي ضيافتكم تشبع العوافي ، بديهتكم سريعة ، وذاكرتكم بديعة ، وفيكم الفصاحة والصباحة ، والسماحة والملاحة ، ودعا لكم المعصوم فقال : اللهم بارك لنا في يمننا ، وأقول : ووفق أهل صنعانا وعدننا .
قال الزبيري في قصيدة الوطن ، يخاطب اليمن :
مزقيني يا ريح ثم انثري ... أشلاء جسمي في جو تلك المعاني
وزعيني على الجبال والغدران ... بين الحقول والأغصان
وصلي جيرتي وأحبابي ... وقصِّي عليهموا ما دهاني
هل بكاني هزارها هل رثاني ... طيرها هل شجاه ما قد شجاني
ليت للروض مقلة فلعل الدهر ... يبكيه مثلما أبكاني
وقد ذكر الذهبي في النبلاء ، في سيرة همام بن منبه أحد العلماء ، أن رجلاً من قريش ، صاحب سفاهة وطيش ، قال لأحد أهل اليمن ، وكان اليمني ثقة مؤتمن : ما فعلت عجوزكم قال : عجوزنا بلقيس أسلمت مع سليمان لله رب العالمين ، وعجوزكم يا قرشي حمَّالة الحطب دخلت النار مع الداخلين ، فغلب القرشي وأفحمه ، وفي كل كرب أقحمه . والمتنبي شاعر المعاني ، أثنى على السيف اليماني ، فقال في نونية رائعة ، وفي قصيدة ذائعة :
برغم شبيبٍ فارق السيف كفّه
وكانا على العلات يصطحبانِ
كأن رقاب الناس قالت لكفه
رفيقك قيسيٌّ وأنت يماني
وذكروني بشاعر معاصر وإليه ردوني ، أعني به شاعركم عبد الله البردوني ، حيث يقول مخاطباً الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
نحن اليمانين يا طه تطير بنا
إلى روابي العلا أرواح أنصارِ
إذا تذكرت عماراً وسيرته
فافخر بنا أننا أحفاد عمارِ
وقد رفعتم رؤوس العرب ، لما انتصر سيف بن ذي يزن وغلب ، على أبرهة حامل الكذب ، فزارتكم الوفود بما فيهم عبد المطلب ، فأشاد بكم أمية بن أبي الصلت في لامية عصماء ، أبهى من نجوم السماء يقول :
اجلس برفق عليك التاج مرتفعاً
تلك المكارم لا قبعان من لبن ... بقصر غمدان دار منك محلالا
شيبا بماء فعادا بَعْدُ أبو الا
وأطعتم معاذ بن جبل ، ورفعتموه في المحل الأجل ، ونصرتم علي بن أبي طالب ، صاحب المناقب والمواهب ، فقال :
ولو كنت بوابًا على باب جنةٍ ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلامٍ
وقتلتم الكذاب الأسود العنسي ، فصار في التأريخ المنسي ، ومنكم المقدام يوم القادسية ، الذي سحق الجموع الفارسية ، ومنكم الشاعر وضّاح ، الذي هزّ بشعره الأرواح ، وأنتم أرق الأمة قلوباً ، وأقلها عيوباً ، وأطهرها جنوباً ، وفيكم سكينة ووقار ، وفقه واعتبار ، ومنكم أولياء وأبرار ، وكفاكم أن منكم الأنصار ، مع تواضع فيكم وانكسار ، ومنكم مؤلف الأزهار ، وصاحب السيل الجرَّار ، ومدبج الغطمطم التيّار ، ومنكم المحقق الشهير ، والمجتهد الكبير ، أعني ابن الوزير ، صاحب العواصم والقواصم والروض الباسم ، خطيبكم إذا تكلم بز الخطباء ، وأسرها وسحرها فإما منّاً بعد وإما فداء ، وشاعركم إذا حضر غلب الشعراء ، وصارت أفئدتهم من الذهول هواء ، الضاد بأرضكم ميلادها ، والعروبة عندكم أولادها ، والحميريّة أنتم أحفادها ، أما قال الشاعر :
يمنيّون غير أنّا حفاة
قد روينا الأمجاد جيلاً فجيلاً ... قد وطئنا تيجان كسرى وقيصرْ
جدنا صاحب الحضارات حميرْ
عندكم الجبال ، والجمال ، والسحر الحلال ، والبلاغة في الأقوال ، مع سلامة صدور ، وبعد عن الكبر والغرور ، وخفة أرواح ، ودعابة ومزاح ، وقدرة على الحفظ ، وسبك اللفظ ، وجودة خاطر ، بكل لذيذ عاطر ، مع بسمة وبشاشة ، ونفوس بالحب جيّاشة ، عانقت جبالكم السحاب ، واحتضن شجركم الضباب ، وقبل ريحانكم التراب ونادت غدرانكم : اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ، كأن بُنَّكم إذا مزج بالهيل ، وخلط بالزنجبيل ، فيض من السلسبيل ، كأنه يقول للشاربين ، جئتكم من سبإٍ بنبإٍ يقين ، وبأرضكم الأقحوان ، يضاحك الريحان ، وبلبل البستان ، كأنه يتكلم بلسان ، في كل صباح يصيح ، كأنه خطيب فصيح ، من دخل روضكم ظن أنه في إيوان كسرى، يسري به النسيم فسبحان من أسرى :
أرض ثراها لؤلؤ وترابها
يتلو بها القمري آيات الهوى ... مسك وطينة أرضها من عنبرِ
والطير بين مسبح ومكبرِ
طَلْع الزهر بها كأنه جُمان ، ولو سار بأرضها سليمان ، لسار بترجمان ، تباكرها الصبا الشمالية ، لا شرقية ولا غربية ، فيا أنصار الرسالة في قديم الزمان ، أنتم أنصارها الآن ، فعضوا على التوحيد بالنواجذ ، فأنتم الأبطال الجهابذ ، وانصروا سنة المختار ، في تلك الديار، وانهجوا نهج السلف ، فإنكم نعم الخلف ، وارفعوا للملة العلم، فمن يشابه أَبَهُ فما ظلم ، ففيكم علماء وعباد ، ولكم نوافل وأوراد ، وتديُّنكُم سريع ، وفهمكم بديع ، وقد قلتُ في صنعاء ، من قصيدة لي تحمل الحب والوفاء .
صنعاءَ صغنا لكِ الأشعار والكتبا
والكتبا
لكِ الوفاء فلا تبدي لنا العتبا
على جفونكِ قتلى الحب قد صرعوا
حتى الذين بقوا قتلى ومن ذهبا(/90)
رواية السحر في عينيكِ أغنية
والحسن في وجهكِ الوضّاح قد سكبا
ليت الهوى ترك الأرواح سالمة
فهو الذي رد بالألحاظ ما وهبا
إن كنتِ تبكين يا صنعاء من ولهٍ
فقد سكبنا عليكِ الغيث والسُّحبا
استغفري أنتِ مما تفعلين بنا
هذا الجمال اليماني يقتل العربا
ولما تقدم الجيش البريطاني ، يريد احتلال أوطاني ، في بلد جيراني وإخواني ، صاح الشاعر الأرياني ، في الشعب اليماني ، مخاطباً جيش الغزاة الذي خدعته الأماني :
يا بريطانيا رويداً رويدا
إن بطش الإله أهلك فرعو
لا تظنوا هدم المدائن يودي
إن تبيدوا من البيوت بطيارا
فلنا في الجبال تلك بيوت
فالنزال النزال إن كنتموا ممن
لتروا من يبيت منّا ومنكم
أفترجوا انكلترا في بلاد الله ... إن بطش الإله كان شديدا
ن وعاداً من قبلكم وثمودا
عزمنا أو يلين بأساً صليدا
تكم ما غدا لدنيا مشيدا
نحتتها أجدادنا لن تبيدا
لدى الحرب لا يخاف البنودا
موثقاً عند خصمه مصفودا
أرضاً وموطناً وخلودا
كذبت والإله ما كان حتى
بعد أن تسفك الدماء على الأرض
ما خضعنا للترك مع قربهم في
وهم في الأنام أشجع جيشٍ
يا بني قومنا سراعاً إلى الموت
والبسوا حلة من الكفن الغالي
سارعوا سارعوا إلى جنة قد ... نملأ الأرض والسماء جنودا
وتروي سهولها والنجودا
الدين منا فكيف نرضى البعيدا
فاسألوهم قد صادفونا أسودا
فقد فاز من يموت شهيدا
وبيعوا الحياة بيعاً مجيدا
فاز من جاءها سعيداً شهيدا
سلام على شوكان ، ورحمة الله على إريان ، وبركاته على كوكبان ، ومغفرة على عمران وتحياته على خولان وفضله على همدان . لأن التفسير الصحيح شوكاني ، والشعر المليح إرياني ، والخطاب الفصيح كوكباني . والعقل الرجيح عمراني ، والوجه الصبيح خولاني ، والكف السميح همداني .
وصرف الله النقم ، عن جبل نُقم ، لأنه أنتج لنا ابن الوزير ، صاحب التحبير والتحرير .
شكراً لتلك الأرض لو أن الدما
تسقى بها الأوطان أسقيناها
اليمن مشتق من الإيمان لأنهم صدّقوا بالرسالة ، وأظهروا البسالة ، وأكرموا رسول الرسول ، وقابلوه بالقبول ، وجمعوا بين المعقول والمنقول .
واليمن مشتق من اليُمْن لأنه كان ميموناً بجنوده ، معيناً بحشوده .
واليمن مشتق من الأمانة لأن أهلها رجاله فدوا الملة بالنفوس ، وقدموا للشريعة الرؤوس :
أمة أمهرت المجد النفوسا
بذلت للدعوة الكبرى الرؤوسا
واليمن مشتق من اليمين ، فهم ميمنة كتائب الجهاد ، ساعة الجلاد ، بالسيوف الحداد :
على الميامن تلقانا جحاجحةً
بعنا من الله أروحاً وأبدانا
إذا رأيت من ينتقص اليمن فاعلم أنه يستحق التوبيخ ، لأنه يجهل أبجديّات التأريخ .
روى الطبراني ، عن الرسول العدناني ، في مدح المدد اليماني : إن نفس(1) ربكم من اليمن ، لأنهم أهل نجدة وفطن . اليمن بلد الأقيال ، والجبال ، والجمال ، والجلال .
فالأقيال : طردوا الأحابيش ، وهزموا كل جيش . والجبال : صدّت الغزاة المحاربين ، ودمّرت الإنجليز الكاذبين . والجمال : رسائل سحر من الطبيعة ، في حجاب الشريعة . والجلال : إيمان في قوة ، وعلم مع فتوّة . تعانَق في اليمن التأريخ والجغرافيا ، عناقاً كافياً شافيا ، وتصافح بها الفقه والحديث ، والقديم والحديث .
إذا سال على حدائق الأزهار ، السيل الجرار ، ظهر لك أهل التقليد وحملة الآثار ، وإذا أردت الدليل ، على فضل هذا البلد الجليل ، فعليك بالإكليل .
واعلم أنني ما أسرفت في المديح بل قصرت ، وما طولت في الثناء بل اختصرت ، وكفى لأهل اليمن مدح المصطفى ، وإنما أردنا أن نكتب في ديوان الوفاء ، وفي سجل الصفاء ،، وقد قال الشاعر يفتخر بكم :
نحن وجه الشمس إيمان وقوة ... نسب حر ومجد وفتوة
كَربُ عمي وقحطان أبي ... وهبوا لي المجد من تلك الأبوّة
والسيوف البيض في وجه الدجى ... يوم ضرب الهام من دون النبوّة
يا صنعاء نريد منك جيلاً ربانياً ، وشباباً محمديّاً ، وعزماً يمانياً ، وشكراً يا عدن ، على ترحابك بأتباع النبي الأمين ، وطردك لعبيد لينين ، واذناب استالين ، لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين .
سلِّم على الدار من شجو ومن شجن
وانظر إلى الروض من سحر ومن حسنِ
يا لوحة نسخت فيها مدامعنا
قلبي بروعة هذا الوجد في اليمنِ
وما كتبت هذه المقامة ، حتى طالعت كتب القوم في الجبال وتهامة ، فقرأت كتب ابن الوزير ، وكتاب رياح التغيير ، وسامرت كل مرجع ، وراجعت تأريخ الأكوع ، ورافقت كتاب البدر الطالع ، فإذا هو جامع مانع ، وألّف أحد المستشرقين كتاب اليمن من الباب الخلفي ، وفيه ما يكفي ويشفي ، وقد نظم الشعراء في اليمن إلياذات ، وكتبت على القلوب من حبها أبيات ، ولهم في هذا القطر مؤلفات ومصنفات ، ومن لطف أهل اليمن تسميتهم لشجرة البن لأن فيها بناء مودات .
وتسميتهم القات ، لأنها تذهب الأوقات ، وتأكل الأقوات .
__________
(1) - معناه الفَرَج من الله بعد الشدّة .(/91)
واليمن مورد عذب ، وميدان رحب ، فالقومي باليمن يفخر ، لأنها بلد الجد حمير ، والمؤرخ يتشجع ، لأنه عثر على موطن تبع ، وصاحب الآثار له من اليمن أمداد ، لأن فيها إرم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد ، وحملة القرآن ، لهم ميل إلى تلك الأوطان ، لأن الإيمان يمانِ ، فاحفظ أخبارهم ، وردد أشعارهم ، واكتب إنشاءهم ، ولا تبخس الناس أشياءهم .
واعلم أن اليمن أهدت لسليمان بلقيس بالكرسي ، وقتلت الأسود العنسي ، وألبست العروبة المنن ، بسيف ذي يزن ، حتى زاره عبد المطلب ، نيابة عن العرب ، فبشره بالنبي المرتقب ، وأعلى منزله كما يجب .
وألفت اليمن في الأصول ، إرشاد الفحول ، وفي التفسير ، فتح القدير ، وفي سنة أبي القاسم ، الروض الباسم ، وفي فن الطلب ، نيل الأرب ، وفي الأحكام ، سبل السلام، وفي فقه الآثار ، نيل الأوطار ، وتاج العروس أصله من زبيد ، وعندهم كل عالم مفيد ، وشاعر مجيد . وقد أغناهم الله بالحديث عن فلسفة اليونان ، وبالفقه عن كلام مبتدعة خراسان ، وبالتفسير عن خيالات فارس وملكهم ساسان ، وهم من أكثر العباد خشوعاً ، ومن أغزرهم دموعاً ، وليسوا بعباد درهم ، وليس من أرضهم الجعد بن درهم ، ولم يدخل ديارهم الجهم بن صفوان ، بل أهدوا للسنة طاووس بن كيسان ، وكان العلم يطلب من أوطانهم سنينا ، وقد سلموا من غلطات الفارابي وابن سينا .
ولله تاريخهم ما أحسنه ، لأن هناك لين القلوب وصدق الألسنة ، وشجرة مجدهم لا تنبت إلا على الأنهار الشرعية ، ولذلك اجتثوا من بلادهم جرثومة الشيوعية ، لأنهم موحدون لا ملحدون ، فهم بلد الإيمان والإنفاق ، لا بلد الرفاق والنفاق ، فيا حمام بلغهم منا السلام ، وقل إلى الأمام ، والصلاة والسلام على صفوة الأنام ، وآله وصحبه الكرام .
وقبل الوداع ، أطرق الاسماع بمقطوعة فاتنة وأبيات ساخنة لشاعركم محمد محمود الزبيري يخاطب فيها اليمن يقول :
الشاعرية في روائع سحرها ... أنت الذي سويتها وصنعتها
مالي بها جهد فأنت نسجتها ... ونشرتها بين الورى وأذعتها
أنت الذي بسناك قد عطرتها ... وكتبتها في مهجتي واشعتها
ابعدتني عن امة أنا صوتها ... العالي فلو ضيعتني ضيعتها
ما قال قومي آه إلا جئتني ... وصهرت أحشائي بها ولسعتها
عذبتني وصهرتني ليقول عنك ... الناس هذى آية أبدعتها
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاتُه
********************************
المقامَة المصريّة
{ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ }
يا مصر كل حديث كنت أحفظه
جرت دموعي على أعتاب داركمو ... نسيته عند أهل التل والدارِ
يا مصر كل الهوى في نيلك الجارِ
يا مصر ، أنتِ كوكبة العصر ، وكتيبة النصر ، وإيوان القصر ، أنتِ أم الحضارة ، ورائدة المهارة ، ومنطلق الجدارة ، وبيت الإمارة ، ومقر السفارة ، ومهبط الوزارة .
من أين نبدأ يا مصر الكلام ، وكيف نلقي عليكِ السلام ، قبل وقفة الاحترام ، لأن في عينيكِ الأيام ، والأعلام ، والأقلام ، والأعوام .
يا مصر أنتِ صاحبة القبول والجاه ، كم من قلب فيكِ شجاه ما شجاه ، ونحن جئنا ببضاعة مزجاة .
سارت إلى مصر أحلامي وأشواقي
وهلَّ دمعي فصرت الشارب الساقي
وفي ضلوعي أحاديث مرتلة
ومصر غاية آمالي وترياقي
يا ركب المحبين أينما حللتم وارتحلتم ، وذهبتم وأقبلتم ، اهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم . يا أرض العز ، يا قاهرة المعز ، يا بلاد العِلم والقطن والبز .
سلام عليكِ يا أرض النيل ، ويا أم الجيل ، الحب لكِ أرض والجمال سقف ، والمجد لكِ وقف ، ويا داخل مصر منك ألف ، ما أحسن الجفن والجيد والكف ، التقى الطيب والكافور في مصر ، لما التقى أبو الطيب وكافور في القصر ، قبل أن يدخل جوهر الصقلي مصر كان عبداً مملوكاً ، فلما دخلها صار يحكم ملوكاً .
أرض إذا ما جئتها متقلباً
في محنة ردتك شهماً سيّداً
وإذا دهاك الهم قبل دخولها
فدخلتها صافحت سعداً سرمداً
قل للأخيار المكرمين ، الوافدين إليها مغرمين ، والقادمين عليها مسلمين ، ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين .
في مصر تعانقت القلوب ، وتصافح المحب والمحبوب ، والتقى يوسف بيعقوب ، فصفق الدهر ليوسف منشداً ، وغنى الزمان له مغرّداً ، وخروا له سجداً .
في مصر ترعرع الشعر ، وسال القلم البليغ بالسحر ، فكان الفضاء لكتاب مصر صفحة بيضاء ، يكتب كل ما يشاء ، فصارت العقول في ذهول ، من روعة المنقول والمعقول ، وأذعنت القلوب في قبول ، ترحب بالشاعر المصقع ، والقلم المبدع ، والرأي المقنع .
دخلنا مصر والأشواق تتلى
جمال يسلب الألباب حتى ... وكل الأرض أنسام وطلُ
كأن القتل فيها يستحلُّ
في مصر القافية السائرة ، والجملة الساحرة ، والمقالة الآسرة ، والفكرة العاطرة ، عالم من الجنود ، والبنود ، والوفود .
دنيا للقادة ، والسادة أهل الإفادة ، والإجادة ، والرفادة ، ديوان للكتاب ، والحساب ، والأصحاب ، والأحباب .(/92)
محراب للعباد ، والزهاد ، والأمجاد ، والرواد ، علماء ،وحكماء ، وكرماء ، وحلماء وشعراء ، وأدباء ، وأطباء ، وخطباء ، ونجباء ، وأذكياء ، وأولياء ، وأصفياء ، وأوفياء .
هنا الدهر يكتب من ذكرياته فنوناً ، هنا التأريخ يبث من صدره شجوناً ، هنا الجمال يسكب من إنائه فنوناً ، هنا خطا الزمان تتسارع ، والحضارات تتصارع ، والأهرام تقص علينا خبر الأيام ، وأحاديث الأقوام ، وما فعلته الأعوام :
أين الذي الهَرَمان من بنيانه
تتخلف الآثار عن أصحابها ... ما يومه ما ذِكْره ما المصرعُ
يوماً ويدركها الفناء فتتبعُ
هنا سحق الطغيان ، ومزق جنود الشيطان ، ودمر فرعون وهامان ، وأحرقت وثيقة الزور والبهتان ، وارتفعت ملة الرحمان .
هنا عمرو بن العاص ، رحب به العوام والخواص ، وفر الظلم في قدومه وغاص ، هنا تكتب الدموع على الخدود رسائل الأموات إلى الأحياء ، وخطاب الأرض المفتوح إلى السماء ، وهنا تلتقي الظلماء والضياء ، والظمأ والماء ، والصفاء والوفاء ، ويتعانق الضحك والبكاء ، والفراق واللقاء ، لتصبح الحياة في مصر مهرجاناً لآلاف الصور والمشاهد ، والذكريات مساجد ، ومعابد ، ومعاهد ، وجامعات ، وكليات ، وشركات ، وأمسيات ، ومحاضرات ، وندوات ، ولقاءات ، ومحاورات ، ومعاهدات .
دار هي الأرض إلا أنها بلد
فيها الزمان وفيها الشمس والقمرُ
تجمّع الدهر في أرجائها جذلاً
والغيث داعبها والنهر والشجرُ
صباح الخير يا أرض الكنانة ، وناصرة الديانة ، وحاملة التأريخ بأمانة ، وحافظة عهد الإسلام في صيانة ، وراعية الجمال في رزانة . أدب خلاّب ، وجمال سلاّب ، وسحر جذّاب ، وذكاء وثّاب ، وظل مستطاب ، وأمانٍ عذاب ، نهر يتدفّق ، وحسن يترفّق ، ودموع تترقرق ، وزهور تتفتق ، وأكمام تتشقق ، ومقاصد تتحقق ، وجد الإسلام فيكم يا أهل مصر أعيادَه ، كنتم يوم الفتوح أجناده ، وكنتم مدده عام الرمادة ، وأحرقتم العدوان الثلاثي وأسياده ، وحطمتم خط بارليف وعتاده ، وكنتم يوم العبور آساده وقواده . فتفضلوا الشكر والإشادة ، وخذوا من القلب حبه ووداده :
ثمن المجد دم جُدْنا به ... فاسألوا كيف دفعنا الثمنا
منكم أمير الشعراء ، وكبير البلغاء ، وشيخ الفصحاء ، وسيد الخطباء ، وأستاذ النجباء ، وأكبر الأطباء . يسلك العقل في مصر سبيله ، ويحفظ الفؤاد من مصر نيله ، وتعيد الذاكرة في مصر قصة ألف ليلة وليلة .
في مصر لطف الهواء ، وطيب الغذاء ، ونفع الدواء ، وصفاء الماء .
النيل مائي وفي أرض الكنانة ما
فيها الحضارة والأمجاد ماثلة ... يشجي من الحب والأشواق تزدانُ
علم وفهم وإسلام وإيمانُ
سلام على مصر في الآخرين ، لأنها كانت خزانة المسلمين ، ومدد المجاهدين ، وسلة الخبز للجائعين ، ومقبرة المستعمرين ، أهلك الله أعداءها ثم قال : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ } .
بوركتِ يا أرض السنابل ، ويا روض الجداول ، ويا بلاد الخمائل ، لكِ في قلوبنا من الحب رسائل ، ومن الود مسائل :
من لقلب حل جرعاء الحمى
ضاع مني هل له ردّ عليّ
فاسألوا سكان مصر إنه
حل فيهم فليعد طوعاً إليّ
لله أنت يا مصر ، بَنُوك أهل سعة في الحفظ ، وفصاحة في اللفظ ، منهم سادات القرّاء ، وأئمة الفقهاء .
إذا قرأ منهم القاريء كلام الباري ، تكاد تميد السواري ، وينسكب مع ندى صوته الدمع الجاري .
وإذا خطب فيهم الخطيب ، بذاك الكلام العجيب ، سمعت البكاء والنحيب .
مصر بلد الحديث المحبّر ، والحرف المسطر ، والروض المعطر .
سقاها الله الغيث المدرار ، وحماها من الأخطار ، وصانها من لوثة الأشرار .
المقامَة الدمشقية
(( ودمع لا يكفكف يا دمشق ))
قمر دمشقي يسافر في دمي
الحب يبدؤ من دمشق فأهله
والماء يبدؤ من دمشق فأينما
ودمشق تهدي للعروبة لونها ... وسنابل وخمائل وقباب
عشقوا الجمال وذوبوه وذابوا
أسْنَدتَ رأسك جدول ينساب
وببابها تتشكلّ الأحزاب
السلامُ عليك يا أرض شيخ الإسلام ، ورحمة الملك العلاَّم ، أيها الحضور الكرام ، في دمشق الشام .
يا دمشق ماذا تكتب الأقلام ، وكيف يرتب الكلام ، وماذا نقول في البداية والختام.
في دمشق الذكريات العلمية ، والوقفات الإسلامية ، والمآثر الأمويّة . وفيها يرقد ابن تيمية ، وابن قيم الجوزية . وفي دمشق حلقات الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية .
يحق لحسان أن ينوح على تلك الأوطان ، ويسكب عليها الأشجان .
لله در عصابة نادمتهم
أبناء جفنة حول قبر أبيهم ... يوماً يحلق في الزمان الأول
قبر ابن مارية الكريم المفضل
تذكرك دمشق بمعاوية بن أبي سفيان ، وعبد الملك بن مروان ، وبني غسان ، والشعر والبيان ، والمجالس الحسان . دمشق سماء زرقاء ، وروضة خضراء ، وقصيدة عصماء ، وظل وماء ، وعلو وسناء ، وهمة شماء . ما أبقى لنا الشوق بقية ، لما سمعنا تلك القصيدة الشوقية ، في الروابي الدمشقية .
سلام من صبا بردى أرق
ومعذرة اليراعة والقوافي(/93)
دخلتك والأصيل له ائتلاق ... ودمع لا يكفكف يا دمشق
جلال الرزء عن وصف يدق
وملأ رباك أوراق ووُرْق
في دمشق أكباد تخفق ، وأوراق تصفق ، ونهر يتدفق ، ودمع يترقرق ، وزهر يتشقق
دخلنا دمشق فاتحين ، وصعدنا رباها مسبحين . فدمشق في ضمائرنا كل حين . وهي غنية عن مدح المادحين . ولا يضرها قدح القادحين .
آه يا دمشق كم في ثراك من عابد ، كم في جوفك من زاهد ، كم في بطنك من مجاهد ، كم في حشاك من ساجد . أنت يا دمشق سفر خلود ، وبيت جود ، منك تهب الجنود ، وتحمل البنود . يصنع على ثراك الأحرار ، ويسحق على ترابك الاستعمار ، ويحبك يا دمشق الأخيار . فأنت نعم الدار . تقطع إليك من القلوب التذاكر ، من زارك عاد وهو شاكر ، ولأيامك ذاكر ، يكفيك تاريخ ابن عساكر ، صانك الله من كل كافر
ألقيت فوق ثراك الطاهر الهدبا
دمشق يا كنز أحلامي ومروحتي ... فيا دمشق لماذا نكثر العتبا
أشكو العروبة أم أشكو لك العربا
في دمشق روضة العلماء ، وزهد الأولياء ، وسحر الشعراء ، وحكمة أبي الدرداء ، وجفان الكرماء .
في دمشق عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد ، والملك الزاهد ، والولي العابد ، يطارد الظلم والظالمين ، ويحارب الإثم والآثمين ، فيذكر الناس بالخلفاء الراشدين ، ويعيد للإسلام جماله في عيون الناظرين . في دمشق براعة ابن كثير ، وعبقرية ابن الأثير ، وتحقيق النووي ، وفطنة ابن عبد القوي .
لولا دمشق لما كانت بلنسية
أتى يصفق يلقانا بها بردى ... ولا زهت ببني العباس بغدان
كما تلقاك دون الخلد رضوان
... يكفيك أيها الشام السعيد ، أن فيك القائد الفريد ، والبطل السديد ، خالد بن الوليد . سيف الله الهمام ، كاسر كل حسام ، أغمد في الشام ، السلام عليك يا أبا سليمان ، يا قائد كتيبة الإيمان ، ويا رمز كتيبة الرحمن .
يا ابن الوليد الأسيف تناولنا
لا تخبروه رجاءً عن هزائمنا ... فإن أسيافنا قد أصبحت خشبا
فيمتلئ قبرُه من قومه غضبا
صحح الألباني ، المحدث الرباني ، أحاديث في فضل تلك المغاني .
وأول أبيات في الأغاني ، لأبي الفرج الأصبهاني . في وصف دمشق وتلك المباني .
حيث يقول الشاعر :
القصر والبئر والجماء بينهما ... أشهى إلى النفس من أبواب جيرون
وقد نسى ابن كثير نفسه ، وملأ بالمدح طرسه ، لما تحدث عن دمشق ، فقلمه بالثناء سبق ، وبالإطراء دفق ، وحار الحكماء في وصف دمشق وطيب هوائها ، وعذوبة مائها ، واعتدال أجوائها ، وذكاء علمائها ، وبلاغة خطبائها ، وتقدم شعرائها ، وعدل أمرائها ، وجمال نسائها ، حتى إن بعض العلماء ذكر أن دمشق أم البلدان ، وأنها في الدنيا جنة الجنان .
دمشق الشام كل حديث ركب
كأنك جنة عرضت بدنيا ... يقصر عنك يا نون العيونِ
أثرت على هوى قلبي شجوني
دخل دمشق الصحابة ، كأنهم وبل سحابة ، أو أسد غابة ، فلقيتهم بالأحضان ، وفرشت لهم الأجفان ، فعاشوا على روابيها كالتيجان . في دمشق فنون وشجون ، وعيون ومتون ، وسهول وحزون ، وتين وزيتون . دمشق جديدة كل يوم ، وهي حسناء في أعين القوم ، وقد بكى من فراقها ملك الروم . إذا دخلت دمشق تتمايل أمامك السنابل ، وتتراقص في ناظريك الخمائل . وتصفق لقدومك الجداول ، وترحب بطلعتك القبائل . دمشق أعيادها يوميّه ، وأعلامها أمويّة ، وأطيافها سماوية ، وبسيوف أهلها محميّة
دمشق في الحسن مفرطة ، وبجواهر الجمال مقرطة ، وفي الطقس متوسطة .
فارقتها وطيور القاع تتبعني
كأنما الطير يهوى حسن طلعته ... بكل لحن من الفصحا تغنيني
بانت دمشق فيا أيامنا بيني
الجمال دمشقي : لأنه لا بد له من روضة فيحاء ، وخميلة غناء ، وحبة خضراء ، وظل وماء . والحب دمشقي : لأنه لا بد له من أشواق مسعفة ، وأحاسيس مرهفة ، وألمعية ومعرفة .
كتب ابن عساكر في دمشق تاريخ الرجال ، وسطر المزي في دمشق تهذيب الكمال، وألف الذهبي في دمشق ميزان الاعتدال ، واحتسب ابن تيميه في دمشق الرد على أهل الضلال ، وأرسل لنا المتنبئ من الشام تلك القصائد الطوال ، وذاك السحر الحلال .
قالوا تريد الشام قلت الشام في
هي جنة الدنيا فإن أحببتها ... قلبي بنت في داخلي أعلاما
فالحسن محبوب وقلبي هاما
في دمشق رسائل الياسمين ، ودفاتر اليقطين ، ومؤلفات النسرين ، للحمام بها رنين ، وللعندليب بها حنين ، كأنها تقول : ادخلوها بسلام آمنين .
ليس لدمشق الشام ، دين غير الإسلام . فطرت دمشق على الإيمان ، ولذلك طردت الرومان ، ورحبت بحملة القرآن . ليس بقيصر الروم في دمشق قرار ، ولذلك ولى الأدبار، ولاذ بالفرار ، لأن الدار دار المختار ، والمهاجرين والأنصار .
من مخبر القوم شطت دارهم ونأت
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا ... أني رجعت إلى أهلي وأوطاني
بالرقمتين وبالفسطاط جيراني(/94)
في الشام يرقد سيف الدولة الملك الهمام ، وابن نباته خطيب الأنام ، وابن قدامة تاج الأعلام ، وأبو فراس الحمداني الشاعر المقدام . وفي دمشق سكن الزهري المحدث الشهير ، والأوزاعي العالم النحرير ، والبرزاني المؤرخ الكبير ، والسبكي القاضي الخطير .
أتانا من دمشق كتاب رياض الصالحين ، وكتاب روضة المحبين ، ونزهة المشتاقين ، وكتاب عمدة الطالبين ، وكتاب مدارج السالكين ، وكتاب أعلام الموقعين .
فسلام على دمشق في الآخرين . ...
**************************
المقامَة البغداديَّة
(( من لم يدخل بغداد لم يدخل الدنيا ))
لبغداد العراق دموع صب
تذكّرك الربوع حياة قوم ... على عرصاتها ذبنا غراما
هموا كانوا لدنيانا قواما
اجتمع أربعة أدباء ، نجباء خطباء ، فتعاهدوا ، وتعاقدوا ، وتواعدوا ، على أن يصفوا بغداد ، دار الأمجاد ، وبيت الأجواد ، وكوكبة البلاد .
فالأول : عليه وصف علمائها ، وفقهائها .
والثاني : يصف خلفاءها وأمراءها .
والثالث : يصف شعراءها وأدباءها .
والرابع : يصف أرضها ، وسماءها ، وماءها ، وهواءها ، وبهاءها .
فبدأ الأول ويُدعى أبا قتادة ، وهو صاحب ذكاء وإجادة ، وعلم وإفادة .
فقال : والله لو كتبت بدمع العيون ، على صفحات الجفون ، ما أنصفت بغداد على مداد القرون ، لكن سوف أصف ما كان فيها من علم وعلماء ،بلغ مجدهم الجوزاء :
ما الدار بعدَك يا بغداد بالدار
تفنى عليك صباباتي وأشعاري
أنت المنى وحديث الشوق يقتلني
من أين ابدأ يا بغداد أخباري
ولكن أقول ، بعد الصلاة والسلام على الرسول : اعلم أن من بغداد أشرقت شمس الرواية ، وبزغ فجر الدراية ، كانت في العلوم آية ، وفي الفنون غاية . فكان بها أهل الحديث ، ولم يكن بها بعثيّ خبيث .
ولك أن تتخيل مجلس أحمد بن حنبل ، عمائم بيضاء ، وهمة قعساء ، وسكينة وحياء . إذا قال أحمد : حدثنا أو أخبرنا ، أطرقت الرؤوس ، وخشعت النفوس ، وتفتحت أبواب السموات ، وتنزلت الرحمات :
سقوني وقالوا لا تغنِّ ولو سقوا
جبال سلمى ما سُقِيتُ لَغنّتِ
ثم تذهب إلى مجلس فيه طائفة من الخاشعين ، فتجد وسطهم يحيى بن معين ، يحدث عن رسول رب العالمين ، يجرّح ويُعدّل ، ويُجْمِل ويُفصَّل ، كأنه ميزان منزل .
لو حل خاطره في مقعد لمشى
أو ميت لصحا أو أخرس خطبا
ولله كم من ذكريات تشجيني ، إذا ذكرت علي بن المديني ، ذاك البطل ، إمام العلل ، السليم من الزلل ، فتراه يفتش الأسانيد ، وينخل المسانيد ، بفهم دقيق ، وعلم وتحقيق ، يعرف العلة في المسند المستقيم ، كما يعرف الطبيبُ السقيم .
برأيٍ مثل ضوء الفجر ضافٍ
كأن بريقه حد الحسامِ
ولا تنس البخاري ، الضياء الساري ، والنهر الجاري ، قيد الألفاظ ، وأفحم الحفاظ إن شك في حديث علقه ، وإن طال متنه فَرّقه ، وإن لقي كاذباً مزّقه ، هو السيف الحاسم لسنة أبي القاسم ، اقرأ تبويبه ، افهم ترتيبه ، لترى كل عجيبة .
من كالبخاري إذا ما قال حدثنا
أو بوّب الباب أو شدَّ الأسانيدا
كأنما هو إلهام يعلمه
أو أنّه قبس يعطاه تأييدا
بغداد تشرفت بالسفيانين الثوري وابن عيينة ، وأصبحت بالعلماء أجمل مدينة ، وهي مدينة الكرخي معروف ، والإمام الشافعي المعروف .
من بغداد أصحاب الصحاح والسنن ، وأهل الذكاء والفطن . وهي للحديث دار الضرب والصلب بها تضرب الموضوعات للوضاعين ، ولكن تصلب الكذّابين على خشب السلطان المتين . قال بعضهم : من لم يدخل بغداد لم يدخل الحياة الدنيا، ومن لم يشاهد حسنها ما شاهد النجوم العليا .
فقام الثاني يصف الخلفاء والأمراء ، الذين ملؤوا الدنيا بالعطاء والسخاء .
فقال : هذه مدينة السفاح ، الذي خضب السيوف والرماح ، وكان لكل مجرم بطاح ، ولكل عدو نطاح .
هذه مدينة المنصور ، صاحب الدور والقصور ، الداهية الجسور ، والأسد الهصور .
هذه مدينة الرشيد ، صاحب القصر المشيد ، والمجد الفريد ، والصيت البعيد .
هذه مدينة المأمون ، صاحب الفنون ، وجامع المتون ، ولكنه بالفلسفة مفتون .
هذه مدينة المعتصم المغوار ، الذي أوطأ الخيل الكفار ، وأورد نحورهم كل بتار .
بغداد أنت حديث الدهر والأممِ
إذا مدحتك سال السحر من قلمي
أنت المنى أنت للتأريخ ملحمة
كم من رشيد ومأمون ومعتصمِ
ثم قام الثالث يصف الأدباء ، ويثني على الخطباء .
فقال : في بغداد أكبر ناد ، للشعراء الأجواد ، إذا شرب الشاعر من ماء الفرات ، أتى بالمعجزات ، وخلب الألباب بالأبيات ، سَمِّ لي شاعراً ما دخل بغداد، اذكر لي أديباً ما تشرف بتلك البلاد :
بغداد يا فتنة الشرق التي خلبت
بسحرها العقل والأقلام والأدبا
ماذا أردد يا بغداد من حزني
إذا ذكرتك بعت الهم والنصبا
من بغداد أبو تمام ، والبحتري الهمام ، وترنح بها المتنبئ بعض عام .
سجل بها ابن الرومي رواياته ، وأبدع إلياذاته ، وأروع أبياته .
وفي بغداد أبو العتاهية ، الشاعر الداهية ، منذر القلوب اللاهية، وصاحب الرسائل الباهية ، الآمرة الناهية . وهي أرض بشار ، ناسج أجمل الأشعار .(/95)