ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الهم والحزن، فالحزن على الأمور الماضية التي لا يمكن ردها ولا استدراكها والهم الذي يحدث بسببه الخوف من المستقبل ، فيكون العبد ابن يومه ، يجمع جده واجتهاده في إصلاح يومه ووقته الحاضر ، فإن جمع القلب على ذلك يوجب تكميل الأعمال، ويتسلى به العبد عن الهم والحزن والنبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا بدعاء أو أرشد أمته إلى دعاء فهو يحث مع الاستعانة بالله والطمع في فضله على الجد والاجتهاد في التحقق لحصول ما يدعو لدفعه لأن الدعاء مقارن للعمل ، فالعبد يجتهد فيما ينفعه في الدين والدنيا ، ويسأل ربه نجاح مقصده. ويستعينه على ذلك كما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ رواه مسلم 2664. فجمع صلى الله عليه وسلم بين الأمر بالحرص على الأمور النافعة في كل حال والاستعانة بالله وعدم الانقياد للعجز الذي هو الكسل الضار وبين الاستسلام للأمور الماضية النافذة ، ومشاهدة قضاء الله وقدره وجعل الأمور قسمين : قسماً يمكن للعبد السعي في تحصيله أو تحصيل ما يمكن منه ، أو دفعه أو تخفيفه فهذا يبدي فيه العبد مجهوده ويستعين بمعبوده. وقسماً لا يمكن فيه ذلك ، فهذا يطمئن له العبد ويرضى ويسلم ، ولا ريب أن مراعاة هذا الأصل سبب للسرور وزوال الهم والغم. الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي
والحديث المذكور يدلّ على السعي في إزالة الأسباب الجالبة للهموم وفي تحصيل الأسباب الجالبة للسرور وذلك بنسيان ما مضى عليه من المكاره التي لا يمكنه ردها، ومعرفته أن اشتغال فكره فيها من باب العبث والمحال ، وأن ذلك حمق وجنون ، فيجاهد قلبه عن التفكر فيها وكذلك يجاهد قلبه عن قلقه لما يستقبله ، مما يتوهمه من فقر أو خوف أو غيرهما من المكاره التي يتخيلها في مستقبل حياته . فيعلم أن الأمور المستقبلة مجهول ما يقع فيها من خير وشر وآمال وآلام ، وأنها بيد العزيز الحكيم ، ليس بيد العباد منها شيء إلا السعي في تحصيل خيراتها، ودفع مضراتها ويعلم العبد أنه إذا صرف فكره عن قلقه من أجل مستقبل أمره ، واتكل على ربه في إصلاحه ، واطمأن إليه في ذلك صلحت أحواله ، وزال عنه همه وقلقه. الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي
الحادي عشر : ومن أكبر الأسباب لانشراح الصدر وطمأنينته الإكثار من ذكر الله
فإن لذلك تأثيراً عجيباً في انشراح الصدر وطمأنينته ، وزوال همه وغمه ، قال الله تعالى " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " .
وأعظم الأذكار لعلاج الهمّ العظيم الحاصل عند نزول الموت : لا إله إلا الله
وذلك لما حدّث به طلحة عمر رضي الله عنه فال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كَلِمَةٌ لا يَقُولُهَا عَبْدٌ عِنْدَ مَوْتِهِ إِلا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَتَهُ وَأَشْرَقَ لَوْنُهُ فَمَا مَنَعَنِي أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْهَا إِلا الْقُدْرَةُ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ إِنِّي لأَعْلَمُهَا فَقَالَ لَهُ طَلْحَةُ وَمَا هِيَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ هَلْ تَعْلَمُ كَلِمَةً هِيَ أَعْظَمَ مِنْ كَلِمَةٍ أَمَرَ بِهَا عَمَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَقَالَ طَلْحَةُ هِيَ وَاللَّهِ هِيَ رواه أحمد 1/161
الثاني عشر: اللجوء إلى الصلاة .
قال الله تعالى : " واستعينوا بالصبر والصلاة " وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى رواه أبو داود كتاب الصلاة باب وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل وحسنه في صحيح الجامع رقم 4703
الثالث عشر : ومما يفرج الهم أيضا الجهاد في سبيل الله
كما قال عليه الصلاة والسلام : عَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُذْهِبُ اللَّهُ بِهِ الْهَمَّ وَالْغَمَّ رواه أحمد عن أبي أمامة عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنهما 5/ 319 وصححه في صحيح الجامع 4063 وعزاه السيوطي للطبراني في الأوسط عن أبي أمامة.
الرابع عشر : التحدث بنعم الله الظاهرة والباطنة(/11)
فإن معرفتها والتحدث بها يدفع الهم والغم ، ويحث العبد على الشكر الذي هو أرفع المراتب وأعلاها حتى ولو كان العبد في حالة فقر أو مرض أو غيرهما من أنواع البلايا . فإنه إذا قابل بين نعم الله عليه التي لا تحصى ولا تعدّ وبين ما أصابه من مكروه ، لم يكن للمكروه إلى النعم نسبة ، بل المكروه والمصائب إذا ابتلى الله بها العبد ، وأدى فيها وظيفة الصبر والرضى والتسليم ، هانت وطأتها ، وخفت مؤنتها ، وكان تأميل العبد لأجرها وثوابها والتعبد لله بالقيام بوظيفة الصبر والرضا ، يدع الأشياء المرة حلوة فتنسيه حلاوة أجرها مرارة صبرها.
ومن أنفع الأشياء في هذا الموضع استعمال ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ رواه الترمذي في سننه رقم 2513 وقال : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وهو في صحيح الجامع 1507
فإن العبد إذا نصب بين عينيه هذا الملحظ الجليل، رأى نفسه يفوق قطعاً كثيراً من الخلق في العافية وتوابعها ، وفي الرزق وتوابعه مهما بلغت به الحال ، فيزول قلقه وهمه وغمه ، ويزداد سروره واغتباطه بنعم الله التي فاق فيها غيره ممن هو دونه فيها .
وكلما طال تأمل العبد في نِعم الله الظاهرة والباطنة ، الدينية والدنيوية ، رأى ربه قد أعطاه خيراً كثيراً ودفع عنه شروراً متعددة ، ولا شك أن هذا يدفع الهموم والغموم ، ويوجب الفرح والسرور. الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي
الخامس عشر : الانشغال بعمل من الأعمال أو علم من العلوم النافعة
فإنها تلهي القلب عن اشتغاله بذلك الأمر الذي أقلقه . وربما نسي بسبب ذلك الأسباب التي أوجبت له الهم والغم ، ففرحت نفسه ، وازداد نشاطه ، وهذا السبب أيضا مشترك بين المؤمن وغيره . ولكن المؤمن يمتاز بإيمانه وإخلاصه واحتسابه في اشتغاله بذلك العلم الذي يتعلمه أو يعلمه ، ويعمل الخير الذي يعمله ، إن كان عبادة فهو عبادة وإن كان شغله دنيوياً أو عادة دنيوية أصحبها النية الصالحة ، وقصد الاستعانة بذلك على طاعة الله ، فلذلك أثره الفعال في دفع الهموم والغموم والأحزان ، فكم من إنسان ابتلي بالقلق وملازمة الأكدار ، فحلت به الأمراض المتنوعة فصار دواءه الناجح : نسيانه السبب الذي كدره وأقلقه، واشتغاله بعمل من مهماته.
وينبغي أن يكون الشغل الذي يشتغل فيه مما تأنس به النفس وتشتاقه ؛ فإن هذا أدعى لحصول هذا المقصود النافع والله أعلم. الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي
السادس عشر : النظر إلى الجوانب الإيجابية للأحداث التي يظهر منها بعض ما يُكره
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ رواه مسلم 1469.
ومن فوائد هذا الحديث : زوال الهم والقلق وبقاء الصفاء ، والمداومة على القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة وحصول الراحة بين الطرفين ، ومن لم يسترشد بهذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بل عكس القضية فلحظ المساوىء ، وعمي عن المحاسن ، فلا بد أن يقلق ، ولابد أن يتكدر ما بينه وبين من يتصل به من المحبة ، ويخلّ بكثير من الحقوق التي على كل منهما المحافظة عليها. الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي
السابع عشر : معرفة القيمة الحقيقية للحياة وأنها قصيرة وأنّ الوقت أغلى من أن يذهب في الهمّ والغمّ
فالعاقل يعلم أن حياته الصحيحة حياة السعادة والطمأنينة وأنها قصيرة جداً ، فلا ينبغي له أن يقصرها بالهم والاسترسال مع الأكدار فإن ذلك ضد الحياة الصحيحة ، فيشح بحياته أن يذهب كثير منها نهباً للهموم والأكدار ولا فرق في هذا بين البر والفاجر ، ولكن المؤمن له من التحقق بهذا الوصف الحظ الأوفر ، والنصيب النافع العاجل والآجل . وينبغي أيضا إذا أصابه مكروه أو خاف منه أن يقارن بين النعم الحاصلة له دينية أو دنيوية . وبين ما أصابه من مكروه فعند المقارنة يتضح كثرة ما هو فيه من النعم ، واضمحلال ما أصابه من المكاره وكذلك يقارن بين ما يخافه من حدوث ضرر عليه ، وبين الاحتمالات الكثيرة في السلامة منها فلا يدع الاحتمال الضعيف يغلب الاحتمالات الكثيرة القوية وبذلك يزول همه وخوفه ، ويقدر أعم ما يكون من الاحتمالات التي يمكن أن تصيبه ، فيوطن نفسه لحدوثها إن حدثت ، ويسعى في دفع ما لم يقع منها وفي رفع ما وقع أو تخفيفه.
جعل الأمور النافعة نصب عينيك واعمل على تحقيقها، ولا تلتفت إلى الأمور الضارة لتلهو بذلك عن الأسباب الجالبة للهم والحزن واستعن بالراحة وإجماع النفس على الأعمال المهمة. الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي(/12)
الثامن عشر : ومن الأمور النافعة عدم السماح بتراكم الأعمال والواجبات
وذلك بحسمها في الحال والتفرغ للمستقبل ، لأن الأعمال إذا لم تُحسم اجتمع عليك بقية الأعمال السابقة ، وانضافت إليها الأعمال اللاحقة ، فتشتد وطأتها ، فإذا حسمت كل شيء في وقته تفّرغت للأمور المستقبلة بقوة تفكير وقوة عمل.
وينبغي أن تتخير من الأعمال النافعة الأهم، فالأهم وميز بين ما تميل نفسك إليه وتشتد رغبتك فيه، فإن ضده يحدث السآمة والملل والكدر ، واستعن على ذلك بالفكر الصحيح والمشاورة ، فما ندم من استشار ، وادرس ما تريد فعله درساً دقيقاً ، فإذا تحققت المصلحة وعزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي، بتصرف.
التاسع عشر : التوقع المستمر والاستعداد النفسي لجميع الاحتمالات
فإن الإنسان إذا استحضر في نفسه فقد عزيز أو مرض قريب أو وقوعاً في دين أو قهر عدو أو أي احتمال سيئ مما لم يحدث بعد - مع استعاذته بالله من ذلك ورجاء السلامة - فإنه لو وقع له شيء من ذلك حقيقة سيكون أهون عليه وأخف وطأة لتوقعه المسبق.
ومما ينبغي التنبّه له أن كثيراً من الناس من ذوي الهمم العالية يوطنون أنفسهم عند وقوع الكوارث والمزعجات على الصبر والطمأنينة . لكن عند الأمور التافهة البسيطة يقلقون ، ويتكدر الصفاء ، والسبب في هذا أنهم وطنوا نفوسهم عند الأمور الكبار ، وتركوها عند الأمور الصغار فضرتهم وأثرت في راحتهم فالحازم يوطن نفسه على الأمور الصغيرة والكبيرة ويسأل الله الإعانة عليها ، وأن لا يكله إلى نفسه طرفة عين فعند ذلك يسهل عليه الصغير ، كما سهل عليه الكبير ويبقى مطمئن النفس ساكن القلب مستريحاً.
العشرين : ومن العلاجات أيضا الشكوى إلى أهل العلم والدين وطلب النصح والمشورة منهم
فإن نصائحهم وآراءهم من أعظم المثبتات في المصائب. وقد شكى الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يلقون من تعذيب...
فهذا خَبَّاب بْن الأَرَتِّ رضي الله عنه يقول : شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ البخاري الفتح 3612
وكذلك شكى التابعون إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الزبير بن عدي : أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ فَقَالَ اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواه البخاري الفتح رقم 7068
فيسمع المسلم من أهل العلم والقدوة ما يسليه ويخفف عنه آلام غمومه وهمومه.
ومن هذا الباب أيضا : اللجوء إلى إخوان الصدق والأقرباء العقلاء والأزواج والزوجات الأوفياء والوفيات فهذه فاطمة رضى الله عنها لمّا أصابها الهمّ شكت إلى زوجها عليٍّ رضي الله عنه كما روى القصة عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فَاطِمَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا فَوَجَدَ عَلَى بَابِهَا سِتْراً فَلَمْ يَدْخُلْ قَالَ وَقَلَّمَا كَانَ يَدْخُلُ إِلا بَدَأَ بِهَا فَجَاءَ عَلِيٌّ رَضِي اللَّه عَنْه فَرَآهَا مُهْتَمَّةً فَقَالَ مَا لَكِ قَالَتْ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ فَلَمْ يَدْخُلْ فَأَتَاهُ عَلِيٌّ رَضِي اللَّه عَنْه فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَاطِمَةَ اشْتَدَّ عَلَيْهَا أَنَّكَ جِئْتَهَا فَلَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهَا قَالَ وَمَا أَنَا وَالدُّنْيَا وَمَا أَنَا وَالرَّقْمَ ( أي النقش والرسم ) فَذَهَبَ إِلَى فَاطِمَةَ فَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ قُلْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَأْمُرُنِي بِهِ قَالَ قُلْ لَهَا فَلْتُرْسِلْ بِهِ إِلَى بَنِي فُلانٍ [ وَكَانَ سِتْراً مَوْشِيّاً ] (أي مزخرفاً منقوشاً) رواه أبو داود كتاب اللباس باب في اتخاذ الستور وهو في صحيح أبي داود 3496.(/13)
الحادي والعشرون : أن يعلم المهموم والمغموم أن بعد العسر يسراً ، وأن بعد الضيق فرجاً
فليحسن الظن بالله فإنه جاعل له فرجاً ومخرجاً .
وكلما استحكم الضيق وازدادت الكربة قرب الفرج والمخرج .
وقد قال الله تعالى في سورة الشرح ( فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً ) فذكر عسراً واحداً ويسرين فالعسر المقترن بأل في الآية الأولى هو العسر في الآية الثانية أما اليسر في الآية الثانية فهو يسر آخر غير الذي في الآية الأولى.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً رواه أحمد 1/293 السلسلة الصحيحة 2382 وصححه الألباني في صحيح الجامع برواية الخرائطي عن أنس بلفظ رقم 6806
الثاني والعشرون : ومن علاجات الهموم ما يكون بالأطعمة
فقد روى البخاري رحمه الله عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينِ لِلْمَرِيضِ وَلِلْمَحْزُونِ عَلَى الْهَالِكِ وَكَانَتْ تَقُولُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ التَّلْبِينَةَ تُجِمُّ فُؤَادَ الْمَرِيضِ وَتَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ الفتح رقم 5689
وروى رحمه الله أيضا عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلا أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتِ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَتْ كُلْنَ مِنْهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ الفتح 5147
والتلبينة : هي حساء يعمل من دقيق أو نخالة ويجعل فيه عسل وسميت تلبينة لشبهها باللبن ، وهي تطبخ من الشعير مطحوناً .
ومعنى مُجِمَّة : أي تريح وتنشط وتزيل الهمّ
وروى أحمد رحمه الله عنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قِيلَ لَهُ إِنَّ فُلانًا وَجِعٌ لا يَطْعَمُ الطَّعَامَ قَالَ عَلَيْكُمْ بِالتَّلْبِينَةِ فَحَسُّوهُ إِيَّاهَا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَغْسِلُ بَطْنَ أَحَدِكُمْ كَمَا يَغْسِلُ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ مِنَ الْوَسَخِ رواه أحمد 6/152 .
ورواه الترمذي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَخَذَ أَهْلَهُ الْوَعَكُ أَمَرَ بِالْحِسَاءِ فَصُنِعَ ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَحَسَوْا مِنْهُ وَكَانَ يَقُولُ إِنَّهُ لَيَرْتُقُ (وفي رواية أحمد وابن ماجة : ليرتو) فُؤَادَ الْحَزِينِ وَيَسْرُو عَنْ فُؤَادِ السَّقِيمِ كَمَا تَسْرُو إِحْدَاكُنَّ الْوَسَخَ بِالْمَاءِ عَنْ وَجْهِهَا قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ : السنن رقم 2039
ويرتو أو يرتق : أي يشدّ ويقوي، ويسرو: أي يكشف
وهذا الأمر - وإن استغربه بعض الناس - هو حق وصدق ما دام قد ثبت من طريق الوحي عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ، والله خلق الأطعمة وهو أعلم بخصائصها وبالتالي فإن حساء الشعير المذكور هو من الأغذية المفرحة ، والله اعلم . يُراجع زاد المعاد لابن القيم رحمه الله 5/120.
أما عن طريقة طبخه لمريض الجسد ومحزون القلب فيقول ابن حجر رحمه الله : ولعل اللائق بالمريض ماء الشعير إذا طبخ صحيحاً وبالحزين ماؤه إذا طبخ مطحوناً والله أعلم انظر فتح الباري 147.
وقد لخص ابن القيم هذه الأدوية والعلاجات في خمسة عشر نوعاً من الدواء يذهب الله بها الهم والحزن وهي :
الأول: توحيد الربوبية.
الثاني: توحيد الإلهية.
الثالث:التوحيد العلمي الاعتقادي (وهو توحيد الأسماء والصفات).
الرابع : تنزيه الرب تعالى عن أن يظلم عبده ، أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك .
الخامس: اعتراف العبد بأنه هو الظالم.
السادس : التوسل إلى الرب تعالى بأحب الأشياء ، وهو أسماؤه وصفاته ، ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات : الحي القيوم.
السابع : الاستعانة به وحده .
الثامن : إقرار العبد له بالرجاء .
التاسع : تحقيق التوكل عليه ، والتفويض إليه ، والاعتراف له بأن ناصيته في يده ، يصرفه كيف يشاء ، وأنه ماض فيه حكمه ، عدل فيه قضاؤه .
العاشر: أن يرتع قلبه في رياض القرآن ، ويتعزى به عن كل مصيبة ، ويستشفي به من أدواء صدره ، فيكون جلاء حزنه ، وشفاء همه وغمه .
الحادي عشر : الاستغفار.
الثاني عشر: التوبة.
الثالث عشر : الجهاد.
الرابع عشر : الصلاة.
الخامس عشر : البراءة من الحول والقوة وتفويضهما إلى من هما بيده.(/14)
نسأل الله تعالى أن يعافينا من الهموم وأن يفرج عنا الكروب ويزيل عنا الغموم إنه هو السميع المجيب، وهو الحي القيوم.
تذكرة
وبعد ذكر هذه الطائفة من أنواع هموم الدنيا وعلاجها يجدر التذكير بأن هموم الآخرة أعظم وغمومها وكروبها أشدّ ، ومن أمثلة ذلك ما يُصيب الناس في أرض المحشر فقد روى البخاري رحمه الله تعالى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ.. أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَلِكَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لا يُطِيقُونَ وَلا يَحْتَمِلُونَ فَيَقُولُ النَّاسُ أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ أَلا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ عَلَيْكُمْ بِآدَمَ.. رواه البخاري الفتح 4712
ولا علاج لغموم وكربات ذلك اليوم إلا بالإقبال على الله في هذا اليوم .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه خير قوم والحمد لله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم .(/15)
علاج الهموم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين ، أشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من سار على هديه واقتفى أثره إلى يوم الدين، وبعد..
فإن من طبيعة الحياة الدنيا الهموم والغموم التي تصيب الإنسان فيها، فهي دار اللأواء والشدة والضنك، ولهذا كان مما تميزت الجنة به عن الدنيا أنه ليس فيها هم ولا غم " لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين" ، وأهلها لا تتكدر خواطرهم ولا بكلمة " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاماً " وطبيعة الحياة الدنيا المعاناة والمقاساة التي يواجهها الإنسان في ظروفه المختلفة وأحواله المتنوعة، كما دل عليه قول الحق تعالى : " لقد خلقنا الإنسان في كبد ". فهو حزين على ما مضى، مهموم بما يستقبل ، مغموم في الحال.
والمكروه الوارد على القلب إن كان من أمر ماض أحدث الحزن، وإن كان من مستقبل أحدث الهم، وإن كان من أمر حاضر أحدث الغم.
والقلوب تتفاوت في الهم والغمّ كثرة واستمراراً بحسب ما فيها من الإيمان أو الفسوق والعصيان فهي على قلبين : قلب هو عرش الرحمن ، ففيه النور والحياة والفرح والسرور والبهجة وذخائر الخير، وقلب هو عرش الشيطان فهناك الضيق والظلمة والموت والحزن والغم والهم . من فوائد ابن القيم.
والناس يتفاوتون في الهموم بتفاوت بواعثهم وأحوالهم وما يحمله كل واحد منهم من المسئوليات.
فمن الهموم هموم سامية ، ذات دلالات طيبة ، كهموم العالم في حلّ المعضلات التي يحتاج المسلمون فيها إلى جواب وخصوصا إذا استعصت المسألة واستغلقت ، وكذلك همّ إمام المسلمين بمشكلات رعيته وهذا مما أقلق العمرين وغيرهما فكان الأول يجهّز الجيش في الصلاة وهو معذور في ذلك ويحمل همّ الدواب أن تعثر بأرض العراق ، والثاني كان يعبّر عما يعانيه بقوله : إني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله قد فني عليه الكبير وكبر عليه الصغير وفصح عليه الأعجمي وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينا لا يرون الحقّ غيره.سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص : 37
وكلما كان القرار أكثر تعلقاً بمصير المسلمين كان الهمّ أعظم ولذلك لما أوكل إلى عبد الرحمن بن عوف اختيار خليفة المسلمين بعد عمر لم يكتحل بنوم ليشاور المسلمين حتى العجائز البخاري الفتح 7207.
ومن الهموم الشريفة همّ الداعية في نشر الدين وحمل الرسالة والأخذ بيد المدعو إلى طريق الهداية، وهموم العابد في تصحيح عبادته في القصد والأداء، وهم المسلم بما يصيب إخوانه في أقطار الأرض..
ومن الهموم ما يكون ناشئاً عن المعاصي ، كالهموم التي تصيب المذنب بعد ذنبه كما يحدث في هم من أصاب دماً حراماً، أو هم الزانية بحملها.
ومن الغموم ما يكون بسبب ظلم الآخرين كظلم الأقرباء كما قال الشاعر :
وظلم ذوى القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
وكذلك الغموم الحاصلة بسبب مصائب الدنيا ، كالأمراض المزمنة والخطيرة ، وعقوق الأبناء وتسلط الزوجة، واعوجاج الزوج.
ومن الهموم ما يكون بسبب الخوف من المستقبل وما يخبئه الزمان كهموم الأب بذريته من بعده وخاصة إذا كانوا ضعفاء وليس لديه ما يخلفه لهم .
وهكذا تتنوع الغموم والهموم، وفيما يلي شيء من البيان والتفصيل :
الهم الذي يعتري الداعية أثناء دعوته لقومه، وقد نال منه الأنبياء النصيب الأوفى، فهذه عائشة رضى الله عنها تحدث ابن أختها عروة أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا رواه البخاري الفتح 3231(/1)
وكذلك أصابه الكرب صلى الله عليه وسلم لما كذبه قومه في مسراه فروى مسلم رحمه الله تعالى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ قَالَ فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ .. صحيح مسلم، ط. عبد الباقي، رقم 172
ومن الهموم هم العبادات ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهمه أمر إعلام الناس بالصلاة : فعَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ اهْتَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ النَّاسَ لَهَا فَقِيلَ لَهُ انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلاةِ فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ قَالَ فَذُكِرَ لَهُ الْقُنْعُ يَعْنِي الشَّبُّورَ وَقَالَ زِيَادٌ شَبُّورُ الْيَهُودِ فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ وَقَالَ هُوَ مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ قَالَ فَذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ فَقَالَ هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ وَهُوَ مُهْتَمٌّ لِهَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُرِيَ الأَذَانَ فِي مَنَامِهِ قَالَ فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَبَيْنَ نَائِمٍ وَيَقْظَانَ إِذْ أَتَانِي آتٍ فَأَرَانِي الأَذَانَ…" رواه أبو داود في سننه : كتاب الصلاة باب بدء الأذان
ومنها همّ الصادق بتكذيبه ، كما وقع للصحابي الجليل زيد بن الأرقم رضي الله عنه لما سمع رأس المنافقين يقول لأَصْحَابِهِ : لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ (يعني بالأعز نفسه، ويقصد بالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه ) ، قَالَ زَيْدٌ : فَأَخْبَرْتُ عَمِّي فَانْطَلَقَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَفَ وَجَحَدَ قَالَ فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَنِي قَالَ فَجَاءَ عَمِّي إِلَيَّ فَقَالَ مَا أَرَدْتَ إِلا أَنْ مَقَتَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَكَ وَالْمُسْلِمُونَ قَالَ فَوَقَعَ عَلَيَّ مِنَ الْهَمِّ مَا لَمْ يَقَعْ عَلَى أَحَدٍ قَالَ فَبَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ قَدْ خَفَقْتُ بِرَأْسِي مِنَ الْهَمِّ إِذْ أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَكَ أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي فَمَا كَانَ يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الْخُلْدَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَحِقَنِي فَقَالَ مَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ مَا قَالَ لِي شَيْئًا إِلا أَنَّهُ عَرَكَ أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي فَقَالَ أَبْشِرْ ثُمَّ لَحِقَنِي عُمَرُ فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ قَوْلِي لأَبِي بَكْرٍ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ رواه الترمذي وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، السنن ط. شاكر رقم 3313.
وفي رواية مسلم للقصة قَالَ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَسَأَلَهُ فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ فَقَالَ كَذَبَ زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمَّا قَالُوهُ شِدَّةٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقِي (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ). صحيح مسلم رقم 2772(/2)
ومنها هم البريء بسبب التهمة الباطلة ، وقد نالت زوجة رسولنا الكريم عائشة رضى الله عنها من هذا الهم نصيبا وافرا فعندما رماها المنافقون في غزوة المريسيع بما رموها به من الفاحشة ، وكانت مريضة، علمت بالخبر من إحدى نساء بيتها فازداد مرضها، وركبها الهم، قَالَتْ فَقُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ أَوَلَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا قَالَتْ فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ حَتَّى أَصْبَحْتُ أَبْكِي.. ثم قَالَتْ : فَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ قَالَتْ فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي قَالَتْ فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي قَالَتْ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ قَالَتْ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي قَالَتْ فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَتْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً فَقُلْتُ لأَبِي أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ قَالَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لأُمِّي أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لَكُمْ مَثَلاً إِلا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ قَالَ (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) قَالَتْ ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي قَالَتْ وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي يُنْزَلُ عَلَيْهِ قَالَتْ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَتْ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ بَرَّأَكِ فَقَالَتْ أُمِّي قُومِي إِلَيْهِ قَالَتْ فَقُلْتُ لا وَاللَّهِ لا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلا أَحْمَدُ إِلا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسِبُوهُ) الْعَشْرَ الآيَاتِ كُلَّهَا. رواه البخاري الفتح رقم 2661(/3)
وكذلك قصة المرأة التي اتُّهمت ظلماً وروت قصتها عَائِشَةُ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ لِبَعْضِ الْعَرَبِ وَكَانَ لَهَا حِفْشٌ فِي الْمَسْجِدِ قَالَتْ فَكَانَتْ تَأْتِينَا فَتَحَدَّثُ عِنْدَنَا فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَدِيثِهَا قَالَتْ وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا أَلا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي فَلَمَّا أَكْثَرَتْ قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ وَمَا يَوْمُ الْوِشَاحِ قَالَتْ خَرَجَتْ جُوَيْرِيَةٌ لِبَعْضِ أَهْلِي وَعَلَيْهَا وِشَاحٌ مِنْ أَدَمٍ فَسَقَطَ مِنْهَا فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِ الْحُدَيَّا وَهِيَ تَحْسِبُهُ لَحْمًا فَأَخَذَتْهُ فَاتَّهَمُونِي بِهِ فَعَذَّبُونِي حَتَّى بَلَغَ مِنْ أَمْرِي أَنَّهُمْ طَلَبُوا فِي قُبُلِي فَبَيْنَاهُمْ حَوْلِي وَأَنَا فِي كَرْبِي إِذْ أَقْبَلَتِ الْحُدَيَّا حَتَّى وَازَتْ بِرُءُوسِنَا ثُمَّ أَلْقَتْهُ فَأَخَذُوهُ فَقُلْتُ لَهُمْ هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ البخاري الفتح 3835
ومنها الهم بما قد يحصل للزوجة والذرية بعد الموت
عن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِنَّ أَمْرَكُنَّ مِمَّا يُهِمُّنِي بَعْدِي وَلَنْ يَصْبِرَ عَلَيْكُنَّ إِلا الصَّابِرُونَ قَالَ ثُمَّ تَقُولُ عَائِشَةُ فَسَقَى اللَّهُ أَبَاكَ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ تُرِيدُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَكَانَ قَدْ وَصَلَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ يُقَالُ بِيعَتْ بِأَرْبَعِينَ أَلْفاً رواه الترمذي وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، سنن الترمذى رقم 3682 وحسنه في مشكاة المصابيح رقم 6121
ومنها الهمّ بسبب الدَّيْن ومن أمثلة ذلك ما وقع للزبير رضي الله عنه كما روى قصته ولده عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعَانِي فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ يَا بُنَيِّ إِنَّهُ لا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ وَإِنِّي لا أُرَانِي إِلا سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُومًا وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي أَفَتُرَى يُبْقِي دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئًا فَقَالَ يَا بُنَيِّ بِعْ مَالَنَا فَاقْضِ دَيْنِي وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ يَعْنِي بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ يَقُولُ ثُلُثُ الثُّلُثِ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ قَالَ هِشَامٌ وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ قَدْ وَازَى بَعْضَ بَنِي الزُّبَيْرِ خُبَيْبٌ وَعَبَّادٌ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ بَنِينَ وَتِسْعُ بَنَاتٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَجَعَلَ يُوصِينِي بِدَيْنِهِ وَيَقُولُ يَا بُنَيِّ إِنْ عَجَزْتَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلايَ قَالَ فَوَاللَّهِ مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ يَا أَبَتِ مَنْ مَوْلاكَ قَالَ اللَّهُ قَالَ فَوَاللَّهِ مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلاّ قُلْتُ يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ فَيَقْضِيهِ.. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ فَوَجَدْتُهُ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ.. (واستبعد بعض أصحاب الزبير رضي الله عنه إمكان قضاء الدّين من هوله وكثرته ولكن بارك الله في أرض كانت للزبير بركة عظيمة ومدهشة فقسّمت وبيعت وسُدّد الدّين وبقيت بقية) فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا قَالَ لا وَاللَّهِ لا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أُنَادِيَ بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ أَلا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَلْنَقْضِهِ قَالَ فَجَعَلَ كُلَّ سَنَةٍ يُنَادِي بِالْمَوْسِمِ فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ قَالَ فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَرَفَعَ الثُّلُثَ فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ البخاري : الفتح رقم 3129
ومنها الهم للرؤيا يراها المرء، وقد وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِخَزَائِنِ الأَرْضِ فَوُضِعَ فِي كَفِّي سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَبُرَا عَلَيَّ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ أَنِ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَذَهَبَا فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا صَاحِبَ صَنْعَاءَ وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ البخارى : الفتح رقم 4375(/4)
ووقع لابن عمر رضي الله عنهما همّ بسبب رؤيا رآها وقد حدثنا عن ذلك فقَالَ كُنْتُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا لِي مَبِيتٌ إِلا فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصْبَحَ يَأْتُونَهُ فَيَقُصُّونَ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا قَالَ فَقُلْتُ مَا لِي لا أَرَى شَيْئًا فَرَأَيْتُ كَأَنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ فَيُرْمَى بِهِمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ فِي رَكِيٍّ فَأُخِذْتُ فَلَمَّا دَنَا إِلَى الْبِئْرِ قَالَ رَجُلٌ خُذُوا بِهِ ذَاتَ الْيَمِينِ فَلَمَّا اسْتَيْقَظْتُ هَمَّتْنِي رُؤْيَايَ وَأَشْفَقْتُ مِنْهَا فَسَأَلْتُ حَفْصَةَ عَنْهَا فَقَالَتْ نِعْمَ مَا رَأَيْتَ فَقُلْتُ لَهَا سَلِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ خَالِدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَكُنْتُ إِذَا نِمْتُ لَمْ أَقُمْ حَتَّى أُصْبِحَ قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي اللَّيْلَ رواه الدارمي، كتاب الصلاة، باب النوم في المسجد
وروى البخاري رحمه الله تعالى القصة عن ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ إِنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَرَوْنَ الرُّؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُصُّونَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَأَنَا غُلامٌ حَدِيثُ السِّنِّ وَبَيْتِي الْمَسْجِدُ قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي لَوْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ لَرَأَيْتَ مِثْلَ مَا يَرَى هَؤُلاءِ فَلَمَّا اضْطَجَعْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ فِيَّ خَيْراً فَأَرِنِي رُؤْيَا فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ جَاءَنِي مَلَكَانِ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ يُقْبِلانِ بِي إِلَى جَهَنَّمَ وَأَنَا بَيْنَهُمَا أَدْعُو اللَّهَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهَنَّمَ ثُمَّ أُرَانِي لَقِيَنِي مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ لَنْ تُرَاعَ نِعْمَ الرَّجُلُ أَنْتَ لَوْ كُنْتَ تُكْثِرُ الصَّلاةَ فَانْطَلَقُوا بِي حَتَّى وَقَفُوا بِي عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ لَهُ قُرُونٌ كَقَرْنِ الْبِئْرِ بَيْنَ كُلِّ قَرْنَيْنِ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ وَأَرَى فِيهَا رِجَالاً مُعَلَّقِينَ بِالسَّلاسِلِ رُؤوسُهُمْ أَسْفَلَهُمْ عَرَفْتُ فِيهَا رِجَالاً مِنْ قُرَيْشٍ فَانْصَرَفُوا بِي عَنْ ذَاتِ الْيَمِينِ فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ نَافِعٌ فَلَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْثِرُ الصَّلاةَ البخاري : الفتح رقم 7029
وفي الشريعة علاجات للهمّ الحاصل بسبب المنامات والأحلام المقلقة. ومنها التفل عن الشمال ثلاثاً والاستعاذة بالله من الشيطان ثلاثاً والاستعاذة بالله من شرّ ما رأى ثلاثاً وأن يغير الجنب الذي كان نائماً عليه أو يقوم يصلي ولا يحدّث برؤياه تلك أحداً من الناس
وبعد هذا العرض لطائفة من أنواع هموم الدنيا فقد آن الأوان للحديث عن العلاج.
ولا شك أن العقيدة تؤثر في المعالجة، فترى كثيراً من الكفار وكذلك ضعفاء الإيمان يُصابون بالانهيار أو يُقدمون على الانتحار للتخلص من الكآبة والحبوط واليأس إذا ما وقعوا في ورطة أو أصابتهم مصيبة وكم ملئت المستشفيات من مرضى الانهيارات العصبية والصدمات النفسية وكم أثرت هذه الأمور على كثير من الأقوياء ، فضلاً عن الضعفاء ، وكم أدت إلى العجز التام أو فقدان العقل والجنون.
أما من اهتدى بهدي الإسلام فإنه يجد العلاج فيما أتى من لدن العليم الخبير الذي خلق الخلق وهو أعلم بما يصلحهم " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " .
فهلم إلى استعراض شيء من أنواع العلاجات التي جاءت في هذه الشريعة :
أولاً : التسلّح بالإيمان المقرون بالعمل الصالح
قال الله تعالى: " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون "(/5)
وسبب ذلك واضح، فإن المؤمنين بالله الإيمان الصحيح، المثمر للعمل الصالح المصلح للقلوب والأخلاق والدنيا والآخرة، معهم أصول وأسس يتعاملون بها مع كلّ ما يرد عليهم من أنواع المسرات والأحزان. فيتلقون النّعم والمسارّ بقبول لها، وشكر عليها، ويستعملونها فيما ينفع، فإذا فعلوا ذلك أحسوا ببهجتها وطمعوا في بقائها وبركتها ورجاء ثواب شكرها وغير ذلك من الأمور العظيمة التي تفوق بخيراتها وبركاتها تلك المسرات.
ويتلقون المكاره والمضار والهم والغم بالمقاومة لِما يمكنهم مقاومته وتخفيف ما يمكنهم تخفيفه ، والصبر الجميل لما ليس لهم عنه بد ، فيحصّلون منافع كثيرة من جراء حصول المكاره، ومن ذلك: المقاومات النافعة ، والتجارب المفيدة ، وقوة النفس ، وأيضا الصبر واحتساب الأجر والثواب وغير ذلك من الفوائد العظيمة التي تضمحل معها المكاره، وتحل محلها المسار والآمال الطيبة، والطمع في فضل الله وثوابه، كما عبّر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى في الحديث الصحيح بقوله : عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ رواه مسلم في صحيحه رقم 2999
وهكذا يكون النظر الإيجابي إلى الابتلاء ، ومن ذلك :
ثانياً : النظر فيما يحصل للمسلم من تكفير الذنوب وتمحيص القلب ورفع الدرجة ، إذا أصابته غموم الدنيا وهمومها :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ رواه البخاري الفتح 5642
وفي رواية مسلم : (مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلا نَصَبٍ وَلا سَقَمٍ وَلا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ) صحيح مسلم رقم 2573
فليعلم المهموم أن ما يصيبه من الأذى النفسي نتيجة للهمّ لا يذهب سدى بل هو مفيد في تكثير حسناته وتكفير سيئاته، وأن يعلم المسلم أنه لولا المصائب لوردنا يوم القيامة مفاليس كما ذكر بعض السلف ولذلك كان أحدهم يفرح بالبلاء كما يفرح أحدنا بالرخاء.
وإذا علم العبد أن ما يصيبه من المصائب يكفّر عنه سيئاته فرح واستبشر، وخصوصاً إذا عوجل بشيء بعد الذنب مباشرة كما وقع لبعض الصحابة رضي الله عنهم فيما رواه عَبْد اللَّهِ بْن مُغَفَّلٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلا لَقِيَ امْرَأَةً كَانَتْ بَغِيًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَجَعَلَ يُلاعِبُهَا حَتَّى بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ مَهْ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ ذَهَبَ بِالشِّرْكِ وَقَالَ عَفَّانُ مَرَّةً ذَهَبَ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَجَاءَنَا بِالإِسْلامِ فَوَلَّى الرَّجُلُ فَأَصَابَ وَجْهَهُ الْحَائِطُ فَشَجَّهُ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ أَنْتَ عَبْدٌ أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرًا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْراً عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرّاً أَمْسَكَ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ عَيْرٌ رواه أحمد رحمه الله المسند 4/87 والحاكم في المستدرك 1/349 وفي إسناده الحسن عن عبد الله بن مغفل والحسن مدلس وقد عنعن ولكن روى صالح بن أحمد ببن حنبل قال : قال أبي : سمع الحسن من أنس بن مالك ومن ابن مغفل - يعني عبد الله بن مغفل - : كتاب المراسيل لابن أبي حاتم ص: 45 باب ما يثبت للحسن البصري سماعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الذهبي رحمه الله : قال قائل : إنما أعرض أهل الصحيح عن كثير مما يقول فيه الحسن : عن فلان، وإن كان مما قد ثبت لقيُّه فيه لفلان المعين لأن الحسن معروف بالتدليس ويدلّس عن الضعفاء فيبقى في النفس من ذلك.. السير 4/588
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا أراد بعبد خيراً عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبد شراً أمسك عنه حتى يوافى يوم القيامة بذنبه ) رواه الترمذي السنن رقم 2396 وهو في صحيح الجامع رقم 308
ثالثاً : معرفة حقيقة الدنيا
فإذا علم المؤمن أن الدنيا فانية، ومتاعها قليل، وما فيها من لذة فهي مكدّرة ولا تصفو لأحد. إن أضحكت قليلاً أبكت طويلاً، وإن أعطت يسيراً منعت كثيراً، والمؤمن فيها محبوس كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ رواه مسلم رقم 2956(/6)
وهي كذلك نصب وأذى وشقاء وعناء ولذلك يستريح المؤمن إذا فارقها كما جاء عن أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ رواه البخاري : الفتح رقم 6512
وموت المؤمن راحة له من غموم دار الدنيا وهمومها وآلامها كما في الحديث : إِذَا حُضِرَ الْمُؤْمِنُ أَتَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ فَيَقُولُونَ اخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيّاً عَنْكِ إِلَى رَوْحِ اللَّهِ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ حَتَّى أَنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ السَّمَاءِ فَيَقُولُونَ مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتِي جَاءَتْكُمْ مِنَ الأَرْضِ فَيَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحاً بِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ يَقْدَمُ عَلَيْهِ فَيَسْأَلُونَهُ مَاذَا فَعَلَ فُلانٌ مَاذَا فَعَلَ فُلانٌ فَيَقُولُونَ دَعُوهُ فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا فَإِذَا قَالَ أَمَا أَتَاكُمْ قَالُوا ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتُضِرَ أَتَتْهُ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ بِمِسْحٍ فَيَقُولُونَ اخْرُجِي سَاخِطَةً مَسْخُوطاً عَلَيْكِ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ الأَرْضِ فَيَقُولُونَ مَا أَنْتَنَ هَذِهِ الرِّيحَ حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ المجتبى من سنن النسائي رقم 1810 وصححه الألباني في صحيح النسائي 1309
إن هذا المعنى الذي يدركه المؤمن لحقيقة الدنيا يهوّن عليه كثيراً من وقع المصاب وألم الغمّ ونكد الهمّ لأنه يعلم أنه أمر لا بدّ منه فهو من طبيعة هذه الحياة الدنيا.
رابعاً : ابتغاء الأسوة بالرسل والصالحين واتخاذهم مثلاً وقدوة
وهم أشد الناس بلاءً في الدنيا ، والمرء يبتلى على قدر دينه ، والله إذا أحب عبداً ابتلاه وقد سأل سعد رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً قَالَ الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْباً اشْتَدَّ بَلاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ رواه الترمذي وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، السنن : رقم 2398 وهو في صحيح سنن الترمذي للألباني رقم 1956
خامساً : أن يجعل العبد الآخرة همه
لكي يجمع الله له شمله لما رواه أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ رواه الترمذي رقم 2389 وصححه الألباني في صحيح الجامع 6510
قال ابن القيم رحمه الله: إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمّل الله عنه سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كلّ ما أهمّه، وفرّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكَلَه إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحوش في خدمة غيره.. فكلّ من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلِيَ بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته. قال تعالى : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين). الفوائد ط. دار البيان ص: 159
سادساً : علاج مفيد ومدهش وهو ذكر الموت
لقوله صلى الله عليه وسلم : (أكثروا ذكر هادم اللذات : الموت فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيَّقها عليه) رواه البزار عن أنس وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم 1211 وصححه كذلك في إرواء الغليل رقم 682
سابعاً : دعاء الله تعالى(/7)
وهذا نافع جداً ومنه ما هو وقاية ومنه ما هو علاج، فأما الوقاية فإن على المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى ويدعوه متضرعاً إليه بأن يعيذه من الهموم ويباعد بينه وبينها ، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقد أخبرنا خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه عن حاله معه بقوله: (كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل فكنت أسمعه كثيراً يقول :( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ) رواه البخاري الفتح رقم 2893
وهذا الدعاء مفيد لدفع الهم قبل وقوعه والدفع أسهل من الرفع.
ومن أنفع ما يكون في ملاحظة مستقبل الأمور استعمال هذا الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ رواه مسلم رقم 2720.
فإذا وقع الهم وألمّ بالمرء، فباب الدعاء مفتوح غير مغلق، والكريم عز وجل إن طُرق بابه وسُئل أعطى وأجاب.. يقول جلّ وعلا : " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون " .
ومن أعظم الأدعية في إذهاب الهمّ والغم والإتيان بعده بالفرج : الدعاء العظيم المشهور الذي حثّ النبي صلى الله عليه وسلم كلّ من سمعه أن يتعلّمه ويحفظه :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمٌّ وَلا حَزَنٌ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجِلاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي إِلا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجا قَالَ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا نَتَعَلَّمُهَا فَقَالَ بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا رواه الإمام أحمد في المسند 1/391 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 198
هذا الحديث العظيم الذي يتضمن اعتراف العبد أنه مملوك لله وأنه لا غنى له عنه وليس له سيد سواه والتزام بعبوديته وإعلان الخضوع والامتثال لأمره ونهيه ، وأن الله يصرّفه ويتحكّم فيه كيف يشاء وإذعان لحكم الله ورضى بقضائه وتوسل إلى الله بجميع أسمائه قاطبة ثم سؤال المطلوب ونشدان المرغوب
وقد ورد في السنّة النبوية أدعية أخرى بشأن الغم والهم والكرب ومنها :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ رواه البخاري، الفتح رقم 6346
وعن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر قال : (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ) الترمذي رقم 3524 وحسنه في صحيح الجامع 4653
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ أَوْ فِي الْكَرْبِ اللَّهُ اللَّهُ رَبِّي لا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. رواه أبو داود كتاب الصلاة : باب في الاستغفار، وهو في صحيح الجامع 2620
ومن الأدعية النافعة في هذا الباب أيضا ما علمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :.. دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ.. رواه أبوداود في كتاب الأدب رقم 5090.وحسنه في صحيح الجامع 3388 وفي صحيح سنن أبي داود رقم 4246.
فإذا لهج العبد بهذه الأدعية بقلب حاضر، ونية صادقة، مع اجتهاده في تحصيل أسباب الإجابة، حقق الله له ما دعاه ورجاه وعمل له ، وانقلب همه فرحاً وسروراً.
ثامناً : الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
وهي من أعظم ما يفرج الله به الهموم :(/8)
روى الطُّفَيْلُ بْنُ أُبَيِّ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ قَالَ أُبَيٌّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلاتِي فَقَالَ مَا شِئْتَ قَالَ قُلْتُ الرُّبُعَ قَالَ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قُلْتُ النِّصْفَ قَالَ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قَالَ قُلْتُ فَالثُّلُثَيْنِ قَالَ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قُلْتُ أَجْعَلُ لَكَ صَلاتِي كُلَّهَا قَالَ إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ رواه الترمذي وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. السنن رقم 2457/وحسنه الألباني في المشكاة 929
تاسعاً : التوكل على الله عز وجل وتفويض الأمر إليه
" فمن علم أن الله على كل شيء قدير، وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير. وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه وأنه أعلم بمصلحة العبد من العبد وأقدر على جلبها وتحصيلها منه وأنصح للعبد لنفسه وأرحم به منه بنفسه، وأبرّ به منه بنفسه. وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة ولا يتأخر عن تدبيره له خطوة واحدة، فلا متقدم له بين يدي قضائه وقدره ولا متأخر، فألقى نفسه بين يديه وسلم الأمر كله إليه، وانطرح بين يديه انطراح عبد مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قاهر. له التصرف في عبده بما شاء ، وليس للعبد التصرف فيه بوجه من الوجوه ، فاستراح حينئذ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات. وحمل كل حوائجه ومصالحه من لا يبالي بحملها ولا يثقله ولا يكترث بها. فتولاها دونه وأراه لطفه وبره ورحمته وإحسانه فيها من غير تعب من العبد ولا نصب ، ولا اهتمام منه، لأنه قد صرف اهتمامه كله إليه وجعله وحده همه. فصرف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه ، وفرغ قلبه منها ، فما أطيب عيشه وما أنعم قلبه وأعظم سروره وفرحه.
وأما من أبى إلا تدبيره لنفسه واختياره لها واهتمامه بحظه دون حق ربه، خلاه وما اختاره وولاه ما تولى فحضره الهم والغم والحزن والنكد والخوف والتعب، وكسف البال وسوء الحال ، فلا قلب يصفو، ولا عمل يزكو، ولا أمل يحصل ، ولا راحة يفوز بها ، ولا لذة يتهنى بها، بل قد حيل بينه وبين مسرته وفرحه وقرة عينه . فهو يكدح في الدنيا كدح الوحش ولا يظفر منها بأمل ولا يتزود منها لمعاد. الفوائد لابن القيم ص : 209
" ومتى اعتمد القلب على الله ، وتوكل عليه ، ولم يستسلم للأوهام ولا ملكته الخيالات السيئة ، ووثق بالله وطمع في فضله ، اندفعت عنه بذلك الهموم والغموم ، وزالت عنه كثير من الأسقام القلبية والبدنية ، وحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور ما لا يمكن التعبير عنه ، والمعافى من عافاه الله ووفقه لجهاد نفسه لتحصيل الأسباب النافعة المقوية للقلب ، الدافعة لقلقه ، قال تعالى " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " أي كافيه جميع ما يهمه من أمر دينه ودنياه .
فالمتوكل على الله قوي القلب لا تؤثر فيه الأوهام ، ولا تزعجه الحوادث لعلمه أن ذلك من ضعف النفس ومن الخور والخوف الذي لا حقيقة له ، ويعلم مع ذلك أن الله قد تكفل لمن توكل عليه بالكفاية التامة، فيثق بالله ويطمئن لوعده ، فيزول همه وقلقه ، ويتبدل عسره يسرا ، وترحه فرحا، وخوفه أمنا فنسأله تعالى العافية وأن يتفضل علينا بقوة القلب وثباته بالتوكل الكامل الذي تكفل الله لأهله بكل خير، ودفع كل مكروه وضير. " الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي
عاشراً : ومما يدفع الهم والقلق الحرص على ما ينفع واجتماع الفكر كله على الاهتمام بعمل اليوم الحاضر ، وقطعه عن الاهتمام في الوقت المستقبل ، وعن الحزن على الوقت الماضي(/9)
ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الهم والحزن، فالحزن على الأمور الماضية التي لا يمكن ردها ولا استدراكها والهم الذي يحدث بسببه الخوف من المستقبل ، فيكون العبد ابن يومه ، يجمع جده واجتهاده في إصلاح يومه ووقته الحاضر ، فإن جمع القلب على ذلك يوجب تكميل الأعمال، ويتسلى به العبد عن الهم والحزن والنبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا بدعاء أو أرشد أمته إلى دعاء فهو يحث مع الاستعانة بالله والطمع في فضله على الجد والاجتهاد في التحقق لحصول ما يدعو لدفعه لأن الدعاء مقارن للعمل ، فالعبد يجتهد فيما ينفعه في الدين والدنيا ، ويسأل ربه نجاح مقصده. ويستعينه على ذلك كما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ رواه مسلم 2664. فجمع صلى الله عليه وسلم بين الأمر بالحرص على الأمور النافعة في كل حال والاستعانة بالله وعدم الانقياد للعجز الذي هو الكسل الضار وبين الاستسلام للأمور الماضية النافذة ، ومشاهدة قضاء الله وقدره وجعل الأمور قسمين : قسماً يمكن للعبد السعي في تحصيله أو تحصيل ما يمكن منه ، أو دفعه أو تخفيفه فهذا يبدي فيه العبد مجهوده ويستعين بمعبوده. وقسماً لا يمكن فيه ذلك ، فهذا يطمئن له العبد ويرضى ويسلم ، ولا ريب أن مراعاة هذا الأصل سبب للسرور وزوال الهم والغم. الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي
والحديث المذكور يدلّ على السعي في إزالة الأسباب الجالبة للهموم وفي تحصيل الأسباب الجالبة للسرور وذلك بنسيان ما مضى عليه من المكاره التي لا يمكنه ردها، ومعرفته أن اشتغال فكره فيها من باب العبث والمحال ، وأن ذلك حمق وجنون ، فيجاهد قلبه عن التفكر فيها وكذلك يجاهد قلبه عن قلقه لما يستقبله ، مما يتوهمه من فقر أو خوف أو غيرهما من المكاره التي يتخيلها في مستقبل حياته . فيعلم أن الأمور المستقبلة مجهول ما يقع فيها من خير وشر وآمال وآلام ، وأنها بيد العزيز الحكيم ، ليس بيد العباد منها شيء إلا السعي في تحصيل خيراتها، ودفع مضراتها ويعلم العبد أنه إذا صرف فكره عن قلقه من أجل مستقبل أمره ، واتكل على ربه في إصلاحه ، واطمأن إليه في ذلك صلحت أحواله ، وزال عنه همه وقلقه. الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي
الحادي عشر : ومن أكبر الأسباب لانشراح الصدر وطمأنينته الإكثار من ذكر الله
فإن لذلك تأثيراً عجيباً في انشراح الصدر وطمأنينته ، وزوال همه وغمه ، قال الله تعالى " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " .
وأعظم الأذكار لعلاج الهمّ العظيم الحاصل عند نزول الموت : لا إله إلا الله
وذلك لما حدّث به طلحة عمر رضي الله عنه فال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كَلِمَةٌ لا يَقُولُهَا عَبْدٌ عِنْدَ مَوْتِهِ إِلا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَتَهُ وَأَشْرَقَ لَوْنُهُ فَمَا مَنَعَنِي أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْهَا إِلا الْقُدْرَةُ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ إِنِّي لأَعْلَمُهَا فَقَالَ لَهُ طَلْحَةُ وَمَا هِيَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ هَلْ تَعْلَمُ كَلِمَةً هِيَ أَعْظَمَ مِنْ كَلِمَةٍ أَمَرَ بِهَا عَمَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَقَالَ طَلْحَةُ هِيَ وَاللَّهِ هِيَ رواه أحمد 1/161
الثاني عشر: اللجوء إلى الصلاة .
قال الله تعالى : " واستعينوا بالصبر والصلاة " وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى رواه أبو داود كتاب الصلاة باب وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل وحسنه في صحيح الجامع رقم 4703
الثالث عشر : ومما يفرج الهم أيضا الجهاد في سبيل الله
كما قال عليه الصلاة والسلام : عَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُذْهِبُ اللَّهُ بِهِ الْهَمَّ وَالْغَمَّ رواه أحمد عن أبي أمامة عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنهما 5/ 319 وصححه في صحيح الجامع 4063 وعزاه السيوطي للطبراني في الأوسط عن أبي أمامة.
الرابع عشر : التحدث بنعم الله الظاهرة والباطنة(/10)
فإن معرفتها والتحدث بها يدفع الهم والغم ، ويحث العبد على الشكر الذي هو أرفع المراتب وأعلاها حتى ولو كان العبد في حالة فقر أو مرض أو غيرهما من أنواع البلايا . فإنه إذا قابل بين نعم الله عليه التي لا تحصى ولا تعدّ وبين ما أصابه من مكروه ، لم يكن للمكروه إلى النعم نسبة ، بل المكروه والمصائب إذا ابتلى الله بها العبد ، وأدى فيها وظيفة الصبر والرضى والتسليم ، هانت وطأتها ، وخفت مؤنتها ، وكان تأميل العبد لأجرها وثوابها والتعبد لله بالقيام بوظيفة الصبر والرضا ، يدع الأشياء المرة حلوة فتنسيه حلاوة أجرها مرارة صبرها.
ومن أنفع الأشياء في هذا الموضع استعمال ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ رواه الترمذي في سننه رقم 2513 وقال : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وهو في صحيح الجامع 1507
فإن العبد إذا نصب بين عينيه هذا الملحظ الجليل، رأى نفسه يفوق قطعاً كثيراً من الخلق في العافية وتوابعها ، وفي الرزق وتوابعه مهما بلغت به الحال ، فيزول قلقه وهمه وغمه ، ويزداد سروره واغتباطه بنعم الله التي فاق فيها غيره ممن هو دونه فيها .
وكلما طال تأمل العبد في نِعم الله الظاهرة والباطنة ، الدينية والدنيوية ، رأى ربه قد أعطاه خيراً كثيراً ودفع عنه شروراً متعددة ، ولا شك أن هذا يدفع الهموم والغموم ، ويوجب الفرح والسرور. الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي
الخامس عشر : الانشغال بعمل من الأعمال أو علم من العلوم النافعة
فإنها تلهي القلب عن اشتغاله بذلك الأمر الذي أقلقه . وربما نسي بسبب ذلك الأسباب التي أوجبت له الهم والغم ، ففرحت نفسه ، وازداد نشاطه ، وهذا السبب أيضا مشترك بين المؤمن وغيره . ولكن المؤمن يمتاز بإيمانه وإخلاصه واحتسابه في اشتغاله بذلك العلم الذي يتعلمه أو يعلمه ، ويعمل الخير الذي يعمله ، إن كان عبادة فهو عبادة وإن كان شغله دنيوياً أو عادة دنيوية أصحبها النية الصالحة ، وقصد الاستعانة بذلك على طاعة الله ، فلذلك أثره الفعال في دفع الهموم والغموم والأحزان ، فكم من إنسان ابتلي بالقلق وملازمة الأكدار ، فحلت به الأمراض المتنوعة فصار دواءه الناجح : نسيانه السبب الذي كدره وأقلقه، واشتغاله بعمل من مهماته.
وينبغي أن يكون الشغل الذي يشتغل فيه مما تأنس به النفس وتشتاقه ؛ فإن هذا أدعى لحصول هذا المقصود النافع والله أعلم. الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي
السادس عشر : النظر إلى الجوانب الإيجابية للأحداث التي يظهر منها بعض ما يُكره
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ رواه مسلم 1469.
ومن فوائد هذا الحديث : زوال الهم والقلق وبقاء الصفاء ، والمداومة على القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة وحصول الراحة بين الطرفين ، ومن لم يسترشد بهذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بل عكس القضية فلحظ المساوىء ، وعمي عن المحاسن ، فلا بد أن يقلق ، ولابد أن يتكدر ما بينه وبين من يتصل به من المحبة ، ويخلّ بكثير من الحقوق التي على كل منهما المحافظة عليها. الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي
السابع عشر : معرفة القيمة الحقيقية للحياة وأنها قصيرة وأنّ الوقت أغلى من أن يذهب في الهمّ والغمّ
فالعاقل يعلم أن حياته الصحيحة حياة السعادة والطمأنينة وأنها قصيرة جداً ، فلا ينبغي له أن يقصرها بالهم والاسترسال مع الأكدار فإن ذلك ضد الحياة الصحيحة ، فيشح بحياته أن يذهب كثير منها نهباً للهموم والأكدار ولا فرق في هذا بين البر والفاجر ، ولكن المؤمن له من التحقق بهذا الوصف الحظ الأوفر ، والنصيب النافع العاجل والآجل . وينبغي أيضا إذا أصابه مكروه أو خاف منه أن يقارن بين النعم الحاصلة له دينية أو دنيوية . وبين ما أصابه من مكروه فعند المقارنة يتضح كثرة ما هو فيه من النعم ، واضمحلال ما أصابه من المكاره وكذلك يقارن بين ما يخافه من حدوث ضرر عليه ، وبين الاحتمالات الكثيرة في السلامة منها فلا يدع الاحتمال الضعيف يغلب الاحتمالات الكثيرة القوية وبذلك يزول همه وخوفه ، ويقدر أعم ما يكون من الاحتمالات التي يمكن أن تصيبه ، فيوطن نفسه لحدوثها إن حدثت ، ويسعى في دفع ما لم يقع منها وفي رفع ما وقع أو تخفيفه.
جعل الأمور النافعة نصب عينيك واعمل على تحقيقها، ولا تلتفت إلى الأمور الضارة لتلهو بذلك عن الأسباب الجالبة للهم والحزن واستعن بالراحة وإجماع النفس على الأعمال المهمة. الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي(/11)
الثامن عشر : ومن الأمور النافعة عدم السماح بتراكم الأعمال والواجبات
وذلك بحسمها في الحال والتفرغ للمستقبل ، لأن الأعمال إذا لم تُحسم اجتمع عليك بقية الأعمال السابقة ، وانضافت إليها الأعمال اللاحقة ، فتشتد وطأتها ، فإذا حسمت كل شيء في وقته تفّرغت للأمور المستقبلة بقوة تفكير وقوة عمل.
وينبغي أن تتخير من الأعمال النافعة الأهم، فالأهم وميز بين ما تميل نفسك إليه وتشتد رغبتك فيه، فإن ضده يحدث السآمة والملل والكدر ، واستعن على ذلك بالفكر الصحيح والمشاورة ، فما ندم من استشار ، وادرس ما تريد فعله درساً دقيقاً ، فإذا تحققت المصلحة وعزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي، بتصرف.
التاسع عشر : التوقع المستمر والاستعداد النفسي لجميع الاحتمالات
فإن الإنسان إذا استحضر في نفسه فقد عزيز أو مرض قريب أو وقوعاً في دين أو قهر عدو أو أي احتمال سيئ مما لم يحدث بعد - مع استعاذته بالله من ذلك ورجاء السلامة - فإنه لو وقع له شيء من ذلك حقيقة سيكون أهون عليه وأخف وطأة لتوقعه المسبق.
ومما ينبغي التنبّه له أن كثيراً من الناس من ذوي الهمم العالية يوطنون أنفسهم عند وقوع الكوارث والمزعجات على الصبر والطمأنينة . لكن عند الأمور التافهة البسيطة يقلقون ، ويتكدر الصفاء ، والسبب في هذا أنهم وطنوا نفوسهم عند الأمور الكبار ، وتركوها عند الأمور الصغار فضرتهم وأثرت في راحتهم فالحازم يوطن نفسه على الأمور الصغيرة والكبيرة ويسأل الله الإعانة عليها ، وأن لا يكله إلى نفسه طرفة عين فعند ذلك يسهل عليه الصغير ، كما سهل عليه الكبير ويبقى مطمئن النفس ساكن القلب مستريحاً.
العشرين : ومن العلاجات أيضا الشكوى إلى أهل العلم والدين وطلب النصح والمشورة منهم
فإن نصائحهم وآراءهم من أعظم المثبتات في المصائب. وقد شكى الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يلقون من تعذيب...
فهذا خَبَّاب بْن الأَرَتِّ رضي الله عنه يقول : شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ البخاري الفتح 3612
وكذلك شكى التابعون إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الزبير بن عدي : أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ فَقَالَ اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواه البخاري الفتح رقم 7068
فيسمع المسلم من أهل العلم والقدوة ما يسليه ويخفف عنه آلام غمومه وهمومه.
ومن هذا الباب أيضا : اللجوء إلى إخوان الصدق والأقرباء العقلاء والأزواج والزوجات الأوفياء والوفيات فهذه فاطمة رضى الله عنها لمّا أصابها الهمّ شكت إلى زوجها عليٍّ رضي الله عنه كما روى القصة عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فَاطِمَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا فَوَجَدَ عَلَى بَابِهَا سِتْراً فَلَمْ يَدْخُلْ قَالَ وَقَلَّمَا كَانَ يَدْخُلُ إِلا بَدَأَ بِهَا فَجَاءَ عَلِيٌّ رَضِي اللَّه عَنْه فَرَآهَا مُهْتَمَّةً فَقَالَ مَا لَكِ قَالَتْ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ فَلَمْ يَدْخُلْ فَأَتَاهُ عَلِيٌّ رَضِي اللَّه عَنْه فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَاطِمَةَ اشْتَدَّ عَلَيْهَا أَنَّكَ جِئْتَهَا فَلَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهَا قَالَ وَمَا أَنَا وَالدُّنْيَا وَمَا أَنَا وَالرَّقْمَ ( أي النقش والرسم ) فَذَهَبَ إِلَى فَاطِمَةَ فَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ قُلْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَأْمُرُنِي بِهِ قَالَ قُلْ لَهَا فَلْتُرْسِلْ بِهِ إِلَى بَنِي فُلانٍ [ وَكَانَ سِتْراً مَوْشِيّاً ] (أي مزخرفاً منقوشاً) رواه أبو داود كتاب اللباس باب في اتخاذ الستور وهو في صحيح أبي داود 3496.(/12)
الحادي والعشرون : أن يعلم المهموم والمغموم أن بعد العسر يسراً ، وأن بعد الضيق فرجاً
فليحسن الظن بالله فإنه جاعل له فرجاً ومخرجاً .
وكلما استحكم الضيق وازدادت الكربة قرب الفرج والمخرج .
وقد قال الله تعالى في سورة الشرح ( فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً ) فذكر عسراً واحداً ويسرين فالعسر المقترن بأل في الآية الأولى هو العسر في الآية الثانية أما اليسر في الآية الثانية فهو يسر آخر غير الذي في الآية الأولى.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً رواه أحمد 1/293 السلسلة الصحيحة 2382 وصححه الألباني في صحيح الجامع برواية الخرائطي عن أنس بلفظ رقم 6806
الثاني والعشرون : ومن علاجات الهموم ما يكون بالأطعمة
فقد روى البخاري رحمه الله عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينِ لِلْمَرِيضِ وَلِلْمَحْزُونِ عَلَى الْهَالِكِ وَكَانَتْ تَقُولُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ التَّلْبِينَةَ تُجِمُّ فُؤَادَ الْمَرِيضِ وَتَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ الفتح رقم 5689
وروى رحمه الله أيضا عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلا أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتِ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَتْ كُلْنَ مِنْهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ الفتح 5147
والتلبينة : هي حساء يعمل من دقيق أو نخالة ويجعل فيه عسل وسميت تلبينة لشبهها باللبن ، وهي تطبخ من الشعير مطحوناً .
ومعنى مُجِمَّة : أي تريح وتنشط وتزيل الهمّ
وروى أحمد رحمه الله عنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قِيلَ لَهُ إِنَّ فُلانًا وَجِعٌ لا يَطْعَمُ الطَّعَامَ قَالَ عَلَيْكُمْ بِالتَّلْبِينَةِ فَحَسُّوهُ إِيَّاهَا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَغْسِلُ بَطْنَ أَحَدِكُمْ كَمَا يَغْسِلُ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ مِنَ الْوَسَخِ رواه أحمد 6/152 .
ورواه الترمذي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَخَذَ أَهْلَهُ الْوَعَكُ أَمَرَ بِالْحِسَاءِ فَصُنِعَ ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَحَسَوْا مِنْهُ وَكَانَ يَقُولُ إِنَّهُ لَيَرْتُقُ (وفي رواية أحمد وابن ماجة : ليرتو) فُؤَادَ الْحَزِينِ وَيَسْرُو عَنْ فُؤَادِ السَّقِيمِ كَمَا تَسْرُو إِحْدَاكُنَّ الْوَسَخَ بِالْمَاءِ عَنْ وَجْهِهَا قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ : السنن رقم 2039
ويرتو أو يرتق : أي يشدّ ويقوي، ويسرو: أي يكشف
وهذا الأمر - وإن استغربه بعض الناس - هو حق وصدق ما دام قد ثبت من طريق الوحي عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ، والله خلق الأطعمة وهو أعلم بخصائصها وبالتالي فإن حساء الشعير المذكور هو من الأغذية المفرحة ، والله اعلم . يُراجع زاد المعاد لابن القيم رحمه الله 5/120.
أما عن طريقة طبخه لمريض الجسد ومحزون القلب فيقول ابن حجر رحمه الله : ولعل اللائق بالمريض ماء الشعير إذا طبخ صحيحاً وبالحزين ماؤه إذا طبخ مطحوناً والله أعلم انظر فتح الباري 147.
وقد لخص ابن القيم هذه الأدوية والعلاجات في خمسة عشر نوعاً من الدواء يذهب الله بها الهم والحزن وهي :
الأول: توحيد الربوبية.
الثاني: توحيد الإلهية.
الثالث:التوحيد العلمي الاعتقادي (وهو توحيد الأسماء والصفات).
الرابع : تنزيه الرب تعالى عن أن يظلم عبده ، أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك .
الخامس: اعتراف العبد بأنه هو الظالم.
السادس : التوسل إلى الرب تعالى بأحب الأشياء ، وهو أسماؤه وصفاته ، ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات : الحي القيوم.
السابع : الاستعانة به وحده .
الثامن : إقرار العبد له بالرجاء .
التاسع : تحقيق التوكل عليه ، والتفويض إليه ، والاعتراف له بأن ناصيته في يده ، يصرفه كيف يشاء ، وأنه ماض فيه حكمه ، عدل فيه قضاؤه .
العاشر: أن يرتع قلبه في رياض القرآن ، ويتعزى به عن كل مصيبة ، ويستشفي به من أدواء صدره ، فيكون جلاء حزنه ، وشفاء همه وغمه .
الحادي عشر : الاستغفار.
الثاني عشر: التوبة.
الثالث عشر : الجهاد.
الرابع عشر : الصلاة.
الخامس عشر : البراءة من الحول والقوة وتفويضهما إلى من هما بيده.(/13)
نسأل الله تعالى أن يعافينا من الهموم وأن يفرج عنا الكروب ويزيل عنا الغموم إنه هو السميع المجيب، وهو الحي القيوم.
تذكرة
وبعد ذكر هذه الطائفة من أنواع هموم الدنيا وعلاجها يجدر التذكير بأن هموم الآخرة أعظم وغمومها وكروبها أشدّ ، ومن أمثلة ذلك ما يُصيب الناس في أرض المحشر فقد روى البخاري رحمه الله تعالى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ.. أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَلِكَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لا يُطِيقُونَ وَلا يَحْتَمِلُونَ فَيَقُولُ النَّاسُ أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ أَلا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ عَلَيْكُمْ بِآدَمَ.. رواه البخاري الفتح 4712
ولا علاج لغموم وكربات ذلك اليوم إلا بالإقبال على الله في هذا اليوم .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه خير قوم والحمد لله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم .(/14)
علاج الوسوسة في العقيدة
الشيخ محمد عبد الكريم*
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
إنّ من خصائص عقيدة الإسلام أنها قائمة على الحجج النقلية الواضحة, والبراهين العقلية الساطعة, فليس في أصولها ولا في فروعها ما يأباه العقل الرشيد أو يرفضه, وفي سبيل ترسيخ هذه العقيدة في الأنفس, ولضمان ديمومتها وثباتها خاطب القرآن الكريم العقول واستنهضها للتدبر والتفكر؛ قال تعالى: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ) (1)، وقال سبحانه: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ) (2)، وقال سبحانه: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) (3). ومع قوة الإيمان في نفوس المؤمنين, وطمأنينة القلب إلى ما أخبر الله تعالى به من الحق المبين, إلا أنّ هذه العقيدة معرَّضة للفتنة والابتلاء لا محالة؛ قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ) (4). ومن هذه الفتن محنة الشيطان اللعين ـ عدونا المبين ـ الذي أخذ على نفسه ميثاقاً أمام رب العالمين أن يغوينا أجمعين, كما قال تعالى حكاية عنه: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (5)، وكما قعد لنا بالوسوسة والإضلال في كل طريق ومرصد؛ فإنه حريص على قذف سمومه في قلوب المسلمين كي يزعزع إيمانهم بالله العزيز الحميد, ويلقي بالريب فيما أخبرنا الله به من الغيب في كتابه المجيد؛ عن سبره بن أبي فاكه رضي لله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه, فقعد بطريق الإسلام, فقال: تُسلمُ وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟ فعصاه وأسلم, ثم قعد له بطريق الهجرة, فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءَك؟ وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول, فعصاه فهاجر, ثم قعد له بطريق الجهاد, فقال: تجاهد؟ فهو جهدُ النفس والمال, فتقاتلُ فتقتَلُ, فتنكح المرأة ويُقسَّم المال؟ فعصاه فجاهد؛ فمن فعل ذلك كان حقاً على الله أن يدخله الجنة, ومن قُتل كان حقاً على الله أن يُدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة, وإن وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة) (6), إنّ الشيطان الرجيم ليس له من سلطان على البشر إلا بالدعوة والإغراء, والاستمالة والإغواء عن طريق الوسوسة, فما أهون كيده,وأوهن فكره قال تعالى: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ) (7).
معنى الوسوسة:
الوسوسة: مصدر قولهم: وسوس يُوَسْوِس مأخوذ من مادة (و.س.س) التي تدل على صوت غير رفيع: يُقال لصوت الحُلْي: وسواسٌ, وهمس الصائد: وسواسٌ, وإغواء الشيطان ابن آدم وسواس (8).
واصطلاحاً الوسوسة والوَسواس: ما يلقيه الشيطان في القلب. وقال الراغب: الوسوسة: الخطرة الرديئة , وقال البغوي: الوسوسة القول الخفي لقصد الإضلال, والوسواسُ: ما يقع في النفس وعمل الشر وما لا خير فيه (9) , وهذا بخلاف الإلهام فهو لما يقع فيها من الخير.
قال ابن القيم رحمه الله: "الوسوسة: الإلقاء الخفي في النفس إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من أُلقِيَ عليه, وإما بغير صوت كما يوسوس الشيطان للعبد"(11).
وقال البغوي في قوله تعالى: (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ): "بالكلام الخفي الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع" (12) .
وقد جاءت الوسوسة في القرآن الكريم في بضع آيات.
فتارة تكون من فعل الشيطان الجني كما قال تعالى: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا ) (13), وقال تعالى: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى) (14) , وسمى الله تعالى شيطاني الجن والإنس "وسواساً" فقال تعالى: (مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ - الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ)(15) , وتارة تضاف الوسوسة إلى فعل النفس كما قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُه)(16) .
أنواع الوسوسة:(/1)
يحضر الشيطان ابن آدم عند كل شأنه, حتى عند طعامه وشرابه فتنة وابتلاءً؛ بيدَ أنّه لا يعمد إلى الأشياء التافهة, فيشكك فيها, أو يطعن في حقيقتها فمثلاً: أنت تسمع بوجود مدن مهمة كبيرة مملوءة بالسكان والعمران في المشرق والمغرب, لم يخطر ببالك يوماً من الأيام الشك في وجودها أو عيبه بأنها خراب ودمار لا تصلح للسكن, وليس فيها ساكن ونحو ذلك. لأنّه لا غرض للشيطان في تشكيك الإنسان في مثل هذه الأمور, ولكن غرضه الأعظم الكبير في إفساد إيمان المؤمن, فهو يسعى بخيله ورجله ليطفيء نور العلم والهداية في قلبه, ويوقعه في ظلمة الشكِّ والحيرة, ومن هنا كانت وساوسه تتجه صوب أمرين دينيين:
أحدهما: وسوسة الشيطان في العِلْمِيَّات: وهي مسائل الاعتقاد والإيمان, وهو أشدُّ النوعين ذلك لأنّ التوحيد: هو أساس الإسلام, وصرحه الشامخ, ورأس مال المؤمن, ومن خلاله يمكن للشيطان أن ينفث سمومه ليفسد على المرء دينه, ولهذا يوجه إبليس جلَّ سهامه وجنوده لإفساد هذه العقيدة, والتشكيك في التوحيد الخالص فتنة للناس عن دين الحق, كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إنّ عرش إبليس على البحر فيبعث سراياه فيفتنون الناس فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة)(17) .
الثاني: الوسوسة في العمليات: وهي العبادات والمعاملات, فهو يحضر المسلم عند طهارته وصلاته وذكره ودعائه, وحجه وطوافه وصيامه, ليلبّس على الناس عباداتهم ويفسد عليهم طاعاتهم, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الشيطان إذا سمع النداء أحال له ضراط, حتى لا يسمع صوته فإذا سكت الشيطان رجع فوسوس فإذا سمع الإقامة ذهب لا يسمع صوته فإذا سكت رجع فوسوس)(18) .
وقد بسط العلماء طريقة الوقاية من هذا النوع في أبواب الفقه, وكتب الآداب والسلوك كما في (تلبيس إبليس) لابن الجوزي (وزغل العلم) للذهبي.
ومقصودنا من البحث إنما هو النوع الأول: وهو وسوسته في العقائد, فمن حيل الشيطان وألاعيبه ببعض الناس أن يزين لهم حبَّ الفضول والسؤال عما لا قِبَلَ لمخلوق أن يدركه عن الخالق عز وجل, فتقع وسوسة السؤال عن ماهية الله تعالى, ووجوده, والحكمة من خلق ما خلق, وما يقضي به تعالى من تقدير الأشياء وإيجادها خيراً وشراً, حلواً ومراً وقد يقع شيء من هذا لكثير من المؤمنين الصادقين, فيدفعونه بالاستعظام والإجلال كما أتى في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: ((إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به, قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان)(19) . وعن عبد الله رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة, قال: ((تلك محضُ الإيمان)(20) قال الخطابي: "معناه: أنّ صريح الإيمان هو الذي منعكم من قول ما يلقيه الشيطان في أنفسكم والتصديق به, وليس معناه أنّ الوسوسة نفسها صريح الإيمان, وذلك أنها إنما تتولد من فعل الشيطان وتسويله, فكيف يكون إيماناً صريحاً, لأنّ الإيمان: التيقن, وأنّ الإشارة إلى أنّ ما وجدوه من الخوف من الله تعالى أن يعاقبهم على ما وقع في نفوسهم: هو محض الإيمان, إذ الخوف من الله تعالى ينافي الشك فيه" (21).(/2)
قال ابن تيمية رحمه الله: "أي حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له, ودفعه عن القلب هو من صريح الإيمان, كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه, فهذا أعظم الجهاد و(الصريح) الخالص كاللبن الصريح, وإنما صار صريحاً لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية, ودفعوها فخَلص الإيمان فصار صريحاً, ولا بدّ لعامة الخلق من هذه الوساوس؛ فمن الناس من يجيبها فيصير كافراً أو منافقاً, ومنهم من قد غمر قلبه الشهوات والذنوب فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين فإما أن يصير مؤمناً وإما أن يصير منافقاً؛ ولهذا يعرض للناس من الوساوس في الصلاة ما لا يعرض لهم إذا لم يصلّوا لأنّّ الشيطان يكثر التعرُّض للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه والتقرَّب إليه والاتصال به, فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض لغيرهم، ويعرض لخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة؛ ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم؛ لأنه لم يسلك(22) شرع الله ومنهاجه, بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه، وهذا مطلوب الشيطان بخلاف المتجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة.." (23)، وقال في موضع آخر: "فالشيطان لما قذف في قلوبهم وسوسة فدفعوه؛ تحرك الإيمان الذي في قلوبهم بالكراهة لذلك، والاستعظام له؛ فكان ذلك صريح الإيمان, ولا يقتضي ذلك أن يكون السبب الذي هو الوسوسة مأموراً به, والعبد أيضاً قد يدعوه داعٍ إلى الكفر أو المعصية فيعصيه ويمتنع؛ ويورثه ذلك إيماناً وتقوى, وليس السبب مأموراً به, وقد قال تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ - فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ )(24) الآية, فهذا الإيمان الزائد والتوكل كان سبب تخويفهم بالعدو، وليس ذلك مشروعاً بل العبد يفعل ذنباً فيورثه ذلك توبة يحبه الله بها، ولا يكون الذنب مأموراً به وهذا باب واسع جداً.." (25).
هذا وقد أنبأ نبينا صلى الله عليه وسلم أصحابه أنّ هذه الوساوس سيتكلم بها الناس, عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يزالون يسألونك يا أبا هريرة حتى يقولوا: هذا الله فمن خلق الله؟ قال: فبينما أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب فقالوا: يا أبا هريرة هذا الله, فمن خلق الله؟ قال: فأخذ حصى بكفه فرماهم, ثم قال: قوموا قوموا، صدق خليلي)(26) .
طرق علاج الوسوسة في العقائد:
إنّ السلامة من فتنة الشيطان بالوسوسة في الإيمان والاعتقادات تكون بطريقتين:
الطريقة الأولى: وقائية: وهي الاحتراز من الوسوسة قبل حصولها, وذلك بالتحصن بالعلم والعكوف على مسائل التوحيد والإيمان, دراسة ومذاكرة, لأنّ الشيطان لا يجد السبيل سالكاً لتشكيك أهل العلم بالإيمان, فكلما أراد عدو الله أن يصرعهم صرعوه, وإذا شغب عليهم بوساوسه, ردوها عليه بما عندهم من الهدى والعلم ورجموه، ((وَلَعالِمٌ واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد)), ومَن عرف الله تعالى من خلال صفاته ومخلوقاته, عظّم ربه حق التعظيم, وقَدَّره كل التقدير, ولا يزال أبداً يحسن الظن بمولاه حتى يلقاه.
الطريقة الثانية: إذا وقعت الوسوسة في النفس, دفعها المسلم المدرك, وأبطلها بستة أمور:
الأمر الأول: الكف عن الاسترسال في الوسوسة, والانتهاء عنها بقطع حبالها ومتعلقاتها, مستعيناً لذلك بالاستعاذة بالله من شر الشيطان الرجيم, وذلك لما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته)(27) ، والمعنى: إذا عرض له هذا الوسواس, فليلجأ إلى الله تعالى في دفع شره, وليعرض عن الفكر في ذلك, وليعلم أنّ هذا الخاطر من وسوسة الشيطان, وهو أن يسعى بالفساد والإغواء, فليعرض عن الإصغاء إلى وسوسته وليبادر إلى قطعها, بالاشتغال عنها. وهذا كما قال تعالى: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) (28)وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ للشيطان لمَّة بابن آدم, وللمَلَك لمَّة, فأما لمَّة الشيطان, فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق, وأما لمَّة الملك, فإيعاد بالخير, وتصديق بالحق, فمن وجد ذلك, فليعلم أنه من الله, فليحمد الله, ومن وجد الأخرى, فليتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم)), ثم قرأ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء) (30)(29).
فلا بد إذن من ضبط النفس عن الاستمرار في هذه الوساوس, لأنّ الأضرار والعواقب المترتبة على التسليم لهذه الوساوس وخيمة. ومن أخطرها ثلاثة أمور:(/3)
أ ـ وقوع الشك في الإيمان بالله, والشك في ذلك كفر وإلحاد. قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ )(31) .
ب ـ فقدان المرء الثقة بنفسه لدرجة الشك في نفسه هل هو مسلم أم كافر؟
ج ـ الاعتراض على الله تعالى في أفعاله وقضائه وهو سبحانه وتعالى: (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ) (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ).
الأمر الثاني: لا يسأل أسئلة صريحة عن هذه الوساوس التي تدور بخاطره, أي لا يصرح بشيء من ذلك, فإنه في عافية, مادامت الوساوس محصورة في قلبه لم تنتقل بعد إلى لسانه, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الله تجاوز لأمتي عما وسوست ـ أو حدثت ـ به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم)(32) .
وهذا ما كان يتأدب به الصحابة إذا وقع لهم شيء من ذلك كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: إني أحدث نفسي بالشيء, لأنْ أكون حُمَمَة أحب إليَّ من أن أتكلم به, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة)(33) .
الأمر الثالث: أن يقول إذا وجد الوسوسة بثبات جنان ونطق لسان: "آمنت بالله", وذلك لحديث: ((لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا, خلق الله الخلق. فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله)(34) ، ومن المعلوم أنّ الإيمان به تعالى هو ركن الإيمان الأول بالغيب, ومنه ينطلق الإيمان ببقية الأركان, فالتأكيد عليه بالنطق كذلك تذكير بالله تعالى وطرد للشيطان, ولقد تظافرت الدواعي النقلية والعقلية معاً على وجود الله واستحقاقه العبادة وحده دون سواه, وهذا الإيمان بالغيب هو الذي يميز المؤمن بالله تعالى في الدنيا عن غيره من البشر الملحدين المشركين, فلا داعي للتفكير في ذات الله تعالى, أو السؤال عن كنه صفاته, لأنّ إدراك ذلك محال على العبد الضعيف المحدود, (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )(35) ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )(36) .
الأمر الرابع: قال ابن القيم رحمه الله: "وأرشد ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ من بُلي بشيء من وسوسة التسلسل في الفاعلية, إذا قيل له: هذا الله خلق الخلق, فمن خلق الله؟ أن يقرأ: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )(37) . كذلك قال ابن عباس لأبي زُميل سماك بن الوليد الحنفي وقد سأله: "ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قال: قلت: والله لا أتكلم به, قال: قال لي: أشيءٌ من شك؟ قلت: بلى. فقال لي: ما نجا من ذلك أحد, حتى أنزل الله عز وجل: (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ) قال: قال لي: فإذا وجدت في نفسك شيئاً فقل: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (38), فأرشدهم بهذه الآية إلى بطلان التسلسل الباطل ببديهة العقل, وأن سلسلة المخلوقات في ابتدائها تنتهي إلى أول ليس قبله شيء كما تنتهي في آخرها إلى آخر ليس بعده شيء, كما أنّ ظهوره هو العلو الذي ليس فوقه شيء, وبطونه هو الإحاطة التي لا يكون دونه فيها شيء, ولو كان قبله شيء يكون مؤثراً فيه, لكان ذلك هو الربُّ الخلاق, ولا بدّ أن ينتهي الأمر إلى خالق غير مخلوق, وغني عن غيره, وكل شيء فقير إليه, قائم بنفسه, وكل شيء قائم به, موجود بذاته, وكل شيء موجود به, قديم لا أوَّل له, وكل ما سواه موجود بعد عدمه, باقٍ بذاته, وبقاء كل شيء به, فهو الأول الذي ليس قبله شيء, والآخر الذي ليس بعده شيء, والظاهر الذي ليس فوقه شيء, والباطن الذي ليس دونه شيء" (39).
الأمر الخامس: الالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء, وطلب تثبيت القلب على الإيمان. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو فيقول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)(40) وكان يقول أيضاً: ((إنّ الإيمان يبلى في جوف أحدكم كما يبلى الثوب فاسألوا الله أن يجدد إيمانكم))، ثم الابتهال بجدٍّ في العبادة والعمل امتثالاً لأمر الله, وابتغاء مرضاته, فمن فعل ذلك نجاه الله ووقاه من وساوس الشيطان.(/4)
الأمر السادس: إذا استمرت الوساوس, فما عليه إلا أن يردَّ ما يُشكل عليه ويؤرقه, ويكدر صفو اعتقاده بربه ويزعزعه, إلى أهل العلم, لقول الله تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ). وقوله سبحانه: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْن ِأَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ).
وختاماً:
لا ينبغي للعبد المسلم المؤمن بربه أن يحزن, أو يصاب بالقلق, بل لا يلقي بالاً لما يوسوس به الشيطان له من الأباطيل والأوهام التي تزعزع طمأنينة فؤاده؛ لأنّ هذا كله من تلبيس الشيطان على المؤمنين ليُحزنهم وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله كما قال تعالى: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ )(41).
وأحْسِن الظنّ بالله تعالى إحساناً بالغاً فهو عند حسن عبده به, فإن ظنّ العبد به خيراً كان خيراً له, وإن ظنَّ به غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه. (وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (42).
والله الهادي إلى سواء السبيل.
----------
(1)سورة يونس: الآية 101.
(2)سورة سبأ: الآية 46.
(3)سورة المؤمنون: الآية 91.
(4)سورة العنكبوت: الآية 2,1.
(5)سورة ص: الآية 83,82.
(6)رواه النسائي: 6/21 ـ 22، وصححه ابن حبان وإسناده حسن.
(7)سورة النساء: الآية 76.
(8)مقاييس اللغة: 6/76.
(9)المفردات للراغب: 522.
(10)الكليات: 941.
(11)نضرة النعيم في أخلاق الرسول الكريم: 11/5702. نقلاً عن مخطوطة هدية المحب (ورقة 124).
(12)تفسير البغوي: 3/548.
(13)سورة الأعراف: الآية 20.
(14)سورة طه: الآية 120.
(15)سورة الناس.
(16)سورة ق: الآية 16.
(17)رواه مسلم 2813 عن جابر رضي الله عنه.
(18)البخاري مع الفتح 3(1231)، ومسلم 389 واللفظ له.
(19)رواه مسلم 132.
(20)رواه مسلم 133.
(21)معالم السنن بحاشية مختصر سنن أبي داود للمنذري: 8/12.
(22)يعني الشيخ رحمه الله غير طلاب العلم والعبادة.
(23)الفتاوى: 7/260.
(24)سورة آل عمران: الآية 173، 174.
(25)الفتاوى: 10/553.
(26)رواه مسلم: 2/515.
(27)مسلم 134.
(28)سورة الأعراف: الآيتان 201,200.
(29)سورة البقرة: آية 286.
(30)رواه الترمذي 2988 وقال: حسن غريب, وابن حبان في صحيحه رقم40.
(31)سورة الحجرات: الآية 15.
(32)البخاري الفتح: 11/6664.
(33)رواه أبو داود.
(34)رواه مسلم: 134.
(35)سورة الأنعام: الآية 103.
(36)سورة الشورى: الآية 11.
(37)سورة الحديد: الآية 3.
(38)الأثر رواه أبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: 5/335. قال الأرناؤوط: وسنده حسن.
(39)زاد المعاد: 2/461.
(40)رواه الترمذي: 2066، وأحمد في المسند: 11664.
(41)سورة المجادلة: الآية 10.
(42)سورة النحل: الآية 60.(/5)
علاقات الجيرة الشيخ الأمين
الحاج محمد أحمد*
الإسلام دين الحق والعدل، ولهذا فإنه يقوم على مبدأ الحقوق والواجبات، بدءاً بالعلاقة بين الخالق والمخلوقين، وانتهاءً بالعلاقة بين المسلم وأخيه، فمن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا معه غيره، ومن حقهم عليه إن فعلوا ذلك أن يدخلهم الجنة، وكذلك العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وبين الزوج والزوجة، وبين الجار والجار، وبين المسلم والمسلم.
وهذه الحقوق منها ما هو واجب، ومنها ما هو من فروض الكفايات.
لقد أضاع جل المسلمين كثيراً من هذه الحقوق وقصروا فيها، وأكثر الحقوق ضياعاً حقوق الجوار، خاصة في المدن وفي هذه الأعصار.
وإذا كان أبو حازم رحمه الله، وهو من التابعين، ينعي على المسلمين في وقته ضياع حقوق الجار، حيث قال كما روى عنه مالك: كان أهل الجاهلية أحسن جواراً منكم، وإلا فبيننا وبينكم قول الشاعر:
ونحن لا نطالب الجار بما قرره هذا الشاعر الجاهلي، فهذا مطلب بعيد المنال، عزيز التحقق، ولكن نطالب الجار بالالتزام بما أمر به الشارع، نحو:
1. أن يتعرف عليه إذا حل في جواره.
2. أن يبدأه بالسلام إذا خرج أو دخل.
3. أن يشاركه أفراحه وأتراحه.
4. أن يعوده إذا مرض أو أحد من أهله.
5. أن يشيع جنازته.
6. أن يتفقده إذا غاب أومرض.
7. أن لا يؤذيه.
8. أن لا يتجسس ولا يتحسس عليه.
9. أن يجيب دعوته.
10. أن يصون حرمته.
11. أن يعينه عند الشدائد.
12. أن يواسيه ويكثر بره ويحسن إليه.
13. أن يستر عيبه.
14. أن ينصح له.
15. أن يحسن عشرته.
لقد ورد في ذلك حديث عن معاذ بن جبل، قال القرطبي: سنده حسن، وبيّن أهم حقوق الجار: "قلنا: يا رسول الله، ما حق الجار؟ قال: إن استقرضك أقرضته، وإن أعانك أعنته، وإن احتاج أعطيته، وإن مرض عدته، وإن مات تبعت جنازته، وإن أصابه خير سرك وهنيته، وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزيته، ولا تؤذه بقُتَار قدرك إلا أن تغرف له منها، ولا تستطيل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسد عليه الريح إلا بإذنه، وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها، وإلا فأدخلها سراً لا يخرج ولدك بشيء منه يغيظون به ولده، وهل تفقهون ما أقول لكم، لن يؤدي حق الجار إلا القليل ممن رحم".
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من حق الجار أن تبسط له معروفك، وتكف عنه أذاك.
وقال علي للعباس رضي الله عنهما: ما بقي من كرم أخلاقك؟ قال: الإفضال على الإخوان، وترك أذى الجيران.
وكان يقال: ليس من حسن الجوار ترك الأذى، ولكن الصبر على الأذى.
والجوار ليس قاصراً على السكن، وإنما يشمل الجار في السوق، وفي الزراعة، والطلب، ونحوها.
الجيران ثلاثة:
1. جار قريب مسلم، وهذا له ثلاثة حقوق: حق الجوار، والقرابة، والإسلام.
2. وجار مسلم، وهذا له حقان: حق الجوار، وحق الإسلام.
3. جار كافر، وهذا له حق واحد هو حق الجوار.
وحقوق الجار تتفاوت كذلك بين الجار الأقرب، والأدنى، والأبعد.
وصية الله ورسوله بالجار:
لقد وصى الله ورسوله بالجار حقاً، فقال تعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب".[1]
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "والجار ذي القربى والجار الجنب": (أما الجار فقد أمر الله تعالى بحفظه والقيام بحقه والوصاة برعي ذمته في كتابه وعلى لسان نبيه، ألا ترى سبحانه أكد ذكره بعد الوالدين والأقربين: "والجار ذي القربى" أي القريب، "والجار الجنب" أي الغريب.
إلى أن قال: وعلى هذا فالوصاة بالجار مندوب إليها مسلماً كان أوكافراً، وهو الصحيح، والإحسان قد يكون بمعنى المواساة، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه).[2]
أما الأحاديث التي توصي بالجار وتأمر بالإحسان إليه وتنهى عن أذاه فكثيرة، منها:
1. ما صح عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".[3]
2. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "إن خليلي أوصاني: إذا طبخت مرقاً فأكثر ماءها، ثم انظر أهل بيت من جيرانك، فأصبهم منها بمعروف"، وفي رواية: "فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك".[4]
3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسِن[5] شاة".[6]
4. وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يؤمن[7]، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن؛ قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جارُه بوائقه[8]".[9]
5. وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره"، ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم".[10]
6. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: "إلى أقربهما منك باباً".[11]
حد الجيرة [12]:
ذهب أهل العلم في حد الجوار مذاهب هي:(/1)
1. أربعون داراً من كل ناحية، وهذا مذهب الأوزاعي والزهري.
2. من سمع النداء فهو جار.
3. من سمع إقامة الصلاة فهو جار المسجد.
4. من ساكن رجلاً في محلة أومدينة.
والجيرة مراتب بعضها ألصق من بعض وأولى.
الجار الحسن يُشترى:
حسن الجوار من النعم العظيمة والآلاء الكريمة، ولهذا قال علي: الجار قبل الدار؛ فالدار الطيبة الواسعة القريبة تضيق بساكنيها إذا ابتلوا بجار سوء، والدار الضيقة البعيدة تطيب لساكنيها إذا حظوا بحسن الجوار.
باع أبو الجهم العدوي داره بمائة ألف دينار، ثم قال للمشترين: بكم تشترون جوار سعيد بن العاص[13]؟ فقالوا: وهل يشترى جوار قط؟ قال: ردوا عليَّ داري، وخذوا دراهمكم، والله لا أدع جوار رجل: إن فقدتُ سأل عني، وإن رآني رحب بي، وإن غبت حفظني، وإن شهدت قربني، وإن سألتُه أعطاني، وإن لم أسأله ابتدأني، وإن نابتني جائحة فرّج عني.
فبلغ ذلك سعيداً فبعثه إليه بمائة ألف درهم.
الجار السوء يباع بأبخس الأثمان:
كان أبو الأسود الدؤلي ـ ظالم بن عمرو ـ صاحب علي من سادات التابعين وأعيانهم، واضع علم النحو بتوجيه من علي رضي الله عنه، (من أكمل الرجال رأياً، وأسدهم عقلاً، ويعد من الشعراء، والمحدثين، والبخلاء، والفرسان، والبُخْر، والعُرْج، والمفاليج، والنحويين)، وصاحب ملح ونوادر، من ذلك:
كان له جيران بالبصرة، كانوا يخالفونه في الاعتقاد، ويؤذونه في الجوار، ويرمونه في الليل بالحجارة، ويقولون له: إنما يرجمك الله تعالى؛ فيقول لهم: كذبتم، لو رجمني الله لأصابني، وأنتم ترجمونني ولا تصيبونني؛ ثم باع الدار، فقيل له: بعتَ دارك؟! فقال: بل بعت جاري؛ فأرسلها مثلاً.
ولله در القائل:
حفظ ورعاية حق الجار ولو كان مسيئاً:
ورد في وفيات الأعيان أن الإمام أبا حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله كان له جار إسكافي يعمل نهاره، فإذا رجع إلى منزله ليلاً تعشى ثم شرب، فإذا دب الشراب فيه أنشد يغني، ويقول متمثلاً بقول العرجي:
ولا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وأبو حنيفة يسمع جلبته في كل يوم ويصبر.
وفي يوم كان أبو حنيفة يصلي بالليل كله، ففقد أبو حنيفة صوته، فسأل عنه، فقيل: أخذه العسعس منذ ليالٍ، فصلى أبو حنيفة الفجر من غده، ثم ركب بغلته وأتى دار الأمير، فاستأذن عليه، فقال: ائذنوا له، وأقبلوا به راكباً، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط؛ ففعل به ذلك، فوسع له الأمير من مجلسه، وقال له: ما حاجتك؟ فشفع في جاره، فقال الأمير: أطلقوه وكل من أخذ في تلك الليلة إلى يومناً هذا؛ فأطلقوهم أيضاً، فذهبوا وركب أبو حنيفة بغلته، وخرج الإسكافي معه يمشي وراءه، فقال له أبو حنيفة: يا فتى هل أضعناك؟ فقال: بل حفظت ورعيت، فجزاك الله خيراً عن حرمة الجوار.
ثم تاب، ولم يعد إلى ما كان يفعل، بسبب هذه المعاملة الكريمة ومقابلة الإساءة بالإحسان.
قال الأصمعي رحمه الله: ومن أحسن ما قيل في حسن الجوار:
لقد استعاض بعض الناس من الكفار وغيرهم الكلاب بالجيران، فأصبحوا يربونها، ويعتنون بها، ويوصون لها بالأموال بعد هلاكهم، لما لمسوا من وفائها وتنكر الأهل والجيران لهم.
ذكر صاحب كتاب "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" ابن بسام محمد بن خلف المرزبان المؤرخ، المترجم، الأديب، البغدادي المتوفى 309هـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً قتيلاً، فقال: ما شأنه؟ قالوا: إنه وثب على غنم بني زُهْرة فأخذ منها شاة، فوثب عليه كلب الماشية فقتله؛ فقال: قتل نفسه، وأضاع دينه، وعصى ربه، وخان أخاه، وكان الكلب خيراً منه".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "كلب أمين خير من صاحب خؤون".
وقال كذلك: كان للحارث بن صعصعة ندماء لا يفارقهم، وكان شديد المحبة لهم، فخرج في بعض منتزهاته، ومعه ندماؤه، فتخلف منهم واحد، فدخل على زوجته، فأكلا وشربا، ثم اضطجعا، فوثب الكلب عليهما فقتلهما، فلما رجع الحارث إلى منزله وجدهما قتيلين فعرف الأمر، فأنشد يقول:
فاحذر أخي المسلم أن يكون الجاهليون أحسن جواراً منك، بل والكلاب، واحذر أن تكون جار سوء، واحرص أن ترعى وصية ربك ورسولك في جيرانك، واجتهد أن يكون لك في رسولك، والصحب الكرام، والسلف العظام، والجاهليين الراعين لحق الجوار الأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة، والمثال الذي يحتذى.
ما نسمعه من قصص وحكايات عن سوء الجوار، وغلظتهم وغفلتهم عن حقوق إخوانهم المسلمين يندي لها الجبين، ويشيب لها الوليد، فكم سمعنا أن شخصاً مات في شقته ولم يعلم جيرانه بوفاته حتى تجيّف ويشموا رائحة ذلك فيبلغوا الشرطة فتأتي لتكسر الباب.
وأن شخصاً مات أبوه أو ماتت أمه ولم يجد من جيرانه من يعزيه، دعك من أن يعينه على تجهيز الميت وحمله وتشييعه ودفنه إلا عن طريق الأجرة، وهذه كلها من الحقوق الكفائية للمسلم على إخوانه المسلمين، وبالنسبة للجيران اللصيقين من الواجبات العينية.(/2)
وكم سمعنا أن جاراً يمرض ويذهب إلى الاستشفاء خارج البلد ولا يسمع به جيرانه الأقربون.
هذا بجانب الكيد، والتجسس، والإيذاء الحسي والمعنوي، والحسد، وغير ذلك.
فهؤلاء وأولئك لا بوصية ربهم ونبيهم عملوا، ولا بأخلاق أجدادهم تمسكوا، ولا من مسبات الأحاديث خافوا، قال حاتم الطائي مخاطباً أزواجه:
أذى الجيران وحسدهم والبغي عليهم من الكبائر:
الواجب على الجار أن يحسن إلى جاره، وأن يصبر على أذاه، ويسر لنفعه، ويحزن لضره، فإن لم تستطع على ذلك فأضعف الإيمان أن تكف عن جارك أذاك، وحسدك، وعداوتك.
وأنت أخي الكريم إذا ابتلاك الله بجار سوء، حسود، ظلوم، فعليك أن تصبر على أذاه، وأن تحسن إليه، فالإحسان يزيل العداوات ويصيرها صداقات، واعلم أن المؤمن مبتلى، بل "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل"، كما أخبر الصادق المصدوق، فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه.
فقد يبتلى الصالحون بالطغاة الظالمين، أوبالسفهاء الجاهلين، أوبالجيران المؤذين الحاسدين الحاقدين، أوبالأقارب المعادين المخاصمين، أوبالأبناء العاقين، أوبالنساء الخميم الرميم[15]، أوبالمنافقين الفاجرين، وكل ذلك لحكمة يعلمها هو، لدرجة يرفعها، أولخطيئة يكفرها، إذا صبر العبد واحتسب.
قال الحسن البصري رحمه الله: إلى جنب كل مؤمن منافق يؤذيه.
ولهذا قيل: أزهد الناس في عالم جيرانه.
وقيل: الحسد في الجيران والعداوة في الأقارب؛ لغلبة ذلك عليهم.
قال رجل لسعيد بن العاص: والله إني لأحبك؛ فقال له: ولمَ لا تحبني ولست بجار لي ولا ابن عم.
وقيل: إن أحسد الناس لعالم وأنعاه عليه قرابته وجيرانه.
وأخيراً نقول كما روي عن داود عليه السلام أنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من جار سوء، عينه ترعاني، وقلبه لا ينساني، ونسأله سبحانه أن يوفقنا للقيام بجميع الحقوق، وأن يغفر لنا تقصيرنا في ذلك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(/3)
علاقة أنواع التوحيد المختلفة ببعض ...
طريق القرآن ...
...
تقدم في الحلقة السابقة أن أنواع التوحيد ثلاثة وقيل: إثنان وعرفنا أنه لاتعارض بين التقسيمين وأنهما متوافقان، وأن كليهما حق لا مرية فيه.
وتقدم أن أعظمها هو توحيد الألوهية، وأنه هو الذي جاءت الرسل للدعوة إليه، وأنه لا قوام للإعتراف بالربوبية إذا لم يكن العبد معترفاً بألوهية الله عز وجل، أو جاء بما ينقض صرحها، ويخدش فيها
?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ?[الانبياء:25]
وهو المقصود من خلق الخلق، والحكمة من إيجادهم، وقال الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ? [البقرة:21].
وقال: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ?[الذريات:56]
وهذا التوحيد هو الذي أنكرته الكثرة الكاثرة من البشرية مع اعترافها بالله رباً خالقاً رازقاً قال تعالى:?وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ?[يوسف:106]
أي له في ألوهيته.
وقال تعالى: ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ?[لقمان:25]
ولكن ما هي علاقة هذين التوحيدين وهما هما: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية بتوحيد الأسماء والصفات ؟
لتوضيح هذا وتقريبة نقول ؟
يجب عليك أن تعلم أن كل موجود يتصف بصفات تخصه، وأن هذا موجود الموصوف بكذا وكذا قد يكون له أسم أو أكثر، وفي خلال هذا الوجود الذى انبثقت عنه هذه الصفات ثبت له حقوق واجبة له، وعليه بحيث تحدد العلاقة التي بينه وبين الموجود الأخر.
وهذه الوصفية والاسمية والوجود مترابطة فيما بينها، متكافلة بحيث لا يمكن الفصل بينها وإلا كان في إهدار واحدة منها إهداراً لغيرها أو لكلها.]فمثلاً عندنا زيد من الناس ثبت له بناء على وجوده وكذا صفات تستتبع ذلك الوجود، بحيث أنه يترتب على هذا أن إنكار الوجود له يتبعه إنكار الاسم والوصف إذ أنه ليس من المعقول أن تثبت صفات لذات لا وجود لها في الخارج.
وإنكار ما وصف به من طول أو قصر أو قبح أو حسن أو سواد أو بياض مع ثبوته له هو هدم لكيانه وفصل بينه وبين ما هو جزء قائم بذاته لا ينفك عنه.]وعلى هذا فإذا اعترفت بوجوده وأسمه وصفاته ولكنك لم تعطه الحق أو الحقوق الواجبة عليك له، أعتبر ذلك هضماً لحقه وإهداراً لما يجب عليك نحوه.
والأمر كذلك في حق ربنا تبارك وتعالى، بل هو أعظم وأجل وأكبر.
? وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى?[النحل:60] سبحانه وتعالى.
وتوضيح هذا بامرين:] الأول: ثبوت ما تقدم في حقه سبحانه وتعالى.
الثاني: الفروق بينه وبين مخلوقاته في هذه الحيثية.]أما الأمر الأول، فإن الله خالق الخلق جميعاً زواتاً وأفعالاً،
قال تعالى ?وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ?[الصافات:96] هذه حقيقة مسلمة إلا من طوائف شذوا عن مخلوقات الله تعالى فأنكروا وجوده وخلقه مكابرةً، قال تعالى:?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ?[الزخرف:9]
?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ?[العنكبوت:63] ]بل إنك تجد ضمن ثنايا هذا الاعتراف اعترافاً يصفه الخلق والعلم والعزة، وكذا الألوهية بمفهومها الخاطئ عندهم.
فكان الاعتراف بوجوده وكونه رباً خالقاً اعترافاً بثبوت صفة الخلق والعلم والقدرة والحكمة والعزة والمشيئة وذلك لأن هذا الخلق المبدع في بديع وهذا النظام المحكم في حكمه وهذا التكوين في عليم وهكذا.
وعليه فلو إنك نفيت صفة في هذه الصفات أو اسماً من هذه الأسماء كان هذا منك إفتياتا على من ثبت له، بل افتراء وكذلك الأمر إن لم تعترف بوجوده فإنك تلحق بهذا وذاك بمن أنكر الربوبية فتدخل مع الشذوذ المتقدم في دهرية وفرعونية وملاحدة .
وكنت بهذا مكابراً لعقلك وفطرتك التي فطرت عليها.]وأما الأمر الثاني وهذا الفروق بينه سبحانه وتعالى وبين مخلوقاته فيكفي فيها إجمالاً كونه خالقاً وهم مخلوقون، إذا على الفرق بين الخالق والمخلوق سَهُل فهمُ هذا الباب.(/1)
أما من حيث التفصيل فالوجوه كثيرة جداً نذكر منها ما يتعلق بموضوعنا:-]أولاً: أن هذه الأسماء والصفات جاءت بذكرها والتدليل عليها كتاب الله عز وجل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. تنزيل من حكيم حميد.]والآيات القرآنية في هذا كثيرة جداً، بل إنك في غالب رؤوس الآيات تجد ذكر صفة أو صفتين منها. قال تعالى : ? وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ? ? وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم? ? وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ? ? وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ? 0000 وغيرها.]ثانيا: إن إنكار هذه الأسماء والصفات يؤدي إلى الكفر كما هو الأمر في إنكار الألوهية والربوبية، فال تعالى: ?وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ? ?لأعراف:180?
وقال تعالى: ?فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ?[يونس:17] ]ثالثاً: أن إنكار بعضها أو كلها في الحكم سواء كمن أنكر كلمة أو آية من القرآن فإنه يكفر، ويكون بمنزلة من أنكره كله، وكذلك الأمر في هذا الباب فمن أنكر صفة الحكمة وأسم الحكيم مثلاً كان كافراً منكراً في الحكم لجميع الأسماء والصفات.
قال تعالى في حق الحواريين : ?إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[المائدة:112] ]ثم قال: ?قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ?[المائدة:115]
وقال تعالى: ?لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ?[آل عمران:181] ]رابعاً:أن الاعتراف بها مع نقصها بناقص يؤدي إلى الكفر كمن يعترف بانفراد الله بعلم الغيب وأنه علام الغيوب ثم يذهب إلى الرافين والكُهان والسحرة، والأدلة على هذا أشهر من أن تذكر.]قال تعالى: ?وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ? ?البقرة:102?
خامساً: أن أسماء الله تعالى مقتضية لصفاتها وصفاته مقتضية لأسمائها بخلاف الإنسان وتوضيح ذلك أن يقال: أن الإنسان قد سُمي أسامة وهو من أجبن الناس، وقد سُمي كريماً وهو من أبخل الناس وقد سُمي عزيزاً وهو من أذل وأخس الناس، فلا علاقة بين الأسم والإتصاف به.]بخلاف الأمر في حق الله تعالى فهو رحيم أسم وصفه، عزيزاً أسم وصفه، وهكذا جميع أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى.
سادساً: من جهة ثبوت الحقوق والواجبات، إن الواجب الثابت في حق الله تعالى لم يوجبه عليها أحد ابتداء بل هو تعالى أوجبه على نفسه، وهو الدال على كمال حكمته ومشيئته وعلمه، والدليل على هذا عدة آيات وأحاديث منها، الحديث القدسي المشهور:
" يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما " رواه مسلم عن أبي ذر.
وقوله كما في حديث معاذ المتفق عليه:" وحق العباد على الله ألا يعذبهم " أي إذا عبدوه ولم يشركوا به.
وقال تعالى: ?كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ? [المجادلة:21]
وأما حقوق غيره ومنها ما تقدم في حديث معاذ فهي تفضل وإكرام منه سبحانه وتعالى والدالة على تمام وكمال منته.
والحمد لله رب العالمين
المقال القادم إنشاء الله:
ما معنى: " فدعوه بها"
كيف يعبد الله بأسمائه وما مدى ذلك.(/2)
علاقة الأخوة .. أسرار الروح
أمين حسن أحمد يس*
لقد كان من قدر الله تعالى أن تسبق الحياة الإنسانية وجودها في الأرض , ذلك أن العلاقات الروحية قد قامت حين تعارفت الأرواح في عالمها العلوي على الحب و الإخاء , و لما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة شرع في بناء مسجده الذي يصنع فيه البشر , ثم أقام المجتمع الإنساني على أساس من الإخاء الروحي القائم على المبادىء , و كانت التعزيزات من مسجده المبارك تصل تباعا لمجتمع الإخاء الروحي تمده و تغذيه بالعناصر الصالحة , فالعلاقات الإنسانية تستمد وجودها من الإنسان نفسه ... ذلك الإنسان الذي قويت فيه الروح , و عندما يجتمه آدميان بروحيهما في الله يبرم بينهما عقد الإخاء و تقوم بذلك علاقة لها حرمتها و أسرارها و رصيدها من الأفكار و المشاعر , و إن تفاوت العلاقات الروحية من حيث القوة و الضعف يأتي بتفاوت مافي العلاقة من .." حب " .. , و إن الحب هو الشيء الوحيد الذي لا يدعي ملكيته أحد أو يزعم أنه يتصرف فيه كما يشاء , ذلك أنه مما أختصت به الذات الإلهية نفسها , و أنه لأكرم عند الله و أكرم على الله من أن ينزل لتلعب به أيدي البشر العابثة , فالله سبحانه يعطي كل علاقة روحية على قدر معناها و سموها , و مع ذلك يبقى سرا تحسه القلوب و لا تدرك كنهه العقول .
إن من عجيب أسرار العلاقات الإنسانية أنك لا تجد علاقة تشبه الأخرى , و ما ذاك إلا أن هناك مشاعر و أفكاراً لا تصلح إلا أن يعيشها إنسيين من بني البشر إذا تجاوزتهما لغيرهما فسدت ... فأنت تكون مع زيد على حال و مع عبيد على حالة أخرى , و ليس هذا من قبيل النفاق الإجتماعي و إنما هو جانب من نفسك لا يطلع عليه إلا شخص واحد , و هنا تلمح سر إخاء النبي صلى الله عليه و سلم بين اصحابه أخوين .. أخوين , و لا يظنن ظان أن ذلك يفتت من وحدة المجتمع بل على العكس إنه يعمل على تقويتها , فأنت تجد جزءاً منك عند فلان من الناس و جزء آخر عند علان , و هذا بالطبع ينسحب على غيرك من افراد المجتمع و بهذا تجد أنك لا تستطيع أن تنفصل عن مجتمعك لأنك موزع فيه , ثم إن العلاقة على هذا النحو تعمل على إصلاح الفرد , فالذين يعيشون بجوانب من أنفسهم في علاقاتهم مع الآخرين يعملون على إصلاحه ف( المؤمن مرآة اخيه ) و هذا يصلح فيك جانب و ذاك يصلح فيك الجانب الآخر , و هكذا تتبدى في المجتمع مظاهر الترابط و القوة و العافية .
إن الناظر لأصحاب المبادىء في الألفية الثالثة التي يعيش اهلها بأدمغتهم أكثر مما يعيشون بأرواحهم , تجد أن الإخاء بينهم قد تحول إلى نوع من التهويم و التوهيم الذي يعمل خارج إطار الزمان و المكان , كأنما أحدهم يرسم لنفسه صورة في خياله غير مرئية ينزلها في الواقع المعاش , ثم إذا نزع و أفاق من غشيته و إسترجع و حوقل و بسمل , ليس لأحدهم وجود ثابت .. أخ الأمس عدو اليوم ... من رأيته قديساً وجدته إبليسا .. و من حسبت أنه أخ الروح رجع بوجوده المادي الحقيقي إلى صاحبه الحميم " الدرهم " ... مجتمع غير موثّق العرى بالرباط السحري المقدس (....) هو إلى ما قيل عنه " مجتمع الكراهية " ...
إن الألى واخيتهم ... هم ناصبون لك الفخاخ
إن المحبة الحقيقية ليست إلا لمن نضج و اكتمل و صار رجلا .. يقول النبي الكريم صلى الله عليه و سلم " ... و رجلان تحابّا في الله , إجتمعا عليه و تفرقا عليه ..." ..
هل المزاجيون أصحاب الغرائز بشرا يصلحون لمجرد الإخاء الإنساني العام فضلا عن الأخوة الروحية القائمة على المبادىء أم هل للمتوحشين القتلة مجالاً في عالم الروح ؟! .. إنهم ليس لهم إلا أن يسجنوا في حقب التاريخ المظلمة(/1)
علاقة الزواج أمين حسن أحمد يس*
ضمّني مجلس أُنس في ساعةِ صفاءٍ مع الدكتور جعفر شيخ إدريس، وكان من المواضيع التي طرقناها موضوع (الزواج)؛ فحدثني عن أحد الأزواج أنه تزوّج؛ ليس لرغبة في الزواج، وإنما حمله على ذلك أن الناس يتزوّجون!!..
ما أكثر أولائك الذين يقدمون على الزواج كمظهر اجتماعي، وشكل يظهرون به للناس؛ دون أن يدرون به حقيقة أو معنى؛ يأتي أحدهم وقد اختزل وجوده في جانبه الغريزي؛ معرضاً في ذلك عن إنسانيّته وعن وجوده كرجل يبحث عن امرأة، وزوج يسعى في تكوين أسرة، وأبٍ يتحمّل تكاليف الأبوّة؛ فما أن يفيق من سكرة الشهوة إلا ويفجأه أمر لم يُعِدّ له عدّته؛ ويصطدم بواقع ليس هو فيه مستعد.. أراد المسكين أن يداري فشله كإنسان بالزواج فافتضح كزوج.. وما تزايُد نسبُ الطلاق إلا مؤكداً ودليلاً على ذلك الإخفاق الكبير الذي مُني به كثير من الأزواج؛ فلم يتتطلقا طلاق الأجساد؛ وإنما تطلقا طلاق الأرواح؛ فهام الجسد بلا روح؛ ليشبع غرائزه كيفما اتفق له؛ لأنه لم يكن قد التقى بإنسانة ليكن بينهما العفة والأمانة والوفاء والصيانة..
والذي لم يفعل هذا ولا ذاك فرَّ خارج البلاد لعشرات السنين تاركاً زوجه وولده..
والذي لم يهرب إلى الخارج هرب إلى النوادي، وجلسات السمر، و...، و...؛ ليعود آخر الليل إلى البيت الذي لا يراه بيتاً؛ فينوم نوم الجيف..
أقل القوم شراً من يعترف أنه أخطأ بإقدامه على هذه الخطوة؛ ويكتفي بإرجاع الأم وأطفالها إلى بيت أبيها؛ لأنه عجز أن يوفر لها الجوَّ الأسري الذي كانت تعيشه؛ ليتفرغ هو لحياة التشرد والتسكع التي كان عليها!!.. المسكين لم يُعدَّ ليكون أباً؛ ولا يعرف معنى أن يكون له بيت وأسرة!!.. إن هذا الفشل أدى بدوره إلى خروج أجيال مهزوزة؛ لا طموح لها في الحياة، ولا رغبة!!.. وليس على المجتمع إلا أن يرجع خطوات إلى الخلف باستيعابه - طائعاً أو مكرهاً - لهذه الأجيال التي تقلص في أذهانها مفهوم الأسرة؛ جراء ما لقيته إِبَّان طور نشأتها الأولى في البيوت التي كان لها جدران ولم يكن لها وجدان!!..تنشأ أجيال مهزوزة لا طموح لها في الحياةولا تعرف معنى البيت أو الأسرة.
وما عزوف الشباب عن الزواج إلا أثراً من آثار تلك النشأة، مع عوامل أخرى!!..
ما الذي يدفعه للرغبة في الزواج وقد وجد والداه يعيشان بلا فرح ولا معنى؟!، أم كيف يجد الزواج مكاناً في نفسه ونفسه غائبة عنه؟!؛ أنّى له أن يبني بيتا في حياة لا يعرف من معانيها شيئاً؟!!..
ماذا سيبقى له بعد ذلك إلا الغريزة؛ فلا يرى في المرأة إلا الشهوة، وهي لاترى فيه غير ذلك!!.. فلماذا يقدم على الزواج إذاً؛ وفي كل يوم وليلة هو عروس يدخل على عروس؟!.. وبالمفهوم الغريزي هو أفضل ممن له عروس واحدة!!.. وإذا ما أراد الشباب تبريراً لهذا الوهم غلّفوه وزوّقوه بالحقيقة؛ ليسرقوا من الإنسانية أول رباط مقدس؛ فيقولون هو الزواج (العرفي)!!..
ولكن يكفيك لأن تتأكد أنها ليست علاقة إنسانية: ان تنتظر حتى يولد بينهما إنسان؛ لترى على الفور: كيف يقذفون به بكل قسوة؛ ويرمونه في العراء؟!؛ ليواجه بذلك مصيراً أسوأ مما صاروا إليه!!.. وملجأ (المايقوما) على ذلك شاهد..
دَرَجْتُ في كثير من الأحيان أن أسال الأزواج السابقين منهم واللآحقين عن المعاني التي خرجوا بها من الزواج!؛ حتى قال لي أحدهم: هل أنت قيّم على مشاعر الآخرين؟!..
إن الذي أراه هو أن معاني الحياة الزوجية لن تحصل إلا بين رجل وامرأة فَهِمَا معنى وجودهما كرجل وامرأة!!.. وغياب هذان المعنيان الأصليان هو العامل الأساس والسبب الرئيس في فشل الحياة الزوجية!!..
قال أحد الأزواج مخبراً عن علاقته بزوجه: (أنا لا أراها امرأة، وهي لا تراني رجلاً، والذين أنجبْتُهم منها لا أحس بأنهم أولادي)!!..
امرأة ظلّت تبحث عن الرجل في ثلاثة أزواج كانت تجد مع كل واحد منهم مسحة من رجل ومسحة من إنسان وبقايا من إرث آدمي غابر، مع خصال كثيرة لا تمت إلى الرجولة بصلة قريبة ولا بعيدة ولا تنتمي إلى حقيقتها!!.. وهكذا كانت تتطلق من هذا؛ لتتزوج من ذاك؛ آملة الحصول على رجلها!!..
قلتُ: لو اجتمعتت في شخص واحد صفات الرجولة التي وجدتها لَتَكَوَّن منها الرجل الذي كانت تفتش عنه؛ ولم تحتج مع المسكينة إلى تلك التجربة المريرة التي عاشتها!.
((( الرجل ))) كلمة لا تزال تحتفظ بسحرها وجمالها الذي لا يبلَى مع الأيام، ولكن لا يُرى ذلك السحر والجمال إلا بعين أبصرت معنى الرجولة.
إن الله سبحانه وتعالى خص هذا الإنسان من بين خلقه؛ بأن خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأودع فيه إبداعه وجماله؛ ليتجلّى هذا الإبداع والجمال في رجل؛ منتصب القوام، حسن الخلقة؛ ليدل ذلك على أن الرجولة هي أجمل ما في الإنسان، وأكمل ما في الكون!!..
والمرأة لا تفتتن ببنات جنسها قدر افتتانها بالرجل؛ لأنها تعلم في قرارة نفسها أنه أجمل منها وإن بدى في صورة ليست جميلة، وإن كانت في صورتها أجمل الجميلات..(/1)
ولو أن الجمال الذي في الرجل هو الجمال نفسه الذي في المرأة لتعاملت معه المرأة بالنّدّية كما تتعامل مع بنات جنسها!!.. تفتتن المرأة بالرجل لأن حلة جمالها المعنوي تحاك خيوطها في قلبه.
إن غياب معنى الرجولة لم يخلق أزمة بين الرجل والمرأة فحسب؛ بل تعداه ليخلق أزمة بين الرجال أنفسهم!!.. قلت لأحدهم: إن علاقتنا!!..؛ فانبرى يقاطعني؛ قائلاً: عن أي علاقة تتحدث؟!.. ألا تجد أمرأة تحبَّها فتريد أن تحبني؟!.. قلت: إن في الرجولة من الجمال ما يكفي لأن يُفْتَتَنَ به كرجولة..
وفي سياق ذلك دخلت في وساطة لإصلاح ذات البين فقلت لأحدهم: ما الأمر؟!.. فقال: لا يسأل عني، ولا يهتم لأمري، ثم سألني قائلاً: هل الحب للمرأة فقط؟!؛ فقلت: لا؛ ولكن الكثيرين علاقتهم بهذه الكلمة معقدة!..
قال لي أحد الأزواج: إنه مكث شهرين لا يدري أيعيش مع رجل أو امرأة؟!..
ولعل هذا ما حملني أن أسأل بعض النساء عدة أسئلة تتعلق بهذا الشأن؛ هل تمنيتِ أن تكوني رجلاً؟!؛ ولماذا؟!.. ماذا تعني لك الصورة والقوام الذي في جسدك؟!.. الإجابة على السؤال الأول كانت مرضية نواعاً ما، ولكنها لم تبلغ كل الرضى.. تراوحت الإجابة الأولى بين من قالت: (إنه اختيار الله لي وهو المناسب)، ومن قالت (إنها لم تتمن أن تكون رجلاً؛ لاعتزازها بوجودها كامرأة)، أما بالنسبة للسؤال الثاني فقد كانت كل إجاباته تقول: (إنها هي الصورة والقوام نفسها)!!.. لم تقل واحدة منهن: (إنني إنسانة؛ قبل أن أكون في هذا القالب المادي!، وإنما أعطاني له ربي لأعيش به إنسانيتي في الأرض، وأحافظ عليه محافظتي للإنسان الذي فيه)!!..
لقد اقتضت المشيئة الإلهية ألاَّ يكتشف المرأة إلا الرجل، وألاَّ يعرف قدر الرجل إلا المرأة!!.. فالرجل الحقيقي هو من يفتش في النساء عن المرأة، ويفتش في المرأة عن المرأة تلك التي تولد فيه من جديد؛ فيرى فيها ما لا يراه الآخرون!!..
لا أدَلَّ على معرفة قدر الرجل من قول ملكة سبأ: (يا أيها الملأ إني أُلقي إلي كتاب كريم).. فقدر الكتاب من قدر الكاتب!!.. ولقد عرفت حواء قدر آدم حين صار بها أبا للبشرية ، وخليفة في الأرض.
يبقى نجاح الحياة الزوجية في الأرض مرهون بنجاح الرجل والمرأة؛ لأنه بهما تتحقق آية الله: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقومم يتفكرون).. عندها تلتقي الأرواح؛ ويتحول الجسد بفعل روحه إلى روح!!.. ولقد تحقق هذا في حياة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مع زوجاته.
هذا هو الزواج، وتلك هي معانيه!!..
الزواج الناجح يسير وفق هذه المعاني!!..
وإن الحياة البشرية سترجع القهقرى إن لم تلد هذه المعاني من رحمها ولادة طبيعية!!..(/2)
علاقة الزوجية الخاصة ... رؤية مشتركة
يعتبر وجود علاقات جنسية سليمة مشبعة بين الزوجين أمرًا أساسيًا في كل زواج سعيد ناجح , ذلك أنه إذا كان السكن هدفًا من أهداف الزواج كما ورد في الآية {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] , فإن المشكلات الجنسية منغص كبير لهذا السكن على المستويين النفسي والجسدي.
وقد أثبتت الدراسات النفسية أن السكن والمودة والرحمة بين الزوجين تزداد قوة بوجود توافق جنسي بينهما ، وذلك لأن العلاقة الجنسية بحكم طبيعتها مصدر نشوة ولذة ، فهي تشبع حاجة ملحة لدى الرجل والمرأة على السواء ، واضطراب إشباع هذه العزيزة لمدة طويلة يسبب توترًا نفسيًا ونفورًا بين الزوجين إلى الحد الذي جعل كثيرًا من المتخصصين يفصحون بالبحث وراء كل زواج فاشل أو متعثر عن اضطراب من هذا النوع.
وهنا تتوارد الأسئلة:
ما سر هروب الزوجات ليلاً من فراش الزوجية ؟
هل بسبب عدم الوصول إلى درجة مرضية من الإشباع الجنسي لدى الطرفين ؟
أم في ازدياد النشاط الجنسي لدى طرف بدرجة أكبر من الطرف الآخر ؟
هل يترك اللقاء الأول أثرًا سيئًا في نفوس الزوجين ؟
هل يمكن تعلم فن العلاقة الجنسية ؟ وكيف ؟
هل هناك فرق بين الرجل والمرأة في المتعة ؟
وهل تؤثر العلاقة الجنسية على العلاقة العاطفية بين الزوجين ؟
الرؤية المشتركة في العلاقة الخاصة
قد يسأل بعض الأزواج عن مواصفات العلاقة الجنسية الناجحة ؟ ولا شك أن العلاقة الجنسية الناجحة بين الزوجين هي التي تتم ضمن جو من المحبة والاحترام والتقدير بين الزوجين ، وليس في جو من السيطرة من طرف على الآخر.
وقد أشارت الدراسات إلى أن بعض الصعوبات الجنسية يمكن أن تحدث عند عدد كبير من الأزواج ، وحتى الذين تجمع بينهما علاقة زوجية سعيدة في الجوانب الأخرى للعلاقة الزوجية.
وقد وجد أيضًا أن معظم هذه الصعوبات تتحسن بشكل جذري بمجرد أن يحاول الزوجان إعطاء متسع من الوقت للحديث واللمس وعدم التسرع في هذا الأمر.
إن هذا البطء في التعامل يشعر كل طرف أن الطرف الآخر سعيد جدًا من هذه العلاقة ، وأن يعطيها كل وقته واهتمامه ، وأنه لا شك مستمتع بهذه الصحبة والعلاقة ، إن هذا الاطمئنان يعطي الطرفين أرضية طيبة لبناء المحبة والارتباط.
وفي مثل هذا الجو من المحبة والتفاهم يستطيع الزوجان الحديث فيما يرغبان به ، وما يسعدها في علاقتهما الزوجية والجنسية على حد سواء وقد وُجد أن الأزواج أكثر سعادة عندما يتمكنون من المصارحة في الحديث معًا عن الجماع ، وعما يشعر به كل منهما ، وما يريده ويرغب به ، وعن مشاعره وخيالاته ، وعن المشاعر والمواقف السلبية ، لكن مع الانتباه إلى التفريق بين مشاركة هذه التجارب السلبية مع الطرف الآخر ، وبين الدخول في مشاجرة ونزاع وجدال ، فكل المشكلات قابلة للحل ويمكن نقاشها ، ولكن في الوقت المناسب ، وليس وقت المداعبة والاقتراب.
وأيضًا على الزوجين الاتفاق على موعد اللقاء ، وهل يكون بتحديد موعد مسبق ؟ أم يُترك للظروف فحيثما شعر الزوجان بالرغبة وفيضان العاطفة والقرب والأنس فثم اللقاء.
إن أهم ما في الأمر هو أن يتحدث الزوجان مع بعضهما فيما يهمها من غير الشعور بالحرج من هذا الحديث ، وأن لا يسكتا عن الأمر على افتراض أن الطرف الآخر سيدرك الأمر من نفسه دون كلام.
عزيزي القارئ ، وإذا كنت تنتظر منا الإجابة عن الأسئلة التي أوردتها في أول المقال ، فإن الإجابة الشافية لا بد أن تبحث عنها وتتعلمها بنفسك ، وأرجعك إلى مقالات تفيدك في الوصول إلى الهدف المطلوب وقد صدر جزء كمها علبى موقعنا والباقي ياتي تباعا لتجد فيها الإجابة الشافية:
1ـ المقدمة في العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة.
2ـ أثر العلاقة الجنسية على العلاقة العاطفية.
3ـ الفرق بين الرجل والمرأة في المتعة.
فائدة القول
إن العلاقة الجنسية الناجحة التي تروي ظمأ كلاً من الطرفين ، باب من أبواب السعادة والراحة النفسية والقبول والرضى عن الآخر ، الذي يولد ارتباطًا ومحبة عاطفية ووجدانية عميقة تسمو بعد ذلك عن كل شيء وإن كانت العلاقة الجنسية تمدها بالتجدد والشوق للآخر.
وهذه العلاقة مع فطريتها وقابلية كل من الرجل والمرأة لممارستها؛ لأنها سنة الحياة أودعها الله في البشر ، ولكن المتعة والسعادة فن يجب تعلمه من الرجل والمرأة حتى تتحول تلك الممارسات إلى أنشودة حب وسعادة وعفاف وإحصان لكل من الرجل والمرأة وكل محطة من محطات هذا اللقاء له فنه وأدبياته وممارسته.
ولا ينس الأبرار حفظ الأسرار
ومن الرؤية المشتركة بين الزوجين حفظ كل واحد لسر الآخر ، فكل واحد من الزوجين مطالب بكتمان ما يراه من صاحبه أو يسمعه من حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته والمرأة تفضي إلى زوجها ثم ينشر أحدهما سر صاحبه].(/1)
فإن كان إفشاء السر بصفة عامة من المحرمات؛ لأنه أمانة ، فإن إفشاء أسرار الزوج والزوجية وخاصة أسرار الفراش يعد من أكبر المحرمات التي نهى عنها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم , فكيف نمر على الآية: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] , وكيف نمر على الآية: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] ثم لا نتوقف لنتأمل جوانب العظمة وملامح الروعة وقسمات الإعجاز في هذه اللفظة البديعة [لباس] إنها تلقي على الزوجين ظلالاً ممدودًا من الستر والحماية ، وتفيض عليهما بكل معاني الصيانة والعفاف ، وهذه المعاني الجميلة الرقيقة لا يتحرك لها ولا ينبض بها إلا قلب قرآني يعيش صاحبه معاني الزواج الرائعة في ظلال القرآن ، وعلى منهج الإسلام.
ونحن نتساءل كيف يجرؤ مسلم متدين أو مسلمة متدينة يعرفان حقًا قدسية [الأسرار الخاصة] وخطورة إفشائها.
كيف يجرؤ إنسان ذو خلق كريم تجري في عروقه دماء الحياء أن يطلق لسان بوصف ما يستره ذلك [اللباس].
إن مما يقدح في رجولة الرجل وكرامته ومروءته أن يجعل الأسرار بيته بضاعته معروضة للناس بلا ثمن على قارعة الطريق. والمرأة العفيفة المتدينة [الراعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها] تحمي بيتها من لسانها أن ينفلت ليصف ما كان مستورًا داخل البيت لم يره أحد ، وهي إن صانت أسرار بيتها فهي تسقي بماء الأمانة والعفاف شجرة [السكن] الذي سينعم بظلالها الوارفة جميع أفراد الأسرة.
إن البيت أخص ما يملك الرجل والمرأة ، فيه يجدا السكن والأمن الأمان ، وفيه يضعا حوائجهما وخصوصياتهما ، وما لا يحبان أن يراه أو يعلمه الناس حتى ولو كانوا أقرباء وذوي رحم.
وليس أعجب من أن يتفنن الناس في ستر جدران البيوت وحوائطها بألوان عديدة من [الستائر] ثم هم يكشفون عوراتهم بألسنتهم.
ويبيح الشرع الإفصاح بالأسرار الزوجية في حالات منها:
1ـ طلب الفتوى ممن هو أهل لها.
2ـ استشارة أهل الرأي [الاستشاري الأسري] في حالة الخلافات الزوجية.
3ـ تعلم فنون العلاقات الزوجية في حدود الشرع والأدب الإسلامي الر(/2)
علاقة الغرب بالإسلام
بين الاستشراق "الظاهر " و" الكامن" و" الساقط "
نيويورك أ ف – ب إسلام أون لا ين نت 14\1\2004
( أدان الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان كل أشكال الكراهية والتمييز وبشكل خاص ضد المسلمين، معتبرا أن ظاهرة الإسلاموفوبيا (الخوف أو العداء للإسلام) ليست جديدة، ولكنها في صعود في الوقت الراهن في الغرب؛ وهو ما يتطلب وضع حد لها.
وحذر عنان الفائز بجائزة نوبل لعام 2001 من أن العداء للإسلام والسامية يمثلان "تحديا لروح التوحد بين الشعوب"، في محاضرة تذكارية ألقاها بمقر لأمم المتحدة في نيويورك عن الشاعر الأسكتلندي "روبرت برنز" - الذي وصفه عنان كمدافع عن التغيير السياسي والاجتماعي ومناضل عالمي "من أجل أن يعيش كل الناس معا في سلام".
وأشار عنان إلى أنه منذ هجمات 11 سبتمبر 2001 ضد الولايات المتحدة، فإن "الكثير من المسلمين وبشكل خاص في الغرب وجدوا أنفسهم أهدافا للاشتباه والتحرش والتمييز".
وذكر أن أناسا كثيرين جدا بدءوا ينظرون للإسلام "كدين مناهض للغرب"، في الوقت الذي انتشرت فيه "الأفكار المشوَّهة عن الإسلام، بينما ظل الجهل بحقيقته عميقا إلى درجة الخطر" ) .
هذه شهادة بأصالة عداوة الغرب للإسلام في الغرب ومحاصرته له صادرة من أعلى منبر يطل على العلاقات الإنسانية فوق الكرة الأرضية
هذه إدانة للغرب في عداوته المتجذرة للإسلام صادرة من فم رجل تسمع شهادته كما تسمع إدانته ، في إطار لاريبة في موضوعيته وحياده وصدقه وعلمه و نقاء غرضه كما لا ريبة في تعرضه للعقاب القريب ممن أدانهم ثمنا لتصريحه .
شهادة تاريخية قام " الاستشراق الساقط" – وما أدراك ما " الاستشراق الساقط" ؟! - بمحاصرتها في إعلامنا فلم يسمح بتسريبها – وفقا لمتابعتنا - إلا في جهة شبه معزولة مثل قناة الجزيرة أوإسلام أو لاين نت ؟!
لماذا ؟ لماذا يا أصحاب الضمائر ميتة أو حية ؟
أما زلتم تصرون على أن نختزل هذه العداوات التي تهطل فوق رءوسنا بسمومها من أنحاء الغرب في سوء الفهم منهم ؟ أو فى سوء العرض منا ؟ كما يريدنا " الاستشراق الساقط " أن نفعل ؟
أم هو الإعلام الغربي العتيد العنيد الذي يقوم بدور الحارس على ما قام به " الاستشراق الظاهر " في عملية سجن الإسلام داخل سور الشرقنة ؟
وإذن فإنه لمن المفارقة الصارخة أن نطالب دعاة الإسلام بأن يخترقوا هذا السور الإعلامي ا المضروب حول هذا السجين بينما أن " الإعلام " في بلادنا قد تم اختراقه من هناك ؟
وهل من الممكن أن نطالب الغرب بإخراج الإسلام في أوربا من هذا التصور الاستشراقي السجين بينما لا يزال كبار المثقفين منا أبواق الاستشراق الساقط يحرقون البخور تحت أقدام المستشرقين الذين صنعوا هذا السجن ؟
لقد تأكد لنا أن القوم في الغرب قد صنعوا لأنفسهم هذا السور ضد الإسلام بإرادة ووعى !! وإلا فأين مسئولية البشر داخل هذا السور ؟؟
كيف يقال إنهم ضحايا هذا السور ؟؟ ألم يخترق جماهيرهم أسواراً ضربت عليهم من قبل ؟
وإلا فقولوا لنا : لماذا كانت إذن ثورة البروتستانت على وصاية الكاثوليكية ؟
ولماذا كانت الثورة الفرنسية على الكنيسة والإقطاع ؟
ولماذا كانت الثورة الروسية على الإقطاع والرأسمالية ؟
ولماذا كانت المقاومة الدامية في الحرب العالمية الثانية ضد النازية . ؟
أليس من الظلم الخبيث أن يجري تبسيط القضية بإغفال مرتكبها العاتي هذا ليشار بعد ذلك إلى المتهم بغير دفاع : سوء العرض منا ؟
وإذا كان من الحق أن سور الإعلام الغربي الحديث ــ مع توابعه من أبواق الإعلام الشرقي ….هو ما يقطع الطريق بين الحضارتين إلى حسن الفهم أو حسن العرض ….فإن من الحق الأكثر تأكيدا أن جريمة " المؤسسة الاستشراقية " هي الباني الأساسي لهذا السور ، وهى العامل الأساسي في تشويه صورة الإسلام عمداً في الذهن الغربي منذ سمعوا عنه إلى اليوم .
لقد تبين لنا في هذا الإطار ثلاثة أنواع من الاستشراق :
الظاهر ويقصد به إدوارد سعيد ما يتم رصده من أعمال المستشرقين رأسا ،
والكامن ويقصد به ما يتم رصده مما يستقر في ثقافة الغربي من أعمال المستشرقين ،
والساقط وأعني به ما تحدث عنه إدوارد سعيد – وإن لم يسمه بذلك – مما ينطبع من أعمال المستشرقين في عقول ووجدانات الشرقيين أنفسهم على مستوى النخبة أو المثقف العادي أو رجل الشارع فيردده كالببغاء أو ينقله كالبوق أو ، يسقط منه كما يسقط الماء من الصنبور حسب تشبيه جان بول سارتر
وفي الاستشراق الظاهر يقول د. إدوارد سعيد : ( إن كل أوربي كان ــ فيما يمكن أن يقوله عن الشرق – عنصرياً عرقياً امبريالياً ، وإلى درجة كلية تقريباً : عرقى التمركز … إن المجتمعات البشرية ــ أو على الأقل الثقافات الأكثر تقدماً نادراً ما منحت الفرد شيئاً عدا الامبريالية والعنصرية ، والتمركز العرقي للتعامل مع الثقافات الأخرى ... إن الاستشراق كان جوهرياً مذهباً سياسياً مورس إرادياً على الشرق ) .(/1)
إن كمية هائلة من الكتب دونها الغرب عن الشرق ( حوالى ستين ألف كتاب تتعلق بالشرق الأدنى قد كتبها الغربيون بين عام 1800 ــ 1950 )
أفلم يكن منهم رجل رشيد ؟ ألم يعد أمامنا إلا أن نقر مع إدوارد سعيد أن ( الاستشراق من حيث هو جهاز ثقافى هو عدوانية ونشاط ومحاكمة ... ) ؟
فهل تغيرت هذه العدوانية على مر العصور ؟
هنا يسجل إدوارد سعيد تطور حركة الاستشراق فيما بين القرن التاسع عشر والعشرين فيحصره فيما يسميه الاستشراق الظاهر ، أما ما وراءه مما يسميه ( الاستشراق الكامن . ) فهو إجماعي مستقر لا يكاد يتغير ، وهو نادراً ما يشكل فرقاً في المضمون ، فقد ارتبطت الأطروحات حول التخلف والانحطاط الشرقيين ( !! ) بالأفكار السائدة ــ في القرن التاسع عشر ــ حول الأسس الحيوية للتفاوت العرقي . وما دام الشرق ينتمي إلى عرق منحط محكوم فقد كان ينبغي له أن يحكم من قبل الاستعمار الغربي ، ويتوفر المثل التقليدي لهذه النظرة في كتاب جوستاف لوبون الصادر عام1894 ( القوانين النفسية لتطور الشعوب . ) .
وفي الاستشراق الكامن : لم تكن النظرة العرقية وما تستتبعه من دونية الشرق واحتقاره ….مذهباً فكرياً معزولاً في ذهن المستشرقين ، ولكنها كانت قد اندمجت في ثقافة الرجل العادي في أوربا و تغلغلت إلى أعماقها ، وكمنت في تضاعيفها حتى إنها ( تكاد تكون غير متنازع عليها ) .
ومن ثم أثرت تأثيراً كبيراً على المستوى العام وأفضت إلى سياسات عامة ، وعلى سبيل المثال ، وانطلاقاً من هذه النظرة نجد كاتباً وسياسياً شهيراً قضى جانباً كبيراً من حياته بين العرب صديقاً حميماً لهم ــ لورنس ، - نجده يقول في موضع من كتابه " أعمدة الحكمة السبعة " ( .. لم تكن جميع الأقاليم الخاضعة للإمبراطورية البريطانية لتساوى لدىَّ صبيا انكليزياً واحداً ميتا . ) هكذا .
ونجد آخر مثل جورج أوريول يقول عن زيارته لمراكش عام 1939 ( من الصعب دائماً أن تصدق أنك تسير بين كائنات بشرية .... { ياسلام } إن لهم وجوهاً سمراء ، ولديهم عدد كبير منها ، هل هم حقا اللحم نفسه الذي هو أنت ؟ هل لهم حتى أسماء ؟ أم أنهم مجرد مادة سمراء لا متمايزة ، أفراد بقدر ما للنحل أو حشرات المرجان أفراد ؟! إنهم ينبعون من الأرض ، يعرقون ويعانون الجوع لبضع سنوات ، ثم يغوصون عائدين إلى أكوام المقابر التي لا أسماء لها دون أن يلحظ أحد أنهم ذهبوا ، حتى القبور نفسها سرعان ما تنحل رجوعاً إلى التراب) .
وكان من ثمرات هذه الشرقنة فى العصر الحاضر كما يدلنا على ذلك د. إدوارد سعيد :أن العربي ظهر بعد حرب 1973 في كل مكان شيئاً أبعد تهديداً وأشد خطراً ، وبرزت بانتظام رسوم ورقية تصور شيخاً عربياً يقف وراء مضخة للبنزين ، لكن هؤلاء العرب كانوا بجلاء " ساميين " : وكانت أنوفهم المعقوفة بحدة والنظرات الشذراء الخبيثة المشربنة على وجوههم تذكيراً واضحاً ( لجمهور غير سامي في معظمه ) بأن " الساميين " كانوا يقبعون تحت كل مشكلات الغرب ومصاعبهم بشكل رئيسي في النقص في البنزين .
وهكذا ، فإذا كان العربي يحتل مكاناً يكفي لجذب الانتباه فإنه يحتله كقيمة سلبية ، فهو ينظر إليه كمخرب لوجود إسرائيل والغرب ، أو في نظرة أخرى كعقبة أمكن تجاوزها لخلق إسرائيل عام 1948 .
وإذا كان هذا العربي ذا تاريخ < على الاطلاق > ، فإن تاريخه جزء من التاريخ الممنوح له ( أو المستلب منه ، فالفرق ضئيل ) من قبل التراث الاستشراقى ، وفى مرحلة تالية ، التراث الصهيونى .
لقد عوينت فلسطين ــ من قبل لامارتين والصهاينة الأوائل على حد سواء -- باعتبارها صحراء خالية تنتظر التفجر بالازدهار ، وكان يفترض أن القلة من السكان الذين كانوا فيها رُحلُ لا وزن لهم ولا حق فعلياً في الأرض ، وأنهم ، لذلك ، دون واقع ثقافي أو قومي ....
وإلى جانب عدائه للصهيونية ، فإن العربي مزود بالنفط . وتلك خصيصة سلبية أخرى !! ، إذ أن غالبية المسارد المقدمة عن النفط العربي تساوي بين المقاطعة النفطية في 1973 ــ 1974 ( التي أفادت منها رئيسياً شركات النفط الغربية ونخبة عربية حاكمة صغيرة ) وبين غياب أي مؤهلات أخلاقية عربية لامتلاك مثل هذا الاحتياطي النفطي الهائل . والسؤال الذي يطرح في الأعم الأغلب هو : لماذا يمتلك بشر كهؤلاء العرب حق إبقاء العالم المتطور ( الحر ، الديمقراطي الأخلاقي ) مهددا ؟ ومن أسئلة كهذه ينبع الاقتراح المتكرر بأن تقوم قوات الجيش البحرية < الأمريكية > بغزو حقول النفط العربية .
وهو الاقتراح الذي تم ترجمته أخيرا في غزو العراق !!(/2)
فى الأفلام والتلفاز يرتبط العربي إما بالفسق أو بالغدر والخديعة المتعطشة للدم . ويظهر منحلاً ، ذا طاقة جنسية مفرطة ، قديراً ، دون شك ، على المكيدة البارعة المراوغة لكنه ، جوهرياً ، سادى ، خؤون ، منحط ، تاجر رقيق ، راكب جمال ، صراف ، وغد ، متعدد الظلال : هذه بعض الأدوار التقليدية لعربي في السينما . وكثيراً ما يرى العربي القائد للُّصوص ، والقراصنة ، والعصاة " من السكان الأصليين " يزمجر في وجه البطل الغربي المأسور والفتاة الشقراء { وكلاهما مفعم بالصحة والعافية } قائلا : " رجالى سيقتلونكما ، لكنهم ــ يحبون أن يتسلوا أولاً " ، وينظر نظرة تنقط خبثاً وشبقاً فيما يتكلم
. وفى أشرطة الأخبار ، أو أشرطة الأخبار المصورة ، يظهر العرب دائماً بأعداد ضخمة : لا فردية ، لا خصائص أو تجارب شخصية . وتمثل معظم الصور الهيجان والبؤس الجماعيين ، أو الإشارات والحركات اللاعقلانية . وخلف هذه الصور جميعاً يتربص خطر الجهاد المهدد . والعاقبة هي : الخوف من أن المسلمين ( أو العرب ) سوف يحتلون العالم .
تنشر الكتب والمقالات بانتظام عن الإسلام والعرب ، دون أن تمثل تغيراً إطلاقاً بالقياس إلى المماحكات الزعاف التي سادت القرون الوسطى وعصر النهضة .
ولا يصدق على أية مجموعة عرقية أو دينية - سوى العرب - أن أي شئ يمكن أن يقال أو يكتب عنها دون تحد أو احتجاج . لقد قال دليل المساقات لعام 1975 ، الذي وضعه طلاب الإجازة في كلية كولومبيا ، عن برنامج اللغة العربية : إن كل لفظة من لفظتين في اللغة ذات علاقة ما بالعنف ، وإن العقل العربي كما " ينعكس " في اللغة تبجحي دون انقطاع .
وبلغت مقالة قريبة العهد كتبتها إيمييت تيرل فى مجلة هاربر درجة أعلى من القذف والتجريح والعنصرية العرقية ، إذ طرحت منظومة تقول إن العرب أساساً قتلة وأن العنف والخديعة محمولان في المورثات العربية .
ويكشف مسح دراسي بعنوان " العرب في الكتب الدراسية الأمريكية " معلومات خاطئة إلى الحد الأقصى من الإدهاش ، أو بالحري : تمثيلات - على درجة قصوى من الفظاظة - لمجموعة عرقية دينية . إذ يؤكد أحد هذه الكتب " أن القلة من أهل هذه المنطقة < العربية > يعرفون أن ثمة طريقة أفضل للحياة "
ثم يتابع سائلاً ببراءة أخاذة : " ما الذي يربط بين شعوب الشرق الأوسط ؟ " والجواب ، المعطى دون تردد ، هو " إن الرباط النهائي هو عدائية العرب ــ وكرههم ــ لليهود وللأمة الإسرائيلية " .
وجنباً إلى جنب مع مثل هذه المادة ، ثمة ما يلي ، في كتاب آخر ، عن الإسلام : " بدأ الدين الإسلامي ، المسمى الإسلام ، في القرن السابع . وقد بدأه رجل أعمال ثرى من شبه الجزيرة العربية يدعى محمد { صلى الله عليه وسلم } . وقد ادعى أنه نبي . ووجد أتباعاً بين العرب الآخرين . وأخبرهم بأنهم اختيروا لكي يحكموا العالم " .
وتتلو هذه النتفة من المعرفة نتفة أخرى مثلها فى دقتها (!!) : " بعد موت محمد بقليل ، سُجلت تعاليمه في كتاب يدعى القرآن . وصار الكتاب المقدس للإسلام " .
إن العنصرية في فرنسا تجاوزت كراهية العربي لتصبح كراهية الدين .. وهذا ما كشفته كارولين فونين صحفية بمجلة 'باري ماتش' --- كما تقول نجوى طنطاوي - بجريدة الأسبوع بتاريخ 5\1\2004ا -- التي ارتدت الحجاب 21 يوما في مغامرة صحفية
ونقلت تعليقات المجتمع التي بدأت 'بأهلا كارولين بن لادن' --
وفي أحد المطاعم سمعت تعليق 'هناك علاج لحشرات الرأس بدلا من المخنقة'
و صرخ البعض في وجهها وكأنها تحمل مدفع كلاشينكوف ..
وحكت أنها التقت بإحدي المسلمات وقالت لها انها ارتدت الحجاب .. فقالت لها المسلمة لن تجدي عملا وستواجهين تعصبا في كل مكان بدءا من أماكن العمل حتى الأحزاب السياسية التي ترفض اشتراك المحجبات بها ..
وقالت كارولين في مغامرتها انه كان يتم تفتيشي بدقة كما لو كنت خطرا علي الأمن وأنها لا تسمع إلا الشتائم والمعاكسات السخيفة.
والتعصب الفرنسي تجاه كل ما هو إسلامي كشفه أيضا فانسان جاير الباحث الفرنسي بمعهد الأبحاث والدراسات حول العالم العربي في كتاب عنوانه: 'موجة كراهية الإسلام علي الطريقة الفرنسية' وذكر فيه :
ان الإسلام هو الدين الثاني بعد الكاثوليكية وان كراهية الإسلام تنبع من خلاف تاريخي وادراك عام بان الإسلام دين يسعي لكي يصبح فرنسيا ..
وان العقلية الفرنسية تصر علي اعتبار المهاجرين حتي أبناء الجيل الثاني الذين ولدوا وتربوا في فرنسا ليسوا مواطنين فرنسيين ويعتبرونهم مسلمين من أصول عربية.
ويرصد الباحث الفرنسي 15 حادث اعتداء علي المساجد تراوحت بين إلقاء ألوان علي جدار المسجد إلي إشعال حرائق وإلقاء مواد حارقة وارسال طرود مفخخة
ورصد الباحث أيضا قرارات محلية في بعض المدن :
منها قرار عمدة مدينة 'اومون' في الشمال بمنع المسلمين من اقامة احتفالات الزواج يوم السبت علي أساس ان هذا يوم كريم مخصص للفرنسيين الكاثوليك المؤمنين.(/3)
وفي مدينة 'ايفري' عارض العمدة قرار صاحب سوبر ماركت بعدم بيع الكحوليات ولحم الخنزير.
ويضيف الباحث انه منذ أحداث سبتمبر زادت الإجراءات الأمنية حول المسلمين الذين يمارسون شعائرهم.
وحول المنظمات الإسلامية أصبح استدعاء المسئولين عن الاتحادات الإسلامية وأئمة المساجد أمام مراكز الاستخبارات مسألة دورية .. وهكذا أصبح الإسلام بالنسبة للمجتمع الفرنسي العدو الأول الذي يهدد الجمهورية.
ورصد جاير في كتابه عدة أفعال منها هدم صالة للصلاة .. ووصف المحجبات بالمريضات والأئمة بالأميين في بعض الكتابات.
وطرد وزير العدل الفرنسي دومنيل بيرفان عضوة في هيئة المحلفين في محكمة قرب باريس لارتدائها الحجاب وقال: إن الحجاب يتضمن جزئيا معني الانحياز .. وانه لا يريد وجود علامة علي الالتزام الديني بالمحاكم.
واضاف إلي ماسبق ما نشرته بعض الصحف الفرنسية ضد الإسلام والمسلمين
ووصل الأمر الي تخصيص ملف داخل مجلة الاكسبريس بعنوان ' فلوس الإسلام في فرنسا' ، وحمل الملف دعوة لتطويق الإسلام بالرقابة علي مصادر تمويل المساجد والجمعيات الخيرية رغم انه بموجب القانون الفرنسي لا يتم تمويل هذه المساجد من ميزانية فرنسا وتعتمد في تمويلها علي الدول الأصلية للمسلمين هناك.
أما الكاتب الفرنسي ميشيل هو لبيك فقد أثار مشاعر الغضب لدي المسلمين عندما قال لمجلة 'لير' ان الإسلام دين غباء وانه يصاب بالانهيار عند سماع القرآن.
ولكن رغم هذا الحصار والهجوم علي الإسلام إلا أن هناك إقبالا من الفرنسيين علي اعتناق الإسلام .. قدرتهم مجلة 'لوفيجارو' ب50 ألف فرنسي .. وإقبالا شديدا علي شراء نسخ من المصحف الشريف والكتب الدينية التي تتناول الإسلام ) ويبدو أن هذا الإقبال كان وما يزال من دواعي إذكاء نيران العداوة التي إن خمدت زمنا فإنها سرعان ما تفور لمثل هذه الأسباب
وتمتد قناة جيدة التوصيل في رحم الاستشراق : بين الظاهر عليه والكامن فيه والساقط منه
والاستشراق الساقط هو ما كان يعني به إدوارد سعيد : سقوطه بثوابته ومسلماته من مصدره الغربي على عقل الشرقي ووجداناته – في مستوى النخبة أولا ثم في مستوى المثقف العادي إلى أن تتغلغل في رجل الشارع - فيطبع ثقافته بما سقط عليها من فكر المستشرقين ونظرياتهم ، ثم يرددها في كل مناسبة كالببغاء أو كالبوق
وفي أثر الاستشراق على النخبة الثقافية العربية المعاصرة :
يقول د. إدوارد سعيد ( إن الاستشراق ، رغم إخفاقاته ، ومصطلحه الذي يثير الشفقة ، وعرقيته التي لا تكاد تحجب ، وجهازه الفكري الرقيق رقة الورق ، يزدهر اليوم بالأشكال التي حاولت أن أصفها . وبالفعل ، فإن ثمة ما يدعو إلى القلق في كون تأثيره قد انتشر إلى " الشرق " نفسه : فصفحات الكتب والمجلات باللغة العربية ( وباليابانية ، واللهجات الهندية المختلفة ، واللغات الشرقية الأخرى ، دون شك تمتلئ بتحليلات من الدرجة الثانية لـ " العقل العربي " ، والإسلام ، وأساطير أخرى ، يقوم بها < كتاب>عرب .... ) .
ويقول د. إدوارد سعيد : ( في الجزء الوحيد من الشرق الذي أستطيع أن أتحدث عنه بشيء من المعرفة المباشرة يمكن اعتبار التلاؤم المتبادل بين الطبقة المفكرة والامبريالية الجديدة أحد الانتصارات الخاصة للاستشراق . فالعالم العربي اليوم كوكب تابع ، فكرياً ، وسياسياً ، وثقافياً للولايات المتحدة .
خذ بعين الاعتبار أولاً : أن الجامعات في العالم العربي تدار بشكل عام تبعاً لنسق ما موروث عن ، أو مفروض مباشرة من قبل قوة مستعمرة سابقة .
وتجعل الظروف الجديدة واقعيات المنهج الدراسي قبيحة حتى الرعب تقريباً : صفوف يحتشد فيها مئات الطلبة ، جهاز تدريس مدرب تدريباً سيئاً ، ومرهق بالعمل ، ويتلقى رواتب سيئة ، تعيينات سياسية ، الغياب شبه المطلق للأبحاث المتقدمة ولوسائل البحث العلمي .
وفيما كانت بريطانيا وفرنسا قد سيطرتا على الآفاق الفكرية في الشرق بفضل أهميتهما وثرائهما ، فإن الولايات المتحدة هي التي تحتل تلك المكانة الآن ، بصورة تؤدى إلى النتيجة التالية : وهى أن القلة من الطلاب الذين يبشرون بخير والذين ينجحون في الارتقاء عبر النظام < التعليمى > يتلقون التشجيع للحضور إلى الولايات المتحدة لمتابعة دراساتهم العليا .
وفيما يظل صحيحاً أن بعض طلاب العالم العربي ما يزالون يذهبون إلى أوروبا للدراسة ، فإن الغالبية العظمى يأتون إلى الولايات المتحدة ، ويصدق هذا على طلاب ما يسمى الدول الجذرية بقدر ما يصدق على الدول المحافظة كالمملكة العربية السعودية والكويت .
وإلى جانب ذلك ، فإن نظام الرعاية في عالم الدراسة ، والأعمال ، والبحث العلمي يضع الولايات المتحدة في موضع الآمرة ذات السلطة الكلية على الأمور . . .(/4)
وبقدر ما يسع المرء أن يصدر تعميماً كاسحاً فإن الميول المحسوسة للثقافة المعاصرة في الشرق الأدنى تسير على هدى النماذج الأوربية والأمريكية ، وحين قال طه حسين عام1936 عن الثقافة العربية إنها أوربية ، لا شرقية ، فقد كان يسجل هوية النخبة الثقافية المصرية التي كان هو أحد أعضائها المتميزين تميزاً كبيراً . ويصدق الشيء ذاته على النخبة الثقافية العربية اليوم . ) .
( والنتيجة المتوقعة لهذا كله هي أن الطلاب الشرقيين ( والأساتذة الشرقيين ) ما يزالون يريدون الحضور < إلى الولايات المتحدة > والجلوس عند أقدام المستشرقين الأمريكيين ، ثم العودة فيما بعد لتكرار الشعارات اللغوية - التي ما فتئت أصفها بأنها مذهبيات جامدة استشراقية - على مسامع جمهورهم المحلي .
ونظام إعادة إنتاج كهذا يجعل من الحتمي أن يستخدم الباحث الشرقي تدريبه الأمريكي ليشعر بالفوقية على أبناء وطنه لأنه قادر على " تدبُر " النظام الاستشراقي < وفهمه واستخدامه > ؛ أما في علاقته بمن هم أسمى منه مكانة : المستشرقين الأوربيين والأمريكيين ، فإنه سيبقى " المخبر الذي ينتمي إلى السكان الأصليين " . وهذا هو بحق دوره في الغرب ، إذا كان من حسن الحظ بحيث يتاح له البقاء فيه بعد إنهاء تدريبه المتقدم .
غير أن هذا كله ضئيل بالمقارنة مع حقيقة < طغيان > النزعة الاستهلاكية في الشرق . فالعالم العربي أو الإسلامي عامة عالق في صنارة نظام السوق الغربي . .. وبهذا صارت العلاقة علاقة وحيدة الاتجاه ، تمثل فيها الولايات المتحدة زبوناً مختاراً لعدد ضئيل جداً من المنتجات ( النفط ، واليد العاملة الرخيصة ، رئيسياً ) ويمثل العرب مستهلكين شديدي التنوع لعدد هائل من منتجات الولايات المتحدة ، المادية والعقائدية .
وقد كان لهذا عواقب كثيرة : في عملية تسويق هائلة للذوق في المنطقة ، متجسدة لا فى الترانزستورات ، والجينز الزرقاء ، والكوكا كولا وحسب ، بل كذلك في الصور الثقافية للشرق التي توفرها وسائل الإعلام الأمريكية وتستهلكها دون تفكير جماهير التلفاز الضخمة . حيث اصبح العربي إنما يعتبر نفسه " عربياً " وفقا للنمط الذي تنتجه وتسوقه هوليوود.
وهناك نتيجة أخرى هي : أن اقتصاد السوق الغربي وتوجهه الاستهلاكي خلقا ( ويخلقان بنسبة متسارعة ) طبقة من المتعلمين يوجًّه تشكلهم الفكري نحو إرضاء حاجات السوق . فثمة تأكيد كبير على الهندسة ، والأعمال ، والاقتصاد ، مما هو واضح ؛ لكن < طبقة > رجال الفكر <الانتلجنسيا > هي ذاتها تقوم بدور مساعد فيما تعتبره الاتجاهات الرئيسية في الغرب .
وقد رسم دور هذه < الطبقة > وصيغ لها بوصفها طبقة " مُحدثنه " ، أى أنها تمنح الشرعية والسلطة المرجعية لأفكار حول التحديث والتقدم والثقافة تتلقاها من الولايات المتحدة بصورة رئيسية . ويقوم الدليل الباهر على هذا الاستشراق { الساقط } في العلوم الاجتماعية .
{ وهنا فمن حقنا أن نتذكر النموذج لهذا النوع من الاستشراق : في عالم الاجتماع الشهير الأستاذ الدكتور سعد الدين إبراهيم }
وكما يقول الدكتور إدوارد سعيد ( فإن الشرق الحديث ــ بإيجاز ــ يشارك فى شرقنة نفسه ) .
هكذا يتأكد لدينا نتيجة لهذه الدراسة الفذة للدكتور إدوارد سعيد ما كان يتردد من قبل في صدور البعض – على استحياء - حول دور الاستشراق في تشويه صورة الإسلام ، ويصبح لدينا اليوم يقين ــ نتيجة لتلك الدراسة بأن الاستشراق ما هو إلا مؤسسة تقوم بدور تاريخي كجهاز مناعة تعضى ــ أو قل إن شئت " تعضون " ــ في بنية الحضارة الأوربية الأمريكية ، وتغلغل في أعصابها وشرايينها وعظامها ليرد عنها أي اقتراب إسلامي ، مغلقاً منافذ تلك البنية دون أي شعاع حقيقي من الإسلام .
حتى ما يود البعض منا أن يعتبره تحسناً أو إنصافاً في آداء بعض المستشرقين ، فإنه حسب دراسة إدوارد سعيد ( استراتيجيات لإعادة التصرف بـ " المادة " ضمن " الحقل " وتوزيعها . ) إنه يؤدى إلى تغيرات ضمن الحقل ثم يعين على خلق وضع جديد ، مثلما يؤدى إدخال بوصلة جديدة على سطح توجد عليه عشرون بوصلة إلى اهتزاز البوصلات جميعاً . ثم إلى استقرارها فى تشكيل جديد قادر على الاستيعاب .
أما خروج مستشرق ما على الحقل ليعلن إسلامه فإنه يصبح طبقاً لجهاز المناعة ذاك سبباً كافياً لإخراجه ــ حسب مواصفات المؤسسة الاستشراقية ــ من زمرة البحث العلمي المعترف به في المؤسسة ليصير أي شئ غير كونه مستشرقاً " رصيناً " .
وليس صحيحا إذن ما يعتذر به عن الرجل الغربي من أنه عدو للإسلام بسبب الجهل ، أو بسبب سوء العرض ، إذ هو مثقف حتى النخاع بثقافة قومه التي سهر الاستشراق على زرعها في أعماقه ولا يزال ، وهي ثقافة أصبحت تصل إليه اليوم ضمن تيارات إعلامية شديدة الانغلاق على ما تصنعه في الرأي العام من عقول ، خلافا لما يظن المقهورون(/5)
وهكذا تقوم المؤسسة الاستشراقية بالدور الفعال ــ لا في فهم الإسلام وتقديمه للغرب المسيحي " موضوعياً " كما كان يفترض ــ ولكن في زرع الألغام في الحقل الذي يفصل ما بين الحضارة الإسلامية ، والحضارة الغربية .
والخلاصة فيما نذهب إليه : أنه إذا كان الاستشراق هو بحث الغرب في شئون الشرق – والشرق الإسلامي بخاصة – في كل ما يتصل به : من النواحي الحضارية والثقافية والدينية واللغوية والفنية والسياسية والسكانية والسياسية الخ فإننا يجب أن نفهم أن المستشرق ليس هو الغربي الباحث في تلك الشئون فحسب ، ولكنه الذي بالإضافة لذلك يضم ذاته إلى بحثه ، أو جزءا من ذاته ، تلك التي ينتمي بها إلى ثقافة الغرب بمكوناتها الأساسية .
ومن هذه المكونات : جهاز المناعة الصفيق الذي تحصنت به حضارته الغربية التي ينتمي إليها طوال قرون ، والتي إن سمحت له بشيء من الموضوعية – في مستوى المنهج العلمي –فإن هذه الموضوعية سرعان ما تذوب ، عندما يستيقظ قرن الاستشعار عنده ليشعر - في مستوى ذاتيته الحضارية - خطرا يهدد ثقافته ، إزاء ضغط بعض حقائق الشرق التي تنكشف له .
ومن هنا كان في حكم البديهي ما كشف عنه إدوارد سعيد في دراسته الثمينة للاستشراق من أن الشرق في يد المستشرقين : أصبح هو الشرق الذي يصنعونه أو ينشئونه إنشاء ، لأغراض في المعرفة والسلطة ، وبالتالي : غرض الدفاع عن الذات ، أمام شرق لا يهدأ حتى يستوعب الآخر ، بحكم عالمية الرسالة الإسلامية الكامنة فيه .
وهنا يفرض السؤال التالي نفسه : لماذا تقبل الغرب المسيحية ولم يتقبل الإسلام مع أن كلا منهما وارد من أعماق الشرق ؟
نقول : نعم لقد تقبل الغرب المسيحية التي ظهرت في الشرق وإن يكن بعد ظهورها فيه بما يقل عن ثلاثة قرون ، بينما هو ما يزال يستعصي على قبول الإسلام بعد ظهوره بأكثر من أربعة عشر قرنا ، باستثناء بعض الفتوحات الإسلامية العربية والعثمانية التي ظل يقاومها حتى قضى عليها ، وما يزال يأمل في القضاء عليه في حوض البحر الأبيض المتوسط باعتباره منطقة امتداد لأوربا تاريخيا وجغرافيا ، أقصي عنها لفترة لا يزال يراها مؤقتة مهما طال الزمن.
لكن هذه المقارنة في حد ذاتها تبين لنا السبب في قبوله للمسيحية دون الإسلام ، وما ذاك إلا لأنه عندما فتح أبوابه للمسيحية إنما فعل ذلك بعد أن استوعبها داخل ثقافته وعقائده القديمة ، بينما هو يجد من المستحيل عليه أن يفعل ذلك بالإسلام ، لأسباب ترجع إلى الإسلام نفسه ، فكان لا بد من المقاومة التي لا تنتهي ، والتي دخل المستشرقون إلى ساحتها بغريزة الدفاع عن الذات بحكم انتمائهم الحضاري الذي لا يقاوم .
والاستشراق بذلك قد أصيب على يد المستشرقين بالتعضون في بنية حضارة العالم الغربي ، وتمترس بها كما تمترست به .وفي بنية هذه الحضارة تتربع المسيحية وإن يكن : لا كدين ، ولكن كثقافة ، ، وفي هذا يقول المفكر الإنجليزي ت . س . إليوت في شأن هذه الثقافة في كتابه ملاحظات نحو تعريف الثقافة : ( إذا ذهبت المسيحية فستذهب كل ثقافتنا ، وعندئذ يكون عليك أن تبدأ البداية المؤلمة من جديد ، ولن تستطيع أن تلبس ثقافة جديدة جاهزة ، يجب أن تنتظر حتى ينمو العشب ، ليغذو الضأن ، ليعطي الصوف ، الذي ستصنع منه سترتك الجديدة ، يجب أن نمر بقرون كثيرة من الهمجية ، ولن نعيش إذن لنرى الثقافة الجديدة ، لا نحن ولا أحفادنا ، ولو عشنا لما سعدنا بها ) .
ومن هنا فإننا نقول : هذه هي الحقيقة التي توضح لنا كيف أصبحت الثقافة الغربية - ولا أقول الغرب - منطقة محرمة على الإسلام ، يقف الاستشراق على ثغورها بكل إمكانياته وقوته كجزء من جهازها المناعي العام .
صحيح أن هناك أنواعا من المستشرقين ، وهم ليسوا جميعا على نمط واحد في مقاومة الإسلام – باسمِ ظاهرٍ من البحث العلمي – فهناك المستشرقون الذين لا يخفون عواطفهم المعادية للإسلام ، لكن هناك أيضا بعض الذين يقدمون شيئا من الصدق في نتائج بحثهم في الإسلام ، إلى حد الدفاع جزئيا عن بعض حقائقه ، ثم هناك الذين وصل بهم بحثهم إلى حد الدخول في الإسلام .
وبالرغم من أن هؤلاء جميعا لا يمكن تصنيفهم وفقا لحدود قاطعة فإنه يجب ألا يغيب عنا أن الأغلبية العظمى هي من النوع الأول بادي العداوة شهيرها من أمثال : بارتلمي ديربيلو ، وسيمون أوكلي ، و غيبون ، وشاتوبريان ، وأرنست رينان ، وجولدزيهر ، وهاملتون جب ، ونولدكة ، وماكدونالد ، وفون جرونباوم ، واللورد كرومر ، وهاننجتون ، والرئيس نيكسون أخيرا في كتباه " انتهزوا الفرصة " إلخ.(/6)
أما النوع الثاني على قلتهم فإن غالبيتهم ممن وجدوا .. بحافز من دوافعهم الفردية في خضم التنافس العلمي مع أقرانهم من المستشرقين .. أن عليهم أن يبينوا لبعض هؤلاء الأقران بعض أخطائهم ، محتفظين بهجومهم على الإسلام في مواضع أخرى ، وهم مهما بلغوا فيما يسميه البعض منا إنصافا فإنهم لا يقرون قط بصحة الإسلام كدين من عند الله ، ولا ينسبون محمدا صلى الله عليه وسلم إلى النبوة في شيء ، وإن كنا نحن المسلمين يمكننا أن نستفيد في ضربهم جميعا بضرب بعضهم بعضا ، إلا أننا لقد كنا في غنى عن استنفاد الجهد في ذلك كله لولا أنهم هكذا ظهروا ، وهكذا كانوا ، وهكذا اشتهروا ، ومن أمثال هؤلاء توماس كارليل ، وتوماس أرنولد ، ومونتجومري وات ، وجوته ، وماسينيون ، وباول شمتز ، إلخ .
أما النوع الثالث فهم يعدون على أصابع اليدين ، من أمثال روجيه جارودي ، وإتيين دينيه ، وليوبولد فايس ، وهنري كاسترو ، وزيجفريد هونكة ، ولكن هؤلاء سرعان ما يُنفَون من المؤسسة الاستشراقية بفعل آلية ذاتية ، ويصنَّفون بعد ذلك لا كمستشرقين ، ولكن كمسلمين أو شرقيين أو هراطقة ؛ ثم يبقى للمؤسسة الاستشراقية نقاؤها الحضاري واقتصارها على النوعين الأولين ، اللذين لا يمكن في مقياس الإسلام وضع أحدهم في خانة الإنصاف ، بغير تصديقه إذ أنه بغير هذا التصديق لا يكون ثمة إنصاف للإسلام .
أما إذا نظرنا خارج فضيلة الإنصاف فقد يرى البعض منا أن لهم فضيلة البحث المنهجي ، وتلك أكذوبة أو مبالغة وقعنا فيها بحكم تخلفنا الثقافي الطارئ ، إذ الحقيقة أننا نحن الذين من قبلهم بقرون قد استوعبنا منطق أرسطو ، وابتكرنا ما يكمله أو يصححه في بعض أطرافه ، ونحن الذين ابتكرنا مناهج البحث المختلفة للعلوم المختلفة : في نقد الخبر سندا ومتنا ، وفي أصول الفقه والتشريع ، وفي إبداع ما سميناه – ثم أهملناه على يد الخلف – علم ( أصول البحث والمناظرة ) . وفي المنهج التجريبي الذي قدمناه حلالا زلالا لأوربا .
وقد يرى البعض أن لهم فضيلة العناية بالمصادر والمخطوطات الإسلامية :اقتناء وحفظا ودراسة ، ولكن هذه الفضيلة لا يمكن أن تخلص لهم ، سواء إذا نظرنا إلى طريقة حصولهم على هذه المصادر ، أو طريقة استفادتهم بها ، أو نتائج اشتغالهم بها .
فأما عن طريقة حصولهم عليها فمن الواضح أن ذلك قد تم في إطار النهب الاستعماري للبلاد الإسلامية ، وإذا كان بعض أجدادنا لم يكونوا – في نظر البعض – على وعي كاف ، أو على مقدرة كافية للاحتفاظ بهذا التراث ، فإننا لا نعرف أن قانونا أخلاقيا قد صدر في الغرب أو في الشرق يجيز نهب القصر الضعفاء أو يجيز التفاخر به .
ومن المضحك أننا في الوقت الذي نرى فيه بعضهم يتعاملون مع هذه المصادر وفقا لطقوس نفاقية يلبسون فيها القفازات قبل الإمساك بها حفاظا عليها ؛ لا يسعنا أن ننفي من الصورة أيديهم وهم يذبحون أطفالنا ونساءنا وشيوخنا في فلسطين والعراق ، ، والبوسنة والهرسك وعموم آسيا وأوربا.
وأما عن طريقة استفادتهم بها فمن الواضح أنها لا تتجاوز الصفر في مقياس الحقيقة ، وليس أدل على ذلك مما صحونا عليه أخيرا من صيحات الحقد والكراهية والعداء الغربي للإسلام على جميع المستويات ، الأمر الذي يؤكد أن هذه الكراهية لم يكن مصدرها سوء عرض المسلمين للإسلام بقدر ما كان من مواقف المستشرقين من الإسلام ، إذ أن أغنى مصادر التعريف الصحيح بالإسلام موجودة بين أيدي رجالهم المستشرقين ، وهو ما يلقي بقفاز اللوم والإدانة في وجوههم.
وأما عن نتائج اشتغالهم بهذه المصادر - والشجرة إنما تعرف بثمارها – فما هي نتائجهم تلك ؟ مجموعة من أعمال تتسم بالجهل باللغة العربية ، والتهم المتناقضة ، تتلخص في إشاعة القول ببشرية القرآن ، واعتماده على مصادر يهودية أو مسيحية ، والقول بانتشار الإسلام بالسيف ، وأنه دين شهواني ، يحتقر المرأة ، ولا يعنى بحقوق الإسلام ، دين لا حضاري ، متوحش ، فاشل تاريخيا ، غوغائي ، متطرف ، ضد التقدم والتطور والمتعة والجمال ، إله قاس متجبر غير مؤنسن ، عداء صارخ لشخصية محمد صلى الله عليه وسلم ، بله القول بعبادة المسلمين لموميتو ، الذي يضعه دانتي في القاع الأسفل من جحيمه بجوار إبليس . وهو للعلم : ( جحيم دانتي ) الذي احتفل به تلاميذهم منا ، باعتباره من عيون الأدب العالمي .
ومن نتائجهم : تلامذتهم من الشرقيين الذين تتلمذوا على أيديهم الذين يرددون– غالبا - مقولاتهم في تشويه الإسلام حرفيا ، ويتصرفون في صب هذه المقولات إلينا تصرف ثقب الحوض في خر ما يلقى فيه من صنابير الغرب ، علي حد قول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في وصفهم .(/7)
وهم الذين نشروا في ثقافتنا مفاهيم النسبية التاريخية ، والرجعية الدينية ، والشك الديكارتي في النص القرآني ، وأخذوا على عاتقهم غربنة الإسلام فيما يسمونه "الإسلام الجديد " ، وتجديد الخطاب الديني الذي يقبل المسيحية واليهودية والإسلام على حد سواء ، والذي يطلب الدنيا كما يطلبها الكافر ، ويقبل العلمانية كما يقبلها الأوربي ، ويقبل الصهيونية كما يقبلها الأمريكي ، ويقبل الانفساح العسكري والسياسي والاقتصادي باسم العولمة ، ويقبل الربا كما تقبله الرأسمالية ، ويقبل الفن بكل أنواعه ، ويقبل الاختلاط بين الجنسين بكل أشكاله ، ويقبل التساهل باسم التيسير ، ويقبل نقل عادات الغرب في الزي والمعيشة والأعياد باسم الإنسانية .
وإذا كان البعض مستمرا في اتهام مفكري المسلمين بالتقصير في مواجهة هؤلاء فإن هذا الاتهام لا يلغي جملة من الحقائق :
منها اختراق الاستشراق لصفوف هؤلاء المفكرين الذين لم ننفض أيدينا منهم بعد ، كما أنه لا يصح أن يشرع في وجوه المخلصين منهم هذا الاتهام – في غير مجاله - كلما دخلوا إلى مجال البحث عن المستشرقين ، ليكون اتهامهم غطاء لعورات المستشرقين كلما هم هؤلاء بالكشف عنها .
كذلك فإن هذا التقصير لا يلزم علاجه بإنشاء مؤسسات لدينا كما يدعو إلى ذلك البعض منا : لدراسة الاستشراق والحوار معه ، فالأمر أيسر من ذلك ، ، لأنه يتم حاليا وبطريقة جزئية بتسفيه بعضهم لبعض ، وبضرب تناقضاتهم التي يكفي فيها ما تقوم به بعض الأقسام في بعض الجامعات ، أو ما يقوم به بعض الأفراد الذين يمثل الواحد منهم مؤسسة كاملة مثل الأستاذ محمود شاكر . وما نحتاج إليه في ذلك كله : هو الكف عن النظر إليهم من منظار الدونية الحضارية .
إن المؤسسات التي يجب أن نسارع إلى بنائها بلهفة وجدية وإدراك لأهميتها البالغة : هي مؤسسات الدعوة الإسلامية التي لم توجد بعد ، والتي نطمح إليها على المستوى المحلى والعالمي ، والتي تتقن الاستفادة بعلوم الاتصال والنفس ، والاجتماع ، والتاريخ ، وتمتلك في يدها اللغة والمال ووسائل الإعلام ، وقبل هذا قوة الإيمان والثقة بالذات ، والمستقبل .
وفي رأينا أنه لقد آن الأوان لإنهاء ملف الاستشراق من حيث المراوحة بين المدح و الذم ، و حساب الإيجابيات والسلبيات ، لأنه أشبه بالرقص على إيقاع الخصم ، والذي يجب أن نحدده للنظر في الموضوع هو أن نطرح على أنفسنا سؤالا لبحث جاد :
ماذا نريد نحن من المستشرقين :
هل نريد منهم أن يعلمونا ما نجهل – جدلا - من ديننا ؟
هل نريد أن يكونوا موضوعيين في دراستهم للإسلام ؟
هل نريد منهم أن يقدموا الإسلام الصحيح لشعوبهم ؟
وذلكم ما يظنه بعض المسلوبين منا
أم أن علينا أن ننتقل من دائرة هذه الأماني لنطلب منهم أن يغلقوا أبوابهم ويكفوا عنا شرورهم وهيهات ؟
أو أن يردوا إلينا تراثنا المسروق بعد أن بلغنا سن الرشد وهيهات ثانية ؟
أحسب أني قد أجبت على بعض ذلك .
أد : يحيى هاشم حسن فرغل(/8)
علامات الساعة الصغرى
من الحقائق المقررة في ديننا الإسلامي أن يوم القيامة آت لا ريب فيه، وأن العلم بوقت وقوعه مما استأثر الله به ، قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } ( لقمان: 34 ) ، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة فقال : ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل ) رواه البخاري و مسلم . غير أن الله عز وجل قد أقام علامات تدلنا على قرب الساعة ودنو أجلها ، قال تعالى { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ْ} . ( محمد : 18 )
وقد قسم العلماء هذه العلامات إلى قسمين :
القسم الأول : علامات الساعة الصغرى .
القسم الثاني : علامات الساعة الكبرى .
ونحاول في مقالنا التالي تسليط الضوء على بعض علامات الساعة الصغرى ، ونرجئ الكلام عن العلامات الكبرى لمناسبة أخرى .
فمن تلك العلامات بعثته صلى الله عليه وسلم ، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( بعثت أنا والساعة كهاتين . وقَرَنَ بين السبابة والوسطى ) متفق عليه . وفي هذا إشارة إلى أن قيام الساعة قريب كقرب الإصبع السبابة من الإصبع الوسطى .
ومن علامات الساعة الصغرى انشقاق القمر في عهده صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَر } (القمر:1) وعن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : ( انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين ، فرقة فوق الجبل وفرقة دونه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشهدوا ) رواه البخاري و مسلم
ومن علامات الساعة الصغرى : موته عليه الصلاة والسلام ، فعن عوف بن مالك رضي الله عنه ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم - جلد - ، فقال : ( اعدد ستا بين يدي الساعة : موتي ، ثم فتح بيت المقدس ، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم ، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا ، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته ، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفا ) رواه البخاري .
ومن علامات الساعة الصغرى فتح بيت المقدس ، كما في حديث عوف بن مالك المتقدم . وقد فتح بيت المقدس في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
ومن علامات الساعة الصغرى : ظهور مدعي النبوة الدجالين الكذابين ، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تقوم الساعة حتى يُبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين ؛ كلهم يزعم أنه رسول الله ) رواه مسلم . وقد ظهر جمع من هؤلاء في العصر الأول منهم مسيلمة الكذاب ، وسجاح وهي امرأة ادعت النبوة ثم تابت وأسلمت ، وطليحة بن خويلد الأسدي وقد أسلم أيضاً ، والأسود العنسي ظهر بصنعاء وقتله فيروز الديلمي رضي الله عنه . وظهر كثير غيرهم ، وقد ظهر في العصر الحديث ميرزا أحمد القادياني الذي ادعى النبوة ، وصار له جماعة تدعى القاديانية ، وألَّف العلماء فيه كتباً بينوا فيها كذبه وتدليسه وكفره .
ومن علامات الساعة الصغرى تضييع الأمانة بإسناد الأمر إلى غير أهله ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة . قال : كيف إضاعتها ؟ يا رسول الله ، قال : إذا أسندَ الأمرُ إلى غيِر أهله فانتظر الساعة ) رواه البخاري
ومن علامات الساعة الصغرى ظهور النساء الكاسيات العاريات ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صنفان من أهل النار لم أرهما . قوم معهم سياط كأذناب البقر ، يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ) رواه مسلم .
وقوله ( كاسيات عاريات ) أي أنهن يلبسن ثياباً غير ساترة لجميع أبدانهن ، أو شفافة تصف ما تحتها ، أو ضيقة تبرز عوراتهن .
وقد ظهر هذا الصنف في زماننا هذا - ويا ليت الفاجعة وقفت عند هذا الحد - بل صار هؤلاء النساء الكاسيات العاريات يتبجحن بعريهن ، ويعيرن العفائف المحصنات بتسترهن . فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ومن علامات الساعة الصغرى انتشار الربا ، وظهور الزنا ، وكثرة القتل ؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( بين يدي الساعة يظهر الربا ) رواه الطبراني وقال المنذري : رواته رواة الصحيح .(/1)
وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن من أشراط الساعة .... فذكر أموراً منها : ويظهر الزنا ) متفق عليه . وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج . قالوا : وما الهرج ؟ يا رسول الله ، قال : القتل ، القتل ) رواه البخاري و مسلم . وقد ظهرت جميع هذه الآفات في زماننا - والعياذ بالله - ، وجُهر بها حتى عُدَّ الربا والزنا من أسباب التقدم والرقي ، ومن مظاهر المدنية والحضارة ، فتحقق ما قاله صلى الله عليه وسلم من علو هذه المنكرات وظهورها ، وأما القتل فحدِّث عنه ولا حرج ، فقد عمَّ وطمَّ ، فسفكت الدماء الحرام ، وأزهقت الأرواح ، تحت مسميات شتى ، ومآرب متعددة ، نسأل الله أن يحفظنا بحفظه وأن يشملنا برحمته .
ومن علامات الساعة الصغرى أيضاً ظهور المعازف واستحلالها : فعن أبي مالك الأشعري قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( ليكوننَّ من أمتي أقوامٌ يستحلون الحر - الفروج - ، والحرير ، والخمر ، والمعازف ) رواه البخاري . وقد أضحى هذا الزمان صورة حية ، وشاهد صدق على صحة ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد استحلت المعازف وعلا شأنها ، وارتفعت قيمتها ، حتى أصبح المغنون والمغنيات - عند كثير من الناس - أعظم شأناً ، وأرفع قدراً من الدعاة والمصلحين ، واستحق هذا العصر لقب عصر الغناء بجدارة . فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ومن علامات الساعة الصغرى : عودة أرض العرب مروجاً وأنهاراً ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً ) رواه مسلم ، وقد اكتشف العلم الحديث هذه الحقيقة ، وأخبر علماء الجيولوجيا بمثل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قبل ما يزيد عن أربعة عشر قرنا من الزمان .
ومن علامات الساعة الصغرى ارتفاع شأن المفسدين في الأرض ، واستيلائهم على مقاليد الأمور ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إنها ستأتي على الناس سنون خدّاعة ، يُصدَّق فيها الكاذب ، ويُكذَّب فيها الصادق ، ويؤتمن فيها الخائن ، ويخون فيها الأمين ، وينطق فيها الرُّوَيْبِضَة " قيل وما الرُّوَيْبِضَة ؟ قال : السفيه يتكلم في أمر العامة ) رواه أحمد .
فهذه بعضٌُ من علامات الساعة الصغرى التي أخبرنا عنها النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي بمجموعها تنطبق أشد المطابقة على هذا العصر الذي نعيش فيه . غير أن قتامة هذه الصورة التي نعيشها لا تدفعنا إلى اليأس والقنوط ، بل إن ما تحقق من علامات الساعة يزيدنا إيماناً ويقيناً أن بقية العلامات التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم آتية ، مثل خروج المهدي ، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام ، وعودة الحكم إسلاميا ربانياً . والأعظم والأهم قيام الساعة التي يفصل الله فيها بين عباده . نسأل الله عز وجل أن يثبتنا على الإيمان حتى نلقاه وهو راض عنا . والحمد لله رب العالمين .(/2)
علامات حسن الخاتمة
رئيسي :تزكية :الثلاثاء 10 جمادى الأخرة 1425هـ - 27 يوليو 2004
إن الشارع الحكيم قد جعل علامات يستدل بها على حسن الخاتمة - كتبها الله تعالى لنا بفضله- فأيما امرئ مات بإحداها كانت بشارة له، ويا لها من بشارة، ومنها:
الأولى: نطقه بالشهادة عند الموت:
1- فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ] رواه أبوداود وأحمد، وإسناده حسن.
2- عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَى عُمَرُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ ثَقِيلًا فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا فُلَانٍ لَعَلَّكَ سَاءَتْكَ إِمْرَةُ ابْنِ عَمِّكَ يَا أَبَا فُلَانٍ قَالَ: لَا إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا مَا مَنَعَنِي أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْهُ إِلَّا الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: [ إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا عَبْدٌ عِنْدَ مَوْتِهِ إِلَّا أَشْرَقَ لَهَا لَوْنُهُ وَنَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَتَهُ] قَالَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنِّي لَأَعْلَمُ مَا هِيَ قَالَ وَمَا هِيَ قَالَ تَعْلَمُ كَلِمَةً أَعْظَمَ مِنْ كَلِمَةٍ أَمَرَ بِهَا عَمَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ طَلْحَةُ صَدَقْتَ هِيَ وَاللَّهِ هِيَ.رواه أحمد وابن ماجة، وإسناده صحيح
الثانية: الموت برشح الحبين:
عَنِ بُرَيْدَةَ أَنَّه كَانَ بِخُرَاسَانَ فَعَادَ أَخًا لَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ فَوَجَدَهُ بِالْمَوْتِ وَإِذَا هُوَ يَعْرَقُ جَبِينُهُ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ مَوْتُ الْمُؤْمِنِ بِعَرَقِ الْجَبِينِ] .أخرجه أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة.
الثالثة: الموت ليلة الجمعة، أو نهارها: لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ إِلَّا وَقَاهُ اللَّهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ]رواه الترمذي وأحمد، والحديث بمجموع طرقه حسن أو صحيح.
الرابعة: الاستشهاد في ساحة القتال: قال الله تعالى: { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[169]فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[170]يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ[171]}[سورة آل عمران].
وفي ذلك أحاديث:
1- عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنْ الْحُورِ الْعِينِ وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ]رواه الترمذي وصححه،وابن ماجة، وأحمد، وإسناده صحيح.
2- عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إِلَّا الشَّهِيدَ قَالَ: [كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً] رواه النسائي، وسنده صحيح.
تنبيه:ترجى هذه الشهادة لمن سألها مخلصًا من قلبه، ولو لم يتيسر له الاستشهاد في المعركة، بدليل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ ] رواه مسلم.
الخامسة: الموت غازيًا في سبيل الله:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ] قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ قَالَ: [إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ] قَالُوا فَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: [مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ] رواه مسلم.(/1)
قوله: [وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ]: أي بداء البطن وهو الاستسقاء وانتفاخ البطن . وقيل: هو الاسهال، وقيل: الذي يشتكي بطنه.
وَعَنْ أَبَي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [مَنْ فَصَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ أَوْ قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ أَوْ وَقَصَهُ فَرَسُهُ أَوْ بَعِيرُهُ أَوْ لَدَغَتْهُ هَامَّةٌ أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ بِأَيِّ حَتْفٍ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهُ شَهِيدٌ وَإِنَّ لَهُ الْجَنَّةَ] رواه أبو داود.[مَنْ فَصَلَ] أي: خرج
السادسة: الموت بالطاعون:
فَعَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ قَالَتْ قَالَ لِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ بِمَ مَاتَ يَحْيَى بْنُ أَبِي عَمْرَةَ قَالَتْ قُلْتُ بِالطَّاعُونِ قَالَتْ فَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ] رواه البخاري ومسلم.
وَعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ] رواه البخاري.
وَعَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ يَأْتِي الشُّهَدَاءُ وَالْمُتَوَفَّوْنَ بِالطَّاعُونِ فَيَقُولُ أَصْحَابُ الطَّاعُونِ نَحْنُ شُهَدَاءُ فَيُقَالُ انْظُرُوا فَإِنْ كَانَتْ جِرَاحُهُمْ كَجِرَاحِ الشُّهَدَاءِ تَسِيلُ دَمًا رِيحَ الْمِسْكِ فَهُمْ شُهَدَاءُ فَيَجِدُونَهُمْ كَذَلِكَ] رواه أحمد والطبراني في 'الكبير' بسند حسن كما قال الحافظ [ 10 / 159 ].
السابعة: الموت بداء البطن: لقوله صلى الله عليه وسلم: [...وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ] رواه البخاري ومسلم-واللفظ له-.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَسَارٍ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا وَسُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ وخَالِدُ بْنُ عُرْفُطَةَ فَذَكَرُوا أَنَّ رَجُلًا تُوُفِّيَ مَاتَ بِبَطْنِهِ فَإِذَا هُمَا يَشْتَهِيَانِ أَنْ يَكُونَا شُهَدَاءَ جَنَازَتِهِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ يَقْتُلْهُ بَطْنُهُ فَلَنْ يُعَذَّبَ فِي قَبْرِهِ] فَقَالَ الْآخَرُ بَلَى. رواه النسائي والترمذي وحسنه، وأحمد، وسنده صحيح .
الثامنة والتاسعة: الموت بالغرق والهدم: لقوله صلى الله عليه وسلم: [...الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...] رواه البخاري ومسلم.
العاشرة: موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها: لحديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ عَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَمَا تَحَوَّزَ لَهُ عَنْ فِرَاشِهِ فَقَالَ: [مَنْ شُهَدَاءُ أُمَّتِي] قَالُوا قَتْلُ الْمُسْلِمِ شَهَادَةٌ قَالَ: [إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ قَتْلُ الْمُسْلِمِ شَهَادَةٌ وَالطَّاعُونُ شَهَادَةٌ وَالْبَطْنُ وَالْغَرَقُ وَالْمَرْأَةُ يَقْتُلُهَا وَلَدُهَا جَمْعَاءَ] رواه أحمد والدارمي. وإسناده صحيح .
الحادية عشر، والثانية عشر:الموت بالحرق،وذات الجنب- هي ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن للأضلاع – وفي ذلك أحاديث، منها: عن جابر بن عتيك مرفوعًا: [ الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ وَالْحَرِقُ شَهِيدٌ وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ] رواه أبوداود والنسائي ومالك وأحمد.
الثالثة عشر:الموت بداء السل: لقوله صلى الله عليه وسلم: [الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ شَهَادَةٌ، وَالنُّفَسَاءُ شَهَادَةٌ ، وَالْحَرِقُ شَهَادَةٌ ، وَالْغَرِقُ شَهَادَةٌ ، والسِّلُّ شَهَادَةٌ ، وَالبطنُ شَهَادَةٌ] رواه الطبراني في الكبير.(/2)
الرابعة عشر: الموت في سبيل الدفاع عن المال المراد غصبه، لقوله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ] رواه البخاري ومسلم. وفي رواية للإمام أحمد: [مَنْ أُرِيدَ مَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي قَالَ: [فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ] قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي قَالَ: [قَاتِلْهُ] قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي قَالَ: [فَأَنْتَ شَهِيدٌ] قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ قَالَ: [هُوَ فِي النَّارِ] رواه مسلم.
عَنْ مُخَارِقٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الرَّجُلُ يَأْتِينِي فَيُرِيدُ مَالِي قَالَ: [ذَكِّرْهُ بِاللَّهِ] قَالَ فَإِنْ لَمْ يَذَّكَّرْ قَالَ: [فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَنْ حَوْلَكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ] قَالَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَوْلِي أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: [فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِالسُّلْطَانِ] قَالَ فَإِنْ نَأَى السُّلْطَانُ عَنِّي قَالَ: [قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ حَتَّى تَكُونَ مِنْ شُهَدَاءِ الْآخِرَةِ أَوْ تَمْنَعَ مَالَكَ] رواه النسائي وأحمد، وسنده صحيح على شرط مسلم .
الخامسة عشر،والسادسة عشر: الموت في سبيل الدفاع عن الدين والنفس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: [ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ] رواه أبوداود الترمذي والنسائي وأحمد، وسنده صحيح .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ] رواه النسائي وأحمد .
السابعة عشرة: الموت مرابطًا في سبيل الله: لقوله صلى الله عليه وسلم: [ رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ] رواه مسلم .
وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: [كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُنْمَى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ] رواه أبو داود والترمذي وأحمد.
الثامنة عشر:الموت على عمل صالح: لقوله صلى الله عليه وسلم: [ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ] رواه أحمد. وإسناده صحيح.
من كتاب:'أحكام الجنائز' للشيخ الألباني(/3)
علامات و أسباب حسن الخاتمة و سوء الخاتمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:
أما بعد : -
--------------------------------------------------------------------------------
أولاً : حسن الخاتمة
حسن الخاتمة هو: أن يوفق العبد قبل موته للتقاصي عما يغضب الرب سبحانه، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة، ومما يدل على هذا المعنى ما صح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله) قالوا: كيف يستعمله؟ قال: (يوفقه لعمل صالح قبل موته) رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه الحاكم في المستدرك.
ولحسن الخاتمة علامات، منها ما يعرفه العبد المحتضر عند احتضاره، ومنها ما يظهر للناس.
أما العلامة التي يظهر بها للعبد حسن خاتمته فهي ما يبشر به عند موته من رضا الله تعالى واستحقاق كرامته تفضلا منه تعالى، كما قال جل وعلا: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) فصلت: 30 ، وهذه البشارة تكون للمؤمنين عند احتضارهم، وفي قبورهم، وعند بعثهم من قبورهم.
ومما يدل على هذا أيضا ما رواه البخاري ومسلم في (صحيحيهما) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء اله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) فقلت: يا نبي الله! أكراهية الموت، فكلنا نكره الموت؟ فقال: (ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه) .
وفي معنى هذا الحديث قال الإمام أبو عبيد القاسم ابن سلام : (ليس وجهه عندي كراهة الموت وشدته، لأن هذا لا يكاد يخلو عنه أحد، ولكن المذموم من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها، وكراهية أن يصير إلى الله والدار الآخرة)، وقال : (ومما يبين ذلك أن الله تعالى عاب قوما بحب الحياة فقال: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة واطمأنوا بها) يونس: 7
وقال الخطابي: (معنى محبة العبد للقاء الله إيثاره الآخرة على الدنيا، فلا يحب استمرار الإقامة فيها، بل يستعد للارتحال عنها، والكراهية بضد ذلك)
وقال الإمام النووي رحمه الله: (معنى الحديث أن المحبة والكراهية التي تعتبر شرعا هي التي تقع عند النزع في الحالة التي لا تقبل فيها التوبة، حيث ينكشف الحال للمحتضر، ويظهر له ما هو صائر إليه)
أما عن علامات حسن الخاتمة فهي كثيرة، وقد تتبعها العلماء رحمهم الله باستقراء النصوص الواردة في ذلك، ونحن نورد هنا بعضا منها، فمن ذلك:
النطق بالشهادة عند الموت، ودليله ما رواه الحاكم وغيره أن رسول صلى الله عليه وسلم قال : (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)
ومنها: الموت برشح الجبين، أي : أن يكون على جبينه عرق عند الموت، لما رواه بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (موت المؤمن بعرق الجبين) رواه أحمد والترمذي.
ومنها: الموت ليلة الجمعة أو نهارها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه اله فتنة القبر).
ومنها: الاستشهاد في ساحة القتال في سبيل الله، أو موته غازيا في سبيل الله، أو موته بمرض الطاعون أو بداء البطن كالاستسقاء ونحوه، أو موته غرقاً، ودليل ما تقدم ما رواه مسلم في صحيحه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله ، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إن شهداء أمتي إذا لقليل قالوا: فمن هم يا رسول الله ؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد).
ومنها: الموت بسبب الهدم، لما رواه البخاري ومسلم عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله) .
ومن علامات حسن الخاتمة، وهو خاص بالنساء : موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها أو هي حامل به، ومن أدلة ذلك ما رواه الإمام أحمد وغيره بسند صحيح عن عبادة بن الصامت أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبر عن الشهداء، فذكر منهم: (والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة، يجرها ولدها بسرره إلى الجنة) يعني بحبل المشيمة الذي يقطع عنه.
ومنها الموت بالحرق وذات الجنب، ومن أدلته أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد أصنافاً من الشهداء فذكر منهم الحريق، وصاحب ذات الجنب: وهي ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن للأضلاع.
ومنها: الموت بداء السل، حيث أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شهادة.(/1)
ومنها أيضاً : ما دل عليه ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل دون ما له فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد) .
ومنها: الموت رباطا في سبيل الله، لما رواه مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان) . ومن أسعد الناس بهذا الحديث رجال الأمن وحرس الحدود براً وبحراً وجواً على اختلاف مواقعهم إذا احتسبو الأجر في ذلك .
ومن علامات حسن الخاتمة الموت على عمل صالح، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ختم له بها دخل الجنة) رواه الإمام أحمد وغيره.
فهذه نحو من عشرين علامة على حسن الخاتمة علمت باستقراء النصوص، وقد نبه إليها العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتابه القيم (أحكام الجنائز).
واعلم أخي الكريم أن ظهور شيء من هذه العلامات أو وقوعها للميت، لا يلزم منه الجزم بأن صاحبها من أهل الجنة، ولكن يستبشر له بذلك، كما أن عدم وقوع شيء منها للميت لا يلزم منه الحكم بأنه غير صالح أو نحو ذلك. فهذا كله من الغيب.
--------------------------------------------------------------------------------
أسباب حسن الخاتمة
من أعظمها: أن يلزم الإنسان طاعة الله وتقواه، وراس ذلك وأساسه تحقيق التوحيد، والحذر من ارتكاب المحرمات، والمبادرة إلى التوبة مما تلطخ به المرء منها، وأعظم ذلك الشرك كبيره وصغيره.
ومنها: أن يلح المرء في دعاء اله تعالى أن يتوفاه على الإيمان والتقوى.
ومنها: أن يعمل الإنسان جهده وطاقته في إصلاح ظاهره وباطنه، وأن تكون نيته وقصده متوجهة لتحقيق ذلك، فقد جرت سنة الكريم سبحانه أن يوفق طالب الحق إليه، وان يثبته عليهن وأن يختم له به.
--------------------------------------------------------------------------------
ثانياً : سوء الخاتمة
أما الخاتمة السيئة فهي: أن تكون وفاة الإنسان وهو معرض عن ربه جل وعلا، مقيم على مسا خطه سبحانه، مضيع لما أوجب الله عليه، ولا ريب أن تلك نهاية بئيسة، طالما خافها المتقون، وتضرعوا إلى ربهم سبحانه أن يجنبهم إياها.
وقد يظهر على بعض المحتضرين علامات أو أحوال تدل على سوء الخاتمة، مثل النكوب عن نطق الشهادة - شهادة أن لا إله إلا الله - ورفض ذلك، ومثل التحدث في سياق الموت بالسيئات والمحرمات وإظهار التعلق بها، ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تدل على الإعراض عن دين الله تعالى والتبرم لنزول قضائه.
ولعل من المناسب أن نذكر بعض الأمثلة على ذلك:
فمن الأمثلة:-
ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله (في كتابه: الجواب الكافي) أن أحد الناس قيل له وهو في سياق الموت: قل لا إله إلا الله، فقال: وما يغني عني وما أعرف أني صليت لله صلاة؟! ولم يقلها.
ونقل الحافظ ابن رجب رحمه الله (في كتابة: جامع العلوم والحكم ) عن أحد العلماء، وهو عبدالعزيز بن أبي رواد أنه قال: حضرت رجلا عند الموت يلقن لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول . ومات على ذلك، قال: فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر، فكان عبدالعزيز يقول: اتقوا الذنوب، فإنها هين التي أوقعته.
ونحو هذا ما ذكره الحافظ الذهبي رحمه الله أ، رجلا كان يجالس شراب الخمر، فلما حضرته الوفاة جاءه إنسان يلقنه الشهادة فقال له: اشرب واسقني ثم مات.
وذكر الحافظ الذهبي رحمه الله أيضا (في كتابه: الكبائر) أن رجلا ممن كانوا يلعبون الشطرنج احتضر، فقيل له: قل لا إله إلا الله فقال: شاهك. في اللعب، فقال عوض كلمة التوحيد: شاهدك.
ومن ذلك ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله عن رجل عرف بحبه للأغاني وترديدها، فلما حضرته الوفاة قيل له: قل لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء ويقول: تاتنا تنتنا … حتى قضى، ولم ينطق بالتوحيد.
وقال ابن القيم أيضا: أخبرني بعض التجار عن قرابة له أنه احتضر وهو عنده، وجعلوا يلقنونه لا إله إلا الله وهو يقول: هذه القطعة رخيصة، وهذا مشتر جيد، هذه كذا. حتى قضى ولم ينطق التوحيد نسأل الله العافية والسلامة من كل ذلك.(/2)
وها هنا تعليق للعلامة ابن القيم رحمه الله نورد ما تيسر منه، حيث عقب على بعض القصص المذكورة آنفا، فقال: (وسبحان الله، كم شاهد الناس من هذا عبراً؟ والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم، فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه، قد تمكن منه الشيطان، واستعمله فيما يريده من معاصي الله، وقد أغفل قلبه عن ذكر الله تعالى، وعطل لسانه عن ذكره، وجوارحه عن طاعته، فكيف الظن به عند سقوط قواه، واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع؟ وجمع الشيطان له كل قوته وهمته، وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه فرصته، فإن ذلك آخر العمل، فأقوى ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت، وأضعف ما يكون هو في تلك الحال، فمن ترى يسلم على ذلك؟ فهناك: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) إبراهيم: 27 . فكيف يوفق بحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره، واتبع هواه، وكان أمره فرطاً، فبعيد من قلبه بعيد عن اله تعالى غافل عنه، متعبد لهواه، أسير لشهواته،ولسانه يابس من ذكره، وجوارحه معطلة من طاعته، مشتغلة بمعصيته - بعيد أن يوفق للخاتمة بالحسنى) أ.هـ
وسوء الخاتمة على رتبتين - نعود الله من ذلك: على القلب عند سكرات الموت وظهور أهواله: إما الشك وإما الجحود فتقبض الروح على تلك الحال وتكون حجابا بينه وبين الله، وذلك يقتضي البعد الدائم والعذاب المخلد .
والثانية وهي دونها، أ، يغلب على قلبه عند الموت حب أمر من أمور الدنيا أو شهوة من شهواتها المحرمة، فيتمثل له ذلك في قلبه، والمرء يموت على ما عاش عليه، فإن كان ممن يتعاطون الربا فقد يختم له بذلك، وإن كان ممن يتعاطون المحرمات الأخرى من مثل المخدرات والأغاني والتدخين ومشاهدة الصور المحرمة وظلم الناس ونحو ذلك فقد يختم له بذلك، أي بما يظهر سوء خاتمته والعياذ بالله ، ومثل ذلك إذا كان معه أصل التوحيد فهو مخطور بالعذاب والعقاب.
--------------------------------------------------------------------------------
أسباب سوء الخاتمة
وبهذا يعلم أن سوء الخاتمة يرجع لأسباب سابقة، يجب الحذر منها.
ومن أعظمها: فساد الاعتقاد، فإن من فسدت عقيدته ظهر عليه أثر ذلك أحوج ما يكون إلى العون والتثبيت من الله تعالى:
ومنها: الإقبال على الدنيا والتعلق بها.
ومنها: العدول عن الاستقامة والإعراض عن الخير والهدى.
ومنها: الإصرار على المعاصي وإلفها ، فإن الإنسان إذا ألقت شيئا مدة حياته وأحبه وتعلق به، يهود ذكره إليه عند الموت، ويردده حال الاحتضار في كثير من الأحيان.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (إن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت، مع خذلان الشيطان له، فيجتمع عليه الخذلان مع ضعف الإيمان، فيقع في سوء الخاتمة، قال تعالى: (وكان الشيطان للإنسان خذولا) الفرقان:29
وسوء الخاتمة - أعاذنا الله منها - لا يقع فيها من صلح ظاهره وباطنه مع الله، وصدق في أقواله وأعماله، فإن هذا لم يسمع به، وإنما يقع سوء الخاتمة لمن فسد باطنه عقدا، وظاهره عملا، ولمن له جرأة على الكبائر، وإقدام على الجرائم ، فربما غلب ذلك عيه حتى ينزل به الموت قبل التوبة) أ .هـ
--------------------------------------------------------------------------------
أخي الكريم:
لأجل ذلك كان جديرا بالعاقل أن يحذر من تعلق قلبه بشيء من المحرمات، وجديرا به أن يلزم قلبه ولسنانه وجوارحه ذكر الله تعالى، وأن بحافظ على طاعة الله حيثما كان، من أجل تلك اللحظة التي إن فاتت وخذل فيها شقي شقاوة الأبد.
الهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك فيه، اللهم وفقنا جميعا لفعل الخيرات واجتناب المنكرات . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
خالد بن عبدالرحمن الشايع(/3)
علم الإدارة المفهوم والأهمية
الإدارة اليوم علم متطور ، أتى بمبتكرات كثيرة لتسهيل التحركات الداخلية ضمن المؤسسة أو المنظمة ( سواء كانت حكومية أو أهلية ) الوصول إلى أقصى استغلال للطاقات بأرخص وأبسط التشكيلات ، وإقامة العلاقات الخارجية بالجمهور والإدارات الأخرى على أساس من حيازة ثقة المقابل وتحصيل تعاونه ، وبالإمكان الاستفادة بتوسع من أساليب الإدارة الحديثة وعلى الأخص أساليب إدارة الأجهزة المتخصصة.
1)الإدارة : هي عملية إنسانية اجتماعية تتناسق فيها جهود العاملين في المنظمة أو المؤسسة ، كأفراد وجماعات لتحقيق الأهداف التي أنشئت المؤسسة من أجل تحقيقها ، متوخين في ذلك أفضل استخدام ممكن للإمكانات المادية والبشرية والفنية المتاحة للمنظمة
2)الإداري : هو الإنسان الذي يوجه جهوده وجهود الآخرين معه لتحقيق الأهداف المتفق عليها ، مستعملاً العمليات الإدارية والمهارات الإدارية مع التوظيف الأمثل للقدرات والإمكانات.
وفي سبيل تحقيق الأهداف تتفاعل أنماط مختلفة من سلوك الأفراد والجماعات في داخل المؤسسة، في نسيج متشابك موجه نحو الهدف ، ويقوم فيه العاملون حسب وظائفهم بأدوار معينة لهم في إطار موقع كل منهم من الهيكل التنظيمي ، والواجبات الوظيفية المحددة له في المؤسسة ويمكننا أن نلخص مجموعة تعريفات للإدارة ، فيما يسمى ( بأبعاد العملية الإدارية ) التي تمثل كل منها مجموعة من أنماط السلوك المطلوبة في الإدارة.
3)العمليات الإدارية : وهي أنماط من السلوك يمارسها المدير أو الرئيس الأعلى في جميع المؤسسات بغض النظر عن نوعيتها وحجمها ، ويشمل ذلك عمليات : التخطيط ، التنظيم، والتوجيه والإشراف ، والرقابة والتنفيذ ، وتقويم الأداء ، وغالباً ما يطلق على هذه العمليات اسم "عموميات الإدارة "
4)الوظائف الإدارية : وهي أنماط متخصصة من السلوك تمارس بصورة مختلفة في المؤسسات المختلفة حسب نوعيتها وحجمها وتشمل في المؤسسات الصناعية بشكل خاص : الإنتاج، والتسويق، والتمويل، والمشتريات، وشؤون الأفراد، وفي هذه الوظائف أو بعضها قد تمارس في المنظمات الخدمية الحكومية في صورة تقديم خدمات وعلاقات عامة ، وتوفير الموارد المالية ، وكثيراً ما تسمى أنماط السلوك هذه بـ " خصوصيات الإدارة".
تحليل المشكلات واتخاذ القرارات : وينظر هذا البعد إلى العملية الإدارية على أنها سلسلة من مواقف اتخاذ القرارات التي يتبع فيها الإداري الخطوات المعروفة في تحليل المشكلات واتخاذ القرارات وهي عموماً : تحليل المشكلة ، وتحديد بدائل الحل ، وتقييم البدائل ، واختيار البديل المناسب من جهة نظر متخذ القرار ، ومتابعة تنفيذ البديل ، وتقويم نتائج التنفيذ ، ومراجعة النتائج، وهكذا يتكرر مرة أخرى متابعة التنفيذ أو اللجوء إلى بديل جديد.
المسؤولية أمانة عظيمة
قال تعالى :" إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فابينّ أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا" " الأحزاب 72"
يقول المثل " إن المسؤولية تكليف وليست تشريف " وينطبق هذا المثل إلى حد كبير على كل نوع من أنواع المسؤوليات التي يُكلف بها الإنسان، سواء كان التكليف وظيفياً أو طوعيا، وقد يختلف الناس في فهمهم للمسؤولية وبالتالي يختلفون بالقيام بشروطها وواجباتها ولكي لا نتكلم عن عموميات ، دعونا نحدد بعض المعايير والشروط التي يتبقى توفرها وهي الآتي:
1) استشعار المسؤولية شرط أساسي للمسؤول الناجح مهما كانت رتبته الإدارية تمثلاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم " كلكم راع وكل مسؤول عن رعيته "
2) إدراك أن المسؤولية أمانة عظيمة مهما كانت صغيرة أم محدودة السلطات والصلاحيات ، فالعبرة ليست بالجحم والكم. التزاما بقول الله تعالى " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال"
3) نكران الذات، معيار معهم في تمييز المسؤول الأمين عن غيره، فالذي يقوم مصلحته الشخصية على مصلحة الجماعة ، يعتبر مخلاً في أداء المسؤولية ، ولم يرق إلى مستوى الأثر القائل " سيد القوم خادمهم "
4) اعتبار قيام المسؤول بمسؤولياته تجاه رئيسه أو عمله أو المراجعين الذين يتعامل معهم جزء لا يتجزأ من واجبه الديني والتعبدي والأخلاقي نزولاً عند توصية النبي صلى الله عليه وسلم : " لئن تغدو فتقضي حاجة لأخيك خير لك من أن تعتكف في مسجدي هذا شهراً أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
5)المسؤولية قرينة الخدمة ، فأنت أيها المسؤول في موقعك الإداري أو الإشرافي أو الفني إنما تقوم بإسداء خدمة للجمهور الذي تتعامل معه ، فكلما أحسنت أداء خدمتك وعملك كلما شرفت الموقع الذي أنت فيه وتميزّت عن غيرك من الموظفين وكنت سبباً في تحسين سمعة الإدارة أو القسم أو الوزارة التي تعمل فيها.(/1)
6)التواضع ، وعدم التعالي ، وبشاشة الوجه، والتسيير والتسهيل على الناس والمراجعين، وقضاء حوائجهم، والإحساس بهم وإشعارهم بأنك ممتن لهم لأنك تخدمهم : مجموعة من أخلاقيات المهنة التي تعتبر شروطاً أساسية لحامل المسؤولية ، المدرك بأنها فعلاً أمانة عظيمة.
هل تعرف طبيعة نمطك الإداري؟
هناك خمسة نظريات تطرقت إلى إكتشاف السلوك لدى البشر بشكل عام هي :
1-نظرية الاهتمام بالعمل والعاملين
2-نظرية التوجيه والدعم
3-نظرية الفاعلية والكفاءة
4-نظرية السرعة والمرونة
5-نظرية النظم الإدارية
إن الدراسات العلمية في مجال الإدارة تؤكد أن هناك عنصرين يحكمان النموط القيادي في العمل الإداري وهما : الاهتمام بالعمل والاهتمام بالعلاقات مع الأفراد.
وإن هناك تفاوت في حجم التركيز على أحد هذين العنصرين أو كليهما ، وعلى العموم لا يخرج النمط الإداري عن أحد هذه الأنماط الخمسة ، وهي على النحو التالي :
(1) الإداري الرسمي ( المتفاني ) :
وهو ذلك الشخص الذي يولي اهتماما كبيراً بالعمل ، ويمكن أن نجمل مواصفاته بأنه : مصمم، متحدي، واثق من نفسه ، مشغول ومحرك ويحدد مهام الآخرين ، يحدد مسؤولياتهم ومعاييرهم ، يعتمد على نفسه ، مشغول ، طموح ، يعتمد الأساليب الرقابية ، والعمل عنده أولاً وقبل كل شيء ، دؤوب يهتم بالقرار الذي يعكس مصلحة العمل ، كثيراً ما يتحمل نتائج قراراته ، لا مكان للحالات الخاصة لديه ، يرى أن حله هو الحل الوحيد والأمثل ، يميل إلى التفكير في الموضوعات بشكل صارم وجازم ، فالمسائل عنده واضحة ومحسومة، ويعتقد أن تشكيل اللجان إضاعة للوقت والجهد معاً.
(2) الإداري الاجتماعي ( المتعاطف ) : وهو ذلك الشخص الذي يولي اهتماً كبيراً للعلاقات مع الأفراد ويمكن أن نجمل مواصفاته بأنه : يهتم بالناس أولاً وقبل كل شيء ، يهتم بالتطور الفردي ، غير رسمي هادئ لا يشعر الناس به ، محادثاته طويلة ، عاطفي صديق ، يقبل الناس كما هم ويساعد على تكوين مناخ مأمون للعمل ، تفكيره يقرب إلى أن يكون متأثراً جداً بالقرارات التي يتقبلها الناس ، وتتمشى مع آرائهم ، ولذا فهو ينظر إلى اللجان على أنها فرصة ممتازة للحوار والمناقشة.
(3) الإداري السلبي ( الإنعزالي ) : وهو ذلك الشخص الذي لا يولي اهتماماً كبيراً بالعمل بالعلاقات مع الأفراد ويمكن أن نجمل مواصفاته بأنه : حذر، محافظ ، منظم ، يفضل الأعمال الورقية يبحث عن السوابق ، يهتم بالإجراءات ، دقيق ، صبور ، هادئ ، متواضع ، ويحب أن يتم العمل على أتم وجه ، يعتقد أن أفضل حل لأية مشكلة هو تجنبها ، يميل إلى الحلول الروتينية للمشاكل ، يرفع المشكلة إلى رئيسه المباشر لحلها ، لديه استعداد لتقبل ما يملى عليه من قرارات.
(4) الإداري المتأرجح ( الموفق ) : وهو ذلك الشخص الذي يتأرجح بين الاهتمام بالعلاقات مرة ، والاهتمام بالعمل مرة أخرى ويمكن أن نجمل مواصفاته بين الاجتماعي والرسمي. يقف في المنتصف ، لا يحبذ الخلاف في الرأي ، يهتم باشراك الآخرين بشكل صوري ، يتخذ قراراً يسعده هو ولا يزعج غيره ، يرى أن أفضل حل هو " رضى الجميع ".
(5) الإداري المتكامل ( الفعّال) : هو ذلك الشخص الذي يولي اهتماماً كبيراً بالعمل وبالعلاقات مع الأفراد على السواء ويمكن أن نجمل مواصفاته بأنه : يستمد سلطاته من الأهداف والآمال والمثل العليا للمؤسسة، يربط الأفراد بالمؤسسة، يحب العمل الجماعي، وتخفيض الاختلافات في السلطات ، يفضل الأهداف والمسؤوليات المشتركة ، ويهتم بأساليب التغيير ، وهو كثير التفكير والتحليل للمشكلة المطروحة ، دقيق في مناقشته وتعقيباته ، يهتم بالمشكلة وبصاحبها سواء بسواء، يقدم اقتراحات بناءة لحل مشكلة ما، يميل إلى أن يكون حله نهائياً.
كيف تنمي قدرتك على حل المشاكل
أهمية تنمية القدرة على حل المشاكل: إن تنمية قدرتك على حل المشاكل عملية مفيدة من عدة نواحٍ ، إذ أنك ستصبح قادراً على أن :
? تتنبأ بمشاكل محددة ، و تتخذ إجراء وقائياً .
? تحل المشاكل بسرعة وبجهد أقل .
? تقلِّل من التوتر .
? تنمِّي أداءك في العمل وعلاقاتك مع الزملاء .
? تصنع فرصاً وتستغلها .
? تحل المشاكل الأكثر إلحاحاً .
? تمارس السيطرة أكثر على النواحي الرئيسة أو الحيوية في حياتك.
? تحقق مزيداً من الرضا الشخصي .
الفصل الأول: المشاكل وكيفية حلها
قرآن كريم عملية حل المشكلة عملية حل المشكلة تتم على خمس عمليات رئيسة ، و هي :
أولاً : تمييز المشكلة وتحليلها
يمكن أن تمر المشاكل دون أن نلحظها ما لم نستخدم أساليبً مناسبة لاكتشافها ، وعندما يتم اكتشافها فإننا نحتاج إلى إعطائها إسماً أو تعريفاً مؤقتاً لمساعدتنا في تركيز بحثنا عن مزيد من المعلومات المتصلة بها ، ومن خلال هذه المعلومات يمكننا أن نعد وصفاً أو تعريفاً صحيحاً لها .
ثانياً : تحليل المشكلة(/2)
نحتاج إلى فهم المشكلة قبل أن نبحث عن حلول لها ، ومالم يتم ذلك فإن الجهود اللاحقة التي سنبذلها لحلها يمكن أن تقودنا في الاتجاه الخطأ ، وتتضمن عملية تحليل المشكلة جمع كل المعلومات ذات الصلة بها ، وتمثيلها بطريقة ذات معنى لكي يتسنى لنا رؤية العلاقات بين المعلومات المختلفة .
ثالثاً : وضع حلول ممكنة
يتضمن وضع الحلول الممكنة تحليل المشكلة للتأكد من فهمها تماماً ، ومن ثم وضع خطط عمل لمعالجة أية معوقات تعترض تحقيق الهدف ، ويتم تطوير الحلول العملية من خلال عملية دمج وتعديل الأفكار ، وهناك العديد من الأساليب المتوفرة للمساعدة في إنجاز هذه العملية ، ويجب أن تتذكر أنه كلما كان لديك عدد أكبر من الأفكار لتعمل عليها كانت فرصتك لإيجاد حل فاعل أفضل .
رابعاً : تقييم الحلول
إذا كانت هناك مجموعة من الحلول المحتملة للمشكلة ؛ فعليك أن تقيِّم كلاً منها على حدة مقارناً بين نتائجها المحتملة ، ولهذا فإنك تحتاج إلى أن :
? تحدد صفات النتيجة المطلوبة بما في ذلك القيود التي يجب أن تراعيها .
? تطرح الحلول التي لا تراعي القيود المفروضة .
? تقيِّم الحلول المتبقية بالنسبة للنتيجة المطلوبة .
? تقيِّم المخاطر المرتبطة بالحل الأفضل .
? تقرر الحل الذي ستنفذه .
خامساً : تنفيذ الحل الذي اخترته
يتطلب تنفيذ الحل خطة تحتوي أموراً مهمة منها :
1- الإجراءات المطلوبة لتحقيق الهدف .
2- المقاييس الزمنية .
3- المصادر اللازمة .
4- تتضمن الخطة أيضاً طرقاً للتقليل من المخاطر إلى أدنى حد ممكن ولمنع الأخطاء .
5- تتضمن أيضاً إجراءات علاجية في حالة عدم سير أية مرحلة على النحو المخطط لها .
وأثناء التقدم في عملية التنفيذ تفقد باستمرار الإجراءات المتخذة ، وقارنها بالنتيجة المتوقعة ، وأي انحراف عن المعيار المتوقع يجب أن يعالج بصورة سريعة .
وعندما يستكمل التنفيذ تتم مراجعة مدى النجاح الكلي للحل ، وقد تكون هناك حاجة لمزيد من الإجراءات إذا لم يتم تحقيق الهدف .
قرآن كريم الفشل في حل المشاكل بفعالية
تشمل الأسباب التي تجعل الأفراد سيفشلون في إيجاد حلول فاعلة ما يلي :
? عدم اتباع المنهجية .
? عدم الالتزام بحل المشكلة .
? إساءة تفسير المشكلة .
? الافتقار إلى معرفة بأساليب ( تقنيات ) وعمليات حل المشكلة .
? عدم القدرة على استخدام الأساليب بفعالية .
? عدم استخدام الأسلوب المناسب لمشكلة معينة .
? عدم كفاية المعلومات ، أو عدم صحتها .
? عدم القدرة على دمج التفكير التحليل بالتفكير الإبداعي .
? عدم القدرة على ضمان التنفيذ الفاعل .
الفصل الثاني : المعوقات النفسية للحل الفاعل للمشكلة
أولاً : الإدراك : هناك معوقات قد تظهر عندما لا ندرك المشكلة ، أو المعلومات اللازمة لحلها بشكل صحيح، وتشمل هذه الصعوبات ما يلي :
1. رؤية ما نتوقع أن نراه فقط ، بحيث نغفل عن احتمالية رؤية الغير للحل الصحيح للمشكلة ، والذي غاب عن نظرنا .
2. عدم إدراك المشكلة بشكل فاعل ، حيث نميل إلى التسرع في حل المشكلة بناء على ما نلحظه من أشياء واضحة فحسب دون بذل الجهد إلى ما هو أكثر من ذلك ، مما يؤدي إلى نقص في المعلومات ، الأمر الذي يؤدي بنا عدم الفهم الصحيح للعلاقة بين الأجزاء المختلفة للمشكلة .
3. تنميط ( قولبة ) المشاكل بمعنى استخدام مسميات غير مناسبة ، فعلى سبيل المثال ربما يكون هناك أكثر من سبب لعدم استلام شيك من عميل يتأخر غالباً في السداد ، فلربما يكون السبب عدم إصدار فاتورة له، أو أن الفاتورة لم تصل ، أو ربما يكون شيك العميل فُقِد في البريد ... ، وعليه من الخطأ أن نساوي تلقائياً عدم الاستلام بعدم الدفع .
4. عدم رؤية المشكلة طبقاً لأبعادها الحقيقية ، فنقوم بالاعتماد على المعلومات الجزئية ، ونهمل المعلومات الكلية التي تجلِّي لنا حجم المشكلة وأبعادها .
وسوف تساعدك الخطوات البسيطة التالية من رؤيتك للصورة كاملة ، وهذه الخطوات هي :
ضع أنظمة وإجراءات تنبهك إلى المشاكل والفرص المحتملة .
لا تعتمد على مقاييس غير واضحة وفردية .
حدِّد المشاكل وحلها بدقة متأكداً من جمع كل المعلومات ذات الصلة .
تأكد إن كنت استخدمت معلومات غير صحيحة ، أو وضعت افتراضات بشأن ماله صلة بالمشكلة وما ليس له صلة بها .
اطلب وجهات نظر الأشخاص الآخرين .
استخدم التمثيل البياني للمشاكل لتوضيح العلاقة بين الجوانب المختلفة للمشكلة .
راجع بانتظام الوضع الحالي .
ثانياً : التعبير
يمكن أن تشمل الصعوبات المتعلقة بالتعبير ما يلي :
? عدم القدرة على التعبير عن الأفكار بشكل مناسب .
? استخدام اللغة الخاطئة في العمل على حل المشكلة .
? عدم المعرفة بتطبيقات اللغة .
ونستطيع أن نتخذ بعض الخطوات لتحسين قدراتنا التعبيرية فمثلاً يمكنك أن :
1. تحدد أي اللغات التي ستساعدك على الأرجح في حل مشكلة معينة .
2. اطلب مساعدة خبراء في المشاكل التي تنطوي بالضرورة على لغة لست طليقاً فيها .(/3)
3. حاول استخدام لغات أخرى عدا اللغات المعيارية كأن تستخدم مثلاً لغة بصرية بدل لغة الكلمات ، أو أن تستخدم لغة الجداول بدل بيانات الخام .
4. تتأكد من تكيُّفك مع مستوى فهم الجمهور ، وأن تستخدم معه لغة مناسبة عند شرحك لأفكار معينة.
ثالثاً : الانفعال ( العاطفة )
يمكن أن يسبب لنا تكويننا الانفعالي صعوبات عندما يتعارض مع احتياجات حل المشكلة ، ونضرب بعض الأمثلة على ذلك:
? الخوف من ارتكاب أخطاء أو الظهور بمظهر الغبي أمام الناس وخاصة لو كانوا من الزملاء ، ونتيجة لذلك فإننا نميل إلى وضع أهداف سهلة متجنبين خطر الفشل .
? عدم الصبر ، حيث أن رغبتنا في التقليل من القلق من خلال إضفاء نظام على الموقف ، أو رغبتنا في كسب تقدير من خلال إحراز النجاح يمكن أن يجعل صبرنا ينفد أثناء حل المشكلة ، والعاقبتان الرئيسيتان المترتبتان على ذلك هما : الميل إلى التشبث بأي حل معروض دون إجراء تحليل كاف للمشكلة ، والميل إلى رفض الحلول أو الأفكار غير المألوفة بشكل غريزي تقريباً .
? تجنب القلق أو التوتر ، فمثلاً يكره بعض الأشخاص التغيير بشدة ؛ لأنه ينطوي على عدم اطمئنان يمكن أن يهددهم .
? الخوف من المجازفة .
وهناك الكثير من الخطوات العملية التي يمكنك أن تتخذها من أجل الحد من آثار الانفعال منها :
1. افحص بشكل تحليلي الأفكار والأساليب الموجودة .
2. تقبل الحقيقة ، وهي بأنك متى ما كنت تسعى إلى طرق جديدة وأداء أفضل لشيء ما ؛ فإنه لابد من حصول أخطاء .
3. تذكر بأن العديد من الأشخاص يلاقوا السخرية والاستهزاء على جهودهم وحلولهم ، ثم عُرفوا بعد ذلك باختراعات عظيمة .
4. إذا كنت مازلت تخشى الظهور بمظهر الغبي حاول أن تطبق أفكارك عملياً قبل أن تعرضها على الآخرين ، أو ضع حججاً منطقية لإثبات أنها ستنجح .
5. إذا كنت تكره التغيير تخيل تطبيق أمنياتك على الواقع لترى الفوائد التي ستجنيها منه .
6. اتبع منحاً منهجياً صارماً للسيطرة على التعجل أو على نفاد الصبر .
7. قلل من التوتر من خلال معالجة المشاكل بخطوات تمكنك من أن تديرها بشكل أفضل ، وإن لزم الأمر اطرح المشكلة جانباَ لفترة مؤقتة ، ثم عد إليها فيما بعد.
8. إذا لم ترغب بالمجازفة حدد النتائج غير المحمودة المحتملة ، ثم ابحث عن طرق للحد ما أمكن من خطر حدوثها .
9. إذا ظهر بأن مشكلة ما غير مثيرة للتحدي تخيل أقصى ما يمكنك أن تجنيه من فائدة إذا ما استخدمت معها حلاً جديداً.
رابعاً : التفكير
إن لدينا قدرات للتفكير ، ولكن المصدر الرئيسي للمعوقات التي تعترض حل مشاكلنا هو الكيفية التي نستخدم فيها القدرات ، وتشمل هذه المعوقات ما يلي :
? الافتقار إلى المعرفة أو المهارة في عملية حل المشكلة .
? عدم كفاية التفكير الإبداعي .
? الافتقار إلى المرونة في التفكير .
? الافتقار إلى المنهجية في عملية التفكير.
إن التدرب يزيد من سهولة استخدامنا للتفكير المرن أثناء حل المشكلة غير أن الاستراتيجيات التالية يمكن أن تفيدنا أيضاً:
1- كن منهجياً واعمل بشكل منظم .
2- انظر في الطريقة الأفضل لكل مشكلة .
3- تدرب على استخدام الوسائل المساعدة المتنوعة لحل المشاكل .
4- إذا لم تفهم لغة المشكلة أو إذا لم تملك المعرفة المناسبة لها اعمل مع شخص آخر لديه هذه المعرفة .(/4)
علم الطغيان والفساد"
(الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد،
فصبّ عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد)
إبراهيم غرايبة 3/1/1426
12/02/2005
يحفل تاريخ البشرية بنماذج من الطغيان والاستبداد، وقد عُني الفكر الإنساني بهذه الظاهرة، وألف عبد الرحمن الكواكبي مبكراً كتابه المشهور "طبائع الاستبداد، ومصارع الاستعباد" وتعرض للظاهرة أيضاً معظم المؤرخين والعلماء العرب كما في "سلوك المالك في تدبير الممالك" "لابن أبي الربيع" و "الأحكام السلطانية" "للماوردي" ومن المفكرين المعاصرين الذين تناولوا هذا العلم د. حسين مؤنس في "بشوات وسوبر باشوات" وحسن حنفي "الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر".
ومن أشهر الكتب في الفكر الغربي كتاب "الأمير" لميكافيلي و "الدكتاتورية" لـ "ديفرجيه موريس".
كيف يظهر الطاغية؟ وما مبرّرات وجوده؟ وما الدعائم التي يستند إليها في حكمه؟ ربما يكون أهم كتاب عربي شغل بهذه الأسئلة هو كتاب "الطاغية" للدكتور إمام عبد الفتاح إمام الذي نشر ضمن سلسلة عالم المعرفة.
والسلطة ضرورة بشرية وقديماً قال الشاعر:
لا يصلح الناس فوضى لا سراةَ لهم ... ...
ولا سراةَ إذا جُهّالهم سادوا
ولكن هذه الضرورة قادت في كثير من الأحيان إلى مآسٍ ومجازر وفظائع مرعبة.
واستقرت للطغاة وسائل مألوفة سُجّلت منذ أرسطو وأفلاطون حتى مفكري ومؤرخي العصر الحاضر ومنها:
1- تدمير روح المواطنين، وزرع الشك بينهم وترويضهم على الذلّ والهوان.
2- القضاء على القياديين والأذكياء، ويسمي أفلاطون هذه الطريقة "التطهير".
3- حجب ما يعمل على تنوير النفوس أو يبث الشجاعة والثقة بالنفس.
4- منع المواطنين من التجمع والتعارف والعمل المشترك.
5- الإسراف في الرقابة على الناس والتجسّس عليهم والتدخل في شؤونهم.
6- إفساد أخلاق الناس وتشجيع الرذيلة.
7- إفقار الرعايا وإشغالهم بقوت يومهم.
ويختار الطغاة الفاسدين من البشر لمساعدتهم في الإدارة والحكم؛ لأنهم أكثر استعداداً ورغبة لتنفيذ رغبات الطغاة، ولا يحب الطاغية رجلاً ذا كرامة، ويقرّب الغرباء، وهي وسائل ذكرها جميعها أرسطو الفيلسوف اليوناني، وهي معروفة ومتداولة، والغريب أن أرسطو نصح تلميذه وصديقه الاسكندر الحاكم اليوناني المشهور أن يعامل الشرقيين معاملة العبيد، وأن يعامل اليونانيين معاملة الأحرار، ويبدو أنها فلسفة مستمرة حتى اليوم في الغرب؛ حيث تستطيع الدول والقيادات الغربية أن تجمع بين ديمقراطية غربية وتشجيع ودعم للطغيان والدكتاتورية في العالم.
ويجد الطغاة دائماً من يبرر أعمالهم ويزيّنها على شاكلة قول ابن هانئ الأندلسي للحاكم الفاطمي المعز:
ما شئت لا ما شاءت الأقدارُ ... ...
فاحكمْ فأنت الواحد القهّارُ
وكأنما أنت النبيُّ محمّدٌ ... ...
وكأنما أنصارك الأنصارُ
ولا يمكن أن يدوم الطغيان لولا مناصرة فئة له، وتزيين أعماله للناس ودفعهم لقبولها وتأييدها، ولا يعبأ الطغاة برضا الناس ولكن بخضوعهم؛ لأن لسان حالهم لا يهمني أن يكرهني تسعة مواطنين من عشرة إذا كان العاشر وحده مسلحاً، ويذكر "العبادي" في تاريخ الفاطميين أن المعز عندما دخل القاهرة وخطب في الناس سألوه عن حسبه ونسبه، فأخرج من جيبه دنانير ذهبية، وقال: هذا حسبي، وأخرج سيفه من غمده، وقال: وهذا نسبي.
وينسحب أثر الطغيان على الفكر والعلم والأدب، ويحتاج ابن المقفع إلى وقفة خاصة، فهو صاحب مكانة رفيعة في الأدب والثقافة، وقد ترجم كثيراً من كتب أرسطو ولكن كتابه "رسالة الصحابة" وهو رؤية في الحكم والإدارة تدعو إلى العدل والشورى، وفي "البداية والنهاية" أن والي البصرة للمنصور سفيان بن حبيب دعا ابن المقفع إلى مقصورته، وقال له: والله لأقتلنّك قِتلة يسير بذِكرها الرّكبان، وأخذ يقطع من جسمه أجزاء ويضع كل قطعة في النار، وهو يراها تحترق حتى مات.
وتختفي الحقائق والمعلومات أو تلوّن، ويقلّ الإبداع والتفكير؛ لأنه يصبح مهلكة، ولأبي العلاء المعري صورة شعريّة في ذلك:
جلوا صارماً وتلوا باطلاً
وقالوا: صدقنا، فقلنا: نعم
وفي صحيح مسلم في باب الفتن عن المستورد القرشي -رضي الله عنه- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "تقوم الساعة والروم أكثر الناس. فقال عمرو بن العاص -رضي الله عنه- للمستورد: أحقٌ ما تقول: قال: أقول ما سمعته عن رسول الله. فقال عمرو: ذلك أن فيهم أربع خصال: إنهم أشد الناس كراً بعد فرّ، وأسرعهم فيئاً بعد مصيبة، وأكثرهم حلماً عند غضب، وخيرهم لعاجز وضعيف وامرأة خامسة حسنة جميلة، وأمنعهم من ظلم الملوك".(/1)
ولكن الطغيان والفساد ليسا مقصورين على الحكومات والعمل الرسمي، بل إنهما في كثير من الأحيان في القطاع الأهلي والخاص يفوقان العمل الحكومي، ففي العمل الحكومي من الأنظمة والقوانين والمؤسسات ما يفترض أنه يمنع الفساد أو يحاصره، ولكن غياب مثل هذه الأنظمة في الشركات والأحزاب والجماعات والجمعيات الخيرية يجعل الفساد والظلم مقنّناً أو مبرّراً أو لا يمكن الاعتراض عليه، وما نراه من تزوير ومناصب وهمية وفصل تعسفي واختيار منحاز، وأكل السحت وحقوق الناس والمساهمين وافتعال الأسباب لنيل المكافآت الإضافية مما يجري في الشركات والجمعيات يفوق المؤسّسات الحكوميّة.
إن الخطوة الأولى في الحرب مع الفساد هي الحرية وكرامة الناس والرقابة الشعبية والإعلامية على المؤسسات العامة والخاصة، وبغير ذلك فسيبقى الفساد متمأسِساً متمكّناً ولو حسنت النوايا، وتحققت الرغبات الصادقة لمكافحته.(/2)
علماء سودانيون يطالبون باستتابة الترابي بعد تصريحاته الأخيرة و دعوات لمحاكمته قضائيا الخرطوم 14/03/1427
الترابي وتصريحاته الأخيرة ,دعوي قضائية ضده
بعد إصداره فتاوى شاذة ومثيرة للجدل اتهم علماء سودانيون الأمين العام للمؤتمر الشعبي حسن الترابي بـ"الزندقة والردة والخروج عن الملة".
وطالب العلماء بعقد جلسة لاستتابة الترابي لعودته إلى الإسلام وتبرؤه من فتواه بجواز إمامة المرأة للرجال في الصلاة وزواج المسلمة من غير المسلم نصرانيا أو يهوديا وإنكاره وجود نصوص من القرآن والسنة تمنع ذلك.
وأضافوا أن أفكار الترابي ليست جديدة, لكنها تأتي في وقت تحتاج فيه الأمة للتوحد لا للتفرقة, محذرين في الوقت ذاته عامة الناس من اتباعه وذلك بالبعد عنه ومفارقته.
من جانبه قال الشيخ يوسف الكودة إن المتتبع لنهج الترابي في تناوله للقضايا الفقهية يجد أنه مخالف مخالفة صريحة, قائلا "إذا أخطأ العالم أو المجتهد فليس ذلك بغريب عليه, ويمكن أن يراجع, لكن ما هو مرفوض أن يجتمع الشر كله في هذا العمل بإنكار ما هو في الدين".
وأكد الكودة أن ما أفتى به الترابي لا علاقة له بالاجتهاد الشرعي, معتبر كل تلك الفتاوى بأنها "باطلة" لأنها ناشئة عن باطل وأنه لا مكان لتخرصات الترابي وأقواله الغريبة عن الأمة.
وأشار الشيخ علاء الدين الزاكي الأمين العام للرابطة الشرعية للعلماء و الدعاة في السوادن إلى أن الترابي أصبح "ينتهج نهج المعتزلة وهو يقدم العقل على النصوص لذلك يجب أن يواجه مواجهة شرعية, إما التوبة وإما يحاكم محاكمة عادلة باعتباره أصبح عبئا ثقيلا على الدعوة في السودان ويثير ما يرتضيه النصارى من تخرصات".
هذا و قد قال الشيخ محمد عبد الكريم عضو الرابطة الشرعية للعلماء و الدعاة في تصريح خاص للمشكاة أن مجموعة من العلماء تدرس الآن رفع قضية ضد الترابي و إتهامه بالردة , و الدعوة إلى محاكمته على غرار محمود محمد طه .
و قال أن الدعوى لن تقتصر على أقواله الجديدة بل القديمة أيضا مثل إعتباره أن اليهود و النصارى ليسوا كفار ملة , و أن حواء خلقت قبل آدم و أن الإيمان بنظرية دارون حول أصل الإنسان لا يتنافى مع الإسلام و غير ذلك من القضايا المخالفة لإجماع المسلمين . وكان الترابي مؤخرا قد افتي بجواز زواج المرأة المسلمة من الرجل الكتابي مسيحيا كان او يهوديا ، ووصف القول بحرمة ذلك بانه مجرد اقاويل وتخرصات واوهام وتضليل ، الهدف منها جر المراة الي الوراء.
واعتبر الترابي الحجاب للنساء يعني الستار وهو الخمار لتغطية الصدر وجزء من محاسن المراة، ولا يعني تكميم النساء ، بناء علي الفهم الخاطئ لمقاصد الدين والآيات التي نزلت بخصوص الحجاب والخمار ان منع زواج المراة المسلمة من غير المسلم، ليس من الشرع في شيء والاسلام لم يحرمه ولا توجد آية او حديث يحرم زواج المسلمة من الكتابي مطلقا الا أنه زعم ان الحرمة التي كانت موجودة، كانت مرتبطة بالحرب والقتال بين المسلمين وغيرهم وتزول بزوال السبب.
واضاف الترابي في ندوة بعنوان دور المراة في تأسيس الحكم الراشد اقيمت بدار حزب الامة جناح مبارك الفاضل انه يقدم الاسانيد لما افتي به، وقال ان التخرصات والاباطيل التي تمنع زواج المراة المسلمة من الكتابي، لا اساس لها من الدين، ولا تقوم علي ساق من الشرع الحنيف ، واضاف وما تلك الا مجرد اوهام وتضليل وخداع للعقول، الاسلام منها براء .
وعضد الترابي اقواله السابقة التي جوزت امامة المراة للرجل في الصلاة، وقال ان من حق المراة المسلمة، ان تؤم الرجال وتتقدم الصفوف للصلاة، اذا كانت اكثر علما وفقها في الدين من الرجال وابان انه من حقها ذلك.
ومضي الترابي الي القول ان شهادة المراة تساوي شهادة الرجل تماما وتوازيه بناء علي هذا الامر، بل احيانا تكون افضل منه واعلم واقوي منه.(/1)
علماء وأمناء
د. فيصل بن سعود الحليبي 23/10/1425
06/12/2004
من بين ملايين القلوب تتميز قلوب، يسخِّر الله لها من يكتشف أن لها حياة ليست كحياة الآخرين، فيرعاها بالبذر الطيب والسقي الهنيء، حتى إذا ذاقت طعم العلم، وأحسّت بإشراقة نوره، وتنعّمت بنعيم سعادته، أقبلت عليه كخيل عادية، لا تلوي على شيء سواه، نهمة تشعر بعطش شديد لا يروي ظمأها إلا المزيد من معارفه وأسراره، أولئك هم العلماء، ورثة الأنبياء كما وصفهم النبي فقال: ( إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَه أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِر) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
إنه عمر مديد، قضاه غيرهم في المتع والملذات، وقضوه بين أوراق الكتب والمحابر، وأفناه غيرهم في التجارة واللهو، وقضوه في صفوف الحلق أمام المشايخ وأهل العلم، حتى رست سفينتهم على سواحل العطاء، فما توقفت لهم همة، ولا لانت لهم عزيمة، بل تحوّلت سنوات طلبهم إلى تضحيات بالوقت والصحة والمال، يبذلون ذلك كله بنفس راضية سخية رفيقة لكل طالب أو سائل.
غير أن العلم أمانة، وأداء الأمانة إيمان، والإيمان محل امتحان وفتنة، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ).[العنكبوت:2].
ولم يكن العالم الحق إلا مبتلى، تغدو عليه الابتلاءات وتروح، وإنها لقنطرة خطرة يجتازها من صَدَق، ويخيب فيها الكاذبون!!
قلة المال ..وطأة المرض ..وجور السلطان ..وإلحاح العامة والجهال..هذا نزر من الفتن، وإن بدا قليلاً إلا أن له لسعاً كلسع العقارب لا سيما على قلبٍ عاش في ظلال العلم وأكناف الدروس.
أما قلة المال، فما أجمل حديث ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ عن فتنته على العلماء حيث قال: "رأيت نفرًا ممن أفنى أوائل عمره وريعان شبابه في طلب العلم، صبر على أنواع الأذى، وهجر فنون الراحات، أنفقه من الجهل ورذيلته، وطلبًا للعلم وفضيلته، فلما نال منه طرفًا رفعه عن مراتب أرباب الدنيا ومن لا علم له إلا بالعاجل، ضاق به معاشُه أو قلَّ ما ينشده من حظوظ، فسافر في البلاد يطلب من الأرذال، ويتواضع للسفلة وأهل الدناءة والمكّاس وغيرهم.
فخاطبت بعضهم وقلت: ويحك أين تلك الأنفة التي سهرت لأجلها، وأظمأت نهارك بسببها، فلما ارتفعت عدت إلى أسفل سافلين؟ أ فما بقي عندك ذرة من الأنفة تنبو به عن مقامات الأرذال؟ ولا معك يسيرٌ من العلم يسير بك عن مناخ الهوى؟ ولا حصلت بالعلم قوة تجذب بها زمام النفس عن مراعي السوء؟
على أنه يبينُ لي أن سهرك وتعبك كأنهما لنيل الدنيا!!" صيد الخاطر : 157 .
وأما وطأة المرض، فما كان لهم بال أن يعطوا لأجسامهم راحتها لكي تنفك من أوصابها، بل إنهم يتقلدون قول الإمام يحيى بن أبي كثير ـ رحمه الله ـ : "لا يُستطاع العلم براحة الجسم".
وإنك لتشعر بوضوح أن المرض أو حتى الإعاقة الدائمة لا يعنيان للعالم الرباني إلا مزيدًا من الطموح وعلو الهمة واستنفاد القوة، قال إسماعيل بن أمية ـ رحمه الله ـ : " كان عطاء بن أبي رباح يطيل الصمت، فإذا تكلم خيّل إلينا أنه مؤيد ـ أي من الله ـ ، وكان أسود ، أعور ، أفطس ، أشلَّ ، أعرج ، ثم عَمِي! ففي جسمه ستة عيوب، ولكنه كان ركنًا من أركان العلم والدين والصلاح والقدوة ،وكان ثقة فقيهًا ،حجّ نيّفًا ـأي زيادة ـ على سبعين حجة". تاريخ الإسلام للذهبي 4/279.
ولقد ضرب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ مثالاً رائعًا في تجاوز بلاء المرض، حتى جعل الله منه أنموذجًا معاصرًا للعالم القدوة، فمع عمى بصره، إلا أنه كان نافذ البصيرة، لا يكل من العطاء، ولا يمل من كثرة السؤال، ولا تزيده سفاهة السائلين إلا أناة ورفقاً بهم، دؤوب العمل، تشغله محن المسلمين، وتفرحه انتصاراتهم.
أما جور السلطان، فليس لتجاوز فتنته سبيل لدى العالم إلا كلمة الحق كما قال النبي:
"إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِر"ٍ رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
وكلمة الحق هي النصيحة التي قال فيها النبي: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَن؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ" رواه مسلم.(/1)
وهي لا تعني سوء الخطاب، أو غِلَظ الحديث، بل إن لها بالرفق واللين صلة وثيقة وخصوصًا حينما ترتبط بإرادة الإصلاح الحقيقي، وبسط الإيمان والأمان بين الناس، دون قصد التعالي والتباهي بالبحث عن الأخطاء والتشهير بالحكّام، فالله تعال يوصي نبيه موسى وهو في طريقه إلى دعوة أعتى حاكم فيقول سبحانه: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)[طه:43-46] ، ولاحظ كيف كان هذا الأسلوب الإلهي مدعومًا دعمًا مباشرًا بمعية الرحمن سبحانه التي تصحب الدعاة الصادقين والناصحين المخلصين.
ومن هنا كان لهارون الرشيد ـ رحمه الله ـ موقفًا طريفًا حينما جاءه من يعظه وقد أغلظ عليه في الوعظ والتذكير فقال له الرشيد: " يا هذا، إن الله تبارك وتعالى قد أمر من هو خيرٌ منك بإلانة القول لمن هو شرٌ مني، قال لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام إذ أرسله إلى فرعون: "فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى).
وصدقني ـ أيها القارئ الكريم ـ إن الحاكم المسلم يقدًّر في العلماء علمهم، ويجلّ فيهم هيبتهم ماداموا يسيرون على سمتهم الوقور، ويتكلمون على لسان مصالح الشعوب، حتى ولو خالفوه في مبادئه أو في بعض تصرفاته، وحتى لو سجنهم أو كممهم إلا أن لهم في قلبه تعظيمًا وتقديرا!!
وتأمل موقف غازان التتري مع شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حينما وقف بين يديه يناصحه ويناشده الرجوع إلى الحق فإنه قال له بلسان الأمة لا بلسان الطامع في رضاه أو في التقرب منه: "أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا، فغزوتنا وبلغت بلادنا .. على ماذا ؟ وأبوك وجدك كانا كافرين، وما غزوا بلاد المسلمين بعد أن عاهدونا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلتَ فما وفيت!!
فقرّب غازان إلى الوفد طعامًا فأكلوا إلا ابن تيمية، فقيل له: ألا تأكل ؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس؟ وغازان مصغٍ لما يقول ، شاخص إليه لا يعرض عنه، وإن غازان من شدة ما أوقع في قلبه من الهيبة والمحبة، سأل : مَنْ هذا الشيخ ؟ إني لم أر مثله، ولا أثبت قلبًا منه، فأُخبر بحاله، وما هو عليه من العلم والعمل، ثم طلب منه غازان الدعاء، فقال الشيخ يدعو: اللهم إن كان عبدك هذا إنما يقاتل لتكون كلمتك العليا، وليكون الدين كله لك، فانصره وأيده، وملكه البلاد والعباد، وإن كان قد قام رياء وسمعة، وطلبًا للدنيا، ولتكون كلمته هي العليا، وليذل الإسلام وأهله، فاخذله وزلزله ودمره واقطع دابره، وغازان يرفع يديه يؤمن على دعائه!!"
وفتنة العالم بالسلطان عظيمة ولا شك، ذلك حينما يهيل عليه الأموال، ويرفع له المناصب، ويبسط له الوجه، ويمنيه بالجاه، ويقضي له الدين والحوائج، حتى إذا تكاثرت عليه العطايا حجب عنه نور العلم، واستوحش منه الناس، ونظر إليه الحاكم نظرة التحقير لما يرى منه من التذلل لأجل حوائجه، قال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ : "حضرنا بعض أغذية أرباب الأموال، فرأيت العلماء أذل الناس عندهم؛ فالعلماء يتواضعون ويذلون لموضع طمعهم فيهم، وهم لا يحفلون بهم لما يعلمونه من احتياجهم إليهم" صيد الخاطر : 194.
والناظر بعين الإصلاح يجد أن العالم الناصح لابد أن يتعلم فنّ النصح للسلاطين دون التقرب إليهم فهو أنفع له ولأمته من قدرته على نقدهم بين العامة؛ أو البعد عنهم من غير نصح أو توجيه، فتلتهم مجالسَهم بطانةُ السوء، فلا تُرحم حينها العوام ولا الخواص.
أما فتنة إلحاح العامة على العالم، فلا تقل تأثيرًا اليوم عن سلطة الحاكم وجبروته، فإن قامت للعامة همة وحماس أوقدوا في العالم نار التحرّك واستطالة الحديث، يحصرونه في زاوية ضيقة من الذهاب عليه والإياب، والجدل والاستعجال، حتى يفعل أو يقول ما لو تأمل فيه بعد ذلك ما قال ولا فعل!!
وإن لم يكن للعامة همٌ بالأمة ولا ما يدور فيها كانوا أكثر لومًا وعتابًا للعالم على ما قال أو فعل، أو أمر أو أنكر!!
وهنا تأتي حكمة العالم الحكيم، لا تزيده ضجة الناس من حوله إلا خوفًا من الله أن يقول ما لا يرضيه وإن أسخط الناس، ولا ينتظر منهم أن يتجمهروا حوله حتى يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، وإنما زادُه في ذلك كله العلم والحكمة والأناة والعزيمة والنصح الخالص للمسلمين.
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ : "سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فقلت له : إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمرة عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، فدعهم".(/2)
ومن ذلك ما ذكره ابن كثير ـ رحمه الله ـ بقول: "لقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتار من أي قبيل هو؟ فإنهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته فخالفوه.
فقال الشيخ تقي الدين : هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليّ ومعاوية ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون من المعاصي والظلم، وهم متلبسون ما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك" البداية والنهاية 14/24.
إنها أمانة العلم فحسب، ثقل في الدنيا، ومحاسبة في الآخرة، وسبيل بالعطاء إلى الغفران، وطريق بالكتمان إلى الخسران، تصان بالورع، وتزكو بالتواضع، وتبقى بالصبر مدى الأزمان.
فسبحان الله القائل : ( يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ).
وسبحانه عز من قائل عليم: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)[آل عمران:187].(/3)
علمتني الحياة
للشاعر: أنور العطار
نعيم التأني
علمتني الحياةُ أنّ التأنّي شدّ ما كان غايةَ المُتَمَنِّي
فتزوّدتُ أيَّ زادٍ من الصبر وقرَّبتُ حكمةَ الدهرِ مني
لستُ أختارُ أن أكونَ عجولاً أدَعُ الغيبَ بين رجمٍ وظنِّ
قِسَمي لن تكون يوماً لغيري فلأعوّدْ نفسي نعيم التأنّي
الهوى طفلٌ
علّمتني أنَّ الطفولةَ ألوانٌ وأنّ الهوى على الدهرِ طفلُ
إنْ كتمتَ الهوى كتمتَ التباريحَ وإن بُحتَ فالفضيحةُ شغلُ
أو أطعت الهوى أطعتَ الأضاليلَ ودربُ الهوى هوانٌ وذلُّ
حار في كُنههِ الأساةُ فما ينجي حذارٌ وليسَ يَردعُ عذل
الوجود صراعٌ
علّمتني أنّ الوجودَ صراعُ لا يُجيدُ الصراعَ إلا شجاعُ
فتقحَّمتُ غايتي غير هيّابٍ وللنفسِ كرّةٌ واندفاعُ
إنما يحذرُ الكفاحَ جبانٌ ملءُ جنبيهِ رهبةٌ وارتياع
والشّجاعُ من دأبهُ الحزمُ ومَنْ همُّهُ السُّرى والزماع(/1)
علمنة رمضان
المصدر/المؤلف: خالد محمد الغيث
لقد اختص الله سبحانه وتعالى شهر رمضان دون سائر الشهور بنزول القرآن الكريم، قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ .
كما اختصه سبحانه وتعالى بليلة عظيمة الشأن، شريفة القدر، ألا وهي ليلة القدر، قال تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ .
وفي هذا الشهر الكريم، وفي السنة الثانية من الهجرة النبوية المباركة انتصر الله سبحانه وتعالى لعباده الموحّدين بقيادة رسول الله على المشركين المعاندين في معركة من معارك العقيدة، ألا وهي غزوة بدر الكبرى التي فرق الله فيها بين الحق والباطل.
كذلك فقد شهد هذا الشهر تحرير قبلة المسلمين من براثن الشرك، بعد أن أذِن رب العزة والجلال لنبينا محمد بفتح أم القرى في السنة الثامنة من الهجرة النبوية.
هذه المنزلة العظيمة لشهر رمضان جعلت رسول الله في شوق دائم إليه، فكان يدعو الله في كل عام أن يبلغه إياه ويقول: { اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلِّغنا رمضان }.
وعلى هذا النهج من الشوق والتوقير لشهر رمضان سار صحابة رسول الله ، ومن جاء بعدهم من التابعين وسلف الأمة الصالح.
لقد ارتبط شهر رمضان في ذاكرة الأمة المسلمة بالعزة والكرامة، ابتداءً من غزوة بدر الكبرى، التي أرادها الله سبحانه وتعالى أن تكون في أول رمضان يصومه المسلمون، لذا فقد حرص أعداء الأمة المسلمة في هذا العصر على تفتيت هذا الارتباط الحيوي الذي يجمع المسلمين بهذا الشهر الكريم، وراحوا يعملون من أجل ذلك على محورين:
الأول: العمل على جعل شهر رمضان بالنسبة للأمة المسلمة شهراً للمآسي والنكبات، وهذا مشاهد في البلدان الإسلامية مثل: فلسطين، والعراق، وأفغانستان، والشيشان، وغيرها.
الثاني: السير بخطوات حثيثة نحو علمنة شهر رمضان، وذلك من خلال تفريغ هذا الشهر الكريم من محتواه الذي أراده الله سبحانه وتعالى، فبدلاً من أن يكون رمضان محطة إيمانية، ووقفة للمحاسبة والمراجعة، نجده تحول بفعل وسائل الإعلام إلى شهر من شهور ألف ليلة وليلة، ليس على مستوى الطعام والشراب فقط، بل على مستوى العفة والفضيلة التي تنحر من الوريد إلى الوريد في القنوات الفضائية العربية، حيث تحول معظمها إلى أندية ليلية، راحت تتفنن في محاربة الله ورسوله ، تحت مسمى السهرات الرمضانية، والخيام الرمضانية، ولسان حالها يقول: يا باغي الشر أقبل، ويا باغي الخير أقصر.
ومهما يكن من أمر فإن المحزن في هذه القضية أن علمنة رمضان، والمؤامرة عليه تتم بأموال رجال الأعمال المسلمين، الذين يملكون معظم تلك القنوات الفضائية، فهل هذا هو جزاء إحسان الله إليهم؟! أم يريدون أن يكونوا مثل قارون الذي كفر بأنعم الله؟! قال تعالى: وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ .
وختاماً أيها القارئ الكريم فإنه ينبغي علينا أن نحمي صيامنا وقيامنا من قراصنة الأجر والثواب، في تلك القنوات الفضائية، الذين يترصّدون للأسرة المسلمة في كل ليلة من ليالي رمضان، وليكن شعارنا جميعاً:
حييت يا شهر العبادة والتقى حييت يا شهر البطولة والفدى حييت يا شهر المكارم والندى
هذا والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.(/1)
علموا منزلة القرآن فكان من أهم أولوياتهم في رمضان
في زمن غابت فيه القدوة الصالحة، وغُيب كثير من الصالحين عن مخالطة الناس، وتصدرت موجات الفساد وأهله وصار المفسدون هم قدوات المسلمين، يحن المسلم إلى السلف الصالح، ليتزود من سيرتهم، ويسلك نهجهم في السير إلى الله.
ورحم الله الإمام مالك فقد كان يستأذن أصحابه بعد انتهاء درس العلم ليجلس مع الصحابة ساعة، فيدارس كتبهم ويقرأ قصصهم، فينطبع في نفسه تلك القدوة التي لم يقدر له أن يعيش معهم، فإن حرم معاشرتهم حية، فسيرتهم زاد له على الطريق.
وقد كان الصحابة يدركون أن من أهم أهداف المسلم في رمضان.. تكفير الذنوب، ولهذا كانوا يستقبلونه بهذا المعنى، كما ورد عن عمر أنه كان يقول: "مرحباً بمطهِّرنا من الذنوب".
وكانوا يكثرون من الدعاء بالمغفرة، فقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا أفطر يقول: "اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي".
مع القرآن: ولقد أولى الصحابة رضوان الله عليهم القرآن الكريم اهتماماً خاصاً في رمضان، فكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يختم القرآن مرة كل يوم.
ولم يكن حال القرآن مع الصحابة في رمضان مجرد قراءة، بل كانت الخشية غالبة عليهم في قراءتهم، فقد أخرج البيهقي عن أبي هريرة قال: لما نزلت أفمن هذا الحديث تعجبون (59) وتضحكون ولا تبكون (60) (النجم)، فبكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله بكاءهم بكى معهم فبكينا ببكائه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله". فانظر بكاء أهل الصفة من الصحابة وتأثرهم بقراءة القرآن، وذلك أنه جرى على قلوبهم، قبل أن يجري على ألسنتهم.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما كثير البكاء عند قراءة القرآن، فقد ورد أنه قرأ سورة المطففين حتى بلغ يوم يقوم الناس لرب العالمين (6) "المطففين" فبكى حتى خر من البكاء.
كما كان الصحابة يطيلون صلاتي التراويح والقيام، لا يقرؤون بآية أو آيتين كما يصنع بعض المسلمين، فقد ورد عن السائب ابن يزيد قال: "أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبَي بن كعب وتميم الداري رضي الله عنهما أن يقوما للناس في رمضان، فكان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلاَّ في فروع الفجر".
بل كان الصحابة يعدّون من يقرأ سورة البقرة في اثنتي عشرة ركعة من المخففين، فعن عبد الرحمن بن هُرْمز قال: "ما أدركت الناس إلاّ وهم يلعنون الكفرة في شهر رمضان، قال: فكان القراء يقومون بسورة البقرة في ثماني ركعات، فإذا قام بها القراء في اثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف عنهم."
وكان الصحابة يقومون الليل حتى يقترب الفجر، وما يكاد أحدهم ينتهي من السحر حتى يؤذَّن للفجر، فعن مالك عن عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: سمعت أبي يقول: "كنا ننصرف في رمضان من القيام، فيستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر".
الخلوة للعبادة: ورد عن نافع مولى ابن عمر أنه قال: "كان ابن عمر رضي الله عنهما يقوم في بيته في شهر رمضان، فإذا انصرف الناس من المسجد أخذ إداوةً من ماءٍ ثم يخرج إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يخرج منه حتى يصلي فيه الصبح".
وكان بعض الصحابة يختم القرآن كل سبع ليال، في التراويح، فقد ورد عن عمران ابن حُدير قال: "كان أبو مجلز يقوم بالحي في رمضان يختم في كل سبع".
النساء والشيوخ: بل كان القوم يحرصون على طول القيام مع كبر سنهم، ولم يكن هذا مانعهم من أن يطيلوا، فقد ورد عن سعيد بن عامر عن أسماء بن عبيد قال: "دخلنا على أبي رجاء العطاردي، قال سعيد: زعموا أنّه كان بلغ ثلاثين ومائة، فقال: يأتوني فيحملوني كأني قُفَّةٌ حتى يضعوني في مقام الإمام فأقرأ بهم الثلاثين آية، وأحسبه قد قال: أربعين آية في كل ركعة يعني في رمضان"، بل ورد أن أبا رجاء كان يختم بالناس القرآن في قيام رمضان كل عشرة أيام.
ولم يكن النساء أقل نصيباً في صلاة التراويح من الرجال، فيروي أبو أمية الثقفي عن عرفجة أن علياً كان يأمر الناس بالقيام في رمضان، فيجعل للرجال إماماً، وللنساء إماماً، قال: فأمرني فأممت النساء.
الإفطار مع الفقراء: وكان الصحابة لا يكثرون من الطعام في الإفطار، وكان بعضهم يحب أن يفطر مع المساكين، مواساة لهم، فكان ابن عمر رضي لله عنهما لا يفطر إلاَّ معهم، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه، أخذ نصيبه من الطعام وقام، فأعطاه إياه، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفْنَةِ، فيصبح صائماً ولم يأكل شيئاً.(/1)
العشر الأواخر: أما في العشر الأواخر، فكانوا يجتهدون اجتهاداً منقطع النظير، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، رغبة في بلوغ ليلة القدر المباركة، التي كانوا يستعدون لها استعداداً خاصاً، فكان بعضهم يغتسل ويتطيب في ليلة السابع والعشرين، التي رجح بعض العلماء أنها ليلة القدر، فيقضونها بين صلاة وذكر، وقيام وقراءة قرآن، ودعاء وتضرع لله تعالى، سائلينه أن يعتق رقابهم من النار.(/2)
علو الهمة صعود للقمة
علو الهمة هو الباعث على الفعل، وتوصف بعلو أو سفول همتك فاحفظها، فإن الهمة مقدمة الأشياء ، فمن صلحت له همته وصدق فيها، صلح له ما وراء ذلك من الأعمال
الهمة عمل قلبي،
والقلب لا سلطان عليه لغير صاحبه، وكما أن الطائر يطير بجناحيه، كذلك يطير المرء بهمته، فتحلق به إلى أعلى الآفاق ، طليقةًً من القيود التي تكبل الأجساد
وبعلو الهمة ينال الإنسان ما لا يناله بالثروة ويدرك بها ما لا يدركه بالمناصب والمناصب عادية والثروة زائلة وعلو الهمة ثروة نفسية باقية ما بقي الإنسان وتظل آثارها باقية
بعد موت الإنسان انظر إلى من هو فوقك في الكمال وثق بنفسك قبل المسير وإذا سرت فضع قدمك بثبات وأنقله بحزم وستجد اللذة عند أول قدم تضعها وستفوز بعد قليل بالغاية , وسوف تعترضك في الطريق أشباح وأوهام يسميها العامة من الناس مصاعب فلا تعرها التفاتاً فإن السلم لابد له المدارج تقدم ولو خطوة فإنها تمهد سبيل الخطوة الثانية ولاتقف في سيرك.
قال صلى الله عليه وسلم:" من همَّ بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة " رواه البخاري
وقال صلى الله عليه وسلم: " من سأل الله الشهادة بصدقٍ ، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه " رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم فيمن تجهز للجهاد، ثم أدركه الموت: " قد أوقع الله أجره على قدر نيته " رواه الإمام أحمد وغيره
وقال صلى الله عليه وسلم : " ما من امرئٍ تكون له صلاة بليل، فغلبه عليها نوم ، إلا كُتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقةً عليه " رواه النسائي وأبو داود
وقد يتفوق المؤمن بهمته العالية كما بيَّن ذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في قوله:
" سبق درهم مائة ألف "، قالوا: يا رسول الله ، كيف يسبق درهم مائة ألف
قال:" رجل كان له درهمان ، فأخذ أحدهما ، فتصدق به ، وآخر له مال كثير ،
فأخذ من عَرْضها مائة ألف "رواه أحمد وغيره .
إن عالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته، وتحقيق بغيته، لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات، و اللذات و الكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبر إليها إلا على جسر من التعب
بَصُرتُ بالراحة الكبرى فلم أرها *** تُنال إلا على جسر من التعب
كثيرون أولئك الذين يفهمون من علو الهمة معنى العظمة وعلو الهمة هو طموح الانسان إلى شريف الأعمال والأخلاق وهما لرقي الفرد ورقي الأمة أساس .
عالي الهمة يُرى منطلقاً بثقة وقوة وإقدام نحو غايته التي حددها على بصيرة وعلم ، فيقتحم الأهوال، ويستهين الصعاب سأل يوما الممكن المستحيل : أين أجدك قال :أنا موجود في عالم كل خامل ومتكاسل .
من أراد الجنة سلعةَ الله الغالية لم يلتفت إلى لوم لائم، ومضى يكدح في السعي لها
قال تعالى: ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا )
وقال صلى الله عليه وسلم: " من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة "
الثقه بالله ..وانه لا مستحيل مع وجود الله فمن علو الهمة
قال تعالى "فإذا عزمت فتوكل على الله "
علو الهمة
أن تتذكر دوما أنك مسلم.....وأن هناك من تلجأ إليه ولن يخذلك أبدا وهو الله
المسلم يندم على ساعة مرت به في الدنيا لم يعمرها بذكر الله عز وجل ، قال صلى الله عليه وسلم : " ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها "
يا كبير الهمة : لا يضرك التفرد ، فإن طرق العلا قليلة الإيناس
فعالي الهمة يرقى في مدارج الكمال بحيث صار لا يأبه بقلة السالكين، و وحشة الطريق لأنه يحصل مع كل مرتبة يرتقي إليها من الأنس بالله ما يزيل هذه الوحشة ، و إلا انقطع به السبيل
عالي الهمة لا يرضى بالدون ولا يرضيه إلا معالي الأمور .
إن عالي الهمة يعلم أنه إذا لم يزد شيئا في الدنيا فسوف يكون زائدا عليها ، ومن ثم فهو لا يرضى بأن يحتل هامش الحياة ، بل لابد أن يكون في صلبها ومتنها عضوا مؤثرا .
إذا ما مضى يوم ولم أصطنع يدا * ولم أقتبس علما فما هو من عمري(/1)
إن كبير الهمة نوع من البشر تتحدى همته ما يراه مستحيلا ، وينجز ما ينوء به العصبة أولو القوة ، ويقتحم الصعاب والأهوال لا يلوي على شيء له همم لا منتهى لكبارها وهمته الصغرى أجل من الدهر إن كبير الهمة لا يعتد بما له فناء ، ولا يرضى بحياة مستعارة ، ولا بقُنيةٍ مستردة ، بل همه قنية مؤبدة ، وحياة مخلدة ، فهو لا يزال يحلق في سماء المعالي ، و لا ينتهي تحليقه دون عليين ، فهي غايته العظمى ، وهمه الأسمى وعالي الهمة يعرف قدر نفسه ، في غير كبر ، و لا عجب ، ولا غرور ، وإذا عرف المرء قدر نفسه ، صانها عن الرذائل ، وحفظها من أن تهان ، ونزهها عن دنايا الأمور ، و سفاسفها في السر والعلن ، وجنبها مواطن الذل بأن يحملها ما لا تطيق أو يضعها فيما لا يليق بقدرها ، فتبقى نفسه في حصن حصين ، وعز منيع لا تعطى الدنية ، و لا ترضى بالنقص ، ولا تقنع بالدون .
فكبير الهمة يبني مجده بشرف نفسه ، لا اتكالا على حسبه ونسبه ، و لا يضيره ألا يكون ذا نسب ، فحسبه همته شرفا ونسبا .
إن نصوص القرآن والسنة حثت المؤمنين على ارتياد معالي الأمور ، والتسابق في الخيرات ، وتحذيرهم من سقوط الهمة ، وتنوعت أساليب القرآن في ذلك.
فمنها : أبشع صورة لدنو الهمة
"واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون "
ومنها: ثناؤه سبحانه على أصحاب الهمم العالية وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون
وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل وعلى رأسهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم
( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ) .
ومنها : أنه عبر سبحانه عن أوليائه الذين كبرت همتهم بوصف الرجال في مواطن البأس والجلد والعزيمة والثبات على الطاعة ، والقوة في دين الله
( فيه رجال يحبون أن يطهروا والله يحب المطهرين ) .
( يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة )
( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا )
***********
كبر الهمة يجلب لك بإذن الله خيرا كثيراً ، ويجري في عروقك دم الشهامة والركض في ميدان العلم والعمل ، فلا ترى واقفا إلا على أبواب الفضائل ، ولا باسطا يديك إلا لمهمات الأمور .
بقَدْر ما تَتَعنَّى ، تنالُ ما تتمنَّى
إن التحلي بكبر الهمة يسلب منك سفاسف الآمال والأعمال ، ويجتث منك شجرة الذل والهوان
العلم يصعد بالهمة ، ويرفع طالبه عن حضيض التقليد، ويُصفِّي النية.
* إرادة الآخرة، وجعل الهموم همَّا واحداً.. قال تعالى: ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ( من كانت همّه الآخرة، جمع الله له شملَه، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة، ومن كانت همّه الدنيا، فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له) من حديث زيد ابن ثابت .
أصحاب الهمة العالية هم الذين يقوون على البذل في سبيل المقصد الأعلى ، و يبدلون أفكار العالم ، ويغيرون مجرى الحياة بجهادهم وتضحياتهم، ومن ثَمَّ فهم القلة التي تنقذ الموقف، وهم الصفوة التي تباشر مهمة الإنتشال السريع من وحل الوهن، و وحقارة الإحباط.
...............
استشعر فى قلبك مرافقة الرعيل الأول من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء ولا تحزن لقلة الصديق والرفيق.
..........
هذا زمان لا توسُّط عنده *** يبغي المغامر عالياً وجليلا
كن سابقاً فيه أو ابق بمعزلٍ *** ليس التوسط للنبوغ سبيلا
..........
إن أمتك المسلمة تترقب منك جذبة إسلامية توقد في قلبها مصباح الهمة في ديجور هذه الغفلة المدلهمة، وتنتظر منك صيحة محمدية تغرس بذرة الأمل ، في بيداء اليأس، وعلى قدرأهل العزم تأتى العزائم
أحزان قلبي لا تزول *** حتى أبشر بالقبول
وأرى كتابي باليمين ***وتسرعيني بالرسول
فعلو الهمه صعود للقمة
ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة(/2)
علوم الشريعة في الجامعات الواقع والآفاق (*)
أ. د. عماد الدين خليل 6/6/1427
02/07/2006
[ 1 ]
يمكن أن تكون البداية: الحالة النفسية والاجتماعية والوظيفية لطلبة علوم الشريعة وخرّيجيها في القرنين الأخيرين بوجه التقريب، مقارنة بالحالة نفسها في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية.
كان المعني بالعلوم الشرعية، أو الفقيه، يقود الحياة، ثم ما لبث أن انسحب إلى هامش الحياة، فأصبحت تقوده بضغط الضرورات النفسية والاجتماعية والوظيفية.
وكان يملك عقلاً ابتكارياً متوقّداً، يقدر في لحظة على تكييف هذه المفردة أو تلك وفق مقاصد الشريعة، فيعين على تمكين الخبرة الإسلامية من التواصل والاستمرار بالالتحام بالحياة، ثم ما لبث أن فقد هذا التألق، أو تعمد أن يطفئه استجابة لحالة اجتماعية يحكمها تقليد السابقين واتباع خطى الآباء والأجداد، وتعيّن على نسج خيوطها الكالحة ضغوط السلطة الاستعمارية
(الخارجية) تارة، والمحلية (الداخلية) تارة أخرى، وهي الضغوط التي استهدفت عزل الشريعة عن الحياة، ونسف الجسور المقامة بين الطرفين، بما فيها "الفقيه" الذي أُريد له ألاّ يشارك في عملية التغيير أو الصياغة أو إعادة تعديل الوقفة، وأن يتحول إلى واعظ، أو خطيب جمعة تقليدي، أو مدرّس دين ولغة عربية يتلقى في معظم الأحوال أجره الشهري من الحكومات.
وإذْ تعمد أن يكون الأجر زهيداً لا يكاد يسدّ الرمق، وكان العالم أو الفقيه غير قادر على أي حرفة إضافية تعينه على الارتقاء بمستواه المعاشي صوب الحد الأدنى من سوّيته المعقولة، انعكس ذلك كله عليه ، فأصبح مسحوقاً ، ممتهناً ، ضعيفاً لا يملك في معظم الأحيان " الشخصية " الآسرة القوية المؤثرة التي تمكنه من أداء دوره المطلوب.
لقد رأينا جميعاً هذا بأم أعيننا .. ثمة حالات استثنائية بكل تأكيد، ولكنه الاستثناء الذي يعزز القاعدة ولا ينفيها.
يحدثنا الأستاذ (محمد قطب) في كتابه (واقعنا المعاصر) عن اللعبة التي مارستها السلطات الاستعمارية في مصر مع خريجي الشريعة واللغة العربية (كنموذج لما جرى في معظم ديار المسلمين يومها). وكيف أعانها عليها، بمرور الوقت، قوم آخرون من سكنة ديار المسلمين أنفسهم والمحسوبين عليهم، وآل الأمر إلى أن يصير "العالم" أو مدرس الشريعة والعربية، أضحوكة بين الناس، يُتسلّى بها حتى في عروض السينما والإذاعة والتلفاز.
"تولى المستر دنلوب ـ القسيس الذي عينه كرومر مستشاراً لوزارة المعارف ـ مهام منصبه ، وكان في يده السلطة الفعلية الكاملة في وزارة المعارف المصرية الإسلامية (وحين يكون القسيس على رأس السلطة في وزارة التعليم، فما الذي يُتوقع أن يكون من أمر التعليم ؟)
"جاء دنلوب ليضرب الأزهر ـ موطن الخطر على كنيسة المسيح ـ ولكن بغير حماقة نابليون التي كانت سبباً في استثارة المسلمين.
" ترك دنلوب الأزهر على ما هو عليه لم يتعرض له على الإطلاق، ولكنه ـ على الأسلوب البطيء الأكيد المفعول ـ فتح مدارس جديدة تعلم (العلوم الدنيوية) ولا تعلّم الدين إلاّ تعليماً هامشياً هو في ذاته جزء من خطة إخراج المسلمين من الإسلام.
" ... لقد كان المتخرج من هذه المدارس ـ بعد أربع سنوات فقط ـ يُعيّن فور تخرجه في دواوين الحكومة (براتب ذي قوة شرائية عالية) أما خريج الأزهر الذي يقضي في الدراسة عشرين سنة من عمره في بعض الأحيان فلا يجد عملاً، وإن وجد عملاً في إقامة الشعائر في المسجد فبمائة وعشرين قرشاً، تكفي للحياة نعم ، ولكنها حياة ذليلة ضئيلة بالنسبة لخريج المدرسة الابتدائية الذي يعمل في الديوان!
" لقد كان الانتساب إلى الأزهر فيما مضى شرفاً تتسابق إليه الأسر .. أما في عهد دنلوب فلم يعد يذهب إلى الأزهر إلا الفقراء الذين يعجزون عن دفع مصروفات المدارس الحديثة ، وفي الوقت ذاته ينالون جزاء فقرهم ضياعاً في المجتمع وهواناً فيه.(/1)
" .. أما المناهج التي وضعها دنلوب في مدارسه (فقد استهدفت اغتيال وتشويه اللغة العربية والدين والتاريخ ) إذ كان الراتب الذي يتقاضاه المدرسون من أصحاب المؤهلات العليا اثني عشر جنيهاً، إلا مدرس اللغة العربية وحده يتقاضى أربعة جنيهات. وكان لهذا الوضع انعكاساته ولا شك في داخل المدرسة أو في المجتمع على اتساعه. فأما في داخل المدرسة فلم يعد مدرس اللغة العربية هو المقدم بل أصبح في ذيل القافلة يتقدمه المدرسون جميعاً ـ بل حتى فراش المدرسة أحياناً ـ ومن ثم لم تعد له كلمة في المدرسة ، فلا هو يُستشار في شؤونها، ولا هو يشارك في شيء من إدارتها، ولم يعد له كذلك عند التلاميذ احترام .. بينما يحظى مدرس الإنجليزية بالذات بأكبر قدر من التوقير والاحترام .. أما في المجتمع فهو أشد ضياعاً منه في المدرسة ـ بسبب انحدار راتبه ـ ويصبح مادة دائمة للسخرية يتحدث الناس عن جهله وتخلفه وضيق أفقه وفقره وانحطاط مستواه الاجتماعي والفكري .. وحين يصبح مدرس اللغة العربية في هذا الوضع المهين الذي لا يبعث على الاحترام فإن وضعه يؤثر حتماً على المادة التي يدرّسها. وقد كان هذا هو الهدف المقصود من وراء ذلك التدبير الخبيث.
" .. أما درس الدين في مناهج دنلوب فلا يقل سوءاً إن لم يكن الأسوأ. فمدرس الدين هو نفسه مدرس اللغة العربية الذي وضعه دنلوب في ذلك الوضع المزري المهين ، ولكن يزيد عليه أن أكبر المدرسين سناً هو الذي يوكل إليه تدريس الدين .. وزيد على ذلك أن حصة الدين توضع في نهاية الجدول المدرسي .. فيتلقاها التلاميذ وهم في حالة الضجر والإعياء .. ينتظرون دق الجرس لينفلتوا إلى الشوارع والبيوت، ويتلقونه من مدرس عجوز فانٍ يسعل، ويتفل ويتحرك في تراخٍ ظاهر، فيقترن درس الدين في نفوسهم بالعجز والفناء والضجر والرغبة في الانفلات، فوق أنه درس ميت في طريقة تدريسه، فهو مجموعة من النصوص تُلقى لتُحفظ حفظاً وتُستظهر، بلا حركة ولا حياة ولا روح!
" .. ولكي تعلم أنها خطة مقصودة لتنفير التلاميذ من الدين، فلتعلم أن الدين في المدارس التبشيرية التي يؤمها التلاميذ المسلمون لا يقتصر على درس الدين المسيحي ( الذي تخصص له الساعات الأولى ويُحاط بالنشاط والفرح والبهجة) بل هو روح تُلقى إلى التلاميذ في كل مناسبة، في أثناء الدروس واللعب والوقوف في الصف والانصراف من المدرسة، ومن ثم يكون ذا أثر عميق في نفوس التلاميذ، ولا يكون درس الدين المتخصص رقعة في الثوب متنافرة معه، وغير متناسقة (كما هو الحال مع الدين الإسلامي) بل قطعة طبيعية مع نسيج الثوب متناسقة معه ومزينة له.
" وزيادة في النكاية لدرس الدين (الإسلامي) فقد وضعه المنهج الدنلوبي ضمن المواد الإضافية التي تُحذف في جدول الصيف المختصر الذي يقتصر على المواد الرئيسية، فيُحذَف منه الدين والرسم والأشغال اليدوية والألعاب الرياضية، وهكذا يصبح في حس التلاميذ مادة هامشية ليس لها اعتبار".
في محاضرة عن " قيمة التاريخ " ألقيتها في الموصل قبل عدة سنوات أشرت إلى ما يمكن اعتباره إحساساً بالنقص "مركب نقص" يعاني منه طلبة أقسام التاريخ تجاه الفروع المعرفية الأخرى: إنسانية وصرفة وتطبيقية، بينما نجد هؤلاء الطلبة في جامعات العالم المتقدم يتمتعون بأعلى وتائر الثقة والطموح والاعتقاد بأنهم يمضون للتخصص في واحد من أكثر فروع المعرفة الإنسانية أهمية وفاعلية، ونحن نعرف جيداً كيف أن العديد من قادة الغرب وساسته ومفكريه والمهيمنين على مفاصل الحياة الحساسة فيه هم من خريجي التاريخ.
الحالة نفسها تنطبق ـ بدرجة أو أخرى ـ على طلبة علوم الشريعة، بل إننا قد نجد بعضهم ينحدر باتجاه وضعية من الإحساس بالامتهان النفسي والاجتماعي لم يأذن بهما الله ورسوله لعلماء هذه الأمة ودارسي علومها الشرعية.
وقد يقتضي الأمر أن نقف لحظات عند مسألة (الزي) التي أُرغم طلبة العلوم الشرعية وخريجوها على البقاء تحت معطفه، في مساحات واسعة من عالمنا الإسلامي الفسيح.
والزي المتميز، إذا أردنا الحق، سلاح ذو حدين، قد يكون إيجابياً في حالة، وقد ينقلب إلى النقائض السلبية في حالة أخرى .. وفقهاؤنا زمن فاعليتهم ما كانوا يتميزون بلباس خاص، اللهم إلا بجزئيات متفرقة، قد تتعلق بالعمامة حيناً، وبالرداء حيناً آخر، ولكنهم في كل الأحوال ما كان يفصلهم عن مجتمعهم زي محدد بتفاصيله كافة، يجعلهم فئة متميزة بين الناس .. كانوا ملتحمين مع الحياة والناس في كل شيء، بما في ذلك تقاليد الملابس والأزياء، وهم ـ يومها ـ حتى لو تميزوا بهذه، فإن تميّزهم ما كان يحول بينهم وبين الاندماج في شبكة العلاقات الاجتماعية حيث تنمحي فواصل "التغريب" بينهم وبين سائر الناس.
أما في القرون الأخيرة فإن الفقيه، وقد أريد له أن ينسحب من الحياة، أن يبعد(/2)
أكثر فأكثر عن الالتحام الفعّال بالمجتمع، فإن تميزه على مستوى اللباس يصير رمزاً للعزلة والتغرب، فإذا ما انضاف إليه ضعف القدرة المالية على تحسينه وتجميله والاضطرار ـ بالتالي ـ للتعامل معه بعيداً عن المطالب الجمالية، كما هو الحال لدى علماء الطوائف الأخرى، أدركنا كيف يصير الزي ـ أحياناً ـ حلقة أخرى من حلقات اللعبة الماكرة التي أُريد لها أن تمضي بعلمائنا إلى هدفها المرسوم،÷ فتزيدهم دماراً نفسياً واجتماعياً وتفقدهم ـ بالتالي ـ أي قدر من الاحترام وأي قدرة جادة على التغيير أو تسلم مواقع قيادية فاعلة.
نحن ـ إذن ـ قبالة حالة نفسية ـ اجتماعية ـ وظيفية تتطلب العلاج والتجاوز وإيجاد البدائل المناسبة لعالم متغير .. عالم تشاء إرادة الله سبحانه الذي لا رادّ لقضائه أن تشتعل فيه على مدى البصر، في مشارق الأرض ومغاربها، قناديل الصحوة الإسلامية المباركة التي تتطلب ترشيداً، من أجل ألاّ تنعطف بها السبل وتضل الطريق بين الإفراط والتفريط .. بين تشدّد لا يشكمه ويعيده إلى الجادة إلاّ العلم الشرعي المنضبط الصحيح، وتسيّب لا يكفه عن الترهّل والارتجال الكيفي إلا العلم الشرعي المنضبط الصحيح. وفي الحالتين لابد من عودة الفقيه، أو العالم، إلى قلب الحياة وتسلمه كرة أخرى مواقع الريادة والقيادة .. لابد من التحقق بأقصى وتائر الفاعلية والتألق من أجل تحقيق الهدف الملح، قبل أن يفلت الزمام وتتشرذم الصحوة المدهشة، ونفقد جميعاً القدرة على توظيفها تاريخياً من أجل تنفيذ المشروع الحضاري الإسلامي الذي آن له أن ينزل إلى الحياة لكي يجيب ـ كما يقول جارودي ـ على كل الأسئلة الكبيرة التي تؤرّق الإنسان في العصر الراهن، ويقدم البديل المناسب بعد انهيار جل النظم والايديولوجيات الشمولية الوضعية التي لم تعرف الله.
وإذا كان الاستعمار يوماً ـ قد مارس دوره الماكر في لعبة تجهيل العالم وإفقاره
وتعجيزه وتغريبه، ومضى أكثر لكي يعزله تماماً عن الحياة و "يفصله" على الصورة التي يريد فما يلبث أن يصير "حالة" يتندّر بها المتندّرون، فإن هذا "المؤثر" السيء قد غادر بلادنا في نهاية الأمر، فلسنا ملزمين بالاستمرار على تقاليده، ولابد من التداعي لتعديل الوقفة الجانحة التي صنعناها بأيدينا ـ أولاً ـ ما في هذا شك ، ثم جاء الاستعمار لكي يزيدها انحرافاً وجنوحاً.
[ 2 ]
ابتداءً لابد من إعادة النظر في مسألة وجود كليات أو معاهد للشريعة منعزلة عن السياقات الأكاديمية. ألا يمكن ـ مثلاً ـ أن تخترق "موضوعات" أو "مفردات" علوم الشريعة سائر الكليات والمعاهد المعنية بالعلوم الإنسانية، أو أن تؤسس أقساماً أو فروعاً لها في تلك الكليات والمعاهد لكسر العزلة، وتحقيق التحام أكثر بين مقاصد الشريعة وبين سائر المعارف الإنسانية: كالإدارة والاقتصاد، والقانون والسياسة، والنفس والاجتماع ، والجغرافيا والتاريخ ،
واللغة والآداب والفنون .. فيكون هذا فرصة مناسبة للتحقق أكثر فأكثر بإسلامية المعرفة، أو على الأقل، تنفيذ بداية صحيحة قد تؤول، مهما طال الوقت، إلى نتائجها المنطقية المتوخّاة
في التعامل مع سائر المفردات المعرفية، في شتى التخصصات، من خلال الثوابت الإسلامية نفسها؟
قد يعترض على هذا بضرورة أن يكون هناك ـ في نسيج الأنشطة الجامعية ـ مؤسسات أكاديمية مستقلة لعلوم الشريعة، من أجل تخريج المتخصصين في هذا الفرع المعرفي بالذات الذي قد تلحق به، قدر ما يسمح به المجال، موضوعات معرفية أخرى، في هذا الحقل أو ذاك، ولكن تبقى مهمة هذه المؤسسات منح الشهادة في علوم الشريعة وليس في أية علوم أخرى.
وهذا حق، وهو ضرورة من ضرورات التخصص العلمي، ولكن هل يمنع هذا من تنفيذ صيغة مضافة تتمثل في مغادرة العلوم الشرعية لمؤسساتها التخصصية والتحامها مع الفروع والأقسام والمعاهد والكليات الإنسانية، بل وحتى العلمية الصرفة والتطبيقية، لتحقيق هدفين ملحّين: أولهما: ذلك الذي أشرنا إليه قبل لحظات من محاولة وضع التأسيسات الأولى لإسلامية المعرفة التي لن تتحقق ما لم يتم اللقاء بين النمطين المعرفيين، فيصير الوحي والوجود معاً، مصدرين لصياغة المفردات ؟
وثانيهما: كسر حاجز العزلة بين علوم الشريعة والحياة، وإعادة الدم إلى شرايينها المتصلبة، ومنحها الحيوية والمرونة التي تمكنها من التموضع في قلب العصر لا بعيداً عنه.
قد يعترض ـ أيضاً ـ بالقول: إن ساعات الفروع والأقسام الإنسانية لا تسمح باستضافة العلوم الشرعية، أو بأن مادة " الثقافة الإسلامية " أصبحت البديل المناسب للقاء بين الطرفين.
وهذا حق كذلك، لكن تبقى هنالك تساؤلات في هذا السياق قد تخطئ وقد تصيب: إن(/3)
"ساعات" الفروع والأقسام الإنسانية ليست قدراً نهائياً لا فكاك منه، ولطالما جرى تكييفها واستبدالها وإعادة جدولتها في العديد من الكليات لتحقيق غرض أشد إلحاحاً، ومن ثم فإنه ليس مستحيلاً ـ إذا كنا جادين في إيجاد مواقع مناسبة لعلوم الشريعة في الكليات الإنسانية ـ أن نعيد الترتيب فيما يعطي لهذه العلوم الفرصة المناسبة في خارطة الموضوعات المقررة على مدى سنوات الدراسة الجامعية.
وبالنسبة للثقافة الإسلامية فانها حققت ولا ريب قدراً طيباً لدى استضافتها في المعاهد والكليات المختلفة، ولكنه ـ على أي حال ـ ليس القدر المطلوب، لأنها لم تتجاوز ـ في معظم الأحيان ـ ساعة أو ساعتين أو ثلاثاً، في الأسبوع، لا تكاد تغطي سوى جوانب محدودة من فكر الإسلام وثقافته، فضلاً عن معارفه الشرعية، ويتم فيها التعامل ركضاً، على سطح الظواهر والمفردات، دونما أيّ قدر من التعمق والإيغال. ويتخرج طالب القانون أو السياسة أو الإدارة أو الاقتصاد أو الآداب.. إلى آخره وهو لا يملك عن الإسلام سوى شذرات وقطوف وخطوط عامة في أحسن الأحوال.
إن مادة "الثقافة الإسلامية" ضرورية لتكوين بعض الأطر الفكرية الأصيلة في عقل الطالب الجامعي، لكن هذا وحده لا يكفي إذا أردنا ان يكون القانوني والاقتصادي والإداري والمؤرخ والأديب متوافقين في نبضهم ومعرفتهم وأنشطتهم التخصصية مع مطالب هذا الدين ومقاصد شريعته.
قد يكون هذا حلم، أو هدف بعيد المنال، ولكن الأعمال الكبيرة تبدأ دائماً بالحلم .. بالطموح إلى الأهداف البعيدة .. ورحلة الألف ميل ـ كما يقول المثل ـ تبدأ بخطوة واحدة.
من ناحية أخرى، فإن على المعاهد والكليات المعنية بعلوم الشريعة، أن تتقبل بدورها استضافة أكبر قدر ممكن من موضوعات المعرفة الإنسانية المذكورة، من أجل تمكين طلبة هذه المعاهد والكليات من المعارف المعاصرة في أحدث كشوفها ومعطياتها، ومنحهم الخلفيات الكافية عنها، الأمر الذي يتمخّض ولا ريب عن جملة نتائج، منها ـ على سبيل المثال ـ الإعانة على إزالة حواجز العزلة والتغريب بين الشريعة والمعرفة، وبينها وبين الحياة.
ومنها جعل خريجي هذه المؤسسات أكثر حيوية وقدرة على الخطاب، ووضعهم، بتمكينهم من معارف العصر، في قلب العصر، قديرين على النقد والمقارنة والتمحيص .. قديرين ـ أيضاً ـ على إيصال مطالب المعرفة الشرعية، والتحقّق بمقاصدها، في ضوء تناقضات وإحباطات المعطيات المعرفية الوضعية، وعلى إسهام أكثر فعالية في صياغة المشروع الحضاري الإسلامي البديل.
ان هذا سيقدم ـ بدوره ـ ثمرة أخرى .. تجاوز الإحساس بالنقص الذي أشرنا إليه، والذي هيمن على أجيال المعنيين بالعلوم الشرعية عبر القرنين الأخيرين، والتحقق بالثقة والاعتزاز بالذات، في وتائرها المعقولة التي تتجاوز بهؤلاء الخريجين حالات العقم والشلل وعدم القدرة على الإبداع والإحسان والابتكار.
لقد آن الأوان لتجاوز الاستسلام لتقاليد منهجية قادمة من عصور عتيقة هي غير
عصرنا، محملة بموضوعات ومفردات لم تعد تصلح للقرن الحادي والعشرين، واستبدالها بمناهج أكثر مرونة، تملك القدرة على استضافة واستيعاب المعارف الحديثة، وتمكّن المتعاملين معها من تجاوز العزلة والتغرب والانقطاع، إلى تنفيذ حوار فعّال مع تحديات العصر وهمومه المعرفية والثقافية، والإعانة ـ بالتالي ـ على بلورة وصياغة المشروع الحضاري المرتجى.
وفي السياق نفسه يُستحسن أن نكون حذرين من الانسياق وراء التقسيمات التقليدية لأجدادنا أنفسهم، وهم يتحدثون عن علوم "نقلية" وأخرى "عقلية"، وكأن هناك جداراً فاصلاً بين العلمين.
ويتساءل المرء: ألم يدخل الإسلام لكي يصوغ العلوم العقلية، ويتوغل في جزئياتها ومسالكها برؤيته المتميزة وتحليله الخاص؟ ويتساءل ـ كذلك ـ: ألم تكن العلوم النقلية نفسها عقلية بمعنى من المعاني، أي بكونها استجابة ناجحة متفردة لمطالب العقل البشري في هذا الفرع المعرفي أو ذاك؟
إننا بحاجة إلى التريث قليلاً ونحن نتعامل مع التقسيمات والمصطلحات، وأن نتجاوز الكثير منها ـ إذا اقتضى الأمر ـ لكي ننحت ونصوغ مفرداتنا المنسجمة ورؤيتنا العقدية المتميزة.
إن الحلقات الإسلامية لا تزال تعاني من ثنائية يمكن لمؤسسات علوم الشريعة أن تعين على تجاوزها: ففي أحد الطرفين يقف إسلاميون متمرسون بالمعرفة المعاصرة، ولا يكادون يعرفون شيئاً عن علوم الشريعة، وفي الطرف الآخر يقف إسلاميون متمرسون بعلوم الشريعة، ولكنهم لا يكادون يعرفون شيئاً عن العلوم والمعارف الحديثة.
والخندق عميق، والهوة محزنة ولا ريب، والنتائج السيئة لهذا الانفصال، أو الثنائية، تنسحب على مساحات واسعة من الجهد الإسلامي المعاصر الذي يلتحم بالحياة الثقافية والمعرفية دونما عمق فقهي، أو يمضي بالايغال في هذا العمق حيناً آخر، بعيداً عن مجرى الصراع الفكري المتشكل قبالته صباح مساء.(/4)
ولقد أوقعت هذه الثنائية، الطرفين، في "مطبات" عديدة، قد يقود تراكمها إلى تشكل إرث من الأخطاء التي يصعب تداركها ما لم نسارع بإيجاد الحل المناسب .. بالتحقق بتقارب بين الطرفين من خلال بذل جهود استثنائية والاتفاق على منهج أكثر توازناً يضع في حساباته قطبي المسالة .. حيث يصير التعامل الأكاديمي مع علوم الشريعة فرصة طيبة لتحقيق الوفاق.
[ 3 ]
وما من ريب في أن فقه الحياة التي أراد لنا هذا الدين أن نعيد صياغتها وفق مقاصده، وأن نمسك بزمام قيادتها كي لا يعبث بمقدراتها المضلّون عن سبيل الله، ويميل بها الذين يتبعون الشهوات والأهواء والظنون الميل العظيم الذي حذّر منه كتاب الله.. إن فقه الحياة هذا ليس حالة بسيطة ذات وجه واحد، وإنما هو حالة مركبة ذات وجوه شتى. فهناك الفقه الشرعي الذي يتعامل مع الجزئيات والكليات، أي مع مفردات الشريعة في هذا الجانب أو ذاك، ومع مقاصدها الكبرى التي تجعل المعطيات الفقهية تصب في هدفها الكبير ذي الفضاء الواسع سعة الحياة نفسها.
هناك الفقه الدعوي الذي يمنح الناس في كل زمان ومكان القناعة بأحقية هذه الشريعة في حكم الحياة وقيادتها.
وهناك ، فضلاً عن هذا وذاك، الفقه الحضاري الذي يعيد تشكيل الحياة وفق مقاصد الشريعة في ضوء إدراكه لقوانين الحركة التاريخية، وسنن الله في الخلق والعالم والوجود، وعلى هدى رؤية مقارنة نافذة لخرائط العالم الحضارية، من أجل صياغة مشروعه الحضاري المتميز والتحقق في الوقت نفسه بصيغ مناسبة في التعامل مع الحضارات الأخرى أخذاً وعطاء.
إن الفقه الحضاري، كما أنه عمل في التاريخ للبحث عن أصول وقوانين التشكل الحضاري، فهو عمل في صميم العصر، وتطلع للمشاركة في المصير البشري من خلال صياغة المشروع الحضاري البديل الذي يستمد حيثياته ويتلقى توجيهاته من مقاصد الشريعة وآلياتها الفقهية، والذي يجاهد من أجل التجذر في الأرض والانتشار فيها بقوة الفقه الدعوي وآلياته الفاعلة.
والآن، فإن إحدى مشاكل المناهج الجامعية بصدد علوم الشريعة أنها تعطي طلابها الفقه الشرعي، وتمضي معهم في الفقه الدعوي إلى منتصف الطريق، ولكنها لا تكاد تعطيهم شيئاً عن الفقه الحضاري. فها هي ذي الحلقة الضعيفة في "عقل" خريجي المعاهد الشرعية والتي تساعد بدورها على حفر الخنادق وتعميق الهوة بين الشريعة والحياة، وتعين على تأكيد تلك الثنائية المقيتة التي عزلت، ولا تزال حشود الخريجين عن الدخول في نسيج الحياة، وإعادة صياغتها، فضلاً عن تسلم مراكز القيادة فيها والشهادة عليها.
ومما يرتبط بهذا، ذلك الغموض الملحوظ، وعدم التحديد بصدد المصطلح الحضاري، فإن المثقف المسلم، والمتخصص في العلوم الشرعية على السواء، لا يكاد يفقه شيئاً عن مفردات كالحضارة والمدنية والعمران والثقافة والمعرفة والنظم والفكر والعلوم والآداب والفنون .. إلى آخره ..
ويزيد الأمر إرباكاً ذلك الخطأ المنهجي الذي يهيمن على طرائق تدريس الحضارة الإسلامية في معظم معاهد وجامعات البلدان العربية والإسلامية، حيث تفكك هذه الحضارة إلى سياقات منفصلة كالنظم، والفكر، والعلوم، والنشاط الاقتصادي أو العمراني .. إلى آخره، تعطي كل منها في سنة أو بعض سنة، بحيث إن الطالب يتخرج وهو لا يكاد يفقه شيئاً عن الملامح الأساسية للحضارة الإسلامية، وشروط تشكلها ونموها، وعوامل انكماشها وجمودها، وانهيارها في نهاية الأمر.
إن تقطيع جسد هذه الحضارة، وتقديمها للطالب مزقاً وتفاريق، سيفقدها شخصيتها المتميزة وملامحها المتفردة التي تمنحها الخصوصية بين الحضارات، فتصير مجرد أنشطة ثقافية أو معرفية أو مدنية في هذا المجال أو ذاك، قد تتميز ببعض الخصائص، لكنها لا تعكس التصور النهائي لرؤية المنتمين إليها للحياة والعالم والوجود. وهكذا تصير دراسة الحضارة الإسلامية ـ في نهاية الأمر ـ لهاثاً وراء مبسوّغات الجزية، ودفاعاً عن موقف الإسلام من فرضها على أهل الكتاب، وركضاً وراء قوائم الضرائب "اللا شرعية" ومتابعة للمحتسب، وهو يتجوّل في الأسواق لمعاقبة المخالفين.. كما تصير استعراضاً وصفياً صرفاً لمنظومة الدواوين التي لا أول لها، ولا آخر، وللصراع على منصب الوزارة، وللترتيبات الأمنية والعسكرية للشرطة والجيش. كما تغدو ـ في السياق العلمي ـ تصنيفاً فجاً للعلوم النقلية والعقلية، وإحصاءً رتيباً للمدونات التي كتبها الأجداد.. وفي سياق العمران يلقن الطلاب وصفاً مادياً مملاً لمفردات الريازة وقياساتها وأحجامها بعيداً عن الخلفيات الرؤيوية التي وضعت لمساتها عليها وقدمتها للعالم، وهي تحمل خطاباً معمارياً عز نظيره بين الثقافات.
ويتخرج الطالب الجامعي، وهو لا يكاد يملك معرفة معمقة بخصائص حضارته(/5)
الإسلامية، وبالمكونات التي تميزها عن الحضارات الأخرى، فضلاً عن أنه يتخرج وهو لا يملك الاعتزاز بهذه الحضارة، بما أن النشاط التدريسي في التاريخ والحضارة ينطوي ـ بالضرورة ـ على بعد تربوي، لكن هذا البعد يتفكك ويغيب من خلال الخطيئة المنهجية التي لا تكاد تمنح الطالب أي ملمح يجعله يتشبث بتراثه الحضاري، باعتباره أقرب إلى مطامح الإنسان ومهماته الأساسية في العالم. بل إننا قد نصل في نهاية الأمر إلى نتائج معاكسة تتمثل في رفض حشود الخريجين لتراثهم الحضاري، وإنكاره، وإعلان التمرد عليه، والاندفاع ـ في المقابل ـ باتجاه إغراءات الحضارات الأخرى وإغواء بريقها الظاهري الخادع، وبخاصة الحضارة الغربية. وبهذا يصير تدريس الحضارة الإسلامية سلاحاً نشهره ضد أنفسنا لتدمير الثقة بمقومات حضارتنا وبقدرتها على الاستعادة والفاعلية في صميم العصر، وفي مشاركاتها المحتملة في صياغة المصير، كما يؤكد العديد من المفكرين والباحثين والمستشرقين الغربيين. وللأسف فإن هؤلاء القادمين من خارج دائرة الإسلام كانوا أكثر قدرة، بسبب من رؤيتهم المنهجية الشمولية، على متابعة خصائص الحضارة الإسلامية وصيرورتها والتأشير على عناصر تميزها وتفوقها، وهم الذين أكدوا على أن بصمات الإسلام ونسقه (الموحد) يمضيان لكي يطبعا كل خلية من خلايا هذه الحضارة، ويشكلا كل صغيرة أو كبيرة في معمارها الواسع المتشعب.
وما من شك في أن العقل الغربي تفوق علينا في منهج الدراسة الحضارية، كواحدة من حلقات تفوقه الراهن، وليست محاولة المؤرخ البريطاني المعاصر (أرنولد توينبي) في مؤلفه المعروف (دراسة في التاريخ) بعيدة عن الأذهان. إنه يتعامل مع الحضارات البضع وعشرين التي درسها عبر استقرائه للتاريخ البشري كما لو كانت كل واحدة منها تحمل شخصية متميزة، وملامح متفردة، وخصوصيات تفرقها عن الحضارات الأخرى، ونسغاً يجري في عروقها هو غيره في الحضارات الأخرى.
ونحن اليوم؛ إذ ندرس حضارتنا في المعاهد والجامعات بأمس الحاجة إلى منهج قريب من هذا، يسعى لأن يتعامل مع هذه الحضارة كشخصية أو تكوين متميز: بدءاً وصيرورة ونمواً وانكماشاً وفناء. فإذا تذكرنا أن حضارتنا هذه لم تتشكل من العدم، ولم تلمّ شتاتها بطريقة ميكانيكية من هذه الحضارة أو تلك فتكون عالة عليها، وأنها إنما نشأت بتأثيرات إسلامية، ووفق شبكة شروط وتأسيسات محددة صاغها هذا الدين، وأنها تكوّنت في رحم إسلامي، وليس في أي رحم آخر، وأن بصمات كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- على حجيراتها وخلاياها ونبضها من الأمور التي لا يكاد ينكرها باحث جاد.. إذا عرفنا هذا كله أدركنا كم تكون جنايتنا على طلبتنا بتقديم هذه الحضارة مزقاً وتفاريق، وبنوع من فك الارتباط الساذج أو الخبيث الذي يتعمد التعامل معها، كما لو لم يكن للتأثيرات الإسلامية في تكوينها أي حضور ملحوظ، اللهم إلاّ في خانة ما يُسمّى بالعلوم النقلية المعتقلة في المصنفات العتيقة والبعيدة عن تشكيل الحياة والنزول إلى المؤسسة والشارع والمدرسة والبيت.
إن تحديات الحضارة الغربية المعاصرة، ومطالب المشروع الحضاري البديل، يقتضيان ـ كما ألمحنا ـ إجابة كونية بمستوى المشكلة، ولن يكون ذلك دون المزيد من الإيغال في حلقة الفقه الحضاري المتجذر في التاريخ والعقيدة على السواء.
إن مبدأ (التوحيد) المحرر، الذي هو نسغ حضارتنا وجوهرها ومغزاها، والقاسم المشترك لمفرداتها كافة، يقف قبالة كل الصنميات والطاغوتيات والحتميات التاريخية والمادية التي حكمت العقل والوجدان الغربي طويلاً، والذي يجد نفسه اللحظة، مسوقاً لأن يبحث عن الجواب.. عن صيغة للتحرر من الضغوط والخروج من المأزق .. وأيضاً للتحقق بالتوازن الضائع في حياته بين المادة والروح، والذي لن يعثر عليه إلا في إطار هذا الدين.(/6)
إن الفقه الحضاري يستدعي دراسة علمية منهجية متأنية لتاريخنا الحضاري من أجل استمداد مؤشرات العمل في الحاضر والمستقبل، وهي ـ كما هو واضح ـ ليست مسألة ترفيه، ولا حتى أكاديمية صرفة، وإنما هي مسألة (حيوية) بكل معنى الكلمة، لأن حلقة كهذه معنية باستخلاص البدائل التي يمكن أن نتقدم بها إلى العالم في سياق مشروع حضاري يشارك في صياغة المستقبل. فضلاً عن أن فقهاً كهذا يمنحنا صورة عن مصداقية تحول الشريعة وتأسيساتها التصورية والاعتقادية إلى واقع تاريخي متحقق في الزمن والمكان، أي في التاريخ، كما أنه سيعرفنا على عوامل الانهيار الحضاري التي ساقتنا إلى المواقع المتخلفة في خارطة العالم، عندما أخذ أجدادنا يقلدون بدلاً من أن يبدعوا، وعندما هيمنت الروح الإرجائية التي فصلت الإيمان عن مقتضياته العملية، وعندما ساد الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي، وعندما لم تلتفت القيادات الإسلامية المتأخرة ـ كالمماليك والعثمانيين .. ودول الطوائف ـ إلى مغزى إلحاح القرآن الكريم على التحقق بالقوة، ولم تول الاهتمام الكافي لتحديات التكنولوجيا، وبخاصة تكنولوجيا السلاح .. إلى آخره ..
ولطالما درّسنا طلبتنا بإسهاب حيناً، وإيجاز حيناً آخر، عوامل سقوط هذه الدولة أو تلك من دول الإسلام كالأمويين والعباسيين والفاطميين والعثمانيين.. إلى آخره .. لكننا لم نحاول ـ إلا نادراً ـ أن نقف طويلاً عند ظاهرة انهيار الحضارة الإسلامية نفسها ـ في سياقها التاريخي ـ بعيدا عن الأطر السياسية المحددة، لمتابعة عوامل الشلل المتشعبة والتأشير عليها بقدر من العمق والوضوح، فيما يمكن أن يقدم لنا خبرة بالغة الأهمية تتمثل في إمكان النهوض من جديد في ضوء فهم وإدراك العوامل التي قادتنا عبر قرون طويلة، إلى التدهور والانهيار.. إننا إذا استطعنا أن نحدد الأسباب، وتمكنا ـ بعدها ـ من استجاشة قدراتنا الإيمانية وتحفيز نقاط الارتكاز في تصورنا، من أجل تجاوز هذه الأسباب، نكون قد وضعنا خطواتنا في الطريق الصحيح، وعرفنا كيف ننسج حيثيات المشروع الحضاري في ضوء وعي كهذا يسعى للمضي إلى الهدف بأكبر قدر من التحرر من عوامل الشد والإعاقة والتعطيل.
إن هذه الحلقة تحمل ـ ولا ريب ـ أهميتها الأكاديمية في سياق دراسة الحضارات، ولكنها في تجربتنا المعاصرة، تحمل ـ فوق هذا ـ قيمة مضافة لأنها ستعيننا على بناء مشروعنا الحضاري بأكبر قدر من الوعي والاستبصار، وإن معاهدنا وأقسامنا المعنية بعلوم الشريعة لهي المنوطة ـ أكثر من غيرها بناءً على ذلك كله ـ بالتأصيل الإسلامي
للدراسة الحضارية وبصياغة منهج ملائم لتحقيق ذلك، قبالة محاولات الدارسين من خارج دائرة الإسلام، سواء كانوا مستشرقين أو مسيحيين أو ماديين، وبالإفادة منها في الوقت نفسه .. وإن هذا لن يتأتى إلا بإعطاء المساحة المناسبة للدراسات التاريخية والحضارية في هذه المعاهد والأقسام.
[ 4 ]
هناك ـ بكل تأكيد ـ نقص في محاولة توظيف بعض الحلقات الجامعية للارتفاع بوتائر العمل إلى مستويات أعلى.
بعض هذه الحلقات قد وظف بالفعل ولكن في حدوده الدنيا وبصيغ مترعة بالشروخ والأخطاء (وربما الكسل العقلي)، وحلقات أخرى لم تمسها يد في هذه الجامعة أو تلك. وفي كلتا الحالتين فإن المطلوب هو الإفادة من كل الفرص المتاحة لتخرج عالم الشريعة الأقدر أكاديمياً والأكثر فاعلية وقدرة على الابتكار والعطاء.
هناك ـ على سبيل المثال ـ (البحث الخاص) أو (بحث التخرج) الذي يكلّف به طلبة المرحلة الأخيرة من البكالوريوس (الليسانس) على مدى عام دراسي بأكمله، ويشرف عليه ـ في الغالب ـ أستاذ المادة الأقرب في تخصصه الدقيق، إلى الموضوع مجال البحث.
إن البحث الخاص هذا، فرصة جيدة، في حالة الاختيار الجيد لموضوعاته، لتحقيق تلاحم أكثر مع المعرفة المعاصرة والحياة، ولجعل علوم الشريعة تغادر رفوف المكتبات العتيقة، وتنفض عنها التراب، تتحرك وتنبض وتتنفس في قلب العصر، مقدمة الشاهد "العلمي" على قدرتها التي لا يأسرها زمن أو مكان، على متابعة المتغيرات والشهادة عليها.
والمسألة قد لا تكلف كثيراً، فبمجرد أن يبذل الأستاذ جهداً مخلصاً لترتيب منظومة من موضوعات البحث الخاص في بدء كل عام دراسي، وتوزيعها على طلبة المرحلة المنتهية وفق توجهاتهم ورغباتهم وقدراتهم المعرفية قدر الإمكان، ثم متابعة عملهم أولاً بأول، من أجل أن تأتي بحوثهم بشكل أكثر احكاماً وإبداعاً، بمجرد أن يتحقق هذا وذاك، فإن حصيلة طيبة قد تتمخض عنه متمثلة بحشود من البحوث التي تمرّن خريج العلوم الشرعية على البحث، وتمنحه الدربة المنهجية الكافية، والتي تقدم ـ في الوقت نفسه ـ نويّات أو مشاريع بحوث قد ترفد المكتبة الإسلامية أو تعدها بمزيد من العطاء.(/7)
والذي يحدث ـ في كثير من الأحيان ـ اعتبار البحث الخاص، مفردة اعتيادية في مناهج المعاهد والكليات، كأية مفردة أخرى، قد لا تقتضي وقفة خاصة أو جهداً مضافاً أو اهتماماً كبيراً، وبالتالي فان التعامل معها سيتحرك عند سفوحه الدنيا، فلا يبدع ولا يعلم ولا يبتكر ولا يضيف جديداً. بل قد تنعكس الحالة أحياناً لما هو أسوأ من هذا وهي تأكيد عقلية التقليد والاجترار، والتعلق بتقاليد عصور تجاوزها التاريخ، بل ـ ربما ـ تعميق "النفرة" في نفسية الطالب إزاء كل ما يتعلق بعلوم الشريعة واندفاعه ـ في المقابل ـ صوب ما يعتبره تحققاً أكثر مع الحياة التي يعيشها بعقله ووجدانه بعيداً عن مطالب الشريعة ومقتضياتها.
وبموازاة هذا، وفي حلقة تالية، أكثر أهمية، لم يحسن التعامل مع مرحلة (الدراسات العليا : الدبلوم العالي والماجستير والدكتوراه) ولم توظف هذه الفرصة الفريدة للتعامل مع موضوعات غير تقليدية تعين على تحقيق الهدف المنشود.
وها هنا أيضاً يتحتم "الإحسان" في اختيار الموضوعات المناسبة لهذه الرسائل، وتوضيح مسوغاتها، وترتيب خططها، بما يجعل الطالب أقدر على التعامل معها وفق منهج أكثر دقة وإحكاماً.
ويتذكر المرء في هذا السياق ما فعلته وتفعله مؤسسة (كالمعهد العالمي للفكر الإسلامي) من وضع منظومة بحوث للدراسات العليا: بعناوينها، ومفرداتها، وخططها، ومسوغاتها، ومستوياتها الأكاديمية، بين أيدي الباحثين، ليس هذا فحسب، بل الإعانة ـ أحياناً ـ على اختيارها وتنفيذها، ونشرها في نهاية الأمر من أجل دعم أهداف المعهد وتوجهاته المعرفية.
( نشرت مجلة المسلم المعاصر ـ في القاهرة ـ في بعض أعدادها لوحات بهذه الموضوعات).
فلا يكفي ـ في هذه المرحلة ـ أن نترك الطالب يختار موضوعه، فقد يكون هذا الموضوع تكراراً لما سبق وإن عولج أكثر من مرة، وقد يكون غير مناسب، كمشروع عمل لمرحلة الماجستير أو الدكتوراه ، وقد يأتي ـ وهذا هو الأهم ـ بنتائج معاكسة قد تدفع الطالب، والقاريء معاً، إلى تأكيد العزلة والانفصام بين الشريعة والحياة.
ولا يتطلب الأمر أكثر من بذل اهتمام أكبر في مسألة الاختيار، وأن يدخل الأساتذة المشرفون الذين يفترض فيهم الإخلاص والعلم والجدية في مجال تخصصهم، بشكل أكثر فاعلية في إعانة الطالب على العثور على الموضوع المناسب، والأخذ بيده قدر الإمكان، من أجل تنفيذ رسالة ذات مستوى عالٍ من الأداء منهجاً ومضموناً.
هناك ضرورة تنمية الخبرات التدريسية لطلبة الشريعة، قبيل تخرجهم، وتعميق
قدرتهم على الخطاب الإسلامي، من خلال الدورات التدريبية، والاستفادة من علوم النفس والتربية وأصول التدريس، ومنحهم الفرصة " التطبيقية " المناسبة في التدريس في المتوسطات والثانويات، أسوة بما تفعله كليات التربية التي تبذل جهداً "مضافاً" على المطالب الأكاديمية، من خلال منح طلبتها المعرفة والخبرة والآليات التي تمكنهم من أن يكونوا "مدرّسين" أكفاء. وقد ينضاف إلى الخبرة التدريسية بالنسبة لطلبة العلوم الشرعية، الخبرة الخطابية التي يمكن أن تحفز وتمنح الدربة الكافية من خلال فرص التطبيق عبر سني الدراسة الجامعية.
هناك ـ أيضاً ـ ضرورة تحفيز كليات الشريعة ومعاهدها على صياغة وتنفيذ برامج عمل مؤسسية تضعها في قلب العصر، وتزيد من فاعليتها وتدفعها إدارة وأساتذة وخريجين إلى المواقع القيادية المؤثرة في المجتمع.
لقد أخذ هذا التقليد، الذي يتحرك تحت شعار "الجامعة والمجتمع"، ينتشر أكثر فأكثر على مستوى العديد من الكليات والأقسام العلمية عبر العقود الأخيرة، فصرنا نجد مكاتب أو مؤسسات استشارية في هذا القسم أو ذاك من كليات الهندسة، أو العلوم، أو الطب، أو الزراعة، أو القانون، أو الإدارة، أو الاقتصاد، أو السياسة، أو حتى التربية والآداب. وأصبحت هذه المكاتب تحقق ـ بمرور الوقت ـ أكثر من هدف. ففضلاً عن الالتحام أكثر بالمجتمع والحياة، وفضلاً عن منح الفرصة للكفاءات الميدانية للتنفيذ، والإضافة، والاكتشاف والإبداع، فإن هذه الممارسات تجيء بمثابة فرصة مضافة لتعميق القدرات التخصصية والمعرفية للتدريسيين، وربما لطلبتهم كذلك. هذا إلى أن ممارسات كهذه تدرّ دخلاً موفوراً يعين الأقسام والكليات، والإدارة الجامعية في نهاية الأمر، على توظيف هذا المردود لمزيد من العطاء والإبداع.
لماذا تظل معاهد الشريعة وكلياتها، في معظم الأحيان، بمعزل عن هذا كله، في الوقت الذي يتحتم أن تكون الأكثر إفادة من هذه التجربة بسبب من كثرة القنوات التي تصل بينها وبين المجتمع الذي طالما انتظر الإشارة من علمائه وفقهائه لكي يعدلوا وقفته هنا، ويعينوه على المضي هناك وفق أكثر الصيغ التزاماً بمطالب هذا الدين؟(/8)
لا يسمح المجال للاستفاضة، فلابد ـ إذن ـ من الاكتفاء بالتأشير على بعض الحلقات الممكنة في ممارسة كهذه من مثل: النشر، مشاريع التأليف المشترك، التحقيق والفهرسة، الأعمال الموسوعية، الحلقات الدراسية، الندوات والمؤتمرات، الإنتاج الفني والإعلامي، إقامة الجسور وتوسيع التعامل مع المؤسسات المعنية بالمعرفة الإسلامية، المشاركة الفعالة في أنشطة أسلمة المعرفة وصياغة حيثيات المشروع الحضاري.
سأقف لحظات عند إحدى الحلقات كمقترح للعمل يمنح كليات الشريعة ومعاهدها فرصة ميدانية للتحقق، ويدفعها باتجاه مزيد من الالتحام بالحياة الاجتماعية وبالواقع اليومي لجماهير المسلمين.
يتضمن المقترح إصدار دورية أو سلسلة كتب ميّسرة في الفقه تعالج المسائل المعاصرة والمستجدة، فضلاً عن القضايا الثابتة، وتعتمد أسلوباً حديثاً في اللغة ونهجاً يسعى لتوحيد المواقف في الحالات الخلافية الحادة التي تحّير المسلم وتربكه.
إن المسلم المعاصر عندما تجابهه معضلة ما يلجأ إلى هذا الكتاب الفقهي أو ذاك، وقد يطلب العون في أبواب المجلات المعروفة بـ "فتاوى فقهية" لكنه لا يلبث أن يجد نفسه بين الحين والحين إزاء لغة سقيمة في الخطاب الفقهي، وإجابات أو مواقف شتى وليست إجابة واحدة أو موقفاً محدداً فيقع في دائرة الحيرة والإرباك.
إنها اللغة السقيمة القادمة من القرون الوسطى، والخلافيات التي قد تصل حد التناقض الكامل، بحيث أنها ترجع بالمسلم ـ أحياناً ـ إلى نقطة الصفر كرة أخرى.
يمكن تسمية المحاولة المقترحة بالمورد أو الدليل الفقهي للمسلم المعاصر، أو المنهاج الفقهي، أو كتاب الجيب الفقهي لمفردات المسلم اليومية .. أو غيرها من التسميات.
المهم أن تبذل مؤسسات التعليم المعنية بالعلوم الشرعية جهداً حيوياً في تقديم البدائل الفقهية الواضحة المحددة لعدد من مفردات الحياة والسلوك، وبخاصة تلك القضايا الملحة التي
لم يصدر فيها بعد رأي واضح محدد (من مثل شروط الزكاة في زمن تحول النشاط
المالي والاقتصادي إلى شبكة معقدة من المعطيات التي تنطوي على عشرات الحالات، وهي جميعاً تنتظر الجواب الفقهي .. ومن مثل قضايا الزواج والأحوال الشخصية، والتعليم والعمل الوظيفي، وعمل المرأة والمساحة المتاحة لها للتحرك في الحياة العامة، وشروط الحجاب ..
إلى آخره ..).
إن المحاولة ترتبط ولا شك بمسألة فتح باب الاجتهاد أو توسيع قنواته؛ فلابد ـ أولاً ـ من تنفيذ جهد عملي وآخر دراسي لإضاءة هذه المسألة، وقد يجيء الدليل المقترح محاولة عملية لاختبار إمكان تحقيق تغطية فقهية لأهم المستجدات.
ويُستحسن من أجل نجاح المحاولة أن يقتصر الدليل، أول الأمر، على مسائل محددة، وربما مسألة واحدة كالزكاة لكي تكون أشبه بجهد تجريبي لغرض اختبار مدى نجاحه وانتشاره، وبعدها يمكن التحول لإصدار جزء آخر يعالج مسألة أخرى كقضية الزواج، أو العمل الوظيفي، أو دور المرأة .. الخ.
على المستوى الفني يمكن أن ينفذ المشروع بصيغة دورية أو مجلة فصلية تمضي أعدادها لتغطية المفردات الملحة واحدة إثر أخرى، أو بصيغة كتاب ذي أجزاء متتالية يختص كل جزء بموضوع ما، ويتم توزيع المفردات على عدد من خيرة الفقهاء الذين يجمعون بين الإلمام بالعلوم الشرعية وبين الانفتاح على الثقافة المعاصرة وتحدياتها.
ويمكن ـ كذلك ـ من أجل كسب الوقت ولأغراض إعلامية، فتح ملف في واحد أو أكثر من المجلات الإسلامية المعنية بالموضوع، تطرح فيه ـ أي في الملف ـ كل المسائل المنهجية والفكرية والفنية التي يتطلبها المشروع، وقد تمضي المجلة للبدء في معالجة إحدى المفردات ووضع الحلول الفقهية لجوانبها كافة ثم التحوّل إلى مفردة أخرى، لكي تتشكل في نهاية الأمر بدايات جادة للدليل المقترح.
وقد يكون في سياق جهد كهذا، القيام بمحاولة ببليوغرافية لحصر وفهرسة جل الجهود الدراسية التي عالجت المسائل الفقهية من خلال رسائل الدراسات العليا، أو بشكل مستقل.. في المؤلفات المستقلة، أو على صفحات الدوريات المتخصصة، أو في إصدارات المؤسسات الشرعية والفقهية والقضائية والتشريعية ..
وقد يكون مهماً ـ كذلك ـ وضع منظومة من الموضوعات الملحة مع المسوغات والخطط البحثية التفصيلية المرسومة بعناية، لكي تكون بمثابة حقل للاختيار بالنسبة لطلبة الدراسات العليا (الدبلوم والماجستير والدكتوراه)، ويستحسن توزيع كراريس مستقلة بهذه الموضوعات ومسوغاتها وخططها على المعاهد والجامعات والمؤسسات المعنية بالدراسات العليا في مجال الفقه والعلوم الشرعية.(/9)
إن معضلات العصر الحديث ومستجداته تمثل تحدياً ملحاً للعقل المسلم، وهي بمثابة اختبار لقدرته على الفاعلية في صميم العصر من خلال اعتماد وتحكيم الأصول الإسلامية: القرآن والسنة والسوابق الفقهية، وأن الاستجابة لهذا التحدي لا تحقق فقط إجابة على العديد من الأسئلة الملحة في معترك الحياة، وإنما تؤكد ـ على المستويين العقدي والحضاري ـ قدرة هذا الدين على إعادة صياغة الحياة في كل زمن ومكان وفق تصوراته المتميزة، وهي مسألة ترتبط ـ مرة أخرى ـ أشد الارتباط بالمشروع الحضاري الذي يتوخاه المسلم الجاد بمواجهة، أو كبدي ، عن كل الإخفاقات التي شهدتها القرون الأخيرة بسبب من الممارسات الإسلامية الخاطئة نفسها، أو بتأثير من ضغوط الغير، وغزوه الفكري، والحضاري بوجه عام.
إن الاجتهاد جزء أصيل من الالتزام، فالمسلم ـ فرداً وجماعة ـ لا يكفيه أن يصلي ويصوم ويحج إلى بيت الله الحرام .. ولا يكفيه أن ينفذ مقولات عقيدته وشريعته في واقع حياته اليومي .. لا يكفيه أن يثور ويقاتل ويستشهد .. هذه كلها جوانب من التزامه بالعقيدة التي آثر الانتماء إليها، ولكن ثمة ما لا يقل عنها أهمية، وإن كان من قبيل (فرض الكفاية) الذي قد تتحمل تنفيذه هذه الجماعة أو تلك من المسلمين: حمل المعطيات الإسلامية بالفعل الاجتهادي إلى آفاق الزمن والمكان .. تحكيمها في صيرورة الحركة التاريخية .. وضعها في مركز الشاهد على كل صغيرة وكبيرة .. تمكينها من ممارسة إلزامها الدائم في كل تجربة وكل مرحلة .. جعل
(الإسلامية) الحكم والهادي والموجه والدليل الذي يعلّم ويرشد .. بل يبني ويصوغ بالمادة الإسلامية الأصيلة كل ما يقوم على ساحة الحياة من عمارات ومؤسسات، وكل ما يمارس فيها من أنشطة وفاعليات ..
حتى مدننا وشوارعنا ودورنا وأماكن ترفيهنا، يتحتم أن (نجتهد) في أن تكون امتداداً لرؤيتنا الإسلامية، لفكرنا ووجداننا الإيماني، وذوقنا الذي يميل دائماً إلى أن يربط المنظور بالغيب، والتراب بالحركة، والأرض بالسماء.
وإذا كانت المنائر الممتدة إلى السماء إشارة على قدرة الفنان المسلم على تصميم المفردة المعمارية التي تعبّر عن تصوره للعالم والحياة والوجود، فإن حياتنا المعاصرة كلها يتحتم إن تنبثق فيها (الإشارات) التي تجتهد أن تحمل دلالتها على كل ما هو إسلامي، وأن يتغلغل الالتزام الديني في سداها ولحمتها، ويكون نولها الذي يمنح نسيجها هذا الشكل أو ذاك.
إن الاجتهاد هو ـ بشكل من الأشكال ـ حماية للتشريع الإسلامي من التيبس والتسيب، وهذه مسألة بديهية، ولكن ثقل الواقع كاد يطمس عليها. إننا منذ قرون لا نمارس الاجتهاد .. فكأننا قد اخترنا أسلوب العمل بصيغة بديهية مضادة لا يمكن قبولها: ترك الممارسة الإسلامية تصاب بتصلب الشرايين أو بالرخاوة والتوسع والإنفلات.
إن الإسلام حركة باتجاه (التوافق) مع سنن الوجود والعالم، وإيقاع الكون والطبيعة، فأحرى به أن يكون متحققاً بالوفاق مع نفسه، أي بعبارة أدق: أن يكون كل تعبير إسلامي، في هذا الجانب أو ذاك من الحياة، وإزاء هذه القضية أو تلك من قضايا الوجود والعالم، يحمل إيقاعه المتوحد مع سائر التعابير عن الجوانب الأخرى من الحياة والقضايا المتنوعة في الوجود.
نسيج وحده، هكذا يجب أن ينزل الفعل الإسلامي المتفرد، المتميز، إلى العالم .. إيقاع متوحد، وتوافق منظور، وتناغم شامل بين كل جزئيات الفعل وأطرافه. فإن لم يعن الفعل الاجتهادي على تحقيق هذا التوحد والتوافق والتناغم بين المعطيات والتعابير الإسلامية وبينها وبين العالم، فمن يتولى هذه المهمة؟ ألا يخشى أن يؤول الأمر بالممارسة إلى التشتت والتصادم والتغاير، فتفقد شخصيتها وسماتها؟
إن الاجتهاد ـ بهذا المعنى ـ تنفيذ لمهمة مزدوجة: الحفاظ على هندسة الإسلام نفسه، من جهة، وتحقيق انطباقه على الواقع التاريخي ـ من جهة أخرى ـ أي على بعدي الزمن والمكان. ولن يكون ذلك إلا لصالح الإنسان ومكانته المتفردة في العالم.(/10)
قد يقول قائل: إن جهداً كبيراً كالموسوعة الفقهية التي نفذت أقسام منها في الكويت عبر العقود الأخيرة، يمكن أن يكون كفاءً لمطلب كهذا. والجواب أن عملاً كذاك يمكن أن ينحو منحى أكاديمياً ينطوي على المعطيات الفقهية بمفرداتها كافة، ويشكل على المستوى الكمي ثقلاً كبيراً، قد يبعد به ـ بشكل أو آخر ـ عن أن يكون دليل عمل يومي (عملي) يعين المسلم بيسر وسهولة على وضع اليد على الأجوبة المناسبة لمعضلات حياته اليومية، فضلاً عن أن المطلوب بالدرجة الأولى ليس حصراً للمعطى الفقهي على إطلاقه، وإنما متابعة للمستجدات على وجه الخصوص .. لتعقيدات الحياة الجديدة .. للمطالب المتراكمة التي تزداد ثقلاً يوماً بعد يوم.. للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتقنية التي لا تكاد تستقر على حال إلا لتتجاوزه إلى صيغ أخرى. إن متابعة كهذه ضرورية حتى على مستوى وسائل الترفيه التي تشكل إحدى انفجارات العصر، والتي تتطلب أكثر من فتوى تنير سبل التعامل معها دونما إفراط ولا تفريط، وبعيداً عن حدي العزلة والاندماج اللذين يقودان الممارسة الإسلامية إلى الشلل أو الجنوح.
ثمة ـ فضلاً عن هذا وذاك ـ ضرورة إغناء الخبرات المعرفية والتخصصية لأساتذة علوم الشريعة من خلال التوسع في تنفيذ نظام الأساتذة الزائرين، ذهاباً وإياباً (أي استدعاء أساتذة من أقسام وكليات أخرى لإلقاء محاضرات في أروقة الشريعة، وإرسال أساتذة الشريعة إلى الأقسام والكليات الأخرى للاحتكاك ببيئات تدريسية ومعرفية متنوعة)، وهذا سيمنح التدريسيين والطلبة معاً خبرات أكثر تنوعاً وخصباً على مستوى الأداء التدريسي من جهة، وإغناء التخصص وتعميقه من جهة أخرى.
هذا التبادل المعرفي لن يكون بالضرورة في سياق العلوم الشرعية وحدها، بل يُفضل أن يخرج إلى نطاق العلوم الإنسانية عامة، لتحقيق ما سبق وأن ألمحت إليه هذه الورقات من ضرورة تنفيذ حوار فعّال بين علوم الشريعة وسائر العلوم الإنسانية لتحقيق التحام أكثر بمطالب العصر ومقتضياته، واستجابة أشد فاعلية وتنوعاً وخصباً لمشاكله وتحدياته.
ولابد ـ أخيراً ـ من الإشارة إلى تجربة الجامعات والمعاهد الإسلامية التي بدأت منذ فترة ليست بالبعيدة، في هذا البلد أو ذاك، في تنفيذ مناهج أكثر حداثة في التعامل مع
علوم الشريعة وتدريسها، فكسرت طوق العزلة، والتحمت أكثر بمطالب العصر وقدرت على توظيف معارفه وتقنياته لتقريب أهدافها، وحققت الوفاق الضائع بين المعرفة الشرعية والمعرفة الإنسانية، وسعت ـ ولا تزال ـ لإقامة الجسور المقطوعة بين الفقيه والمفكر من أجل أن تضع الفقيه في قلب الحياة، وتمنح المفكر المسلم خبرة بالمعرفة الشرعية تعينه على التأصيل وتحميه من غوائل الارتجال والجنوح.
لا يستطيع المرء أن يكون مبالغاً في التفاؤل، ولكن رحلة الألف ميل ـ كما يقول المثل ـ تبدأ بخطوة واحدة، ويكفي هذه الجامعات أنها وضعت خطواتها الأولى على الطريق ونفذّت شيئاً من المأمول، وهو كثير، ولكن ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه.
ومهما يكن من أمر فإن جامعات كهذه تمثل فرصة للاستفادة من الخبرة قد تعين
سائر المعاهد والجامعات الأخرى، إذا أحسنت التعامل معها وأقامت بينها وبينها الجسور، على تعديل وقفتها الخاطئة وإغناء خبراتها التدريسية والأكاديمية، وتمكينها في نهاية الأمر من تجاوز عزلتها، والنزول إلى قلب الحياة للإعانة على إعادة صياغتها بما يريده الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا بما يرسمه لها الكهنة والوضّاعون وأرباب الظنون والمصالح والأهواء.
________________________________________
(*) بحث مقدّم إلى مؤتمر ( علوم الشريعة في الجامعات: الواقع والطموح) الذي عقده المعهد العالمي
للفكر الإسلامي وجمعية الدراسات والبحوث الإسلامية والجامعات الأردنية في عمان في الفترة ما بين
23 ـ 25 آب 1994 م.(/11)
على أبواب الجنة
ما بين الحين والحين يتطلع المؤمن إلى ما يعلي همته ويحفزه على الأعمال الصالحة ويشد أوتار الثبات في قلبه....
ولذلك كانت هذه اللقاءات .....
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال تعالى:
[أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر]
واقرؤوا إن شئتم:
{ [فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون] } [السجدة 17] [البخاري ومسلم].
لقد عرفنا الله الجنة.. ترغيباً فيها.. وبين لنا بعضاً من نعيمها وأخفى عنا بعضاً, زيادة في الترغيب والتشويق. لذلك فإن نعيم الجنة مهما وصف, لا تدركه العقول لأن فيها من الخير مالا يخطر على بال ولا يعرفه أحد.
ولكن قبل أن نبدأ لابد لنا من وقفة مع أنفسنا نحن ونسأل أنفسنا بعض الأسئلة ....
*هل نحن من المشتاقين إلى دخول الجنة ؟؟؟
*هل فقط ما نعرفه عن الجنة هو وجود الحور العين والأكل والشرب ؟؟ أم أننا نعرف تفاصيل أكثر ؟؟
أخي الحبيب ......
إذا كنت تريد أن تتغير وأن تكون الجنة بالفعل هي هدفك الأول فهيا بنا معا في هذه الرحلة المباركة ولكن تأكد أولا من ربط حزام التركيز والإقلاع عن الغفلة والتأكد من حسن الرفقة..
فهذه شروط الإقلاع في رحلتنا ...
هيا بنا !!!!!!!!!!!
تعال أخي نطرق أبواب الجنة لنسيح بفكرنا في ملكوت الله فيها وما أودع فيها من الأسرار. قال تعالى: { حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها } [الزمر73 ]
ولن نمر على هذه الآية مرور الكرام فنحن على شرطنا من ربط حزام التركيز...
تأمل معي أخي الحبيب لماذا قال الله تعالى في هذه الآية [ وفتحت أبوابها ] وعندما تكلم عن جهنم قال [ فتحت أبوابها ] ؟؟؟؟
والله إنها للفتة رائعة من الإمام ابن القيم رحمه الله, اقرأ أخي الحبيب ما قاله ذلك العالم الرباني:-
[ 'وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها' وقال في صفة النار حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها بغير واو ]
إلى أن قال رحمه الله:
[ هذا أبلغ في الموضعين فإن الملائكة تسوق أهل النار إليها وأبوابها مغلقة حتى إذا وصلوا إليها فتحت في وجوههم فيفجأهم العذاب بغتة فحين انتهوا إليها فتحت أبوابها بلا مهلة فإن هذا شأن الجزاء المرتب على الشرط أن يكون عقيبه فإنها دار الإهانة والخزي فلم يستأذن لهم في دخولها ويطلب إلى خزنتها أن يمكنوهم من الدخول.
وأما الجنة فإنها دار الله ودار كرامته ومحل خواصه وأوليائه فإذا انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أن يفتحها لهم ويستشفعون إليه بأولي العزم من رسله وكلهم يتأخر عن ذلك حتى تقع الدلالة على خاتمهم وسيدهم وأفضلهم فيقول أنا لها فيأتي إلى تحت العرش ويخر ساجدا لربه فيدعوه ما شاء الله أن يدعوه ثم يأذن له في رفع رأسه وان يسأله حاجته فيشفع إليه سبحانه في فتح أبوابها فيشفعه ويفتحها تعظيما لخطرها وإظهارا لمنزلة رسوله وكرامته عليه.]
ثم قال بعدها...[ وهذا أبلغ وأعظم في تمام النعمة وحصول الفرح والسرور مما يقدر بخلاف ذلك لئلا يتوهم الجاهل أنها بمنزلة الخان الذي يدخله من شاء فجنة الله غالية بين الناس وبينها من العقبات والمفاوز والأخطار مالا تنال إلا به.]
انظر إلى مدى التشويق الذي يكون فيه المؤمنون يوم القيامة !!!
أنا أتخيل شعورهم [ جعلني الله وإياك منهم ], فبعد الأهوال والشدائد التي رآها المؤمنون على العاصين يوم القيامة ومن قبلها الفتن والشهوات التي صبروا عليها في الدنيا, يكون شوقهم إلى رؤية ما أعده الله لهم من النعيم قد أصبح كبيرا جدا ولكن كلما زاد الشوق كلما زادت لذة اللقاء فأراد الله تعالى أن يكون شوق المؤمنين في أعلى مستوى له فجعلهم يقفون أمام أبوابها لفترة وأفكارهم تتلاحق في عقولهم وهم يشعرون أنهم أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من رؤية ما وعدهم ربهم في الدنيا فبعد أن يشفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه يأذن الله له فيفتحها الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[ إن ما بين المصراعين في الجنة مسيرة أربعين سنة, يزاحم عليها كازدحام الإبل وردت لخمس ظمأ ]]. [السلسلة الصحيحة للألباني].
يا الله !!!
هل تتخيل اتساع الباب ؟ مسيرة أربعين عاما أي أنك من المستحيل أن ترى آخره... يتزاحم عليها أهلها كما لو أتيت بجمال تم تعطيشها لمدة خمسة أيام ثم أوردتها الماء ترى كيف سيكون حالها كذا أهل الجنة في شوقهم إليها.
وبعد الدخول لن يغلق عليك الباب..... هل تعلم لماذا ؟
سيخبرك بذلك ابن القيم رحمه الله حيث يقول:
[وتأمل قوله سبحانه 'جنات عدن مفتحة لهم الأبواب متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب' كيف تجد تحته معنى بديعا وهو أنهم إذا دخلوا الجنة لم تغلق أبوابها عليهم بل تبقى مفتحة كما هي.(/1)
وأيضا فإن في تفتيح الأبواب لهم إشارة إلى تصرفهم وذهابهم وإيابهم وتبوئهم في الجنة حيث شاؤوا ودخول الملائكة عليهم كل وقت بالتحف والألطاف من ربهم ودخول ما يسرهم عليهم كل وقت.
وأيضا إشارة إلى أنها دار أمن لا يحتاجون فيها إلى غلق الأبواب كما كانوا يحتجون إلى ذلك في الدنيا ].
والآن ندعك تختار أي الأبواب تحب أن تدخل منها إلى الجنة..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [[ من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله هذا خير.فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة, ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد, ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة, ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان, فقال أبو بكر: يا رسول الله, ما على أحد من هذه الأبواب من ضرورة, فهل يدعى أحد من هذه الأبواب ؟ قال: نعم ! وأرجو أن تكون منهم ]]. [البخاري و مسلم ]
هيا اختر الباب الذي تود الدخول منه ويا حبذا لو كنت رفيقا لأبي بكر يوم القيامة...
هل رأيت أخي الحبيب مدى حرص الله عز وجل على تهيئة الجنة لعباده الصالحين وتشويقهم إليها حتى قبل الدخول ؟؟؟
ألم يرق قلبك بعد أيها الحبيب ؟؟
ألا تشتاق إلى دخول هذه الجنة ورؤية هذا النعيم ؟؟؟
أكاد ألمح تساؤلك الآن
كل هذا في الأبواب ؟؟؟؟ فكيف تكون الجنة من الداخل ؟؟؟
تابع معنا لتعرف .........
وإلى حين اللقاء ندعوه سبحانه أن يجمعنا على أبواب الجنة اللهم آمين.(/2)
على أشرف الخلق أجمعين نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وبعد....
فقبل أن أشرع في ذكر السبل التي تعين على النهوض باللغة العربية والارتقاء بها فإنه ينبغي علينا أن ندرك أهمية هذه اللغة ومكانتها المرموقة خاصة وأنها هي اللغة التي أنزل الله بها كتابه الكريم وهي اللغة التي ندين بها الله عز وجل ونتقرب إليه بما شرع لنا بها. فإن نهضنا بها فإننا في الحقيقة ننهض بديننا ونعتز به وإن تركناها ولم نسعى للنهوض بها فإننا في الحقيقة نعْرِض عن ديننا ونعرّضه للأعداء يتربصون به وينالون منه,فاللغة والدين أمران لاغنى لأحدهما عن الآخر. ومن هنا رعى العلماء هذه اللغة واهتموا بها وألفوا فيها الكتب وحثوا على تعلمها وتعليمها.
وسوف أسوق لكم بعد هذه المقدمة المختصرة بعض النقاط التي تعين على النهوض باللغة العربية وبعدها أذكر لكم بعض النماذج التي تبين اهتمام السلف باللغة العربية والحث عليها والنهوض بها:
1. يجب علينا أن نذكي في نفوس الناس أهمية هذه اللغة ومكانتها وأنه لاغنى لنا عنها كما يجب أن نعتز بها لا بغيرها من اللغات كما هو الحاصل عند بعض الناس مع الأسف.
2. علينا أن نعلم أن اللغة بحر ولا تكفي السباحة فيه بل أن نغوص في مكنونه ونستخرج منه المعاني الجميلة والبديعة التي تصنعه وتلبسه لباس جذاباً.
3. علينا أن نقلل قدر المستطاع من اللهجة العامية وخاصة في كتاباتنا ومقابلاتنا وأن نحاول التجديد في استعمال الكلمات العربية خاصة وأن بعضها له عدة ألفاظ بمعنى واحد وهذه ميزة تساعدنا على التجديد في استخدامها.
4. دراسة الشعر الجاهلي والوقوف على خصائصه,(فلقد استوعب الشعر العربي الجاهلي كل خصائص الأصل العربي وأحاط بأكثر المادة اللغوية في لغة العرب استعمل العرب في أشعارهم الثروة اللفظية الهائلة في فنهم الشعري فكان الشعر الجاهلي فناً مستوفياً أسباب النضج اللغوي والكمال الفني){1}. ومن هنا ندرك السر في توصية الصحابة والسلف بالعناية بالشعر الجاهلي.
5. محاولة التخلص من الألفاظ الدخيلة على اللغة العربية والتي تأثر بها بعض الكتّاب فأصبحوا يكثرون منها حتى صارت معروفة في كتاباتهم ولو أنهم بحثوا في اللغة العربية لوجدوا ما يغنيهم عنها,خاصة وأن العامة من الناس قد يعتقدون أنها من اللغة العربية فيشكل عليهم بحثها والتعرف على معناها.
6. قراءة المعاجم في اللغة حتى يكون لدى الشخص ملكة لغوية قوية ترده عن الوقوع في الأخطاء اللغوية.
7. تبيين الأخطاء اللغوية الشائعة والتشهير بها وتصحيحها كي يتجنب الناس الوقوع فيها.
* بعض النماذج التي تبين اهتمام السلف باللغة العربية والحث عليها والنهوض بها:
1. فمن ذلك (ما جاء عن يحيى بن عتيق قال قلت للحسن يا أباسعيد الرجل يتعلم اللغة العربية يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بها قراءته,قال الحسن يا ابن أخي فتعلمها فإن الرجل يقرأ الآية فيعْيَ بوجهها فيهلك بها){2}.
2. قال الشاطبي( من أراد تفهم القرآن فمن جهة لسان العرب يفهم ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة){3}.
3. وقال ابن عباس رضي الله عنه: (الشعر ديوان العرب فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فلتمسنا ذلك). وفي رواية قال: (إذا سألتموني عن غريب القرآن فلتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب){4}.
4. قال عمر رضي الله عنه: (أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم فإن فيه تفسير كتابكم){5}.
---------------------
{1} أصول التفسير وقواعده للعك (141)
{2} الإتقان في علوم القرآن (1/179)
{3} الموفقات في أصول الشريعة للشاطبي (2/64)
{4} الإتقان في علوم القرآن (1/120)
{5} الموافقات للشافعي (2/88)(/1)
على الفكر الإسلامي أن يتحرر من سارتر وفرويد ودوركايم
الأستاذ أنور الجندي
استطاع فرويد أن يخدع الفكر البشري أكثر من سبعين عاماً قبل أن تكتشف هويته. وبالرغم مما أوردته بروتوكولات صهيون من إشارة إلى انه – هو وماركس – من مخططات اليهودية العالمية، فقد ظل كثير من الرازحين تحت أحمال التبعية الفكرية الوافدة ينظرون إليه في تقدير كبير وخاصة أولئك الذين احترفوا تدريس مادة علم النفس في الجامعات وفي البلاد العربية كان سلامة موسى في مقدمة من دعا إلى هذا الفكر وظل يكتب عنه يوماً بعد يوم لا على أنه نظريات أو فروض وإنما على أنه حقائق علمية وصلت مكان الكمال المطلق وجرت على الألسنة كلمات: مركب النقص والعقل الباطن وغيرها من مصطلحات حتى جاء الوقت الذي استطاع علماء النفس أنفسهم أن يضعوا الحقائق كاملة بين أيدي المثقفين والباحثين عندما أعلن المتخصصون منهم أن ما أورده فرويد من أصول لنظريته جرت مجرى العلم الصحيح ما هي إلا أصول الفلسفة التمودية الصهيونية اليهودية مجددة ومصاغة في قالب علمي براق استطاع أن يخدع الكثيرين وقد كشف الدكتور صبري جرجس في كتابه (التراث التلموي الفرويدي) عن هذه المؤامرة الخادعة، أما سلامة موسى فلم يكن عالماً متخصصاً بقدر ما كان مروجاً للفكر الغربي الصهيوني في عشرات من النظريات والأفكار التي دعا إليها ورددها في مؤلفاته (وسوف يأتي الوقت الذي نحصي هذه الشبهات) بل إن الدكتور صبري جرجس بوصفه مسيحياً – يرى مدى الخطر الذي يحيط بعقيدته من جراء استسلامه لزيوف الفكر التلمودي اليهودي الذي قام أساساً لضرب المسيحية الغربية وتدميرها والذي استغل كلمات (نيتشة) ورينان وأوجست وماركس وفرويد وسارتر ضد الدين والتي كانت موجهة أساساً إلى المسيحية الغربية وحدها باعتبارها "الموقف" العقلي لمرحلة من الفكر الغربي إزاء العقيدة القائمة في مجتمعه. ومن هنا كانت حملة الدكتور صبري جرجس الذي لم يكن يكتشف هذا الخطر لولا أن بعض مؤرخي اليهود أعلنوا أن فكر فرويد هو من صميم مذهبهم التلمودي الذي يقوم على أساس إثارة روح التحلل والفسا
في حياة فرويد نفسه ما يوحي بأنه كان صديقاً (لهرتزل) الذي حمل لواء الدعوة إلى الصهيونية والذي كان على رأس مجموعة الحاخامات الثلاثمائة في بازل عام 1892 م ومعهم صحائف (بروتوكولات صهيون) التي أشارت إلى هذا المخطط والتي لا يزال كثير من الذين يكتبون بالعبرية يدافعون عن الصهيونية وينفسون نسبة هذه البروتوكولات إليها (ولا ريب أن كل دعاة الفصل بين اليهودية والصهيونية وهؤلاء المدافعين باسم التحقيق العلمي المضلل إنما هم من أتباع الماركسية التي هي وليدة الصهيونية أساساً والتي تحاول أن تحافظ على هذه العلاقة السرية).
ولقد كان علينا نحن العرب والمسلمين أن نتحرر من مفاهيم فرويد الذي لم يتوقف عند التحليل النفسي (وله فيه آراء صائبة مستمدة من الفكر الإسلامي أساساً) ولكنه مضى حتى وضع أيدلوجية كاملة شملت الأدب والفن والمجتمع والعقائد جميعاً، وحاولت في أهم ما رمت إليه إلى التركيز على الفصل بين الاعتقاد والعمل، أو بين العلم والسلوك وذلك بالقول بأنه هناك عقل باطن منفصل عن العقل الظاهر، وفي ذلك محاولة خطيرة للإخلال بحقيقة أساسية في تكوين الإنسان وهي الترابط بين المعرفة والإرادة، وتعد هذه النظرية ضربة موجهة إلى الفطرة وإلى اليقين النفسي الذي جاءت به الأديان هذا بالإضافة إلى مؤامرته تحت اسم الجنس، ولعل هذا الاتجاه كله هو نتاج من التوزيع الدقيق للأدوار في مسألة الصراع الفكري، فحيث كانت آراء ماركس في أساسها من مخططات التلمودية اليهودية مصاغة في قالب اقتصادي عصري، فإن هنا يتمثل الجانب الاجتماعي وبذلك يسيطر الفكر اليهودي التلمودي على الفكر البشري كله في مجالات الاقتصاد والاجتماع والنفس والأخلاق ومنها يمتد إلى الأدب والفن ولا يبقى شيء بعد ذلك صالحاً لأن تقال فيه كلمة حق.
كل هذا الذي نقول يعد الآن من البديهيات التي ليست في حاجة إلى إعادة، ولكنا نريد أن نرى إلى أي حد واصل البحث طريقه في الكشف عن زيف فرويد.
هذا كتاب جديد تأليف بول روزن أستاذ علم النفس بجامعة هاروفارد تحت عنوان (قصة فرويد وتايزك) يزيح فيه فيكتور تايزك معاصر فرويد وأحد رواد علم النفس حقائق خطيرة.(/1)
ويكشف عن مدى أحقاد فرويد التي ساقها حرباً شعواء ضد هذا الباحث نتيجة غيرته منه، وفي سبيل عرقلة جهوده وأبحاثه في حقل علم النفس مما دفع به (دفع بتايزك) في النهاية إلى الانتحار بإطلاق الرصاص على نفسه في 3 يوليو 1919 م وكان قد رحل إلى فينا لدراسة علم النفس، وقدر لأبحاثه الرواج والانتشار، مما لفت نظر فرويد وقد كشف المؤلف عن غيرة وحسد فرويد من تايزك لنبوغه وأصالة أبحاثه، حتى أنه رفض معالجته عندما اشتدت أزمته النفسية وحين أوكل علاجه إلى تلميذه فرويد (هيلبي ديتش) بل إن فرويد وصل إلى حد تهديد تلميذته ومنعها من مساعدته مما دفعه في نهاية الأمر إلى نوع من اليأس القاتل بإطلاقه الرصاص على نفسه.
وفي فرنسا صدر كتاب عن فرويد بقلم (لوس إيرا جراي) التي تنتمي إلى المدرسة الفرويدية ، والكتاب اسمه (المنظار الطبي للمرأة الأخرى) وقد أحدث ضجة كبرى رغم أن مؤلفته قد طردت بسببه من الجامعة لاحظت المؤلفة أن فرويد عندما يتكلم عن المرأة يضيع عقله ويشتد شريط تحليله ومنطقيته فهو يشعر دائماً أنه السيد، وهو عندما يتكلم عن المرأة يتجه إلى الرجال على أساس أن المرأة لا يجب عليها معرفة شيء من أمورها حين يناقش الرجال الموضوع وأن مشكلة الأنوثة تهم الرجال ولكنه بالنسبة للمرأة الموجودة معهم، وترى المؤلفة أن المرأة عند فرويد لغز عجز الرجال عن اكتشافه. وبذلك بقيت المرأة بمثابة (الأرض الموحشة) في علم النفس وتحاول المؤلفة أن تصل من هذا إلى أن فرويد بالرغم من كل ما يحاول إعلانه من استقامة البحث لا يرى في المرة كائناً إنسانياً، وأنه لم يأت بجديد سوى أنه صقل تحاليل أفلاطون، وتقول المؤلفة أنه ربما كان فرويد مريضاً ويعاني عقدة إزاء المرأة. وتقول أن تحويل المرأة إلى لغز عند فرودي يعتبر سلباً لطابعها الإنساني وتحويلاً لها إلى شيء خارجي.
وعندنا أن رأي فرويد مستمد أيضاً من مفهوم التلمود، فهو يحاول أن يصورها على أنها أداة جنسية للمتعة، ولذلك فهو ينكر إنسانيتها واستقلالها ويرى فيها رأي الفسلفات القديمة التي تحتقر المرأة.
4- عالج فيلكس وجاناري في كتابهما (إنني أوديب) نظريات فرويد وأشارا إلى أن فرويد هو مفتاح الإمبراطورية البروسية، وأن علم النفس التحليلي الذي أسسه فيما بعد. كما أشار بنيامين نيلسون في كتابه فرويد والقرن العشرين إلى أن فلسفة فرويد مادية صرفة، تنكر الروحانية والحرية، وأنه يعد الحالات النفسية العليا كالإلهام الشعري والحب الصوفي مجرد تحويلات وأقنعة للغريزة الجنسية.
وأن رأي فرويد في قصور الإنسان دون الوصول إلى الكمال لم يستمده من المسيحية بل من دارون وأن فرويد قد اعتمد على أساطير قديمة كالمأساة اليونانية في عقدة أوديب وعقدة الكترا والصراع بين إيروس إله الحب والحياة وثاناسوس إله الموت، وأنه غارق في فكرة الخطيئة الأولى.
ولا ريب أن هذه الحقائق التي لم يكتشفها الفكر الأوروبي إلا أخيراً كانت واضحة في عقل الباحثين المسلمين منذ اليوم الأول لنظزرهم في فكر فرويد، بل إن كتاب الإنسان بين المادية والإسلام الذي كتبه مؤلفه في سن باكرى وهو يدرس في قسم الفسلسفة وعلم النفس في كلية الآداب ما زال حتى الآن بالرغم من مضي أكثر من ربع قرن على ظهوره واضح الدلالة في عجز نظرية فرويد عن فهم النفس الإنسانية، وأن معطيات القرآن والسنة النبوية والفكر الإسلامي في هذا المجال بالغة القوة والحيوية والصدق.
ولكن الفكر الغربي لم يتنبه إلا أخيراً لفساد نظرية فرويد يعرف أن أي نقد لها اليوم لا قيمة له لأنها قد تغلغلت تغلغلاً كاملاً في كل أعمال الأدب والفن والقصة والمسرحية حتى لم يعد هناك تراجع في أثر هذه النظرية التي أرادت تدمير الفكر الغربي المسيحي ورده إلى الوثنيات والأساطير والخرافات.
ونحن نعرف أن فرويد حين بدأ مع (ادلرويونج) في أوائل هذا القرن كان عنيفاً في فرض اتجاهه بالتفسير الجنسي الذي خالفه فيه صاحباه وانفصلا عنه كما اختلف مه جيمس حين التقى به في أمريكا بعد ذلك، وأنه لم يبق معه إلا اليهود: رانك وجونز وبريل.
ولكن إذا كان فرويد على خطأ – وهو على خطأ معارض للفطرة والعلم والعقل في دعواه – فلماذا أتيح له هذا النفوذ الخطير وهذا الدوى المدوى، لم يكن ذلك لوجه العلم وحده، ولم يكن ذلك طبيعياً، ولكنه كان بقوة من الدفع اليهودي الصهيوني المسيطر على النظريات والمذاهب، القادر على فرض ما يشاء منها ومن قبل كان والأس قد سبق دارون وكان أقرب منه إلى الفطرة والعلم الصحيح ومع ذلك فقد دوى صوت دارون لأنه اتخذ منطلقاً إلى النظرية المادية وإلى فرض نظرية التطور الاجتماعي المطلق وكانت نظريته قاصرة على مجال البيولوجيا وحدها.(/2)
وكذلك كان الأمر بالنسبة لفرويد مه أدلرويونج، فقد قالا بأن العامل الجنسي ليس هو المصدر الأوحد للتصرف الإنساني ولكنه واحد من عوامل كثيرة منها تأكيد الذات ومركب النقص، ولكن دعوى التحدي بالجنس وحده كمصدر لتصرفات الإنسان هي التي شاعت وذاعت.
ونحن نجد النظرية تسقط اليوم سقوطاً علمياً شديداً، ولكن أصحاب الفلسفة المادية يحاولون تمديدها بربطها بالماركسية من ناحية، وبالدعوة إلى ما يطلق عليه الثورة الجنسية وبربطها بالوجودية وهذا ما سنتحدث عنه بعد.
ثانياً: سارتر:
إن أي نظرية يتقدم بها فيلسوف أو مصلح تتمثل فيها حقائق هامة:
أولاً: إن هذه النظرية هي فرضية افترضها هذا الفيلسوف بناء على نظرته إلى الأمور.
ثانياً: إنها نظرية تتصل اتصالاً تاماً بالتحديات الخاصة بشخصية هذا الفيلسوف وبيئته وعصره ومجتمعه وظروف معينة قائمة.
ثالثاً: إن الإنسان على أعلى درجة من التفكير والنظر لا يستطيع أن يخرج عن أبعاد وجوده البشري والعقلي والنفسي ولا يستطيع أن يشرع للمجتمع الإنساني كله.
ومن ثم فإن كل ما يقدمه الفكر البشري هو فرض يقبل الخطأ والصواب، ويصلح لمجتمع ولا يصلح لآخر، وينفع في عصر ولا ينفع في جميع العصور، ولقد اعتورت النظريات والمناهج أسباب القصور وحل بها النقص واحتاجت إلى الإضافة والحذف على مدى قريب من ظهورها وذهب بعضها وأنطوى عجزاً وفساداً وليس أدل على ذلك من ناحية أخرى على نحو يوحي بإنقاذ المراكب الغارقة، العصر الذي اضطربت وعجزت في بيئاتها الخاصة واضطرب أصحابها إلى تعديلها بالإضافة والحذف ومحاولة الربط بين الوجودية والماركسية من ناحية وبين الفرويدية والماركسية من ناحية أخرى على نحو يومي بإنقاذ المراكب الغارقة، وعلى بعد ما بين الأيديولوجيات الثلاث من تناقض واختلاف.
ونحن نعرف أن الوجودية "صيحة أزمة" تعالت في فرنسا بعد انهيارها في الحرب العالمية الثانية حين هوت تحت سنابك خيل الألمان صريعة الانحلال الخلقي. فجاءت الوجودية التي دعا إليها سارتر ليطلق للشباب أمر التهالك على الشهوات تحدياً للخطر الماحق الذي يعيش تحته العالم، وبعد أن أفقدت الحرب أمم أوروبا زهرة شبابها التي تجاوزت المائة مليون. ولقد كانت وجودية سارتر وجودية ملحدة نابعة من الفكر المادي وإن حاولت أن توجد للإنسان منطلقاً عاصفاً حيث جردته من مسئوليته الفردية وإلزامه الأخلاقي وأحالت ذلك كله على المجتمع.
ومن ثم أنطلقت تلك الصورة المدمرة في كل أنحاء العالم توحي بالتفكك والتحلل والتمزق والضياع. ولقد صدق جاك بيرك حين قال أن الوجودية ظاهرة زمنية عابرة لن يلبث الإنسان أن يتخطاها، وهي ليست روحاً "وأنا لا أستنتج منها نتيجة متشائمة بل واقعاً يجب أن يعترف به" وهي في تقديرنا علامة على دخول أزمة الإنسان المعاصر في مرحلة الانحدار، ودخول أوروبا والغرب والفكر الغربي كله مرحلة التمزق الذي فرضته عليه الفسلفة المادية التي قادها فلاسفة اليهود التلموديين، وإن كانت لا تخلو من تمثل أخطر ما أطلقته التعبيرات المسيحية حول نظرية "الخطيئة الأصلية" ذلك السوط الذي ما زال يلهب ظهور الفريقين ويسوقهم إلى الدمار النفسي.
ولا ريب أن فلسفة سارتر الوجودية الملحدة هي بديل "الإيمان" الذي عجز الغرب عن الحصول عليه عجزاً مطلقاً، ولا ريب أن البشرية حين انطلقت لترسم لنفسها طريقاً بعيداً عن طريق الله فإنها ستظل تائهة في مضارب الصحراء، وما دام الإنسان قد شرع لنفسه ورفض الأسس التي قدرها الحق تبارك وتعالى لينظم المجتمع البشري فإنه ليس هناك قواعد ما يمكن أن تفرق بين الحق والباطل ذلك تداخلت أهواؤه ومطامعه وشهواته، وأصبحت الأمور كلها نسبية وليس لها ضوابط أو حدود أو قيم ثابتة راسخة تحاكم إليها، أو ليس هناك من نقطة بداية ونقطة نهاية وإنما يصبح الكون دائراً في دوامة لا نهاية لها ولا غاية منها وقد جهل الإنسان سر وجوده وهدفه في الحياة ورسالته في الأرض ومسئوليته وجزاءه وحسابه وتلك هي الحيرة التي تذوب فيها البشرية نفسها اليوم بعد أن خالفت عن منهج الله. ومن ثم تصبح حياة الإنسا نليس بها طعم، حياة القلق والتمزق والألم والإحساس بالغثيان والضياع، ذلك أنها فقدت المعنى الذي وضعه الحق تبارك وتعالى لها، والذي هو سر الحياة نفسها، الأمل والإيمان والهدف والمسئولية والرسالة التي وجد الإنسان من أجلها في الحياة.
إن الوجودية تثور على مفاهيم سحق الإنسان التي تقدمها الماركسية ولكنها مع الأسف تسحق قلب الإنسان ولا تراه إلا من وجهة النظر المادية الصرفة: وهم حين ينكرون أن يصبح الإنسان ترساً في آلة، يحيلونه إلى شعور بالضياع والفراغ، ويفرغونه من معناه الاجتماعي ويجعلونه أنانياً لا هم له إلا مطامعه التي تقوده إليها غرائزه كالحيوان في الغابة.
ولا تزال الوجودية تدفع أهلها من قيد إلى قيد ومن تمزق إلى مزيد من التمزق نراه الآن في الهيبية والخنافس.(/3)
وحين يقولون أن الوجودية تحرر الإنسان نجد كتابات أهلها لا تحمل إلا اليأس القائم: فهم يقولون عن أنفسهم أنهم جيل بلا أمل، بلا عمق، بلا مستقبل وأن عمقهم هو الهاوية، وحبهم هو الوحشية، وحياتهم علب من الورق فراغة وقابلة للتمزق، وليست الوجودية إلا تعبيراً عن هذا الهوان أين هذا من الإسلام الذي يقدم للبشرية الأمل وللنفس الإنسانية السكينة والإيمان، حيث يرفض اليأس والقلق والشك والحقد، وهو لا يترك الناس صرعى في أوهامهم، ولكنه يقدم لهم الترياق، يقدم لهم العون، يطلب لهم المبررات، ويفتح لهم الآفاق التي تخفف الشهوات، ويحررهم من قيود الحيوان، ويراوح بينهم دين السماء والروح والمعنويات، هو لا يحرمهم رغائبهم الجسدجية ولكنه يبني فيهم الروح والعقل.
إن أخطر ما تقدمه الوجودية التشاؤم وهو طابع عام لكل معطيات الفكر الغربي البشري، الضال عن الإيمان بالله والروح والمعنويات. إن مصدر التشاؤم في الفكر الغربي هو عدم الاقتناع العقلي لوراثة البشر جميعاً لما يطلق عليه الخطيئة الأصلية" هذه التي ينكرها الإسلام إنكاراً كاملاً ولا يرى أن إنساناً مسئولاً عن خطأ الآخر، ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى.
ومن خلال أيديولوجية الخطيئة الأصلية السوداوية المتشائمة تنشر على أوسع نطاق في الفكر الغربي نظرة "لا معقولية الحياة" وعبث الوجود، ثم جاءت الوجودية لتكون أعلى مراتب التشاؤم.
وهذه كلها أفكار غريبة عنا كل الغرابة مختلفة عن طوابع الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي، ولا تتصل بسبب إلى ثقافتنا أو قيمنا أو عقائدنا وهي توحي بأن الفكر الغربي والمجتمع الغربي يمر بمرحلة انهيار كامل يتمثل في الأسرة والفكر والمجتمع. وأن طوابع المادية الخالصة قد صرعته تماماً، وأن إنكاره للروح والدين والخلق والإيمان بالله قد دمره تماماً.
ولذلك فهي تبدو غريبة عنا دخيلة علينا متناقضة مع جوهر الإنسان، ومع فطرته وأغرب ما فيها أنها حين تعتز بحق الفرد في الوجود – وهو مفهوم إسلامي، فإنها تغطي عن أعظم معطيات الإنسان والركن الركين في وجوده على الأرض ولبس المسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي الذي يحاسب على أساسه ويقرر جزاؤه. ولا ريب أن إفسادها يتمثل في أنها ترى أن الإنسان يكون نفسه مستقلاً عن الدين والتقاليد والمجتمع، وأن الزواج نظام عتيق، وأن الطلاق لا يبقي بإرادة الزوج فضلاً عن إنكارها "قوامة الرجل" ودعوتها إلى حرية الصداقة، وإسقاط الدين كله من حساب الحياة. وهي لأنها تعارض الفطرة الإنسانية لم تجد قدرة على البقاء وتساقطت جوانبها، إلا من تلك النزوات التي يقوم بها المنحرفون ولا ريب أن المفاهيم الوجودية كلها إنما هي تعبير فكري ونفسي وأخلاقي عن الفراغ الروحي المخيف.
ذلك أن رفض فكرة الالتزام، وفكرة الرقيب النفسي "الضمير" وفكرة الفضيلة وفكرة الخير، وفكرة الإيثار وفكرة العدل وفكرة المسئولية إنما تجرد الإنسان من كل قدراته ومعطياته التي تجعله قادراً على أداء دوره الحق في الحياة وأن أخطر ما تدعو إليه الوجودبية هو "أنانية" الفرد في مواجهة المجتمع بإنكاؤ دوؤه في العطاء والبذل والإنفاق والعطاء للآخرين، ومن فسادها قولها أن الإيثار يعني أن يصبح الإنسان مجرد أدارة للآخرين، بينما يدعو الإسلام إلى أن الإيمان هو انتقال الإنسان من الأنانية إلى الغيرية.
ولا ريب أن موقف سارتر من الألوهية موقف أشد عنفاً وخطراً مما يقول به الملحدون أو المشركون، فهو يضع الذات الإلهية في مقام التزاحم مع الإنسان وأن وجود أحدهما يلغي وجود الآخر تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، والإنسان ليس في الحقيقة إلا خلق الله وعبده وفضل من فيض فضله وعطائه.
وإذا قيل أن الوجودية تحمل مفهوم الحرية، فإنما هي الحرية بمفهوم تحرير الإنسان من مسئوليته وإطلاق أهوائه إلى أبعد مدى وكيف تستقيم أمر نظرية تدعي أنها علمية حين تنكر وجود الحق تبارك وتعالى وكيف يمكن أن تعلل وجود العالم، وكيف يمكن القول مع الوجودية بأن العالم وجد بلا داع ويمضي لغير غاية ونحن نقرأ قول الله تبارك وتعالى (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون).(/4)
ولا ريب أن الفرد هو موضوع هام شغل الفلاسفة وأصحاب الأيديولوجيات ولكن أهم ما هنالك: هو مسئوليته وموقفه من الجماعة، وتلك هي القضايا التي تتلاعب بها أهواء الفكر البشري، وحين تراه سيداً مؤلها، وحين تراه حيواناً وحين تراع ترساً في آلة، وقد برأ الإسلام من ذلك كله ووضعه في موضعه الحق، واعترف برغائبه المادية وأشواقه الروحية جميعاً، فليس الفرد مؤلها ولا معبوداًً ولا حيواناً ولكنه من أعظم ما خلق الله لو استقام على الطريقة واهتدى إلى الحق، وقد حدد الإسلام موقفه من ربه ومن الكون ومن المجتمع وحدد مسئوليته ورسالته وجزاءه، وعلاقته بالدنيا وبالآخرة وبالوجود كله، على نحو تعجز كل الفلسفات والمذاهب عن الوصول إليه، أما الغرب فإنه حين أنكر الألوهية والدين والوحي فإنه ذهب وراء الأهواء كل مذهب في سبيل مفهوم للحياة وللإنسان.
ولكن الإسلام وهو وحي الله ورسالة السماء كان أصدق من كل هذه المذاهب والأيديولوجيات وأقربها إلى الفطرة وأبعدها عن الغلو والاضطراب، ومن ثم فهو أصلح المناهج للبشرية على مدى العصور وعلى اختلاف البيئات لأنه قدم الشريعة المحكمة الخالدة القائمة على إطار ثابت مع القدرة على التغير والحركة والتطور، رابطاً بين العقل والقلب، والروح والمادة، والدين والعلم، والدنيا والآخرة.
ولقد سقطت الوجودية وتجاوزها الزمن لأنها خالفت الفطرة، ولم تستطع أن ترضي العقل، ولم تعترف بالروح، فهي تجعل الإنسان في عزلة عن الجماعة أنانياً غاية الأنانية أولاً وتجعله يستطيب أبرز القبيح من جوانب الطبيعة الإنسانية؛ ثانياً، وتجعله يفصل نفسه عن ربه وعن السماء وعن الدين ويتنكر لكل القيم الخالدة؛ ثالثاً ولأنه يؤوس قنوط قلق ممزق لا يجد قرارة ولا راحة ولا طمأنينة ولا أمنه النفسي، بينما الإسلام هو ما عكس هذا كله، نوراً وهدى.
ثالثاً: دوركايم:
منذ سنوات ومن خلال الضباب المخيم على آفاق الفكر الإسلامي ارتفعت صيحة صاعقة ثم سرعان ما انطفأت وساد الصمت بعدها. كان صاحب هذه الصيحة هو أستاذ العلوم الاجتماعية في إحدى الجامعات العربية، قال الدكتور عاطف غيث: إن علم الاجتماع الذي يدرس بجامعاتنا بصورته ومادته الحالية
أداة انهزامية في مجتمعنا العربي. إن مدعم علم الاجتماع الذي نعتمد على نظرياته في جامعاتنا هو العالم اليهودي الفرنسي إميل دوركايم الذي حاول مع من ردد آراءه أمثال "ماكس فيبر" الألماني "وظفر" الإيطالي، أن يطمسوا فعالية الإنسان ويجعلوه عبداً لمصير مجهول، وحاولوا كذلك أن يميعوا حركة التاريخ ويبعدوا الأحداث التاريخية عن مضمون الواقع المعاصر حتى لا يتعرف الباحث على حقيقة مسيرة التاريخ نحو هدفه الذي لابد منه وهو ضرورة تحرير المجتمع الإنساني من القيود التي كبلته قروناً عديدة.
ودوركايم هو صاحب الأفكار التي تعوق النزعات الحرة كلها ويقف حائلاً أمام تخطيط الإنسان لمستقبله.
إن خطر علم الاجتماع يتضح عندما تعلم أن موضوعه الرئيسي هو دراسة بناء المجتمع وعوامل تغييره وهو ما نعتبره أساس معركة النضال للخلاص من الثغرات التي خلفها الاستغلال والاستعمار في المجتمع العربي.
ولاشك أن علم الاجتماع الذي يدرس الآن في جامعاتنا بوضعه الحالي عاجز تماماً عن متابعة التغيرات فهماً أو تقويماً ولذلك فإن بناء قيم جديدة وصناعة جيل جديد، لا يمكن أن يحظى من علم الاجتماع بوضعه الحالي بأدنى اهتمام وهو بوضعه الحالي أداة لتحويل الأنظار عن أوجه النضال الاجتماعي والاقتصادي. ولذلك فإننا نعتبر نقله دون تغيير إلى بلادنا يعتبر أداة إنهزامية يجب القصاء عليها.
هذه هي الصيحة التي استعلنت منذ عشر سنوات ثم سرعان ما انطوت: صيحة لا تقف عند علم الاجتماع وحده ولكنها ستصل بعدد من العلوم التي ندرسها في جامعاتنا وهي في ذاتها علوم وافدة ونظريات أجنبية صممت على مقاييس مجتمعات أخرى في الشرق أو في الغرب وسيطر عليها فلاسفة لهم اتجاهات واضحة وأهداف صريحة ويجرون في موكب "الصهيونية وأهداف بروتوكولات صهيون التي يقودها دوركايم وليفي بريل وغيره من اليهود ولكن الأمر يتصل بعلوم الأخلاق والنفس والتربية والعلوم السياسية والتاريخ والفن... ففي كل مجالات هذه العلوم تجد نظريات وافدة تقتضي الأمانة بعلمائنا أن يعرضوها على أنها ليست العلم العالمي كما يدعون ويقولون أو أنها نتائج أعلى العقول البشرية فليس الأمر كذلك في الحقيقة، ولكنها نظريات وفروض وضعها مجموعة من الباحثين والفلاسفة في ضوء عاملين خطيرين:
العامل الأول: عامل البيئة الغربية التي صنعتها عوامل ثقافية ودينية واجتماعية معينة.
والعامل الثاني: عامل العصر المعين الذي يقع في منتصف القرن العشرين الميلادي.(/5)
وفيما قبل ذلك بعقد أو عقدين من الزمان كانت هناك مواهب أخرى وحلقات متصلة بذلك الزمن، كما كانت هناك مذاهب فلسفية مختلفة ولا تزال في ألمانيا لها طابعها الوجودي وفي فرنسا لها طابعها الماركسي وفي أمريكا لها طابعها البرجماتي وهكذا.
فكيف يصح في الأذهان أن تنقل هذه المذاهب إلى مجتمع كالمجتمع العربي الإسلامي الذي يعيش عقيدته وآدابه وأخلاقه ومفاهيمه وطباعاته الخاصة التي ما زالت تستمد جذورها من القرآن والتوحيد والشريعة الإسلامية، بالرغم من مرحلة الاضطراب التي فرضتها ظروف الاستعمار والغزو الثقافي، كيف يمكن أن ننقل هذه المناهج فتدرس في الجامعات على أنها علوم مقررة وأن فروضها ونظرياتها تعلم على أنها حقائق نهائية.
وكيف يمكن لمجتمع ناهض مختلف عن المجتمعات الغربية التي استكملت وجودها، وتعيش الآن مرحلة الرفاهية والاستهلاك وقد وضعت نظرياتها في ظل هذه الأوضاع كيف يمكن أن تطابق هذه النظريات مجتمعنا وكيف تستطيع أن تعطيه، وهذه العقلية العربية الإسلامية التي تقوم على مفهوم الإيمان بالله وإرادة الفرد والالتزام الأخلاقي والمسئولية والجزاء كيف يستطيع أن يتعامل مع نظريات تقوم على الجبرية وتحاول أن تصور المجتمع بصورة الصراع وأن تقيم التناقضات أساساً بينما تقوم المجتمعات العربية الإسلامية على التقاء العناصر والأجزاء في كل متكامل، دون صراع بينها أو جبرية.
ذلك هو الخطر الذي يصل إلينا، لا عن طريق الفكر المفتوح حتى نناقشه ونكشف عن زيفه، ولكن عن طريق الجامعة فإذا هو من المسلمات في عقول أبنائنا بينما هو في الحقيقة ليس كذلك في نظر أصحابه الذين طالما غيروا لأن الزمن لا يدعهم في راحة، إن ما ذهب إليه – دوركايم – في مذهبه الاجتماعي الذي يضمه كتابه "قواعد المنهج في علم الاجتماع" ليس إلا نظرية وفرضية بناها عقله في ضوء تحديات كثيرة منها التحديات العامة ومنها التحديات الخاصة ولكل فيلسوف من ظروفه الخاصة ظل وأثر على آرائه لا ريب في ذلك. أما التحديات العامة فذلك أن دوركايم هو ربيب الثقافة الماركسية أو المذهب الماركسي والنظرية المادية أصلاً، ومفهومه معارض تماماً لكل القيم الأساسية التي جاءت بها الفطرة، أو صاغتها الأديان في منهجها الرباني القائم على الفطرة، وهو في كل دعاواه يأخذ الطرف الثاني المعارض فإذا أعانت الأديان أن الدين فطرة وأن الأسرة فطرة أعلن هو عكس ذلك تماماً فقال أن الجريمة هي الفطرة، ولكن الدين والأسرة ليسا من الفطرة في شيء.
وهو في كل ما يدعو إليه تابع للمدرسة التي بدأها سنبسر وكانت وهو تابع في نفس للوقت للمدرسة التي بدأها ماركس في التفسير المادي للتاريخ، فهو واحد من كبار الدعاة إلى إنكار الفرد ومسئوليته ودوره وإلعاء شأن الظاهرة الاجتماعية وتحميلها كل النتائج على النحو الذي يؤدي إلى أخطر الآثار التي يترتب عليها إنكار مسئولية الفرد والتزامه الأخلاقي وجزاؤه.
ومن شأن هذا أن يبرر للأفراد تصرفاتهم ويحررهم من التبعية ويلقيها كلها على المجتمع ولا ريب أن هذا الاتجاه معارض معارضة جوهرية لمفهوم الدين الحق ولقاعدة أساسية من قواعد الإيمان بالله التي يقوم عليها المجتمع العربي الإسلامي.
يقول دوركايم: إن الفرد لا قيمة له ولا معنى للتشبث بالحرية الفردية، وإنما القيم كلها للمجتمع الذي يخلق الأديان والعقائد والقيم الروحية وكلها عبث لا قيمة لها.
وهو في هذا يحاول إرساء قاعدة فاسدة تتعارض مع الفطرة البشرية ترمي إلى القول بأن التحلل والانحلال أمر حتمي.
وأهم ما يريد دوركايم أن يصل إليه هو:
أولاً: إقامة فكرة التطور التي تلغي مفهوم الإسلام القائم على إطار من الثوابت في داخله حركة وتغيير.
ثانياً: الدعوة إلى فكرة القهر الخارجي الذي يقهر الفرد على غير رغبة منه وذلك ليلغي مفهوم الإسلام القائم على الإرادة الفردية والمسئولية الفردية والجزاء الفردي.
ثالثاً: تفسير الإنسان وفق مذاهب المادة وعالم الحيوان وذلك في مواجهة مفهوم الإسلام الذي يكرم الإنسان ويجعل له منهجاً خاصاً لفهمه يختلف عن المادة وعن الحيوان.
رابعاً: إنكاره القواعد الخلقية وثبات القيم الأخلاقية وهو ما يقرره الإسلام.
خامساً: إنكار فطرة الدين والأسرة والزواج وفي ذلك معارضة لأصول أصيلة من النظام الإنساني.
سادساً: لا يعترف دوركايم بأن الحياة البشرية يمكن أن تفسر عن كريق نفسية الفرد وطبيعته وكيانه الفردي وإنما يفسرها العقل الجمعي وهذا الرأي معارض مع مفهوم الإسلام الذي يقرر أن كل إنسان مسئول عن نفسه مسئولية خاصة. وأن تعلله بفساد المجتمع أو اضطرابه لا ينجيه من الجزاء.
سابعاً: نحي القداسة عن الدين والأخلاق والأسرة والتشكيك في قيمها وهو يدعو إلى تحطيم الدين لأنه قد يعوق التطور، وليس فطرة إنسانية وتحطيم قيود الأخلاق لأنها لا وجود لها في ذاتها.(/6)
هذه هي النظرة المادية الخالصة التي تقوم عليها مفاهيم علم الاجتماع كما دعا دوركايم وكما يدرس الآن في الجامعات العربية حيث ينشئ أجيالاً تقوم عقليتها على أساس النظرة المادية الخالصة إلى الإنسان، وحيث ننظر بسخرية إلى الأخلاق والدين والأسرة، وترى أن هذا الذي تدرسه هو الحقائق العلمية والمسلمات التي لا مرد لها، بينما هي لا تعرف وجه الحقيقة بالنسبة لمفهوم الإسلام الحق بينما هي لا تعرف وجه الحقيقة بالنسبة لمفهوم الإسلام الحق الذي هو فطرة الله التي فطر الإنسان عليها، والمفهوم الأصيل الذي يقرر أن الإنسان روح وجسد وعقل وقلب وأنه لا يمكن تفسيره عن طريق المذاهب المادية التي تعامله كالحيوان أو التجريبية التي تعامله كالمادة الصماء.
ولا ريب أن نظرية دوركايم في علم الاجتماع حين تلتقي بنظرية فرويد في علم النفس ونظرية ماركس في الاقتصاد من شأنها أن تشكل إنساناً مضطرباً مزعزع الوجدان، واليهود الثلاثة هم القادة المسيطرون على هذا الفكر العربي الذي يفرض الآن على أنه هو الفكر العالمي. بينما تختفي مفاهيم الإسلام في النفس والأخلاق والاجتماع وتتضاءل ولا تعرض حتى على أنها وجهة نظر أخرى بل لعل شبابنا في الجامعات يرى أنه ليس هناك مفهوم إسلامي هو أعمق وأصدق وأكثر أصالة من هذا المفهوم الذي يقوم عليه مجتمعات الغرب والذي به وصلت إلى الأزمة الطاحنة المستحكمة التي يعانيها الآن من تخلخل المجتمع إلى اضطراب الأسرة التي تمزق النفس البشرية.
وبينما يجد المسلمون عندهم منهجاً صادقاً متكاملاً تترقبه البشرية كلها وتتطله إليه، ويجد كل مطلع شمس من يؤمن به من أهل الغرب، فإن العرب والمسلمين محجوبون تماماً عن منهجهم هذا في مدارسهم وجامعاتهم، ولقد كان من الضروري أن يكون للعرب والمسلمين منهجهم الاجتماعي الأصيل المستمر من فكرهم وعقائدهم وبيئتهم، ومنهم خرج مؤسس علم الاجتماع الذي يعترف الغربيون بريادته وأثره وهذا ما قاله الدكتور غيث ما هي الحقيقة التي تختفي وراء ترك علمائنا لواجب البحث والتألف في علم كعلم الاجتماع الذي نشأ عندنا وترديد النظريات الأجنبية بكل علاتها. لقد كان من الضروري أن يقوم علم اجتماع عربي إسلامي في بلادنا على أساس يختلف عما علمه الغرب لأبنائنا وهناك فارق بين منطق العلم وحقائق العلم "إن منطق العلم ومنهجه لا يختلف عليه اثنان مهما كان لونهما وأيديولوجيتهما ولكن تفسير الحقائق وإبراز بعضها وإغفال بعضها الآخر، واستخراج نتائج متميزة هو الذي يجب "أن نتنبه إليه تماماً".
إن أخطر ما يفرضه منهج دوركايم في علم الاجتماع هو "إن إرادة الإنسان ليست بالانطلاق الذي يمكنه من تغيير المجتمع وأن الأفراد وهم ورثة النظام الاجتماعي ليسوا إلا صوراً متشابهة متكررة كما أن إطار الدراسة فيه يدور حول مجموعة من المسلمات" هذه المسلمات الباطلة الزائفة التي لا يقرها الفكر الإسلامي.
ويقول الدكتور غيث: إن الرد على دوركايم ومن قبله أوجست كونت يقوم على أساس أنهما في تفسيرهما للعوامل الموجهة لحركة التاريخ والمجتمع الإنساني يغفلان عمداً الصراع الذي خاضه الإنسان المغلوب على أمره ضد طغيان العبودية.
لا ريب أن دوركايم ومعه زملاؤه اليهود، قد صدروا في مذهبهم عن هدف واضح وجرياً في نطاق واضح بدأه ماركس، وأكمل شطره فرويد، وجاء دوركايم ليحكم الحلقة ولا ننسى في هذا ما كتبه الأستاذ محمد قطب في كتابه "التطور في حياة البشرية" فإنه بلا ريب قد كشف وجوهاً كثيرة وخلفات خافية مما يريده مفسرو البروتوكولات من أهداف وغايات بالبشرية. وليس هناك انتصار أكبر من أن نظرياتهم وفروضهم تدرس الآن على أنها (حقائق العلم) والجديد في هذا الأمر أن الجزائر قد حاولت في مؤتمر علم الاجتماع الذي عقد بها عام 1974 م أن تدعو إلى إنشاء علم اجتماع عربي والتحرر من منهج علم الاجتماع الوافد الاستعماري الطابع وقد دعا عدد من علماء الجزائر إلى:
"الرجوع إلى الأصالة"
باعتباره أحد الحلول المطروحة الآن... غير أن الأمر ما زال في حاجة إلى نظرة إسلامية تكشف عن جوهر مفهوم علم الاجتماع الإسلامي ولذلك فإني أتوجه إلى الدكتور علي عبد الواحد وافي راجياً أن يدلي بدلوه في هذه القضية التي تعد إحدى معضلات الفكر الإسلامي المعاصر وبوصفه من رجال الفكر الإسلامي وممن درسوا علم الاجتماع الفرنسي.(/7)
إن التحديات التي تواجه المسلمين اليوم عن طريق العلوم الاجتماعية والنفسية والأخلاقية هي من أخطر التحديات لأنها تمثل في الحقيقة يد الصهيونية التلمودية الطائلة في داخل عقولنا وفكرنا ومجتمعنا في حاجة إلى أن نتحرر عقلياً من هذه المدرسة التي صاغتها بروتوكولات صهيون وغزت بها الفكر العربي المعاصر الذي ما زال يقاوم ونحن أولى بأن نكسر هذه القيود ونحرر فكرنا ومجتمعنا من مذاهب هدامة أثبتت فشلها وزيفها في بيئاتها وما أحق أن نكشف عن مفاهيمنا الأصلية وأن ندعو الإنسانية إليها فإنها ستتطلع الآن إلى ضوء كاشف لن يأتيها إلا من عالم الإسلام.(/8)
على المدى البعيد (1)
أ.د. عبد الكريم بكار 10/10/1424
04/12/2003
كنت قد تحدثت في مقالين سابقين عما يجب عمله في كل الأحوال والظروف إيماناً مني بأن هناك شيئاً ما يمكن القيام به من أجل نجاح العبد وفلاحه في أمور دنياه وآخرته. وأود في هذا المقال وما يليه من مقالات أن أتحدث عن نوعية الوسط أو البيئة التي يجب العمل على المدى الطويل من أجل بنائها؛ كي يتوفر للإنسان المسلم الجو الملائم لأفضل عطاء وأفضل إنجاز ممكن. والحقيقة أن أية أمة لا تستطيع استنفار طاقاتها والسيطرة على أوقاتها على وجه مقبول من غير رؤية (استراتيجية) لماهية البيئة التي يجب أن تحيا فيها أجيالها القادمة. ونحن بوصفنا أمة مسلمة لها منهجيتها ورؤيتها وتطلعاتها الخاصة، نعتقد على نحو جازم أن كل أشكال التنمية وكل أشكال التغيير والتطوير يجب أن تستهدف شيئاً واحداً هو توفير بيئة تساعد الإنسان المسلم على القيام بأمر الله -تعالى- على أفضل وجه ممكن، وهذه الرؤية نهائية وواضحة، وهي مستمدة من مجموعة العقائد والمفاهيم الكبرى التي نحملها، وهي رؤية متفردة، ليست لأي أمة من أمم الأرض اليوم، وهي إحدى سنن الله علينا.
إذا كان من غير الممكن -في عالم الأسباب- توقع حصول مستقبل مغاير مغايرة كبيرة للواقع؛ فإن علنا – إذا ما أردنا تكوين البيئة التي نريد – أن نحسَّن ونرشَّد القرارات اليومية التي نتخذها في كل صعيد وعلى المستويات كافة؛ إذ إن تشييد البنيات الثقافية والأخلاقية والاجتماعية يحتاج إلى أزمنة متطاولة وهو لا يتم على النحو الصحيح إلا من خلال العمل الحكيم والجذري والمتدرج.
البيئة تعني مجموعة المفاهيم والأخلاقيات والتقاليد والظروف والمعطيات والنظم المتوفرة والسائدة في بلد من البلدان .
وإن البيئة ذات دوائر متسعة منفتحة، والدائرة الأضيق بالنسبة إلى كل واحد منا هي الأكثر تأثيراً في حياته؛ فالأم هي أكثر من يؤثر في الطفل ثم الأسرة عامة، ثم الأقرباء وأهل الحي وهكذا...
والبيئة من وجه آخر أشبه بحبل غليظ مكوَّن من ألوف الخيوط والشعيرات الدقيقة، وكل عدد من تلك الخيوط والشعيرات ينتمي إلى مجال من المجالات الروحية والمعنوية والمادية. وقد دخل في نسيج ذلك الحبل في مرحلة من مراحل تكوّن ثقافة الأمة والأوضاع العامة التي تحيا فيها. وهناك تقريب للفكرة وإشارة إلى بعض تلك الخيوط والشعيرات في عدد من الأحاديث النبوية، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع في الشمس تعدل بين الاثنين صدقة، و تعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة"، وقوله : " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" وقوله: "كل معروف صدقة".
إن قول الله – جل وعلا –: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) يدل على رؤية الناس لجزاء أعمالهم في الآخرة، ويمكن أن نهتدي به في القول: إن ما يفعله الناس من خير وصلاح ومعروف وتنمية جيدة – إن كل ذلك يرونه في نوعية الأوضاع والظروف العامة التي يعيشون فيها، والتي ستعيش فيها ذراريهم من بعدهم؛ كما أنهم جميعاً سيرون آثار ما يصدر عنهم من شرور وآثام وأخطاء وخطايا على شكل صعوبات ومشكلات ومعوقات في وجه الحياة الطيبة التي يسعون إليها.
وإني أعترف هنا -وقبل كل شيء- أنني لا أملك الإمكانية الذهنية ولا المعرفة الكافية لرسم ملامح خطة شاملة وبعيدة المدى تستهدف توفير بيئة تساعد الفرد المسلم والدولة المسلمة على النهوض بأعباء الاستخلاف في الأرض، لكني سأبذل جهدي في وضع بعض النقاط على بعض الحروف الكبيرة، ومن الله - تعالى- الحول والطول.
1-قلما وجّه الدعاة والمصلحون لدينا اهتمامهم إلى نوعية البيئة التي يحتاج إليها المسلم كي يحيا زمانه بفاعلية ودرجة من الراحة في إطار العقيدة والقيم والآداب التي يؤمن بها، فقد كان الاهتمام – وما زال- بما يجب قوله أو بشروط الداعية الناجح دون النظر إلى الشروط التي تجعل المدعوين أقرب إلى التفاعل والاستجابة مع أن تأثير الظروف والمعطيات السائدة في توفير خيارات الحركة، وفي حفز الناس على تحديد اتجاهاتهم ومواقفهم تأثير هائل، وأكبر بكثير مما نظن.(/1)
إن الفرق بين البيئة المعاكسة والبيئة المواتية للاستقامة والرشاد والعطاء كالفرق بين من يسبح عكس التيار، ومن يسبح مع التيار؛ حين نطلب من شاب أن يبدع ويصبح باحثاً متميزاً في فرع من فروع العلم، ونجد أنه يعيش مع خمسة من إخوته في حجرة واحدة، وليس معه ثمن مرجع يشتريه، ولا تكاليف تجربه يجريها، كما أنه ليس في البلد الذي يقيم فيه مكتبة عامة ولا مركز تدريب ولا جمعية خيرية تمد يد العون في شيء.. حين نطلب ذلك؛ فإن الاستجابة ستكون في منتهى الصعوبة، وستكون في معظم الأحيان هزيلة، وسيكون المستجيبون من الشباب للتحفيز على البحث والإبداع قلة قليلة، أما الباقون فإنهم سيرضخون للظروف وسيرضون بأقل القليل من الإنجاز. وهذا ما هو حاصل فعلاً الآن في كل أنحاء العالم، وفي كل مجالات الحياة. البيئات المحطَّمة والهشة والجاهلة تحطم قوى من يعيش فيها، وتحطم تطلعاته وطموحاته، وتجعل آفاقه محدودة. ولهذه القاعدة شذوذات ملموسة ، لكن الذي يمنح الحياة ملامحها ليست الأمور الشاذة والنادرة وإنما الأمور الغالبة والكثيرة.
إن بلداً صغيراً مثل هولندا أو بلجيكا يسجل من براءات الاختراع ما يعادل نصف ما يسجله العالم الإسلامي بطوله وعرضه!، وإن براءات الاختراع التي تسجل في (إسرائيل) سنوياً يزيد على ما يسجل في الوطن العربي ذي الثلاثمائة مليون!!، وإن ما تنشره جامعة (هارفارد) من بحوث سنوياً يعادل ما تنشره كل الجامعات العربية مجتمعة!!.
2-إذا تأملنا في ردود أفعال الأمة على جملة الانحرافات التي كانت تحدث فيها لوجدنا أننا على مدار التاريخ – مع استثناءات مقدَّرة – كنا نعالج مشكلاتنا بوسيلتين؛ هما: سنّ المزيد من النظم والقوانين التي تقيّد حركة الناس وتحدّ من اندفاعاتهم، وقد عبّر عن هذا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- حين قال: " يحدث للناس من الأقضية على مقدار ما يُحدثون من الفجور" أي يحدث نوع من التشديد في الأقضية والجزاءات على مقدار ما يصدر منهم من تصاعد في الانحراف.
والوسيلة الثانية هي: (القوة) بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وقد أشار إلى ذلك عثمان – رضي الله عنه – حين أطلق مقولته الشهيرة: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، ولو أن أبا بكر – رضي الله عنه– قال ذلك لما قُبل منه ولما كان دقيقاً؛ لأن الردع في زمانه كان بالقرآن (وهو ما نعبر عنه اليوم بالثقافة) أكثر من الردع بالسلطان (وهو ما نعبر عنه القوة)، ومع اضمحلال دور الثقافة والوازع الداخلي كان اللجوء إلى استخدام الشدة في إدارة الحياة العامة يتعاظم وينتشر، وقد نقل ابن حجر في فتح الباري عن الشعبي قوله: " كان عمر فمن بعده إذا أخذوا العاصي أقاموه للناس ونزعوا عمامته، فلما كان زياد ضرب في الجنايات بالسياط، ثم زاد مصعب بن الزبير حلق اللحية، فلما كان بشر بن مروان سمر كفَّ الجاني بمسمار، فلما قدم الحجاج قال: هذا كله لعب فقتل بالسيف".
النتيجة النهائية لهذه وتلك هي إخراج المسلم الخائف والخانع والسلبي والإمعة وإخراج المجتمع الذي يُظهر ضروباً من الامتثال للنظم السارية في الوقت الذي يضمر فيها روح التمرد والتبرم، كما يضمر الكثير من السلوكات والأعمال السيئة. ومع إيماننا بأنه لا يمكن لمجتمع أن يعيش من غير نظم وقوانين توجه الحركة الاجتماعية وتشكل المرجعية الأخلاقية والتنظيمية للناس، ومع إيماننا بأن الدولة مهما كانت عادلة وفاضلة وناجحة لا تستغني عن استخدام شيء من السلطة والقوة؛ إلا أن علينا أن ندرك أن هذا الأسلوب في معالجة الأخطاء ليس هو الأسلوب الصحيح من وجهة النظر الإسلامية، ولا هو بالأسلوب العملي والمنتج والملائم لبلوغ الأهداف التي نسعى إليها.
على المدى البعيد لابد من العمل على توسيع مجال عمل (الثقافة) في تحديد مسارات المجتمع وفي كبحه عن الانحراف والرذيلة . فجوهر الإيمان والإسلام لا يقوم على الإكراه ولا على الامتثال للضغط الخارجي، وإنما يقوم على الاختيار والمبادرة الشخصية والشعور بالمسؤولية. والدولة الفاضلة هي التي تدير شؤون مجتمعها بأقل قدر من القوانين ومن أدوات القهر والإكراه، والفضيلة لا تكون لذلك إلا بتعشق الناس لها واستعدادهم للتضحية من أجلها.
إن كثرة السجون وتصاعد الرقابة الصارمة، وسن المزيد من القوانين؛ هو دليل على قصور التنشئة الاجتماعية، كما أنه دليل على ضعف الإيمان وأدبيات التدين السائد في تشكيل مواقف الناس وسلوكاتهم، ودليل على ضعف جاذبية الدولة في كسب ولاء الناس وتجاوبهم. وقد آن الأوان للتفكير العميق والعمل الجاد من أجل تشكيل بيئة يمتنع فيها الناس عن الانحراف والفساد بدافع من إيمانهم وخوفهم من الله –تعالى- وليس بدافع من خوف الدولة أو كلام الناس. ومداخل مثل هذا الاتجاه واضحة لدى أهل البصيرة والخبرة
على المدى البعيد (2)
أ.د. عبد الكريم بكار 24/10/1424
18/12/2003(/2)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن وضع الأمة في بيئة تساعدها على تحسين إنتاجيتها وتحرير طاقاتها واكتشاف إمكاناتها الحضارية الكامنة؛ يتطلب أن نعطي لمسائل الأمن والاستقرار والسلام والوئام الاجتماعي جلَّ اهتمامنا وعنايتنا.
حين يضطرب حبل الأمن فإن الفرصة تصبح متاحة لظهور كل أشكال التوحش والهمجية التي اختفت تحت قشرة رقيقة من طلاء الحضارة. وقد دلت شواهد التاريخ ومعطيات الواقع أن أشد الحاجات إلحاحاً تتمثل في اهتداء الناس إلى طريقة ناجعة لإدارة العنف والتوتر الذي ينشأ نتيجة تصادم رغباتهم ومصالحهم؛ حيث إن اجتماع الناس بعضهم مع بعض على مقدار ما يوفر من المباهج والمسرات والمشاعر الحميمة يوفر إمكانات التناحر والتحارب.
حاجة الناس إلى أن يتعايشوا في إطار نظم وقوانين توضح مبادئ حقوقهم وواجباتهم حاجة ماسَّة؛ لكن هذه الحاجة لا يمكن تلبيتها في أجواء الحرب الأهلية والتطاحن الاجتماعي.
إن القانون السائد مهما كان غير عادل وغير مكتمل فإنه يظل خيراً من الوضعيات التي لا يحكم فيها أي قانون حيث يتحول المجتمع إلى غابة ليس فيها إلا مفترِس ومفترَس وظالم ومظلوم!.
ليست إدارة العنف داخل المجتمعات بالأمر السلس واليسير، فهذه القضية دوَّخت العالم من أدناه إلى أقصاه، والتقدم الذي تحقق على صعيدها نسبي وغير مرضٍ في معظم الحالات، ولعلي أقف مع هذه المسألة الوقفات التالية:
1-هناك تشوق إنساني عميق إلى ما يمكن أن نسميه (تحقيق الذات) حيث يتطلع الإنسان إلى أن يؤكد لنفسه وللآخرين قدرته على القيادة والتأثير واستحقاقه للريادة والتسامي نحو المعالي. وهو في سبيل ذلك مستعد للتضحية والبذل كما أنه مستعد عند الحاجة لتجاوز كل المبادئ والقيم؛ بل ارتكاب الجرائم إذا اقتضت الضرورة ذلك!. الأنشطة الروحية والأدبية والتطوعية والاجتماعية تساعد المرء على تحقيق ذاته والكشف عن إمكاناته؛ فهذا يحقق ما يتطلع إليه عن طريق تأسيس رابطة، وذاك يحققه عن طريق رئاسة جمعية، وثالث يحققه عن طريق الانخراط في حركة لحماية البيئة وهكذا..، لكن بما أن كل جماعي يؤسس لسلطة جديدة، ويثير حساسية معينة لدى بعض الجهات؛ فإن هناك رغبة قوية في ابتعاد الناس عن كل الأنشطة الجماعية والحرة مهما كانت نبيلة الأهداف وعظيمة الفوائد والنتائج. ومن هنا فإن انسداد الآفاق أمام الأنشطة المشار إليها أو تضييقها وانحسارها إلى حد كبير؛ دفع بالناس إلى أن يجعلوا تحقيق ذواتهم يتم عن طريق جمع الأموال والثروات واقتناص الوجاهة وإظهار السيطرة عن طريق التفنن في إنفاقها واستخدامها. وبما أن المعروض من (المال) هو دائماً أقل من المطلوب –حيث لا يملأ فم ابن آدم إلا التراب- فإن منافسة ضارية قد اشتعلت في كل مكان من ديار المسلمين وعلى كل المستويات، وعلى مدار التاريخ كانت المنافسة متصلة بانحطاط المدنية وسوء الأخلاق، حيث يدفع الحرص على جمع المزيد من المال نحو الكذب والغش والخداع والرشوة والتضحية بالكرامة وارتهان الذات.. وقد صرتَ تلتقي بأشخاص كثيرين لا ترى فيهم أبداً ما يدل على أنهم يرجون الله والدار الآخرة، أو يقيمون أي اعتبار لمبادئ الإسلام وقيمه! وفقدت الحياة بذلك أجمل معانيها!. إن إطلاق الأنشطة الروحية والأدبية والتطوعية المختلفة والتحفيز عليها وتيسير سبلها، يخفف إلى حد كبير من الطلب على المال، ويخفف بالتالي من حدة التعانف الأهلي والتوتر الاجتماعي.
وأعتقد أن علينا أن نبتكر في إيجاد الأطر والأوعية والنظم التي تتيح للناس الشعور بتحقيق الذات وإشباع التطلعات على نحو لا يتصل بالمال أو أي اعتبار آخر.(/3)
2-لن يتحقق السلام في مجتمعاتنا ولا الأمن ولا الاستقرار ولا الشعور بالانتماء للوطن ما لم يسد العدل وتكافؤ الفرص ونفاذ القوانين عل الناس دون استثناء ودون اعتبار خصوصية لأي كان. والحقيقة أن الإسلام عانى طويلاً مع العرب ومع كل المجتمعات التي تقوم فيها الروابط على أساس العرف والنسب؛ وكان الهمُّ المسيطر خلال تاريخنا الطويل – على المستوى السياسي والقانوني- هو نقل المجتمعات الإسلامية من مرحلة القبيلة إلى مرحلة الدولة، أي من مرحلة الولاءات والتكتلات وتبادل المنافع على أساس الولادة ومعطيات التاريخ إلى مرحلة الخضوع للأحكام الشرعية والقوانين والنظم السارية. ويجب أن نعترف أنه لم تسجل اختراقات ذات شأن على هذا الصعيد. وعلى نحو عام فإن النجاحات كانت محدودة جداً وهذا الإخفاق في الانتقال من مرحلة الدولة كان السبب الجوهري وراء كثير من الفتن والثورات التي كانت تجتاح الأمة في العديد من فتراتها التاريخية. وهو نفسه السبب الكامن خلف سلبية الإنسان المسلم عامة والعربي خاصة تجاه المخاطر المحدقة التي تتعرض لها بعض الأوطان الإسلامية إلى درجة أن يقوم الناس ويحتجوا في الغرب ضد ممارسة حكوماتهم تجاهنا، ونحن سادرون غافلون ومنهمكون في همومنا الشخصية، وكأن الأمر لا يعنينا من قريب أو بعيد!!.
حين سرقت امرأة من بني مخزوم – فخذٌ من أنبل أفخاذ قريش- أهمّ ذلك قريشاً: كيف تُقطع يدُ مخزومية ؟! وقالوا: من يكلَّم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا أسامة بن زيد حبُّ رسول الله؟ فكلّمه أسامة في ذلك، فقال الرسول: " أتشفع في حد من حدود الله ؟! ثم قام – عليه الصلاة والسلام – خطيباً في الناس ليعلن لهم مبدأ من أهم المبادئ التي تقوم عليها الأمم والحضارات العظيمة حيث قال: " إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد!. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
ربما نكون قد قدَّمنا نموذجاً واحداً ثابتاً وشاملاً في مسألة تكافؤ الفرص وإشاعة العدل والتعامل على أساس الكفاءة الشخصية وليس على أي أساس آخر؛ ذلك النموذج هو ما يتم في تشكيل المنتخبات الوطنية التي تمثل بلاد المسلمين في الألعاب الرياضية الدولية. هنا يتم تحري الأكفأ والأليق دون حساسيات ودون حسابات خاصة ودون اعتبار لمنافع جانبية؛ في الأعم الأغلب. وأنت تلاحظ ما يثيره هذا السلوك الجيد من حمية الناس وحماستهم وتعاطفهم حيث ينقلب الشخص غير المكترث بذهاب وطن إلى إنسان مشتعل حماساً إلى درجة لا تُصدَّق بسبب دخول كرة فريقه الوطني في شباك مرمى المنافس!، وإني لا أشك أن الناس سوف يتفاعلون ويبذلون ويهبّون تجاه كل المسائل الكبرى إذا شعروا أن الأمور تجري فيها على ما ينبغي، ووجدوا الإطار الذي يعبرون من خلاله عن ذلك؛ فالخير متأصل في النفوس والولاء لأمة الإسلام وللمجتمع الإسلامي ضارب أطنابه في أعماق شخصية المسلم.
الوطنية في جوهرها شعور بشرف الانتماء لبقعة من الأرض تحكمها نظم وقوانين واحدة، ويجمع الناس الذين يعيشون عليها الالتزام بمبادئ وقيم موحدة، والسعي إلى أهداف متقاربة ولا معنى للانتماء إلى أرض لا تتوفر فيها هذه المعاني. وقد قال أحدهم : لماذا أدافع عن وطن لم يؤمّني من خوف، ولم يُطعمني من جوع، ولم يساعدني على ارتجاع حقي المغتصب؟!.
3-يتطلب استتباب الأمن والشعور بالسلام والاستقرار إحساس الناس بأن لهم نوعاً من المشاركة في إدارة الشأن العام. أما في الأمور اللصيقة بهم؛ فلا يُتخذ قرار دون موافقة أغلبيتهم عليه. وإن قول ا لله – جل وعلا- ( وأمرهم شورى بينهم) يوضح أن بعد الشورى ليس سياسياً فحسب؛ وإنما لها أبعاد أخرى: أخلاقية وتربوية واجتماعية.
على المستوى السياسي من المهم جداً أن يعرف الناس أنهم من خلال الشورى يستطيعون تحقيق ولايتهم على أنفسهم ، ويستطيعون أن يثقوا أنهم إذا ابتلوا بحكومة سيئة، فإنهم قادرون على التخلص منها من غير إراقة دماء أو تخريب للمرافق والممتلكات العامة؛ فالسلم الاجتماعي لا يأتي من خلال الدعوة إليه، وإنما من خلال فتح طرق للتغيير والتطوير والتحسين، تبتعد عن التآمر والقتل والتخريب. إننا أحياناً نمتنع عن استشارة الناس خوفاً من أن يأتوا بعناصر سيئة تسيء للدين والمصلحة العامة، وهذا الخوف مقدَّر ومعتبر وقد يحدث هذا فعلاً في بعض الأحيان ولاسيما في البدايات أو عند فساد التربية، لكن هذا لا يشكل القاعدة، فالولاء للدين وللصلاح والكفاءة قوي جداً في الأمة؛ وفي الإمكان وضع ضوابط تحد من مخاطر هذا الأمر. وعلى كل حال فلن نستطيع أبداً العثور على صيغة في إدارة العنف وتسيير الشأن العام، تخلو من السلبيات أو الأخطاء. ولا بد في سبيل أن تنال بعض الأشياء من أن تخسر أشياء أخرى. هذا هو حال الإنسان الذي يجد نفسه أبداً عاجزاً عن الصدور عن رؤى كلية وبناء تنظيمات وترتيبات كاملة.(/4)
إننا في حاجة ماسَّة حتى ننهض ونتخلص من أشكال العنف إلى أن نجعل الشورى تقليداً محترماً في بيوتنا ومدارسنا ودوائرنا ومؤسساتنا وكل مناشط حياتنا؛ فالقضايا الكبرى تظل قضايا خاسرة ما لم تتصد الأمة لحملها والمساهمة في إنجاحها. وكل حمل يتم خارج رحم الأمة هو أشبه بالحمل الكاذب. لكن الأمة غير مستعدة للتضحية ما لم تشعر أنها تشارك في صنع القرار، وأنها ليست عبارة عن أدوات للتنفيذ فقط. وعلى علمائنا ومفكرينا وخبراء التشريع والقانون فينا أن يبدعوا في إيجاد صيغ تنظيمية تجعل الشورى أسلوب حياة، كما تجعل منها أداة للإصلاح والارتقاء في إطار الأصول والثوابت التي نؤمن بها.
4-إنني أتساءل دائماً: هل يمكن للأمن والنظام والسلام والاستقرار والتعايش السلمي أن يتم في أي مجتمع من المجتمعات دون وجود تنظيم جيد للنقد والمعارضة وتضارب الرؤى والآراء والاتجاهات؟
ليس من المقبول في اعتبار العقل والشرع أن يقول من شاء ما شاء دون خوف المساءلة القضائية عن صحة ما يقول، ولا أن يفعل الناس ما يعنّ لهم ولو كان ضاراً بالمصلحة العامة. كما أنه ليس من المقبول أن تكمم الأفواه، فلا يتمكن أي أحد من إبداء وجهة نظره في شأن عام، مهما كان رأيه سديداً ورشيداً، فالقرآن الكريم شجّع الناس على ممارسة النقد من خلال معاتبة النبي – صلى الله عليه وسلم- على بعض اجتهاداته ومعاتبة الصحابة – رضوان الله عليهم- على بعض ما وقع منهم؛ حيث يُعد التستر على الأخطاء أكبر مشجع على تكرارها واستمرارها، وحيث يُعدّ النقد والبحث عن أشكال القصور وأنواع الأخطاء والخطايا من أفضل الوسائل المساعدة على الإصلاح وتخليص الناس من كثير من المشكلات والأزمات ومحاصرة المفاسد والشرور.
إن تراثنا الفقهي لم يستوف التنظير والتعقيد لضوابط النقد والمعارضة وتضارب الآراء على نحو يغنينا عن النظر والاجتهاد، بل إن كثيراً من التفاصيل والحيثيات ما زالت غامضة، وأعتقد أن كثيراً من الاضطرابات الهوجاء والأزمات الخانقة التي مرت بها الأمة كان بسبب التطرف في التعامل مع هذه المسألة؛ فالحريصون على بقاء كل شيء على ما هو عليه مهما كان غير ملائم وغير صحيح ضيقوا أبواب النقد إلى حد إسكات الناس عن قول أي شيء. والذين كانوا يشكون من سوء الأحوال كانوا يريدون قلب كل شيء رأساً على عقب بعيداً عن الرفق والتدرج والمجادلة بالتي هي أحسن. وقد آن الأوان لأن تتلاحم الصفوف، وتتشابك الأيدي بين الجميع ومن كل المستويات والمجالات من أجل العمل الدؤوب على إرساء التقاليد وسنّ القوانين وتشييد المؤسسات وإبداع الأفكار التي تنشر الأمن والسلام وحب النظام والالتزام بالأحكام الشرعية والأعراف الصالحة والقوانين السارية، وتساعد في الوقت نفسه على نبذ التعانف والتقاتل واللجوء إلى القوة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.
على المدى البعيد 3
د. عبد الكريم بكار 9/11/1424
01/01/2004
فإن لدى كثير من أهل الخير حساسية خاصة نحو الحديث عن الاقتصاد والتنمية والزيادة السكانية والبطالة؛ فهم يشعرون أن الاهتمام بهذه الأمور لا يخلو من نزوع نحو الدنيوية والمادية، وإعطاء الاعتبارات المعيشية أكثر مما تستحق من العناية والانتباه. وفي تصوري أن هذه الحساسية لم تعد سائغة اليوم، فأنا مع اعتقادي بضرورة توخي الحذر من الوقوع في شرك الحسابات والاعتبارات المادية البحتة بعيداً عن المبادئ والأهداف الإسلامية إلا أنني أعتقد أن من شأن التقدم الحضاري أن يضعف إرادة المقاومة لدى الناس تجاه المغريات، ومن ثم فإنهم يُظهرون المزيد من الاستجابة لضغوط البيئة ومتطلبات العيش، وكثيراً ما يكون ذلك على حساب مبادئهم وقيمهم؛ مما يعني أن تحسين شروط العيش إلى حدود مقبولة، سيساعد الناس على أن يحققوا مصالحهم في إطار مبادئهم وأخلاقياتهم؛ والعكس صحيح.
إن كثيراً من سقم التفكير وتخلف الخطط والمناهج الإصلاحية يأتي من خلال الانغلاق وصرف الاهتمام عن التطورات المتسارعة فيما يتعلق بحاجات الناس وضرورات وجودهم، ومن خلال عدم الاكتراث بالتحولات في ذائقتهم الثقافية ونظرتهم إلى الضغوط والمرفهات والحقوق والواجبات، وإن مفتاح فهم كل ذلك يكمن في شيء واحد هو الانفتاح على الواقع والتأمل في تداعياته وإحالاته واتجاهاته؛ إذ ما فتئ فهم الواقع واستكشافه بإيجابية مصدراً لتطوير الذهنية وتوجيه المعرفة ومصدراً لإعادة ترتيب الأولويات.(/5)
لا بد من هذه اللحظة وعلى المدى البعيد من العمل على إيجاد تنمية اقتصادية تكافئ الزيادة السكانية في العالم الإسلامي. ومن المهم أن ندرك أن كل الأمم التي اعتمدت في معيشتها على الزراعة والرعي خلال القرنين الماضيين تواجه مشكلات اقتصادية متفاقمة؛ فالناس يزيدون، لكن الأرض لا تزيد، فهي مع كل جيل تشهد نقلة في التفتت والتضاؤل؛ وعلى سبيل المثال فإذا قلنا: إن زيداً من الناس يملك مئة فدان من الأرض، وله خمسة من الولد، فإنه بعد وفاته ستقسّم ليكون لكل واحد عشرون فداناً. فإذا توفي أولئك الخمسة، وترك كل واحد منهم أيضاً خمسة (فيكون المجموع خمسة وعشرين ولداً) فإن نصيب الواحد منهم سيكون أربعة أفدنة. فإذا قلنا إن أولئك الخمسة والعشرين من الأحفاد توفوا، وترك كل واحد منهم أيضاً خمسة من الولد، فإن عددهم سيكون مئة وخمسة وعشرين، وسيكون نصيب الواحد منهم من تلك الأرض 80% من الفدان. وعليه أن يأكل من هذا القدر الضئيل وأن يبيع على نحو يمكنه من شراء كل حاجاته المتسعة ودفع تكاليف تعليم أبنائه وتطبيبهم وكسوتهم، حيث إن العولمة تدفع الحكومات نحو التخلص من كل الخدمات المجانية التي تقدمها؛ ليواجه كل واحد مصيره على نحو منفرد!.
وهكذا فعبر قرن من الزمان تنخفض حصة الشخص من الأرض إلى أقل من 1%! وليس هذا من صنع الخيال، بل هو الواقع المشهور والملموس وليس الذين يعملون في الرعي بأحسن حالاً؛ فالأرضي المخصصة للرعي هي الأخرى تتفتت وتزدحم فيها الماشية، ويزحف عليها العمران، ويقل عطاؤها بسبب تراجع كمية الأمطار في معظم أنحاء الوطن العربي.
إن نسبة الزيادة السكانية في العالم الإسلامي بشكل عام مرتفعة إذا ما قسناها بما لدى الدول الأخرى، فعلى سبيل المثال يزيد السكان في الدول العربية سنوياً بنسبة 3% في الحد الأوسط على حين أن الزيادة في بريطانيا تبلغ 1.% وفي فرنسا 6.% . أما بلد مثل روسيا؛ فإنه يعاني من نقص في السكان يصل إلى نحو مليون إنسان في السنة، وينقص عدد سكان ألمانيا نحواً من مئة ألف شخص في السنة. وحتى نعرف حجم الزيادة السكانية، وتطورها السريع؛ فإن من المفيد أن نعلم أن إجمالي سكان الوطن العربي كان عام 1400هـ نحو من 160 مليون نسمة. ويتوقع أن يكون وصل عام 1420هـ إلى 300 مليون نسمة، وإن بلداً مثل الجزائر يتضاعف سكانه كل 25 سنة، ومن المتوقع أن يرتفع إلى 285 مليون نسمة خلال قرن!.
ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن الشعوب الإسلامية شعوب فتيّة، حيث إن حوالي نصف السكان هم من الأطفال والأشبال دون سن الخامسة عشرة. وهذا يعني أن لدينا أعداداً هائلة تحتاج إلى تربية وتعليم واستيعاب نفسي واجتماعي، ثم إلى فرص عمل وخدمات عامة كثيرة.
ليست الزيادة السكانية في حد ذاتها مشكلة .. على العكس إنها ميزة؛ حيث لا يمكن اليوم لدولة أن تصبح دولة عظمى إذا لم يصل سكانها إلى الخمسين مليوناً على الأقل . لكن علينا أن ندرك من وجه آخر أن الازدحام على موارد محدودة وعدم القدرة على تأمين الحد الأدنى من الحاجات الضرورية، وتأمين تعليم وتدريب جيدين؛ سيجعل من هذه الأعداد الغفيرة من الفتيان والشباب أشبه بجيش جرار لم يتلقَّ من التدريب ولم يجد من التنظيم ولا من التسليح ما يكفيه؛ إنه في هذه الحالة يصبح هدفاً سهلاً للعدو، إنه يصبح أرقاماً غير ذات معنى، وبعض العنصريين من الغربيين يقولون باستخفاف: إن في العالم خمسة مليارات من البشر، منهم مليار – أي أبناء العالم الصناعي- مواطنون والباقون سكان.
في حديث القصعة وصف واضح للكثرة العددية الفاقدة للكيف والمضمون. فقد قال صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أو من قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟! قال: لا. أنتم يومئذٍ كثيرون ولكنكم غثاء كغثاء السيل...".
إذاً مشكلة المسلمين في آخر الزمان ليست مشكلة (كم) ولكن مشكلة (كيف) و (نوعية).
عدم وجود تنمية جيدة في معظم أنحاء العالم الإسلامي دفع بأبنائنا وإخواننا إلى الهجرة إلى الغرب، حيث يشتغل معظمهم في مهن وضيعة يترفع الأوروبي عن العمل فيها. وهناك يضيع نصف الجيل الثاني ومعظم الجيل الثالث، حيث الانسلاخ شبه الكامل عن العقيدة والهوية. وعيش أبنائهم في الغرب على هامش المجتمع، دفع بهم إلى الجريمة والرذيلة وإدمان المخدرات، فصاروا يشكلون نسبة مخيفة من نزلاء السجون هناك!
وتوجُّه فرنسا إلى منع الحجاب يشكّل نوعاً من التعبير القانوني عن الضيق من جاليات باتت تشكل عبئاً على المجتمع، وهي بادرة خطيرة، وربما تحدو دول غربية أخرى حذوها، ويصبح الملتزمون من المسلمين في الغرب في وضعية أشبه بوضعية من وجد نفسه بين المطرقة والسندان.
ومن واجبنا جميعاً أن نحول دون ذلك بكل وسيلة ممكنة.
لا أريد أن أتحدث أكثر من هذا عن الحاجة إلى تنمية اقتصادية تعتمد على أسس ومنطلقات جديدة، وإنما أحب أن أركّز على نقطتين هنا:(/6)
الأولى:حتى يتحسن وضع فرص العمل، وحتى تفتح حقول جديدة لكسب الرزق، فإنه لا بد من الارتقاء بالتعليم وتشجيع الناس على أن يتخذوا من التدريب المنهجي مدخلاً لاكتساب المهارات وتنمية الشخصية.
إن التعليم في معظم أنحاء العالم الإسلامي يعد بالمعايير العالمية قاصراً عن الوفاء بحاجات العصر؛ فالفصول مكدسّة بالطلاب، وأسلوب التدريس مبني على أن يقوم المدرس بكل شيء، ويظل الطالب في موقع المتفرج وليس المشارك والمتفاعل. والتجهيزات المدرسية معدومة أو عند حدها الأدنى. والأهم من هذا وذاك فقد المدرسين والطلاب للحماسة المطلوبة لنجاح العمل التعليمي . ولا يختلف التعليم الجامعي في هذا كثيراً عن التعليم الأساسي، مع استثناءات قليلة.
ولا شك أن هناك الكثير من الاقتراحات والحلول المطروحة للنهوض بالتعليم، لكن ستظل الأمور تزداد سوءًا ما لم تحدث تحولات جذرية في أوضاع المدارس وفي العلاقة بين البيت والمدرسة. وقد آن الأوان ليساهم الآباء في تأمين تعليم جيد لأبنائهم من خلال تشكيل عدد كبير من مجالس التعليم في الأحياء والقرى، ويكون لها صلاحيات واسعة جداً في بحث أوضاع المدارس وتوجيهها ومحاولة النهوض بها، ولا بد من الآن فصاعداً من أن يخصص كل واحد منا جزءاً من ميزانيته الخاصة لمؤازرة المدارس في القيام برسالتها من خلال التوسع في مبانيها وتدعيم مختبراتها وتجهيزاتها المختلفة.
التعليم الجيد وحده هو الذي يوجد في نفس الطالب الولاء لمدرسته ومن خلالها لوطنه وأمته. والتعليم السيئ يجعل الطالب زاهداً في كل ذلك، وإلى جانب تطوير التعليم لا بد من إرساء تقاليد ثقافية تمجد التدريب على اكتساب المهارات والطرق الجديدة في إدارة الأعمال وتنفيذ المهام، فالتطور السريع الحاصل الآن في كل مجالات الحياة سيجعل كل ما لدى الواحد منا من مفاهيم وخبرات ومهارات محدود مدة الصلاحية، حيث تتسارع إليه الشيخوخة، وهو ما يزال في طور الصبا. وقد أدركت الأمم المتقدمة، وصارت تنفق بسخاء بالغ على التدريب انطلاقاً من هذه الحقيقة. إن مجمل ما تنفقه اليابان على التدريب يزيد على 80 مليار دولار في السنة . أما الولايات المتحدة فإنها تنفق ما يتراوح بين 120 مليار دولار و 180 مليار. ولا بد من الآن فصاعداً من أن نسلك كل سبيل لإقناع الناس بأهمية التدريب لدخول سوق العمل ثم الاستمرار فيه. ولا بد أن يكون واضحاً في العقود الجديدة تحديد ما ستقدمه المؤسسة أو الشركة أو المصنع أو الجامعة من تدريب وتعليم لمن سيعمل فيها.
الثانية: من المهم أن ندرك أننا في زمان فريد، بات ارتقاء الإنسان فيه منوطاً إلى حد بعيد بنوعية المهنة التي يعمل والتخصص الذي تعمق فيه، فنظراً للتنظيم والتصنيف المتنامي للأعمال والمهن، ونظراً لتحسّن وعي الناس بواجباتهم الوظيفية، صار الناس يبذلون جهوداً كبرى للوفاء بمتطلبات الوظيفة والمهنة، وما تفرضه من تعليم وتدريب وتنظيم للحياة الشخصية. ونستفيد من هذا أن تحسين البيئة ورفع مستوى الناس يتطلب تأسيس توجهٍ إلى الأعمال المتصلة بالمعرفة الرفيعة والجهد الذهني المركّز. ولك أن تقارن بين العاملين في القطاعات المهنية التي لا تتطلب أي جهد ذهني أو معرفة راقية مثل قطاع بيع التجزئة وقطاع الزراعة وقطاع الإنشاء... وبين العاملين في قطاع التعليم الجامعي والبحث العلمي وتقنية المعلومات والتدريب... وستجد صدق ما أريد توضيحه.
إن المجال الواعد اليوم هو مجال (تقنية المعلومات) وكل ما يتصل بمجال الحاسب الآلي وتطبيقاته المتسعة، وهذا المجال بات اليوم القطاع الصناعي الأول حيث تزيد قيمة الأعمال فيه على (التريليون) دولار. ونحن أمة غنية بالموارد البشرية. وهذا المجال يحتاج أساساً إلى العنصر البشري المتعلم وإلى البيئة المنظمة تنظيماً جيداً. ولا يحتاج هذا وذاك إلى أموال طائلة.
إن العالم كله اليوم يخوض سباقاً محموماً نحو ترسيخ أقدامه في هذا المجال، وقد وضعت بريطانيا خطة لتطوير البلد تقنياً، قيمتها خمسون مليار جنيهاً. وعلى ضخامتها فقد ذكر أحد الباحثين أنها غير كافية وجاءت متأخرة !.
ووصفت إحدى المنظمات الدولية الدول العربية بأنها جائعة معلوماتيًا على حين أنها وصفت (إسرائيل) بأنها دولة نَهِمَة معلوماتيًا. وقد أضحت (إسرائيل) اليوم الدولة الأولى في أمن المعلومات، وهي تصدر منتجات معلوماتية إلى أوروبا وأمريكا والصين في غاية التطور والتعقيد، وتقبض أثماناً عالية لها.
إن من المهم جداً ألا نتأخر أكثر مما حدث عن الاستثمار في قطاع المعلومات والتقنية المتقدمة من أجل الارتقاء بالمسلم المعاصر ومن أجل إيجاد فرص عمل للأجيال الجديدة في مجال هو الأسرع نمواً بين مجالات العمل المختلفة. وإذا لم نفعل ذلك فإن الأعداد المتزايدة من هؤلاء الذين تدفع بهم الأرحام سوف تتحول إلى قنابل موقوتة تدمر نفسها وبيئتها في آن واحد.(/7)
ومسؤولية التقدم في هذا الشأن ملقاة على عاتق الأسرة والمدرسة والدولة ورجال الأعمال. وعلى كل راشد فينا أن يحاول مساعدة نفسه والارتقاء بذاته حيث أعرض الآخرون عن مساعدته .
على المدى البعيد (4/4)
د. عبد الكريم بكار 23/11/1424
15/01/2004
فقد كان مالك بن نبي – رحمه الله- لاحظ أن المجتمعات الإسلامية تعاني من (فرط تسييس)، حيث إن هناك ميلاً عارماً إلى مطالبة الدول بأن تقوم بكل شيء على حين يظل معظم الناس غافلين عاطلين. وملاحظته – في ظني- في مكانها حيث إن كثيراً من الإصلاحيين على اختلاف مشاربهم يركزون باستمرار على ما على الحكومات أن تقوم به من إصلاح نفسها، وإصلاح غيرها، على حين أن كثيراً منهم لم يستطيعوا المساهمة العملية في نهضة الأمة؛ وكأن اعتقادنا بأن كلام المرء جزء من عمله، جعلنا نظن أننا بالخطب الرنانة والمقالات البليغة والكتب ذوات المئين من الصفحات نستطيع أن نحل مشكلاتنا المستطيلة في الزمان والمستعرضة في المكان!.
في البداية أحب أن أؤكد أن من المهم أن يشتغل بعض الناس في العمل السياسي من خلال نشر الوعي بطبيعة هذا المجال ومن خلال ممارسة النقد ودخول الانتخابات وتشكيل الأحزاب؛ إنني لست ضد هذا، ولا أهوّن أبداً من شأنه، ولكن الشيء الذي لا أرى أنه صواب هو الظن بأنه حين تقوم دولة حسب المواصفات المطلوبة سوف نتخلص من كثير الأزمات والمشكلات الموجودة.
إن هذا أحد أكثر الأوهام انتشاراً. وكثير من الجماعات الإسلامية المشتغلة بالسياسة علقت كل توازنها على الحكومة العظيمة التي ستشكلها في المستقبل حين تصل إلى الحكم. وبما أن المجال السياسي، لا يتسع لكل الناس، ولا يستطيع كثيرون العمل فيه، فإن أعداداً كبيرة من شبابها عاطلون عن أي عمل دعوي أو اجتماعي نافع!.
وجود الدولة في الأصل شيء مكروه من النفوس؛ لأنها تمثل سلطة وقوة، وهي - على المستوى الوظيفي – أميل إلى أن تكون كابحة وضابطة أكثر من أن تكون بانية أو مُصْلحة. وإذا استطاعت الدولة حماية النظم السارية وتطبيقها دون تحيز إلى جانب دعم استقلالية القضاء وتسهيل حركة الفرد مع حد مقبول من المرافق العامة؛ فإنها تكون قد قامت بأشياء عظيمة جداً. ومعظم دول العالم ما زالت تخفق في تحقيق ذلك.
العمل الأساسي الذي يُنْتَظر من الجميع المساهمة فيه هو العمل الاجتماعي - بأوسع ما تحمله هذه الكلمة من دلالة –. في العالم اليوم قطاع يسمونه (القطاع الثالث) أو (القطاع اللاربحي) إنه شيء غير القطاع العام الذي تكون مؤسساته ملكاً للدولة وغير القطاع الخاص المملوك للأفراد، إنه القطاع الذي تملكه الأمة. مهام هذا القطاع أوسع بكثير مما نتصوره وإن الأمم من خلاله تستدرك على قصور النظم المختلفة، إنه يشكّل كرة أخرى على طريق العدالة الاجتماعية وإيصال الحقوق لأصحابها. إن أنشطته تغطي حاجات أولئك الناس الذين لا يقع الاهتمام بهم تحت مسؤولية أي وزارة أو مؤسسة حكومية، وإنه يهتم بالقضايا التي لا تهتم بها أي جهة حكومية. وأستطيع أن أقول دون أن أشعر بالحرج: إن اتساع هذا القطاع يدل على نحوٍ قاطع على خيرية المجتمع وتضامنه وفاعليته واستحقاقه باسم (مجتمع). وعلى مقدار ضيق هذا القطاع وضعفه يكون ضعف المجتمع وتفككه وخموله. وقد لا يستحق لاسم (مجتمع) ويكون جديراً باسم (تجمع)!
إن ما ينشر من إحصاءات عن هذا القطاع يدل دلالة واضحة على أن العالم الصناعي يتمتع بمجتمعات غنية بالمؤسسات والأنشطة اللاربحية. وقد استطاع هذا القطاع أن يجمع من الناس في الولايات المتحدة الأمريكية عام (2002) مبلغاً قدره (212) مليار دولار. وهو رقم فلكي لا يمكن جمع نصفه أو ثلثه في أي دولة من العالم. في أمريكا مليون ونصف مؤسسة لاربحية وثلاثة وعشرون ألف مؤسسة وقفية. وفي فرنسا ستمئة ألف مؤسسة لاربحية. وفي (إسرائيل) ثلاثون ألف مؤسسة لا ربحية ويستوعب القطاع اللاربحي 11% من القوة العاملة هناك في العالم الغربي لكل ثلاثمائة شخص تقريباً مؤسسة لاربحية من نوع ما وعندنا في العالم العربي لا يحصل الـ (5000) شخص على أكثر من مؤسسة، أي إن الفارق يتمثل في خمسة عشر ضعفاً. ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار إلى جانب هذا أن الذين يحتاجون إلى العون في مجتمعاتنا أكثر بكثير من المحتاجين في مجتمعاتهم.
إن هناك أشياء مشتركة بين الأمم، وهناك أيضاً خصوصيات لكل أمة. إن المجتمعات الإسلامية بحاجة إلى الكثير الكثير من المؤسسات اللاربحية وسأذكر منها هنا نماذج فقط:(/8)
- مؤسسات ومشروعات لدعم الالتزام والمحافظة على الأخلاق والوقوف في وجه التحلل الخلقي عن طريق الاتصال المباشر والحوار مع الناس ووضع لوحات في الطرق وإعلانات في الصحف. بل إن القطاع اللاربحي يحتاج في الحقيقية إلى فضائية وإذاعات خاصة حتى نؤصل حب العمل الخيري في نفوس الناس. أضف إلى هذا تأسيس جمعيات لمحاربة العادات السيئة مثل الإدمان على التدخين والخمور والمخدرات ومثل عادات الإسراف والتبذير في المأكل والمشرب والملبس والمسكن وإرشاد الناس إلى بعض الطرق الاقتصادية في كل ذلك، كما هو الشأن في كثير من الدول.
- مؤسسات للاهتمام بالأسرة وتوجيهها في مسائل التربية ومساعدتها على حل المشكلات التي تواجهها وتوفير مرشدين تربويين ومرشدات تربويات لإصلاح العلاقات الأسرية وتنمية وعي الناس بأهمية التضامن الأسري، وتوضيح مسؤولية كل طرف في ذلك، ونشر عدد كبير من الكتيبات والنشرات التي تعلم الناس أصول التربية الجيدة، كما توضح لهم الأخطاء التربوية التي يقعون فيها.
- مؤسسات وجمعيات وروابط لدعم العلم والتعليم، حيث إن الدول ما عادت تستطيع توفير ما يكفي من المدارس والتجهيزات المدرسية لهذه الأعداد المتدفقة من الأطفال والفتيان. والتعليم الخاص الحالي هو أقل في كثير من الأحيان من المستوى المطلوب، وهو إلى جانب ذلك ينشر الطبقية الاجتماعية والمعرفية، فأبناء الأغنياء يجدون مدارس ممتازة لأنهم قادرون على الدفع، وأبناء الفقراء لا يجدون في بعض الأحيان حتى المدارس السيئة. وبعض الدول الإسلامية – مثل باكستان- لم تستطع إلى الآن إصدار تشريعات لجعل التعليم الابتدائي إلزامياً بسبب عدم قدرة الدولة على توفير المدارس الكافية. وهناك دول لا تستطيع توفير الكتب المدرسية لأبنائها – كما هو الشأن في بلاد عديدة مثل إندونيسيا – وهكذا..
قد آن الأوان ليقوم الناس بدعم التعليم الحكومي والمساهمة في توجيه أنشطته وممارسة نوع من الرقابة عليه بما يخدم التقدم العلمي في البلد. كما آن الأوان لتأسيس عدد كبير من المدارس الخيرية التي يجد فيها أبناء الفقراء فرصاً للتعلم. وفي بعض الدول – مثل تركيا- أنشئت مجالس كثيرة جداً لدعم التعليم الجامعي وتوفير منح للطلاب الفقراء، حيث إن الجامعات الحكومية لا تستوعب سوى 10% من المحتاجين للتعليم الجامعي.
إن من المهم أن تنظم حملات واسعة من أجل قيام الأثرياء بتأسيس شبكات من المدارس والمعاهد العلمية والتقنية لأبناء الفقراء والمعدمين والإنفاق عليها عوضاً عن تبذير المال في السياحة في الغرب أو إنفاقه على مظاهر كاذبة لا تزيد صاحبها إلا خبالاً وسأماً!.
- في الأمة اليوم مظالم كثيرة، ولا يكاد يخلو مجلس من المجالس من ذكر مظلمة من المظالم! وقد صارت مهمة المحامين في كثير من الدول الإسلامية- مع الأسف الشديد- طمس الحقيقة وإضاعة الحقوق والعمل على تأجيل المحاكمات إلى ما لا نهاية وتسربت الرشوة إلى سلك القضاء مع استثناءات مقدرة! إن هذه الوضعية تستلزم قيام مؤسسات وروابط ومنظمات لنصرة الضعيف ورفع الظلم عن المظلوم ومؤازرة المضطهد وفضح أشكال الحيف. وقد أثنى – صلى الله عليه وسلم- على حلف الفضول الذي أقامته قريش في الجاهلية، وحضره – عليه الصلاة والسلام- وقال: " ولو دعيت إلى مثله لأجبت". وقال أيضاً في حديث صحيح: " إنه لا قُدَّست أمة لا يأخذ الضعيف حقه فيها غير متعتع".
إن التعليم والقضاء يشكلان محورين أساسين في حياة أي أمة وإن في فسادهما فساد الحياة كلها، فعلينا أن نصلح من شأنهما قدر الاستطاعة ولن يكون ذلك إلا من خلال توفير رقابة شعبية واسعة، ولن تكون تلك الرقابة فعالة إذا لم تنظم وتؤطر على نحو جيد.
- الأمية في العالم الإسلامي ضاربة أطنابها، ومازال المعدل الوسطي لها يدور في فلك الـ(40%) وهذا شيء مخيف في زماننا فقد احتفلت اليابان بتعليم آخر أمي في أواخر القرن التاسع عشر. ولدينا أناس يعرفون القراءة والكتابة لكنهم لا يقرؤون. وكما قال أحدهم: ما الفرق بين الأمي وبين من يحسن القراءة والكتابة لكنه لا يقرأ؟! إن حالة القراءة وطلب العلم والحرص على معرفة الجديد في حالة من التردي المستمر في عالمنا الإسلامي. والكتاب يفقد في كل يوم جزءاً من أرضه لصالح ما يمكن أن نسميه (اللهو المطلي بالمعرفة) وهذا يلقي علينا مسؤولية هائلة. إني أفترض أن يكون لدينا في كل حي من الأحياء مكتبة عامة يضعها أحد الأثرياء في زاوية من داره ليرتادها أهل الحي وتكون مكاناً لالتقائهم ومناقشة أمور حيهم. وأتعشم أن يكون هناك برامج لدعم الكتاب الجيد وأن يكون هناك من حانات للقراءة ومكتبات متنقلة لنشر العلم وإعارة الكتاب. وقد سبقتنا دول كثيرة إلى هذا، ولم يعد لدينا وقت لإضاعته. إن من غير شغف حقيقي بالعلم واتخاذه أساساً للتطوير لن نستطيع أن نتجاوز الأوضاع الصعبة التي نعيش فيها.(/9)
- العولمة تشجع الحكومات على أن تنفض يديها من كل الخدمات المجانية والرخيصة التي تقدمها، ومنها (العلاج الصحي). والخدمات الصحية الحكومية في كثير من بلدان العالم الإسلامي في حالة من التدهور حيث يلجأ الناس إلى الطب الخاص، وهناك تجد أشكالاً من التحايل والابتزاز مما يوجب قيام مؤسسات طبية لا ربحية يعمل فيها الأخيار من الأطباء وتتقاضى أجوراً تكفي فقط لتشغيلها. وقد قامت تجارب رائدة في بعض البلدان الإسلامية في هذا المجال، إنها تقدم أفضل علاج، لكن بسعر لا يزيد على 30% مما لدى غيرها. إني أتصور أن يكون هناك جمعيات للعناية بأصحاب الأمراض المزمنة والمستعصية وجمعيات لتوفير الدواء لمن لا يجد ثمنه وجمعيات لدعم المستشفيات الحكومية بالأجهزة وهكذا.
ولا أريد هنا أن أتحدث عن قضية الفقر لأنني سأفرد لها حديثاً خاصاً في المستقبل بإذن الله.
إن العمل الخيري التطوعي يستهدف أولاً الارتقاء بنفوس فئة كبيرة من المجتمع وربطهم بالله – تعالى- وهذه الفئة هي العاملون والمحتسبون في المجال اللاربحي. ويستهدف ثانياً سد حاجات العناصر الضعيفة في المجتمع، وهي في عالمنا الإسلامي كثيرة جداً بل تشكل النسبة الأكبر من الناس. وسنظل نعيش على هامش العالم ما لم نبدع في إيجاد الحلول للمشكلات التي جاءت بها الحضارة المعاصرة . والله ولي التوفيق(/10)
على المنادين بتغيير المسميات الشرعية التوبة إلى الله
صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان
</TD
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن والاه وبعد.
فقد خلق الله الخلق لعبادته وفطرهم على توحيده وطاعته:" ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر"، " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن" فالله أراد لهم بإرادته الدينية الإيمان والخير وأراد لهم الشيطان ودعاة السوء الكفر والشر. قال تعالى: " يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم، والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً".
ولذلك أرسل الله الرسل وأنزل الكتب وأقام الحجج فمن الناس من قبل الحق ودخل الإيمان طائعاً مختاراً ومن الناس من رفض قبول الحق ودخل في الكفر طائعاً مختاراً.
وقد وضع الله فوارق بين المؤمنين والكفار في الدنيا والآخرة ونهى عن التسوية بين الفريقين وجعل لكل فريق جزاء وأحكاماً في الدنيا والآخرة. ووضع لكل فريق اسماً مميزاً كالمؤمن والكافر والبر والفاجر والمشرك والموحد والفاسق والمنافق والمطيع والعاصي. ونهى عن التسوية بين المتخلفين في هذه الأسماء والسلوكيات فقال سبحانه: " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات" وقال تعالى " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار". يعني لا نجعلهم سواء. لأن ذلك لا يليق بعدل الله. وأمر المؤمنين بالبراءة من الكفار والمشركين ولو كانوا من أقاربهم. قال تعالى" قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين آمنوا معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده" ـ وهذا أصل من أصول الإيمان والدين متقرر في الكتاب والسنة وكتب العقيدة الصحيحة لا يماري فيه مسلم ـ ولكننا في هذه الأيام صرنا نقرأ في بعض الصحف نقلاً عما دار في مؤتمر الحوار الوطني محاولة واقتراحاً من بعض المشاركين ـ نرجو أن تكون تلك المحاولة والاقتراح صادرين عن جهل. وذلك كما نشر في بعض الصحف أن يترك لفظ الكافر ويستبدل بلفظ مسلم وغير مسلم، أو يقال المسلم والآخر. وهل معنى ذلك أن نترك ما ورد في القرآن والسنة وكتب العقيدة الإسلامية من لفظ الكفر والشرك والكفار والمشركين فيكون هذا استدراكاً على الكتاب والسنة فيكون هذا من المحادة لله ولرسوله؟. ومن تغيير الحقائق الشرعية فنكون من الدين حرفوا كتاب ربهم وسنة نبيهم ثم ما هو الدافع لذلك؟ هل هو إرضاء الكفار، فالكفار لن يرضوا عنا حتى نترك ديننا. قال تعالى" ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" وقال تعالى " ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا" " ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء" ، ثم إنه لا يجوز لنا إرضاء الكفار والتماس مودتهم لنا وهم أعداء لله ولرسوله. قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق". وإن كان مراد هؤلاء المنادين بتغيير هذه المسميات الشرعية التلطف مع الكفار وحسن التعامل معهم فهذا لا يكون على حساب تغيير المسميات الشرعية بل يكون ذلك بما شرعه الله نحوهم وذلك بالأمور التالية:
1 ـ دعوتهم إلى الإسلام الذي هو دين الله الذي شرعه للناس كافة ـ قال تعالى" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" فنحن ندعوهم لصالحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
2 ـ عقد الصلح معهم إذا طلبوا ذلك قال تعالى" وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم" وكذلك إذا احتاج المسلمون إلى عقد الصلح معهم وكان في ذلك مصلحة للمسلمين. كما صالح النبي صلى الله عليه وسلم الكفار في الحديبية. وبموجب الصلح يتم التمثيل الدبلوماسي بينهم وبين المسلمين.
3 ـ عدم الاعتداء عليهم بغير حق قال تعالى" ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى".
4 ـ الإحسان إلى من أحسن منهم إلى المسلمين فلم يقاتلوا المسلمين ولم يخرجوهم من ديارهم. قال تعالى" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين".
5 ـ التعامل معهم في المنافع المباحة من تبادل التجارة وتبادل الخبرات النافعة والاستفادة من علومهم الدنيوية والمفيدة لنا في حياتنا.(/1)
6ـ الوفاء بالعهود معهم واحترام دماء المعاهدين وأموالهم وحقوقهم ـ لأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. قال تعالى" فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم" وقال تعالى " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق". والنفس التي حرم الله هي نفس المسلم ونفس المعاهد. ومن قتل معاهداً متعمداً فقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم " من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة. وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين سنة" رواه البخاري. ومن قتل معاهداً خطأ فهو كمن قتل مؤمناً خطأ عليه الدية والكفارة. قال تعالى" وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة".
وأخيراً ـ إنني أنصح هؤلاء المنادين بتغيير المسميات الشرعية أن يتوبوا إلى الله وألا يدخلوا في شيء لا يحسنونه وليس هو من اختصاصهم لأنه من القول على الله بغير علم وقد قال تعالى" ولا تقف ما ليس لك به علم" وقال تعالى" قل إنما حرم ربي الفواحش والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" فجعل القول عليه بغير علم فوق الشرك لخطورة ذلك ـ إذا كان هؤلاء يعترفون بالتخصصات وعدم دخول المرء فيما ليس هو من تخصصه ـ فكما لا يتدخلون في الطب مثلاً لأنه ليس من تخصصهم فلماذا يتدخلون في أمور الشرع بل وفي أخطر أمور الشرع ـ وهو العقيدة وليس من تخصصهم؟ ما أردت بهذا إلا النصيحة والبيان . والله ولي التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الشيخ صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء
الوطن : الخميس 23 جمادى الأولى 1426هـ الموافق 30 يونيو 2005م العدد (1735)(/2)
على باب القيامة !
شعر : أحمد مطر
بَكى مِن قَهْريَ القَهرُ
وأشفَقَ مِن فَمي المُرُّ
وَسالَ الجَمْرُ في نَفْسي
فأحرَقَ نَفسَهُ الجَمرُ !
بِكُلِّ خَلِيَّةٍ مِنّي
لأهلِ الجَوْرِ مَحرقَةٌ
تُزمجرُ : مِن هُنا مَرّوا .
وإنّي صابِرٌ دَوماً على بَلوايَ
لَمْ تَطرُقْ فَمي شكوايَ
لَو لَمْ يَستَقِلْ مِن صَبْريَ الصَّبْرُ !
وَلَستُ ألومُهُ أبَداً
فَرُبَّ خِيانَةٍ عُذرُ !
أَيُسلِمُ ذَقْنَ حِكمَتِهِ
لِكَيْ يَلهو بِها غِرُّ ؟!
أَيأمُلُ في جَنَى بَذْرٍ
تُرابُ حُقولِهِ صَخْرُ ؟!
أُعيذُ الصَّبرَ أن يُبلي
ذُبالَةَ قَلبهِ مِثلي
لِلَيْلٍ مالَهُ فَجْرُ !
أُشاغِلُ قَسْوَةَ الآلامِ :
لا ضَيْرُ ..
سَتصحو أُمَّتي يَوماً
وَعُمْري دُونَ صَحْوَتِها هُوَ النَّذْرُ .
فَتَضحكُ دَورةُ الأيّامِ :
كَمْ دَهْراً سَيَبلُغُ عِندَكَ العُمْرُ ؟!
أَدِرْ عَيْنَيكَ ..
هَل في مَن تَرى بَشَرٌ ؟
وَهَلْ في ما تَرى بِشْرُ ؟
بِلادُكَ هذهِ أطمارُ شَحّاذٍ
تُؤلّفُها رِقاعٌ ما لَها حَصْرُ .
تَوَلَّتْ أمرَها إِبَرٌ
تَدورُ بِكَفِّ رَقّاعٍ
يَدورُ بأمرِهِ الأمرُ .
وما مِن رُقعَةٍ إلاّ وَتَزعُمُ أنَّها قُطْرُ
وفيها الشّعبُ مَطروحٌ على رُتَبٍ
بِلا سَبَبٍ
ومَقسومٌ إلى شُعَبٍ
لِيَضرِبَ عَمْرَها زَيدٌ
وَيَضرِبَ زَيْدَها عَمْرو !
مَلايينٌ مِنَ الأصفارِ
يَغرَقُ وَسْطَها البَحْرُ ..
وَحاصِلُ جَمْعِها : صِفْرُ !
ألوذُ بِصَدْرِ أبياتي
وأُطمِعُها وأُطمِعُني
بأنَّ أَتِيَّها الآتي
سَيَهدِمُ ما بَنى المَكرُ
فَيَثأرَ بائِسٌ ويَثورَ مُعْتَرُّ .
وَأنَّ سماءها لا بُدَّ أن تبكي
لِيَضحَكَ للثَّرى ثَغْرُ .
تَقولُ : اصبِرْ على المَوتى
إلى أن يَبدأَ الحَشْرُ .
فلا عِندي عَصا موسى
وِلا في طَوْعِيَ السِّحْرُ .
سَماؤكَ كُلُّها أطباقُ أسْمَنْتٍ
فلا رَعْدٌ ولا بَرقٌ ولا قَطْرُ .
وَأرضُكَ كُلُّها أطباقُ أسْفَلْتٍ
فلا شَجَرٌ ولاماءٌ ولا طَيرُ .
فَماذا يَصنَعُ الشِّعرُ ؟!
دَعِ المَوتى
ولا تُشغَلْ بِهَمِّ الدَّفنِ إذ يَبدو
لِعَيْنِكَ أنَّهُم كُثْرُ ..
بلادُكَ كُلُّها قَبْرُ !
لَقَد كَفَّرتَ إيماني
فَكَفِّرْ مَرَّةً يا شَعبُ عن ذَنبي
عَسى أن يُؤمِنَ الكُفرُ !
وَقَد خَيَّبتَ آمالي
فَخَيِّبْ خَيْبَتي يَوماً
وَقُلْ لِلشِّعرِ ماذا يَصنَعُ الشِّعرُ :
أنَسألُ عَن عَصا موسى ..
وَطَوْعُ يَمينِنا قَلَمٌ ؟!
أنَطلُبُ سِحْرَ سَحّارٍ ..
وَمِلءُ دَواتِنا حِبرُ ؟!
زَمانُ الشِّعرِ لا يَجتازُهُ زَمَنٌ
وَسِرُّ الشِّعرِ ليسَ يُحيطُهُ سِرُّ .
فَرُبَّ عِبارَةٍ عَبَرَتْ
وضاقَ بِحَمْلِها سِفْرُ !
وَرُبَّ هُنَيْهَةٍ هانَتْ
وفي أحشائِها دَهْرُ !
لَدَى خَلْقِ القَصيدَةِ تُخلَقُ الدُّنيا
وفي نَشْرِ القَصيدَةِ يَبدأُ النَّشْرُ !
سَيَنبَعُ هاهُنا حُرٌّ
ويَنبِضُ ها هُنا حُرٌّ
ويَسطَعُ ها هُنا حُرُّ .
وَتُشرِقُ ثُلَّةُ الأحرارِ كالأسحارِ
تَحفِرُ في جِدارِ اللّيْلِ بالأظفارِ
حَتّى يُبهَتَ الحَفْرُ .
فَتَطلُعُ طَلعَةُ الآفاقِ مِن أعماقِ بُرقُعِها
وَيَهتِفُ ضِحْكُ أدمُعِها :
سَلاماً .. أيُّها الفَجْرُ !(/1)
على بصيرة (1-2)
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
إذا تأملت واقع الدعوة المعاصرة في العالم الإسلامي، وجدت أن بعض قيادات الدعاة حقاً –وللأسف- ليسو من أهل البصيرة، أعني البصيرة التي تخولهم قيادة شأن دعوة شاملة، وذلك خطر عظيم إذ هو تنكب لطريق محمد _صلى الله عليه وسلم_، قال الله _تعالى_: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [يوسف:108] وقد اختلف المفسرون _رحمهم الله_ في قوله: "ومن اتبعني" على أي شيء عطفه، فقال بعضهم على قوله: (أنا) فعلى هذا أتباعه هم أهل البصيرة فيما جاء به من العلماء دون من عداهم، وقيل بل هو عطف على الضمير المستتر في قوله: (أدعو)، وعلى هذا كان أتباعه هم الدعاة إلى الله، قال ابن القيم _رحمه الله_: " والتحقيق أن العطف يتضمن المعنيين فأتباعه هم أهل البصيرة الذين يدعون إلى الله"(1)، وهذا هو الصواب.
وعلى هذا فلابد أن يكون قائدُ الناس السالكُ بهم طريق محمد _صلى الله عليه وسلم_ لابد أن يكون من أهل الدعوة والبصيرة، بل لابد أن يكون سالك كل سبيل داع إليها من أهل البصيرة بها، ولو أن رجلاً مبتدئاً في الطب أسند إليه بعضهم مهمة الإشراف على طاقم ضخم من المختصين وغيرهم، لعد ذلك ضلالاً وضرباً من توسيد الأمر إلى غير أهله، مع أن للرجل بصيرة ببعض الطب! وعلم بمبادئه، ومع ذلك لا يوصف: بأنه على بصيرة تخوله الإشراف على ذلك الجم الغفير من المختصين وغيرهم، وكذلك واقع الدعوة اليوم، فإنك إن نظرت وجدت كثيراً من الدعاة المُبَرَّزين، بل من قيادات العمل الإسلامي من لم تكتمل لديهم البصيرة، بل ليست عندهم البصيرة الشرعية التي تؤهلهم للقيام بما هيئوا له، فهم ما تخصصوا في علم الشرعية وليس لهم مجلس علماء أعلى يصدرون عنه ويأتمرون بأمره، كشأن كثير من أهل الاستبداد المتحكمين، نعم قد يكون ذلك الرجل متخصصاً في أمور أخرى، وهو على خير وهدى وصلاح، ولكن مثله ليس أهلاً لأن يقود العمل الإسلامي؟
أويليق بطبيب حاذق أن يرأس فريقاً من المهندسين؟ وهل يناسب أن يرأس فريقاً من الجرَّاحين مهندس؟ وهل يحق لتربوي أن يرأس فريقاً من المتخصصين في الرياضيات الدقيقة أو في الفيزياء؟ عقلاء الناس كلهم يدركون أن هذا لايليق وإن كان فثم خلل، فكيف يسوغ إذاً أن يكون على رأس العمل الإسلامي والدعوة إلى الله _جل وعلا_ أناس ليسو من طلاب العلم المتخصصين؟
ولعل هذا سبب من أهم أسباب تأخر العمل الإسلامي، بل –وللأسف- فشل العمل الإسلامي في كثيرٍ من بلاد المسلمين، فإذا تأملت حالهم وجدت الذين يرأسون العمل ويوجِّهونه ويقومون بأمره ويتصدون لمعضلاته فيشيخون، أو يمنح لهم لقب الأستاذية، بل قد يكون لهم حق الطاعة في نظام الجماعة أو المؤسسة، إذا نظرت وجدتهم ليسو أهلاً لذلك، مع أنهم قد يكونون أخياراً صالحين، يحبون الإسلام، يبذلون الغالي والنفيس من أجل رفعه، وكل هذا حسن، ولكنه لا يكفي إذا لم يكن صاحبه على مستوى من العلم الشرعي يؤهله لقيادة العمل، وياللعجب! كيف يسترذل الناس أن يقود الأطباء طبيب غير متخصص، ولا يسوغ عندهم أن يقود العسكريين إلا ضابطٌ متقدم ورتبةً ومكانة، ويأبون إلاّ أن يقود المهندسين مهندسٌ، فإذا جاء أمر الدين وسياسة الناس به ودعوتهم إليه رضوا باتخاذ رؤوس جهال! وعلى أحسن الأحوال ليسوا علماء.
لقد جبت الأرض وسافرت فرأيت في كثير من بلاد المسلمين أناساً يقودون العمل الإسلامي وهم ليسوا أهلاً لذلك وللأسف، فإن وجدت لهم مجالس شرعية شورية وجدت فيها نفس العلة، وقل أن تجد فيهم العالم، فإذا وجد –ودنه خرط القتاد- وجدت دوره استشاري ورأيه غير ملزم، فهل حقاً تصدى أولاء للدعوة إلى الله؟ قد يقول لي قائل: ربما لم يجدوا إلا هذا، فليس عندهم عالم، وإن لم يكن إلا ذاك فلاشك أن من السياسة الشرعية تقديم الأكفأ فالأكفأ حسب الحاجة والطاقة والإمكان –كما قرر شيخ الإسلام في كتابه العظيم (السياسة الشرعية) بيد أنه يقال: أحقاً لا يمكن هؤلاء الظفر بمتخصص واحد في العلم الشرعي؟ لئن كان الجواب بنعم فإن في تلك الدعوة لإشكال، ولو فرض جدلاً أنه ما بها بأس ولكنه اندراس العلم في بلادهم أفلا يمكنهم أن يبعثوا نفراً ليتفقهوا في الدين خلال خمس أو عشر سنين ثم يجيئون لقيادة العمل.
إنني لا أجد مسوغاً ظاهراً لأن يبقى رجلٌ ليس من أهل العلم الشرعي يقود العمل والدعوة في بلد عشرين أو ثلاثين سنة أبداً، ولاينبغي أن يسوغ ذلك مطلقاً، وكيف يسوغ أمر عاقبته وخيمة على الدعوة، هل يجوز لنا أن نتعامى عن الأخطاء التي تعرض في عملهم ولكم تأخرت بسببها الدعوة؟ وتلك نتيجة بدهية فلو أن رجلاً متخصصاً في الرياضيات قاد فريقاً من الأطباء في عملية جراحية يوجه هذا ويأمر ذاك، أو يرتجى بعدها شفاء؟
أقول لنعمانٍ وقد ساق طبُه ... ...
نفوساً نفيساتٍ إلى باطنِ الأرض(/1)
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... ...
حنانيك بعض الشر أهون من بعض!
وأياً ما كان قصد نعمان هذا فلعلك توافقني فإن الأخذ على يده واجب، وإن أبى فالضرب عليها بمطرقة من حديد لازم، وكذلك الحال مع من يعدهم البعض مفكرين وعقلاء فيضعون فيهم ثقتهم ثم تأت الباقعة من أحدهم إذا تحدث في الدين فيشط كل الشطط ويشذ كل الشذوذ، يخالف الإجماع والمعقول ويأتي بأقوال منكرة في بدائه عقول طلاب علم الشريعة، فذلك يشير إلى وحدة الأديان، وهذا يصرح بجواز زوج النصراني الكافر أو الوثني من المسلمة، وثالث ينكر حد الردة، ورابع وخامس _وللأسف_ يجدون لهم بعد ذلك أنصاراً وأعواناً ومنتسبين ومحبين، وهكذا يستشري الضلال والإضلال في جسد تلك الدعوة، وتلك العاقبة التي ينبغي أن تنتظر إذا اتخذ الناس رؤوساً جهلاً، والله المستعان.
_____________
( ) الصواعق المرسلة 1/155.
----
المحرر :
ورد للموقع بعض الأسئلة من عدد من القراء فيما يتعلق بمقال فضيلة المشرف العام، المنشور في الموقع أعلاه ، وقد عرضت الأسئلة على فضيلة المشرف العام فتفضل بالإجابة على بعضها كما يلي :
السؤال (1):
في تفسيركم (لأولي الأمر) قدمتم العلماء على الأمراء في قولكم هم العلماء والأمراء، فهل لذلك معنى؟
ومامعنى طاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء؟
الجواب (1):
ما يتعلق بتفسيري لقوله سبحانه (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ )(النساء: من الآية83) بأنهم العلماء والأمراء، و أن طاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء ، فهذا ليس من قولي بل هو قول جمع من سلف الأمة وممّن صرَّح بذلك شيخ الإسلام حيث قدم العلماء على الأمراء كما في الفتاوى 3/250 ونصه (( وقد قال الأئمة: أن أولي الأمر صنفان، العلماء والأمراء، وهذا يدخل فيه مشايخ الدين وملوك المسلمين)) فقد قدّم العلماء هنا مرتين ونسبه للأئمة أيضاً فأين الخطأ الذي وقعت فيه وقد سبقني هؤلاء الأئمة ؟
وأما قولي: وطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء فهو قول الإمام ابن القيم – رحمه الله – كما في إعلام الموقعين 1/8 ونصه: (( والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، إلى أن قال – فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء)). فأين الخطأ هنا، وقد نسبت القول لصاحبه في المقال المذكور؟
السؤال (2):
هل هناك علاقة بهذا التفسير وبين ما أطلقه الخميني من القول بولاية الفقيه؟
الجواب (2):
ولاية الفقيه لها دلالتها المعروفة عند الرافضة وهي أنهم جعلوا الولاية للفقيه وحده، على منهج منحرف، ينتهي بهم إلى الدعوة إلى الخروج على الحكام كما عند المعتزلة في أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويريدون به الخروج على الحكام والأئمة .
وهذا يختلف تمام الاختلاف عن مبدأ الإمامة عند أهل السنة ، و الذي طبقه الصحابة ومن بعدهم، وجدده الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب – رحمهما الله – ، وفيه أن لكل جهة اختصاصها، فلايبغي أحد على الآخر، فالأمراء والحكام يرجعون إلى العلماء فيما يشكل عليها من أمر الشرع، وما يقرره العلماء يلتزم به الأمراء، لأن العلماء هم الموقعون عن رب العالمين.
وكذلك العلماء يوصون الأمة ويلزمونها بالسمع والطاعة للحكام بالمعروف، ويحرمون الخروج على الولاة مالم يروا كفراً بواحاً عندهم فيه من الله برهان، وليس كما يدعو إليه الرافضة والمعتزلة.
كما أن العلماء هم السدّ المنيع ضد الفتن، يتعاونون مع الحكام في مواجهتها ووأدها ، وحماية المجتمع منها.
وبهذا تتكامل المسيرة، وتنعم الأمة بالأمن والأمان لايبغي أحد على أحد، ولكل حقوقه وعليه واجباته سواء كان عالماً أو حاكماً أو فرداً من أفراد الأمة.
السؤال (3):
هل قامت دولة إسلامية بهذا المفهوم الذي ذكرتم في هذا المقال؟
الجواب(3):
وهل يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل ؟
ماذا تقول عن دولة الخلفاء الراشدين؟ وعن مراحل مشرقة في دولتي بني أمية وبني العباس وما بعدهما من الدول الاسلامية ؟
بل ماذا تقول عن الدولة التي أقامها الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب وسار عليها أبناؤهم من بعد ، كما هو مبسوط في الدرر السنية وغيرها من كتب مؤرخي تلك الفترات ؟
السؤال (4):
ما الفرق بين الدعوة إلى الدولة الدينية والدولة المدنية؟
الجواب (4):
إن رفض الدولة الدينية والدعوة لدولة مدنية هو دعوة صريحة للعلمانية، ومن دعى إلى دولة مدنية ولم يصرح برفض الدولة الدينية قلنا عنه أن كلامه مجمل يحتاج إلى تفسير . ومن المعروف أن الدولة المدنية عند الغرب هي الدولة (اللادينية)، أي الدولة العلمانية .
وأما من يدعو في مجتمعنا إلى دولة (مدنية) رافضاً الدولة الدينية فهو في الحقيقة يدعو إلى القضاء على هذه الدولة واستبدالها بدولة أخرى.(/2)
وختاماً فإني أوضح أن المقال الذي أثار هذه الأسئلة ليس فيه أي حديث عن دولة دينية ولا غيرها، وإنما هو مقال في الدعوة إلى الله، وهو موجه لمعالجة مشكلة تعاني منها الدعوة والدعاة على مستوى الجمعيات والجماعات الإسلامية في العالم، ومسألة إقصاء العلماء ينطبق على الدول التي اتخذت العلمانية منهجاً في الحكم، وليس على الدول الإسلامية، حيث إن علاقة الحكام بالعلماء واضحة والتشاور، والمناصحة قائمة بينهما. مع استمرار محاولة الأعداء للإساءة إلى هذه العلاقة والحدّ منها، أسأل الله أن تبوء هذه المحاولات بالفشل وألا يحقق لهم مايتمنون (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(يوسف: من الآية21).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
على بصيرة (2-2)
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
24/4/1427
لعل ما مضى بيانه من استهجان تصدر غير المختص شأناً ينبغي أن يشرف عليه فيه أصحاب الاختصاص، لعله أمر باد لبادي الرأي وبدائه العقول إن تعلق بالمحسوسات، فالتجربة برهان، وعوداً إلى صاحبنا نعمان لعلك إن رأيت نعماناً يقتل مريضاً بدواء، فسوف تحول دونه ودون قتل من تحب بالدواء الذي صرفه لنفس الداء. غير أن أهل الاختصاص يدركون للوهلة الأولى أن الدواء الذي قتل به الأول مهلكة ما كان ينبغي أن تورد. وهكذا أهل العلم المعنيين بالدعوة يدركون للوهلة الأولى أن بعض القيادات لن توصل الناس في دعوتهم إلى واقع إسلامي صحيح، ولكن لعموم الجهل، وخفوت أضواء الشريعة.
يُقضى على المرء في أيام محنته ... ...
حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
ولو أننا أعدنا الأمور إلى نصابها وجعلنا قيادة العمل الإسلامي للمتخصصين فيه، ولو عن طريق مجالس شورى تكون هي الفاصلة حقاً لحصل خير كثير، وإذا تأملت حال المجددين الذين خرجوا بالأمة عن ظلمات مدلهمة، على مر خمسة عشر قرناً هجرياً، لوجدت من أبرز صفاتهم البصيرة في الدين، فكيف يرتجى تجديد من جاهل أو من جماعة يقودها جاهل بالشرع، إن مثل هؤلاء ليخشى عليهم من تبديل الدين.
وهذا الواقع في كثير من دعاة العالم الإسلامي لا يختلف عن واقع الرياسة، وما تأخرت أحوال المسلمين وتقهقروا إلى ما هم عليه الآن شيئاً فشيئاً إلاّ بعد أن تولى أمرهم رؤوساً جهالاً، أقصوا أمر العلماء شيئاً فشيئاً، وإلاّ فالأصل أن يقدم العالم لقيادة الأمة إذا توافرت فيه بقية صفات القيادة، كما قدم الخلفاء الراشدون على غيرهم، فإن تعذر فلا أقل من أن يكون هناك مجلس شورى شرعي يكون هو الآمر الناهي، هذا هو الأصل الذي لما تخلف تخلف أهل الإسلام عبر عقود، بيد أن الولاية العامة لها أعمال ومهمات تختلف عن قيادة العمل الإسلامي، فإن من تحمل أعباء صياغة مجتمع صياغة إسلامية وتصدر لهذا لزمه أن يعرف الإسلام حق المعرفة أولاً.
وأخيراً حول هذا الموضع تثار شبهة حاصلها أنه لا رجال دين في الإسلام، بل المهندس والطبيب وغيرهما ينبغي أن يكونوا رجال دين. وهذه المقولة، أعني: (لا رجال دين في الإسلام)، ليست آية ولاحديثاً شريفاً، فإن كانت حقا، فما معناه؟
إن قصد بها: كل المسلمين ملزمين بالدين والتشريع وليس ثم طائفة بعينها هي المختصة بأحكامه الملزمة باتباع تشريعاته فهذا حق، ولا يحق لمن يدخل في ما لم يحط بعلمه، أو يتولى قياد ما لا يحسنه، أن يتشدق بهذه العبارة.
وإن قصد بها: أن أحكام الإسلام ليست حجراً محجوراً في المسجد والمصلى، فهذا حق ولا يحق لجاهل أن يحتج بها في تقحمه أمراً لم يحط بعلمه.
أما إن قصد بها: أن سياسة الناس بالشريعة في الإسلام، وكذا علم الحلال والحرام والاعتقاد كلأ مباح يأكل منه كل بهيم، ويتصرف فيه كل راع لقطيع، ويتحدث فيه كل لسان عرف الكلام، فاللهم لا بل يقال بهذا الاعتبار وبملء الفم: نعم في الإسلام وللإسلام رجال دين. ألم يقل الله _تعالى_: "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً" [النساء:83]، وألوا الأمر هم العلماء والأمراء، وطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، قال الإمام ابن القيم: "والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذ أمروا بمقتضى العلم فطاعتهم تبع لطاعة العلماء فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء"(1)، أليس العلماء هم ورثة الأنبياء، أليسوا بمنزلة نجوم السماء؟(/3)
ونحن لا نقول بأن من شرط العالم أن يتخرج من كلية الشريعة أو أصول الدين، وإن كان هذا هو الغالب وفقاً لما أملاه واقع الناس اليوم، بل إن بعض من يتخرج من الكليات الشرعية ليس أهلاً لأن يعد في عداد أهل العلم، وإن أحرز الدرجات، فضلاً عن أن يرشح قائداً، وقد رأيت بعض أصحاب تلك الدرجات يتحدث ويفتي فيأتي بالعجاب والطامات، فتذكرت قول ربيعة: لبعض من يفتي هاهنا أحق بالسجن من السراق، وصدق من قال:
وما كُل (دكتور) بصير بفنه ... ...
ولا كل أستاذ جدير بأن يدري
وليس لزاماً أن يكون مؤهلاً ... ...
فتى أحرز الألقاب أو صال في النشر
وقد يخرج أفراد عن الأصل فتجد طبيباً ما ألهاه التكسب بطبه، ولا ألهاه عن العلم، فبرز في علوم الشريعة وصار أهلاً للإفتاء في نوازلها، بعد أن تخرج على العلماء، ولزم حلقهم سنيين عدداً، ولئن كان هذا في خريجي الشريعة قليل، فوجوده في غيرهم أقل من القليل، غير أنا لا نمنع ممكناً، ولا نحجر واسعاً، ولكن من لك بالطبيب الذي درس العلم وحذق فيه ثم تصدر لقيادة الدعوة.
هذه خواطر، والله أسأل أن يصلح أحوال المسلمين، ويعلي كتابه وسنة رسوله وعباده الصالحين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
______________
(1) إعلام الموقعين 1/10.
------
المحرر :
ورد للموقع بعض الأسئلة من عدد من القراء فيما يتعلق بمقال فضيلة المشرف العام، المنشور في الموقع أعلاه ، وقد عرضت الأسئلة على فضيلة المشرف العام فتفضل بالإجابة على بعضها كما يلي :
السؤال (1):
في تفسيركم (لأولي الأمر) قدمتم العلماء على الأمراء في قولكم هم العلماء والأمراء، فهل لذلك معنى؟
ومامعنى طاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء؟
الجواب (1):
ما يتعلق بتفسيري لقوله سبحانه (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ )(النساء: من الآية83) بأنهم العلماء والأمراء، و أن طاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء ، فهذا ليس من قولي بل هو قول جمع من سلف الأمة وممّن صرَّح بذلك شيخ الإسلام حيث قدم العلماء على الأمراء كما في الفتاوى 3/250 ونصه (( وقد قال الأئمة: أن أولي الأمر صنفان، العلماء والأمراء، وهذا يدخل فيه مشايخ الدين وملوك المسلمين)) فقد قدّم العلماء هنا مرتين ونسبه للأئمة أيضاً فأين الخطأ الذي وقعت فيه وقد سبقني هؤلاء الأئمة ؟
وأما قولي: وطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء فهو قول الإمام ابن القيم – رحمه الله – كما في إعلام الموقعين 1/8 ونصه: (( والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، إلى أن قال – فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء)). فأين الخطأ هنا، وقد نسبت القول لصاحبه في المقال المذكور؟
السؤال (2):
هل هناك علاقة بهذا التفسير وبين ما أطلقه الخميني من القول بولاية الفقيه؟
الجواب (2):
ولاية الفقيه لها دلالتها المعروفة عند الرافضة وهي أنهم جعلوا الولاية للفقيه وحده، على منهج منحرف، ينتهي بهم إلى الدعوة إلى الخروج على الحكام كما عند المعتزلة في أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويريدون به الخروج على الحكام والأئمة .
وهذا يختلف تمام الاختلاف عن مبدأ الإمامة عند أهل السنة ، و الذي طبقه الصحابة ومن بعدهم، وجدده الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب – رحمهما الله – ، وفيه أن لكل جهة اختصاصها، فلايبغي أحد على الآخر، فالأمراء والحكام يرجعون إلى العلماء فيما يشكل عليها من أمر الشرع، وما يقرره العلماء يلتزم به الأمراء، لأن العلماء هم الموقعون عن رب العالمين.
وكذلك العلماء يوصون الأمة ويلزمونها بالسمع والطاعة للحكام بالمعروف، ويحرمون الخروج على الولاة مالم يروا كفراً بواحاً عندهم فيه من الله برهان، وليس كما يدعو إليه الرافضة والمعتزلة.
كما أن العلماء هم السدّ المنيع ضد الفتن، يتعاونون مع الحكام في مواجهتها ووأدها ، وحماية المجتمع منها.
وبهذا تتكامل المسيرة، وتنعم الأمة بالأمن والأمان لايبغي أحد على أحد، ولكل حقوقه وعليه واجباته سواء كان عالماً أو حاكماً أو فرداً من أفراد الأمة.
السؤال (3):
هل قامت دولة إسلامية بهذا المفهوم الذي ذكرتم في هذا المقال؟
الجواب(3):
وهل يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل ؟
ماذا تقول عن دولة الخلفاء الراشدين؟ وعن مراحل مشرقة في دولتي بني أمية وبني العباس وما بعدهما من الدول الاسلامية ؟
بل ماذا تقول عن الدولة التي أقامها الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب وسار عليها أبناؤهم من بعد ، كما هو مبسوط في الدرر السنية وغيرها من كتب مؤرخي تلك الفترات ؟
السؤال (4):
ما الفرق بين الدعوة إلى الدولة الدينية والدولة المدنية؟
الجواب (4):(/4)
إن رفض الدولة الدينية والدعوة لدولة مدنية هو دعوة صريحة للعلمانية، ومن دعى إلى دولة مدنية ولم يصرح برفض الدولة الدينية قلنا عنه أن كلامه مجمل يحتاج إلى تفسير . ومن المعروف أن الدولة المدنية عند الغرب هي الدولة (اللادينية)، أي الدولة العلمانية .
وأما من يدعو في مجتمعنا إلى دولة (مدنية) رافضاً الدولة الدينية فهو في الحقيقة يدعو إلى القضاء على هذه الدولة واستبدالها بدولة أخرى.
وختاماً فإني أوضح أن المقال الذي أثار هذه الأسئلة ليس فيه أي حديث عن دولة دينية ولا غيرها، وإنما هو مقال في الدعوة إلى الله، وهو موجه لمعالجة مشكلة تعاني منها الدعوة والدعاة على مستوى الجمعيات والجماعات الإسلامية في العالم، ومسألة إقصاء العلماء ينطبق على الدول التي اتخذت العلمانية منهجاً في الحكم، وليس على الدول الإسلامية، حيث إن علاقة الحكام بالعلماء واضحة والتشاور، والمناصحة قائمة بينهما. مع استمرار محاولة الأعداء للإساءة إلى هذه العلاقة والحدّ منها، أسأل الله أن تبوء هذه المحاولات بالفشل وألا يحقق لهم مايتمنون (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(يوسف: من الآية21).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،(/5)
على بن أبى طالب رضي الله عنه )
هوعليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم . أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم . وهوابن عم النبي صلى الله عليه وسلّم ، وزوج ابنته فاطمة الزهراء . رزق منها ثلاثة من الذكور هم: الحسن، والحسين، ومحسن وبنتين هما : زينب وأم كلثوم .
ولد في مكة سنة 601 م، وهوأوّل من أسلم من الصبيان ولم يسجد لصنم.
يميل إلى القصر ، آدم ، أصلع مبيض الرأس ، طويل الرقبة، ثقيل العينين في دعج وسعة ، حسن الوجه ، واضح البشاشة ، عريض المنكبين، ضخم العضلة ، ضخم الذراع ، تمتّع بقوة بالغة ، فربما رفع الفارس بيده فجلد به الأرض غير جاهد . وقد اشتهر عنه انه لم يصارع أحداً إلا صرعه . ولم يبارز أحداً إلا قتله .
لا يهاب الموت . فقد اجترأ وهوفتى ناشىء على عمروبن ود فارس الجزيرة العربية الذي كان يقوم بألف رجل . وكان ذلك يوم وقعة الخندق أوالأحزاب ، حين خرج عمرومقنعا بالحديد ينادي جيش المسلمين : "من يبارز؟ " فصاح علي : " أنا يا رسول الله " فقال له الرسول " اجلس انه عمرو" . وفي النهاية أذن له الرسول ، فنظر إليه عمروفاستصغره ، لكنّ عليا قتله .
كان أول صبي من الناس آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى معه وصدق بما جاءه من الله تعالى : علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم - رضوان الله وسلامه عليه - وهويومئذ ابن عشر سنين .
قال ابن إسحاق : وحدثني عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد بن جبر بن أبي الحجاج قال كان من نعمة الله على علي بن أبي طالب ، ومما صنع الله له وأراده به من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبوطالب ذا عيال كثير فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس عمه وكان من أيسر بني هاشم :
يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا إليه فلنخفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلا ، وتأخذ أنت رجلا ، فنكلهما عنه فقال العباس نعم فانطلقا ، حتى أتيا أبا طالب فقالا له إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما أبوطالب إذا تركتما لي عقيلا ، فاصنعا ما شئتما
فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ، فضمه إليه وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه فلم يزل علي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله تبارك وتعالى نبيا ، فاتبعه علي رضي الله عنه وآمن به وصدقه ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه .
وذكر أن أول ذكر آمن بالله علي - رضي الله عنه – وقيل: أول من أسلم أبوبكر ولكن ذلك - والله أعلم - من الرجال لأن عليا كان حين أسلم صبيا لم يدرك ولا يختلف أن خديجة هي أول من آمن بالله وصدق رسوله وكان علي أصغر من جعفر بعشر سنين وجعفر أصغر من عقيل بعشر سنين وعقيل أصغر من طالب بعشر سنين وكلهم أسلم إلا طالبا اختطفته الجن ، فذهب ولم يعلم بإسلامه.
وأم علي فاطمة بنت أسد بن هاشم وقد أسلمت
** اشترك في جميع الغزوات عدا تبوك . وامتاز بكونه شاعراً وخطيباً بارعاً ويعدّ من الخلفاء الراشدين الصالحين .
في سنة 661 استشهد رضي الله عنه على يد خارجي يدعى عبد الرحمن بن ملجم .
مما لا شك فيه أنه لاقى الويلات أثناء حكمه من جميع الأطراف . وقد استطاع بما عُرف عنه من وشجاعة الاستمرار والثبوت .
لكنّ أهل العراق خذلوه ، والخوارج اغتالوه .
استشهاد الإمام عليّ (661 م)
اجتمع ثلاثة رجال من الخوارج واتّفقوا على قتل عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وعمروبن العاص . وقد أخذ عبد الرحمن بن ملجم على عاتقه قتل عليّ .
دخل بن ملجم المسجد في بزوغ الفجر وجعل يكرر الآية : "ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضاة الله "، فاقبل عليّ وظنّ أن الرجل ينسى نفسه فيها ، فقال : "والله رؤوف بالعباد " ثم انصرف عليّ ناحية عبد الرحمن بن ملجم ، وعندها ضربه بالسيف المسموم على رأسه . فقال علي : " احبسوه ثلاثاً وأطعموه واسقوه ، فإن أعش أرَ فيه رأيي ، وإن متّ فاقتلوه ولا تمثّلوا به ". لكنّ الإمام عليّ مات من الضربة ، فأخذه عبد الله بن جعفر فقطع يديه ورجليه ثم قطع لسانه وضرب عنقه .
أما الخارجي الثاني الحرث بن عبد الله التميمي الذي أخذ على عاتقه قتل معاوية ، فلم يجد إلى ذلك سبيلا .
أما الخارجي الثالث عمروبن بكير التميمي فنوى قتل عمروبن العاص لكن لسوء حظه وحسن حظ عمروبن العاص ، انه أرسل مكانه للصلاة رجلاً يقال له خارجة فضربه الخارجي وقتله.
ورغم كونه خليفة ، وهوالذي يدير شؤون الدولة الإسلامية إلا انه عاش فقيراً ومات فقيراً ، ولم يترك إلا ثلاثمائة درهم .
مزاعم الشيعة في علي
وتعتقد طائفة من الشيعة أن عليّاً معصوم عن الكبائر والصغائر ، وأن فيه جزءا لإله اتّحد بعبده ، وأنه يعلم الغيب. وقد شابهوا النصارى في ذلك.
. سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه :(/1)
هل صح عند أحد من أهل العلم والحديث أومن يُقتدى به في دين الإسلام أن أمير المؤمنين " علي بن أبي طالب " - رضي الله عنه - قال : إذا أنا مت فأركبوني فوق ناقتي وسيبوني فأينما بركت ادفنوني ، فسارت ولم يعلم أحد قبره ؟ فهل صح ذلك أم لا ؟
وهل عرف أحد من أهل العلم أين دفن أم لا ؟
وما كان سبب قتله ؟
وفي أي وقت كان ؟
ومن قتله ؟
ومن قتل الحسين ؟
وما كان سبب قتله ؟
وهل صح أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم سبوا ؟ وأنهم أركبوا على الإبل عراة ولم يكن عليهم ما يسترهم فخلق الله تعالى للإبل التي كانوا عليها سنامين استتروا بها ؟
وأن الحسين لما قطع رأسه داروا به في جميع البلاد وأنه حمل إلى دمشق وحمل إلى مصر ودفن بها ؟ وأن يزيد بن معاوية هوالذي فعل هذا بأهل البيت فهل صح ذلك أم لا ؟
وهل قائل هذه المقالات مبتدع بها في دين الله ؟
وما الذي يجب عليه إذا تحدث بهذا بين الناس ؟
وهل إذا أنكر هذا عليه منكر هل يسمى آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر أم لا ؟
أفتونا مأجورين وبينوا لنا بيانا شافيا؟
فأجاب :
الحمد لله رب العالمين .
أما ما ذكر من توصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إذا مات أركب فوق دابته وتسيب ويدفن حيث تبرك وأنه فعل ذلك به ; فهذا كذب مختلق باتفاق أهل العلم .
لم يوص علي بشيء من ذلك ولا فعل به شيء من ذلك ولم يذكر هذا أحد من المعروفين بالعلم والعدل وإنما يقول ذلك من ينقل عن بعض الكذابين .
ولا يحل أن يُفعل هذا بأحد من موتى المسلمين ولا يحل لأحد أن يوصي بذلك بل هذا مثلة بالميت ولا فائدة في هذا الفعل; فإنه إن كان المقصود تعمية قبره فلا بد إذا بركت الناقة من أن يحفر له قبر ويدفن فيه وحينئذ يمكن أن يحفر له قبر ويدفن به بدون هذه المثلة القبيحة وهو أن يترك ميتا على ظهر دابة تسير في البرية .
*وقد تنازع العلماء في " موضع قبره " .
والمعروف عند أهل العلم أنه دفن بقصر الإمارة بالكوفة; وأنه أخفي قبره لئلا ينبشه الخوارج الذين كانوا يكفرونه ويستحلون قتله; فإن الذي قتله واحد من الخوارج وهو عبد الرحمن بن ملجم المرادي، وكان قد تعاهد هو وآخران على قتل علي وقتل معاوية وقتل عمرو بن العاص; فإنهم يكفرون هؤلاء كلهم وكل من لا يوافقهم على أهوائهم .
*وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بذمهم؛ خرج مسلم في صحيحه حديثهم من عشرة أوجه وخرجه البخاري من عدة أوجه وخرجه أصحاب السنن والمساند من أكثر من ذلك .
قال صلى الله عليه وسلم فيهم : " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم ; يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد - وفي رواية - أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة يقتلون أهل الإسلام " .
وهؤلاء اتفق الصحابة - رضي الله عنهم - على قتالهم لكن الذي باشر قتالهم وأمر به علي - رضي الله عنه - كما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تمرق مارقة على حين فرقة من الناس تقتلهم أولى الطائفتين بالحق " فقتلهم علي - رضي الله عنه - بالنهروان وكانوا قد اجتمعوا في مكان يقال له : " حروراء " ولهذا يقال لهم الحرورية .
وأرسل إليهم ابن عباس فناظرهم حتى رجع منهم نحو نصفهم ثم إن الباقين قتلوا " عبد الله بن خباب " وأغاروا على سرح المسلمين فأمر علي الناس بالخروج إلى قتالهم وروى لهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم وذكر العلامة التي فيهم: أن فيهم رجلا مخدج اليدين ناقص اليد على ثديه مثل البضعة من اللحم تدردر . ولما قتلوا وجد فيهم هذا المنعوت .
فلما اتفق الخوارج - الثلاثة - على قتل أمراء المسلمين الثلاثة :
قتل عبد الرحمن بن ملجم " عليا " رضي الله عنه يوم الجمعة سابع عشر شهر رمضان عام أربعين اختبأ له فحين خرج لصلاة الفجر ضربه ; وكانت السنة أن الخلفاء ونوابهم الأمراء الذين هم ملوك المسلمين هم الذين يصلون بالمسلمين الصلوات الخمس والجمع والعيدين والاستسقاء والكسوف ونحو ذلك كالجنائز ، فأمير الحرب هو أمير الصلاة الذي هو إمامها .
وأما الذي أراد قتل " معاوية " فقالوا : إنه جرحه ، فقال الطبيب : إنه يمكن علاجك لكن لا يبقى لك نسل .
ويقال إنه من حينئذ اتخذ معاوية المقصورة في المسجد واقتدى به الأمراء ليصلوا فيها هم وحاشيتهم خوفا من وثوب بعض الناس على أمير المؤمنين وقتله وإن كان قد فعل فيها مع ذلك ما لا يسوغ وكره من كره الصلاة في نحو هذه المقاصير .
وأما الذي أراد قتل " عمرو بن العاص " فإن عمرا كان قد استخلف ذلك اليوم رجلا - اسمه خارجة - فظن الخارجي أنه عمرو فقتله فلما تبين له قال : أردت عمرا وأراد الله خارجة فصارت مثلا .(/2)
فقيل إنهم كتموا قبر " علي " وقبر " معاوية " وقبر " عمرو" خوفا عليهم من الخوارج؛ ولهذا دفنوا معاوية داخل الحائط القبلي من المسجد الجامع في قصر الإمارة الذي كان يقال له الخضراء وهو الذي تسميه العامة قبر " هود " .
وهود باتفاق العلماء لم يجئ إلى دمشق، بل قبره ببلاد اليمن حيث بعث; وقيل بمكة حيث هاجر ; ولم يقل أحد : إنه بدمشق .
وأما " معاوية " الذي هو خارج " باب الصغير " فإنه معاوية بن يزيد الذي تولى نحو أربعين يوما وكان فيه زهد ودين ، فعلي دفن هناك وعفا قبره فلذلك لم يظهر قبره .
وأما المشهد الذي بالنجف فأهل المعرفة متفقون على أنه ليس بقبر علي بل قيل إنه قبر المغيرة بن شعبة ولم يكن أحد يذكر أن هذا قبر علي ولا يقصده أحد أكثر من ثلاثمائة سنة ; مع كثرة المسلمين : من أهل البيت والشيعة وغيرهم وحكمهم بالكوفة .
وإنما اتخذوا ذلك مشهدا في ملك بني بويه - الأعاجم - بعد موت علي بأكثر من ثلاثمائة سنة ورووا حكاية فيها : أن الرشيد كان يأتي إلى تلك وأشياء لا تقوم بها حجة .
**مقتل الحسين رضي الله عنه
والحسين - رضي الله عنه ; ولعن من قتله ورضي بقتله - قتل يوم عاشوراء عام إحدى وستين .
وكان الذي حض على قتله الشمر بن ذي الجوشن صار يكتب في ذلك إلى نائب السلطان على العراق عبيد الله بن زياد ; وعبيد الله هذا أمر - بمقاتلة الحسين - نائبه عمر بن سعد بن أبي وقاص بعد أن طلب الحسين منهم ما طلبه آحاد المسلمين لم يجئ معه مقاتلة ; فطلب منهم أن يدعوه إلى أن يرجع إلى المدينة أو يرسلوه إلى يزيد بن عمه أو يذهب إلى الثغر يقاتل الكفار فامتنعوا إلا أن يستأسر لهم أو يقاتلوه فقاتلوه حتى قتلوه وطائفة من أهل بيته وغيرهم .
ثم حملوا ثقله وأهله إلى يزيد بن معاوية إلى دمشق ولم يكن يزيد أمرهم بقتله، ولا ظهر منه سرور بذلك ورضي به بل قال كلاما فيه ذم لهم .
حيث نقل عنه أنه قال : ( لقد كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين ) .
وقال : ( لعن الله ابن مرجانة - يعني عبيد الله بن زياد - والله لو كان بينه وبين الحسين رحم لما قتله ) - يريد بذلك الطعن في استلحاقه؛ حيث كان أبوه زياد استلحق حتى كان ينتسب إلى أبي سفيان صخر بن حرب – وبنو أمية وبنو هاشم كلاهما بنو عبد مناف .
وروي أنه لما قدم على يزيد ثقل الحسين وأهله ظهر في داره البكاء والصراخ لذلك وأنه أكرم أهله وأنزلهم منزلا حسنا، وخير ابنه عليا بين أن يقيم عنده وبين أن يذهب إلى المدينة فاختار المدينة . والمكان الذي يقال له سجن علي بن الحسين بجامع دمشق باطل لا أصل له. لكنه مع هذا لم يقم حد الله على من قتل الحسين رضي الله عنه، ولا انتصر له بل قتل أعوانه لإقامة ملكه
مواقف الناس من يزيد بن معاوية
ولا ريب أن " يزيد " تفاوت الناس فيه فطائفة تجعله كافرا ; بل تجعله هو وأباه كافرين ; بل يكفرون مع ذلك أبا بكر وعمر ويكفرون عثمان وجمهور المهاجرين والأنصار وهؤلاء الرافضة من أجهل خلق الله وأضلهم وأعظمهم كذبا على الله عز وجل ورسوله والصحابة والقرابة وغيرهم ; فكذبهم على يزيد مثل كذبهم على أبي بكر وعمر وعثمان ; بل كذبهم على يزيد أهون بكثير .
وطائفة تجعله من أئمة الهدى وخلفاء العدل وصالح المؤمنين وقد يجعله بعضهم من الصحابة وبعضهم يجعله نبيا . وهذا أيضا من أبين الجهل والضلال ; وأقبح الكذب والمحال بل كان ملكا من ملوك المسلمين له حسنات وسيئات والقول فيه كالقول في أمثاله من الملوك. وقد بسطنا القول في هذا في غير هذا الموضع .
نقد بعض الروايات المتعلقة بيزيد ومقتل الحسين رضي الله عنه ومكان دفنه
وأما الحسين - رضي الله عنه - فقتل بكربلاء قريب من الفرات ودفن جسده حيث قتل وحمل رأسه إلى قدام عبيد الله بن زياد بالكوفة هذا الذي رواه البخاري في صحيحه وغيره من الأئمة .
وأما حمله إلى الشام إلى يزيد ، فقد روي ذلك من وجوه منقطعة لم يثبت شيء منها بل في الروايات ما يدل على أنها من الكذب المختلق .
فإنه يذكر فيها أن " يزيد " جعل ينكت بالقضيب على ثناياه ; وأن بعض الصحابة الذين حضروه - كأنس بن مالك وأبي برزة - أنكر ذلك وهذا تلبيس .
فإن الذي جعل ينكت بالقضيب إنما كان عبيد الله بن زياد ; هكذا في الصحيح والمساند .
وإنما جعلوا مكان عبيد الله بن زياد " يزيد " .
وعبيد الله لا ريب أنه أمر بقتله وحمل الرأس إلى بين يديه .
ثم إن ابن زياد قتل بعد ذلك لأجل ذلك ومما يوضح ذلك أن الصحابة المذكورين كأنس وأبي برزة لم يكونوا بالشام وإنما كانوا بالعراق حينئذ وإنما الكذابون جهال بما يستدل به على كذبهم .
وأما حمله إلى مصر فباطل باتفاق الناس وقد اتفق العلماء كلهم على أن هذا المشهد الذي بقاهرة مصر الذي يقال له " مشهد الحسين " باطل ليس فيه رأس الحسين ولا شيء منه .(/3)
وإنما أحدث في أواخر دولة " بني عبيد الله بن القداح " الذين كانوا ملوكا بالديار المصرية مائتي عام إلى أن انقرضت دولتهم في أيام " نور الدين محمود " وكانوا يقولون إنهم من أولاد فاطمة ويدعون الشرف وأهل العلم بالنسب يقولون ليس لهم نسب صحيح.
فأما مذاهبهم وعقائدهم فكانت منكرة باتفاق أهل العلم بدين الإسلام وكانوا يظهرون التشيع وكان كثير من كبرائهم وأتباعهم يبطنون مذهب القرامطة الباطنية وهومن أخبث مذاهب أهل الأرض أفسد من اليهود والنصارى ولهذا كان عامة من انضم إليهم أهل الزندقة والنفاق والبدع المتفلسفة والمباحية والرافضة وأشباه هؤلاء ممن لا يستريب أهل العلم والإيمان في أنه ليس من أهل العلم والإيمان .
فأحدث هذا " المشهد " في المائة الخامسة نقل من عسقلان .
وعقيب ذلك بقليل انقرضت دولة الذين ابتدعوه بموت العاضد آخر ملوكهم .
والذي رجحه أهل العلم في موضع رأس الحسين بن علي - رضي الله عنهما - هوما ذكره الزبير بن بكار في كتاب " أنساب قريش " والزبير بن بكار هومن أعلم الناس وأوثقهم في مثل هذا ذكر أن الرأس حمل إلى المدينة النبوية ودفن هناك وهذا مناسب .
فإن هناك قبر أخيه الحسن وعم أبيه العباس وابنه علي وأمثالهم .
قال أبو الخطاب بن دحية - الذي كان يقال له : " ذوالنسبين بين دحية والحسين " في كتاب " العلم المشهور في فضل الأيام والشهور " - لما ذكر ما ذكره الزبير بن بكار عن محمد بن الحسن أنه قدم برأس الحسين وبنو أمية مجتمعون عند عمرو بن سعيد فسمعوا الصياح
فقالوا : ما هذا ؟
فقيل : نساء بني هاشم يبكين حين رأين رأس الحسين بن علي
قال : وأتى برأس الحسين بن علي فدخل به على عمرو فقال : والله لوددت أن أمير المؤمنين لم يبعث به إلي .
قال ابن دحية : فهذا الأثر يدل أن الرأس حمل إلى المدينة ولم يصح فيه سواه والزبير أعلم أهل النسب وأفضل العلماء بهذا السبب .
قال : وما ذكر من أنه في عسقلان في مشهد هناك فشيء باطل لا يقبله من معه أدنى مسكة من العقل والإدراك فإن بني أمية - مع ما أظهروه من القتل والعداوة والأحقاد - لا يتصور أن يبنوا على الرأس مشهدا للزيارة .
هذا ; وأما ما افتعله " بنوعبيد " في أيام إدبارهم وحلول بوارهم وتعجيل دمارهم ; في أيام الملقب " بالقاسم عيسى بن الظافر " وهو الذي عقد له بالخلافة وهو ابن خمس سنين وأيام لأنه ولد يوم الجمعة الحادي من المحرم سنة أربع وأربعين وخمسمائة وبويع له صبيحة قتل أبيه الظافر يوم الخميس سلخ المحرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة وله من العمر ما قدمنا فلا تجوز عقوده ولا عهوده .
وتوفي وله من العمر إحدى عشرة سنة وستة أشهر وأيام لأنه توفي لليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة فافتعل في أيامه بناء المشهد المحدث بالقاهرة ودخول الرأس مع المشهدي العسقلاني أمام الناس ليتوطن في قلوب العامة ما أورد من الأمور الظاهرة وذلك شيء افتعل قصدا أونصب غرضا وقضوا ما في نفوسهم لاستجلاب العامة عرضا والذي بناه " طلائع بن رزيك " الرافضي .
وقد ذكره جميع من ألف في مقتل الحسين أن الرأس المكرم ما غرب قط وهذا الذي ذكره أبو الخطاب بن دحية في أمر هذا المشهد وأنه مكذوب مفترى هوأمر متفق عليه عند أهل العلم.
والكلام في هذا الباب وأشباهه متسع فإنه بسبب مقتل عثمان ومقتل الحسين وأمثالهما جرت فتن كثيرة ; وأكاذيب وأهواء ; ووقع فيها طوائف من المتقدمين والمتأخرين وكذب على أمير المؤمنين عثمان وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنواع من الأكاذيب يكذب بعضها شيعتهم ونحوهم ويكذب بعضها مبغضوهم لا سيما بعد مقتل عثمان فإنه عظم الكذب والأهواء .
وقيل في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مقالات من الجانبين ; علي بريء منها .
وصارت البدع والأهواء والكذب تزداد حتى حدث أمور يطول شرحها , مثل ما ابتدعه كثير من المتأخرين يوم عاشورا فقوم يجعلونه مأتما يظهرون فيه النياحة والجزع وتعذيب النفوس وظلم البهائم وسب من مات من أولياء الله والكذب على أهل البيت وغير ذلك من المنكرات المنهي عنها بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق المسلمين .
والحسين رضي الله عنه أكرمه الله تعالى بالشهادة في هذا اليوم وأهان بذلك من قتله أو أعان على قتله أو رضي بقتله وله أسوة حسنة بمن سبقه من الشهداء .
فإنه وأخوه سيدا شباب أهل الجنة وكانا قد تربيا في عز الإسلام لم ينالا من الهجرة والجهاد والصبر على الأذى في الله ما ناله أهل بيته فأكرمهما الله تعالى بالشهادة تكميلا لكرامتهما ورفعا لدرجاتهما وقتله مصيبة عظيمة .
والله سبحانه قد شرع الاسترجاع عند المصيبة بقوله تعالى : ( وبشر الصابرين ، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) .(/4)
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من مسلم يصاب بمصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مصيبته واخلف له خيرا منها " .
ومن أحسن ما يذكر هنا أنه قد روى الإمام أحمد وابن ماجه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدمت فيحدث عندها استرجاعا كتب الله له مثلها يوم أصيب " هذا حديث رواه عن الحسين ابنته فاطمة التي شهدت مصرعه .
وقد علم أن المصيبة بالحسين تذكر مع تقادم العهد فكان في محاسن الإسلام أن بلغ هوهذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهوأنه كلما ذكرت هذه المصيبة يسترجع لها فيكون للإنسان من الأجر مثل الأجر يوم أصيب بها المسلمون .
وأما من فعل مع تقادم العهد بها ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم عند حدثان العهد بالمصيبة فعقوبته أشد مثل لطم الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية .
والآثار في ذلك متعددة .
وليس الكذب في هذا المشهد وحده ; بل المشاهد المضافة إلى الأنبياء وغيرهم كذب .
مثل القبر الذي يقال له " قبر نوح " قريب من بعلبك في سفح جبل لبنان .
ومثل القبر الذي في قبلة مسجد جامع دمشق الذي يقال له " قبر هود " فإنما هوقبر معاوية بن أبي سفيان .
ومثل القبر الذي في شرقي دمشق الذي يقال له " قبر أبي بن كعب " فإن أبيا لم يقدم دمشق باتفاق العلماء .
وكذلك ما يذكر في دمشق من قبور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وإنما توفين بالمدينة النبوية .
وكذلك ما يذكر في مصر من قبر " علي بن الحسين " أو" جعفر الصادق " أو نحو ذلك هو كذب باتفاق أهل العلم .
فإن علي بن الحسين وجعفرا الصادق إنما توفيا بالمدينة وقد قال عبد العزيز الكناني : - الحديث المعروف - ليس في قبور الأنبياء ما ثبت إلا قبر " نبينا " قال غيره : وقبر " الخليل " أيضا .
سبب الاضطراب في تحديد بعض أمكنة القبور
وسبب اضطراب أهل العلم بأمر القبور أن ضبط ذلك ليس من الدين فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أن تتخذ القبور مساجد فلما لم يكن معرفة ذلك من الدين لم يجب ضبطه .
فأما العلم الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم فإنه مضبوط ومحروس كما قال تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) .
وفي الصحاح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة " .
وأصل هذا الكذب هو الضلال والابتداع والشرك فإن الضلال ظنوا أن شد الرحال إلى هذه المشاهد ; والصلاة عندها والدعاء والنذر لها وتقبيلها واستلامها وغير ذلك من أعمال البر والدين حتى رأيت كتابا كبيرا قد صنفه بعض أئمة الرافضة " محمد بن النعمان " الملقب بالشيخ المفيد شيخ الملقب بالمرتضى وأبي جعفر الطوسي سماه " الحج إلى زيارة المشاهد " ذكر فيه من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وزيارة هذه المشاهد والحج إليها ما لم يذكر مثله في الحج إلى بيت الله الحرام .
وعامة ما ذكره من أوضح الكذب وأبين البهتان حتى أني رأيت في ذلك من الكذب والبهتان أكثر مما رأيته من الكذب في كثير من كتب اليهود والنصارى .
وهذا إنما ابتدعه وافتراه في الأصل قوم من المنافقين والزنادقة ; ليصدوا به الناس عن سبيل الله ، ويفسدوا عليهم دين الإسلام وابتدعوا لهم أصل الشرك المضاد لإخلاص الدين لله كما ذكره ابن عباس وغيره من السلف في قوله تعالى عن قوم نوح : ( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا ، وقد أضلوا كثيرا ) ، قالوا : هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم .
وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه وبسطه وبينه في أول كتابه في قصص الأنبياء وغيرها .
أول من ابتدع القول بعصمة علي والنص عليه
وأول من ابتدع القول بالعصمة لعلي وبالنص عليه في الخلافة هو رأس هؤلاء المنافقين " عبد الله بن سبأ " الذي كان يهوديا فأظهر الإسلام وأراد فساد دين الإسلام كما أفسد بولص دين النصارى وقد أراد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قتل هذا لما بلغه أنه يسب أبا بكر وعمر حتى هرب منه كما أن عليا حرق الغالية الذين ادعوا فيه الإلهية وقال في المفضلة : لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري.
فهؤلاء الضالون المفترون أتباع الزنادقة المنافقون يعطلون شعار الإسلام وقيام عموده وأعظمه سنن الهدى التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ; بمثل هذا الإفك والبهتان فلا يصلون جمعة ولا جماعة .
ومن يعتقد هذا فقد يسوي بين المشاهد والمساجد حتى يجعل العبادة كالصلاة والدعاء والقراءة والذكر وغير ذلك مشروعا عند المقابر كما هو مشروع في المساجد .(/5)
وربما فضل بحاله أو بقاله العبادة عند القبور والمشاهد على العبادة في بيوت الله التي هي المساجد حتى تجد أحدهم إذا أراد الاجتهاد في الدعاء والتوبة ونحو ذلك قصد قبر من يعظمه كشيخه أو غير شيخه فيجتهد عنده في الدعاء والتضرع والخشوع والرقة ما لا يفعله مثله في المساجد ولا في الأسحار ولا في سجوده لله الواحد القهار .
وقد آل الأمر بكثير من جهالهم إلى أن صاروا يدعون الموتى ويستغيثون بهم كما تستغيث النصارى بالمسيح وأمه .
فيطلبون من الأموات تفريج الكربات وتيسير الطلبات والنصر على الأعداء ورفع المصائب والبلاء وأمثال ذلك مما لا يقدر عليه إلا رب الأرض والسماء حتى أن أحدهم إذا أراد الحج لم يكن أكثر همه الفرض الذي فرضه الله عليه وهو حج بيت الله الحرام وهو شعار الحنيفية ملة إبراهيم إمام أهل دين الله بل يقصد المدينة .
ولا يقصد ما رغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة في مسجده حيث قال في الحديث الصحيح : "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام".
ولا يهتم بما أمر الله به من الصلاة والسلام على رسوله حيث كان ومن طاعة أمره واتباع سنته وتعزيره وتوقيره وهو أن يكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين بل أن يكون أحب إليه من نفسه .
بل يقصد من زيارة قبره أو قبر غيره ما لم يأمر الله به ورسوله ولا فعله أصحابه ولا استحسنه أئمة الدين.
وربما كان مقصوده بالحج من زيارة قبره أكثر من مقصوده بالحج .
وربما سوى بين القصدين .
وكل هذا ضلال عن الدين باتفاق المسلمين .
النهي عن السفر لزيارة قبر هو رأي جمهور العلماء
بل نفس السفر لزيارة قبر من القبور - قبر نبي أو غيره - منهي عنه عند جمهور العلماء حتى أنهم لا يجوزون قصد الصلاة فيه بناء على أنه سفر معصية لقوله الثابت في الصحيحين : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا " وهو أعلم الناس بمثل هذه المسألة .
وكل حديث يروى في زيارة القبر فهو ضعيف بل موضوع بل قد كره مالك وغيره من أئمة المدينة أن يقول القائل : زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم .
وإنما المسنون السلام عليه إذا أتى قبره صلى الله عليه وسلم وكما كان الصحابة والتابعون يفعلون إذا أتوا قبره ; كما هو مذكور في غير هذا الموضع .
ومن ذلك الطواف بغير الكعبة وقد اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الطواف إلا بالبيت المعمور فلا يجوز الطواف بصخرة بيت المقدس ولا بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم ولا بالقبة التي في جبل عرفات ولا غير ذلك .
وكذلك اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الاستلام ولا التقبيل إلا للركنين اليمانيين ; فالحجر الأسود يستلم ويقبل واليماني يستلم. وقد قيل: إنه يقبل وهو ضعيف .
وأما غير ذلك فلا يشرع استلامه ولا تقبيله ; كجوانب البيت والركنين الشاميين ; ومقام إبراهيم والصخرة والحجرة النبوية وسائر قبور الأنبياء والصالحين .
وهذا باب واسع قد نبهنا بما كتبناه على سبيل الهدى في هذا الأمر الفارق بين أهل التوحيد الحنفاء أهل ملة إبراهيم المتبعين لدين الله الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه وبين من لبس الحق بالباطل وشاب الحنيفية بالإشراك .
والله سبحانه وتعالى أعلم .
مجموع الفتاوى 4 / 498 فما بعدها بتصرف يسير(/6)
على بوابة الوحي
... المعجزة الخالدة
المقدمة :
أحمدك يا رب حمد مقر بربوبيتك ، معترف بألوهيتك ، متعبد بأسمائك ، أنت الأول فليس قبلك شئ ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شئ ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، وأنت الحي القيوم الذي لا يموت والإنس والجن يموتون ، أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد . وأشهد أن محمد عبدك ورسولك وصفيك وخليلك ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .
أما بعد ، فإن القرآن هو معجزة محمد عليه الصلاة والسلام التي بعث بها ، وهي معجزة دائمة باقية دوام الإسلام وبقاء الحق .
والقرآن أسمى وأجل من أن يمدحه بشر ؛ لأنه كلام رب البشر ، وأعلى وأعظم من أن يثني عليه مخلوق ؛ لأنه تنزيل من الخالق ، وإن أحسن الأوقات وأسعد اللحظات حين يعيش العبد مع آياته البينات تاليا متدبرا خاشعا .
وقد أحسن علماء الأمة في تفسير كتاب الله ، فمنهم من قصد اللغة في القرآن فشرح اللفظ وبسط القول فيه ، ومنهم من قصد الآثار وما ورد في الآية من أحاديث وأخبار فجمع وأوعى ، ومنهم من أراد مقاصد الكلام وفقه كتاب الله فاستنبط من الآية ما فتح به الفتاح العليم
والناس كل له مذهب في قراءته ومطالعته ؛ فما يعجب ذاك ؛ لأنه قد علم كل أناس مشربهم ، ثم أنهم لا يصبرون على طعام واحد ولا يدومون على حال واحدة ، فمهما كتب كاتب من القرآن وجد لما كتبه محبين ومعجبين ، وقد استعنت الله في كتابة ما أستطيعه من معان تظهر لي عند تلاوة كتابه لو لم أستفد من كتابتها إلا أنها كانت سببا لتدبيري القرآن والتأمل في حكمه ومواعظه وقصصه وأخباره وأحكامه وأمثاله لكان ذلك من أجل فائدة واحسن عائدة ، وقد حرصت على أن يكون ما كتبته وعظا لمن قرأه ولمن سمعه ، وتربية لمن طالعه وتأمله ، وجانبت الفنون التي ذكرها المفسرون في تفاسيرهم ؛ كالمسائل اللغوية والنحوية ، وفروع الفقه ، وجمع الآثار الوارد في الآية بل حاولت التسهيل والتقريب مع ربط أحوال الناس بالقرآن في كل أحوالهم وفي شؤون حياتهم ، وربما بسطت الكلام عن الآية كمعان ظهرت لي لا يجمل إغفالها .
ولك أن تعتبر ما كتبته من التفسير الوعظي الأدبي التربوي الذي يعتمد على الأسلوب الخطابي ليكون صالحا إن شاء الله للخطيب على المنبر ، وللوعظ في محاضراته ، وللمعلم في دروسه ، ولعل من عنده أدنى باللغة العربية أو أثاره من علم يفهم ما أكتبه ويعي ما أمليه ؛ فالمقصود بهذا الكلام جمهور الناس وإنما كانت الشريعة في عمومها للغالب والجمهور وجانبت الغريب والشاذ من الأقوال وإيراد الخلاف في تفسير الآية وحشر أقوال المفسرين ، وكل هذا مفروغ منه فيما كتبته الأمة من قبل ، فنحن بحاجة إلى إلهاب العاطفة ، واستثارة الهمة ، ومخاطبة الوجدان في زمن غلبت فيه المادة والخلود إلى الأرض ، والتهافت على الشهوات ، والوقوع في المنهيات ، والعزوف عن العلم ، والإعراض عن الفقه في الدين ، فكان من المهم توجيه الرسائل الخطابية الوعظية التربوية ، وقد تكون في ثنايا التفسير او في غصون شروح الحديث ؛ لأن الأسلوب العلمي التقريري قد تم والحمد لله وكثرت كتبه وتعددت مصنفاته .
وأسأل الله باسمه الأعظم الذي وأسأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب أن يقبله مني وأن ينفعني به ومن قرأه أو سمعه إن ربي على كل شيء قدير .
(وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ )
ليس من مواهبه الشعر ولا من طبيعته ، وليس عنده وقت لتهوك الشعراء ووله الأدباء ، وليس لديه خيال شارد يقتص سوارح الأفكار ، بل جاء برسالة جليلة ووفد بوحي عظيم ، وأن محمد صلى الله عليه وسلم ليس شاعر يضرب الأخماس بالأسداس ، ويهيم في أودية الخيال ، بل هو نبي معصوم ، كل كلمة منه دين ، وكل جملة منه سنة ؛ لأنه جاء لإصلاح العالم ، وليس لدغدغة العواطف وملاعبة المشاعر كما يفعل الشعراء ، فليس عنده فراغ في العمر لنظم بنيات الأفكار ، ولا لإطراب الجمهور ، والحق مقصده ، والإصلاح أمنيته : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ)
ولم يكن صلى الله عليه وسلم شاعر ؛ لأن الشعر لا ينبني على الحقائق ، ولا يقوم على البرهان ، فالشعر مزيج من الخيال والهيام والغرام والوله والكذب والزيف ، وصان الله رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك .(/1)
وما ينبغي لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يقول الشعر ، فما جاء لتسلية الناس ولا لمدح الملوك ، ووصف الديار والبكاء على الآثار ، بل أتي ـ بنفسي هو ـ لغسل الضمير من أوضار الشرك ، وتطهير الروح من دنس الوثينة ، وعمارة الكون بالإيمان ، فأنفاسه تعد ، وثواني عمره تحسب ؛ لأن مهمته لا تحمل التأخير فهو مبعوث من الخالق إلى الخلق برسالة محمدية عنوانها لا إله إلا الله محمد رسول الله . العاطفية والتسليات لهو تعطيل لهذه الرسالة عن أداء مهمتها وتفريغ لها من محتواها الجلي العامر .
إن مع محمد صلى الله عليه وسلم ما هو أجمل من الشعر ، وأبهى من الأدب ، وأحسن من الحسن ، ألا هو هذا الكتاب الباهر المعجز الذي أسكت الشعراء ، وأفحم الأدباء ، وأذهل العلماء ، وحير العرب العرباء :
إذا تغلغل فكر المرء في طرف
من حسنه غرقت فيه خواطره
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)
نحن نقص عليك فدع قصص غيرنا ، ولا تلفت إلى قصص سوانا ؛ لأن قصصنا هو الحق الصريح والعلم الصحيح ، قصص تسكب في النفس نهرا من النور ، وفي الضمير وابلا من الرشد ، قصص ليس كقصص البشر الذي يعتريه ضعف النقل ، أو شذوذ الغرابة ، أو جموح الخيال ، أو مخالفة المعهود ، ومناقضة سنة الكون .
يروى في بعض الآثار أن الصحابة قالوا : يا رسول الله ، لو قصصت علينا ، فأنزل الله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) وقالوا : لو حدثتنا فأنزل : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيث) وقالوا : لو وعظتنا ، فأنزل : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) .
إن في عالم المعرفة اليوم آلاف القصص بكل لغات البشر ، ولكنها عرضة للتحريف والتزييف والزيادة والنقص ، ثم إنها ليست قطعية في ثبوتها ولا دقيقة في نقلها مع ما يكتنفها من تهويل وتضخيم وتكلف وافتعال ، فبعضها لا حقيقة لها إلا في عقول مصنفيها ، وبعضها له أصل ولكنه أضيف إليه أضعافا مضاعفة من المبالغة حتى مسخ الأصل وشوه ، وبعضها ثابت لكن قدم بأسلوب فاتر وعرض بعرض مشلول .
أما هذه القصة وأمثالها من قصص القرآن فيكفيها سموا وجلالا ورفعة أن الله هو الذي يقصها على عبده المصطفى وحبيبه المجتبى صلى الله عليه وسلم .
وفي قوله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ ) تنبيه على الاتجاه إلى مصدر المعرفة ومنبع الحقيقة ، والمسلم يتلقى علمه وثقافته من هذا الكتاب الجليل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خافه تنزيل من حكيم حميد . وما أدري كيف يصلح شأن أمة تستورد قصصها من مروجي المكر ، وساسة الخداع ، وسماسرة الرذيلة ، وكيف يهتدي جيلها وهو يطاله زبد تلك الأقلام الكافرة بربها ، العاقة لفطرتها ، المتنكرة لمبادئها ؟ !
ولن نقص عليك قصصا فحسب بل أحسن القصص ، ويرى بعض أهل العلم أن أحسن القصص هنا هي قصص القرآن كله ، فقصصه بالنسبة لعامة القصص أحسن قصص وأوثقها وأجملها وأكملها .
ومن أهل العلم من قال : بل المقصود بأحسن القصص قصة يوسف ؛ لأنها مذكورة في السياق المقدم لها بهذا الاحتفال والتنبيه .
وإن قصة يوسف أحسن قصة بالنسبة لما يماثلها في غرضها ومعناها ، بل كل قصة في القرآن أحسن وأجل من مثيلاتها في غير القرآن ، وقصة يوسف أحسن قصة ، لأن فيها مقاصد الهداية ومعاني الإصلاح وأسرار الفلاح ما يفوق الوصف .
فقصص الناس إما قصة بطولية تهيج النفس الغضبية على الاعتداء وطلب الثأر وحب الانتقام بلا ضوابط ولا أصول ، وإما قصة غرامية تشعل الغريزة وتحرك كوامن الشهوة بلا رادع من تقوى ، ولا وازع من عفاف ، ولا حجاب من صيانة ، وإما قصة غابرة بلا ثقة من ناقل ، ولا اطمئنان إلى صدق ، ولا مراعاة للحقيقة .
قصة يوسف فيها دروس تربوية ترتقي بالنفس في سلم الفضيلة ، وتصعد بالروح في معارج الكمال .
في القصة كيف تكون خاتمة من آمن بالله ، وصدق معه ، وأخلص له ، وصبر على أمره ، ودعا إليه ، وجاهد في سبيله . وفي القصة نهاية المكر ، وعاقبة الكيد المحرم ، والحسد المؤذي ، وفيها انتظار الفرج وحسن الظن بالله ، والفأل الحسن والاستكانة إلى موعوده ، والرضا بأمره ، والسكون إلى اختياره ، والاطمئنان إلى جميل صنعه .
وفيها جلال التقوى ، وجمال العفة ، وحسن مراقبة الله ، وإيثار طاعته والانتصار على النفس الأمارة بالهوى الجارف والشباب المجنح .
في قصة يوسف رؤيا تفسر ، وأحلام تعبر النبي صلي الله عليه وسلم وأمثال تضرب ، وعظات تطرق ودروس تلقى .
في القصة قميص يلطخ بدم ، وقميص يقد من دبر ، وقميص يلقى على الأعمى فيرتد بصيرا .(/2)
في القصة رجل يتهم بامرأة ، ورجل يتهم بسرقة ، وذئب يتهم بقتل ، وفيها طفل يصارع الحياة ، وإخوة يغلبهم الحسد ، وأب يبرح به حب ابنه ، وبئر يلقى فيها غلام ، وقافلة تبيع العبيد ، وملك يغفل أمور القصر ، وامرأة يغفلها هواها ، وزنزانة تستقبل داعية ، وشيخ كبير يذهب البكاء ببصره ، وقافلة تعبر الصحراء لطلب المعاش ، وصواع الملك يختفي ، ومحاكمة وشهود ، ومفاجآت ليست في الحسبان .
كل موقف يختم بحبكة ، وكل مشهد ينتهي بقفلة ، وكل رحلة فيها عبرة .
وفي القصة آهات ودموع ، وتفجع وشكوى ، واتهامات وحقائق ، ومكائد ودسائس ، وإهباطات وانتصارات ، وفيها وحشة غائب ، وفرحة لقاء ، وحزن وفرقة ، وسرور اجتماع ، وإسمال فقر ، وهالة ملك ، ونفس أمارة ، ونفس مطمئنة ، نبوة وسلطان ، وحرية ورق ، ونساء وخدم ، حاشية ومستشارون ، وشباب وشيوخ ، بيع وشراء .
قميص من عالم اللباس ، وامرأة في دنيا النساء ، وذئب وسبع بقرات في ارض الحيوان ، وصواع من قسم الأواني .
طفل يقفده أهله ، ويكيده إخوانه ، ويبكيه أبوه ، ثم يباع في سوق الرقيق ، ثم يدخل الخدمة في القصر ، ثم يعيش النكبة في السجن ، ثم ينعم بالملك ، ثم يحضى بجمع الشمل وتمام الأمر وكمال الأمنية ، ثم يموت .
المشاهد تلاحقك أينما اتجهت ، الصور تملأ ناظريك حيثما التفت ، يثب قلبك مع كل مشهد ، ويقفز مع كل حركة .
(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)
كل ما سبق توطئه وتمهيد للقصة ، وتهيئة لها ولفت انتباه قبل إيرادها وسردها .
وتبدأ القصة الشائقة الماتعة الرائعة بلا حواش ثقيلة وبلا تفاصيل مملة .
تبدأ ويوسف في عهد الصبا وسن الطفولة ، يستفيق ذات يوم من نومه وقد رأى رؤيا عجيبة ليقصها على أبيه النبي يعقوب عليه السلام .
رأى يوسف أحد عشر نجما مع الشمس والقمر يسجدان له . وعرف يعقوب التأويل ؛ لأن النبوة في قلبه ، ولم يشرح ليوسف الرؤيا لمصلحة رءاها ، بل وجد أن الأهم من ذلك وصيته له بكتمها وعدم إفشائها وترك نشرها على إخواته ؛ لأنها سوف تثير عليه حسدا دفينا وعداوة متربصة وانتقاما مؤذيا .
وفي الآية لطف الأب مع ابنه وحنانه عليه ، وتوجيهه إلى ما ينفعه ، وتحذيره عما يسوءه ، ونجابة يوسف وذكائه مع صغره ، وعرض الرؤيا على العالم إذا كانت من المبشرات ، وترك تفسير الرؤيا إذا كان في ذلك مصلحة ، وكتم السر إذا حصل بإفشائه ضرر وعليه الأثر : (( استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان ، فإن كل ذي نعمة محسود )) ، والحذر من الأقران ، وستر النعم إذا خشي من إظهارها عدوان عليها ، وأن الشمس والقمر والنجوم في المنام عظماء أو علماء أو زعماء ، وفيه تفسير الرؤيا قد تتأخر سنوات عديدة وأزمانا مديدة ثم تقع بإذن الله .
وإنما قال رايتهم لي ساجدين ، بالجمع للعقلاء ، ولم يقل ساجدات ؛ لأنه لما نسب إليها السجود وهو وصف لمن يعقل ألحقها بالعقلاء وهذه رؤيا ليست عادية ، بل تنبئ عن مستقبل زاهر ليوسف ، وسوف يكون له مع التاريخ صولة ومع الدهر دولة ، ومع الأيام جولة ، سوف بصل إلى تحقيق هذه الرؤيا لكن عبر طريق ملؤه الشوك والضنى والمشقة والبلوى والدموع والشكوى والفراق والفجيعة والمكر والكيد والحبس والقيد والأذى والتشويه والامتحان والصبر كما قال أبو الطيب :
جزى الله المسير إليك خيرا
وإن ترك المطايا كالمزاد
سوف تقع هذه الرؤيا كفلق الصبح ، ولكنها لن تقدم بين عشية وضحاها وعلى طبق من ذهب ، لأن المنازل العالية والمراتب الجليلة لا يوصل إليها إلا بجهود شاقة وتكاليف باهظة وتضحيات هائلة ؛ لأن السنة اقتضت ذلك والحكمة نصت على ذلك ليكون العطاء لذيذا ، والهبة غالية ، والثمن ضخما راقيا .
لا يدرك المجد إلا سيد فطن
بما يشق على السادات فعال
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والإقدام قتال(/3)
وفي الوحي المقدس : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) لا والله لا يصل واصل إلى الولاية الكبرى والسعادة العظمى والعبودية الحقة إلا بجهد مبذول ، وعرق مسفوح ، ودم مسفوك وعرض يمزقه الحسد ، وسمعه يشوهها الجناة ، وقلب يبلغ الحنجرة من التهديد والوعيد ، وكبد حرى تشوى على جمر الانتظار ، وقلب مفجوع بويلات المواقف ، وأهوال تشيب لها رؤوس الولدان ، وحتى يختطف النصر بجدارة ، ويؤخذ الكتاب بقوة ، وينال المجد بتضحية ، وتقطف الثمرة باستحقاق ، وتعطى الجائزة بتأهيل ، فآدم يأكل الشجرة ويهبط ويندم ويتوب وينكسر ثم يجتبى ويعلو ويكرم ، ونوح ينوح من عقوق الابن ، وشقاق المرأة ، ومحاربة قومه ، وموسى يتجرع الغصص ، ويقف تلك المواقف التي يهتز لها الكيان ويرتجف من هولها الجنان مع تهم وإيذاء ، وصد ومنازلة ، وحروب وإعراض وإرجاف .
وإبراهيم يعيش حياته جهادا في سبيل الله مع تكذيب والده ، والأمر بذبح ابنه ، وإعراض قومه ، ووضعه في النار وملابسة الشدائد ، والمرور بالنكبات والمصائب .
وعيسى يذوق طعم الافتراء المر ، والأذى المعتمد ، والفقر المضنى .
ثم تختم قائمة الأنبياء وصحيفة الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فتجمع له هذه النكايات جميعا ليكون أعلى الكل كعبا ، وأثبتهم قدما ، وأسعدهم حظا ، فيموت أبوه وهو حمل ، ثم يتبعه جده وهو طفل ، ثم يلحقه عمه في زمن الضعف ، ثم تتلوه خديجة زمن النصر ، ثم يطرد من مكة طردا ، ويشرد تشريدا مع الضرب بالحجارة ، ووضع السلى على الرأس ، مع قاموس من الشتائم بوصفه بالجنون وقتل الأصحاب ، وموت الأبناء ، وقذف الزوجة ، ومصاولة اليهود ، وتكذيب النصارى ، ومحاربة المشركين ، وتربص المنافقين ، وصلف الأعراب ، وتيه الملوك ، وبطر الأغنياء ، مع مراراة الفقر ، وجدب المعيشة ، وعوز الحاجة ، وحرارة الجوع ، ومعاناة قلة ذات اليد ، فالمرض عليه يضاعف ، فهو يوعك كما يوعك رجلان منا ، شج وجهه وكسرت ثنيته وجرح في جسمه ، ثم كان الله معه في كل ذلك ففاز بالزلفى ونال حسنى العقبى ، بل وصل أشرف المقامات وأجل الرتب .
ويوسف هنا تبدأ معاناته من هذه الرؤيا ، ويستقبل رحلة طويلة ، وشفرا قاصدا بهذه الرؤيا ، لتتحول الأحلام إلى حقائق في حياته ، وتصبح الرؤيا قضايا مصيرية في مستقبله .
ونواصل مع يوسف سجل حياته ، ودفتر عمره وذكرياته ؛ لنرى ماذا سوف يقع ، وما هي النهاية .
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
هذا عقد بين المسلم وربه ، وميثاق بين العبد ومولاه ، أن يصرف العبد كل عبادته الله ـ عز وجل ـ ولا يشرك معه غيره ، وأن لا يستعين إلا بربه جل في علاه ، فمن العبادة والمسألة والطلب ، ومن الله العون والتأييد ، وهذه الآية ما سأل )) وهي ملخص دعوة الأنبياء وموجز رسالة الرسل عليهم السلام .
ومعاني القرآن مجموعة في هذه الآية ، فالله أوجب على الخلق ، وهو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وأوجب على نفسه لهم حقا إذا فعلوا ذلك وهو لا يعذبهم .
والعبادة التي يريدها الله من الخلق هي : فعل كل ما أوجب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال الظاهرة والخفية ، واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، والاستعانة طلب العون من الله في كل أمر لا يستطيع عليه المخلوق ولا يقدر عليه إلا الخالق ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لابن عباس : (( إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله )) .
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وثيقة مقدسة يعلنها المسلم في كل ركعة من صلاته فريضة كانت أو نافلة ليذكر نفسه دائما بهذا العهد العظيم ، الذي من أجله خلق الإنسان ، ومن أجله أرسلت الرسل ونزلت الكتب ، وقام سوق الجنة وسوق النار ، ومد الصراط ، ونصب الميزان ، وبعث الخلق من قبورهم ، وحصل ما في صدورهم ، وعرضت عليهم صحفهم ، وأقيم عليهم شاهد من أنفسهم .
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) هي قضية الخلاف بين المسلمين والمشركين ، وهي معاني لا إله إلا الله ، ومن أجلها وقع القتال بين أولياء الله واعدائه ، وحصلت الحروب بين حزب الشيطان ، فما بعث الرسل عليهم السلام إلا من أجل أن يعبد الله وحده لا شريك له ، وما سألت دماء الشهداء إلا ليوحد الله ويفرد بالعبادة ويختص بالتوجيه دونما سواه جل في علاه .(/4)
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) سعادة أبدية ونجاة سرمدية بها يتم الصلاح وينال الفلاح وتسهل الأمور وتدفع الشرور ،ولا ينال رضي الله ورحمته وعفوه ومغفرته وعونه وهدايته وتسديده إلا بإياك نعبد وإياك نستعين . ولا تحصل النعم ولا تدفع النقم ولا يحصن من المتالف ويسلم من الصوارف ويحفظ من الكوارث والفتن والمحن إلا بإياك نعبد وإياك نستعين، وهي عاصمة لمن قام بحقوقها من الزلل والتخبط العقدي والهوج الفكري والضلال العلمي والسفه الأخلاقي والانحطاط السلوكي والشطط العلمي؛ لأن في إياك نعبد وإياك نستعين عناية ربانية ورعاية إلهية، وولاية إيمانية، وبركة القرآن.
وهي أعظم فتح يفتح به علي الإنسان، فيكرم ويجتبي من عالم الطين، ويصطفي من دنيا الانحلال والتمزق والاضطراب والضياع والانحراف والذل والخنوع والخيبة ، فيرتقي هذا الإنسان بإياك نعبد وإياك نستعين مكرماً في معرج القبول عند ربه. وفي سلم الوصول إلي مولاه ، وفي درجات الفوز إلي خالقه ، وهذا أعظم مجد وأجل رفعة وأحسن منزلة وأشرف رتبة، ويهون معها المجد الدنيوي الموقت المنقطع الزائل الفاني من منصب أو جاه أو مال أو ولد أو شهرة، فيصبح المسلم بهذه الكلمة عزيز الجانب، قوي الركن، عامر القلب، مطمئن النفس، منشرح الصدر،منبلج الخاطر نير البصيرة، لأنه اتصل بالله، ودخل في نسب العبودية، ولبس تاج الخدمة للأحد الصمد، وحمل راية الولاية، وتشرف بالانضواء تحت علم )إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) صلة بين الأرض والسماء، وبين الضعف والقوة، والفقر والغني، والبقاء والفناء، وصلة بين العبد الضعيف الفاني وبين الله القوي الغني الحي القيوم، فيها يحرر الإنسان من الرق للطاغوت، والعبودية للوثن والاستسلام للشهوات، والوقوع في براثن الغواية، والسقوط في مهالك الردى، وبها يغسل الإنسان من رجس الشرك ونجاسة الجاهلية، وخبث الكفر وأدران الفسق، وأوساخ المعصية ، وبها يطهر ضمير العبد من الخواء ، وقلبه من النفاق، وعمله من الرياء، ولسانه من الكذب ، وعينه من الخيانة، ونفسه من الظلم، فيصبح بإياك نعبد وإياك نستعين عبداً لله مخلصاً مبراً من الشرك نقياً من الوثنية ، معصوماً من نزغات الشيطان محفوظاً من فتنة الشهوات والشبهات.
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)
إن العبد أحوج ما يكون لطلب الهداية من ربه؛ لأن العبد وحده لا يستطيع أن يهتدي ولا يملك مفتاح الهداية ولا يعرف طريقها ولا يجيد هذا ولا يميز بين الحق والباطل والرشد والغي ما لم يهده ربه سواء السبيل فالذي يملك الهداية هو الله وحده لا هادي لمن اضل ولا مضل لمن هدى. وهو يهدي من يشاء رحمة وكرماً . ويضل من يشاء قضاء مبرماً سبق علمه أنه لا يهتدي. فوجب علي العبد أن يهلج بهذا الدعاء في كل ركعة من صلاته لتصبح المسألة حية في ضميره، سارية في دمه ، ماثلة نصب عينه، ليتذكر دائماً نعمة الهداية إلي صراط الله المستقيم، وهي أجل نعمة تسدى للعبد ، وأعظم مكرمة تمنح لهذا المخلوق، والهداية معرفة الحق الذي بعث به محمد صلي الله عليه وسلم. والعمل به والموت عليه والبذل لأجله والتضحية في سبيله والجهاد لدوام هذا الحق وخلوده وانتصاره وعلوه وعزته.
والصراط المستقيم هو طريق الله الواضح المبين الموصل إلي رضوانه وطاعته ومغفرته وجنته، وهو طريق بينه الله ودل عليه الرسل، وشهدت باستقامة الكتب، ووافقت علي السير فيه الفطرة، ومضي عليه موكب الأولياء، وضوعت به دماء الشهداء، وهو طريق واحد لا ثاني له. فريد لا مثيل له متميز لا شبيه له، وهو مستقيم أقرب موصل إلي الفوز والفلاح والنجاة، واسهل معبر إلي الأمن والسكينة والاطمئنان ، وايسر جسر إلي الرضوان والتوفيق، كل المسالك سواه مضطربة، كل الطرق ما عداه معوجة ، كل السبل غيره متلوية، وهذا الصراط المستقيم لا يهدي إليه إلا ولا يدل عليه إلا الرسل وأتباعهم ، ولا يسلكه إلا من سبقت له الحسنى، ولا يحيد عنه إلا من حقت عليه الغواية ، وكتبت عليه اللعنة ، وحاقت به الخطيئة ، وأوبقة شيطانه ونفسه وهواه.
وهذا الصراط المستقيم مجمل وتفصيل ، اما مجمله فهداية عامة لكل من سار علي هذا الصراط ومضي في هذا الطريق يريد النجاة من غضب الله ولفوز برضوانه، ومفصل هذا الصراط استقامة لا التفات فيها، وقيام تفاصيل الدين وشعائر الملة، وبذل النفس والنفيس لإعلاء كلمة الله وصرف العمر كله في العبودية، وإنفاق ساعات الزمن وأنفاس الوقت في مراسيم الطاعة صلاة وصياماً وزكاة وحجاً وجهاداً وإنابة ومحبة وخشية وتوبة ورهبة ورغبة، مع المحافظة علي سنن المعصوم، والتحلي بأخلاق القدوة الحسنة والتأسي بصفات الإمام الأعظم صلي الله عليه وسلم .(/5)
وهذا الصراط المستقيم محطاته ومعالمه ومنازله موصوفة في كتاب الله العظيم وسنة النبي الكريم. بل إن الرسالة كلها والشريعة أجمعها شرح لهذا الصراط المستقيم، والوحي اوله وآخره توضيح وبسط لهذا الصراط المستقيم، والله جل في علاه علي صراط مستقيم ، والرسول النبي الأمي يهدي إلي صراط مستقيم. والقرآن الكتاب المعجزة يهدي إلي الصراط المستقيم.
فجملة أهدنا الصراط المستقيم كلية من كليات الشريعة، وقاعدة من قواعد الإيمان، واصل من أصول الدين، ولهذه الآية وإخواتها عظم قدر سورة الفاتحة، فكانت من السبع المثاني، والشافية والكافية وأم القرآن، وافتتح بها المصحف، وفرضت في الصلاة ، وجمعت فيها الملة، وشفت بإذن الله من الأمراض.
فكم من لديغ للشيطان ذاق ترياقها فتعافي ، وكم من جريح من أسهم الغواية عب من تميزها فتشافي، اللهم أهدنا صراطك المستقيم حتى نعبره إليك لنلقاك وأنت راض عنا، محسن إلينا، لطيف بنا، إنك تهدي من تشاء غلي صراط مستقيم.
قوله: (إِنَّ شَانِئَكَ)
هجوم أدبي كاسح، وتهديه رباني ماحق ساحق، لأعداء محمد صلي الله عليه وسلم وخصومه ومبغضيه، وهذا ذب عن شخصه الكريم ، ودفاع عن مقامه العظيم، فإذا كان المدافع الحامي والناصر هو الله فلتقر عينه صلي الله عليه وسلم بهذا النصر والدفاع والولاية، وشانئه صلي الله عليه وسلم لا يكون إلا كافراً مارداً حقيراً خسيساً؛ لأنه ما أبغضه إلا بعد ما أصابه بخذلان ، وكتب عليه الخسران، وأراد له الهوان،وإلا فإنسان مثل الرسول صلي الله عليه وسلم يوجب النقل والعقل حبه، إذ لو كان الطهر جسداً كان جسده صلي الله عليه وسلم ولو كان النبل والسمو صورة لكان صورته بأبي هو وأمي، فهو منتهي الفضيلة، وغاية الخصال الجميلة، والمستحق للوسيلة ، وصاحب الدرجة العالية الرفيعة الجليلة، فكان الواجب علي من عنده ذرة رأي، وبصيص من نور ، إذا كان يحترم عقله أن يحب الإمام العظيم لما جمع الله فيه من الفضائل ، ولما حازه من مناقب، ولكن واحسرتاه، علي تلك العقول العفنة، والنفوس المتدثرة بجلباب الخزي، القابعة في سراديب البغي، الراتعة في مهاوي الرذيلة ، كيف عادته مع كماله البشري، ومقامه السامي، فكأنه المقصود بقول الشاعر:
أعادي علي ما يوجب الحب للفتي
وأهدأ والأفكار في تجول
وقول الآخر:
إذا محاسني الآتي أدل بها
كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
( هُوَ الْأَبْتَرُ)
أي مقطوع البركة والنفع والأثر ، فكل من عاداك لا خير فيه ولا منفعة من وراءه، أما أنت فأنت المبارك أينما كنت، اليمن معك، السعادة موكبك ، الرضا راحلتك، البركة تحفك، السكينة تغشاك، الرحمة تتنزل عليك، الهدي حيثما كنت، النور أينما يممت، وأعداؤه صلي الله عليه وسلم قالوا: إنه أبتر لا نسل له ولا ولد، فجاء الجواب مرغماً لتلك الأنوف ، واضعاً لتلك الرؤوس، محبطاً لتلك النفوس، فكأنه يقول لهم: كيف يكون أبتر وقد أصلح الله علي يديه الأمم، وهدي بنوره الشعوب، وأخرج برسالته الناس من الظلمات إلي النور؟
كيف يكون أبتر والعالم أشرق علي أنواره، والكون استيقظ علي دعوته، والدنيا استبشرت بقدومه؟
كيف يكون أبتر والمساجد تردد بالوحي الذي جاء به، والحديث الذي تكلم به، والمآذن تعلن مبادئه، والمنابر تذيع تعاليمه، والجامعات تدرس وثيقته الربانية؟
كيف يكون ابتر والخلفاء الراشدون نهلوا من علمه، والشهداء اقتبسوا من شجاعته، والعلماء شربوا من معين نبوته، والأولياء استضاؤا بنور ولايته؟
كيف يكون أبتر وقد طبق ميراثه المعمورة، وهزت دعوته الأرض، ودخلت كلمته كل بيت، فذكره مرفوع، وفضله غير مدفوع، ووزره موضوع.
كيف يكون أبتر وكلما قرأ قارئ كتاب الله فلمحمد صلي الله عليه وسلم مثل أجره ؛ لأنه هو الذي دل علي علي الخير ن وكلما صليلا مصل فله مثل اجر صلاته؛ لأنه هو الذي علمنا الصلاة؛ (( صلوا كما رأيتموني اصلي)) وكلما حج حاج فله صلي الله عليه وسلم مثل حجه: لأنه عرفنا تلك المناسك: خذو عني مناسككم)).
بل الأبتر الذي عاداه وحاربه وهجر سنته وأعرض عن هداه.
فهذا الذي ثقطع الله من الأرض بركته، وعطل نفعه، واطفا نوره وطبع علي قلبه، وشتت شمله، وهتك ستره، فكلامه لغو من القول ، وزور من الحديث وعمله رجس مردود عليه، واثره فاسد، وسعيه في تباب.
وانظر لكل من ناصب هذا الرسول الأكرم صلي الله عليه وسلم العداء، أو أعرض عن شرعه أو شيء مما بعث به كيف يصيبه من الخذلان والمقت والسخط والهوان بقدر إعراضه ومحاربته وعدائه.
فالملحد مقلوب الإرادة ، مطموس البصيرة، مخذول تائه منبوذ، والمبتدع زائغ ضال منحرف، والفاسق مظلم القلب في حجب المعصية، وفي أقبية الانحراف.
ولك أن تري سموه صلي الله عليه وسلم وعلو قدره ومن تبعه يوم تري الناس وحملة حديثه وآثاره وهم في مجد خالد من الآثر الطيب، والذكر الحسن، والثناء العاطر من حسن المصير، وجميل المنقلب، وطيب الإقامة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.(/6)
ثم انظر للفلاسفة المعرضين عن السنة مع ما هم فيه من الشبه والقلق والحيرة والاضطراب والندم والأسف علي تصرم العمر في الضياع وذهاب الزمن في اللغو وشتات القلب في أودية الأوهام.
فهذا الإمام المعصوم صلي الله عليه وسلم معه النجاة ، وسنته سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها هلكن وهو الذي يدور معه الحق حيثما دار، وكلامه حجة علي كل متكلم من البشر من بعده، وليس لأحد من الناس حجة علي كلامه، وكلنا راد ومردود عليه إلا هو صلي الله عليه وسلم : لأنه لا ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحي. زكي الله سمعه وبصره وقلبه، ونفي عنه الضلال وحصنه من الغي، وسلمه من الهوي، وحماه من الزيغ ، وصانه من الانحراف وعصمة من الفتنة، فكل قلب لم يبصر نوره فهو قلب مغضوب عليه، وكل أرض لم تشرق عليها شمسه فهي أرض مشؤومة، وكل نفس لم ترحب بهداه فهي نفس ملعونة ، فهو المعصوم من الخطأ ، المبرأ من العيب ، السليم من الحيف ، النقي من الدنس ، المنزه عن موارد التهم . على قوله توزن الأقوال ، وعلى فعله تقاس الأفعال ، وعلى حاله تعرض الأحوال .
وقد قصد الكفار بقولهم : إنه أبتر ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه لا ولد له ، فإذا مات انقطع عقبه ، والأبتر عند العرب هو من لا نسل له ولا عقب ، فرد الله عليهم وأخبر أن من عاداه هو الابتر حقيقة .
وفي هذه السورة ثلاثة آيات : فالأولى عن الله عز وجل وعطائه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والثانية للرسول صلى الله عليه وسلم ، والواجب عليه في مقابلة هذا العطاء وهي الصلاة والنحر ، والثالثة لأعدائه صلى الله عليه وسلم وهو البتر والقطع من الخير والبركة والنفع .
فالأولى عطية والثانية واجب عليه ، والثالثة دفاع عنه .
وفي السورة تكريم الله لرسول صلى الله عليه وسلم ، وإثبات الكوثر له كما صحت به الأحاديث أيضا ، والدفاع عنه وجواز سب الكفار وشتمه وزجره ليرتدع .
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ)
حسبك الله يكفيك من كل ما أهمك فيحفظك في الأزمات ، ويرعاك في الملمات ، ويحميك في المدلهمات ، فلا تخش ولا تخف ولا تحزن ولا تقلق . فمن تخاف ونحن معك ، ومن تخشى ولدينا نصرك ، ومن ترهب وعندنا عزك فيكفيك : أن حسبك الله .
حسبك الله فهو ناصرك على كل عدو ، ومظهرك على كل خصم ، ومؤيدك في كل أمر ، يعطيك إذا سألت ، ويغفر لك إذا استغفرت ، ويزيدك إذا شكرت ، ويذكرك إذا ذكرت ، وينصرك إذا حاربت ، ويوفقك إذا حكمت .
حسبك الله فيمنحك العز بلا عشيرة ، والغنى بلا مال ، والحفظ بلا حرس ، فأنت المظفر لأن الله حسبك ، وأنت المنصور لأن الله حسبك ، وأنت الموفق لأن الله حسبك ، فلا تخاف من عين حاسد ولا من كيد كائد ، ولا من مكر ماكر ، ولا من خبث كافر ، ولا من حيلة فاجر ؛ لأن الله حسبك إذا سمعت صولة الباطل ، ودعاية الشر ، وجلبة الخصوم ، ووعيد اليهود ، وتربص المنافقين ، وشماتة الحاسدين ، فاثبت لأن حسبك الله ، إذا ولى الزمان ، وجفا الإخوان وأعرض القريب ، وشمت العدو ، وضعفت النفس ، وأبطأ الفرج ، فاثبت لأن حسبك الله . إذا داهمتك المصائب ، ونازلتك الخطوب ، وحفت بك المكاره ، وأحاطت بك الكوارث فاثبت لأن حسبك الله ، لا تلتفت إلى أحد من الناس ، ولا تدعو أحد من البشر ولا تتجه لكائن من كان غير الله ؛ لأن حسبك الله .
إذا ألم بك مرض ، وأرهقك دين ، وأحل بك فقر ، أو عرضت لك حاجة فلا تحزن ؛ لأن حسبك الله . إذا أبطأ النصر ، وتأخر الفتح ، واشتد الكرب ، وثقل الحمل ، وادلهم الخطب فلا تحزن ؛ لأن حسبك الله ، أنت محفوظ لأنك بأعيننا ، وأنت عبدنا المجتبى ونبينا المصطفى .
حسبك الله يا محمد ، فهو الذي شرح لك صدرك ، ووضع عنك وزرك ، ورفع ذكرك ، وأصلح أمرك ، وأعلى قدرك ، أغناك من الفقر ، وهداك من الضلالة ، أمنك من الخوف ، أعزك بعد الذلة ، أيدك بعد الضعف .
حسبك الله يا محمد ، فهو الذي حفظك في الغار ، ونصرك في بدر ، وثبتك في أحد ، وفتح لك مكة ، وأعزك في كل موطن ، وأعانك في كل موقف .
( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)
هذه الكلمة الجميلة الشجاعة قالها صلى الله عليه وسلم وهو في الغار مع صاحبه أبي بكر الصديق وقد أحاط بهم الكفار قالها قوية في حزم ، صادقة في عزم ، صارمة في جزم : لا تحزن إن الله معنا ، فما دام الله معنا فلم الحزن ، ولم الخوف ولم القلق ؟ اسكن ، اثبت ، اهدأ ، اطمئن ؛ لأن الله معنا .
لا نغلب ، لا نهزم ، لا نضل ، لا نضيع ، لا نيأس ، لا نقنط ؛ لأن الله معنا ، النصر حليفنا ، الفرج رفيقنا ، الفتح صاحبنا ، الفوز غايتنا ، الفلاح نهايتنا ؛ لأن الله معنا .
لو وقفت الدنيا كل الدنيا في وجوهنا ، لو حاربنا البشر كل البشر ، ونازلنا كل من على وجه الأرض فلا تحزن لأن الله معنا .
من أقوى منا قلبا ، من أهدى منا نهجا ، من أجل منا مبدأ ، من أحسن منا مسيرة ، من أرفع منا قدرا ، لأن الله معنا .(/7)
ما اضعف عدونا ، ما أذل خصمنا ، ما أحقر من حاربنا ، ما أجبن من قاتلنا لأن الله معنا .
لن نقصد بشرا ، لن نلتجئ إلى عبد ، لن ندعو إنسانا ، لن نخاف مخلوقا لأن الله معنا .
نحن أقوى عدة ، وأمضى سلاحا ، وأثبت جنابا ، وأقوم نهجا ؛ لأن الله معنا .
نحن الأكثرون الأكرمون الأعلون الأعزون المنصورون ؛ لأن الله معنا .
يا أبا بكر اهجر همك ، وأرح غمك ، واطرد حزنك ، وأزل يأسك ؛ لأن الله معنا .
يا أبا بكر ، ارفع رأسك ، وهدئ من روعك ، وأرح قلبك لأن الله معنا .
يا أبا بكر ، أبشر بالفوز ، وانتظر النصر وترقب الفتح ؛ لأن الله معنا .
غدا سوف تعلو رسالتنا ، وتظهر دعوتنا ، وتسمع كلمتنا ؛ لأن الله معنا .
غدا سوف نسمع أهل الأرض روعة الأذان ، وكلام الرحمن ، ونغمة القرآن ؛ لأن الله معنا .
غدا سوف نخرج الإنسانية ، ونحرر البشرية من عبودية الوثنية ؛ لأن الله معنا .
هذه كلمات قالها رسولنا صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق وهما في الغار وقد أحاط بهما الكفار من كل ناحية ، وطوقهم الموت من كل مكان ، وأغلقت الأبواب إلا باب واحد ، وقطعت الحبال إلا حبل واحد ، وعز الصديق والقريب ، وغاب الصاحب والحبيب ، وعجزت الأسرة والقبيلة ، وبقي الواحد الأحد الفرد الصمد ، حينها قالها عليه الصلاة والسلام : ( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) .
لا تحزن إن الله معنا ، إذا معنا الركن الذي لا يضام ، والقوة التي لا ترام ، والعزة التي لا تغلب ، وما دام الله معنا فممن نخاف وممن تخشى وممن ترهب ؟ فهو القوي العزيز ، وهم الضعفاء الأذلاء ، ما دام الله معنا فلا تأسف على قلة من عدد ، أو عوز من عتاد ، أو فقر من مال ، أو تخاذل من أنصار ، إن الله معنا وكفى ، معنا بحفظه ورعايته ، بقوته وجبرته ، بكفايته وعنايته ، بدفاعه وبطشه ، فلا تحزن إذا تلاها الخادم يهدد الناس بقوته سيده من ملوك الأرض فيخافون ويذعنون ، فكيف برب الناس ملك الناس إله الناس ، أ\إن أعظم كلمة في الخطب وأشرف جملة في الكرب هي هذه الكلمة الصادقة الساطعة : لا تحزن إن الله معنا .
وسر هذه الكلمة في مدلولها وعظمتها في معناها يوم تذكر معية ـ الله عز وجل ـ وهو الذي بيده مقاليد الحكم ، ورقاب العباد ، ومقادير الخلق ، وأرزق الكائنات ، وهذه الكلمة في زمانها الذي قيلت فيه وفي جوها المخيف المرعب وفي مكانها المزلزل المذهل لها طعم آخر وقصة أخرى ، لقد جاءت في لحظة طوق فيها على المعصوم وصاحبه في الغار ، وأغلق الباب وأحاط الأعداء بكل جانب ، وسلوا سيوف الموت ، يريدون أشرف مهجة خلقت ، وأزكى نفس وجدت ، وأطهر روح خلقت ، فما الحيلة ؟
الحيلة رفع ملف القضية وأوراق الفاجعة وسجل الكارثة إلى من على العرش استوى ، ليقضي فيها بما يشاء ، ولكن صاحب الرسالة ذا القلب المشرق الفياض أرسل لصاحبه أبي بكر رسالة رقيقة هادئة باسمه حانيه نصها: لا تحزن إن الله معنا، فصار الحزن سروراً والهم فرجاً، والغم راحة ، والكرب فرجاً، والهزيمة نصراً عزيزاً.
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت علي
خير البرية لم تنسج ولم تحم
عناية الله أغنت من مضاعفة
من الدروع وعن عال من الأطم
وكلمة ( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، يحتاجها المسلم كل ىن: فإذا تكاثف همك وكثر غمك وتضاعف حزنك فقل لقبلك: ) لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)وإذا ركبك الدين، واضناك الفقر، وشواك العدم، فقل لقبلك: ) لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، وإذا هزتك الأزمان، وطوقتك الحوادث، وحلت بك الكربات، فقل لقلبك: إن الله معنا.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
والله إنك لعظيم الأخلاق ، كريم السجايا، مهذب الطبع، نقي الفطرة، طيب الخصال، عظيم الخلال.
والله إنك جم الحياء، حي العاطفة، جميل السيرة، طاهر السريرة، نقي الضمير، عفيف الجيب، سليم الصدر.
والله إنك قمة الفضائل، ومنبع الجلود ومطلع الخير وغاية الإحسان، ونهاية ما يصبو إليه الإنسان، وذروة ما تتوق إليه الأنفس وتمح إليه الأرواح.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) يظلمونك ، يؤذونك فتغفر، يشتمومك فتحلم ، يسبونك فتعفو، يجفونك فتصفح، تعطي من منعك، تصل من قطعك، تعفو عمن ظلمك.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) .. يحبك الملك والملوك، والصغير والكبير ، والرجل والمرأة ، والغني والفقير، والقريب والبعيد؛ لأنك ملكت القلوب بعطفك، وأسرت الأرواح بفضلك، وطوقت الأعناق بكرمك، وسبيت الأنفس بجودك، وكسبت الناس بعطفك.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) هذبك الوحي، وعلمك جبريل ، وهداك ربك، وصاحبتك العناية، ورافقتك الرعاية، وحالفك التوفيق.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) البسمة علي محياك، البشر علي طلعتك، النور علي جبينك، الحب في قلبك، الجود في يدك، البركة فيك،والفوز معك.
من زار بابك لم تبرح جوارحه
تروي أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة
والقلب عن جابر والسمع عن حسن(/8)
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) لا تكذب ولو أن السيف علي راسك، ولا تخون ولو حزنت الدنيا، ولا تغدر ولو أعطيت الملك؛ لأنك نبي معصوم ، وإمام قدوة، وإسوة حسنة.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) صادق ولو قابلتك المنايا ، شجاع ولو قاتلتك الأسود، جواد ولو سئلت كل ما تملك، فأنت المثال الراقي والرمز السامي، وأنت الصفوة المجتبي، والنبي المختار، والرسول المصطفي.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) سبقت العالم ديانة وأمانة وصيانة ورزانة، وتفوقت علي الكل علماً وحلماً وكرماً وشجاعة وتضحية، وعلوت علي الجميع صبراً وثباتاً وعلماً وعملاً وصلاحاً واستقامة.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) الطهر أنت، والصدق ما تقوله، والحق ما تدعو إليه، والعدل ما تحكم به، والهدي ما أنت عليه، لو كان الصلاح رجلاً لكان في ثباتك، ولو كان البر إنساناً لكان في هيكلك، ولو أن الفضيلة بشر لحل فيك.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) آذوك ـ بأبي أنت ـ وشتموك ـ فديتك ـ وأخرجوك وقاتلوك وكذبوك ـ بنفسي أنت ـ ثم ناديت: اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، جرحوك وأدموا عقبيك، وشجوا رأسك، وكسروا ثنيتك، وقتلوا أصحابك، ثم قلت: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
إن كنت احببيت بعد الله مثلك في
بدو وحضر ومن عرب ومن عجم
فلا اشتفي ناظري من منظر حسن
ولا تفوه بالقول السديد فمي
(مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ)
لست مجنوناً كما قال أعداؤك ، لكن عندك دواء المجانين، فالمجنون الطائش السفيه التافه من خالفك وعصاك وحاربك وجفاك، والمخذول الأحمق من عصاك ، والتائه المأفون من نادك، والمغبون الخاسر من اختار سبيلاً غير سبيلك.
(مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) وكيف يكون ذلك وأنت أكملهم عقلاً، وأتمهم رشداً ، واسدهم رأياً، وأعظمهم حكمة، ويهدي العقل، وينير الطريق.
لست مجنوناً لأنك علي هدى من الله، وعلي نور من ربك، وعلي ثقة من منهجك، وعلي بينة من دينك، وعلي رشد من دعوتك، صانك الله من الجنون، بل عندك كل العقل، وأكمل الرشد، وأتم الرأي، وأحسن البصيرة، فأنت الذي يهتدي بك العقلاء، ويستضيء بحكمتك الحكماء، ويقتدي بك الراشدون المهديون.
إذا نحن أولجنا وأنت إمامنا
كفى بالمطايا طيب ذكراك هاديا
كذب وأفتري من وصفك بالجنون وقد ملأت الأرض حكمة، والدنيا رشداً ، والعالم عدلاً، فأين يوجد الرشد إلا عندك، وأين تكون الحكمة إلا لديك، وأين تحل البركة إلا معك.
أنت أعقل العقلاء ، وأفضل النبلاء، وأجل الحكماء، كيف يكون مجنوناً وقد قدم للبشرية أحسن تراث علي وجه الأرض، وأهدي للعالم أجل تركة عرفها الناس، وأعطي الكون أبرك رسالة عرفها العقلاء.
أخوك عيسي دعا ميتا فقام له
وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
أنت يا محمد مهنتك الهداية ، ووظيفتك الدلالة، وعملك الإصلاح ، أنت تهدي إلي صراط مستقيم؛ لأنك تزيل الشبهات، وتطرد الغواية، وتذهب الضلالة، وتمحو الباطل، وتشيد الحق، والعدل والخير.
( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، فمن أراد السعادة فليتعبك، ومن أحب الفلاح فليقتد بك، ومن رغب في النجاة فليهتد بهداك.
أحسن صلاة صلاتك، وأتم صيام صيامك، وأكمل حج حجتك، وأزكي صدقة صدقتك، وأعظم ذكر ذكرك لربك.
( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) من ركب سفينة هدايتك نجا، من دخل دار دعوتك أمن، من تمسك بحبل رسالتك سلم، فمن تبعك ما ذل وما ضل وما قل، وكيف يذل والعز معك، وكيف يضل وكل الهداية لديك، وكيف يزيل والرشد كله عندك، وكيف يقل والله مؤيدك وناصرك وحافظك.
( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) لأنك وافقت الفطرة، وجئت بحنيفية سمحة، وشريعة غراء، وملة كاملة، ودين تام.
هديت العقل من الزيغ ، وطهرت القلب من الربية، وغسلت الضمير من الخيانة، وأخرجت الأمة من الظلام، وحررت البشر من الطاغوت.
( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فكلامك هدى، وحالك وفعلك هدى، ومذهبك هدى، فأنت الهادي إلي الله علي طريق الخير لكل البشر، الداعي إلي الجنة.
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك)
أد الرسالة كاملة كما سمعتها كاملة، بلغها تامة مثلما حملتها تامة، لا تنقص حرفاً ولا تحذف كلمة، ولا تغفل جملة.
بلغ ما أنزل إليك فهي أمانة في عنقك سوف تسأل عنها، فبلغها بنصها وروحها ومضمونها.
بلغ ما أنزل إليك من الوحي العظيم، والهدي المستقيم، والشريعة المطهرة، فأنت مبلغ فحسب؛ لا تزد في الرسالة حرفاً، لا تضف من عندك علي المتن، لا تدخل شيئاً في المضمون ، لأنك مرسل فحسب، مبعوث ليس إلا، مكلف ببلاغ، مسؤول من مهمة، مثلما سمعت بلغ، ومثلما حملت فأد.
بلغ ما أنزل إليك، عرف من عرف وأنكر من أنكر، استجاب من أستجاب وأعرض من أعرض، وأقبل من أقبل.(/9)
بلغ ما أنزل إليك، بلغ الكل، وادع الجميع، وانصح الكبراء والمستضعفين،السادة والعبيد، الإنس والجن، الرجال والنساء، الأغنياء والفقراء، الكبار والصغار.
بلغ ما أنزل إليك، فلا ترهب الأعداء، ولا تخف الخصوم، ولا تخش الكفار، ولا يهولك سيف مصلت، أو رمح مشرع، أو منية كالحة، أو موت عابس، أو جيش مدجج، أو حركة حامية.
بلغ ما أنزل إليك فلا يغر بك مال، ولا يعجبك منصب، ولا يزدهيك جاه، ولا تغرك دنيا، ولا يخدعك متاع، ولا يردك تحرج.
وشب طفل الهدي المحبوب متشحا
بالخير مترزراً بالنور والنار
هي كفه شعلة تهدي وفي دمه
عقيدة تتحدى كل جبار
وفي ملامحه وعد وفي يده
عزائم صاغها من قدرة الباري
( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ )
إذا لم تؤد الرسالة كاملة فكأنك ما فعلت شيئاً، وإن لم توصلها تامة فكأنك ما قمت بها حق القيام، ولو كتمت منها مقالة أو عطلت منها نصاً أو أهمت منها عبارة فما بلغت رسالة الله ما أديت أمانة الله، نريد منك أن تبلغ رسالتنا للناس كما ألقيت عليك، وكما نزل بها جبريل ، وكما وعاها قلبك.
( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس)
بلغ الرسالة كاملة ولا تخف أحداً،وكيف تخاف من أحد ونحن معك نحفظك ونمنعك ونحميك ونذب عنك، لن يقتلك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يطفئ نورك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يعطل مسيرتك بشر لأن الله يعصمك من الناس، وقل كلمتك صريحة شجاعة قوية، لأن الله يعصمك من الناس، اشرح دعوتك، وابسط رسالتك، وأرفع صوتك، وأعلن منهجك، وما عليك؛ لأن الله يعصمك من الناس.
كل قوة في الأرض لن تستطيع إليك، كل جبروت في الدنيا لا يهزمك، كل طاغية في المعمورة لن يقهرك، لأن الله يعصمك من الناس.
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)
أما شرحنا لك صدرك، فصار وسيعاً فسيحاً لا ضيق فيه ولا حرج ولا هم ولا غم ولا حزن. بل ملأناه لك نوراً وسروراً وحبوراً.
أما شرحنا لك صدرك ملأناه حكمه ورحمه وإيماناً وبراً وإحساناً.
شرحنا لك صدرك، فوسعت أخلاق الناس، وعفوت عن تقصيرهم وصفحت عن خطئهم، وسترت عيوبهم، وحملت علي سفيههم، وأعرضت عن جاهلهم، ورحمت ضعيفهم.
شرحنا لك صدرك فكنت كالغيث جوداً ، وكالبحر كرماً، وكالنسيم لطفاً، تعطي السائل، وتمنح الراغب ، وتكرم القاصد ، وتجود علي المؤمل.
شرحنا لك صدرك فصار برداً وسلاماً يطفئ الكلمة الجافية ، ويبرد العبارة الجارحة، فإذا ليعفو والحلم والصفح والغفران.
شرحنا لك صدرك فصبرت على جفاء الأعراب، ونيل السفهاء وعجرفة الجبابرة، وتطاول التافهين، وإعراض المتكبرين، ومقت الحسدة، وسهام الشامتين، وتهجم القرابة.
شرحنا لك صدرك فكنت بساماً في الأزمات، ضحاكاً في الملمات، مسروراً وأنت في عين العاصفة، مطمئناً وأنت في جفن الردى، تداهمك وأنت ساكن، وتلتفت بك الحوادث وأنت ثابت؛ لأنك مشروح الصدر ، عامر الفؤاد، حتى النفس.
شرحنا لك صدرك فلم تكن فظاً قاسياً غليظاً جافياً، بل كنت رحمة وسلاماً وبراً وحناناً ولطفاً ، فالحلم يطلب منك، والجود يتعلم من سيرتك، والعفو يؤخذ من ديوانك.
(وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ)
حططنا عنك خطاياك، وغسلناك من آثار الذنوب.
فأنت مغفور لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وأنت الآن نقي طاهر من كل مكان وخطيئة، ذنبك مغفور، وسعيك مشكور، وعملك مبرور، وأنت في كل شأن من شؤونك مأجور ن هنيئاً لك هذا الغفران، وكوبي لك هذا الفوز، وقرة عين لك هذا الفلاح.
(الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ)
أثقل هذا الوزر كاهلك، واضني ظهرك حتى كاد ينقضه ويوهنه، فالآن أذهبنا هذا الثقل ن وأزلنا هذه التبعة، وأعفيناك من هذا الخطب، فاسعد بهذه البشرى، وتقبل هذا العطاء، وافرح بهذا التفضيل.
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)
لا اذكر إلا تذكر معي، يقرن بذكري في الأذان والصلاة والخطب والمواعظ ، فهل تريد شرفاً فوق هذا؟
يذكرك كل مصل، وكل مسبح، وكل حاج ، وكل خطيب، فهل تطلب مجداً أعلي من هذا؟
أنت مذكور في التوراة والإنجيل، منوه باسمك في الصحف الأولي والدواوين السابقة، اسمك يشاد به في النوادي، ويتلي في الحواضر والبوادي. ويمدح في المحافل، ويكرر في المجامع.
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) فصار في الأرض مسير الشمس، وعبر القارات عبور الريح، وسافر في الدنيا سفر الضوء، فكل مدينة تدري بك، وكل بلد يسمع بك، وكل قرية تسأل عنك.
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) فصرت حديث الركب، وقصة السمر، وخبر المجالس، وقضية القضايا، والنبأ العظيم في الحياة.
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) فما نسي مع الأيام، وما محي مع الأعوام، وما شطب من قائمة الخلود، وما نسخ من ديوان التاريخ، وما أغفل العظماء ذاتك، فمن ارتفع ذكره من العباد عندنا فبسبب اتباعك، ومن حفظ اسمه فبسبب الاقتداء بك.(/10)
ذهبت آثار الدول وبقيت آثارك، ومحيت آثار السلاطين وبقيت مآثرك، وزالت أمجاد الملوك وخلد مجدك، فليس في البشر اشرح منك صدراً، ولا أرفع منك ذكراً، ولا أعظم منك قدراً، ولا أحسن منك آثراً، ولا أجمل منك سيراً.
إذا تشهد متشهد ذكرك معنا، وإذا تهجد سماك معنا، وإذا خطب خطيب نوه بك معنا، فاحمد ربك لأننا رفعنا لك ذكرك.
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)
إذا ضاقت عليك السبل ، وبارت الحيل، وتقطعت الحبال، وضاق الحال فأعلم ان الفرج قريب، وأن اليسر حاصل.
لا تحزن فإن بعد الفقر غني، وبعد المرض شفاء، وبعد البلوى عافية، وبعد الضيق سعة، وبعد الشدة فرجاً.
سوف يصلك اليسر أنت وأتباعك فترزقون وتنصرون.
إنها سنة ثابتة وقاعدة مضطردة ان مع كل عسر يسراًن بعد الليل فجر صادق، وخلف جبل المشقة سهل الراحة، وراء صحراء الضيق روضة خضراء من السعة، إذا اشتدت الحبل انقطع، وإذا اكتمل الخطب ارتفع، سوف يصل الغائب ويشفي المريض، ويعافي المبتلي، ويفك المحبوس، ويغتني الفقير، ويشبع الجائع، ويروى الظمآن، ويسر المهموم ، وسيجعل الله بعد عسر يسراً.
وهذه السورة نزلت عليه صلي الله عليه وسلم وهو في حال من الضيق وتكالب الأعداء، واجتماع الخصوم، وإعراض الناس، وقلة الناصر وتعاظم المكر، وكثرة الكيد، فكان لابد له من عزاء وسلوة وتطمين وترويح، فنزلت هذه الكلمات المباركات له ولأتباعه إلى يوم القيامة صادقاً ن وبشري طيبة، وجائزة متقلبة:
اشتدي أزمة تنفرجي
قد آذن ليلك بالبلج
(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ)
إذا انتهيت من أعمالك الدنيوية وأشغالك الشخصية، فانصب لنا بالعبادة وتوجه لنا بالطاعة، واكثر من ذكرنا ودعائنا.
إذا فرغت من الناس وقضاياهم وأسئلتهم فقم في محراب عظمتنا، وانطرح علي بابنا، واقرب منا، ومرغ جبينك لنا، لتلقي الفوز والفلاح والأمن والنجاة.
إذا فرغت من الأهل والولد والقريب والصاحب فجعل لك وقتاً معنا ، ارفع فيه سؤالك ، اعرض فيه حاجتك، أكثر فيه دعاءك، ادعنا وسبحنا واطلبنا واستغفرنا واشكرنا واذكرنا.
إذا فرغت من الأحكام والقضاء والموعظة والفتيا والتعليم والإرشاد والجهاد والنصيحة فتعال لتزداد من قوتنا قوة، ومن مددنا عوناً، ومن رزقنا زاداً، ومن فتحنا بصيرة وذخيرة.
نحن أولي بك منك، وأحق من غيرنا، ويا له من توجيه له ولأتباعه عليه الصلاة والسلام في صرف الفراغ في العبودية، وملأ هذا الزمن بذكره وشكره جل في علاه ليحصل المقصود من الرضا والسكينة والفرج والعاقبة الحسنة، وصلاح الحال والمال، وعمارة الدنيا والآخرة.
(وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)
إلى ربك وحده فارغب ن ولا ترغب من غيره شيئاً، وإليه وحده فاتجه وعليه فتوكل، وفيه فأمل ، فإن الرغبة والرهبة لا تكون إلا إليه؛ لأنه صاحب الثواب لمن أطاعهن والعقاب لمن عصاه.
والرغائب الجليلة لا يملكها إلا الله، فعنده مفاتح الخزائن، ومقاليد الأمور، فهو أهل ان يدعي وان يسأل وأن يؤمل وأن يقصد جل في علاه:
إليك وإلا لا تشد الركائب
ومنك وإلا فالمؤمل خائب
وفيك وإلا فالغرام مضيع
وعنك وإلا فالمحدث كاذب
وقد تنزلت هذه الكلمات على رسولنا صلي الله عليه وسلم في فترات عصيبة، وفي لحظات حاسمة عاشها صلي الله عليه وسلم وتجرع غصصها وحسا مرراتها.
(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)
لقد فتحنا لك يا محمد فتحاً بيناً ظاهراً مباركاً، فتحنا لك القلوب فغرست بها الإيمان، وفتحنا لك الضمائر فبينت فيها الفضيلة، وفتحنا لك الصدور فرفعت فيها الحق، وفتحنا لك البلدان فنشرت بدعوتك القلوب الغلف والعيون العمي، والآذان الصم، واسمعنا رسالتك الثقلينز
فتحنا لك فتدفق العلم النافع من لسانك ،وفاض الهدى المبارك من قلبك، وسح الجود من يمينك.
وفتحنا لك فحزت الغنائم وقسمتها، وجمعت الأرزاق ووزعتها، وحصلت على الأموال وأنفقتها.
وفتحنا لك باب العلم وأنت الأمي الذي ما قرا وما كتب فصار العلماء ينهلون من بحار علمك؛ ) وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).
وفتحنا لك القلاع والمدن والقرى، فهيمن دينك، وارتفعت رايتك، وانتصرت دعوتك، فأنت مفتوح عليك في كل خير وبر وإحسان ونصر وتوفيق.
وفتحنا لك خيبر فسدت اليهود، وأهنت إخوان الخنازير والقرود، ورفعت لك البنود، وأطاعتك الجنود.
وفتحنا لك مكة، فرفعت بها كلمة الحق، وبنيت بها صرح الهدى، وطهرتها من رجس الأوثان ، ونجاسة الأصنام، وعبث الأزلام.
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ )
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) فلا تشرك معه في عبوديته أحداً، ولا تدعو من دونه إلهاً ، بل تصرف له عبادتك، وتخلص له طاعتك، وتوحد قصدك له ومسألتك ودعائك. فإذا سألت فاسال الله . وإذا استعنت فأستعن بالله، فلا يستحق العبادة إلا هو، ولا يكشف الضر غيره، ولا يجيب دعوة المضطر سواه.(/11)
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) هو أحق من شكر، وأعظم من ذكر، وأراف من ملك، وأجود من أعطي ، وأحلم من قدر، وأقوي من أخذ،وأجل من قصد، وأكرم من ابتغي، فلا إله يدعي سواه، ولا رب يطاع غيره، فالواجب أن يعبد وأن يوحد وأن يخاف وأن يطاع وان يرهب وأن يخشي وأن يحب.
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) المتفرد بالجمال والكمال والجلال خلق الخلق ليعبدوه، وأوجد الإنس والجن ليوحدوه، وأنشأ البرية ليطيعوه، فمن أطاعه فاز برضوانه، ومن أحبه نال قربه، ومن خافه أمن عذاببه، ومن عظمه أكرمه، ومن عصاه أدبه، ومن حاربه خذله،يذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويذل من كفر ، له الحكم وإليه ترجعون.
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ )فأخلص له العبادة؛ لأنه لا يقبل الشرك، وفوض غليه الأمر؛ لأنه الكافي القوي ، واسأله فهو الغني،وخف عذابه لأنه شديد، وأحذر أخذه لأنه أليم، ولا تتعدي حدوده لأنه يغار، ولا تحارب أولياءه لأنه ينتقم، واستغفره فهو واسع المغفرة، وأطمع من فضله لأنه كريم، ولذ بجنابه فهناك الأمن،وأدم ذكره لتنل محبته، والزم شكره لتحظي بالمزيد، وعظم شعائره لتفوز بولايته. وحارب أعداءه ليخلصك بنصره.
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك)
هذه أعظم قضية في العالم، واكبر مسألة في الدنيا، وهي مسألة أن تعلم وتقر وتعترف أنه لا إله إلا الله فلا تعبد غيره، ولا توحد سواه.
إن الخلق خلقوا ليعلموا أن لا إله إلا الله، وأن الكتب نزلت لتثبت لا إله إلا الله ،وإن الرسل بعثت لتدعو إلي لا إله إلا الله، فقبل أن تعلم اعلم أنه لا إله الله، وقبل أن تدعو حقق لا إله إلا الله، وقبل أن تأمر وتنهي صحح لا إله إلا الله.
إن بداية الطريق لمن أراد الحياة الطيبة والعيش السعيد والخاتمة الحسنة والخلود في الجنة لهي هذه الكلمة الرائدة الخالدة بكل ما تحتويه من معني أراده الله عز وجل يوم فرض على العباد تحقيقها. ولابد لهذه الكلمة من اعتقاد جازم لا يخالطه شك، وحب صادق لا يكدره سخط، وصدق في قولها لا يمازجه كذب، وعمل بمقتضاها لا يناقضه مخالفة، ودعوة إليها لا يصاحبها فتور، وسلامة من كل ما يضادها أو يعارضها من شرك أو رياء أو بدعة ليكون قائلها أسعد الناس بها في الدنيا والآخرة.
لقد نزلت هذه الآية على الرسول النبي صلي الله عليه وعلي آله وسلم وهو أول داعية ليكون القدوة للناس، والأسود للبشر في معرفة سر هذه الرسالة الخاتمة، ومعرفة مقصدها ومرادها.
إن موجزها تعريف الناس بكلمة لا إله إلا الله، وكل قول وعمل واعتقاد في الدين فإنه من هذه الكلمة انبثق، وإن هذه العبارة شعار فهي أصول الأصول، وبوابة الديانة، وطريق الفلاح، ولأن الله صاحب الكمال والجلال والجمال والعظمة فحقنا أن نوحده بلا إله إلا الله، ولأننا أهل الذنب والخطيئة والعيب والتقصير فعلينا بالاستغفار ؛ ولهذا قال بعدها: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك)، إن الله هو الخالق الرزاق وهو حقيق بالألوهية والربوبية، وإن العبد مخلوق مرزوق مطعوم محتاج، فحقه أن يستغفره فقط من سيئاته وخطاياه.
إن بين لا إله إلا الله واستغفر صلة، كما بين الرب القوي الغني الماجد الواحد الجواد، وبين العبد الضعيف الفقير المحتاج الفاني ، كل فضل وكل نعمة وكل عطية فمن الله، فواجب علينا أن نقر له بلا إله إلا الله، وكل خلل وزلل وعلل فمنا فحق علينا قول: استغفر الله.
إن العبد بين نعمة وذنب؛ ولهذا جاء في الحديث: (( وأبوء بنعمتك على وابوء بذنبي)). فالنعمة من الله الذي لا إله إلا هو. والذنب من العبد منجاته في التوحيد والاستغفار.
إن التوحيد حق الله لا ينازعه أحد فيه؛ لأنه واحد في ربوبيته واسمائه وصفاته وأفعاله، والاستغفار نجاة للعبد الذي غر شيطانه وخدعته نفسه وغلبه هواه واشغلته دنياه فوقع في المعصية.
والآن لك أن تعرف سر الاقتران اللطيف بين التوحيد والاستغفار ، وهذا وارد في عدة مواطن في القرآن مثل: ) فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ) ومثل: (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، وعند أبي يعلي في الحديث : (( أن الشيطان يقول: أهلكت العباد بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار.
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)(/12)
تبدأ قصة النبوة بكلمة أقرأ يوم نزلت على رسولنا صلي الله عليه وسلم في الغار، ومن بداية اقرأ بدأنا، بدأ تاريخنا ومجدنا وحياتنا، ومن تاريخ نزول اقرأ بدأت مسيرتنا المقدسة، وتغير بها وجه الأرض، وصفحة الأيام ، ومعالم الدنيا فتلك اللحظة هي أسعد لحظة في حياتنا نحن المسلمين، وهي اللحظة الفاصلة بين الظلام والنور، والكفر والإيمان، والجهل والعلم، واختيار اقرأ من بين قاموس الألفاظ وديوان اللغة له سر عجيب ونبأ غريب، فلم يكن مكان اقرأ غيرها من الكلمات لا أكتب ولا ادع ولا تكلم ولا قل ولا اخطب، إنما اقرأ ، ويالها من كلمة جلية جميلة أصيلة.
اقرأ يا محمد قبل أن تدعو، واطلب العلم قبل أن تعمل (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك)
إن اقرأ منهج حياة ورسالة حية لكل حى تطالبه بتحصيل العلم النافع وطلب المعرفة، وأن يطرد الجهل عن نفسه وأمته.
وأين يقرأ ـ بأبي هو وأمي ـ وهو ما تعلم على شيخ ولا رأي كتالاً ولا حمل قلماً؟
يقرأ أولاً باسم ربه كلام ربه، فمصدره الأول الوحي يتلوه غضاً طرياً، ويقرأ في كتاب الكون المفتوح ليري أسطر الحكمة تخطها أقلام القدرة ، فيقرأ ي الشمس الساطع، والنجوم الامعة، والجدول والغدير والتل الرابية ، والحديقة والصحراء، والأرض والسماء:
وكتابي الفضاء أقرأ فيه
صوراً ما قرأتها في كتاب
وكلمة اقرأ تلك تدل على فضل العلم وعلو مكانته، وأنه أول منازل الشرف والرفعة، وطريق السيادة والمجد، وبوابة السعادة والنجاح.
وكل سعادة وفلاح فسببها العلم؛ فرسالته صلي الله عليه وسلم علمية عملية؛ لأنه بعث بالعم النافع والعمل الصالح: (( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث)).
فاليهود عندهم علم بلا عمل، فغضب عليهم، والنصارى لديهم عمل بلا علم، فضلوا، فأمرنا بالاستعاذة من سبيل الطائفتين: ) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ).
وكلمة اقرأ رسالة موحية لها دلالات وأبعاد واسرار، فهي إبقاء للهمة لتطلب الهدي من مظانه، وتغوص في فهم الحياة، وتبحث عن الحقيقة ، وتكتشف أسرار الكون، وتطالع الآيات البينات في الإنسان والحيوان والجماد، وتسافر مع البحث العميق والدراسة المتأنية والعمق المعرفي الذي يكشف عظمة الخالق وقدرة البارى وحكمة الصانع جل في علاه.
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً )
أنتم الأمة الوسط، وأنتم وسط بين اليهود الذين قتلوا الأنبياء والنصارى الذين عبدوهم، إذ إنكم أطعتموهم واتبعتموهم، وأنتم وسط في الزمان، ما جئتم في أول الزمان فلا تجارب ولا تاريخ، وما جئتم في ذيل الدهر، بل سبقكم أمم وجاء بعدكم أجيال، فاعتبرتم بالسابقين ، وأفدتم اللاحقين.
ووسط أنتم في المكان، فلستم في زوايا الأرض ولا في أطراف الدنيا، بل كنتم في قلب المعمورة، فدينكم شع من أم القرى لتوزعوا الهداية على الناس، وأنتم وسط في الديانة فلم تعبدوا كل شئ من حجر وشجر ومدر كما فعل المشركون، ولم ترفضوا العبودية جملة وتفصيلاً كما فعلت بعض الأمم، بل عبدتم الواحد القهار ، ووحدتم العزيز الغفار.
ووسط أنتم في المعيشة ، فلم تفعلوا فعل اليهود في البذخ والإسراف والانهماك في اللذائذ وتصيد الشهوات، ولم تفعلوا فعل النصارى في الرهبانية والانقطاع والتبتل وعذاب النفس، بل أعطيتم الجسم حظه والروح حقها.
ووسط أنتم في الفنون فلم تفعلوا ما فعل فارس، إذ كانت حياتهم هوايات وتسليات ، ولا فعل الروم إذ جردوا حياتهم من كل ممتع بهيج، بل لكم الجمال المباح والسحر الحلال من الأقوال والأفعال ، والنافع المفيد من مناهج الحياة.
وأنتم وسط في الأخلاق ، فلم تفعلوا فعل الأمم العدوانية المتوحشة الذين بغوا وطغوا وفتكوا، ولم تنهجوا نهج من استسلم لخصمه وذل لعدوه وقال: (( من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ))، بل عندكم صفح وحلم عمن يستحق، وتأديب وقصاص لمن يعتدي ، والكل له قدر.
وأنتم وسط في باب العلم فلم تجعلوا العلم مقصوداً لذاته كما فعل اليونان، ولم تهملوه وتضيعوه فعل الأمم البليدة التي غلب عليها الغباء؛ بل جعلتم العلم وسيلة إلى كل فضيلة ، وطريقاً إلى صلاح الدنيا والآخرة والفلاح في الدارين.
ووسط أنتم في العبادة فما أعرضتم عن النسك فعل الفجرة الجفاة، وما شققتم على نفوسكم وعذبتم أرواحكم فعل أهل الصوامع الغلاة؛ بل اقتصدتم في العبادة مع الحسن، واعتدلتم في النسك مع الجودة.(/13)
ووسط أنتم في التفكير فما هممتم مع الخيال فعل الشعراء الذين هم في أودية الوهم هائمون ، وما جمدتم جمود الفلاسفة الذين قتلوا العواطف وعطلوا المشاعر حتى جفت نفوسهم وقست قلوبهم ، بل أنتم مع الحقيقة سائرون ، فجمعتم بين القوة والرحمة، والواقعية والجمال، والنص والمعني، فأنتم وسط بين طرفين ، وحسنة بين سيئتين ، ونجاة بين مهلكين ، وقد وفق الله أهل السنة والجماعة ما بين قدرية يقولون إن الأمر مستأنف ولم يسبق قضاء من الله والجبرية الذين قالوا لا مشيئة للعبد وهو مجبور على كل فعل يفعله من طاعة ومصية، فأهل السنة اثبتوا علم الله وقضاءه ومشيئته وأثبتوا للعبد مشيئة ، تحت مشيئة الله.
وهم وسط في باب الوعد الوعيد بين الخوارج الذين كفروا بالكبيرة والمرجئة الذين قالوا لا تضر المعاصي مع الإيمان.
فأهل السنة لم يكفروا أهل الكبائر وإنما فسوقهم وقالوا بنقص إيمانهم.
وهم وسط في باب الأسماء والصفات بين من نفاها وشبه الله بخلقه أو مثلة بهم، فاثبتوا ما أثبته الله ورسوله من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) .
ووسط في باب حب أهل البيت بين النواصب الذين سبوهم والروافض الذين غلوا فيهم وسبوا الصحابة لأجلهم فأحبهم أهل السنة وتولوهم وأنزلوهم المنزلة اللائقة بهم.
( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً)
يقول الجن لما سمعوا القرآن : إنا سمعنا قرآنا عجباً. عجيب!!حتى الجن يتعجبون من القرآن ، ومن الذي لا يعجب من القرآن؟! ومن هو الحي الناطق السميع البصير الذي لا يعجبه القرآن ويشجيه ويبكيه؟؟ ومن هو الذي له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد ولا يتأثر باقرآن؟! أما الإنس فقد عجبوا كل العجب وذهب بهم الإعجاب كل مذهب، وقال قائلهم: إن له حلاوة وعليه طلاوة، وأما الجن فهم يصيحون صيحة المعترف: ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً) فهو العجب كله، والحسن أجمعه، في آياته ،ففيها من التناسق والتناغم والروعة ما يفوق الوصف والعجب في سورة ، فلكل سورة مشهد وإيحاء ورسائل غير الأخرى، وعجيب في عرضه الذي يقتحم أسوار النفس، ويزلزل أماق القلب، ويحتل مناطق التأثير، ويجتاح مستعمرات الضمير.
عجب لهذا القرآن ، نعيده نكرره نشرحه نتدارسه نحفظه ثم يبقي غضاً راقياً مشرقاً جديداً، عجباً لهذا كأنه يسوقنا إلى الآخرة بجحافل من رعب، وكأنه يحجزنا عن الإثم والخطيئة بسياج من الهدي، وكأنه يبعثنا كل يوم من قبور الإهمال وأجداث النسيان ، عجب لهذا القرآن كلما لغونا ولهينا وسهرنا نادانا من جديد، هلموا إلى الحق والجد والعمل، كلما ضعنا وتهنا وضللنا صاح بنا هنا الطريق هنا الهدي هنا الفلاح، كلما أذنبنا وأخطأنا دعانا أقبلوا على رب رحيم وملك كريم وجواد حليم، كلما فترنا واكاسلنا وتراخينا هزنا يا ناس واصلوا، يا قوم عجلوا وأبشروا واجتهدوا، كلما غضبنا وحزنا وضاقت السبل أمامنا صب القرآن على قلوبنا سحب الرضوان والسكينة والأمن ، صدق الجن: ) إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً) إنه ملام يشبع الروح، ويروي غليل النفس ويغسل أدران الضمير، إنه أحسن الحديث صدقاً ومتاعاً وفخامة واصالة، إنه أحسن القصص تسلية وتعزية وأسوة، إنه موعظة تردع عن الزلل وتحمي من الانحراف وتعصم من الذنب وصدق الجن : ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً).
تسمع القصائد وتنصت للمحاضرات وتروعك الخطب تشجعك المواعظ ثم تسمع القرآن فكأنك ما سمعت شيئاً وما أعجبك شئ ، وما نهرك شئ، لأنه كتاب لا ريب فيه، يرشد من الحيرة، ويحفظ من الضلال ، ويعصم من الزيغ ، فالقرآن حياة من الهناء والسعادة ، وعالم من الإبداع والجمال، وتاريخ من الأحداث والقضايا ، وسجل من الشرق والرفعة، وديوان من الخلود والنبل، بل تاريخ أمة، وخطاب عالم، وكلام إله ، ومستقبل أجيل، وقضية معجزة، هو حق يدفع باطل، ونور يكشف ظلاماً، وصدق ينهر كذباً، وهدي يحارب ضلالاً، وعدل يطارد ظلماً، وصدق الجن: ) إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً).
( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)
مدح الله نفسه بهذا الوصف المتضمن قدرته جل في علاه، وأنه لا يقع شئ في العالم إلا بإذنه ، فهو كل يوم في شأن ، يخفض ويرفع، يعطي ويمنع، يقبض ويبسط، يولى ويخلع، ويقني ، يضحك ويبكي، يميت ويحيي، يهدي ويضل، يعافي ويبتلي.
كل يوم هو في شأن؛ يعطي فقيراً، يهدي حائراً، يشافي مريضاً، يرد غائباً، يرشد ضالاً، يشبع جائعاً، يسقي ظمآناً.
كل يوم هو في شأن ؛ يسحق طاغياً، يمزق باغياً، يكبت فاجراً، يهزم كافراً، يخذل عدواً ، يرد معتدياً، ينصر ولياً، يحفظ صالحاً، ينجد ملهوفاً، يجيب داعياً، يحمي مظلوماً، يعطي سائلاً، يمنح نائلاً، يجبر كسيراً، يعين مسكيناً، يرحم ميتاً، يعافي مصاباً، يدحض باطلاً، ينصر حقاً.(/14)
كل يوم هو في شأن ؛ ينزل الغيث، يسوق الغمام، يجري الريح، يسخر البحر، يزيد العابدين، يوفق الصالحين، يدل المجتهدين، ينصر المجاهدين، يؤمن الخائفين ، يتوب على التائبين، يغفر للمسنغفرين.
كل يوم هو شأن؛ يولج الليل في النهار، يرسل البرق يكاد يذهب بالأبصار، يجري السفن في البحار، يحوط المسافرين من الأخطار.
كل يوم هو في شأن؛ يكشف كرباً، يزيل خطباً، يغفر ذنباً، يحل ويبرم، يقدم ويؤخر ، يثيب الطائع، يحلم على المقصر، يتجاوز عن المسئ ، يستر المذنب، يمهل العاصي.
كل يوم هو في شأن؛ يفلق الحب والنوي، يعلم ما في الأرحام، يكتب الآجال، يحصي الأعمال، ينزل الأرزاق، يفك القيود، يطلق الأسري، يكلؤ من في البر والبحر، يرعي المسافرين، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
كل يوم هو في شأن؛ يطلع على ما في السرائر، يعلم ما في الضمائر ، يجيب المضطر ، ينقذ من المخاطر، يعصم من المهالك، يهدي من الغي، يبصر من العمي ، يرشد من الحيرة.
كل يوم في شأن؛ يعزل ولاة، يخلع ملوكاً، يهلك دولاً، يبيد شعوباً، يأخذ المتكبرين، يقصم المتجبرين.
وإن من ينظر في الكون نظرة المتبصر ويتفكر في المخلوقات وما يقع في الأرض من أعمال وحوادث يعجب من عظمة الملك الواحد الأحد وسعه اطلاغه وبالغ علمه، جل في علاه، فكل حركة معلومة، وكل لفظة محسوية، وكل نقطة أو ورقة أو ثمرة محصية، عالم هائل من الحياة والموت، والغني والفقر ، والصلاح والفساد، والسلم الحرب، والهداية والغواية، والصحة والمرض، كل ذلك بإذن الملك الحق الذي لا تخفي عليه خافية من أعمال هذه الخليقة، فلا يلتبس عليه أمر، ولا تختلف عليه لغة، ولا يعزب عن علمه شيء ، ولا تفوته حركة ، ولا تند عن علمه كائنة، وقد وسع علمه كل شئ ، وقد عم فضله وانتشر إحسانه.
إن العالم شركة صاخبة من البناء والنتاج والتزاوج والتولد والاتفاق والاخالاف والسلم والحرب، تصالح وتقاتل، تآلف وتباين، بيع وشراء، حل وترحال، يقظة ونوم، حياة وموت، لكن المذهل أن ذلك بعلم الأحد الصمد وبتقديره وتدبيره واطلاعه جل في علاه,
ملائكة تكتب وسجلات تحصي وأقلام تخط ودواوين محفوظة، والرقيب الحسيب على ذلك كله عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفي عليه خافية.
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة)
هذا قول إخوان القردة والخنازير الأنذال، يقولون يد الله مغلومة ، أي بخيلة ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء) ، قاتلهم الله كيف تكون يد الجواد الماجد مغلولة، وكل نعمة قديمة أو حديثة، ظاهرة أو باطنة، جللية أو قليلة منه وحده جل في علاه: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه) كيف تكون يده مغلولة؛ تعالي الله عن ذلك علواً كبيراً، وهو الذي صمدت إليه الكائنات ، وسألته المخلوقات مع اختلاف اللغات، وتعدد اللهجات ، بشتى الحاجات، فأعطي الجميع ، ومنح الكل، وما نقصت خزائنه ولا انتهي فضله، يقول عز وجل: (( يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)).
كيف تكون يده مغلولة وهو الذي يطعم كل مخلوق، ومن فضله يعيش كل حي (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا )يطعم الطير في الهواء، والسمك في الماء، والوحش في البيداء، والدود في الطين، والليث في العرين: )يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) .
عم فضله، وشمل نواله، وعظم كرمه، وظهر جوده، من جاد فمن جوده يجود، عاش أعداؤه من فيض عطائه، وتقلب عبيده في نعمائه.
كيف تكون يده مغلولة وقد طبق العالم إحسانه، وعم الكون امتنانه،ملأ الخزائن، واشبع البطون، فبابه مفتوح، وجوده يغدو ويروح ، وخيره ممنوح، يعطي قبل السؤال، ولا يغيض ما عنده النوال؛ لأنه ذو الجلال والجمال والكمال.
هل من رازق غيره؟ هل من معط سواه؟ هل من متفضل إلا هو جل في علاه؟ وتأمل قود الرد على فرية اليهود وجزالة اللفظ وإشراق المعني وبراعة الحجة، فإنهم قالوا لعنهم الله: ) يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) ، فخصوا يداً واحده، فرد عليهم بقوله: ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ) ، فرد بالجمع ، ثم قال: ( بَلْ يَدَاهُ ) فذكر اليدين الاثنتين المباركتين، ثم وصفهما بأنهما مبسوطتان بالعطاء، ثم ذكر كيفية العطاء وحال هذا السخاء فقال: ( يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) فتقدس اسمه ما أكرمه، وتبارك في علاه ما أحمله، وعز جاهه ما أعلمه.
وانظر إلى منهج القرآن كيف أورد الشبهة لاقتضاب ثم رد عليها بإسهاب، وأطنب في تفنيدها ودحضها حتى شفي القلب بهذا البيان الناصع، والبرهان الساطع، بخلاف ضعاف المجادلين فإنهم يتوسعون في عرض الشبهة، ثم يردون عليها رداً ضعيفاً فتبقي آثارها في القلب شبهاً وشكوكاًن فتبارك الله ما أحسن قيله.(/15)
وانظر إلي صديق المهيمن وكمال جبروته، فإنه أخبرنا بهذه المقولة الخاطئة الهابطة من هؤلاء الحقراء التافهين، وهي مقولة تتعرض لذلاته المقدسة ومقامه العظيم، ومع ذلك ذكرها صريحة مثلما قالوها، قاتلهم الله. بخلاف البشر، فإنهم لضعفهم وعجزهم لا يذكرون ما يقال عنهم من شتم، وإن قالوا فباستحياء وخجل على مذهب كاد المريب أن يقول خذوني، لكن الله عز وجل لتفرده بكل وصف جميل لم يبال بهذا السقط من القول، والسخف من الحديث، بل ذكره ليدحضه، واخبر به ليدفعه، وهو ما حدث في هذا الخطاب الباهر العجيب.
( سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)
هذا وعد من أصدق القائلين، وهي بشري لعباده المؤمنين، ان سنته الماضية وحكنه القاضية، بأن العسر بعده يسر، فلا يضيق الأمر ويشتد الكرب إلا ويتبعه يسر، فبشر كل مكروب ومنكوب بفجر صادق من الفرج يصادر فلول الشدائد، وما أحسن هذه الآية سلوة للمعذبين بسياط الظالمين، وعزاء للمصابين، وبشري لأهل البلاء، وهذه الآية هدية غالية لمن طرح في السجن، وغلت يداه، وكبلت رجلاه، ليعلم أن فرجه قريب، وخروجه وشيك إلى عالم الحرية والانطلاق، وهي تحفة ثمينة لمن اقعده المرض، واضناه البلاء، أنه موعود بشفاء عاجل، وعافية قادمة ، فبعد الجوع شبع، وإثر التعب راحة، وعقب السقم شفاء، وخاتمة الشدة رخاء، ونهاية الفقر غني، النهار يخلف الليل، والنور يطوي الظلام، والماء يزحف على الجدب.
إذا امتدت الصحراء فوراءها رياض خضراء، وإذا اشتد الحبل انقطع ، إذا رأيت السحب فاعلم أن الغيث الهنئ في جوانحها، وإذا هالك الظلام فتيقن أن الصباح مقبل لا محالة.
إن العسر بعده يسران وليس يسر واحد، لتعلم أن مرارة المعاناة لها نهاية، وشظف العيش إلى انقطاع ، وكبد الحياة إلى راحة ، لو أن الخوف دائم لتقطعت النفوس حسرة، ولكن بعد أمن وسكينة، ولو أن الحزن مستمر لزلزلت القلوب زالزالها ولكن يعقبة سرور وأنس، ولو أن اليأس مقيم لاسودت الحياة في العيون، لكن خلفه أمل فلا تيأس من روح الله ولا تقنط من رحمة الله، لا تصارع الأوهام، وتقاتل الوساس، بل انظر من بوابة الرجاء لتري العالم المشهود، والحضرة المأنوسة، والسعادة القادمة، ولتري العناية الربانية تغمرك واللطف الإلهي يحوطك.
( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) فاغسل همومك بنهر التوكل، ( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، واحذر من تصديق وعد الآفاك الثيم والشيطان الرجيم؛ لأنه يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، ولكن صدق موعد اصدق القائلين: ) وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) .
فبشر آمالك بمستقبل زاه وغد مشرق وفجر باه جديد؛ لأنه سبحانه ما ابتلاك ليهلك، وما أبدك ليخزيك؛ بل أراد أن يذكرك بسوط من ألم، وأن يوقظك من غفلتك لوخزة من ندم، وينبهك من رقدتك بجرعة من سقم؛ لتتذكر بالمصيبة النعمة، والبلاء العافية ، وبالمرض الصحة، وبالسجن الحرية، وحكيم في المسلكين، ولا تدري بالأصلح ، ولا تعلم بالأحسن، بل هو الأعلم الأحكم الأحلم الأرحم، جل في علاه، فارض باخيتاره فاختياره، لك خير من اختيارك لنفسك ، وعلمه بمصالحك أجل وأعظم من علمك؛ لأنك عبد جاهل فقير ضعيف، وهو عليم غني قوي ملك رحمن رحيم:
عسي فرج يكون عسي
نعلل نفسنا بعسى
فلا تجزع إذا قابلـ
ـت هماً يقطع النفسا
فأقرب ما يكون المر
ء من فرج إذا يئسا
( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّح)
الأقضية تقوم على أمرين إما حكم وإما صلح، فالحكم قضية عادلة وحكم نافذ، وقد يترك في نفس أحد الخصمين اثراً، فإن الحق لا يرضي الطرفين كما قال الأول:
إن نصف الناس أعداء لمن
ولي الأحكام هذا إن عدل
ولكن الصلح خير، فهو احسن أثراً، وأسلم عاقبة؛لأنه يبني على كرم النفس، وسماحة الطبع، فهو يأتي عفواً بلا حكم صادر من أحد، بل من جودة السجية، وحسن الخلال ، فالذي يسعي بالصلح مسدد معان محببوب؛ لأنه يريد البناء والخير، ولهذا قال شعيب: ) إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ).
عفا عن ظلمه في عرضه، فالصلح خير علي كل جهة أردت؛ لأنه يندم على الصلح أحد، إذ يعوض الله قابل الصلح سكينة وأمناً، وبرد عفو ولذلة كرم، يجدها في قلبه، لأن المصالح كريم، والكريم واسع البطان، رحب الباع، منشرح الصدر، بخلاف رافض الصلح فإنه يعاقب بحرج في صدره، وضيق في نفسه، جزاء وفاقاً لعمله.
واعتبر هذا بالبخيل والجافي الغليظ واللحوح الشحيح، ففيه من جدب النفس، وقحط الروح، وضيق الخلق، ما يفوق الوصف مجازاة لفعله الشنيع.(/16)
وما أجمل هذا التعقيب الباهر الساطع: ( وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ) وهو تحذير للنفوس من هذا المرض الذي يصحبها ، ويغلب عليها فلا تقبل صلاحاً، ولا تعفو عن مظلمة، ولا تتنازل عن حق، ولا تعطي نوالاً إلا من رحم الله، ولكن في قوله: ( وَأُحْضِرَتِ) صورة حية لحضور شبح الجاثم القاتم، وكأنه ليل مكفهر، حضر بأسماله السوداء ووجه العابس.
ثم ذكر الأنفس لأنها مصدر الخير والشر، والجود والبخل، فمن حجث نفسه بالمعروف قبل الصلح وسعي إلى المسامحة ، ومن بخلت نفسه وظنت ضيقت على عباد الله، وسعت في استيفاء حقوقها بشراسة وعناد وفي قوله: (الشُّحَّ ) إشراق في العبارة؛ لأن الشح غاية البخل ومنتهاه، وهو اشمل من البخل الذي هو منع العطاء، وحبس التدفق، يزيد بترك العفو، ورفض المسامحة، والسعي في المطالبة والمعاتبة والمضاربة حتى قال ابن تيمية: المؤمن الصادق لا يضارب ولا يعاقب ولا يطالب، وإنما يمنع الإصلاح، قبول شح الأنفس الأمارة، ولهذا حسن أن يزف في سياق الآية، فمن نجا من شح نفسه عاش صالحاً مصلحاً، فصار كالغمامة أينما حلت هلت، فهو جواد عن الخصومة، سهل عفو عند المنازع، يسير عند الجدال، صفوح عن المعاتبة، بخلاف الشيحيح فهو بخيل بنواله، ثقيل في مطالبه، عنيد في خلافه، شرس في طباعه، وصدق الله: ) وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)
الهماز اللماز إنسان ساقط في مجال الشرف، منحط من رتبة القيم، منسي في ديوان المثل السامية، لأنه هماز للأعراض ، لماز لعباد الله، وهو يهمز بقوله، ويلمز بفعله، فعينه ويده تهمز، ولسانه يلمز، ويل لهذا بالوعيد من عذاب شديد، من منال أكيد، ويل لهذا المتسلق على أكتاف البراء، القارض لأعراض الصالحين.
إن هذا الشرير همه فقط اقتناص المعائب ، وجمع المثالب فهو يفرح بالزلة، وتسره السقطة ، وتعجبه الغلظة، فهو يذكر السيئات في الناس ولكنه يتسي الحسنات، يستحضر الأخطاء غير أنها تغيب عنه الإصابات؛ لأن نفسه الأمارة مريضة:
ومن يك ذا فم مريض
يجد مراً به الماء الزلالا
ولأن عين رشده بها رمد:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد
وينكر الفم كعم الماء من سقم
لا يفرح بالفضائل التي تحملها القلوب الطاهرة؛ لأنه جحود حسود، لا يرتاح للصفات الجميلة والمعاني المعاني الجلية في الناس؛ لأن فعله سيئ وقلبه اسود ولسلنه مر:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وصدق ما يعتاده من توهم
ويل لهذا الهمزة اللمزة من عذاب الله وغضبه، كيف يجور في حكمه، فهو بالمرضاد لعباد الله، ينشر مساوئهم، يتكفه بمعائبهم، يفرح بزلاتهم، يسعد بعثراتهم ، وهو يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ لأنه مخذول مهين، ويضيق ذرعاً بالأوفياء النبلاء والصالحين الأخيار؛ لأنه مارد اثيم، إن سلامة القلب وعفة اللسان موهبة ربانية يغدقها الله على من يشاء من عباده، فتري صاحبها ستراً عفيفاً، طاهر السريرة، سليم الصدر، يثني على الجانب المشرق في حياة الناس، تعجبه الخلال الحميدة، تفرحه الخصال الجميلة ، يحمل إخوانه على السلامة ، ياتمس للعباد العذر ، يشيد بالمكارم، ويهمل ما سوى ذلك، ليس عنده وقت لتشريح عباد الله على خشبة نقده، وما عنده فراغ لإحراق أوراق الصالحين بناره.
وإن من يتدبر هذه الآية ينتابه خوف مزعج من عواقب إرسال اللسان في الأعراض ، واغتياب عباد الله، وتتبع عوراتهم، وإنها علامة الإفلاس، ونهاية الخذلان، وويل لمن هذا فعله، قاتله الله كيف نسي نفسهن وتقويم اعوجاجه، وإصلاح ما فسد من أخلاقه ، وبناء ذاته، وذهب ، تبأ له ـ يتفحص ما ستر الله من العباد ، ويكشف المغطي من سجايا الناس، فهو عدو للنجاح، حرب للفضيلة، هدم لصروح المكارم، وويل لكل همزة لمزة.
(مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى)
كتاب الله ليس حديثاً يفتري، فما نظمه شاعر، ولا نفثه ساحر، ولا تفوه به كاهن، بل هو كلام الملك الحق المبين.
إن الأحاديث المفتراة متروكة لأساطين الأراجيف، ودهاقنة الزور، وأبطال الشائعات، وحملة الكذب، أما القرآن فهو الصدق كله، والحق أجمعه، لأن الله قاله، وجبريل حمله، ومحمد أداه ، تعالي الله وتقدس أن يكون كتابه مفتري، فهو أصدق القائلين، يقول الحق وهو يهدي السبيل.
إن أهل الافتراء اصناف من البشر كتب الله عليهم الخذلان منهم دجال مريب، يزرع الخرافات وينشر الأكاذيب ليصرف قلوب الناس إليه، ومنهم شاعر أفاك، يمدح بالباطل ويهجو الثوابت لينال الحظوة ويكسب المنزلة، ومنهم كاهن فاجر ، يدعي علم الغيب ويزعم معرفة المستقبل ليروج بضاعته المزجاة وكسبه الزائف على الخليفة.(/17)
أما هذا القرآن الذي طرق العالم، وهز القلوب وأذهل العقول، واسكت الفصحاء، فشأن آخر، إنه فيض من الحقيقة، ونهر من النور، أنزله الحكيم الخبير تبياناً لكل شئ، فهو أحسن الحديث، ,احسن القصص، وأجل المواعظ، واصدق الكلام، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؛ لأنه نزل لهداية القلوب، وتطهير السرائر، وعمارة الضمائر، فهو معصوم من الفرية، محفوظ من الكذب منزه من الزور.
إن الوحي المقدس محفوظ عن نسج الخيال، وتصوير الوهم، فلا يدخله الشك، ولا يتطرق إليه الاحتمال، ولا يمازجه الهزل؛ لأنه يقين في نقلهن صادق في خبره، عادل في حكمه ، وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً.
إن على من أعرض عن القرآن واستبدله بأقوال البشر وخيالاتهم واوهامهم ان يتوب إلى ربه من هذا المسلك المشين، والمذهب البشع لأنه استبدل الذي هو أدني بالذي هو خير، فإذا لم تكن الحياة مع القرآن فمرحباً بالموت، وإذا لم يكن العيش مع هذا الوحى فأهلاً بالمنية؛ لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال.
يكفي القرآن شرفاً أنه حديث لا يفتري، ويكفي أحاديث السمر وروايات البشر من حياة الفنانين أنها ترهات؛ لأنها وهم بلا صحة، وخيال بلا حقيقة، وظل بلا صورة، فكان جزاؤها الإهمال والضياع والخمول ، وكان حق القرآن الخلود والبقاء والذيوع: ) فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض)(الرعد: 17).
(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)
الأفاك هو الكاذب في قوله: والأثيم هو الفاجر في فعله من جمع هذين الوصفين
استحق الخزي والويل ؛ لأن من هذا فعله فهو غاو منحرف، فالكذب واختلاف الأقوال وقلب الحقائق والزور في الحديث، دليل على مهانة صاحبه وخسة طبعه وحقارته.
والفجور وعدم مراعاة عهد الله وميثاقه وحفظ حدوده برهان على مرض القلب وفساده.
وإن من أعظم الذنوب الكذب ، فهو اصل النفاق وماؤه ومادته ، لا أمان له ولا نور عليه، ولا حجة معه؛ لأنه زائف دجال ، والأثيم منتهك للمحرمات، جرئ على الحمي، لا يردعه دين ولا تحميه قيم، وفساد الناس مرجعه إلى الكذب في الأقوال، والفجور في الأفعال، فالكذب ينتج الزور والافتراء والبهتان واليمين الغموس مع ما يتبع ذلك من قلب الحقائق والتضليل على الناس، واللعب بالأحكام وتشويه الأخبار، مع توليد الشائعات وتصوير الزيف الرخيص، والفجور ينتج منه سفك الدماء ، وسلب الحقوق ، ونهب الأموال ، وارتكاب الفواحش، فعاد الفساد في العالم إلى هذين الوصفين الأثيمين ، فحق على من نصح نفسه وأراد نجاته من البوار أن ينقذ نفسه من مغية الكذب والفجور بتحري الصدق واستحباب التقوي، ليحصل للعبد الأمان من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، إن مواهب الدنيا من مال وولد ومنصب وجاه لن تنفع صاحبها ما لم يركب قارب النجاة من الصدق مع الله، وردع النفس عن هواها ، والقيام بأمر الله في الأقوال والأعمال، ويكفي تهديداً ووعيداً قول جبار السماوات والأرض: )وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) .
فما بعد هذا من زاجر وليس وراءه من واعظ، إن قائمة الكذبة والسحرة والكهنة وشهود الزور تندرج تحت عنوان الأفاك، وإن قائمة القتلة واللصوص والزناة وأهل السكر والنهب تنضوي تحت كلمة اثيم ، فمن جمع الإفك والإثم فقد جمع الخسران، وحق عليه البوار ، وكتب عليه الشقاء، جزاء قوله الشنيع، وفعله الفظيع، وما ربك بظلام للعبيد.
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)
اشغلكم تكاثركم بالأموال والأولاد والأشياء عن الاستعداد للقاء المحتوم واليوم الموعود، والالتهاء بالتكثر عن المقصد خذلان، والاشتغال بالوسائل عن المقاصد إفلاس ، فالتكاثر يكون بجمع المال وتكديسه وتخزينه، فلا ينفق في الحقوق ولا تؤدي به الواجبات، فيكون الفقر الحاضر والشغل الدائم:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر فالذي صنع الفقر
والتكاثر في الأولاد والاعتداد بهم بطراً ورئاء الناس دون أثارة من صلاح أو سعي لرشد، والتكاثر بالنعم ترفاً وبذخاً وإسرافاً؛ لتكون من أعظم العوائق عن الهداية والتزود بالصالحات، والتكاثر ضرب من السفة ومذهب من الرعونة النبي صلي الله عليه وسلم يناسب عقول الصبيان وطموح الولدان، والتكاثر بالعوامل بلا ثمرة ، وتذوب في حفظها الأبدان بلا نفع، لأنها عطلت عن الامتثال، وفصلت عن الانتفاع بها، والتكاثر من الملهيات والمسليات والمغريات من شهوات ولذائذ وفنون وهوايات لتصبح الحياة بهيمية ساقطة، والهم سالفة، والعمر اضحوكة ، والبقايا مهزلة:
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
إن المسؤول الذي ألهاه التكاثر بالأوسمة والنياشين والألقاب لهو عابث يحفر لنفسه قبراً في عالم الخذلان، والإحباط ، وإن العالم الذي ألهاه التكاثر بجمع الغرائب ، وحشد العجائب، والتطاول بمحصوله، والتباهي بمحفوظه، على حساب العمل لهو خاسر أشغله ذلك عن مرتبة الربانية، ودرجة الإمامة.(/18)
وإن الكاتب الذي ألهاه تكاثر نتاجه، واشغله هذا السيلان، ونمو بريق الشهرة، وخدعه زخرف المديح لهو كاتب مخذول، إن من قدم الصورة على المضمون، والظاهر على النية والقصد ، والدنيا عن الآخرة، والمخلوق على الخالق لهو عبد ضال سعيه وخائب منقلبه.
إن ركعة خاشعة من عابد صادق أجل من ألف رجعة لعبد ساه لاه عابث، إن قراءة آية بتدبر وتفهم خير من ختمة كاملة بلا حضور ولا تفكر، وإن مطالعة صفحة بإمعان أعظم من سرد مجلدات مع شرود وذهول، وإن الحسن أحسن من الكثرة ) لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) وإن حوضاً من ماء عذب أنفع من بحر ماؤه مالح، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
( هَيْتَ لَكَ )
تقول امرأة العزيز ليوسف عليه السلام: هيت لك، قال: معاذ الله، وكلمة هيت لك فيها من الجذب فيها من الجذب والإغراء والفتنة ما يقود النفس الأمارة للاستجابة ، ولكن الله سلم وعصم ولطف.
ويا لمقام يوسف، وقوة يوسف، وصلابة عزيمته وجلالة نفسه يوم هزم هذا الإغراء الفاتن بالكلمة الطاهرة الخالدة، معاذ الله ، وياليت كل مسلم إذا ماجت أمامه الفتن وتعرضت له الإغراءات أن يفزع إلى من: معاذ الله، ليجد الحفظ والصون والرعاية، ويحتاج المسلم كل وقت إلى عبارةك معاذ الله ، ليجد الدنيا بزخرفتها وزينتها ناديه: هيت لك، والمنصب ببريقه وطلائه يصيح: هيت لك، والمال بهالته وصولته يقول: هيت لك ، والمرأة بدلالها وحسنها وسحرها تعرض نفسها وتصيح: هيت لك، فمن ليس عنده معاذ الله ماذا يصنع؟!
وإن الفتنة التي تعرض لها يوسف لهي كبرى، وإن الإغراء الذي لقيه لهو عجيب ، فهو ـ عليه السلام ـ شاب عزب غريب في الخلوة وفي أمن الناس؛ لأنها زوجة الملك، ثم هي مترفة متزينة ذات منصب وجمال وشرف ومال، وهي التي غلقت الأبواب ودعته إلى نفسها فاستعصم، ورأي برهان ربه ونادي: معاذ الله ، فكان الانتصار على النفس الأمارة والهوي الغلاب، فصار يوسف مثلاً لكل عبد غلب هواه، خاف ربه، وحفظ كرامته، وصان عرضه.
ونحن في هذا العصر بأمس الحاجة إلى مبدأ : معاذ الله ، فالمرأة السافرة، والشاشة الهابطة، والكلمة السافة، والمجلة الخليعة، والأغنية الماجنة؛ كلها تنادي هيت لك، وجليس السوء ، والصاحب الشرير، وداعية الزور، وشاعر الفتنة؛ كلهم يصيحون هيت لك، فإن وفق الله وحصلت العناية، وحلت الرعاية صاح القلب صيحة الوحداني: معاذ الله.
إبليس يغريني ونفسي والهوي
ما حيلتي في هذه أو ذاكا
ولنا في التاريخ المحفوظ مطالعة في سير الأبرار، فمنهم من تعرضت له السلطة ، ومنهم من دعته الوزارة، وثالث طلبه المال، ورابع طاردته الشهوة، وآخر تعلقت به الدنيا، وكلهم فر وهو يقول: معاذ الله؛ فكان جزاؤه عوضاً أغلي، ومنزلاً أعلي، وعطاء أحلى، ورفعة عند ملك الملوك الذي ملكه لا يبلي، وخزائنه لاتنفد ، وجاره لا يضام،في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ)
المنافقون يهتمون بالظاهر على حساب الباطن، أجسامهم روية، وقلوبهم خاوية، ظاهر مغري، وباطن مخزي، في العلن رجال وفي الخفاء خفافيش، ألسنة حالية ونفوس مريرة، فأول ما تشاهده منهم طلعات بهية، وهياكل قوية، وعضلات مفتولة، وسواعد مشدودة ، شبع وسمن، ودعاوى عريضة، وتمدح أجوف، ولكنهم يحملون هماً ساقطاً، وعزائم منحطةن ونيات خبيثة، ومرادات قبيحة، مرض ينخر في قلوبهم، وشك يعصف بنفوسهم، وخواء يعشعش في ضمائرهم، أما ألسنتهم فهي اسواق لبضاعة الكذب، ومتاحف للزور والبهتان، وأما قلوبهم فأطلال باليه أقام بها النفاق، وحل بها الكفر، وملأها الرجس.
إن المسألة ليست بالصور والهندام وجمال الأشكال وبهاء الهياكل ، ولكن المسألة مسألة قلوب تبصر النور، ونفوس تفيض بالخير، وسجايا تشع بالفضيلة.
إن من يرتاب في أمر الله، ويشك في دينه، ويعرض عن عبادته ،ويحارب رسله، ويعادي اولياءه، ويسخر من عباده لهو أولى الناس بالنبذ والإذلال والإهانة ؛ لأنه خبيث النفس، خائن الضمير، ميت الإرادة.
إن هؤلاء الذين تعجبك أجسامهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، ولا يذكرون الله إلا قليلاً، ولا ينفقون إلا وهم كارهون، فهم اضعف شيء عن الطاعات، وفعل الصالحات ، وأداء الواجبات، ولكنهم أقوياء في اقتطاف الشهوات، وتصيد اللذائذ، وركوب المعاصي.
إن الله لا ينظر إلى صورنا ولا إلى أجسامنا ، ولكنه ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا، فلا يغرك جسم لا قلب فيه، وهيكل لا روح فيه، وجثمان ليس به حياة:
لا باس بالقوم من طول ومن عظم
جسم البغال وأحلام العصافير
وعلينا النظر إلى الحقائق ومعادن الناس وأخلاقهم وصفاتهم:
خذ بحد السيف واترك نصله
واعتبر فضل الفتي دون الحلل
إن الرجال لا يقومون بالثياب ، وإن العظماء لا يقاسون بالأشبار، ولا يوزنون بالأرطال، ولكن قيمتهم عملهم الصالح، وقياسهم أخلاقهم الجميلة، ووزنهم تاريخهم المشرق.(/19)
إن شعرة في رأس عبد الله بن مسعود؛ الصحابي خير من مليون رجل من أمثال عبد الله بن أبي سلول؛ المنافق السمين البدين البطين، وإن ظفر بلال بن رباح أفضل من جيش من أمثال أبي جهل الضخم الفخم المريد الرعديد، لأن المسألة مسألة إيمان وفقه وصلاح وتقوى لا لحم ولا عظم ولا شحم ولا دم.
(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)
المطففون صنف من الناس يستوفون حقوقهم من الناس ولا يوفون الناس مالهم بل يبخسونهمن فحقوقهم على الناس وافية كاملة، وحقوق الناس عليهم ناقصة، إن كان الحكم لهم رضوا وقبلوا، وإن كان عليهم نفروا وأعرضوا، لهم مكيلام في الأحكام والأقضية والحقوق، فهم ومن أحبوه محقون دائماً، مبرؤن أبداً، أعرضهم محمية، واشياؤهم محفوظة، وأموالهم محصنة، وسواهم مبطلون، متهمون ، لا حق لهم ولا حفظ ولا رعاية.
إن كالوا أو وزنوا لأنفسهم فالزيادة لهم، وإن كالوا أو وزنوا لغيرهم فالنقص لسواهم، إن حكموا في قضية فالحق معهم، وإن حكموا على غيرهم ظلموا وجاروا، إن جادلوه دائماً، فهو مبطل متعد لا دليل له ولا حجة.
إن كتبوا التناريخ والسير فالثناء لهم، والمدح ينهال عليهم وعلى اشياعهم ، والسب والنقص لمن خالفهم، العالم المقصر إذا احبوه فهو وحيد العصر وفريد الدهر، والعالم المتقن المحقق إذا كرهوه فهو ضعيف واهم، الخطيب الثقيل البارد من أصحابهم مفوه مصقع ، والخطيب البارع الأعجوبة إذا خالفهم فهو ذو عي وبرود وسماجة ، الشاعر الهزيل من شيعتهم فذ باقعة، والشاعر العبقري من أعدائهم متكلف متصنع، إن أحبوا سلطاناً ظالماً فهو عندهم بركة العصر وريحانة الدنيا، وإن كرهوا سلطاناً عادلاً فهو الغاشم الظالم، أدلتهم صحيحة أبداً ضعيفة ساقطة ولو كانت قوية محكمة ، يرون سيئاتهم هم حسنات ، ومناقب غيرهم مثالب، من مدحهم ولو بالباطل فهو صادق وبالحق ناطق، ومن نقدهم ولو بالحق فهو كذاب آثم.
إن أخطأ أحدهم فهو مأجور، وذنبه مغفور ، وسعيه مشكور، وإن أصاب من خالفهم فهو مأزور لا معذور، الورد في بستان من أبغضوه شوك، والحنظل في حديقة من أحبوه ياسمين، إن يكن لهم الحق يأتوا مذعنين، وإن يكن عليهم يتولوا عنه معرضين، يحكمون لأنفسهم قبل سماع الدعوى وعرض الحجة، ويحكمون عاى من سواهم قبل قيلم البينة وحضور الشهود، حبيبهم إذا أخطأ قالوا: التمس لأخيك عذراً، وعدوهم إن اصاب قالوا: لن نستطيع عليه صبراً؛ (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) .
( فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ )
لما أعرض أهل سبأ عن طاعة الله مزقهم كل ممزق، وقال: فجعلناهم أحاديث، وفي هذه العبارة من قوة الأسر وروعة البيان ما يهز النفس، فكأنه حول هذه الأمة القوية إلى أحاديث فقط تدور في المجالس على السنة السمار.
لك أن تعمم هذا المثل على كل أمة سادت ثم بادت، أما اصبحت اقوالا تدار في المجالس، أما ذهبت قوتها، وسحق جبروتها، ومات ملوكها، ولم يبق إلا مجرد الخبر عنهم فحسب، أين الدول؟ أين الملوك؟! اين الجيوش؟! ذهبوا ولم يبق من ميراثهم درهم ولا دينار، وإن بقي من بيوتهم الألنس، فلم يفصل في هلاكهم وكيف دمروا وماذا بقي من بيوتهم ومتاعهم، وإنما طوي الزمان والمكان، ثم أخبرنا أنه ما بقي منهم إلا الخبر عنهم، وإن حياة تنتهي إلى هذه الخاتمة لحقيق أن يزهد فيها، وأن يرغب عنها.
فبينما تري الأمم دائبة في صنع وجودها ساعية في بناء حضارتها، وإذا بها هباء منثور ليس في الوجود منهم إلا كلمات تخبر عنهم، وهنا وقف أمام قدرة القوي القهار وهو يأخذ أعداءه هذا الأخذ في لمحة الطرف، ثم لم يبق منهم باقية ، ولم يترك لهم اثراً، ثم التفت إلى جمال عبارة القرآن واسرارها، وسرح الطرف في هذا الحسن لتري الإعجاز في الإيجاز، والقوة في الأسر، والمتعة في التأثير، وانظر إلي الواقع، وأسأل نفسك أين الحضارات التي ملأت الأرض، واين الدول التي طبقت الدنيا، تعيش الدول ألف سنة ثم تنتهي فلا يبقي من آثارها إلا كلمات على شفاع السمار، وجمل على ألسنة الركبان:
أعندكم خبر عن أهل أندلس
فقد مضي بحديث القوم ركبان
اقرأ متن ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) على حضارة تدمر ودمشق وبغداد والزهراء والحمراء وقرطبة وغرناطة، فإذا هي قاع صفصف، أين التيجان والسلطان والهليمان: ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) ، إن من يتدبر: ( فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ) يعلم هوان الخليقة على الله، وتفاهة من حاد الله، وسخف من حاربهز
إن عدتهم وعتادهم وقوتهم لا تواجه من الله إلا بكلمة: كن؛ ليصبح الجميع أحاديث تتلى في النوادي ، وقصصاً تساق في المجامع، فلا قصورهم حمتهم ، ولا جيوشهم منعتهم، ولا أموالهم شغفت لهم.
(وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ)(/20)
الصبح آية من آيات الله دالة على بديع صنعه وجميل خلقه، فالصبح له طلعة بهية ووجه مشرق يشع بالجلال والحسن، ومن أراد أن يعرف جمال الصبح فليتأمل قدومه بعد صلاة الفجر كيف يدب دبيباً كالبرء في الجسم وكالمااء في العود ، فإن الصبح يزحف بعد جحفل من الظلام فيطويه أمامه، فكأن الكون وجه تتبلج أساريره، وتشرق قسماته، وترتسم على محياه بسماته، وما أجمل الصبح، قيه يهب النسيم العليل، ويشع النور الهادئ ، والضوء الدافئ، وتبدو الحياة، ويميس الزهر، ويندي الظل، وتتفتح الأوراق، تفتح شفاه المحبين عن أسئلة حائرة، وتتفتق الأكمام تفتق عيون العاشقين عن أسرار دفينة.
في الصباح رجع الصدي، وقطر الندي، وحفيت الهواء، وتمتمة الماء، وتغريد الطيور، وسجع الحمام، وأنغام العندليب ، في الصبح يرتحل الفلاح بمسحاته إلى الحقل ، ويسوق البدوي أغنامه إلى المرعي، ويذهب الطالب إلى مدرسته، والطبيب إلى عبادته، والبائع إلى حانوته، فالصبح أذان معلم بالحياة ، وإعلان بيوم جديد، وملاذ مجيد، لنهار آخر من الجد والعمل والعطاء والنماء.
ولكن أما دعاك هذا اللفظ الشائق في قوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) أما وقفت معه وقفه إجلال للإبداع واحترام للبيان؟ كيف يتنفس الصبح؟ ! سؤال يجيب عنه من قرأ حروف القدرة على صفحات الكائنات، والصبح يوم يتنفس كأنه محزون فقد أحبابه، فخرجت أنفاسه الحارة من أعماقه، أو كأنه مكبوت يشكو آلامه، فانبعثت من حشاياه آهاتاه، أو كأنه مظلوم صهر الظلم قلبه فانفجرت روح بزفراته، أو كأنه مسجون كبلت يداه وقيدت قدماه، فعبر بلهيب توجعه عن معاناته.
وما أجمل أسلوب القرآن، ففي كل ذرة من اللفظ درة، ومن يدري لعل الصبح تنفس بعد ليل طويل قاس من الظلام والهجر والقطيعة، ولعله تنفس تنفس المسرور بلقاء أحبابه، السعيد برؤية اصحابه؛ لأن الصبح مقبل عن نهر جميل ، وحياة دائبة، وحركة نشيطة من الجد والبذل والتضحية ، والمقصود أن هذا الصبح كان مكظوم الأنفاس، مكبوت الحشي، ثم حانت لحظة الانطلاق فتنفس، وأنا أدعو سلاطين البلاغة ودهاقنة البيان وأرباب الفصاحة أن يقفوا خاشعين أمام (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) ليذوقوا لذة الجمال، ومتعة الحسن، ليعلموا سر الإعجاز ، في هذا الكتاب المعجز الخالد، وليدخلوا ديوان عظمة الخالق، ديوان قدرته ليروا جمال المقال، وبديع الأفعال ، من ذي الجلال والإكرام.
(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)
لا تمدحوا أنفسكم فعلمها عند اللطيف الخبير، ولا تثنوا عليها فإن الناقد بصير، وما أجهل الإنسان إذا زكي نفسه وشهد لها بالفضائل وبرأها من الرذائل، وما اثقل كلامه وهو يستعرض على ربه وعلى الناس مناقبه ويسوق محامده ويذكر حسناته.
إن الذي يزكي نفسه في محل التهمة وفي مقام الربية؛ لأن الإنسان بطبعة ظلوم جهول ، يحب نفسه ويعشق ذاته، ويعجب بصفاته ، فإذا نما هذا الطبع وأعلنه في الناس كان دليلاً على قلة تقواه وضحالة معرفته، وأي شئ عند الإنسان حتى يزكي نفسه وهو بين نعمة لم تشكر، أو ذنب لم يغفر ، أو عثرة لم ظهر، أو زلة من ربه تستر؟
أفلا يكفيه أن الذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره قبل منه القليل، وغفر له الذنب الجليل، واصلح خلله وستر زلله ، ثم يأتي هذا الإنسان بدعاوى عريضة ونفس مريضة ليخبر ربه الذي يعلم السر وأخفي أنه ذو تقوى ، والله أعلم بمن اتقي، فهو الذي لا تخفي عليه خافية.
وإن منطق الزور ولسان البهتان أوحي إلي إبليس اللعين بتزكية نفسه الشريرة ليقول لربه: )أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) لتكون هذه التزكية لعنة ما حقه وضربه ساحقة لهذا المريد العنيد، وإن الشهادة الاثمة للنفس سولت لفرعون الطاغية ليقول: ) أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصرْ) فاذله القوي العزيز، وأرغم أنفه في الطين.
وإن التزكية المفتراة دفعت بقارون الآثم ليفوه بفرية: ) إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ) ألا فليصمت العيد الضعيف الهزيل، وليسكت المخلوق الفقير، وليخجل العبد المسكين من ربه، وليهضم نفسه، فلولا ستر الله لظهرت الفضائح، ولاولا لطف الله لبدت القبائح، وإن من يتصدر النوادي ليخبر الناس بنسبه الأصيل لهو فاشل، ويحدثهم عن مجده الرفيع لهو أحمق ، ويزكي لهم تقواه لهو مخدوع، ويذكرهم بمناقبة لهو مخذول.
لماذا لا يترك العبد تزكية نفسه لربه، فهو الذي يزكي من يشاء وقوله الحق؟!
ولماذا لا يدع الإنسان أعماله تتحدث عنه لا أقواله، وإحسانه لا لسانه؟ وسوف يطهر زيف من مدح نفسه بالباطل، فالناس شهداء الله في الأرض، وألسنة الخلق أقلام الحق، وإن عبداً خلق من نطفة لجدير بأن يصمت، وإن مخلوقاً يحمل فضلاته لحقيق أن يسكت، ونعوذ بالله من لسان حى بالمديح، وقلب ميت بالقبيح، ومن عجب ظاهر، وذنب خفي.
فيامن أخفيت على الناس العيوب، وسترت عن العيوب الذنوب، نسألك صلاح القلوب فإنك علام الغيوب.(/21)
(َأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)
تحدث عن جميلينا، أخبر الناس بأيادينا، أعلن نعمنا عليك، لأن الجحود خطيئة والتنكر سيئة ، وكتمان المعروف لؤم ، إن الله يحب من عبده أن يشكره، وأن يثني عليه، وأن يعترف بما وصل من بره إليه؛ لأن الله يحب المدح، فهو أهل له، ويريد الحمد؛ لأنه مستحق له.
ونعم الله تغمر العبد، فإذا قابلها العبد بالحمد والثناء علي مسديها، والمدح والشكر لمهديها بورك فيها، وإذا تنكر لها العبد وجحدها وكتمها محقت وذهب نفعها، والله يلوم الحااسدين من عباده فيقول: )يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا) فهم يعلمون أن مانح النعمة هو الله، ولكنهم لؤماء يتنكرون للجميل، وينسون المعروف، وينسبون الفضل لغير أهله.
ورد في أثر : (( إن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها))، فقال أبو معاذ الرازي معلقاً على الآثر: (( يا عجباً ممن لا يري محسناً إلا الله كيف لا يميل إليه بالكلية))، وقال بعض السلف: ((ويحك يا ابن آدم والله لو كساك رجل ثوباً لرأيت إحسانه وعرفت جميله فكيف بمن كل نعمة وصلتك فمن عنده، وكل خير لك لديك فمن لدنه)) وقال المغيرة: (( إن صاحب الكلب يحسن إلى كلبه فلا ينبحه ويحفظ له وده، فكيف بمن غيرك بنعمة))، وقالوا لعابد في البصرة : (0 كيف أصبحت؟)) قال (( اصبحت في نعم غير مشكورة وذنوب غير منسية)). وفي حديث حسن أنه صلي الله عليه وسلم قال : (( سمع سامع بفضل الله ونعمته علينا)) وقال رجل لملك بن دينار : (( أشكو إليك ديوناً لحقتني وحاجة لزمتني، فقال مالك: ويلك كأنك تشكو الله إلى خلقه وله عندك نعم ما شكرت، وأياد طالما كفرت)).
وقال بعض الشعراء:
وإذا شكوت إلى العباد فإنما
تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
وقال الحسن البصري لفرقد السبخي: (( تعال تغدي معنا من هذا الخبيص؛ وهو طعام لذيذ ، فقال فرقد: أنا لا أكل الخبيص لأنني لا أدري شكره، فقال الحسن: قاتلك الله، وهل أديت شكر الماء البارد)).
وكان بعض العباد ينادي: (( سبحان من أعطي الجزيل، ووهب الجليل، ورضي بالقليل ، وستر القبيح من العمل)).
وقال رجل لأحد الوعاظ: (( هل تري لي شرب الماء البارد أو الحار؟ قال: اشرب البارد؛ لأنك إذا شربته أروي عرقك، وإذا شربت الماء الحار قلت: الحمد لله بكزازة، أي: بثقالة ومشقة.
وبالجملة ينبغي إظهار نعمة المنعم شريطة أن لا يكون من باب الزهو والرياء والعجب، مع ملاحظة عين الحاسد فإنها تصيب، وقد جعل الله لكل شئ قدراً.
( كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)
تعلموا العلم النافع، واعلموا العمل الصالح ، وعلموا الناس الحكمة، واصبروا على الأذى في ذلك، فإذا فعلتم فأنتم ربانيون.
كونوا مصابيح الدجي، داعة الهدي، الزاجرين عن الردي، الناشرين للفضيلة الناهين عن الرذيلة، المصلحين في الأرض ، المحبوبين في السماء ، فإن فعلتم فانتم ربانيون.
تواضعوا للعباد، ارحموا الناس، أشفقوا على الخليفة، عودوا المريض، فكوا العاني، اطمعوا الجائع، أعطوا الفقير، امنحوا المسكين، انجدوا الملهوف، انصروا المظلوم؛ فهذه أخلاق الربانيين.
وما أشرف وأجل كلمة ربانيين، إنها لكلمة كبيرة في كبيرة في الفم، كبيرة في السماء، كبيرة في الأرض، إنها نسبة إلى رب الناس ، ورب كل شئ، وهو نسب اصيل رفيع، فمن استكمل صفات الربانية وجمعها ووفاها وقدرها حق قدرها فهو رباني، ويكفي العلماء العالمين الصادقين أن يقال لأحدهم رباني؛ فهي أعظم سيرة محترمة لهذا العالم الصادقين أن يقال لأحدهم رباني ؛ فهي أعظم سيرة محترمة لهذا العالم، وأجمل ترجمة خالدة لهذا الإمام، فلا ينسب إلى بلدة ولاقبيلة وإنما ينسب إلى الله رب العالمين: نسب باذخ ومجد عظيم..وصفات أبهي من الإصباح.
أما الرباني، فقال بعض السلف عنه: هو الراغب في الآخرة الزاهد في الدنيا، وقيل: من إذا رايته ذكرت الله وإذا عاشرته تعرفت على الرسول صلي الله عليه وسلم ، وقيل : من حبيبك في الله، وحثك على تقواه، وبصرك الطريق، وردك عن الردى فهو رباني.
ولابد للرباني من إخلاص لا يشوبه رياء، وزهد لا يكدره طمع، وصدق لا يشوهه كذب، وسنة لا تعارضها بدعة، وعزيمة لا يوهنها ترخص، يخضع العقل للنقل، ويطوع الهوى للوحي.
إن من الواجب على طلاب العلم ورواد السنة وأتباع الرسول صلي الله عليه وسلم أن يسمعوا بكل ما أوتوا من قوة إلى مرتبة الربانية ودرجة الإمامة، ونيل شرف هذه النسبة، والله إن الرجل ليرفع رأسه إذا نسبوه لملك من ملوك الأرض، وإن منهم من يفتخر إذا ألحقوه بوزير أو أمير، أو ذكروا أنه من سلالة شاعر او جواد أو شجاع، فكيف ـ بالله ـ حال من نسب إلى مالك الملك قيوم السماوات والأرض رب العالمين، والله لو تقطعت الأقدام مشياً في رضوانه، وتخددت الوجوه من الدموع من خشيته، وتقرحت الأجفان من الدموع عند ذكره، لكان كل ذلك سهلا يسيراً في سبيله جل في علاه.
( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه)(/22)
أخبر الله عن أوليائه الصادقين ، وعباده الصالحين، بأنه يحبهم ويحبونه، وهو خبر تهش له نفس المؤمن، ويشتاق إليه قلب الولى، والعجيب قول: يحبهم فهو الذي خلقهم وأطعنهم وسقاهم وكفاهم وآواهم ثم أحبهم، وهو الذي رباهم وهداهم وعلمهم وألهمهم وأرشدهم ثم أحبهم، وهو الذي أنزل عليهم الكتاب، وأرسل إليهم الرسل، وبين لهم المحجة ، واوضح لهم الحجة، ثم أحبهم، فيا له من فضل عظيم، وم عطاء جسيم.
أما قوله عنهم: (يُحِبُّونَه) فهذا عجيب أيضاً، فكيف لا يحبونه وقد أوجدهم من العدم، وأطمعهم من جوع، وآمنهم من خوف، وكساهم من عري؟
كيف لا يحبونه وهو الذي وهب لهم الأسماع والأبصار، وحماهم من الأخطار، وحفظهم في سائر الأقطار؟
وكيف لا يحبونه وهو الذي وهب الأموال والأولاد، وأغدق عليهم الأرزاق، وساق إليهم كل ما يطلبونه ومنحهم، كل مايسألونه، وأمنهم من كل يخافونه
كيف لا يحبونه وقد سخر لهم ما في البر والبحر، أرسل لهم السماء بالماء، وشق لهم الأرض بالنبات ، وجعل الأرض بهم فراشاً وذلولاً ومهاداً ، والماء بناء ، ورزقهم من الطيبات ، واصناف الثمرات، ومختلف المطعومات، وسائر المشروبات؟
كيف لا يحبونه وهو الذي أنزل عليهم القرآن، وعلمهم البيان، وهداهم إلى الإيمان ، وحذرهم من كيد الشيطان.
وما أجمل المقابلة بين قوله: ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه) فهو حب بحب أزكي من حب الرب، فليت من له مقام في دنيا المحبين أن يتذوق هذه اللفظة المشرقة، وأن ينقلها رسالة قوية لعشاق الفن محبي العيون السود، والخدود والقدود؛ ليعلموا أن حبهم منقوص هابط، وحياتهم ذازية ذابلة، وقلوبهم خاوية خربة، ونفوسهم ظالمة ظامئة، وبصائرهم كسيفة كليلة، أما حب أولياء الله فهو الحب الصادق الصائب الطيب الطاهر الزكي النافع.
والله إن من أجل مطالب لقوي السوي وصوله إلى رتبة ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه) .
وإن من أعظم العطايا وأشرف المواهب لهي عطية وموهبة: يحبه ويحبونه، كل حب غير حب الله مقطوع، وكل عمل غير عمل الله ضائع ، كل السعي لغير مرضاته باطل، كل تعب في غير مرضاته عناء:
سهر الهيون لغير وجهك ضائع
ورضي النفوس بغير حبك باطل
فيا من خلق خلقاً ثم رزقهم ثم هداهم ثم أحبهم اسألك أن تجعلنا من أحبابك، وخالص عبيدك، وصالحي أوليائك؛ فإنك أهل للإجابة، معروف بالإحسان ، مقصود لكل مطلوب.
( لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)
هذه آية الفرج ما قالها عبد مكروب إلا فرج الله عنه، بذلك صح الخبر. وفيها أسرار عظيمة ورسائل مهمة، لكن لمن له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد.
ففي هذه الآية إقرار بالتوحيد، وإثبات للتنزيه، واعترف بالذنب، وهي أركان ثلاثة عليها تقوم العبودية وبها ينال ما عند الله من لطف ورحمة ورزق وهداية ، ولهذا فرج الله عن يونس عليه السلام لما قالها، ويفرج عن كل من قالها من المؤمنين لقوله تعالي: ) وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) فركن التوحيد في: لا إله إلا الله، وركن تقديس الرب وتنزيهه في: سبحانك ، وركن الاعتراف بالخطيئة في: إني كنت من الظالمين.
فلا إله ألا أنت، اعتراف بألوهيته سبحانه وكماله وتفرده بكل وصف حسن، وسبحانك نفي النقص والعيب عنه، إني كنت من الظالمين، اعتراف من العبد بالتقصير والخطأ.
فكأن العبد نسب كل مدح وجود إلى ربه ونزهه عن كل شين، وقدح لا يليق به، ثم اعترف هذا العبد بظلمة وعدوانه فكانت هذه الكلمة بحق من أغلى الكلمات واثمنها في ميزان العبودية.
وما من عبد إلا وتمر به كارثة، أو يلم به خطب، أو تقع عليه شدة، فإذا قال هذه الكلمة بقلب حاضر خاشع مخبت أنقذه الله من كل ما أهمه، وفرج غمه ، وأزال حزنه وكشف كربه.
والله عز وجل في كتبه وعلى ألسنة رسله أوجب توحيد على عباده، ونزه نفسه، وأخبر بظلم العبد وكفرانه وتمرده، فجاءت هذه الآية متضمنة هذه المعاني في أحسن وأجمل خطاب وأزهي حلة، حى إن بعض الصالححين كان يعكف بقلبه علي هذه الكلمة ترداداً وتكراراً فيجد من الأنس والراحةوالأمن والانشراح ما يفوق الوصف، وقد شرحها شيخ الإسلام؛ فأحسن وأجاد، ووردت في فضلها آثار، وكان يوصي بها الصالحون من أحبوا، ويكفي في فضلها قوله صلي الله عليه وسلم : (( كلمة أخي ذي النون ما قالها مكروب إلا فرج الله عنه)).
فالواجب على العبد أن يعطي كل أصل من اصولها الثلاثة ما يستحق، فاصل القول اعتقاده، والعمل بمقتضاه والتبرء بما يضاده، واصل التنزيه عدم عدم نسبة المشابهة والمماثلة له سبحانه بخلقه، أو وصفه بغير ما وصف به نفسه، أو تحوير كلامه والإلحاد في أسمائه وصفاته، وأصل الاعتراف بالاقتراف تحقير النفس، والنظر إليها بعين الازدراء والمقت، فإن هذا العمل يقطع من المسافات ـ أعني احتقار ونفي العجب عنها ـ إلى الله ما لا يقطعه صيام الهواجر، وقيام الليال ، وهذا مراد العبودية وبابها الأكبر وسرها الأعظم والله أعلم.
( كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(/23)
الله واحد أحد في ربوبيته والوهيته واسمائه وصفاته وأفعاله، لا يشبه المخلوق ولا يشبهه المخلوق، لا يماثله أحد، ليس في ذاته شئ من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شئ من ذاته، متفرد سبحانه فليس له سمي يسمي باسمه، ولا يحق لأحد أن يتصف بصفاته، ولا يصح لمخلوق أن ينازعه الألوهية ، او يساميه في الربوبية، أو يدعي لنفسه بعض صفات ربه جل في علاه، وإن أحسن وصف واصدقه ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلي الله عليه وسلم .
فالواجب الوقوف علي هذا، فإنه لا يعلم ما يستحق من التعظيم والتقديس والتنزيه إلا هو سبحانه، واعلم الناس به من الخلق رسوله ومصطفاه صلي الله عليه وسلم ، فمن أخذ وصف الله أو الخبر عنه غير الكتاب والسنة فقد ضل سواء السبيل، وإنما أخطأ من أخطأ من الطوائف المبتدعة والفرق المنحرفة لأنهم تركوا الوحي وكلام المعصوم وحكموا عقولهم السخيفة وآراهم الضعيفة في الغيبات؛ فأتي كلامهم فجاً معوجاً مضطرباً.
وهدي الله اتباع رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى قوله الحق واعتقاده ، والله لا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
هذه الآية ترد على أهل التشبيه والتعطيل والتكييف والتمثيل من اشاعرة وماتوريديه ومعتزلة وجهمية ، فهي ـ أي هذه الآية ـ تنفي عن الله كل وصف نفاه عن نفسه، وتثبيت كل صفة جميلة أثبتها الله لنفسه أو رسوله صلي الله عليه وسلم ، ولما نفي المشابهة واللماثلة عاقب بإثبات صفة السمع والبصر له سبحلنه ، لأن النفي المحض ليس مدحاً بل ينفي النقص ويثبت له الكمال ، فليس في النفي نقص وليس في الإثبات مشابهة أو مماثلة ، بل في النفي تنزيه عن العيب ، وفي الإثبات محجة بالجميل من الوصف، وهذه الآية هي عمدة أهل السنة في الرد على كل مبتدع ضال ومنحرف جاهل.
وانظر كيف عم النفي ليكون شاملاً، وذكر صفتين في المدح؛ لأن صفات مدحه كثيرة، ومنهج الوحي في وصف الله تعالي النفي المجمل إلا ما اقتضته الحاجة والإثبات المفصل إلا ما دعي إليه المقام فكل صفة لم يرد بها النقل مردودة ، وكل مشابهة أو مماثلة في الصفة الواردة ممنوعة، وكل سلب للصفة الثابتة مرفوض؛ لأن أهل الضلال أقسام، منهم من سلب الخالق كل صفة؛ فجعله والجماد سواء، وهذا اعتداء، ومنهم من وصف الخالق بصفات من عنده لم يأت بها النقل وهذا خطأ، ومنهم من أثبت البعض ونفي البعض وهذا تحكم مرفوض، ومنهم من اثبت وشبه فزل وضل، ومنهم من اثبت ومثل فجازف وجانب الصواب، وهدي الله أهل الحق إلى إتباع النقل والآثر ، فاصابوا واحسنوا والحمد لله رب العالمين.
( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
هذه من أعظم الدعوات إن لم تكن أعظمها، فإنها قد جمعت خيري الدنيا والآخرة، فحسنة الدنيا عامة شاملة، وأما حسنة الآخرة فأرفع ذلك الفوز برضوان الله ودخول جنته وجواره ومصاحبة أنبيائه ورسله وصالحي عباده في دار كرامته، والوقاية من عذاب النار وغضب الجبار، وما في ذلك المشهد من الخزي والعار، فصارت هذه الدعوة جامعة مانعة كافية شافية.
وفي الآية أوضح برهان على أنه لا يهب السعادة إلا الله عز وجل، ولا يجلب المحبوب ويصرف المرهوب إلا هو، فمن أحسن فيما بينه وبين ربه كفاه ما أهمه واضناه، واصلح باله واحسن حاله، ونجاه من أخذه الشديد وعذابه الأليم.
وفي الآية تعليم للعباد بأن يدعوا ربهم بحوامع الدعاء المشتمل على كل نفع، وعلى طلب دفع كل ضر، وأن العافية مع الشكر قد تفوق البلاء مع الصبر، وأن طلب السلامة من المصائب وارد، وأن خير الدنيا يطلب خير الآخرة؛ من متاع حسن ومال حلال، وطيب عيش ، وحلاوة عمر، وفي الاية أن وقاية العبد من عذاب النار من أعظم ما يطلب من الله عز وجل ، كيف وما أبكي الصالحين ولا أخاف الأولياء ولا أرق أهل الطاعة مثل تذكر عذاب النار؟! ولهذا قال سبحانه: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) وقال في حقيقة الفوز: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز) وانظر إلى جمال كلمة حسنة في الموضعين، فإن كل أمر محبوب مرغوب؛ ولهذا فلا يقصر معناها على خير دون خير؛ لأن هذا تحكم إلا ما صح به الخبر، وما علمنا ربنا أن ندعوه إلا لأنه سوف يجيبنا إذا سألناه كما قال الشاعر:
لو لم ترد نيل ما أرجو واطلبه
من جود كفك ما علمتني الطلبا
فقد أمرنا ربنا بالسؤال ووعدنا الإجابة ، فليعلم تأثير الدعاء ونفعه العظيم ومرودوه الكريم على العبد وليقصد العبد إلى الدعاء بالمأثور الوارد في الكتاب والسنة، فهو المختار وهو الصح للعبد؛ لأن الذي علمه العبد هو الذي يعلم السر وأخفي.
(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(/24)
الحياة الطيبة تنال بأمرين: الإيمان والعمل الصالح، فمن آمن وعمل صالحاً نال مرتين حياة سعيدة رغيدة، وجزاء كريماً موفوراً في الآخرة.
ولكن كلمة : (حَيَاةً طَيِّبَةً) عجيبة ، فإنها فيها من الجمال والعموم ما تهش له النفس، فكل أمن وسكينة وسرور وحبور وصحة وأمن وأنس وطمأنية مع صلاح الأبناء واستقامة الحال وحسن المنقلب والعافية من كل مكروه؛ فإنها كلها من الحياة الطيبة، فمن أراد حياة طيبة بلا إيمان ولا عمل صالح فقد حاول المستحيل ، وطلب الممنوع.
وكيف ينال الحياة الطيبة من اساء المعاملة مع ربه الذي منه وحده تنال الحياة الطيبة ، فإن كل خير وصلاح اساسه التقوي، وإن كل شر وبلاء سببه المعاصي والآثام، وهذا معلوم من نص الشرع، قال سبحانه: )ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) وقال: ) فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) وقال: ) قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ) فمن حقق الأصلين وهما افيمان والعمل الصالح سعد في الدارين وأفلح في الدنيا والآخرة، وما أروع القسم في قوله جل في علاه: ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ ) فهذا وعد أكيد وخبر جازم وبري محققة.
وانظر إلى قوله: ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ ) ، ما أحسن اختيارها ، فالذي لا يحييه الله كأنه ميت ولو عاش ، وهالك ولو عمر، وفي كلمة نحيينه من الجاذبية والأسرار والتشويق لهذه الحياة ما يأخذ اللب ويأسر القلب، وانظر كيف نكر الحياة لتكون عامة كاملة، وهذا تنكير تعظيم، وتحت كلمة حياة من الأسرار والمعاني ما يفوق الوصف، فإن هذه الحياة تشمل حياة القلب بالإيمان والهدي، فلا يموت أبداً يوم تموت القلوب، وحياة العقل بحسن الإدراك وصواب البصيرة وسداد الراي، وحياة الجسم بالعافية وحسن المعيشة، والسلامة من الآفات والنجاة من الكدر، والأمن من المتالف.
أقسم وهو أصدق القائلين على أنه سوف يجزيهم بأحسن منه، ولم يقل بحسن أو بخير او بجميل، بل قال بأحسن؛ بل قال بأحسن؛ لن في العمل حسن واحسن ، فالله يجزيهم بأحسن عمل عملوه، وتقاس بقية الأعمال على أحسنها ، فيثاب على أحسن صلاة صلاها في حياته، وتساوي بها بقية الصلوات، وهكذا سائر الأعمال، وهذا من كرمه وجودة وتفضله جل في علاه.
ثم أنظر إلى الجمع في الآية بين الذكر والأثي فيمن يعمل، والإيمان والعمل الصالح في العمل، والحياة الطيبة والأجر الأحسن في الثواب، فهي اثنان من اصناف ثلاثة ، فذكر الذكر والأنثي؛ ليعلم الجنس، والإيمان والعمل الصالح يشمل اصول العمل والحياة الطيبة، والأجر العظيم يستغرف كرامة الله لعباده.
( أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)
تطمئن القلوب من خوفها فتسكن إلى موعود ربها مع الثقة به، وحسن التوكل عليه، وصدق اللجوء إليه.
وتطمئن من حزنها فتجد الأمن من كل غم وهم وحزن، فتعيش راضية مرضية؛ لأنها بربها ومولاها راضية.
وتطمئن من قلقها فتستقر بعد التذبذب ، وتهدأ بعد التمزق، وتثبت بعد الاضطراب.
وتطمئن من الشتات، فيجتمع شملها، ويتحد توجهها ، ويلم شعتها،وتنجو من شتات أمرها.
وتطمئن من كيد شيطانها، وغلبة هواها، وتحرش أعدائها، وكيد خصومها، وشرور أضدادها.
فليس للقلب دواء أنفع من ذكر الله، فمهما حصل القلب علي مطلوبه ورغباته بدون ذكر الله فإن مصيره القلق والتمزق والفرق والخوف والغم والهم والحزن والكدر والاضطراب.
أبي الله أن يؤمن من عصاه، وأن يؤنس من خالفه، واتبع هواه، وكيف يطمئن من بينه وبين الله وحشة وبينه وبين خالقه قطيعة، وكيف يأنس من نسي مولاه، وأعرض عن كتابه، وأهمل أوامره، وتعدي حدوده.
إن طمأنينة القلب عي السعادة التي يسعي لها الكل، ويبحث عنها الجميع، فمنهم من خطبها عن طريق المال فجمع وأوعي، وحصل وكنز، فإذا المال بلا إيمان شقاء وإذا الحطام بلا طاعة وباء، ومنهم من طلب السعادة عن طريق المنصب فصب من أجله دمعة وعرقه ودمه، فلما تولاه بلا إيمان كان فيه حتفه وهلاكه وخيبته، ومنهم من طلبها عن طريق اللهو من غناء وشعر وهواية فما حصل عليها ولا نالها، لأنه عزلها عن عبودية ربه عز وجل.
فيا من تكاتفت سحب همومه اذكر الله لتسعد، ويا من أحاط به حزنه وأقلقله همه اذكر الله لتأنس، ويا من طوقه كربه وزلزلة خطبه اذكر الله لتأمن ، ويا من تشتت قلبه وذهب لبه اذكر الله لتهدأ ، ذكر الله دواء وشفاء وهناء، وذكر غيره داء ووباء وشقاء، ويكفي الذكر فضلاً أن الله يذكر من ذكره، ويكفي الذكر شرفاً أنه العلم الوحيد الذي يبقي مع أهل الجنة، ويكفي الذكر أجراً أنه أفضل عمل، الذكر حياة ولكن المبنج لا يحس، والمخدر لا يشعر، والميت لا يتألم ، والذكر أمن وسكينة ولكن العاصى مفرط، والفاجر هالك.(/25)
وفي كلمة (تَطْمَئِنُّ) رخاء ونداء وطلاوة ، فكأن القلوب كالأرض، فما سهل منها فهو المطمئن، وما صعب وشق فهو القاسي الموحش المقفر، فليت سحب الرضوان وغمام الرحمان تترك غيث الوحي على القلوب لتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من الذكر والشكر والإنابة والمحبة والرهبة والرغبة: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ).
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً)
يغرس لعباده الصالحين في القلوب محبة ووداً فيسري حبهم في الأرواح، وتنطلق الألسنة بالثناء عليهم، ويوضع لهم القبول في الأرض ، ومالك الحب هو الله، ومفاتيح القلوب بيد الله، فإذا فتحها لمحبة عبد وجدت محبته وحملت مودتته، إن حب الخليقة الصالحة دليل على حي الخالق جل في علاه، وإن القبول في الأرض دليل على القبول في السماء ، والناس شهداء لله كما صح به الحديث، فمن أحبوه وودوه واثنوا عليه خيراً فهو خير بار راشد، ومن كرهوه ومقتوه وأبغضوه فهو شرير خاسر.
إن القلوب خزائن الرحمن، وإن ألسنتة الخلق أقلام الحق، وإن المؤمنين شهود عدول على من أحبوه أو أبغضوه ، إن لمحبة التاس أسباباً ، ليحبوا من أحبوه كصدق إيمانه بربه، وطهارة باطنه، ونقاء نفسه، وسلامة صدره، وقوة إخلاصه.
وإن لبغض الناس أسباباً ليبغضوا من أبغضوه : من نفاقه وفجوره واستهتاره بحدود الله، وتنكره لدين ربه، وظلمة وجوره، وسواد قلبه، وفساد روحه ، وخسة طبعه.
إن من يملك الأبدان لا يملك القلوب، وإن من تنافقه الألسن قد لا تحبه الأرواح، إن السوط والسيف والهيبة لا تجلب حباً ولا تدفع كرهاً، وإنما الجالب للمحبة والدافع للبغض رب العالمين، محبة العباد لا تشتري بالدرهم والدينار، ولا تعرض في الأسواق، ولا ينادي عليها في المحافل ، إنها نعمة يهبها الله من يشاء من عباده ،فتجد هؤلاء المحبوببين محفوفين بالمحبة، مستقبلين بالمودة، مغمورين بالثناء الحسن، إن حضروا حيتهم القلوب، وإن سافروا شيعتهم الأرواح، فلهم مساكن في نفوس العباد، ومنازل في قلوب الخلق ، رحمة من ربك ولطفاً من إلهك، صح في الحديث: (( إن الله إذا احب عبداً دعاء جبريل فقال له: إني احب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبداً قال لجبريل : إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه، ثم ينادي أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فابغضوه ، ثم يوضع له البغض في الأرض))،.
إذا فالحب والبغض من عند الله، فمن أراد محبة في قلوب الخلق ومودة عند المؤمنين فليطلبها ممن يملكها، جل في علاه، بطاعته والإذعان لأمره، واتباع رسوله، والاهتداء بهدايته، وصدق النصح لعباده، وسلامة النية، وحسن الطوية ، وطهر الضمير، حينها فليبشر بحب الله له ومودة المؤمنين.
(َمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ)
عن ماذا يتساءل هؤلاء الناس ولماذا هم مختلفون ؟! إنهم يتساءلون عن اليوم الآخر الذي ما سمع الناس بمثله وما طرق العالم شبيهه، وهؤلاء الكفار المختلفون لهم أقوال فيه، ولكنه والله نبأ عظيم، وخبر ضخم، وقصة كبري ، كيف لا يكون نبأ عظيماً وفيه يتنزل الملك الجبار لفصل القضاء، وفيه ااطاير الصحف ويوضع الميزان ، ويمد الصراط، وفيه تكور الشمس وتكدر النجوم، وتسجر البحور ، وتسير الجبال، وتحشر الوحوش، وتعطل العشار، وتخرج النفوس، وتضع كل ذات حمل حملها، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وتري الناس سكاري وما هم بسكاري، ولكن عذاب اللله شديد.
والله سمي زلزلة الساعة شيئاً عظيماً، فلا اعظم ولا أدهي ولا أشد منه، فمثل لنفسك تلك المشاهد والصور والمواقف التي تجعل الولدان شيباً، وحضر قلبك لهذا المقام العظيم الذي سوف تعيشه لحظة بلحظة، وتراه رأي العين، فلا فدية ولا خلة ولا شفاعة إلا لمن استحقها، واستشعر هول ما سوف تشاهده وفظاعة ما تراه، فإن الرسل يسألون ماذا اجبتم؟ قالوا: لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب؛ فكأنهم نسوا ماذا قال لهم قومهم من هول المقام وفظاعة الموقف.(/26)
وتذكر يوم يطلب الوالد من ابنه ـ وقد رباه وغذاه وكساه ـ حسنة واحدة فيأي ويمتنع ، ويقول : نفسي نفسي، وتأتي الأم لوحيدها وتطلب من وليدها، وقد حملته وأرضعته وتعاهدته، تطلب منه حسنة فيبخل بها على أمه وينادي: نفسي ، نفسي، وتفكر في موقف كل رسول وهو، معصوم من اذلنب، مقبول عند الرب، يصيح: نفسي، نفسي، ذلك اليوم عسير، والخطب صعب، والحاث جلل، والمشهد مذهل، والوصف يقصر، والبيان يعجز، واللسان يتعلثم ، والذاكرة تخون، ومن أراد معرفة ذاك اليوم فليطالع بقلب مخبت منيب تائب ما ذكر الله عنه في كتابه ، وما وصفه رسول الله صلي الله عليه وسلم بعد أن يخرج هذا العبد من قلبه كل شبهة تحجب الدليل ، وكل شهة تمنع الاعتبار، فإن العجمماوات تصيح من هول يوم القيامة، وإن الجبال تنسف لذلك اليوم ، وإن الأرض تميد، وإن السماء تنشق، وإن القبور تبعثر، وكل شئ يغير فاللهم سلم سلم، فإليك المشتكي، وعليك التكلان، وبك المستعان، وأنت المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك.
(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ )
بذنوب العباد فسد الهواء، بخطايا الناس تكدر الماء، بسيئات بني آدم تعطلت الأرزاق ، كان آدم في الجنة فاكل من الشجرة، وأهبط إلى الأرض لتبدأ رحلة الصراع بين الخير والشر والحق والباطل، ولقد كانت الأرض طاهرة حتى لوثها قابيل بدم هابيل، وكانت الدنيا تستفيق على صوت التوحيد حتى أزعجتها اصوات الإلحاد من الحمقي الأنذال الذين يقول أحدهم: أنا أحيي واميت إلى آخر تلك القائمة الزائفة ااشوهاء من هؤلاء الرقعاء السخفاء، فكل خراب في العالم اساسه ظلم العباد، ، وكل دمار في الكون سببه جور الناس على حد قول أبي طالب:
كلما أنبت الزمان قناة
ركب المرء في القناة سنانا
إن خطايا الخلق تظهر في عقوبات الإله، يجدها الإنسان في الكون من احتباس القطر، وهوج الريح، وقصف الرعد، وهيجان البحر، وغلاء الأسعار، وجور الحكام، وظلم القضاة، وشح الموارد، وحدب الديار، وفساد الثمار، وذبول الأشجار ، وتعكير الجو؛ لأن الذنب مشؤوم ، والخطيئة عقيمة، والسيئة قاتلة.
كيف تصلح الأرض وقد أغضب من في السماء، كيف يسعد المخلوق وقد خالف الخالق، كيف تقوم للناس حياة وواهب الحياة سبحانه يعصي ويتجاهل أمره.
إن سنة الله في الدول والشعوب والناس لا تتبدل، فمع العدل والتقوى يسعد الناس ، وتدور ا{زاق، وتتوفر الأقوات، وتقوم السواق، وتسكن الفتن، ويعم الأمن، ومع الظلم والمعاصي يحصل الخلل في كل شأن من شؤون الحياة، كما تقدم.
فانظر إلى عصر رسول الله صلي الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، فإنها الفترة الزمنية الزاهية الذهبية في حياتنا، إنها غرة في جبين الدهر، ودرة في تاج الزمان، وبدر في ليل العالم لما حصل في زمنهم من عزة للدين، وطاعة لرب العالمين،وقيم بكل ما يرضي الله من قول وعمل واعتقاد.
ثم انظر إلى عصر الحجاج وأبي مسلم الخرساني والفاطميين والإسماعلية، وكل ظالم وزنديق ومارق وعدو لله، كيف سفكت الدماء، وهتكت الأعراض، ونهبت الأموال، وسلب الآمن، وضاعت الأمة، وعمت الفتنة، وتفاقم الحال، وساءت المعيشة، وعمت البغضاء، وانتشر التقاطع، وظهر الخلاف، وبرز الشقاق، وبزغت البدع، وتواري العدل، وغرب الفلاح وما ربك بظلام للعبيد.
(ِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )
من النفس يبدأ التغيير، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، البداية من داخل العبد، من صلح حالة بقيت نعمته، ودامت عافيته، واستمر الهدي معه: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) ومن فسد وأعرض حلت به النقمة، وادبرت عنه النعمة، ونزل به الشقاء: ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) .
من أراد ما عند الله من العناية والكفاية والهداية فعليه أن يشرح صدره للحق الذي بعث به محمد صلي الله عليه وسلم ، ويتقبله بقبول حسن، ويجاهد في الله حق جهاده، كما هي تمام النصح لله والرسول وللمؤمنين ، مع سلامة الباطن، والتقيد بتعاليم الشرع، وصدق الهجرة إلى الله، بتوحيده وشكره وذكره وطاعته ، ومن تعرض لمقت الله وغضبه بتعطيل أمره، وتفريغ نصوص وحيه من محتواها ، والإدبار عن التقوي، والانحراف عن الجادة، والزيغ عن الحق، والتفلت على حدود الله، فليبشر بعذاب واصبن ونكد حاضر، وشقاء لازم وهم دائم؛ جزاء تنكره للحقيقة؛ وشططه في سلوك الطريقة، وبغيه وعدوانه ولا يظلم ربك أحداً.(/27)
هل يظن العبد أن الهداية سوف تطرق عليه بابه وتسأل عنه في مضجعه، كلا فالهداية يبحث عنها في مظانها في كتاب الله المشرق المغدق النير، في السنة المطهرة النقية المباركة ، في الصف الأول من بيوت الله حيث النفحات هناك والعناية واللطف ، في خلع أسمال الباطل ، في التبرء من المعتقدات الخاطئة، والشبهات المهلكة، والشهوات القاتلة، في العكوف على الوحي كتاباً وسنة ومدارسة وفهماً وتدبراً وعملاً ودعوة وجهاداً.
إن سلعة الله غالية لا يعرضها الباعة في أسواقهم، ولا ينادي عليها التجار في متاجرهم، إنها أغلي وأعلى من هذا الامتهان، إنها ثمينة يستاهلها من طلبها وحرص عليها وجاهد من أجلها، وبذل الغالي والرخيص لينالها، ودفع نومه وعرقه ودمعه وروحه ثمناً لها، حينها تزف له أجمل ما تكون في أبهي حلل وأزهي لباس وأعظم تاج.
لما غير بلال بن رباح العبد الفقير نفسه واستقبل الهدي؛ توج بتاج مؤذن الإسلام ، وصاحب الرسول صلي الله عليه وسلم ، وضيف الرحمن في الفردوس.
ولما غير أبو جهل الوجيه المشهور ما في نفسه، وقلب بصيرته، وانسلخ من فطرته؛ أهين وأرغم أنفه، وذاق المذلة، وأدركه الخزي عاجلاً وآجلاً.
إن علي العبد أن يبدأ هو برحلة النجاة وهجرة الإنقاذ ، ويركب في سفينة الحق لئلا يدركه طوفان الغضب فيغرق مع من غرق من المردة الملعونين.
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ )
هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم من المعتقدات والأقوال والأفعال والأحوال والأخلاق والآداب والسير، فهو يدل علي الأكمل والأحسن دائماً، فكلما اشتبهت الأمور واختلطت الآراء وماجت القلوب ، جاء القرآن بهداه وستاه، فهدي إلى الأرشد، ودل على الأتقي والأسمي.
لماذا القرآن وحده يهدي للتي هي أقوم؛ لأنه من فوق، وكتب البشر من تحت، ولنه من السماء، ومذكرات العبيد من الأرض، ولأنه من رب العالمين، أما هي فمن الطين، ولأنه من عند الله، وآراهم من أفكارهم المضطربة وقلوبهم الزائغة، فالذي أنزل القرآن هو الخالق، والذي صن ما يعارضه مخلوق، وعظمة القرآن في أن من تكلم به أحكم الحاكمين، وأحسن الخالقين، وخالق الناس أجمعين، فكيف لا يكون كلامه فوق كل كلام، وهداه أعظم من كل هدي ؛ لأنه عليم خبير بصير، ومن سواه جاهل غبي إلا من اهتدي بهداه، فبقدر اهتداء العبد بهذا النور يحصل له من سداد الرأي ونور البصيرة على قدر ما بذل وطلب واستفاد.
فالقرآن يهدي للتي هي اقوم في المعتقدات، فهو يدعو للتوحيد الصحيح، والدين الخالص، والعبادة المعتدلة، وهو يهدي للتي أقوم في الحكم، من حيث العدل والإنصاف ، ومراعاة الحقوق، والبعد عن الظلم والهضم والقهر والاستبداد ) فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَق) وهو يهدي للتي هي أقوم في الأخلاق؛ فهو يدعو إلى طهر الضمير، وزكاء النفس، وسلامة الصدر، ونقاء اللسان ، وعفاف الخلق، ومكارم الصفات، وأشرف الآداب : )خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) .
وهو يهدي للتي هي أقوم في البيع والشراء، وسائر العقود، وكافة المنافع ، فلا غش ولا غرر ولا نجش ولا ربا حيلة ولا خديعة ولا غبن ولا تدليس ) وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) .
وهو يهدي للتي هي أقوم في المعيشة والكسب والإنفاق والبذل، فلا إسراف ولا تقتير ، ولا ولا بذخ ولا شح ولا إمساك ولا تضييع )وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً).
وهو يهدي للتي أقوم في الدعوة والإصلاح والتربية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا غلظة ولا فظاظة ولا مداهنة ولا تمييع، بل حكمة ولين ورفق ورشد وهدي: )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )
وهو يهدي للتي هي اقوم في الآداب والفنون، فلا تعد على الحدود، ولا استخفاف بالقيم، ولا تلاعب بالمبادئ ولا جفاف وجمود وجحود ورهبانية، وإنما جمال لاحتشام، ومتعة بأدب، وذوق بعفاف، وحسن بالتزام: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) .
(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ )
واجب على من أقبل على الدين أن يقبل عليه بهمة وحرص، وان يبذل جهده في التمسك به وحمله بأمانة وإن تلقي الأمر بكسل وبرود برهان على موت الهمة ودناءة النفس، إن الضعيف مضطهد، وإن القيام بشعائر الدين على صورة من الترهل والهزال؛ دليل على عدم المحبة والاقتناع.
إن الصلاة المقبولة تحتاج إلى قوة في حضور القلب وخشوعه، واستحضار النية، ومحاربة الوسوسة وواردات النفس، وإن التلاوة الصحيحة تحتاج إلى قوة من حيث حسن التدبر وجميل التأثر ومدافعة الشرود، وإت الدعوة إلى الله تحتاج إلى قوة في جمال العرض، وبلاغة الوعظ، والإبداع في الخطاب، والصدق في النصيحة: ) وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) .(/28)
إن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف؛ لأن المؤمن القوي قوة للدين، وهيبة للملة، فعطاؤه أكثر ، ونفعه أوفر ، الكلمة القوية تهز القلب، وتهش لها النفس ، وتؤتي أكلها من الاستجابة والمتابعة ، وإن الحجة القوية تدفع الباطل وتدحض الشبهة، وإن الكتاب القوي يكسب الخلود والذيوع، والانتشار.
القوي يصمد في الأزمات ويثبت في المصائب، ويدافع عن مبادئه وينتصر لدينه، والضعيف يغلب عند أقل الحوادث ، وينهار في ميدان الكفاح، فيؤتي افسلام من قبله، ويدخل العدو من بوابته.
شبهة لا تردها قوة يقين تصبح كفراً، وإلحاد لا يردعه إيمان يصير ديناً للمنحرفين ، وشهوة لا يدمغها قوة صبر تحول العبد إلى بهيمة وكسل.
ماذا ينفعنا مؤمن ضعيف كسول خامل؟ وماذا يجدي علينا جيل بائس محطم غارق في الشهوات؟ وهل يصنع النصر على أيدي جبناء أغبياء، وهل يصاغ النجاح بأماني كاذبة، ووعود خائبة، وظنون خداعة.
إن صلاة الفجر لا تدرك إلا بعزيمة ونشاط، وإلا انهزمت النفس تحت مطارق النوم والراحة؛ ولذلك صح أنه صلي الله عليه وسلم إذا سمع الصارخ وثب للصلاة ليلاً، بلفظ وثب لتعي مدلولها وسرها.
لقد استعاذ عليه الصلاة والسلام من العجز والكسل ، فالعجز في الإرادة، والكسل في الحرم، وهما مصدر كل فشل وإخفاق ، إن الله ثبط المنافقين لأنهم لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة، ونصر الله المجاهدين ؛ لأنهم صبروا وثبتوا وتقدموا، وهذه سنة مطرودة : )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) .
يقول عمر بن الخطاب فاروق الإسلام: ( اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة)، ففاجر مصابر وتقي منهار مصيبة؛ لأن الفاجر الفاتك النشيط شيطان مريد، والتقي الخامل العاجز المقصر؛ جبان رعديد ، والإسلام يريد رجلاً قوياً حازماً بصيراً:
لا يدرك المجد إلا سيد فطن
لما يشق على السادات فعال
لا خامل جهلت كفاه ما بذلت
ولا جبان بغير السيف سأل
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والإقدام قتال
نريد عالماً ربانياً قوياً؛ لأن الضعيف يغلبه الوهم وينتصر عليه الظن، ولا يؤدي الأمانة كما هي، ونريد فقيهاً قوياً لأن الضعيف لا تمييز عنده، ولا برهان لديه، ولا فرقان يحمله.
ونريد مجاهداً قوياً؛ لأن الضعيف مسحوق مخذول يؤتي الإسلام من قبله، فإذا اجتمع في العبد قوة وأمانة وتقوى وعزيمة ومراقبة وصرامة فهو الرجل حقاً: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) .
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُم)
تعظون الناس ولا تتعظون ، تنصحون الناس ولا تنتصحون ، تأمرون بالمعروف ولا تأتونه، وتنهون عن المنكر وترتكبونه، قولكم جميل، وفعلكم قبيح، النطق حسن، والفعل سيئ ، تزكزن الناس بكلامكم وأنفسكم مقفرة من البر، موحشة من الهدي، يستنير الناس بوعظكم الخلاب ونصحكم الجذاب ، وأنتم في ظلمة المعصية واقفون، وفي ليل الخطايا حائرون، إن من أعظم النكبات على دين الله إخفاق حملته ودعاته في العمل بتعاليمه، حينها يصبح فعل هؤلاء حجة قاطعة لكل مارق ، وبينه واضحة لكل منافق يرتكب المعصية ، بدليل فعل هؤلاء السيئ ، وترك الطاعة بدليل عمل هؤلاء الخاطئ ، فلا يثق الجهلة بنصوص الشرع، لأن أناساً ممن يحملون هذه النصوص عطلوا العمل بها والاهتداء بهديها والانتفاع ببركتها.
الطبيب إذا تناول السم أمام المريض كيف يثق فيه المريض أو ينتفع بدوائه وعلاجه؟
وغير تقي يأمر الناس بالتقي
طبيب يداوي الناس وهو عليل
الخياط إذا مزق الثوب فقد مصداقيته في الخياطة ، النجار إذا كسر الباب خسر ثقة الناس في معرفته وحذقته، والدعاة إلى الحق والفضيلة إذا أهملوها وهجروها غسلت الأمة أيديها منهم، يصبح كلامهم الرنان رماداً تذروه الرياح، يصبح وعظهم البليغ منقوشاً، تصبح كتاباتهم وتآليفهم ركاماً من الزيف والغش والبهرجة.
وحمل الرسالة بالذات أمناء على الملة، أوصياء على الجيل، حفاظ للمبادئ ، فأي عثرة منهم ثلم في جدار الشريعة ، وحرج في جسم الديانة.
إن الربانية في العلم والدعوة ليست عمائم كالأبراج، والأكمام كالإخراج، والفتاوى معلبة جاهزة ترضي أهل الشأن، ويكسب من ورائها الدرهم والدينار، والمنصب والعقار(( يؤتي بالرجل فيدور في النار فتندلق أقتابه كما يدور الحمار برحاه، فيقول أهل النار؛ مالك يا فلان؛ ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ، قال: بلي ، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وانهاكم عن المنكر وآتيه، هكذا وصف المعصوم صلي الله عليه وسلم هذه الفئة ومصيرها عند الله عز وجل، وأحد الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة، قارئ قرأ القرآن ولم يعمل به.(/29)
إن حفظ المتون، وجمع الفنون، وإلقاء الخطب الرنانة، والجلجلة بالمواعظ الطنانة، سهل يسير ، يجيده الجمع الغفير، ويقوم به الكثير، لكن تطبيق هذه التعاليم والعمل بها، وتنفيذ أوامرها ، واجتناب نواهيها، والصدق في حملها، ومراقبة الله في دلالتها أمر شاق صعب متعب لا يقوم به إلا ربانيون طهرت أرواحهم ، زكت أخلاقهم ، حسنت سيرتهم، وصفت سريرتهم:
يا أيها الرجل المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم
أبدأ بنفسك فانهها عن غيها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
يا أيها الدعاة إلي المبادئ المقدسة، يا حملة الرسالة ويا أمناء الكلمة، لم تقولون ما لا تفعلون.؟! فقهاء في القول، جهلة في الفعل، أولياء على المنبر، عتاة في الميادين.
إن دمعة من خاشع اصدق من مائة خطبة من واعظ، وإن قطرة من شهيد أبلغ من مائة قصيدة حماسية من شاعر، وإن غضبه لله من عالم أوقع في القلوب من مائة درس في النهي عن المنكر.
إن أعظم ما يفعله صاحب الدعوة أن يكون سراجاً وهاجاً بعلمه وصدقة وإخلاصه وخلقه، إن فرعون قال: ) مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) ويشهد الله أنه كاذب خبيث ماكر، والمنافقون قالوا: نشهد إنك لرسول الله، فقال الله: ) وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) والرعديد الجبان يقول في غزوة تبوك: (( أئذن لى ولا تفتني)) أي أخشي على نفسي الفتنة إذا غزوت الروم من فتنة النساء، فيقول الله: ) أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ).
إن مصيبة أحبار اليهود ومن شابههم من هذه الأمة أنهم تعجلوا ثواب علمهم في دنياهم الفانية الزهيدة، ارضوا الناس بسخط الله فطوعوا النصوص لشهواتهم ، ولووا أعناق الأدلة لأهوائهم، إن خدم الدليل مقاصدهم فهو ثابت محكم صريح، إن عارض الدليل أغراضهم فهو محتمل مؤول له وجوه وله معان أخري، إن وقعوا في ملذات الدنيا استدلوا بقوله: )قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ) إن تركوا الأمر والنهي والقيام لله ذكروا الحكمة والرفق واللين، إن سعوا للمناصب والجاه أوردوا قول يوسف عليه السلام: )قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) والله عز وجل لا يلعب عليه كما يلعب على الصبيان، ولا يخادع كما يخادع الولدان، فهو العالم بالسرائر ، المطلع على ما في الضمائر، العليم بالنيات، الخبير بالخفيات: )يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) .
ويلكم من الله: معكم كتاب من الله فيه الهدى والنور وأنتم تعلمون ما فيه فهلا زجركم علمكم بالكتاب عن فعلكم المشين؟! هلا أثر فيكم هذا الكتاب الذي تدرسونه لأن العالم بحجة الله ليس كالجاهل بها، والمطلع على شرع الله ليس كالغافل عنه.
إن العلماء إذا أعرضوا وفسدوا كانوا أكثر إساءة، واكبر معصية من الجاهل الغر الذي ما استضاء بالعلم.
فيا من تعلم العلم وتلقن الحكمة ثم اعرض عن العمل إنما أنت شاهد على نفسك، ساع في هلاكك؛ لأن المنتظر والمأمول من صاحب العلم تقواه لمولاه، وسعيه في رضا ربه ومحافظته على ما في الكتاب، ثم سألهم سؤال توبيخ وتبكيت فقال: ) أَفَلا تَعْقِلُونَ).
أين العقول السليمة ؟ أين الآراء السديدة؟ أخفقتم في النقل، أعرضتم عن الكتاب ، وفسدتم في العقل فعرضتم أنفسكم للعذاب، إن العاقل يدله عقله على الهدى ويجنبه الردي، وإن من اثر العذاب على الرجمة، والغواية على الرشد لفاسد العقل، سيئ التدبير، غائب الرشد، ولو كان محنكاً في أمور الدنيا، داهية في طرق السياسية ، ماهراً في الكسب، ذكياً في المعيشة.
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)
كلمة (رَبَّكَ) إشعار بالرعاية، وسابق المنة، وقدم النعمة، فإن من رباك سيظهرك على من عاداك، ( وبالمرصاد) فيها من التخويف والتهويل ما يبهر الألباب، ويخلع النفوس، فهو سبحانه يخفي مكره عن أعدائه حتى يترصدهم فيأخذهم عى غرة، فإن عذابه بغته، وعقوبته فجأة، فخو بالمرصاد لأعدائه يبرمون وينكث ما أبرموا، يدبرون فيقتل ما دبروا، والراصد دائماً أقدر على البطش من المكشوف لعدوه، لأن عنده من فنون الحيل وصنوف المباغتة وأنواع المداهمة ما يبطل على الخصم حيلة، ويعمي سبله ، ويظهر خلله.(/30)
وقل لي بربك: أي زلزال هذا التهديد لكل كافر رعديد إذا كان الله بالمرصاد ، لقد أمر الله عباده أن يقعدوا لأعدائه كل مرصد، وأخبر أنه أعد للجن المردة شهاباً رصداً، لكن لما وصف نفسه الجليلة قال: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) وهذه الكلمة تصلح عنواناً لكل موعظة، ينذر بها العصاة؛ لأنها عامة مخيفة مرعبة، فخو بالمرصاد لمن نقض العهد، وأخلف الوعد، وفجر في الخصومة، وخان الميثاق ، وهو بالمرصاد لمن ترك الطاعة، وارتكب المعصية، وتعدي الحدود، واقترف المحرمات، والله مرصد لأعدائه ويحبك لهم نهاية البؤس، وخاتمة الدمار وطريقة المصرع، وكيفية الأخذ ، فلا يلعب أحد على نفسه فينخدع بحلم الرحمن الرحيم، فإنه يمهل ولا يهمل ، وليعلم كل عبد أن ربه مطلع على أعماله، عالم بأحواله، بصير بمآله.
إن أحمق الناس من غرته نفسه، وخدعه هواه، وزين له الشيطان طريق المعصية حتى وقع في الفخ.
(قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ)
ما اشد تنكر هذا الإنسان لربه، وما ‘ظم جحوده لخالقه، خلقه ربه من العدم فشك في وجود ربه، واطعمه من جوع فشكر غيره، وأمده بالقوة فعصي بها مولاه، هذا الإنسان إن لم يهتد بهدي الله فهو كنود، يمرض فيشخع، فإذا شفاه ربه نسي وتكبر، يفتقر فيخضع، فإذا أغناه الإله طغي وبغي، يبتلي فينكسر ويدعو، فإذا عافاه خالقه تجبر وعتي، عنده آلاف النعم فيكتمها ويطلب غيرها، لديه مئات المواهب فيجحدها ويسأل سواها، ثقيل على الطاعة، خفيف إلى المعصية، بطي عند الأوامر، سريع عند المناهي، قدري في الطاعة ، جبري في المعصية ، يتلهف على المفقود، ولا يشكر الله على الموجود.
سماع الأغاني أخف عليه من سماع المثاني، سهرة لهو أحب إليه من ساعة مناجاة، رفقة البطالين اشهي لديه من صحبة الصالحين، يأكل الطعام ولا يشكر من أطعمه، ويشرب الشراب ولا يحمد من سقاه، النعم تغمره من كل مكان وهو في شرود ونسيان، خلقه ربه فعبد سواه، وأمره ونهاه فاتبع هواه، لو أهدي له مخلوق خميلة لشكرها، كل نعمة لديه من ربه قد كفرها، يحبر القصائد في مدح العبيد، ولا يمدح ذا العرش المجيد، يسطر المقامات في الثناء على المخلوق الهزيل، ولا يسطر مقامه في الثناء على العزيز الجليل، يقف على أبواب البخلاء، ولا يقف على باب رب الأرض والسماء، مع العلم أنه لا يصله منهم ذرة إلا بقدرة الملك الحق، وبمشيئة الغني الحميد، يمنحه رب المال، فيقول : إنما أوتيته على علم عندي، يوليه ربع قطعة من ارضه فيقول: أليس لى ملك هذه الأرض، بقوتي ملكت وبقدرتي حكمت، يهبه ربه قوة الأعضاء وصحة الجسم فيركض مغروراً ويقترف الخطايا مسروراً.
إذا كان له عند ربه مسألة ذل وتمسكن حتى ينالها، ثم يمر متكبراً جاحداً، إذا أصابته رزية بكي وشكي وتأوه، فإذا كشفها الله ذهب مختالاً فخوراً، إذا جاع انكسرت نفسه، فإذا شبع سهي ولها ولغي، يأكل بلا حمد، ويشرب بلا شكر، ويسكن بلا ثناء، وين\تنعم بلا اعتراف، يمن على ربه ركعات بلا خشوع، وتلاوة بلا تدبر، وصدقة بلا نية، ولا يحفظ لربه نعمة الحياة والرزق والمال والولد، والعينين البصيرتين، والأذنيين السميعتين ، والشفتين واللسان واليدين، والأنف والرجلين، تصب عليه النعم صباً، وتنهمر عليه العطايا انهماراً وهو لئيم مريد عنيد.
على من تلعب يا كفور، ومن تخادع يا مغرور، إن صلي سهي ، وإن قرأ لها، وإن تكلم لغا، يأخذ ولا يعطي ، يحفظ عدد النعم ووصفها ، وينسي شكرها والثناء على من أهداها، جماع مناع طماع، إن مرض حسب أيام المرض ولياليه وساعاته، وإن تعافي نسي شهور العافية وأعوامها، إذا أعطي درهماً فهو مثل أحد عنده، وإن أعطاه ربع قنطاراً النبي صلي الله عليه وسلم ذهب فهو ذرة في ميزانه، إلا من آمن وشكر، واحسن وصبر، وأطاع وذكر.
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض)(/31)
هذا اصدق مدح لربنا جل في علاه، فالله نور هذا العالم، فكل نور يشع فمن نوره جل في علاه، فالقلوب في ظلمة حتى يصلها نور توحيده، والبصائر معتمة حتى يطلع عليها نور هدايته، والعالم في دياجير الظلم حتى يشرق عليها نور ربه، فالنفس النيرة إنما استنارت بنور الله لما عرفت شرعه وأبصرت هذاه، والعقل النير إنما فتح عليه لما اصابه حظه من نور الله، والكلمة السديدة إنما حسنت وجملت لما اضاءت بنور ربها ، والفعل الحسن الراشد إنما صلح لأن الله وهبه من نوره، والمجتمع المستنير إنما استقام أمره لما أدركه نور من نور ربه ، فكل نور في العقول والنفوس والأفئدة فمن الملك الحق، فبنوره اشرقت السماء والأرض، وصلح أمر الدنيا والآخرة، واستقام الحال، وطاب المآل ، وكتبه سبحانه نور يبصر بها العمي، ويهدي بها الضلال، ويرشد بها أهل الغي، ورسله نور يبعثهم بالحق فينقذون بإذنه من الهلاك، ويردعون من الردى، وينجون من المعاطب، وصراطه المستقيم نور به يهتدي المهتدون، وعليه يسير العابدون، وفيه يسلك الصاقون، ومن أهل العلم من قال في قوله تعالي: )اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض) قال : منورهما يعني الشمس والقمر والكواكب ، ور تعارض، فكل نور معنوي، أو حي ظاهر أو باطن فمن لدن لحكيم الخبير جل في علاه.
فليطلب النور من عند الله فإن كل أرض لا يشرق عليها نوره فهي أرض ملعونة، وكل قلب لا يبصر نوره قلب غاو، وكل نفس لم تهتد بهداه نفس خاوية، العالم إذا لم يهبه الله من نوره صار عالم سوء، وصاحب زور، وحامل بهتان،والحاكم الذي حرمه الله نور غادر جبار، غشوم ظلوم ، وكل عبد حرم نور ربه فقد تم خسرانه وعظم حرمانه.
أعظم حصائص القرآن أنه نور؛ لأنه من عند الله جل في علاه، فهو الذي تكلم به وأوحاه، وفصل آياته، وأحكم بيناته: )ُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) ومحمد صلي الله عليه وسلم نور؛ لأن الله بعثه ووهبه من نوره وهداه بهداه )ُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) ومحمد صلي الله عليه وسلم نور؛ لأن الله بعثه ووهبه من نوره وهداه بهداه (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً).
وبقدر اهتداء العبد ومتابعته وصدقه في طاعته يمنحه ربه نوراً من نوره يبقي معه حتى يصل به إلى جنات النعيم.
والمؤمنون لما صدقوا في العمل بالكتاب واتباع الرسول صلي الله عليه وسلم جعل الله نورهم يسعي بين ايديهم جزاء وفاقاًن ولما أعرض من أعرض من أعداء الله حرمهم الله ذلك النور فبقوا في الظلمات فما لهم من نور، فنور الفطرة مع نور الهداية، ونور الكتاب مع نور الرسول ، ونور البصيرة مع نور الحجة ) نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) ( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).
(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ )
فقدرة عظيم ، ووجه كريم، وفضله واسع، وجوده شامل، ولكن العباد ما قدروا الله حق قدره، خلق الخلق وتكفل بالرزق، وحفظ النفوس، واطلع على السرائر ، وعلم النيات، ولكن الناس ما قدروه حق قدره.
عفا وكفا وشفا، وشفا، علم وحلم وحكم، أغني وقني وأعطي، ساد وجاد وهو رفيع العماد، ولكن الخلق ما قدروه حق قدره.
الأرض جميعاً قبضته، والسماوات مطويات بيمينه، والكون ذرة في ملكه، والخليقة فقيرة إليه، ولكنهم ما قدروا الله حق قدره.
من اشرك معه غيره، وعبد معه سواه، وادعي له نداً، واخترع له مثيلاً، وجعل له شبيهاً، فما قدره حق قدره.
من أقسم بغيره، أو أعطي به وغدر، أو حلف به وفجر، وأخذ نعمه فما شكر، ونسيه وما ذكر ، فما قدروه حق قدره.
من تعدي حدوده، وارتكب محرماته، واستهزأ بىياته، وألحد في اسمائه وصفاته، فما قدره حق قدره.
من حارب أولياءه، وناصر أعداءه، وعصي أمره، وغمط بره، واستهان لعظمته، فما قدره حق قدره.
من أعرض عن كتابه، وشاق رسوله، وكذب بلقائه، وتهاون بوعده ووعيده، فما قدر الله حق قدره.
حق قدره أن يطاع فلا يعصي، ويذكر فلا ينسي، ويشكر فلا يكفر، ويحب حباً يملك على العبد كل حركة فيه.
حق قدره أن يفوض الأمر إليه، ويتوكل عليه، ويرضي بحكمه ، ويستسلم له، وينقاد لأموامره، ويذعن لقضائه.
حق قدره أن لا يخالف، ولا يحارب، ولا يمثل، ولا يشبه، ولا يكيف، ولا تضرب به الأمثال، وتصرف لغيره الأعمال.
حق قدره ان يقصد بالسعي، ويخلص له العمل، ويجرد له التعظيم، ويفرد بالربوبية والأولوهية والأسماء والصفات.
حق قدره أن يرضي به ولياً ورباً وألهاً وحاكماً وكفيلاً ووكيلاً وحسيباً؛ لأنه وحده المتفرد المتوحد، وهو الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
أشرك بع أعداؤه وحاربه خصومه، ونسبوا له الولد والصاحبة، وشبهوه بخلقه؛ لنهم ما قدروه حق قدره.(/32)
كذبوا رسله، وقتلوا أنبياءه، وآذوا أولياءه، وكفروا آلاءه وعطلوا صفاته واسماءه؛ لأنهم ما قدروه حق قدره.
بارزوه بالمعاصي، واغضبوه بالذنوب ، قابلوه بالسيئات، وأتوه بالخطايا؛ لأنهم ما قدروه حق قدره.
هجروا المساجد، تركوا المصاحف، عطلوا الشريعة، أماتوا الدين، انتهكوا المحرمات ، لأنهم ما قدروه حق قدره.
كيف لا يقدر له حق قدره، وصفاته جليلة، وأسماؤه جميلة، ومنه كل نعمة كثيرة أو قليلة.
كيف لا يقدر له حق قدره وهو الذي صور فأبدع، وخلق فأحسن، وأعطي فأغني، وتولي فنصر.
كيف لا يقدر له حق قدره ومن نظر في مخلوقاته وتأمل مصنوعاته وتفكر في موجوداته هاله ذلك وأدهشه وحيره. فكيف لا يقدر من خلق وأوجد وبرأ وصتع وصور، جل في علاه، كيف لا يقدر من رفع السماء، وبسط الأرض، وأرسي الجبال ، واجري الماء، وسير الهواء، ومد الضياء ، وأوجد كل شئ كما شاء، فهو صاحب الجميل ذو المنة له الملك وله الحمد وله الثناء الحسن.
إن من تقدير الله حق قدره طاعته فيما أمر، واجتناب ما نهي عنه وزجر، وتصديقه فيما أخبر، والرضا بما قدر ، والشكر علي ما يسر، والحمد له على أنه ستر وغفر، مع متابعة رسوله والعمل بكتابه، والقيام بطاعته وهجر معاصيه، والرضا به رباً، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلي الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)
استوي استواء يليق بجلالة ويتناسب مع كماله، لا يشبهه استواء المخلوق الناقص القصير؛ لأن الله أحد في ربوبيته وألوهيته واسمائه وصفاته وأفعاله، فاستوي هنا بمعني علا وصعد، وانظر إلى عظمته في هذا الاستواء فإنه سبحانه وتعالي فوق فله علو الذات، وعلو القهر، وعلو القدر ، علا فقهر، وحكم فقدر، واطلع فستر، وعلم فغفر ، وانظر إلى اسم الرحمن وما فيه من صفة الرحمة العامة الشاملة، واختار عن هنا هذا الأسم؛ لأن رحمته غلبت غضبه، فهو رحمن بالدنيا والآخرة، واستوي يدبر ملكه ويصرف خليقته، فهو بائن من خلقه بذاته، ليس في ذاته شي من مخلوقاته وليس في مخلوقاته شيء من ذاته، وهو بعلمه مع خلقه، وبحفظه مع أوليائه يعلم ويبصر، ويسمع دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، ويعلم ويري حبة الخردل في الصخرة الملساء، ما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا تلفظ من همسة إلا يسمعها ، وما تدب حركة إلا يطلع عليها، يعلم السر وأخفي من السر، ويعلم ما يكون وما هو كائن،وما لم يكن لو كان، كيف يكون.
على العرش استوي يخلق ويرزق، ويقضي ويحكم، ويقدم ويؤخر، ويعز ويذل، ويولى ويعزل، لا يشغله شأن عن شأن، ولا يحوله مكان ولا يحد بزمان، أخذ بالنواصي وملك الرقاب، نصر أولياءه، وسحق أعداءه، من أحبه قربه، ومن حاربه خذله وأدبه، ترفع إليه المسائل ،وتصعد إليه الحاجات، وترفع له الأعمال ، وتحصي لديه الأقوال ، وتكشف عنده الأحوال، يحفظ من في البر، ويرعي من في البحر، يطعم الجائع، ويسقي الظمآن، ويكسو العاري، وينجي الملهوف ويعطي المسكين ، ويكشف الكرب، ويزيل الخطب، ويسهل الأمر الصعب، ويغفر الذنب، ويقبل التوبة.
على العرش استوي، بني السماء ، وبسط الأرض، وقدر الأوقات، واوجد المخلوقات، وبعدما طحي ودهي وأرسي الجبال، ومهد الفجاج، وأخرج الماء والمرعي، ووهب الأرزاق، وقدر الآجال، وكتب المقادير، وأحصي كل شئ عدداً، خلق الخلق بحسبان، أتقن صنعه، واحسن خلقه، وأبدع موجوداته، واستوى على العرش ليتفرد بالملك وحده، وعلو القهر والقدر وحده، فليس له شريك في ربوبيته، ولا نديد في ألوهيته، ولا شبيه أو مثيل في أسمائه وصفاته، من نازعه الملك محقة، ومن نازعه الكبرياء والعظمة قصمه.
وانظر إشراقة الكلمات الثلاث وجمالها وفخامتها وهي: الرحمن، والعرش، واستوى.
فالرحمن : إعلام لعباده برحمته مع فوة قهره وعلو قدره، ثم هي على صفة المبالغة لعموم الرحمة وعظمتها، والعرش: سرير الملك مع ما في هذه الكلمة من عزة وجبروت وقوة وجلال، وكلمة استوي: فيها من معاني العلو والرفعة والشرف والسؤدد والمجد ما يفوق الأوصاف، ويعجز العقول، ويحير الأفكار ، فسبحانه من ملك جبار، ومن عزيز غفار.
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون* وسلام على المرسلين* والحمد لله رب العالمين.(/33)
على خُطا أعرابي زمزم؟!
د. مسفر بن علي القحطاني 10/12/1426
10/01/2006
روى الإمام ابن الجوزي حادثة وقعت أثناء الحج في زمانه؛ إذ بينما الحجاج يطوفون بالكعبة ويغرفون الماء من بئر زمزم قام أعرابي فحسر عن ثوبه، ثم بال في البئر والناس ينظرون، فما كان من الحجاج إلا أن انهالوا عليه بالضرب حتى كاد يموت، وخلّصه الحرس منهم، وجاؤوا به إلى والي مكة، فقال له: قبّحك الله، لِمَ فعلت هذا؟ قال الأعرابي: حتى يعرفني الناس، يقولون: هذا فلان الذي بال في بئر زمزم!!
ومع شناعة هذا الفعل وغرابته في آن واحد إلا أن هذا الأعرابي قد سطر اسمه في التأريخ رمزاً للسخافة والخَرَق, وإلا فما الداعي لهذه الفعلة الشنيعة إلا الحرص الشديد على بلوغ المجد والشهرة، ولو كان بالدخول من أحط الأبواب وأنتنها، خصوصاً أن الأمر لا يحتاج إلى مال يُنفق أو جهد يُبذل، ولكنه البحث عما يثير اهتمام الناس بالغريب المحدث من الأقوال أو الأفعال.
والناظر في حال الكثير من هواة الصعود الصاروخي إلى قمم الشهرة والإثارة والمتابعة الإعلامية يعمدون إلى الاستفادة من مدرسة ذاك الأعرابي، والاعتبار بمنهجه البراغماتي في الدوس على القيم المحترمة، والمبادئ المعتبرة، والفطر السليمة بغية أن يقول الناس: هذه فعلة فلان المعروف، أو من هنا مرّ فلان المشهور، ولا يبالي بعدها بالدعاء أو الشتم أو التأسف أو الحوقلة أو غيرها من أساليب العجب والاستغراب. فالاستهانة والذم قد تهون أمام الذكر والمغالبة على حديث الناس.
وفي عصرنا الراهن أصبح فعل الأعرابي في زمزم سُنّة يحتذي بها بعض من استحسن فكرته، بل ربما ظاهرة لدى جمهور من الصحفيين و الكتاّب والروائيين فمع كثرة وسائل النشر التقليدية أو الإلكترونية أصبح لفت الانتباه وإثارة الغبار على المعتاد فرصة أولئك الصاعدين لبلوغ الشهرة والوصول إلى رغبات القراء الجامحة نحو المغيّب من الأمور والخارق للعادة والمخفي من أحوال الناس.
وهذا ما لاحظته في رواية لإحدى الكاتبات المغمورات التي أتقنت درس الأعرابي، وكتبت روايتها المستوحاة من عمق المستور داخل مجتمعها إلى عمق المفضوح في أحداثها، مما جعلها الرواية الأولى في المبيعات في عدد من معارض الكتب، وهاهي توقّع الطبعة الثالثة من روايتها في أقل من أربعة أشهر والتي يفوق عدد نسخها القادمة على عشرة آلاف نسخة، ولا أستبعد أن تُرشّح في المستقبل القريب إلى عدد من الجوائز العالمية والأدبية تليق بحجم العمل الظاهرة!!
و عالمنا العربي يحوي الكثير من المشاهد المكررة التي تؤكد نظرية التفوق الهامشي للزبد والعلو الوقتي للدخان الأسود.
وكم آسى على حال ذاك الأعرابي الذي ذاق أشد الضربات وأبشع الأوصاف على فعلته في زمزم، بينما أبناء مدرسته ينالون أعلى الأوسمة وأشرف الألقاب أمام مرأى الجميع ومرارات أهل المكابدة في البحث والإبداع في الفن، لذا أتساءل أحياناً وبصمت معتاد: هل مكمن الخلل في أذواقنا أم في قيمنا أم في الأعرابي الذي سجّل التاريخ نكبته وحمّلنا تبعة بولته النكدة في مشارب الناس؟!(/1)
على فراش الموت
لما احتضر أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه حين وفاته قال : و جاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد .
و قال لعائشة :
انظروا ثوبي هذين , فإغسلوهما و كفنوني فيهما , فإن الحي أولى بالجديد من الميت .
و لما حضرته الوفاة أوصى عمر رضي الله عنه قائلا :
إني أوصيك بوصية , إن أنت قبلت عني : إن لله عز و جل حقا بالليل لا يقبله بالنهار , و إن لله حقا بالنهار لا يقبله بالليل , و إنه لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة , و إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه في الآخرة بإتباعهم الحق في الدنيا , و ثقلت ذلك عليهم , و حق لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلا , و إنما خفت موازين من خفت موازينه في الآخرة باتباعهم الباطل , و خفته عليهم في الدنيا و حق لميزان أن يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفا.
ولما طعن عمر
.. جاء عبدالله بن عباس , فقال .. : يا أمير المؤمنين , أسلمت حين كفر الناس , و جاهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حين خذله الناس , و قتلت شهيدا و لم يختلف عليك اثنان , و توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو عنك راض .
فقال له : أعد مقالتك فأعاد عليه , فقال : المغرور من غررتموه , و الله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس أو غربت لافتديت به من هول المطلع .
و قال عبدالله بن عمر : كان رأس عمر على فخذي في مرضه الذي مات فيه .
فقال : ضع رأسي على الأرض .
فقلت : ما عليك كان على الأرض أو كان على فخذي ؟!
فقال : لا أم لك , ضعه على الأرض .
فقال عبدالله : فوضعته على الأرض .
فقال : ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي عز و جل.
أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه و أرضاه
قال حين طعنه الغادرون و الدماء تسيل على لحيته :
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .
اللهم إني أستعديك و أستعينك على جميع أموري و أسألك الصبر على بليتي .
ولما إستشهد فتشوا خزائنه فوجدوا فيها صندوقا مقفلا . ففتحوه فوجدوا فيه ورقة مكتوبا عليها (هذه وصية عثمان)
بسم الله الرحمن الرحيم .
عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله و أن الجنة حق . و أن الله يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد . عليها يحيا و عليها يموت و عليها يبعث إن شاء الله .
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
بعد أن طعن علي رضي الله عنه
قال : ما فعل بضاربي ؟
قالو : أخذناه
قال : أطعموه من طعامي , و اسقوه من شرابي , فإن أنا عشت رأيت فيه رأيي , و إن أنا مت فاضربوه ضربة واحدة لا تزيدوه عليها .
ثم أوصى الحسن أن يغسله و قال : لا تغالي في الكفن فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لاتغالوا في الكفن فإنه يسلب سلبا سريعا
و أوصى : إمشوا بي بين المشيتين لا تسرعوا بي , و لا تبطئوا , فإن كان خيرا عجلتموني إليه , و إن كان شرا ألقيتموني عن أكتافكم .
معاذ بن جبل رضي الله عنه و أرضاه
الصحابي الجليل معاذ بن جبل .. حين حضرته الوفاة ..
و جاءت ساعة الإحتضار .. نادى ربه ... قائلا .. :
يا رب إنني كنت أخافك , و أنا اليوم أرجوك .. اللهم إنك تعلم أنني ما كنت أحب الدنيا لجري الأنهار , و لا لغرس الأشجار .. و إنما لظمأ الهواجر , و مكابدة الساعات , و مزاحمة العلماء بالركب عند حلق العلم .
ثم فاضت روحه بعد أن قال :لا إله إلا الله ...
روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال .. : نعم الرجل معاذ بن جبل
و روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أرحم الناس بأمتي أبوبكر .... إلى أن قال ... و أعلمهم بالحلال و الحرام معاذ .
بلال بن رباح رضي الله عنه و أرضاه
حينما أتى بلالا الموت .. قالت زوجته : وا حزناه ..
فكشف الغطاء عن وجهه و هو في سكرات الموت .. و قال : لا تقولي واحزناه , و قولي وا فرحاه
ثم قال : غدا نلقى الأحبة ..محمدا و صحبه .
أبو ذر الغفاري رضي الله عنه و أرضاه
لما حضرت أبا ذر الوفاة .. بكت زوجته .. فقال : ما يبكيك ؟
قالت : و كيف لا أبكي و أنت تموت بأرض فلاة و ليس معنا ثوب يسعك كفنا ...
فقال لها : لا تبكي و أبشري فقد سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول لنفر أنا منهم :ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين
و ليس من أولئك النفر أحد إلا و مات في قرية و جماعة , و أنا الذي أموت بفلاة , و الله ما كذبت و لا كذبت فانظري الطريق
قالت :أنى و قد ذهب الحاج و تقطعت الطريق
فقال انظري فإذا أنا برجال فألحت ثوبي فأسرعوا إلي فقالوا : ما لك يا أمة الله ؟
قالت : امرؤ من المسلمين تكفونه ..
فقالوا : من هو ؟
قالت : أبو ذر
قالوا : صاحب رسول الله
ففدوه بأبائهم و أمهاتهم و دخلوا عليه فبشرهم و ذكر لهم الحديث
و قال : أنشدكم بالله , لا يكفنني أحد كان أمير أو عريفا أو بريدا
فكل القوم كانوا نالوا من ذلك شيئا غير فتى من الأنصار فكفنه في ثوبين لذلك الفتى(/1)
و صلى عليه عبدالله بن مسعود
فكان في ذلك القوم
رضي الله عنهم أجمعين.
الصحابي الجليل أبوالدرداء رضي الله عنه و أرضاه
لما جاء أبا الدرداء الموت ... قال :
ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا ؟
ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا ؟
ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه ؟
ثم قبض رحمه الله.
سلمان الفارسي رضي الله عنه و أرضاه
بكى سلمان الفارسي عند موته , فقيل له : ما يبكيك ؟
فقال : عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكون زاد أحدنا كزاد الراكب , و حولي هذه الأزواد .
و قيل : إنما كان حوله إجانة و جفنة و مطهرة !
الإجانة : إناء يجمع فيه الماء
الجفنة : القصعة يوضع فيها الماء و الطعام
المطهرة : إناء يتطهر فيه.
الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه
لما حضر عبدالله بن مسعود الموت دعا إبنه فقال : يا عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود , إني أوصيك بخمس خصال , فإحفظهن عني :
أظهر اليأس للناس , فإن ذلك غنى فاضل .
و دع مطلب الحاجات إلى الناس , فإن ذلك فقر حاضر .
و دع ما تعتذر منه من الأمور , و لا تعمل به .
و إن إستطعت ألا يأتي عليك يوم إلا و أنت خير منك بالأمس , فافعل .
و إذا صليت صلاة فصل صلاة مودع , كأنك لا تصلي بعدها .
الحسن بن علي سبط رسول الله و سيد شباب أهل الجنة رضي الله عنه
لما حضر الموت بالحسن بن علي رضي الله عنهما , قال :
أخرجوا فراشي إلى صحن الدار , فأخرج فقال :
اللهم إني أحتسب نفسي عندك , فإني لم أصب بمثلها !
الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
قال معاوية رضي الله عنه عند موته لمن حوله : أجلسوني ..
فأجلسوه .. فجلس يذكر الله .. , ثم بكى .. و قال :
الآن يا معاوية .. جئت تذكر ربك بعد الانحطام و الانهدام .., أما كان هذا و غض الشباب نضير ريان ؟!
ثم بكى و قال :
يا رب , يا رب , ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي .. اللهم أقل العثرة و اغفر الزلة .. و جد بحلمك على من لم يرج غيرك و لا وثق بأحد سواك ...
ثم فاضت رضي الله عنه.
الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه
حينما حضر عمرو بن العاص الموت .. بكى طويلا .. و حول وجهه إلى الجدار , فقال له إبنه :ما يبكيك يا أبتاه ؟ أما بشرك رسول الله ....
فأقبل عمرو رضي الله عنه إليهم بوجهه و قال : إن أفضل ما نعد ... شهادة أن لا إله إلا الله , و أن محمدا رسول الله ..
إني كنت على أطباق ثلاث ..
لقد رأيتني و ما أحد أشد بغضا لرسول الله صلى الله عليه و سلم مني , و لا أحب إلى أن أكون قد استمكنت منه فقتلته , فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار.....
فلما جعل الله الإسلام في قلبي , أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت : إبسط يمينك فلأبايعنك , فبسط يمينه , قال : فقضبت يدي ..
فقال : ما لك يا عمرو ؟
قلت : أردت أن أشترط
فقال : تشترط ماذا ؟
قلت : أن يغفر لي .
فقال : أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله , و أن الهجرة تهدم ما كان قبلها , و أن الحج يهدم ما كان قبله ؟
و ما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا أحلى في عيني منه , و ما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له , و لو قيل لي صفه لما إستطعت أن أصفه , لأني لم أكن أملأ عيني منه ,
و لو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة ,
ثم ولينا أشياء , ما أدري ما حالي فيها ؟
فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة و لا نار , فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور و يقسم لحمها , حتى أستأنس بكم , و أنظر ماذا أراجع به رسل ربي ؟
الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري
لما حضرت أبا موسى - رضي الله عنه - الوفاة , دعا فتيانه , و قال لهم :
إذهبوا فاحفروا لي و أعمقوا ...
ففعلوا ..
فقال : اجلسوا بي , فو الذي نفسي بيده إنها لإحدى المنزلتين , إما ليوسعن قبري حتى تكون كل زاوية أربعين ذراعا , و ليفتحن لي باب من أبواب الجنة , فلأنظرن إلى منزلي فيها و إلى أزواجي , و إلى ما أعد الله عز و جل لي فيها من النعيم , ثم لأنا أهدى إلى منزلي في الجنة مني اليوم إلى أهلي , و ليصيبني من روحها و ريحانها حتى أبعث .
و إن كانت الأخرى ليضيقن علي قبري حتى تختلف منه أضلاعي , حتى يكون أضيق من كذا و كذا , و ليفتحن لي باب من أبواب جهنم , فلأنظرن إلى مقعدي و إلى ما أعد الله عز و جل فيها من السلاسل و الأغلال و القرناء , ثم لأنا إلى مقعدي من جهنم لأهدى مني اليوم إلى منزلي , ثم ليصيبني من سمومها و حميمها حتى أبعث .
سعد بن الربيع رضي الله عنه
لما إنتهت غزوة أحد .. قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من يذهب فينظر ماذا فعل سعد بن الربيع ؟
فدار رجل من الصحابة بين القتلى .. فأبصره سعد بن الربيع قبل أن تفيض روحه .. فناداه .. : ماذا تفعل ؟
فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثني لأنظر ماذا فعلت ؟
فقال سعد :(/2)
إقرأ على رسول الله صلى الله عليه و سلم مني السلام و أخبره أني ميت و أني قد طعنت إثنتي عشرة طعنة و أنفذت في , فأنا هالك لا محالة , و إقرأ على قومي من السلام و قل لهم .. يا قوم .. لا عذر لكم إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و فيكم عين تطرف ...
عبدالله بن عمر رضي الله عنهما
قال عبدالله بن عمر قبل أن تفيض روحه :
ما آسى من الدنيا على شيء إلا على ثلاثة :
ظمأ ا لهواجر ومكابدةالليل و مراوحة الأقدام بالقيام لله عز و جل ,
و أني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت
(و لعله يقصد الحجاج و من معه).
عبادة بن الصامت رضي الله عنه و أرضاه
لما حضرت عبادة بن الصامت الوفاة ، قال :
أخرجوا فراشي إلى الصحن
ثم قال :
اجمعوا لي موالي و خدمي و جيراني و من كان يدخل علي
فجمعوا له .... فقال :
إن يومي هذا لا أراه إلا آخر يوم يأتي علي من الدنيا ، و أول ليلة من الآخرة ، و إنه لا أدري لعله قد فرط مني إليكم بيدي أو بلساني شيء ، و هو والذي نفس عبادة بيده ، القصاص يوم القيامة ، و أحرج على أحد منكم في نفسه شيء من ذلك إلا اقتص مني قبل أن تخرج نفسي .
فقالوا : بل كنت والدا و كنت مؤدبا .
فقال : أغفرتم لي ما كان من ذلك ؟
قالوا : نعم .
فقال : اللهم اشهد ... أما الآن فاحفظوا وصيتي ...
أحرج على كل إنسان منكم أن يبكي ، فإذا خرجت نفسي فتوضئوا فأحسنوا الوضوء ، ثم ليدخل كل إنسان منكم مسجدا فيصلي ثم يستغفر لعبادة و لنفسه ، فإن الله عز و جل قال : و استعينوا بالصبر و الصلاة و إنها لكبيرة إلا على الخاشعين ... ثم أسرعوا بي إلى حفرتي ، و لا تتبعوني بنار .
الإمام الشافعي رضي الله عنه
دخل المزني على الإمام الشافعي في مرضه الذي توفي فيه
فقال له :كيف أصبحت يا أبا عبدالله ؟!
فقال الشافعي :
أصبحت من الدنيا راحلا, و للإخوان مفارقا , و لسوء عملي ملاقيا , و لكأس المنية شاربا , و على الله واردا , و لا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها , أم إلى النار فأعزيها , ثم أنشأ يقول :
و لما قسا قلبي و ضاقت مذاهبي
جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته
بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل
تجود و تعفو منة و تكرما
الحسن البصري رضي الله عنه و أرضاه
حينما حضرت الحسن البصري المنية
حرك يديه و قال :
هذه منزلة صبر و إستسلام !
عبدالله بن المبارك
العالم العابد الزاهد المجاهد عبدالله بن المبارك , حينما جاءته الوفاة إشتدت عليه سكرات الموت
ثم أفاق .. و رفع الغطاء عن وجهه و ابتسم قائلا :
لمثل هذا فليعمل العاملون .... لا إله إلا الله ....
ثم فاضت روحه.
الفضيل بن عياض
العالم العابد الفضيل بن عياض الشهير بعابد الحرمين
لما حضرته الوفاة , غشي عليه , ثم أفاق و قال :
وا بعد سفراه ...
وا قلة زاداه ...!
الإمام العالم محمد بن سيرين
روي أنه لما حضرت محمد بن سيرين الوفاة , بكى , فقيل له : ما يبكيك ؟
فقال : أبكي لتفريطي في الأيام الخالية و قلة عملي للجنة العالية و ما ينجيني من النار الحامية.
الخليفة العادل الزاهد عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه
لما حضر الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز الموت قال لبنيه و كان مسلمة بن عبدالملك حاضرا :
يا بني , إني قد تركت لكم خيرا كثيرا لا تمرون بأحد من المسلمين و أهل ذمتهم إلا رأو لكم حقا .
يا بني , إني قد خيرت بين أمرين , إما أن تستغنوا و أدخل النار , أو تفتقروا و أدخل الجنة , فأرى أن تفتقروا إلى ذلك أحب إلي , قوموا عصمكم الله ... قوموا رزقكم الله ...
قوموا عني , فإني أرى خلقا ما يزدادون إلا كثرة , ما هم بجن و لا إنس ..
قال مسلمة : فقمنا و تركناه , و تنحينا عنه , و سمعنا قائلا يقول : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين
ثم خفت الصوت , فقمنا فدخلنا , فإذا هو ميت مغمض مسجى !
الخليفة المأمون أمير المؤمنين رحمه الله
حينما حضر المأمون الموت قال :
أنزلوني من على السرير.
فأنزلوه على الأرض ...
فوضع خده على التراب و قال :
يا من لا يزول ملكه ... إرحم من قد زال ملكه ... !
أمير المؤمنين عبدالملك من مروان رحمه الله
يروى أن عبدالملك بن مروان لما أحس بالموت قال : ارفعوني على شرف , ففعل ذلك , فتنسم الروح , ثم قال :
يا دنيا ما أطيبك !
إن طويلك لقصير ...
و إن كثيرك لحقير ...
و إن كنا منك لفي غرور ... !
هشام بن عبدالملك رحمه الله
لما أحتضر هشام بن عبدالملك , نظر إلى أهله يبكون حوله فقال : جاء هشام إليكم بالدنيا و جئتم له بالبكاء , ترك لكم ما جمع و تركتم له ما حمل , ما أعظم مصيبة هشام إن لم يرحمه الله .
أمير المؤمنين الخليفة المعتصم رحمه الله
قال المعتصم عند موته :
لو علمت أن عمري قصير هكذا ما فعلت ... !
أمير المؤمنين الخليفة الزاهد المجاهد هارون الرشيد رحمه الله(/3)
لما مرض هارون الرشيد و يئس الأطباء من شفائه ... و أحس بدنو أجله .. قال : أحضروا لي أكفانا فأحضروا له ..فقال :
احفروا لي قبرا ...
فحفروا له ... فنظر إلى القبر و قال :
ما أغنى عني مالية ... هلك عني سلطانية ... !
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
الحمد لله الواحد العلام
و على النبي الكريم الصلاة و السلام
أما بعد ..
فهذا ما تيسر جمعه من على فراش الموت ..
جمعتها تذكرة لنفسي أولا و لإخواني .. لنأخذ منها العظة .. و لنتذكر حقيقة هذه الدنيا ...
و خير ختام لهذه الحلقات .. اللحظات الأخيرة على فراش موت النبي عليه أفضل الصلاة و أزكى السلام ...
في يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول للسنة الحادية عشرة للهجرة
كان المرض قد أشتد برسول الله صلى الله عليه و سلم ، و سرت أنباء مرضه بين أصحابه ، و بلغ منهم القلق مبلغه ، و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أوصى أن يكون أبو بكر إماما لهم ، حين أعجزه المرض عن الحضور إلى الصلاة .
و في فجر ذلك اليوم و أبو بكر يصلي بالمسلمين ، لم يفاجئهم و هم يصلون إلا رسول الله و هو يكشف ستر حجرة عائشة ، و نظر إليهم و هم في صفوف الصلاة ، فتبسم مما رآه منهم فظن أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد أن يخرج للصلاة ، فأراد أن يعود ليصل الصفوف ، و هم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم ، فرحا برسول الله صلى الله عليه و سلم
فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و أومأ إلى أبي بكر ليكمل الصلاة ، فجلس عن جانبه و صلى عن يساره ....... و عاد رسول الله إلى حجرته ، و فرح الناس بذلك أشد الفرح ، و ظن الناس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أفاق من وجعه ، و إستبشروا بذلك خيرا ...
و جاء الضحى .. و عاد الوجع لرسول الله صلى الله عليه و سلم ، فدعا فاطمة .. فقال لها سرا أنه سيقبض في وجعه هذا .. فبكت لذلك .. ، فأخبرها أنها أول من يتبعه من أهله ، فضحكت ...
و إشتد الكرب برسول الله صلى الله عليه و سلم .. و بلغ منه مبلغه ... فقالت فاطمة : واكرباه ... فرد عليها رسول الله قائلا : لا كرب على أبيك بعد اليوم
و أوصى رسول الله صلى الله عليه و سلم وصيته للمسلمين و هو على فراش موته : الصلاة الصلاة .. و ما ملكت أيمانكم ...... الصلاة الصلاة و ما ملكت أيمانكم .... و كرر ذلك مرارا ......
و دخل عبد الرحمن بن أبي بكر و بيده السواك ، فنظر إليه رسول الله ، قالت عائشة : آخذه لك .. ؟ ، فأشار برأسه أن نعم ... فإشتد عليه ... فقالت عائشة : ألينه لك ... فأشار برأسه أن نعم ... فلينته له ...
و جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يدخل يديه في ركوة فيها ماء ، فيمسح بالماء وجهه و هو يقول : لا إله إلا الله ... إن للموت لسكرات ...
و في النهاية ... شخص بصر رسول الله صلى الله عليه و سلم ... و تحركت شفتاه قائلا : .... مع الذين أنعمت عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين ، اللهم إغفر لي و إرحمني ... و ألحقني بالرفيق الأعلى اللهم الرفيق الأعلى
اللهم الرفيق الأعلى
اللهم الرفيق الأعلى
و فاضت روح خير خلق الله .. فاضت أطهر روح خلقت إلى ربها .. فاضت روح من أرسله الله رحمة للعالمين و صلى اللهم عليه و سلم تسليما.(/4)
وتَأتِي عَلَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارِمُ _________________________ ... ... عَلَى قَدْرِ أَهلِ العَزمِ تَأتِي العَزائِمُ _________________________ ... 1
وتَصغُر في عَينِ العَظِيمِ العَظائِمُ _________________________ ... ... وتَعظُمُ في عَينِ الصّغِيرِ صِغارُها _________________________ ... 2
وقد عَجَزَتْ عنهُ الجُيوشُ الخَضارِمُ _________________________ ... ... يُكلّفُ سَيفُ الدَولَةِ الجَيشَ هَمّهُ _________________________ ... 3
وذلِكَ ما لا تَدَّعِيهِ الضَراغِمُ _________________________ ... ... ويَطلب عِندَ الناسِ ما عِندَ نَفسهِ _________________________ ... 4
نُسورُ الفَلا أَحداثُها والقَشاعِمُ _________________________ ... ... يُفدّي أَتمُّ الطَّيرِ عُمرًا سِلاحَه _________________________ ... 5
وقد خُلِقَتْ أَسيافُهُ والقَوائِمُ _________________________ ... ... وَما ضَرَّها خَلْقٌ بِغَيرِ مَخالِب _________________________ ... 6
وتَعلَمُ أَي الساقِيَينِ الغَمائِمُ _________________________ ... ... هَلِ الحَدَثُ الحَمراءُ تَعرِفُ لَونَها _________________________ ... 7
فَلما دَنا منها سقتها الجَماجِمُ _________________________ ... ... سَقَتها الغَمامُ الغُرُّ قَبلَ نُزولهِ _________________________ ... 8
ومَوجُ المَنايا حَولَها مُتَلاطِمُ _________________________ ... ... بَناها فأَعلَى والقَنا يَقرَعُ القَنا _________________________ ... 9
ومِن جُثَثِ القتَلَى عَلَيها تَمائِمُ _________________________ ... ... وَكانَ بِها مِثلُ الجُنونِ فأَصبَحَت _________________________ ... 10
على الدِينِ بالخَطّيِّ والدَهرُ راغِمُ _________________________ ... ... طَرِيدةُ دَهرٍ ساقَها فرددْتها _________________________ ... 11
وهُنَّ لِما يَأخُذنَ مِنكَ غَوارِمُ _________________________ ... ... تُفِيتُ الليالِي كُلَّ شيءٍ أَخذتَهُ _________________________ ... 12
مَضَى قَبلَ أن تُلقَى عَلَيهِ الجَوازمُ _________________________ ... ... إذا كانَ ما تَنوِيهِ فِعلاً مُضارِعًا _________________________ ... 13
وَذا الطَعنُ آسَاسٌ لها ودَعائِمُ _________________________ ... ... وَكيفَ تُرَجِّي الرُومُ والروسُ هَدمَها _________________________ ... 14
فما ماتَ مَظلُومٌ ولا عاشَ ظالِمُ _________________________ ... ... وقد حاكَمُوها والمَنايا حَواكِمٌ _________________________ ... 15
سَرَوْا بِجِيادٍ ما لَهُنَّ قَوائِمُ _________________________ ... ... أَتَوكَ يَجُرُّونَ الحَدِيدَ كأنّما _________________________ ... 16
ثِيابُهُمُ من مِثلِها والعَمائِمُ _________________________ ... ... إِذا بَرَقُوا لم تُعرَفِ البِيضُ مِنهُمُ _________________________ ... 17
وفي أذُنِ الجَوزاءِ منهُ زمازمُ _________________________ ... ... خَمِيسٌ بِشَرقِ الأرضِ والغَربِ زَحفُهُ _________________________ ... 18
فما يُفهِمُ الحُدَّاثُ إِلا التَراجِمُ _________________________ ... ... تَجَمّع فيهِ كُل لِسنٍ وأَمُّةٍ _________________________ ... 19
فلم يَبقَ إِلا صارمٌ أو ضُبارِمُ _________________________ ... ... فلِلّهِ وَقتٌ ذوَّبَ الغِشَّ نارُهُ _________________________ ... 20
وفَرَّ منَ الفُرسان مَن لا يُصادِمُ _________________________ ... ... تَقَطع ما لا يَقطَعُ الدِرعَ والقَنا _________________________ ... 21
كأَنكَ في جَفنِ الرَّدَى وَهْوَ نائِمُ _________________________ ... ... وَقَفتَ وَما في المَوتِ شَكٌّ لِواقِفٍ _________________________ ... 22
ووَجهُكَ وَضَّاحٌ وثَغْرُكَ باسِمُ _________________________ ... ... تَمُرُّ بِكَ الأَبطالُ كَلْمَى هَزِيمةً _________________________ ... 23
إلى قولِ قَومٍ أَنتَ بالغَيب عالِمُ _________________________ ... ... تجاوَزتَ مِقدارَ الشَجاعةِ والنُهَى _________________________ ... 24
تَمُوتُ الخَوافِي تحتَها والقَوادِمُ _________________________ ... ... ضَمَمتَ جَناحَيهم على القَلبِ ضَمّةً _________________________ ... 25
وَصارَ إلى اللبَّاتِ والنَصرُ قادِمُ _________________________ ... ... بِضَربٍ أَتَى الهاماتِ والنَصرُ غائبٌ _________________________ ... 26
وحَتى كأنَّ السيف لِلرُمحِ شاتِمُ _________________________ ... ... حَقَرتَ الرُدَينيَّاتِ حَتَّى طَرَحتَها _________________________ ... 27
مَفاتيحُهُ البِيض الخِفافُ الصَوارِمُ _________________________ ... ... ومَن طَلَبَ الفَتحَ الجَلِيلَ فإنَّما _________________________ ... 28(/1)
كَما نُثِرت فَوقَ العَرُوسِ الدَراهِمُ _________________________ ... ... نَثَرتَهُمُ فَوقَ الأُحَيدِبِ كُلِّهِ _________________________ ... 29
وقد كَثُرَت حَولَ الوُكورِ المَطاعِمُ _________________________ ... ... تَدُوسُ بِكَ الخيلُ الوُكورَ على الذُّرَى _________________________ ... 30
بِأُمَّاتِها وَهْيَ العِتاقُ الصَّلادِمُ _________________________ ... ... تَظُنَّ فِراخُ الفُتخِ أَنكَ زرتَها _________________________ ... 31
كَما تَتَمشَّى في الصَعيد الأَراقمُ _________________________ ... ... إِذا زَلِقَت مَشَيتَها بِبُطُونِها _________________________ ... 32
قَفاهُ على الإِقدامِ لِلوَجهِ لائِمُ _________________________ ... ... أَفِي كُلِّ يومٍ ذا الدُّمستُق مُقدِمٌ _________________________ ... 33
وقد عَرفَتْ رِيحَ الليُوث البهائِمُ _________________________ ... ... أَيُنكِر ريحَ اللّيث حتّى يَذُوقَه _________________________ ... 34
وبالصِهرِ حَملاتُ الأَميرِ الغَواشمُ _________________________ ... ... وقد فَجَعَتهُ بِابنِهِ وابنِ صهرِهِ _________________________ ... 35
لِمَا شغلتها هامُهُم والمَعاصِمُ _________________________ ... ... مَضَى يَشكُرُ الأَصحابَ في فَوتِهِ الظُبى _________________________ ... 36
على أَنَّ أَصواتَ السُيُوفِ أَعاجِمُ _________________________ ... ... ويفهَمُ صَوتَ المَشرفيَّةِ فيهِمِ _________________________ ... 37
ولكِنَّ مَغنوماً نجا مِنكَ غانِمُ _________________________ ... ... يُسَرُّ بما أَعطاكَ لا عَن جَهالةٍ _________________________ ... 38
ولكِنكَ التَّوحِيدُ لِلشِرْكِ هازمُ _________________________ ... ... وَلستَ ملِيكًا هازِمًا لِنَظِيرِه _________________________ ... 39
وتَفتخِرُ الدُّنيا بِهِ لا العَواصِمُ _________________________ ... ... تشَرَّفُ عَدنانٌ بِهِ لا رَبيعةٌ _________________________ ... 40
فإِنَّكَ مُعطيه وإنِّيَ ناظِمُ _________________________ ... ... لَكَ الحَمدُ فى الدُرِّ الَّذي لِيَ لَفظُهُ _________________________ ... 41
فَلا أَنا مَذمُومٌ ولا أَنتَ نادِمُ _________________________ ... ... وإِنِّى لَتَعدو بي عَطاياكَ في الوَغى _________________________ ... 42
إِذا وَقَعَتْ في مِسمَعَيهِ الغَماغِمُ _________________________ ... ... على كُلِّ طَيَّارٍ إليها بِرِجلِهِ _________________________ ... 43
وَلا فيهِ مُرتابٌ ولا مِنهُ عاصِمُ _________________________ ... ... أًلا أَيُّها السَّيفُ الَّذي لَيسَ مُغمَداً _________________________ ... 44
وَراجِيكَ والإِسلامِ أَنكَ سالِمُ _________________________ ... ... هَنِيئا لِضَربِ الهامِ والمَجدِ والعُلَى _________________________ ... 45
وتَفلِيقُهُ هامَ العِدَى بِكَ دائِم ... ... ولِم لا يَقِي الرَّحمنُ حَدّيكِ ما وَقَى _________________________ ... 46(/2)
على قدر أهل العزم
شعر: المتنبي
على قَدْرِ أهلِ العزمِ تأتي iiالعزائمُ
وتَعْظُمُ في عينِ الصغيرِ iiصغارُها
يُكلّفُ سيفُ الدولةِ الجيشَ iiهمَّهُ
ويطلبُ عندَ الناسِ ما عندَ iiنفسهِ
هل الحَدَثُ الحمراءُ تعرفُ iiلونَها
سقتْها الغمامُ الغُرُّ قبلَ نزولهِ
بناها فأعلى والقنا يقرعُ iiالقنا
طريدةُ دهرٍ ساقَها iiفرددتَها
أتوكَ يجرُّونَ الحديدَ iiكأنّما
إذا بَرقوا لم تُعرفِ البيضُ iiمنهم
خميسٌ بِشرقِ الأرضِ والغربِ زحفُه ... وتأتي على قَدْرِ الكرامِ iiالمَكارمُ
وتَصغُرُ في عينِ العظيمِ العَظائمُ
وقد عجزتْ عنه الجيوشُ iiالخضارِمُ
وذلكَ مالا تدَّعيهِ iiالضراغِمُ
وتعلمَ أيُّ الساقيينِ iiالغمائمُ
فلمّا ذما منها سَقتْها iiالجماجمُ
وموجُ المنايا حولها مُتلاطِمُ
على الدينِ بالخطيّ والدهرُ iiراغمُ
سرَوا بجيادٍ ما لهنَّ iiقوائمُ
ثيابُهم من مثلها iiوالعمائمُ
وفي أُذنِ الجوزاءِ منه iiزمازِمُ(/1)
على ماذا ينبغي أن يتأسس الحوار بين الشرق والغرب ؟
بقلم : الدكتور جمال رجب سيدبى
ظهرت أطروحات الحوار الحضاري بين المسلمين والغرب بشكل واضح في الأونة الأخيرة خاصة إثر كتابات "فوكوياما" عن نهاية التاريخ، وأن النموذج الغربي الليبرالي هو النموذج والمثال، والذي يجب محاكاته، أو أن يسود العالم بأسره شرقه وغربه، شماله وجنوبه، وكتابات "صمويل هنتجتون"، عن الصراع الحضاري، ويبدو أن هذه الكتابات تعاظمت بصورة جلية بنهاية الحرب الباردة بين الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي.
ولقد تبنت الأمم المتحدة فكرة الحوار الحضاري واعتبرت عام 2001م عام الحوار بين الحضارات ، وانطلاقاً من هذه الأهمية على المستوى العالمي، بهذه القضية، نحاول في هذه الورقة أن نطرح لأساسيات الحوار بيننا وبين الغرب من خلال الرؤية الإسلامية .
1- الحوار بين الحضارات مبدأ أصيل من مبادئ الإسلام:
لابد وأن نقرر بداية، أن الحوار بين الأنا والآخر، من مبادئ الإسلام العظيمة والتي أعلى من قدرها، وأن التعارف والتعاون بين الشعوب سمة أساسية من سمات الإسلام الحنيف، وليس أدل على هذا من بلاغة القرآن الكريم، فلو نظرنا في سورة الحجرات، لوجدنا أن المولى تبارك وتعالى يقول: ?يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَّ أُنْثاى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْبًا وَّقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا? آية 13، فأصل دعوة الإسلام هو الالتقاء بين الأمم والشعوب لمزيد من التفاعل والتواصل الحضاري.
2- الحوار الحضاري لايعني الذوبان في الآخر:
الحوار الحضاري يعني في نظر الحضارة الإسلامية احترام ثقافة وخصوصية الآخر، وأن تعدد الحضارات يُعْتَبَر تعددَ تنوع وتعاون لا تعدد صراع وتنابز؛ ومن ثم فالحضارة الإسلامية عندما دان العالم لها بالقوة والسيادة، لم تسع إلى ابتلاع الآخر أو فرض هيمنتها على الآخرين. بالعكس لو نظرنا إلى هذه الحضارة لوجدنا أن أهم سماتها هو التواصل والتفاعل مع الحضارات المجاورة، فلقد استفادت الحضارة الإسلامية من تراث الإغريق والرومان، فقد تم ترجمة مؤلفات أرسطو وطب أبقراط وهندسة أقليدس، ثم أبدع العالم المسلم من قريحته الفكرية وأضاف إلى هذه الأفكار أفكارًا أخرى وظهر طب ابن سينا ويتمثل ذلك في كتاب "القانون" في الطب. لم تسع الحضارة الإسلامية إلى ابتلاع الحضارات المجاورة، أو الهيمنة على ثقافة الآخرين مثلما يعتقد فوكوياما أو غيره من الكتاب والمفكرين .
أود أن أقول إن كل حضارة لها خصوصيتها الثقافية، فالحضارة الإسلامية نتاج عقيدة التوحيد وما يترتب على هذه العقيدة من منظومة القيم الروحية، والثقافة الإسلامية المترتبة عليها، أقول ليس معنى الحوار أن تطالبني بالتخلي عن ثوابتي العقدية وقِيَمي الأخلاقية التي هي أخص خصائص حضارتي، وحتى يكون الحوار حوارًا مثمرًا؛ فلابد وأن نحترم ثوابت الآخر وثقافته التي يؤمن بها، ومن هنا تكون أرضية الحوار أرضية بناءة لمزيد من التلاقي والتلاقح بين الشعوب والحضارات .
3- القواسم المشتركة بيننا وبين الغرب لدعم الحوار الحضاري:
يبدو لي أن القواسم المشتركة بيننا وبين الغرب كثيرة، لتفعيل الحوار الحضاري، وأول هذه القواسم ترسيخ مبدأ التعايش في سلام، فالإسلام دين السلام بأوسع معانيه، لأن كلمة الإسلام تعني السلام، أو إسلام الوجه لله وتحية الإسلام السلام، والإسلام يدعو إلى السلام النفسي للفرد والمجتمع، ومن هنا فإن التأكيد على هذه الحقيقة كمبدأ إسلامي أصيل، والتي دعانا إليها الغرب في عصرنا الحديث من خلال منظمة الأمم المتحدة كأحد مبادئها، أقول إن البشرية الآن ترنو إلى تحقيق الهدف الذي أصبح بعيد المنال "الإسلام". وحتى لايكون الكلام في حوار الحضارات مجرد أماني، فلابد أن يكون المدخل الصحيح للحوار، أن ديننا يؤكد حقيقة "السلام" بمعناه الكامل، ولو نظرنا إلى تاريخ السيرة العطرة في دولة المدينة، لوجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب ميثاق المدينة وهو عهد بين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين واليهود، فقد حفظ النبي صلى الله عليه وسلم لليهود حقوقهم كاملة، "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" ، لم ينظر النبي صلى الله عليه وسلم على أنهم أقليات، بل نظر إليهم على أنهم مواطنون من الدرجة الأولى بلغة الفكر السياسي المعاصر، وهذا هو تاريخ حضارتنا في التعامل مع "قيمة التعايش" في سلام. ومن هذا المنطلق فالسؤال المطروح للحوار هل الغرب يطبق هذه القيمة في العالم المعاصر؟
4- من القواسم المشتركة بيننا وبين الغرب
أيضًا التعاون بين الأمم والشعوب في كل المجالات اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، فالدعوة إلى تعزيز العلاقات بين الأمم والشعوب تعزز الحوار الحضاري، وتزيل كابوس "الخوف من الآخر". وهذه النقطة (الخوف من الآخر) سأشير إليها في النقطة التالية بصورة واضحة .
5- ظهرت كتابات تعزز مفهوم النظر إلى الإسلام كعدو(/1)
أو الخوف من ظهور الحضارة الإسلامية كبديل عن الحضارة الغربية مثل كتابات "نيكسون" الفرصة السانحة والحق يقال إن الإسلام الحضاري في صالح البشرية لأنه لايود أن يفرض نفسه بالقوة بلغة موازين القُوَى المعاصرة، وإنما تنظر الحضارة الإسلامية إلى مصلحة البشرية جمعاء، وتحترم إنسانية الإنسان لكونه إنسانًا بصرف النظر عما يعتقد. والسؤال الذي نتحاور على أساسه هل الحضارة الإسلامية في أوج مجدها حاولت أن تفرض نفسها بالقوة الهيمنة؟ إن التاريخ والواقع يؤكِّدان عكس ذلك. ولابد أن نتحاور على هذا المبدأ مع الغرب، لأنه لو حدث ودارت الأيام دورتها، وعادت الحضارة الإسلامية إلى سابق عهدها في العصور الوسطى، فستكون في صالح الغرب أولاً لأن الإسلام علمنا أن نحترم الإنسان ونقدره لكونه إنسانًا بصرف النظر عما "يعتقد" ?وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيْ آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِيْ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلى كَثِيْرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيْلاً? الإسراء: آية 70 .
6- المسلمون والدور الحضاري لدعم الحوار :
دائمًا أقول إن الخلل من داخلنا، فمازال الإسلام الحضاري مغيبًا عن الوجود، ومازال المسلم تحكمه لغة الانفعال لا لغة المنهج، ومن هنا فإن توضيح صورة الإسلام الحضاري بتوازنه بين مطالب البدن وعالم الروح، نحن في أمسِّ الحاجة لتوضيح هذه الصورة للإنسان الغربي، فكما يقال: "الناسُ أعداءُ ما جهلوا". ومن هنا فإن الصورة المزرية هي التي مازالت تعشعش في ذهن وذاكرة العديد من الغربيين وتؤثر بشكل أو بآخر عليهم، وحتى يكون الحوار حوارًا مثمرًا فلابد وأن نميط اللثام عن حقيقة الإسلام وبمعناه الحضاري. الإسلام الفاعل في دنيا الناس حضارة وثقافة وعلمًا. وهذا الدور من أخطر الأدوار حتى نستطيع أن نقيم قاعدة ثابتة بيننا وبين الغرب بأن الإسلام الحضاري يوم يسود فسيكون لنفعهم هم أنفسهم، لا أن يكون مرعبًا لهم، والبون شاسع بين المفهومين، فالخوف النفسي عقدة الغرب من النموذج البديل في المستقبل، يتمثل هذا في الإنسان الأخضر أو "المسلم الحضاري".
7- الموضوعية أساس الحوار :
لابد أن تكون قيمة "الموضوعية" هي أساس كل حوار بيننا وبين الغرب، فليس من الإنصاف أن نتحاور مع غيرنا وتحكمنا أفكار محددة، وإن النظرة الأحادية لمن أخطر الأمور في دنيا الحوار وقالها الإمام الشافعي قديمًا: "رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ ورأيُ غيري خطأ يحتمل الصواب".
إن هذه القاعدة المنهجية لمن أخطر الأمور في الحوار الحضاري، والغرب الآن في حاجة إلى تأسيس حوار بناء، حوار يبنى ولا يهدم، حوار يقيم مملكة العدل في الأرض لسعادة الإنسان .
8- الحوار والمجادلة بالحسنى منهج قرآني فريد:
يقول المولى تبارك وتعالى: ?وَلاَ تُجَادِلُوْا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِيْ هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِيْنَ ظَلَمُوْا مِنْهُمْ وَقُوْلُوْا آمَنَّا بِالَّذِيْ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَالهنَا وَالهكُمْ وَاحِدٌ وَّنَحْنُ لَه مُسْلِمُوْنَ? العنكبوت: آية 46، تدل الآية على التعاون فيما اتفقنا عليه، والإيمان بالألوهية، وأن يعمد المتحاور إلى أحسن الأساليب في عرض الدعوة والحوار، وأن يختار من بينها، فليست الآية مخيرة المحاور بين الحسن والقبيح، وإنما آمرة إياه أن يختار الأحسن بدلاً من الحسن، وهذا يدل على مدى احتفاء القرآن بمراعاة نفسية محاوريه، وهناك آيات قرآنية كثيرة، ونكتفى بهذا النموذج .
9- حوار لا صراع :
كما أشرت أطلق "صمويل هنتجتون"، صراع الحضارات، ولست أدري ما الذي أدى إلى هذا الصراع، فعندما كانت الحضارة الإسلامية في أوج مجدها، بحثت عن "التواصل" مع الشعوب المجاورة، ومن يستنطق التاريخ يجد الكثير والكثير، فابن رشد الإسلامي أثر في المدرسة اللاتينية في فلسفة العصور الوسطى المسيحية واليهودية، دون أن يكون هدف هذه الحضارة ابتلاع الحضارات تحت مسمى العولمة تارة، والكوكبة تارة أخرى وغيرهما من مسميات أخرى كثيرة .
10- التوازن بين الحضارات سنة كونية :
من سنن الله في خلقه القانون ?وَكُلُّ شَيْءٌ عِنْدَه بِمِقْدَارٍ?، وهذا القانون الالهي كما يحكم الحياة، يحكم أيضًا – فيما نعتقد – سير الدول والشعوب والحضارات، ولو حادت عنه لبادت هذه الحضارات، كما حدث للحضارات السابقة. ومن هنا فإن التأكيد على المبادئ الرئيسية التي تؤدي إلى التوازن بين الحضارات والشعوب لابد وأن يكون سمة الحوار الحضاري، مثل مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير، وحل النزاعات الدولية بالطرق السلمية، وعدم استخدام القوة لحل الصراع بين الأمم والشعوب. وهذه المبادئ التي دعت إليها عصبة الأمم في وقتنا الحديث – وكما أشرت آنفًا – هي مبادئ إسلامية، كما أنها تحقق التوازن بين الشعوب والحضارات، ولو حادت حضارة من الحضارات عن هذه المبادئ لتعرضت للأفول والاحتضار.(/2)
أعتقد أن المبادئ والعناصر الآنفة تصلح لأن تكون بمثابة مقدمة وأساس للحوار الحضاري بين المسلمين والغرب، إذا أردنا أن يكون حوارًا حقيقيًا، يفيد الإنسان أيًا كان لونه أو نوعه أو جنسه على أرجاء المعمورة .
* * *(/3)
على مقاعد الدراسة
المحتويات
مقدمة
أهمية الدراسة للطالب
الطالب وأستاذه
أدب الطالب مع أستاذه
حماية عرض الأستاذ
التعامل مع خطأ الأستاذ
الاستفادة من الأستاذ المتميز
الطالب والدراسة:
الإخلاص لله عز وجل
الاعتناء بالتخصص
الدراسة وتحصيل العلم الشرعي
الطالب والدعوة
القدوة ودورها في الدعوة
أهداف النشاط الدعوي في المدرسة
مقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
فهذا الموضوع يعني فئة خاصة وهم الطلاب والدارسون، وهو يعين بدرجة أخص الصالحين والأخيار منهم الذين نأمل أن يؤدوا أدوارا محمودة؛ لأنهم في الأغلب رواد هذه الدروس والمجالس.
أهمية الدراسة للطالب:
تأخذ الدراسة على الطالب حيزاً كبيراً من وقته، فهو يقضي في اليوم قريبا من ست ساعات داخل المدرسة، وهي تمثل ربع ساعات اليوم، وإذا حذفت من اليوم ساعات للنوم ويعض ساعات الراحة والطعام لا تجد بعد ذلك إلا وقتا يسيرا.
كما تأخذ الدراسة عليه وقتاً طويلاً من عمره؛ فهو يحتاج على أقل الأحوال إلى ستة عشر عاماً إذا أنهى المرحلة الجامعية، وهذه الدراسة تأتي في وقت مهم من عمره، وقت زهرة وحيوية الشاب ووقت بناء شخصيته.
كما أن الدراسة تحدد توجه الشخص وتخصصه، وميدان عمله في المستقيل.
وهذا كله يحتم على الطالب أن يعتني بها ويستفيد منها.
الطالب وأستاذه :
ثمة قضايا مهمة لابد أن يعتني بها الطالب في التعامل مع أستاذه، فالأستاذ يشكل عنصراً أساسيًّا يتعامل معه الطالب في المدرسة، ومن هنا كان لابد من ضوابط تحكم علاقة الطالب بأستاذه ومنها :
أدب الطالب مع أستاذه :
وقد اعتنى السلف بذلك كثيراً في كتبهم، بل إن بعضهم أفرد هذا الباب بتصنيف خاص، وهو ما يعرف بآداب العالم والمتعلم، وعندما يتحدثون عن آداب المتعلم فإنهم يفردون جزءا خاصا بآداب المتعلم مع شيخه ومع أستاذه.
والمأمول من شبابنا وطلابنا أن يعنوا بهذا الأمر فيقرؤوا ما سطره السلف حول ما ينبغي أن يتأدب به الطالب مع شيخه وأستاذه، وأن يحرصوا قدر الإمكان على التخلق بتلك الآداب والتأدب بها.
وحين نقارن بين ما سطره السلف حول آداب الطالب مع شيخه ومع أستاذه، وبين واقعنا اليوم نجد أن هناك مسافة شاسعة جدا.
وبإمكانكم الرجوع إلى ما سطر في ذلك، ولعل من أفضلها كتاب الحافظ ابن جماعة وهو بعنوان (تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم) .
ولئن كان لدى الأستاذ تقصير في التزامه وتدينه، أو في علمه وتخصصه، فهذا لايسقط حقه من التوقير والتقدير.
إننا نجد اليوم عدداً من يتولون التدريس قد ابتلي بمخالفات ظاهرة، ولا شك أن الأستاذ أولى الناس بأن يكون قدوة صالحة للطلاب، سواء بالتزامه بالأحكام الشرعية، أمام طلابه أوفي تعامله معهم فهو يدعوهم إلى حسن الخلق بمقاله فلا بد أن يدعوهم بفعله وحاله.
لكن هذا الأستاذ الذي يرتكب بعض المخالفات لا ينظر إليك على أنك شاب ملتزم مستقيم، وهو عاص ضال، ولا أنك أنت أولى منه وأفضل منه، إنما ينظر إليك على أنك لازلت طالبا صغير السن، ومهما كان عندك من الاستقامة والعلم والخير فأنت لازلت دونه.
وهو يفترض أنك مادمت مستقيماً وصالحاً فلا بد أن تكون حسن الخلق، وأن يرى منك معاملة الأستاذ بما يليق به.
ومع حسن المعاملة فلا بد من أن تحرص على أن تستفيد منه، فهو مهما كان لديه من تقصير سواء فيما يتعلق بالمخالفات الشرعية، أو ضعف علمي، فهو على كل حال أقدر منك علما وتجربة.
حماية عرض الأستاذ:
مجالس الطلاب كثيراً ماتملأ بالسخرية من أساتذتهم، أو اغتيابهم والوقوع في أعراضهم، ولئن كان هذا ممقوتاً في حق سائر الناس، فهو في حق المعلم أسوأ وأشد مقتاً، وحين تقع من طالب صالح ومستقيم فهي أشد وأنكى.
فمن حق الأستاذ البعد عن تناول عرضه، بل الذب عنه حين يخوض الطلاب في عرضه، عن أبي الدرداء –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: » من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة«، فإذا كان هذا في عرض أخيك فلا شك أن أستاذك وشيخك له حق عليك.
والأمر يحتاج إلى حكمة في تعامل الطالب مع زملائه، فحين تواجه زميلك الذي يقع في عرض أستاذه فقد لا يستجيب لك، لكن عندما تسلك أسلوباً فيه حكمة، أما ما يفعله بعض الطلاب بإبلاغ الأستاذ بمن يخوض في عرضه، فهو غير مشروع، بل هو مدعاة لزيادة الشحناء وإثارة البغضاء التي جاء الشرع بإزالتها بين المسلمين.
التعامل مع خطأ الأستاذ:(/1)
الأستاذ بشر ليس معصوماً، فقد يقع في خطأ؛ فيستدل بحديث ضعيف، أو يختار قولاً مرجوحاً، وقد يتحدث في موضوع معين لدى الطالب فيه معلومات ليست لدى الأستاذ؛ فحين يدرك الطالب خطأ أستاذه فهذا لا يعني أنه أعلم منه ولا أكثر إحاطة؛ فإن الهدهد قال لسليمان ]أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين[ فهل يعني هذا أن الهدهد أعلم من سليمان؟
إن بعض الطلبة يفرح بمثل هذه القضية ويقفز مباشرة في وجه أستاذه ليقول له إن هذا الحديث ضعيف، أو هذا الكلام فيه كذا وكذا، أو سمعت كذا وكذا، وهذا فيه شهوة خفية وحب للظهور أمام الناس، قد لا يشعر به صاحبه، فيجب أن تسلك الحكمة في ذلك بتصحيح مثل هذا الخطأ بأسلوب مناسب؛ فمما يصعب على الأستاذ أن يعترف بالخطأ أمام الطلاب.
والطالب الحكيم يمكن أن يحدث أستاذه خارج الفصل، فيقول إني سمعت كذا وكذا وقرأت كذا وكذا، فكيف أوفق بين هذا وبين ما سمعته منك في الدرس؟ وقد يأتي بالكتاب ويعطيه الأستاذ ويقول أنا قرأت في هذا الكتاب كذا وكذا، وأنت قلت غير هذا الكلام فكيف أوفق بين كلامك وكلام الكتاب؟
بل إنه في حالات كثيرة يفهم الطالب ما قرأه أو ماسمعه من أستاذه فهماً خاطئاً؛ فيخطئ أستاذه بناء على هذا الفهم.
وقد يقع الأستاذ في مخالفة شرعية فالإنكار عليه ليس كمثل عامة الناس، بل يجب أن تسلك الأسلوب الذي ترى أنه فعلا يؤدي المصلحة التي تريد أن تصل إليها وتسعى إلى تحقيقها.
الاستفادة من الأستاذ المتميز:
قلما تجد مدرسة إلا وفيها عدد من الأساتذة المتميزين علميًّا -بالنظر إلى مستوى الطلاب على الأقل- ومن هنا أنا أوصي الشاب أن يحرص على أن يستثمر هذه الفرصة؛ فوجوده مع الأستاذ محدود، وتدريس هذا الأستاذ له مدة محدودة، فليحرص على أن يستفيد منه قدر الإمكان ولو حتى خارج الفصل، بل يجدر به أن يقوي صلته مع هذا الأستاذ ويحرص على الاستفادة منه سؤالا واستشارة ومناقشة.
الطالب والدراسة:
ثمة قضايا لها أهميتها في صلة الطالب بدراسته، ومنها:
الإخلاص لله عز وجل:
لا يخلو الطالب من أن يكون يدرس دراسة شرعية، أو يدرس تخصصاً آخر غير شرعي، فإذا كان يدرس دراسة شرعية فهو يتعلم علما شرعياً، فيتأكد في حقه مراعاة النية الصالحة؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم :" من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" . وحتى لو دخل الطالب ابتداء ونيته ليست صالحة، فهذا لا يمنعه من أن يصحح نيته، والعلم الشرعي سبب لصلاح الإنسان في نفسه وصحة عبادته، وسبب لنفعه لعباد الله وإفادتهم ودعوتهم.
أما من لا يدرس دراسة شرعية فحري به أن تكون نيته تقديم الخير للمسلمين ونفعهم فيما هو من تخصصه، فالأمة تحتاج إلى الطاقات في كافة التخصصات، وتحتاج إلى الناس الأخيار في كل ميدان.
أما أولئك الذين يتجهون إلى هذه التخصصات لما ينتظرون من ورائها من مكانة اجتماعية، أو عائد مادي مجز فهؤلاء أصحاب أهداف قريبة قد رضوا لأنفسهم بالدون.
والإخلاص مع ما فيه من تصحيح العمل، وإقبال صاحبه عليه وتحقق الأجر والثواب له، فهو أمر قلبي لا يكلف صاحبه مزيداً من الجهد، فلو عقدت مقارنة بين طالبين: هذا مخلص لله وهذا غير مخلص، فكلهم سوف يحصل على الشهادة والمزايا المالية التي يحصل عليها الآخر.
والطالب الذي يستحضر النية الصالحة، منذ أن يخرج من منزله إلى أن يعود إليه وهو في عمل صالح؛ فهو داخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم :"من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة" وكل ما يصيبه من تعب ومن جهد في الاستذكار والامتحانات فهو مأجور عليه.
الاعتناء بالتخصص:
إن الطالب الذي يستحضر النية الصالحة الخالصة لابد أن يعتني بتخصصه، وألا تكون صلته به مقتصرة على مايتلقاه في مقاعد الدراسة؛ فينبغي أن يظهر أثر ذلك في متابعته للكتب والدوريات والندوات والبرامج العلمية المتعلقة بتخصصه؛ إذ بدون ذلك لن يستطيع أن يفيد الأمة من خلال هذا التخصص.
وسواء في ذلك التخصصات غير الشرعية، أو التخصصات الشرعية، فليس من التعامل السليم مع التخصص أن تجد مكتبة متخصص في الفقه وأصوله لاتختلف عن مكتبة متخصص في علوم القرآن.
الدراسة وتحصيل العلم الشرعي:
ثمة فهم سائد لدى طائفة من الطلاب الذين يدرسون في التخصصات الشرعية؛ فتجدهم يعتبرون طلب العلم فيما هو خارج إطار الدراسة، سواء أكان من خلال القراءة والاطلاع، أم من خلال حضور الدروس والدورات العلمية، ويترتب على ذلك إهمال للدراسة، التي يقضي فيها زبدة وقته، ويتلقى من مختصين –مهما كانت خلفيتهم العلمية- قضوا وقتاً وجهداً في هذا التخصص والتعامل معه.
إن المقرر الذي يتلقاه الطالب على مقاعد الدراسة غالباً ما يكون قد أعد بعناية، ويكمل فيه الطالب دراسة العلم –ولو بشكل مختصر- ويمتحن فيه، فيعيد قراءته ومراجعته واستذكاره.
الطالب والدعوة:(/2)
إن مدارسنا اليوم لاتكاد تخلو من عدد من الشباب الصالحين الذين يحملون هم الدعوة ويدركون المسؤولية الملقاة على عاتقهم، والمفترض أن تكون المدرسة هي الميدان الدعوي الأول للطالب الذي يشعر بأنه يحمل مسؤولية الدعوة، ومما يبرز أهمية الدور الدعوي في المدرسة:
أن الطالب يقضي في المدرسة عدة ساعات هي زبدة وقته، فإذا لم يقم بالدعوة في هذا الميدان فأي ميدان سيكون أكثر إنتاجاً فيه؟
كثرة عدد الطلاب، فهو يعد في المدرسة والكلية الواحدة بالمئات، فحين نعتني بالدعوة في المدارس فسوف نتعامل مع قطاع عريض جدًّا من قطاعات المجتمع.
أن كثيراً من الأنشطة الدعوية تقدم لمن يقبل عليها كالدروس والمحاضرات ونحوها، أما العمل في هذه الميادين فهو يستهدف إيصال الدعوة للجميع.
أن فئة الطلاب من أكثر الفئات استجابة للدعوة وقابلية للتأثر، ومن ثم فالنتائج المرجوة والمؤملة من هذا الميدان الدعوي أكثر من غيره من الميادين.
أن هذه الفئة هي أهم فئات المجتمع، فالشباب أكثر طاقة وحيوية، وهم قادة المجتمع في المستقبل، بخلاف كبار السن ونحوهم.
أن هذه الفئة هم أقرب الناس إلى الشاب، فهو يعيش معهم ويخالطهم ويجالسهم، لذا فدعوتهم أولى من دعوة غيرهم، والمسؤولية تجاههم آكد من المسؤولية تجاه غيرهم، فالمدرس يقابل هؤلاء مرتين أو أكثر في الأسبوع الواحد، والطالب يعايشهم لسنوات عدة، ويقابلهم كل يوم وقتاً ربما كان أكثر مما يقابل والديه.
إن هذا هو الميدان الذي يطيقه الطالب ويحسنه، فكثير من المجالات والأنشطة الدعوية تتطلب قدراً من الإمكانات والطاقات قد لاتتوفر له، أما زملاؤه في الدراسة فهم في سنه، ومستوى تفكيره، فلن يحتاج معهم لمزيد من الجهد.
إنه مما يؤسف له أن تنظر في حال بعض الشباب الذين كثيراً ما يسألون عن الدعوة ويتحدثون عنها فتراه يزامل بعض الشباب ثلاث سنوات أو تزيد، ومع ذلك لم يسمع منه كلمة واحدة. إن تملك دافعا وروحا تقودك إلى أن تحضر المحاضرة، أو تشتري الكتاب، أو تتفاعل مع المسلمين في بورما ويوغسلافيا والصومال وتسأل عن أخبارهم وتقرأ ما يتعلق بأمورهم وتتبرع لهم، هذه الروح لا نريد أن نقضي عليها، لكن نريدها أن تسهم في أن تدفعك لدعوة هذا الشاب الذي تراه كل يوم ومع ذلك لم تقدم له خيراً أليس هذا أولى الناس بك؟
القدوة ودورها في الدعوة:
إن القدوة الصالحة تترك أثرها في الناس دون أن يتحرك لسانه بدعوتهم وخطابهم، والشاب الذي يحمل مسؤولية الدعوة ينبغي أن يكون قدوة لزملائه في عبادته فهو يصلي معهم في المدرسة فليروا منه الاهتمام بالصلاة والاعتناء بها فرضاً ونافلة، وأن يكون قدوة في الانضباط الشرعي فلا تظهر منه مخالفة أو مجاهرة بمعصية، وأن يكون الأخلاق والآداب العامة فلا يليق أن تجد الطالب الصالح يقف أمام المكاتب الإدارية معاقباً أو محاسباً، وأن يكون قدوة في الاتزان والسمت، فلايكون مزاحه وعبثه كسائر الطلاب، وأن يكون قدوة في التحصيل الدراسي وتعامله مع أساتذته.
وما أجمل أن نجد أن الأستاذ يفرح عندما يرى الطالب قد استقام لأنه يعرف أن هذا سينشأ عنه استقامة سلوكه، واجتهاده في دراسته، وما أجمل أن يفرح الطلاب حين يدخل عليهم شاب مستقيم لأنهم يعرفون أنه يختلف عن سائر الطلاب فهو بشوش لطيف المعشر، بعيد عن المشاكسة والمشكلات، يعينهم في قضاء حوائجهم ويخدمهم فيما يريدونه منه.
أهداف النشاط الدعوي في المدرسة:
إن الدعوة في المدرسة ينبغي أن تأخذ ميداناً ومجالاً أوسع من الدائرة المحدودة التي يحصرها فيها البعض من الطلاب. ويمكن أن نحدد أهداف النشاط الدعوي في المدارس فيما يلي:
أولا: زيادة المنتمين للصحوة ، من خلال الاعتناء بدعوة الشباب المحافظين الذين يقتصر تدينهم الفطري على أنفسهم، أن يدعى هؤلاء للمشاركة في الأنشطة والبرامج العامة التي تؤهلهم لأن يكونوا من جيل الصحوة وحملة الدعوة.
ثانياً: إصلاح بعض من وقع في الانحراف من الطلاب ، فكثير منهم مهما كان لديه من الانحراف فهو يحمل القابلية للخير والاستعداد للاستجابة (ارجع إلى محاضرة عوائق الاستقامة).
ثالثاً: نشر الخير ومظاهره بين عامة الطلاب فالأنشطة –ولو لم يكن لها أثر مباشر في استجابة بعض الطلاب- فلها أثرها في إحياء الحس الإسلامي وإيقاظه بين المدعوين، ولها أثرها في تصحيح كثير من المفاهيم الخاطئة، ونشر الخير والعلم الشرعي.
رابعاً: إنكار المنكرات العامة، فهو واجب شرعي وفشو المنكرات والمجاهرة بها له أثره الكبير على بقية الطلاب، فكثير منهم يتعلم ألوالناً وصوراً من الانحرافات من خلال ما يراه في المدرسة. واعتناء الشباب الصالحين بإنكار المنكرات له أثره في حمايتهم من التأثر بها، فالإنسان مهما بلغ من التقوى والصلاح عرضة للتأثر.(/3)
وثمة وسائل عدة يملكها الشاب الصالح لإنكار هذه المنكرات، منها النصيحة الشخصية لصاحب المنكر، ومنها التوبيخ له أمام زملائه وبخاصة حين يكون معلناً لمنكر فيه من الوقاحة والبشاعة، ومنها الاستعانة ببعض الأساتذة الغيورين….إلخ هذه الوسائل.
ولو تضافرت الجهود، وقام الغيورون بإنكار مايرونه من منكرات لاختفى كثير منها، وامتنع كثير من الطلاب من المجاهرة بها وإعلانها.
وثمة أمور مما تعين على أن يحقق إنكار المنكر هدفه وغايته، ومنها:
الأمر الأول: ضرورة التثبت في الإخبار عن المخالفات الشرعية، والبعد عن التعجل والتسرع.
الأمر الثاني: الاستشارة للزملاء والأساتذة فيما يقوم به الشاب من أنشطة ، فحداثة تجربته تحوجه إلى الاستعانة والاسترشاد بتجارب من سبقه.
الأمر الثالث: الثقة بالنفس وعدم احتقار الذات أو الشعور بعدم الإنجاز ، فكثير من المهام الدعوية التي تراد من الشاب لا تتطلب قدراً كبيراً من العلم والقدرة على التأثير، فهو في الأغلب يدعو أقرانه وهم دونه في العلم والثقافة والقدرات.
الأمر الرابع: طول النفس وعدم الملل فالنتائج قد تأتي سريعة، بل إن دعوة الشاب لأحد زملائه قد لا يظهر أثرها إلا بعد أن يتخرج الجميع من المدرسة ويفترقون، وينسى الداعي ولا ينسى المدعو.
هذه بعض الخواطر والمقترحات التي قد لا يكون فيها جديد لإخواننا، لكنها تذكير والذكرى تنفع المؤمنين.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لطاعته وأن يجنبنا وإياكم أسباب معصيته وسخطه ويرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(/4)
على هامش رسالة من البصرة إلى الشعب البريطاني"
د. بدران الحسن 18/6/1426
24/07/2005
قبل البداية:وصلتني رسالة على بريدي الإلكتروني فيها مقتطفات من بعثتها عراقية اسمها (إيمان السعدون) إلى الشعب البريطاني بمناسبة ما حصل من تفجيرات في لندن، وأودى بحياة كثير من المدنيين.
وقبل تناول الرسالة المعبرة أريد القول: إن قتل المدنيين العزل بدون وجه حق أمر محرم في ديننا كما هو محرم في شرائع الدنيا كلها. وإننا نقاسم المصابين أحزانهم، والذين فقدوا أحبتهم ويفقدونهم كل يوم في كل مكان من العالم تعرضوا فيه للقتل والترهيب دون وجه حق، ودون أن يحملوا السلاح، بل باغتهم الترهيب والقتل دون سابق إنذار، وخاصة في فلسطين على يد إرهاب الدولة الصهيونية، وفي العراق، وأفغانستان، وغيرها من البلدان التي تتععرض لترهيب وبربرية الحضارة المعاصرة دون رحمة أو شفقة أو تمييز بين المدني والعسكري، وخاصة أولئك الضحايا من النساء والشيوخ والولدان الذين لا يجدون حيلة للاحتماء من بطش الاحتلال، أو الفرار بأنفسهم، أو الدفاع في وجه من لا يعطي أدنى تقدير لإنسانية الإنسان.
والغريب في الأمر، أن ما يحدث من تقتيل للإنسان والحيوان وتدمير للأرض وإفساد ما فيها في فلسطين والعراق وأفغانستان لم يجد بواكي له في وسائل الإعلام العالمية والعربية والإسلامية التي راحت تكثر من النحيب والعويل على ما وقع في لندن، في الوقت الذي يُقتل فيه أضعاف مضاعفة في العراق وفلسطين وأفغانستان والشيشان ومندناو وفي إفريقيا وغيرها من بقاع العالم على يد آلة الرعب والقتل الأمريكية والصهيونية خصوصاً والغربية عموماً.
وهذا التمييز بين قيمة المدني العراقي وبين قيمة المدني البريطاني أو الأمريكي أو الغربي عموماً هو الإرهاب الحقيقي؛ إذ إن المدني مدني بطبعه وإنسانيته، وليس بعرقه أو دينه أو منطقته الجغرافية، وإلا اختلت موازين الحق والعدل، وفشا الظلم في تقييم الأمور والأشياء، وهذا مؤذن بخراب العمران كما قال ابن خلدون عليه رحمة الله. وهذا ما نجد تعبيراً عنه في رسالة السيدة (إيمان السعدون) من البصرة إلى الشعب البريطاني بمناسبة حوادث تفجيرات لندن.
محتوى الرسالة البصرية إلى الشعب البريطاني
تقول الرسالة: إني مرسلة هذه الرسالة إلى الشعب البريطاني، وبخاصة إلى سكان مدينة لندن.
لمدة ساعات معدودة عشتم لحظات من القلق والرعب. وفي تلك الساعات فقدتم أفراداً من أسركم أوعائلاتكم أو صديقاً لكم، ونود أن نقول لكم بكل شرف، بأننا نحزن جداً حين تقع أنفس بريئة ضحايا. ولا أستطيع أن أعبر لكم عن مدى الجرح العميق الذي يصيبنا لما نرى الوجوم والخوف والألم على وجوه الآخرين؛ لأننا عشنا هذه الحالة ولانزال نعيشها يومياً منذ أن قادت دولتكم –بريطانيا- والولايات المتحدة الأمريكية قوى التحالف في حملة مهاجمة وغزو العراق واحتلاله.
إن رئيس وزراء دولتكم، توني بلير قال: إن الذين قاموا بتلك التفجيرات قاموا بذلك باسم الإسلام. ووزيرة الخارجية الأمريكية، كوندوليزا رايس، وصفت التفجيرات بأنها عمل بربري. كما أن مجلس الأمن الدولي اجتمع وشجب بإجماع ذلك الحادث.
ولكني بودي أن أسألك، أيها الشعب البريطاني الحر؛ باسم مَنْ حوصر بلدي اثنتا عشرة سنة كاملة؟ وباسم مَن أُلقيت القنابل والأسلحة المحرمة دولياً على مدن بلدي العراق؟ وباسم من قام الجيش البريطاني بقتل العراقيين وتعذيبهم وانتهاك حرماتهم؟ هل كان ذلك باسمك؟ أم اسم الدين؟ أم الإنسانية؟ أم الحرية؟ أم الديموقراطية؟
ماذا تقولون عن قتل أكثر من مليوني طفل؟ وماذا تقولون عن تلويث التراب والماء باليورانيوم المشع والأسلحة الفتاكة والعناصر الكيماوية الأخرى؟ وماذا تقولون عمّا حدث في سجن (أبو غريب)، وغوانتانامو والسجون والمعتقلات الأخرى؟ وماذا تقولون عن تعذيب الرجال والنساء والولدان؟ وماذا تقولون عن ربط القنابل بأجساد المساجين وتفجيرهم بها؟ وماذا تقولون عن طرق التعذيب الجديدة التي استخدمت في تعذيب السجناء العراقيين؛ من قلع الأضافر، وفقء الأعين وقلعها، ووضع السجاير على جلودهم، وإحراق شعر رؤوسهم؟ فهل يكون وصف "بربري" كافياً لوصف سلوك جنودكم في العراق؟
هل من الممكن أن أسأل: لماذا لم يشجب مجلس الأمن مجازر العامرية والفلوجة وتلعفر ومدينة الصدر والنجف؟
لماذا وقف العالم يتفرج على شعبي يُقتل ويُعذّب ويُشرّد، ولم يشجب الجرائم التي ارتكبت في حقنا؟ فهل أنتم بشر ونحن شيء آخر أقل من ذلك؟ وهل تعتقدون أنكم أنتم فقط تتألمون، وتشعرون بالألم بينما نحن لا إحساس لنا؟
في الحقيقة نحن الأكثر وعياً بالألم الفظيع الذي يلم بالأم التي فقدت ابنها أو الأب الذي فقد أسرته. نعلم جيداً كم هو مؤلم أن يفقد أحد من يحب.
إنكم لا تعرفون شهداءنا، ولكن نحن نعرفهم. لا تتذكرونهم أو تبكون من أجلهم، ولكننا نفعل ذلك.
هل سمعتم بالطفلة حنان صالح مطرود؟ أو الطفل أحمد جابر كريم؟ أو سعيد شبرم؟(/1)
نعم. إن موتانا وقتلانا لهم أسماء أيضاً. إن لهم وجوهاً وقصصاً وذكريات. لقد كانوا بيننا ذات يوم، يضحكون ويلعبون. كانت لهم أحلام مثلما لكم أحلام أنتم أيضاً. كان لهم غد ينتظرهم، ولكنهم اليوم يرقدون بيننا بلا غد يوقظهم.
إننا لا نكره الشعب البريطاني ولا شعوب العالم الأخرى. وهذه الحرب فُرضت علينا، ولكننا اليوم ندفع عن أنفسنا؛ لأننا نريد أن نحيا على أرضنا- أرض العراق الحر- ونعيش كما نريد أن نعيش نحن، وليس كما تريد حكومتكم أو حكومة الولايات المتحدة.
دع عائلات أولئك الذين قُتلوا يعرفون أن مسؤولية أحداث تفجيرات الثلاثاء في لندن تقع على عاتق توني بلير وسياساته.
أوقفوا الحرب على شعبنا.
أوقفوا القتل اليومي الذي يمارسه جنودكم.
أنهوا احتلالكم لأرضنا.
توقيع: إيمان السعدون
14 يوليو 2005
وماذا بعد؟
إن المتأمل في رسالة هذه السيدة العراقية يجدها تثير نقاطاً كثيرة، تخاطب ضمير الشعب البريطاني ومن ورائه المجتمعات الغربية كلها، تستثير فيها التفكر في كثير من معاني الفوضى القيمية في العالم بفعل آليات التهويل الإعلامي والسياسي الغربية، وتابعتها في العالم العربي والإسلامي، وآليات التهوين لما أصاب أمتنا من محن على أيدي قوات الغطرسة الصهيونية والغربية وتابعتها ممثلة في أنظمة القهر والجبروت في العالم العربي خاصة.
كما أن الرسالة في حقيقتها موجهة للإدارة الأمريكية التي حملت على عاتقها برنامج إخضاع العالم لسطوتها، وتبعتها في ذلك أو ساندتها السياسة الرسمية البريطانية. وبعبارة أخرى فإن الزهو الأمريكي بعد النجاحات العسكرية في العراق وأفغانستان وغيرها من مواقع العالم، والتفوق الأمريكي في ميدان السلاح والاقتصاد والتقنية الحديثة زاد من طغيان إدارة اليمين المسيحي المتصهين في الإدارة الأمريكية، بل وأعمى بصرها عن إدراك مآلات الأمور فيما يتعلق بعلاقاتها بشعوب الأرض قاطبة.
والملاحظ، أنه بفعل غرور الانفراد الأمريكي نشأ عرف أمريكي شاذ عن المعايير الإنسانية التي توارثتها البشرية منذ قرون، ويقوم هذا العرف المنفرد بصياغة مفردات السياسة الدولية بشكل يثير حقد العالم عموما، والمسلمين بشكل خاص؛ ذلك أنه بالإضافة إلى الظلم العام الذي تمارسه أمريكا على العالم، فإن هناك ظلماً خاصاً تسلطه على المسلمين بشكل لم يسبق له مثيل من قبل في التاريخ.
فالمسلم المنتفض من أجل حقه في الوجود إرهابي، بينما الصهاينة شذاذ الأفاق الذين تجمعوا في أرض بيت المقدس ويعيثون فساداً وقتلاً هم في نظر أمريكا مضطهدين. والمحتلين لأرض العراق وأفغانستان وغيرها يعدون مقاتلين من أجل الحرية المستدامة، ولهم إعفاء كامل من المحاكم الدولية عن أي جريمة ضد الإنسانية.
وإذا قُتل يهودي أو حدث له أمر ما فإن ذلك معاداة للسامية، بينما آلاف الفلسطينيين الذين هم ساميون –بالعرف العلمي الغربي- لا بواكي لهم، ولا يُرفع من أجلهم شعار معاداة السامية، مع أن علماء الأجناس والسلالات واللسانيات يرون أن العبري والعربي كليهما ساميان.
وإذا صنعت باكستان أو إيران أو العراق سلاحاً يمكن أن يمارس نوعاً من التخويف وحماية النفس فإن ذلك محور الشر ونذير شؤم على أمن وسلام العالم، أما إذا كانت الهند أوالكيان الصهيوني أو غيرها من الدول التي لا يحكمها مسلمون فإن ذلك يُضرب عنه صفحاً في صحف وقنوات العالم ولا يسمع به أحد، ولا يشكل خطراً على أمن وسلام العالم. بل حتى كوريا التي أعلنت وهدّدت وباشرت تصنيع السلاح النووي لم تُعامل بمعشار ما عومل به العراق أو ليبيا أو مصر أو العراق أو السعودية.
إنه الانفراد والغرور الأمريكي في العالم عامة وفي العالم الإسلامي خاصة، والذي كلما طال أمده زاد رصيد نتائجه من الحقد على أمريكا وحلفائها التي ترى أنها تؤدي دور "روما الجديدة" في مقابل "البرابرة الجدد" الذين هم المسلمون في العرف الأمريكي المتصهين والإنجيلي المتهوّد.
وحتى لا يُقال إن كلامنا هذا كلام حاقد على أمريكا رائدة "الحضارة" والتقدم و"العالم الحر"، فإن ما ذكرناه للقارئ الكريم في بداية هذا المقال يثبت ويدعو إلى تأمل الأحداث الأخيرة، وما أدت إليه من زيادة الكراهية لأمريكا وحلفائها في العالم كله، وليس في العالم الإسلامي فحسب، وما ذلك إلا بسبب الأخطاء الإستراتيجية للإدارة الأمريكية المتصهينة وتوابعها من حكومات بريطانيا وغيرها المبنية على "عقيدة الانفراد" والتسلط، وعلى تبديل القيم والمفاهيم، وتحيّز معايير الكرامة الإنسانية، وازدواجية المكاييل فيما يتعلق بحقوق الإنسان، ومفاهيم الإرهاب، وتطبيقاتها المتحيزة، ونفاق الإعلام وتحيزه وتهويله لأشياء صغيرة وتهوينه لعظائم كثيرة.(/2)
علي بن أبي طالب كرم الله وجهه )
هو ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ولد قبل البعثة النبوية بعشر سنين وأقام في بيت النبوة فكان أول من أجاب الى الاسلام من الصبيان ، هو أحد العشرة المبشرين بالجنة ، وزوجته فاطمة الزهراء ابنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ووالد الحسن والحسين سيدي شباب الجنة .
الرسول يضمه إليه
كان أول ذكر من الناس آمن برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدق بما جاءه من الله تعالى : علي بن أبي طالب رضوان الله وسلامه عليه ، وهو يومئذ ابن عشر سنين ، فقد أصابت قريشاً أزمة شديدة ، وكان أبو طالب ذا عيال كثير فقال الرسول الكريم للعباس عمه : يا عباس ، إن أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة ، فانطلق بنا إليه فلنخفف عنه من عياله ، آخذ من بنيه رجلا وتأخذ أنت رجلا فنكفهما عنه ) فقال العباس :( نعم ).
فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له :( إنا نريد أن نخفف من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه ) فقال لهما أبو طالب :( إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما ) فأخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- علياً فضمه إليه ، وأخذ العباس جعفراً فضمه إليه ، فلم يزل علي مع رسول الله حتى بعثه الله تبارك وتعالى نبياً ، فاتبعه علي -رضي الله عنه- وآمن به وصدقه ، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا حضرت الصلاة خرج الى شعاب مكة ، وخرج علي معه مستخفياً من أبيه وسائر قومه ، فيصليان الصلوات معا ، فإذا أمسيا رجع.
منزلته من الرسول
لمّا آخى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه قال لعلي :( أنت أخي ) وكان يكتب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وشهد الغزوات كلها ما عدا غزوة تبوك حيث استخلفه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أهله وقال له :( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ).
وكان مثالا في الشجاعة و الفروسية ما بارز أحد الا صرعه ، وكان زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- :( من أحب عليا فقد أحبني ، ومن أحبني فقد أحب الله ومن أبغض عليا فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله ).
دعاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وزوجته فاطمة وابنيه ( الحسن والحسين ) وجلَّلهم بكساء وقال :( اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهِّرْهُم تطهيراً ) وذلك عندما نزلت الآية الكريمة قال تعالى :( إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عنكم الرِّجسَ أهلَ البيت ) , كما قال -عليه أفضل الصلاة والسلام-:( اشتاقت الجنّةِ إلى ثلاثة : إلى علي ، وعمّار وبلال ).
ليلة الهجرة
في ليلة الهجرة ، اجتمع رأي المشركين في دار الندوة على أن يقتلوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- في فراشه ، فأتى جبريل -عليه السلام- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال :( لا تبيت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه ) فلما كانت عتمة من الليل اجتمع المشركون على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه ، فلما رأى رسول الله مكانهم قال لعلي :( نم على فراشي ، وتَسَجَّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه ، فإنه لن يَخْلُصَ إليك شيء تكرهه منهم ).
ونام علي -رضي الله عنه- تلك الليلة بفراش رسول الله ، واستطاع الرسول -صلى الله عليه سلم- من الخروج من الدار ومن مكة ، وفي الصباح تفاجأ المشركون بعلي في فراش الرسول الكريم وأقام علي -كرّم الله وجهه- بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الودائع التي كانت عنده للناس ، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله في قباء.
أبو تراب
دخل علي على فاطمة -رضي الله عنهما- ، ثم خرج فاضطجع في المسجد ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- :( أين ابن عمك ) قالت :( في المسجد ) فخرج إليه فوجد رداءه قد سقط عن ظهره ، وخلص التراب إلى ظهره ، فجعل يمسح التراب عن ظهره فيقول :( اجلس يا أبا تراب ) مرتين.
يوم خيبر
في غزوة خيبر قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- :( لأُعْطينّ الرايةَ غداً رجلاً يحب الله ورسوله ، ويُحبه الله ورسوله ، يفتح الله عليه ، أو على يديه ) فكان رضي الله عنه هو المُعْطَى وفُتِحَت على يديه.
خلافته
لما استشهد عثمان -رضي الله عنه- سنة ( 35 هـ ) بايعه الصحابة والمهاجرين و الأنصار وأصبح رابع الخلفاء الراشدين ، يعمل جاهدا على توحيد كلمة المسلمين واطفاء نار الفتنة ، وعزل الولاة الذين كانوا مصدر الشكوى.(/1)
ذهبت السيدة عائشة زوجة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الى مكة المكرمة لتأدية العمرة في شهر محرم عام 36 هجري ، ولما فرغت من ذلك عادت الى المدينة ، وفي الطريق علمت باستشهاد عثمان واختيار علي بن أبي طالب خليفة للمسلمين ، فعادت ثانية الى مكة حيث لحق بها طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام -رضي الله عنهما- وطالب الثلاثة الخليفة بتوقيع القصاص على الذين شاركوا في الخروج على الخليفة عثمان -رضي الله عنه- ، وكان من رأي الخليفة الجديد عدم التسرع في ذلك ، والانتظار حتى تهدأ نفوس المسلمين ،وتستقر الأوضاع في الدولة الاسلامية ، غير أنهم لم يوافقوا على ذلك واستقر رأيهم على التوجه الى البصرة ، فساروا اليها مع أتباعهم.
معركة الجمل
خرج الخليفة من المدينة المنورة على رأس قوة من المسلمين على أمل أن يدرك السيدة عائشة -رضي الله عنها- ، ويعيدها ومن معها الى مكة المكرمة ، ولكنه لم يلحق بهم ، فعسكر بقواته في ( ذي قار ) قرب البصرة ، وجرت محاولات للتفاهم بين الطرفين ولكن الأمر لم يتم ، ونشب القتال بينهم وبذلك بدأت موقعة الجمل في شهر جمادي الآخرة عام 36 هجري ، وسميت بذلك نسبة الى الجمل الذي كانت تركبه السيدة عائشة -رضي الله عنها- خلال الموقعة ، التي انتهت بانتصار قوات الخليفة ، وقد أحسن علي -رضي الله عنه- استقبال السيدة عائشة وأعادها الى المدينة المنورة معززة مكرمة ، بعد أن جهزها بكل ما تحتاج اليه ، ثم توجه بعد ذلك الى الكوفة في العراق ، واستقر بها ، وبذلك أصبحت عاصمة الدولة الاسلامية.
مواجهة معاوية
قرر علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ( بعد توليه الخلافة ) عزل معاوية بن أبي سفيان عن ولاية الشام ، غير أن معاوية رفض ذلك ، كما امتنع عن مبايعته بالخلافة ، وطالب بتسليم قتلة عثمان -رضي الله عنه- ليقوم معاوية باقامة الحد عليهم ، فأرسل الخليفة الى أهل الشام يدعوهم الى مبايعته ، وحقن دماء المسلمين ، ولكنهم رفضوا فقرر المسير بقواته اليهم وحملهم على الطاعة ، وعدم الخروج على جماعة المسلمين ، والتقت قوات الطرفين عند ( صفين ) بالقرب من الضفة الغربية لنهر الفرات ، وبدأ بينهما القتال يوم الأربعاء (1 صفر عام 37 هجري ).
وحينما رأى معاوية أن تطور القتال يسير لصالح علي وجنده ، أمر جيشه فرفعوا المصاحف على ألسنة الرماح ، وقد أدرك الخليفة خدعتهم وحذر جنوده منها وأمرهم بالاستمرار في القتال ، لكن فريقا من رجاله ، اضطروه للموافقة على وقف القتال وقبول التحكيم ، بينما رفضه فريق آخر وفي رمضان عام 37 هجري اجتمع عمر بن العاص ممثلا عن معاوية وأهل الشام ، وأبو موسى الأشعري عن علي وأهل العراق ، واتفقا على أن يتدارسا الأمر ويعودا للاجتماع في شهر رمضان من نفس العام ، وعادت قوات الطرفين الى دمشق والكوفة ، فلما حان الموعد المتفق عليه اجتمعا ثانية ، وكانت نتيجة التحكيم لصالح معاوية.
الخوارج
أعلن فريق من جند علي رفضهم للتحكيم بعد أن اجبروا عليا -رضي الله عنه- على قبوله ، وخرجوا على طاعته ، فعرفوا لذلك باسم الخوارج ، وكان عددهم آنذاك حوالي اثني عشر ألفا ، حاربهم الخليفة وهزمهم في معركة (النهروان) عام 38 هجري ، وقضى على معظمهم ، ولكن تمكن بعضهم من النجاة والهرب وأصبحوا منذ ذلك الحين مصدر كثير من القلاقل في الدولة الاسلامية.
استشهاده
لم يسلم الخليفة من شر هؤلاء الخوارج اذ اتفقوا فيما بينهم على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص في ليلة واحدة ، ظنا منهم أن ذلك يحسم الخلاف ويوحد كلمة المسلمين على خليفة جديد ترتضيه كل الأمة ، وحددوا لذلك ثلاثة من بينهم لتنفيذ ما اتفقوا عليه ، ونجح عبد الرحمن بن ملجم فيما كلف به ، اذ تمكن من طعن علي -رضي الله عنه- بالسيف وهو خارج لصلاة الفجر من يوم الجمعة الثامن عشر من رمضان عام أربعين هجرية بينما أخفق الآخران.
وعندما هجم المسلمون على ابن ملجم ليقتلوه نهاهم علي قائلا :( ان أعش فأنا أولى بدمه قصاصا أو عفوا ، وان مت فألحقوه بي أخاصمه عند رب العالمين ، ولا تقتلوا بي سواه ، ان الله لا يحب المعتدين ) وحينما طلبوا منه أن يستخلف عليهم وهو في لحظاته الأخيرة قال لهم :( لا آمركم ولا أنهاكم ، أنتم بأموركم أبصر ) واختلف في مكان قبره وباستشهاده -رضي الله عنه- انتهى عهد الخلفاء الراشدين.
" من أحب عليا فقد أحبني ، ومن أحبني فقد أحب الله ومن أبغض عليا فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله " حديث شريف.(/2)
علي محمد الصلابي مفخرة بحق
الشبكة
حين يُذكر أهل العلم وأهل الهمم ، يبدأ طائر السعد والفرح بتحريك أجنحته الربانية في حنايا النفس ؛ ذلك بأن ذكرهم ذكر لله تعالى ، وتذكير به ، فما تلبث النفس أن تشعر بلذة هذا الطريق ، برغم صعوبته ، وتنتشي من أخبارهم وسيرهم العطرة الزاكية .
وهذا الذي قال عنه الإمام أبو حنيفة : " معرفة السِيّر تغني عن كثير من الفقه " ؛ لأن هذه السير العطرة تحوي الفقه وزيادة ؛ ففيها التطبيق العملي الواقعي للفقه ، وفيها العبر المتحركة النابضة التي تدل على إمكانية التطبيق في أعلى نماذجه .
منذ أن كان الأخ الحبيب " علي الصلابي " يعيش في حدائق بنغازي العطرة ، كان " يحلم " أن يكتب في التاريخ الليبي ، وظل هذا الحلم يسكن داخل نفسه وروحه ، يتحرك كل آن وحين ، ولم تمنعه دارسته الشرعية في المدينة المنورة ـ على صاحبها أزكى الصلاة والسلام ـ من السعي لتحقيق هذا الحلم ، فظل هو الطالب المجتهد الأول دوما على دفعته ، ظل يبحث عن حلمه وإمكانية تحقيقه ، يجلس مع أهل الاختصاص ، ويشتري الكتب ويعكف عليها ، ويتكلم مع كل من زاره من أهل البلد الطيب " ليبيا " عن هذا المشروع الحلم ، بل يطالبونه بأن يحكي لهم عنه ، وأين وصل فيه .
تفوق في جامعة المدينة المنورة بمرتبة شرف ، رفعت اسم بلده عاليا ، ومن قبل اسم أمته الماجدة ، ثم حاز على الماجستير والدكتوراه من السودان الشقيق ، كلاهما في القرآن الكريم ودراساته ، إذ الأخ الحبيب " علي الصلابي " صاحب صلة " فريدة " بالقرآن الكريم ، حفظا وتلاوة وفهما وعشقا.
ومع هذه الدراسات الأكاديمية بدأت الخطوات العملية في تحقيق الحلم ، ليصبح حقيقة ماثلة للعيان ، بل ويتسع الحلم الجميل الواقعي أكبر مما كان عليه أول الأمر ؛ فقد كان في أوله الكتابة في التاريخ الليبي ، ثم أضيف له سير الخلفاء الراشدين وسيرة النبي عليه الصلاة والسلام ، وتاريخ الدول الإسلامية وغيرها .
إن الدكتور علي الصلابي ـ حفظه الله ـ يمتاز بقدرته وصبره على البحث والتنقيب ، حتى إنني أزعم أن هذه الميزة تندر اليوم عند طلبة العلم اليوم ، بل والعلماء ، وهذا واضح ومشهود له به من قبل القريب والبعيد والصديق والحسود ، حتى أنك ترى أثر القلم في يده وقد ترك أثرا لمكانه في أصابعه المباركة .
لم ينل الدكتور علي الصلابي حقه في بيان جهوده من قبل أهل بلده لهذه المجهودات الضخمة التي بذلها ، فعمله اليوم ليس قاصرا على ليبيا فقط ، وإنما تعداها ليصل إلى الاهتمام بالأمة أجمع ؛ فقد انتشرت كتبه في كل مكان ، وطبعت في أكثر من قطر ، وترجم بعضها إلى لغات أخرى ، ونالت إحسان وثناء أهل العلم الأفاضل .
ففي المرحلة الأولى عندما صدرت عدة كتب للدكتور علي الصلابي قال له أحد علماء اليمن البارزين الربانيين : ( ليس عندنا في اليمن من هو في مثل عمرك ويقدر يعمل ما عملت ! ) وهي كلمة لها وزنها من أهل اليمن ، في حين كان يلقى الدكتور علي الكلمات المثبطة من بعض الأحبة ! ، لكن الله يخلق ما يشاء ويختار .
ويقول أحد الأساتذة البارزين من أهل العراق وقد أشرف على مئات الرسائل الجامعية ، يقول للدكتور علي الصلابي ( لم اقرأ بحثا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كمثل كتابكم ) ! ولا زلت أذكر الكثير من عبارات التثبيط التي وصلت من البعض حول الكتابة في السيرة ، وأنه ما الذي سوف يضيفه فيها؟
طبع اليوم من كتاب السيرة ( السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث ) أكثر من مائة وخمسون ألف نسخة " 150.00 " من روسيا إلى العراق إلى موريتانيا والجزائر والخليج ومصر و أدغال أفريقيا وغيرها ، وهذا من فضل الله تعالى وحده ، وتقبل الناس الكتاب بقبول حسن ، في حين كتبَ غير الدكتور علي الصلابي الكثيرون في السيرة ، ولا تزال بحوثهم طي النسيان .
إن تحديد الهدف ، والعزيمة على المضي فيه ، وعدم الالتفات إلى غيره ، وقلة الاكتراث بعبارات التثبيط والتجريح ، والتضرع المستمر إلى الله بالقبول ، وحسن النية في العمل ، كل أولئك كانت من أسباب النجاح للدكتور علي الصلابي حفظه الله .
إن الداعية الواعي الموقن بمشروعه عليه أن يستمر ويمضي في طريقه لا يبالي ، ما دام على الهدى والهدي المستقيم ، وما دام يعمل لله بنية حسنة ، ويراجع قلبه وإخلاصه حينا بحين .
يقول أحد المختصين في التاريخ عن كتاب ( سيرة أمير المؤمنين خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي بن أبي طالب، شخصيته وعصره ) يقول : " لم يكتب أحد من أهل السنة ولا الشيعة كتابا في الإمام الحسن كمثل كتاب الصلابي " .
إن هذا بحق مفرخة للعلم والدعوة الإسلامية في كل مكان .
عندما طبع كتاب الإمام علي بن أبي طالب ، قال بعض طلبة العلم " إن هذا الكتاب سوف يولد مشكلة بين الشيعة والسنة في هذا الوقت ، وليس من اللائق طبعه ! " وتمضي سنة الله ويطبع الكتاب وينتشر في كل العراق ، بل وتتغير عقائد بعض الشيعة ليدخلوا في أهل السنة ! .(/1)
إن من التجارب الحية التي يعلمنا إياها الدكتور علي الصلابي بأن المرء عليه المضي في دربه من غير أن يلتفت ولو هنيهة للوراء ، وأن يكون متواضعا ، حنون السجايا مع ما يلقاه من عنت وحسد ، فقد كان الأخ الحبيب علي الصلابي يرسل كتبه قبل الطبع لإخوانه يأخذ رأيهم فيها ، برغم مشقات البريد ، ومع ذلك لا يزال الأخ الحبيب المتواضع ، طيب القلب .
إن مشروع الدكتور علي الصلابي الضخم لن يقف عند التاريخ ، بل الطموح أن يبدأ في تناول موضوعات مهمة في القرآن الكريم ، ونتمنى له التوفيق والسداد والقبول فيها ، كما كان القبول للكتب التاريخية الضخمة ، وكل هذا يصب في تربية الأجيال المؤمنة في ليبيا الحبيبة وفي كل الأمة ، وقد ظهرت بشائر تدل على التفاف الشباب المؤمن حول هذه الكتب ، واعتمادها من قبل بعض المؤسسات التربوية في مناهجها .
إننا في الشبكة لنفخر بأن نقدم لكل أهلنا هذه الشخصية العطرة الطيبة ، ونعد بأن نوفر كل ما نقدر عليه من كتب الدكتور علي الصلابي على صفحات الشبكة ، وبطرق مناسبة للجميع ، من بعد موافقة الدكتور علي الصلابي على ذلك والحمد لله .
إنها دعوة لكل شباب الصحوة في ليبيا الحبيبة للنهل من هذا المشروع الضخم والاستفادة منه ، والترويج له ، وأن تفخر الصحوة كلها ، وكل ليبي سليم القلب بهذا الأخ الدكتور ، وأن تنزله المكانة التي أنزله إياها أهل العلم والفضل الحقيقيين .
وهنيئا لآل الصلابي وكل ليبيا وكل أمتنا بهذه المفخرة ، ونسأل الله له دوام التوفيق والسداد .
علي محمد محمد الصَّلاَّبيِّ
بطاقة تعريف
· ـ ولد في مدينة بنغازي بليبيا عام 1383 هـ/ 1963م.
· ـ حصل على درجة الإجازة العالية((الليسانس)) من كلية الدعوة وأصول الدين من جامعة المدينة المنورة بتقدير ممتاز وكان الأول على دفعته عام 1413/1414هـ الموافق 1992/1993م.
· ـ نال درجة الماجستير من جامعة أم درمان الإسلامية كلية أصول الدين قسم التفسير وعلوم القرآن عام 1417هـ/1996م.
· ـ نال درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية بمؤلفه فقه التمكين في القرآن الكريم. جامعة أم درمان الإسلامية بالسودان عام 1999م.
· ـ صدرت له عدة كتب:
1 ـ عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين.
2 ـ الوسطية في القرآن الكريم.
سلسلة((صفحات من التاريخ الإسلامي في الشمال الإفريقي)).
3 ـ صفحات من تاريخ ليبيا الإسلامي والشمال الإفريقي.
4 ـ عصر الدولتين الأموية والعباسية وظهور فكر الخوارج.
5 ـ الدولة العبيدية (الفاطمية) الرافضية.
6 ـ فقه التمكين عند دولة المرابطين.
7 ـ دولة الموحدين.
8 ـ الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط.
9 ـ فاتح القسطنطينية السلطان محمد الفاتح.
10 ـ فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة.
11 ـ الحركة السنوسية في ليبيا.
( أ ) ـ الإمام محمد بن علي السنوسي ومنهجه في التأسيس.
( ب ) ـ محمد المهدي السنوسي، وأحمد الشريف.
( ج ) ـ إدريس السنوسي، وعمر مختار.
12 ـ فقه التمكين في القرآن الكريم.
13 ـ السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث.
14 ـ الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبي بكر الصديق، شخصيته وعصره.
15 ـ فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، شخصيته وعصره.
16 ـ تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان، شخصيته وعصره.
17 ـ أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، شخصيته وعصره.
18 ـ سيرة أمير المؤمنين خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي بن أبي طالب، شخصيته وعصره.
19 ـ الدولة الأموية، عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار.
20 ـ معاوية بن أبي سفيان، شخصيته وعصره.
21 ـ عمر بن عبد العزيز معالم التجديد والإصلاح الراشدي على منهاج النبوة.(/2)
عمار المساجد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن ولاه .
* أيها الأخ الراشد :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
أما بعد :
فقد ذكر الله عمار المساجد فوصفهم بالإيمان النافع وبالقيام بالأعمال الصالحة التي أمها الصلاة والزكاة وبخشية الله التي هي أصل كل خير فقال تعالى : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلاّ الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } [ التوبة : 18 ] .
وحضورك إلى المسجد لأداء الصلاة مع الجماعة إنما هو عمارة لبيوت الله والوصية لي ولك ، أن نحافظ على هذه الصلاة مع الجماعة لتكون نوراً وبرهاناً يوم القيامة ، ولا تنس بالأخص صلاة الفجر فإن البعض من الناس اليوم قد استهوتهم أنفسهم ، وضعف إيمانهم وقل ورعهم ، وماتت غيرتهم ، فلا يحرصون على حضور صلاة الفجر مع الجماعة ويتذرعون بحجج وأعذار هي أوهي من بيت العنكبوت ، وهم بصنيعهم هذا قد آثروا حب النفس وحب النوم على محاب الله ورسوله { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } [ التوبة : 24 ] .
* أخا الإسلام :
ألا أن تسعد ببشرى نبيك : -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول فيما أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجة عن أنس رضي الله عنه : (( بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة )) .. كسب آخر ، إلى جانب النور التام لمن حافظ على صلاة الفجر ، ولكنه ليس كسباً دنيويا بل هو أرفع وأسمى من ذلك ، وهو الغاية التي يشمر لها المؤمنون ، ويتعبد من أجلها العابدون ، إنها الجنة !!! وأي تجارة رابحة كالجنة !!! قال -صلى الله عليه وسلم- : (( من صلى البردين دخل الجنة )) أخرجه مسلم . أي من صلى الفجر والعصر .
فياله من فضل عظيم أن تدخل الجنة بسبب محافظتك على هاتين الصلاتين صلاة الصبح والعصر ، ولكن ماذا في الجنة ؟ وماذا أعد لداخلها ؟ وما صفاتهم ؟ إذا أردت أن تعلم هذا فاقرأ كتاب ربك وتدبر وتفهم ما فيه فالوصف لا يحيط بما فيها { فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } [ السجدة : 17 ] .
وليس هذا فحسب بل هناك ما هو أعلى من ذلك كله وهو لذة النظر إلى وجه الله الكريم ، فقد ثبت في صحيح البخاري عن جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال : كنا عند النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، فنظر إلى القمر ليلة -يعني البدر- فقال : (( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا (( ثم قرأ : { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها } زاد المسلم ( يعني العصر والفجر).
* قال العلماء :
(( ووجه مناسبة ذكر هاتين الصلاتين عند ذكر الرؤية أن الصلاة أفضل الطاعات . وقد ثبت لهاتين الصلاتين من الفضل على غيرهما ما ذكر من اجتماع الملائكة فيهما ورفع الأعمال وغير ذلك ، فهما أفضل الصلوات فناسب أن يجازي المحافظ عليهما بأفضل العطايا وهو النظر إلى الله تعالى )) اهـ . فتح (2/34) .
* وينبغي أن تعلم أخي المسلم :
أن إيمان المرء يتمثل بحضور صلاة الفجر حين يستيقظ الإنسان من فراشه الناعم تاركاً لذة النوم وراحة النفس طلبا لما عند الله ورغبة في أن يكون في ذمة الله ، كما أخبر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بقوله : (( من صلى الصبح فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم )) ، أخرجه مسلم ، من حديث جندب بن عبدالله .
إن النفس الزكية الطاهرة تسارع إلى ربها لأداء صلاة الفجر مع الجماعة فهي غالية الأجر وصعبة المنال إلاّ لمن وفقه الله لذلك .
وكثير من الناس اليوم إذا أووا إلى فرشهم للنوم غطوا في سبات عميق وتحولوا إلى صرعى ضربات الشيطان وعقده الثلاث .
يقول -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه مسلم : (( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام بكل عقدة يضرب: عليك ليل طويل فارقد فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة وإذا تؤضأ انحلت عنه عقدتان فإذا صلى انحلت العقد فاصبح نشيطاً طيب النفس . وإلاّ أصبح خبيث النفس كسلان )) من رواية أبي هريرة .
*فانظر أي المسلم :(/1)
إلى عظيم المسئولية وأهميتها فهذا رسولنا وحبيبنا -صلى الله عليه وسلم- يحذرنا من أن تصبح النفس خبيثة خاصة إذا نامت عن صلاة الفجر فما بال هذا التقصير فينا ؟!!! لماذا هذا التساهل عندنا؟!!!وكيف نأمل أن ينصرنا الله عز وجل ، وأن يرزقنا ، ويهزم أعداءنا ، أن يمكن لنا في الأرض ونحن في تقصير وتفريط في حق الله . نسمع نداءه كل يوم حي على الصلاة حي على الفلاح - الصلاة خير من النوم ونحن لا نجيب ولا نستجيب أي بعد عن الله بعد هذا !!! هل أمنا مكر الله ؟ هل نسينا وقوفنا بين يدي الله ؟!!! والله لنوقفن غداً عن من لا تخفى عليه خافية { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } [ الأنعام : 94 ] .
* لا يا أخي :
قم عن فراشك وانهض من نومك واستعن بالله رب العامين ولا تتثاقل نفسك عن صلاة الفجر ، فإن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبواً .
إن الواحد منا ليسر حينما يدخل المسجد لصلاة الظهر أو المغرب أو العشاء ويجد جموع المصلين في الصف والصفين والثلاثة صغاراً وكباراً ، فيحمد الله ثم يأتي لصلاة الفجر ولا يجد إلاّ نصف العدد أو أقل من ذلك . أين ذهب أولئك المصلون ؟!!! إنهم صرعى ضربات الشيطان بعقدة الثلاث!!! يغطون في سبات عميق فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم .
ولو قيل لأحدهم : إن عملك يدعوك قبل الفجر بساعة لأعد نفسه واستعد وأخذ الأسباب حتى يستيقظ في الوقت المحدد بل لو أراد أحدنا أن يسافر قبل أذان الفجر لاحتاط لنفسه وأوصى أهله أن يوقظوه .
لكنا لا نصنع هذا في صلاة الفجر .
فليتق الله امرؤ عرف الحق فلم يتبعه وإذا سمعت أذان الفجر يدوي في أفواه الموحدين فانهض بنفس شجاعة إلى المسجد ، وكن من الذين يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار .
* ثم اعلم يا أخا الإسلام :
أنك إذا أرخيت العنان لنفسك وتخلفت عن صلاة الفجر مع الجماعة عرضت نفسك لسخط الله ومقته فانتبه لنفسك قبل أن يأتيك الموت بغتة وأنت لا تدري وقبل { أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين } [ الزمر : 56 - 58 ] .
والآن قد جاءك النذير وتبين لك القول ، فأنقذ بنفسك من حجب الهوى إلى سبيل الهدى وابحث عن الوسائل المعينة لحضور هذه الفريضة .
* وهاكها باختصار :
1- إخلاص النية لله تعالى والعزم الأكيد على القيام للصلاة عند النوم .
2- الابتعاد عن السهر والتبكير بالنوم متى استطعت إلى ذلك .
3- الاستعانة بمن يوقظك عند الصلاة من أب أو أم أو أخ أو أخت أو زوجة أو جار أو منبه .
4- الحرص على الطهارة وقراءة الأوراد النبوية قبل النوم .
فبادر إلى الصلاة وأجب داعي الله .
{ ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء .. } الآية [ الأحقاف : 32 ] .
ألهمنا الله وإياك البر والرشاد ووفقنا للخير والسداد وسلك بنا وبك مسالك الأخيار الأبرار.
وأخيراً تذكر قول ربك { إن في ذلك لذكر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } [ ق : 37 ] .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1)
_____________________________________________
(1) كتبها عبدالله بن عبدالرحمن .(/2)
عمر المختار.. الرواية الخالدة
فخر الدين محمود حسب الله*
في البدء أقول شكراً للمخرج الراحل مصطفى العقاد صاحب فيلمَي الرسالة وعمر المختار؛ فقد أدى رسالته على أكمل وجه، ثم رحل وهو يقول لنا إن أمتنا بخير، وإن الخير سينتصر، وإن الظلام وإن طال فإن الفجر سيأتي يوما يحمل البشرى، وإن أيدي الغدر التي اغتالته تقصر عن إعاقة رسالته السامقة.
فشكرا عزيزي العقاد وإن لم تخرج لنا إلا التحفتين الفنيتين (الرسالة، وعمر المختار) فأنت أول من يعلم أن الرسالة وصلت، وستتواصل، وأن البطولة لم يحن وقت موتها بعد.
ما يدفعني لكتابة ذلك هو أنني كلما فرغت أهرع لمشاهدة فيلم عمر المختار، كلما شاهدته مرة أتوق لمشاهدته مرات ومرات؛ وذلك لأنه يضرب بكل رقة على الوتر الحساس في نفسي، وربما في نفس كل إنسان يتوق إلى الحرية، والعدل، والكرامة، ومحاربة الاستبداد والاستغلال.
المختار شيخ يدرس القرآن للناشئة، ويمثل المرجعية الدينية لقومه، وعندما دخل الغازي المستعمر ليبيا، وبدأ في انتهاك الأعراض والحرمات، وتعذيب العباد، وغيرها من مظاهر الاستعمار جديده وقديمه - فالقوم سواء؛ ما دخلوا بلادا إلا وجعلوا أعزة أهلها أذلة؛ وما العراق وأفغانستان عنا ببعيد
إن مصطفى العقاد أراد أن يقول الكثير في فيلمه هذا؛ فتناول بعض القضايا في صراحة، وترك البعض الآخر لمن كان له لبّ، تناولها على المستويين الفردي والجماعي؛ فهو كأنما يقول: لكي يكون الفرد الواحد منا أمة فعليه الكثير؛ وليس له مقابل ذلك إلا الخلود المعنوي.
تقول إحدى لقطات الفيلم: إن المختار شيخ يدرس القرآن للناشئة، ويمثل المرجعية الدينية لقومه، وعندما دخل الغازي المستعمر ليبيا، وبدأ في انتهاك الأعراض والحرمات، وتعذيب العباد، وحرق المزارع، وتدمير العمران، وغيرها من مظاهر الاستعمار جديده وقديمه - فالقوم سواء؛ ما دخلوا بلادا إلا وجعلوا أعزة أهلها أذلة؛ وكذلك يفعلون؛ وما العراق وأفغانستان عنا ببعيد - عندها هب الشيخ المختار لرد العدوان، ودحر الطغيان الذي جثم على الصدور؛ وهكذا نجد أن جميع حركات التحرر ضد المستعمر - منذ ذلك الزمن وإلى اليوم - تستمد أفكارها وروحها من روح الإسلام، والشواهد على ذلك لا تحتاج إلى إثبات!!.. إن مشاهد الفيلم تحمل قيما ورؤى نحتاج لها دوماً:
- أين زوجي؟!..
- لقد جلبت لك كتابه.. لم يلن لهم ظهره أبدا.
- أيها الصغير! ما اسمك؟!.. هذا لك!!.. هذا كتابك الآن!.. قل لأمك أن تحفظه لك!!..
- لا تدعيه يراك وأنت تبكين!!..
- لماذا يا مختار يا عظيم؟!.. أتريد أن يذكرنا الأطفال أقوياء؛ واثقين؛ لا بائسين؛ لأنهم يوما سيستمرون في القتال؟!.
- يقول المختار: (لا حق لأمة في احتلال أمة أخرى).. رحمك الله يا مختار؛ إنها عبارة حق؛ خرجت من لسان ينطق بالحق؛ لرجل حق؛ أراد أن يعيد الحق لأمته.
وصف أموال الغرب التي يهرول إليها هؤلاء لينالوا من نصيبهم جزاء خدمة العمالة والارتزاق: (أموالكم تماما كأمجادكم ليست خالدة)
- رحمك الله يا مختار؛ وأنت لم تر كيف يهرول بعض الناس تجاه الفانية؛ وينسون الباقية؛ ويبذلون في ذلك الغالي والرخيص؛ حتى وإن كان ذلك على حساب العقيدة، والأرض، والعرض.. وصدقت حين وصفت أموال الغرب التي يهرول إليها هؤلاء لينالوا من نصيبهم جزاء خدمة العمالة والارتزاق: (أموالكم تماما كأمجادكم ليست خالدة).. (حبل عداوتكم يا جنرال كان يتدلى دائما أمامي).. وليت المفاوضون منا يسمعون كلماتك: (أنتم لم تفاوضونا من أجل السلام؛ بل أردتم كسب الوقت، وتنظيم الصفوف).. فما أشبه الليلة بالبارحة!، وانظر بماذا اتهموه عند محاكمته: (عمر المختار! أنت متهم بالتمرد والعصيان ضد الحكومة الشرعية بالبلاد لمدة عشرين عاما).. إنها حالتنا اليوم بالضبط.. فقط الذي تغير هو هذه الجملة الطويلة لتصبح كلمة واحدة تدق بها كل الرؤوس التي لم تنحن وهي (الإرهاب)، ونطقت محكمة العدل الدولية آنذاك بالإعدام شنقا حتى الموت على المختار (الإرهابي)، وعندما تم شنقه قوبل ذلك بالزغاريد من النساء، والتهليل والتكبير من الرجال؛ وهي مظاهر تصاحب استشهاد العظماء في أغلب الأحيان (نحن لن نستسلم؛ ننتصر أو نموت.. أما أنا فحياتي ستظل أطول من حياة شانقي).
- إن العقاد أراد أن يقول في ختام الفيلم: إن الرسالة التي حملها المختار ومن هم قبله ستنتقل في هذه الأمة جيلاً بعد جيل؛ وذلك من خلال مشهد الطفل الذي أخذ نظارة المختار، ولكن يبدو أنها وصلت إلينا معتمة، ومكسرة الأجزاء؛ ولا تساعد في الرؤية التي افتقدناها ردحا من الزمن.(/1)
- الفيلم في مجمله مرافعة تاريخية رفيعة، ويبحث في تساؤلات لم تجد الإجابات الشافية بعد، وتقصي في حقائق صفات لا يحيد عنها الغرب مهما ادعى من تقدم في العلاقات والمفاهيم الإنسانية، ويوضح بجلاء أن طمس معالم الهوية للشعوب الإسلامية، ونهب واستغلال ثرواتها بمختلف المسميات كان ولا يزال يمثل الدافعية المحركة لعواطفهم غير البريئة باسم الإنسانية؛ فليتعظ أولئك النفر من أمتنا الذين يضعون أنفسهم تحت خدمتهم لتحقيق أغراض آنية تمثل العمالة والمصالح الشخصية وجهها الحقيقي، وليكن لهم في المختار وصحبه درس وعبرة؛ فالتاريخ لا يخلد الأفراد لذواتهم؛ وإنما يخلد ما حملوه من قيم ومعاني ضحوا في سبيلها (وعاشوا أطول مما عاش جلادوهم).. هكذا نطقت كلمات الختام في وقائع الرواية التاريخية الخالدة.(/2)
عمر المختار
شعر: أحمد شوقي
رَكَزوا رُفاتكَ في الرمال iiلواءَ
يا ويحَهم نصبوا مناراً من iiدَمٍ
ما ضرَّ لو جعلوا العلاقةَ في iiغدٍ
جُرحٌ يصيحُ على المدى وضحيّةٌ
يا أيُّها السيف المجرّدُ iiبالفلا
تلك الصحارى غِمدُ كلِّ iiمهنَّدٍ
وقبورُ موتى من شبابِ iiأُميّةٍ
* * ii*
خُيِّرتَ فاخترتَ المبيتَ على الطوى
إنَّ البُطولةَ أنْ تموتَ من الظَّما
في ذمّةِ اللهِ الكريمِ وحفظهِ
لم تُبقِ منه رحى الوقائعِ iiأعظُماً
كَرُفاتِ نَسرٍ أو بقيّةِ iiضيغمٍ
* * ii*
يا أيها الشعبُ القريبُ! iiأسامعٌ
أمْ ألجَمتْ فاكَ الخُطوبُ iiوحَرَّمتْ
ذَهبَ الزعيمُ وأنتَ باقٍ iiخالدٌ ... يستنهضُ الوادي صباحَ iiمساءَ
تُوحي إلى جيلِ الغدِ iiالبغضاءَ
بينَ الشعوبِ مودَّةً iiوإخاءُ
تتلمَّسُ الحريَّةَ الحمراءَ
يكسو السيوفَ على الزَمانِ iiمَضاءَ
أبلى فأحسنَ في العدوّ iiبلاءَ
وكهولهِمْ لم يبرحوا iiأحياءَ
* * ii*
لم تَبْنِ جاهاً أو تَلمَّ ثراءَ
ليسَ البطولةُ أن تعُبَّ iiالماءَ
جَسَدٌ بِبُرقةَ وسِّدَ iiالصحراءَ
تَبلى، ولم تُبْقِ الرّماحُ دماءَ
باتا وراءَ السافياتِ iiهَبَاءَ
* * ii*
فأصُوغَ في "عمر" الشهيدِ iiرِثاءَ؟!
أُذَنيكَ حين تخاطبُ iiالإصغاءَ؟
فانقدْ رجالك واخترِ iiالزعماءَ(/1)
عمر بن الخطاب أحد العشرة المبشرين بالجنة )
الفاروق أبو حفص ، عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد العزَّى القرشي العدوي ، ولد بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة ( 40 عام قبل الهجرة ) ، عرف في شبابه بالشدة والقوة ، وكانت له مكانة رفيعة في قومه اذ كانت له السفارة في الجاهلية فتبعثه قريش رسولا اذا ما وقعت الحرب بينهم أو بينهم و بين غيرهم وأصبح الصحابي العظيم الشجاع الحازم الحكيم العادل صاحب الفتوحات وأول من لقب بأمير المؤمنين.
اسلامه
أسلم في السنة السادسة من البعثة النبوية المشرفة ، فقد كان الخباب بن الأرت يعلم القرآن لفاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد عندما فاجأهم عمر بن الخطاب متقلدا سيفه الذي خرج به ليصفي حسابه مع الإسلام ورسوله ، لكنه لم يكد يتلو القرآن المسطور في الصحيفة حتى صاح صيحته المباركة :( دلوني على محمد ).
وسمع خباب كلمات عمر ، فخرج من مخبئه وصاح :( يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ، فإني سمعته بالأمس يقول :( اللهم أيد الإسلام بأحب الرجلين إليك ، أبي الحكم بن هشام ، وعمر بن الخطاب ) فسأله عمر من فوره :( وأين أجد الرسول الآن يا خباب ؟) وأجاب خباب :( عند الصفا في دار الأرقم بن أبي الأرقم ).
ومضى عمر الى مصيره العظيم ففي دار الأرقم خرج إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف فقال :( أما أنت منتهيا يا عمر حتى يُنزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة ؟ اللهم هذا عمر بن الخطاب ، اللهم أعزّ الدين بعمر بن الخطاب ) فقال عمر :( أشهد أنّك رسول الله ).
وباسلامه ظهر الاسلام في مكة اذ قال للرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في دار الأرقم :( والذي بعثك بالحق لتخرجن ولنخرجن معك ) وخرج المسلمون ومعهم عمر ودخلوا المسجد الحرام وصلوا حول الكعبة دون أن تجرؤ قريش على اعتراضهم أو منعهم ، لذلك سماه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ( الفاروق ) لأن الله فرق بين الحق والباطل .
لسان الحق
هو أحد العشرة المبشرين بالجنة ، ومن علماء الصحابة وزهادهم ، وضع الله الحق على لسانه اذ كان القرآن ينزل موافقا لرأيه ، يقول علي بن أبي طالب :( إنّا كنا لنرى إن في القرآن كلاما من كلامه ورأياً من رأيه ) كما قال عبد الله بن عمر :( مانزل بالناس أمر فقالوا فيه وقال عمر ، إلا نزل القرآن بوفاق قول عمر ).
عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- :( لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون ، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر ) و زاد زكرياء بن أبي زائدة عن سعد عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:( لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما-:( من نبي ولا محدث ).
قوة الحق
كان قويا في الحق لا يخشى فيه لومة لائم ، فقد استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وعنده نسوة من قريش ، يكلمنه ويستكثرنه ، عالية أصواتهن على صوته ، فلما استأذن عمر بن الخطاب قمن فبادرن الحجاب ، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فدخل عمر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- يضحك ، فقال عمر :( أضحك الله سنك يا رسول الله ) فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- :( عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي ، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب ) فقال عمر :( فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله ) ثم قال عمر :( يا عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-) فقلن :( نعم ، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم-) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- :( إيها يا ابن الخطاب ، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك ).
ومن شجاعته وهيبته أنه أعلن على مسامع قريش أنه مهاجر بينما كان المسلمون يخرجون سرا ، وقال متحديا لهم :( من أراد أن تثكله أمه وييتم ولده وترمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي ) فلم يجرؤ أحد على الوقوف في وجهه.
عمر في الأحاديث النبوية
رُويَ عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- العديد من الأحاديث التي تبين فضل عمر بن الخطاب نذكر منه ( إن الله سبحانه جعل الحق على لسان عمر وقلبه ) ( الحق بعدي مع عمر حيث كان ) ( لو كان بعدي نبيّ لكان عمر بن الخطاب ) ( إن الشيطان لم يلق عمر منذ أسلم إلا خرَّ لوجهه ) ( ما في السماء ملك إلا وهو يوقّر عمر ، ولا في الأرض شيطان إلا وهو يفرق من عمر ).(/1)
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- :( رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأةِ أبي طلحة وسمعت خشفاً أمامي ، فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا بلال ، ورأيت قصرا أبيض بفنائه جارية ، فقلت : لمن هذا القصر ؟ قالوا : لعمر بن الخطاب ، فأردت أن أدخله فأنظر إليه ، فذكرت غيْرتك ) فقال عمر :( بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار !).
وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- :( بيْنا أنا نائم إذ أتيت بقدح لبنٍ ، فشربت منه حتى إنّي لأرى الريّ يجري في أظفاري ، ثم أعطيت فضْلي عمر بن الخطاب ) قالوا :( فما أوّلته يا رسول الله ؟) قال :( العلم )
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- :( بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليّ وعليهم قمصٌ ، منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ أسفل من ذلك ، وعُرِضَ عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرّه ) قالوا :( فما أوَّلته يا رسول الله ؟) قال :( الدين ).
خلافة عمر
رغب أبو بكر -رضي الله عنه- في شخصية قوية قادرة على تحمل المسئولية من بعده ، واتجه رأيه نحو عمر بن الخطاب فاستشار في ذلك عدد من الصحابة مهاجرين وأنصارا فأثنوا عليه خيرا ومما قاله عثمان بن عفان :( اللهم علمي به أن سريرته أفضل من علانيته ، وأنه ليس فينا مثله ) وبناء على تلك المشورة وحرصا على وحدة المسلمين ورعاية مصلحتهم.
أوصى أبو بكر الصديق بخلافة عمر من بعده ، وأوضح سبب اختياره قائلا :(اللهم اني لم أرد بذلك الا صلاحهم ، وخفت عليهم الفتنة فعملت فيهم بما أنت أعلم ، واجتهدت لهم رأيا فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليهم ) ثم أخذ البيعة العامة له بالمسجد اذ خاطب المسلمين قائلا :(أترضون بمن أستخلف عليكم ؟ فوالله ما آليت من جهد الرأي ، ولا وليت ذا قربى ، واني قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا ) فرد المسلمون :(سمعنا وأطعنا) وبايعوه سنة ( 13 هـ ).
انجازاته
استمرت خلافته عشر سنين تم فيها كثير من الانجازات المهمة لهذا وصفه ابن مسعود -رضي الله عنه- فقال :( كان اسلام عمر فتحا ، وكانت هجرته نصرا ، وكانت إمامته رحمه ، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي الى البيت حتى أسلم عمر ، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا فصلينا).
فهو أول من جمع الناس لقيام رمضان في شهر رمضان سنة ( 14 هـ ) ، وأول من كتب التاريخ من الهجرة في شهر ربيع الأول سنة ( 16 هـ ) ، وأول من عسّ في عمله ، يتفقد رعيته في الليل وهو واضع الخراج ، كما أنه مصّر الأمصار ، واستقضى القضاة ، ودون الدواوين ، وفرض الأعطية ، وحج بالناس عشر حِجَجٍ متوالية ، وحج بأمهات المؤمنين في آخر حجة حجه, وهدم مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وزاد فيه ، وأدخل دار العباس بن عبد المطلب فيما زاد ، ووسّعه وبناه لمّا كثر الناس بالمدينة ، وهو أول من ألقى الحصى في المسجد النبوي ، فقد كان الناس إذا رفعوا رؤوسهم من السجود نفضوا أيديهم ، فأمر عمر بالحصى فجيء به من العقيق ، فبُسِط في مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعمر -رضي الله عنه- هو أول من أخرج اليهود وأجلاهم من جزيرة العرب الى الشام ، وأخرج أهل نجران وأنزلهم ناحية الكوفة.
الفتوحات الإسلامية
لقد فتح الله عليه في خلافته دمشق ثم القادسية حتى انتهى الفتح الى حمص ، وجلولاء والرقة والرّهاء وحرّان ورأس العين والخابور ونصيبين وعسقلان وطرابلس وما يليها من الساحل وبيت المقدس وبَيْسان واليرموك والجابية والأهواز والبربر والبُرلُسّ وقد ذلّ لوطأته ملوك الفرس والروم وعُتاة العرب حتى قال بعضهم :( كانت درَّة عمر أهيب من سيف الحجاج ).
هَيْبَتِه و تواضعه
وبلغ -رضي الله عنه- من هيبته أن الناس تركوا الجلوس في الأفنية ، وكان الصبيان إذا رأوه وهم يلعبون فرّوا ، مع أنه لم يكن جبّارا ولا متكبّرا ، بل كان حاله بعد الولاية كما كان قبلها بل زاد تواضعه ، وكان يسير منفردا من غير حرس ولا حُجّاب ، ولم يغرّه الأمر ولم تبطره النعمة.
استشهاده
كان عمر -رضي الله عنه- يتمنى الشهادة في سبيل الله ويدعو ربه لينال شرفها :( اللهم أرزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك) وفي ذات يوم وبينما كان يؤدي صلاة الفجر بالمسجد طعنه أبو لؤلؤة المجوسي ( غلاما للمغيرة بن شعبة ) عدة طعنات في ظهره أدت الى استشهاده ليلة الأربعاء لثلاث ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة ولما علم قبل وفاته أن الذي طعنه ذلك المجوسي حمد الله تعالى أن لم يقتله رجل سجد لله تعالى سجدة ودفن الى جوار الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في الحجرة النبوية الشريفة الموجودة الآن في المسجد النبوي في المدينة المنورة.
" يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكافجا قط الا سلك فجا غير فجك " حديث شريف.(/2)
عمر بن الخطاب وأمُّ البنين
شعر: جورجي نخلة سعد
لدَى عمرٍ أمير المؤمنينا قِفوا بي وقفةَ المتهيّبينا
مليكٌ ذو مآثر باسقاتٍ يُقصّرُ عن مداها السابقونا
خوالدَ ما عفتْ قِدْماً ولكن يُعطّر نشرُ ذكراها القرونا
ولم يكُ صَولجانُ الملك يوماً ليمنعَه العُفاةَ البائسينا
فكانوا يقبلون على حِماهُ كأسراب الظباء رأتْ مَعينا
وكان بنفسه بعضَ الليالي يدور على المنازل مستبينا
فمن يُمدَح لمكرُمةٍ فإني نظمتُ بمدحه عقداً ثمينا
وهاكم ما روى العباسُ عنه أراه بانتباهِكمُ قَمينا
يُمثِّلُ صورةً للبؤس فينا ويُملي عِبرةً للحاكمينا
يقول: لقد دعاني المَلْكُ وَهناً فكنتُ له بجولته خَدينا
أفزَّته محبَّتُه لشعب يعزُّ عليه يوماً أن يهونا
سرى متنكراً والليلُ قرٌّ إلى الأثلاتِ يفتقدُ الشئونا
يطوّف في الخيام عساه يلقى بمنزوياتها رهطاً حزينا
فمرَّ هناك بامرأةٍ عجوز حواليها صغارٌ يُعْوِلونا
وقِدْرٍ أركزتْه على أثافٍ غلى عبثاً لتعليلِ البنينا
تقول –ودأبُها التنفيخ- صبراً بَنيَّ ، ستأكلون وتشبعونا
فظلَّ المَلكُ يُمعن ناظرَيه بها حيناً وبالأولاد حينا
وطال وقوفُه في الحيّ حتى توجَّس أن يُريب به الظنونا
يميناً ليس يبغي البينَ حتى يرى الأولاد قد مَلأوا البطونا
وما زالوا كذلك بضعَ ساعٍ تُنفّخ في الوقود ويصرخونا
فَعيلَ تَصبراً، ودنا إليها وحيّا قائلاً: ما تصنيعنا ؟
وما لبنيكِ ينتحبون ؟ قالت: جياعٌ! قال : لمْ لا يأكلونا ؟
أجابتْ – والمحاجرُ دامعاتٌ - أأُطعمُ صبيتي الماءَ السخينا؟
فما في القِدْر غيرُ حصىً وماءٍ أحاول أنهم يتعلّلونا
لعلهمُ متى ملّوا انتظاري وساورَهم نعاسٌ يهجعونا
فقال لها: لقد أخطأتِ رأياً وأورثتِ الصغارَ ضنىً وهُونا
فلِمْ لَم تعرضي شكواك يوماً على عمرٍ أميرِ المؤمنينا ؟
إذن لكفاكِ مُرَّ العيش مما يجود، ولم يمنْ عمرٌ ضنينا
فقالت: لا سقتْ عمرَ الغَوادي ونُكّسَ بندهُ في العالمينا
لقد سمحتْ بظلمي مُقلتاه وتحميلي الخصاصةَ والأنينا!
فراعَ فؤادَه ما تدَّعيه وقال لها: بربك أَخبرينا!
فقالت: قد أمال الطَرْفَ عنا ولم يعبأ بما قد حلَّ فينا
أيغفلُ عن سوائمه مليكٌ يسمّي نفسَه الراعي الأمينا؟
عليه أن يفتّش في الرعايا ويرتاد المزارعَ والحزونا
عساه أن يرى مثلي عجوزاً تبيتُ الليلَ تنتظر المنونا
فتنعمَ من خزينته بشيء تُعيل به بنيها المدْنَفينا
ولا يغنيه عند الله أجراً تصدُّقه على المسترفِدينا
فكم عافٍ يُمنِّعه حياءٌ فلا يجري مع المتسوّلينا
يكاد يموت من ظمأ وجوع ولا يبغي أكفَّ المحسنينا
إذا مَلِكٌ تغاضى عن ذويه فيُحسبُ في عداد الظالمينا
فقال لها: صدقتِ، فعن قليل نعود بما تيسَّر، فانظرينا
وسار وسرتُ مُحتذياً خطاه كأنَّ بنا إلى وطَر حنينا
أكرُّ وراءه تحت الدياجي وتنبحنا الكلابُ وتقتفينا
إلى بيت المئونة حيث أمسى هنالك ينبش الذَُرَ الدفينا
وما هو غير لمح الطرف حتى حملتُ السمنَ واحتمل الطحينا
وعدنا والدقيقُ عليه يُذرَى فعفّر عارضيه والجبينا
يكاد ينوء تحت الحمل لكن مشى طولَ المسافة مستكينا
كأني إذ عرضتُ يدي عليه ضربتُ على صَفاةٍ لن تلينا
فقال: اصمتْ، فما حُمِّلتَ عني ذنوبي يوم يجزَى المذنبونا
إلى الأولاد يا عباسُ سِرْ بي أمدُّ لكشف كُربتهم يمينا
أنأكلُ كلَّ يوم كلّ لونٍ وهم من جوعهم يتضوّرونا
ونسرح في ربوع الأنس دوماً وهم في كوخهم يتململونا
ونرقد لا نبالي بالبلايا وهم لنبالها مستهدفونا
جَفاني عند رؤيتهم رُقادي وواصلني صُداعٌ لن يَبينا
وكدتُ أحسُّ أن الأرض مادت وجوفُ الغمر أوشك يحتوينا
إلى الأولاد يا عباسُ أمحو خَطايَ وأغسل العار المُبينا
فوَيْمَ الله ما القُلَل الرواسي كحمل ظلامةِ المستضعفينا
وأزجيَنا الخُطى في السهل حتى طوينا منه قاحلةً شطونا
فأدركنا العجوزَ على قتادٍ وقد أغضتْ من التعب الجفونا
وجَفّتْ قِدرُها فوقَ الأثافي فكان ثمالها كَدَراً وطينا
فأفرغها، وأفعمها دقيقاً بيمناه، ودسَّ به السمونا
وكاد الوقدُ تحت القدر يخبو فأولج في بقاياه غصونا
مُكباً لا يثبِّطه دُخانٌ تناولَ مَنخَريه والعيونا
يجيدُ الطبخَ تحريكاً وغلياً كأنك تشهد الطاهي الفطينا
فأنضجه ونحن بجانبيه أبى إصرارُه أن يستعينا
وأسرعَ –والبشاشة ملء فيه- بتلقيم الصغار الجائعينا
يَتامى ما حَنا أحدٌ عليهم ولا عرفوا سواه أباً حنونا
ومال إلى العجوز فقال: مهلاً أقلّي اللومَ، والتزمي السكونا
سنذكر للأمير بلاك إنّا إلى عرش الإمارة منتمونا
كفاكِ كآبة وطوىً وسُهدٌ فنامي ملءَ جَفنك واصبحينا
وكان غدٌ لدى عمرٍ رهيباً عليها حيث أدرَكت اليقينا
لدَى عمرٍ، وقد رشقتْ سهاماً من التنديد بات بها طعينا
فيالك موقفاً حرجاً تمنّتْ -لشدّةِ روعها- ألاّ تكونا
ولكن نالها منه التفاتٌ نفى عنها التأثُّرَ والشجونا
فأجزلَ رِفدَها بعد اعتذارٍ وبدّل شدّةَ الأيام لينا
فراحتْ وهي تروي عنه عدلاً وإحساناً وفَرْطَ تٌقىً ودينا(/1)
كذا كان الخليفةُ من قديم مثالاً للملوكِ الصالحينا(/2)
عمر بن عبد العزيز
1
د. علي محمد الصلابي * 15/10/1426
17/11/2005
عهد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز من الميلاد إلى خلافته:
اسمه ولقبه وكنيته وأسرته:
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، الإمام الحافظ العلاّمة المجتهد الزاهد العابد، السيد أمير المؤمنين حقاً أبو حفص القرشي الأموي المدني ثم المصري، الخليفة الزاهد الراشد أشج بني أمية (1)،(2)وكان حسن الأخلاق والخُلق، كامل العقل، حسن السّمت، جيِّد السياسة، حريصاً على العدل بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، طاهر الذكاء والفهم، أوّاهاً منيباً، قانتاً لله حنيفاً، زاهداً مع الخلافة، ناطقاً بالحق مع قلة المعين، وكثرة الأمراء الظلمة الذين ملُّوهُ وكرهوا محاققته لهم، ونقصه أُعطياتهم، وأخذه كثيراً مما في أيديهم، مما أخذوه بغير حقٍّ، فمازالوا به حتى سقوه السم؛ فحصلت له الشهادة والسعادة، وعُد عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين والعلماء العاملين (3)، وكان رحمه الله فصيحاً مُفوَّهاً(4).
1 ـ والده:
هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وكان من خيار أمراء بني أمية، شجاعاً كريماً بقي أميراً لمصر أكثر من عشرين سنة، وكان من تمام ورعه وصلاحه أنه لما أراد الزواج قال لقيّمه: اجمع لي أربعمائة دينار من طيب مالي، فإني أريد أن أتزوّج إلى أهل بيت لهم صلاح(5)، فتزوج أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي حفيدة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وقيل اسمها ليلى (6)، كما أن زواجه من آل الخطاب ما كان ليتم لولا علمهم بحاله وحسن سيرته وخلقه، فقد كان حسن السيرة في شبابه، فضلاً عن التزامه وحرصه على تحصيل العلم واهتمامه بالحديث النبوي الشريف؛ فقد جلس إلى أبي هريرة وغيره من الصحابة وسمع منهم، وقد واصل اهتمامه بالحديث بعد ولايته مصر، فطلب من كثير بن مرة في الشام أن يبعث إليه ما سمعه من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ما كان من طريق أبي هريرة فإنه عنده (7)، وقد كان والد عمر بن عبد العزيز ذا نفس توّاقة إلى معالي الأمور سواء قبل ولايته مصر أو بعدها؛ فحين دخل مصر أيام شبابه تاقت نفسه إليها، وتمنّى ولايته فنالها (8)ثم تاقت إلى الجود فصار أجود أمراء بني أمية وأسخاهم(9)، فكانت له ألف جفنة كل يوم تُنصب حول داره، وكانت له مائة جفنة يُطاف بها على القبائل تحمل على العجل (10)، ومن جوده كان يقول: إذا أمكنني الرجل من نفسه حتى أضع معروفي عنده فيده عندي أعظم من يدي عنده(11). وقد أكثر المؤرخون من الثناء عليه لجوده، وهذا الجود كان ممتزجاً باليقين بأن الله سبحانه وتعالى يخلف على من يرزقه فيقول: عجباً لمؤمن يؤمن أن الله يرزقه، ويخلف عليه كيف يحبس ماله عن عظيم أجر وحسن ثناء، وكان ذا خشية من الله، ونستقري هذه الخشية من قوله حين أدركه الموت: وددت أني لم أكن شيئاً مذكوراً، ولودِدت أني أكون هذا الماء الجاري أو نبتة بأرض الحجاز (12).
2 ـ أمه: أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووالدها، عاصم بن عمر بن الخطاب، الفقيه، الشريف أبو عمرو القرشي العدوي ولد في أيام النبوة، وحدّث عن أبيه، وأمه هي جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح الأنصاريّة، وكان طويلاً جسيماً، وكان من نبلاء الرجال، ديِّنا، خيِّراً، صالحاً، وكان بليغاً، فصيحاً، شاعراً، وهو جد الخليفة عمر بن عبد العزيز لأُُمِّه، مات سنة سبعين، فرثاه ابن عمر أخوه:
فليت المنايا كُنَّ خلَّفن عاصماً ... ...
فعشنا جميعاً أو ذهبنا بنا معاً (13)(/1)
وأما جدته لأمه فقد كان لها موقف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعن عبد الله بن الزبير بن أسلم عن أبيه عن جده أسلم قال: بينما أنا وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو يَعُسُّ (14)، بالمدينة إذ أعيا فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه، قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء، فقالت لها: يا أمتاه، أو ما علمت ما كان من أمير المؤمنين اليوم؟ قالت: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر منادياً، فنادى أن لا يُشاب اللبن بالماء، فقالت لها: يا بنتاه، قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء فإنك بموضع لا يراك عمر، ولا منادي عمر! فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه، والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، وعمر يسمع كل ذلك، فقال: يا أسلم عَلِّم الباب، واعرف الموضع، ثم مضى في عسّه، فلما أصبحا قال: يا أسلم، امض إلى الموضع فانظر من القائلة، ومن المقول لها، وهل لهم من بعل؟ فأتيت الموضع، فنظرت فإذا الجارية أيِّم لا بعل لها، وإذا تيك أمها، وإذا ليس بها رجل، فأتيت عمر فأخبرته، فدعا عمر ولده، فجمعهم، فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوّجه.. فقال عاصم: يا أبتاه، لا زوجة لي فزوّجني، فبعث إلى الجارية، فزوّجها من عاصم فولدت لعاصم بنتاًَ، وولدت البنت عمر بن عبد العزيز(15)، ويذكر أن عمر بن الخطاب رأى ذات ليلة رؤيا، ويقول: ليت شعري من ذو الشين(16) من ولدي الذي يملؤها عدلاً، كما مُلئت جوراً؟ (17)، وكان عبد الله بن عمر يقول: إن آل الخطاب يرون أن بلال بن عبد الله بوجهه شامة فحسبوه المبشر الموعود حتى جاء الله بعمر بن عبد العزيز(18).
3 ـ ولادته ومكانها: 61هـ، المدينة:
اختلف المؤرخون في سنة ولادته والراجح أنه وُلد عام 61هـ ، وهو قول أكثر المؤرخين، ولأنه يؤيد ما يذكر أنه توفي وعمره أربعون سنة؛ إذ تُوفي عام 101هـ (19)، وتذكر بعض المصادر أنه وُلد بمصر، وهذا القول ضعيف؛ لأن أباه عبد العزيز بن مروان بن الحكم إنما تولى مصر سنة خمس وستين للهجرة، بعد استيلاء مروان بن الحكم عليها من يد عامل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فولّى عليها ابنه عبد العزيز، ولم يُعرف لعبد العزيز بن مروان إقامة بمصر قبل ذلك، وإنما كانت إقامته وبني مروان في المدينة (20)، وذكر الذهبي أنه وُلد بالمدينة زمن يزيد(21).
4 ـ أشج بني أمية:
كان عمر بن عبد العزيز-رحمه الله- يُلقّب بالأشج، وكان يُقال له: أشج بني مروان، وذلك أن عمر بن عبد العزيز عندما كان صغيراً دخل إلى إصطبل أبيه عندما كان والياً على مصر ليرى الخيل فضربه فرس في وجهه فشجه، فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذاً لسعيد (22)، ولما رأى أخوه الأصبغ الأثر قال: الله أكبر! هذا أشج بني مروان الذي يملك، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: إن من ولدي رجلاً بوجهه أثر يملأ الأرض عدلاً(23) . وكان الفاروق قد رأى رؤيا تشير إلى ذلك، وقد تكرّرت هذه الرؤيا لغير الفاروق حتى أصبح الأمر مشهوراً عند الناس بدليل ما قاله أبوه عندما رأى الدم في وجهه، وما قاله أخوه عندما رأى الشجّ في وجهه كلاهما تفاءل لعله أن يكون ذلك الأشج الذي يملأ الأرض عدلاً (24).
5 ـ إخوته:
كان لعبد العزيز بن مروان والد عمر بن عبد العزيز عشرة من الولد وهم: عمر وأبو بكر ومحمد وعاصم وهؤلاء أمهم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وله من غيرها ستة وهم: الأصبغ وسهل وسهيل وأم الحكم وزبّان وأم البنين(25)، وعاصم هو من تُكنّى به والدته ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب فكنيتها أم عاصم(26) .
6 ـ أولاده:
كان لعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أربعة عشر ذكراً منهم: عبد الملك وعبد العزيز وعبد الله(27) وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وبكر والوليد وموسى وعاصم ويزيد وزبان وعبد الله وبنات ثلاث: أمينة، وأم عمار، وأم عبد الله، وقد اختلفت الروايات عن عدد أولاد وبنات عمر بن عبد العزيز، فبعض الروايات تذكر أنهم أربعة عشر ذكراً كما ذكره ابن قتيبة، وبعض الروايات تذكر أن عدد الذكور اثنا عشر، وعدد الإناث ست كما ذكره ابن الجوزي(28)والمتفق عليه من الذكور اثنا عشر، وحينما توفي عمر بن عبد العزيز لم يترك لأولاده مالاً إلا الشيء اليسير، وقد أصاب الذكر من أولاده من التركة تسعة عشر درهماً فقط، بينما أصاب الذكر من أولاد هشام بن عبد الملك ألف ألف (مليون)، وما هي إلا سنوات قليلة حتى كان أحد أبناء عمر بن عبد العزيز يحمل على مائة فرس في سبيل الله في يوم واحد، وقد رأى بعض الناس رجلاً من أولاد هشام يتصدق عليه (29). فسبحان الله رب العالمين..
7 ـ زوجاته:(/2)
نشأ عمر بالمدينة، وتخلّق بأخلاق أهلها، وتأثّر بعلمائها، وأكبّ على أخذ العلم من شيوخها، وكان يقعد مع مشايخ قريش، ويتجنب شبابهم، ومازال ذلك دأبه حتى اشتهر، فلما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدّمه على كثير منهم، وزوّجه، ابنته فاطمة بنت عبد الملك(30) ، وهي امرأة صالحة تأثّرت بعمر بن عبد العزيز، وآثرت ما عند الله على متاع الدنيا، وهي التي قال فيها الشاعر:
بنت الخليفة والخليفة جدها ... ...
أخت الخلائف والخليفة زوجها
ومعنى هذا البيت أنها بنت الخليفة عبد الملك بن مروان، والخليفة جدها مروان بن الحكم، وأخت الخلائف فهي أخت الخلفاء الوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك ويزيد بن عبد الملك وهشام بن عبد الملك، والخليفة زوجها فهو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، حتى قيل عنها: لا نعرف امرأة بهذه الصفة إلى يومنا هذا سواها(31) . وقد ولدت لعمر بن عبد العزيز إسحاق ويعقوب وموسى، ومن زوجاته لميس بنت علي بن الحارث، وقد ولدت له عبد الله وبكر وأم عمار، ومن زوجاته أم عثمان بنت شعيب بن زيان، وقد ولدت له إبراهيم. وأمّا أولاده: عبد الملك والوليد وعاصم ويزيد وعبد الله وعبد العزيز وزيان وأمينة وأم عبد الله فأمهم: أم ولد (32).
8 ـ صفاته الخلقية:
كان عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ أسمر رقيق الوجه أحسنه، نحيف الجسم حسن اللحية، غائر العينين بجبهته أثر نفحة دابة، وقد خطه الشيب (33)، وقيل في صفته: أنه كان رجلاً أبيض دقيق الوجه، جميلاً، نحيفاً، وقيل في صفته: إنه كان رجلاً أبيض دقيق الوجه، جميلاً، نحيف الجسم، حسن اللحية(34).
*هو الشيخ علي محمد الصَّلاَّبيِّ ولد في مدينة بنغازي عام 1963م، حصل على درجة الإجازة العالية(الليسانس) من كلية الدعوة وأصول الدين من جامعة المدينة المنورة بتقدير ممتاز، وكان الأول على دفعته عام 1992/1993م، نال درجة الماجستير من جامعة أم درمان الإسلامية كلية أصول الدين قسم التفسير وعلوم القرآن عام 1417هـ/1996م، نال درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية بمؤلفه فقه التمكين في القرآن الكريم من جامعة أم درمان الإسلامية بالسودان عام 1999م، صدر له 21 مؤلفاً منها: الوسطية في القرآن الكريم، صفحات من تاريخ ليبيا الإسلامي والشمال الإفريقي، الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، فاتح القسطنطينية السلطان محمد الفاتح، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث.
الهوامش:
1. سير أعلام النبلاء (5/144).
2. المصدر نفسه (5/114).
3. المصدر نفسه (5/120).
4. المصدر نفسه (5/136).
5. الطبقات الكبرى (5/331)، الجوانب التربوية في حياة الخليفة عمر بن عبد العزيز، صـ11
6. عبد العزيز بن مروان وسيرته وأثره في أحداث العصر الأموي صـ58.
7. سير أعلام النبلاء (4/47).
8. الولاة وكتاب القضاة للكندي صـ54.
9. معجز الإسلام، خالد محمد خالد صـ55.
10. الخطط للمقريزي (1/21) ، بدائع الزهور (1/28).
11. عبد العزيز بن مروان صـ55 .
12. المصدر نفسه صـ56 نقلا عن البداية والنهاية.
13. سير أعلام النبلاء (4/97) .
14. العُس : تقص الليل عن أهل الريبة، معجم مقاييس اللغة (4/42) .
15. سيرة عمر لابن الحكم صـ19 ـ 20 ، سيرة عمر لابن الجوزية صـ10 .
16. الشين: العلامة.
17. سير أعلام النبلاء (5/122).
18. المصدر نفسه (5/122).
19. البداية والنهاية (12/676).
20. الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/54).
21. تذكرة الحفاظ (1/118 ـ 120).
22. البداية والنهاية نقلاً عن فقه عمر بن عبد العزيز (1/20).
23. المعارف لابن قتيبة صـ362.
24. فقه عمر بن عبد العزيز (1/20) د.محمد شقير.
25. المعارف لابن قتيبة صـ362.
26. فقه عمر بن عبد العزيز (1/22).
27. المصدر نفسه (1/23).
28. سيرة عمرة بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ338 ، فقه عمر بن عبد العزيز (1/24).
29. سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ338.
30. البداية والنهاية (12/680).
31. المصدر نفسه (12/680).
32. سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ314 ـ 315.
33. الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/58).
34. الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (1/11) الآثار الواردة (1/58).
(عمر بن عبد العزيز) ومعالم التجديد (2)
د. علي محمد الصلابي 29/10/1426
01/12/2005
العوامل التي أثرت في تكوين شخصية عمر بن عبد العزيز:
1 ـ الواقع الأسريّ:(/3)
نشأ عمر بن عبد العزيز في المدينة، فلما شبّ وعقل وهو غلام صغير كان يأتي عبد الله بن عمر بن الخطاب لمكان أمه منه، ثم يرجع إلى أمه فيقول: يا أمه، أنا أحب أن أكون مثل خالي ـ يريد عبد الله بن عمر ـ فتؤفف به ثم تقول له: أغرب أنت تكون مثل خالك، وتكرر عليه ذلك غير مرة. فلما كبر سار أبوه عبد العزيز بن مروان إلى مصر أميراً عليها، ثم كتب إلى زوجته أم عاصم أن تقدم عليه وتقدم بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر فأعلمته بكتاب زوجها عبد العزيز إليها فقال لها: يا ابنة أخي، هو زوجك فالحقي به، فلما أرادت الخروج قال لها: خلفي هذا الغلام عندنا ـ يريد عمر ـ فإنه أشبهكم بنا أهل البيت، فخلفته عنده ولم تخالفه، فلما قدمت على عبد العزيز اعترض ولده فإذا هو لا يرى عمر، قال لها: وأين عمر؟ فأخبرته خبر عبد الله، وما سألها من تخليفه عنده لشبهه بهم، فسرّ بذلك عبد العزيز، وكتب إلى أخيه عبد الملك يخبره بذلك، فكتب عبد الملك أن يجري عليه ألف دينار في كل شهر، ثم قدم عمر على أبيه مسلماً (35)، وهكذا تربى عمر رحمه الله تعالى بين أخواله بالمدينة من أسرة عمر بن الخطاب، ولا شك أنه تأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة (36).
2 ـ إقباله المبكر على طلب العلم وحفظ القرآن الكريم:
فقد رُزق منذ صغره حب الإقبال على طلب العلم وحب المطالعة والمذاكرة بين العلماء كما كان يحرص على ملازمة مجالس العلم في المدينة، وكانت يومئذ منارة العلم والصلاح زاخرة بالعلماء والفقهاء والصالحين، وتاقت نفسه للعلم وهو صغير، وكان أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الأدب (37)، وجمع عمر بن عبد العزيز القرآن وهو صغير وساعده على ذلك صفاء نفسه وقدرته الكبيرة على الحفظ وتفرّغه الكامل لطلب العلم والحفظ. وقد تأثر كثيراً بالقرآن الكريم في نظرته لله -عز وجل- والحياة والكون والجنة والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الموت، وكان يبكي لذكر الموت بالرغم من حداثة سنه، فبلغ ذلك أمه فأرسلت إليه وقالت: ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت. فبكت أمه حين بلغها ذلك (38)، وقد عاش طيلة حياته مع كتاب الله -عز وجل- متدبّراً ومنفذاً لأوامره، ومن مواقفه مع القرآن الكريم:
أ ـ عن ابن أبي ذيب: قال: حدثني من شهد عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة، وقرأ عنده رجل: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) [الفرقان ، الآية : 13]. فبكى عمر حتى غلبه البكاء وعلا نشيجه، فقام من مجلسه فدخل بيته، وتفرق الناس(39). ومفهوم هذه الآية: إذا أُلقي هؤلاء المكذبون بالساعة من النار مكاناً ضيقاً، قُرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال (دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا). والثبور في هذا الموضوع دعا هؤلاء القوم بالندم على انصرافهم عن طاعة الله في الدنيا والإيمان بما جاء به نبي الله -صلى الله عليه وسلم- حتى استوجبوا العقوبة.(/4)
ب ـ وعن أبي مودود قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قرأ ذات يوم: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا) [ يونس : الآية 61]. فبكى بكاءً شديداً حتى سمعه أهل الدار، فجاءت فاطمة ـ زوجته ـ فجعلت تبكي لبكائه، وبكى أهل الدار لبكائهم، فجاء عبد الملك، فدخل عليهم وهم على تلك الحال يبكون فقال: يا أبه، ما يبكيك؟ قال: خير يا بني، ودّ أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بني، لقد خشيت أن أهلك، والله يا بني لقد خشيت أن أكون من أهل النار(41). ومعنى الآية: إن الله تعالى يخبر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته وجميع الخلائق في كل ساعة، وأوان ولحظة، وأنه لا يعزب عن علمه وبصره مثقال ذرة في حقارتها وصغرها في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر منها ولا أكبر إلا في كتاب مبين كقوله: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام: الآية 59] . فأخبر تعالى أنه يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات، وكذلك الدواب السارحة في قوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) [الأنعام: الآية 38]، وقال تعالى : (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) [هود الآية :6] وإذا كان هذا علمه بحركات هذه الأشياء فكيف علمه بحركات المكلفين المأمورين بالعبادة؟ كما قال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء : الآيات 217 – 219]، ولهذا قال تعالى: إذ تأخذون في ذلك الشيء نحن مشاهدون لكم راؤون سامعون (42)
ج ـ وعن عبد الأعلى بن أبي عبد الله العنزي قال: رأيت عمر بن عبد العزيز خرج يوم الجمعة في ثياب دسمة ووراءه حبشي يمشي فلما انتهى إلى الناس رجع الحبشي، فكان عمر إذا انتهى إلى الرجلين قال: هكذا رحمكما الله، حتى صعد المنبر، فخطب فقرأ: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)، فقال: وما شأن الشمس؟ (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ)، حتى انتهى إلى (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) [التكوير: الآيتان: 11 – 12] فبكى وبكى أهل المسجد، وارتج المسجد بالبكاء حتى رأيت أن حيطان المسجد تبكي معه(43) . وهذه السورة جاء فيها الأوصاف التي وصف بها يوم القيامة من الأوصاف التي تنزعج لها القلوب، وتشتد من أجلها الكروب، وترتعد الفرائص، وتعم المخاوف، وتحث أولي الألباب للاستعداد لذلك اليوم، وتزجرهم عن كل ما يوجب اللوم، ولهذا قال بعض السلف: من أراد أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليتدبر سورة(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ). بل ثبت مرفوعاً من حديث ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) (45).
س ـ وعن ميمون بن مهران قال: قرأ عمر بن عبد العزيز (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) فبكى ثم قال: (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) ما أرى المقابر إلا زيارة، ولابد لمن يزورها أن يرجع إلى جنة أو إلى النار (46)، هذه بعض المواقف التي تبين تأثير القرآن الكريم على شخصية عمر بن عبد العزيز.
3 ـ الواقع الاجتماعي:
إن البيئة الاجتماعية المحيطة لها دور فعال ومهم في صناعة الرجال وبناء شخصيتهم، فعمر بن عبد العزيز عاش في زمن ساد فيه مجتمع التقوى والصلاح والإقبال على طلب العلم والعمل بالكتاب والسنة، فقد كان عدد من الصحابة لا يزالون بالمدينة، فقد حدث عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن يزيد، وسهل بن سعد، واستوهب منه قدحاً شرب منه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمّ أنس بن مالك، فقال: ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا الفتى(47) ، فكان للإقامة بالمدينة آثار نفسية ومعان إيمانية، وتعلق روحي، وكان لذلك المجتمع قوة التأثير في صياغة شخصية عمر بن عبد العزيز العلمية والتربوية (48).
4 ـ تربيته على أيدي كبار فقهاء المدينة وعلمائها:(/5)
اختار عبد العزيز والد عمر صالح بن كيسان ليكون مربياً لعمر بن عبد العزيز، فتولى صالح تأديبه وكان يلزم عمر الصلوات المفروضة في المسجد، فحدث يوماً أن تأخر عمر بن عبد العزيز عن الصلاة مع الجماعة فقال صالح بن كيسان ما يشغلك؟ قال: كانت مرجّلتي(49) تسكن شعري، فقال: بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟ فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك، فبعث أبوه رسولاً فلم يكلمه حتى حلق رأسه (50)، وحرص على التشبه بصلاة رسول الله أشد الحرص، فكان يتم الركوع والسجود ويخفِّف القيام، والقعود وفي رواية صحيحة: أنّه كان يسبح في الركوع والسجود عشراً عشراً (51)، ولمّا حج أبوه ومرّ بالمدينة سأل صالح بن كيسان عن ابنه فقال: ما خبرت أحداً الله أعظم في صدره من هذا الغلام (52)، ومن شيوخ عمر بن عبد العزيز الذين تأثر بهم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فقد كان عمر يجله كثيراً ونهل من علمه وتأدب بأدبه وتردد عليه حتى وهو أمير المدينة، ولقد عبّر عمر عن إعجابه بشيخه وكثرة التردد إلى مجلسه فقال: لَمَجلسٌ من الأعمى: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحبُّ إليّ من ألف دينار (53)، وكان يقول في أيام خلافته لمعرفته بما عند شيخه من علم غزير، لو كان عبيد الله حياً ما صدرت إلا عن رأيه، ولوددت أن لي بيوم واحد من عبيد الله كذا وكذا(54) ، وكان عبيد الله مفتي المدينة في زمانه، وأحد الفقهاء السبعة55 ، قال عنه الزهري: كان عبيد الله بن عبد الله بحراً من بحور العلم (56)، وكان يقرض الشعر، فقد كتب إلى عمر بن عبد العزيز هذه الأبيات:
بسم الذي أُنزلت من عنده السورُ ... ...
والحمدُ لله أمّا بعدُ يا عمرُ
إن كنت تعلم ما تأتي وما تذرُ ... ...
فكن على حذر قد ينفعُ الحذرُ
واصبرْ على القدر المحتوم وأرضَ به ... ...
وإن أتاك بما لا تشتهي القدرُ
فما صفا لامرئ عيشٌ يُسرُّ به ... ...
إلا سيتبعُ يوماً صفوَه كدرُ (57)
وقد توفي هذا العالم سنة 98هـ، وقيل 99هـ .(58)
ومن شيوخ عمر سعيد بن المسيب، وقد تحدثت عن سيرته في عهد عبد الملك بن مروان، وكان سعيد لا يأتي أحداً من الأمراء غير عمر(59) ، ومن شيوخه سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي قال فيه سعيد بن المسيب: كان عبد الله بن عمر أشبه ولد عمر به، وكان سالم أشبه ولد عبد الله به (60)، وكان ابن عمر يحب ابنه سالم، وكان يُلام في ذلك فكان يقول:
يلومنني في سالم وألومُهم ... ...
وجلدةُ بين العينِ والأنفٍِ سالم(61)
كانت أمه أم ولد، وقال فيه ابن أبي الزناد: كان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم الغُرُّ السادة علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله ففاقوا أهل المدينة علماً وتقًى وعبادة وورعاً، فرغب الناس حينئذ في السراري (62)، وقال عنه الإمام مالك: لم يكن أحد في زمان سالم أشبه بمن مضى من الصالحين، في الزهد والفضل والعيش منه، كان يلبس الثوب بدرهمين، ويشترى الشمال(63) ليحملها. قال: فقال سليمان بن عبد الملك لسالم ورآه حسن السّحنة. أي شيء تأكل؟ قال: الخبز والزَّيت، وإذا وجدت اللحم، أكلته. فقال له عمر: أو تشتهيه؟ قال: إذا لم أشتهه تركته حتى أشتهيه (64)، وذات يوم دخل سالم بن عبد الله على سليمان بن عبد الملك، وعلى سالم ثياب غليظة رثَّة، فلم يزل سليمان يرحب به، ويرفعه حتى أقعده معه على سريره، وعمر بن عبد العزيز في المجلس، فقال له رجل من أُخريات الناس: ما استطاع خالك أن يلبس ثياباً فاخرة أحسن من هذه، يدخل فيها على أمير المؤمنين؟ وعلى المتكلم ثياب سريَّة، لها قيمة، فقال له عمر: ما رأيت هذه الثياب التي على خالي وضعته في مكانك، ولا رأيت ثياباً هذه رفعتك إلى مكان خالي ذاك (65) وتربي وتعلم عمر بن عبد العزيز على يدي كثير من العلماء والفقهاء وقد بلغ عدد شيوخ عمر بن عبد العزيز ثلاثة وثلاثين، ثمانية منهم من الصحابة وخمسة وعشرون من التابعين (66)، فقد نهل من علمهم وتأدب بأدبهم ولازم مجالسهم حتى ظهرت آثار هذه التربية المتينة في أخلاقه وتصرفاته(67) فامتاز بصلابة الشخصية والجدية في معالجة الأمور والحزم وإمعان الفكر وإدامة النظر في القرآن، والإرادة القوية والترفع عن الهزل والمزاح (68)، هذه هي أهم العوامل التي أثرت في تكوين شخصيته، ومن الدروس المستفادة هو أن العلماء الربانيين يقع على عاتقهم مسؤولية كبيرة، وهي الاهتمام بأولاد الأمراء والحكام وأهل الجاه والمال؛ ففي صلاحهم خير عظيم للأمة الإسلامية.
ثالثاً: مكانته العلمية:(/6)
اتفقت كلمة المترجمين له على أنه من أئمة زمانه، فقد أطلق عليه كل من الإمامين: مالك وسفيان بن عيينة وصف إمام (69)، وقال فيه مجاهد: أتيناه نعلمه فما برحنا حتى تعلمَّنا منه (70)، وقال ميمون بن مهران: كان عمر بن عبد العزيز معلمَّ العلماء (71)، قال فيه الذهبي: كان إماماً فقيهاً مجتهداً، عارفاً بالسنن، كبير الشأن، حافظاً، قانتاً لله أوَّاهاً منيباً يُعد في حسن السيرة والقيام بالقسط مع جده لأمه عمر، وفي الزهد مع الحسن البصري وفي العلم مع الزهري(72) ، وقد احتج الفقهاء والعلماء بقوله وفعله، ومن ذلك رسالة الإمام الليث بن سعد إلى الإمام مالك بن أنس -رضي الله عنهما- وهي رسالة قصيرة وفيها يحتج الليث ـ مراراً ـ بصحة قوله، بقول عمر بن عبد العزيز على مالك فيما ذهب إليه في بعض مسائله (73)، ويرد ذكر عمر بن عبد العزيز في كتب الفقه للمذاهب الأربعة المتبوعة على سبيل الاحتجاج بمذهبه، فاستدل الحنفية بصنيعه في كثير من المسائل وجعلوا له وصفاً يتميَّز به عن جدّه لأمه: عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال القرشي في الجواهر المضيئة: فائدة يقول: أصحابنا في كتبهم في مسائل الخلاف: وهو قول عمر الصغير. يريدون به عمر بن عبد العزيز الإمام الخليفة المشهور (74)، ويكثر الشافعية من ذكره في كتبهم ولذلك ترجم له الإمام النووي ترجمة حافلة في تهذيب الأسماء واللغات وقال في أولها: تكرر في المختصر والمهذب (75). وأما المالكية فيكثرون من ذكره في كتبهم أكثر من غيرهم، ومالك إمام المذهب ذكر في (الموطأ) محتجاً بفتواه وقوله في مواضع عديدة في موطئه (76)، وأما الحنابلة فكذلك، يذكرونه كثيراً، وعمر هو الذي قال فيه الإمام أحمد: لا أدري قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز وكفاه هذا(77) ، وكفانا قول الإمام أحمد أيضاً: إذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها فاعلم أن من وراء ذلك خيراً إن شاء الله (78)، ومن أراد أن يتبحر في علم عمر بن عبد العزيز ويعرف مكانته العلمية، فليراجع الكتب الآتية: الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة للأستاذ حياة محمد جبر والكتاب في مجلدين، وهي رسالة علمية، وكذلك فقه عمر بن عبد العزيز للدكتور محمد سعد شقير في مجلدين، وهي رسالة علمية نال بها المؤلف درجة الدكتوراه، وموسوعة فقه عمر بن عبد العزيز لمحمد رواس قلعجي، وسوف نرى في بحثنا فقه عمر بن عبد العزيز بإذن الله تعالى في العقائد والعبادات والسياسة الشرعية، وإدارة الدولة، والنظم المالية والقضائية والدعوية وتقيّده بالكتاب والسنة والخلفاء الراشدين في خطواته وسكناته.
|1|2|
الهوامش:
35. سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ24 ـ 25 .
36. الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/56) .
37. البداية والنهاية (12/679).
38. البداية والنهاية (12/678).
39. الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا رقم 83 .
40. دموع القراء ، محمد شومان صـ107 نقلاً عن تفسير ابن جرير .
41. الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا رقم 91 .
42. تفسير ابن كثير .
43. دموع القراء صـ111، 112 .
44. تفسير السعدي 912.
45. أخرجه الترمذي رقم 3333 والحاكم (2/515)،(4/576) وصححه ووافقه الذهبي والألباني في الصحيحة (3/70).
46. الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا رقم 425.
47. سير أعلام النبلاء (5/114) .
48. الجوانب التربوية في حياة عمر بن عبد العزيز صـ23 .
49. مرجلتي: مسرحة شعري .
50. البداية والنهاية (12/678) .
51. المصدر نفسه (12/682) .
52. المصدر نفسه (12/678) .
53. عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ صـ59، الطبقات(5/250) تهذيب التهذيب (7/22).
54. عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ صـ59.
55. سير أعلام النبلاء (4/475).
56. المصدر نفسه (4/477).
57. المصدر نفسه (4/477).
58. المصدر نفسه (4/478 ، 479).
59. الجوانب التربوية في حياة الخليفة عمر صـ25.
60. سير أعلام النبلاء (4/459).
61. المصدر نفسه (4/460).
62. المصدر نفسه (4/460).
63. سير أعلام النبلاء (4/460).
64. المصدر نفسه (4/460).
65. المصدر نفسه (4/461).
66. مسند أمير المؤمنين عمر صـ33.
67. الجوانب التربوية في حياة عمر بن عبد العزيز (1/67) .
68. عمر بن عبد العزيز للزحيلي صـ30.
69. الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/67).
70. تهذيب التهذيب (7/405) الآثار الواردة (1/67).
71. تاريخ أبي زرعة صـ255 ، الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/67).
72. تذكرة الحفاظ صـ118 ـ 119.
73. الآثار الواردة في عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/70).
74. الجواهر المضيئة (4/552) الآثار الواردة (1/71).
75. المختصر والمهذب من كتب الشافعية المشهورة.
76. انظر : الموطأ الأرقام الآتية : 305 ، 592 ، 594 ،614 .
77. البداية والنهاية نقلاً عن الآثار الواردة (1/72).
78. سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ61.(/7)
(عمر بن عبد العزيز) ومعالم التجديد (3)
والإصلاح الراشدي على منهاج النّبوة
د. علي محمد الصلابي 15/11/1426
17/12/2005
رابعاً: عمر في عهد الوليد بن عبد الملك:
يُعدّ عمر بن عبد العزيز من العلماء الذين تميزوا بقربهم من الخلفاء، وكان له أثر كبير في نصحهم وتوجيه سياستهم بالرأي والمشورة، ويحتل عمر بن عبد العزيز مكانة متميزة في البيت الأموي، فقد كان عبد الملك يجلّه ويُعجب بنباهته أثناء شبابه، مما جعله يقدمه على كثير من أبنائه، ويزوجه من ابنته، ولكن لم يكن له مشاركات في عهد عبد الملك بسبب صغر سنه واشتغاله بطلب العلم في المدينة، ومع ذلك فقد أورد ابن الجوزي أنه كتب إلى عبد الملك كتاباً يذكّره فيه بالمسؤولية الملقاة على عاتقه وقد جاء فيها: أما بعد: فإنك راعٍ، وكلٌ مسؤول عن رعيته79 حدثنا أنس بن مالك أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: كل راعٍ مسؤول عن رعيته. (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء:87].
ويُقال بأن عمر بن عبد العزيز ولاّه عمه عبد الملك خناصره لكي يتدرب على الأعمال القيادية في وقت مبكر(1)، وقد قيل: إن سليمان بن عبد الملك هو الذي ولاه على خناصره، وهناك من رجح القول، وقد تأثر عمر بن عبد العزيز لموت عمه وحزن عليه حزناً عظيماً، وقد خاطب عمر ابن عمه مسلمة بن عبد الملك فقال له: يا مسلمة، إني حضرت أباك لما دفن، فحملتني عيني عند قبره فرأيته قد أفضى إلى أمر من أمر الله، راعني وهالني، فعاهدت الله ألاّ أعمل بمثل عمله إن وُليت، وقد اجتهدت في ذلك(2).
1 ـ ولايته على المدينة:
في ربيع الأول من عام 87هـ ولاّه الخليفة الوليد بن عبد الملك إمارة المدينة المنورة، ثم ضم إليه ولاية الطائف سنة 91هـ وبذلك صار والياً على الحجاز كلها: واشترط عمر لتوليه الإمارة ثلاثة شروط:
الشرط الأول:
أن يعمل في الناس بالحق والعدل، ولا يظلم أحداً، ولا يجور على أحد في أخذ ما على الناس من حقوق لبيت المال، ويترتب على ذلك أن يقلّ ما يرفع للخليفة من الأموال من المدينة.
الشرط الثاني:
أن يسمح له بالحج في أول سنة؛ لأن عمر كان في ذلك الوقت لم يحج.
الشرط الثالث:
أن يسمح له بالعطاء أن يخرجه للناس في المدينة، فوافق الوليد على هذه الشروط، وباشر عمر بن عبد العزيز عمله بالمدينة، وفرح الناس به فرحاً شديداً (3).
2 ـ مجلس شورى عمر بن عبد العزيز: مجلس فقهاء المدينة العشرة
كان من أبرز الأعمال التي قام بها عمر بن عبد العزيز تكوينه لمجلس الشورى بالمدينة، فعندما جاء الناس للسلام على الأمير الجديد بالمدينة وصلى، دعا عشرة من فقهاء المدينة، وهم عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخوه عبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة وخارجة بن زيد بن ثابت، فدخلوا عليه، فجلسوا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرّج الله على من بلغه ذلك إلا أبلغني(4) . لقد عرفت أن عمر بن الخطاب كان يجمع المجلس للأمر يطرأ، فيرى ضرورة الشورى فيه، أما عمر بن عبد العزيز، وهو سبط عمر بن الخطاب، فقد أحدث مجلساً، حدّد صلاحياته بأمرين:
أ ـ أنهم أصحاب الحق في تقرير الرأي، وأنه لا يقطع أمراً إلا برأيهم. وبذلك يكون الأمير قد تخلى عن اختصاصاته إلى هذا المجلس، الذي نسميه (مجلس العشرة).
ب ـ أنه جعلهم مفتشين على العمال، ورقباء على تصرفاتهم، فإذا ما اتصل بعلمهم أو بعلم أحدهم أن عاملاً ارتكب ظلامة، فعليهم أن يبلغوه، وإلا فقد استعدى الله على كاتم الحق. ونلاحظ كذلك على هذا التدبير أنه قد تضمن أمرين:
أحدهما:
إن الأمير عمر بن عبد العزيز لم يخصص تعويضاً لمجلس العشرة؛ لأنهم كانوا من أصحاب العطاء، وبما أنهم فقهاء، فما ندبهم إليه داخل في صلب اختصاصهم.
الثاني:(/8)
إن عمر افترض ـ غياب أحدهم عن الحضور لعذر من الأعذار، ولهذا لم يشترط في تدبيره حضورهم كلهم، وإنما قال: (أو برأي من حضر منكم) (4)، إن هذا المجلس كان يُستشار في جميع الأمور دون استثناء (5)، ونستنتج من هذه القصة أهمية العلماء الربّانيين وعلو مكانتهم، وأنه يجب على صاحب القرار أن يدنيهم ويقربهم منه، ويشاورهم في أمور الرعية، كما أنه على العلماء أن يلتفوا حول الصالح من أصحاب القرار من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن للمصالح، وتقليل ما يمكن من المفاسد، كما أن عمر بن عبد العزيز لم يختصر في شوراه على هؤلاء فحسب، بل كان يستشير غيرهم من علماء المدينة، كسعيد بن المسيِّب، والزهري، وغيرهم، وكان لا يقضي في قضاء حتى يسأل "سعيد"، وفي المدينة أظهر عمر عبد العزيز إجلاله للعلماء وإكباره لهم، وقد حدث أن أرسل -رحمه الله تعالى- رسولاً إلى سعيد بن المسيِّب يسأله عن مسألة، وكان سعيد لا يأتي أميراً، ولا خليفة، فأخطأ الرسول فقال له: الأمير يدعوك، فأخذ سعيد نعليه وقام إليه في وقته، فلما رآه عمر قال له: عزمت عليك يا أبا محمد إلا رجعت إلى مجلسك حتى يسألك رسولنا عن حاجتنا، فإنا لم نرسله ليدعوك، ولكنه أخطأ، إنما أرسلناه ليسألك (6).
وفي إمارته على المدينة المنورة وسّع مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأمر من الوليد بن عبد الملك، حتى جعله مائتي ذراع في مائتي ذراع، زخرفه بأمر الوليد أيضاً، مع إنه -رحمه الله تعالى- كان يكره زخرفة المساجد(7)، ويتضح من موقف عمر بن عبد العزيز هنا أنه قد يضطر الوالي للتجاوب مع قرارات من هو أعلى منه حتى وإن كان غير مقتنع بها إذا قدر أن المصلحة في ذلك أكبر من وجوه أخرى. وفي إمارته على المدينة في سنة 91هـ حج الخليفة الوليد بن عبد الملك فاستقبله عمر بن عبد العزيز أحسن استقبال، وشاهد الوليد بأم عينيه الإصلاحات العظيمة التي حققها عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة (8).
3 ـ الحادث المؤسف في ولاية عمر:
قال العلماء في السير: كان خبيب بن عبد الله بن الزبير قد حدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا بلغ بنو أبي العاص(9) ثلاثين رجلاً اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً (10)، وهو حديث ضعيف، فبعث الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز ـ واليه على المدينة ـ يأمره بجلده مائة سوط، وبحبسه، فجلده عمر مائة سوط، وبرد له ماءً في جرّة ثم صبه عليه في غداة باردة فكزّ(11) ، فمات فيها. وكان عمر قد أخرجه من السجن حين اشتد وجعه، وندم على ما صنع منه وحزن عمر على موت خبيب، فقد روى مصعب بن عبد الله عن مصعب بن عثمان أنهم نقلوا خبيباً إلى دار عمر بن مصعب بن الزبير ببقيع الزبير، واجتمعوا عنده حتى مات، فبينما هم جلوس، إذ جاءهم الماجشون يستأذن عليهم وخبيب مسجّى بثوبه. وكان الماجشون مع عمر بن عبد العزيز في ولايته على المدينة. فقال عبد الله بن عروة: ائذنوا له. فلما دخل قال: كأن صاحبكم في مرية من موته اكشفوا له عنه، فكشفوا عنه، فلما رآه الماجشون انصرف. قال الماجشون: فانتهيت إلى دار مروان، فقرعت الباب ودخلت فوجدت عمر كالمرأة الماخض قائماً وقاعداً فقال لي: ما وراءك فقلت: مات الرجل. فسقط على الأرض فزعاً ثم رفع رأسه يسترجع فلم يزل يعرف فيه حتى مات. واستعفى من المدينة، وامتنع من الولاية. وكان كلما قيل له: إنك قد صنعت كذا فأبشر فيقول: كيف بخبيب(12)، ولم يذكرها ويتصورها أمام عينه حتى مات (13)، ومن الأدلة على صلاح عمر بن عبد العزيز وقت ولايته على المدينة غير ما ذكر: ما رواه أبو عمر مولى أسماء بنت أبي بكر قال: فأتيته في مجلسه الذي يصلي فيه الفجر والمصحف في حجره، ودموعه تسيل على لحيته(14)، وحدّث ابن أبي الزناد عن أبيه، قال: كان عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة إذا أراد أن يجود بالشيء قال: ابتغوا أهل بيت بهم حاجة(15).
4 ـ عظة مزاحم مولى عمر بن عبد العزيز له:
حبس عمر رجلاً بالمدينة، وجاوز عمر في حبسه القدر الذي يستحقه فكلمه مزاحم في إطلاقه، فقال له عمر: ما أنا بمخرجه حتى أبلغ في الحيطة عليه بما هو أكثر مما مرّ، فقال: مزاحم: مغضباً. يا عمر بن عبد العزيز، إني أحذرك ليلة تمخض بالقيامة، وفي صبيحتها تقوم الساعة يا عمر: ولقد كدت أنسى أسمك مما اسمع: قال الأمير قال الأمير. قال الأمير، قال عمر: إن أول من أيقظني لهذا الشأن مزاحم، فوالله ما هو إلا أن قال ذلك، فكأنما كشف عن وجهي غطاء(16). وهذه القصة تبين لنا أهمية الصديق الصالح المخلص الذي يذكّرك بالله حين الغفلة.
5 ـ بين عمر بن عبد العزيز والحجّاج في خلافة الوليد:(/9)
ذكر ابن الجوزي أن عمر بن عبد العزيز قد استعفى من المدينة كما مرّ ذكره، ولكن ذكر غيره أنه عُزِل عنها، ففي سنة 92هـ عقد الخليفة الوليد لواء الحج للحجاج بن يوسف الثقفي ليكون أميراً على الحج، ولما علم عمر بن عبد العزيز بذلك، كتب رحمه الله تعالى إلى الخليفة يستعفيه أن يمرَّ عليه الحجاج بالمدينة المنورة؛ لأن عمر بن عبد العزيز كان يكره الحجّاج، ولا يطيق أن يراه، لما هو عليه من الظلم، فامتثل الوليد لرغبة عمر، وكتب إلى الحجّاج: إن عمر بن عبد العزيز كتب إليَّ يستعفيني من ممرك عليه، فلا عليك ألاّ تمر بمن كرهك فتنحّ عن المدينة (17)، وقد كتب عمر بن عبد العزيز وهو والٍ على المدينة إلى الوليد بن عبد الملك يخبره عما وصل إليه حال العراق من الظلم والضيم والضيق بسبب ظلم الحجّاج وغشمه، مما جعل الحجّاج يحاول الانتقام من عمر لاسيما وقد أصبح الحجاز ملاذاً للفارين من عسف الحجاج وظلمه؛ إذ كتب الحجّاج إلى الوليد: إن من قبلي من مراق أهل العراق وأهل الثقاف قد جلوا عن العراق، ولجؤوا إلى المدينة ومكة، وإن ذلك وهن. فكتب إليه يشير عليه بعثمان بن حبان، وخالد بن عبد الله القسري، وعزل عمر عبد العزيز (18). وقد كان ميل الوليد لسياسة الحجّاج واضحاً، وكان يظن بأن سياسة الشدة والعسف هي السبيل الوحيد لتوطيد أركان الدولة، وهذا ما حال بينه وبين الأخذ بآراء عمر بن عبد العزيز ونصائحه، وقد أثبتت الأحداث فيما بعد أن ما كان يراه عمر أفضل مما كان يسير عليه الوليد، وذلك بعد تولي عمر الخلافة وتطبيقه لما كان يشير به(19).
6 ـ عودة عمر بن عبد العزيز إلى دمشق:
خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة المنورة، وهو يبكي ومعه خادمه مزاحم، فالتفت إلى مزاحم وقال: يا مزاحم، نخشى أن نكون من نفت المدينة (20)، يشير بذلك إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا وإن المدينة كالكير يخرج الخبث، لا تقوم الساعة حتى تفني المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الحديد(21) . وقال مزاحم: ولما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة نظرت فإذا القمر في الدبران (22) ـ كأنه تشاءم من ذلك ـ فقال: فكرهت أن أقول ذلك له فقلت: ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة! فنظر عمر فإذا هو بالدبران فقال: كأنك أردت أن تعلمني أن القمر بالدبران. يا مزاحم: إنا لا نخرج بشمس ولا بقمر، ولكن نخرج بالله الواحد القهار(23) ، وسار عمر حتى وصل السويداء، وكان له فيها بيت ومزرعة، فنزل فيها فأقام مدة يرقب الأوضاع عن بعد، ثم رأى أن مصلحة المسلمين تقتضي أن تكون إقامته في دمشق، بجوار الخليفة، لعله بذلك يستطيع أن يمنع ظلماً، أو يشارك في إحقاق حق، فانتقل إلى دمشق فأقام بها(24)، ولم يكن عمر بن عبد العزيز على وفاق تام مع الخليفة الوليد بن عبد الملك، ولذلك فإن إقامته في دمشق بجوار الوليد لم تخل من مشاكل، فالوليد يعتمد في تثبيت حكمه على ولاة أقوياء قساة يهمهم إخضاع الناس بالقوة، وإن رافق ذلك كثير من الظلم، بينما يرى عمر أن إقامة العدل بين الناس كفيل باستقرار الملك وائتمارهم بأمر السلطان، فكان رحمه الله يقول: الوليد بالشام والحجّاج بالعراق، ومحمد بن يوسف ـ أخ الحجّاج ـ في اليمن، وعثمان بن حيان بالحجاز، وقرة بن شريك في مصر،.. امتلأت والله الأرض جوراً(25).
7 ـ نصح عمر للوليد بالحد من صلاحيات عماله في القتل:(/10)
سلك عمر بن عبد العزيز بعض الطرق والوسائل لإصلاح هذا الوضع، فمن ذلك نصحه للوليد بالحد من صلاحيات عماله في القتل، وقد نجح في بادي الأمر في استصدار قرار يمنع أي والٍ من القتل إلا بعد علم الخليفة وموافقته على ذلك، فيذكر ابن عبد الحكم أن عمر بن عبد العزيز دخل على الوليد بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن عندي نصيحة، فإذا خلا لك عقلك، واجتمع فهمك فسلْني عنها، قال: ما يمنعك منها الآن؟ قال: أنت أعلم، إذا اجتمع لك ما أقول فإنك أحق أن تفهم، فمكث أياماً ثم قال: يا غلام من بالباب؟ فقيل له ناس وفيهم عمر بن عبد العزيز، فقال: أدخله، فدخل عليه فقال: نصيحتك يا أبا حفص فقال عمر: إنه ليس بعد الشرك إثم أعظم عند الله من الدم، وإن عمالك يقتلون، ويكتبون: إن ذنب فلان المقتول كذا وكذا، وأنت المسؤول عنه والمأخوذ به، فاكتب إليهم ألا يقتل أحد منهم أحداً حتى يكتب بذنبه ثم يشهد عليه، ثم تأمر بأمرك على أمر قد وضح لك. فقال: بارك الله فيك يا أبا حفص ومنع فقدك. عليَّ بكتاب، فكتب إلى أمراء الأمصار كلهم فلم يحرج من ذلك إلا الحجّاج فإنه أمضه، وشق عليه وأقلقه. وظن أنه لم يكتب إلى أحد غيره، فبحث عن ذلك، فقال: من أين ذهبنا؟ أو من أشار على أمير المؤمنين بهذا؟ فأُخبر أن عمر بن عبد العزيز هو الذي فعل ذلك فقال: هيهات إن كان عمر فلا نقض لأمره. ثم إن الحجّاج أرسل إلى أعرابي حروري ـ من الخوارج ـ جافٍ من بكر بن وائل، ثم قال له الحجّاج ما تقول في معاوية؟ فنال منه. قال: ما تقول في يزيد؟ فسبّه. قال: فما تقول في عبد الملك؟ فظلمه. قال: فما تقول في الوليد؟ فقال: أجْوَرُهم حين ولاك وهو يعلم عداءك وظلمك. فسكت الحجّاج وافترصها منه (26)، ثم بعث به إلى الوليد وكتب إليه: أنا أحوط لديني، وأرعى لما استرعيتني، وأحفظ له من أن أقتل أحداً لم يستوجب ذلك، وقد بعثت إليك ببعض من كنت أقتل على هذا الرأي فشأنك وإياه. فدخل الحروري على الوليد وعنده أشراف أهل الشام وعمر فيهم، فقال له الوليد: ما تقول فيّ؟ قال ظالم جبّار. قال: ما تقول في عبد الملك؟ قال: جبّار عاتٍ. قال فما تقول في معاوية؟ قال: ظالم. قال الوليد لابن الريان: اضرب عنقه فضرب عنقه، ثم قام فدخل منزله وخرج الناس من عنده فقال: يا غلام، أرددْ عليّ عمر، فردّه عليه فقال: يا أبا حفص ما تقول بهذا؟ أصبنا أم أخطأنا؟ فقال عمر: ما أصبت بقتله، ولغير ذلك كان أرشد وأصوب، كنت تسجنه حتى يراجع الله -عز وجل- أو تدركه منيته، فقال الوليد شتمني وشتم عبد الملك وهو حروري أفتستحل ذلك؟ قال: لعمري ما أستحله، لو كنت سجنته إن بدا لك أو تعفو عنه، فقام الوليد مغضباً، فقال ابن الريان لعمر: يغفر الله لك يا أبا حفص، لقد راددت أمير المؤمنين حتى ظننت أنه سيأمرني بضرب عنقك (27)، وهكذا احتار الحجّاج على الوليد ليصرفه على الأخذ برأي عمر في الحد من سرف الحجّاج وأمثاله في القتل(28) .
8 ـ رأي عمر بن عبد العزيز في التعامل مع الخوارج:
فبالإضافة إلى الموقف الذي مرّ ذكره آنفاً ـ في شأن الحروري الذي بعث به الحجّاج ـ وردت روايات توضّح الموقف نفسه، فعن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخبره أن الوليد أرسل إليه بالظهيرة، فوجده قاطباً بين عينيه، قال: فجلست وليس عنده إلا ابن الريان، قائم بسيفه، فقال: ما تقول فيمن يسب الخلفاء؟ أترى أن يقتل؟ فسكت، فانتهرني، وقال: مالك؟ فسكت، فعاد لمثلها، فقلت: أقتَلَ يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكنه سب الخلفاء قلت: فإني أرى أن ينكّل، فرفع رأسه إلى ابن الريان، فقال الوليد: إنه فيهم لتائه.
9 ـ نصْحه الوليد عندما أراد خلع سليمان والبيعة لابنه
ومن آخر مواقفه التي ذكرت لعمر بن عبد العزيز في عهد الوليد بن عبد الملك نصحه للوليد عندما أراد خلع سليمان والبيعة لابنه عبد العزيز من بعده، فوقف عمر من ذلك موقفاً حازماً؛ إذ لم يستجب لأمر الوليد في ذلك، وقال حين أراده على ذلك: يا أمير المؤمنين، إنما بايعنا لكما في عقدة واحدة، فكيف نخلعه ونتركك: فغضب الوليد على عمر، وحاول استخدام الشدة معه لعله يوافقه على ما أراد، فيذكر أنه أغلق عليه الدار وطيّن عليه الباب حتى تدخلت أم البنين أخته وزوجة الوليد ففتح عنه بعد ثلاث، وقد ذبل ومالت عنقه(29).
الهوامش:
1- أثر الحياة السياسية صـ159.
2- الآثار الواردة في عمر بن عبد العزيز (1/93).
3- السياسة الاقتصادية والمالية لعمر بن عبد العزيز بشير كمال عابدين صـ10.
4- فقه عمر بن عبد العزيز (1/63)، سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ41 ـ42.
5- الطبقات (5/257) موسوعة فقه عمر، قلعجي صـ548.
6- نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/561 ، 562).
7- نظام الحكم في الإسلام بين النظرية والتطبيق صـ391.
8- سيرة عمر بن عبد العزيز ومناقبه صـ23 لابن عبد الحكم.
9- تفسير القرطبي (12/267) موسوعة فقه عمر بن عبد العزيز صـ20.(/11)
10- موسوعة فقه عمر بن عبد العزيز صـ20.
11- أبي العاص: أي بنو العاص بني أمية الجد الثالث لكل من الوليد وعمر بن عبد العزيز.
12- الحديث رواه البيهقي في دلائل النبوة (6/507)، عن أبي سعيد وأبي هريرة قال ابن كثير رحمه الله بعد ذكر طرق أخرى ورد بها هذا الحديث: وهذه الطرق كلها ضعيفة، انظر البداية والنهاية نقلاً عن الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/98).
13- كزّ الرجل: فهو مكزوز أصابه داء الكزاز، وهو يبس وانقباض من البرد.
14- سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ43، 44.
15- المصدر نفسه صـ42.
16- المصدر نفسه صـ42.
17- المصدر نفسه صـ42، الآثار الواردة (1/66).
18- سيرة عمر بن عبد العزيز للجوزي صـ140.
19- سيرة عمر بن عبد العزيز ومناقبه، صـ24 لابن الحكم.
20 - تاريخ الطبري (7/383).
21- أثر العلماء في الحياة السياسية صـ165.
22- سيرة عمر بن عبد العزيز ومناقبه صـ27 لابن الحكم.
23- مسلم، ك الحج، باب: المدينة تنفي شرارها.
24- الدبران: نجم بين الثريا والجوزاء ويقال له التابع والتويبع وهو من منازل القمر سمي دبراناً لأنه يدبر الثريا أي يتبعها.
25- سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ27.
26- البداية والنهاية (12/683).
27- سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ146، أثر العلماء في الحياة السياسية صـ162.
28 - افترصها: انتهزها.
29 - سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ119 ـ 121 أثر العلماء في الحياة السياسية 164.
30- أثر العلماء في الحياة السياسية صـ164.
31- سير أعلام النبلاء (5/148، 149) أثر العلماء صـ167.
عمر بن عبد العزيز ومعالم التجديد والإصلاح (4)
د. علي محمد الصلابي 24/12/1426
24/01/2006
خامساً: عمر في عهد سليمان بن عبد الملك:
في عهد سليمان تهيأت الفرص لعمر بن عبد العزيز بقدر كبير فظهرت آثاره في مختلف الجوانب، فبمجرد أن تولى سليمان الخلافة قرّب عمر بن عبد العزيز، وأفسح له المجال واسعاً حيث قال: يا أبا حفص، إنا ولينا ما قد ترى، ولم يكن بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمُر به(1) وجعله وزيراً ومستشاراً ملازماً له في إقامته أو سفره، وكان سليمان يرى أنه محتاج له في كل صغيرة وكبيرة، فكان يقول: ما هو إلا أن يغيب عني هذا الرجل فما أجد أحداً يفقه عني (2). وفي موضع آخر قال: يا أبا حفص، ما اغتممت بأمر ولا أكربني أمر إلا خطرت فيه على بالي (3).
1 ـ أسباب تقريب سليمان لعمر:
والذي دفع سليمان إلى إفساح المجال أمام عمر بهذه الصورة يعود في نظري إلى عدة أسباب منها:
أ ـ شخصية سليمان بن عبد الملك: إذ لم يكن مثل أخيه الوليد معجباً بنفسه معتداً برأيه وواقعاً تحت تأثير بعض ولاته، بل كان سليمان على العكس من ذلك غير معتد برأيه خالياً من التأثيرات الأخرى عليه.
ب ـ قناعة سليمان بما يتمتع به عمر من نظرات وآراء صائبة.
جـ ـ موقف عمر من محاولة الوليد لخلع سليمان مما جعل سليمان يشكر ذلك لعمر، وقد أشار لهذا الذهبي؛ إذ قال بعد عرضه لموقف عمر: فلذلك شكر سليمان عمر وأعطاه الخلافة بعده (4).
2 ـ تأثير عمر على سليمان في إصدار قرارات إصلاحية:
فقد كان لعمر أثر كبير على سليمان في إصدار عدد من القرارات النافعة ومن أهمها: عزل ولاة الحجّاج، وبعض الولاة الآخرين، كوالي مكة، خالد القسري ووالي المدينة عثمان بن حيان 114، ومنها الأمر بإقامة الصلاة في وقتها، فأورد ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز: أن الوليد بن عبد الملك كان يؤخر الظهر والعصر، فلما ولي سليمان كتب إلى الناس ـ عن رأي عمر ـ أن الصلاة كانت قد أُميتت فأحيوها (5). وهناك أمور أخرى أجملها الذهبي بقوله: مع أمور جليلة كان يسمع من عمر فيها (6).
3 ـ إنكاره على سليمان بن عبد الملك في تحكيمه كتاب أبيه:(/12)
كلّم عمر بن عبد العزيز سليمان بن عبد الملك في ميراث بعض بنات عبد العزيز من بني عبد الملك، فقال له سليمان بن عبد الملك: إن عبد الملك كتب في ذلك كتاباً منعهن ذلك، فتركه يسيراً ثم راجعه فظن سليمان أنه اتهمه فيما ذكر من رأي عبد الملك في ذلك الأمر فقال سليمان لغلامه: ائتني بكتاب عبد الملك، فقال له عمر: أبا لمصحف دعوتَ يا أمير المؤمنين؟ فقال أيوب بن سليمان: ليوشكن أحدكم أن يتكلم الكلام تُضرب فيه عنقه، فقال له عمر: إذا أفضى الأمر إليك فالذي دخل على المسلمين أعظم مما تذكر، فزجر سليمان أيوب، فقال عمر: إن كان جهل فما حلمنا عنه(7) . فهذا موقف من مواقف الجرأة في قول الحق الذي يُحمد لعمر حيث اعتبر سليمان بن عبد الملك كتابة أبيه شرعاً لا يمكن تغييره، فنبهه عمر إلى أن الكتاب الذي لا يُنقض ولا يُغيّر هو كتاب الله تعالى وحده، وهكذا يصل الطغيان بضحاياه إلى تعظيم شأن الآباء والأجداد الذين ورّثوا ذلك المجد الزائل لأبنائهم إلى الحد الذي يعتبرون فيه قضاءهم شرعاً نافذاً من غير نظر في موافقته لحكم الإسلام أو مخالفته، وموقف يذكر لسليمان حيث وبخّ ولده الذي هدد عمر أن قال كلمة الحق، وهذا يدل على ما يتصف به سليمان من سرعة الرجوع إلى الحق إذا تبين له(8) .
4 ـ إنكاره على سليمان بن عبد الملك في الإنفاق:
قدم سليمان بن عبد الملك المدينة فأعطى بها مالاً عظيماً، فقال لعمر بن عبد العزيز: كيف رأيت ما فعلنا يا أبا حفص؟ قال: رأيتك زدت أهل الغنى غنى وتركت أهل الفقر بفقرهم (9). فهذا تقويم جيد من عمر بن عبد العزيز لعمل سليمان بن عبد الملك، فقد كان سليمان لجهله بدقائق أحكام الشريعة في مجال الإنفاق ـ يظن أنه بإنفاقه ذلك المال الكثير على الرعية قد عمل صالحاً، فأفاده عمر بن عبد العزيز بأنه قد أخطأ حينما صرف ذلك المال لغير مستحقيه، وحرم منه أهله (10)، فقد بين عمر رحمه الله أهمية التفريق بين بذل الخير وصرفه لمستحقيه.
5 ـ حث عمر سليمان على رد المظالم:
خرج سليمان ومعه عمر إلى البوادي، فأصابه سحاب فيه برق وصواعق، ففزع منه سليمان ومن معه، فقال عمر: إنما هذا صوت نعمة فكيف لو سمعت صوت عذاب؟ فقال سليمان: خذ هذه المائة ألف درهم وتصدق بها، فقال عمر: أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: وما هو؟ قال: قوم صحبوك في مظالم لم يصلوا إليك، فجلس سليمان فرد المظالم(11) ، ويظهر عند عمر وضوح فقه ترتيب الأولويات فرد المظالم مقدم على بذل الصدقات.
6 ـ أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً:
أقبل سليمان بن عبد الملك وهو أمير المؤمنين، ومعه عمر بن عبد العزيز على معسكر سليمان، وفيه تلك الخيول والجمال والبغال والأثقال والرجال، فقال سليمان: ما تقول يا عمر في هذا؟ قال: أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً، وأنت المسؤول عن ذلك كله. فلما اقتربوا من المعسكر، إذا غراب قد أخذ لقمة في فيه من فسطاط سليمان وهو طائر بها ونعب نعبة (12)، فقال له سليمان: ما تقول في هذا يا عمر؟ فقال: لا أدري. فقال: ما ظنك أنه يقول؟ قال: كأنه يقول: من أين جاءت؟ وأين يُذهب بها؟ فقال له سليمان: ما أعجبك؟ فقال عمر: أعجب مني من عرف الله فعصاه، ومن عرف الشيطان فأطاعه (13).
7 ـ هم خصماؤك يوم القيامة:
لما وقف سليمان وعمر بعرفة جعل سليمان يعجب من كثرة الناس، فقال له عمر: هؤلاء رعيّتُك اليوم،، وأنت مسؤول عنهم غداً وفي رواية: وهم خصماؤك يوم القيامة، فبكى سليمان وقال: بالله أستعين (14).
8 ـ زيد بن الحسن بن علي مع سليمان:(/13)
كان زيد بن الحسن بن علي قد أجاب الوليد بن عبد الملك في مسألة خلع سليمان خوفاً من الوليد، وكتب بموافقته من المدينة إلى الوليد، فلما استخلف سليمان وجد الكتاب، فبعث إلى واليه على المدينة، أن يسأل زيداً عن أمر الكتاب، فإن هو اعترف به فليبعث بذلك إليه، وإن أنكر عليه اليمين أمام منبر رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فلما بعث باعترافه إلى سليمان كتب سليمان إلى والي المدينة أن يضربه مائة سوط ويمشيه حافياً.. فحبس عمر الرسول وقال: لا تخرج حتى أكلم أمير المؤمنين، فيما كتب في زيد بن حسن بن علي أطيب نفسه فيترك هذا الكتاب. فجلس الرسول، فمرض سليمان، فقال للرسول: لا تخرج، فإن أمير المؤمنين مريض، فلما توفي سليمان، وأفضى الأمر إلى عمر دعا بالكتاب ومزقه (15). وظل عمر بن عبد العزيز قريباً من سليمان طيلة مدة خلافته يحوطه بنصحه ويشاركه مسؤولياته (16)، ويرى الدكتور يوسف العش أن سياسة عمر بن عبد العزيز ومنطلقاتها بدأت منذ بداية خلافة سليمان، نعم إن سليمان كان يشتط حيناً في سياسته، فيتخذ تدابير لعل عمر لا يقرها، لكن عمر بن عبد العزيز كان على الرغم من ذلك راجح القوة في خلافته وسياسة عمر لم تتغير، فهو في دمشق مثله في المدينة، على أنه في دمشق يستطيع أن يفعل أكثر من المدينة، والأمر المهم عنده هو منع الجور (17)، والظلم والعسف، ونلاحظ أن عمر بن عبد العزيز تعامل مع سنة التدرج وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في رد المظالم ومنعها، وعندما وصل للخلافة ازداد في إحقاق العدل ومحاربة الظلم؛ لأن الصلاحيات المتاحة كانت أكبر، فهو نصح عمه عبد الملك، وذكّره بالآخرة مع جبروته وظلمه، ولم يتقاعس في عهد ابن عمه الوليد، وتقدم خطوات، ووُفّق حسب الإمكان في عهد سليمان، وأُتيحت له الفرصة في خلافته، وبالتالي لا نقول: إن ما حدث لعمر على مستواه الشخصي انقلاب، وإنما الانقلاب في توظيف الدولة لخدمة الشريعة في كافة شؤون الحياة، ولو كان على حساب العائلة الحاكمة، التي كانت لها مخصصاتها وصلاحياتها، والتي عدّها عمر بن عبد العزيز حقوقاً للأمة يجب ردها إلى بيت المال أو إلى أصحابها الأصليين.
الهوامش:
1. سير أعلام النبلاء نقلاً عن أثر العلماء صـ168.
2. المعرفة والتاريخ للفسوي (1/598).
3. سيرة عمر بن عبد العزيز صـ28 لابن عبد الحكم، أثر العلماء صـ168.
4. سير أعلام النبلاء (5/149).
5. أثر العلماء على الحياة السياسية صـ169.
6. تاريخ دمشق نقلاً عن أثر العلماء على الحياة السياسية صـ170.
7. سير أعلام النبلاء (5/125).
8. سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ31.
9. التاريخ الإسلامي (15/30 ،31).
10. سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الحكم صـ131.
11. التاريخ الإسلامي (15/29).
12. سيرة عمر بن عبد العزيز صـ33، أثر العلماء في الحياة السياسية صـ170.
13. نعب الغراب : صوت أو مد عنقه وحرك رأسه في صياحه.
14. البداية والنهاية (12/685).
15. المصدر نفسه (12/685).
16. سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ104.
17. أثر العلماء في الحياة السياسية صـ173.
18. الدولة الأموية ، يوسف العشي صـ254.(/14)
عمر ورب عمر
الحمد لله ، كان على كل شيء حسيبا ، وكان الله على كل شيء رقيبا ، إن الله كان بما تعملون خبيرا . أحمده سبحانه وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، سميع بصير ، عليم خبير ، قوي قدير ، علي كبير ، وكان الله بما تعملون بصيرا
.
قصة عجيبة ، تفاصيلها غريبة ، سطرتها كتب السير ، وصورتها عدسات المؤرخين ، أنقلها لكم في بث غير مباشر ، من المدينة النبوية الشريفة ، في تسجيل حي لثمرة جهاد حبيبنا وقرة أعيننا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله ، وإنقاذ من أطاعه من عذاب الله ، وتهذيب نفوسهم ، وتزكيتها ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين .
تلك الثمرة أينعت نفوسا تقية ، تسعى إلى العليا بكل ثبات ، تضحي بالدنيا كلها لتنال مرادها رضوانا من الله ، وجنة عالية ، قطوفها دانية .
ولهذا ، ومن أجل يقينها التام بلا إله إلا الله منهجا للحياة ، طبقت تلك الكلمة تطبيقا ولا أروع ، فغدت حياتها كلها لله ، كما أمرت بأمر نبيها : قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له . فكانت تلك النفوس مسلمة حقا ، منقادة صدقا ، فجعلت دنياها الدنية مطية للآخرة ، تنتظر أن ينادي المنادي هلموا إلى الجنة التي كنتم توعدون . فصبرت ، وشكرت ، وجاهدت ، وبذلت ، ودعت ، وبالمعروف أمرت وعن المنكر نهت ، وعن كل ما يسخط مولاها أعرضت ، وعلى كل ما يحبه أقبلت ، وقبل كل ذلك ومعه تجردت وأخلصت .
فلننتقل أخي الكريم إلى المدينة النبوية بأفكارنا ، وقلوبنا ، لنشاهد فصول تلك القصة القصيرة جدا ، ولكنها مليئة عبرا وتذكيرا .
تعال معي أخي الحبيب نقتبس نورا من سلفنا نهتدي به في ظلمات حياتنا إلى الصراط المستقيم ، وننجو به من غياهب الفتن ومضلاتها .
فافتح ستارة قلبك ليدخل إليه ذلك النور ، فتزداد نورا على نور ، ومتع ناظريك ، وأطرب سمعك بسير الصالحين ، لتسير مسيرتهم ، وتتبع سبيلهم فتلتقي بهم في جنات ونهر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
أيها الحبيب : تخيل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبل أربعة عشر قرنا ، وقد أرخى الليل سدوله ، وهجعت العيون ، إلا قليلا ، فأناس كانوا في تلك الأيام كثيرا ، وما أقلهم في أيامنا هذه ، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ، وبالأسحار هم يستغفرون .
إننا نستمع في هجعة الليل أما من ذلك البيت تقول لابنتها : يا ابنتاه قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء ، وهي بذلك تريد أن تكثر من اللبن ليكثر ثمنه ، لأن الإنتاج لا يكاد يغطي مصاريفهما ، ولا يكفي حاجاتهما ، فغلبتها نفسها ، ودعتها حاجتها إلى تلك الفعلة المحرمة أصلا ، بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : من غش فليس منا . وهي عادة البشرية ، تغفل وتنسى ، ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما .
بيد أن البنت التي تربت على الصدق ، وغمر قلبها لباس التقوى تجيب أمها بكل أدب ، مشعرة إياها أنها قد نسيت ، فهي تذكرها ، والذكرى تنفع المؤمنين . قالت البنت : يا أمتاه ، أوما علمت بما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم ؟ فقالت الأم : وما كان من عزمته يا بنية ؟ قالت : إنه أمر مناديه أن لا يشاب اللبن بالماء . فقالت لها : يا بنتاه قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء ، فإنك بموضع لا يراك عمر ، ولا منادي عمر . فقالت الصبية التقية : يا أمتاه ، والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلا . وفي رواية أخرى : قالت : إن كان عمر لا يرانا فإن رب عمر يرانا .
أيها الأحبة : كم في هذه الجملة من عبر ، كم فيها من حقائق ، كم فيها من عظة ، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، فليتنا نقف عندها ، ونفهم مرادها ، ونعمل بمدلولها ، ما كنت لأطيعه في الملأ ، وأعصيه في الخلا .
فسل نفسك أخي الحبيب هل تتعامل في حياتك على هذا الأساس ؟ هل ملأ قلبك هذا المبدأ العظيم ، وهو يترجم بكل واقعية إيمانية حقيقة أن الله على كل شيء حسيب ، وعلى كل شيء رقيب ، وأن الله بكل شيء محيط ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، إن الله بكل شيء عليم .
بكل صدق ويقين ، بكل أمانة إن كان عمر لا يرانا ، فإن رب عمر يرانا . وضع مكان عمر من شئت من المسئولين ، وولاة الأمر وتفقد نفسك ، وحاسبها على هذا المبدأ ، وسيتبين لك أنا في كثير من أمورنا لا نتعامل إلا مع عمر ، ولا نقيم وزنا لرب عمر . وأنا نطيع في الملأ ونعصي في الخلا .
وخذ هذا المثال يوضح لك المقال ، ألا ترون أن المعاكسات الهاتفية قد اندثرت بعد خدمة كشف الرقم ؟ هل كان المعاكس أو المزعج يتعامل مع عمر أم مع رب عمر ؟(/1)
ألا تلحظون أنه متى استتر خلف بطاقة مجهولة رجع إلى ما كان عليه ؟ فمتى غاب عنه عمر سعى ليفسد ولينتهك المحرمات ، ومتى ظن أنه في محيط يراه فيه عمر ، أحجم وكان من الصالحين .
أيها الحبيب : متى تربط حزام الأمان في سيارتك ؟ ألست تربطه إذا دنوت من نقطة التفتيش ، ثم ما تلبث أن تنزعه ؟ فهل تعاملت في ذلك مع عمر أم مع رب عمر ؟
حين تغيب عن الرقيب في الطريق فتقود سيارتك متجاوزا كل حدود السرعة ، ثم يعطيك قوم مقابلون لك إشارة تنبيك أن هناك رقيبا يترصدك ، فمع من تعاملت أنت ، ومن أشار إليك ؟ أكان التعامل منكما مع عمر أم مع رب عمر ؟
ذلك المجرم الذي يهرب المخدرات ، أو المسكرات ، أو الأسلحة ، متجاوزا بها الحدود ، مريدا إهلاك المجتمع بسمومه ، أو بأسلحته هل كان رب عمر في مخيلته وهو يحاول جاهدا مخادعة الحراس والمفتشين ؟
ذلك الموظف يسرق وقت دوامه كله ، أو بعضه ، بالأعذار الكاذبة ، أو بتأخره عن الحضور ، أو بتبكيره بالانصراف ، أترونه يراقب رب عمر أو يراقب عمر ؟
إخوة الدين والعقيدة : إن جل خوفنا من عمر ، وليس من رب عمر ، ومن هنا سوغ للكثيرين منا طرق التحايل ، والخداع والغش ، وعدم التنفيذ لما ينظمه عمر ، فنطيعه في الملا ، ونعصيه في الخلا .
ولو كنا نتعامل مع رب عمر لكانت حالنا غير حالنا .
لو تعامل ذلك الشاب مع رب عمر ، لما ركب سيارته ، وعبأها بالمتفجرات وبحث عن مدخل لتلك الإدارة يريد أن تكون النكاية بالمسلمين أشد وقعا ، وأكثر ألما ، وأوسع تأثيرا ، فلما عجز أو حيل بينه وبين ذلك رضي بالمتيسر له من أذى ، هل تظنون ذلك الشاب كان يراقب عمر ، أم يراقب رب عمر ؟
حين تكون الإشارة حمراء ، فتنظر يمنة ويسرة ، فلا ترى عمر ، يمكنك أن تقطعها إن كنت تراقب عمر ، ولا يمكنك ذلك إذا راقبت رب عمر .
حين تستخرج التأشيرات ، وتبيعها على المستفيد ، وتأخذ منه جهده وعرقه ، وتتحايل على الأنظمة ، لتأكل مال العامل المسكين ، وتخالف الأنظمة التي تلزمك باستقدام من تحتاج إليه فقط فأنت قد استترت من عمر ، وغفلت عن رب عمر .
نعم ، إن من الممكن ، بل والمتيسر جدا أن نكون في مكان لا يرانا فيه عمر ، ولا منادي عمر ، ولكن أين ذلك المكان الذي نستطيع فيه أن نكون في غيبة رب عمر ؟ أين ذلك المكان الذي يسترنا من عين رب عمر ؟ ومن رقابة رب عمر ؟ وأين ذلك العذر الذي يغني عنا حين نقف بين يدي رب عمر ؟ بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره . وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون ، وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين .
إخوة الإسلام : إن ديننا الذي نؤمن أنه دين ودولة ، يوجب علينا السمع والطاعة لولاة أمرنا في غير معصية الله ، ومعنى هذا طاعتهم في كل نظام أو أمر لا يخالف شرع الله ، مهما كان صغيرا ، أو حقيرا أو كبيرا .
ولا تعتذر بكثرة المخالفين ، ولا بمخالفة المسؤول نفسه لو خالف ، فأنت ستسأل عن نفسك ، وعما جنته يداك ، ولن تسأل عن تقصير فلان أو عجز فلان ، فحاسب نفسك أيها الحبيب قبل أن تلقى مولاك ، عالم الغيب والشهادة فينبئك بما كسبت يداك ، وما ربك بظلام للعبيد .
ثم اعلم أن تلك الصبية التي امتلأ قلبها بالتقوى ، ولم تخن أمير المؤمنين ، ولا مناديه في حال كانت تستطيع أن تبرر خيانتها ، وأن تلبس صنيعها الدليل الشرعي ، أو العذر الإبليسي ، لما أخلصت ، واتقت ، كان جزاؤها عاجلا غير آجل ، ولا يعني هذا أن تنتظر الجزاء العاجل ، ولكن الموعد الجنة ، وإنما وفق الله تلك الصبية لتقواه ، وجزاها بفضله لتكون لنا عبرة ، ونبراسا ، وحثا لاقتفاء أثرها ، والسير مثل سيرها ، والعمل بما عملت به وما عند الله خير وأبقى .(/2)
لقد كان جزاء الصبية أن عمر لم يكن غائبا كما ظنت أمها ، بل كان حاضرا يسمع ، وينصت لقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، يعس بالمدينة ، وقد أخذ منه التعب مأخذه ، فاتكأ على جدار ذلك البيت الذي فيه الصبية قبل أن تحاور أمها ، والليل في سكون تام ، يريد أن يأخذ قسطا من الراحة ، وكانت بيوت المدينة كما تعلمون في ذلك الزمن صغيرة ، لا موانع للصوت أو للحرارة فيها ، فلما وضع رأسه على الجدار سمع ما دار بين البنت وأمها من حوار ، فلما انتهتا ، وقالت البنية مقالتها تلك ، وهو يسمع ، قال : يا أسلم ، وهو راوي القصة ، علم الباب واعرف الموضع ، ثم مضى في عسسه ، فلما أصبح قال : يا أسلم امض إلى ذلك الموضع فانظر من القائلة ، ومن المقول لها ، وهل لهم من بعل ؟ فأتى أسلم الموضع فنظر ، فإذا الجارية أيم لا بعل لها ، وإذا تيك أمها ، وإذا ليس لهم رجل ، فأتى عمر فأخبره ، فدعا عمر ولده فجمعهم ، فقال : هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوجه ؟ ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه أحد منكم إلى هذه الجارية . فقال ابنه عاصم : يا أبتاه لا زوجة لي فزوجني ، فبعث إلى الجارية فزوجها من عاصم ، فولدت لعاصم بنتا ، وولدت البنت عمر بن عبدالعزيز رحمه الله .
فانظر يا من يهمك أمر الأمة ، وتسعى لصلاح وإصلاح الأمة ، وتشكو من ضعف وهوان الأمة ، صلاحك هو صلاح الأمة ، أنت أول لبنات الأمة ، فلا تنتظر أحدا قبلك ، ولا تصلح أحدا قبل صلاح نفسك ، ولا تلم أحدا غيرك ، وثق تماما أن الأمة حتما ستصلح ، وتعز ، وتنهض ، فابدأ بنفسك ، داو جرحك ، قوم اعوجاجك ، راقب ربك في تصرفاتك ، في خلواتك ، في جميع أحوالك ، ليكن خوفك من رب عمر ، لا من عمر ولا من منادي عمر ، وإياك أن تفعل في الخلا ، ما تفاخر بتركه في الملا .
أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث عياض بن حمار قول النبي صلى الله عليه وسلم : أهل النار خمسة ، وذكر منهم : رجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا من جهتين :
إحداهما : سوء ظنه بربه ، وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيرا منه حلالا . والثانية : أن يكون عالما بذلك ، وأن من ترك لله شيئا أعاضه خيرا منه ، ولكن تغلب شهوته صبره ، وهواه عقله .
فالأول من ضعف علمه ، والثاني من ضعف عقله وبصيرته . انتهى .(/3)
عمر يحيى
(1901-1979)م
شاعر حماة وأديبها، أسهمت المدرسة والمجالس العلمية والأدبية في تكوينه الثقافي، شغف وهو في سن مبكرة بحفظ الشعر وروايته، وأقبل على كتب اللغة والأدب فكان جيد الحفظ والرواية لها، حتى أصبح مرجعاً في ذلك.
تنقل بين أقطار شتى، ودرس العربية سنوات طوالاً فتخرَّجَ على يديه جيلٌ من الشباب ملك قيادة اللغة وأحب الأدب، كما أنه عاش مع الأحداث الوطنية والقومية بنفسه وبشعره.
يغلب على شعره الموضوعات الوطنية والقومية والوجدانية، ويجمع فيه بين الأناة والطبع، وقوافيه تنثال قوية على ما فيها من صعوبة أو غرابة أحياناً.
أقيمت له حفلة تكريم بحماة في الثامن من كانون الأول سنة 1977 وألقى في نهايتها قصيدة طويلة نقتطف منها الأبيات التالية:
بعد أن صارع الزمان iiكيانُهْ
وسدَّى نسيجَها iiوجدانُهْ
فادِّ كار الشباب هذا iiأوانه
يتملى بغرسه iiجَنَّانه
وللحيّ، ظالماً، خاقانه
هي "نُعْمٌ" لعاشق iiو"جِنانُهْ"
جبلاً تعجزُ العدوَّ iiرعانُهْ
بهواهم سهولُه iiومِتانُهْ
باسم الثغر، مرهب iiخَطَرانُهْ
أبرق السِّقْط، أو نما iiطغيانه
وتباهى بغدره iiثُعْلُبانه
لن تضيعي، وفي الحمى iiعقبانه
لكمُ موقفاً يطيب iiبيانه
فتجلى عن سرِّه iiإعلانه
... 1- أتراها ترضي الوفا iiألحانُهْ
2- صاغها قلبه المتيم iiبالفن
3- إن يَعُمَّ المشيبُ مني فروعي
4- نغرس الذكريات في العمر كيما
5- حين كنا نعيش في دارة iiالحيّ
6- وهوانا الرَّفّافُ: تحيا iiبلادي
7- لم نهن للمغير يوماً، iiوكنَّا
8- موطني موطن الميامين، iiتشدو
9- كلُّ نَدْبٍ يلقى المنونَ iiبوجه
10- ستعودين يا فلسطين iiمهما
11- لا تُراعي مهما تنمَّرَ iiباغٍ
12- من طباع الحروب كرٌّ iiوفرٌّ
13- شهد الله أنني لست iiأنسى
14- أسلستْ للمحبّ فيه iiالقوافي
(2) سدَّى الثوبَ: مدَّ سَداه، وهو ما يمد طولاً في النسيج.
(7) الرَّعْنُ: أنف الجبل، ج رعان.
(8) المِتان: ج متن وهو ما ارتفع من الأرض واستوى.
(9) الندب: السريع الخفيف عند الحاجة.
(10) السِّقْط: الساقط من الناس.(/1)
عمران بن حطان
هو عمران بن حطّان السّدوسي الشيباني، من شعراء الخوارج وخطبائهم في العصر الأموي أيام الخليفة عبد الملك بن مروان، وربما كان أكبر شاعر ظهر فيهم، وهو من قعَدة الخوارج، أي الذين لم يحملوا السلاح في سبيل دعوتهم، بل اقتصروا على التحريض بأشعارهم وأقوالهم.
طارده الحجاج، والي العراق لعبد الملك، فهرب إلى الشام، ومنها إلى عُمان، لاجئاً عند إحدى القبائل، حتى مات سنة 84هـ.
والأبيات التالية رثى فيها أمير الخوارج أبا بلال، مرداس بن أديّة:
- أصبحتُ عن وَجلٍ مني وإيجاس
2 - يا عينُ بكّي لمِرداسٍ iiومصرَعهِ
3 - تركْتَني هائماً، أبكي iiلمرزئتي
4 - أنكرتُ بعدك مَن قد كنتُ iiأعرفه
5 - إمّا شربتَ بكأسٍ دار أوّلها
6 - فكلُّ من لم يَذُقها شاربٌ iiعَجِلاً
7 - قد كنتُ أبكيك حيناً ثم قد يئست ... أشكو كلومَ جراحٍ مالها iiآسي
يا ربِّ مرداسٍ، اجعلني iiكمِرداسِ
في منزلٍ مُوحشٍ من بعدِ إيناس
ما الناسُ بَعدَك، يا مِرداسُ، iiبالناس
على القرون فذاقوا جُرعةَ iiالكاس
منها بأنفاس وردٍ بعد iiأنفاس
نفسي، فما ردَّ عني عبرتي iiياسي
الهوامش:
(1) الإيجاس: الإشفاق والخوف، والفعل منه أوجَس.
(3) المرزئة: المصيبة العظيمة. هائماً: حائراً.
(4) أنكرت الشيء: أبغضته، لأنه تغير إلى حال سيئة.
(5) إمّا: مركبة من (إنْ) الشرطية، و(ما) الزائدة، وجواب الشرط محذوف تقديره: فلا تحزن. والبيت التالي دليل عليه.(/1)
عمق التدين في نفس الانسان.. آثار وملامح
* محمد مهدي الآصفي
للوقف على هذا الموضوع ينبغي أن نفرق بين الفطرة والتقاليد والأعراف والعادات الاجتماعية التي يتوارثها الأبناء عن الآباء، لكي نعرف موضع هذا الشعور والنزوع النفسي من الفطرة أو العادات والتقاليد الاجتماعية.
فليس من شك أن للعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية دوراً في حياة الانسان، وكثير من جوانب حياة الانسان وسلوكه يخضع لسلطان العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية.
ألا أن من المهم أن نعرف أن سلطان العادات والتقاليد في حياة الانسان لا يمتد لأكثر من قشر ظاهر من حياة الانسان وسلوكه، ولا يمتد إلا لفترة تطول أو تقصر من حياة الانسان بينما يمتد سلطان الفطرة إلى أعمق الأبعاد من حياة الانسان وسلوكه وشخصيته، كما ينسحب على كل أجزاء تاريخ الانسان وفترات حياته.
فالحياة الزوجيةم ثلاً حاجة فطرية نابعة من أعماق نفس الانسان تمتد على فترات حياة الانسان جميعاً، ورغم كل التطورات الهائلة التي تعرضت لها حياة الانسانية، لم تختل هذه الظاهرة في حياة الانسان.
وقد تتعرض هذه الظاهرة في حياة الانسان لبعض الضعف لكنها تبقى ثابتة في حياة الانسان.
وقد يتفق أن فرداً أو جماعة من الناس لا يرتبطون بالحياة الزوجية، إلا أن هذا السلوك الفردي ـ الشاذ ـ لا يؤثر في شمول هذه الظاهرة وعمقها في حياة الانسان.
أما الأعراف الاجتماعية التي تتعارف عليها الاجتماعات البشرية في اقامة مراسيم الزوج فهي ظاهرة غير ثابتة في حياة الانسان، تتعرض للتبدل والتغير الدائم، وتختلف من مجتمع الى مجتمع آخر، ومن وقت الى وقت آخر.
وبذلك فان هذه الظاهرة، بما يحيطها من أعراف، وتقاليد اجتماعية، تحتوي على عنصرين، عنصر ثابت لا يتغير، وعنصر متغير خاضع للظروف والمؤثرات الخارجية.
وليس من العسير التمييز بين هذين العنصرين في جوانب سلوك الانسان وحياته.
وبهذا التمييز نستطيع أن نفرق بين ما هو فطرة في حياة الانسان وما هو عرف أو عادة أو تقليد في حياته.
وفي ضوء من هذه التفرقة لا يصعب علينا معرفة ما لو كان التدين نزوعاً فطرياً في شخصية الانسان، أو يندرج تحت بعض هذه الأعراف والتقاليد الاجتماعية، التي تزول وتتغير من وقت الى وقت.
فان نظرة واحدة الى الارتباط الوثيق القائم بين الدين والانسان تكفي للقطع بأن الدين ليس كما يقوله الماديون ظاهرة فوقية في حياة الانسان، وإنما هو حاجة نابعة من أعماق نفس الانسان.
فلم يحدث في وقت من الاوقات أن تخلى الانسان عن الدين بشكل مطلق، ولم يحدث في أمة من الأمم أن تخلت عن الدين بصورة كلية، مهما كان نوع الدين وشكله.
والغريزة الدينية ـ كما في معجم لاروس للقرن العشرين ـ مشتركة بينك ل الأجناس البشرية حتى أشدها همجية، وأقربها إلى الحياة الحيوانية، وأن الاهتمام بالمعنى الإلهي، وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالية الخالدة للانسان.
وكلّما توغلنا في تاريخ الانسان نجد أن التدين يواكب تاريخ الانسان بصور مختلفة، وأن الذين يشكون في الدين، أو يلحدون بالله تعالى قلة نادرة في كل أدوار التاريخ.
وكلّما تتقدم أعمال الحفر والتقنيب يعثر الانسان على مزيد من آثار المعابد التيك انت مشيدة في العصور الساحقة البعيدة، التي لم يتناولها التاريخ المدوّن.
وهذه الآثار تكشف لنا عن عمق الدين في تاريخ الانسان وحياته، وأن الدين لم يكن حاجة فوقية وهامشية في حياة الانسان.
يقول هنري برجسون: (لقد وجدت وتوجد جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات، ولكنه لم توجد قط جماعة من غير ديانة).
ويقول الدكتور (ماكس نوردوه) عن الشعور الديني: هذا الإحساس أصيل يجده الانسان غير المتمدين، كما يجده أعلى الناس تفكيراً، وأعظمهم حدساًن وستبقى الديانات ما بقيت الانسانية، وستتطور بتطورها، وستجاوب دائماً مع درجة الثقافة العقلية التي تبلغها الجماعةز
فالتدين، إذن، يمتد إلى أعماق تاريخ الانسان وينسحب سلطانه عبر هذه المساحة التأريخية الكبيرة إلى حياة الانسان المعاصر.
ورغم التطورات الحضارية التي طرأت على حياة الانسان، طيلة هذه الفترة، لم يحدث أي ضمور في سلطان الدين في حياة الانسان، إن لم يكن قد تضاعف هذا السلطان، وازداد وعي الانسان له، والتفافه حوله.
فلا يزال الإلحاد، ينحصر في أقلية من الناس في حياة الانسان، ولا يزال التدين ينسحب على حياة أكثرية ساحقة من المجتمع البشري.
والغريزة الدينية، كما في معجم لاروس، لا تختفي بل لا تضعف، ولا تذبل إلا في فترات الإسراف في الحضارة وعند عدد قليل جداً من الأفراد.
ولا يزال تأثير الدين وسلطانه في حياة الانسان، على هذا الامتداد الطويل من التأريخ أمتن ما يكون التأثير، وأقوى ما يكون السلطان.(/1)
والمكانة التي يحتلها الدين من نفس الانسان المتدين لا تشبهها مكانة أخرى، فهو يضحي في سبيل دينه بنفسه ويبذل ماله في هذا السبيل بكل سخاء واخلاص، ويدافع عن دينه كلما داهمه الخطر دفاع المخلصين.
وإذا أردنا أن نتحدث عن الآثار العظيمة التي تركها التدين في حضارة الانسان وتأريخه لطال بنا الحديث. فهذه المعابد الشامخة، والعادات والتقاليد والأعراف والتراث الديني الضخم كله يحكي عن قوة تأثير الدين وسلطانه في حياة الانسان.
وأمر كالدين، بهذا العمق والقوة والسلطان والشمول في حياة الانسان لا يمكن أن يكون حاجة فوقية في حياة الانسان، وإنما يمتد بتأكيد إلى أعمق أعماق فطرة الانسان، والمكابرة في هذه الحقيقة مكابرة في البديهات الواضحات.(/2)
عمل الدنيا لا ينافي عمل الآخرة
رئيسي :أخطاء ومخالفات :الأحد 23 شوال 1425هـ - 5 ديسمبر 2004 م
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد،،،
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَآخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: أَيْ أَخِي أَنَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَالا فَانْظُرْ شَطْرَ مَالِي فَخُذْهُ وَتَحْتِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَيُّهُمَا أَعْجَبُ إِلَيْكَ حَتَّى أُطَلِّقَهَا فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ فَدَلُّوهُ عَلَى السُّوقِ فَذَهَبَ فَاشْتَرَى وَبَاعَ وَرَبِحَ فَجَاءَ بِشَيْءٍ مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ [ وفي رواية : ثُمَّ تَابَعَ الْغُدُوَّ –أي: داوم الذّهاب إلى السوق للتجارة- ثُمَّ لَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثَ فَجَاءَ وَعَلَيْهِ رَدْعُ [ أي أثر ] زَعْفَرَانٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [مَهْيَمْ]- أي ما شأنك- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَقَالَ: [مَا أَصْدَقْتَهَا] قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ: [أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ] قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَلَوْ رَفَعْتُ حَجَرًا لَرَجَوْتُ أَنْ أُصِيبَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً . رواه البخاري وأحمد-واللفظ له-.
في هذا الحديث:
1- اشتغال بعض الصحابة بالتجارة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وتقريره على ذلك.
2- وأن الكسب من التجارة ونحوها أولى من الكسب من الهبة ونحوها .
3- وترجيح الاكتساب بنفسه بتجارة أو صناعة.
4- وفيه مباشرة الكبار التجارة بأنفسهم مع وجود من يكفيهم ذلك من وكيل وغيره .
عدد من المسلمين المخلصين إذا نظروا في أمر الإسلام والدين، ثم التفتوا إلى أمر دنياهم وأعمالهم ووظائفهم، وتجارتهم، ودراستهم؛ وجدوا تناقضًا، وأحسّوا بالإثم، ورأوا تعارضًا بين ما هم فيه من أمور الدنيا، وبين القرآن والسنة .
وهذا الشّعور: قد يكون نتيجة لتصوّر خاطئ، وقد يكون نتيجة لممارسة خاطئة، وعمل محرّم، فالذين يعملون في المحرّمات: وظيفة، وتجارة، ودراسة؛ شعورهم بالتعارض حقيقي وصحيح، ويجب أن يحصل؛ لأنّهم يعملون في مجال محرّم مناف للدين، وتصير أمور دنياهم مخالفة لأحكام دينهم، فيجب على هؤلاء ترك المحرّمات التي هم فيها واقعون .
ومن المسلمين من يشعر بالتعارض؛ لأنّه غلّب جانب الدنيا على جانب الدّين في الاهتمام والعمل، فغبن نفسه، وفوّت عليها حسنات كثيرة لو حصّلها؛ لارتفع عند الله في الآخرة .
ومن المسلمين من يرون التعارض لخطأ في التصوّر لقضية طريق الدنيا وطريق الدين، فهؤلاء ينبغي أن يُبصروا ويفقهوا؛ ليزول اللبس، فلا يتعذّبون، ويعملون وهم في راحة.
زعم خاطيء: ويصرّ البعض على زعم أنّ العبادة تتعارض مع الاكتساب والعمل في الصناعة، والتجارة، والزراعة، وأنّ من أراد الآخرة، فلا بدّ أن يطلّق الدنيا طلاقًا باتّا حتى يَصْلُح قلبه، وأنّ الصحابة لم يفتحوا البلدان إلا بعد أن تركوا الدنيا، وتفرّغوا تمامًا للجهاد .
وهذا الكلام فيه تعسّف ومنافاة لمصلحة الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها، وبعيد عن الحكمة والعقل السليم والواقع، وهو مغاير قبل ذلك كله لحال الصّحابة رضي الله عنهم، ولتبيّن الموقف سننظر فيما جاءت به الشريعة من الأحكام في العمل الدنيوي والكسب أولًا ، وكيف طبّق الصحابة ذلك في حياتهم ثانيًا.
أولًا: حكم الشريعة في العمل الدنيوي:
قال الله تعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ[77]}[ سورة القصص].
وقوله:{ وَابْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل، والنعمة الطائلة في طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}أي: مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن والمناكح؛ فإن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولزورك عليك حقًا، فآت كل ذي حق حقه.
وقال الحسن وقتادة:' معناه: لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه، ونظرك لعاقبة دنياك'. فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به وإصلاح الأمر الذي يشتهيه .
قال ابن العربي:وأبدع ما فيه عندي قول قتادة:ولا تنس نصيبك الحلال ، فهو نصيبك من الدنيا ويا ما أحسن هذا .(/1)
وعن كعب بن عجرة قال مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فرأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه ما أعجبهم فقالوا يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَينِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيَنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ] رواه الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان- صحيح الجامع 1428.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ] رواه البخاري ومسلم.
بل حتى في مواسم الحجّ وهو الرّكن العظيم من أركان الإسلام أباح الشارع الحكيم التجارة فيه لعلمه بحاجات العباد وما يُصلحهم، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:'كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا كَانَ الإِسْلامُ تَأَثَّمُوا مِنْ التِّجَارَةِ فِيهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ... [198] } [سورة البقرة].أي:فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ' رواه البخاري.
ثانيًا: الامتزاج بين الدنيا والآخرة في حياة الصحابة:
1- الزراعة وطلب العلم: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ:'كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهُمْ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ أَوْ غَيْرِهِ وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ'رواه البخاري. وفيه: أن طالب العلم يجعل لنفسه وقتا يتفرغ فيه لأمر معاشه وحال أهله .
وهذا أَنَسٌ رضي الله عنه كَانَ لَهُ بُسْتَانٌ يَحْمِلُ فِي السَّنَةِ الْفَاكِهَةَ مَرَّتَيْنِ وَكَانَ فِيهَا رَيْحَانٌ كَانَ يَجِيءُ مِنْهُ رِيحُ الْمِسْكِ' رواه الترمذي وحسنه.
2- رعي الغنم:عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: [يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ شَظِيَّةِ الْجَبَلِ يُؤَذِّنُ بِالصَّلاةِ وَيُصَلِّي فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلاةَ يَخَافُ مِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّة] رواه النسائي وأبو داود وأحمد.
3- التجارة: قال الله تعالى:{...وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ...[275]}[سورة البقرة]. وقال عن التجارة الدّولية والنقل البحري:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ...لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[164]}[سورة البقرة]. وقال تعالى:{...وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[12]}[سورة فاطر]. وقال البخاري رحمه الله تعالى في 'صحيحه': [ بَاب: الْخُرُوجِ فِي التِّجَارَةِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى{فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} كتاب البيوع: باب: الخروج في التجارة]
قال ابن المنيِّر:'غرض البخاري إجازة الحركات في التجارة ولو كانت بعيدة خلافًا لمن يتنطع ولا يحضر السوق...'. وسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَفْضَلِ الْكَسْبِ فَقَالَ: [بَيْعٌ مَبْرُورٌ وَعَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ] رواه أحمد.
ونقل ابن حجر رحمه الله:'وَقَدْ أَخْرَجَ الزُّبَيْر بْن بَكَّارٍ فِي ' الْمُوَفّقِيّات ' مِنْ حَدِيث أُمّ سَلَمَة قَالَتْ ' خَرَجَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ تَاجِرًا إِلَى بِصَرَى فِي عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , مَا مَنَعَ أَبَا بَكْر حُبّه لِمُلَازَمَةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَا مَنَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبّه لِقُرْبِ أَبِي بَكْر عَنْ ذَلِكَ لِمَحَبَّتِهِمْ فِي التِّجَارَة ' هَذَا أَوْ مَعْنَاهُ.(/2)
وعَنْ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ]اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا[ قَالَ وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلا تَاجِرًا وَكَانَ إِذَا بَعَثَ تِجَارَةً بَعَثَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ. رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجة والدارمي وأحمد.
وعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ] رواه البخاري ومسلم.
فهذه الشّريعة الإسلامية المباركة بمبادئها المبثوثة في القرآن والسنّة، وبالتطبيق العملي لها من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه: تحثّ على العمل للدنيا والآخرة، وتذمّ البطالة والكسل ومدّ اليد إلى الناس .
إنّ قضية الفصام بين طريق الدنيا وطريق الآخرة جعلت عامل الاحتساب يغيب عند الكثيرين الذين ضاقت عقولهم عن استيعاب أن ينوي الإنسان بعمله الدنيوي وجه الله، ففقدوا أجرًا عظيمًا كان يمكنهم تحصيله لو احتسبوا الأجر في أعمال دنيوية، وأرادوا بطعامهم ونومهم وإتيانهم اللذات المباحة الدار الآخرة:'إني لأحتسب نومتي كما احتسب قومتي'.
الضوابط الشرعية للأعمال الدنيوية:
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلامٌ فَنَظَرَ إِلَى أَعْلامِهَا نَظْرَةً فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: [اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلاتِي] رواه البخاري ومسلم . وفي رواية قَالَ: [كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عَلَمِهَا وَأَنَا فِي الصَّلاةِ فَأَخَافُ أَنْ تَفْتِنَنِي].
فالدنيا تشغل شغلًا لابدّ منه، والتفرّغ للعلم أو العبادة نادر، وكثيرًا ما يكون شاقّا حتى في العهد الأول، ويحدّثنا عن ذلك أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فيقول :' إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَوْلا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا ثُمَّ يَتْلُو:{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ[159]إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[160]}[سورة البقرة]. إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِبَعِ بَطْنِهِ وَيَحْضُرُ مَا لا يَحْضُرُونَ وَيَحْفَظُ مَا لا يَحْفَظُونَ'.
ويقول أيضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:'إِنَّكُمْ تَقُولُونَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُونَ مَا بَالُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ صَفْقٌ بِالأَسْوَاقِ وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا وَكَانَ يَشْغَلُ إِخْوَتِي مِنْ الأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ أَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ: [ إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ ثُمَّ يَجْمَعَ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِلا وَعَى مَا أَقُولُ] فَبَسَطْتُ نَمِرَةً عَلَيَّ حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ مِنْ شَيْءٍ. رواه البخاري ومسلم .(/3)
فمسألة التفرّغ هذه قد لا يُطيقها في عصرنا إلا من كان لديه إرث كبير، أو عقار دارّ لا يحتاج إلى مزيد متابعة، أو قريب ينفق، أو جهة خيرية تدعم وتَمد،ّ وهذا مهمّ للتفوّق والنبوغ في العلم- مثلًا-لأنّه كثير لو أعطيته كلّك أعطاك بعضه، ثمّ ليس كلّ النّاس، ولا أكثرهم عندهم الأهلية للنبوغ في العلم، ولنرجع للكلام على الأعمّ الأغلب من الناس: هل يُمكن أن يُمارس الإنسان أعمالًا أخروية من خلال عمل دنيوي: إليكم هذه القصّة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءهُ فِي حَرَّةٍ [ الأرض الصلبة ذات الحجارة السوداء ] فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ [ والشّراج مسايل الماء ] قَدْ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ قَالَ فُلانٌ لِلاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنْ اسْمِي فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ لاسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ] وفي رواية: [وَأَجْعَلُ ثُلُثَهُ فِي الْمَسَاكِينِ وَالسَّائِلِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ] رواه مسلم.
ففي هذا الحديث: فضل الصدقة والإحسان إلى المساكين وأبناء السبيل, وفضل أكل الإنسان من كسبه, والإنفاق على العيال . إذن: من الخطأ أن نتصوّر أن العمل الدنيوي منفصل تمامًا عن عمل الآخرة، وأنّه لا يُمكن احتساب شيءٍ أُخْروي من خلال العمل الدنيوي.
ولكن الأعمال الدنيوية إذا لم تنضبط بضوابط الشّرع كانت وبالًا على صاحبها، فما هي التوجيهات التي وردت في الشريعة بشأن هذا الموضوع ، إليكم بعضُها:
1- الإيمان بحقارة الدنيا وتفاهتها: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَلا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ] رواه الترمذي وابن ماجة.
فقوله: [ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ] أي: مبغوضة من الله لكونها مبعدة عن الله [مَلْعُونٌ مَا فِيهَا] أي مما يشغل عن الله .[ إِلا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالاهُ] أي أحبه الله من أعمال البر وأفعال القرب .
2- الزهد في الدنيا، وعدم تعلّق القلب بها: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا...]رواه ابن ماجة. فإذا كانت الأموال بمثابة الحمار الذي يركبه، فهذا ليس متعلقًا بالدنيا مع متاجرته وعمله. وسئل الإمام أحمد أيكون الرجل زاهدًا وعنده مائة ألف؟ قال:' نعم بشرط أن لا يفرح إذا زادت، ولا يحزن إذا نقصت'.
3- عدم الانشغال بها عن الآخرة: قال تعالى:{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ... [37] } [سورة النور]. وقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ[9]}[سورة المنافقون]. ، يقول تعالى: لا تشغلهم الدنيا وزخرفها، وزينتها، وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم؛ لأن ما عندهم ينفد، وما عند الله باق.
عن ابن مسعود أنه رأى قومًا من أهل السوق حيث نودي للصلاة المكتوبة تركوا بياعتهم ونهضوا إلى الصلاة، فقال عبد الله بن مسعود هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه:{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ...[37]}[سورة النور]. وهكذا عن عبد الله بن عمر أنه كان في السوق، فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم، ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر:' فيهم نزلت :{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ...[37]}[سورة النور].' . وقال مطر الوراق:' كانوا يبيعون ويشترون، ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه، وأقبل إلى الصلاة'.
4- القناعة:
نصيبك مما تجمع الدهرَ كلَّه رداءان تُلوى فيهما وحَنوطُ
وقال آخر:
هي القناعة لا تبغي بها بدلًا فيها النعيم وفيها راحة البدن
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن(/4)
5- ترك محرّماتها، وعدم الافتتان بزخرفها: قال تعالى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى[131]}[سورة طه].
6-إخراج حقوق الله من ممتلكاتها: تسليم حقّ المال: زكاة المال والزّرع:{...وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ...[141]}[سورة الأنعام]. النفقات الواجبة على الزوجة والأولاد والوالدين المحتاجين والصدقات:{ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا...[245]}[سورة البقرة].
7- الالتزام بالأحكام الشرعية في الاكتساب والإنفاق: وهي لما أباحت أنواع المكاسب الطيّبة جعلت ضوابط، وحدّت حدودًا من تعدّاها في عمله الدنيوي؛ وقع في المحظور، ودخل في الذمّ والوعيد، فمن ذلك: أن لا يعمل محرّمًا، ولا يبيعه كخمر، وخنزير، ولا يغشّ ، ولا يحتكر .
وجاءت الشّريعة كذلك بتحريم المضارة بالآخرين، وتحريم الدّخول في الوظائف المحرمة، وتحريم بيع المحرمات، ومنع تأجيرها، واستيفاء الشروط الشرعية في البيع: كالتراضي، وتحديد الثمن، وأن لا يبيع ما لا يملك...وهكذا. وعدم مخالفة ذلك، وعدم الإنفاق في المحرمات؛ لا شراءً ولا استئجارًا .
8- حسن القصد والنيّة الحسنة: بأن يقصد بتجارته وجه الله، لا الأشر، ولا البطر، ولا التفاخر، ولا التكاثر، وأن يقصد إعفاف نفسه عن سؤال الناس، والاستغناء عن الخلق، والإنفاق على نفسه وأهله، وكلّ من تلزمه نفقتهم من الأقارب، وصلة الرحم، وأداء حقّ المال من الزكاة والصّدقة، والإنفاق في كلّ ما يحبّه الربّ .
من:'عمل الدنيا لا ينافي عمل الآخرة'للشيخ/ محمد بن صالح المنجد(/5)
عمل الزوجات ... طفلك وبيتك في خطر
بشار دراغمة ومحمد جمال 28/3/1427
26/04/2006
السابعة صباحاً، حالة استنفار كاملة في المنزل، طفل لا يزال نائماً، والأب ارتفع صوته مطالباً زوجته بالإسراع، وتلك الأم تجبر طفلها ابن الأعوام الثلاثة على النهوض من نومه بعدما أمضى ثلثي ليله بصراخ وبكاء بسبب مرضه ليوصلاه إلى حضانته قبل ذهابهما إلى عملهما، تلك هي نماذج من يوميات الزوجة العاملة خارج المنزل في مجتمعنا. فالكثير من المشاكل الأسرية كان سببها عمل الزوجة، وتتراكم تلك المشاكل عندما يكون لدى تلك الزوجة أطفال تضطر لوضعهم في الحضانات، ولدى المربيات بالأجور أو عند الأقارب والجيران مما يؤثر بشكل كبير على تربيتهم وسلوكهم وحتى عاداتهم وتقاليدهم. والكثير من حالات الطلاق حدثت للسبب نفسه، فلا طعام للغداء ينتظر الزوج عند وصوله للبيت؛ لأن الزوجة لم تصل بعد، وربما تتأخر ساعة أو ساعتين عن موعد دوامها الرسمي بسبب ضغط العمل لديها. ويتزامن كل هذا في الوقت الذي يجمع فيه أخصائيو التربية وعلم الاجتماع والنفس والدين على أن عمل الزوجة إذا لم يكن مدروساً ووفقاً لضوابط معينة والتزام كامل فإنه سيكون حتماً مدخلاً لمشكلات لا حدود لها.
طلاق بعد شهرين من العمل
فرحت أمل كثيراً عندما وجدت لنفسها عملاً في إحدى الشركات الكبرى بعد أن قدّمت على مدار ستة أعوام طلبات للتوظيف، لكن دون فائدة، ولم يكن هدفها من العمل سوى مساعدة زوجها في متطلبات الحياة. إلا أن العمل الذي وجدته انقلب نقمة عليها وعلى بيتها وزوجها. وتروي أمل تلك الحكاية بقولها: "فرحت كثيراً عندما حصلت على هذا العمل، فقد كان الراتب الشهري مغرياً جداً، لكن ساعات الدوام طويلة جداً، ولا ينتهي عملي إلا في الثامنة مساء بينما ينهي زوجي عمله في الثانية بعد الظهر".
وتوضح أمل -وهي أم لطفلين اثنين- أنها شعرت بصعوبات كبيرة في أولى أيام العمل، ولم يعد بإمكانها التنسيق بين عملها ومتطلبات بيتها وطفليها وزوجها، فكل يوم تعود وتجد زوجها ملقى على تلك الكنبة ينتظر طعام الغداء الذي لن يتم تجهيزه قبل العاشرة مساء، وبعد تناول الطعام يذهب الاثنان للنوم بعد أن يكون قد أنهكهما التعب. بينما الطفلان محمد وأسامة لا يزالان مستيقظين، ولا أحد يعلم متى سينامان.
وتضيف أمل: "لم أعد أجد فرصة للحديث مع زوجي في شؤون البيت، كما أنني -ومن شدة التعب- لم أعد أرى أبنائي إلا دقائق معدودة، ولم أعد أتحدث معهم مطلقاً، وشعرت أن زوجي بدأ يمل من هذا الوضع، ولاحظت أن حالة من العصبية بقيت مرافقه له، وذلك بسبب وضع الأطفال الذين لم أعد أعرف ماذا يريدون، ولم أعد قادرة على تربيتهم، حتى إنني لم أعد أعرف إذا ما كانوا أصحاء أم مرضى".
أما مراد زوج أمل فإنه يتحدث بمرارة عما كان يحدث معه خلال فترة عمل زوجته. ويقول: "بسبب وضع الأطفال في الحضانة فإنني بت أرى أطفالي يتحدثون بكلمات نابية ولا أخلاقية. لقد دهشت كثيراً عندما سمعت أحدهم يشتم الآخر بطريقة لا أريد ذكرها، وفي نفس الليلة طلبت من زوجتي أن تترك عملها بشكل فوري، وتتفرغ لشؤون البيت وتربية الأطفال بدلاً من وضعهم في الحضانة إلا أنها أخبرتني بأن عقدها مع الشركة مدته ثلاث سنوات، وأن هناك شرطاً جزائياً على هذا العقد يشترط دفع مبلغ كبير جداً إذا تركت العمل قبل انتهاء مدة العقد".
مراد الذي وجد نفسه محاصراً، وبات يعاني كل يوم من وضع بيته الأسرى لم يقدر على الاستمرار في تلك الحياة، فما كان منه إلا تطليق زوجته بعد شهرين فقط من عملها.
زوجات عاملات ... نجحْن مرّتين
لم يكن عمل الزوجة عائقاً أمام العديد من العائلات في تحقيق النجاح، فتلك الزوجة التي اختارت لنفسها عملاً في إحدى مدارس الإناث كانت موفقة جداً في عملها، والتنسيق بين العمل وكافة شؤون بيتها. هذا النموذج لخّصته أم عامر من خلال مخطط كامل وضعته بالتنسيق مع زوجها، لكيلا تحدث أي مشاكل في المستقبل بسبب عملها. وفي البداية اتفق الاثنان على أن عمل أم عامر يجب أن يكون في مدرسة للإناث فقط، وينتهي دوامها في وقت مبكر وقبل انتهاء عمل الزوج بثلاث ساعات على الأقل. وتضيف أم عامر: " قرّرنا وضع الأطفال في الحضانة، واخترت حضانة أطفال قريبة جداً من المدرسة التي أعمل بها، وصباحاً كنت آخذ أطفالي معي، وأضعهم في الحضانة، وأطمئن عليهم، وبين كل حصة وأخرى كنت أذهب لرؤيتهم والحديث معهم مدة دقيقتين لكي أبقى على تواصل معهم". أم عامر حققت نجاحها في عملها، وفي الوقت نفسه فقد نجحت في تربية أطفالها وإدارة شؤون بيتها على أكمل وجه.
الحضانة تقود ابنك للعزلة(/1)
الدكتور فيصل الزعنون أخصائي علم الاجتماع يرى في حديثه مع شبكة (الإسلام اليوم) بأن عمل النساء المتزوجات يؤثر بشكل مباشر على تربية الأطفال الصغار إذا لم تقم الأم بدورها التربوي، وهي بحاجة إلى مضاعفة جهدها في تربية الأطفال وخصوصاً في مثل هذه الفترة الحساسة للطفل؛ إذ يكون البديل إما في دور الحضانة أو في رياض الأطفال، أو أن تقوم الأم بإرسال الطفل إلى أحد أقاربها أو جاراتها، وهذا يؤثر على عملية التنشئة، وبالتالي على التربية.
ومن ناحية اجتماعية يرى الدكتور الزعنون أن وضع الأطفال في الحضانات يؤدي إلى عزلة الطفل عن المجتمع، وهذا يخالف ما يُعرف عن مجتمعاتنا العربية التي تحتفظ بعلاقات اجتماعية قوية بين أفرادها، أي أن مجتمعنا اجتماعي بطبيعته، عكس المجتمعات الأوروبية.
وأضاف الزعنون بأن أطفال النساء العاملات لا يتلقون التنشئة الصحية عندما يكونون بعيدين عن أمهاتهم إذا كانت فترة العمل طويلة، ولكن على المرأة أن تنسق وقتها لأجل الاهتمام ببيتها وزوجها.
وأضاف الزعنون: "يجب على الزوجين تنسيق الأدوار من أجل تربية الأطفال بطريقة صحيحة لأجل البعد عن حدوث مشاكل قد تؤدي في نهاية المطاف إلى الطلاق، وهي المشكلة التي يكون الاطفال ضحيتها في الحقيقة؛ إذ يثبت علم الاجتماع بأن عدم التفاهم بين الزوجين قد يؤدي إلى الطلاق، وقد يكون من هذه المشاكل عمل الزوجة نتيجة تأخرها إلى ساعات متأخرة خارج البيت".
وقال: "عمل الزوجة بالدرجة الأساسية على الأطفال الصغار؛ لأن هذه المرحلة تُعدّ مرحلة اجتماعية حسّاسة لها تأثيراتها السلبية على الطفل".
الخوف من الآخرين
عملك يجعل طفلك خائفاً
الدكتور عبد عساف رئيس قسم علم النفس في جامعة النجاح الوطنية يؤكد لـ(الإسلام اليوم) بأن هناك دراسات متباينة في علم النفس حول تأثيرات عمل الزوجة على الأطفال والبيت بشكل عام، منها ما يقول إن عمل الزوجة لا يؤثر على الحالة النفسية للأطفال، ودراسات أخرى تبين التأثير السلبي من حيث عدم إعطاء الأم الرعاية الكافية لأطفالها، بحيث لا تشبع تلك الأم الحاجات النفسية لأطفالها بسبب قضاء وقت طويل خارج البيت، ومن الضروري الانتباه إلى إشباع تلك الحاجات، وفي حال عدم إشباعها يؤدي ذلك إلى مشاكل نفسية لدى الطفل، قد تسبب له الخوف وعدم القدرة على التعامل مع الآخرين.
وأضاف "عساف" بأن تغير طبيعة الوضع في المجتمعات العربية والظروف الاقتصادية الصعبة يتطلب من المرأة أن تخرج للعمل بما يناسبها، ولكن يجب ألاّ يكون ذلك على حساب الراحة النفسية للطفل؛ إذ إن حنان الأم لا يُعوضّ في كل الحضانات المنتشرة داخل مجتمعاتنا، حيث تكون هناك نتائج سلبية للحضانات إذا تعاملت الحضانات مع الأطفال بطريقة خاطئة، ولكن في المجمل هناك تناقض في نتائج دراسات علم النفس حول تأثيرات عمل الزوجة على الأطفال والبيت.
وتطرق "عساف" إلى ضرورة أن تكون الحضانات التي يُرسل إليها الأطفال مؤهلة للتعامل النفسي معهم، بحيث تكون جزءاً من المرحلة الأساسية للطفل قبل إرساله إلى المدرسة، وأنه لا مانع من عمل المرأة، ولكن عليها تقديم المزيد من الاهتمام لأطفالها داخل البيت وخارجه؛ لتدارك المشاكل النفسية التي يمكن أن تنتج عن عملها، وخصوصاً إذا كانوا صغار السن.
وأضاف "عساف": "هناك مسؤولية مباشرة تُلقى على عاتق الزوج من خلال قيامه بدور تكاملي مع زوجته، بتحمل المسؤوليات الملقاة على عاتقه في التربية التي تُعدّ أساساً في تربية الطفل من حيث تفهم وضع الزوجة، التي تحتاج إلى العمل بسبب الظروف الاقتصادية لتحسين وضع العائلة الاقتصادي، أو من أجل تحقيق ذاتها في المجتمع".
الإسلام لم يمنع عمل المرأة
من جهته أكد الدكتور محمد حافظ الشريدة المحاضر في كلية الشريعة بأن الإسلام لم يمنع المرأة من العمل، موضحاً أن عليها أن تختار العمل المناسب واللائق لها بعيداً عن الاختلاط والسفور، و بشرط ألاّ يؤثر عملها على الوظيفة الأساسية التي خُلقت من أجلها، وهي تربية الأطفال وصناعة الأبطال.
وأضاف "الشريدة": "هناك نماذج وردت في السنة النبوية حول عمل المرأة، ومنها رفيدة الأسلمية التي راقبت الأسواق بتكليف من عمر بين الخطاب رضي الله عنه، إضافة إلى مشاركة فعلية للصحابيات في المعارك، وديننا لا يتعارض مع عمل الزوجة، ولكن بشرط الاهتمام بالأطفال وعدم إهمالهم، وخصوصاً عند إرسالهم إلى الحضانات أو أحد الجيران و الأقارب؛ إذ من الواجب تفقّد الطفل جسمياً وتعليمياً ونفسياً بعد عودته من الحضانة".
وقدم "الشريدة" نصائح دينية للنساء العاملات المتزوجات في أن تحرص الزوجة على ملازمة البيت أكبر قدر ممكن من الوقت بهدف إعطاء الزوج والأطفال فرصة مناسبة تؤدي في النهاية إلى التآلف داخل البيت بين العائلة الواحدة.(/2)
وأضاف "الشريدة": "لا تحصل -بإذن الله تعالى- أي مشاكل إذا تم كل شيء على أساس التفاهم بين الزوج والزوجة، وإذا فهم كل منهم الآخر وعرف دوره، وفي حال حدث نوع من المشاكل بسبب عمل المرأة فيجب حلها بالتفاهم داخل البيت
وليس خارجه".(/3)
عمل المرأة السياسي
22-6-2005
بقلم د. عدنان علي رضا النحوي
"...مناقشة هادئة من الكاتب لما سبق وأن أفتى به الدكتور يوسف القرضاوي بخصوص عمل المرأة السياسي وحدود ذلك في الشريعة الإسلامية..."
أشير إلى فتوى أَخي الكريم الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي - هداه الله - ، كما نشرتها مجلة البلاغ الكويتية في عدديها (1638) الأحد 24 صفر 1426هـ الموافق 3 أبريل 25م للسنة (36) ، والعدد (1639) الأحد 1ربيع الأول 1426هـ الموافق 1 أبريل 25م ، حول عمل المرأة السياسي وحكم الإسلام في ذلك .
لقد ابتدأ فضيلته كلمته بقوله : " فالإسلام لم يُفَرِّق بين المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية فهما على قدم سواء . " فهذا حكم عام مطلق يكاد يوحي بأنه مستقى من نصّ من الكتاب والسنة ، أو أنه يمثل ممارسة واضحة في التاريخ الإسلامي منذ عهد النبوّة . إِنّ النصّ العام المطلق على هذه الصورة الجازمة التي أتت بها الفتوى دون أي قيود ، لا تصحّ إلا بتوافر نصّ ثابت من الكتاب والسنة ، أو بتوافر ممارسة واقعية ممتدّة في المجتمع الإسلامي الملتزم بالكتاب والسنة ، والذي تكون فيه كلمة الله هي العليا .
ولكننا لا نجد في الكتاب والسنّة أيّ نصّ يجيز هذا الحكم العام المطلق الخالي من أي قيود ، ولا نجد كذلك أيّ ممارسة عمليّة ممتدّة له في حياة المسلمين والمجتمع الإسلامي الملتزم منذ عهد النبوة الخاتمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وحياة الخلفاء الراشدين ، وسائر فترات التاريخ التي التزم فيها المجتمعُ الإسلامَ . نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يمارسن النشاط السياسيّ مساويات للرجال على قدم سواء ، ولا نساء الخلفاء الراشدين ، ولا نساء العصور التي تلت ، ولا نجد هذه الدعوة التي تطلقها فتوى فضيلته إلا في العصور الحديثة المتأخرة التي انحسر فيها تطبيق الإسلام ، وغزا الفكر الغربي ديار المسلمين .
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شكا إلى زوجه أم سلمة ما حدث من أصحابه في الحديبية ، فأشارت عليه برأيٍ استحسنه وأخذ به ، فهذه حالة طبيعية في جوّ الأسرة المسلمة أن يُفرغ الرجل إلى زوجته بعض همومه ، وأن يستشيرها في ذلك ، وأن يستمع إلى رأيها ، فإن وجد فيه خيراً أخذ به ، وإن لم يجدْ تركه . هذه حادثة نتعلم منها أدب الحياة الزوجيّة في الإسلام ، ونتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم ونسائه في ذلك ، دون أن نعتبر ذلك نشاطاً سياسياً لنخرج منها بحكم عام مطلق ينطبق على جميع النساء في جميع العصور والأماكن في النشاط السياسي .
وأم سلمة بعد ذلك لم يُعرَف عنها أنها شاركت في النشاط السياسيّ مساوية للرجال على قدم سواء ، وكذلك سائر النساء لم يعرف عنهن هذه المشاركة المساويةً للرجال في المجتمع المسلم . فهذه حادثة تكاد تكون فريدة لا تصلح لإطلاق حكم عام .
وحين أنزل الله سبحانه وتعالى على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم قوله ( يا أيها النبيُّ قل لأزواجك إن كنتُنّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أُمتعكنّ وأسّرحكنّ سراحاً جميلاً . وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً ) ، لم يكن الأمر أن نساء النبي يتطلّعن إلى الزينة والحليّ والمتع الدنيوية ، كما هو حال نساء الملوك والرؤساء .
لقد كنّ يدركن وهن في مدرسة النبوة أن الإسلام نهج آخر ، ولكن حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم كان فيها شدة وتقشف وزهد لم يكن في سائر بيوت المؤمنين ، فأردن المساواة مع مستوى غيرهنّ من المؤمنات ، لا مستوى الملوك والرؤساء .
وعندما ندرس هذه الآيات وما يتعلّق بنساء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإنما ندرسه ليس من منطلق الرغبات الدنيوية الظاهرة في حياة الملوك ، وإنما ندرسه منطلقين من القاعدة الرئيسة التي نصّ عليها القرآن الكريم من أنهنّ أُمهات المؤمنين ، لهن هذه الحرمة العظيمة والمنزلة العظيمة .
فجاءت هذه الآيات الكريمة لتذكر المسلمين ونساء النبيّ صلى الله عليه وسلم والنساء المؤمنات بعامة أن هناك نهجين مختلفين للحياة في ميزان الإسلام : نهج الدار الآخرة وما يشمله من قواعد وأسس ونظام ، ونهج الدنيا وما يموج فيه من أهواء وشهوات . نهجان مختلفان :
نهجان قد ميّز الرحمن بينهما ****** نهج الضلال ونهج الحقّ والرشَدِ
لا يجمع الله نهج المؤمنين على ****** نهج الفساد ولا حقّاً على فَنَدِ
ولقد وَعَت أمهات المؤمنين هذا التذكير ، فاخترْن الله ورسوله والدار الآخرة ، ليكُنّ بذلك القدوة للنساء المؤمنات أبد الدهر .
ولا يتعارض هذا مع بقاء الطباع الخاصّة بالنساء ، الطباع التي فطرن عليها يهذّبها الإسلام ويصونها من الانحراف .
ولقد خلق الله المرأة لتكون امرأةً ، وخلق الرجل ليكون رجلاً ، وجعل سبحانه وتعالى بحكمته تكويناً للمرأة في جسمها ونفسيّتها ، وجعل للرجل تكويناً متميزاً في جسمه ونفسيّته ، ومازال العلم يكتشف الفوارق التي تظهر بين الرجال والنساء .(/1)
وعلى ضوء ذلك ، جعل الله للرجل مسؤوليات وواجباتٍ وحقوقاً ، وللمرأة مسؤوليات وواجبات وحقوقاً ، لتكون المرأة شريكة للرجل لا مساويةً له ، حتى يتكامل العمل في المجتمع الإسلامي ، حين يوفي كلٌّ منهما بمسؤولياته وقد عرف كلٌّ منهما حدوده كما بيّنها الله لهم جميعاً .
وهناك حقوق مشتركة بين الرجل والمرأة . فالبيت المسلم هو ميدان التعاون في ظلال المودّة والسكن والرحمة ، دون أن يتحوّل الرجل إِلى امرأة أو المرأة إلى رجل .ومن حق المرأة أن تتعلم لأن طلب العلم فريضة على كل مسلم ، رجلاً كان أو امرأة ": طلب العلم فريضة على كل مسلم " .
ومن حقّها وواجبها أن تكون مدرسة للنساء ، وطبيبة للنساء ، وفي كل نشاط مارسته النساء المؤمنات في مجتمعات يحكمها منهاج الله وكلمة الله فيها هي العليا ، دون أن يتشبّهْن بالرجال : فعن ابن عباس رضي عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم : "لعنَ الله المتشبّهات من النساء بالرجال ، والمتشبّهين من الرجال بالنساء " وعن عائشة رضي الله عنها عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " لعنَ الله الرَّجُلةَ من النساء "
وأمثلة كثيرة لا مجال لحصرها هنا تبيّن أن للإسلام نهجاً مختلفاً عن نهج الاشتراكية والعلمانية والديمقراطية ، وتبيّن بالنصوص والتطبيق كما أسلفنا أن المرأة ليست مساوية للرجل في النشاط السياسي في الإسلام ، إلا إذا نزعنا إلى نهج آخر أخذت تدوّي به الدنيا ، وأخذنا نبحث عن مسوّغات له في دين الله .
ومن أهم ما أمر به الإسلامُ المرأة متميّزاً بذلك من غيره طاعتها لزوجها ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو كنتُ آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، ولا تؤدّي المرأة حقَّ الله عزّ وجلَّ عليها كلَّه حتى تؤدّي حقَّ زوجها عليها كله ... " إلى آخر الحديث
فعندما ندرس المرأة وحقوقها ومسؤولياتها في الإسلام فيجب أن ننطلق من حماية الأسرة ورعاية الأطفال وتربيتهم ، فالأسرة والبيت المسلم هو ركن المجتمع الإسلامي وأساسه ، وهو المدرسة الأولى التي تبني للأمة أجيالها ، لا تتركهم للخادمات وغيرهن .
وأعجب من حديث أخي الشيخ د . القرضاوي في حديثه وفتواه من أنه لم يشر إلى الأسرة والبيت وواجب المرأة فيه ، وأَثر عمل المرأة السياسي على جو الأسرة وحقوق الأطفال وحق الزوج .
في الإسلام لابد من عرض التصوّر الكامل المترابط لنشاط المرأة ، دون أن نأخذ جُزْءاً وندع أجزاءً ، ونركّز على أمر لم يركّز عليه الإسلام ولم يبرزه لا في نصوصه ولا في ميدان الممارسة .
فالحياة الإسلامية متكاملة مترابطة في نهج الإسلام ، لا تتناثر قطعاً معزولة بعضها عن بعض .
ولا يمنع شيء أن يخرج من بين النساء المؤمنات عالمات مبدعات شاعرات ، مفتيات موهوبات .
ولكن هذا كله ليس هو الذي يحدّد دور المرأة في الإسلام ، فالذي يحدّده شرع الله بنصوصه الواضحة دون تأويل وبالممارسة الممتدّة الواضحة . والمرأة حين تكون عالمة أو فقيهة أو أديبة ، فهي أحرى أن تصبح اكثر تمسّكاً بقوله سبحانه وتعالى :
(فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله)
ومما يثير العجب حقّاً أن الرجل الشيوعي جوربا تشوف ، أدرك خطورة غياب المرأة عن بيتها وواجباتها فيه ، واجباتها التي ليس لها بديل . فلنستمع إلى ما يقوله :
" ولكن في غمرة مشكلاتنا اليوميّة الصعبة كدنا ننسى حقوق المرأة ومتطلباتها المتميّزة المختلفة بدورها أماً وربّة أسرة ، كما كدنا ننسى وظيفتها التي لا بديل عنها مربّية للأطفال " .
ويتابع فيقول : " ... فلم يعد لدى المرأة العاملة في البناء وفي الإنتاج وفي قطاع الخدمات وحقل العلم والإبداع ، ما يكفي من الوقت للاهتمام بشؤون الحياة اليومية ، كإدارة المنزل وتربية الأطفال ، وحتى مجرّد الراحة المنزليّة . وقد تبيّن أن الكثير من المشكلات في سلوكية الفتيان والشباب ، وفي قضايا خلقية واجتماعية وتربويّة وحتى إنتاجية ، إنما يتعلّق بضعف الروابط الأسرية والتهاون بالواجبات العائلية ... "
في دراستهم للمجتمع وللصناعة والإنتاج ، انطلقوا كما نرى ، ولو متأخرين ، من البيت ، من الأسرة ، من دور المرأة في البيت ، الدور الذي لا بديل له . ونحن المسلمين ، وقد فصّل لنا الإسلام نظام حياتنا منطلقاً من تحديد مسؤوليات الفرد ، الرجل والمرأة ، ثم البيت والأسرة ، تركنا ذلك وقفزنا لنبحث في حق المرأة أن تكون وزيرة أو عضواً في البرلمان أو رئيسة دولة ، أو رئيسة شركة ، ونضع من أَجل ذلك قانونا عاماً مطلقاً دون قيود : " الإسلام لم يفرّق بين المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية . " ! وحسبُنا تطبيق الصحابة والخلفاء الراشدين ، فهل كانت المرأة مساوية للرجل في الحقوق السياسية ؟! أم أن الصحابة والخلفاء الراشدين أخطؤوا ولم يدركوا هذه الحقوق فظلموا المرأة وحرموها من حقوقها ؟!(/2)
لا نقول إِنّ المرأة عامة ، أو أن النساء كلهن لا يصلحن للمهمات الكبيرة بحكم كونهنّ نساء . لا نقول هذا . ولكن نقول إن الله الذي خلق الرجل والمرأة حدّد مسؤوليات الرجل والمرأة ، ومارس المسلمون ذلك في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وفي عهد الخلفاء الراشدين ، وفي عصور كثيرة أخرى .
ولقد تعارض حديث د. القرضاوي بين أول كلامه ، و بين ما ورد بعد ذلك في ص34 ، فأول الكلام كان حكماً مطلقاً دون أي ضوابط أو حدود : " مساواة المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية " !! ثم يقول بعد ذلك : " ... وليست كل امرأة صالحة للقيام بعبء النيابة ... " !! ثم يقول : " ولكن المرأة التي لم ترزق الأطفال وعندها فضل قوة وعلم وذكاء ، والمرأة التي بلغت الخمسين أو قاربت ..." ، فأصبح هناك شروط كثيرة تتناقض مع صيغة الحكم العام المطلق الذي ورد في مستهلّ الفتوى . فهل المقصود النساء فوق الخمسين واللواتي لم يرزقن بأولاد ؟!
أما قصة عائشة رضي الله عتها وخروجها للمطالبة بالقصاص ، وما يقال من أنها ندمت على ذلك ، فلم يكن ندمها لأن رأيها السياسي كان خطأ فقط . كان ندمها لأنها خالفت نصّ الآية : " وقرن في بيوتكنّ ... " وقد أكدَّ د. القرضاوي أن هذه الآية الكريمة خاصة في نساء النبي . فكان أحرى به أن يرى أن خروجها ذاك كان مخالفاً للنص من ناحية ، وأنّ اشتراكها في فتنة وقتال بين المسلمين لا حق لها به . ثم يعود ويستنتج من الآية نفسها أحكاماً عامة على المرأة المسلمة لا على نساء النبيّصلى الله عليه وسلم ، حين يقول : وقد نسي هؤلاء أنّ بقية الآية الكريمة تدلّ بمفهومها على شرعيّة الخروج للمرأة من بيتها إِذا التزمت ... " .
أما الحديث عن بلقيس ، فلا مانع أن يظهر بين النساء من يملكن مواهب متفرّدة . فبلقيس لم تكن مؤمنة ، ولم تكن تخضع لنهج إيماني ، إلا بعد أن أسلمت والتزمت ، فلا يصحّ الاستدلال بها ، وهي على كفرها ، على حقوق المرأة في الإسلام . وإلا فلنستشهد بكونداليزاريس ، وجولدا مائير !! وغيرهن من النساء غير الملتزمات بالإسلام ، ولا مجتمعاتهنّ ملتزمة بالإسلام . فمثل هذا الاستشهاد أرى أنه لا يصح أصلاً . وقد يكون بعض النساء أكبر موهبة أو طاقة من بعض الرجال ، فهل هذا يعني أن تنزل المرأة معتركاً مختلفاً فيه أجواء كثيرة ، وتترك قواعد الإسلام تأسّياً بنساء غير مؤمنات ولا مجتمعاتهن ملتزمة بالإسلام .
وغفر الله لمن قال ، كما نشرته إحدى الصحف : " إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان يعلم أنه سيظهر بين النساء أمثال جولدا مائير ، أنديراغاندي ، تاتشر ، ما قال حديثه الشريف : " ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " !! فالمؤسف أن من الناس من يعتبر أن هؤلاء النساء أفلح بهنّ قومهن . عجباً كل العجب ! هل أصبح الكفر وزينة الدنيا ومتاعها هو ميزان الفلاح ! وأين قوله سبحانه وتعالى :
( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضّةٍ ومعارج عليها يظهرون . ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون . وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين ) ؟
نِعْمَ البيت الواسع والسرر المريحة للرجل الصالح . ونعمت القوّة والسلاح والصناعة للمؤمنين .
إننا نعتقد أنه لا يصح أن نستشهد بمجتمعات غير ملتزمة بالإسلام لنخرج بقواعد شرعية في الإسلام .
أما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة " ، فالحديث يرويه البخاري وأحمد بن حنبل وأبو داود وابن ماجة والترمذي . ويأتي الحديث بألفاظ مختلفة ولكنها تجمع على المعنى والنص . وإنّ مناسبة الحديث ونصّ الحديث باللغة العربيّة يفيد العموم ولا يفيد الخصوص . ولا يعجز الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخصّ ذلك بأهل فارس لو أراد التخصيص . ولكن كلمة قوم نكرة تفيد العموم ، وامرأة نكرة تفيد العموم ، فلا حاجة لنا إلى تأويل الحديث بما لا تحتمل اللغة ، وربما لا مصلحة لنا في هذا التأويل .
ويقول فضيلته : " إذا كانت المرأة مطالبة بعبادة الله وإقامة دينه ، فإنها مكلفة مثلها مثل الرجل بتقويم المجتمع وإصلاحه "! وهذه أيضاً قاعدة عامة لا يجوز أن تؤخذ على إطلاقها .
نَعم ! إن المرأة مطالبة بذلك كالرجل . ولكنّ الله سبحانه وتعالى جعل للرجل تكاليف في ذلك ليست للمرأة ، وجعل للمرأة تكاليف ليست للرجل . وذلك حتى في أركان العبادة ـ في الشعائر ـ فصلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في المسجد ، وصلاة الرجل في المسجد خير من صلاته في البيت . والجهاد فرض على الرجال في ميدان القتال ، وليس فرضاً على المرأة ، وجهاد المرأة في بيتها ورعايته ورعاية زوجها :(/3)
فعن ابن عباس رضي الله عنه أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ! أنا وافدة النساء إليك ! هذا الجهاد كتبه الله على الرجال ، فإن يصيبوا أجروا وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون . ونحن معشر النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج واعترافاً بحقه يعدل ذلك ، وقليل منكنّ يفعله " .
وعن أنس رضي الله عنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار ليسقين الماء ويداوين الجرحى "
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " وفيه : " ... والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم "
وعن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله على النساء جهاد ؟ قال : نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة "
وبصورة عامة فإن الإسلام جعل الميدان الأول للمرأة البيت بنص الآيات والأحاديث والممارسة والتطبيق ، وجعل ميدان الرجل الأول خارج البيت ، ويبقى للمرأة دور خارج البيت غير مساوٍ للرجل ، وللرجل دور في البيت غير مساوٍ لدور المرأة .
ولا بد أن نؤكد أن للإسلام نهجاً متميّزاً غير نهج العلمانية والديمقراطية ومناهج الغرب في عمل المرأة والرجل . نهجان كما ذكرنا مختلفان . ولكن يبدو أن بعض المسلمين اليوم يريدون أن يبيّنوا أن الإسلام ديمقراطي وأنه علماني ، ففي مؤتمر إسلامي في استوكهولم أخذ داعية مسلم يدعو إلى الديمقراطية وأنها من الإسلام ، وفي باريس في مؤتمر إسلامي آخر قال داعية إن العلمانية مساوية للإسلام في مقصودها . وبعض الأحزاب الإسلامية أعلنت : لا تقولوا عنا إسلاميون نحن علمانيون !
نحن نمرّ بمرحلة فيها عواصف غربية وأمواج تكاد تكتسح . ما بالنا نريد أن نخرج المرأة المسلمة من مكانها الكريم الذي وضعها الإسلام فيه ، لنجاري الغرب في ديمقراطيته وعلمانيته . ونكاد نخجل من اتهام العلمانية لنا وادعائها بأن الإسلام حجر على المرأة . إن أفضل ردّ عليهم لا يكون بأن ندفع المرأة المسلمة إلى بعض مظاهر الغرب لندفع عن أنفسنا ادّعاءَهم . إن أفضل ردّ أن نقول لهم إن الإسلام أكرم المرأة وأعزها وحفظ لها شرفها وطهرها ، ونعرض الإسلامَ كما هو وكما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وكما مارسه المسلمون في عهد النبوة والخلفاء الراشدين .
المرأة المسلمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في أجواء النساء ، حيث لا يستطع الرجل أن ينشط هناك إلا في أجواء الاختلاط التي لم يعرفها الإسلام لا في نصوصه ولا في ممارساته . وللمرأة المسلمة أنشطة كثيرة تقوم بها دون أن تلج في أجواء لم يصنعها الإسلام . المنافقات يقمن بإفساد المجتمع مع المنافقين جنباً إلى جنب سواء بسواء كما نرى في واقع البشرية اليوم . أما المؤمنات فيصلحن في المجتمع بالدور الذي بيّنه الله لهنّ ، غير مساويات للرجال ولا ملاصقات لهن . دور بيّنه الله للنساء وللرجال لا نجده في الديمقراطية ولا في العلمانية ، ولا في تاريخ الغرب كله .
نعم ! إن أول من صدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت زوجه خديجة رضى الله عنها . ولكنها بتصديقها لرسول الله صلى الله عليه وسلم التزمت حدودها في رسالته ، فلم تنطلق خديجة رضي الله عنها في أجواء النشاط السياسي أو ميادين القتال أو مجالس الرجال . وكذلك كانت سمية أول شهيدة في الإسلام رضي الله عنها ، وكانت قبل استشهادها ملتزمة حدود الإسلام . والنساء اللواتي قاتلن في أحد أو حنين ، كان ذلك في لحظات عصيبة لا تمثل القاعدة في الإسلام ، كما بيناها قيل قليل ، فلم نَرَهنّ بعد ذلك في مجالس الرجال أو ميادين السياسة سواء بسواء كالرجال ، وإنما كنّ أول من التزم حدودهن التي بينها لهنّ الله ورسوله .
المرأة التي قامت تردّ على عمر رضي الله عنه في المسجد - إن صحت القصة - ، كانت في مكان تعبد الله فيه وتتعلم . وهو جو يختلف عن المجالس النيابية اليوم ، وكانت في مجتمع يختلف عن مجتمعاتنا اليوم . وهذه المرأة نفسها لو عُرِض عليها الأجواء المعاصرة لأبت المشاركة فيها ، وكثير من المسلمات اليوم يأبين المشاركة في الأجواء الحديثة .(/4)
ولقد سبق أن علّقتُ على قصة أم سلمة وقصة بلقيس . ولكنَّ هذا العرض الذي تفضل به فضيلة الدكتور القرضاوي يفرض علينا سؤالاً يلحّ علينا ، ذلك السؤال : لماذا نلتقط حادثة فريدة من هنا لم تتكرر ، وحادثة أخرى كذلك لم تتكرر ، حوادث لا تمثّل قاعدة عامة في الإسلام ، وبعضها أو كلها كانت في ظروف خاصة تتقيّد الحادثة بها ، لماذا نلتقط هذه الحوادث ونضع بناء عليها قانوناً عاماً لم يرد في الكتاب ولا السنّة ، ولا في التطبيق في عصر النبوة الخاتمة والخلفاء الراشدين ، العصرين اللذين أُمرِنا أن نتبعهما ، كما جاء في الحديث الشريف الذي يرويه العرباض بن سارية : " ... عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ... "
وأتساءل عن السبب الذي يدعو فضيلته إلى الحرص على إدخال المرأة المجالس النيابية العصرية ! لقد أصبح لدينا تجربة غنيّة في المجالس النيابية تزيد عن القرن ، فلننظر ماذا قدّمت للأمة المسلمة ، هل ساعدت على جمعها أم على تمزيقها ، وهل ساهمت في نصر أم ساهمت في هزائم ، وهل هذه المجالس التي نريد أن نقحم المرأة المسلمة فيها هي صناعة الإسلام وبناؤه ، أم أنها مثل أمور أخرى غيرها استوردناها من الغرب مع الحداثة والشعر المتفلّت المنثور وغيره من بضاعة الديمقراطية والعلمانية ؟!
وبصورة عامة ، فإنّ هذا الموضوع : مساواة المرأة بالرجل كما يقول بعضهم : " لقد قرّر الإسلام مساواة المرأة بالرجل " ! هكذا في تعميم شامل ، شاع هذا الشعار في العالم الإسلامي ، وأصبح له جنود ودعاة ودول تدعو إِليه . وكذلك : مساواة المرأة بالرجل في ممارسة الحقوق السياسية " ، هذا كله موضوع طرق حديثاً مع تسلل الأفكار الغربية إلى المجتمعات الإسلامية ، مع تسلل الديمقراطية والعلمانية ، كما تسلّلت قبل ذلك الاشتراكية .
هنالك عوامل كثيرة يجب أن تدرس وتراعى عند دراسة نزول المرأة إلى ميدان العمل السياسي الذي يفرض الاختلاط في أجواء قد لا يحكمها الإسلام من ناحية ، ولا تحكمها طبيعة العمل نفسه . والاختلاط مهما وضعنا له من ضوابط ، فقد أثبتت التجربة الطويلة في الغرب وفي الشرق إِلى انفلات الأمور وإلى التورط في علاقات غير كريمة .
وكذلك فنحن لسنا بحاجة لنزول المرأة إلى الميادين ، ففي الرجال عندنا فائض ، والرجال بحاجة إلى أن تدرس حقوقهم السياسية التي منحهم إياها الإسلام .
إن نزول المرأة إلى الميدان السياسي ذو مزالق خطيرة ، فعندما يُطلق هذا ويباح ، فهل معظم النساء اللواتي سيمارسن هذا العمل نساء ملتزمات بقواعد الإِسلام و بالحجاب و باللباس عامة .
إن إطلاق هذا الأمر ونحن لم نَبْنِ الرجل ولا المرأة ، والتفلّت في مجتمعاتنا واضح جليّ ومتزايد ، دون أن ينفى هذا وجود بعض النساء الملتزمات ، إن إطلاق هذا الأمر قد يقود إلى فتنة يصعب السيطرة عليها .
أولى من ذلك : علِّموا الرجل دينه ليؤمن به ويلتزمه ، وعلموا المرأة دينها لتؤمن به وتلتزمه ، فسيعرف الرجل المسلم الملتزم حدوده وميادينه ، وستعرف المرأة المسلمة الملتزمة حدودها وميادينها ، ويستغنون عندئذ عن كثير من الفتاوى .
وإني لأتساءل : لأيّ مجتمع تصدر هذه الفتوى ؟ ! ، لأيّ رجل وأي امرأة ؟! هل المجالس النيابية الحاليّة تصلح ميداناً للمرأة المسلمة لتمارس النشاط السياسي . أين هو المجتمع الذي يطبّق شرع الله كاملاً ، ليطلق فيه مثل هذه الأمور ، وهل هذه المجالس مجالس يسودها شرع الله .
وميادين العمل المباح للنساء واسعة جداً وكافية لهن ، وكلها منضبطة بقواعد الإسلام مثل المدرسات والطبيبات ، وكل عمل ليس فيه باب من أبواب الفتنة أو الاختلاط ، مع توافر جميع الشروط الشرعية الأخرى عند مزاولة هذه الأنشطة .
لا بدّ من الاستفادة مما حلَّ بأقوام آخرين حين انطلقت المرأة في المجتمع في هذا الميدان أو ذاك . وإذا نزلت ميدان السياسة فما الذي يمنعها أن تنزل إلى المصانع وسائر الميادين الأخرى ، كما نراها في العالم الغربي .
وأخيراً أقول .. : قبل أن نطلق هذه الآراء اليوم ، فلنبن الرجل ولنبن المرأة ولنبن المجتمع المسلم الملتزم بالكتاب والسنة حيث تكون كلمة الله هي العليا . هذا المجتمع سيكون أقدر على تحديد دور الرجل والمرأة .
وكذلك أتساءل لماذا هذه الضجّة الكبيرة عن المرأة وحقوقها ، ألا تنظرون إلى الرجل وحقوقه . في عالمنا اليوم فقد كثير من الرجال حقوقهم ، فلماذا تكون الضجّة على حقوق المرأة وحدها ، ففي ذلك ظلم للمرأة وللرجل .
والإسلام في نهجه جعل الحقوق والواجبات متوازنة في الحياة كلها من خلال منهاج رباني أصدق من سائر المناهج وأوفى وأعدل .
فلنبنِ الأمة ، فلنبنِ الرجل والمرأة والبيت المسلم والمجتمع المسلم الملتزم ، ولنبنِ الأمة المسلمة الواحدة .
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..(/5)
عن التصادم بين الثقافتين الغربيّة والإسلاميّة
د. غازي التوبة 19/6/1427
15/07/2006
إنّ نسبية الحقيقة إحدى الركائز التي تقوم عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة، ويربط المفكرون الغربيون بين تلك الركيزة وتغيّر الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع، ويعتقدون أنّ تغير الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة، ولكنّ تكوّن تلك الركيزة في الثقافة الغربية يعود إلى فترة أبعد من العصور الحديثة ويرتبط بالعصور الوسطى، فمن المعروف أنّ الكنيسة كانت تنطلق آنذاك في حكمها لأوروبا من نص "الإنجيل المقدس" ، والذي كانت تحتكر تفسيره، وعندما قامت حقائق علمية وكونية متعدّدة تناقض النص "المقدس" الثابت، وتناقض تفسير رجال الكنيسة له وقع التصادم المريع بين الدين والعلم، وكانت النتيجة اضطهاد رجال العلم بحجة مخالفة النص المقدس الثابت، ولكنّ الكنيسة انهزمت أمام الثورة عليها وأمام حقائق العلم، واعتبرت الثورة رجال الدين عقبة في طريق العلم والتقدم، وصار الربط حينئذ بين النص المقدس وثبات الحقيقة، والعلم ونسبية الحقيقة.
ومنذ أن بدأ التفاعل بين الثقافتين: الغربية والإسلامية خلال الفترة الماضية، فإنّ أبرز صور التصادم كانت بين نسبية الحقيقة في الثقافة الغربية وبين النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة في الثقافة الإسلامية، وسأعرض لبعض صور التصادم في السطور التالية.
من أول صور التصادم ما أثاره طه حسين في كتاب "في الشعر الجاهلي" عام 1926م، فقد تعرض لنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة تحدثت عن بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام للكعبة، وتشكك في تلك الحقيقة، وحتى في وجودهما التاريخي، وفي هجرتهما، ورأى أنّ قريشاً اختلقت تلك القصة لأسباب سياسية واقتصادية، ورأى فيها نوعاً من الحيلة لإثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية، والقرآن والتوراة من جهة أخرى.
ومن صور التصادم أيضاً حديث الدكتور حسين أحمد أمين في كتابه "حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية" عن حد السرقة الذي ورد في نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة في قوله : (والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيدِيَهما جزاءً بما كَسَبا نَكالاً مِنَ- سبحانه وتعالى - اللهِ). [المائدة،38]، فقد ربط الدكتور بين ذلك الحدّ وبين الوضع الاقتصادي في الجزيرة العربية آنذاك، وبيّن أنّ العربي كان ينقل كل متاعه على راحلته، وإنّ سرقته تعني سلبه كل ما يملك من جهة، وتعني هلاكه من جهة ثانية، لذلك جاء الحكم بتلك الصورة لأنه مرتبط بالأموال المنقولة، والآن أصبحت الأموال غير المنقولة أثمن وأغلى من الأموال المنقولة لذلك فهو يقترح تغيّر الحكم انطلاقاً من تغيّر الوضع الاقتصادي.
أما الدكتور نصر حامد أبو زيد فقد تحدّث في كتابه "نقد الخطاب الديني" عن النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة في عدة مجالات منها: صفات الله وفي مجال آخر هو الحسد والسحر والجن والشياطين، وقد اعتبر أنّ الألفاظ الأخيرة مرتبطة بواقع ثقافي معين، ويجب أن نفهمها في ضوء واقعها الثقافي، وإنّ وجودها الذهني السابق لا يعني وجودها العيني، وقد أصبحت الآن ذات دلالة تاريخية، والدكتور نصر حامد أبو زيد في كل أحكامه السابقة ينطلق من أنّ النصوص الدينية نصوص لغوية تنتمي إلى بنية ثقافية محدودة، تم انتاجها طبقاً لنواميس تلك الثقافة التي تعد اللغة نظامها الدلالي المركزي، وهو يعتمد على نظرية عالم اللغة "دي سوسير" في التفرقة بين اللغة والكلام، وينتهي الدكتور نصر حامد أبو زيد إلى ضرورة إخضاع النصوص الدينية إلى المناهج اللغوية المشار إليها سابقاً.
أما الدكتور محمد شحرور في كتابه "الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة" فقد اعتبر أنّ جميع النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة في مجال الحياة الاجتماعية: كالنكاح، والطعام، وفي مجال الحدود: كحد السرقة، والزنا، والحرابة، والقتل، العمد الخ ...، وفي مجال الأحكام: كتوزيع الميراث، وأخذ الربا الخ ... اعتبر جميع تلك النصوص خاضعة لاجتهاد رسم له حدين: أدنى وأعلى، وقد اعتبر أنّ سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي اجتهاد محمد -صلى الله عليه وسلم- لتطبيق حدود الإسلام ضمن بيئة الجزيرة العربية، وبالتالي فإنّ تطبيقه لها ليس ملزماً لنا في شيء.(/1)
لاشك أنّ نسبية الحقيقة هي الناظم الذي يشمل كل تلك الطروحات بدءاً من تشكيك طه حسين في الوجود التاريخي لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وفي واقعة بنائهما الكعبة، ومروراً بربط الدكتور حسين أحمد أمين لحد السرقة بظاهرة الأملاك المنقولة، وباعتبار الدكتور نصر حامد أبو زيد السحر والحسد والجن والشياطين ألفاظاً ذات دلالات تاريخية، وانتهاء باعتبار الدكتور محمد شحرور جواز تأرجح الحدّ بين اجتهادين أعلى وأدنى ... ولا أريد أن أكرر الحديث عن الخصوصية التاريخية التي جعلت ثقافة الغرب تقوم على نسبية الحقيقة، ولا أريد أن أفصل مناقشة رأي كل كاتب فيما يتعلق بالنصوص القطعية الثبوت، القطعية الدلالة التي تعرّض لها؛ فقد فعلت ذلك في مواضع أخرى أو فعل غيري ذلك، ولكني أردّ موجزاً مختصراً فأتساءل: هل يجوز لطه حسين أن يرد نصوصاً قطعية الثبوت قطعية الدلالة في شأن وجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وفي شأن بنائهما الكعبة من أجل وجود أساطير مشابهة قبلها الرومان عن بناء روما من قبل بإينياس بن بريام صاحب طروادة اليوناني؟ لماذا يربط الدكتور حسين أحمد أمين بين حدّ السرقة والأموال المنقولة، ولا يربط ذلك بفعل السرقة الشنيع وما يشتمل عليه من ترويع وتخويف واعتداء على المسروق وما يصوره من طمع السارق ودناءته وتطلّعه إلى ما في يد الغير بغير حق مشروع؟ لماذا يعتبر الدكتور نصر حامد أبو زيد الكلمات: السحر والحسد والجن والشياطين ألفاظاً ذات دلالات تاريخية؟ فهل نفى العلم بشكل قطعي وجود حقائق عينية لتلك الألفاظ حتى نعفي عليها ونعتبرها ألفاظاً لا حقائق لها وذات دلالات تاريخية؟ لماذا يُخضع الدكتور محمد شحرور كل الألفاظ القرآنية للتحليل اللغوي المعجمي مع أنّ الإسلام أخرج كثيراً من الألفاظ من معناها اللغوي وجعلها مصطلحات أعطاها معاني أخرى أمثال: الصلاة، الزكاة، الإيمان، الكفر، الحدّ الخ ...، وعليه أن يحترم هذه المصطلحات عند أيّ بحث علمي؟
والآن أعود إلى نسبية الحقيقة التي تتصادم مع النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة الذي يؤدي إلى ثبات الحقيقة، وأتجاوز الظروف التاريخية التي جعلت نسبية الحقيقة جزءاً أساسياً من ثقافة الغرب والتي تختلف عن ظروفنا التاريخية وأتساءل: هل حقاً ليس هناك ثبات في الحقيقة؟ ومن أين جاء النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة في ثقافتنا الإسلامية؟ وما سنده الواقعي في صيرورة الكون؟
لقد جاء النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة الذي يشير إلى ثبات بعض الحقائق من الفطرة الثابتة التي لا تتغيّر، قال : (فِطْرَةَ اللهِ التي فَطَرَ الناسَ عليها لا تَبْديلَ لخَلْقِ اللهِ). [الروم،30]، فطالما أنّ هناك فِطرة ثابتة لا تتغيّر فهناك حقائق ثابتة لا تتغيّر، وهذا ما قادت الظروف التاريخية أوروبا لإنكاره، وليس بالضرورة أن يكون الصواب مع أوروبا(/2)
عن الجهد الحركيّ الإسلاميّ وقفة للنقد
أ. د. عماد الدين خليل 21/6/1427
17/07/2006
إن الحديث عن محاولة النقد الذاتي، أو تعديل الوقفة، أو تقديم البدائل الأكثر فاعلية وجدوى، أو طرح مقترحات عمل .. إلى آخره .. لن تأخذ مسارها الصحيح بالضرب على غير هدًى، ولابدّ ـ أولاً ـ من معرفة طبقات أو محاور الجهد الإسلامي وهي، إذا أردنا أن نبدأ بالأكثر عمومية، تأخذ الترتيب التالي:
1- المستوى الحضاري: الأمة والعالم.
2- المستوى السياسي: الدولة والسلطة.
3- المستوى الدعوي: القطر.
4- المستوى الاجتماعي: المدينة.
5- المستوى السلوكي والشعائري: الفرد.
وهي مستويات يفضي بعضها إلى بعض ويقوم أحدها على الآخر، كما أنها لا تعمل بمعزل عن الأخريات، فهي تنطوي في اللحظة الواحدة على السياقات كافة. لكن البؤرة الأساسية لكل مستوى تتمركز عند الحضاري حيناً، وعند السياسي أو الدعوي حيناً آخر، وعند الاجتماعي أو السلوكي أو الشعائري حيناً ثالثاً.
في الإسلام والنشاط الإنساني عموماً ليس ثمة فواصل أو جدران نهائية في الفاعلية.. هذه مسألة معروفة، لكن التخصص له أحكامه ولابد ـ ابتداء ـ من إدراك مركز الثقل في الفاعلية وهدفها الأساس في ضوء خارطة نستطيع بوساطتها أن نحيل كل مفردة أو مقترح إلى مستواها النوعي، ثم نتحدث عن أهميتها ودورها في الإضافة أو التعديل، وصوغ معالجتها التي تمكنها من تجاوز الأخطاء، والمضي إلى الهدف بأكبر قدر من الفاعلية، والاقتصاد في الجهد والزمن.
إننا في ضوء هذه الخارطة سنحدد هدف الجهد ابتداءً، فلا يتداخل أو يتميع أو يضرب في التيه. وسواء كان هذا الجهد درساً يُعطى أو محاضرة تُلقى أو مقالاً يُكتب أو بحثاً يؤلف، وسواء كان تبادلاً في الرأي أو حواراً، فإن الذي يقوده إلى هدفه ويحميه من الهدر والتشتت والضياع إنما هو تحديد المحور الذي يتحرك فيه، أو المستوى الذي يتعامل مع بعض ظواهره ومفرداته، هل هو المستوى الحضاري؟ أم السياسي؟ أم الدعوي أم الاجتماعي أم السلوكي أم الشعائري؟
والذي يحدث في كثير من الأحيان أن يتداخل الحضاري بالدعوي، والسياسي بالاجتماعي، وتختلط الأوراق، وتضيع البؤرة التي يتحتم أن يتمحور عندها الجهد لكي يكون أكثر فاعلية وعطاءً ..
هذه هي واحدة من البوابات التي دخل منها الاضطراب؛ فضيع على الإسلاميين الكثير من الجهد والزمن، وجعلهم يدورون ـ أحياناً ـ في حلقة مفرغة؛ إذ ما يلبثون أن يجدوا أنفسهم، بين فترة وأخرى، عند نقطة البداية.
وعلى سبيل المثال فإن "المشروع الحضاري" الذي تدعو إليه بعض المؤسسات والجماعات الإسلامية، ينطوي على فضاء واسع قد يمتد إلى العالم كله، فيتعامل معه بمنطق الصراع أو الحوار الحضاري الذي يتطلب إدراكاً لقوانين الحركة التاريخية، وصيرورة الحضارات، ويسعى لاكتشاف عناصر القوة والضعف في هذه الحضارة أو تلك، وإلى الميزات الجوهرية لحضارة الإسلام التي تؤهلها؛ لأن تكون البديل المرتجى، ليس على مستوى جغرافية الإسلام وحده، وإنما على مدى العالم كلّه، تلك الميزات الخصبة المتنوعة من مثل: الرؤية التوازنية لهذه الحضارة بين الوحي والوجود، والمادة والروح، والعدل والحرية، والفرد والجماعة، والعقل والوجدان.. وسائر الثنائيات الأخرى. ومن مثل قدرة هذه الحضارة ـ بخلاف سائر الحضارات المندثرة ـ على التجدّد والانبعاث انطلاقاً من شبكة تأسيساتها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن مشروعاً كهذا ينطوي على فضاء عالمي يمثل جهداً يختلف في طبيعة توجهه مع أي جهد دعوي محدّد تمارسه هذه الجماعة أو تلك، وهذا الفرد أو ذاك، في دائرة حيّ أو مدينة أو قطر أو بيئة جغرافية، كما أنه يختلف عن أي جهد اجتماعي يستهدف إقامة بعض المؤسسات الاقتصادية أو الاجتماعية أو الترفيهية التي تحكمها قيم الإسلام وضوابطه. وهو يختلف بالضرورة ـ كذلك ـ عن أي نشاط سياسي قد يعتمد هذه الفرصة (الديمقراطية) ـ إذا جاز التعبير ـ أو تلك، ورفع خطابه وتأكيد مصداقيته أمام الجماهير، والتقدم خطوات إلى الأمام.
صحيح أن هذه الأنشطة، بدءاً من حجر الزاوية ونقطة الانطلاق المتمثلة بإعادة صياغة السلوك، والالتزام التعبّدي، بما يجعل الفرد مهيّأً تماماً للمراحل التالية، مروراً بالأنشطة السياسية أو الدعوية أو الاجتماعية .. إنما تؤول جميعاً إلى هدفها الحضاري الشامل وتصبّ في البؤرة الواحدة التي تستهدف إعادة صياغة السعي البشري في هذا العالم، بما يريده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إلا أن هذا المنطوق التكاملي في الجهد يجب ألاّ يسوق الإسلاميين إلى تداخل الرؤية واضطراب الحلقات، وعدم تبيّن الحدود الممكنة للجهد الإسلامي في هذا المجال أو ذاك.(/1)
إننا إذا استطعنا ـ منذ البدء ـ أن نحدّد طبيعة الجهد، أو أن نحيله إلى مستواه المحدّد على خارطة العمل: حضارياً أو سياسياً أو دعوياً أو اجتماعياً أو سلوكياً .. قدرنا على الوصول إلى الهدف بأقل قدر من الإسراف في الطاقة والزمن، وبالتركيز الضروري الذي يعطي ثماراً أكثر نضجاً.
لا يتسع المجال للدخول في المزيد من التفاصيل، وقد تكفي هذه التأشيرات العامة من أجل تبيّن موضع أقدامنا في كل حلقة من حلقات الجهد الإسلامي، وإحالة هذا الجهد إلى دائرته الحقيقية لكي يتسلسل العمل وفق برنامج مرسوم، يبدأ بأعمق نقطة في وجدان الإنسان الفرد لكي يمضي إلى العالم كلّه مبشراً بمشروعه الحضاري البديل.
والآن .. فإن هذا ـ بإيجاز شديد ـ هو أحد وجهي "المشكلة"، ويبقى هناك الوجه الآخر الذي لا يقل أهمية، والذي مارس ـ هو الآخر ـ دوراً خطيراً في عرقلة الجهد الإسلامي وتفتيته، وربما تضييعه.
فإذا كانت المعضلة في الوجه الأول تنطوي على اضطراب في حلقات التسلسل العمودي الصاعد للجهد الإسلامي الذي يبدأ بالفرد، وينتهي بالمشروع الحضاري، فإن هذه المعضلة ـ في الوجه الآخر ـ تبدو في غياب أو اضطراب المنظور الأفقي، وضياع خرائط العمل المحكم الذي يضع في حساباته وهو يعاين المنظور، تغاير البيئات، بكل ما ينطوي عليه مصطلح البيئة من مفردات ومواصفات، وبالتالي ملاحظة اختلاف المطالب والحاجات وصيغ العمل بين بيئة وأخرى.
إن المقتل الأشد خطورة، كان عبر القرن ونصف القرن الأخير، يتمثل في عدم الالتفات إلى هذه الحقيقة. والبداية الصحيحة تكون ها هنا: إن الجهد أو النشاط يجب أن يضع نصب عينيه مواصفات البيئة التي يتحرك فيها وينسج خيوطه .. فإذا كانت بيئة ما تصلح للنشاط الديموقراطي أو السياسي، فإن بيئة أخرى قد تتطلب، في لحظة تاريخية محدّدة، نشاطاً جهادياً أو تربوياً أو علمياً أو عقلياً أو اجتماعياً .. أو حتى روحياً صرفاً ..
إن التاريخ لا يُقاس بالمسطرة والبركال، والحركة التاريخية تستعصي على الأسر في نمطية محدّدة .. والتعامل مع البيئات كلها كما لو كانت "حالة واحدة"، بغض النظر عن موقعها في الزمن أو المكان ، يتناقض ـ ابتداء ـ مع منهج الدعوة وطرائقها في عصر الرسالة حيث يُلاحظ أن صيغ العمل في العهد المكي هي غيرها في العهد المدني. بل إنها في العهد المكي نفسه كانت تتعامل مع اللحظة التاريخية بصيغ مختلفة، فكانت هناك سنوات العمل السرّي، والنشاط المعلن، واعتماد الهجرة الموقوتة وسيلة للتخفيف عن الضغط وحماية الذات. كما أن العهد المدني شهد هو الآخر، إلى جانب أو بموازاة الخط الجهادي العام، وخط بناء الدولة الإسلامية، تغايراً في صيغ العمل؛ فكان هناك التحالف المرحلي، والصلح الموقوت، والإعلان العام لتصفية الوجود الوثني .. إلى آخره ..
لقد اجتازت الدعوة الإسلامية في عصر الرسالة مراحل شتى بدءاً ببناء الإنسان المسلم، مروراً بإقامة دولة الإسلام، وانتهاء بصياغة التأسيسات الأولى لشبكة الشروط الحضارية التي وضعت الجماعة والأمة المسلمة قبالة العالم، بخصائصها المتميزة وفاعليتها التي مكنتها عبر عقود معدودة من الزمن أن تصوغ حضارتها الخاصة بها.
وما لم ننصت جيداً لنداء اللحظة التاريخية، ونتابع بوعي وتبصّر عميقين مواصفات المكان .. ما لم ندرك ابتداء أن الحركة التاريخية تنطوي دائماً على الثابت والمتحوّل معاً،
وأن علينا أن نضع في المنظور كلا القطبين، فإننا سننزلق ـ شئنا أم أبينا ـ إلى مواقع الخطأ والهدر، وسنحكم على أنفسنا ـ كرة أخرى ـ بالدوران في الحلقة المفرغة، حيث العودة بين حين وآخر إلى نقطة البداية.
إن العديد من الحركات الإسلامية أخفقت، أو تباطأت حركتها على أقلّ تقدير؛ لأنها لم تلتفت إلى هذه الحقيقة، أو لم تعرها اهتماماً كبيراً، فمضت لكي تتعامل بمنطوق الإعداد التربوي مع وضع تاريخي يتطلب جهاداً.. أو أعلنت الكفاح المسلح في وضع يتطلب إعداداً تربوياً .. أو نزلت تحت الأرض في بيئة تسمح لها بالعمل في الهواء الطلق .. أو كشفت عن نفسها في ظرف يعد فيه الانكشاف انتحاراً.. أو اصطرعت مع خصومها سياسياً بينما كان الأمر يتطلب نشاطاً تثقيفياً أو دعوياً صرفاً، أو انعزلت في وقت يكون فيه العمل الجبهوي فرصة جيدة.
وثمة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مؤشرات وضوابط غنية تؤكد ثقل المتغيرات التاريخية وضرورة التعامل الحذر معها، يمكن الاكتفاء بشواهد محدودة منها في موجز كهذا:
1- الآيات القرآنية الخاصة بالتقابل العددي.
2- حرب السرايا في بدء العصر المدني والحروب النظامية فيما بعد.
3- السرية المطلقة في فتح مكة، وإعلان النفير العام وكشف الهدف، في تبوك، واعتماد قادة احتياطيين في مؤتة، وأسلوب الشورى في بدر وأحد، والانفراد بالرأي في الحديبية.(/2)
4- تدمير الجماعات الكافرة الذي يعتمد قوى الطبيعة (من مثل الصيحة، الحاصب، الخسف، الطوفان .. الخ) في مراحل تاريخية معينة، واستبدالها بإعجاز الكلمة الإلهية في مرحلة أخرى تتميز بالرشد العقلي.
5- إعادة تصنيف خصوم الإسلام في ضوء المعطيات التاريخي(/3)
عن الصبر في بداية الدعوة
الحلقة (23) الجمعة 10 ربيع الثاني 1396هـ - 9 نيسان 1976
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون فالذي لا شك فيه أن تغيراً ما طرأ على مخطط الأبحاث التي أردنا إلقاءها في هذه السلسلة من الخطب -والخير فيما اختاره الله- فلقد كنت في فواتح هذه الأحاديث وعدتكم بمواعيد أجدني الآن مضطراً إلى سحب معظمها؛ وقد ينبغي أن أقول بصراحة إن المناقشات التي أجريتها مع العديد من الإخوة حول عدد من القضايا التي بعثرتها أثناء هذه السلسلة من الأحاديث آلمتني وآذتني؛ أما أنها آلمتني فالمستوى الذي أرغب أن يكون أفضل مما هو عليه، وأما أنها آذتني فلأنني أخطأت الحساب لقد تبين لي أنني بحاجة إلى أن أبدأ مع الناس من الصفر في كثير من القضايا التي ظننت أنها تحل في مكان البداهة من عقول المسلمين؛ ولكن أكرر لقد أخطأت الحساب، ولهذا فكما قلت والخير فيما اختاره الله- قررت إدخال تعديل حاسم على الخطة التي وعدتكم بها وأن أفرغ اليوم من هذه السلسلة وأنفض يدي منها وأن أستريح وأريح على غير وعد باللقاء مرة ثانية لكن الأمانة التي نحملها تفرض علينا أن نقول لكم اليوم كلاماً محدداً أعطوني أسماعكم وأعطوني قلوبكم؛ أنا مضطر إلى أن أكثف ما أمكن هذا الذي أريد أن أقوله لكم؛ خلصنا من أحاديثنا الماضية إلى عدد من الأمور ظني أنها نافعة إن شاء الله تعالى واليوم أحب –وقفزاً من فوق كل الاعتبارات أحب أن أواجه معكم معضلة المسلمين، مشكلة العمل الإسلامي كله بأسسها وبجذورها وأن أواجهها معكم مواجهة الرجال الذين لا يدفنون رؤوسهم في الرمال لا يتغافلون عما يجري من حولهم في فضاء الله الواسع وكونه الفسيح.. بغير مقدمات دعونا نواجه هذه الأسئلة:
أولاً: ماذا نريد.
ثانياً: أية وسيلة ينبغي إعدادها لمواجهة ما نريد.
ثالثاً: ما هي النتائج التي تنتظرنا في الطريق.
رابعاً: ما الموقف حيال هذه النتائج.
خامساً: هل في سوابق العمل الإسلامي ما يمكن أن يضيء لنا آفاق المستقبل ولو بعض الشيء.
هذه الأسئلة ينبغي أن نواجهها بصراحة وبشجاعة. ما الذي نريد. لكل الناس أقول هذا الكلام للذين يتعاطفون معنا وللذين يتسقطون زلتنا أو يتصورون هذه الزلة، لكل الذين يشتركون معنا في الطريق وأيضاً للذين لا يشتركون معنا في الطريق، فالحق أن الأمة تحتشد بهامش كبير من الناس لا تحل القضايا الإسلامية من اهتماماتهم المحل اللائق بها، أيضاً لهؤلاء أوجه هذا الكلام وأسوق هذا الحديث؛ من لم يفتح اليوم عينيه فإن حوادث المستقبل القريب كفيلة بأن تفتح عينيه. نحن نريد طبعاً الإسلام وهذا كلام أصبح لكثرة تكراره مبتذلاً ولا أريد أن أعطي هذه الإجابة الرخيصة لهذا السؤال الأساسي إنما أريد أن أفهم وأن تفهموا. أيُّ إسلام هذا الذي نريده؟ أهو الإسلام المتقوقع داخل الغرف وبين الجدران وتحت الأقبية، أم هو الإٍسلام المتطلع إلى الكون الممتد في الزمان وفي المكان على سواء.
أهو الإسلام الذي نريده لنصلح به مدينة أو نصلح به قطراً أم هو الإسلام الذي نحمله للناس من شاركنا فيه ومن لم يشاركنا رسالة إنقاذ ورسالة تمدين ورسالة طمأنينة وسلام.
قبل اليوم قلت إنني حريص على أن أجسم الغاية أمام أنظار الشباب وأن أضع المهمة بكاملها في مواجهتهم وأضعهم في مواجهتها ليكون لنا من الغاية الكبير ما يحفز الهمم وما يبعث النشاط ويفجر الإمكانات واليوم في أحلك الظروف منذ أن نبأ الله تعالى نبيه صلوات الله تعالى عليه وآله، والنبي صلى الله عليه وسلم يعرف مكانه من الإنسانية يعرف واجباته حيال هذه الإنسانية كان يعلم أنه الرسول الخاتم إلى الناس عامة وأنه من فساد التصور أن يقتصر في تطلعاته على مكة أو المدينة أو الجزيرة العربية، اهتماماته كانت أبعد من ذلك بكثير يوم كان العذاب ينصب على المسلمين بلاء كاسحاً وعذاباً واصباً وينال المستضعفين وينال غير المستضعفين، ويوم كانت الدعوة تطارد وتحارب في جنبات مكة ليس لها من يعتنقها ومن يؤمن بها إلا أفراد قلائل يعدون على أصابع اليدين؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع بنظره وبهمته نحو الأفق المتراحب باستمرار، كانوا يعذبون وهم بشر ينالهم من الضيق والألم ما ينال سائر البشر.
وقام رجل فقال يا رسول الله ألا ترى ما نحن فيه؛ عذاب لا تقوم له الجبال جو مظلم وكفر ليس فيه بارقة أمل يا رسول الله ألا تدعو الله لنا ألا تستنصر لنا.
ويجيب النبي الحكيم صلوات الله عليه بعد نظرة حانية إلى هذه الجسوم المعذبة إلى هؤلاء الصفر المهازيل، إلى هؤلاء النكرات الذين سيكونون بعد زمن قليل قادة الدنيا وسادة الناس يقول لهم مثبتاً ومطمئناً وفاتحاً أبواب الأمل على رحبها:(/1)
"إن من كان قبلكم كان يؤتى به فيربط على شجرة ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق نصفين وكان يمشط ما دون لحمه وعظمه بأمشاط الحديد، ما يصدُّه ذلك عن دين الله والله ليتمنًّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى الحيرة لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون".
إن هذا الأمر سيتم؛ هذه بشارة متى كانت هل كان في الحساب ما يشجع على إطلاقها هكذا بكل هذه الثقة وبكل هذه الطمأنينة إلى تحقيق وعد الله تبارك وتعالى لم يكن في الجو شيء يشير إلى قرب انفراج الأزمة وإلى قرب تحسن الأحوال ومع ذلك فالنبي عليه السلام يؤكد إتمام الله لهذا الأمر ويؤكد من ناحية أخرى أن سنة الله مع الدعاة مضت أن النصر يأتي في أعقاب الصبر، وأن الصبر ليس كلاماً يقال ولكنه معاناة واحتمال وأن الاستعجال وتعجل الثمار وتعجل النصر ليس من شيم المؤمنين ولا من طباع المتقين.
كان الأصحاب ينظرون إلى مكة ويرغبون لو تنفرج الأحوال في مكة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتد بنظره في الآفاق أيضاً حينما هاجر النبي صلى الله عليه وآله من مكة إلى المدينة هاجر الأصحاب مستخفين فارين بدينهم لائذين بالله تبارك وتعالى وخرج النبي عليه الصلاة والسلام مستخفياً كذلك كما تعلمون رصدت قريش رصدها في الطريق ووضعت الجوائز وبثَّت العيون والأرصاد، وبعثت الجواسيس في كل مكان تتعقب النبي صلى الله عليه وسلم تريد أخذه حياً أو ميتاً في هذه الأثناء وحين كان النبي صلى الله عليه وسلم يمضي في طريقه إلى المدينة أدركه طلب قريش أدركه سراقة بن جعشم طامعاً في الجائزة راغباً ومصمماً على أخذ النبي صلى الله عليه وسلم وإعادته إلى قريش وكان ما كان وحين أمن النبي صلى الله عليه وسلم سراقة هذا استدناه وقال له: يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى"؟
استغرب الرجل قال يا رسول الله كسرى بن هرمز.
قال نعم كسرى بن هرمز.
من الذي يقول هذا الكلام رجل مطارد تثور من حوله عواصف الزمان فتتجاوب معها عواصف القلوب، قلوب الأعداء وتطلبه تحت كل كوكب لتفتك به، لم يستقر بعد في المدينة وأصحابه ما زالوا قلة ومع ذلك يطلق هذه البشارة الخطيرة:
"كيف بك إذا لبست سواري كسرى"؟
أين هذا الكلام من واقع الحال، لو أن رجلاً قاله غير محمد صلى الله عليه وسلم لرمي بالجنون واتهم بالتخريف ولكنه محمد صلوات الله وسلامه عليه وتمضي الأيام تتبعها السنون ويختار الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى دار كرامته ويقوم أبو بكر ويختاره الله إلى جواره ويقوم عمر وتبعث البعوث إلى العراق لتدك ملك كسرى وتأتي أسلاب العرش الكسروي إلى المدينة بعد أن تم افتتاح المدائن وينظر عمر أمير المؤمنين فيلمح سواري كسرى تدمع عيناه للبشريات التي قيلت في أحلك الظروف وتدمع عيناه لما هو أهم لتلك الرفقة الطويلة مع محمد صلى الله عليه وسلم، كيف كان يقود وكيف كان يسوس وأية ثقة تلك التي كان يملكها ذلك الإنسان؛ فينادي في الناس:
"أفيكم سراقة"؟
يقول: نعم ها أنا ذا يا أمير المؤمنين.
يقول عمر تعال فالبس سواري كسرى.
تحقيقاً لموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي الرجل يرفع يديه ويلبس سواري ثاني عاهلين في العالم القديم على الإطلاق ويقول:
"الحمد لله الذي سلبهما كسرى وألبسهما سراقة بن جعشم أعرابياً من بني مدلج".
كيف يكون هذا؟ كيف يتحقق لو لم يكن الرسول صلى الله عليه وآله واثقاً أعظم الثقة بوعد الله تبارك وتعالى، وبأن الله الذي اختاره للرسالة واختار هذه الأمة لحمل هذه الأمانة، ولن يضيع هذه الرسالة ولن يضيع هذه الأمة ما حملت هذه الرسالة أيضاً.
بعد أن استقر المسلمون في المدينة واشتد كَلَبُ وقريش من حولهم من الأعراب، وحاولوا الانقضاض على المدينة للفتك بالمسلمين والخلاص منهم مرة واحدة، كان ما يعرف بغزوة الأحزاب وبإشارة من سلمان رضي الله عنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة.. نوع من التحصين وبينما المسلمون يذهبون ويدأبون بعملهم هذا، اعترضتهم صخرة حاولوا كسرها وتفتيتها فما أفلحوا فجاءوا يبسطون أمرها للنبي صلى الله عليه وسلم قالوا له يا رسول الله قد أكلت المعاول فأخذ معولاً ونزل في الخندق وضرب الصخرة للمرة الأولى فتطاير بعضها وتطاير معه شرر فصاح الله أكبر فُتحت فارس ثم ضربها ثانية فانكسرت وتطاير منها شرر وقال الله أكبر فتحت الشام، ثم ضربها الثالثة فتفتت وتطاير منها شرر فصاح الله أكبر فتحت مصر، في أي موقف كان هذا الكلام؟ كان المسلمون محصورين وكان المنافقون يرجفون في المدينة أن الإسلام قد قضي عليه:
(وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً).
كما قص الله جل وعلا في سورة الأحزاب؛ ومتى؟ في وقت اشتدت فيه الحال وتأزم الموقف. المسلمون..! إنهم يكادون يتخطفون من أرضهم:
(وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً).(/2)
في ذلك الموقف الذي يسخر بعض المنافقين فيه حينما رأى هذا المنظر، فيقول ما يفعل هذا الرجل أهذا محمد يعدنا بفتح العراق والشام ومصر وسائر بلاد الدنيا، وأحدنا يريد أن يبول فلا يجسر على الخروج من بيته لشدة الهول وعظم الخوف -مع ذلك- فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعد بهذه المواعيد؛ هل كانت مواعيده تنصب على المدينة كي يفك عنها طوق الحصار ويفرج عن المسلمين.. لا.. ولكنها تنهض إلى ما هو أبعد، تذهب لتشمل الدنيا كلها، تذهب لتؤكد أن هذا الركب الذي سار لن يتوقف؛ وأن هذه الرسالة لن تتعطل أبداً.
أيضاً في حديث ممتع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عدي بن حاتم رضي الله عنه حين وفادته إلى رسول الله مسلماً، قال له النبي صلى الله عليه وسلم يا عدي بن حاتم أقدمت الحيرة قال لا يا رسول الله ولكني سمعت بها قال له فليوشكنّ –والله- أن تسير الظعينة من هنا إلى الحيرة، لا تخاف أحداً إلا الله الظعينة هي المرأة التي تركب على ظهر البعير في هودجها تسير وحدها من المدينة إلى الحيرة، لا تخاف أحداً إلا الله يا عدي بن حاتم لعلك ترى أن المسلمين فيهم ضعف؛ فأكد له أن القوة ستأتي يا عدي بن حاتم لعلك ترى أن في المسلمين قلة في المال والله لتفتحن كنوز فارس وقيصر، ولتنفقنها في سبيل الله تعالى.
يقول عدي بعد حين فنحن والله فتحنا فارس وفتحنا الشام وأنفقنا كنوز الدولتين في سبيل الله تعالى وهذه الظعينة تسير من هنا إلى الحيرة لا تخاف أحداً.
ووعد آخر لا يشك عدي رضي الله عنه في أنه كائن وهو ما قاله له النبي عليه السلام: وليفيضنّ المال حتى إن الرجل ليطوف بصدقته على الناس لا يجد أحداً يقبلها منه، يقول له لو جئتني البارحة لأخذتها منك أما اليوم فقد كفيت، لا يشك عدي في أن هذا أيضاً كائن.
ما الذي أريده من هذه الوقائع التي حرصت أن أضعها أمام أنظاركم أريد أن تتراحب آفاقكم، وأن تتسع نظرتكم وأن تعلموا أن عند الله من الفرج والأمل ما لا تبلغه قواكم ولا تبلغه عقولكم والمهم. المهم. الأساسي، أن الرجل المسلم عليه أن يعرف أية رسالة يحمل، وعليه أن يبتعث في صدره وفي قلبه من الهمة ما يكافئ هذه الرسالة، وما يقوم لها؛ أما حينما نشغل أنفسنا بالاهتمامات الصغيرة وبالقضايا القريبة فلا يمكن أن نعطي أية نتيجة؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس كافة وأنتم خلفاء محمد صلى الله عليه وسلم وكما كان هو عليه السلام رسولاً إلى الإنسانية فأنتم أيضاً رسل رسول الله إلى الإنسانية، أيضاً فاجعلوا هدفكم يتسع لهذا الأمر، واعلموا أن الإنسان حينما يستهدف لأداء رسالة عظيمة تشمل الكرة الأرضية كلها، لا بدًّ له من أن يسأل: ما الذي ينتظرنا ونحن نريد أن نؤدي هذه الرسالة؟ الذي ينتظرنا دون شك عنف وشراسة وعداء ومطاردة، وأنا أحب أن تضعوا هذا كله أمام أنظاركم من البداية ليلهك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بَيِّنة وليعرف كل أحد مخاطر الطريق.
ومشقات الطريق هذا الإسلام واسع بسعة الدنيا وما دام هذا الإسلام واسعاً وما دام هذا الإسلام ينتظم شؤون الفرد والجماعة ابتداء من خبزه اليومي وانتهاء بأعلى أشواقه الروحية فلا بد أن نعلم أن كل إطار للعمل ينسج على منوال الحزبيات ويأخذ بطرائق الناس المتعارفة اليوم فمصيره الفشل؛ إن هذه الأطر أضيق من أن تتحمل الإسلام أضيق من أن تستوعب الإسلام أضيق من أن تضم الإسلام إطار الإسلام أوسع من هذا عموماً.
ولقد أذكر الآن أني خلال الأسبوع الماضي تحدثتُ إلى بعض الإخوة وتساءلت حينما جاءت الرسالة ونزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل كَوًّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حزباً.. لا. إن رسول الله لم ينشئ حزباً ولكنه أنشأ رابطة، وبين الحزب والرابطة فرق يعرفه أولو الألباب. في الحزب دعاوى وترهات وإطار ضيق ومجال للمفاوضات، في الحزب وعادى عريضة لا يقوم لها إلا الذين سفهوا أنفسهم، ولم يحترموا الناس ولم يحترموا عقولهم، ادعاء بأن الحزب رائد وبأن الحزب قائد وبأن له أن يفكر عن الأمة وأن ينوب عن الأمة وأن يقرر نيابة عن الأمة في الرابطة مجموعة من الناس تتكافأ حقوقها وتتكافأ واجباتها وتلغى فيها كل هذه الادعاءات الفارغة. فالنبي عليه الصلاة والسلام ما أنشأ حزباً ولكنه أنشأ رابطة وحينما نريد أن نحشر العمل للإسلام في أطر حزبية فنحن في الواقع نغامر بالعمل للإسلام كله إن العمل الإسلامي لا يعرف حزبية ولا يعرف سرية ولا يعرف قوقعة لأنه شمس الله تعالى التي تضيء على الناس قاطبة ومن ذا الذي يستطيع أن يخفي الشمس في إطار صغير إن هذا الإسلام يتطلب منا ونحن نواجه الدنيا بهذا النظر الواسع أن نستعد لإعلانه وكما ذكرت لكم في الجمعة الماضية في ضوء مواقف الأنبياء عليهم السلام كانت مواقف أولو العزم من الرسل تنحصر في شيئين: البلاغ والثبات يبلغون الأمر إلى الناس بلاغاً واضحاً صريحاً شجاعاً ويثبتون في الميدان:(/3)
(ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب).
ذلك هو موقف الأنبياء والمرسلين أولي العزم وهو موقف نبينا صلى الله عليه وسلم لا بد لنا من أن نلاقي صعوبات الذين يظنون أن الإسلام يمكن أن يتحقق ويمكن أن تقوم له دولة ويمكن أن يبلغ الإنسانية رسالته بالكلام الفارغ وبالهراء الذي لا معنى له وبالأماني الباطلة واهمون وجناة، جناة على أنفسهم وجناة على الأمة لا بد أن نستعد لهذه المواجهة وهذه المواجهة تتطلب منا ماذا. الصبر. والصبر الذي تتطلبه منا المواجهة يا إخوة ليس صبر العاجزين ولا صبر الخائفين ولا صبر الناس الأذلة وإنما هو صبر الرجال الذين يعرفون ماذا يريدون من الصبر. هذه الشخصية الإنسانية اكتسبت خلائقها وعاداتها وأطوارها مع مر السنين تَرَسُّباتِ نقطة وراء نقطة وحدثٍ في إثر حدثٍ كونت عاداتنا وكونت تقاليدنا وكونت معتقداتنا وكونت الإطار الفكري الذي نتحرك ضمنه لا بدَّ لنا حين نحاول التغيير أن نسأل أنفسنا قبل المحاولة.
هذا المجتمع الذي أعيش فيه هل هو ملائم للصورة التي أحملها عن المجتمع الأمثل أم غير ملائم.
هذا المجتمع الذي أضطرب فيه شروطه القائمة هل تساعدني أم لا تساعد.
هذا الهواء هذا المناخ هل يساعدني على التنفس الحر أم هو يكاد يخنقني.
هذه النظم هل تساعد مواهبي على الانطلاق أم هي تدمرني بالفعل.
إن كان الجواب أن هذه الشروط كلها مساعدة وملائمة فإن الموقف حينئذ ينحصر في مراقبة الأجهزة لا أكثر ولا أقل كلما حاول جهاز من الأجهزة أن ينحرف قومناه. ولكن نحن كمسلمين، نعيش مجتمع اليوم؛ من منا يجرؤ على أن يقول إن الجو الذي نتنفسه غير مسموم وإن الشروط التي نعيشها شروط معادية للإسلام وإن الأوضاع التي نتقلب فيها أوضاع تدمر المسلمين.(/4)
من الذي يجرؤ على أن يقول غير هذا القول؛ إذاً فنحن نضع أسس المجتمع لا موضع التساؤل وإنما موضع الاتهام وموضع الرفض من هنا نبدأ، فنكون خارجين على القانون فهمتم خارجين على القانون. والنبي عليه السلام وكل نبي جاء من قبله كان في حينه خارجاً على القانون ويجب أن لا تخيفنا هذه الكلمة بل يجب أن نعتقد أنها وسام شرف نعلقه على صدورنا إننا لا نقبل بجملة الأسس التي يقوم عليها مجتمع المسلمين بل نطلب تغيير هذه الأسس هذه الزمر المستفيدة من هذه الشروط الفاسدة والأوضاع المخربة المدمرة أتراها تسلم لنا عن طواعية واختيار. إن التاريخ لم يسجل أبداً حدثاً واحداً جاء عن طواعية واختيار كل وضع اجتماعي يخلق معه زمرة من المستفيدين منه هذه المرة سوف تظل حتى آخر نفس تدافع عن مكتسباتها ما دام الأمر كذلك فالمواجهة العلنية الحرة الصريحة تقتضي تعاملاً واحتكاماً مع مراكز القوى في المجتمع قد تكون مراكز القوى سلطة وقد لا تكون -هذا غير مهم- فإن المجتمع المكي لم يكن سلطة وإنما كان مجموعة أعراف ومجموعة تقاليد ومع ذلك وقع الاحتكاك بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم لا بد من الاحتكاك هذا الاحتكاك ما هو موقفنا تجاهه؛ نحن بين أمرين افتحوا عقولكم وقلوبكم يا إخوة نحن بين أمرين إما أن نأذن لأنفسنا بأن نندفع مع الاستجابة الأولية فنقابل العنفوان بالعنفوان والشراسة بالشراسة وإما أن نحاول الصبر. وحين نندفع بدون إعداد وبلا تربية وبلا تهذيب فنحن ندمر أنفسنا وندمر مجتمعنا أيضاً. وهذا هو ما عنيته في الخطبة قبل الماضية حينما قلت وأنا أعرض التربة التي نشأ فيها العنف: نحن نرى أن ثمة ميدانين في مرحلة الدعوة يجب أن نركز عليهما الميدان الأول شخصي وذاتي داخل النفس والميدان الثاني خارجي وموضوعي وهو داخل المجتمع وأن العمل بينهما لا بد أن يكون متفاعلاً لكننا نعطي الأولوية المطلقة للميدان الأول فدون أن نهذب أنفسنا وأن نقيمها على الجادة وأن نحدد لها موقفاً يتجاوب مع ضخامة الرسالة، لا يمكن لنا أن نؤدي أية ثمرة وأحدد كي لا تذهب الأوهام بعيداً أنا أتحدث عن مرحلة دعوة، أتحدث عن مرحلة دعوة يجب أن يكون هذا واضحاً في مرحلة الدعوة لا بد من المعاناة كيف تأتي بالتبر المختلط بالتراب وسائر الفلزات الأخرى لا بد لك أن تعرضه على النار وأن تذيبه حتى تستخلص منه الذهب، هذه النفوس مطلوب منها أن تواجه الدنيا فكيف تواجه الدنيا وهي تعجز عن مواجهة ذاتها إن أول نصر يجب أن يتحقق هو النصر داخل الذات لا بد من الصبر الطويل والمعاناة الطويلة حتى تنصهر النفوس على نار الواقع وحتى تتغلب على الجمر لكي تستعد لمقابلة العظائم أما الرجل الذي يأتيك من الطريق يحمل كل عقد المجتمع وكل سوءات المجتمع فأنت لا تستطيع أن تضعه في مقدمة الصفوف إن هذا لا بد أن يكون خاضعاً للاستجابات الشخصية تصور حتى أتقانا مع الأسف حتى أعرفنا بحقائق الإسلام. مع الأسف ومع الحزن. لو خرجنا من المسجد وتخففنا من جو العواطف الموجود هنا، وصادَفنا إنسانٌ على باب المسجد فشتمنا وآذانا غالباً نرد الشتيمة ونرد الإيذاء ونخلع الحذاء –قد.. ربما- أكذلكَ خُلق الإسلام، أكذلك فعل المسلمين..!
أنقل المسألة إلى ميدان الدعوة.
حينما ننقل المسألة كلها إلى ميدان الدعوة وأنت تدعو فيلاقيك خصمك بالأذى، يشتمك أو يضربك أو يحبسك أو حينما تفعل هذا ما الذي يكون قد حققت ماذا سوف تستفيد إنك إن رددت الشتيمة بصاع أو نصف صاع أو ربع صاع؛ فما الذي فعلت إنما انتصرت لشخصك وجعلت غريزة في مقابل غريزة وذاتاً في مقابل ذات ودفعت قضية الإسلام إلى الخلف لا بد لنا أن نتعلم كيف نصبر على العدوان، وكيف نصبر على الأذى وكيف نصبر على كل السيئات؛ حتى نعد أنفسنا لمقابلة ومواجهة جلائل الأعمال.
ارجعوا الآن بأذهانكم. ارجعوا بأذهانكم إلى الوراء يوم كنا نعرض عليكم السور الأربعة من القرآن الكريم التي نزلت أول ما نزل من القرآن الكريم ما هي أول سورة أليست سورة العلق ماذا يقول الله تعالى في سورة العلق وهي أول سورة نزلت على رسول الله يقول:
(أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية كلا لا تطعه واسجد واقترب).(/5)
ينصب الكلام على قطبين في العمل القطب الأول قطب التمسك بهذا الذي جاء من عند الله تمسكاً صريحاً لا مواربة فيه ولا استخفاف وما الذي يجعل المسلم يستحيي من إسلامه، وما الذي يجعل المسلم يخاف من إسلامه، أفي الإسلام عيب يستحيي منه لا، أفي الإسلام خطرٌ يخشاه الإنسان لا إن أهم ما يحرص عليه الإنسان اثنان الروح والمال، الروح والرزق، أما الروحُ فالله يقول لكم إن كنتم ممنين (فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) لا يمكن لبشر أن ينتزع روحك من بين جنبيك إلا بإذن الله في الساعة المقدورة عليك من الأزل وأما الرزق فثق يا أخي أن أحداً لا يمكن أن يأكل لقمتك أبداً؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"نفث في روعي الروح الأمين جبريل عليه السلام أنه لن تموت نفس حتى تستوفي آخر قسط لها من الرزق فاتقوا الله وأجملوا في الطلب".
إذاً.... فلماذا الخوف ولماذا الحياء الإسلام علانية لا خفاء ولا شيء من ذلك مما هو قريب من الخفاء فإعلانه أولاً والثبات عليه وعدم إطاعة ذلك وترك الأمر بعد ذلك لا (كلا.. لا تطعه واسجد واقترب) دعه لنا نحن ندبره.
السورة الثانية سورة القلم؟
(والقلم وما يسطرون) كذلك فإن الله تبارك وتعالى يأمر فيها نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يصبر ويضرب له المثل بصاحب الحوت يونس عليه السلام الذي أخذه الضيق من أكلاف الرسالة فيقول له:
(فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم).
في السورة الثالثة سورة المزمل أليس كذلك سورة المزمل سورة عجيبة يفتتحها الله تعالى باستنهاض همة رسوله عليه الصلاة والسلام:
(يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً).
وكلُ هذا الاستنهاضُ مؤسسٌ على ماذا (إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً) فمؤسس على ثقل الرسالة إننا نحمل اليوم على أكتافنا أضخم مهمة وأعظم قضية وما لم نستعد لها بما يكافئ تكاليفها وأعباءها فسنفشل في أدائها.
وأما السورة الرابعة فهي سورة المدثر وهي سورة الإنذار وسورة البلاغ:
(يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر).
أوائل الدعوة حوت هذه السور التي وضح فيها توضيحاً لا لبس فيه؛ أن طريق الدعوة طريق مفروش بالشوك طريق مفروش بالدماء طريق مفروش بالدموع ولكنها الضريبة التي لا بد من أدائها من أراد الإسلام؛ فليعدَّ له الثمن ومن كان عاجزاً من أداء الثمن فليتنحَّ ليقف جانباً لا مكان له في الركب إن الركب الذي يمضي لا بد أن يكون مسلحاً بمثل هذا السلاح الذي ذكرنا لكم الصبر الطويل والمعاناة الشاقة وحمل النفس على ما تكره.
لقد كان المسلمون يا إخوتي ويا أحبائي كذلك.. صبروا وصبر سيد الصابرين محمد صلوات الله وسلامه عليه وكان يرعى خلائق الصبر هذه بنفسه كلما وجد أن بعض أصحابه تكاد أعصابه تنفلت من بين يديه ويفقد السيطرة على نفسه، يكفكف منْ غَرْبِه ويرده إلى القاعدة التي لا بد أن يقف فيها، ثلاث عشرة سنة مرت عجافاً قاسية في مكة والمسلمون يلقون البلاء والله جل وعلا يأبى أن يأذن لهم برد العدوان، وسنتان في المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول للمسلمين ألم يؤذن لنا بقتال، مع أنهم كانوا سادة الموقف وكانوا يملكون تأديب المخالفين، حتى نزل قول الله تعالى:
(أذنَ للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلموا وإنَّ الله على نصرهم لقدير).
فاستعمل المسلمون سلاحهم وردوا العدوان ولتمهيد الطريق أمام دعوة الله تبارك وتعالى؛ أي عقل يملك أن يهدر هذه المدة ويقول مضت هذه المدة بلا فائدة. فالصبر كان لغاية وكانت الغاية تذليل هذه النفوس لا بد لنا أولاً أن نذلل هذه النفوس حتى تستقيم على أمر الله وحينما يقال لها افعلي تفعل وحينما يقال لها لا تفعلي لن تفعل شيئاً على الإطلاق لا بد أن نصبر من أجل ماذا من أجل أن نُكوَّن تكويناً جديداً من أجل أن نتأقلم كما يقال اليوم مع معطيات الشريعة. بعض الناس يتصور من جراء القالة الخبيثة أن الإسلام يصلح لكل زمان ومكان يتصور بوحي هذه المقالة الموهمة أن الإسلام يمكن أن يماشي التطورات التي تنجم كما تنجم رؤوس الشياطين دون أن تكون نابعة عن تفكير ولا عن تقدير يمكن أن يماشيها وأنه يمكن لنا نحن المسلمين أن نلوي أعناق النصوص لياً لكي تساير الأوضاع الظالمة الجائرة نقول لا. لا في الأوضاع نقبل شيئاً كهذا ولا في واقع النفس نقبل شيئاً كهذا.
تعالوا نسأل علماء المسلمين.
نحن نجد الإمام الشاطبي رحمه الله عليه يقول في كتابه الموافقات وهو من الكتب الشهيرة التي تبحث في أصول الشريعة:
"إن القصد من الشرع –يعني من الإسلام- أن يجعل الإنسان عبداً لله اختياراً كما هو عبد لله اضطراراً".
سأترجم لكم هذا الكلام.(/6)
الإنسان عبد لله شاء أم أبى كافراً كان أم مؤمناً هو عبد لله وآية ذلك أنه تحت قهر الله وتحت سلطان الله تبارك وتعالى؛ رزْقُه، أجلهُ، ما يصيبه من حوادث لا يملك أن يقررها هو بتاتاً، وإنما يقررها الواحد الأحد فهو من هذه الناحية عبد الله اضطراراً أي رغماً عنه، تحت قهر الإرادة الكونية الماضية على البر والفاجر، وعلى المسلم والكافر سواء. لكن الإسلام لا يريد أن ينشئ ناساً يطيعون الله تحت السوط وتحت الإرهاب، وبعامل الذِّلة والخنوع والخوف، إنما يريد أناساً يطيعون الله اختياراً أي أنهم يجدون الروح والريحان في أوامر الله تبارك وتعالى، فوظيفة الصبر: تمرين النفس الإنسانية على أن تجد بُرْءها وشفاءها وراحتها في تنفيذ أوامر الله تبارك وتعالى؛ ألم تسمعوا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان إذا حزبه أمر –أي اشتد عليه أمر من الأمور- صلى، يجد الفرج أين؟ في الصلاة لا في التسلية ولا في حفلات الرقص ولا في الموسيقى ولا في المسيرات، وإنما في الصلاة ألم تسمعوا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان إذا اشتدت الأمور وادلهمت الكروب، يقول أرحنا، بها يا بلال بماذا أرحنا بالصلاة فتنفيذ أمر الله يحمل الراحة الروح والتسليم تنفيذ أمر الله تبارك وتعالى يكون كذلك مع نفوس ذللت في طاعة الله جل وعلا ولهذا فنحن نجد أن من ثمرات الصبر الطويل الذي صبره المسلمون أنهم كانوا أسرع الناس إلى تنفيذ أمر الله.
معلوم لديكم أن الدعوة عاشت عشر سنوات في المدينة كانت الأوامر تتنزل فيها وكلما قال الله افعلوا فعل المسلمون، وكلما قال الله انتهوا انتهى المسلمون لماذا؟ لأن النفوس هذه ربيت على طاعة الله تبارك وتعالى حتى أصبحت الطاعة هي راحتها بل هي جبلتها وسجيتها فنحن نريد بالتكوين هذا الجو النفسي والعقلي والروحي الذي يجعل الإنسان المسلم يسير مع أمر الله راضياً مطمئناً إلى سلامة النتائج وهذا لن يأتي بغير ثمن لا بد من بذل الثمن والثمن هو هذا الصبر الطويل، هل حصل بين المسلمين من نتائج هذا الصبر ما يسمح لنا بأن نستبشر بقول نعم ونستنطق الحوادث ونستلهم عبر التاريخ هذا لتعلموا أن الصبر ليس صبر الأذلة وإنما هو صبر الناس الذين يصبرون على حوادث الدهر ليأخذوا الدرس والعبرة.
أخرج الحاكم عن القاسم ابن محمد رحمه الله قال رُمِيَ عبدُ الله بن أبي بكر رضي الله عنه بسهم في حصار الطائف- حصار الطائف كان بعد انصراف النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين عام الفتح، أي في السنة الثامنة من الهجرة والرجل جريح، ومعلوم السهام كانت تصيب الجسم وتقع فيه والجريح يتناول السهم ويضعه في جيبه، قال فانتقضت به جراحته بعد أربعين ليلة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات. السهم محفوظ عند أبي بكر فقدم وفد ثقيف وهم أهل الطائف على أبي بكر فأخرج لهم السهم فقال:
هل فيكم من أحد يعرف هذا السهم؟
قال أحدهم: أنا يا أمير المؤمنين؛ هذا السهم أنا بريته ورشته وعقبته -أي وضعت له عقباً- وأنا رميت به.
فنظر إليه أبو بكر باسماً وقال: هذا السهم الذي قتل عبد الله بن أبي بكر، فالحمد لله الذي أكرمه بيدك ولم يهنك بيده.
انظروا أي إنسان هذا؟ ابنه هو القتيل يحمد الله تعالى أن الله أكرمه بيد هذا المسلم، وأن الله لم يهن المسلم بيد ابنه عبد الله، لو أن عبد الله قتله في ذلك الحين لقتله كافراً ولدخل النار، ولكنه قتل فذهب شهيداً، ورحمة الله أدركت القاتل فدخل في الإسلام فوسعت رحمة الله الناس كلهم.
حينما توفي عبد الله هذا دخل أبو بكر على عائشة أم المؤمنين فقال:
أي بنيَّة والله لكأنما أُخِذ بأذن شاة فأخرجت من دارنا، حينما خرجت جنازة الولد، كأنما أخذ باذن شاة فأخرجت من دارنا.
قالت: يا أبت الحمد لله الذي ربط على قلبك وعزم لك على رشدك.
إن الصبر هو الذي ذلل أبا بكر حتى جعله يحمد الله جل وعلا على أن مات ابنه شهيداً على أن أسلم القاتل أيضاً ووسع الجميع حمى الإسلام أيضاً.
أخرج ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل متوكئاً على كتف عبد الرحمن بن عوف، وابنه الوحيد إبراهيم يجود بنفسه أي في النزع قال: فلما مات بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الرحمن بن عوف:
"أي رسول الله إنك كنت تنهى عن هذا وإنه إذا رآك المسلمون تبكي يبكون".
فلما قلصت عَبْرَةُ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يا عبد الرحمن إنما هذه رحمة، وإن من لا يَرحم لا يُرحم يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول ما يسخط الرب جل وعلا".
فالصبر انصبّ على نفس تحس وتتألم وتشعر، تحس ألم المصاب ووقع الفجيعة، ولكنها لا تقول شيئاً يسخط الله ولا تفعل شيئاً يسخط الله جل وعلا، وإنما هو الرضى والتسليم.
كذلك أخرج الطبراني والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:(/7)
"حين استشهد حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوقف على منظر لم يُرَ منظرٌ أوجع للقلب منه رأى عمه الحمزة وقد مُثِّل به ورأى منظراً هائلاً فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ما وقفت موقفاً أغيط عليَّ من هذا الموقف، ثم قال؛ لله علي لأمثلنَّ بسبعين منهم كميتتك".
في ذلك الموقف الذي استجاش الشعور الإنسانيَّ كله، العم الكريم الذي حمى والذي دافع والذي بَذَلَ والذي نَصَرَ مُمثلٌ به ومن حوله سبعون من الأصحاب، تلك النبتات الطيبة الطاهرة الكريمة التي تعب عليها محمد صلى الله عليه وسلم تعباً هائلاً مُجَنْدلةٌ على الأرض؛ أي قلب لا يتفطر لمنظر كهذا أي قلب؟ مع ذلك فقانون الإسلام غير قانون العواطف البشرية، ليست المسألة أن نثور وإنما المسألة أن نصبر إن الوحي لم يمهل رسول الله حتى في هذا الموقف العصيب جاءه جبريل يقرأ عليه قول الله تبارك وتعالى:
(وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون).
فكفر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه، ولم يقف بعدها موقفاً إلا وهو ينهى عن المِثْلة يعني التمثيل بجثث الأموات. انقلوا أنفسكم شيئاً ما من هذه المعركة معركة أحد من الذي كان العنصر الأساسي في قلب موازين المعركة. من؟ خالد بن الوليد هو الذي كَرَّ بخيله على جيش المسلمين على الرماة فشتتهم وفتك بهم وأغار على المسلمين فأوقع بهم الكسرة الفظيعة؛ خالد هذا تمضي الأيام و قبيل فتح مكة يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم خالد بطل المعركة التي قتل فيها الحمزة.. بطل المعركة التي نكل فيها بالمسلمين بطل المعركة التي حلت فيها الكسرة على المسلمين يأتي ليسلم يقول خالد في روايته كما رواها ابن كثير في البداية والنهاية يقول:
"فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم بَشَّ في وجهي وابتسم فلما دنوت قال يا خالد قد كنت أعرف لك عقلاً وأنا أظن أن عقلك لن يبعد بك عن الإسلام".
يا أرباب العقول افهموا هذا الكلام إن أرباب العقول يعرفون أن هذا الدين لا يمكن أن يقف في وجهه أي تفكير بشري على الإطلاق، إن التفكير البشري في مواجهة هذا الدين هراء وسخف لا يصح أن يقف الإنسان عنده..
فتلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عتاب ولا عقاب ولا وضع في إطار الحزب كي نجعله نصيراً ولا وضع له تحت الاختبار وإنما توليةً له بصورة مباشرة؛ ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المعارك وسماه من تلك الساعة سيف الله جل وعلا أين ذهبت الآلام وأين ذهبت الدماء وأين ذهبت الدموع نحن لا ثأر لنا مع الناس أبداً، إن تصور أحدٌ أن الإسلام يمكن أن ينمو ويمكن أن يزكو مع بروز عوامل الثأر ومع بروز نوازع الشخصية فهو واهم وهو مخطئ بل هو مجرم إن الإسلام لا يريد دماء الناس ولكن يريد قلوب الناس وكل ذي قلب وكل ذي عقل مع المراوضة مع المصابرة ومع مصابرة الدعاة على دعوتهم ومع نفض الغبار عنها وإخراجها من الأقبية وتعريضها لنور الشمس والصبر على تكاليفها يتنزل نصر الله ويأتي الفتح.
أما إذا أردنا أن نتقوقع وأن نسيء الظن بالمجتمع ونسيء الظن بالناس فلن نفعل شيئاً على الإطلاق طيب تعالوا نحاكم المسألة بصراحة إن المجتمع الذي نعيش فيه مجتمع شارد مغفل مغرَّر به وعلى مقدار ما ننام سوف يستمر التغرير ويستمر الاستغفال وحين نصحو تنتهي هذه المهزلة وصحوتنا تتمثل في إعلان ديننا، وإعلان ثباتنا وصبرنا على ديننا وعدم المساومة في ذلك وليكن بعد ذلك ما يكون الثمن لا بد من دفعه شئنا أم أبينا أردنا أم لم نرد أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا لا بد من أن ندفع الثمن وهذا الثمن جزء متمم من بناء الشخصية التي ستؤهل لحمل رسالة الإسلام والذي يتصور أنه يمكن أن يحرق المراحل وأن يقفز من فوق الآلام والعذاب فهو مخطئ لا بد من الاكتواء بنار الألم والعذاب فنحن حينما نخاصم لا نخاصم الأشخاص كما قلت سابقاً إنما نخاصم الوقائع وعملنا يهدف إلى تغيير الشروط الاجتماعية التي ولدت وسببت انحرافات الناس حينما نلغي هذه الشروط نجعل الناس يقفون أمام الحقيقة وجهاً لوجه.
يا إخواننا يا شبابنا يا أحبابنا هذا ما أردت أن أودع به هذا الموقف أمانة أحملها من عنقي لأضعها في عنق كل عاقل منكم هذا الإسلام أمانة الله عندنا وهو أمانة غالية أغلى من الروح وأغلى من الدم وأغلى من المال وأغلى من الولد وهذه الأمانة لها مقتضياتها ولها الجو النفسي والروحي والشعوري الذي نتحرك فيه ونحن لنا من سوابق التاريخ تاريخنا الناصع النضير ما يعيننا على أن نتنفس في جو أرحب وأمتع وأسلم من هذا الذي لمّا نزل نتنفس فيه.
علينا أن ننفض الغبار عن كل مسالكنا.
علينا أن نعيد النظر في كل مناهجنا.
وعلينا أن نفهم أن أول الطريق إعلان.
وأوسط الطريق ثبات.
وآخر الطريق نصر من الله تبارك وتعالى.(/8)
فأسأل الله العلي القدير أن يلهمنا وإياكم ثباتاً على هذا الدين.
وتحملاً في ذات الله تبارك وتعالى.
وأن ينزل علينا نصره إن النصر من عند الله.
وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(/9)
عن الكذِب والكذابين ... والتهويل والمهوِّلين
أ.د/
جابر قميحة
komeha@menanet.net
قليلون...- بل نادرون - هؤلاء الذين يقولون كلمة الحق في صحفنا المسماة «الصحف القومية», ومِنْ هؤلاء في الأهرام: الأستاذ فهمي هويدي , والأستاذ أحمد سلامة, والأستاذ صلاح الدين حافظ, ومن كلماته التي تنصف الحق والحقيقة, وهو يعني بها حكامنا والقائمين علي تسيير أمورنا «نتحدث قولاً عن الإصلاح, ونعمل ضده فعلاً, نتغني بالحرية والديمقراطية, ونهدم أسسها, ونقوض رواسيها, حين يأتي وقت الممارسة, والأمر كما تري -عزيزي القارئ- سداح مداح, في الساحة كلها من حولنا, لا فرق في هذا بين الحكومات المتحكمة التي جاءت بالفرض والإجبار, وعقود الإذعان, وبين البرلمانات المعينة وشبه المعينة. الجميع يشارك بهمة لافتة, وحماسة زائدة, سواء في التبشير بالإصلاح والتغني بالديمقراطية, أو في تعويق الإصلاح, وانتهاك الحريات عامة, وبين هذا وذاك أصبح التشريع القانوني والدستوري كالأيتام علي مائدة اللئام, يتنازعة المتنازعون, كل يريد تفصيله علي مقاسه, ووفق مزاجه....» (الأهرام- الأربعاء 6/7/2005).
إنها كلمات حق, أريد بها الحق, لأن الكاتب يعبر عن واقع يعيشه شعبنا , ويدرك أبعادَه كل فرد من أفراد الشعب, بصرف النظر عن درجة الوعي والتعلم, حتي الذين يغالطون, يعلمون أن هذه هي الحقيقة, وما جاءت مغالطتهم إلا حرصًا علي تحقيق منافعهم الدنيا, والتقاط الفتات من موائد القادة والرؤساء:
- شعبنا يعيش حرية لا وجود لها, وديمقراطية مدّعاة لا وجود في حياتنا منها إلا اسمها وحروفها الرنانة.
- سياسة حكامنا قائمة علي التناقض الفادح بين الأقوال والأفعال. وحظ الهدم والتقويض في حياتنا أكبر وأفدح من البناء والتشييد.
- حُكامنا فُرضوا علينا فرضًا, بالصورة التي لخصها الشاعر في قوله:
- دَعوْا باطلاً, وجلوْا صارمًا
وقالوا: صدقْنا? فقلنا: نعمْ
- مجالسنا النيابية حصّلت الأغلبية الساحقة بالتزييف والتزوير والكذب والخداع, وأصبح الحزب الوطني (صاحب الأغلبية المدّعاة) - وخصوصًا ما يسمي بلجنة السياسات, وهي أهم لجانه- هو المتحكم في مقدراتنا, ومسير حياتنا, ومصير أبنائنا.
- وبلدنا أصبح حاكمه هو القانون والدستور والدولة, والتاريخ والعرش, والقدرة والنفوذ والإرادة, والسيد والمرجع, وعبقري الزمان والمكان, أما الشعب فكمّ مهمل, أو سقَطَ متاع. وكأن حاكمنا هو المخاطب بقول الشاعر القديم:
أنت المليك عليهمُو
وهم العبيدُ إلي القيامةْ
والشطر الأخير يذكرني بكلمة لابن الباجور «كمال الشاذلي»: «إن الحزب الوطني هو حزب الأغلبية حاليًا, وهو حزب الأغلبية إلي الأبد».
تهويل.. وأكاذيب
هذه هي أهم ملامح الوضع الغريب الذي يعيشه شعبنا, عبر عنها بصدق وعقلانية وواقعية الأستاذ الكبير صلاح الدين حافظ. وجاءت هذه الكلمات صفعة ناقضة - بل ناسفة- لكلمات الطبالين والزمارين وحملة المباخر, والمسايرين. وهي كلمات - في مجملها- صبْغتها الزاعقة الصارخة: الإسراف والتهويل من ناحية, والكذب والمغالطة من ناحية أخري.
وفي السطور التالية أعتمد علي انتقاء بعض العينات العشوائية من معروض مكتوب.
عينات من عالم التهويل والتزييف
فمن التهويلات التي يكذبها الواقع - بأدلة دامغة لا يتسع المقام لذكرها - قول الدكتور سرور: لقد ثبت أن أداء مجلسنا النيابي في هذه الدورة وسابقتها كان أحسن أداء في العالم. (لاحظ قوله : في العالم!!!!).
ومن التهويلات التي يكذبها الواقع ما درج علي قوله حملة القماقم, ورجال الحزب الوطني (حزب الأغلبية المّدعاة) من أننا نعيش أزهي عصور الديمقراطية والحرية .
وأسأل: أين هي الديمقراطية والحرية في بلد يُحكم بقانون الطوارئ من ربع قرن? وأين هي الديمقراطية والحرية في بلد تضم معتقلاته قرابة ثلاثين ألفًا من أطهر وأنقي شباب الأمة بلا محاكمة, وكثيرون من أهلهم لا يعرفون في أي معتقل يقيمون? وأين هي الديمقراطية والحرية في وطن يتمتع فيه رئيس جمهوريته بمجموعة من الاختصاصات لا يتمتع , ولم يتمتع بها رئيس ولا أمير, ولم ملك, ولا سلطان في تاريخ مصر كلها, فهو كل شيء, وله كل شيء, وكأنه المخاطب بقول الشاعر القديم:
لك المِرْباعُ منها و الصفايا
وحظك والنَّشيطة والفُضولُ
ويقول حملة القماقم: أليس من الديمقراطية والحرية أن يكون في مصر واحد وعشرون حزبًا? وأقول - وأقسم بالله-: إنني لو سُئلت عن أسماء خمسة منها لعجزت» ؛ لأنها في أغلبها كأكشاك السجائر , لا يكاد يشعر بها أحد لا اسما, ولا مسمي, ومن عجب أن تحرم حكومتنا «الرشيدة جدًا» الإخوان المسلمين -وهم يمثلون نصف الشعب علي الأقل- من تشكيل حزب أعلنوا هم أنه مدني يقوم علي مرجعية دينية. وما ذلك إلا خوفًا علي «كرسيّّها», وقد قالها بصراحة رئيس جمهوريتنا حسني مبارك: «إنني لو أقمت الديمقراطية كاملة لجاء الإخوان إلي الحكم , وظلوا فيه إلى الأبد ».
المبارز.. والشروط المستحيلة(/1)
ويقول حملة القماقم: أليس من الديمقراطية أن تعدل المادة 76 ليصبح للمواطن المصري -لأول مرة من عهد الملك مينا حتي الآن- الحق في اختيار رئيسه - بالاقتراع الحر المباشر- من شخصيات متعددة? وهنا تذكرت قول الشاعر:
ألقاه في اليمِّ مكتوفًا وقال له:
إياك إياك أن تبتلّ بالماءِ
فالمطلوب ممن يرشح نفسه في مواجهة المرشح الأول وهو مبارك -أو ابنه جمال- أن يوافق علي ترشيحه مئات من مجلسي الشعب والشوري, ومئات من أعضاء المجالس المحلية (وكل هؤلاء حكوميون مباركيون) زيادة علي مئات ألوف من الشعب. فعلي المرشح إذن أن يحقق شروطا مستحيلة .
وإذا أعملت خيالي قلت: إن مثل مرشح الحكومة كمثل مبارز ظل يتدرب علي استعمال سيفه ربع قرن.. وتحدي بعدها أن يبارزه أي مواطن بشرط ألا يحمل سيفًا, أو يستعمل يده. أو ينظر إلي المبارز حامل السيف... مرشح الحكومة. ولكن من حقه أن يعلي صوته أثناء المبارزة «بالشخط, والنطٍر», أو بالتأوه والأنين, وإكرامًا له, ومن قبيل التشجيع له, ُيمنح قبل المبارزة ربع مليون أو نصف مليون جنيه.
السعدني ومواصفات القادم
ومع أن المسألة محسومة لأحد المباركيين: الأب أو الابن.. يعرض علينا -والأدق أن نقول: يفصِّل لنا- عزت السعدني مواصفات الرئيس القادم وهي : أن يكون لديه دهاء محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة ,وعبقرية إبراهيم باشا في فتح الممالك , وعزيمة جمال عبد الناصر وإقدامه وإيمانه, وفلسفته في الثورة ومقارعة الخطوب , وشجاعة وحنكة وتمرس أنور السادات , وصبر وطول بال وحكمة حسني مبارك...» (عزت السعدني في الأهرام 23/7/2005). وطبعًا ينتهي السيد السعدني إلي أن كل هذه الصفات لا تتوافر إلا في حسني مبارك. ولو سألتني يا عزت لقلت لك: وفّر علي نفسك عناء البحث, والاستعراض أو النبش التاريخي: وقل: يجب أن يتوافر فيه ما قاله الشاعر أبو تمام:
إقدامُ عمرو, في سماحةِ حاتمٍ
في حلم أحنفَ في ذكاء إياسِ
وأنت تعلم أن عمرو بن معْدِ يكَرِب يُضرب به المثل في الشجاعة, وبحاتم الطائي في الكرم, وبالأحنف بن قيس في الحلم والعفو عند المقدرة, وبإياس بن معاوية في الذكاء والعبقرية.
* * *
لقد قلت في مقال سابق: إن القول بأن مبارك لا بديل له يعني أننا شعب متوقف.. بل متخلف... لأن الملايين السبعين عجزت عن إنجاب شخص. أو شخصيات في حجم مبارك عقلاً.. وفكرًا.. وقدرة.. وخبرة...
* * *
يقول لي صاحبي ـ وأنا أحاوره ـ ما لي أراك تحمل حملة شعواء على التهويل والمهولين، وتغض النظر عن التهوين والمهونين أو المستهينين؟ قلت يا صاحبي، فلننطلق من التعرف على المفردات حتى نكون على بينة من المضامين، وحتى لا نقع في ظلم الآخرين، كما ظلموا الناس والحق والحقيقة.
التهويل يا صاحبي - كما تعلم ـ يعني النفخ في المحكوم عليه بشرًا أو عملاً أو سلوكًا، أو ظاهرة , وتضخيمه بإسراف وغلو حتى يكون أكبر من واقعه بكثير، بكثير جدًّا، أما التهوين فبالعكس، فهو استصغار، واستهانة، ولا مبالاة، وأنا ـ بما عرضت من قبل ـ ما أغفلت، وما قصرت، وما خلطت؛ لأن "التهويل" و"التهوين" وجهان لعملة واحدة، يصعب ـ بل يستحيل الفصل بينهما: فكل تهويل صريح يحمل في طياته، "تهوينا ضمنًا"،والعكس صحيح، فإذا هولت مثلاً في قوة عساكرنا، فهذا يتضمن تهوينا، واستصغارا لقوة أعدائنا، مثال ذلك ما نجده في خطب عبد الله النديم أثناء الثورة العرابية ومنها قوله: "إن طوابينا على ساحل الإسكندرية تستطيع أن تدك بطلقات مدافعها عاصمة بلاد الإنجليز" وجاء الواقع ليدك الأسطول الإنجليزي بمدافعه الحديثة هذه الطوابي التي كانت قذائفها تسقط في مياه البحر قبل أن تصل إلى السفن الإنجليزية، وهو مثال صارخ من تهويل "القوة الذاتية" والتهوين ـ في الوقت نفسه من قوة الأعداء.
بعضًا من عبيدك يا سيدي!!
والأمثلة في هذا المقام أكثر من أن تحصى، مع ملاحظة أن هذه الظاهرة بوجهها ـ التهويل والتهوين ـ لا يتخلى عنها قيم دنيا ساقطة مثل الغرور ـ إلى حد الساوية ـ وقصر النظر، وضيق الأفق، والغباء والنفاق، وكل أولئك يتفاعل لتحقيق النتيجة التي ينشدها، ويرجوها هؤلاء الخاسرون.. الضالون المضللون.
ويسعفنا المؤرخ العظيم عبد الرحمن الجبرتي بالمثل الصارخ في هذا المقام وخلاصته أن نابليون أو "بونابرطة"، كما كانوا يدعونه آنذاك، كما نزل "البر المصري" بحملته، واستعد له "مراد بيك" قال بعض بطانته: يا بيك إن "بونابرطة" لا يستحق كل هذا، فأرح نفسك، وأرسل إليه بعض عبيدك يأتوك برأسه"، وتدفق مراد غرورًا، ولكنه حرص على أن يمحق جيوش "الفرنساوية" محقًا(/2)
وكتب الجبرتي في يوميتي الأحد والإثنين 15، 16 من يوليو 1798 "وبدأت المناوشات.. فلم تكن إلا ساعة، وانهزم مراد بيك، ومن معه.. ودخل الرعب قلب مراد بيك، وولى هاربًا منهزمًا، وترك الأثثقال والمدافع، وتبعته عساكره..وحضر إلى بر إمبابة، وشرع في عمل المتاريس.. ثم هجم الفرنساوية، وكانت الهزيمة المنكرة، وهرب مراد بيك، وصار قطر مصر ـ كما يقول الجبرتي "من أوله إلى آخره في قتل ونهب، وإخافة طريق، وقيام شر، وإغارة على الأموال، وإفساد المزارع، وغير ذلك من أنواع الفساد الذي لا يحصى..".
والحرب الوقائية!!!
وأترك الجبرتي لأستحضر واحدًا من أيام صيف سنة 1965م ـ أي من أربعين عامًا ـ وكنا قرابة ثلاثمائة من الحضور نستمع لمحاضرة يلقيها أحد ضباط الميمونة الكبار، وهو "حسن صبري الخولي" عن "مكانة مصر الثورة في عالم اليوم" وسأله سائل عن موقف حكومة الميمونة من "إسرائيل المزعومة" وما يتردد من أنها تضع اللمسات الأخيرة في قنبلتها الذرية، وكان جواب الرجل
ـ "إحنا مش ساكتين" وحينما يتأكد رجال مخابراتنا من أن هذه الدولة المزعومة ستنتهي من اختراع قنبلتها الذرية بعد ثلاثة أيام مثلاً.. نكون نحن بعد يومين فقط قد قمنا بشن "الحرب الوقائية" عليهم، وبذلك نجهض ما اخترعوا إلى الأبد.ـ (تصفيق حاد جدًّ) واشتهر مصطلح "الحرب الوقائية" وسمعناه وقرأناه مئات المرات، ولم نر له "تطبيقًا عمليًا ميدانيًا" في حياتنا ..,كل الذي رأينه وعشاه.. مصيبة العدوان الكارثي الذي صبته علينا إسرائيل في 5/6/1967م، وما زلنا نجني ثمراته المرة حتى الآن... ورحم الله "مراد بيك" و "عبيد" مراد بيك..وموقعة إمبابة.. وغفر الله لحسن صبري الخولي.
الرفاهية.. عشرة أضعاف!!
والواقع الذي يعيشه شعبنا المطحون يقطع بأن هناك ثمانية ملايين مواطن يعانون البطالة، ومثل هذا العدد يعيشون "العنوسة" وأن نصف هذا الشعب أي 50% منه يعيشون تحت خط الفقر، وأن متوسط دخل الفرد اليومي لايزيد على جنيه واحد ونصف جنيه، أما نار الغلاء فحدث عنها ولا حرج.
ومع ذلك نجد "الكبار جدًّا" ومن يسيرون على دربهم من "نشامى" الصحف القومية (أعني المسماة بالقومية) يزعمون أن شعبنا يعيش أزهى "عصور الرفاهية" وأن رفاهية هذا الشعب ـ شعب مصر المبتلاة المخروسة قد ضوعفت عن ذي قبل عشر مرات (!!)
وبمنهجنا الذي نكتب به، وحتى تسلم وتصح أحكامنا، نجد لزامًا أن نحدد مفهوم هذه "المفردة المدللة المظلومة" وهي (الرفاهية):
فهي لا يمكن أن يكون لها وجود عملي إلا إذا كان الشعب يعيش حد "الكفاية" من ضرورات الحياة: من مأكل ومشرب، وملبس، ومسكن، وتعليم، والشعور بالطمأنينة والأمن والاستقرار، أي يشبع الضرورات المادية، والضرورات النفسية والمعنوية، وكل أولئك أشار إليه قوله تعالى: (.. أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف".
ثم بعد ذلك يكون "للرفاهية" مكان فيتمتع المواطن بمظاهر الترف والتسلية، والكماليات، أي ما يزيد على حد الضرورة.. من سيارة، وتلفاز، وحديقة... وتمتع بالمصيف ... الخ، في حدود الحلال طبعًا
واستقرار الشعب، والحكم على مستواه حكمًا عادلاً يقاس بالأولى لا الثانية، فلا قيمة للثانية بغير الأولى، وإلا كان ذلك ضربًا من الإخلال المتمرد على حدود العقل والمنطق، كالذي يقتني سيارة وهو يعيش بأسرته في مسكن لا يصلح للاستعمال الآدمي.
والقياس على الماضي في إثبات هذه المضاعفة العشرية يعد قياسًا فاسدًا؛ لأننا لو أخذنا بقاعدة المضاعفة العشرية بإطلاق لوجب أن تصدق على "المرتبات" بحيث يرتفع مرتب الجنيهات المائة إلى ألف جنيه، وهذا ما لم يحدث طبعًا، فالغلاء يفتح "كرشه" لالتهام كل علاوة جديدة يحصل عليها موظف الدولة.
وما ذكرته إنما هو قليل جدًّا من الأكاذيب والتهاويل التي نعيشها في العهد الربع قرني المباركي.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.(/3)
عن سيد قطب والاخوان والمحرقة
د.جابر قميحة*
komeha@menanet.net
(1)
سيظل سيد قطب (1906 - 1966) علمًا من أعلام الفكر والعقيدة والإسلام علي مدار التاريخ الإنساني كله, وقد رصد قلمه لأداء الكلمة الحرة الصادقة مهما كانت مرارتها, وكان قوي العارضة, حاضر الذهن, واسع الثقافة, قديرًا علي الأداء, مؤمنا بأن الكلمة عبث وضياع إذا لم تنتصر للقيم الإنسانية عقيدةً, أو فكرًا, أو أدبًا.
وقد أبان عن وجهته وطوابعه هذه في كل ما كتب. ويسجل له التاريخ محاضرته الطويلة التي ألقاها في كلية دار العلوم سنة 1932 وهو لا يزال طالبًا بها, وعنوانها «مهمة الشاعر في الحياة», وقد طُبعت في كتيب بعد ذلك, وجعل منها فصلاً ومنطلقًا في كتابه العظيم «النقد الأدبي: أصوله ومناهجه». وكتب مقدمة هذا الكتيب أستاذه مهدي علام. ومما جاء فيها «.... وقصاري القراء أن أقول لهم إنني أعدّ سيد قطب مفخرة من مفاخر «دار العلوم», وإذا قلت دار العلوم فقد عنيت دار الحكمة والأدب».
وتوالت مقالاته بعد ذلك, وألف عددًا من الكتب من أهمها «العدالة الاجتماعية في الإسلام» و«التصوير الفني في القرآن» و«مشاهد القيامة في القرآن» ونظم عشرات من القصائد الشعرية جُمعت بعد ذلك في دواوين.
ألمحهم في خيالي قادمين
وفي الأربعينيات من القرن الماضي -وكان يعمل في وزارة المعارف المصرية- أخذ يهاجم في مقالاته الفساد الملكي, والإقطاع, والظلم الاجتماعي, والفساد في السياسة التعليمية, والاستعمار الإنجليزي, وأذنابه من المصريين, أو «الإنجليز السّمٍر» كما كان يصفهم سيد قطب. كان ينشر آراءه الجريئة هذه في عدد من الصحف والمجلات مثل البلاغ الأسبوعي- والأسبوع- والرسالة, والشئون الاجتماعية. ووجد متنفسه الأرحب في مجلة «الفكر الجديد» التي أصدرها بتمويل محمد حلمي المنياوي, صاحب دار الكتاب العربي.
وضاق القصر الملكي والحكام بجرأة سيد قطب, فحلّت وزارة المعارف هذه المشكلة بإيفاده في بعثة إلي الولايات المتحدة لمدة عامين (1948 - 1950) لدراسة المناهج التعليمية. وقد رأي كيف ضج الأمريكان بالفرحة وكيف تبادلوا التهاني حين بلغهم مقتل الإمام حسن البنا. فانفتح قلبه وعقله للإخوان ودعوتهم, وعاد سنة 1950 إلي مصر صاحب رسالة ودعوة -كما يقول الدكتور صلاح الخالدي- «مزودًا بالتجارب والخبرات حيث كانت أمريكا بداية المنعطف الجديد في حياته. لقد وجد نفسه وإيمانه وإسلامه هناك, فسار في طريقه حتي نال الشهادة».
وأذكر -في هذا المقام- أن الشهيد سيد قطب أهدي الطبعة الأولي من كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» قائلاً: «إلي الفتية الذين ألمحهم في خيالي قادمين يردون هذا الدين جديدًا كما بدأ.. يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون...».
وفي الطبعات التالية أهدي كتابه إلي هؤلاء الفتية الذين أصبحوا حقيقة واقعة.....
المحرقة وعام الحزن..
وأقبلتُ علي كل ما كتب سيد قطب, وما يكتب, وخصوصًا «في ظلال القرآن» الذي كان يصدر تباعًا في أجزاء, وكان الجزء يباع بخمسة قروش. وأصبح سيد قطب كاتبي الأثير. وفي بيتنا بالمنزلة (مسقط رأسي) خصصت حجرة لمكتبتي التي ضمت عددًا كبيرًا من الكتب في الأدب والشعر والفكر الإسلامي.
وفي يوم من منتصف الخمسينيات -من القرن الماضي- عدت من القاهرة إلي المنزلة لقضاء عطلة الصيف بعد أن أديت امتحاني في السنة الثانية من كلية دار العلوم. وشعرت بصدمة عنيفة, وأنا أري رفوف مكتبتي لا تحمل كتابًا واحدًا... ورأيت في عيون أبي وأمي, وأفراد الأسرة نظرات فيها انكسار وإشفاق» فهم يعلمون مدي اعتزازي بكل ورقة من كتاب.... وصرخت هائجًا بصوت مرتعش:
- أين كتبي?... أين كتبي..?
وبدأ أبي يهدئ من ثائرتي:
- معلهش كل شيء.. يتعوض إن شاء الله..
- يتعوض??!!... يتعوض يعني إيه?
- يا ولدي انت عارف إنهم يقبضون علي الإخوان... ودول ناس «جبارين»... لا يعرفون الرحمة, فاضطررنا إلي....
ولم أتبين بقية كلمات أبي... فقد دارت بي الدنيا, واستنتجت ما حدث.. -وهو ما تأكد لي فيما بعد- فقد نقلوا الكتب علي دفعات... وحرقوها دفعة دفعة في «فرن» بلدي, ببيت أحد أقاربي المجاورين.
ولا أستطيع أن أصور عمق حزني آنذاك.. إنه كحزن من فقد أبناءه جميعًا في محرقة لم تُبقً منهم حتي الرماد. وكان حزني علي أجزاء «في ظلال القرآن» أشد وأعتي, وذلك لأنني سجلت علي هوامشه ملاحظات وتعليقات كثيرة جدًا, حاولت -فيما بعد -استعادة بعضها فعجزت عجزًا مطبقًا, وكأن شدة الصدمة قد قتلت قدرتي علي التذكر والاستعادة.
من الشهادة إلي العالمية
ولكن وجه الخير في هذه المحرقة أنها ألهبت مشاعري بمزيد من حبي لسيد قطب, وعمّقت إيماني بقلمه مفكرًا إسلاميًا, وأديبًا وشاعرًا وناقدًا, فنال من إقبالي واهتماماتي الحظ الأوفي.(/1)
وفي سنة 1971 (أي بعد تخرجي في كلية دار العلوم بثلاثة عشر عامًا) أُعرت للعمل بدولة الكويت لمدة أربع سنين. وكان من مهامي تدريس اللغة العربية والثقافة الإسلامية -بجامعة الكويت- للطلاب الأجانب.
وكنت أشعر بالسعادة وأنا أري هؤلاء الطلاب وفي أيديهم كتب سيد قطب مترجمة إلي الإنجليزية والفرنسية والملاوية... وغيرها. وسألت بعضهم عما يعرفونه عن سيد قطب, فاكتشفت أنهم يعرفون عنه, وعن الإمام الشهيد حسن البنا الكثير والكثير. لقد صدق الشاعر العربي الذي قال:
وإذا أراد اللهُ نشرَ فضيلة
طُويتٍ أتاح لها لسانَ حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يُعرف طيبُ عَرف العود
فُورد للسيارات والإخوان المسلمون
وفي أحد أيام مارس 1972 أخبرني أستاذنا عبد السلام هارون -رحمه الله- وكان رئيس قسم اللغة العربية بجامعة الكويت- أن أحد طلاب الدراسات العليا -وهو أمريكي الجنسية- يجمع المادة العلمية لكتابة أطروحة يحصل بها علي درجة الدكتوراه. وبعثته علي نفقة شركة «فورد للسيارات».وموضوعها / الاخوان المسلمون 0
- عجبًا وما المنفعة التي تعود علي الشركة من هذه الدراسة?... إنهم حقًا أغبياء..!!
- لا ليسوا هم الأغبياء, ففي كل شركة من الشركات العالمية الكبري -غير العلماء والخبراء المتخصصين- لجنة فيها عالم جغرافي, وآخر قانوني, وثالث عالم بالأديان والمذاهب, ورابع عالم اجتماعي.... إلخ» وذلك للقيام بدراسة شاملة لأحوال البلد الذي سيفتحون فيه فرعًا, أو يتخذون فيه توكيلاً, وأثر هذه الأحوال في ترويج السلعة أو كسادها.
وذكّرني -رحمه الله- بكساد مشروب «البيبسي كولا» في بلاد الشرق العربي, وكيف قاطعها المسلمون بعد صدور فتوي من عالم ديني بأنها حرام شرعًا لأن مادة «الببسين» المستخرجة من كبد الخنزير - تدخل في تصنيعها. وهذا يؤكد تأثير العامل الديني في الاقتصاد والحركة التجارية.
وفي النقد: ممنوع سيد قطب
ولا أقصد بهذه الكلمة السيد جابر عصفور الذي كتب في الأهرام مقالات عن النقاد في القرن العشرين, لم يشر فيها -مجرد إشارة- لسيد قطب. إنما أقصد واقعة خلاصتها أن وزارة التربية والتعليم المصرية قررت كتابًا باسم «فصول مختارة من النقد» علي الصف الثاني من معاهد المعلمين (القسم الخاص سنتين بعد الثانوية العامة) والكتاب يضم أكثر من عشرة فصول من النقد لأساتذة مختلفين. وفي الكتاب فصل لسيد قطب عنوانه «القيم الشعورية في العمل الأدبي» وهو مستل من كتابه (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) ولم يلتفت أي طالب لوجود هذا الفصل في الكتاب لأنه لم يكن ضمن ستة فصول اختيرت من الكتاب مقررًا. وصدر أمر رياسي في منتصف الستينيات من القرن الماضي بجمع الكتاب من الطلاب, وإعادته لهم بعد نزع هذا الفصل وحرقه. ولم يُحضر الكتاب إلا قرابة نصف الطلاب, وتم تشكيل لجنة في كل معهد لحرق الفصل المنزوع, مع أنه أدبي نقدي بحت, وأعيدت الكتب إلي أصحابها الذين لا يزيدون علي النصف, واعتقد الطلاب أن في الفصل المنزوع ما هو مهم خطير, فقرأه واستوعبه, من لم يُحضروا كتبهم, وتمكن الآخرون من قراءته كذلك, بل إن بعض المكتبات طبعت الفصل في كتيبّ صغير عنوانه «النقد المرفوض» بقلم سيد قطب, ووُزع هذا الكتيبّ علي أوسع نطاق. ولو «سكت» المسئولون العباقرة في وزارة التربية والتعليم, ما التفت إلي هذا الفصل أحد. والفصل -كما أشرت- لم يكن مقررًا مع أنه كان ضمن فصول الكتاب. ومرة أخري يقفز إلي خاطري قول الشاعر القديم:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
طُويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يُعرف طيبُ عَرف العود
(2)
يعلم الله أنني لم أكتب هذه الكلمات عن شهيد الإسلام سيد قطب «حرصًا مني علي الاشتراك في المعمعة -أو المعركة- حول سيد قطب» وهو ما ذكره الأستاذ حسنين كروم بصحيفة «القدس العربي».. ولكني كتبت ما كتبت اعتزازًا بالشهيد العظيم في ذكري استشهاده, وليس هناك معركة أخوض غمارها, ولا شبه معركة.
وصاحب «السيادة» فيما أكتب هو قلمي يسجل -دون تخطيط سابق- بعض ما رأيت, وبعض ما خطر لي بصورة عفوية حرة بلا انتظام زماني أو مكاني . فلأترك قلمي يواصل مسيرته دون «حظر» أو قيود.
طائفتان من الناس
رحم الله سيد قطب» شهيد الإسلام والفكر والإنسانية, فمن فضل الله علينا وعليه وعلي المسلمين أن الدعوة التي آمن بها, وعاش لها, واستُشهد من أجلها انتشرت علي أوسع نطاق علي أيدي طائفتين متناقضتين من البشر:
الطائفة الأولي: تلاميذه, ومريدوه, ومن تربوا في مدرسة الإخوان.
والطائفة الثانية: طائفة الحقدة والحاسدين الذين تمنوا بعض ما رزقه الله, فخابت أطماعهم, وأبوا إلا تجريحه, والإزراء بما أعطي وقدم من فكر وأدب.
وبحقدهم هذا فتحوا عيون الآخرين علي سيد قطب, فبحثوا عن الحقيقة, وقرءوا سيد قطب, وجهده وجهاده, وعطاءاته القرآنية والأدبية, فعلموا ما لم يكونوا يعلمون. وارتفع سيد وفكره في أنظارهم, وأنوف الحاقدين في الرغام.(/2)
لماذا ظلال القرآن?..
لقد قرأت كل ما كتب الشهيد سيد قطب, وكل ما كتب أثير عندي, ولكن كان للظلال مكانة خاصة في قلبي وعقلي فقد صاحب معه في المحرقة تعليقات كثيرة سجلتها علي هوامش الأجزاء التي قرأتها منه. وقد يرجع هذا التقدير لمنهجه الجديد الذي لم يُسبق إليه, ولما يتسم به أداؤه التعبيري من جماليات في التصوير, وبراعة في التعبير, ووجدان متوهج صادق, مما يتفق مع حبي للأدب, واشتغالي به.
وقد أبان الشهيد عن منهجه في الظلال, وطوابعه الموضوعية والفنية فجاء في صدر الجزء الأول «يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أن لكل سورة من سوره شخصية مميزة, شخصية يعيش معها القلب, وكما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس, ولها موضوع رئيسي, أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلي محور خاص, ولها جو خاص يظلل موضوعاتها كلها, ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو. ولها إيقاع موسيقي خاص, إذا تغير في ثنايا السياق, فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة, وهذا طابع عام في سور القرآن جميعًا..»
في ظلال الظلال...
وبعد إعدام الشهيد سيد طُبع الظلال عشرات الطبعات في البلاد العربية, وظهر كاملاً في مجلدات, وكانت فرصة لبعض دور النشر (التي تحولت إلي دور نشٍل) لتحقيق ثراء فاحش بطبعه دون استئذان الورثة, أو شقيقه «محمد» علي الأقل.
وفي مطلع السبعينيات -من القرن الماضي وقد كنت في الكويت- قرأت الظلال كله.. لم تكن قراءة عادية, ولكنها كانت معايشة.. نعم معايشة خرجت منها بعدة انطباعات علي رأسها: إيماني اليقيني بالدلالة العظمي للعنوان «في ظلال القرآن».. فآمنت شعوريًا وروحيًا أنه تعبير لم يجاوز الواقع إلي المجاز.
وأشهد الله أنني ما جلست إليه قارئًا إلا وسيطر عليّ شعور بأنني أخذت مجلسي علي ربوة وثيرة, تحت سرحة وارفة الشذا والظلال, وأن نسيمًا رقيقًا لطيفًا يلامس وجداني في حنان وضيء. وأن زخات من الرضوان الرحماني تخلعني من الزمان والمكان, وتزيدني شفافية.. كلما مضيت في الظلال.
وأذكر أنني حاولت أن أسجل خواطري علي هوامش الظلال, ولكن ذكري المحرقة التي أقامها أهلي في منزل الأسرة بالمنزلة قبل تخرجي في دار العلوم.. هذه الذكري أسقطت القلم من يدي بقوة خفية قهارة.
وفي ليلة ظلالية وأنا في مسكني بالكويت.. أخذتني نوبة من نوبات «الإلهام الشعري».. فحاولت أن أنظم بعض سبحات سيد قطب في الظلال, وخصوصًا وقفاته مع آيات المحن والشدائد, والشهادة والشهداء. ونظمت قرابة ثلاثين بيتًا علي مرتين وحمدت الله أن فُقدت مني» فقد أحسست أنني اقتحمت «حمي» لا حقّ لي فيه, وقد يفهم بعضهم أنها محاولة «لنظم القرآن» لا بعض قطع من ظلال القرآن.
محرقة لسانية..
وحديثي عن الظلال يذكرني بواقعة مؤسفة تتلخص في أن أحد العلماء المصريين زار الكويت سنة 1974, وهو معروف عنه في كتاباته بانتصاره للتراث العربي, وحملاته علي التغريب, وأنا أشهد له بذلك.
ومعروف أن «الديوانيات» لازمة من لوازم المجتمع الكويتي.. والديوانية قاعة واسعة تُفتح مساء كل خميس, ويحضرها من يشاء, وهم غالبًا من أهل الأدب والعلم, وذوي الوجاهة في المجتمع, ويناقَش فيها موضوع أو موضوعات متعددة.. بصورة عفوية, والكلام ذو شجون.
ورحب صاحب الديوانية بالعالم الضيف. ونقل إليّ أكثر من واحد تفاصيل ما حدث: كان «العالم» هو المتحدث الرئيسي.. بل المتحدث الوحيد, وبدأ بداية سيئة بالهجوم الشديد علي الإخوان ومرشدهم حسن البنا. ووصفهم «بالعمالة», وقدم الدليل «الحاسم جدًا» علي هذه الإدانة بأن جماعة الإخوان نشأت في منطقة الإسماعيلية حيث يهيمن المستعمرون الإنجليز, ويسيطرون علي كل الأجهزة في الإسماعيلية, ومنطقة قناة السويس.
فلما اعترض أحد الطلاب الجامعيين بقوله: هذا شأن كل الدعوات تنشأ في مناطق صعبة, وبلاد عديمة الإيمان.. شأنها شأن مكة.. نهره الأستاذ الكبير بحدة.. وصرخ في وجهه: أتشبه حسن البنا برسول الله صلي الله عليه وسلم?!.. يا «أخينا أنت».. يوم ما تعرف إزاي تتطهر من النجاسة.. «ابقي» تعال جادل أسيادك. وانسحب الطالب من الديوانية, ومعه عدد من الحاضرين, وهم يشعرون بالأسي والحزن.
وجاء الدور علي سيد قطب
ولما سأله أحدهم عن رأيه في ظلال القرآن, امتقع وجهه, وانطلق يجرّح «سيد قطب» بألفاظ لا تصدر من مسلم يملك الحد الأدني من الذوق والأدب, مما يدفعنا إلي إغفالها, وكان أكثر ما قاله اعتدالاً هو: الإخوان دول «دوشونا» بما يسمي «في ظلال القرآن», وأنا أتحدي أي واحد يريني أين «التفٍسير» في كتاب قطب هذا?(/3)
واستأنف «الأستاذ الكبير» منظومته الخسيسة في تجريح الشهيد سيد, وكل ما كتب, وخصوصًا «في ظلال القرآن» ولم يعلق صاحب الديوانية علي أية كلمة مما قاله «الضيف الأستاذ», تأدبًا منه وكرمًا. وأخذ الحاضرون يغادرون الديوانية.. واحدًا واحدًا, ولم يبق مع الضيف إلا خمسة هم المضيف ورجال الأسرة. قال واحد ممن نقل إلينا الواقعة المؤسفة: قطعًا الرجل لم يقرأ في ظلال القرآن ولو قرأه لغيّر رأيه.
قلت: بل قرأه قراءة جيدة, وفهمه فهمًا دقيقًا, ورأي ما فيه من تفوق سيد قطب وعبقريته, ولكن الحسد أكل قلبه, وطمس عقله» فالرجل لا يملك سماحة العالم ونبله, وسعة صدره, ولم يرزقه الله سعة أفق الداعية, وأسلوبه الواعي المتزن, ومن هنا جاء إخفاقه ذريعًا في تكوين «جماعة إسلامية» يضرب بها الإخوان ويوقف بها مسيرتهم.
ولكني أقول: «شكرًا» للرجل «الأستاذ جدًا» إذ فتح بحقده من حيث لا يقصد علي دعوة الإخوان, وعلي سيد قطب.. وما كتب, وخصوصًا «الظلال» بحقده الأسود -من حيث لايقصد- عيون الناس وعقولهم وقلوبهم علي الشهيد سيد قطب, وما كتب, وخصوصًا «ظلال القرآن».
ومحرقة.. بالأقلام
وبعد إعدام سيد قطب رحمه الله عملت الأقلام عملها, ولا أقصد الأقلام المريضة التي تكتب في الصحف الصفراء الكالحة, ولكني أقصد ما شاهدته من كتب مطبوعة طباعة فاخرة, في بعض البلاد العربية, وتباع بأسعار رمزية, وكلها مطاعن في الإخوان ودعوتهم, وقادتهم, ونال سيد قطب منها الحديث الأوفي: فهو باطني, يدعو إلي عقيدة «الحلول» ووحدة الوجود, وهو يناصر دعوة عبد الله بن سبأ اليهودي, وأنه عاش طيلة حياته رقيق الدين, مستهينًا بالعقيدة. وأنه.. وأنه... ولو صحت هذه الافتراءات التي كتبها «علماء»(!!!) طوال اللحي- لكان سيد قطب زنديقًا مارقًا من الملة والعياذ بالله.
ومرة أخري حققت هذه الدعاوي والادعاءات الكاذبة عكس ما تغياه أصحابها, وأصبح لدعوة الإخوان وسيد قطب وجود وكيان في هذه البلاد, ومنها -بل أهمها- ما لم يعرف الأحزاب من قبل.
. . .
إنها محارق ثلاث أقيمت لدعوة الإخوان وكتبهم وكتب سيد قطب: المحرقة الأولي كانت بدافع الخوف عليّ من حكومة الميمونة, وهي تلك التي أقامها أهلي فأتت علي مكتبي بالمنزلة. والمحرقة الثانية محرقة كلامية, تولّي كبرها بألسنة حداد بالتجريح والكذب «الأستاذ» زائر الكويت, ومن دار في فلكه. والمحرقة الثالثة «محرقة قلمية» تمثلت في الكتب الفخمة التي أشرت إليها آنفًا, وهي تنضح بالكذب والتجريح لسيد قطب والإخوان. وكذبوا.. وهم بمحارقهم لا يحرقون إلا أنفسهم المخروبة, ومنطقهم الهش المنتفش.. أما الإخوان ودعوتهم فخرجوا من هذه المحارق كالذهب الإبريز, وهم -بحمد الله- في تزايد ممتد, وقوة مطردة, ونشكر «الحاقدين المحروقين», وأذكّر القراء بالبيتين الخالدين:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
طُويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود
. . .
* أكاديمي وشاعر مصري كبير(/4)
عناية الإسلام بالمرأة (1)
موقع المنبر
أولًا: المرأة الجاهلية في القرآن الكريم:
1- الاستياء منها ودفنها حية:
قال الله تعالى: ?وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ ?58? يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ? [النحل:58، 59].
قال البغوي: "وكان الرجل من العرب إذا وُلدت له بنت وأراد أن يستحيِيَها ألبسها جبةَ من صوف أو شعر وتركها ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية قال لأمها: زيِّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئرًا في الصحراء، فإذا بلغ بها البئر قال لها: انظري إلى هذه البئر، فيدفعها من خلفها في البئر ثم يهيل على رأسها التراب حتى يستوي البئر بالأرض"[ معالم التنزيل (5/25)].
2- حرمانها من الميراث:
قال الله تعالى: ?لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضً? [النساء:7].
قال سعيد بن جبير وقتادة: "كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ولا يورثون النساء والأطفال شيئًا فأنزل الله: ?لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضً? [النساء:7]"[ انظر: تفسير ابن كثير (1/465)].
3- إباحة حلائل الآباء لأبنائهم بعد الموت والجمع بين الأختين:
قال الله تعالى: ?وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلً? [النساء:22].
قال قتادة: "كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا أن الرجل كان يخلُف على حليلة أبيه ويجمعون بين الأختين"[ جامع البيان (3/393)].
4- عدم معاشرة الحائض في البيت:
قال الله تعالى: ?وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى? [البقرة:222].
قال قتادة: "كان أهل الجاهلية لا تساكنهم حائض في بيت ولا تؤاكلهم في إناء؛ فأنزل الله تعالى في ذلك، فحرم فرجَها ما دامت حائضًا، وأحلَّ ما سوى ذلك؛ أن تصبغ لك رأسك وتؤاكلك من طعامك، وأن تضاجعك في فراشك إذا كان عليها إزار فتحجزه به دونك"[ جامع البيان (2/393)].
5- التبرّج:
قال الله تعالى: ?وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى? [الأحزاب:33].
قال مجاهد: "كانت المرأة تخرج تمشي بين الرجال فذلك تبرّج الجاهلية"[ تفسير ابن كثير (3/768) ط. التجارية].
ثانيًا: وصية الرسول -صلى الله عليه وسلم-بالنساء:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: (واستوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرتَه، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خير) [ أخرجه البخاري في النكاح، باب: الوصاة بالنساء (5185، 5186)، ومسلم في الرضاع (1468)].
قال الطيبي: «والمعنى: أوصيكم بهن خيرًا، فاقبلوا وصيتي فيهن، (فإنهن خلقن من ضلع) أي: خلقن خلقًا فيه اعوجاج، وكأنهن خلقن من أصل معوجٍّ، فلا يتهيأ الانتفاع بهن إلا بمداراتهن والصبر على اعوجاجهن» [ شرح الطيبي على مشكاة المصابيح (6/306)].
قال الشيخ ابن عثيمين: «وفي هذا توجيه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-إلى معاشرة الإنسان لأهله، وأنه ينبغي أن يأخذ منهم العفو وما تيسر كما قال تعالى: ?خُذِ الْعَفْوَ? [الأعراف:199]، يعني: ما عفا وسهل من أخلاق الناس، ?وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ? [الأعراف:199]» [ شرح رياض الصالحين (5/139-140)].
ثالثًا: حق المرأة في العبادة:
1- الأصل مساواة المرأة للرجل في الأحكام الشرعية:
والدليل على ذلك:
أ- أن مناط التكليف بأحكام الشريعة الإسلامية كون الإنسان بالغًا عاقلًا لحديث: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق)([ أخرجه أحمد (6/100-101)، وأبو داود في الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حدًا (4398)، والنسائي في الطلاق، باب: من لا يقع طلاقه من الأزواج (3432)، وابن ماجه في الطلاق، باب: طلاق المعتوه والصغير والنائم (2041)، وصححه الحاكم (2/59)، ووافقه الذهبي، وخرجه الألباني في الإرواء (297) وقال: "صحيح"])، فإذا بلغ الإنسان الحلم وكانت أقواله وأفعاله جارية وفقًا للمألوف المعتاد بين الناس مما يستدلُّ به على سلامة عقله حُكِم بتكليفه بأحكام الشريعة لتوفُّر مناط التكليف، والمرأة يتحقق فيها هذا المعنى كما يتحقق في الرجل[المفصل في أحكام المرأة (4/ 176)].(/1)
ب- قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال)[ أخرجه أحمد (6/ 256)، وأبو داود في الطهارة، باب: في الرجل يجد البلة في منامه (236)، والترمذي في الطهارة، باب: ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللًا ولا يذكر احتلامًا (113) عن عائشة رضي الله عنها، وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي بشواهده (1/190-192)، والألباني في السلسلة الصحيحة (2863)].
قال الخطابي: "أي: نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطباع، فكأنهن شُقِقن من الرجال. وفيه من الفقه... أنّ الخطاب إذا ورد بلفظ الذكور كان خطابًا للنساء إلا مواضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها"[ معالم السنن (1/161)].
ج- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم-مبعوث إلى الرجال والنساء جميعا.
قال ابن حزم: "ولما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-مبعوثًا إلى الرجال والنساء بعثًا مستويًا وكان خطاب الله تعالى وخطاب نبيه -صلى الله عليه وسلم-للرجال والنساء واحدًا لم يجز أن يخَصَّ بشيء من ذلك الرجالُ دون النساء إلا بنصّ جليّ أو إجماع"[ الإحكام في أصول الأحكام (3/337)].
وقال أيضًا: "وقد تيقنَّا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-مبعوث إليهن كما هو إلى الرجال، وأن الشريعة التي هي شريعة الإسلام لازمة لهن كلزومها للرجال، وأيقنَّا أن الخطاب بالعبادات والأحكام متوجِّه إليهن كتوجُّهه إلى الرجال إلا ما خصَّهن أو خصَّ الرجالَ منهن دليلٌ، وكل هذا يوجب أن لا يُفرد الرجالُ دونهن بشيء قد صحَّ اشتراكُ الجميع فيه إلا بنص أو إجماع"[ الإحكام في أصول الأحكام (3/341-342)].
2- إسقاط بعض العبادات عن المرأة نظرًا لطبيعتها:
وهذا له صور كثيرة منها:
أ- إسقاط الصلاة والصوم عن الحائض والنفساء:
قال صلى الله عليه وسلم: (أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم؟! فذلك نقصان دينه)[ أخرجه البخاري في الحيض، باب: ترك الحائض الصوم (304)، ومسلم في الإيمان (79) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه].
قال النووي: "أجمع المسلمون على أن الحائض والنفساء لا تجب عليهما الصلاة ولا الصوم في الحال"[ شرح صحيح مسلم (1/637)].
وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن البخاري([هو من علماء الحنفية، توفي في جمادى الآخرة سنة 546هـ. انظر: الجواهر المضية، وأبجد العلوم (2/497)]) في بيان الحكمة من ذلك: "علِم الله تعالى ضعفَ النساء وفتورَهن إذ هو خَلَقهن فأحبَّ أن يضع عنهن بعضَ العبادات ترفيهًا في حقِّهن وتخفيفًا لهن، فكان أليقَ الأحوال بالوضع حالةُ الحيض إذ هي متلوثةٌ بأشد الأشياء لوثًا سماه الله تعالى أذًى بقوله: ?قُلْ هُوَ أَذًى? [البقرة:222]، وهو الدم المخصوص بالرحم يترشَّح فيه من جميع الأعضاء، ويجتمع في الرحم، ثم يخرج في هذه الأيام المعدودة، فوضع الله تعالى عنها كلَّ عبادة تختصُّ بالطهارة نحو الصلاة وقراءة القرآن ومسِّ المصحف ودخول المسجد والطوافِ بالبيت، وجعل الطهارة عن الحيض شرطًا لأداء الصوم، وإذا كان الصوم لا يختصُّ بالطهارة عن سائر الأحداث إظهارًا لفحش هذه الحالة وإظهارًا لشرف هذه العبادة، فوضع العبادات عنها ونهاها عن إقامة شيء من هذه العبادات لتنتهي بنهي الله تعالى، فيحصل لها ثواب الانتهاء كما يحصل لها ثواب الائتمار حالة الطهر"[ محاسن الإسلام (ص 35)].
ب- إلزامها بقضاء الصوم دون الصلاة بعد زوال الحيض:
عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟! فقال: أحرورية أنت؟! قلت: لست بحرورية ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة[أخرجه البخاري في الحيض، باب: لا تقضي الحائض الصلاة (321)، ومسلم في الحيض، باب: وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة (335)].
قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن عليها الصوم بعد الطهر، ونفى الجميع عنها وجوب الصلاة"[ الأوسط (2/203)].
قال ابن حجر: "والذي ذكره العلماء في الفرق بين الصلاة والصيام أن الصلاة تتكرر فلم يجب قضاؤها للحرج بخلاف الصيام"[ فتح الباري (1/502)].
ج- وضع الصيام عن الحامل والمرضع:
عن أنس بن مالك الكعبي رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: (إن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل أو المرضع الصوم أو الصيام)[ أخرجه الترمذي في الصوم، باب: ما جاء في الرخصة في الإفطار للحبلى والمرضع (715)، والنسائي في الصيام، ذكر اختلاف معاوية بن سلام وعلي بن المبارك (2274)، وقال الترمذي: "حسن"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (575)].
قال ابن قدامة: "وجملة ذلك أن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما فلهما الفطر وعليهما القضاء فحسب، لا نعلم بين أهل العلم اختلافًا؛ لأنهما بمنزلة المريض الخائف على نفسه، وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء وإطعام مسكين عن كل يوم"[ المغني (4/ 394)].
د- إسقاط طواف الوداع عن الحائض:(/2)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفِّف عن الحائض[أخرجه البخاري في الحج، باب: طواف الوداع (1755)، ومسلم في الحج (1328)].
قال الخرقي: "والمرأة إذا حاضت قبل أن تودِّع خرجت ولا وداع عليها ولا فدية"، قال ابن قدامة: "وهذا قول عامة فقهاء الأمصار"[ المغني (5/341)].
رابعًا: العناية بالمرأة في العرض والكرامة:
جعل الشرع للحفاظ على عرض المرأة وصيانة كرامتها أحكامًا كثيرة، منها:
1- الأمر بالقرار في البيوت:
قال الله تعالى: ?وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ? [الأحزاب:33].
قال القرطبي: "معنى هذه الآية: الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي -صلى الله عليه وسلم-فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخصُّ جميعَ النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة"[ الجامع لأحكام القرآن (14/ 176)].
2- الأمر بالحجاب:
قال الله تعالى: ?ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لأزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمً? [الأحزاب:59].
قال ابن عطية: "لما كانت عادة العربيات التبذل في معنى الحجبة، وكنّ يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن وتشعب الفكر فيهن؛ أمر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم-بأمرهن بإدلاء الجلابيب ليقع سترهن، ويبين الفرق بين الحرائر والإماء فيعرف الحرائر بسترهن"[ المحرر الوجيز (4/399)].
قال: "وقوله: ?ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ? [الأحزاب:59] أي: على الجملة بالفرق حتى لا يختلطن بالإماء، فإذا عُرفن لم يقابلن بأذًى من المعارَضَة[أي: لم يعترض عليهن أحد] مراقبةً لرتبة الحرية، وليس المعنى أن تُعرف المرأة حتى يعلم من هي"[ المحرر الوجيز (4/399)].
3- النهي عن التبرج:
قال الله تعالى: ?وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى? [الأحزاب:33].
قال الشيخ ابن باز: "ونهاهن عن تبرج الجاهلية وهو إظهار الزينة والمحاسن كالرأس والوجه والعنق والصدر والذراع والساق ونحو ذلك من الزينة، لما في ذلك من الفساد العظيم والفتنة الكبيرة وتحريك قلوب الرجال إلى تعاطي أسباب الزنا، وإذا كان الله سبحانه يحذِّر أمهاتِ المؤمنين من هذه الأشياء المنكرة مع صلاحهن وإيمانهن فغيرهن أولى وأولى بالتحذير والإنكار والخوف عليهن من أسباب الفتنة"[ حكم السفور والحجاب، مجلة البحوث الإسلامية، العدد 14، 1405هـ - 1406ه].
4- الأمر بغض الأبصار وحفظ الفروج:
قال الله تعالى: ?وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ? [النور:31].
قال ابن كثير: "هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات، وغيرة منه لأزواجهن عبادِه المؤمنين، وتمييزٌ لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركات"[ تفسير القرآن العظيم (3/311)].
قال الشيخ ابن باز: "فأمر المؤمنات بغضّ البصر وحفظ الفرج كما أمر المؤمنين بذلك صيانةً لهن من أسباب الفتنة وتحريضًا لهن على أسباب العفة والسلامة"[ التبرج والسفور، مجلة البحوث الإسلامية، العدد 14].
5- النهي عن إظهار الزينة لغير المحارم:
قال الله تعالى: ?وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَ? [النور:31].
قال ابن كثير: "أي: لا يظهرن شيئًا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه، قال ابن مسعود: (كالرداء والثياب) يعني: على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلِّل ثيابها وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه؛ لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه"[ تفسير القرآن العظيم (3/312)].
قال الأستاذ سيد قطب: "والزينة حلالٌ للمرأة تلبيةً لفطرتها، فكلُّ أنثى مولعةٌ بأن تكون جميلةً وأن تبدوَ جميلة، والزينة تختلف من عصر إلى عصر، ولكن أساسها في الفطرة واحدٌ هو الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله وتجليته للرجال، والإسلام لا يقاوم هذه الرغبةَ الفطرية، ولكنه ينظِّمها ويضبطها ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد هو شريك الحياةِ، يطَّلع منها على ما لا يطَّلع أحد سواه، ويشترك معه في الاطلاع على بعضها المحارمُ المذكورون في الآية بعد، ممن لا يثير شهواتهم ذلك الاطلاعُ"[ في ظلال القرآن (4/2512)].
6- النهي عن الخضوع بالقول:
قال الله تعالى: ?يانِسَاء النَّبِىّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ? [الأحزاب:32].
قال ابن كثير: "ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم، أي: لا تخاطب المرأة الأجانبَ كما تخاطب زوجها"[ تفسير القرآن العظيم (3/531)].(/3)
قال الشوكاني: "أي: لا تُلنَّ القول عند مخاطبة الناس كما تفعله المرِيبَات من النساء فإنه يتسبَّب عن ذلك مفسدة عظيمة، وهي قوله: ?فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ? [الأحزاب:32] أي: فجور وشكّ ونفاق"[ فتح القدير (4/277)].
7- تحريم الخلوة بالأجانب وتحريم سفرها بلا محرم:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم-يخطب يقول: (لا يخلوَنَّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم)، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجةً، وإني اكتُتِبتُ في غزوة كذا وكذا، قال: (انطلق فحج مع امرأتك)[ أخرجه البخاري في الحج، باب: حج النساء (1862)، ومسلم في الحج (1341)].
قال ابن حجر: "فيه منع الخلوة بالأجنبية وهو إجماع"[ فتح الباري (4/92)].
قال القاضي عياض: "والمرأة فتنةٌ ممنوعٌ الانفراد بها لما جُبِلت عليه نفوسُ البشر من الشهوة فيهن، وسُلِّط عليهم الشيطانُ بواسطتهن، ولأنهن لحم على وَضَم[الوضم: كل شيء يوضع عليه اللحم من خشب أو باريّة يوقى به من الأرض. مختار الصحاح (ص302)] إلا ما ذُبّ عنه، وعورةٌ مضطرة إلى صيانة وحفظٍ وذِي غيرة يحميها ويصونها، وطبع الله في ذوي المحارم من الغيرة على محارمهم والذبِّ عنهن ما يؤمَن عليهن في السفر معهم ما يُخشى"[ إكمال المعلم (4/448)].
8- التحذير من الدخول على النساء لغير المحارم:
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: (إياكم والدخول على النساء)، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: (الحمو الموت)[ أخرجه البخاري في النكاح، باب: لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم والدخول على المغيبة (5232)، ومسلم في الأدب (2083)].
قال القرطبي: "قوله: (الحمو الموت) أي: دخوله على زوجة أخيه يشبه الموتَ في الاستقباح والمفسدة، أي: فهو محرَّم معلوم التحريم، وإنما بالغ في الزجر عن ذلك وشبَّهه بالموت لتسامح الناس في ذلك من جهة الزوج والزوجة لإلفِهم ذلك، حتى كأنه ليس بأجنبيٍّ من المرأة عادة، وخرج هذا مخرج قول العرب: الأسد الموت، والحرب الموت، أي: لقاؤه يفضي إلى الموت، وكذلك دخول الحمو على المرأة يفضي إلى موت الدين، أو إلى موتها بطلاقها عند غيرة الزوج، أو برجمها إن زنت معه"[ المفهم (5/501)].
9- الابتعاد عن مخالطة الرجال حتى في أماكن العبادة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أوله)[ أخرجه مسلم في الصلاة (349)].
قال القرطبي: "فأما الصفُّ الأول من صفوف النساء فإنما كان شرًا من آخرها لما فيه من مقاربة أنفاس الرجال للنساء، فقد يخاف أن تشوّش المرأة على الرجل والرجل على المرأة"[ المفهم ()].
قال النووي: "وإنما فضَّل آخرَ صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك، وذمَّ أوَّل صفوفهن لعكس ذلك"[ شرح صحيح مسلم (4/159-160)].
قال الشيخ ابن باز: "وكان النساء في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-لا يختلطن بالرجال لا في المساجد ولا في الأسواق الاختلاط الذي ينهى عنه المصلحون اليوم ويرشد القرآن والسنة علماءَ الأمة إلى التحذير منه حذرًا من فتنته، بل كان النساء في مسجده -صلى الله عليه وسلم-يصلين خلف الرجال في صفوف متأخرة عن الرجال، وكان يقول صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها وشرُّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أوله) حذرًا من افتتان آخر صفوف الرجال بأول صفوف النساء، وكان الرجال في عهده -صلى الله عليه وسلم-يؤمرون بالتريُّث في الانصراف حتى يمضي النساء ويخرجن من المسجد لئلا يختلط بهنَّ الرجال في أبواب المساجد مع ما هم عليه جميعًا رجالًا ونساء من الإيمان والتقوى، فكيف بحال مَن بعدهم؟! وكانت النساء يُنهَين أن يتحقَّقن الطريقَ ويُؤمَرن بلزوم حافّات الطريق حذرًا من الاحتكاك بالرجال والفتنة بمماسَّة بعضهم بعضًا عند السير في الطريق"[ حكم الاختلاط في التعليم، نشر مجلة البحوث الإسلامية. العدد 15/ 1406ه].
10- التشديد في خروج المرأة متعطِّرة:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة استعطرت فمرَّت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية)[ أخرجه أبو داود في الترجل، باب: في طيب المرأة للخروج (4167)، والترمذي في الاستئذان، باب:ما جاء في كراهية خروج المرأة متعطرة (2937)، والنسائي في الزينة، باب: ما يكره للنساء من الطيب (5126) واللفظ له، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في اية المرام (84)].
قال المباركفوري: "لأنها هيَّجت شهوةَ الرجال بعطرها وحملتهم على النظر إليها، ومن نظر إليها فقد زنى بعينيه، فهي سبب زنا العين، فهي آثمة"[ تحفة الأحوذي (8/58)].
11- الغيرة على النساء:(/4)
قال الشيخ محمد أحمد المقدم: "إن من آثار تكريم الإسلام للمرأة ما غرسه في نفوس المسلمين من الغيرة، ويقصد بالغيرة تلك العاطفة التي تدفع الرجل لصيانة المرأة عن كل محرَّم وشين وعار، ويعدُّ الإسلام الدفاعَ عن العرض والغيرةَ على الحريم جهادًا يبذل من أجله الدم، ويضحَّى في سبيله بالنفس، ويجازي فاعلَه بدرجة الشهيد في الجنة، فعن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يقول: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد)[ أخرجه أحمد (1/190)، وأبو داود في السنة، باب: في قتل اللصوص (4772)، والترمذي في الديات، باب: ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد (1418)، وابن ماجه في الحدود، باب: من قتل دون ماله فهو شهيد (2580)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (3/119)، والألباني في إرواء الغليل (708)]، بل يعدُّ الإسلام الغيرةَ من صميم أخلاق الإيمان، فمن لا غيرة له لا إيمان له، ولهذا كان رسول الله صلى الله -صلى الله عليه وسلم-أغيرَ الخلق على الأمة، فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غيرَ مصفح، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فقال: (تعجبون من غيرة سعد؟! واللهِ، لأنا أغير منه، واللهُ أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) الحديث[رواه البخاري في المحاربين، باب: من رأى مع امرأته رجلًا فقتله (6846)، ومسلم في اللعان (1499)]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: (إن الله يغار وإن المؤمن يغار، وإن غيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه)[ رواه البخاري في النكاح، باب: الغيرة (5223)، ومسلم في التوبة (2761)].
وإن من ضروب الغيرة المحمودة أنَفَةَ المحب وحميَّته أن يشاركه في محبوبه غيرُه، ومن هنا كانت الغيرة نوعًا من أنواع الأثرة لا بد منه لحياطة الشرف وصيانة العرض، وكانت أيضًا مثارَ الحمية والحفيظة فيمن لا حميةَ له ولا حفيظة.
وضدُّ الغيور الديُّوث، وهو الذي يقرُّ الخبثَ في أهله أو يشتغل بالقيادة، قال العلماء: الديوث الذي لا غيرةَ له على أهل بيته، وقد ورد الوعيد الشديد في حقه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه والمرأة المترجلة والديوث) الحديث[أخرجه أحمد (2/134)، والنسائي في الزكاة، باب: المنان بما أعطى (2561)، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (9/34)، والألباني في صحيح سنن النسائي (2402)].
إن الغيرةَ على حرمة العفَّة ركنُ العروبة وقوام أخلاقها في الجاهلية والإسلام؛ لأنها طبيعة الفطرة البشرية الصافية النقية، ولأنها طبيعة النفس الحرة الأبية"[ عودة الحجاب (3/114-115)].
خامسًا: المرأة في المجتمع:
للمرأة في المجتمع المسلم مكانة عظيمة وحقوق تتمتّع بها، ومن ذلك:
1- تحريم عقوق الأمَّهات:
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم عليكم عقوقَ الأمهات ووأد البنات ومنعَ وهات، وكره لكم: قيل وقال وكثرةَ السؤال وإضاعة المال) [ رواه البخاري في الاستقراض، باب: ما ينهى من إضاعة المال (2408)، ومسلم في الأقصية (1715)].
قال ابن حجر: "قيل: خصَّ الأمهاتِ بالذكر لأن العقوق إليهن أسرع من الآباء لضعف النساء، ولينبِّه على أن برَّ الأم مقدَّم على برِّ الأب في التلطف والحنو ونحو ذلك" [ فتح الباري (5/83)].
2- تقديم الأم في البر على الأب:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فقال: من أحقّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (ثم أمك)، قال: ثم من؟ قال: (ثم أمك)، قال: ثم من؟ قال: (ثم أبوك) [ أخرجه البخاري في الأدب، باب: من أحق الناس بحسن الصحبة؟ (597)، ومسلم في البر (2548)].
قال النووي: "وفيه الحث على بر الأقارب، وأن الأم أحقهم بذلك، ثم بعدها الأب، ثم الأقرب فالأقرب، قال العلماء: وسبب تقديم الأم كثرةُ تعبها عليه وشفقتها وخدمتها، ومعاناة المشاق في حمله ثم وضعه ثم إرضاعه ثم تربيته وخدمته وتمريضه وغير ذلك" [ شرح صحيح مسلم (16/102)].
3- تحريم وأد البنات:
عن المغيرة بن شعبة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات...) الحديث [رواه البخاري في الاستقراض، باب: ما ينهى من إضاعة المال (2408)، ومسلم في الأقصية (1715)].
قال النووي: "وأما وأد البنات فهو دفنهنَّ في حياتهن فيمُتن تحت التراب، وهو من الكبائر الموبقات؛ لأنه قتل نفس بغير حق، ويتضمن أيضًا قطيعة الرحم، وإنما اقتصر على البنات لأنه المعتاد الذي كانت الجاهلية تفعله" [ شرح صحيح مسلم (12/12)].
4- الحثّ على تربية البنات وفضله:(/5)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يلي من هذه البنات شيئًا فأحسن إليهن كنّ له سترًا من النار) [ أخرجه البخاري في الأدب، باب: رحمة الولد (5995)، ومسلم في البر (2629)].
قال ابن حجر: "وفي الحديث تأكيد حقِّ البنات لما فيهن من الضعف غالبًا عن القيام بصالح أنفسهن، بخلاف الذكور لما فيهم من قوة البدن وجزالة الرأي وإمكان التصرف في الأمور المحتاج إليها في أكثر الأحوال" [ فتح الباري (10/443)].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو) وضمَّ أصابعه [رواه مسلم في البر (2631)].
قال النووي: "فيه فضل الإحسان إلى البنات والنفقة عليهن والصبر عليهن وعلى سائر أمورهن" [ شرح صحيح مسلم (16/179)].
5- حقّ المرأة في التعلُّم:
أ- فضل تعليم الرجلِ أهلَه:
قال البخاري في صحيحه: "باب تعليم الرجل أمته وأهله".
وأخرج عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، والعبد المملوك إذا أدَّى حقَّ الله وحقَّ مواليه، ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلَّمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران) [ صحيح البخاري: كتاب العلم (97)].
قال ابن حجر: "مطابقة الحديث للترجمة في الأمة بالنص، وفي الأهل بالقياس؛ إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسنن رسوله آكد من الاعتناء بالإماء" [ فتح الباري (1/229)].
ب- الإمام الأعظم يعظ النساء ويعلمهن:
قال البخاري في صحيحه: "باب عظة الإمام النساء وتعليمهن".
ثم أخرج عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم-خرج ومعه بلال، فظنَّ أنه لم يُسمع، فوعظهن وأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي القرطَ والخاتمَ، وبلال يأخذ في طرف ثوبه [صحيح البخاري: كتاب العلم (98)، ومسلم في صلاة العيدين (884)].
قال ابن حجر: "نبه بهذه الترجمة على أن ما سبق من الندب إلى تعليم الأهل ليس مختصًا بأهلهن، بل ذلك مندوب للإمام الأعظم ومن ينوب عنه، واستُفيد التعليم من قوله: (وأمرهن بالصدقة) كأنه أعلمهن أن في الصدقة تكفيرًا لخطاياهن" [ فتح الباري (1/232)].
قال ابن بطال: "فيه أنه يجب على الإمام افتقاد أمور رعيته وتعليمهم ووعظهم، الرجال والنساء في ذلك سواء، لقوله عليه السلام: (الإمام راع ومسئول عن رعيته) [ صحيح البخاري: الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن (893)، ومسلم في الامارة (1829) عن ابن عمر رضي الله عنهم]، فدخل في ذلك الرجال والنساء" [ شرح صحيح البخاري (1/175)].
ج- الحائض يرغَّب لها تعلُّم أمور دينها:
عن أم عطية قالت: أُمرنا أن نخرج الحُيَّض يوم العيدين وذوات الخدور فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم ويعتزل الحيَّض عن مصلاهن [أخرجه البخاري في الصلاة، باب: وجوب الصلاة في الثياب (351)، ومسلم في صلاة العيدين (890)].
قال الحافظ: "فيه أن الحائض لا تهجر ذكر الله ولا مواطن الخير كمجالس العلم والذكر سوى المساجد" [ فتح الباري (1/505)].
د- تخصيص النساء بأيام خاصة لتعليمهن:
قال البخاري: "باب: هل يُجعل للنساء يومٌ على حدة في العلم؟".
ثم أخرج عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يومًا من نفسك، فوعدهنَّ يومًا لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن: (ما منكن امرأة تقدِّم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابًا من النار)، فقالت امرأة: واثنين؟ فقال: (واثنين) [ صحيح البخاري: كتاب العلم (101)، ومسلم في البر (2633)].
قال ابن بطال: "وفيه سؤال النساء عن أمور دينهن، وجواز كلامهن مع الرجال في ذلك فيما لهن الحاجة إليه، وقد أخذ العلم عن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-وعن غيرهن من نساء السلف" [ شرح صحيح البخاري (1/178)].
قال ابن الجوزي: "المرأة شخص مكلَّف كالرجل، فيجب عليها طلب علم الواجبات عليها لتكون من أدائها على يقين. فإن كان لها أب أو أخ أو زوج أو محرَم يعلِّمها الفرائض ويعرِّفها كيف تؤدي الواجبات كفاها ذلك، وإن لم تكن سألت وتعلَّمت، فإن قدرت على امرأة تعلمت ذلك وتعرفت منها، وإلا تعلمت من الأشياخ وذوي الأسنان من غير خلوة بها، وتقتصد على قدر اللازم، ومتى حدثت لها حادثة في دينها سألت ولم تستحي؛ فإن الله لا يستحيي من الحق" [ انظر: أحكام النساء (ص25)].(/6)
وقال الشيخ عبد الله آل محمود: "إن المرأة كالرجل في تعلُّم الكتابة والقراءة والمطالعة في كتب الدين والأخلاق وقوانين الصحة والتدبير وتربية العيال ومبادئ العلوم والفنون من العقائد الصحيحة والتفاسير والسير والتاريخ وكتب الحديث والفقه، كل هذا حسن في حقها تخرج به عن حضيض جهلها، ولا يجادل في حُسنه عاقلٌ، مع الالتزام بالحشمة والصيانة وعدم الاختلاط بالرجال الأجانب" [ انظر: المرأة المسلمة أمام التحديات لأحمد الحصين (ص 64-65)].
وقال الشيخ أحمد الحصين: "إن الله لم يحرم تعليم الفتاة، إنما حثَّ على تعليمها، ولكن نجد اليوم بنات المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي يدرُسن موادَّ لا تصلح لأنوثتهن وطبيعتهن التي خلقها الله، فهي تخالف تكوينها الجسمي مثل الجيولوجيا والكيمياء والتنقيب عن البترول، والطامة الكبرى أننا نرى الفتيات المسلمات يسافرن إلى بلاد أوروبا أو بلاد الشيوعية للدراسة والتعليم، وهذا يكون محرّمًا عليهن، ومن ثم نرى التعليم اليوم في أغلب بلاد العالم العربي والإسلامي بعيدًا كل البعد عن الدين وشئون المرأة الذي يسير مع تكوينها الجسمي والعقلي، ومن ثم المنهج التعليمي التربوي أكثره تضعه هيئة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة التي لا تعرف عن ديننا إلا ما تتلقاه من المستشرقين والمبشرين، فحين أمرنا الإسلام بتعليم الإناث أمرَ بتعليمهن الأشياء التي تصلح لمقوِّمات الحياة التي تليق بالمرأة والتي تحتاج إليها كربَّة بيتٍ مشرفة على شئون منزلها مثل التطريز والخياطة والطهي وتربية الأولاد وتعليمهن الدين من عقائد وعبادات وتهذيب وسيرة وغيرها من العلوم النافعة التي تنفعها في الدنيا والآخرة، ولكن الأيدي الخفية لا ترى هذا، إنها تريد تدميرها وانحرافها عن طريق الحق إلى طريق الهاوية" [ المرأة المسلمة أمام التحديات (ص 66-67)].
6- المرأة والعمل:
أ- الأصل في المرأة قرارها في البيت:
قال الله تعالى: ?وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنٌَّ? [الأحزاب:33].
قال القرطبي: "معنى هذه الآية: الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي -صلى الله عليه وسلم-فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخصُّ جميعَ النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة" [ الجامع لأحكام القرآن (14/ 176)].
ب- واجب المرأة في بيتها:
إن واجب المرأة في بيتها هو القيام بأعمال البيت وما تتطلبه الحياة الزوجية والوفاء بحق الزوج عليها، وقيامها بشؤون أولادها وتربيتهم وخدمتهم. وهذه الواجبات كثيرة جدًا ومتعِبة، وتحتاج إلى تفرغ المرأة لها، وبالتالي لا يمكنها عادةً وغالبًا القيامُ بالعمل المباح لها خارجَ البيت إلا على حساب التفريط بهذه الواجبات والتقصير في أدائها إن لم نقل إهمالها، وحيث إن من أصول الحقوق والواجبات عدمَ جواز مزاحمة ما هو حق للإنسان لما هو واجب عليه فلا يجوز أن يزاحمَ عملُ المرأة المباحُ لها واجباتِ المرأة في البيت [المفصل في أحكام المرأة (4/265)].
ج- ضمان النفقة للمرأة:
قال تعالى: ?لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ اللَّهٌُ? [الطلاق:7].
قال القرطبي: "أي: لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وُسعه حتى يوسِّع عليهما إذا كان موسَّعًا عليه، ومن كان فقيرًا فعلى قدر ذلك" [ الجامع لأحكام القرآن (18/170)].
وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال في خطبة عرفة: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) [ رواه مسلم في الحج (1218)].
قال النووي: "فيه وجوب نفقة الزوجة وكسوتها، وذلك ثابت بالإجماع" [ شرح صحيح مسلم (8/184)].
قال ابن قدامة: "وفيه ضربٌ من العبرة، وهو أن المرأة محبوسة على الزوج يمنعها من التصرف والاكتساب، فلا بد من أن ينفق عليها كالعبد مع سيده" [ المغني (11/348)].
قال الدكتور عبد الله الطريقي: "المرأة باعتبارات شرعية اقتضتها متطلبات حالها الملزمة للستر والعفاف مُنعت من مخالطة الرجال لأجل كسب القوت، وجُعل الإنفاق عليها حقًا على الغير من زوج أو قريب لكونها زوجًا أو أمًا أو بنتًا أو قريبة ذات رحم محرم عليها، فلها حق الرعاية والإنفاق متى ما كانت مستحقة لذلك" [ نفقة المرأة الواجبة على زوجها، نشر مجلة البحوث الإسلامية، عدد 19، 1407ه].
د- الضرورة تبيح العمل للمرأة:
قال الشيخ عبد الكريم زيدان: "وإذا كان الأصل في عمل المرأة خارجَ البيت هو المنع والحظر فإن الجواز هو الاستثناء إذا اقتضت الضرورة ذلك؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات، وهي من القواعد الثابتة في الشريعة الإسلامية التي لا خلاف فيها، فإذا اقتضت ضرورةٌ اكتسابَ المرأة عن طريق العمل المشروع ما تسدُّ به متطلَّبات معيشتها جاز لها هذا العمل" [ المفصل في أحكام المرأة (4/267-268)].
ومن أدلة ذلك:(/7)
1- قول الله تعالى: ?وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌٌ? [القصص:22].
قال الشيخ عبد الكريم زيدان: "ووجه الدلالة بالآية الكريمة أن شعيبًا عليه السلام أذن لابنتيه أن تسقيا الأغنام خارج البيت من ماء مدين؛ لأنه في حالة عجز عن القيام بمهمة السقي، فهو إذًا في حالة ضرورة أباحت له أن يأذن لابنتيه بالقيام بهذا العمل" [ المفصل في أحكام المرأة].
2- عن أسماء بنت أبي بكر رض الله عنهما قالت: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه، وأستقي الماء، وأخرِزُ غَربَه، وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صِدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ... الحديث [أخرجه البخاري في النكاح، باب: الغيرة (5224)].
بين ابن حجر أن السبب الحامل لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما على الصبر على هذه الأعمال الشاقّة التي جاءت في هذا الحديث وسكوت زوجها وأبيها على ذلك هو انشغالهما بالجهاد وغيره مما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فكان الزبير رضي الله عنه لا يتفرغ للقيام بهذه الأعمال التي كانت تقوم بها، وأيضًا لم يكن باستطاعته أن يستأجر من يقوم له بهذه الأعمال، ولم يكن عنده مملوك يقوم له بهذه الأعمال، فانحصر الأمر في زوجته [انظر: فتح الباري (9/235)].
قال الشيخ عبد الكريم زيدان: "وفي قصة أسماء وحملها النوى من أرض بعيدة عن بيتها لحاجة زوجها لهذا العمل واطلاع النبي -صلى الله عليه وسلم-على حالها وفعلها وسكوته -صلى الله عليه وسلم-دليل واضح على جواز عمل المرأة خارج البيت إذا كان هناك ضرورة لعملها" [ المفصل في أحكام المرأة (4/270)].
هـ- شروط عمل المرأة:
1- الالتزام بالحجاب الشرعي.
2- الأمن من الفتنة كالاختلاط بالرجال أو الخلوة بهم.
3- إذن الولي.
4- أن لا يستغرق العمل وقتها أو يتنافى مع طبيعتها.
5- أن لا يكون في العمل تسلّط على الرجال.
والهدف من اشتراط هذه الشروط هو بناء مجتمع متكامل مترابط، وتهذيب الأمة وتربيتها على المثل العليا والخلق الحميد، ووقاية الأفراد من الأمراض الاجتماعية والنفسية والخلقية [انظر: عمل المرأة وموقف الإسلام منه للدكتور عبد الرب نواب الدين (ص 182-196)].
سادسًا: حق المرأة في المال:
1- حق المرأة في المال كحق الرجل:
تتمتع المرأة بالحقوق الخاصة المالية كالرجل، فلها أن تكتسب المال بأسباب كسبه المشروعة كالإرث، قال تعالى: ?لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًٌ? [النساء:7] [ المفصل في أحكام المرأة (4/291)].
2- مباشرة المعاملات المختلفة:
للمرأة أن تباشر المعاملات المختلفة لكسب المال كالإجارة، قال تعالى في استئجار الظئر لإرضاع الطفل: ?وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمٌْ? [البقرة:233].
قال الكاساني: "نفى الله سبحانه وتعالى الجناح عمّن يسترضع ولدَه، والمراد منه الاسترضاع بالأجرة بدليل قوله تعالى: ?إِذَا سَلَّمْتُم مَّا ءاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفٌِ? [البقرة:233] بعد قوله: ?فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمٌْ? [البقرة:233]" [ انظر: المفصل في أحكام المرأة (4/291)].
3- التوكيل في المعاملات:
وللمرأة أن توكِّل من تشاء في سائر ما تملكه من تصرُّفات كالبيع والشراء وغير ذلك كما يجوز لها أن تتوكَّل على غيرها.
قال ابن قدامة: "وكل من صحَّ تصرُّفه في شيء بنفسه وكان مما تدخله النيابة صحَّ أن يوكَّل فيه رجلًا كان أو امرأة حرًا كان أو عبدًا" [ المغني (7/197)].
وقال أيضًا: "لا نعلم خلافًا في جواز التوكيل في البيع والشراء، وقد ذكرنا الدليل عليه من الآية والخبر، ولأن الحاجة داعية إلى التوكيل فيه؛ لأنه قد يكون ممن لا يحسن البيع والشراء أو لا يمكنه الخروج إلى السوق، وقد يكون له مال ولا يحسن التجارة فيه، وقد يحسن ولا يتفرغ، وقد لا تليق به التجارة لكونه امرأة" [ المغني (7/198)].
سابعًا: حقوق المرأة الزوجية:
1- استئذانها في التزويج:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن)، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: (أن تسكت) [ أخرجه البخاري في النكاح، باب: لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما (5136)].(/8)
قال ابن تيمية: "المرأة لا ينبغي لأحد أن يزوِّجها إلا بإذنها كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كرهن ذلك لم تجبر على النكاح إلا الصغيرة البكر، فإن أباها يزوِّجها ولا إذن لها، وأما البالغ الثيب فلا يجوز تزويجها بغير إذنها لا للأب ولا لغيره بإجماع المسلمين، وكذلك البكر البالغ ليس لغير الأب والجد تزويجها بدون إذنها بإجماع المسلمين، وأما الأب والجد فينبغي لهما استئذانها، واختلف العلماء في استئذانها: هل هو واجب أو مستحب؟ والصحيح أنه واجب" [ مجموع الفتاوى (32/39-40)].
2- المهر:
قال تعالى: ?وَءاتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةًٌ? [النساء:4].
قال القرطبي: "هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه" [ الجامع لأحكام القرآن (5/24)].
قال أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن البخاري: "ومن محاسن النكاح أن لم يشرع في حق النساء إلا بصداق، قال الله تعالى: ?وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوالِكُمٌْ? [النساء:24]، فإنها لو حلَّت بغير بدل لكان في ذلك ذلّ وضاعت بأسرع الأوقات، فلم يشرع عقد النكاح إلا ببدل يلزمه ليكون خوفُ المطالبة بالصداق مانعًا له عن الطلاق فيدوم، وإذا دام حصل مقصود البقاء والتوالد" [ محاسن الإسلام (ص46)].
3- وجوب النفقة والكسوة:
في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال في خطبة عرفة: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) [ رواه مسلم في الحج (1218)].
قال النووي: "فيه وجوب نفقة الزوجة وكسوتها، وذلك ثابت بالإجماع" [ شرح صحيح مسلم (8/184)].
4- وجوب السكنى:
قال تعالى: ?أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن وُجْدِكُمٌْ? [الطلاق:6].
قال الماوردي: "يعني سكن الزوجة مستحَقّ على زوجها مدَّةَ نكاحها وفي عدَّة طلاقها بائنًا كان أو رجعيًا" [ النكت والعيون (6/32)].
5- حفظ دين الزوجة:
قال تعالى: ?ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةٌُ? الآية [التحريم:6].
قال قتادة: "يقيهم أن يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصيته، وأن يقوم عليهم بأمر الله، يأمرهم به ويساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية ردعتَهم وزجرتهم عنها" [ انظر: جامع البيان (12/157)].
6- المعاشرة بالمعروف:
قال الله تعالى: ?وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفٌِ? [النساء:19].
قال ابن كثير: "أي: طيِّبوا أقوالَكم لهنَّ، وحسِّنوا أفعالَكم وهيئاتكم حسب قدرتكم كما تحبُّ ذلك منها، فافعل أنت بها مثله كما قال تعالى: ?وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفٌِ?، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) [ رواه الترمذي في المناقب، باب: فضل أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-(3895 ) وقال: "حسن غريب صحيح"، وابن ماجة في النكاح، باب: حسن معاشرة النساء (1977)، والدارمي في النكاح، باب: في حسن معاشرة النساء، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (285)]، وكان من أخلاقه -صلى الله عليه وسلم-أنه جميل العشرة دائمَ البشر، يداعب أهلَه ويتلطَّف بهم ويوسعهم نفقةً، ويضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشةَ أم المؤمنين رضي الله عنها يتودَّد إليها بذلك، قالت: سابقني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعدما حملتُ اللحم فسبقني فقال: (هذه بتلك) [ رواه أحمد (6/264)، وأبو داود في الجهاد، باب: في السبق على الرجل (2578)، وابن حبان في صحيحه: كتاب السير، ذكر إباحة المسابقة بالأقدام (4691)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب السبق والرمي باب: ما جاء في المسابقة بالعدو، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (131)]، ويجمع نساءه كلَّ ليلة في بيت التي يبيت عندها فيأكل معهن العشاء بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار، وكان إذا صلَّى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلًا قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك -صلى الله عليه وسلم-وقد قال الله تعالى: ?لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌٌ? [الأحزاب:21]" [ تفسير ابن كثير (1/477)].
7- العدل بين الزوجات:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل) [ رواه أبو داود في النكاح، باب: في القسم بين النساء (2133)، والترمذي في النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر (1141)، وابن ماجه في النكاح، باب: القسمة بين النساء (1969)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2/400)].
قال شمس الحق أبادي: "والحديث دليل على أنه يجب على الزوج التسوية بين الزوجات ويحرم عليه الميل إلى إحداهن" [ عون المعبود (6/112)].
8- الوفاء للزوجة بعد موتها:(/9)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غِرت على أحدٍ من نساء النبي -صلى الله عليه وسلم-ما غِرتُ على خديجة، وما رأيتها ولكن كان النبي -صلى الله عليه وسلم-يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاةَ ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة!! فيقول: (إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد) [ رواه البخاري في مناقب الأنصار، باب: تزويج النبي -صلى الله عليه وسلم-خديجة وفضلها (3818)، ومسلم في الفضائل (2437)].
قال النووي: "في هذا دليل لحسن العهد وحفظ الودِّ ورعاية حرمة الصاحب والعشير في حياته ووفاته وإكرام أهل ذلك الصاحب" [ شرح صحيح مسلم (15/202)].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،(/10)
عناية الإسلام بالمرأة (1)
موقع المنبر
أولًا: المرأة الجاهلية في القرآن الكريم:
1- الاستياء منها ودفنها حية:
قال الله تعالى: ?وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ ?58? يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ? [النحل:58، 59].
قال البغوي: "وكان الرجل من العرب إذا وُلدت له بنت وأراد أن يستحيِيَها ألبسها جبةَ من صوف أو شعر وتركها ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية قال لأمها: زيِّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئرًا في الصحراء، فإذا بلغ بها البئر قال لها: انظري إلى هذه البئر، فيدفعها من خلفها في البئر ثم يهيل على رأسها التراب حتى يستوي البئر بالأرض"[ معالم التنزيل (5/25)].
2- حرمانها من الميراث:
قال الله تعالى: ?لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضً? [النساء:7].
قال سعيد بن جبير وقتادة: "كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ولا يورثون النساء والأطفال شيئًا فأنزل الله: ?لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضً? [النساء:7]"[ انظر: تفسير ابن كثير (1/465)].
3- إباحة حلائل الآباء لأبنائهم بعد الموت والجمع بين الأختين:
قال الله تعالى: ?وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلً? [النساء:22].
قال قتادة: "كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا أن الرجل كان يخلُف على حليلة أبيه ويجمعون بين الأختين"[ جامع البيان (3/393)].
4- عدم معاشرة الحائض في البيت:
قال الله تعالى: ?وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى? [البقرة:222].
قال قتادة: "كان أهل الجاهلية لا تساكنهم حائض في بيت ولا تؤاكلهم في إناء؛ فأنزل الله تعالى في ذلك، فحرم فرجَها ما دامت حائضًا، وأحلَّ ما سوى ذلك؛ أن تصبغ لك رأسك وتؤاكلك من طعامك، وأن تضاجعك في فراشك إذا كان عليها إزار فتحجزه به دونك"[ جامع البيان (2/393)].
5- التبرّج:
قال الله تعالى: ?وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى? [الأحزاب:33].
قال مجاهد: "كانت المرأة تخرج تمشي بين الرجال فذلك تبرّج الجاهلية"[ تفسير ابن كثير (3/768) ط. التجارية].
ثانيًا: وصية الرسول -صلى الله عليه وسلم-بالنساء:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: (واستوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرتَه، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خير) [ أخرجه البخاري في النكاح، باب: الوصاة بالنساء (5185، 5186)، ومسلم في الرضاع (1468)].
قال الطيبي: «والمعنى: أوصيكم بهن خيرًا، فاقبلوا وصيتي فيهن، (فإنهن خلقن من ضلع) أي: خلقن خلقًا فيه اعوجاج، وكأنهن خلقن من أصل معوجٍّ، فلا يتهيأ الانتفاع بهن إلا بمداراتهن والصبر على اعوجاجهن» [ شرح الطيبي على مشكاة المصابيح (6/306)].
قال الشيخ ابن عثيمين: «وفي هذا توجيه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-إلى معاشرة الإنسان لأهله، وأنه ينبغي أن يأخذ منهم العفو وما تيسر كما قال تعالى: ?خُذِ الْعَفْوَ? [الأعراف:199]، يعني: ما عفا وسهل من أخلاق الناس، ?وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ? [الأعراف:199]» [ شرح رياض الصالحين (5/139-140)].
ثالثًا: حق المرأة في العبادة:
1- الأصل مساواة المرأة للرجل في الأحكام الشرعية:
والدليل على ذلك:
أ- أن مناط التكليف بأحكام الشريعة الإسلامية كون الإنسان بالغًا عاقلًا لحديث: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق)([ أخرجه أحمد (6/100-101)، وأبو داود في الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حدًا (4398)، والنسائي في الطلاق، باب: من لا يقع طلاقه من الأزواج (3432)، وابن ماجه في الطلاق، باب: طلاق المعتوه والصغير والنائم (2041)، وصححه الحاكم (2/59)، ووافقه الذهبي، وخرجه الألباني في الإرواء (297) وقال: "صحيح"])، فإذا بلغ الإنسان الحلم وكانت أقواله وأفعاله جارية وفقًا للمألوف المعتاد بين الناس مما يستدلُّ به على سلامة عقله حُكِم بتكليفه بأحكام الشريعة لتوفُّر مناط التكليف، والمرأة يتحقق فيها هذا المعنى كما يتحقق في الرجل[المفصل في أحكام المرأة (4/ 176)].(/1)
ب- قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال)[ أخرجه أحمد (6/ 256)، وأبو داود في الطهارة، باب: في الرجل يجد البلة في منامه (236)، والترمذي في الطهارة، باب: ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللًا ولا يذكر احتلامًا (113) عن عائشة رضي الله عنها، وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي بشواهده (1/190-192)، والألباني في السلسلة الصحيحة (2863)].
قال الخطابي: "أي: نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطباع، فكأنهن شُقِقن من الرجال. وفيه من الفقه... أنّ الخطاب إذا ورد بلفظ الذكور كان خطابًا للنساء إلا مواضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها"[ معالم السنن (1/161)].
ج- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم-مبعوث إلى الرجال والنساء جميعا.
قال ابن حزم: "ولما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-مبعوثًا إلى الرجال والنساء بعثًا مستويًا وكان خطاب الله تعالى وخطاب نبيه -صلى الله عليه وسلم-للرجال والنساء واحدًا لم يجز أن يخَصَّ بشيء من ذلك الرجالُ دون النساء إلا بنصّ جليّ أو إجماع"[ الإحكام في أصول الأحكام (3/337)].
وقال أيضًا: "وقد تيقنَّا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-مبعوث إليهن كما هو إلى الرجال، وأن الشريعة التي هي شريعة الإسلام لازمة لهن كلزومها للرجال، وأيقنَّا أن الخطاب بالعبادات والأحكام متوجِّه إليهن كتوجُّهه إلى الرجال إلا ما خصَّهن أو خصَّ الرجالَ منهن دليلٌ، وكل هذا يوجب أن لا يُفرد الرجالُ دونهن بشيء قد صحَّ اشتراكُ الجميع فيه إلا بنص أو إجماع"[ الإحكام في أصول الأحكام (3/341-342)].
2- إسقاط بعض العبادات عن المرأة نظرًا لطبيعتها:
وهذا له صور كثيرة منها:
أ- إسقاط الصلاة والصوم عن الحائض والنفساء:
قال صلى الله عليه وسلم: (أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم؟! فذلك نقصان دينه)[ أخرجه البخاري في الحيض، باب: ترك الحائض الصوم (304)، ومسلم في الإيمان (79) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه].
قال النووي: "أجمع المسلمون على أن الحائض والنفساء لا تجب عليهما الصلاة ولا الصوم في الحال"[ شرح صحيح مسلم (1/637)].
وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن البخاري([هو من علماء الحنفية، توفي في جمادى الآخرة سنة 546هـ. انظر: الجواهر المضية، وأبجد العلوم (2/497)]) في بيان الحكمة من ذلك: "علِم الله تعالى ضعفَ النساء وفتورَهن إذ هو خَلَقهن فأحبَّ أن يضع عنهن بعضَ العبادات ترفيهًا في حقِّهن وتخفيفًا لهن، فكان أليقَ الأحوال بالوضع حالةُ الحيض إذ هي متلوثةٌ بأشد الأشياء لوثًا سماه الله تعالى أذًى بقوله: ?قُلْ هُوَ أَذًى? [البقرة:222]، وهو الدم المخصوص بالرحم يترشَّح فيه من جميع الأعضاء، ويجتمع في الرحم، ثم يخرج في هذه الأيام المعدودة، فوضع الله تعالى عنها كلَّ عبادة تختصُّ بالطهارة نحو الصلاة وقراءة القرآن ومسِّ المصحف ودخول المسجد والطوافِ بالبيت، وجعل الطهارة عن الحيض شرطًا لأداء الصوم، وإذا كان الصوم لا يختصُّ بالطهارة عن سائر الأحداث إظهارًا لفحش هذه الحالة وإظهارًا لشرف هذه العبادة، فوضع العبادات عنها ونهاها عن إقامة شيء من هذه العبادات لتنتهي بنهي الله تعالى، فيحصل لها ثواب الانتهاء كما يحصل لها ثواب الائتمار حالة الطهر"[ محاسن الإسلام (ص 35)].
ب- إلزامها بقضاء الصوم دون الصلاة بعد زوال الحيض:
عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟! فقال: أحرورية أنت؟! قلت: لست بحرورية ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة[أخرجه البخاري في الحيض، باب: لا تقضي الحائض الصلاة (321)، ومسلم في الحيض، باب: وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة (335)].
قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن عليها الصوم بعد الطهر، ونفى الجميع عنها وجوب الصلاة"[ الأوسط (2/203)].
قال ابن حجر: "والذي ذكره العلماء في الفرق بين الصلاة والصيام أن الصلاة تتكرر فلم يجب قضاؤها للحرج بخلاف الصيام"[ فتح الباري (1/502)].
ج- وضع الصيام عن الحامل والمرضع:
عن أنس بن مالك الكعبي رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: (إن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل أو المرضع الصوم أو الصيام)[ أخرجه الترمذي في الصوم، باب: ما جاء في الرخصة في الإفطار للحبلى والمرضع (715)، والنسائي في الصيام، ذكر اختلاف معاوية بن سلام وعلي بن المبارك (2274)، وقال الترمذي: "حسن"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (575)].
قال ابن قدامة: "وجملة ذلك أن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما فلهما الفطر وعليهما القضاء فحسب، لا نعلم بين أهل العلم اختلافًا؛ لأنهما بمنزلة المريض الخائف على نفسه، وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء وإطعام مسكين عن كل يوم"[ المغني (4/ 394)].
د- إسقاط طواف الوداع عن الحائض:(/2)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفِّف عن الحائض[أخرجه البخاري في الحج، باب: طواف الوداع (1755)، ومسلم في الحج (1328)].
قال الخرقي: "والمرأة إذا حاضت قبل أن تودِّع خرجت ولا وداع عليها ولا فدية"، قال ابن قدامة: "وهذا قول عامة فقهاء الأمصار"[ المغني (5/341)].
رابعًا: العناية بالمرأة في العرض والكرامة:
جعل الشرع للحفاظ على عرض المرأة وصيانة كرامتها أحكامًا كثيرة، منها:
1- الأمر بالقرار في البيوت:
قال الله تعالى: ?وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ? [الأحزاب:33].
قال القرطبي: "معنى هذه الآية: الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي -صلى الله عليه وسلم-فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخصُّ جميعَ النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة"[ الجامع لأحكام القرآن (14/ 176)].
2- الأمر بالحجاب:
قال الله تعالى: ?ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لأزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمً? [الأحزاب:59].
قال ابن عطية: "لما كانت عادة العربيات التبذل في معنى الحجبة، وكنّ يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن وتشعب الفكر فيهن؛ أمر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم-بأمرهن بإدلاء الجلابيب ليقع سترهن، ويبين الفرق بين الحرائر والإماء فيعرف الحرائر بسترهن"[ المحرر الوجيز (4/399)].
قال: "وقوله: ?ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ? [الأحزاب:59] أي: على الجملة بالفرق حتى لا يختلطن بالإماء، فإذا عُرفن لم يقابلن بأذًى من المعارَضَة[أي: لم يعترض عليهن أحد] مراقبةً لرتبة الحرية، وليس المعنى أن تُعرف المرأة حتى يعلم من هي"[ المحرر الوجيز (4/399)].
3- النهي عن التبرج:
قال الله تعالى: ?وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى? [الأحزاب:33].
قال الشيخ ابن باز: "ونهاهن عن تبرج الجاهلية وهو إظهار الزينة والمحاسن كالرأس والوجه والعنق والصدر والذراع والساق ونحو ذلك من الزينة، لما في ذلك من الفساد العظيم والفتنة الكبيرة وتحريك قلوب الرجال إلى تعاطي أسباب الزنا، وإذا كان الله سبحانه يحذِّر أمهاتِ المؤمنين من هذه الأشياء المنكرة مع صلاحهن وإيمانهن فغيرهن أولى وأولى بالتحذير والإنكار والخوف عليهن من أسباب الفتنة"[ حكم السفور والحجاب، مجلة البحوث الإسلامية، العدد 14، 1405هـ - 1406ه].
4- الأمر بغض الأبصار وحفظ الفروج:
قال الله تعالى: ?وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ? [النور:31].
قال ابن كثير: "هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات، وغيرة منه لأزواجهن عبادِه المؤمنين، وتمييزٌ لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركات"[ تفسير القرآن العظيم (3/311)].
قال الشيخ ابن باز: "فأمر المؤمنات بغضّ البصر وحفظ الفرج كما أمر المؤمنين بذلك صيانةً لهن من أسباب الفتنة وتحريضًا لهن على أسباب العفة والسلامة"[ التبرج والسفور، مجلة البحوث الإسلامية، العدد 14].
5- النهي عن إظهار الزينة لغير المحارم:
قال الله تعالى: ?وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَ? [النور:31].
قال ابن كثير: "أي: لا يظهرن شيئًا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه، قال ابن مسعود: (كالرداء والثياب) يعني: على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلِّل ثيابها وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه؛ لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه"[ تفسير القرآن العظيم (3/312)].
قال الأستاذ سيد قطب: "والزينة حلالٌ للمرأة تلبيةً لفطرتها، فكلُّ أنثى مولعةٌ بأن تكون جميلةً وأن تبدوَ جميلة، والزينة تختلف من عصر إلى عصر، ولكن أساسها في الفطرة واحدٌ هو الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله وتجليته للرجال، والإسلام لا يقاوم هذه الرغبةَ الفطرية، ولكنه ينظِّمها ويضبطها ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد هو شريك الحياةِ، يطَّلع منها على ما لا يطَّلع أحد سواه، ويشترك معه في الاطلاع على بعضها المحارمُ المذكورون في الآية بعد، ممن لا يثير شهواتهم ذلك الاطلاعُ"[ في ظلال القرآن (4/2512)].
6- النهي عن الخضوع بالقول:
قال الله تعالى: ?يانِسَاء النَّبِىّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ? [الأحزاب:32].
قال ابن كثير: "ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم، أي: لا تخاطب المرأة الأجانبَ كما تخاطب زوجها"[ تفسير القرآن العظيم (3/531)].(/3)
قال الشوكاني: "أي: لا تُلنَّ القول عند مخاطبة الناس كما تفعله المرِيبَات من النساء فإنه يتسبَّب عن ذلك مفسدة عظيمة، وهي قوله: ?فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ? [الأحزاب:32] أي: فجور وشكّ ونفاق"[ فتح القدير (4/277)].
7- تحريم الخلوة بالأجانب وتحريم سفرها بلا محرم:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم-يخطب يقول: (لا يخلوَنَّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم)، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجةً، وإني اكتُتِبتُ في غزوة كذا وكذا، قال: (انطلق فحج مع امرأتك)[ أخرجه البخاري في الحج، باب: حج النساء (1862)، ومسلم في الحج (1341)].
قال ابن حجر: "فيه منع الخلوة بالأجنبية وهو إجماع"[ فتح الباري (4/92)].
قال القاضي عياض: "والمرأة فتنةٌ ممنوعٌ الانفراد بها لما جُبِلت عليه نفوسُ البشر من الشهوة فيهن، وسُلِّط عليهم الشيطانُ بواسطتهن، ولأنهن لحم على وَضَم[الوضم: كل شيء يوضع عليه اللحم من خشب أو باريّة يوقى به من الأرض. مختار الصحاح (ص302)] إلا ما ذُبّ عنه، وعورةٌ مضطرة إلى صيانة وحفظٍ وذِي غيرة يحميها ويصونها، وطبع الله في ذوي المحارم من الغيرة على محارمهم والذبِّ عنهن ما يؤمَن عليهن في السفر معهم ما يُخشى"[ إكمال المعلم (4/448)].
8- التحذير من الدخول على النساء لغير المحارم:
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: (إياكم والدخول على النساء)، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: (الحمو الموت)[ أخرجه البخاري في النكاح، باب: لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم والدخول على المغيبة (5232)، ومسلم في الأدب (2083)].
قال القرطبي: "قوله: (الحمو الموت) أي: دخوله على زوجة أخيه يشبه الموتَ في الاستقباح والمفسدة، أي: فهو محرَّم معلوم التحريم، وإنما بالغ في الزجر عن ذلك وشبَّهه بالموت لتسامح الناس في ذلك من جهة الزوج والزوجة لإلفِهم ذلك، حتى كأنه ليس بأجنبيٍّ من المرأة عادة، وخرج هذا مخرج قول العرب: الأسد الموت، والحرب الموت، أي: لقاؤه يفضي إلى الموت، وكذلك دخول الحمو على المرأة يفضي إلى موت الدين، أو إلى موتها بطلاقها عند غيرة الزوج، أو برجمها إن زنت معه"[ المفهم (5/501)].
9- الابتعاد عن مخالطة الرجال حتى في أماكن العبادة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أوله)[ أخرجه مسلم في الصلاة (349)].
قال القرطبي: "فأما الصفُّ الأول من صفوف النساء فإنما كان شرًا من آخرها لما فيه من مقاربة أنفاس الرجال للنساء، فقد يخاف أن تشوّش المرأة على الرجل والرجل على المرأة"[ المفهم ()].
قال النووي: "وإنما فضَّل آخرَ صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك، وذمَّ أوَّل صفوفهن لعكس ذلك"[ شرح صحيح مسلم (4/159-160)].
قال الشيخ ابن باز: "وكان النساء في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-لا يختلطن بالرجال لا في المساجد ولا في الأسواق الاختلاط الذي ينهى عنه المصلحون اليوم ويرشد القرآن والسنة علماءَ الأمة إلى التحذير منه حذرًا من فتنته، بل كان النساء في مسجده -صلى الله عليه وسلم-يصلين خلف الرجال في صفوف متأخرة عن الرجال، وكان يقول صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها وشرُّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أوله) حذرًا من افتتان آخر صفوف الرجال بأول صفوف النساء، وكان الرجال في عهده -صلى الله عليه وسلم-يؤمرون بالتريُّث في الانصراف حتى يمضي النساء ويخرجن من المسجد لئلا يختلط بهنَّ الرجال في أبواب المساجد مع ما هم عليه جميعًا رجالًا ونساء من الإيمان والتقوى، فكيف بحال مَن بعدهم؟! وكانت النساء يُنهَين أن يتحقَّقن الطريقَ ويُؤمَرن بلزوم حافّات الطريق حذرًا من الاحتكاك بالرجال والفتنة بمماسَّة بعضهم بعضًا عند السير في الطريق"[ حكم الاختلاط في التعليم، نشر مجلة البحوث الإسلامية. العدد 15/ 1406ه].
10- التشديد في خروج المرأة متعطِّرة:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة استعطرت فمرَّت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية)[ أخرجه أبو داود في الترجل، باب: في طيب المرأة للخروج (4167)، والترمذي في الاستئذان، باب:ما جاء في كراهية خروج المرأة متعطرة (2937)، والنسائي في الزينة، باب: ما يكره للنساء من الطيب (5126) واللفظ له، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في اية المرام (84)].
قال المباركفوري: "لأنها هيَّجت شهوةَ الرجال بعطرها وحملتهم على النظر إليها، ومن نظر إليها فقد زنى بعينيه، فهي سبب زنا العين، فهي آثمة"[ تحفة الأحوذي (8/58)].
11- الغيرة على النساء:(/4)
قال الشيخ محمد أحمد المقدم: "إن من آثار تكريم الإسلام للمرأة ما غرسه في نفوس المسلمين من الغيرة، ويقصد بالغيرة تلك العاطفة التي تدفع الرجل لصيانة المرأة عن كل محرَّم وشين وعار، ويعدُّ الإسلام الدفاعَ عن العرض والغيرةَ على الحريم جهادًا يبذل من أجله الدم، ويضحَّى في سبيله بالنفس، ويجازي فاعلَه بدرجة الشهيد في الجنة، فعن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يقول: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد)[ أخرجه أحمد (1/190)، وأبو داود في السنة، باب: في قتل اللصوص (4772)، والترمذي في الديات، باب: ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد (1418)، وابن ماجه في الحدود، باب: من قتل دون ماله فهو شهيد (2580)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (3/119)، والألباني في إرواء الغليل (708)]، بل يعدُّ الإسلام الغيرةَ من صميم أخلاق الإيمان، فمن لا غيرة له لا إيمان له، ولهذا كان رسول الله صلى الله -صلى الله عليه وسلم-أغيرَ الخلق على الأمة، فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غيرَ مصفح، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فقال: (تعجبون من غيرة سعد؟! واللهِ، لأنا أغير منه، واللهُ أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) الحديث[رواه البخاري في المحاربين، باب: من رأى مع امرأته رجلًا فقتله (6846)، ومسلم في اللعان (1499)]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: (إن الله يغار وإن المؤمن يغار، وإن غيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه)[ رواه البخاري في النكاح، باب: الغيرة (5223)، ومسلم في التوبة (2761)].
وإن من ضروب الغيرة المحمودة أنَفَةَ المحب وحميَّته أن يشاركه في محبوبه غيرُه، ومن هنا كانت الغيرة نوعًا من أنواع الأثرة لا بد منه لحياطة الشرف وصيانة العرض، وكانت أيضًا مثارَ الحمية والحفيظة فيمن لا حميةَ له ولا حفيظة.
وضدُّ الغيور الديُّوث، وهو الذي يقرُّ الخبثَ في أهله أو يشتغل بالقيادة، قال العلماء: الديوث الذي لا غيرةَ له على أهل بيته، وقد ورد الوعيد الشديد في حقه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه والمرأة المترجلة والديوث) الحديث[أخرجه أحمد (2/134)، والنسائي في الزكاة، باب: المنان بما أعطى (2561)، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (9/34)، والألباني في صحيح سنن النسائي (2402)].
إن الغيرةَ على حرمة العفَّة ركنُ العروبة وقوام أخلاقها في الجاهلية والإسلام؛ لأنها طبيعة الفطرة البشرية الصافية النقية، ولأنها طبيعة النفس الحرة الأبية"[ عودة الحجاب (3/114-115)].
عناية الإسلام بالمرأة (2)
موقع المنبر
خامسًا: المرأة في المجتمع:
للمرأة في المجتمع المسلم مكانة عظيمة وحقوق تتمتّع بها، ومن ذلك:
1- تحريم عقوق الأمَّهات:
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم عليكم عقوقَ الأمهات ووأد البنات ومنعَ وهات، وكره لكم: قيل وقال وكثرةَ السؤال وإضاعة المال) [ رواه البخاري في الاستقراض، باب: ما ينهى من إضاعة المال (2408)، ومسلم في الأقصية (1715)].
قال ابن حجر: "قيل: خصَّ الأمهاتِ بالذكر لأن العقوق إليهن أسرع من الآباء لضعف النساء، ولينبِّه على أن برَّ الأم مقدَّم على برِّ الأب في التلطف والحنو ونحو ذلك" [ فتح الباري (5/83)].
2- تقديم الأم في البر على الأب:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فقال: من أحقّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (ثم أمك)، قال: ثم من؟ قال: (ثم أمك)، قال: ثم من؟ قال: (ثم أبوك) [ أخرجه البخاري في الأدب، باب: من أحق الناس بحسن الصحبة؟ (597)، ومسلم في البر (2548)].
قال النووي: "وفيه الحث على بر الأقارب، وأن الأم أحقهم بذلك، ثم بعدها الأب، ثم الأقرب فالأقرب، قال العلماء: وسبب تقديم الأم كثرةُ تعبها عليه وشفقتها وخدمتها، ومعاناة المشاق في حمله ثم وضعه ثم إرضاعه ثم تربيته وخدمته وتمريضه وغير ذلك" [ شرح صحيح مسلم (16/102)].
3- تحريم وأد البنات:
عن المغيرة بن شعبة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات...) الحديث [رواه البخاري في الاستقراض، باب: ما ينهى من إضاعة المال (2408)، ومسلم في الأقصية (1715)].(/5)
قال النووي: "وأما وأد البنات فهو دفنهنَّ في حياتهن فيمُتن تحت التراب، وهو من الكبائر الموبقات؛ لأنه قتل نفس بغير حق، ويتضمن أيضًا قطيعة الرحم، وإنما اقتصر على البنات لأنه المعتاد الذي كانت الجاهلية تفعله" [ شرح صحيح مسلم (12/12)].
4- الحثّ على تربية البنات وفضله:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يلي من هذه البنات شيئًا فأحسن إليهن كنّ له سترًا من النار) [ أخرجه البخاري في الأدب، باب: رحمة الولد (5995)، ومسلم في البر (2629)].
قال ابن حجر: "وفي الحديث تأكيد حقِّ البنات لما فيهن من الضعف غالبًا عن القيام بصالح أنفسهن، بخلاف الذكور لما فيهم من قوة البدن وجزالة الرأي وإمكان التصرف في الأمور المحتاج إليها في أكثر الأحوال" [ فتح الباري (10/443)].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو) وضمَّ أصابعه [رواه مسلم في البر (2631)].
قال النووي: "فيه فضل الإحسان إلى البنات والنفقة عليهن والصبر عليهن وعلى سائر أمورهن" [ شرح صحيح مسلم (16/179)].
5- حقّ المرأة في التعلُّم:
أ- فضل تعليم الرجلِ أهلَه:
قال البخاري في صحيحه: "باب تعليم الرجل أمته وأهله".
وأخرج عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، والعبد المملوك إذا أدَّى حقَّ الله وحقَّ مواليه، ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلَّمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران) [ صحيح البخاري: كتاب العلم (97)].
قال ابن حجر: "مطابقة الحديث للترجمة في الأمة بالنص، وفي الأهل بالقياس؛ إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسنن رسوله آكد من الاعتناء بالإماء" [ فتح الباري (1/229)].
ب- الإمام الأعظم يعظ النساء ويعلمهن:
قال البخاري في صحيحه: "باب عظة الإمام النساء وتعليمهن".
ثم أخرج عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم-خرج ومعه بلال، فظنَّ أنه لم يُسمع، فوعظهن وأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي القرطَ والخاتمَ، وبلال يأخذ في طرف ثوبه [صحيح البخاري: كتاب العلم (98)، ومسلم في صلاة العيدين (884)].
قال ابن حجر: "نبه بهذه الترجمة على أن ما سبق من الندب إلى تعليم الأهل ليس مختصًا بأهلهن، بل ذلك مندوب للإمام الأعظم ومن ينوب عنه، واستُفيد التعليم من قوله: (وأمرهن بالصدقة) كأنه أعلمهن أن في الصدقة تكفيرًا لخطاياهن" [ فتح الباري (1/232)].
قال ابن بطال: "فيه أنه يجب على الإمام افتقاد أمور رعيته وتعليمهم ووعظهم، الرجال والنساء في ذلك سواء، لقوله عليه السلام: (الإمام راع ومسئول عن رعيته) [ صحيح البخاري: الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن (893)، ومسلم في الامارة (1829) عن ابن عمر رضي الله عنهم]، فدخل في ذلك الرجال والنساء" [ شرح صحيح البخاري (1/175)].
ج- الحائض يرغَّب لها تعلُّم أمور دينها:
عن أم عطية قالت: أُمرنا أن نخرج الحُيَّض يوم العيدين وذوات الخدور فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم ويعتزل الحيَّض عن مصلاهن [أخرجه البخاري في الصلاة، باب: وجوب الصلاة في الثياب (351)، ومسلم في صلاة العيدين (890)].
قال الحافظ: "فيه أن الحائض لا تهجر ذكر الله ولا مواطن الخير كمجالس العلم والذكر سوى المساجد" [ فتح الباري (1/505)].
د- تخصيص النساء بأيام خاصة لتعليمهن:
قال البخاري: "باب: هل يُجعل للنساء يومٌ على حدة في العلم؟".
ثم أخرج عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يومًا من نفسك، فوعدهنَّ يومًا لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن: (ما منكن امرأة تقدِّم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابًا من النار)، فقالت امرأة: واثنين؟ فقال: (واثنين) [ صحيح البخاري: كتاب العلم (101)، ومسلم في البر (2633)].
قال ابن بطال: "وفيه سؤال النساء عن أمور دينهن، وجواز كلامهن مع الرجال في ذلك فيما لهن الحاجة إليه، وقد أخذ العلم عن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-وعن غيرهن من نساء السلف" [ شرح صحيح البخاري (1/178)].
قال ابن الجوزي: "المرأة شخص مكلَّف كالرجل، فيجب عليها طلب علم الواجبات عليها لتكون من أدائها على يقين. فإن كان لها أب أو أخ أو زوج أو محرَم يعلِّمها الفرائض ويعرِّفها كيف تؤدي الواجبات كفاها ذلك، وإن لم تكن سألت وتعلَّمت، فإن قدرت على امرأة تعلمت ذلك وتعرفت منها، وإلا تعلمت من الأشياخ وذوي الأسنان من غير خلوة بها، وتقتصد على قدر اللازم، ومتى حدثت لها حادثة في دينها سألت ولم تستحي؛ فإن الله لا يستحيي من الحق" [ انظر: أحكام النساء (ص25)].(/6)
وقال الشيخ عبد الله آل محمود: "إن المرأة كالرجل في تعلُّم الكتابة والقراءة والمطالعة في كتب الدين والأخلاق وقوانين الصحة والتدبير وتربية العيال ومبادئ العلوم والفنون من العقائد الصحيحة والتفاسير والسير والتاريخ وكتب الحديث والفقه، كل هذا حسن في حقها تخرج به عن حضيض جهلها، ولا يجادل في حُسنه عاقلٌ، مع الالتزام بالحشمة والصيانة وعدم الاختلاط بالرجال الأجانب" [ انظر: المرأة المسلمة أمام التحديات لأحمد الحصين (ص 64-65)].
وقال الشيخ أحمد الحصين: "إن الله لم يحرم تعليم الفتاة، إنما حثَّ على تعليمها، ولكن نجد اليوم بنات المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي يدرُسن موادَّ لا تصلح لأنوثتهن وطبيعتهن التي خلقها الله، فهي تخالف تكوينها الجسمي مثل الجيولوجيا والكيمياء والتنقيب عن البترول، والطامة الكبرى أننا نرى الفتيات المسلمات يسافرن إلى بلاد أوروبا أو بلاد الشيوعية للدراسة والتعليم، وهذا يكون محرّمًا عليهن، ومن ثم نرى التعليم اليوم في أغلب بلاد العالم العربي والإسلامي بعيدًا كل البعد عن الدين وشئون المرأة الذي يسير مع تكوينها الجسمي والعقلي، ومن ثم المنهج التعليمي التربوي أكثره تضعه هيئة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة التي لا تعرف عن ديننا إلا ما تتلقاه من المستشرقين والمبشرين، فحين أمرنا الإسلام بتعليم الإناث أمرَ بتعليمهن الأشياء التي تصلح لمقوِّمات الحياة التي تليق بالمرأة والتي تحتاج إليها كربَّة بيتٍ مشرفة على شئون منزلها مثل التطريز والخياطة والطهي وتربية الأولاد وتعليمهن الدين من عقائد وعبادات وتهذيب وسيرة وغيرها من العلوم النافعة التي تنفعها في الدنيا والآخرة، ولكن الأيدي الخفية لا ترى هذا، إنها تريد تدميرها وانحرافها عن طريق الحق إلى طريق الهاوية" [ المرأة المسلمة أمام التحديات (ص 66-67)].
6- المرأة والعمل:
أ- الأصل في المرأة قرارها في البيت:
قال الله تعالى: ?وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنٌَّ? [الأحزاب:33].
قال القرطبي: "معنى هذه الآية: الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي -صلى الله عليه وسلم-فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخصُّ جميعَ النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة" [ الجامع لأحكام القرآن (14/ 176)].
ب- واجب المرأة في بيتها:
إن واجب المرأة في بيتها هو القيام بأعمال البيت وما تتطلبه الحياة الزوجية والوفاء بحق الزوج عليها، وقيامها بشؤون أولادها وتربيتهم وخدمتهم. وهذه الواجبات كثيرة جدًا ومتعِبة، وتحتاج إلى تفرغ المرأة لها، وبالتالي لا يمكنها عادةً وغالبًا القيامُ بالعمل المباح لها خارجَ البيت إلا على حساب التفريط بهذه الواجبات والتقصير في أدائها إن لم نقل إهمالها، وحيث إن من أصول الحقوق والواجبات عدمَ جواز مزاحمة ما هو حق للإنسان لما هو واجب عليه فلا يجوز أن يزاحمَ عملُ المرأة المباحُ لها واجباتِ المرأة في البيت [المفصل في أحكام المرأة (4/265)].
ج- ضمان النفقة للمرأة:
قال تعالى: ?لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ اللَّهٌُ? [الطلاق:7].
قال القرطبي: "أي: لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وُسعه حتى يوسِّع عليهما إذا كان موسَّعًا عليه، ومن كان فقيرًا فعلى قدر ذلك" [ الجامع لأحكام القرآن (18/170)].
وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال في خطبة عرفة: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) [ رواه مسلم في الحج (1218)].
قال النووي: "فيه وجوب نفقة الزوجة وكسوتها، وذلك ثابت بالإجماع" [ شرح صحيح مسلم (8/184)].
قال ابن قدامة: "وفيه ضربٌ من العبرة، وهو أن المرأة محبوسة على الزوج يمنعها من التصرف والاكتساب، فلا بد من أن ينفق عليها كالعبد مع سيده" [ المغني (11/348)].
قال الدكتور عبد الله الطريقي: "المرأة باعتبارات شرعية اقتضتها متطلبات حالها الملزمة للستر والعفاف مُنعت من مخالطة الرجال لأجل كسب القوت، وجُعل الإنفاق عليها حقًا على الغير من زوج أو قريب لكونها زوجًا أو أمًا أو بنتًا أو قريبة ذات رحم محرم عليها، فلها حق الرعاية والإنفاق متى ما كانت مستحقة لذلك" [ نفقة المرأة الواجبة على زوجها، نشر مجلة البحوث الإسلامية، عدد 19، 1407ه].
د- الضرورة تبيح العمل للمرأة:
قال الشيخ عبد الكريم زيدان: "وإذا كان الأصل في عمل المرأة خارجَ البيت هو المنع والحظر فإن الجواز هو الاستثناء إذا اقتضت الضرورة ذلك؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات، وهي من القواعد الثابتة في الشريعة الإسلامية التي لا خلاف فيها، فإذا اقتضت ضرورةٌ اكتسابَ المرأة عن طريق العمل المشروع ما تسدُّ به متطلَّبات معيشتها جاز لها هذا العمل" [ المفصل في أحكام المرأة (4/267-268)].
ومن أدلة ذلك:(/7)
1- قول الله تعالى: ?وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌٌ? [القصص:22].
قال الشيخ عبد الكريم زيدان: "ووجه الدلالة بالآية الكريمة أن شعيبًا عليه السلام أذن لابنتيه أن تسقيا الأغنام خارج البيت من ماء مدين؛ لأنه في حالة عجز عن القيام بمهمة السقي، فهو إذًا في حالة ضرورة أباحت له أن يأذن لابنتيه بالقيام بهذا العمل" [ المفصل في أحكام المرأة].
2- عن أسماء بنت أبي بكر رض الله عنهما قالت: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه، وأستقي الماء، وأخرِزُ غَربَه، وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صِدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ... الحديث [أخرجه البخاري في النكاح، باب: الغيرة (5224)].
بين ابن حجر أن السبب الحامل لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما على الصبر على هذه الأعمال الشاقّة التي جاءت في هذا الحديث وسكوت زوجها وأبيها على ذلك هو انشغالهما بالجهاد وغيره مما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فكان الزبير رضي الله عنه لا يتفرغ للقيام بهذه الأعمال التي كانت تقوم بها، وأيضًا لم يكن باستطاعته أن يستأجر من يقوم له بهذه الأعمال، ولم يكن عنده مملوك يقوم له بهذه الأعمال، فانحصر الأمر في زوجته [انظر: فتح الباري (9/235)].
قال الشيخ عبد الكريم زيدان: "وفي قصة أسماء وحملها النوى من أرض بعيدة عن بيتها لحاجة زوجها لهذا العمل واطلاع النبي -صلى الله عليه وسلم-على حالها وفعلها وسكوته -صلى الله عليه وسلم-دليل واضح على جواز عمل المرأة خارج البيت إذا كان هناك ضرورة لعملها" [ المفصل في أحكام المرأة (4/270)].
هـ- شروط عمل المرأة:
1- الالتزام بالحجاب الشرعي.
2- الأمن من الفتنة كالاختلاط بالرجال أو الخلوة بهم.
3- إذن الولي.
4- أن لا يستغرق العمل وقتها أو يتنافى مع طبيعتها.
5- أن لا يكون في العمل تسلّط على الرجال.
والهدف من اشتراط هذه الشروط هو بناء مجتمع متكامل مترابط، وتهذيب الأمة وتربيتها على المثل العليا والخلق الحميد، ووقاية الأفراد من الأمراض الاجتماعية والنفسية والخلقية [انظر: عمل المرأة وموقف الإسلام منه للدكتور عبد الرب نواب الدين (ص 182-196)].
سادسًا: حق المرأة في المال:
1- حق المرأة في المال كحق الرجل:
تتمتع المرأة بالحقوق الخاصة المالية كالرجل، فلها أن تكتسب المال بأسباب كسبه المشروعة كالإرث، قال تعالى: ?لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًٌ? [النساء:7] [ المفصل في أحكام المرأة (4/291)].
2- مباشرة المعاملات المختلفة:
للمرأة أن تباشر المعاملات المختلفة لكسب المال كالإجارة، قال تعالى في استئجار الظئر لإرضاع الطفل: ?وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمٌْ? [البقرة:233].
قال الكاساني: "نفى الله سبحانه وتعالى الجناح عمّن يسترضع ولدَه، والمراد منه الاسترضاع بالأجرة بدليل قوله تعالى: ?إِذَا سَلَّمْتُم مَّا ءاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفٌِ? [البقرة:233] بعد قوله: ?فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمٌْ? [البقرة:233]" [ انظر: المفصل في أحكام المرأة (4/291)].
3- التوكيل في المعاملات:
وللمرأة أن توكِّل من تشاء في سائر ما تملكه من تصرُّفات كالبيع والشراء وغير ذلك كما يجوز لها أن تتوكَّل على غيرها.
قال ابن قدامة: "وكل من صحَّ تصرُّفه في شيء بنفسه وكان مما تدخله النيابة صحَّ أن يوكَّل فيه رجلًا كان أو امرأة حرًا كان أو عبدًا" [ المغني (7/197)].
وقال أيضًا: "لا نعلم خلافًا في جواز التوكيل في البيع والشراء، وقد ذكرنا الدليل عليه من الآية والخبر، ولأن الحاجة داعية إلى التوكيل فيه؛ لأنه قد يكون ممن لا يحسن البيع والشراء أو لا يمكنه الخروج إلى السوق، وقد يكون له مال ولا يحسن التجارة فيه، وقد يحسن ولا يتفرغ، وقد لا تليق به التجارة لكونه امرأة" [ المغني (7/198)].
سابعًا: حقوق المرأة الزوجية:
1- استئذانها في التزويج:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن)، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: (أن تسكت) [ أخرجه البخاري في النكاح، باب: لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما (5136)].(/8)
قال ابن تيمية: "المرأة لا ينبغي لأحد أن يزوِّجها إلا بإذنها كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كرهن ذلك لم تجبر على النكاح إلا الصغيرة البكر، فإن أباها يزوِّجها ولا إذن لها، وأما البالغ الثيب فلا يجوز تزويجها بغير إذنها لا للأب ولا لغيره بإجماع المسلمين، وكذلك البكر البالغ ليس لغير الأب والجد تزويجها بدون إذنها بإجماع المسلمين، وأما الأب والجد فينبغي لهما استئذانها، واختلف العلماء في استئذانها: هل هو واجب أو مستحب؟ والصحيح أنه واجب" [ مجموع الفتاوى (32/39-40)].
2- المهر:
قال تعالى: ?وَءاتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةًٌ? [النساء:4].
قال القرطبي: "هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه" [ الجامع لأحكام القرآن (5/24)].
قال أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن البخاري: "ومن محاسن النكاح أن لم يشرع في حق النساء إلا بصداق، قال الله تعالى: ?وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوالِكُمٌْ? [النساء:24]، فإنها لو حلَّت بغير بدل لكان في ذلك ذلّ وضاعت بأسرع الأوقات، فلم يشرع عقد النكاح إلا ببدل يلزمه ليكون خوفُ المطالبة بالصداق مانعًا له عن الطلاق فيدوم، وإذا دام حصل مقصود البقاء والتوالد" [ محاسن الإسلام (ص46)].
3- وجوب النفقة والكسوة:
في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال في خطبة عرفة: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) [ رواه مسلم في الحج (1218)].
قال النووي: "فيه وجوب نفقة الزوجة وكسوتها، وذلك ثابت بالإجماع" [ شرح صحيح مسلم (8/184)].
4- وجوب السكنى:
قال تعالى: ?أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن وُجْدِكُمٌْ? [الطلاق:6].
قال الماوردي: "يعني سكن الزوجة مستحَقّ على زوجها مدَّةَ نكاحها وفي عدَّة طلاقها بائنًا كان أو رجعيًا" [ النكت والعيون (6/32)].
5- حفظ دين الزوجة:
قال تعالى: ?ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةٌُ? الآية [التحريم:6].
قال قتادة: "يقيهم أن يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصيته، وأن يقوم عليهم بأمر الله، يأمرهم به ويساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية ردعتَهم وزجرتهم عنها" [ انظر: جامع البيان (12/157)].
6- المعاشرة بالمعروف:
قال الله تعالى: ?وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفٌِ? [النساء:19].
قال ابن كثير: "أي: طيِّبوا أقوالَكم لهنَّ، وحسِّنوا أفعالَكم وهيئاتكم حسب قدرتكم كما تحبُّ ذلك منها، فافعل أنت بها مثله كما قال تعالى: ?وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفٌِ?، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) [ رواه الترمذي في المناقب، باب: فضل أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-(3895 ) وقال: "حسن غريب صحيح"، وابن ماجة في النكاح، باب: حسن معاشرة النساء (1977)، والدارمي في النكاح، باب: في حسن معاشرة النساء، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (285)]، وكان من أخلاقه -صلى الله عليه وسلم-أنه جميل العشرة دائمَ البشر، يداعب أهلَه ويتلطَّف بهم ويوسعهم نفقةً، ويضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشةَ أم المؤمنين رضي الله عنها يتودَّد إليها بذلك، قالت: سابقني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعدما حملتُ اللحم فسبقني فقال: (هذه بتلك) [ رواه أحمد (6/264)، وأبو داود في الجهاد، باب: في السبق على الرجل (2578)، وابن حبان في صحيحه: كتاب السير، ذكر إباحة المسابقة بالأقدام (4691)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب السبق والرمي باب: ما جاء في المسابقة بالعدو، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (131)]، ويجمع نساءه كلَّ ليلة في بيت التي يبيت عندها فيأكل معهن العشاء بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار، وكان إذا صلَّى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلًا قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك -صلى الله عليه وسلم-وقد قال الله تعالى: ?لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌٌ? [الأحزاب:21]" [ تفسير ابن كثير (1/477)].
7- العدل بين الزوجات:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل) [ رواه أبو داود في النكاح، باب: في القسم بين النساء (2133)، والترمذي في النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر (1141)، وابن ماجه في النكاح، باب: القسمة بين النساء (1969)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2/400)].
قال شمس الحق أبادي: "والحديث دليل على أنه يجب على الزوج التسوية بين الزوجات ويحرم عليه الميل إلى إحداهن" [ عون المعبود (6/112)].
8- الوفاء للزوجة بعد موتها:(/9)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غِرت على أحدٍ من نساء النبي -صلى الله عليه وسلم-ما غِرتُ على خديجة، وما رأيتها ولكن كان النبي -صلى الله عليه وسلم-يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاةَ ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة!! فيقول: (إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد) [ رواه البخاري في مناقب الأنصار، باب: تزويج النبي -صلى الله عليه وسلم-خديجة وفضلها (3818)، ومسلم في الفضائل (2437)].
قال النووي: "في هذا دليل لحسن العهد وحفظ الودِّ ورعاية حرمة الصاحب والعشير في حياته ووفاته وإكرام أهل ذلك الصاحب" [ شرح صحيح مسلم (15/202)].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،(/10)
عناية الشريعة بالمطلَّقة
أ.د/ محمد بن أحمد الصالح أستاذ الدراسات العليا بكلية الشريعة وعضو المجلس العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1/3/1423
13/05/2002
بسم الله الرحمن الرحيم
من مفاخر الإسلام أن تعاليمه مبنية على الرحمة والرأفة، وتشريعاته تقوم على المواساة، وجبر الخاطر، وتفريج الكرب، وإيناس الوحشة، وعزاء المصاب وتهوين الفاجعة، ومصداق ذلك قول الله – تبارك وتعالى – في صفة نبيه – عليه الصلاة والسلام - : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)،[الأنبياء : 107].
ولذلك قيل – بحق وصدق – إن الإسلام دين الرحمة والشفقة والرأفة، ومن الأمثلة الواضحة على تحقيق هذه المعاني في تشريعات الإسلام، وضع نظام لحل المشكلات الزوجية، وعدم الإقدام على الطلاق، ولذلك فقد شرع الإرشادات والتوجيهات التي تكفل استقرار الحياة الزوجية، وعدم إيقاع الطلاق إلا في حالة الضرورة، ومن هذه الإرشادات والتوجيهات ما يلي:
أولاً: تنفير المسلمين من الطلاق، حيث اعتبره الشارع أبغض الحلال إلى الله، فقال عليه الصلاة والسلام: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"(1).
ثانياً: حث الأزواج على الصبر وتحمل ما يبدو من المرأة من قصور أو اعوجاج مادامت لا تمس الشرف والدين، فقال – تعالى -: (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً)، [النساء : 19]. وقال – صلى الله عليه وسلم -: (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً سره منها آخر). النووي على مسلم، ج3، (ص: 657).
ثالثاً: رسم القرآن الكريم المنهج القويم لعلاج ما قد يطرأ بين الزوجين من خلاف، أو ينشأ من مشكلات في قوله – تعالى -: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن) فإذا زال الخلاف واستقامت الأحوال بهذه الأساليب صار الطلاق – حينئذٍ – ممنوعاً. حيث جاء في ختام الآية الكريمة ما يفيد منع الطلاق عند استقامة الأحوال، قال – تعالى -: (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً)، [النساء: 34]. وقال – صلى الله عليه وسلم – (إن في طلاق أم أيوب حوباً – أي إثماً-) وجاء رجل إلى الخليفة الراشد عمر – رضي الله عنه – يريد طلاق امرأة، وعلل ذلك بأنه لا يحبها، فقال الخليفة الراشد: "ويحك هل كل البيوت تبني على الحب؟ أين التجمل والوفاء أين المروءة والحياء؟ إن الإنسان ينبغي أن يكون في هذا تقياً".
رابعاً: تولَّت الشريعة علاج ما قد ينشأ بين الزوجين من خصومة ونزاع، بطريقة تسهم فيها أسرة المرأة وأسرة الرجل، حيث قال الله – تعالى - : (فإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفِّق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيراً)، [النساء : 35].
خامساً: رتب للمطلقة حقوقاً مالية كبيرة وكثيرة لدى الزوج، حتى تجعله يتريث ويفكر ملياً قبل إقدامه على إيقاع الطلاق، وهذه الحقوق هي:
(1) على الزوج أن يوفيها مؤخر الصداق.
(2) يلزمه نفقتها من مأكل وملبس ومسكن ودواء ما دامت في العدة.
(3) إلزام الرجل بدفع أجرة الرضاع. قال – تعالى -: (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن)، [الطلاق:6].
(4) أجرة الحضانة حتى بلوغ الأطفال سن السابعة.
(5) وأيضاً فإن من الحقوق التي يرتبها الطلاق للمرأة على الرجل: المتعة.
تعريف المتعة شرعاً:
المتعة في الشرع هي "اسم لمال يدفعه الرجل لمطلقته التي فارقها، بسبب إيحاشه إياها بفرقة لا يد لها فيها غالباً"(2).
ونستخلص من هذا التعريف ما يأتي:
أولاً: أن المتعة مال يدفعه الرجل لمطلقته، ويشمل النقدين "الذهب والفضة" والأوراق النقدية، وكل ما يتقوم بمال سواء كان عقاراً أو منقولاً أو منفعة، كسكنى دار، أو خدمة آدمي، أو نحو ذلك.
ثانياً: أن سبب المتعة هو ما يصيب المرأة من وحشة بسبب طلاق الزوج لها، فتكون المتعة جبراً لخاطرها ورأباً للصدع الذي ألمّ بنفسها، "وتضميداً" للجرح الذي أصابها، ومسحاً لدمعها ولرأسها وتخفيفاً لما لحقها من الآلام حين تركها زوجها بعد رغبته فيها واختياره لها، وهذه المواساة هي حكمة مشروعية المتعة.
أدلة مشروعية المتعة:
(أ) من القرآن الكريم:
1. قال تعالى : (لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة:236].
2. قال تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة:241].
3. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً) [الأحزاب:49].(/1)
4. قال – تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً) [الأحزاب:28]
(ب) المتعة في السنة المطهرة:
أخرج البخاري في صحيحه بسنده، عن سهل عن أبيه وأبي أسيد قالا: تزوَّج النبي – صلى الله عليه وسلم – أميمة بنت شراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين.
وفي رواية أخرى أنه – صلى الله عليه وسلم – قال: (يا أبا أسيد اكسوها رازقيين وألحقها بأهلها)، فتح الباري على صحيح البخاري، ج9، ص : 356)، زاد المعاد، ج4، ص : 155، تفسير ابن كثير، ج1، ص : 288.
تقدير المتعة:
تفاوتت آراء الفقهاء في كيفية تقدير المتعة، هل يعتبر في تقديرها حال الزوج، أو حال الزوجة، أو حالهما معاً؟
فذهب بعضهم إلى أن المعتبر في تقدير المتعة حال الزوجة؛ لقوله – تعالى –: (متاع بالمعروف) الآية، [البقرة : 241]. فليس من المعروف أن تلبس المرأة الغنية ثياباً خشنة أو تقوم بخدمة نفسها، بل لابد لها من خادم.
فذهب بعضهم الآخر إلى أن المتعة تقدر حسب حال الزوج؛ لقوله – تعالى -: (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره)، [البقرة : 236]. فلو كان ذلك واجباً على قدر حال المرأة لكان الكلام: ومتعوهن على قدرهن.
فصريح الآية يجعل تقدير المتعة على حسب حال الزوج؛ لأنه هو الذي سيكلف بها، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها.
وذهب آخرون إلى أن المعتبر في تقدير المتعة هو حال الزوجين معاً؛ لأن الله – تعالى – في الآية الكريمة قد اعتبر أمرين:
أحدهما: حال الرجل في يساره وإعساره، فقال الله تعالى (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره).
ثانيهما: أن يكون مع ذلك بالمعروف فقال – تعالى – متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين.
فملاحظة هذين الأمرين تجب ملاحظة حالهما معاً (الأحوال الشخصية للشيخ محمد أبو زهرة، [ص: 223، 234].
إذ ينبغي عند تقدير المتعة مراعاة حال الزوج المالية وظروفه الخاصة، مع مراعاة ما يقضي به العرف، على أن يوضع في الاعتبار ما لحق بالمرأة من ضرر نتيجة للفرقة، ويكون الرجوع إلى الحاكم عند المشاحة.
وينبغي للزوج أن يبذل الكثير من المال في هذا الشأن بحسب استطاعته.
هذا: وينادي بعض أدعياء أنصار المرأة بوجوب تقدير معاش شهري للمطلقة مدة حياتها، أو إلى أن تتزوج، على أنه متعة شرعية لها، تعوضها عما أصابها من ضرر الطلاق.
ونحن نرى أن هذا مخالف للشريعة، وعدم فهم لما جاءت به في تشريع المتعة؛ وذلك لأن تقرير معاش شهري على أنه متعة سيجعل كل قسط متعة مستقلة، وهذا يؤدي إلى تكرار المتعة، وقد صرح الفقهاء بأن المتعة لا تتكرر، ولأن دفع مبلغ من المال كل شهر مثلاً إلى أن تموت المطلقة أو تتزوج يفضي إلى جعل المتعة مبلغاً ضخماً من المال يرهق ويصيبه بالحرج والضرر، وهذا ليس من المعروف في شيء، والتشريع القرآني يشترط في المتعة أن تكون بالمعروف حيث يقول الله – تعالى -: (وللمطلقات متاع بالمعروف) ولذا لم يقل به أحد من فقهاء الأمة في أي عصر من العصور ... لذلك نرى أن هذا الرأي مخالف لتشريع المتعة في الشريعة الإسلامية فيكون باطلاً.
آراء الفقهاء في حكم المتعة:
إذا كان عقد النكاح يرتب حقوقاً للمرأة منها الصداق، فإن الطلاق ينشأ عنه حق آخر للمرأة هو المتعة، ولما كانت المطلقة لا تخلو من إحدى حالات أربع:
الأولى: مطلقة بعد الفرض وقبل الدخول.
الثانية: مطلقة قبل الفرض وقبل الدخول.
الثالثة: مطلقة بعد الدخول وقبل الفرض.
الرابعة: مطلقة بعد الدخول والفرض.
وعلى هذا فالفقهاء في حكم متعة الطلاق على أربعة آراء:
الأول: القول بأنها سنة في جميع الحالات، وبهذا قال الفقهاء السبعة(3)، والإمام مالك، وهو رواية عن الإمام أحمد.
الثاني: القول بالوجوب في حالة واحدة وهي الطلاق قبل الفرض وقبل الدخول، وقالوا بالندب فيما عدا ذلك، وبهذا قال الحنفية والزيدية، ورواية عن الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد(4).
الثالث: القول بالوجوب إلا في حالة واحدة، وهي المطلقة بعد الفرض وقبل الدخول، وبهذا قال الإمام الشافعي في القديم، ورواية عن الإمام أحمد(5).
والرابع: القول بالوجوب مطلقاً، وبهذا قال أمير المؤمنين علي، والحسن، وأبو العالية، وسعيد بن جبير، وأبو قلابة، والزهري، وعطاء، وقتادة، والضحاك، وأبو ثور، والطبري، وابن حزم، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقال به الشافعي في الجديد، واختاره الإمام ابن تيمية(6).
وفيما يلي نتناول هذه الآراء بالتفصيل مع بيان أدلة كل رأي منها ومناقشتها، ثم نبين الرأي المختار:(/2)
الأول: القول بأن المتعة سنة في جميع الحالات وليست واجبة؛ وذلك لأن من وجب لها نصف المهر فقد استحقته باحتياطها هي ووليها، حيث تم عقد النكاح مع تسمية المهر، فإن تم عقدها بدون تسمية المهر فليس لها نصف المهر ولا تجب لها المتعة، ولكن تكون المتعة لها عند زوجها واستحباباً وتطوعاً.
واحتجوا بأمرين:
أولهما: أن الشارع لم يقدر المتعة، ولو كانت واجبة لبين مقدارها.
والجواب عن ذلك : أن عدم التقدير لا يلزم منه عدم الوجوب، فقد فرض الله النفقة ولم يبين مقدارها، بل وكل ذلك إلى الاجتهاد.
ثانيهما: أن الله علَّق الأمر بالتمتيع على الإحسان في آية، وعلى التقوى في آية أخرى فقال: (ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين)، [البقرة : 236].
وقال في الآية الأخرى: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين)، [البقرة : 241].
والإحسان غير واجب، والتقوى أمر خفي والشأن في التشريع ألا يعلق الحكم واجباً أو غير واجب على الأمور الخفية، وإنما يعلق على الأمور الظاهرة، فدلَّ ذلك على أن المتعة مستحبة غير واجبة، كما يفهم ذلك من التعليق على الإحسان والتقوى؛ إذ لو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين، والجواب عن هذه الحجة: أن الأمر بالتمتيع في قوله (ومتعوهن) وإضافة التمتيع إليهن في قوله: (وللمطلقات متاع) كل ذلك أظهر في الوجوب منه في الندب.
كما أن الله – عز وجل – قال: (حقاً) والحق فرض وواجب، وقال (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره)، و"على" تفيد الوجوب.
أما ذكره (المحسنين) و(المتقين) فإنه لتأكيد الوجوب، فإن فاعل الواجب يقال له محسن، وكل مؤمن تجب عليه تقوى الله – تعالى – بالابتعاد عن معاصيه. وعليه فتخصيص المحسنين والمتقين بالذكر إنما هو من باب التشريف والحض على فعل الواجب، فكأنه قال: من فعل ذلك فقد أحسن إلى نفسه واتًّقى عذاب الله – تعالى – المترتب على عدم فعل الواجب.
ويؤيد هذا ما جاء في سبب نزوله قوله – تعالى -: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين)، قال بعض السلف(7):لما نزل قوله – تعالى - : (متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين)، قال بعضهم: إن شئت أحسنت ففعلت وإن شئت لم أفعل، فأنزل الله هذه الآية: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين).
فدل ذلك على أن الشارع أراد من الأمر بالتمتيع الوجوب لا الندب.
الثاني: القول بوجوب المتعة في حالة واحدة، وهي إذا طلقت قبل الفرض وقبل الدخول، وتكون مندوبة في باقي الأحوال وممن قال ذلك الإمام أبو حنيفة. ودليله قوله – تعالى -: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن ...)الآية.
فقالوا بوجوب المتعة للمطلقة قبل الدخول والفرض؛ لأن قوله: (ومتعوهن) أمر بتمتيع هؤلاء، والأمر يفيد الوجوب ولم تتعرض الآية لغير هذا الصنف، فدل ذلك على عدم وجوبها لغيرهن.
الرأي الثالث: القول بأن المتعة واجبة لكل مطلقة فيما عدا التي طلقت قبل الدخول، وقد فرض لها الصداق فليس لها متعة، وإنما الواجب لها نصف الصداق فقط(8).
ودليلهم قوله – تعالى -: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين) وقوله – تعالى – في حق أزواج الرسول – عليه الصلاة والسلام – (فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلا) [الأحزاب: 28]، وأزواج الرسول – صلى الله عليه وسلم – كنَّ مدخولاً بهن مفروضاً لهن.
فلا يستثنى شيء من المطلقات إلا ما استثناه الشارع، وقد استثنى الشارع المطلقة بعد الفرض وقبل الدخول
وذلك أن الله ذكر المطلقة قبل الدخول بصنفيها، المفروض لها وغير المفروض لها في آيتين متعاقبتين وقرن كل صنف بحكم، الأمر الذي يشعر باختصاص كل صنف بالحكم الذي قرن به ، فقال: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره)، [البقرة: 236].
ثم عقب ذلك بقول: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم).
ففي الآية الأولى أمر بتمتيع المطلقة قبل الدخول التي لم يفرض لها شيء، وفي الثانية أوجب للمطلقة قبل الدخول التي فرض لها المهر نصف المسمى ولم يوجب لها متعة، فتعين التقيد بما ورد في النص.
والجواب عن ذلك : أنه قد ورد ثبوت الحق للمطلقة قبل الدخول وبعد الفرض في قوله – تعالى – (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً). وهي عامة في كل مطلقة قبل الدخول، سواء فرض لها أم لم يفرض.
الرأي الرابع: القول بوجوب المتعة لكل مطلقة، سواء طلقت قبل الدخول أم بعده، فرض لها أم لم يفرض.
ودليلهم قوله – تعالى -: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين) وقالوا: إن الآية عامة في كل مطلقة، ولم تفرق بين مطلقة قبل الدخول، أو بعده، فرض لها أم لم يفرض لها.(/3)
أما قوله – تعالى - : (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) فهذه الآية أوجبت للمفروض لها غير المدخول بها نصف المهر، بالإضافة إلى المتعة التي أوجبتها لها الآية الأخرى
ولا منافاة بين ما أوجبته كل من الآيتين، فإن الله – تعالى – لم يقل: فنصف ما فرضتم ولا متعة لها، وثبوت حكم في آية لا يدل على إسقاط حكم ثبت بآية أخرى، ما دام لا يترتب على اجتماعهما محال ... فدل ذلك على أن وجوب نصف المهر لها لا ينفي حقها في المتعة، لأن في القول به أخذاً بجميع الأدلة، وإبقاء للأوامر الواردة في الآيات على بابها دون حاجة إلى صرفها عن ظاهرها، ولا تعارض بين الآيات، حيث يمكن الجمع بين الأحكام الواردة فيها، سواء ما ورد منها في سورة البقرة أم في سورة الأحزاب.
والقول بوجوب المتعة مطلقاً هو مذهب جماهير العلماء، ومن أوجبها منهم في بعض الحالات، احتاج إلى التأويل أو حمل الأمر على الندب، ولا ينبغي صرف الأمر عن ظاهره من غير دليل.
وأما القائلون بأن المتعة سنة على الإطلاق فلا ينهض لهم دليل، يعارض صريح النصوص، وما احتجوا به أمكن مناقشته ورده فيما سبق، بما أغنى عن إعادته هنا، فلم يبق إلا القول بوجوب المتعة مطلقاً، للنصوص الواردة في هذا الشأن، ولأن في القول به جمعاً بين الأدلة، ويتفق مع الأوامر القرآنية التي تقضي بالعشرة بالمعروف، والتسريح بالإحسان، عند تعذر استمرار الحياة الزوجية.
وإذا كان حسن الصحبة واجباً حال قيام الزوجة فينبغي أن يكون التسريح سراحاً جميلاً، بتخفيف آثار الطلاق على المرأة، ومواساة جراحها، بما يدفع إليها من المال، بصرف النظر عما أخذته من المهر كله أو نصفه؛ لأن هذا شيء ملكته بالعقد، فلا يغني عما تستحقه بالطلاق.
وقد خاطب الله الأزواج وطالبهم بالعفو عن نصف الصداق، لتأخذ المرأة الصداق كله، إذا طلقت قبل الدخول وبعد الفرض، وقد بين – تعالى – أن هذا أقرب للتقوى، وقال (ولا تنسوا الفضل بينكم) الآية، [البقرة : 237].
ثم قال في الآية الأخرى: (وللمطلقات متاع بالمعروف) فأوجب لها المتعة بعد أن أوجب لها نصف الصداق، وحث على العفو عن النصف الآخر، وأكد ذلك ورغَّب فيه فقال – تعالى - : (وإن تعفو أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم).
وإذن فقد أوجب الإسلام الصداق بالعقد، والمتعة بالطلاق، وهي تعويض لجبر إيحاش الطلاق.
ويرجع في تقديرها للحاكم بناء على ما يقضي به العرف، وبحسب الظروف، مع مراعاة حال الزوج المالية، وبحسب ما لحق بالمرأة من ضرر، ويكون الرجوع إلى الحاكم عند المشاحة.
على أنه لا ينبغي للقاضي أن ينقص المتعة عن نصف الصداق؛ لأن الله – جل وعلا – منح المطلقة قبل الدخول وبعد الفرض نصف الصداق، مع أن الزوج لم يمسها ولم ينل منها شيئاً، ولم يترتب على هذه الفرقة عدة، ويمكن استقبال الخطاب في الحال، فإذا كانت قد استحقت نصف الصداق في هذه الحال، فلأن تستحق النصف الثاني باسم المتعة بعد أن طالت العشرة واستمرت الصحبة بينهما ، ولا سيما أنه يحتمل ألا يبقى لديها شيء من الصداق تستعين به على معيشتها ويحفظ لها ماء وجهها ويقيها من ذل السؤال أو الوقوع في الفقر والفاقة، وليس لها ما تستعين به إلا ما تحصل عليه من المتعة، بل إنها قد تستحق أكثر من نصف المهر، إذا رأى القاضي منحها مزيداً من المال مما يقضي به العرف أو جرت به العادة.
وإذن فقد اتضح لنا أن المتعة تجب على الزوج لمطلقته في جميع الأحوال؛ تعويضاً لها عن الضرر الذي يصيبها بسبب الطلاق وإيذاء الزوج لها بتركها وإثارة القول فيها: ما سبب تركه لها؟ لعله كره منها كذا وكذا؟ وقد يقعد بها هذا الطلاق عن الزواج في المستقبل؛ لأن الناس غالباً ما ينصرفون عن المطلقة، وقد يكون ما أخذته من الصداق قد استهلك، فلا يبقى لها ما تستعين به في حياتها وتصون به نفسها، وتحفظ كرامتها ويحميها من الضياع والحاجة إلى ما يدفع لها من المال باسم المتعة.
وفي هذا رد بالغ على أدعياء الإنسانية، الذين جعلوا من أنفسهم أوصياء على المرأة، وطالبوا بحمايتها من وحشية الرجل الذي يحوز المرأة كما تحاز السائمة في نظرهم.
كما أن في القول بوجوب متعة الطلاق رداً على الجمعيات النسائية، التي ملأت الدنيا صراخاً وعويلاً مطالبة ولاة الأمور بسن تشريع يوجب على الزوج تعويض المرأة عن الضرر الذي يصيبها بسبب الطلاق، فأخذوا يتلمسون ضالتهم المنشودة في القوانين الوضيعة، ويطالبون النجدة من الأنظمة الغربية لحماية هذا الجنس الضعيف الذي استبدَّ به الرجل – على رأيهم – ولكن هيهات ... هيهات ... فلن يجدوا ما يحقق لهم غايتهم ويصلون به إلى هدفهم غير كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
وبعد...(/4)
فقد مضى ردح من الزمن على العالم الغربي، وهو يجهل أو يتجاهل تعاليم الإسلام وقيمة ما اشتمل عليه من كنوز وهداية للبشرية، وظلوا في وهم خاطئ يعتقدون أن الإسلام قد استبدَّ بالمرأة، وأهدر حقوقها، ومكَّن الرجال من استغلالها ومصادرة إنسانيتها.
غير أنه قد حصحص الحق واستبان الهدى وزال اللبس، وتبين للناس في الغرب ما جاء به الإسلام من الهدى والرشاد، ووجد طلاب الحق منهم ضالتهم في الإسلام وهديه، وما جاء به من الخير وما حققه من إخراج الناس من الظلمات إلى النور، فسارع بعضهم إلى الدخول في دين الله، وطالب البعض الآخر بتطبيق شرائع الإسلام فيما يتصل بفقه الأسرة، فقد علموا أن إقامة الأسرة وفق تعاليم الإسلام هي أفضل وسيلة للراحة النفسية، وأعظم حصن يتحصنون به من الرذائل، وأقوى سياج في تربية الأولاد وحمايتهم من التشرد والضياع، ولهذا وجب على القادرين من المسلمين بذل الجهد في تبصير الناس في الغرب بتشريعات الإسلام وأحكامه، وبذل الجهد في إقامة دين الله عن طريق نشر الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن. قال – تعالى - : (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين)، [يوسف: 108].
ونسأل المولى القدير أن ينصر دينه، وأن يجعل الكلمة العليا لأمة سيد العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) التعليق المغني على سنن الدارقطني، ج4، ص : 35 بلفظ آخر، معرفة السنن والآثار، ج 10، ص : 21، سنن ابن ماجة، ج1، ص : 373، رقم 2028، نيل الأوطار، ج7، ص : 2.
(2 ) الأحوال الشخصية لمحي الدين عبد الحميد، (ص : 158).
(3 ) الفقهاء السبعة هم : 1. سعيد بن المسيب. 2. عروة بن الزبير. 3. القاسم بن محمد.
4. خارجة بن زيد. 5. أبو بكر بن عبد الرحمن . 6. سليمان بن يسار. 7. عبد الله بن عتبة بن مسعود.
(4 ) بدائع الصنائع ج2، ص : 302، وما بعدها ... والمغني مع الشرح الكبير، طبعة رشيد رضا، ج8، ص:49، الجامع لأحكام القرآن، ج3، ص: 200.
(5) المهذَّب ، ج2، ص: 63، ونهاية المحتاج ج6، ص: 358، المغني ج8، ص: 48، الفروع ، ج5، ص: 288.
(6) المغني، ج8، ص:49، والمحلى لابن حزم، ج10، ص: 245، 247، والفروع، ج5، ص : 288، والإنصاف، ج8،ص: 302، وما بعدها ومجموع الفتاوى، ج32، ص: 27.
(7) أحكام القرآن لابن العربي، ج1، ص: 92. وتفسير ابن كثير ج1، ص : 297،. والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج3، ص: 200.
(8) المهذب، ج2، ص: 63. المغني، ج8، ص : 48. والفروع، ج5، ص: 288.(/5)
عناية الشريعة بسد ذرائع الفاحشة
المحتويات
التعريف بسد الذرائع
أولاً: التغليظ في حد الزنا
ثانياً : حد القذف
ثالثاً: الأمر بالزواج
رابعاً: الأمر بغض البصر
خامساً: مشروعية الحجاب
سادساً: نهى النساء من التبرج والسفور وإثارة الرجال
سابعاً: الأمر بالاستئذان
ثامناً : تحريم الغناء
تاسعاً: تحريم سفر المرأة دون محرم
عاشراً: تحريم الخلوة بالأجنبية
الحادي عشر: التفريق بين الأولاد في المضاجع
واجبنا تجاه هذه القضية
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداًصلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، إن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدصلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، أما بعد: فحديثنا هذه الليلة حول اعتناء الشريعة بسد ذرائع الفاحشة، ونحتاج بين يدي الحديث إلى التعريف بسد الذرائع وماذا يعنى به؟
التعريف بسد الذرائع
سد الذرائع قاعدة شرعية معروفة، تجد الحديث كثيراً عنها عند علماء الأصول، وعرف ابن منظور الذرائع بقوله: "الذريعة الوسيلة وقد تذرع به توسل والجمع ذرائع".
وقال شيخ الإسلام: "و الذريعة ما كان وسيلة وطريقاً إلى الشيء، ولكن صارت في عرف الفقهاء يعبر عنها بما أفضى إلى فعل محرم". إذن فالذريعة هي الوسيلة والطريق إلى أي أمر كان، فالذي يسافر ليحصل على مقصود له نعتبر السفر هنا ذريعة لهذا المقصود، لكن هذه الجملة صارت في عرف الفقهاء خاصة في الأمور المحرمة، فعندما يقال سد الذريعة ينصرف الذهن إلى تحريم الأمور التي تكون سبباً في الوقوع بالمعصية.
ويمكن أن نعرفها بأسلوب أكثر وضوحاً فنقول: إن سد الذرائع عبارة عن أحكام حرمها الشارع ومنع منها لا لذاتها وإنما لأنها وسيلة وطريق للوقوع في الحرام، فالشارع مثلاً قد حرم شد الرحال لزيارة القبور لأن هذه وسيلة وذريعة إلى عبادتها من دون الله سبحانه وتعالى، ومنع من تجصيصها وبناء القباب عليها واتخاذ السرج إلى غير ذلك كل هذا إغلاقاً لهذا الباب، حتى لا يكون وسيلة للوقوع في الشرك.
قال ابن القيم رحمه الله: "لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعةً لها معتبرةً بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهيتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها، وارتباطها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود، ولكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقاً لتحريمه، وتثبيتاً له، ومنعاً أن يضرب حماة، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضاً للتحريم، وإغراءً للنفوس، وحكمته تعالى وعلمه يأبيان ذلك كل الإباء، بل ساسة ملوك الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع المرسلة إليه لعد متناقضاً، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده، وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصولة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أكمل درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها" .
ولن أفيض في الحديث عن هذه النقطة فحديثها له مجالاته المختصة به، ومن أراد التوسع في ذلك بإمكانه أن يرجع إلى كتب أصول الفقه، لكننا نريد جانباً واحداً من هذه القضية وهي عناية الشريعة بسد ذرائع الفاحشة.
إن هذه الفاحشة أمرها عظيم وخطبها جسيم، وهي كفيلة بتدمير المجتمعات ونزول الوباء بها ولا أدل على ذلك من أنها عرفت بهذا الاسم، فعندما يقال الفاحشة ينصرف الذهن إلى هذه الجريمة؛ ذلك أن مصطلح الفاحشة في الأصل هو كل ما يستقبح فيقال عنه أنه فاحش، ولهذا كان العرب يسمون البخيل فاحشاً كما قال شاعرهم:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي *** عقيلة مال الفحش المتشدد
و في التنزيل يقول سبحانه وتعالى: [الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء] أي البخل، وصفة البخل مستقبحة عند العرب غاية القبح، ولشناعتها وقبحها سميت بالفاحشة، وتطلق الفاحشة في الاصطلاح الشرعي على المعصية كما قال الله عز وجل :[ لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة] فالمقصود بالفاحشة هنا المعصية، وليست قاصرة على جريمة الزنا أو ما شابهها من الفواحش.(/1)
لكن لشناعة هذه الجريمة وقبحها صارت"أل" هنا عهدية فعندما يقال الفاحشة ينصرف الذهن إلى هذه الجريمة البشعة والشنيعة، وهذه الجريمة يعاقب فاعلها بعقوبة قاسية لا يعرف لها نظير، فيعاقب بالرجم بالحجارة حتى يموت إن كان ثيباً، وبالجلد إن كان بكراً :[الزانية والزاني فأجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة و لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين]، فيأمر الله عز وجل بإعلان العقوبة وينهى المؤمنين بأن تأخذهم رأفة بهم لشناعة هذه الجريمة وقبحها.
ونحن أحوج ما نكون إلىالحديث عن هذه القضايا هذا العصر التي توسعت فيه في أبواب الفتن، فأصبح الشاب في هذا العصر يعيش أسير شهوته؛ وأصبحت المشكلة التي تؤرق الشاب الصغير والكبير، الشاب المستقيم وغير المستقيم، المحافظ والمتجاوز لحدود الله، أصبحت مشكلة الجميع وحديث الجميع هي هذه الشهوة وما تجره على صاحبها من ويلات.
وأما الآخر الذي في قلبه خوف من الله تعالى، و شعور بالإيمان، فيتصارع الدافعان أمامه: دافع الشهوة، ويغذي هذا الدافع ما يراه من صور ومفاتن اجتهد أعداء الله وتفننوا في إثارة غريزة الشباب والفتيات من خلالها، وسخروا كل وسائل العصر وما تفتق عنه العلم المعاصر لأجل الإغراء والفتنة، وساهم كثير من أبناء جلدتنا في ذلك -إما عن غفلة أو عن عمد وسبق إصرار- في إضلال الناس، ثم بعد ذلك يتحدثون عن العفة ويتحدثون عن عقوبة من يقع في ذلك ولسان الحال يقول:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له *** إياك إياك أن تبتل بالماء
و سر في أنحاء العالم الإسلامي شرقاً وغرباً فترى مظاهر السفور والإغراء، وترى أنواع الدعوة الصريحة والمغلفة إلى هذه الفاحشة، والدافع الثاني هو: دافع الإيمان والخوف من الله عز وجل والذي يذكره بقول الله سبحانه وتعالى: [و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا] و قوله تعالى:[والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما، يضاف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعملاً صالحاً…] ، ويتخيل أمام ناظريه ذلك الوعيد الشديد والمستقبل المظلم الذي يذكره النبي صلى الله عليه وسلم لما يتعرض له الزاني في حياة البرزخ في قبره قبل أن يصير إلى البعث والنشور، عن سمرة ابن جندب - رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"رأيت الليلة …..وفيه….قال: فانطلقا بي فإذا بمثل التنور أسفله واسع وأعلاه ضيق وإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفلهم فإذا آتاهم اللهب ارتفعوا وضووا وصيحوا فقلت: من هؤلاء فقيل هؤلاء هم الزناة والزواني" وهذا في حياة البرزخ فما بالك بما ينتظرهم عند الله تبارك وتعالى؟
ولست بحاجة إلى أن أحدثك عن ما يجنيه من يتجرأ على الفاحشة في الحياة الدنيا من العقوبات الدنيوية التي أولها وأشدها أن يصرف قلبه عن الله سبحانه وتعالى، فيحرم من لذة عبادة الله والتوجه إليه والإقبال عليه سبحانه وتعالى، وأحري بعد ذلك بهذا القلب أن يعيش حياة النكد ويعيش حياة الخسران، فيحرم أعلى لذة وأعلى نعيم يجده العبد في الحياة الدنيا، وأن يتعلق قلبه ويتوجه لغير الله، وأن يعاقب بمرض جنسي تكون نهايته بسبب هذا المرض كما قال صلى الله عليه وسلم: "خصال خمس إن أدركتموهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ابتلاهم الله عز وجل بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم" وهذه عقوبة دنيوية لمن يتجرأ على هذه المعصية.
إن الشاب يعيش هذا الصراع وكثيراً ما يتساءل: إني أعيش جحيم الشهوات، فكيف أتخلص منها، وكيف أنجو من هذه الشهوة، فكان لابد من الحديث عن هذا الموضوع من جوانب شتى وزوايا عدة، ومهما تحدثنا عن هذا الموضوع بصورة أو أخرى فأجزم أننا لن نعطيه حقه، والدليل على هذا ما نراه من أسئلة توجه إلينا في مثل هذه اللقاءات، أو رسائل تأتي في البريد أو مشاكل خاصة يفضي بها الشاب إلينا، إن هذا كله دليل على أن الموضوع يحتاج إلى حديث أكثر وإلى طرق أكثر.
ومن ثم كان الحديث عن جانب مهم من جوانب علاج هذه المشكلة وهو سد الذرائع، فنتحدث الآن عن بعض الأحكام الشرعية التي شرعها الله سبحانه وتعالى سدًّا لذريعة هذه الفاحشة، وقد نطيل فهيا قليلاً، ثم بعد ذلك ننطلق إلى النتائج والجوانب التي يجب أن نستخلصها سواءً استخلصها الشاب في نفسه أو المربي الذي ولاه الله سبحانه وتعالى مسؤولية من استرعاه أمانته.
أولاً: التغليظ في حد الزنا
لقد أغلظت الشريعة عقوبة الزاني، وأمرت بإعلان الحد، ونهت عن أن تأخذ المؤمنين رأفة بالزناة والزواني، وسبقت الإشارة إلى هذه القضية، وهذا من أعظم الروادع .
ثانياً : حد القذف(/2)
لحد القذف حكم بالغة، منها حماية عرض المسلم فلا يصبح عرضه كلأً مباحاً يلوكه أي إنسان، والحكمة الثانية: أن التساهل في القذف، يدعو إلى أن تكون الفاحشة أمراً سهلاً و مستساغاً عند الناس؛ فيسهل بعد ذلك الوقوع فيها لكن عندما يفرض هذا السياج حول هذا الأمر وما يتعلق له لا يجرؤ الإنسان أن يقول فلان فعل كذا أو فلان وقع في كذا وكذا إلا وعنده بينة، فإذا طالب المقذوف بحقه ولم يأت بالبينة، فيشرع أن يعاقب بحد القذف بأن يجلد ثمانين جلدة، وألا تقبل له شهادة أبداً، وأن يحكم بفسقه، إلا أن يتوب بعد ذلك.
و هذا الحد فيه سد لذريعة الفاحشة، لأن فتح الباب على مصراعيه للجميع يتحدث عن هذا الأمر مدعاة لأن تصبح الفاحشة قضية تلوكها الألسنة وتتحدث عنها كثيراً.
ثالثاً: الأمر بالزواج
من الوسائل التي فيها سد لأبواب الفاحشة الأمر بالزواج، وجعله من سنن المرسلين، قال الله سبحانه وتعالى: [و لقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله] ، فأخبر الله سبحانه وتعالى أن من سنن المرسلين الزواج والنكاح، قكما أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق فقد جعل الله عز وجل لهم الأزواج والذرية. ويقول صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر و أحصن للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء،"وقال:"إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه" وكل هذه النصوص وغيرها تأمر وتحث على الزواج من أجل تيسير وفتح هذا الباب من جانب، وإغلاق وسد باب الفاحشة و الذريعة إليها من جانب آخر.
رابعاً: الأمر بغض البصر
النظر هو بريد الزنا وهو الخطوة الأولى لمواقعة الفاحشة عافانا الله وإياكم قال تعالى:[قل للمؤمنين يغضون من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون]. وختم الآية بقوله ((خبير بما يصنعون)) يدل على دقة العلم، وهي تدعو إلى أن يشعر الناظر أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليه، وأنه سبحانه وتعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، إنه قد يكون أمام الناس فينظر نظرة لا يظن من حوله بها إلا خيراً، ولكن في قلبه غير ذلك، والله سبحانه وتعالى هو وحده العالم بما في قلبه
يقول جرير بن عبدالله رضي الله عنه:" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري" والحديث رواه مسلم وفي الحديث الآخر الذي رواه البخاري تعليقاً ورواه مسلم عن أبي هريرة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" كتب على ابن آدم حظه من الزنى فهو مدركه لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النطق، وزنى الأذنين الاستماع، وزنى اليدين البطش، وزنى الرجلين الخطى، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" وفي رواية أخرى "فالعين تزني وزناها النظر والأذن تزني وزناها السماع" ، وهنا يتبادر سؤال: لماذا بدأ بالنظر قال: "زنى العين النظر"، يقول ابن القيم رحمه الله: فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بزنى العين لأنه أصل زنى اليد والرجل والقلب والفرج".
وأريد أن أوقفكم معشر الشباب عند حديث طالما تأملت فيه كثيراً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والجلوس في الطرقات ، قالوا : يا رسول الله ما لنا منها بد، مجالسنا ،قال: فأعطوا الطريق حقه ، قالوا: وما حق الطريق ، قال : غض البصر إلى آخر الحديث.." ، والشاهد هنا غض البصر، ونلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم أولاً يخاطب أصحابه وقد كانوا في بيئة محافظة، والنساء كن يتحجبن، وكانت المرأة تلتصق بالحائط حتى يكون في الحائط أثر من التصاقها به،وذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلم :"استأخرن فإنه ما يكون لكن أن تحققن الطريق" ، ففي هذا الوسط الذي لم تكن المرأة تخرج فيه إلا لحاجة، وإذا خرجت خرجت متسترة ملتصقة بالحائط، ومع ذلك لم يأمرهم صلى الله عليه وسلم بغض البصر ابتداءً، بل نهاهم عن الجلوس في الطريق وإذا اضطروا إلى الجلوس في الطريق فليغضوا البصر.
وإذا تأمل الشاب هذا المعنى أدرك أنه لابد أن يكون حازماً مع نفسه، لإغلاق المنافذ إلى شهواته و أهوائه، فكم يفتح الشاب على نفسه الأبواب ثم يتساءل أنا أشتكي من الشهوة، ولو أغلق الأبواب على نفسه، واتبع هذا الأدب النبوي الذي علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم لأراح واستراح.
يقول أحد العلماء الألمان (عالم غربي): لقد درست علم الجنس وأدوية الجنس فلم أجد دواء أنجح وأنجع من القول في الكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم [و قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم] رأت امرأة رجلاً ينظر إليها وهو يطوف بالبيت، فقالت:
و كنت متى أرسلت طرفك رائداً *** لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا أنت قادرٌ *** عليه ولا عن بعضه أنت صابر(/3)
إنك حين تنظر إلى النساء وهن متبرجات غاية التبرج من خلال التلفاز أو من خلال المجلات أو أي مصدر آخر، وتمتع نفسك من خلال هذه المناظر، النتيجة التي جنيتها من هذا كله أنك أشعلت الجحيم في قلبك، وهذه الصورة التي رأيتها ما زالت ترتسم في ذهنك؛ فيبدأ الشيطان يعيد عليك الصورة مرة وثانية وثالثة فتعيش في قلق لا يطاق، وفي النهاية لم تحصل على شهوتك، ثم لو حصلت عليها فسوف تعيش جحيماً أشد وعذاباً أشد، فالذي يغض بصره يعيش في راحة عظيمة.
وحتى الإنسان الذي لا يردعه دين ولا يؤمن بالأديان، لكنه يملك عقلاً ناضجاً فإنه يعتبر غض البصر علاجاً لنفسه.
وحين يتزوج الشاب وقد كان حافظاً لبصره قبل الزواج، تكون زوجة محل رضا العين والقلب، لكن الإنسان الآخر الذي لم يحفظ بصره لا يجد المرأة التي يرضى بها و تقر بها عينه، لأنه اعتاد على هذه المظاهر من خلال إطلاق بصره هنا و هناك، وقد تنشأ مشكلات من جراء ذلك وهذا من شؤم هذه المعصية، وهذه الخطوة تتابع الإنسان في كل مكان.
لقد أطلت في الحديث عن إطلاق البصر، لأني أعتقد أنه من أهم الذرائع وأخطرها، بل هناك أحكام شرعت لأجل منع النظر الذي هو ذريعة لما بعده، ولهذا لا أقول لك غض البصر، بل أقول لا تجلس في المواطن التي تحتاج فيها أن تغض بصرك أصلاً، فبدلاً من أن أقول لك حين تذهب إلى السوق غض البصر أقول لا تذهب إلى السوق ابتداءً، أو إلى تلك المواقع التي تحتاج فيها إلى غض البصر، إلا عندما تضطر فإذا اضطررت فغض البصر، وهذا هو الأدب النبوي الذي يخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين كانوا يعيشون في مجتمع مثالي من المحافظة والبعد عن مواطن المعصية فكيف بنا نحن.
خامساً: مشروعية الحجاب
فقد فرض الله الحجاب على نساء المؤمنات بقوله تعالى [يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين] ولاخلاف بين أهل العلم في وجوب الحجاب وفرضيته، إنما اختلافهم في بعض تفاصيله، وهم متفقون أيضاً أنه إنما شرع سداً لذريعة الفاحشة.
سادساً: نهى النساء من التبرج والسفور وإثارة الرجال
قال تعالى:[وقرن في بيوتكن و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى…] :ويقول تعالى:[وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدبن زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن…] .وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها" كاسيات: أي عليهن لباس لكن هذا اللباس أشبه ما يكون بالعرى، وأحياناً بعض اللباس يزيد المرأة فتنة فهي في ظاهرها كاسية ولكن حقيقتها عارية.
وجاء الشرع بالأمر ببقاء المرأة في بيتها كما في الآية السابقة، ويقول صلى الله عليه وسلم:"المرأة عورة فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان حتى ترجع".
ومن ذلك أيضاً أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأم حميد الساعدي وهي أم حميد الأنصارية زوجة أبي حميد الساعدي رضي الله عنها وقد قالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك قال:"قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتكِ في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قدمك خير لك من صلاتك في مسجدي "رواه أحمد فهذا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تضاعف فيه الحسنات، والصلاة فيه بألف صلاة، و مع ذلك فصلاة المرأة فيه دون صلاتها في يبتها، لماذا كل هذا؟ لأجل سد ذرائع المعصية، وحماية المجتمع.
وحين تخرج لابد من ترك الزينة والتطيب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن تفلات" رواه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة، أي غير متطيبات ومتجردات من الزينة كلها، وأما إذا استعطرت فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم :" أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية…" ، بل أمرت أن تغتسل المرأة غسل الجنابة من الطيب إذا أرادت أن تخرج
ومن ذلك تحريم الخضوع بالقول ،قال تعالى :[فلا تحضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً] والأذن تعشق قبل العين أحياناً –كما قيل- لذا نهيب بالمرأة عن الخضوع والتكسر في القول.
سابعاً: الأمر بالاستئذان(/4)
ومما شرع سدًّا للذريعة: الأمر بالاستئذان عند دخول البيت يقول الله عز وجل: [يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها] ويبين النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة من الاستئذان في حديث سهل عند مسلم قال: "إنما جعل الإذن من أجل البصر" ، أي ما شرع الاستئذان إلا من أجل البصر إذن فالأمر بالاستئذان لأجل ألا تقع عينه على أمر محرم في البيت، كأن تكون المرأة قد وضعت ثيابها، وتكون في مظهر مبدية فيه للزينة وهذا مدعاة للوقوع في الفتنة.
ومن ذلك الأمر باستئذان الصغير كما في قوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم] حتى الصغير ينبغي أن نربيه على أن لا يدخل على والديه إلا باستئذان فقد يرى ما لا ينبغي أن يراه ،قال تعالى: [و إذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم] فتزاد الآن حدود الاستئذان.
والمفترض أن لا نقف عند الظاهر فقط؛ فالمسلم يلتمس الحكمة من وراء ذلك، فالذي أمرك بالاستئذان هو الذي أمرك بالحجاب.
وحين تتأمل فيما يفعله كثير من الناس ترى صوراً من التناقض، كالذي يأمر محارمه بالتحجب عن الأجانب، و لكن الخادمة لها أن تكشف له ولغيره من الأجانب، أو كالذي يأمر ابنه بأن يغض بصره ويسمح له بأن ينظر إلى التلفاز بما يحويه من سفور وتبرج، فعلينا أن ندرك أسرار حكم الله سبحانه و تعالى.
ثامناً : تحريم الغناء
ومن ذلك تحريم الغناء، ولتحريمه حكم منها أنه يصد عن القرآن فالإنسان الذي يتلذذ بسماع الغناء لا يتلذذ بقراءة القرآن أو سماعه، ولذا يثقل القرآن والموعظة على بعض الناس، وهذا مصداق لقول الله عز وجل :[و من الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين* وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً] فحب الكتاب وحب ألحان الغناء لا يمكن أن يجتمعا في القلب، فهذا مزمار الشيطان وصوت الشيطان وذاك كلام الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أبداً أن يجتمع النقيضان، فإذا وجد صوت الشيطان لابد أن يرحل كلام الله سبحانه وتعالى.
والحكمة الثانية -التي هي الشاهد هنا - أن الغناء رقية الزنا وبريد الزنا؛ فكل ما في الغناء يدور حول الحب والغرام والعشق وما يتعلق بها، وهذا أمر يدركه كل من ابتلاه الله وتاب إليه.
يقول الفضيل: "الغناء رقية الزنا" . ويقول يزيد بن الولي: "فإن الغناء داعية الزنا " ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "و أما الفواحش فالغناء رقية الزنا وهو من أعظم أسباب الوقوع في الفواحش" والشاب ليس بحاجة إلى من يثير شهوته.
تاسعاً: تحريم سفر المرأة دون محرم
من الذرائع التي سدت سفر المرأة بدون محرم يقول صلى الله عليه وسلم : "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها" والحديث في الصحيحين عن أبي هريرة، وفي الصحيحين أيضاً عن ابن عباس قال :قال صلى الله عليه وسلم : "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" فقال رجل: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا قال انطلق فحج مع امرأتك".
ويسقط وجوب الحج عند جمع من الفقهاء عن المرأة إن لم تجد محرما.
عاشراً: تحريم الخلوة بالأجنبية
سبق في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما : "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم" وفي الصحيحين من حديث عقبة:"إياكم والدخول على النساء" فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ قال صلى الله عليه وسلم : "الحمو الموت".
الحادي عشر: التفريق بين الأولاد في المضاجع
ومن الأحكام أيضاً التفريق بين المضاجع كما في المسند وأبي داود والحاكم من حديث عبدالله ابن عمرو يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع".
هذه بعض الأحكام الشرعية التي شرعت من أجل سد ذريعة هذه الفاحشة، وحماية المجتمع منها.
ولقد اعتنى أهل العلم في التأكيد على مراعاة هذه الآداب، عند حديثهم عن المدارس وما ينبغي لمعلم الصبيان.
يقول الحافظ ابن حجر الهيثمي في كتاب (تحرير المقال في آداب وأحكام وفوائد يحتاج إليها مؤدبو الأطفال): "فصل فليحذر المعلم من نظر المرد الذين يعلمهم"وذكر بعض النصوص في النظر ثم قال: قال بعض التابعين: "ما أنا خوف على الشاب الناسك من سبع ضارٍ من الغلام الأمرد يقصد إليه" وكان يقول "لا يبيتن رجل مع أمرد في مكان واحد، وأقوال السلف في التنفير منهم والتحذير من رؤيتهم ومن الوقوع في فتنتهم ومخالطتهم أكثر من أن تحصى".
وفي هذا العصر يتأكد مراعاة هذا الأمر، ومع انفتاح هذه الأبواب وكثرتها عافانا الله وإياكم كان لابد من الحديث والعناية بهذا الجانب.
واجبنا تجاه هذه القضية(/5)
يتمثل الواجب علينا تجاه هذه القضية في أمور:
الواجب الأول: يتعلق بالشاب نفسه، فمن أهم ما يجب عليه أن يغلق الباب ابتداءً وكما ذكرنا ونكرر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم : "من إياكم والجلوس في الطرقات" فليكن حازماً، ولا ينخدع بثقته بنفسه وأنه لن يقع فيما وقع فيه غيره، ثم يفاجأ في النهاية أن الشيطان تمكن منه، وكل إنسان يعلم من نفسه أي الأبواب التي يمكن أن يدخل معها الشيطان لإيقاعة بالمعصية، فليسد هذا الباب، وليعلم أن هذا مقصد من المقاصد الشرعية.
الواجب الثاني: يتعلق بالمربي سواء كان أبا أو أستاذا أو موجهاً، فعلى المربين أن يدركوا مسؤوليتهم تجاه هذا الأمر، وأن يتقوا الله سبحانه وتعالى في هذه الأمانة والمسؤولية التي ولاهم الله إياها .وعلى الآباء والأساتذة أن يدركوا معاناة من يربونه سواءً كان شابًّا أو فتاة، ذلك أن الأب أو الأم اللذين تقدم بهما السن وقد عاشا في عصر يختلف عن هذا العصر، يحاكمان أبناءهم وبناتهم من خلال ذلك العصر الذي عاشوا فيه، فالمغريات والفتن ليست كما هي الآن، فعلى المربي أن يعيش بعقلية المتربي، وأن يفكر في مشكلته ويتصور حجم المشكلة والمعاناة التي يعانيها.
إن من حق من نربيه أن نقدم له النصيحة أن نعينه أن نأخذ بيده أن يشعر أننا معه ونشعر بمعاناته ومشكلته، لكن الجميع يعيشون في وادٍ وهؤلاء في وادٍ آخر.
ثم يسعى بعد ذلك إلى أن يهيئ له البيئة الصالحة والمناخ الصالح .
وعليه أن يجنبه الذرائع كذلك ويغلق عليه أبواب الفتن، خلافاً لبعض الآباء الذي يكون وسيلة لجر الفساد إلى ابنه، فهو الذي يؤمن له أجهزة اللهو، وهو الذي يمكن ابنه من السفر، وهو الذي يدعوه إلى الفاحشة بصورة غير مباشرة وغير صريحة من حيث يشعر أو لا يشعر.
جانب آخر أحب أن أقف عنده قليلاً وهي مشكلة نعاني منها كثيراً وهي :"التوازن بين الخوف والثقة".
قد يتبادر إلى ذهن المربي أن بعض التصرفات إنما تعكس مظهراً من مظاهر عدم الثقة، فيؤدي ذلك إلى التساهل من قبل بعض المربين.
إننا لا ندعو المربي أن يكون الشك هو طبيعته وسجيته، وسوء الظن هو المقدم دائماً عنده، لكن في المقابل لا نريده أن يكون مغفلاً، فالشرع الذي ينهى عن سوء الظن وأخبر أن كثيراً من الظن إثم والأمر بالاجتناب عنه، هو الذي وضع تلك الضمانات سدًّا لذرائع المعصية.
الواجب الثالث: واجبنا تجاه المجامع، فيجب أن نسهم بكل وسيلة في حماية المجتمع من مظاهر الفاحشة و الفساد التي أصبحت تعج بها المجتمعات، مظاهر السفور، ومظاهر التبرج ومظاهر التكسر والمجلات والصور والأفلام إلى غير ذلك، وأن نحاول أن نقف جميعاً صفًّا واحداً ونشعر أن هذا المجتمع مجتمعنا وأننا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في سفينة وهؤلاء الذين يقعون في هذه المعاصي هم الذين يخرقون السفينة، وقد نغرق جميعاً فعلينا أن نحافظ على المجتمع صيانة بعد ذلك لأبنائنا وأحفادنا.
اسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا وإياكم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/6)
عناية المسلمين بالبلاغة خدمةً للقرآن الكريم
أ.د. أحمد الخراط
علم البلاغة غصن باسق من دوحة علوم العربية، وقد لقي هذا العلم من عناية السلف وجهودهم ما جعله عِلْماً قائماً برأسه؛ ليخدم بيان الوحي المعجز، وتفوُّقه على الأساليب البيانية الأخرى.
ويشير واقع العرب في أوائل عصر نزول القرآن الكريم إلى أن السليقة التي نشؤوا عليها في التذوق الفطري الأصيل وَفَّرَتْ عليهم تحليل مقومات روعة الكتاب العزيز، ثم إنهم لم تكن لديهم الوسائل التي تكفي بلوغ هذا التحليل، على نحو ما تيسَّر للأجيال التالية[1] .
ومع مرور الأيام برزت عوامل جديدة أدَّت إلى إضعاف أثر السليقة في التعامل مع النصوص الأدبية؛ فقد اختلط العرب الفصحاء بغيرهم، ووصلَتْ دعوة الإسلام إلى أقوام مختلفين، كما أثيرت شكوك ومطاعن في بلاغة القرآن وإعجازه، ممَّا جعل الكثيرين لا يكتفون بهذا التفوُّق الذي تُحِسُّه نفوسهم إزاء البيان القرآني، فمضَوا يحاولون استنباط ما يستطيعون استنباطه من وجوه البلاغة فيه، وأصبحت دراستُهم تقوم على الدليل العقلي والحجة وتسويغ مواطن الجمال التعبيري[2] .
ويُعَدُّ القرآن الكريم هو العامل الرئيس الذي ساعد على الشروع في الدراسات البلاغية بمختلف اتجاهاتها، وكان هذا العامل أهمَّ البواعث في إثارة الهمم للبحث الجادِّ عن ترتيب وجوه الكلام، والتمييز بين الأساليب ومعرفة الجوانب الجمالية في نسيج تركيب الجملة العربية[3] .
ويُجْمع العلماء على أنه بفضل الكتاب العزيز نشأت علوم البلاغة التي أمدَّها النص القرآني بفيض من الأمثلة البديعة في محاسن الكلام وبديع النظم[4] .
والواقع أن القرآن الكريم أثار منذ اللحظات الأولى لنزوله حركة فكرية عند مُتَلَقِّيه، ممَّا جعلهم يلتفتون إلى ما جاء به في أساليب التعبير والبيان، ويُنَقِّبون عن كنوزها، ويوازنون بين صنوف الكلام المختلفة[5] . يقول الدكتور حمادي صمود[6] : «غدا القرآن القطبَ الذي تدور حوله مختلف المجهودات الفكرية والعقائدية للمسلمين».
ولو تساءلنا عن أسباب نشأة علوم البلاغة التي هي المعاني والبيان والبديع، لَتَبَيَّن لنا أنها نشأت للدفاع عن القرآن، والردِّ على الذين أنكروا إعجازه.
وقد عُرِفَ العرب بسليقتهم اللغوية أن عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن نابع منه؛ بما يتميَّز به من خصائص أسلوبية وبيانية، ولكن مع التأثُّر الجارف بالفلسفات الوافدة ذهب بعض المسلمين إلى ما عُرِفَ بنظرية الصِّرْفة[7] التي تأثرت بما يقوله الهنود عن كتابهم المقدس "الفيدا"، إذ اعتقد البراهمة أنهم يعجزون عن الإتيان بمثله؛ لأن براهما صرفهم عن ذلك، وفي مقدور الخاصة محاكاته، ولكنهم ممنوعون احتراماً.
وذهب إبراهيم النظَّام المعتزلي هذا المذهب، فكان يعتقد أن القرآن ليس في درجة من البلاغة والفصاحة تمنع من الإتيان بمثله، فبلاغته لاتزيد على بلاغة سائر الناس، وهو من جنس كلام البشر. ومثل هذا الرأي دفع علماء المسلمين إلى الخوض في مسائل البلاغة التي تدرس خصائص النص القرآني، ممَّا سيكون له أثر كبير في إغناء المباحث البلاغية، فقد أثمرت أهمَّ نظرية في تراثنا البلاغي وهي نظرية النظم[8] ، ومن هنا كان الردُّ على النظَّام ونظريته في الصِّرْفة باعثاً مهماً ومنطلقاً لعلماء البلاغة أن يُثْبِتوا تَفَوُّق الأسلوب القرآني على الأساليب البشرية وتميُّزه بصنوف البيان البديع، وهذا الدافع جعلهم يَبُثُّون بذور علم البلاغة وفروعها المختلفة، مما كان أساساً لاكتمال صورتها في مصنفات القرون التالية.
وإذا كان الدافع للاهتمام ببيان القرآن في أول الأمر هو الدفاع عن الكتاب العزيز أمام نزعات الشك وردِّ المطاعن، فإنَّ دراسات جادَّة شرعت في بناء منظومة واسعة، غرضها شرح أوجه إعجاز القرآن ودراسة أسلوبه.
وهذه الدراسات زَوَّدت مسيرة علم البلاغة بفيض من الأصول والأمثلة التي اعتمدَتْها مصنفات علوم البلاغة فيما بعد القرون الأولى[9] ، وكان اختلاف وجهات النظر في مواطن إعجازه مادةً ثرَّة، رفدت هذه العلوم بروافد تأصيلية في البحث البلاغي والنقد الأدبي[10] ، وبذلك يتبيَّن لنا أن أهمَّ جانب ساعد على ظهور التفكير البلاغي هو الجانب المتصل بإعجاز القرآن، كما يتبيَّن لنا أن اتساع الدراسات البلاغية وازدهارها إنما كان لخدمة القرآن الكريم.
وتفرع على النظر في أسلوب القرآن واتخاذه المقياسَ البلاغي الأمثل النظرُ في الأساليب الأدبية نثرها وشعرها، والموازنة فيما بينه[11] . وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى مِن أوائل مَنْ أَلَّفَ فيها، وكان غرضه توضيح الأساليب القرآنية.(/1)
ويذكر ياقوت في "معجم الأدباء"[12] رواية عنه يقول فيها: «قال أبو عبيدة: أرسل إليَّ الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه سنة ثمان وثمانين ومئة، فقدمتُ إلى بغداد، واستأذنْتُ عليه، فأَذِن لي فدخلتُ عليه... ثم دخل رجلٌ له هيئة، فأجلسه إلى جانبي، وقال له: هذا أبو عبيدة عَلاَّمة أهل البصرة، أَقْدَمْناه لنستفيد من علمه وقال لي: إني كنت إليك مشتاقاً، وقد سألت عن مسألة، أفتأذن لي أن أعرِّفك إياها ؟ فقلت: هات. قال: قال الله –تعالى-: ?طَلْعُها كأنه رؤوس الشياطين? [الصافات: 65]، وإنما يقع الوعد والإيعاد بما عُرِف مثله، وهذا لم يُعرف. فقلت: إنما كلَّم الله تعالى العرب على قَدْر كلامهم، أما سمعتَ قول امرئ القيس:
أيقتُلني والمَشْرَفيُّ مُضاجِعي ومَسْنونةٌ زُرْقٌ كأنياب أَغْوال
وهم لم يَرَوا الغول قط، ولكنهم لما كان أمرُ الغول يَهولهم أُوعِدوا به، فاستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل، وعَزَمْتُ من ذلك اليوم أن أضع كتاباً في القرآن في مثل هذا وأشباهه، وما يُحتاج إليه مِنْ عِلْمه، فلمَّا رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سَمَّيْتُه المجاز».
ولم تقتصر علاقة القرآن بمنهج البحث البلاغي على الدفاع عنه والتماس وجه إعجازه، بل إن ثمة علاقةً أخرى، وهي الضرورة التي يُحِسُّها المسلم من جهة فَهْم معانيه[13] ، ولا يتمُّ هذا الفهم إلا بالإحاطة بأساليبه، وما يمكن أن ينطويَ وراء تعبيراته من المعاني والمقاصد، على قَدْر طاقة المشتغلين فيه. ومن هنا جال علماء البيان بضروب الأسلوب القرآني، وكان هذا من الحوافز التي وجَّهَتْ أنظارهم إلى الفنون المختلفة للتعبير الفني في الشعر والنثر، فوضعوا مصنفات كثير في هذه الحقول[14] ، وكانت هذه المصنفات صدىً لبيان خصائص النظم القرآني.
وكان من جملة أغراض البحث البلاغي عندهم إثبات أنَّ ما عُرِف في أدب العرب من فنون جمالية عالية في التعبير، وقع مثله في القرآن على صورة أجملَ وآنَق، وقد فتحت المصنفات التي تركوها باب البحث البلاغي على مِصْراعَيْه، ووصلَتْ بالذوق البياني إلى كثير من الأصول التي تأسَّسَتْ عليها علوم المعاني والبيان والبديع[15] .
يقول الدكتور بدوي طبانة[16] : «من النادر أن نجد أثراً من الآثار التي عرضت للبيان العربي خلا من الإشارة إلى القرآن ونظمه، وهذا يؤكِّد بُعْدَ أثر الدراسات القرآنية في نُمُوِّ الدراسات البيانية وتنوُّعها، وعدم انقطاع هذا التأثر في سائر العصور».
وعندما ازدهر التصنيف في علوم البلاغة كانت خدمة القرآن الكريم ماثلةً أمام العلماء الذين كانوا يَعُدُّون جهودهم مُنْصَبَّةً في هذا المجال، حتى إننا لا نكاد نجد كتاباً في البلاغة مقصوراً على مباحثها النظرية، وبعيداً عن خدمة القرآن[17] ، فعبد الله بن المعتز مثلاً عندما شرع في البحث عن صنوف "البديع" وفنونه أشار إلى كثير من آيات القرآن، وكان يجعل الشاهد القرآني في مقدمة شواهده، وحين تكلَّم على ما سَمَّاه الجاحظ المذهب الكلامي قال[18] : «وهذا بابٌ ما أعلم أني وجدت في القرآن منه شيئاً، وهو يُنْسَبُ إلى التكلُّف».
وتُرْجِعُ معظم كتب البلاغة سبب تأليفها إلى إطْلاع الناس على مواطن أسرار البيان في القرآن، فالرمَّاني مثلاً يحصر البلاغة في أقسام عشرة هي: الإيجاز والتشببيه والاستعارة والتلاؤم والفواصل والتجانس والتصريف والتضمين والمبالغة وحسن البيان. ثم يمضي لتفسير كل قسم في ضوء الآيات القرآنية وبيان أسرار الجمال فيها، وذلك في كتابه (( النُّكَت ))[19] الذي يُعَدُّ حلقة مهمة من حلقات التأليف في البلاغة العربية.
وقد بلغ التصنيف في علوم البلاغة غاية بعيدة من النضج والإحكام على يد الإمام عبد القاهر الجرجاني الذي وضع كتابَيْه "أسرار البلاغة" و "دلائل الإعجاز"، وكان لهما منزلة عالية من نظج التفكير البلاغي، ويتضح فيهما توجيه علوم البلاغة توجيهاً خالصاً لخدمة القرآن الكريم.
وهذا هو صاحب "الصناعتين" يقول في مقدمة كتابه: «قد علمنا أن الإنسان إذا أغفل علمَ البلاغة، وأَخَلَّ بمعرفة الفصاحة، لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خَصَّه الله به مِنْ حسن التأليف وبراعة التركيب»[20] ، بل إن العسكري في كتابه يرى أن أحقَّ العلوم بالتعلُّم وأَوْلاها بالتحفظ بعد المعرفة بالله، علم البلاغة، ومعرفة الفصاحة، الذي يُعرف إعجاز كتاب الله تعالى الناطق بالحكمة[21] .
وهذا هو يحيى بن حمزة العلوي يؤلف كتابه ويسميه "الطراز المتضمِّن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز" ويتحدث في المطلب الخامس من كتابه عن بيان غرضه فيقول[22] : «واعلم أنه يراد لمقصدَيْن: المقصد الأول مقصد ديني، وهو الاطلاع على معرفة إعجاز كتاب الله ومعرفة معجزة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ لايمكن الوقوف على ذلك إلا بإحراز علم البيان والاطلاع على أسرار البلاغة والفصاحة في غير القرآن في منثور كلام العرب ومنظومه.(/2)
ويذكر القزويني في مقدمة كتابه "التلخيص" أن موضوع إعجاز القرآن كان السبب في وَضْع الكتاب، ويشير في مقدمته[23] إلى أن علم البلاغة وما يتبعه مِنْ أجَلِّ العلوم قَدْراً، وأدقِّها سراً؛ إذ به تعرف دقائق العربية وأسرارها، وتُكشف عن وجوه الإعجاز في نظم القرآن أستارها.
ومن هنا فإن الدارسين المحدثين لمحوا علاقة علم البلاغة بكتاب الله. يقول الدكتور مازن المبارك[24] : «وهكذا نشأت البلاغة وترعرعت تحت راية القرآن والبحث في إعجازه، وهذا البحث هو الذي وصل بها إلى أن تصبح علماً مستقلاً يُخَصُّ بالتأليف، بل لقد ظلَّت البلاغة بعد نضجها واستقلالها أيضاً عالقة بفكرة إعجاز القرآن والدفاع عنها».
ويشارك القرآن الكريم في تربية الذوق البياني لدى الفرد، ويُنَمِّي لديه حاسَّة النقد والملكة الأدبية في الكشف عن مواطن الجمال[25] ، وقد وضع البطليوسي[26] في شرحه لخطبة "أدب الكاتب" غرضَين لطلب الأدب والاهتمام بمدارسته، أحدهما: يقال له الغرض الأدبي، والثاني الغرض الأعلى، فالغرض الأدبي يَحْصُل للمتأدِّب بالنظر في الأدب والشعر، والغرض الأعلى يَحْصُل للمتأدِّب به قوة على فهم كتاب الله وكلام رسوله».
ولذلك فإن معشر البلغاء والكُتَّاب كانوا حريصين على التزود من مَعين كتاب الله، كما كانوا يُوصون المتأدِّبين بالعكوف على أسلوبه وبيانه؛ ليفيدوا منه في صقل أساليبهم، وترقية بيانهم. يقول عبد الحميد الكاتب[27] : «تنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب وتفقهوا في الدين، وابدؤوا بعلم كتاب الله –تعالى- ثم العربية، فإنها ثِقاف ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط فإنه حِلْية كتبكم، وارْووا الأشعار، واعرِفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها؛ فإن ذلك مُعين لكم على ما تسمو إليه هممكم».
وهكذا نخلص إلى أن البلاغة العربية في نشأتها وتطورها وثمارها لاتنفكُّ عن القرآن؛ إذ سَعَتْ في خدمة بيانه، وساهمت في شرح إعجازه وبديع نظمه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر : التفكير البلاغي عند العرب 35 ، الموجز في تاريخ البلاغة 33 .
[2] انظر : التفكير البلاغي عند العرب 36 ، البيان العربي للدكتور بدوي طبانة 43 .
[3] البيان العربي 24 .
[4] أثر القرآن على اللغة العربية للدكتور علي جميل 135 .
[5] أثر القرآن في تطور النقد العربي 29 .
[6] التفكير البلاغي عند العرب 34 .
[7] إعجاز القرآن للدكتور مصطفى مسلم 59 .
[8] التفكير البلاغي عند العرب 38 .
[9] أثر القرآن في تطور النقد العربي 208 .
[10] الموجز في تاريخ البلاغة 47 .
[11] الموجز في تاريخ البلاغة 45 .
[12] معجم الأدباء 19 / 158 .
[13] البيان العربي 25 .
[14] أثر القرآن في تطور النقد العربي 208 .
[15] البيان العربي 44 .
[16] المصدر نفسه 75 .
[17] أثر القرآن في تطور النقد العربي 225 .
[18] البديع 53 .
[19] النكت في إعجاز القرآن 76 .
[20] الصناعتين 7 .
[21] الصناعتين 7 .
[22] الطراز 32 .
[23] التلخيص 22 .
[24] الموجز في تاريخ البلاغة 48 .
[25] أثر القرآن في تطور النقد العربي 334 .
[26] الاقتضاب للبطليوسي 14 .
[27] تاريخ الأدب العربي ، د. عمر فروخ 1 / 730 .(/3)
عناية المسلمين باللغة خدمةً للقرآن الكريم
أ.د. أحمد الخراط
لقد حازت العربية شرفًا عظيمًا؛ إذ نزل القرآن الكريم بلسانها المبين، وقد اصطفاها الله سبحانه لوحيه مِنْ بين لغات البشر، وفي إنزال القرآن الكريم باللغة العربية مَرْتَبَةٌ رفيعة لعِلْم العربية، ووجه الدلالة [1] أنَّه تعالى أخبر أنَّه أنزله عربيًا في سياق التمدُّح، والثناء على الكتاب بأنَّه مبين لم يتضمن لَبْسًا، عزيزٌ لايأتيه الباطل مِنْ بين يديه ولا مِنْ خلفه، وذلك يدلُّ دلالة ظاهرة على شرف اللغة التي أُنْزل بها.
وقد عُنِي السلف بالعربية، وأقبلوا على خدمتها على نحوٍ شامل، وأيقنوا أنَّ دراستها والتأليف فيها ضربٌ من ضروب العبادة، يتقرَّبون به إلى الله [2].
وقد استحقَّتْ خدمة العلماء للغة القرآن الوقوف على أوجه هذه الخدمة وفروعها المختلفة، ولا يَسَعُنا في هذا البحث الموجز إلا أن نشير إلى بعضها باختصار، فمن ذلك:
1- التأليف في "لغات القبائل الواردة في القرآن". اجتهد علماء العربية في بيان أصول الألفاظ القرآنية، وعَزَوها إلى قبائلها الأصلية، وبَيَّنوا المعنى المراد باللفظ القرآني لدى هذه القبيلة؛ وذلك لأنَّ القرآن الكريم نزل بلغة قريش التي استقَتْ مِنْ صفوة لغات العرب ما راقَها.
ومن أمثلة ذلك ما ورد في كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام "لغات القبائل" [3]: « رَغَدًا من قوله تعالى: ?وكُلا منها رَغَدًٌ? [البقرة:35] يعني الخِصْب بلغة طيئ، و "الصاعقة" مِنْ قوله تعالى: ?فأخَذَتْكم الصاعقةٌ? [البقرة:55] يعني المَوْتة بلغة عُمان، و "خاسئين" من قوله تعالى: ?كونوا قِردةً خاسئينٌ? [البقرة: 65] يعني صاغرين بلغة كنانة، و "وسَطًا" من قوله تعالى: ?جَعَلْناكم أمةً وسَطًٌ? [البقرة: 143] يعني عَدْلًا بلغة قريش ».
وقد أفاد المفسرون كثيرًا من معرفة لغات العرب الوادرة في القرآن الكريم، واستندوا إليها في تفسير كثير من الآيات الكريمة، وحدث بينهم مناقشات واختلافات في اعتماد معنى الآية المشهور، أو الاتجاه إلى تفسيرها في ضوء لغات العرب. ومن ذلك قوله تعالى: ?أفلم يَيْئَس الذين آمنوا أن لو يشاء اللهُ لهدَى الناسَ جميعًٌ? [الرعد:31] فهل اليأس في الآية على بابه وهو قطع الطمع عن الشيء والقنوط فيه ؟ قال بعضهم: هو هنا على بابه، والمعنى: أفلم يَيْئَسِ الذين آمنوا من إيمان الكفار من قريش، وذلك أنَّهم لمَّا سألوا هذه الآيات طمعوا في إيمانهم، وطلبوا نزولَ هذه الآيات ليؤمِنَ الكفار، وعَلِم الله أنهم لا يؤمنون فقال: أفلم يَيْئَسوا من إيمانهم. ولكن فريقًا آخر من أهل التفسير ذهبوا إلى غير ذلك من معنى اليأس فقالوا: هو هنا بمعنى عَلِمَ وتبيَّن. قال القاسم بن معن -وهو من ثقات الكوفيين-: «هي لغة هوازن». وقال ابن الكلبي: «هي لغة حَيّ من النخع» ومنه قول سُحَيْم:
أقول لهم بالشِّعْبِ إذ يَأْسِرونني ألم تَيْئَسوا أني ابن فارسِ زَهْدَم
ويدلُّ عليه قراءةُ عليّ وابن عباس وآخرين " أولم يتبيَّن " [4].
وهذا العَزْوُ إلى لهجات القبائل في التفسير باب واسع في مصنفات التفسير وإعراب القرآن، أفاد منه العلماء كثيرًا في إجلاء معنى طائفة من الآيات، وبيَّنوا المزيد من أوجه دلالاتها. ومن الكتب التي وصلتنا في هذا الجانب: "لغات القرآن" لكلٍ من أبي عبيد، والوزَّان، وأبي حيان، وابن حسنون.
2- وأثرُ دراسة ألفاظ القرآن في كتب "الأضداد" واضح، ومن هذه المصنفات كتاب أبي الطيب اللغوي، وكتاب قطرب، وكتاب ابن الأنباري. وهي تورد المفردة اللغوية، وتنصُّ على استعمالها في القرآن والحديث والشواهد الفصيحة من الشعر وأقوال العرب؛ وذلك لأنَّ بعض ألفاظ العربية تُنْبئ عن المعنى وضده في الكلمة نفسها. وقد تَصَدَّتْ هذه الدراسات لبحث مدلول اللفظ المفرد وصلته بالسياق، ومدى اختلاف معناه باختلاف تركيبه في الجملة. يقول الدكتور محمد زغلول سلام [5]: « وكان حافز العلماء في الاجتهاد والبحث القرآنَ؛ ذلك لأنَّ المفسِّرين والعلماء الذين شُغِلوا بدراسة أسلوبه قد اعترضَتْهم بعض العقبات، حين اصطدموا بألفاظٍ قد يُفْهم تكرارها في مناسبات مختلفة في القرآن أنها متضادَّة أو مختلفة في معانيها، وذلك بالقياس إلى الشاهد الشعري، ممَّا دعا بعض الطاعنين ومَنْ يثير الشكوك إلى القول بالتناقض في أسلوب القرآن ».(/1)
ويُصَرِّح ابن الأنباري في مقدمة كتابه "الأضداد" بالدافع الرئيس الذي دفعه إلى تأليف كتابه، فهو خدمة تفسير القرآن ومحاولة الدفاع عمَّا وُجِّه إلى لغته وأسلوبه من التناقض والإحالة، ويقول: « هذا كتابُ ذِكْرِ الحروف التي تُوقعها العرب على المعاني المتضادَّة، فيكون الحرف منها مؤدِّيًا عن معنيين مختلفين، ويظنُّ أهل البدع والزيغ والإزراء بالعرب أنَّ ذلك كان منهم نقصًا مِنْ حكمتهم، وقلَّة بلاغتهم » [6]. وقد عرض ابن الأنباري كثيرًا من الألفاظ التي جاءت في القرآن، وعَدَّها بعض العلماء مِنْ قبله من الأضداد، وهم -مِنْ وجهة نظره- قد أخطؤوا فيها التأويل، ومذهبه في كثير من كلمات الأضداد أنَّ الكلمة لم تُوْضَعْ في أول الأمر للمعنيَيْن المتضادَّين، وإنَّما وُضِعت لأحدهما، وتراه يميل في كتابه إلى قول بعض العلماء: « إذا وقع الحرف على معنيين متضادَّين فالأصل لمعنى واحد، ثم تداخل الاثنان على جهة الاتساع » [7]، وقد يكتفي بعرض الرأيين في تفسير الآية كقوله [8]: « والنِّدُّ يقع على معنيين متضادَّين. يقال: فلانٌ نِدُّ فلان إذا كان ضدَّه، وفلان نِدُّه إذا كان مثلَه. وفسَّر الناس قوله تعالى: ?فلا تجعلوا لله أَنْدادًا وأنتم تعلمونٌ? [البقرة: 22] على جهتين. قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: معناه فلا تجعلوا لله أعدالًا، فالأَعْدال جمع عِدْل، والعِدْل المثل. وقال أبو العباس عن الأثرم عن أبي عبيدة: فلا تجعلوا لله أندادًا أي: أضدادًا ».
أمَّا قطرب فله منهج آخر، وهو التوسُّع في ألفاظ الأضداد وقَبول الكثير منها. ومن أمثلته: "المُفْرَطُ" المُقَدَّم والمؤخَّر، نحو قوله تعالى: ?لا جَرَم أنَّ لهم النارَ وأنهم مُفْرَطونٌ? [النحل: 62]. ويجوز أن يكون أنَّهم مُقَدَّمون إليها جميعًا، ويجوز أنَّهم مُؤَخَّرون مُباعَدون متروكون من الثواب ».
وهكذا ساهم هذا النوع من الخدمة اللغوية في إجلاء معنى كثير من الآيات، وأثار بين علماء العربية والتفسير مناقشات أفادت منها المكتبة القرآنية واللغوية على السواء.
3- واجتهد علماء العربية من السلف في بيان "المشترك اللغوي" وعَدُّوه خصيصةً من خصائص العربية، وعاملًا من عوامل تنميتها وثرائها. وقد أشار العلماء إلى شواهده والمعاني التي تدور حول لفظه [9]. والمشترك اللفظي هو ما اتحدت صورته واختلف معناه، على عكس المترادف، أو هو اللفظ الواحد الدالُّ على معنيين مختلفين فأكثر [10]. يقول الدكتور توفيق شاهين [11]: « وتنوُّع معناه أتى مِنْ تنوع استعماله » ويضرب مثالًا على ذلك بلفظة "الأُمَّة" فهي بمعنى الواحد الصالح الذي يُؤْتَمُّ به، ويكون علَمًا في الخير كقوله تعالى: ?إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًٌ? [البقرة:120] وهو بمعنى الجماعة كقوله تعالى: ?ولمَّا ورد ماء مَدْيَن وجد عليه أُمَّةً من الناس يَسْقُونٌ? [القصص:23] وبمعنى الحين من الزمان، نحو قوله تعالى: ?وادَّكر بعد أُمَّةٌ? [يوسف:45]، وبمعنى الملَّة والدين، نحو قوله تعالى: ?إنَّا وَجَدْنا آباءنا على أُمَّةٌ? [الزخرف:23]، وبمعنى الجنس نحو قوله تعالى: ?وما مِنْ دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالُكمٌ? [الأنعام:: 38].
وقد أثبت هذا المشتركَ ابنُ فارس في كتابه "الصاحبي" [12] ومثَّل له بالعَين، وسيبويه في كتابه [13]، وأشار إلى أنَّ مِنْ كلام العرب اتفاق اللفظيين واختلاف المعنيين، نحو قولك: "وَجَدْتُ عليه" من المَوْجِدة و "وجَدْت" إذا أرَدْتَ وجدان الضَّالَّة.
وقد خدم العلماء الألفاظ القرآنية التي تسير على هذا القبيل.
ويلخص الدكتور رمضان عبد التواب عوامل نشأة المشترك اللفظي بالاستعمال المجازي، ولم يهتمَّ أصحاب المعاجم بالتفرقة بين المعاني الحقيقية والمجازية للكلمات، والعامل الآخر في نشأته اللهجاتُ؛ وذلك لأنَّ بعض هذه المعاني المجازية نشأ في بيئات مختلفة، ويُضاف إلى هذه العوامل اقتراض الألفاظ من اللغات المختلفة، وينتهي إلى القول بأن المشترك اللفظي لا وجود له في واقع الأمر إلا في معجم لغةٍ من اللغات، أمَّا نصوص هذه اللغة واستعمالاتها فلا وجود إلا لمعنى واحد من معاني هذا المشترك اللفظي [14].
4- وثمة خدمة جليلة خاصة بمعاني المفردات القرآنية قام بها بعض علماء السلف من المَعْنِيِّين بعلوم العربية، ومن ذلك كتاب "المفردات" للراغب الأصبهاني، وكتاب "عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ" للسمين الحلبي. ومنهج هذا الضرب من التصنيف هو ترتيب موادِّ الكتاب على منهج أوائل الحروف بعد تجريدها من الحروف الزائدة، كما هو الحال في معجم "أساس البلاغة" للزمخشري، ثم تُذْكَرُ المعاني اللغوية الواردة داخل المادة، ويستشهد عليها بآيات من القرآن الكريم.
وتُعْنَى هذه المصنفات بالتعريفات اللغوية، وتُعَدُّ مرجعًا أصيلًا في ذلك، وتَدْعم المعاني التي توردها بالشعر والحديث وأقوال العرب.(/2)
ومن ذلك قول الراغب [15]: «الحدوث كون الشيء بعد أن لم يكن، عَرَضًا كان ذلك أو جوهرًا، وإحداثهُ إيجاده. قال تعالى: ?ما يأتيهم مِنْ ذِكْرٍ مِنْ ربهم مُحْدَثٌ? [الأنبياء: 2]، ويقال لكل ما قَرُبَ عهدُه: مُحْدَث»، فعلًا كان أو مقالًا، قال تعالى: ?حتى أُحْدِثَ لك منه ذكرًٌ? [الكهف: 70] وكل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه يقال له: حديث». وفائدة هذا الضرب من المؤلفات جمع المعاني الواردة للمادة اللغوية الواحدة في كتاب الله، سواء أكانت اللفظة القرآنية اسمًا جامدًا أم مشتقًا أم فعلًا، فيمر المصنف بجميع هذه المعاني، ويُمَهِّد لها بمعانيها وتعريفاتها.
5- استخدم القرآن الكريم طائفة من الألفاظ "المُعَرَّبة"، وقد تصدَّى علماء العربية لها، وردُّوها إلى أصولها. وقد قرر اللغويون أنه من المتعذِّر أَنْ تظلَّ لغةٌ بِمَأْمَنٍ من الاحتكاك بلغة أخرى، ويعني هذا اقتراض هذه اللغات بعضها من بعض، وتأثير إحداها في الأخرى، وهذا ما حدث للُّغة العربية مع جاراتها من اللغات [16]، ويُطلق على مثل هذه الكلمات التي أخذتها العربية من اللغات المجاورة مصطلح "المُعَرَّب"، ويعني هذا أن تلك الكلمات المستعارة في العربية لم تَبْقَ على حالها تمامًا، كَما كانت في لغاتها، وإنما طوَّعها العرب لمنهج لغتهم في أصواتها وبنيتها، وقد طال الأمد على كثير من هذه الألفاظ في الجاهلية، وأَلِفَ الناس استعمالها، وصارت جزءًا من لغتهم، وجاء القرآن فأنزله الله بهذه اللغة العربية التي أصبح بعض هذا المُعَرَّب من مقوِّماتها، فجاء فيه شيء من تلك الألفاظ التي عَرَّبَها القوم من لغات الأمم المجاورة [17].
ومن المصنفات المشهورة في هذا الميدان "المُعَرَّب" للجواليقي يقول في مقدمته [18]: «هذا كتاب نذكر فيه ما تكلَّمَتْ به العرب من الكلام الأعجمي، ونطق به القرآن المجيد، وورد في أخبار الرسول –صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين وذكرَتْه العرب في أشعارها وأخبارها؛ ليُعْرَفَ الدخيل من الصريح، ففي معرفة ذلك فائدة جليلة: وهي أن يَحْتَرِس المشتقُّ، فلا يَجْعل شيئًا من لغة العرب لشيء من لغة العجم».
ويتحدث الجواليقي عن المذهب الصحيح الذي يراه في مثل هذه الألفاظ فيقول: «وذلك أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل فقالوا أولئك على الأصل، ثم لفظت به العرب بألسنتها، فعرَّبَته فصار عربيًا بتعريبها إياه، فهي عربية في الحال أعجمية الأصل» [19]. ونحن هنا لسنا بصدد تحقيق القول في قبول نظرية المعرَّب أو نفيها عن القرآن الكريم، وغرضنا أن نشير إلى ضرب من الخدمة اللغوية التي نهض لها علماء العربية في سبيل لغة القرآن، وتحليل أصولها.
ومن أمثلة ذلك قول صاحب "المُعَرَّب" [20]: «وإبليس ليس بعربي، وإن وافق "أَبْلَس الرجلُ" إذا انقطعَتْ حُجَّتُهُ، إذ لو كان منه لصُرِفَ.
ومنهم مَنْ يقول: هو عربي، ويجعل اشتقاقه مِنْ أبلس يُبْلس، أي: يئس، فكأنه أَبْلَس مِنْ رحمة الله أي: يئس منها، والقول هو الأول».
6- وبعض دراسات اللغويين اختَصَّ "بغريب القرآن"؛ وذلك لأن القرآن قدَّم للعرب ثروة لغوية واسعة، فاختلف الناس في مستوى أفهامهم لهذه الثروة، ممَّا جعل اللغويين والمفسرين يعكفون على دراسة الغريب لبيان معانيه، والاستشهاد عليه بشعر العرب وأقوالهم.و من ذلك كتاب "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة، حيث يقول في مقدمته: «وكتابنا هذا مُسْتَنْبَط من كتب المفسرين وكتب أصحاب اللغة العالمين، لم نخرج فيه عن مذاهبهم، ولا تكلَّفْنا في شيء منه بآرائنا غيرَ معانيهم، بعد اختيارنا في الحرف أَولَى الأقاويل في اللغة وأشبهها بقصة الآية» [21].
ويرى الدارسون أنَّ القرآن سبب ظهور علم الغريب بمفهومه العام، وما جرَّ إليه من حركة جمع الشعر والنوادر، وما تبع ذلك من رحلات علمية نشطة إلى البوادي [22]. ومن الكتب التي وصلَتْنَا في هذا الحقل: كتاب "الغريبَيْن": غريب القرآن وغريب الحديث لأبي عبيد الهروي، و "بهجة الأريب في بيان ما في كتاب الله العزيز من الغريب" للتركماني، و "تذكرة الأريب في تفسير الغريب" لابن الجوزي. وقد خَدَمَتْ هذه المصنفات كتاب الله بأنَّها اختَصَّتْ بما يراه أصحابها داخلًا تحت مصطلح الغريب، فيمضون في شرحه وبيان آراء العلماء في دلالته، وقد كان في مصنفات الغريب مادة ذات شأن أفادت منها كتب التفسير عبر القرون؛ وذلك لأنَّ المفسِّر لا بد أن يبدأ بالمعنى اللغوي للمفردة القرآنية قبل الشروع في استنباط الأحكام منها.
ومن ذلك ما قاله ابن قتيبة [23]: «قوله: ?وما أهِلَّ به لغير اللهٌ? [البقرة:173] أي: ما ذُبح لغير الله، وإنَّما قيل ذلك لأنه يُذْكر عند ذبحه غيرُ اسم الله فيظهر ذلك، أو يرفع الصوت به، وإهلال الحج منه، إنما هو إيجابه بالتلبية. واستهلال الصبي منه إذا وُلِدَ، أي صوته بالبكاء».(/3)
7- وثمة دراسات في "الفروق اللغوية" أفاد منها المفسرون كثيرًا، واختلفَتْ وجهات نظرهم في توجيه كثير من الآيات القرآنية. ومن هذه الدراسات "كتاب الفروق في اللغة" لأبي هلال العسكري، يقول في مقدمته: «وجعلت كلامي فيه على ما يُعْرض منه في كتاب الله وما يجري في ألفاظ الفصحاء والمتكلمين وسائر محاورات الناس» [24]، ومن أمثلته في كتابه [25]: «الفرق بين الهداية والإرشاد أن الإرشاد إلى الشيء هو التطريقُ إليه والتبيين له، والهداية هي التمكُّن من الوصول إليه، وقد جاءت الهداية للمهتدي في قوله تعالى: ?اهْدِنا الصِّراطَ المستقيمٌ? [الفاتحة:6]، فذكر أنَّهم دَعَوا بالهداية وهم مُهْتدون لامَحالةَ، ولم يَجئ مثل ذلك في الإرشاد، ويقال أيضًا: هداه إلى المكروه، كما قال تعالى: ?فاهْدُوهم إلى صراط الجحيمٌ? [الصافات: 33].
وقد ذهب جماعة من العلماء إلى وجود الترادف في العربية وقالوا: لا معنى لإقامة البرهان على جوازه بعد تحقُّق وقوعه، وإنكارُ الترادف جاء من تَعَسُّفات الاشتقاقيين، وهذا مذهب كثير من العلماء كأبي زيد والأصمعي وابن خالويه. وذهب آخرون إلى إنكار الترادف التام بين الألفاظ وأنَّ كلَّ ما يلوح باديَ الرأي أنه من المترادفات إنَّما هو في حقيقته من المتباينات، على اختلافٍ في قَدْر هذا التباين ووضوحه [26]. ومثال تأثير الفروق اللغوية في تفسير القرآن ما قاله الطبري في تفسير قوله تعالى: ?ألم يعلموا أنَّ الله يعلم سِرَّهم ونجواهم وأن اللهَ عَلاَّمُ الغُيوبٌ? [التوبة:78]، فقد فسَّر الطبري السِّرَّ: بأنَّه هو ما يُسِرُّونه في أنفسهم من الكفر بالله ورسوله، والنجوى: ما يتناجَوْن به بينهم من الطعن في الإسلام وعَيْبهم لأهله» [27] وهذا خلاف ما يقول به بعضهم: مِنْ أن السر والنجوى مترادفان بمعنى واحد. فهذا ضرب جديد من الخدمة اللغوية عني به السلف، وكان له أثر في فهم كثير من الآيات، ودلالة ألفاظها.
8- وكتب "المذكر والمؤنث" رافد من الروافد اللغوية التي خدمت مفردات القرآن الكريم بتصنيفها حسب استعمال العرب لها مذكرةً أو مؤنثة، وقد حفلت هذه المؤلفات بآيات القرآن الكريم؛ لتكون شاهدًا على الحكم الذي ذكرَتْه. وقد عَدَّ الأنباري في كتابه "المذكر والمؤنث" هذا الضرب من التأليف «مِنْ تمام معرفة النحو والإعراب؛ لأن مَنْ ذَكَّر مؤنثًا، أو أنَّث مذكرًا، كان العيب لازمًا له، كلزومه مَنْ نصب مرفوعًا، أو خفض منصوبًا، أو نصب مخفوضًا» [28].
ومن أمثلة ذلك قول الأنباري [29]: «والنفس إذا أردت بها الإنسان بعينه مذكرٌ، وإن كان لفظه لفظ مؤنث، وتجمع ثلاثة أنفس على معنى ثلاثة أشخاص، أنشد الفراء:
ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ لقد جار الزمانُ على عيالي
فحمله على معنى ثلاثة أشخاص، والنفس إذا أريد بها الروح فهي مؤنثة لاغير، وتصغيرها نُفَيْسة، قال تعالى: ?الذي خلقكم مِنْ نفس واحدةٌ? [الأعراف:189].
ومن أشهر كتب هذا الضرب من المؤلفات كتاب ابن الأنباري، وكتاب المبرد، وكتاب الفراء. وقد تكون ثمة مفردة قرآنية تحتمل التأنيث والتذكير، ومن ذلك قول الفراء [30]: «السَّبيل يُؤَنَّث ويُذَكَّر، قد جاء بذلك التنزيل، قال تعالى: ?هذه سبيليٌ? [يوسف: 108]، وقال تعالى: ?وإن يرَوْا سبيل الغَيِّ يتخذوه سبيلٌ? [الأعراف: 146].
9- وثمة مصنفات تتصل بعلوم العربية اتصالًا وثيقًا، وتختص بمواضع "القطع والائتناف في القرآن الكريم"، وهو فنٌّ يساعد على فهم معاني القرآن، وتدبُّر آياته. قال الزركشي [31]: «وهو فن جليل، وبه يعرف كيف أداء القرآن، ويترتب على ذلك فوائد كثيرة واستنباطات غزيرة، وبه تتبين معاني الآيات».
والقطع: هو قطع الكلمة عمَّا بعدها وجوبًا أو جوازًا، وحدَّد العلماء للمصطلحات المستعملة مواضع، وهذه المصطلحات هي [32]: التامُّ والحسن والكافي والصالح والجيد والبيان والقبيح، فمواضع القطع والائتناف مرتبطة بالمعنى والحكم الإعرابي. وأشهر كتب هذا الفن كتاب النحاس، إذ طبَّق قواعد العلم على القرآن مرتبة بحسب السور. يقول في المقدمة [33]: فينبغي لقارئ القرآن إذا قرأ أن يتفهم ما يقرؤه، ويشغل قلبه به، ويتفقَّد القطع والائتناف، ويحرص على أن يُفْهم المستمعين في الصلاة وغيرها، وأن يكون وَقْفُه عند كلام مُسْتغن أو شبيه، وأن يكون ابتداؤه حسنًا، ولا يقف على مثل ?إنما يستجيب الذين يسمعون والموتىٌ? [الأنعام: 36] لأنَّ الواقف ههنا قد أشرك بين المستمعين وبين الموتى، والموتى لايسمعون ولايستجيبون، وإنما أخبر عنهم أنهم يُبعثون».
ومن المصنفات التي وصلَتْنا في هذا الباب "إيضاح الوقف والابتداء للأنباري"، و "المكتفى في الوقف والابتدا" لأبي عمرو الداني، و "منار الهدى في بيان الوقف والابتدا" للأشموني.(/4)
10- وبعض هذه الدراسات المتصلة بعلوم العربية انصبَّ على "مشكل القرآن"، وكان الدافع إليها الحِرْصَ على لغة القرآن، وردَّ المطاعن والشكوك التي أُثيرت حوله [34]. ومن أبرز الكتب في هذا الجانب "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة، وقد حدَّثنا عن خدمته للتنزيل العزيز بقوله [35]: «وقد اعترض كتابَ الله بالطعن مُلْحدون، ولَغَوْا فيه وهجروا، واتَّبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، بأفهامٍ كليلة، وأبصار عليلة ونظر مدخول، فحرَّفوا الكلام عن مواضعه، وعدلوه عن سبله، ثم قَضَوا عليه بالتناقض والاستحالة واللحن، وفساد النظم والاختلاف... فأحبَبْتُ أن أَنْضَحَ عن كتاب الله، وأرمي مِنْ ورائه بالحجج النيرة والبراهين البيِّنة، وأكشف للناس ما يَلْبِسون».
وقد بدأ ابن قتيبة موضوعات كتابه بالحكاية عن الطاعنين والردِّ عليهم في وجوه القراءات، وساق زعمهم في وجود اللحن في القرآن والتناقض والاختلاف والمتشابه، وتكرار الكلام والزيادة فيه، ومخالفة ظاهر اللفظ معناه، وعقد بابًا سَمَّاه "تأويل الحروف التي ادُّعي على القرآن بها الاستحالة وفساد النظم". ومن أمثلة ما عرضه قولُه: «فأما ما نحلوه من التناقض في مثل قوله تعالى: ?فيومئذ لايُسأل عن ذنبه إنس ولاجانٌّ? [الرحمن:39]، وهو يقول في موضع آخر: ?فوربِّك لنسألنَّهم أجمعين، عمَّا كانوا يعملونٌ? [الحجر: 92] فالجواب في ذلك أن يوم القيامة يكون كما قال تعالى: ?مقداره خمسين ألف سنةٌ? [المعارج:4] ففي مثل هذا اليوم يُسْألون، وفيه لايُسْألون؛ لأنهم حين يُعرضون يُوقفون على الذنوب ويُحاسَبون، فإذا انتهت المسألة ووجبت الحجة ?انشقت السماء فكانت وردة كالدِّهانٌ? [الرحمن:37] وانقطع الكلام وذهب الخصام» [36].
ويعد باب "تفسير حروف المعاني" [37] من مشكل ابن قتيبة مرجعًا رئيسًا في أدوات العربية، حيث بيَّن فيه استعمال الحرف مكان حرف آخر في القرآن الكريم، وكان يرفد حديثه بشواهد من الشعر العربي الفصيح، وكان لدراسته أكبر الأثر في توجيه حروف المعاني في القرآن، وقد ساعده على ذلك تمكُّنه من ناحية العربية، واطلاعه الواسع على لغة العرب.
11- وأسهمت "معاجم اللغة" المنهجية في بيان المعاني المحتملة للمفردة القرآنية، وأوردت أقوال أهل اللغة في ذلك. ومن المعروف أن عملية الجمع المنظَّم لمفردات اللغة وترتيبها في مصنفات معجمية أفادت الدراسات القرآنية إفادة واسعة؛ من حيث إنها قدّمَتْ فيضًا من الشواهد والأقوال واللغات التي تدور حول المفردة القرآنية، ولاتخلو هذه المعاجم ولاسيما المطولة منها من تفسير غريب القرآن، وضبط ألفاظه، وبيان لهجات العرب المختلفة.
ومن هذه المعاجم "تهذيب اللغة" للأزهري، و "لسان العرب" لابن منظور، و "تاج العروس" للزبيدي. ومن أمثلة الصلة الوثيقة بين هذه المعاجم وتفسير كتاب الله أن صاحب "اللسان" في مادة "يأس" تعرضَّ لاختلاف أهل اللغة في معاني اليأس وهل يكون بمعنى العلم ؟ وأشار إلى اختلاف المفسرين في قوله تعالى: ?أفلم يَيْئَس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعًٌ? [الرعد:31] وما ينجم عنه في توجيه الآية، وسَمَّى طائفة من القبائل العربية التي تستعمل اليأس بمعنى العلم، وعرض شواهد من الشعر العربي الفصيح التي تدعم هذا الاستعمال.
والواقع أن باب اللغة واسع، بذل السلف من خلاله جهودًا طيبة أسهمت في فهم التنزيل العزيز وتدبُّر آياته، ولم تنقطع هذه الدراسات عبر القرون والأجيال التالية، وحَسْبُنا من القلادة ما أحاط بالعنق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الصعقة الغضبية في الرد على منكري العربية للطوفي 236 .
[2] لغة القرآن للدكتور إبراهيم أبو عباة 16 .
[3] لغات القبائل 46 .
[4] الدر المصون 7 / 51-53 .
[5] أثر القرآن في تطور النقد العربي 165 .
[6] الأضداد 1 .
[7] الأضداد 8 .
[8] الأضداد 23 .
[9] المشترك اللغوي للدكتور توفيق شاهين 15 .
[10] انظر : المزهر 1 / 369 .
[11] المشترك اللغوي 28 .
[12] الصاحبي 114 .
[13] الكتاب 1 / 24 .
[14] فصول في فقة العربية 334 .
[15] المفردات 110 .
[16] فصول في فقه اللغة 359 .
[17] فصول في فقه اللغة 359 .
[18] المعرب 91 .
[19]المعرب 92 .
[20]المعرب 122 .
[21] تفسير غريب القرآن 4 .
[22] المفصل في تاريخ النحو العربي 17 .
[23] تفسير غريب القرآن 69 .
[24] الفروق 2 .
[25] الفروق 203 .
[26] الفروق اللغوية وأثرها في تفسير القرآن 82 .
[27] تفسير الطبري 10 / 134 .
[28] المذكر والمؤنث 87 .
[29] المذكر والمؤنث 306 .
[30] المذكر والمؤنث للفراء 87 .
[31] البرهان 1 / 342 .
[32] القطع والائتناف للنحاس 11
[33] القطع والائتناف 97 .
[34] أثر القرآن في تطور النقد العربي 114 .
[35]تأويل مشكل القرآن 22 .
[36] تأويل مشكل القرآن 65 .
[37] تأويل مشكل القرآن 517(/5)
عناية المسلمين بالنحو خدمةً للقرآن
أ.د. أحمد الخراط
اكتسب المسلمون معارف غزيرة من الوحي الكريم، وكان من ثمار ذلك توجُّههم نحو طلبِ العلم والسعي في مدارسته، ومن هنا جاء الحرص على خدمة القرآن الكريم، بحسب ما توفَّر لديهم من وسائل وقدرات علمية.
وإذا كان جَمْعُ القرآن يمثل الخطوة الأولى في سبيل العناية بالقرآن الكريم، فإنَّ وَضْعَ علم النحو يمثل الخطوة الثانية في سبل المحافظة على سلامة أداء النص القرآني، بعد أن أخذ اللحن يشيع على ألسنة الناس [1]، ولم يكن نزول الوحي الكريم قلبًا للجوانب العَقَدية في حياة الناس فحسب، بل كان أيضًا قلبًا للعادات اللغوية التي نشؤوا عليها، إذ واجه العرب في قراءة القرآن ظواهر لم يكونوا في سلائقهم التي فُطِروا عليها متفقين، وكان منها تعدُّد اللهجات، واختلافها في القرب مِنْ لغة القرآن أو البعد عنها، ولهذه اللغة من قواعد النطق ما لايسهل إتقانُه على جميع المتلقِّين يومئذ، ولابد لهم من المران حتى يألفوا النص الجديد [2].
وقد أجمع الذين تصدَّوا لنشأة علوم العربية على أنَّ القرآن الكريم كان الدافع الرئيس لعلماء السلف لوَضْع علم النحو والإعراب؛ وذلك لأنَّ ظهور اللحن وتَفَشِّيه في الكلام، وزحفه إلى لسان مَنْ يتلو القرآن، هو الباعث على تدوين اللغة، واستنباط قواعد النحو منها، وعلم العربية شأنه شأن كلِّ العلوم تتطلبه الحوادث والحاجات [3]، وليس ثمة من علم يظهر فجأة من غير سابقةِ تفكير وتأمُّل فيما يتعلق به، وهذا قد يستدعي غموض نشأة بعض العلوم ومعرفة واضعها التي ابتدأها.
ويعود التفكير في علم النحو إلى ظاهرة شيوع اللحن والخشية على القرآن منها؛ وذلك لأنَّ رغبة العرب المسلمين في نشر دينهم إلى الأقوام المختلفة أنشأ أحوالاً جديدة في واقع اللغة، ما كان العربُ يعهدونها من قبل، إذ كانت الفطرة اللغوية قبل الإسلام سليمةً صافية. واستمر الحال على هذا في عصر نزول القرآن، بَيْدَ أن الرواة يذكرون أنَّ بوادر اللحن قد بدأت في الظهور في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن تلك الروايات أنَّه سمع رجلاً يلحن في كلامه فقال: (أَرْشِدوا أخاكم) [4]. ويورد الدارسون بعض الروايات على تَسَرُّب اللحن إلى ألسنة الناس في عهد الخلفاء الراشدين، وذلك أثر من آثار اختلاط العرب الفصحاء بغيرهم من الشعوب غير العربية، ممَّا أضعف السليقةَ اللغوية لديهم.
ويروي القرطبي [5] عن أبي مُلَيكة أنَّ أعرابيًا قدم في زمان عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- فقال: مَنْ يُقرئني ممَّا أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- ؟ قال: فأقرأه رجلٌ سورة براءة، فقرأ ?.. أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهٌُ? [التوبة:3] بجرِّ « رسوله ».
فقال الأعرابي: أوقد بَرِئ الله من رسوله؟ فإن يكن الله بَرئ من رسوله فأنا أبرأُ منه.
فبلغ عمر مقالة الأعرابي فدعاه فقال: يا أعرابيُّ، أتبرأ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني قدمْتُ المدينة، ولاعلمَ لي بالقرآن فسألت: مَنْ يقرئني؟ فأقرأني هذا سورة براءة فقال: «أنَّ الله بريء من المشركين ورسولِه». فقلت: أوقد بَرِئ الله من رسوله؟ إن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه.
فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي. قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ قال: ?وَرَسُولُهٌُ?. فقال الأعرابي: وأنا أبرأ ممَّن برئ الله ورسولُه منه، فأمر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ألاَّ يُقرئَ الناسَ إلا عالمٌ باللغة، وأمر أبا الأسود فوضع النحو.
ومع مرور الأيام تفشو ظاهرة اللحن في القرآن الكريم، إلى أن أصبحت بلاءً عامًا لايخلو منه لسان كثير من الفصحاء، حتى الذين تربَّوا في البادية، فقد روى يونس بن حبيب أنَّ الحجَّاج قال ليحيى بن يعمر: أتسمعني ألحن على المنبر؟ قال يحيى: الأمير أفصح من ذلك، فألحَّ عليه فقال: حرفًا. قال الحجَّاج: أيًا؟ قال: في القرآن. قال الحجَّاج: ذلك أشنع له، فما هو؟ قال: تقول: ?قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ ..ٌ? إلى قوله: ?أَحَبٌَّ? [التوبة:24]، فتقرؤها « أحبُّ » بالرفع، والوجه أن تُقرأ بالنصب على خبر كان [6].
ويذكر أنَّ الحجَّاج قرأ "إنا من المجرمون منتقمون" [7] وكان كثير من أبناء العرب وُلِدوا لأمهات غير عربيات، فنشأ جيل من هؤلاء الأبناء لديه استعداد لكي يلحن في القرآن وغيره، ممَّا جعل الحاجَة تمسُّ للبدء في وضع ضوابط يُعْرف بها الصواب من الخط [8].(/1)
ويمكن أن نضيف إلى هذه العوامل ما شاع في الوسط الاجتماعي الذي تعيش فيه الأمة الإسلامية، إذ كان فيه مجموعة من اللغات المتداولة إلى جانب العربية، منها الفارسية والسريانية، وهذا الوسط الاجتماعي سوف يشهد تزاوجًا طبيعيًا بين عناصره من اللغات المختلفة، ممَّا أدى إلى اتساع الفوارق بين اللغة الفصيحة واللغة المحكيَّة [9]، ومثل هذه الفوارق تُقلق أصحاب الغَيْرة على لغة القرآن، وبذلك ترتبط نشأة النحو بجذور الحياة الإسلامية في ذلك الزمن.
وتختلف الروايات وتتضارب في تحديد أول مَنْ شرع يُسَجِّل بعض الظواهر النحوية، أو يبني شيئًا من الضوابط الأولية في فهم العلاقات بين عناصر التركيب اللغوي.
يقول الزبيدي [10]: «فكان أولَ مَنْ أصَّل ذلك، وأعمل فكره فيه أبو الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي ونصر بن عاصم وعبد الرحمن بن هُرْمز، فوضعوا للنحو أبوابًا وأصَّلوا له أصولًا، فذكروا عوامل الرفع والنصب والخفض والجزم، ووضعوا باب الفاعل والمفعول والتعجب والمضاف، وكان لأبي الأسود في ذلك فضل السبق وشرف التقدم، ثم وصل ما أصَّلوه من ذلك التالون لهم والآخذون عنهم، فكان لكل واحد منهم مِن الفضل بحسبِ ما بَسَط من القول ومَدَّ من القياس وفَتَقَ من المعاني وأوضح من الدلائل، وبيَّن من العلل».
ومرَّ بنا قبل قليل رواية تُرجع الأمر إلى الخليفة عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- إذ أمر أبا الأسود بوضع النحو، كما روي عنه أنَّه كتب إلى أبي موسى الأشعري، ليوجِّه مَنْ يختاره لتعليم العربية؛ فإنها تدلُّ على صواب الكلام [11].
وذكر صاحب "مراتب النحويين" [12] أنَّ أبا الأسود أخذ النحو عن علي –رضي الله عنه- لأنَّه سمع لحنًا، فقال لأبي الأسود: اجعل للناس حروفًا، وأشار إلى الرفع والنصب والجر.
وذكر صاحب "نزهة الألباء" أنَّ عليًّا سمع أعرابيًا يقرأ "لايأكله إلا الخاطئين" [13] فوضع النحو.
ويقول الدكتور محمد خير الحلواني: «ترجع قيمة أبي الأسود الدؤلي في تاريخ النحو إلى أنَّه هو أولُ مَنْ اتجه بالدراسة اللغوية إلى الاستقراء والاستنباط، وكانت قبله تقوم على محاكاة الأعراب والاختلاط بهم، وحِفْظ الشعر والأنساب، فتحوَّل بها إلى وضع الضوابط الدقيقة، ورَصْد الظواهر المتبدِّلة في تراكيب العربية» [14].
ارتبطت المعالم النحوية التي تركها أبو الأسود بواقع الحياة اللغوية البسيطة في عصره، وقد عُني في معالمه هذه بدَفع اللحن عن قراءة القرآن، حيث استخرج ضوابط الإعراب بحسب ما توفرَّ لديه من قدرات ووسائل [15].
وينفي الدكتور شوقي ضيف [16] أن يكون لعصر أبي الأسود علاقة بالشروع في بناء الظواهر النحوية. ولسنا في مقام تحقيق هذه النسبة، بيد أنَّه يهمنا أن نشير إلى إجماع المؤرخين قديمًا وحديثًا إلى أنَّ الدافع الرئيس لهذه النشأة إنما هو قراءة القرآن على نحوٍ صحيح، وتَفَشِّي اللحن لدى عامة المسلمين وخاصَّتهم.
وقد تحدث ابن خلدون في "مقدمته" [17] عن فساد السليقة العربية ممَّا أدَّى إلى وقوع اللحن في القرآن، وشروع العلماء في حِفْظ اللسان، ولكنه لم يُحَدِّد مَن الذي بدأ هذه الجهود، يقول: «لمَّا فسدت مَلكة اللسان العربي في الحركات المسمَّاة عند أهل النحو بالإعراب، واستُنْبطت القوانين لحفظها... فاسْتُعْمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم، مَيْلاً مع هِجْنة المستعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية، فاحتيج إلى حِفْظ الموضوعات اللغوية بالكتاب والتدوين خشية الدروس، وما ينشأ عن الجهل بالقرآن والحديث، فَشَمَّر كثير من أئمة اللغة واللسان لذلك وأَمْلَوا فيه الدواوين».
فابن خلدون يُنَوِّه بهمَّة علماء اللغة في تدوين ما توصَّلوا إليه من نظرات؛ بُغْيَةَ تيسير تلاوة القرآن وفَهْمه.
وفي موضع آخر من "مقدمته" ينصُّ على الدافع الرئيس من وراء هذه الحركة العلمية، فيقول [18]: «وخشي أهل العلوم منهم أن تَفْسُدَ تلك المَلَكة رأسًا ويطول العهد بها، فينغلق القرآن والحديث على المفهوم، فاستنبطوا مِنْ مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطَّردة شبهَ الكليات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام وبذلك تكون الخطوة الأولى في صَرْح تأسسيس علم النحو بمنزلة ردٍّ مباشر لتسرب اللحن إلى اللسان العربي بعامة، وإلى القرآن بخاصة، ولابدَّ أن يكون قد صاحَبَ ذلك جهود تمثَّلَتْ في تأمُّل اللغة والنظر في مفرداتها وتراكيبها وشواهدها، فنجم عن تلك الجهود النواة الأولى لعلم النحو والإعراب، وكان الشروع في ضوابط العربية مِنْ قِبَل أصحاب النظر في اللغة. وازدهرت لإنجاز هذه المهمة حركة علمية واسعة، وهذا يدلُّ على شعور بالحاجة اللغوية وبروز التناقض بين المثال المتجسِّد في لغة القرآن والواقع الذي صارت إليه اللغة على ألسنة الناس [19].(/2)
والحقيقة أنَّ كلَّ الروايات التي يسردها المؤرخون مفادُها تعثُّر قَرَأة كتاب الله مِن عامة الناس وخاصتهم، وهي تفسيرٌ لمشاعر الخوف الذي لابس المسلمين مِنْ جرَّاء شيوع اللحن.
ويضاف إلى العوامل السابقة في نشأة النحو الحاجة إلى فهم مناحي التركيب اللغوي ليصار إلى التعامل مع القرآن والاستنباط من أحكامه، وقد عدَّ العلماء الإحاطة بعلوم اللغة والنحو والتصريف من العلوم الرئيسة التي يحتاج إليها المفسِّر لكتاب الله [20]، ومن هنا نشأ لدى السلف كراهية شديدة تجاه ظاهرة اللحن، وحَضٌّ على اكتساب العربية والتفقه في مواردها، فالخليفة الراشد عمر يقول: «تَفَقَّهوا في العربية؛ فإنها تُشَبِّب العقل وتزيد في المروءة» [21]. وقال أُبَيُّ بن كعب: «تعلموا العربية كما تتعلَّمون حِفْظ القرآن» [22].
وهذا قتادة يقول: «لاأسأل عن عقل رجل لم يدلَّه عقله على أن يتعلَّم من العربية ما يُصْلح به لسانه» [23]، أمَّا الأصمعيُّ فيخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كذب عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعدَه من النار) لأنَّه لم يكن يلحن، فمهما رَوَيْتَ عنه ولَحَنْتَ فقد كَذَبْتَ عليه» [24].
وهكذا جَدَّ علماء العربية من السلف، واجتهدوا إلى أن أقاموا صرح علمٍ من العلوم الإسلامية التي لا يَسْتغني عنها أحد من طلبة العلم، وأصبحت العربية من الدين نفسه، وأصبح تعلمها لفهم مقاصد الكتاب والسنة قربة إلى الله، وعدَّ كثير من العلماء تعلُّمها واجبًا على المرء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية [25]: «واعلم أنَّ اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرًا قويًا بَيِّنًا، ويؤثِّر أيضًا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق. وأيضًا فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرضٌ واجب؛ فإنَّ فَهْمَ الكتاب والسنة فرض، ولايُفْهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لايتمُّ الواجب إلا به فهو واجب». وكان أبو عمرو بن العلاء يَعُدُّ العربية من الدين لاتنفصل عنه ولا ينفصل عنها، فبلغ ذلك عبد الله بن المبارك فقال: صدق [26].
وبذلك تتضح لنا الصورة بجلاء، فعلوم النحو والصرف والإعراب مرتبطة من حيث نشأتها ونشاط أعلامها، بالحرص على لغة القرآن لكيلا يعروَها لحن، والحرص على فهم معاني كتاب الله وتدبُّر آياته.
[1] مراحل تطور الدرس النحوي 28 .
[2] المفصل في تاريخ النحو العربي 32 .
[3] أصول علم العربية في المدينة 286 .
[4] المستدرك 2 / 439 ، كتاب التفسير، تفسير سورة السجدة. وقال: صحيح الإسناد.
[5] الجامع لأحكام القرآن1/24. وانظر نزهة الألباء 8.
[6] طبقات النحويين 28.
[7] الآية (22) من سورة السجدة ، وانظر : البيان والتبيين 2/218.
[8] المدارس النحوية 12.
[9] المفصل في تاريخ النحو 31.
[10] طبقات النحويين 11.
[11] إيضاح الوقف والابتداء 1/31.
[12] مراتب النحويين 24.
[13] نزهة الألباء 8، والآية (37) من سورة الحاقة.
[14] المفصل في تاريخ النحو العربي 101.
[15] انظر : الإيضاح للزجاجي 89، وفيات الأعيان 2/ 535، نزهة الألباء 6.
[16] المدارس النحوية 18.
[17] المقدمة 548.
[18] المقدمة 546.
[19] المفصل في تاريخ النحو العربي73.
[20] الإتقان 1/ 146،180، 2/174.
[21] طبقات النحويين 13.
[22] تنبيه الألباب 76.
[23] المصدر نفسه 71.
[24] معجم الأدباء 1/90، والحديث رواه البخاري في كتاب العلم (فتح الباري1/242) .
[25] اقتضاء الصراط المستقيم 207.
[26] معجم الأدباء 1/53.(/3)
عندما تموت الغيرة
03-2-2006
بقلم ماجد بن عيد الحربي
"...إن الناظر الى عصرنا الحالي يرى التشابه الكبير بينه وبين عصر الطوائف بالاندلس من حيث الدعوة النشطة لخروج المرأة من خدرها وتنحيتها عن المهمة التي وجدت من أجلها ..."
بينما كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسير ليلا في أزقة المدينة لتفقد أحوال الرعيّة طرق سمعه صوت إمراة تنشد وهي تتغزل بأحد شبّان المدينة قائلة :
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ***** أو من سبيل إلى نصر بن حجاج
إلى فتى ماجد الأعراق مقتبل ***** سهل المحيا كريم غير ملجاج
فعمر الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم { بينما أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا إمراة تتوضأ إلى جانب قصرقلت لمن هذا القصر قالوا لعمر بن الخطاب فذكرت غيرته وولّيت مدبرا} لم تمرعليه هذه الحادثة مرور الكرام فقد قضى ليلته دون أن يغمض له جفن ، فعاصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قالت عن نسائها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، عندما نزل قول الله تعالى { ليضربن بخمرهن على جيوبهن } النور 31 ، ما منهن إمراة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين الصبح متعجرات كأن على رؤوسهن الغربان ، يسمع فيها خليفة المسلمين إمراة تتغزل بشاب قد سلب عقلها جماله !.
فهذا أمر في منتهى الخطورة بمنظور أبي حفص ، فبقي يتقلب على فراشه حتى أذّن المؤذن لصلاة الفجر ، فيؤم الناس بالصلاة ويصعد بعد إنتهاء الصلاة على المنبر ويحمد الله ويثنى عليه ويصلي ويسلم على نبيه صلى الله عليه وسلم ، معلنا بعد ذلك حالة الاستنفار بالمدينة لاحضار ذلك الشاب الذي تهتف به النساء في بيوتهن .
وعلى الفور ينعقد مجلس الشورى المكون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم ، فيتقدم من بينهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قائلا : يا أمير المؤمنين نصر بن حجاج أعرفه فهو شاب من شباب المدينة إشتهر بجماله فإن أردت أن تراه أحضرته إليك ، قال أمير المؤمنين إليّ به يا إبن عوف ، فيحضر نصر بن حجاج الى أمير المؤمنين ، ولمّا رأى من جماله قال : والله لا تساكني في بلدة يتمناك بها النساء ، فخذ من بيت المال ما يصلحك وسر إلى البصرة .
فقال نصر : لقد قتلتني يا أمير المؤمنين ، فإن فراق الاوطان كقتل النفس ، قال تعالى : { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلا } النساء 66 ، قال الخليفة ولكني أقول ما قال الله على لسان نبيه شعيب عليه السلام :{ إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله } هود 88 .
فأعراض المسلمين عند عمر تأتي في مقدمة إهتماماته ، فكيف لا وهو الذي قال :{ يا رسول الله لو أمرت نسائك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر ، فنزلت بعد ذلك آية الحجاب موافقا رأئه لأمر ربه من فوق سبع سموات } .
إن الرجال الناظرين إلى النساء ***** مثل الكلاب تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها ***** أكلت بلا عوض ولا أثمان
فأؤلئك النساء هن اللاتي أنجبن القادة الذين تحطمت تحت سنابك خيولهم عروش الفرس والروم والعلماء الذين حفظ الله بهم ربقة الاسلام ، وما ذلك إلا بتوفيق الله لعمر أن جعله حصن الفضيلة المنيع الذي تتحطم على جنباته سهام دعاة الرذيلة .
تروي لنا كتب السير أن رجلا من السلف التحق بجيوش الفتح الاسلامي في خرسان وترك زوجته الحامل بالمدينة ولديها مبلغ ثلاثون ألف دينار هي كل ما يملك عدى سيفه وجواده الذين خرج بهما للجهاد ، وبقي هذا المجاهد يحرس ثغور المسلمين مدة عشرين عاما, يقرر بعدها العودة الى زوجته التي لم تصله أخبارها منذ فارقها ولا يعلم ما صنع الله بالجنين الذي كانت تحمله في بطنها ، فيؤمم وجهه شطر مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتطيا صهوة جواده الذي أخذ ينهب الأرض ويطوي المسافات وكأنه يعلم ما يجول بين جوانح صاحبه من حنين لتلك الديار وساكنيها بعد هذه الغربة الطويلة .
ولما بلغ أسوار المدينة إتّجه إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليسلم على هادي هذه الامة ومعلمها محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، ويصلي لله ما شاء أن يصلي قبل الذهاب إلى أهله وقد وافق مجيئه وقت صلاة المغرب وبعد أن أديت الصلاة تحلق طلبة العلم حول شيخهم ذلك الفتى المعمم الذي يشع وجهه بنور الايمان ، فجلس الرجل الى تلك الحلقة رغبة في فضل مجلس الذكر وللاستزادة من العلم الشرعي لا سيما أنه كان منشغلا بالجهاد ولم يحضر مجالس العلماء الا نادرا ، ويبدأ الشيخ ربيعة بن فروخ المكنى ( ربيعة الراي ) الدرس بشرح كتاب الجهاد لأحد علماء السلف رحمهم الله ولشدة إعجاب الرجل بهذا الشاب عاد به الخيال إلى ما قبل عشرين سنة متمنيا لو بقى بالمدينة وقام على تربية إبنه الذي كان وقتها حملا في بطن أمه لعل الله أن يجعل منه عالما تنتفع بعلمه أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثل هذا الشاب .(/1)
ولم ينتبه إلا لصوت المؤذن معلنا دخول صلاة العشاء ، وبعد أداء الصلاة مكث جالسا بالمسجد حتى تفرق الناس وذهب كل الى بيته ، عندها توجه الى داره القريبة من المسجد ثم ربط جواده أمام الدار وتقدم الى الباب وطرقه طرقا خفيفا حتى لا يزعج الجيران ، وكانت المفاجأة العظيمة عندما خرج عليه من الدار ذلك الشاب الذي كان يلقي الدرس بالمسجد ، فما كان منه إلا أن يمتشق سيفه ليفتك بهذا الوغد الذي لم يحترم مبادئ الاسلام التي كان يعلمها للناس ، ودخل داره وخلى بزوجته مستغلا غيابه عن أهله ، ويرد الشاب على هذا التصرف العدواني قائلا ما ذا تريد يا عدو الله تدخل داري وتشهر عليّ سلاحك ، فتتدخل الام التي أتت بعد سماعها الجلبة التي حصلت بين إبنها وذلك الرجل الذي طرق الباب ، فقالت على رسلكما (سلم يا بني على والدك ).
وبعد أن هدأت المشاعر واستقرت النفوس المشحونة بالعواطف سجد الجميع شكرا لله سبحانه وتعالى الذي منّ عليهم بلم الشمل بعد طول فراق ، ومن بديهيات الامور أن يسأل الرجل زوجته عن ما بقي من المال الذي أودعه عندها أثناء سفره فقالت بقي منه العلم الذي أودعه الله في عقل إبنك ، فعلم إنها قد صرفت كل المبلغ ولكن ليس فيما تهوي الانفس البشرية من المشرب والمأكل وأدوات اللهو وإنما صرفته على تربية ابنها وتعليمه فحمد الله على ذلك وأثنى عليه ودعى لها بحسن العاقية .
فهذه الام التي إستطاعت أن تصمد كل هذه المدة التي غاب عنها زوجها وتنذر نفسها وما تملك لتربية إبنها وتعليمه حتى أصبح من كبار علماء عصره ولم يتجاوز عمره العشرين سنة لو لم تكن في بيئة إجتماعية صالحة وولاية راشدة تعتني بأخلاقيات الامة وتغار على محارم الله لربما جرفها التيار وانزلقت في مهاوي الرذيلة كما انزلق غيرها من بنات جنسها اللاتي عشن في مجتمعات تحكم سلوكها الاهواء والشهوات بحجة أن سلوكيات الافراد خاصة بهم وتعتبر من الحريات الشخصية التي لا يجوز للآخرين المساس بها .
بعكس المجتمع الاسلامي السليم الذي يعتبر أن رعاية الفرد وتربيتة على الاخلاق الفاضلة وحمايته من ما ينافيها حتى وإن كان الفاعل هو نفسه ، هي من أهم واجبات من ولاه الله أمر الأمة, وهذا المنهج الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وسار عليه من بعده خلفاؤه الراشدون وسلف الأمة الصالح .
وعندما ضعفت الامة وسلبت منها الارادة وسلط عليها من أبنائها المؤتمرين بأمر عدوها ليفرضوا عليها إتباعه حذو القذة بالقذة تنازلت عن أهم موروثاتها الحضارية وصارت تردد كالببغاوات ما يسميه الاعداء حرية المرأة ومساواتها بالرجل .
وفي هذا المضمار محطات في تاريخ الامة حالكة السواد ، لعلي أذكر منها على سبيل المثال أيام حكم ملوك الطوائف بالاندلس حيث كانت بنات الملوك يجاهرن بفسقهن مع من يردن ولا أحد ينكر عليهن هذا العمل الشنيع .
فهاهي سليلة الأمويين مع وزير أبيها بن زيدون عندما شعرت أنه مال إلى جاريتها وهي التي تظن أنها الوحيدة التي إستطاعت سلب لباب عقله فقالت له معاتبة :
لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا ***** لم تهو جاريتي ولم تتخير
وتركت غصنا مثمرا بجماله ***** وجنحت للغصن الذي لم يثمر
فولادة بنت المستكفي التي كانت تكتب بالذهب على طرازها الايمن :
أنا والله أصلح للمعالي * وأمشي مشيتي وأتيه تيها
وعلى طرازها الايسر :
وأمكن عاشقي من صحن خدي * وأعطي قبلتي من يشتهيها
قد قضت حياتها باللهو والمجون وماتت بعد أن تجاوز عمرها الثمانين عاما ولم تتزوج.
وليست هي المسئولة الوحيدة عن ما آلت إليه حالها ، بل هي ضحية من ضحايا الانهيار الذي أصاب الامة بأسرها كنتيجة حتمية لتبعية ملوك الطوائف الذين كان والدها أحدهم لملوك النصارى، فلو قدر لولادة بما عرف عنها من الذكاء أن تكون حياتها بعصرعمر ابن الخطاب لربما كانت أما لأحد قادة الفتح الاسلامي .
فالانسان جبل على الخير والشر معا فإن وجد من يوقظ نزعة الخير التي بداخله كان خيّرا بإذن الله تعالى وإن كانت الاخرى صار شريرا نعوذ بالله من ذلك .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أويمجسانه ) رواه مسلم .
إن الناظر الى عصرنا الحالي يرى التشابه الكبير بينه وبين عصر الطوائف بالاندلس من حيث الدعوة النشطة لخروج المرأة من خدرها وتنحيتها عن المهمة التي وجدت من أجلها وجعلها لا تكتفي بمزاحمة الرجال لما كلفوا به ولكن تتجاوز ذلك الى أمور تفقدها دورها كربة بيت ومربية أجيال وهذا ورب الكعبة هو الذي أراده أعداء الامة من الكفار وأذنابهم المنافقين .
ومن أوجه الشبه بعصر الطوائف أن أغلب الداعيات لتفسخ المرأة وإنحلالها من نساء علية القوم .
وكما أسلفت هنّ لسن وحدهنّ المسئولات عن ما آل إليه الحال ولكن المسئول أمام الله ثم أمام الامة هو من أتاه الله سلطة تغيير المنكر بدرجته الاولى ولم يفعل { إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن } .(/2)
الأخوة في شبكة القلم الفكرية حفظهم الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم/ماجد بن عيد الحربي(/3)
عندما تُطمس شمس العلماء
سعد بن ثقل العجمي
</TD
الحمد لله المتفرد بالحكم, وصلى الله وسلم على سيد العُرب والعُجم محمد بن عبدالله, وعلى آله وصحبه من أبيٍ وشهم أما بعد:
فلا تزال شمس العلماء ساطعة ً متوهجة ً على مرِ العصور والأزمان, تلك الشمس التي استمدت نورها من نور الله جل جلاله, (الله نور السماوات والأرض)
وقد جعل الله لأهل العلم مكانة ً سامقة ً عالية ً, تشرئبُ لها الأعناق, وترنوا لها الأحداق, عندما قرن شهادتهم بشهادته جل وعلا وشهادةِ ملائكته فقال سبحانه:
(شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأؤلوا العلم قائما بالقسط)
ويكفي العلمَ فضلاً: أن صاحبه من أعبد وأتقى وأخشى الناس لله, كما قال تعالى:
(إنما يخشى الله من عباده العلماء)
ويكفي العلماء شرفاً وفخراً أن الله رفعهم من بين الناس
فقال سبحانه
(يرفع الله الذي آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)
والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة غزيرة
لعلو شأن المعلوم
ورفعة شأن العالم
وإن الناظر للتاريخ نظرةً فاحصة
يجد أن العلماء على اختلاف مللهم ونحلهم
هم القادة للثورات
والمثل الأعلى للشعوب
وهم دائما في المقدمة في كثير من الأمور الدنيوية
سواء كانوا على حق أم على باطل
ولعلي أدَعُك قليلا مع هذا المشهد العجيب الذي يرويه لنا الإمامان العظيمان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى
عن ابن عباس رضي الله عنهما
يذكر قصة أبي سفيان مع هرقل لما سأله تلك السؤالات العظيمات عن النبي صلى الله عليه وسلم
فلما عرف الحق وأشرقت شمس الهداية في قلبه
قال :
إن يكن ما تقول حقا إنه لنبي، وقد كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أكن أظنه منكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي . ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، فإذا فيه
( ( بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد : فإني أدعوك بدعاية إذ أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك لعنة الأريسيين و ( يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا أشهد بأنا مسلمون ) فلما قرأه، وفرغ من قراءة الكتاب، ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللغط، وأمر بنا فأخرجنا .ثم أذن هرقل عظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمرا بأبوابها فغلقت، ثم أطلع فقال : يا معشر الروم ! هل لكم في الفلاح والرشد، وأن تثبت مملكتكم فتبايعوا هذا النبي ؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان، قال : ردوهم علي، فقال : إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له، ورضوا عنه .
ولعلي أدع المجال للإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية رحمه الله في أن يعلق على هذه القصة
فاسمعه يقول
(هذا ملك الروم، وكان من علمائهم أيضا، عرف وأقر أنه نبي، وأنه سيملك ما تحت قدميه، وأحب الدخول في الإسلام، فدعى قومه إليه فولوا عنه معرضين كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة، فمنعه من الإسلام الخوف على ملكه ورياسته، ومنع أشباه الحمير ما منع الأمم قبلهم )
ولعلي الآن أوجه الأضواء إلى مسألة عظيمة هي من دواهي هذا الدهر,
ومن مصائبه التي عمت وطمت
بل وهي السبب في طمس شمس العلماء
والتي نستفيدها من هذه القصة العظيمة
ألا وهي:
أن المناصب التي يتربع على عرشها بعض أهل العلم
وتكون رفيعةً في المجتمع وتجعل لهم خصوصية من بينهم
كثيراً ما تحول بينهم وبين قول الحق والصدع به
على خلاف من لا يملك إلا نفسه
فتراه صدّاعاً بالحق قوّالاً له
لا يخاف في الله لومة لائم
فهذا هرقل وهو من علماء النصرانية
لم يمنعه خوف ذهاب هذا المنصب عن السكوت في بيان الحق في مسألة فرعية أو مسألة مختلف بها إنما منعه هذا الخوف عن قبول الحق الذي عرفه وتبين له وتكشفت له فيه الحُجُب
فتأمل يا رعاك الله:
حال بعض المنسوبين إلى العلم كيف يهجرون قول الحق والصدع به عندما يتصادم مع مصالح رؤسائهم وكبرائهم
فحري بك أن تكون فطناً لبيباً يعرف من أين يأخذ الحق ومن هم أصحابه
خصوصاً في المسائل المصيرية المتعلقة بالأمة ومصالحها العامة وتكون هذه المصالح متعارضة مع مصالح تلك الثلة الصغيرة التي ينطوي هؤلاء العلماء تحت لوائها
وانظر يا أيها المسلم الحر:
إلى إمامٍ من أئمة المسلمين الثقات الأثبات
الذين شهد لهم المسلمون بالسلامة والعدالة وارتضوا أقوالهم
وهو الإمام العلامة الفقيه أبو حنيفة النعمان عليه من الله الرضوان
كيف ترك القضاء ورفض الإنصياع للأوامر العليا التي أوجبته على القيام بهذه المهمه فرفض
ثم قاموا باستخدام أسلوب آخر
وهو الإجبار على هذا الأمر بالضرب
حتى توفي رحمه الله بسبب ذلك العذاب
ولقد وصفَ هذه القضية الكبرى وصفاً رائعا ماتعا(/1)
الشاعر الأديب الجرجاني رحمه الله في قصيدته الأعجوبة
حيث يقول:
يقولونَ لي: فيكَ انقباضٌ وإنّما *** رأوا رَجلاً عن موقفِ الذُّلِ أحجما
أرى النّاسَ مَن داناهُمُ هانَ عِندهمُ *** ومن أكرمتْهُ عِزَّةُ النَّفسِ أُكْرما
ولم أَقضِ حقَّ العِلمِ إنْ كانَ كُلَّما *** بدا طمعٌ صيرته ليَ سُلَّما
إذا قيلَ: هذا مَنهلٌ قلتُ: قد أَرى *** ولكنَّ نَفْسَ الحُرِّ تحتملُ الظَّما
أنزِّهُها عن بعضِ ما لا يَشينُها *** مخافة أقوال العدا: فيم أو لما ؟
فأصبحُ عن عَيبِ اللّئيم مُسَلَّماً *** وقد رحت في نفس الكريم معظَّما
وإني إذا ما فاتني الأمرُ لم أبِتْ *** أقلِّبُ كفّي إثره مُتَنَدِّما
ولكنَّه إنْ جاء عفواً قَبِلْته *** وإنْ مال لم أُتْبِعهُ (هلاَّ) و(لَيتما)!
وأَقبِضُ خَطويَ عن حُظوظٍ كَثيرةٍ *** إذا لم أَنلها وافرَ العِرضِ مُكَرما
وأَكرِمُ نفسي أنْ أُضاحِكَ عابساً *** وأَنْ أَتلقّى بالمديح مُذَمَّما
وكم طالب رقي بِنُعماهُ لم يصِلْ *** إليه وإن كان الرَّئيسَ المُعظَّما
وكم نعمةٍ كانت على الحرِّ نِقمةً *** وكم مغنَمٍ يعْتدُّه الحرُّ مغرَما
ولم أبتذِل في خدمةِ العلم مُهجَتي *** لأَخدِمَ من لاقيتُ لكن لأُخدما
أَأَشقى به غَرْساً وأجنيهِ ذِلَّة ؟! *** إذاً فاتِّباعُ الجهلِ قد كان أحزَما
ولو أنَّ أهلَ العِلمِ صانوه صانَهمُ *** ولو عظَّموهُ في النُّفوسِ تَعَظَّما
ولكن أهانوه فهانَ ودنّسوا *** مُحيّاهُ بالأطماعِ حتى تَجهَّما
وما كلُّ برقٍ لاحَ يسْتَفزُّني *** ولا كلُّ من لاقيتُ أرضاهُ منْعِما
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي يتشدق بعض أتباع المنهج السلفي (ادعاءً) باتباعه ويقرون بعلمه وإمامته لكنهم يتنكبون لمنهجه وطريقته إتباعاً للهوى وخوفاً من ذهاب بعض المناصب التي هي في النظرة الدنيوية حقيرة دنيئة فضلاً عن النظرة الأخروية
تراه قد مات رحمه الله في السجن ذائداً عن الدين واقفاً في وجوه الظلمة المعتدين , صداحاً بقول الحق لا يخاف في الله لومة لائم
إيهٍ يا ابن تيمية!!
إنّ من يُقلب الطرف في سيرتك العطرة وجهادك الدائم لأعداء الدين
وصدحك بالحق على اختلاف حالك من يسر إلى عسر
وينظر إلى لصوص العلماء
الذين أخرج عنهم الديلمي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا رأيت العالم يخالط السلطان مخالطة كثيرة فاعلم أنه لص)
ليجد العجب العجاب وما يخلب الألباب.
أيتها الأمة النائمة المتكئة على فتاوى مسبوقة الدفع
استيقظي وقومي من رقادك الذي قد طال!
إن الذي ترين أمرٌ قد حدث في الأمم الغابرة وذكره الله وفضحه
أفلا تتنبهين له
أما سمعتي قوله سبحانه
(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)
ألا إنه لن تكون في الأمة ثورةٌ فكرية عارمة تجرف بسيلها الهائج الثائر
تلك الأغلال والآصار التي وضعتها الأمة عليها في سني ضعفها وانهزامها
إلا بقصد تلك الأصنام المتحجرة وكسرها بسيف الحجة والبرهان
المستمدان من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم
بسبيلٍ واحد وطريق واحد وهو الطريق الأمثل والسبيل الأقوم
الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع أصنام عصره التي كان لها الحراس والسدنة الذين يتأكلون منها ويعيشون عليها ويسوسون بها
وهذه الطريقة هي:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد تلك الأصنام وسلبها خاصيتها وفرغها من محتواها عندما بيّن الدين الحق الذي يتضاد مع هذا الباطل فجعلها خواء فارغة وكان هذا في العهد المكي عندما كانت الدعوة فكريةً بالحجج الدامغات والبراهين الواضحات
ثانياً: بعد أن تكشّف للناس زيفُ هذه الأصنام والقائمين عليها بادروا هم بأنفسهم وقد كانوا يوما ما من الذابين عنها الذائدين عن حياضها المشهرين ألسنةً و سيوفاً في الدفاع عنها
كيف لا وهم يرونها الحق ويرونها الدين ويرون الكبراء والعقلاء يدعون لها ويبجلونها ووسائل الإعلام في عصرهم تعظمها وتقدسها
أليس حري بهم أن يكونوا جنداً من جنودها وُيخرسوا ويقطعوا لسان كل قادحٍ وذامٍ لها
بعد هذا كله يقومون بقيادة القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم بتكسير وتحطيم هذه الأصنام بكل إيمان وعقيدة بزيفها وبطلانها وكان هذا في العهد المدني.
وهذه رسالةٌ واضحة لأصحاب المنهج السوي المستقيم ألا يستعجلوا في الخطوات فيقدموا ما حقه التأخير فيجابهوا بقوة العامة قبل الخاصة
إنما الواجب عليكم هو نشر عقيدتكم ومنهجكم بكل تؤده وحنكه وذكاء أو ليس هذا هو الحق الذي تدينون به
أوليس حري برب هذا الحق أن ينصره فلماذا استعجال الثمرات
هل نحن خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندما جلس السنوات الطوال يدعوا إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة حتى تكونت لدية قاعدة متينة استطاع من خلالها أن يدخل الدنيا في لا إله إلا الله
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
(تنبيهات)(/2)
1. إن القارئ لهذا الموضوع يجدر بنا تنبيهه أن المقصود هنا بعض العلماء وليس الكل معاذ الله فالتعميم عرضة للخطأ
فلا يأتينّ جاهلٌ ويرمي كاتبه بالتهجم والقدح في علماء هذا العصر قاطبة بل المقصودون هم تلك الشرذمة التي تتأكل بهذا النهج الرديء وتسكت عن قول الحق بدعاوى كاذبة وتلبس الباطل لباس الحق فليعلم ذلك
2. ليس شرطاً أن كلَ عالم كان ذا منصب هو من هذه الثلة القليلة التي طمست شمسها فالتاريخ الإسلامي زاخر بالعلماء الأفذاذ الذين تولوا المناصب ولم تمنعهم مناصبهم عن قول الحق والصدع به وكذلك في وقتنا المعاصر فليعلم ذلك
3. خذ بقولي ولا تنظر إلى عملي *** ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري
بقلم/أبي عبد الله سعد بن ثقل العجمي
فجر الجمعة
25/3/2005(/3)
عندما سئل العلامة الألباني عن واقعنا الأليم... ...
...
21-04-2004
نعلم يا شيخنا في هذه الأيام أن الإسلام محارب في جميع الأرض، وبعدم اهتمام من الحكومات فماذا علينا نحن في هذا الأمر ؟، وهل نأثم بجلوسنا بعدم عمل أي شيء ؟
فأجاب رحمه الله ...
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده و رسوله. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا و أنتم مسلمون}. {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيباً}. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، وقولوا قولاً سديداً، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً}.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها، و كل محدثة بدعة، وكل بدعه ضلالة، وكل ضلالة في النار.
السؤال كأنه من حيث ظاهره وألفاظه ،أقل مما يقصد لافظه؛ حيث يقول: نقعد، ولا نعمل أي شيء ! فهو يعني في أي شيء ـ ليس أي شيء مطلقاً ـ وإنما يعني شيئاً معيناً. لأنه لا أحدٌ إطلاقاً يقول: بأن المسلم عليه أن يعيش كما تعيش الأنعام لا يعمل أي شيء ـ لأنه خُلق لشيء عظيم جداً؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له. ولذلك فلا يتبادر إلى ذهن أحد من مثل هذا السؤال أنه يقصد ألا يعمل أي شيء، وإنما يقصد ألا يعمل شيئاً يناسب هذا الواقع الذي أحاط بالمسلمين من كل جانب ،هذا هو الظاهر من مقصود السائل و ليس بملفوظ السائل.
وعلى ذلك نجيب: إن و ضع المسلمين اليوم لا يختلف كثيراً و لا قليلاً عما كان عليه وضع الدعوة الإسلامية في عهدها الأول، وأعني به العهد المكي. أقول لا يختلف وضع الدعوة الإسلامية اليوم لا في قليل و لا في كثير عمّا كانت عليه الدعوة الإسلامية في عهدها الأول، ألا وهو العهد المكي، وكلنا يعلم أن القائم على الدعوة يومئذ ،هو نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أعني بهذه الكلمة أن الدعوة كانت محاربة؛ من القوم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أنفسهم، كما في القرآن الكريم ،ثم لما بدأت الدعوة تنتشر، وتتسع دائرتها بين القبائل العربية حتى أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالهجرة من مكة إلى المدينة –طبعاً نحن الآن نأتي برؤوس أقلام لأن التاريخ الإسلامي الأول والسيرة النبوية الأولى معروفة عند كثير من الحاضرين –لأنني أقصد – بهذا الإيجاز و الاختصار -، الوصول إلى المقصود من الإجابة على ذلك السؤال.
ولذلك فإنني أقول: بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتبعه بعض أصحابه إلى المدينة، وبدأ عليه الصلاة والسلام يضع النواة لإقامة الدولة المسلمة – هناك في المدينة المنورة - بدأت أيضاً عداوةُ جديدة بين هذه الدعوة الجديدة –أيضاً في المدينة - حيث اقتربت الدعوة من عقر دار النصارى وهي سورية يومئذِ؛ - التي كان فيها هرقل ملك الروم -،فصار هناك عداء جديد للدعوة ليس فقط من العرب في الجزيرة العربية؛ بل ومن النصارى أيضاً في شمال الجزيرة العربية –أي في سورية – ثم أيضاً ظهر عدوُ آخر ألا وهو فارس، فصارت الدعوة الإسلامية محاربة من كل الجهات؛ من المشركين في الجزيرة العربية، ومن النصارى و اليهود في بعض أطرافها، ثم من قبل فارس؛ التي كان العداء بينها و بين النصارى شديداً كما هو معلوم من قولة تبارك و تعالى: {ألم غلبت الروم، في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين } [1]. الشاهد هنا: لا نستغربنَّ وضع الدعوة الإسلامية الآن، من حيث إنها تُحارب من كل جانب. فمن هذه الحيثية كانت الدعوة الإسلامية في منطلقها الأول أيضاً كذاك محاربة من كل الجهات. وحينئذٍ يأتي السؤال والجواب.
ما هو العمل ؟ ماذا عمل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه الذين كان عددهم يومئذٍ قليلاََ بالنسبة لعدد المسلمين اليوم – حيث صار عدداََ كثيراََ وكثيراََ جداََ ؟
هنا يبدأ الجواب: هل حارب المسلمون العرب المعادين لهم –أي قومهم –في أول الدعوة ؟ هل حارب المسلمون النصارى في أول الأمر ؟ هل حاربوا فارس في أول الأمر ؟
الجواب : لا، لا كل ذلك الجواب لا.
إذاََ ماذا فعل المسلمون ؟(/1)
نحن الآن يجب أن نفعل ما فعل المسلمون الأولون تماماََ. لأن ما يصيبنا هو الذي أصابهم، وما عالجوا به مصيبتهم هو الذي يجب علينا أن نعالج به مصيبتنا، وأظن أن هذه المقدمة توحي للحاضرين جميعاً بالجواب إشارةً وستتأيد هذه الإشارة بصريح العبارة. فأقول: يبدو من هذا التسلسل التاريخي و المنطقي في آنِ واحدِ أن الله عز وجل إنما نصر المؤمنين الأولين؛ الذين كان عددهم قليلاً جداً بالنسبة للكافرين والمشركين جميعاً من كل مذاهبهم ومللهم، إنما نصرهم الله تبارك وتعالى بإيمانهم.
إذاً ما كان العلاج أو الدواء يومئذٍ لذلك العداء الشديد الذي كان يحيط بالدعوة هو نفس الدواء ونفس العلاج الذي ينبغي على المسلمين اليوم أن يتعاطوه؛ لتحقيق ثمرة هذه المعالجة كما تحققت ثمرة تلك المعالجة الأولى، والأمر كما يقال: التاريخ يعيد نفسه؛ بل خير من هذا القول أن نقول إن الله عز وجل في عباده وفي كونه الذي خلقه ونظّمه وأحسن تنظيمه له في ذلك كله- سنن لا تتغير ولا تتبدل ( سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً )
هذه السنن لابد للمسلم أن يلاحظها، وأن يرعاها حق رعايتها. وبخاصةٍ ما كان فيها من السنن الشرعية. هنالك سنن شرعية وهنالك سنن كونية. وقد يقال اليوم- في العصر الحاضر- سنن طبيعية، هذه السنن الكونية الطبيعية يشترك في معرفتها المسلم و الكافر، و الصالح والطالح بمعنى؛ ما الذي يقوّم حياة الإنسان البدنية ؟ الطعام والشراب والهواء النقي و نحو ذلك. فإذا الإنسان لم يأكل ،لم يشرب، لم يتنفس الهواء النقي، فمعنى ذلك أنه عرَّض نفسه للموت موتاً مادياً. هل يمكن أن يعيش إذا ما خرج عن اتخاذه هذه السنن الكونية ؟
الجواب لا: (سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا ) هذا -كما قلت آنفاً -يعرفه معرفة تجريبية كل إنسان؛ لا فرق بين المسلم و الكافر والصالح والطالح. لكن الذي يهمنا الآن أن نعرف أن هناك سنناً شرعية يجب أن نعلم أن هناك سنناً شرعية، من اتخذها وصل الى أهدافها و جنى منها ثمراتها، ومن لم يتخذها فسوف لن يصل إلى الغايات التى وُضعت تلك السنن الشرعية لها؛ تماماً - كما قلنا - بالنسبة للسنن الكونية إذا تبنَّاها الإنسان و طبقها، و صل إلى أهدافها.
كذلك السنن الشرعية إذا أخذها المسلم؛ تحققت الغاية التي وضع الله تلك السنن من أجلها – من أجل تحقيقها – و إلا فلا. أظن هذا الكلام مفهوم و لكن يحتاج إلى شئٍ من التوضيح، وهنا بيت القصيد وهنا يبدأ الجواب عن ذاك السؤال الهام. كلنا يقرأ آية من آيات الله عز وجل بل إن هذه الآية قد يُزيّن بها صدور بعض المجالس أو جدر بعض البيوت وهي قوله تعالى {إن تنصروا الله ينصركم } [2] -لافتات - توضح وتكتب بخط ذهبي جميل رُقعي أو فارسي 000إلى آخره، وتوضع على الجدار، مع الأسف الشديد هذه الآية أصبحت الجدر مزينة بها، أما قلوب المسلمين فهي خاوية على روشها، لا نكاد نشعر ما هو الهدف الذي ترمي إليه هذه الآية {إن تنصروا الله ينصركم} ولذلك أصبح وضع العالم الإسلامي اليوم في بلبلة وقلقلة لا يكاد يجد لها مخرجاً، مع أن المخرج مذكور في كثير من الآيات، وهذه الآية من تلك الآيات، إذا ما ذكّرنا المسلمين بهذه الآية فأظن أن الأمر لا يحتاج إلى كبير شرح وبيان وإنما هو فقط التذكير و { الذكرى تنفع المؤمنين}.
كلنا يعلم –إن شاء الله – أن قوله تبارك وتعالى {إن تنصروا الله} شرطٌ، جوابه {ينصرْكم} إن تأكل إن تشرب إن ……إن الجواب تحيا، إن لم تأكل إن لم تشرب، ماذا؟ تموت ؟. كذلك تماماً المعنى في الآية {إن تنصروا الله ينصركم} المفهوم - وكما يقول الأصوليون - : مفهوم المخالفة، إن لم تنصروا الله لم ينصركم؛ هذا هو واقع المسلمين اليوم.
توضيح هذه الآية جاءت في السنة في عديد من النصوص الشرعية، وبخاصةٍ منها الأحاديث النبوية. {إن تنصروا الله} معلوم بداهة أن الله لا يعني أن ننصره على عدوه بجيوشنا وأساطيلنا وقواتنا المادية؛ لا ! إن الله عز وجل غالب على أمره، فهو ليس بحاجة إلى أن ينصره أحد نصراً مادياً – هذا أمر معروف بدهياً – لذلك كان معنى {إن تنصروا الله} أي إن تتبعوا أحكام الله، فذلك نصركم لله تبارك وتعالى.
والآن هل المسلمون قد قاموا بهذا الشرط ؟ قد قاموا بهذا الواجب –أولاً ؟ ثم هو شرط لتحقيق نصر الله للمسلمين – ثانياً -؟(/2)
الجواب: عند كل واحدٍ منكم، ما قام المسلمون بنصر الله عز وجل. وأريد أن أذكر هنا كلمةً؛ أيضاً من باب التذكير وليس من باب التعليم، على الأقل بالنسبة لبعض الحاضرين. إن عامة المسلمين اليوم قد انصرفوا عن معرفتهم، أو عن تعرفهم على دينهم ،- عن تعلمهم لأحكام دينهم -، فأكثرهم لا يعلمون الإسلام، وكثيرٌ أو الأكثرون منهم، إذا ما عرفوا من الإسلام شيئاً، عرفوه ليس إسلاماً حقيقياً؛ عرفوه إسلاماً منحرفاً عمّا كان عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه. لذلك فنصر الله الموعود به من نصر الله يقوم على معرفة الإسلام أولاً معرفةً صحيحة، كما جاء في القرآن والسنة، ثم على العمل به – ثانياً -، وإلا كانت المعرفة وبالاً على صاحبها، كما قال تعالى: {يا أيها الذين أمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون} [3]. إذاً نحن بحاجة إلى تعلم الإسلام ،وإلى العمل بالإسلام.
فالذي أريد أن أذكّر به - كما قلت آنفاً - هو أن عادة جماهير المسلمين اليوم أن يصبّوا اللوم كل اللوم بسبب ما ران على المسلمين قاطبةً من ذلٍ وهوان على الحكام، أن يصبوا اللوم كل اللوم على حكامهم الذين لا ينتصرون لدينهم، وهم - مع الأسف - كذلك؛ لا ينتصرون لدينهم، لا ينتصرون للمسلمين الُمَذلّين من كبار الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، هكذا العُرفُ القائم اليوم بين المسلمين ! صب اللوم كل اللوم على الحكام، ومع ذلك ! أن المحكومين كأنهم لا يشملهم اللوم الذي يوجهونه إلى الحاكمين ! والحقيقة أن هذا اللوم ينصب على جميع الأمة حكّامًا، و محكومين. و ليس هذا فقط بل هناك طائفة من أولئك اللائمين للحكام المسلمين بسبب عدم قيامهم بتطبيق أحكام دينهم، و هم محقون في هذا اللوم ،ولكن! قد خالفوا قولة تعالى {إن تنصروا الله}. أعني نفس المسلمين اللائمين للحاكمين حينما يخصونهم باللوم قد خالفوا أحكام الإسلام؛ حينما يسلكون سبيل تغيير هذا الوضع المحزن المحيط بالمسلمين بالطريقة التى تخالف طريقة الرسول صلى الله عليه و على آله و سلم. حيث إنهم يعلنون تكفير حكام المسلمين- هذا أولاً - ! ثم يعلنون وجوب الخروج عليهم - ثانياً - ! فتقع هنا فتنة عمياء صماء بكماء بيد المسلمين أنفسهم؛ حيث ينشق المسلمون بعضهم على بعض فمنهم هؤلاء الذين أشرت إليهم الذين يظنون أن تغيير هذا الوضع الذليل المصيب للمسلمين إنما تغييره بالخروج على الحاكمين، ثم لا يقف الأمر عند هذه المشكلة، وإنما تتسع وتتسع حتى يصبح الخلاف بين هؤلاء المسلمين أنفسهم ! ويصبح الحاكم في معزلٍ عن هذا الخلاف.
بدأ الخلاف من غلوّ بعض الإسلاميين في معالجة هذا الواقع الأليم أنه لابد من محاربة الحكام المسلمين لإصلاح الوضع !، وإذا بالأمر ينقلب إلى أن هؤلاء المسلمين يتخاصمون مع المسلمين الآخرين الذين يرون أن معالجة الواقع الأليم ليس هو بالخروج على الحاكمين، وإن كان كثيرون منهم يستحقون الخروج عليهم ! بسبب أنهم لا يحكمون بما أنزل الله؛ ولكن هل يكون العلاج –كما يزعم هؤلاء الناس – هل يكون إزالة الذي أصاب المسلمين من الكفار أن نبدأ بمحاكمة الحاكمين في بلاد الإسلام من المسلمين ؟– ولو أن بعضهم نعتبرهم مسلمين جغرافيين كما يقال في العصر الحاضر – هنا نحن نقول: أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتملْ ما هكذا يا سعدُ تُورَد ُالإبلْ.
مما لا شك فيه أن موقف أعداء الإسلام أصآلةً وهم اليهود والنصارى والملاحدة من خارج بلاد الإسلام؛ هم أشد بلا شك ضرراً من بعض هؤلاء الحكام الذين لا يتجاوبون مع رغبات المسلمين أن يحكموهم بما أنزل الله فماذا يستطيع هؤلاء المسلمون ؟ وأعني طرفاً أو جانباً منهم وهم الذين يعلنون وجوب محاربة الحاكمين من المسلمين، ماذا يستطيع أن يفعل هؤلاء لو كان الخروج على الحكام واجباً قبل البدء بإصلاح نفوسنا نحن ؟!.(/3)
كما هو العلاج الذي بدأ به الرسول عليه السلام، إن هؤلاء لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً إطلاقاً؛ والواقع أكبر دليل على ذلك، مع أن العلاج الذي يتبعونه –وهو أن يبدؤوا بمحاربة الحكام المسلمين! –لا يثمر الثمرة المرجوة لأن العلة - كما قلت آنفاً - ليست في الحاكمين فقط؛ بل و في المحكومين أيضاً، فعليهم جميعاً أن يصلحوا أنفسهم و الإصلاح هذا له بحث آخر قد تكلمنا عليه مراراً و تكراراً و قد نتكلم قريباً إن شاء الله عنه. المهم الآن المسلمون كلهم متفقون على أن و ضعهم أمر لا يحسدون عليه و لا يغبطون عليه ؛بل هو من الذل و الهوان بحيث لا يعرفه الإسلام، فمن أين نبدأ ؟ هل يكون البدأ بمحاربة الحاكمين المسلمين ؟! أو يكون البدأ بمحاربة الكفار أجمعين من كل البلاد ؟! أم يكون البدأ بمحاربة النفس الأمارة بالسوء ؟ من هنا يجب البدأ، ذلك لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله و سلم إنما بدأ بإصلاح نفوس أفراد المسلمين المدعوّين في أول دعوة الإسلام – كما ذكرنا في أول هذا الكلام- بدأت الدعوة في مكة ثم انتقلت إلى المدينة ثم بدأت المناوشة بين الكفار و المسلمين، ثم بين المسلمين و الروم، ثم بين المسلمين و فارس.. و هكذا - كما قلنا آنفاً - التاريخ يعيد نفسه0فالآن المسلمون عليهم أن ينصروا الله لمعالجة هذا الواقع الأليم، وليس بأن يُعالجوا جانباً لا يثمر الثمرة المرجوة فيها، لو استطاعوا القيام بها ! ما هو هذا الجانب ؟ محاربة الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ! هذا أولاً – كما قلت آنفاً لابد من وقفة قصيرة – غير مستطاع اليوم، أن يُحارب الحكام؛ وذلك لأن هؤلاء الحكام لو كانوا كفاراً كاليهود والنصارى؛ فهل المسلمون اليوم يستطيعون محاربة اليهود والنصارى ؟
الجواب: لا، الأمر تماماً كما كان المسلمون الأولون في العهد المكي، كانوا مستضعفين، أذلاء، محاربين، معذبين، مُقَتَّلِين لماذا ؟! لأنهم كانوا ضعفاء لا حول لهم ولا قوة، إلا إيمانهم الذي حلّ في صدورهم، بسبب إتباعهم لدعوة نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ هذا الإتباع مع الصبر على الأذى هو الذي أثمر الثمرة المرجوة؛ التي نحن ننشدها اليوم، فما هو السبيل للوصول إلى هذه الثمرة ؟ نفس السبيل الذي سلكه الرسول عليه الصلاة والسلام مع أصحابه الكرام، إذاً اليوم لا يستطيع المسلمون محاربة الكفار على اختلاف ضلالاتهم، فماذا عليهم ؟ عليهم أن يُؤمنوا بالله ورسوله حقاً، ولكن المسلمين اليوم كما قال رب العالمين {ولكن أكثرهم لا يعلمون}. المسلمون اليوم اسماً وليسوا مسلمين حقاً ! أظنكم تشعرون معي بالمقصود من هذا النفي.
ولكني أذكركم بقوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون، إلا علي أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولائك هم العادون} [4] أي الباغون الظالمون. فإذا أخذنا هذه الخصال فقط، ولم نتعد هذه الآيات المتضمنة لهذه الخصال إلى آيات أخرى؛ التي فيها ذكر لبعض الصفات والخصال التي لم تُذكر في هذه الآيات، وهي كلها تدور حول العمل بالإسلام. فمن تحققت فيه هذه الصفات المذكورة في هذه الآيات المتلوه آنفاً وفي آيات أخرى؛ أولئك هم الذين قال الله عز وجل في حقهم {أولئك هم المؤمنون حقا} [5].
فهل نحن مؤمنون حقاً ؟!
الجواب: لا، إذاً يا إخواننا لا تضطربوا!
فنحن المصلين اليوم؛ - هذه الخصلة - {قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون} هل نحن خاشعون في صلاتنا ؟ أنا ما أتكلم عن فرد، اثنين، خمسة، عشرة، مائة، مائتين، ألف، ألفين.
لا. أتكلم [6] عن المسلمين على الأقل الذين يتساءلون، ما هو الحل لما أصاب المسلمين ؟ لا أعني أولئك المسلمين اللاهين الفاسقين الذين لا تهمهم آخرتهم، وإنما تهمهم شهواتهم و بطونهم لا. أنا أتكلم عن المسلمين المصلين.
فهل هؤلاء المصلون قد اتصفوا بهذه الصفات المذكورة في أول سورة المؤمنين ؟ الجواب: كجماعة، كأمة : لا.
إذاً: ترجو النجاةَ ولم تسلكْ مسالِكَها إن السفينةَ لا تجري على اليبسِ(/4)
فلابد من اتخاذ الأسباب؛ التي هي من تمام السنن الشرعية بعد السنن الكونية؛ حتى يرفع ربنا عز وجل هذا الذل الذي ران علينا جميعاً. أنا ذكرت هذه الأوصاف من صفات المؤمنين المذكورة في أول هذه السورة، لكن هناك في الأحاديث النبوية التي نذكّر بها إخواننا دائماً، ما يُذكّر بحال المسلمين اليوم؛ وأنهم لو تذكروا هذا الحديث كان من العار عليهم أن يتساءلوا لماذا أصابنا هذا الذل ؟! لأنهم قد غفلوا عن مخالفتهم لشريعة الله، من تلك الأحاديث قوله عليه الصلاة و السلام: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم " [7]. هذا الحديث تكلمت عليه كثيراً وكثيراً جداً وبمناسبات عديدة. وإنما أنا أقف فقط عند قوله "إذا تبايعتم بالعينة".العينة : نوع من الأعمال الربوية؛ - ولا أريد أيضاً أن أدخل فيها بالذات -. فهل منكم من يجهل تعامل المسلمين بأنواع من الربا، وهذه البنوك الربوية قائمة على ساق وقدم في كل بلاد الإسلام ومعترف فيها بكل الأنظمة القائمة في بلاد الإسلام. وأعود لأقول ليس فقط من الحكام؛ بل و من المحكومين لأن هؤلاء المحكومين هم الذين يتعاملون مع هذه البنوك و هم الذين إذا نُوقشوا، و قيل لهم: أنتم تعلمون أن الربا حرام و أن الأمر كما قال عليه السلام: "درهم ربا يأكله الرجل أشد عند الله عز وجل من ستٍ وثلاثين زنية " [8] لماذا يا أخي تتعامل بالربا ؟! "بيقلك شو بدّنا نساوي – بدنا نعيش" [9] !!، إذاً العلاقة ما لها علاقة بالحكام لها علاقة بالحكام والمحكومين. المحكومون هم في حقيقة أمرهم يليق بهم مثل هؤلاء الحكام، وكما يقولون "دود الخل منّه وفيه - دود الخل منّه وفيه" [10]. هؤلاء الحكام ما نزلوا علينا من المريخ !! وإنما نبعوا منّا وفينا فإذا أردنا صلاح أوضاعنا فلا يكون ذلك بأن نعلن الحرب الشعواء على حكّامنا وأن ننسى أنفسنا؛ والمشكلة منّا وفينا؛ حيث المشكلة القائمة في العالم الإسلامي.
لذلك نحن ننصح المسلمين أن يعودوا الى دينهم. وأن يطبقوا ما عرفوه من دينهم {ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله} [11]. كل المشاكل القائمة اليوم والتي يتحمس بعض الشباب ويقول ما العمل ؟! سواءٌ قلنا ما هو بجانبنا من المصيبة التي حلت بالعالم الإسلامي والعالم العربي ! وهي احتلال اليهود لفلسطين، أو قلنا محاربة الصليبين للمسلمين بإرتيريا وفي الصومال، في البوسنة والهرسك في في0000 إلى آخر البلاد المعروفة اليوم. هذه المشاكل كلها لا يمكن أن تعالج بالعاطفة وإنما تعالج بالعلم والعمل. {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } [12]، {وقل اعملوا} الآن نقف عند هذه النقطة. العمل للإسلام اليوم في الساحة الإسلامية، له صور كثيرة وكثيرة جداً، وفي جماعات وأحزاب متعددة، والحقيقة أن هذه الأحزاب من مشكلة العالم الإسلامي التي تكّبر المشكلة أكثر مما يراها بعضهم. بعضهم يرى أن،المشكلة احتلال اليهود لفلسطين – أن المشكلة ما ذكرناه آنفاً، محاربة الكفار لكثير من البلاد الإسلامية وأهلها – لا!
نحن نقول: المشكلة أكبر وهي تفرق المسلمين. المسلمون أنفسهم متفرقون شيعاً وأحزاباً خلاف قول الله تبارك وتعالى: {ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزبٍ بما لديهم فرحون} [13]. الآن الجماعات الإسلامية مختلفون في طريقة معالجة المشكلة التي يشكو منها كل الجماعات الإسلامية، وهي الذل الذي ران على المسلمين، وكيف السبيل إلى الخلاص منه ؟
هناك طرق:(/5)
الطريقة الأولى: هي الطريقة المثلى التي لا ثاني لها، وهي التي ندعو إليها دائماً وأبداً. وهي فهم الإسلام فهماً صحيحاً وتطبيقهُ وتربية المسلمين على هذا الإسلام المصفّى، تلك هي سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ كما ذكرنا ونذكر أبداً. فرسول الله بدأ بأصحابه أن هداهم إلى الإيمان بالله ورسوله- أن علمهم بأحكام الإسلام-، وكانوا يشكون إليه ما يصيبهم من ظلم المشركين وتعذيبهم إياهم، كان يأمرهم بالصبر، يأمرهم بالصبر ! وأن هذه سنة الله في خلقه أن يُحارب الحق بالباطل وأن يُحارب المؤمنون [14] بالمشركين وهكذا، فالطريقة الأولى لمعالجة هذا الأمر الواقع هي العلم النافع والعمل الصالح. هناك حركات ودعوات أخرى، كلها تلتقي على خلاف الطريقة الأولى والمثلى والتي لا ثاني لها وهي اتركوا الإسلام الآن جانباً ! من حيث وجوب فهمه ! ومن حيث وجوب العمل به ! الأمر الأن أهم من هذا الأمر ! وهو أن نجتمع وأن نتوحد على محاربة الكفار !! سبحان الله، كيف يمكن محاربة الكفار بدون سلاح ؟! كل إنسان عنده ذرّة عقل أنه إذا لم يكن لديه سلاح مادي فهو لا يستطيع أن يحارب عدوه المسلّح، ليس بسلاح مادي بل بأسلحةِ مادية !. فإذا أراد أن يحارب عدوه - هذا -المسلح وهو غير مسلح ماذا يقال له ؟ حاربه دون أن تتسلح ؟! أم تسلح ثم حاربه ؟(/6)
لا خلاف في هذه المسآله أن الجواب: تسلح ثم حارب، هذا من الناحية المادية، لكن من الناحية المعنوية الأمر أهم بكثير من هذا، إذا أردنا أن نحارب الكفار؛ فسوف لا يمكننا أن نحارب الكفار بأن ندع الإسلام جانباً؛ لأن هذا خلاف ما أمر الله عز وجل ورسوله المؤمنين في مثل آيات كثيرة منها قوله تعالى {والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [15]. {إن الإنسان لفي خسر}. نحن بلا شك الآن في خسر. لماذا ؟! لأننا لم نأخذ بما ذكر الله عز وجل من الاستثناء حين قال: {إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}. نحن الآن نقول آمنا بالله ورسوله، ولكن ! حينما ندعو المسلمين المتحزبين المتجمعين المتكتلين على خلاف دعوة الحق – الرجوع إلى الكتاب والسنة – يقولون هذا ندعه الآن جانباً! الأمر أهم !. هو محاربة الكفار !، فنقول: بسلاح أم بدون سلاح ؟ !. لابد من سلا حين، السلاح الأول: السلاح المعنوي، وهم يقولون الآن دعوا هذا السلاح المعنوي جانباً ! وخذوا بالسلاح المادي ! ثمّ، لا سلاح مادي !! لأن هذا غير مستطاع بالنسبة للأوضاع التي نُحكم بها الآن؛ ليس فقط من الكفار المحيطين بنا من كل جانب؛ بل ومن بعض الحكام الذين يحكموننا ! فنحن لا نستطيع اليوم رغم أنوفنا أن نأخذ بالاستعداد بالسلاح المادي – هذا لا نستطيعه –. فنقول : نريد نحارب بالسلاح المادي ! وهذا لا سبيل إليه، والسلاح المعنوي الذي هو بأيدينا – {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [16] – العلم ثم العمل في حدود ما نستطيع، هذا نقول بكل بساطة متناهية دعوا هذا جانباً ! هذا مستطاع ونؤمر بتركه جانباً ! وذلك غير مستطاع. فنقول : يجب أن نحارب !! وبماذا نحارب ؟! خسرنا السلاحين معاً؛ السلاح المعنوي العلمي نقول نؤجله ! لأنه ليس هذا وقته وزمانه !! السلاح المادي لا نستطيعه فبقينا خراباً يباباً ضعفاء في السلاحين المعنوي والمادي. إذا رجعنا إلى العهد الأول الأنور؛ وهو عهد الرسول عليه السلام الأول، هل كان عنده سلاح مادي ؟ الجواب، لا بماذا إذاً كان مفتاح النصر ؟ آلسلاح المادي أم السلاح المعنوي ؟ لاشك أنه السلاح المعنوي، وبه بدأت الدعوة في مثل تلك الآية {فاعلم أنه لا إله إلا الله} إذاً العلم- قبل كل شئ – إذاً بالإسلام قبل كل شئ ثم تطبيق هذا الإسلام في حدود ما نستطيع. نستطيع أن نعرف العقيدة الإسلامية - الصحيحة طبعاً – نستطيع أن نعرف العبادات الإسلامية، نستطيع أن نعرف الأحكام الإسلامية، نستطيع أن نعرف السلوك الإسلامي ، هذه الأشياء كلها مع أنها مستطاعة فجماهير المسلمين بأحزابهم وتكتلاتهم هم معرضون عنها؛ ثم نرفع أصواتنا عاليةً نريد الجهاد ! أين الجهاد ؟! مادام السلاح الأول مفقود والسلاح الثاني غير موجود بأيدينا ؟!! نحن لو وجدنا اليوم جماعة من المسلمين متكتلين حقاً على الإسلام الصحيح وطبقوه تطبيقاً صحيحاً، لكن لا سلاح مادي عندهم؛ هؤلاء يأتيهم أمره تعالى في الآية المعروفة: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةً، ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} [17] لو كان عندنا السلاح الأول المعنوي؛ فنحن مخاطبون بهذا الإعداد المادي. فهل نحارب إذا لم يكن عندنا إعداد مادي ؟! الجواب : لا.لأننا لم نحقق هذه الآية التي تأمرنا بالإعداد المادي؛ فما بالنا، كيف نستطيع أن نحارب ونحن مفلسون من السلاحين المعنوي والمادي ؟ !. المادي الآن لا نستطيعه، المعنوي نستطيعه؛ إذاً {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } [18]. {فاتقوا لله ما استطعتم} [19] فالذي نستطيعه الآن هو العلم النافع والعمل الصالح.
لعلي أطلت في هذا الجواب أكثر من اللازم، لكني أنا ألخص الآن فأقول:
ليست مشكلة المسلمين في فلسطين فقط - يا إخواننا-، لأنه مع الأسف الشديد من جملة الانحراف التي تصيب المسلمين اليوم؛ أنهم يخالفون علمهم عملاً ! حينما نتكلم عن الإسلام وعن الوطن الإسلامي، نقول: كل البلاد الإسلامية هي وطن لكل مسلم؛ ما في فرق بين عربي وعجمي، ما في فرق بين حجازي وأردني ومصري 00000 و إلى آخره، لكن هذه الفروق العملية موجودة، هذه الفروق عمليه موجودة ! ليس فقط سياسياً؛ هذا غير مستغرب أبداً، لكن موجودة حتى عند الإسلاميين ! مثلاً تجد بعض الدعاة الإسلاميين يهتمون بفلسطين؛ ثم لا يهمهم ما يصيب المسلمين الآخرين في البلاد الأخرى. مثلاً: حينما كانت الحرب قائمة بين المسلمين الأفغان وبين السوفييت وأذنابهم من الشيوعيين، لماذا ؟! لأن هؤلاء مثلاً ليسوا سوريين ! مصرين ! أو ما شابه ذلك. إذاً المشكلة الآن ليست محصورة في فلسطين فقط؛ بل تعدت إلى بلاد إسلامية كثيرة فكيف نعالج هذه المشكلة العامة ؟ بالقوتين المعنوية والمادية، بماذا نبدأ ؟(/7)
نبدأ قبل كل شيء بالأهم فالأهم وبخاصة إذا كان الأهم ميسوراً؛ وهو السلاح المعنوي – فهم الإسلام فهماً صحيحاً وتطبيقه تطبيقاً صحيحاً ثم السلاح المادي إذا كان ميسوراً. اليوم - مع الأسف الشديد –؛ الذي وقع في أفغانستان.... الأسلحة التي حارب المسلمون – الأسلحة المادية – التي حارب المسلمون بها الشيوعيين هل كانت أسلحة إسلامية ؟ الجواب: لا.
كانت أسلحة غربية، إذا نحن الآن من ناحية السلاح المادي مستعبدون؛ لو أردنا أن نحارب وكنا أقوياء من حيث القوة المعنوية، إذا أردنا أن نحارب بالسلاح المادي فنحن بحاجة إلى أن نستورد هذا السلاح؛ إما بالثمن وإما بالمنحة أو شيء مقابل شيء ! كما تعلمون السياسة الغربية اليوم على حدّ المثل العامّي: "حكّلّي لحكّلّك"! يعني أي دوله الآن حتى بالثمن لا تبيعك السلاح إلا مقابل تنازلات. تتنازل أنت أيها الشعب المسلم مقابل السلاح الذي تدفع ثمنه أيضاً فإذاً يا إخواننا الأمر ليس كما نتصور عبارة عن حماسات وحرارات الشباب وثورات كرغوة الصابون تثور ثم تخور في أرضها لا أثر لها إطلاقاً !. أخيراً أٌقول {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله..} إلى آخر الآية.
لكن أكرر أن العمل لا ينفع إلا إذا كان مقروناً بالعلم النافع؛ والعلم النافع إنما هو قال الله قال رسول الله كما قال إبن القيم رحمه الله:
العلم قال الله قال رسولهُ*** قال الصحابةُ ليس بالتمويهِ
ما العلمُ نصبَكَ للخلاف سفاهةً*** بين الرسولِ وبين قولِ سفيهِ
كلا ولا جحد الصفات ونفيها*** حذرا من التعطيل التشويهِ
مصيبة العالم الإسلامي مصيبة أخطر – وقد يستنكر بعضكم هذا الذي أقوله !-مصيبة العالم الإسلامي اليوم أخطر من احتلال اليهود لفلسطين ! مصيبة العالم الإسلامي اليوم أنهم ضلوا سواء السبيل. أنهم ما عرفوا الإسلام الذي به تتحقق سعادة الدنيا والآخرة معاً. وإذا عاش المسلمون في بعض الظروف أذلاء مضطهدين من الكفار والمشركين وقتّلوا وصلّبوا ثم ماتوا فلا شك أنهم ماتوا سعداء ولو عاشوا في الدنيا أذلاء مضطهدين. أما من عاش عزيزاً في الدنيا وهو بعيد عن فهم الإسلام كما أراد الله عز وجل ورسوله فهو سيموت شقياً وإن عاش سعيداً في الظاهر.
إذاً بارك الله فيكم: العلاج هو فرّوا الى الله ! العلاج فرّوا الى الله ! فرّوا الى الله تعني أفهموا ما قال الله وقال رسول الله واعملوا بما قال الله وما قال رسول الله. وبهذا أنهي هذا الجواب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
[1] الآية رقم 1-3 من سورة الروم.
[2] الآية رقم 7 من سورة محمد.
[3] الآية رقم 3 من سورة الصف.
[4] الآيات رقم 1–7 من سورة المؤمنون.
[5] الآية رقم 4 وكذا رقم 74 كلتاهما من سورة الأنفال.
[6] في الأصل: بتكلم باللهجة العامية حسب عادة الشيخ أحياناً في الفتاوى والمحاضرات وما أثبتناه هو المعهود لغةً.
[7] أخرجه أبو داود في سننه رقم 3462 وأحمد في مسنده رقم 5007، 5562 و الطبراني في مسند الشاميين رقم 2417 وغيرهم كلهم من حديث ابن عمر مرفوعاً.
[8] أخرجه أحمد في مسنده رقم 22007، 22008 والدارقطني في سننه 3/16 وغيرهما عن عبد الله بن حنظلة.
[9] باللهجة السورية العامية.
[10] مثل عامي شُهِر في بعض بلاد الشام.
[11] الآية رقم 5 من سورة الروم.
[12] الآية رقم 105 من سورة التوبة.
[13] الآية رقم 32 من سورة الروم.
[14] في الأصل بالياء والصحيح ما أثبتناه لكونه نائباً عن الفاعل.
[15] سورة العصر.
[16] الآية رقم 19 من سورة محمد.
[17] الآية رقم 60 من سورة الأنفال.
[18] الآية رقم 286 سورة البقرة.
[19] الآية رقم 16سورة التغابن.(/8)
عندما نضع الآخرين في قفص السذاجة!!
أحمد حمدان*
- نضع الآخرين في قفص السذاجة عندما نلغي شخصياتهم؛ ونحولهم إلى أجسام آلية تتحرك بالريموت كنترول.
- نضع الآخرين في قفص السذاجة عندما ننصب أنفسنا كمراقبين لحركاتهم وسكناتهم..
- ونضعهم في القفص المذكور عندما نظن – لحاجة في أنفسنا – أننا نعرف كل شيء؛ وبالتالي فلا حرج من أن نصدر التعليمات يمنة ويسرة، ولا بأس عندها من تغليفها – أحيانا – ببعض الألوان والميزات الاجتماعية، ونحوها!!
فعندما ترسل ابنك لمهمة ما، وتقول له: (امش بالشارع الفلاني، واركب المواصلات الفلانية، وأوعك تقيف مع أصحابك، وقول لعمك فلان أبوي قال ليك.. وأوعك تتأخر..) أليست العبارات السابقة تأطيراً لهذا الابن المسكين، ووضعا له في قفص السذاجة؟!
وعندما ترسل الأم ابنها لسوق الخضار مثلا فإنها لا تدع له هامشا للاختيار أو المناورة (اشتر اللحمة من المحل الفلاني، والخضار من دكان ناس فلان، والطماطم ...، والزيت من البقالة الفلانية ...، وجيب الباقي).. وتضاف عادة عبارة (وما تتأخر) دون النظر في أسباب ذلك التأخر إن حدث في مرة أو مرات سابقة!!
فماذا لو أن هذه الأم أعطت الابن قائمة بما تريد دون تحديد أماكن شراء تلك الأشياء؛ ليجد الابن فرصة للاختيار، والمقارنة، والتعلم بالممارسة؛ فضلاً عن أن تترك له اختيار (الخضار المناسب لذلك اليوم)؟!
وفي المدرسة تزعجني الأسئلة الساذجة من قبيل:
- يا أستاذ! ممكن تكتب بقلم أخضر؟
- يا أستاذ! نسطر الكراسات؟
- يا أستاذ! نسيت كراسي؛ ممكن أكتب في ورقة؟
- يا أستاذ! نكتب خلاص؟
وهي أسئلة ساذجة، خاصة وأنها صادرة من طلبة ينتظر منهم المبادرة، والجرأة، والانطلاق إلى الأمام؛ بالرغم من أنهم لا ذنب لهم – برأيي – فيما وصلوا إليه من سذاجة!!.. فمن الذي أوصلهم إلى هذه الحال؟ ومن الذي وضعهم في هذا القفص؟
الجواب: أنهم جاؤوا من بيوتهم بشحنات من السذاجة؛ فالواحد منهم لم يعتد على المبادرة، والاختيار، والبحث عن البدائل، بل إن بعضهم يحدد له أبواه الشارع الذي يذهب به إلى المدرسة، ومن يرافقه في الذهاب والعودة، إلى غير ذلك من الأشياء والتصرفات (المحددة مسبقاً)!!
وعندما يأتي ذلك الطالب المسكين إلى المدرسة يستمر معه المسلسل (البايخ) نفسه، وتصرف له التعليمات (بالكوم)؛ دون النظر إلى صلاحية تلك التعليمات، أو مراعاة آثارها الجانبية..
- ما تكتب بقلم أسود!!
- جلد الكراسات بجلاد أصفر!!
- ما تكتب أثناء الشرح!!
- ما تنط بالشباك!!
- ما تجي بقميص ملون!!
وتستمر التعليمات في التزايد يوماً بعد آخر؛ حتى يصل الأمر بالطالب إلى عدم المقدرة على فعل أي شيء ما لم يستفسر حضرات المعلمين!! فماتت المبادرة، واغتيلت الروح، وفقدت الجرأة!!
عندما نلغي شخصيات الآخرين؛ ولا ندع لهم هامشاً للحركة والمبادرة والاختيار فإننا نكون قد أطرناهم بأمزجتنا؛ دون مراعاة لشخصياتهم، ونفسياتهم!!
- فماذا لو زرعنا الثقة في نفوس أبنائنا وطلابنا؟
- ماذا لو تركنا لهم هامشا – صغيرا أو كبيرا – للتعبير عن بعض رغباتهم وآرائهم؟
- ماذا لو عرضنا لهم اللوائح والتعليمات بصيغة بنود للحوار والنقاش والأخذ والرد؟ وماذا لو استمعنا لآرائهم وأفكارهم بصدور رحبة؟
لو حدث كل ذلك – أو بعضه – لوجدنا الطالب محبا لمدرسته ومعلميه، حريصا على دروسه وواجباته؛ لأنه سيسعد حينها بذاته وشخصيته!!
لو حدث كل ذلك أو بعضه لنشأ ناشئ الفتيان منا على المسؤولية، والثقة بالنفس، والمبادرة، والجرأة!!
لكن إلى أن يصبح الأمر كذلك.. معذرة أبناءنا وأحباءنا الصغار فقد افترضنا فيكم السذاجة (والجهل) بدعوى التوجيه والتربية؛ فاقبلوا اعتذارنا!!(/1)
عندما يحكم الإسلام وعندما تحكم الجاهلية(1/2)
رؤية إسلامية للأحداث المعاصرة في ضوء السيرة النبوية
د. منير محمد الغضبان 18/1/1423
01/04/2002
الجاهلية التي نتحدث عنها اليوم هي جاهلية القرن الحادي والعشرين التي مثّلها النظام الأمريكي الزاعم بأنه يمثل أقصى ما وصلت إليه البشرية من تقنين لقضايا الحرية، وقضايا حقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب وملاحقته في كل مكان في الأرض ولو احتملت الحرب خمسين عاماً فلا يضره ذلك... هذا هو حكم الجاهلية .
أما حكم الإسلام فنعرض له من خلال فتح مكة على يدي رسول رب العالمين محمد عليه الصلاة والسلام، فأمريكا هي الأقوى اليوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأقوى آنذاك وسيتم هذا العرض والمقارنة في سبع قضايا محددة.
:القضية الأولى:الدولتان تعرضتا لاعتداء
فالولايات المتحدة الأمريكية تستيقظ على هجوم عليها صباح الثلاثاء الحادي عشر من سبتمبر إذ تنقض طائرات مدنية على برجي التجارة فتدمرهما تدميراً كاملاً، وتضرب (البنتاغون) مقر وزارة الدفاع الأمريكية، وتكون الضحايا البشرية قرابة أربعة آلاف شخص من القتلى كما تقول الإحصائيات الرسمية، والخسائر المدنية بالملايين، وتصيب الاقتصاد الأمريكي في قلبه.
في المدينة المنورة عاصمة دولة الإسلام يصل وفد خزاعة، حليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن له أن قريشاً وحليفتها قبيلة بكر قد انقضوا على خزاعة ليلاً وقتلوهم ركعاً وسجداً. إذ يقول وافد خزاعة وسيدها عمرو بن سالم:
يا رب إني ناشدٌ محمداً ... ...
حِلْفنا وحلف أبيه الأتلدا
قد كنتم ولداً وكنا والداً ... ...
ثمّة أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا ً أَيَّدا ... ...
ادْع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسولُ الله قد تجرّدا ... ...
أبيض مثل البدر يسمو صُعُدا
إن سيم خسْفًا وجهُهُ تربّدا ... ...
في فيلقٍ كالبحر يجري مُزْيداً
إنّ قريشًا أخلفوك الموعدا ... ...
ونقضوا ميثاقَك المؤكدا
وجعلوا لي في كُداء رصدا ... ...
وزعموا أنْ لسْتُ أدعو أحدًا
وهم أذلّ وأقلّ عددا ... ...
هم بيتونا بالوتير هجّدا
وقتلونا ركّعاً وسجّدا
إذن هو اعتداء سافر من حلفاء قريش نفسها التي هادنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيقاف الحرب معه عشر سنين فنقضتها هي وحلفاؤها .
القضية الثانية: التثبّت من هوية المعتدين
لقد تخبط الإعلام الأمريكي في تحديده لهوية المنفذين لدرجة ذكره ألف دليل للتعرف على هوية المنفذين للهجوم الأخير وقياساً على تفجير المدمرة "كول" فقد استغرقت التحقيقات عامين كاملين ولم يصدر بعد التقرير النهائي عن الهجوم، وفي (22/2/2000) أعلن عن كشف كثير من المعلومات والأدلة الجديدة في تفجير المدمرة كول والذي حدث في شهر( 3/ 2000 ). وقياساً على هذه الدقة في التحقيق؛ فيحتاج حادث الأبراج لأربع سنين على الأقل للتثبت من هوية المنفذين والمخططين. لكن العالم فوجئ بأن التسعة عشر هم المنفذون وأن المدبر للعملية هو "أسامة بن لادن" بعد أقل من أسبوع واحد وأعلنت أمريكا الحرب على "ابن لادن"، وطالبت دولة "طالبان" بتسليمه من دون تقديم أي دليل على أنه هو الذي خطط ونفذ الهجوم على الأبراج و(البنتاغون).وأعلنت دولة "طالبان" استعدادها لتسليمه إلى محكمة عادلة لو قدمت أمريكا الأدلة على ذلك. فرفضت أمريكا العرض الأفغاني وأعلنت الحرب على دولة "طالبان" مالم تسلم دولة أفغانستان "ابن لادن" إليها خلال أقل من شهر. هذا في دولة الجاهلية الحديثة التي تمثل أعلى مستويات العدالة والحرية في الأرض كما تزعم. فماذا في دولة "النبوة" ؟
لقد جاء الوحي من السماء بنقض قريش للعهد فقد روى محمد بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة صبيحة كانت وقعة بني نفاثة وخزاعة بالوتير: يا عائشة لقد حدث في خزاعة أمر. فقالت عائشة: يا رسول الله، أترى قريشاً تجترئ على نقض العهد الذي بينك وبينهم، وقد أفناهم السيف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ينقضون العهد لأمر يريده الله تعالى. فقالت: يا رسول الله خير؟ قال : خير.
ورغم ذلك فقد بعث يتثبت من صحة الأمر من قريش أنفسهم :
قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: إن ركب خزاعة لما قدموا على رسول الله وأخبروه خبرهم قال: فمن تهمتكم وظنتكم ؟ قالو : بنو بكر . قال أكُلُّها ؟ قالوا : لا ,ولكن بنو نفاثة قصرة ورأس القوم نوفل بن معاوية النفاثي ، قال : هذا بطن من بني بكر ، وأنا باعث إلى أهل مكة أسألهم عن هذا الأمر ومخيرهم بين خصال ثلاث .))
فبعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى ثلاث:
بين أن يدوا قتلى خزاعة، أو يبرؤوا من حلف بني نفاثة, أو يُنبذ إليهم على سواء.(/1)
فأتاهم ضمرة رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهم بالذي أمره رسول الله به فقال قرظة بن عبد عمرو الأعمى: أما إن ندِي قتلى خزاعة. فإن نفاثة فيهم عُرام (قوة الشراسة ) فلا ندِيهم.. وأما أن نتبرأ من حلف نفاثة فإنه ليس قبيلة من العرب تحج هذا البيت أشد تعظيماً له من نفاثة وهم حلفاؤنا فلا نبرأ من حلفهم.. ولكن ننبذ إليه على سواء.فرجع ضمرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك من قولهم. فهم لم ينفوا دور بني بكر في ذلك؛ لأن الأمر وصل إلى داخل مكة فلم يزالوا يقتلونهم حتى انتهوا إلى أنصاب الحرم. فقال أصحاب نوفل بن معاوية له:
يا نوفل، إلهك إلهك، قد دخلت الحرم فقال: لا إله لي اليوم يابني بكر، إنكم لتسرقون الحاج في الحرم.أفلا تدركون ثأركم من عدوكم، ولا يتأخر أحد منكم بعد يومه عن ثأره. ودخلت رؤساء قريش منازلهم وهم يظنون أنهم لا يعرفون.وأنه لا يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأصبحت خزاعة مقتلين على باب بديل ورافع . وأدرك أبو سفيان خطورة إعلان الحرب على محمد، وعدم البراءة من بكر، وعدم دفع ديات خزاعة. فقال: ما الرأي إلا جَحْد هذا الأمر.. والله ليغزونا محمد إن صدقني ظني وهو صادقي. ولا بد من أن آتي محمداً فأكلمه أن يزيد الهدنة ويجدد في العهد.
وجاء دور الموقف السياسي
فجاء أبو سفيان المدينة. ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال: يا محمد، إني كنت غائباً عن صلح الحديبية فاشدد العهد وزدنا في المدة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم((فلذلك جئت يا أبا سفيان ؟ )) قال:نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل كان قبلكم من حدث ؟)) قال: معاذ الله، نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل. فقال رسول الله صلى عليه وسلم (( فنحن على مدتنا وصلحنا يوم الحديبية لانغير ولا نبدل)) فأعاد أبو سفيان القول على رسول الله فلم يرد عليه شيئاً.
إن أبا سفيان هو القائد الأعلى لقريش، وبناء على جواب قريش بإعلان الحرب؛ كان بإمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتقله أويقتله. فهو رئيس دولة مكة. وينكر نقض العهد، وهو في حالة حرب مع المسلمين بعد هذا النقض. فجحد ما جرى كله، وجاء الجواب النبوي: ((إنه إذ لم يكن هناك حَدَث)) فنحن على الصلح وأدرك أبو سفيان إخفاق سِفارته، وفشل سياسة التجاهل وعاد إلى مكة،فقال له قومه:ما وراءك،
هل جئت بكتاب من محمد أو زيادة في مدة ما نأمن به أن يغزونا محمد؟
فقال: والله لقد أبى عليّ، وفي لفظ: لقد كلمته فلم يرد عليّ شيئاً. ولم يعتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان، ولم يقتله ،حتى لا تنكشف المخططات النبوية في قرار غزو مكة وفتحها بعد أن نبذت له على سواء.
القضية الثالثة: الحرب الجاهلية والحرب الإسلامية:
هذه هي حرب أمريكا في أفغانستان بدون تقديم أدلة، وبدون إثباتات. تضع هدفها الأكبر القضاء على تنظيم معين ونظام حكم كان يحتويه .
يقول الأستاذ أحمد منصور واصفاً هذه الحرب:
أخذت الولايات المتحدة الأمريكية زمام القانون بيدها في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر الماضي أصبحت هي الخصم والحكم في مواجهة كل من تعتقد أنه يهدد أمنها ومصالحها دون حاجة إلى أدلة أو إثباتات؛ فقامت بحرب طاحنة في أفغانستان أزالت فيه نظام "طالبان" عن السلطة، وولت نظاماً جديدًا حليفًا لها، ونتج عن حملتها العسكرية على أفغانستان تدمير عشرات القرى، ومقتل آلاف الأفغان من المدنيين وتشريد عشرات الآلاف، عدا القتلى من تنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان". وذلك وفق تقارير عديدة أهمها التقرير الذي أصدره البر فسور الأمريكي (مارل دبليوهيرولد) من جامعة ((ديوها مبشير)) حول القتلى المدنيين الأفغان والذي قدرهم من بداية الهجوم الأمريكي في السابع من أكتوبر وحتى الثالث من ديسمبر الماضي فقط بأنهم ثلاثة آلاف وسبعمائة وسبعة وستون قتيلاً من الأطفال والنساء والعجائز والعزل ولا يزال القصف الأمريكي مستمراً حتى الآن، والآن تدور في الأفق (سنياريوهات) عن أهداف أخرى وعلى رأسها العراق والصومال، هذه هي حرب الأشهر الأربعة، وهذه ثمارها المرة في الشعب الأفغاني فماذا عن فتح مكة ؟
وقع أبو سفيان أسيراً بيد محمد صلى الله عليه وسلم، وبدلاً من أن يمثل به أو ينز ل به أشد أنواع التعذيب قبل التنكيل به وقتله، ويضع رأسه على الرمح معلناً بذلك انتصاره على قريش، نستمع معاً إلى هذا الحوار:
رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا سفيان ألم يأنِ لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟
أبو سفيان: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك! إنه لو كان مع الله إله، لأغنى عني شيئاً بعد، لقد استنصرت إلهي.واستنصرت إلهك، فو الله ما لقيتك مرة إلا نُصِرت عليّ، فلو كان إلهي محقاً و إلهك مبطلاً لغلبتك !
رسول الله:ويحك يا أبا سفيان ألم يأنِ لك أن تعلم أني رسول الله ؟(/2)
أبو سفيان:بأبي أنت وأمي يا محمد ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك! أما هذه فوالله إن في النفس منها شيئاً حتى الآن... وظاهر كلام ابن عقبة ومحمد بن عمر في مكان آخر أن أبا سفيان قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله من غير أن يعرض ذلك عليه أحد.
قال أبو سفيان وحكيم بن خزام:جئت بأوباش الناس من يعرف ومن لا يعرف إلى أهلك وعشيرتك (أي لفتح مكة )؟!
رسول الله: أنتم أظلم وأفجر قد غدرتم بعهد الحديبية،وظاهرتم على بني كعب (خزاعة)بالإثم والعدوان في حرم الله تعالى وأمنه
قال حكيم وأبو سفيان: صدقت يا رسول الله
قالا:يا رسول الله لو كنت جعلت حدتك ومكيدتك "لهوازن" فهم أبعد رحماً وأشد عداوة لك.
رسول الله:إني لأرجو ربي أن يجمع لي ذلك كله فتح مكة وإعزاز الإسلام،وهزيمة "هوازن" وغنيمة أموالهم وذرا ريهم؛ فإني لأرغب إلى الله تعالى في ذلك .
أبوسفيان وحكيم: يا رسول الله، ادع الناس بالأمان: أرأيت إن اعتزلت قريش وكفت أيديها آمنون هم؟
رسول الله: نعم..
العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان وجه الشرف والفخر فاجعل له شيئاً.
رسول الله: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.
وأثمرت المفاوضات عن إعطاء الأمان لدولة مكة وشعب مكة إذا كفوا عن القتال ودخلوا بيوتهم.
غير أن فريقاً من المتطرفين رفضوا هذه المفاوضات، وكانت قيادتهم لعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو، وهند بنت عتبة زوجة أبي سفيان.فواجهوا فصيل الجيش الإسلامي الذي يقوده خالد بن الوليد، ووقعت الحرب لعدة ساعات.ثم انهزم جيش مكة وفرت قياداته وقتل منهم أربعة وعشرون رجلاًمن قريش،وأربعة من هذيل ومع ذلك أجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حساباً لخالد على حربه.
رسول الله:لم قاتلت وقد نُهيت عن القتال؟
خالد:يا رسول الله هم بدؤونا بالقتال ورشقونا النبل. ووضعوا فينا السلاح.وقد كففت ما استطعت.وقد دعوتهم إلى الإسلام، وأن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فأبوا حتى إذا لم أجد بداً قاتلتهم فظفرنا الله تعالى عليهم فهربوا في كل وجه
رسول الله:كف عن الطلب.
خالد: قد فعلت.
القضية الرابعة:آثار الحرب على أفغانستان:
على الرغم من أن أفغانستان تصنف ضمن الدول الأكثر فقراً في العالم إلا أنها تعرضت لأقسى حربين من أكبر قوتين في العالم خلال عقدين من الزمان بحيث لم يبق شبر من أراضيها إلا وزرع بصاروخ أو قنبلة أو لغم، وأكملته الحرب الأهلية بتدمير ما تبقى من مظاهر الحياة الإنسانية في هذا البلد البائس..إن إعادة بعث أفغانستان من الركام بعد ثلاثة وعشرين عاماً من الخراب والتدمير والصراعات تبدو من المهمات الصعبة إن لم تكن المستحيلة نتيجة كبر حجم المشكلة. فقد تسببت هذه الحروب في تشريد نحو ستة ملايين أفغاني بالإضافة إلى مليون مشرد داخل أفغانستان كما يتهدد الجوع نحو سبعة ملايين آخرين. فيما دُمرت الطرق والمؤسسات والمنازل، ويقول تقرير البنك الدولي: إن المؤسسات الاقتصادية للدولة الرئيسة مثل البنك المركزي، والخزانة، والضرائب، والجمارك، والإحصاءات، والخدمات، والأمن والقانون والنظام الفضائي في حالة ضعف شديدة أوغير موجودة في الأصل. وكدليل على تردي الأوضاع الاقتصادية فإن نسبة الوفيات بين الأطفال تصل 49%.
وهي من أعلى النسب في العالم ومعدل العمر لا يتعدى سبعة وأربعين عاماً للرجال وخمسة وأربعين عاماً للنساء ونسبة الذين تعلموا القراءة والكتابة لا تتجاوز 32 % .و6% فقط من السكان يحصلون على مياه صالحة للشرب. كما أصابت الألغام القوى العاملة بالشلل التام إذ سيجد كل عائد إلى أفغانستان أكبر نسبة من المعاقين في العالم. مع سقوط ما يصل إلى خمسمائة ضحية شهرياً بسبب الألغام ومخلفات القنابل، وتقول الأمم المتحدة: إن ما يتراوح بين خمسة وعشرة ملايين لغم مازالت مزروعة في أفغانستان. عدا تلك التي سنخلفها الغارات الأمريكية المجتمع الكويتية (العدد 1484) عن خدمة وكالة (قدس برس)، ونحن نعلم أن هذه آثار حرب مدتها ثلاثة وعشرون عاماً في أفغانستان، وليست آثار حرب أربعة أشهر. لكننا نعلم كذلك أن القنابل التي استعملت في هذه الحرب لا مثيل لها في تاريخ البشرية، ونعلم أن الحرب التي شنتها أمريكا من أجل شخص في أفغانستان؛ إنما شنت على دولة بهذه المواصفات، وشعب بهذه المواصفات وأضخم الجرائم الأمريكية على الإطلاق هو الجانب الاجتماعي إذ غذّت وأججت الأحقاد والثارات في أبناء الشعب الأفغاني، إذ سندت فريقًا وطائفة وحزباً على حساب آخر. "فطالبان" تدمَّر. وتحالُفُ الشمال يَقتل ويحَتل ويُنكَّل كل هذا لمصلحة أمريكا، وعقوبة "لطالبان" التي آوت "ابن لادن" ولم تسلمه لهم. فمن أجل شخص يُدمّر شعب وتحطم أمة !!
فماذا عن نتائج فتح مكة ؟ عند إمام الأنبياء في معركة الثأر والانتقام ممن أخرجوه وحاربوه وطاردوه وقادوا الجيش لاستئصال شأفته. واجتثاث دينه وصحبه.(/3)
1-حادث سرقة لأخت أبي بكر الصديق لم يعرف صاحبها ، فقام أبو بكر فأخذ بيد أخته فقال: (أنشدكم بالله والإسلام طوق أختي )فوالله ما جاء أحد ثم قال الثانية والثالثة فما جاء به أحد فقال: (ياأخية، احتسبي طوقك فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل).
2- حادث سرقة آخر قامت به امرأة قرشية مخزومية ضبطت متلبسة بجرمها، وجرت محاولات ووساطات كبرى لتفادي عقوبتها بقطع يدها.
روى البخاري عن عروة بن الزبير أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح.ففزع قومها إلى "أسامة بن زيد" يستشفعونه.
قال عروة: فلما كلمه أسامةُ فيها تلوّن وجه رسول الله صلى الله عله وسلم.فقال: أتكلمني في حد من حدود الله؟
قال أسامة:استغفر لي يا رسول الله.
فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فأثنى على الله بما هو أهله
ثم قال:(أما بعد فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها.فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت.قالت عائشة:فكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)
البخاري 4304
3_ حادثة قتل واحدة لثأر قديم:
أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم لخزاعة حق الثأر لنفسها ساعة محددة من النهار بعد أن قُتل منها أربعة وعشرون رجلاً غدراً ونُهبت أموالها فقال:( كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر إلى صلاة العصر فخبطوهم ساعة وهي الساعة التي أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.فلما كان بعد الفتح بيوم أقبل خراش بن أمية فحمل على جندب بن الأدلع الهذلي ،فطعنه في بطنه فمات.فجعلت حشوته تسيل من بطنه فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.فقال:يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل فقد والله كثر إن نفع.إن أعدى الناس على الله من قتل في الحرم أو قتل غير قاتله أو قتل بذحول الجاهلية.فقد قتلتم قتيلاً لأدِينه. فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين إن شاؤوا فديته كاملة وإن شاؤوا فقتله.ثم فدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي قتلته خزاعة.قال ابن هشام مائة ناقة. وبلغني أنه أول قتيل وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم )سبل الهدى والرشاد للصالحي 5 |384، 383
4_ بيوت المسلمين المهاجرين جميعاًكانت في مكة وهي حقهم المغتصب، ومع ذلك فقد أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم استردادها، بل نزل خارج مكة.فقد روى البخاري وغيره عن أسامة بن زيد أنه قال:يا رسول الله أين تنزل غداً ؟تنزل في دارك ؟قال:وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دار )وكان عقيل قد باع منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكة فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:انزل في بعض بيوت مكة غير منازلك فأبى رسول الله صلى عليه وسلم وقال: لا أدخل البيوت، ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطرباً بالحجون لم يدخل بيتًا وكان يأتي المسجد لكل صلاة من الحجون ) سبل الهدى والرشاد للصالحي 5|349
5_ هدمت أصنام المشركين فقط. فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم فتح مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً مرصعة بالرصاص، وكان هبل أعظمها.وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوس، وقد أخذ بسِية القوس فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما مرّ بصنم منها يشير اليه ويطعن في عينيه ويقول جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) فما يشير إلى صنم إلا سقط لوجهه، وفي لفظ: لقفاه من غير أن يمسه ) سبل الهدى والرشاد 5/354
6_عفا رسول الله عن فضالة بن عمير الليثي. من بني بكر الذي حاول اغتياله ومسح صدره ودعاه إلى الإسلام فأسلم(/4)
عندما يكون الإسلام قاعدة الانطلاق (1-2) معتصم أبّكر محمود*
عندما تحتار وتسأل (من أنا) يقول لك الإسلام بصوت تملؤه الثقة :(أنت خليفة الله في الأرض) وحينما تتأمل الإجابة وتتوقف عند(في الأرض) تشعر بعظم المسئولية عن الأرض ومحيطها الجوي.
وحينما تسأل (كيف سأعيش) أو ماهي المهمة التي سأقوم بها بالضبط تسمع القرآن يهمس في أذنك:( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) وإذا سألت ( وما علاقتي بهذا الكون الفسيح) تسمع صوتا يقول لك:( إنه مسخر لك لتنعش به فكرك وتستفيد منه في معاشك) وعندما تتأمل أكثر يكشف لك الإسلام عن رابط قوي بينك والوجود فهو أخ لك في العبادة .. نعم أخ لك( وإن من شئ إلا يسبح بحمده). بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب لك مثلا في تبادل العواطف بين المؤمن وهذا الكون إذ يروي لك قصته ع ذلك الحجر الذي ظل يسلم عليه قبل الرسالة، وحينما يروي لك قصته مع جبل أحد( أحد جبل يحبنا ونحبه) تشعر بمدى العاطفة الرقيقة والشاعرية في التعامل مع هذا الكون ولا شك في أن هذه النظرة ستزيد الأفق الإبداعي والنظرات التأملية الثاقبة)
إن القرآن يلح علينا كثيرا بأن نكون أكثر وعيا بآيات الله، ف،ك تجد كلمات مثل:(يبصرون، يسمعون، يفقهون، يتفكرون، يعلمون، يتذكرون، يتقون) وكلها تدعو إلى إدراك هذا الوجود لنصل إلى إلى الغية وهي التقوى.
إن القرآن يعرض علينا قضايا كونية عديدة لتكون موضوعا للتفكر الذي يوصل إلى الإيمان بالله عز وجل . إذن أن غاية الفكر والإبداع الإسلاميين هي الوصول إلى إيمان وعبادة خالصة لوجهه تعالى.
والآن سأعرض تعريفي الخاص للتفكير وهو( البحث عن جواهر الأشياء وجزئياتها المختلفة وعلاقاتها للوصول إلى الحقيقة المطلقة).
إن التدبر الذي يدعو إليه القرآن هو الخطوة الأولى في طريق التفكير العميق في هذا الكون، والتدبر في اصطلاحي:( البحث عن الإيحاءات الكامنة خلف الدلالات اللغوية للألفاظ) وأطلقت على هذا النوع من التدبر(التدبر الإبداعي).
دعوني الآن أقترح نوعين من التفكير ولأسمهما(التفكير النمطي) و(التفكير الإبداعي)، فالتفكير النمطي اقصد بذلك التفكير الارتجالي الذي لا يهتم بالتفصيلات ولا بالتفسيرات ومحصلته النهائية ستكون معرفة عادية يشترك فيها معظم الناس، فكل الناس يدركون أن التفاحة تسقط إلى أسفل وال تصعد ولكمن نيوتن وحده تجاوز هذا التفكير النمطي فبحث عن التفسير فتوصل إلى الجاذبية الأرضية.إذن التفكير النمطي أمكن تفسيره بهذه المعادلة:
عرض ــ(ملاحظة ارتجالية)ــ نتيجة عمومية.
أما ما اعنيه بالتفكير الإبداعي هو ذلك الذي يسأل عن التفسير، ويحلل المادة المعروضة إلى جزئيات ويحاول فهماها ضمن منظومة الكون، ويمكن تمثيله بهذه المعادلة:
عرض ـــ( ملاحظة عميقة)ـــ تفسير.
فهذا النوع يسال فيه المبدع: لماذا وكيف؟ ولنضرب مثلا لنبين الفرق بينهما، وليكن خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار.. ففي التفكير النمطي هنا يقول:( نعم إن هناك آية عظيمة في خلق هذه السماوات والأرض نغم عن هناك اختلاف بين الليل والنهار، فالنهار فيه الضوء والليل ساكن ومظلم)
ولكن التفكير الإبداعي يقودنا إلى تأمل أعمق للسماوات والأرض ويسأل عن السبب وراء اختلاف الليل والنهار ليصل إلى تفسير هذه الظاهرة بدوران الأرض حول الشمس.
وحينما يتحدث القرآن عن جريان الفلك في البحر سيقول النمطيون نعم إن الفلك تجري في البحر ولا تغرق ولكن الابداعيون يفكرون في السبب ويسالون لماذا لا تغرق الفلك إلا في الحوادث الطارئة، وبهذا يمكن الوصول الى قوانين الدفع في الموائع وقانون أرخميدس. وبهذا يصلون أيضا إلى القوانين التي تجمع ما يتعلق بالطفو ومحاولة الاستفادة منها.
والآن فنتسائل: أي هذين الطريقين مطلوب؟ وإجابتي على ذلك بان كليهما مطلوب والسبب في ذلك أن الطريق الأول هو لتأسيسي الفكرة الإيمانية الأولية وهذا الطريق يستطيع كل الناس المشي فيه. أما الطريق الثاني فهو لتأسيس الفكرة الإيمانية الثانوية عن طريق المعرفة العميقة الناتجة عن الكشوف الإبداعية.
وهنا يجب أن نذكر بقوله تعالى( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) لذلك يلح الإسلام علينا للنظر إلى الكون لا لكي نؤمن وحسب بل لنزداد تفهما للحياة واستثمارا لها ونزداد إيمانا أكثر يقينية.
لقد تحدثنا عن الإيحاءات القرآنية والآن نحن بصدد البحث في بعض الأمثلة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لتطبيق ما يمكن أن نسميه( المنهج الإبداعي).
ولنبدأ بمسالة هي أم الميتافيزيقيات (الغيبيات) إلا وهي الخلق( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) فهذه الآية تهز كل مؤمن يقرؤها بل قرأت أن بعض الصالحين كانوا إذا سمعوها أغمي عليهم.(/1)
إن هذه الآية كافية لأن تثير فينا أسئلة فلسفية تصعب على الحصر. إن الطاقة الكامنة فيها تكفي لإحداث طفرة كبيرة في نمط تفكيرنا .. إننا معشر المؤمنين نرد على هذا التساؤل وبكل ثقة نقول: كلا لقد خلقنا لعبادتك إنا لك وإنا إليك راجعون، ولكن شخص مثل هكسلي يقول: لو جلست ستة من القردة على آلات كاتبة وظلت تضرب على حروفها ملايين السنين فلا تستبعد أن تجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة لشكسبير، كذلك كان الكون الموجود الآن نتيجة لعمليات عمياء ظلت تدور في (إعادة) بلايين السنين) أي أن هكسلي يقول:( اجل لقد خلقتنا الطبيعة عبثا وليست هناك رجعة إلى الله) إذا هنالك تعارضا بين الإجابتين لذا أصبح من الضروري أن يدافع كل فريق عن فكرته.
نحن الذين قلنا كلا على أي أساس بنينا هذه الإجابة، وطالما أن السؤال الذي طرحته الآية موجه إلى البشر يعني أن بامكاننا الرد عليه وطالما أجبنا يعني أننا نثق في صدق الإجابة وعلينا أن نثبت أن احتمال أن تكون إجابتنا هو صفر، وهكذا نكون قد دخلنا مدينة الرياضيات من باب حساب الاحتمالات.
لقد حول العالم الرياضي الشهير شارلز يوجين جواي عن طريق الرياضيات أن يستخرج هذه المادة، فانتهى في أبحاثه إلى أن (الامكان المحض) في وقوع الحادث الاتفاقي الذي من شانه أن يؤدي خلق كون إذا ما توفرت المادة هو(واحد على 10مرفوعة للاس160) وهو عدد ضئيل جدا بل يكاد يؤول إلى الصفر) .
وقد ذكر وحيد الدين خان في كتابه(الإسلام يتحدى):( أن امكان حدوث الجزيء البروتيني عن صدفة يتطلب مدة مقدارها بليون مرة عن المادة الموجود الآن في سائر الكون حتى يمكن تحريكها وضخها وأما المدة التي يمكن فيها ظهور نتيجة ناجحة لهذه العملية فهو أكثر من10مرفوعة للأس 243 سنة) وهذه المدة لحدوث جزيء بروتيني واحد عن طريق الصدفة فما بالك بهذا الكون البالغ التعقيد. وبهذا نستطيع أن نقول ما قاله عالم الأعضاء الأمريكي مارلين كريدر( إن الامكان الرياضي في توفر العلل اللازمة للخلق عن طريق الصدفة في نسبها الصحيحة هو ما يقرب من لاشيء).
لقد صغت مثل هذا السؤال لأبين إمكانية أن تتطور مثل هذه التساؤلات لتصبح كشوف علمية رائعة.
إن الفرصة أمامنا كبيرة لنقوم بدورنا الريادي لا الذي نريده نحن وحسب إنما يريده الله منا لأنه جعلنا امة وسطا وشرفنا بالشهود الحضاري على الأمم. وان فينا أناسا لهم من العقل ما يماثل العقول المبتكرة في المعسكر الآخر وقد أدهشني بحث قامت به إحدى المراكز العربية فقد كان سؤال البحث هو ( ما اثر البسملة على الذبائح) . إن القرآن قد منعنا عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ، لذلك سيكون السؤال الإبداعي هو(لماذا) وهذا السؤال قد قاد هؤلاء الباحثين إلى معرفة التلوث المكروبي الشديد في الذبائح غير المسمى عليها مقارنة بالأخرى الشرعية ، وقد أسندت هذه الدراسة بالصور الفوتوغرافية التي تبين ذلك. والشاهد في الأمر أننا لابد أن نتصف بالكياسة ، فالمؤمن كيس فطن.
وهنا لابد أن أشير إلى ذلك التأمل الناجح لأحد الأطباء حين فكر في أمر قميص سيدنا يوسف عليه السلام ولماذا ارتد بصيرا سيدنا يعقوب عندما ألقي في وجهه . إن التفكير النمطي الذي اقترحته يقول أنها معجزة ولكن هذا الطبيب فكر في أمر ريح يوسف وقاده هذا إلى العرق واكتشف أن في العرق مادة تشفي العيون وصمم من هذه المادة قطرة للعيون.
وهنالك الكثير من البحوث التي أجريت للتعرف على فوائد الصوم والصلاة والوضوء ولكن أكثرها إن لم يكن كلها قد قام بها أناس غيرنا.(/2)
عندما ينتحر الحماس !
رئيسي :تربية :الأحد 22 جمادى الآخرة 1425هـ - 8 أغسطس 2004
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،أما بعد:
عندما تنطفئُ جَذوةُ الاهتمام بدين الإسلام، ويخبو وهجُ الحُرقة لدين الله، ويُقصَى العملُ للدين عن حياة المستقيمين؛ عند ذلك لا تسل عن دناءَتنا، ودنوِّ ذلَّتنا، فلن تَرَ عينُك إلاَّ زمر المتساقطين على الطريق، المتخلفين عن قافلة النجاة، المنبوذين عن سفينة السلامة، ولن تسمع أذنُك إلاَّ بأخبار المنتكسين، الخالدين إلى الأرض.. قال تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ[175]وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[176]}[سورة الأعراف].
وهذا دين قويم، لا يقومُ على أكتاف الخائرين، ولن يقوى عليه ضعفُ المنخذلين، ولن يتحملَ تبعاتِهِ خَوَرُ المنهزمين، فالصقورُ لا تقع على الجيفِ، والكرامُ لا يرضونَ بغير المكارم .
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
' أولُ قدمٍ في الطريق: بذلُ الرُّوحِ .. هذه الجادَّةُ، فأين السالكُ ؟ '[ المدهش ـ ابن الجوزي ـ ص 299].
وإذا النفوس كُنَّ كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ
قال أحمدُ بن داودَ الواسطيُّ:' دخلتُ على أحمدَ الحبسَ قبلَ الضربِ، فقلتُ له في بعض كلامي:' يا أبا عبدِ الله ؛ عليكَ عِيالٌ، ولك صبيانٌ، وأنت معذورٌ ـ كأني أسهل عليه الإجابة ـ فقال لي: إن كان هذا عقلُكَ يا أبا سعيدٍ فقد استرحتَ'[طبقات الحنابلةـ ابن أبي يعلى [1/43 ]].
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤاديَ حرًّا وحيدًا غريبًا
فإني أَعْظَمُكُم دولةً وإن خلتموني طريداً سليباً
قال أنسُ بن عياض:'رأيت صفوان بن سُلَيْم، ولو قيل له: غداً القيامة، ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة'. وقال عبد الرحمن بن مهدي:' لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غداً، ما قدر أن يزيد في العمل شيئًا'. وقال بكير بن عامر:' كان لو قيل لعبد الرحمن بن أبي نعم قد توجه إليك ملك الموت ما كان عنده زيادة عمل'.
من علامات وآثار انتحار الحماس:
1- حِملٌ ثقيل !
عندما ينتحر الحماس ؛ لا يذوقُ طعمَ الطاعةِ، ولا حلاوةَ العبادةِ ، فهو يشعرُ بِثقَلِها عليه، فيؤديها ولم يذقْ أجملَ ما فيها، لِيُسْقِطَ عنه تبعاتها، وكأنما هي حِمْلٌ ثقيلٌ أُزيح عن كاهله..فلا يزال يتأخر، ويتقهقر، حتى يُكبّ على وجهه في النار، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ عَنْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ فِي النَّارِ]رواه أبوداود- صحيح سنن أبي داود[1/132].
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ]رواه مسلم.
وقال سعيد بن المسيِّبِ:'ما فاتتني الصلاةُ في جماعةٍ منذُ أربعينَ سنةٍ، وما نظرتُ في قفا رجلٍ في الصلاة منذ خمسين سنةٍ، وما أذَّنَ المؤذِّنُ منذ ثلاثينَ سنةٍ إلاَّ وأنا في المسجدِ'. قال وكيع:' كان الأعمش قريباً من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفتُ إليه أكثر من ستين سنة، فما رأيته يقضي ركعة'. وقال أسيد بن جعفر:'ما رأيت عمي بشرِ بن منصور فاتته التكبيرة الأولى قط' .
وروي عن أبي عبد الله محمد بن خفيف أنه كان به وجعُ الخاصِرة، فكان إذا أصابه أقعَدَهُ عن الحركة، فكان إذا نُودي بالصَّلاة يُحملُ على ظهر رجل، فقيل له: لو خفَّفتَ على نفسِكَ ؟! قال:'إذا سمعتُم حَيَّ على الصَّلاة ولَم تَروني في الصف فاطلبوني في المقبرة'. وقال سليمان بن حمزة المقدسي ـ وقد قارب التسعين سنة-:' لم أصلِّ الفريضة قط منفرداً إلا مرتين، وكأني لم أصلهما قط'.
أخي تذكر معي: كم مرة صليت هذا الأسبوع صلاة فريضة منفرداً ؟!
2- قسوة في القلب !
عندما ينتحر الحماس ؛ يحس بقسوةٍ في قلبه، فلا تدمعُ له عين، ولا يخشعُ له قلب، ولا يقشعرُّ له جِلد، يسمعُ آيات الله تُتلَى عليه كأن لم يسمعها، يُذكَّر بالقوارِعِ وكأنما المُخَاطَبُ بها سواه، يُنذَرُ بالعظاتِ فيلتفت فيمن حوله، فلعلَّها لغيره ..{...وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا[66]}[سورة النساء]..فمتى كانت آخر دمعة درَّت بها عينك ؟!
3- رؤية الذات !(/1)
عندما ينتحر الحماس ؛ يصبح قولُه فصلًا لا يقبلُ الهزلَ، ورأيُه صوابًا لا يحتمل الخطأ، فهو يتكلمُ من عُلُو، ويرى غيره في دنو، إذا قلتُ فصدِّقوني، وإذا أمرتُ فأطيعوني، وإذا أشرتُ، فاتبعوني ..هكذا يريدُ الناس تبعاً له، يُلغون عقولَهم، ويُغلقون قلوبَهم، منقادين له مستسلمين ..فهو مصاب بداء التعالي والتعالم .
هلاكُ الناسِ مُذ كانوا إلى أن تأتيَ الساعة
بحبِّ الأمر والنهي وحبِّ السَّمعِ والطاعة
4- النظر في المرآة !
عندما ينتحر الحماس ؛ لا يتألم لأحوال العالم الإسلامي وما أصابه من جراح ونكبات، وآلام وكربات، لا يتألم لأنين الثكالى، وحنين اليتامى، وآهات الحزانى، فهو يعيش لنفسه، وينكفىء على مصالحه، ويعكف على شئونه ..وعظيمُ الهِمَّة، يعيشُ همَّ الأُمَّة !
5- صريع الغفلات !
عندما ينتحر الحماس ؛ تضيعُ الأوقاتُ هَدَراً في الغفلاتِ والزلاتِ، فتذهبُ الساعاتُ الطويلةُ بدون فائدة تُذكَر أو عملٍ يُشكَر، فلا تكادُ تراهُ إلا وهو يُتَابِعُ الكرة والمباريات، والأندية واللاعبين، والدوري والحكام، فيا لها من سَوءَةٍ ! جادٌ يلعب مع اللاعبين ! فيا صريعَ الغفلات، يا قتيلَ الشهوات!
ذهبَ العُمْرُ وفات يا أسيرَ السيئات
ومضى وقتك في لهو وسهو وسبات
بينما أنت في غَيِّك إِذْ قيل: مات
6- صائد مصيود !
عندما ينتحر الحماس ؛ يجلس بالساعات الطوال أمام جهاز الحاسوب، عبر شبكة الإنترنت، ينتقل من موقع لموقع، ومن منتدى لمنتدى، بدون هدف، فقل لي بربك: ساعاتٌ مضت من عُمُرِكَ، فما الفائدة العائدة عليك؟!
7- رحاة بدون طحين !
عندما ينتحر الحماس ؛ تراه يدور كالرَّحى بالأسواق، لا ليشتري ما يشتهي، وإنما للنزهة، وتزجية الفراغ فيما لا فائدة فيه . فعجباً لمستقيم ! من أين يأتي له الفراغ، وهو يعلم ـ علم اليقين ـ لم خلقه الله رب العالمين ! {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[56]}[سورة الذاريات]. لا ليلعبون .. لا ليلهون .. لا ليعبثون ..
قد هيئوك لأمرٍ لو فطنتَ له فاربأ بنفسِكَ أن ترعى مع الهَمَلِ
8- صُحفي لا يعرف المصحف !
عندما ينتحر الحماس ؛ تبصره وهو عاكفٌ على الجرائد اليومية والمجلات الدورية يقرأ فيها بِنَهَمٍ، قد استغرقَتْ جُملَةَ وقته، يقرأُها من مبتداها لمنتهاها، الصفحاتُ الفنية .. الرياضية .. الأدبية .. الشعبية .. الإعلاناتُ والدعايات .. اللقاءاتُ والمقابلات ... الاستحكاماتُ والوفيات .. ينتهي من هذه الصحيفة، ليقرأ في تلك الجريدة، وهَبْ أن الأمرَ جائزٌ، فهل غدا وقتُك بهذا الرُّخْصِ لتُهدِرَهُ في الرُّخص ؟!
والوقتُ أنفَسُ ما عُنيتَ بحفظِهِ وأراه أسهَلُ ما عليك يَضيعُ
9- تعب من الراحة !
عندما ينتحر الحماس ؛ تبحث عنه في المؤسساتِ الإغاثية، والمكاتبِ الدعوية، والدوراتِ العلمية، والمخيماتِ الصيفية، والمشاريعِ التطوعية، والأنشطةِ التربوية، والأعمالِ الخيرية، فلا تجده ..فلا شُغْلَ له سوى الاستراحات والنُّزْهات، والسفريات والرِّحْلات، والملاهي والمقاهي.
وقد شُرعت النُّزْهات المباحةُ لجلب الراحة لمن يعيش الجدية في حياته، فإن النفس إذا كلَّت ملَّت، ولا بُدَّ لها من فسحة في حلال، ولكن أن يصبح الأصل في وقته الغالي إهداره في التسالي وضياعه في الفُسَح، فهذا انتكاسٌ، وانحراف عن الجادة، وعدول عن منهج السالفين .
سألَ سائلٌ ابنَ الجوزي: أيجوز أن أُفسح لنفسي في مباح الملاهي؟
فقال له: عند نفسك من الغفلة ما يكفيها .
10- جرح بدون تعديل !
عندما ينتحر الحماس ؛ تُمْلأُ مجالسه بالقيل والقال، وكثرة المراء والجدال، والخوض في أخبار الناس وأحوالهم، ومثالبهم ونقائصهم، فيجلس لساعات طويلة في مجالس الغفلة مع من يشاكله في طباعه، ويشابهه في ضياعه، لا يذكرونَ الله إلا قليلاً. وربما لا همَّ لهم إلا الاشتغال بالصالحين، وانتقاد العاملين، وتجريح الناشطين، وتخذيل المجتهدين، وتصنيف الباذلين، وإساءة الظن في المؤمنين .
فـ أجرأُ من رأيتُ بظهر غيب على عيب الرجال: ذوو العيوب
التهى بعيوب الناس عن عيبه، واهتم بذنوبهم عن ذنبه، وأصبح من أَكَلَةِ لُحومِ البَشَر، ينهش في لحوم الغائبين عنه، ويتشهى بذكر عيوبهم ورصد أخطائهم، وكل ذلك تحت مسميات شرعية:كـ'مصلحة الدعوة !' .مصطلحات ظاهرها وباطنها الرحمة عند أهل الحق، وحقيقتها ـ عند هذا وأمثاله ـ الشهواتُ الخفية، و الحقد والحسد، وأمراض القلوب وأدواؤها.(/2)
وَعَنْ الْمُسْتَوْرِدِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْلَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُ مِثْلَهَا مِنْ جَهَنَّمَ وَمَنْ كُسِيَ ثَوْبًا بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَكْسُوهُ مِثْلَهُ مِنْ جَهَنَّمَ وَمَنْ قَامَ بِرَجُلٍ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُومُ بِهِ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]رواه أبوداود وأحمد . عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ...وَمَنْ رَمَى مُسْلِمًا بِشَيْءٍ يُرِيدُ شَيْنَهُ بِهِ حَبَسَهُ اللَّهُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ] رواه أبوداود وأحمد .
11- لباس التقوى خير !
عندما ينتحر الحماس؛ تصغر الاهتماماتُ، فيصبح هَمُّه ما يلبس، فمن أجله ينفقُ الأموالَ الطائلةَ ويقضى الأوقاتِ الغاليةَ، حتى كأنه في كلِّ يوم عروس !
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ]رواه البخاري . قال أبو الدرداء ـ رضي الله عنه: ألا رُبَّ منعمٍ لنفسه وهو لها جِدُّ مُهين ! ألا ربَّ مُبيضٍ لثيابه، وهو لدينه مُدَنِّس !
12- مجاهدٌ فوق الموائد !
عندما ينتحر الحماس ؛ يغدو همُّه بطنَه، ماذا يأكلُ ويشرب !. قال مالك بن دينار:'بئس العبدُ عبدٌ همّهُ هواهُ وبطنُهُ'.. الأمم تتكالب على أمَّتنا كما تكالَبُ الأكَلَةُ على قصعتها لتأكلَها من أطرافها، وهمه: ماذا أكلنا بالأمس؟ وماذا نأكل غداً؟!
قال الحسن البصري:'لقد أدركت أقواماً، إن الرجل منهم ليأتي عليه سبعون سنة، ما اشتهى على أهله شهوةَ طعامٍ قط'. والبعض منَّا ربما يطلِّق زوجته من أجل طعام !
عَنْ مِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ]رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد.
دَعِ المكارمَ لا ترحل لبُغيتها واقعد فإنَّك أنتَ الطَّاعمُ الكاسي
عن أبي جُحَيفَةَ رضي الله عنه قال: أكلتُ ثَريدَةً مِن خُبزٍ ولَحمٍ، ثُمَّ أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فجعلتُ أتَجَشَّأُ . فقال:' يا هذا ! كُفَّ مِن جُشائِكَ، فإنَّ أكثرَ الناسِ شِبَعاً في الدنياأكثَرُهُم جُوعاً يومَ القيامَةِ ' [رواه الحاكم في مستدركه، انظر: صحيح الترغيب والترهيب [2/502] [2136]].
13- بيوت فوق الرمال !
عندما ينتحر الحماس ؛ يشتغل بعض الصالحين بدنياهم على حساب آخرتهم ؛ وانظر ـ بعين الحسرة ـ إلى انشغالهم بالتوسع في بناء بيوت الدنيا الزائلة عن الأعمال الفاضلة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ مَرَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نُعَالِجُ خُصًّا لَنَا فَقَالَ: [مَا هَذَا] فَقُلْتُ خُصٌّ لَنَا وَهَى نَحْنُ نُصْلِحُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا أُرَى الْأَمْرَ إِلَّا أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ] رواه ابن ماجة والترمذي وأبوداود .
وقِفْ على ما يبذلُ بعضُهم في الكمالياتِ في بيته لترى العجائبَ من الديكورات والتزاويق والأصباغ والزخرفة والتحف والمفروشات والإضاءات وغير ذلك مما يوحي لك أن القومَ باتوا غافلين عن مصارِعِ الهالكين، وكأنما هم فيها خالدون ! وصدق صلى الله عليه وسلم عندما قال: [لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَبْنِيَ النَّاسُ بُيُوتاً يُشَبَّهُونَهَا بِالْمَرَاحِلِ] قال إبراهيم: يعني الثياب المخططة. رواه البخاري في الأدب المفرد- صحيح الأدب المفرد رقم [356].
14- جامع مانع !
عندما ينتحر الحماس ؛ يميل الرأسُ إلى المالِ، فيجمعُ ويمنعُ، ويكاثِرُ، فيصبحُ الدِّين في ذيلِ قافلةِ الأولويات ..فدوامٌ في الليلِ وآخرُ في النهار، أعمالٌ مُرهِقة استوعبت الأوقات، واستحوذت على الاهتمامات، فماذا بقي للدين يا أيها المسكين ؟!
عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ:{أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ[1]}[سورة التكاثر]. قَالَ: [ يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي قَالَ وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ]رواه مسلم .(/3)
عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ قَالَ:'كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنْ الرُّومِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا سُبْحَانَ اللَّهِ يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ...[195]}[سورة البقرة]. فَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحِهَا وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ'رواه الترمذي وأبوداود..وماذا بعد هذا ؟!
تبلَّدَ في الناس حِسُّ الكفاح ومالوا لكسبٍ وعيشٍ رتيب
يكاد يُزعزع مِن همَّتي سُدورُ الأمينِ وعزمُ المُرِيب
15- قالب بدون قلوب !
عندما ينتحر الحماس ؛ ينشغل بالأبناء والأهل والزوجات: وليته انقطع إليهم بالتعليم والتربية والتهذيب والتأديب، لكان ذلك ما نبغِ، ولكن الحقيقة أنه ركن لتحيق رغباتهم الدنيوية، وشهواتهم الحياتية، فقطعوه عن العمل لدينه، واشتغل بدنياهم .. تفانى في طاعتهم، فغفل عن طاعة ربِّه .عن خولة بنت حكيم عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [الْوَلَدُ مَحْزَنةٌ مَجْبنَةٌ مجْهَلَةٌ مبْخَلَةٌ] رواه الحاكم في المستدرك والطبراني في الكبير.
ولو تأملتَ في حال أبنائه ونسائه لوجدتَ أنهم مثل غيرهم يشاركون الناس في غفلاتهم وشهواتهم، بلا تميز في مظهر أو مخبر .
16- المقعد عن الحركة !
عندما ينتحر الحماس ؛ يركن للدَّعة، وحُبِّ الراحةِ والنوم والكسل، فيصبح كالزَّمِنِ المُقْعَدِ . وهكذا أهلُ الدنايا لا يرضون بغير الراحة فوق التكايا، وأما أهل المعالي فيهجرون الوساد ويعافون الرقاد .
أعاذلتي على إتعابِ نفسي ورعيي في الدُّجى روضَ السهادِ
إذا شام الفتى بَرْقَ المعالي فأهونُ فائتٍ طِيبُ الرُّقاد
عن أَبَي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ]رواه الترمذي .
17- المتاع الزائل !
عندما ينتحر الحماس ؛ تضيعُ الأموالُ في التفاهاتِ والمحقَّراتِ، فكلما اشتهى اشترى ولو بغير حاجة ، فيبذل في نعاله وعقاله ما لا يبذل لدينه، ويغدق في شراء ثوبه ما لا يبذل لنصرة معتقده . ولو أنه يبذل لدينه ما يبذله في المكسَّرات والمقبِّلات؛ لأطعم بها أهل مسغبة، و لكسى بها أهل متربة، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:' أيكم استطاع أن يجعل في السماء كنزه، فليفعل حيث لا تأكله السوس، ولا تناله السرقة، فإن قلب كل امرئ عند كنزه'.
18- ضياع رأس المال !
عندما ينتحر الحماس ؛ تضعف العبادات ليحصل النقص في رأس المال من الفرائض والواجبات، فضلاً عن النوافل والمستحبات، قال معاذ بن جبل رضي الله عنه:' اللهمَّ إنكَ تعلمُ أني لم أكن أحبُّ البقاءَ في الدنيا ولا طولَ المكثِ فيها لِجَرْيِ الأنهارِ ولا لغرسِ الأشجارِ، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل، وظمأ الهواجر في الحر الشديد، ولمزاحمة العلماء بالرُّكَب في حِلَق الذِّكر'.
فأين أنت عن مثل معاذ ؟!(/4)
هل أنت ممن يحافظ على السنن الرواتب لتبنى له بيوتٌ في الجنة؟ هل تحرص على تكبيرة الإحرام؟ وتنافس على الصف الأول؟ هل تخشع في صلاتك ؟هل تأسف على فوات صلاة الجماعة إذا فاتت عليك؟أين أنت عن ركعتي الضحى؟ صلاة الأوابين ! هل تحافظ على قيام الليل؟ وهل تلازم صلاة الوتر؟ فإنها شرف المؤمن . كيف هي صِلَتُك بكتاب الله تعالى؟ هل لك وردٌ يومي من القرآن الكريم لا تتنازل عنه أبداً؟متى كانت آخر دمعة نزلت من عينك؟ خشية لله تعالى؟ ماذا حفظت من آيات جديدة خلال هذا الشهر؟ بل في هذا العام؟ هل راجعت كتب التفسير لتقف على مراد الله من الآيات؟
هل تتابع بين الحج والعمرة لتنفي عنك الفقر والذنوب؟هل تصوم النوافل كالاثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر، فإن الصيام لا عِدلَ له؟
هل تحرص على الصدقة والإنفاق في سبيل الله في وجوه الخير؟ فإن المؤمن في ظل صَدَقته يوم القيامة ..سبحان الله ! ' لله ملك السموات والأرض، واستقرضَ منكَ حَبَّةً، فبخلتَ بها، وخلقَ سبعةَ أبحرٍ، وأحبَّ منكَ دمعةً، فَقَحَطَتْ بها عينُك ؟ '[ الفوائد ـ ابن قيم الجوزية ـ ص [ 67]].
هل تحافظُ على الأذكار والأوراد اليوميَّة ؟ أم أن الأمر كان في بداية الالتزام فقط ؟!
إذا مرِضنا تداوينَا بذِكرِكُمُ ونترُكُ الذِّكرَ أحياناً فننتَكِسُ
19- ميِّتُ الأحياء !
عندما ينتحر الحماس؛ لا ينكرُ منكراً، ولا يتمعَّرُ وجهُهُ غضباً لله، ولا تجري دماءُ الغيرة في أوردَتِه إذا انتُهِكَت حدودُ الله، فهو حيٌّ كالأمواتِ، وميِّتٌ بين الأحياء، سُئِلَ حُذيفَةُ بنُ اليمانِ رضي الله عنه عن ميتِ الأحياءِ، فقال:' الذي لا ينكرُ المنكرَ بيده، ولا بلسانه، ولا بقلبه' . ويقول سفيان الثوري رحمه الله:' إني لأرى الشيء يجب عليَّ أن آمر فيه وأنهى، فأبول دماً'.
فيا أيها المحروم! ما قامت بِدعةٌ إلاَّ على أنقاضِ سُنَّة، وما استعلنَ أهلُ الباطلِ بباطلهم إلاَّ عند سكوتِ أهل الحقِّ عن حقِّهم، فيا لله ! أترضى بنقصانِ الدِّين، وأنت حيٌّ تُرزَق ؟! أترضى بالدنيَّةِ في دينك وبكَ رَمَقٌ ؟!
أضحتْ تُشجعني هندٌ فقلتُ لها إن الشجاعةَ مقرونٌ بها العطبُ
لا والذي حجَّت الأنصارُ كعبَتَهُ ما يشتهي الموتَ عندي مَن له أرَبُ
للحربِ قومٌ أضلَّ الله سعيَهمُ إذا دَعَتهم إلى حَوماتِها وثَبُوا
ولستُ منهم ولا أهوى فِعالَهُمُ لا القتلُ يُعجبني منهم ولا السَّلَبُ
فهنيئاً لأعدائك بك !
20- شمعة بدون ضياء !
عندما ينتحر الحماس ؛ لا يتحمس للدعوة إلى الله، ولا يجتهد في هداية الخلق، وسوقهم إلى ربهم سوقاً جميلاً، يرى صرعى الشهوات، وهلكى الغفلات، ثم لا يتحرك لإنقاذهم من أنفسهم وشياطينهم.
اسمع لصلاح الدين الأيوبي رحمه الله ماذا يقول:' إنه متى يسَّر الله تعالى فتح بقية الساحل، قسمتُ البلاد وأوصيتُ وودَّعتُ، وركبتُ هذا البحر إلى جزائِره، واتّبعتهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت ..'.
بُغضُ الحياةِ وخوفُ الله أخرجني وبيعُ نفسي بما ليستْ له ثَمنًا
إني وَزَنْتُ الذي يبقى ليَعدِلَه ما ليس يبقى فلا والله ما اتَّزَنا
قال تعالى:{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[108]}[سورة يوسف].
21- الراعي حول الحمى !
عندما ينتحر الحماس؛ يقع الغافل في المحظورات، لا يتورعُ عن مكروهٍ، ولا يتنزَّهُ عن مخالَفةٍ، فإذا رُوجع فيها ونُهيَ عنها، قال: وهل هي حرام؟!
وهَبْ أنها لم تصل للحُرمَةِ القاطِعَةِ، أين تَرْكُ ما فيه بأسٍ إلى ما ليس فيه؟ أينَ الورعُ ؟ أين البُعدُ عن الشبهات ؟! يقول سفيان بن عيينة:' لا يصيب العبد حقيقة الإيمان، حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه' . يا من يرعى حولَ الحمى: أين التقوى؟ أين الحذرُ من النظراتِ الخائنةِ، أين الخوفُ من الكلماتِ المحرَّمة، أين البُعدُ عن السماعِ الممنوعِ .
فها أنتَ تجلسُ في المطاعم المختلَطَة، حيث النظراتُ الخائنات، واللقاءاتُ الموبِقات، فما الذي أدخلكَ مواطن الغفلات ؟! وها أنت تحادثُ الممرضاتِ والمضيفاتِ، والعينُ بالعَيْن، والجُروحُ بالقلبِ مُلتهباتٍ !
وها أنت تنظر إلى القنواتِ الفضائيةِ، والمجلاتِ المنحرفةِ، بزعم الوقوف على أفعال أهل المنكرِ، فإذا بك من ضحاياها، فأين دينك عن تلك النظرات؟! وها أنتَ تقع في بعض المعاملات التي كنت تحذِّر منها وتنهى عنها، فما الذي غيَّر الحكم على تلك المعاملات ؟!
وها أنت تلعب ببعض الألعاب التي طالما نابذتَ أهلها، فما الذي أوقعك في تلك المخالفات ؟!وها أنت تسمع المعازفَ فوق رأسكَ في المحلاتِ والمراكز والفنادق والكبائن والمقاهي والملاهي، فما الذي ألزمك بهذه المرديات؟!(/5)
وها أنت تتبع سقطاتِ بعض أهل العلم، فتفتي بالجواز على المجاز، فلم زلَّت بك القدم في تلك السقطات ؟! وها أنت تسافرُ للبلاد التي يظهر فيها الفساد، فما الذي بدَّل رأيك فيها ؟ أجبني !
يا من هدَّم مجدَه ! وبعثَرَ جهودَه ! ما الذي أوقعَكَ في هذه السيئات ؟!
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ اِجْعَلُوا بَيْنكُمْ وَبَيْن الْحَرَام سُتْرَة مِنْ الْحَلَال , مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اِسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينه , وَمَنْ أَرْتَعَ فِيهِ كَانَ كَالْمُرْتِعِ إِلَى جَنْب الْحِمَى يُوشِك أَنْ يَقَع فِيهِ] رواه ابن حبان في صحيحه.
وماذا بعد ؟!
وبعد هذا التَّطْوَاف في أحوال بعض المتراجعين للخلف، أو المراوحين مكانهم لا يبرحونه، يأتي السؤالُ: أراكَ أغلظتَ علينا، وحرَّمت ما أباحه الله لنا ؟!
أقول: أعوذ بالله أن أُحرِّم ما أحلَّ الله أو أبيح ما حرَّم ، ولكني أخاطب من أترفَّع بهم عن الدنايا، وأهاتف من سمت بهم هممهم عن السفاسف، وأحادث من لا يرضون بالدُّون، ولا يقنعون باليسير، ولا يركنون للعَرَض الزائل الحقير .
فخطابي للصفوة المنتقاة من عباد الله، الذين يسيرون على سيرة أسلافهم الذين يقول قائلهم: كنا ندع ثلاثة أرباع الحلال خشية الوقوع في الحرام .
قال الحسن:'ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام' .
وقال الثوري:' إنما سُمُّوا بالمتقين لأنهم اتَّقوا ما لا يُتَّقى'.
وقال ابن عمر:' إني لأحبّ أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها' .
إذا ما علا المرءُ رام العلا ويقنع بالدونِ مَن كان دونا
فعودوا لهم فالعود أحمد، وسيروا على منهاجهم، فالدرب أسعد، ولتعد جذوة الإيمان متوهجة متوقدة، تمر بها الأعاصير، فلا تزيدها إلاَّ توجهاً وتوقداً .فعذراً على قسوة العبارة، وغلظة الإشارة، ولكنها نفثة مكلوم، وزفرة مهموم، أحببت أن أقذفها في قلوب أحبابي من أهل الصحوة المباركة، بارك الله فيهم ونفع بهم، والسلام ختام .
من كتاب:'عندما ينتحر الحماس!' للشيخ/ عبد اللطيف بن هاجس الغامدي(/6)
عنوان الحكم للبُستي
زيادةُ المرءِ في دُنياهُ نُقصانُ ورِبحُهُ غيرُ محضِ الخيرِ خُسرانُ
وكلُّ وجدانِ حظٍّ لا ثباتَ لهُ فإنَّ معناهُ في التحقيقِ فُقدانُ
يا عامراً لخَرابِ الدَّهرِ مُجتهِداً باللهِ هلْ لخَرابِ الدهرِ عُمرانُ
ويا حريصاً على الأموالِ يجمعُها لا تنسَ أنَّ سُرورَ المالِ أحزانُ
زعِ الفؤادَ عن الدنيا وزُخرفِها فصفوُها كدرٌ والوصلُ هُجرانُ
وأرْعِ سمعَكَ أمثالاً أفصِّلها كما يُفصَّلُ ياقوتٌ ومَرجانُ
أحسِن إلى الناسِ تستعبدْ قلوبهمُ فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانٌ
وإن أساءَ مُسيءٌ فليكنْ لكَ في عروضِ زلَّتهِ صفحٌ وغُفرانُ
وكنْ على الدَّهرِ مِعواناً لذي أملٍ يرجو نَداكَ فإنَّ الحُرَّ مِعوانُ
مَنْ جادَ بالمالِ مالَ الناسُ قاطبةً إليه والمالُ للإنسانِ فتَّانُ
مَنْ كانَ للخيرِ منَّاعاً فليسَ لهُ عندَ الحقيقةِ إخوانٌ وأخدانُ
لا تخدشَنَّ بمُطلٍ وجهَ عارفةٍ فالبِرُّ يخدِشُهُ مُطلٌ وليَّانُ
يا خادمَ الجسمِ كمْ تسعى لخدمتهِ أتطلبُ الرِّبحَ مما فيه خُسرانُ
اقبلْ على النفسِ فاستكمل فضائلَها فأنتَ بالرّوحِ لا بالجسمِ إنسانُ
مَنْ يتقِ اللهَ يُحمدْ في عواقبِهِ ويكفهِ شرَّ من عَزُّوا ومَنْ هانوا
حَسْبُ الفتى عقلُهُ خلاً يُعاشرهُ إذا تحاماهُ إخوانٌ وخلاَّنُ
لا تستشرْ غير نَدْبٍ حازمٍ فطِنٍ قد استوى منه إسرارٌ وإعلانُ
فللتدابير فرسانٌ إذا ركضوا فيها أبرّوا كما للحربِ فُرسانُ
وللأمورِ مواقيتٌ مُقدَّرةٌ وكلُّ أمرٍ لهُ حدٌّ وميزانُ
من رافقَ الرِّفقَ في كلِّ الأمورِ فلمْ يندمْ عليه ولمْ يذمِمْهُ إنسانُ
فلا تكنْ عَجِلاً في الأمرِ تطلبُهُ فليسَ يحمدُ قبلَ النُّضجِ بُحرانُ(1)
وذو القناعةِ راضٍ في معيشتهِ وصاحبُ الحرصِ إن أثرى فغضبانُ
كفى من العيشِ ما قدْ سرَّ من عَوَزٍ ففيهِ للحُرِّ إنْ حقَّقتَ غنيانُ
هما رضيعا لبانٍ: حكمةٌ وتُقىً وساكنا وطن:ٍ مالٌ وطغيانُ
مَنْ مدَّ طرفاً بفرطِ الجهلِ نحوَ هوىً أغضى عنِ الحقِّ يوماً وهوَ خزيانُ
مَنِ استشارَ صروفَ الدَّهر قامَ لهُ على حقيقةِ طبعِ الدَّهرِ بُرهانُ
منْ عاشرَ الناسَ لاقى منهمُ نَصَباً لأنَّ طبعَهمُ بغيٌ وعُدوانُ
ومَنْ يفتِّشْ على الإخوانِ مُجتهداً فجُلُّ إخوانِ هذا الدَّهرِ خُوّانُ
منْ يزرعِ الشَّرَّ يحصدْ في عواقبِهِ نَدامةً ولحصْدِ الزَّرعِ إبّانُ
منِ استنامَ إلى الأشرارِ نامَ وفي قميصِهِ منهمُ صِلٌّ وثُعبانُ
كُنْ ريِّقَ البِشرِ إنَّ الحُرَّ همَّتُهُ صحيفةٌ وعليها البِشرُ عُنوانُ
ورافِقِ الرِّفقَ في كلِّ الأمورِ فلمْ يندمْ رفيقٌ ولمْ يذمُمْهُ نُدمانُ
ولا يغرَّكَ حظٌّ جرَّهُ خَرَقٌ فالخرقُ هدمٌ ورفقُ المرءِ بُنيانُ
من سالمَ الناس يسلمْ من غوائِلِهم وعاشَ وهو قريرُ العينِ جذلانُ
منْ كان للعقلِ أعوانٌ عليهِ غَدَا وما على نفسهِ للحرصِ أعوانُ
إذا نَبا بكريمٍ موطنٌ فلهُ وراءَهُ في سبيطِ الأرضِ أوطانُ
لا تحسبنَّ سُروراً دائماً أبداً مَنْ سرَّهُ زمنٌ ساءتهُ أزمانُ
يا ظالماً فَرحاً بالعزِّ ساعدَهُ إنْ كنتَ في سنةٍ فالدَّهرُ يقظانُ
ما استمرأ الظلمَ لو أنصفتَ آكلُهُ وهلْ يلذُّ مذاقٌ وهو خُطبانُ
يا أيها العالمُ المُرضيُّ سيرتُهُ أبشرْ فأنتَ بغيرِ الماءِ ريَّانُ
ويا أخا الجهلِ لو أصبحتَ في لُججٍ فأنتَ ما بينها لا شكَّ ظمآنُ
دَعِ التكاسُلَ في الخيراتِ تطلبُها فليسَ يسعَدُ بالخيراتِ كسلانُ
صُنْ حُرَّ وجهِكَ لا تهتِكْ غلالتَهُ فكلُّ حُرٍّ لحُرِّ الوجهِ صَوَّانُ
فإنْ لقيتَ عَدوّاً فالقَهُ أبداً والوجهُ بالبِشرِ والإشراقِ غَضّانُ
لا تحسِبِ الناسَ طبعاً واحداً فلهمْ غرائزٌ لستَ تُحصيها وألوانُ
ما كلُّ ماءٍ كصُدَّاء لواردهِ نعمْ ولا كلُّ نَبْتٍ فهوَ سَعدانُ
مَنِ استعانَ بغيرِ اللهِ في طلبٍ فإنَّ ناصرَِهُ عجزٌ وخذلانُ
فاشدُدْ يديكَ بحبلِ اللهِ معتصماً فإنه الرُّكنُ إنْ خانتكَ أركانُ
لا ظلَّ للمرءِ يُغني عن تُقىً ورضا وإنْ أظلَّتْهُ أوراقٌ وأفنانُ
سُحبانُ منْ غيرِ مالٍ باقلٌ حصِرٌ وباقلٌ في ثراءِ المالِ سُحبانُ
لا تُودعِ السِّرَّ وشَّاءً فينشُرَهُ وهلْ رعى غَنماً في الدَّوِّ سرحانُ
والناسُ إخوانُ منْ دالتهُ دولتُهُ وهمْ عليهِ إذا عادتهُ أعوانُ
يارافلاً في الشبابِ الرَّحبِ مُنتشياً منْ كأسِهِ هلْ أصابَ الرُّشدَ نَشوانُ
لا تغترِرْ بشبابٍ ناعمٍ خضِلٍ فكمْ تقدَّمَ قبلَ الشّيبِ شُبّانُ
ويا أخا الشّيبِ لو ناصحتَ نفسَكَ لمْ يكنْ لمثلكَ في الإسرافِ إمعانُ
هَبِ الشَّبيبةَ تُبدي عُذرَ صاحبها ما بالُ أشيبَ يستهويهِ شيطانُ
كلُّ الذنوبِ فإنَّ الله يغفرها إن شيَّعَ المرءَ إخلاصٌ وإيمانُ
وكلُّ كسرٍ فإنَّ اللهَ يجبُرُهُ وما لكسرِ قناةِ الدِّينِ جُبرانُ
أحسِنْ إذا كانَ إمكانٌ ومقدرةٌ فلا يدومُ على الإنسانِ إمكانُ
فالرَّوضُ يزدانُ بالأنوار ناعمُهُ والحُرُّ بالعدلِ والإحسانِ يزدانُ(/1)
خُذها سوائرَ أمثالٍ مهذّبةٍ فيها لمنْ يبتغي التبيانَ تبيانُ
ما ضرَّ حسَّانَها والطبعُ صائغُها إن لمْ يصغُها قَريعُ الشِّعرِ حسَّانُ
(1) البُحران: التغيّر السريع(/2)
عنيدان وبيت واحد
إن الخلافات والفشل في المواجهة ووجود بعض الصراعات أمر لا مفر منه في الحياة الزوجية، فكيف يكون باستطاعة اثنين متزوجين أن يتمكنا من تجنب بعض النزاعات أو الخلافات على الأقل؟
ألا نميل كلنا لأن نرى الأمور بصورة مختلفة نوعًا ما على الأقل بعض الوقت؟ أليس صحيحًا أننا شديدوا الاقتناع بعض الأوقات بأننا على حق لدرجة تجعلنا نستخدم مناقشات الآخرين بصورة ندعم بها مواقفنا؟
وهذا مرده في المقام الأول أننا مقتنعون أننا ننظر بصورة صحيحة للأمور وحتى عندما لا نكون على حق فمن السهل أن نلقى باللائمة على شريك حياتنا، أو على موضوع ما، أو نقاش ما، أو خلاف أو حتى عدم اتفاق كمبرر لعدم سعادتنا إلا أن الواقع يشهد أن الجاني الحقيقي في أغلب الأوقات هو عنادنا الشخصي، وعدم استعدادنا وعدم رغبتنا في التنازل عن حاجتنا أن نكون 'على صواب دائما'.
لو استطعنا أن نتخلى عن دافعنا الذاتي ونروض غرورنا وأن نتخلى عن ضرورة أن نكون شديدي العناد، فمن المدهش تلك السرعة التي تحل بها المشاكل بنفسها بدون أحداث أي الم وبدون أي جهد يبذل.
إن السر يكمن في الإيمان الراسخ بأن النجاح لا يعني أن نظل دائمًا على صواب، وأن النجاح يتحقق بالتواضع، وأن عدونا هو العناد وليس شريك حياتنا.
نحن نعتقد عزيزي القارئ أنك ستوافق على أن التخلي والعناد هو هدف يستحق بذل المزيد من الجهد لتحقيقه.
عزيزي القارئ:
من المشاكل التي تعترض الحياة الزوجية مشكلة العناد، فالعناد والتصلب في الرأي والجمود وعدم المرونة تضفي على الأسرة جوًا خانقًا وتنشر في البيت ظلالاً قاتمة، وتهيئ المناخ لنفثات الشيطان وهمزاته، مما ينذر بالاقتراب من الخطر.
فمراعاة كلا الزوجين لطباع الآخر ومحاولة التكيف والتفاعل مع ما يصعب تغييره أمر يحتمه الوعي 'والذكاء الزوجي'، والأزواج والزوجات حين يطرحون في مناقشاتهم خيارات لا بديل عنها إنما بهذا يضعون حياتهم الزوجية في مهب ريح عاتية توشك أن تقتلع هذه العلاقة من جذورها والمثل يقول: 'العند يورث الكفر'.
مشهد عنيد:
وقف أحد الأزواج يرن جرس الباب وزوجته بالداخل نائمة لا تفتح، وحجتها في ذلك أن معه مفتاحًا للباب فلماذا يرن الجرس ويزعجها بالنهوض لفتح الباب له واستقباله ؟ وتعتبر ذلك نوعًا من الاستعباد لمجرد السيد الرجل وسيطرته، وظلت تهذي بهذه الأفكار المنكرة على الرغم من أنها رأته حاملاً في كلتا يديه بعض طلبات البيت من خبز وفاكهة وخلافه وأنه كان يستعين ببعض ما تبقى له من أجزاء يده في رن الجرس، وظلت تبادله الحجة بالحجة وتجادله وترد عليه كلمة بكلمة، وأنه كان بإمكانه وضع ما معه على الأرض حتى يفتح الباب بالمفتاح ثم يحمل هذه الأشياء مرة أخرى، فهل هذه زوجة تنشد الاستمرار والنجاح مهما كان زوجها صبورًا واسع الصدر ومَنْ يسبق مَنْ؟ عنادها أم عناده؟
يقول الأستاذ محمد فصيح بهلول: 'الزوج الذي يتفرد برأيه مخطئ والذي يتخذ القرار غير الصائب لمجرد مخالفة رأي زوجته وقد تبين له صوابها هو رجل أحمق، لا يقدر المصلحة، ويضع كبرياءه في غير موضعها، ويحقق انتصارات زائفة لا مكان لها إلا في عقله هو دون أحد سواه، كما أنه يفقد مكانته لدى زوجته'.
'إن الملاحظ دائمًا أن عناد الزوج يسبق عناد الزوجة، فالأخير يأتي غالبًا كرد فعل لعناد الزوج، وتعليل ذلك أمرر سهل، فالزوج يبذل ما يستطيع من جهد لإثبات سيطرته وهيمنته بإلغاء ومحو أي رأي خلاف رأيه، وهو حين يفعل ذلك يضع الزوجة في موقف يحتم عليها أن تتخذ لنفسها موقفًا من ثلاث إما التصادم معه أو مهادنة هذا الموقف المستفز والسكوت والهدوء، أو دفع الزوج لفتح باب الحوار معها ؟ فتأخذ شكل العناد السلبي لكسر صراحة رأي الزوج وتمييع قراراته، كي تفتح ثغرة للحواء والمناقشة بأقل قدر ممكن من الخسائر'.
زوجتي عنيدة:
عناد الزوجة وتصلب رأيها ومخالفتها الزوج كل هذه الأمور تدفع الزواج على طريق شائك قد ينتهي بما لا تشتهيه النفوس، والكثير من الأزواج يشكون 'زوجتي عنيدة' وهو لا يعلم أن عنادها قد يكون هو السبب فيه، فإن تسلط الزوج أحيانًا وعدم استشارته للزوجة في أمور المعيشة وتحقير رأيها والاستهزاء به قد يدفع الزوجة في طريق العناد.
فهناك بعض الأزواج لديهم أفكار خاطئة عن خيبة وفساد رأي المرأة وأن مشورتها تجلب خراب البيوت، وهذه الأفكار فوق أنها حمقاء فهي بعيدة كل البعد عن هدي الإسلام، وتكفينا هنا الإشارة إلى مشورة أم سلمة رضي الله عنها التي كانت سببًا في نجاة المسلمين من فتنة معصية الله ورسوله.
وقد يأتي عناد الزوجة نتيجة لعدم التكيف مع الزوج والشعور باختلاف الطباع فيكون العناد صورة من صور التعبير عن رفض الزوجة سلوك زوجها، وكذا تعبيرًا عن عدم انسجامها معه في حياتهما الزوجية.
همسة في أذن الزوجين(/1)