إن هذه الشبكة مع ما فيها من المنافع إلا أن أضرارها أكبر بكثير من منافعها، وسلبياتها كثيرة جدا جدا، وقد انتبه الكفار لهذه الأشياء حتى على مستوى أطفالهم والإدمان، يقضي الطفل الأمريكي من 6- 10 ساعات يوميا على الشبكة.
بل العجيب أن بعض الآباء والأمهات هناك لهم رقابة على أطفالهم عند دخولهم الشبكة أكثر من بعض آبائنا وأمهاتنا على أطفالنا.. والأعجب من ذلك أن كثيرا منهم بهتوا وذهلوا عندما رأوا شدة الإباحية والجنس على تلك الشبكة هذا وهم كفار، فكيف بنا نحن المسلمين؟
إن من أخطار الإنترنت: انتشار مقاهي الإنترنت، وحجم المخاطر التي تأتي منها كبير جدا.. وهذه بعض الأرقام التي تؤكد ذلك، يقول بعض القائمين على مقاهي الإنترنت إن 70% من القادمين إلينا يأتون للتسلية المحرمة (اتصالات مع الأجنبيات، الإتصال على مواقع الفحش والرذيلة..). 85% من الأمريكيين يدخلون على مواقع إباحية 95% من الشباب في بعض الدول العربية يدخلون على المواقع ا لإبا حية.
أرايت أيها الأخ الكريم!! إن الله سبحانه وتعالى فد أخبرنا بمكائد أعدائنا، يقول جل من قائل: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولإن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير [البقر ة:112].
وفي كتاب مؤتمر العاملين المسيحيين بين المسلمين يقول: إن المسلمين يدعون أن في الإسلام ما يلي كل حاجة اجتماعية في البشر فعلينا نحن المبشرين أن نقاوم الإسلام با لأسلحة الفكرية والروحية.. ويقول مرماديوك باكتول: إن المسلمين يمكنهم أن ينشروا حضارتهم في العالم الآن بنفس السرعة التي نشروها سابقا بشرط أن يرجعوا إلى الأخلاق التي كانوا عليها حين قاموا بدورهم الأول لأن هذا العالم الخاوي لا يستطيع الصمود أمام روح حضارتهم.
وهاك أخي هذه القصة الواقعية التي تؤكد خطورة الإستخدام السيء للإنترنت والتي ذكرها فضيلة الشيخ: محمد بن صالح المنجد وهي عبارة عن رسالة جاءت إلى الشيخ من امرأة تقول فيها:~لقد كنا في سعادة وهناء دون مشاكل، وكان يغمر منزلنا ذكر الله، كان زوجي لا ينام عن صلاة الفجر وكان يصلي كل فرض في وقته ويخصص يوما في الأسبوع يتفقد أحوال المساكين ويذهب لزيارة أقربائه، ويتفقد أحوال المساجد، ويرى ماذا ينقص المساجد المجاورة وقد بارك الله له في رزقه وكان يساعد الناس في كل مكان ولكن عندما دخل على الإنترنت ابتلي بابتلاء عظيم عندما رأى تلك الصور الخليعة للفاجرات تغير حالة جدا وأصبح لا يعرف صلاة الفجر وكأنها محيت من قاموسه، أما الصلوات الباقية فأصبح يصليها في وقت متأخر، ولا يصلي مع الجماعة، حاولت المستحيل أن أنصحه، وبعدة طرق لكن دون جدوى قلت له: تزوج امرأة أخرى لكنه رفض.
أنا حائرة لا أدري ماذا أفعل؟ وقد يئست منه لأنه قال لي: لن اترك التفرج ولن أستطيع الإستغناء عنها؟ وأصبح كل وقته في ذلك الجهاز لكن المشكلة أن هذا العمل غلبه عليه شيطانه وأنا معي الآن منه ثلاثة أولاد وأريد أن يتربوا تربية صالحة ماذا أفعل؟ والمشكلة تطورت وقال: إنه سيشتري تلفزيون ودش وسيشترك في القنوات؟ أرجوكم ساعدوني..
أخي يا رعاك الله: لعلك وقفت معي في هذه الوقفة على جزء يسير من مخاطر الإستخدام السيء للإنترنت، وعلاج تلك المخاطر ليس في إقفال مواقع الشر فحسب، لأنه حسب الإحصائيات في كل ثلاث دقائق يظهر موقع جديد على الشبكة، ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية يقفلون كل يوم مائة موقع إباحي جزاهم الله خيرا، فإذن العلاج الحقيقي هو تقوى الله ومراقبته والإيمان الصادق بأنه يعلم السر وأخفى: يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور [غافر:19]. واعلم أخي أن لذة الدنيا زائلة ولا تستمر، فلا تدمر نفسك وإخوانك وأهلك باستخدامك السيء لهذه الشبكة العنكبوتية. وحذر كل من يستخدمها ذلك الإستخدام السيء بسوء العاقبة ومغبة النتيجة والفشل بكل أنواعه كما في القصة السابقة...
الوقفة الخامسة: الإنترنت والإدمان:
إن الإدمان لم يعد في المخدرات فقط بل إنه ظهر الآن نوع جديد من أنواع الإدمان ألا وهو إدمان الإنترنت.
من صفات مدمن الإنترنت:
1- اشتهاء المدمن موضوع إدمانه دائما والشغف به.
2- الألم الشديد عند مفارقته.
3- الرجفة واضطراب المزاج والضيق والتأفف وحصول الإصطدام بين المدمن وبين من يعايشونه.
4- فقدان الوظيفة.
5- الوقوع في الميسر والفواحش.
وقد ذكرت دكتورة أمريكية في محاضرة عن إدمان الإنترنت أنها قد وصلت إلى نتيجة بعدة أسئلة تطرح على مستخدم الشبكة، فإذا أجاب على أحدها بالإيجاب فهو مدمن انترنت، ومن تلك الأسئلة:
- هل هدد ارتباطك بالإنترنت وظيفتك أو علاقتك الأسرية؟
- هل ترى في الإنترنت وسيلة للهرب من مشاكل حياتك اليومية؟
- هل تكذب بشأن عدد الساعات التي تمضيها مع الإنترنت؟
إلى غير ذلك من الأسئلة...
أعراض الإدمان:(/2)
الأرق- إجهاد اليدين- آلام الظهر- آلام المعصم من كثرة العكوف على الجهاز.
الوقفة السادسة: نصائح لمستخدم الإنترنت:
أولا: إذا كنت في غنى عن هذه الشبكة فاستغن عنها ولا تسمح لأولادك بالذهاب إلى مقاهي الإنترنت.
ثانيا: إذا كنت من المضطرين إلى استخدامها فإليك هذه الوصايا:
ا- لا تسلم هذه الشبكة إلى الصغار والمراهقين والمراهقات فهذا خطر بالغ جدا لا يمكن أن يرضى به مسلم.
2- يجب أن ينحصر استخدام هذه الشبكة فيمن يستفيد منها، وفيما يفيد مثل: الإستفادة الشرعية (دعوة- نشر علم)، وكذلك أصحاب رسائل الماجستير والدكتوراة، الأطباء، إلخ. ويجب أن يمنع من استخدامها كل من يريد: الفرجة، إثباث القدرة على اختراق المواقع، الفضول، حب الإستطلاع، إلخ.
3- استخدم الانترنت في البحث عن المواقع الإسلامية الصحيحة العقيدة والمنهج، والإستفادة من تلك المواقع.
4- لا يغرك الشيطان بأن يزين لك الإشتراك في الإنترنت بحجة الدعوة إلى الله وأنت غير صادق فيما تقولى، وإذا أردت أن تعرف لماذا اشتركت في الإنترنت؟ فأنظر في المواقع التي تتصل عليها؟ وما هو الغالب منها. هل هي المواقع الإسلامية أم أنها مواقع أخرى؟.
الوقفة السابعة: إلى مستخدم الإنترنت:
أيها الأخ الكريم.. إلى أي حد نفقد تعاليم ديننا ونبتعد عنه إذا نحن ولجنا في هذه الشبكة العنكبوتية بقصد الإطلاع على المواقع الإباحية والإستمتاع- كما يزعمون - بمشاهدة تلك الصور الفاضحة المخزية.
أخي أكرمك الله بجنته.. ألا تعلم أن داء الشهوة والغرام يؤدي بالإنسان إذا تعلق به ودخل في قلبه إلى الوصول أحيانا إلى الكفر بالله سبحانه!. كان أحدهم مغرما بغلام اسمه أسلم فمرت عليه فتره ولم ير ذلك الغلام فأصابه المرض حتى وعده أحدهم أن يحضر له الغلام الآن، فكان ينتظره على أحر من الجمر وعندما جيء بالغلام فكر الغلام في نفسه، وقرر أن يرجع فذهبوا إلى ذلك الرجل وقالوا له: لقد رجع الغلام فأنشد أبياتا في الغلام منها:
لقاؤك أشهي لي *** من رحمة الخالق الجليل
أرأيت يا أخي أن البداية كانت حب وكرام بريء- كما يقال - فكانت النهاية كفر بالله سبحانه. والقصص على هذا الشيء كثيرة جدا ومعروفة.
أخي.. أين نحن من أسلافنا الصالحين.. كان الربيع بن خثيم من شدة غضه لبصره وإطراقه برأسه تظن النساء أنه أعمى، وقال ابن سيرين رحمه الله: والله ما غشيت امرأة قط في يقظة ولا في منام غير أم عبدالله - أي زوجته - وإني لأرى المرأة في المنام فأذكر أنها لا تحل لي فأصرف بصري عنها.
أيها الأخ الفاضل: إذا عرضت لك نظرة لا تحل فاعلم أنها مسعر حرب فاستتر منها بحجاب: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم [النور:30]، فقد سلمت من الأثر وكفى والله المؤمنين القتال.. ولا ترم بسهام النظر فإنها والله فيك تقع، رب راع مقلة أهملها فأغير على السرح.
كل الحوادث مبدأها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فعلت في قلب صاحبها *** فعل السهام بلا قوس ولا وتر ا
يا بائعا نفسه بهوى من حبه ضنى، ووصله أذى، وحسنه إلى فناء، لقد بعت أنفس الأشياء بثمن بخس. كأنك لم تعرف قدر السلعة ولا خسة الثمن، حتى إذا قدمت يوم التغابن تبين لك الغبن في عقد التبايع.
لا إله إلا الله سلعة الله مشتريها وثمنها الجنة والدلال الرسول ، ترضى بيعها بجزء مما لا يساوي كله جناح بعوضة!!!
أخي مستخدم الانترنت.. إذا ضغطت بأناملك على لوحة المفاتيح للإتصال على أحد المواقع وقبل أن تضغط على مفتاح الإدخال (Enter) تذكر أن الله سبحانه وتعالى أقرب إليك من حبل الوريد، وهو عالم جل في علاه بالسر وأخفى، فانظر أخي الكريم إن كان الموقع الذي تريد أن تتصل معه، فيه شيء من غضب القوي العزيز فإني أناديك قائلا: يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:39-40]. وإن كان الموقع الذي تريد أن تتصل معه فيه طاعة لله أو علم نافع مفيد أو أخبار للمسلمين فامض على بركة الله وجد في الدعوة إلى الله واحذر أن تقع فيما نهاك الله عنه، أسأل الله عز وجل أن يجمعني وإياك في جنات النعيم وأن يقينا وإياك سوء الفتن ما ظهر منها وما بطن اللهم آمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وقفة لمحاسبة النفس:
- النظر إلى المرأة الأجنبية حرام.
- سماع الغناء والمعازف حرام.
- على المسلم أن يسلم بعقيدته من الإرتياب ومواطن الشبه.
- على المسلم مجانبة الكافرين وعداوتهم.
- على المسلم نبذ المواطن التي يعصى فيها الله عز وجل بالقول أو الفعل فرارا بدينه.
- الحذر من الفتن في الشبهات والشهوات.
وفي الختام:(/3)
تذكر حديث النبي صلي الله عليه وسلم قبل أن تبدأ العمل على الإنترنت: { بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مسلما ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا }. حفظك الله ونزه سمعك وبصرك عما يشين.(/4)
عاشوراء يوم النصر العظيم
*د.عبد العزيز بن فوزان بن صالح الفوزان 9/1/1426
18/02/2005
الصراع بين الحق والباطل، وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان قديم قدم البشرية ذاتها، ولا يزال مستعراً مشبوباً إلى قيام الساعة، وهذه سنة الله في خلقه، وهي مقتضى حكمته ورحمته، قال الله عز وجل: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً)، وقال تعالى: (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض). فالله تعالى قادر على أن يهلك الظالمين في لحظة، ويأخذهم على حين غرة، ولكنه ابتلى بهم عباده المؤمنين ليكشف معادنهم، ويمتحن صدقهم وصبرهم، وجهادهم وبذلهم. فبالابتلاء يتميز المؤمن الصادق من الدعي المنافق, ويتبين المجاهد العامل من القاعد الخامل.
ولقد قصَّ الله لنا فصولاً كثيرة من هذا الصراع بين المؤمنين والكافرين. ومن هذه القصص العظيمة: قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون مصر في عهده، التي تكرر ذكرها في القرآن فيما يقارب ثلاثين موضعاً، وهي أكثر القَصص القرآني تكراراً، وذلك لمشابهتها لما كان يعانيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من صناديد قريش وفراعين هذه الأمة, ولما فيها من التسلية والتأسية له وللمؤمنين، حينما يشتد عليهم أذى الكفار والمنافقين، ولما اشتملت عليه من العظات البالغة، والدروس والحكم الباهرة، والحجج والآيات القاطعة.
وتبدأ قصة موسى مع فرعون, منذ أن كان موسى حملاً في بطن أمه، فقد قيل لفرعون: إن مولوداً من بني إسرائيل سيولد، وسيكون على يديه هلاكك وزوال ملكك.
وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وقد نزح إسرائيل وأولاده من الشام إلى مصر في عهد يوسف بن يعقوب عليهما السلام، وكان عددهم آنذاك ثمانين شخصاً، ثم لم يزل عددهم ينمو ونسلهم يتكاثر حتى بلغوا في عهد فرعون الطاغية ستمائة ألف إنسان.
وعندما أخبر فرعون أن زوال ملكه سيكون على يد غلام من بني إسرائيل أصدر أوامره بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم، حذراً من وجود هذا الغلام -ولن يغني حذر من قدر-، (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون )، واحترز فرعون كل الاحتراز ألا يوجد هذا الغلام، حتى جعل رجالاً وقابلات يدورون على النساء الحوامل، ويعلمون ميقات وضعهن، فلا تلد امرأة ذكراً إلا ذبحه من ساعته.
وكان هارون عليه السلام قد ولد قبل بدء هذه المحنة، فأنجاه الله من كيد فرعون، وأما موسى عليه السلام فإنه لما حملت به أمه حرصت على إخفاء حملها خوفاً عليه من القتل، وكان خوفها عليه يزداد مع مرور الأيام وقرب وقت المخاض، ولما وضعته ذكراً ضاقت به ذرعاً، وضاقت عليها الأرض بما رحبت، وركبها من الهم والخوف ما لا يعلمه إلا الله، وكان خوفها عليه أضعاف أضعاف فرحها بقدومه، ولكن الله جلّ وعلا ألهمها بما يثبت به فؤادها، كما قال تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خفت عليه، فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين).
فاستجابت أم موسى لهذا الإلهام، وصنعت لابنها صندوقاً، وألقته في نهر النيل، حيث كانت دارها مجاورة له، ألقته في النهر وكأنما ألقت معه عقلها وقلبها، فأصبح صدرها خالياً من الطمأنينة، خالياً من الراحة والاستقرار، ولولا أن الله ربط على قلبها بالإيمان، وشد عزمها باليقين، لكشفت السر وأفسدت التدبير ( وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين).
ويمضي الموج بالوليد الضعيف داخل الصندوق، يحفه الله بعنايته، ويكلؤه بحفظه ورعايته، حتى بلغ قصر فرعون، فالتقطه آل فرعون، ولما فتحوا التابوت وجدوا فيه ذلك الغلام الضعيف. ولكن رب الأرباب، ومالك القلوب والألباب، يلقي في قلب آسية زوجة فرعون فيضاً من الرحمة والرأفة والحنان، على هذا الطفل الرضيع: (وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أونتخذه ولداً وهم لايشعرون) وكانت آسية عاقراً لا تلد، وقوله تعالى: (وهم لا يشعرون) أي: كدناهم هذا الكيد، وجعلناهم يلتقطون موسى ليكون لهم عدواً وحزنا وهم لا يشعرون. وقد أنالها الله ما رجت منه من النفع والخير, فهداها الله بسببه، وجعلها من أهل جواره وجنته.(/1)
ولكن هذا الطفل المحفوف بعناية الله يفاجئوهم بأنه لا يقبل ثدي امرأة ليرضع، فحاروا في أمره، واجتهدوا في تغذيته بكل ممكن، وهو لا يزداد إلا رفضاً واستعصاء، ولا يزيدهم إلا عنتاً وحيرة، وبينما هم كذلك، إذ بأخته تقبل عليهم، وكانت أمها قد أمرتها بأن تتابع أخاها وهو في الصندوق، وأن تقفو أثره، لتعلم مستقره، وتستطلع خبره: (وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لايشعرون، فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون)، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً، وذهبوا معها إلى منزلهم، فلما رأته أمه ما كادت تصدق عينيها، فأخذته وضمته إلى صدرها وألقمته ثديها، فأخذ يرضع بنهم شديد، وهم في غاية الدهشة والسرور. وهكذا يأبى الله -عزّ وجل- إلا أن يحمل آل فرعون هذا الوليد إلى أمه التي خافت عليه منهم، ثم يعطوها مع ذلك أجرة إرضاعها له، ويتعهدوا وليدها بالتربية والرعاية، قال الله تعالى: (فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون).
وما زالت الأيام تمضي، والأعوام تترى، وكبر موسى وبلغ أشده، وآتاه الله حكماً وعلماً، فصار يأمر وينهى، ويقول فيسمع، ويشفع فيشفع، ولا غرو فهو ابن فرعون بالتبني، وهو ربيبه وواحد من أهل بيته، قال الله تعالى: (ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين). وبعد حين وقع في محنة عظيمة، حيث قتل رجلاً من قوم فرعون ما كان يريد قتله، وتخوف من الطلب، ففر هارباً إلى أرض مدين، ولبث فيهم عشر سنين، تزوج في أثنائها، ثم عاد إلى أرض مصر مع أهله، وفي الطريق إليها أكرمه الله برسالته، وأوحى إليه بوحيه، وكلمه كفاحاً من غير واسطة ولا ترجمان، وأرسله إلى فرعون بالآيات القاطعات والسلطان المبين، ولكن فرعون عاند وكابر، (فكذب وعصى, ثم أدبر يسعى، فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى) وادّعى أن ما جاء به موسى سحر، وأن عنده من السحر ما يبطله، وجمع السحرة من جميع أنحاء مملكته، فألقوا ما عندهم من السحر، (فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين، ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون) (فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون) (فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، وألقي السحرة ساجدين، قالوا آمنا برب العالمين، رب موسى وهارون).
ولما انقطعت حجة فرعون، وخاب كيده، وانكشف باطله وزيفه، لجأ إلى القوة والبطش، والتعذيب والتنكيل، والملاحقة والتشريد، وإرهاب الناس بالنار والحديد. إنه منطق الطغيان العاتي، كلما أعوزته الحجة، وخذله البرهان، وخاف أن يظهر الحق، ويتمكن أهله وروّاده.
ثم أرسل الله -عز وجل- على فرعون وقومه آيات عجيبة وعقوبات متنوعة: من الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، (وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر)، ولكنها -والعياذ بالله- لم تزدهم إلا عناداً واستكباراً، وظلماً وعدواناً، يقول الله تعالى: (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين).
ولما تمادى فرعون في طغيانه وإيذائه لموسى ومن معه، أوحى الله إلى موسى أن يخرج بالمسلمين من أرض مصر ليلاً، فخرجوا قاصدين بلاد الشام.
فلما علم فرعون بخروجهم جمع جيشه، وجنّد جنوده من شتّى أنحاء مملكته ليلحقهم ويمحقهم في زعمه: (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين، إن هؤلاء لشرذمة قليلون، وإنهم لنا لغائظون، وإنا لجميع حذرون).
فخرج فرعون وجنوده في أثرهم، حتى أدركهم عند البحر الأحمر (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون) فالبحر أمامهم، والعدو خلفهم!! فأجابهم موسى بلسان المؤمن الواثق بأن الله معه ولن يضيعه، وقال لهم بكل ثقة وثبات: (كلا إن معي ربي سيهدين)، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر، فضربه وهو يتلاطم بأمواجه، فانفلق بإذن الله اثني عشر طريقاً يابساً، وصار هذا الماء السيال، وتلك الأمواج العاتيات، كأطواد الجبال الراسيات، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين، ودخل فرعون وجنوده في أثرهم لاهثين سادرين، فلما جاوزه موسى وقومه، وتكاملوا خارجين، وتكامل فرعون وقومه داخلين، أطبقه الله عليهم وأغرقهم أجمعين: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى، فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى).
وهذا هو مصير أعداء الله في كل حين، وتلك هي عاقبة المكذبين الضالين، وما ربك بظلام للعبيد، يقول الله تعالى: (فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).(/2)
ويستفاد من هذه القصة أيضاً: أن العاقبة للمتقين، والنصر حليفهم، متى ما تمسكوا بدينهم، واستنزلوا النصر من ربهم: (وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم)، (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار).
ويستفاد منها كذلك: أن الباطل مهما انتفخ وانتفش، وتجبّر وتغطرس، وظن أنه لا يمكن لأحد أن ينازعه، أو يردّ كيده وباطله، أو يهزم جنده وجحافله؛ فإن مصيره إلى الهلاك، وعاقبته هي الذلة والهوان، فهذا فرعون الطاغية بلغ به التكبر والغرور أن يدّعي الإلوهية، وأن يعلن للناس بكل جرأة وصفاقة: (ما علمت لكم من إله غيري) وأن يقول بملء فيه من غير حياء ولا مواربة: (أنا ربكم الأعلى)، ثم يفتخر بقوته وسلطانه فيقول: (يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون)، ثم يحتقر موسى عليه السلام وهو النبي الصالح والداعية الناصح فيقول: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين)، ولكنه حين حلّ به العذاب لم يغن عنه ملكه وسلطانه، ولا جنده وأعوانه، ولا تبجحه وادعاؤه: (فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى).
فيا ترى متى وقع هذا الحدث العظيم، وتحقق هذا النصر المبين؟!! لقد كان ذلك في اليوم العاشر من هذا الشهر الكريم: شهر الله المحرم. فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً فنحن نصومه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه".
وقد كان صيام يوم عاشوراء واجباً قبل أن يفرض صيام رمضان، فلما فرض صيام رمضان أصبح صيام عاشوراء سنة مؤكدة. تقول حفصة رضي الله عنها: "أربع لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعهن: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتان قبل الفجر" رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني. وسئل ابن عباس -رضي الله عنهما- عن صيام عاشوراء؛ فقال: "ما علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صام يوماً يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم" متفق عليه. وبين النبي -عليه الصلاة والسلام- أن صيام هذا اليوم يكفر ذنوب سنة كاملة فقال: "صيام عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" رواه مسلم.
وروى مسلم أيضاً عن ابن عباس قال: "حين صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله! إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى؟ فقال: فإذا كان العام القابل إن شاء الله صمت التاسع. فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وفي صحيح مسلم أيضاً: "خالفوا اليهود، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده".
قال ابن القيم: "فمراتب صومه ثلاثة. أكملها: أن يصام قبله يوم وبعده يوم. ويلي ذلك: أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث. ويلي ذلك: إفراد العاشر وحده بالصوم" أ.هـ
وبناءً عليه، فإن إفراد العاشر وحده بالصوم جائز، وبه يحصل الأجر المذكور في تلك الأحاديث، والأكمل صيام التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر، حتى تحصل المخالفة لأهل الكتاب. وإن صمت يوماً قبله ويوماً بعده فهذا أحسن وأتم، حتى تستيقن صيام اليوم العاشر، خصوصاً إذا كان مشكوكاً في وقت دخول الشهر، ولأن السُّنة صيام ثلاثة أيام من كل شهر، كما أن الصيام في شهر محرم له خصوصية ومزية على ما سواه، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفضل الصيام بعد رمضان: شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل".
وإن وافق عاشوراء يوم الجمعة أو السبت فلا بأس بالصيام فيهما أو في أحدهما، لأن المنهي عنه هو إفراد الجمعة أو السبت بالصيام، لأجل أنه الجمعة أو السبت، أما إذا كان للصيام فيهما سبب شرعي يقتضيه، كيوم عاشوراء، أو يوم عرفة، ونحوهما فلا نهي حينئذ. ويشبه ذلك الصلاة في أوقات النهي إذا كان لها سبب شرعي.(/3)
ومن المفارقات العجيبة: ما حصل في هذا اليوم المبارك أيضاً من قتل سيد شباب أهل الجنة: الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وعن أبيه وأمه وآل بيته-، حيث قتل في فتنة عظيمة بين فئتين من المسلمين، وهي فتنة طهّر الله منها أيدينا فلا نخوض فيها بألسنتنا. ولكن الذي ينبغي التنبيه إليه: هو أن ما يفعله بعض الشيعة في هذا اليوم من البكاء والنواح على قتل الحسين -رضي الله عنه-، وما يقومون به من تعذيب أنفسهم، وإسالة الدماء من وجوههم وصدورهم وظهورهم، والتقرب إلى الله بضرب أبدانهم بالسلاسل والسكاكين، ولطم خدودهم، ونتف شعورهم، ليس من الإسلام في شيء، وهو من البدع المحدثة، والمنكرات الظاهرة، ومن كبائر الذنوب التي تبرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مرتكبيها، فقال: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" متفق عليه. وعن أبي -موسى رضي الله عنه- "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء من الصالقة والحالقة والشاقة" متفق عليه. والصالقة: هي التي ترفع صوتها بالنياحة والندب. والحالقة: هي التي تحلق رأسها عند المصيبة. والشاقة: هي التي تشق ثوبها. فكل عمل يدل على الجزع والتسخط، وعدم الرضا بقدر الله فإنه محرم. ويضاف إلى ذلك ما في هذه الأعمال البدعية المؤذية للأبدان من حماقة وسفاهة، وتشويه لصورة الإسلام، وتنفير لغير المسلمين من الدخول فيه. وقد رأينا بعض وسائل الإعلام العالمية المعادية تحرص على نشر هذه الأعمال البدعية بالصوت والصورة، زاعمة بأن هذا هو الإسلام، وهذا ما يفعله المسلمون في هذا اليوم من كل عام!!
وأشنع من هذا ما يفعله بعض هؤلاء المبتدعة من لعن للصحابة الأبرار، وإعلان للبراءة منهم. وهذا لعمر الله من أعظم الضلال، وأنكر المنكرات.
ويقابل هؤلاء فرقة أخرى، ناصبوا الحسين رضي الله عنه العداوة والبغضاء، فيتخذون هذا اليوم عيداً، ويظهرون فيه الفرح والسرور، ويلبسون الجديد، ويتبادلون الهدايا، ويصنعون أطعمة غير معتادة. وهذا كله من البدع المحدثة، والضلالات المنكرة، والبدعة لا تعالج بالبدعة، والخطأ لا يصحح بالخطأ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : "وقوم يستحبون الاكتحال والاغتسال، والتوسعة على العيال، واتخاذ أطعمة غير معتادة. وأصلها من المتعصبين بالباطل على الحسين -رضي الله عنه-، وكل بدعة ضلالة، ولم يستحب ذلك أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم. ولا عند من استحب ذلك حجة شرعية. بل المستحب يوم عاشوراء الصيام عند جمهور أهل العلم" أ.هـ
فاتق الله أيها المسلم، وعليك بالسنة والجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار. ولتعلم بأن منهج أهل السنة في الصحابة الكرام من آل البيت وغيرهم هو اعتقاد عدالتهم جميعاً، وأنهم أفضل هذه الأمة بعد رسولها صلى الله عليه وسلم. ولهذا اختارهم الله تعالى لصحبته ونصرته، وتبليغ هديه وسنته. ويدينون لله -عز وجل- بمحبتهم كلهم، والترضي عن جميعهم، ويسكتون عما شجر بينهم، وحصل لهم من الفتن والمحن، ويعتقدون أنهم جميعاً مجتهدون مريدون للحق، فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد وخطؤه مغفور. وأن أخطاءهم مهما عظمت فإنها مغمورة في بحور حسناتهم، التي من أعظمها صحبتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجهادهم معه. رضي الله عنهم أجمعين، وجمعنا بهم في جنات النعيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العامين. *عضو هيئة التدريس في كلية الشريعة بالرياض(/4)
عاشوراء:
أولاً: تعريف وبيان.
ثانياً: أي الأيام هو؟
1- أنه اليوم العاشر.
2- أنه اليوم التاسع.
ثالثاً: ما ورد في صيامه.
رابعاً: حكم صيامه.
1- حكمه قبل أن يفرض رمضان.
2- حكمه بعد أن فرض رمضان.
خامساً: الحكمة من صيامه.
سادساً: مسائل متفرقة.
1- هل يكره إفراده بالصوم؟
2- إذا وافق عاشوراء يوم سبت.
3- إذا نوى صيام عاشوراء مع قضاء أو نذر.
4- هل يقضي من صام التاسع والعاشر ثم تبين له أنه ليس هو يوم عاشوراء؟
سابعاً: بدع ومخالفات.
1- بدعة الحزن.
2- بدعة الفرح.
3- تخصيصه بإخراج الزكاة فيه.
4- زيارة القبور فيه.
5- من بدع النساء في هذا اليوم.
ثامناً: ما جاء في كسوة الكعبة في عاشوراء.
تاسعاً: مساجلة علمية لطيفة حول التوسعة على العيال في يوم عاشوراء.
أولا: تعريف وبيان:
قال ابن منظور: "عاشوراء وعشوراء ممدودان اليوم العاشر من محرم، وقيل: التاسع"([1]).
وذكر الحافظ أنه بالمد على المشهور، وحكي فيه القصر، وردَّ قول من زعم أنه اسم إسلامي لم يعرف في الجاهلية([2]).
قال القرطبي: "هو معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم"([3]).
وما ذُكر([4]) من أنه سمي بذلك لأن الله تعالى أكرم فيه عشرة من الأنبياء بعشر كرامات أو لأنه عاشر كرامة أكرم الله بها هذه الأمة لا دليل صحيح عليه.
ولم يُسمع على هذا المثال فاعولاء إلا هذا، والضاروراء الضراء، والساروراء السراء، والدالولاء الدلال. وقال ابن الأعرابي: الخابوراء موضع، وقد ألحق به تاسوعاء([5]).
([1]) لسان العرب (5/2952-2953) مادة (ع ش ر ).
([2]) فتح الباري (4/245).
([3]) انظر: فتح الباري (4/245).
([4]) ذكر ذلك المناوي في الفيض (4/299).
([5]) انظر: لسان العرب (5/2952-2953) مادة (ع ش ر )، وفتح الباري (4/245)، والمزهر في علوم اللغة (2/47).
ثانياً: أيُّ الأيام هو؟
اختلف أهل الشرع في تعيينه على قولين:
القول الأول: أنه اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو قول جماهير العلماء من السلف والخلف، وممن قال ذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق وخلائق, وهذا ظاهر الأحاديث ومقتضى اللفظ([1]).
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء، يوم العاشر([2]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: ((عاشوراء يوم العاشر))([3]).
قال القرطبي: "هو في الأصل صفة لليلة العاشرة؛ لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد واليوم مضاف إليها, فإذا قيل: يوم عاشوراء فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة, إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية، فاستغنوا عن الموصوف، فحذفوا الليلة، فصار هذا اللفظ علَما على اليوم العاشر"([4]).
وقال الزين بن المنير: "الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم, وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية"([5]).
القول الثاني: أنه اليوم التاسع من المحرم، وهو ظاهر قول ابن عباس رضي الله عنهما، وعليه يكون اليوم مضافا لليلته الآتية.
فعن الحكم بن الأعرج قال: انتهيت إلى ابن عباس رضي الله عنهما وهو متوسد رداءه في زمزم فقلت له: أخبرني عن يوم عاشوراء, قال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما, قلت: أهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه؟! قال: نعم([6]).
قال النووي: "هذا تصريح من ابن عباس بأن مذهبه أن عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم، ويتأوله على أنه مأخوذ من إظماء الإبل، فإن العرب تسمي اليوم الخامس من أيام الورد ربعا، وكذا باقي الأيام على هذه النسبة فيكون التاسع عشرا"([7]).
وقيل: إنما سمي يوم التاسع عاشوراء أخذا من أوراد الإبل، كانوا إذا رعوا الإبل ثمانية أيام ثم أوردوها في التاسع قالوا: وردنا عِشرا بكسر العين, وكذلك إلى الثلاثة([8]).
وخرَّج الزين بن المُنَيِّر كلام ابن عباس فقال: "قوله: (إذا أصبحت من تاسعه فأصبح) يشعر بأنه أراد العاشر؛ لأنه لا يصبح صائما بعد أن أصبح من تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة وهو الليلة العاشرة".
قال الحافظ ابن حجر: "ويقوِّي هذا الاحتمال ما رواه مسلم أيضا من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع))([9])، فمات قبل ذلك. فإنه ظاهر في أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم العاشر، وهمَّ بصوم التاسع، فمات قبل ذلك"([10]).(/1)
وذكر ابن القيم توجيها آخر لكلام ابن عباس، فقال ـ مستنبطا من قوله رضي الله عنهما: (صوموا التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود) ـ: "وهو يبين أن قول ابن عباس: (إذا رأيت هلال المحرم فاعدد، فإذا كان يوم التاسع فأصبح صائما) أنه ليس المراد به أن عاشوراء هو التاسع، بل أمره أن يصوم اليوم التاسع قبل عاشوراء. فإن قيل: ففي آخر الحديث قيل: كذلك كان يصومه محمد صلى الله عليه وسلم؟! قال: نعم، فدل على أن المراد به نقل الصوم لا صوم يوم قبله. قيل: قد صرح ابن عباس بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع))، فدل على أن الذي كان يصومه هو العاشر، وابن عباس راوي الحديثين معاً، فقوله كان يصومه محمد أراد به – والله أعلم – قوله: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)) عزم عليه، وأخبر أنه يصومه إن بقي. قال ابن عباس: هكذا كان يصومه، وصدق رضي الله عنه، هكذا كان يصومه لو بقي، فتوافقت الروايات عن ابن عباس، وعلم أن المخالفة المشار إليها بترك إفراده، بل يصام يوم قبله أو يوم بعده"([11]).
([1]) انظر: شرح النووي على مسلم (8/12).
([2]) أخرجه الترمذي في الصوم (755) وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح السنن (603). وأخرج البزار عن عائشة رضي الله عنها مثله، قال الهيثمي في المجمع (3/189): "رجاله رجال الصحيح".
([3]) عزاه السيوطي في الجامع الصغير للدارقطني والديلمي ورمز له بالصحة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3968).
([4]) انظر: فتح الباري (4/245).
([5]) انظر: فتح الباري (4/245).
([6]) أخرجه مسلم في الصيام (1133).
([7]) شرح النووي على مسلم (8/12).
([8]) انظر: فتح الباري (4/245).
([9]) أخرجه مسلم في الصيام (1134).
([10]) فتح الباري (4/245).
([11]) تهذيب السنن (3/323-324).
ثالثاً: ما ورد في صيامه:
1- عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشّهر, يعني رمضان([1]).
قال الحافظ ابن حجر: "هذا يقتضي أنّ يوم عاشُوراء أفضلُ الأيّام للصّائم بعد رمضان, لكنّ ابن عبّاس أسند ذلك إلى علمه فليس فيه ما يرُدُّ علم غيره, وقد روى مُسلم من حديث أبي قتادة مرفُوعًا: ((إنّ صوم عاشُوراء يُكفّر سنةً, وإنّ صيام يوم عرفة يُكفّر سنتين))، وظاهره أنّ صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشُوراء... وإنّما جمع ابن عبّاس بين عاشُوراء ورمضان - وإن كان أحدُهُما واجبًا والآخر مندُوبًا - لاشتراكهما في حُصُول الثّواب, لأنّ معنى (يتحرّى) أي: يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرّغبة فيه"([2]).
2- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه))([3]).
3- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهليّة, وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصومه، فلمّا قدم المدينة صامه وأمر النّاس بصيامه، فلمّا فرض رمضان قال: ((من شاء صامه ومن شاء تركه))([4]).
قال النووي: "اتفق العلماء على أن صوم يوم عاشوراء اليوم سنّة ليس بواجب... وروي عن ابن عمر كراهة قصد صومه وتعيينه بالصوم، والعلماء مجمعون على استحبابه وتعيينه"([5]).
وقال الحافظ ابن حجر: "وأمّا صيام قريش لعاشوراء فلعلّهم تلقّوه من الشّرع السّالف، ولهذا كانوا يعظّمونه بكسوة الكعبة فيه وغير ذلك. ثمّ رأيت في المجلس الثّالث من مجالس الباغنديّ الكبير عن عكرمة أنّه سئل عن ذلك فقال: أذنبت قريش ذنبا في الجاهليّة فعظم في صدورهم, فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفّر ذلك. هذا أو معناه"([6]).
4- وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان يوم عاشوراء تعظّمه اليهود وتتّخذه عيدا, فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ((صوموه أنتم))([7]).
قال النووي: "والحاصل من مجموع الأحاديث أن يوم عاشوراء كانت الجاهلية من كفار قريش وغيرهم واليهود يصومونه، وجاء الإسلام بصيامه متأكدًا، ثم بقي صومه أخف من ذلك التأكيد، والله أعلم"([8]).
وقال أيضًا: "قال المازري: خبر اليهود غير مقبول، فيُحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أُوحي إليه بصدقهم فيما قالوه، أو تواتر عنده النقل بذلك حتى حصل له العلم به. قال القاضي عياض ـ ردًا على المازري ـ: قد روى مسلم أن قريشًا كانت تصومه، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صامه، فلم يحدث له بقول اليهود حكم يحتاج إلى الكلام عليه، وإنما هي صفة حال، وجواب سؤال"([9]).(/2)
5- وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء, فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجّى اللّه بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى, قال: ((فأنا أحقّ بموسى منكم)), فصامه وأمر بصيامه([10]).
قال الحافظ: "قوله: (قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم) في رواية لمسلم: (فوجد اليهود صيامًا)... وقد استُشكل ظاهر الخبر لاقتضائه أنّه صلى الله عليه وسلم حين قدومه المدينة وجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، وإنّما قدم المدينة في ربيع الأوّل، والجواب عن ذلك أنّ المراد أنّ أوّل علمه بذلك وسؤاله عنه كان بعد أن قدم المدينة لا أنه قبل أن يقدمها علم ذلك، وغايته أن في الكلام حذفا تقديره: قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، فأقام إلى يوم عاشوراء، فوجد اليهود فيه صيامًا، ويحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون يوم عاشوراء بحساب السّنين الشّمسيّة, فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليومَ الّذي قدم فيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة. وهذا التأويل مما يترجح به أولوية المسلمين وأحقيتهم بموسى عليه الصلاة والسلام؛ لإضلالهم اليوم المذكور وهداية الله للمسلمين له ولكن سياق الأحاديث تدفع هذا التأويل، والاعتمادُ على التأويل الأول... قوله :(وأمر بصيامه)... استُشكل رجوعه إليهم ـ أي: اليهود ـ في ذلك، وأجاب المازريّ باحتمال أن يكون أوحي إليه بصدقهم، أو تواتر عنده الخبر بذلك, زاد عياض: أو أخبره به من أسلم منهم كابن سلام, ثمّ قال: ليس في الخبر أنّه ابتدأ الأمر بصيامه, بل في حديث عائشة التّصريح بأنّه كان يصومه قبل ذلك, فغاية ما في القصّة أنّه لم يحدث له بقول اليهود تجديد حكم, وإنما هي صفة حال وجواب سؤال، ولم تختلف الروايات عن ابن عباس في ذلك، ولا مخالفة بينه وبين حديث عائشة أنّ أهل الجاهليّة كانوا يصومون كما تقدّم, إذ لا مانع من توارد الفريقين على صيامه مع اختلاف السّبب في ذلك، قال القرطبيّ: لعل قريشا كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم، وصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم كما في الحج، أو أذن الله له في صيامه على أنه فعل خير، فلما هاجر ووجد اليهود يصومونه وسألهم وصامه وأمر بصيامه احتمل ذلك أن يكون ذلك استئلافا لليهود كما استألفهم باستقبال قبلتهم، ويحتمل غير ذلك، وعلى كلّ حال فلم يصمه اقتداء بهم, فإنّه كان يصومه قبل ذلك, وكان ذلك في الوقت الّذي يحبّ موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه"([11]).
وقال في عون المعبود في قوله صلى الله عليه وسلم: ((نحنُ أولى بمُوسى)): "أي نحنُ أثبت وأقرب لمُتابعة مُوسى صلّى اللّه عليه وسلّم منكُم، فإنّا مُوافقُون لهُ في أُصُول الدّين، ومُصدّقُون لكتابه، وأنتُم مُخالفُون لهُما بالتّغيير والتّحريف"([12]).
6- وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: لمّا صام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول اللّه، إنّه يوم تعظّمه اليهود والنّصارى, فقال: ((إذا كان عام المقبل إن شاء اللّه صمنا اليوم التّاسع))، قال: فلم يأت العام المقبل حتّى توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم([13]).
قال الشوكاني: "قوله: (تعظّمه اليهود والنّصارى) استشكل هذا بأنّ التّعليل بنجاة موسى وغرق فرعون ممّا يدلّ على اختصاص ذلك بموسى واليهود، وأجيب باحتمال أن يكون سبب تعظيم النّصارى أنّ عيسى كان يصومه, وهو ما لم ينسخ من شريعة موسى; لأنّ كثيرا منها ما نسخ بشريعة عيسى لقوله تعالى: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، وأكثر الأحكام إنّما يتلقّاها النّصارى من التّوراة، وقد أخرج أحمد عن ابن عبّاس أنّ السّفينة استوت على الجوديّ فيه, فصامه نوح وموسى شكرا للّه تعالى, وكأن ذكر موسى دون غيره لمشاركته له في الفرح باعتبار نجاتهما وغرق أعدائهما"([14]).
7- وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم أن أذّن في النّاس أنّ من أكل فليصم بقيّة يومه, ومن لم يكن أكل فليصم, فإنّ اليوم يوم عاشوراء([15]).
8- وعن علقمة أنّ الأشعث بن قيس دخل على عبد اللّه رضي الله عنه وهو يطعَم يوم عاشوراء, فقال: يا أبا عبد الرّحمن، إنّ اليوم يوم عاشوراء! فقال: قد كان يصام قبل أن ينزل رمضان, فلمّا نزل رمضان ترك، فإن كنت مفطرا فاطعَم([16]).
9- وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء صام, ومن شاء فليفطر))([17]).
10- وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله))([18]).(/3)
قال ابن القيم: "إن قيل: لم كان عاشوراء يكفر سنة، ويوم عرفة يكفر سنتين؟ قيل: فيه وجهان:
أحدهما أن يوم عرفة في شهر حرام وقبله شهر حرام وبعده شهر حرام، بخلاف عاشور.
الثاني أن صوم يوم عرفة من خصائص شرعنا بخلاف عاشوراء، فضوعف ببركات المصطفى صلى الله عليه وسلم. والله أعلم"([19]).
وقال الحافظ ابن حجر: "وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء، وقد قيل في الحكمة في ذلك: إن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى عليه السلام، ويوم عرفة منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك كان أفضل"([20]).
وقد استشكل بعضهم هذا الحديث بأنه إذا كان دأب العبد صيام يومي عرفة وعاشوراء، فماذا عسى أن يكفر صيام عاشوراء وقد تقدمه صيام يوم عرفة الذي يكفر سنة ماضية وأخرى آتية؟! وقد أجاب عن ذلك ابن القيم فقال: "وينبغي أن يعلم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى، فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر السيئات تكفيرا كاملا، والناقص بحسبه، وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة، وهما: تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان، وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه. وبهذا يزول الإشكال الذي يورده من نقص حظه من هذا الباب على الحديث الذي فيه: ((إن صوم يوم عرفة يكفر سنتين، ويوم عاشوراء يكفر سنة))، قالوا: فإذا كان دأبه دائما أنه يصوم يوم عرفه فصامه وصام يوم عاشوراء، فكيف يقع تكفير ثلاث سنين كلَّ سنة؟! وأجاب بعضهم عن هذا بأن ما فضل عن التكفير ينال به الدرجات، ويا لله العجب، فليت العبد إذا أتى بهذه المكفرات كلها أن تكفر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعض، والتكفير بهذه مشروط بشروط، وموقوف على انتفاء موانع في العمل وخارجه، فإن علم العبد أنه جاء بالشروط كلها، وانتفت عنه الموانع كلها، فحينئذ يقع التكفير، وأما عمل شملته الغفلة أو لأكثره، وفقد الإخلاص الذي هو روحه، ولم يوَفّ حقّه، ولم يقدره حق قدره، فأي شيء يكفر هذا؟! فإن وثق العبد من عمله بأنه وفاه حقه الذي ينبغي له ظاهرا وباطنا، ولم يعرض له مانع يمنع تكفيره، ولا مبطل يحبطه، من عجب أو رؤية نفسه فيه أو يمن به أو يطلب من العباد تعظيمه به أو يستشرف بقلبه لمن يعظمه عليه أو يعادي من لا يعظمه عليه ويرى أنه قد بخسه حقه وأنه قد استهان بحرمته، فهذا أي شيء يكفر؟! ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه"([21]).
11- وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه، ويتعاهدنا عنده، فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا، ولم يتعاهدنا عنده([22]).
12- وعن الربيع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنها قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: ((من كان أصبح صائمًا فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرًا فليتم بقية يومه))، فكنا بعد ذلك نصومه، ونصوّم صبياننا الصغار منهم إن شاء الله، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه عند الإفطار. وفي رواية: ونصنع لهم اللعبة من العهن، فنذهب به معنا، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم، حتى يتموا صومهم([23]).
قال النووي: "العهن: هو الصوف مطلقًا، وقيل: الصوف المصبوغ... وفي هذا الحديث تمرين الصبيان على الطاعات، وتعويدهم العبادات، ولكنهم ليسوا مكلفين"([24]).
13- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عاشوراء عيد نبي كان قبلكم، فصوموه أنتم))([25]).
قال المناوي: "روي أنه يوم الزينة الذي كان فيه ميعاد موسى لفرعون، وأنه كان عيدا لهم، قال ابن رجب: وهذا يدل على النهي عن اتخاذه عيدا، وعلى ندب صوم أعياد الكفار"([26]).
([1]) أخرجه البخاري في الصوم (2006) واللفظ له، ومسلم في الصيام (1132).
([2]) فتح الباري (4/249).
([3]) أخرجه البخاري في الصوم (2000) مختصرًا، ومسلم في الصيام (1126) واللفظ له.
([4]) أخرجه البخاري في الصوم (2002)، ومسلم في الصيام (1125).
([5]) شرح صحيح مسلم (8/4).
([6]) فتح الباري (4/246).
([7]) أخرجه البخاري في الصوم (2005)، ومسلم في الصيام (1131).
([8]) شرح صحيح مسلم (8/9).
([9]) شرح صحيح مسلم (8/10-11).
([10]) أخرجه البخاري في الصوم (2004)، ومسلم في الصيام (1130).
([11]) فتح الباري (4/247 ـ 248).
([12]) عون المعبود (4/78 ـ 79).
([13]) أخرجه مسلم في الصيام (1134).
([14]) نيل الأوطار (4/244).
([15]) أخرجه البخاري في الصوم (2007)، ومسلم في الصيام (1135).
([16]) أخرجه مسلم في الصيام (1127).
([17]) أخرجه البخاري في الصوم (2003)، ومسلم في الصيام (1129).
([18]) أخرجه مسلم في الصيام (1162).(/4)
([19]) بدائع الفوائد (4/211).
([20]) فتح الباري (4/249).
([21]) الوابل الصيب (ص 19-20).
([22]) أخرجه مسلم في الصيام (1128).
([23]) أخرجه البخاري في الصوم (1960)، ومسلم في الصيام (1136) واللفظ له.
([24]) شرح صحيح مسلم (8/14).
([25]) قال الهيثمي في المجمع (3/185): "رواه البزار، وفيه إبراهيم الهجري وثقه ابن عدي وضعفه الأئمة"، وأورده الألباني في ضعيف الجامع (3672).
([26]) فيض القدير (4/299).
رابعا: حكم صيامه:
1- حكمه قبل أن يفرض رمضان:
اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه كان واجبا، وهو قول أبي حنيفة ووجه عند الشافعية([1])، وروي عن أحمد([2]).
واستدلوا: بحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم أن أذّن في النّاس أنّ من أكل فليصم بقيّة يومه, ومن لم يكن أكل فليصم, فإنّ اليوم يوم عاشوراء([3]).
وبحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهليّة, وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصومه، فلمّا قدم المدينة صامه وأمر النّاس بصيامه، فلمّا فرض رمضان قال: ((من شاء صامه، ومن شاء تركه))([4]).
وذلك من وجهين: أولهما أن الأمر في قوله: (فليصم) وفي قولها: (وأمر بصيامه) للوجوب، والثاني أن قولها: فلمّا فرض رمضان قال: ((من شاء صامه، ومن شاء تركه)) يشعر أن صيامه كان واجبا قبل فرض رمضان.
القول الثاني: أنه لم يزل سنة من حين شرع، ولم يكن واجبا قط في هذه الأمة، ولكنه كان متأكد الاستحباب، فلما نزل صوم رمضان صار مستحبا دون ذلك الاستحباب، وهو أشهر الوجهين عند الشافعية([5])، وإليه ذهب القاضي وقال: هذا قياس المذهب([6]).
واستدلوا: بحديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء صام, ومن شاء فليفطر))([7]).
وردَّ ذلك الحافظ فقال: "قوله: ((ولم يكتب الله عليكم صيامه...)) إلخ استدل به على أنه لم يكن فرضًا قط، ولا دلالة فيه لاحتمال أن يريد: ولم يكتب الله عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان، وغايته أنه عام خُصَّ بالأدلة الدالة على تقدم وجوبه، أو المراد أنه لم يدخل في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]، ثم فسره بأنه شهر رمضان، ولا يناقض هذا الأمر السابق بصيامه الذي صار منسوخا، ويؤيد ذلك أن معاوية إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم من سنة الفتح, والذين شهدوا أمره بصيام عاشوراء والنداء بذلك شهدوه في السنة الأولى أوائل العام الثاني, ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبًا لثبوت الأمر بصومه، ثم تأكد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم: لما فرض رمضان ترك عاشوراء، مع العلم بأنه ما ترك استحبابه بل هو باقٍ، فدل على أن المتروك وجوبه.
وأما قول بعضهم: المتروك تأكد استحبابه والباقي مطلق استحبابه فلا يخفى ضعفه، بل تأكد استحبابه باق، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر))، ولترغيبه في صومه وأنه يكفر سنة، وأي تأكيد أبلغ من هذا؟!"([8]).
فائدة الخلاف: قال النووي: "وتظهر فائدة الخلاف في اشتراط نية الصوم الواجب من الليل، فأبو حنيفة لا يشترطها، ويقول: كان الناس مفطرين أول يوم عاشوراء، ثم أمروا بصيامه بنية من النهار، ولم يؤمروا بقضائه بعد صومه، وأصحاب الشافعي يقولون: كان مستحبا فصح بنية من النهار"([9]).
والحقيقة أنه لا يلزم من القول بأنه كان واجبا صحة صيام الفرض بنية من النهار، قال ابن قدامة: "وأما تصحيحه بنية من النهار وترك الأمر بقضائه فيحتمل أن نقول: من لم يدرك اليوم بكماله لم يلزمه قضاؤه، كما قلنا فيمن أسلم وبلغ في أثناء يوم من رمضان"([10]).
2- حكمه بعد أن فرض رمضان:
نقل النووي الاتفاق على أنه اليوم سنة وليس بواجب([11]).
وقال: "قال القاضي عياض: وكان بعض السلف يقول: كان صوم عاشوراء فرضا، وهو باق على فرضيته لم ينسخ، قال: وانقرض القائلون بهذا، وحصل الإجماع على أنه ليس بفرض، وإنما هو مستحب، وروي عن ابن عمر كراهة قصد صومه وتعيينه بالصوم، والعلماء مجمعون على استحبابه وتعيينه للأحاديث، وأما قول ابن مسعود: (كنا نصومه ثم ترك) فمعناه أنه لم يبق كما كان من الوجوب وتأكد الندب"([12]).
وضعَّف الحافظ قول من قال: إن المراد بالترك في كلام ابن مسعود ترك تأكُّد الندب، والصحيح أن المتروك هو الوجوب، وأما تأكد الاستحباب فباق، والله أعلم([13]).
([1]) انظر: شرح صحيح مسلم (8/4).
([2]) انظر: المغني (4/442).
([3]) أخرجه البخاري في الصوم (2007)، ومسلم في الصيام (1135).(/5)
([4]) أخرجه البخاري في الصوم (2002)، ومسلم في الصيام (1125).
([5]) انظر: شرح صحيح مسلم (8/4).
([6]) انظر: المغني (4/441-442).
([7]) أخرجه البخاري في الصوم (2003)، ومسلم في الصيام (1129).
([8]) فتح الباري (4/247).
([9]) شرح صحيح مسلم (8/4).
([10]) المغني (4/442).
([11]) شرح صحيح مسلم (8/4).
([12]) شرح صحيح مسلم (8/5).
([13]) فتح الباري (4/247).
خامسا: الحكمة من صيامه:
يوم عاشوراء هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى عليه السلام وقومه من فرعون وجنوده، فصامه موسى شكرا لله تعالى، وصامه نبينا صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه وقال: ((نحن أحقّ بموسى منكم)).
فرسول الإسلام والمسلمون هم أولى الناس وأحق الناس بموسى عليه السلام وبسائر الأنبياء والمرسلين، لأنهم آمنوا بما جاءت به الرسل ولا يفرقون بين أحد منهم، يؤمنون بهم جميعا، ويحبونهم ويعظمونهم ويحترمونهم، وينصرون دينهم الذي هو الإسلام لله رب العالمين.
فصيام يوم عاشوراء سنَّه نبينا صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة ورغَّب فيه، وفي ذلك من الحكم هذه الحكمة العظيمة، وهي أن دين الله تعالى واحد، ونبينا صلى الله عليه وسلم بُعث لإقامته، فهو ليس بدعا من الرسل، بل جاء مصدِّقا لما قبله من الكتاب، وأن الرسل إخوة لعلات، دعوا إلى الإسلام الذي أساسه توحيد الله تعالى والإخلاص له، وأنه لا عصبية في الإسلام، وفي ذلك أيضا أكبر علامة على عالمية هذا الدين وسعة رحمته، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
سادسا: مسائل متفرقة:
1- هل يكره إفراده بالصوم؟
عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: لمّا صام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول اللّه، إنّه يوم تعظّمه اليهود والنّصارى, فقال: ((إذا كان عام المقبل إن شاء اللّه صمنا اليوم التّاسع))، قال: فلم يأت العام المقبل حتّى توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم([1]).
قال ابن تيمية: "لا يكره إفراده بالصوم, ومقتضى كلام أحمد أنه يكره، وهو قول ابن عباس وأبي حنيفة"([2]).
قال الحافظ: "ما همَّ به من صوم التاسع يحتمل معناه: أنه لا يقتصر عليه بل يضيفه إلى اليوم العاشر إما احتياطا له، وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح, وبه يشعر بعض روايات مسلم, ولأحمد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعاً: ((صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود؛ صوموا يوما قبله أو يوما بعده)), وهذا كان في آخر الأمر.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ولا سيما إذا كان فيما يخالف فيه أهل الأوثان, فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا كما ثبت في الصحيح, فهذا من ذلك, فوافقهم أولا وقال: ((نحن أحق بموسى منكم)), ثم أحب مخالفتهم فأمر بأن يضاف إليه يوم قبله ويوم بعده خلافا لهم... وقال بعض أهل العلم: قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: ((لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع)) يحتمل أمرين:
أحدهما: أنه أراد نقل العاشر إلى التاسع.
والثاني: أراد أن يضيفه إليه في الصوم, فلما توفي صلى الله عليه وسلم قبل بيان ذلك كان الاحتياط صوم اليومين.
وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب: أدناها أن يصام وحده، وفوقه أن يصام التاسع معه، وفوقه أن يصام التاسع والحادي عشر والله أعلم"([3]).
وقال ابن القيم: "والصحيح أن المراد صوم التاسع مع العاشر لا نقل اليوم، لما روى أحمد في مسنده من حديث ابن عباس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خالفوا اليهود؛ صوموا يوما قبله أو يوما بعده))، وقال عطاء عن ابن عباس: صوموا التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود. ذكره البيهقي... ويدل عليه أن في رواية الإمام أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع – يعني لصوم عاشوراء – وخالفوا اليهود فصوموا قبله يوماً وبعده يوماً)) فذكرُ هذا عقب قوله: ((لأصومن التاسع)) يبين مراده وبالله التوفيق"([4]).
وقال: "فمراتب صومه ثلاثة: أكملها أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم. وأما إفراد التاسع فمن نقص فهم الآثار، وعدم تتبع ألفاظها وطرقها، وهو بعيد من اللغة والشرع، والله الموفق للصواب.
وقد سلك بعض أهل العلم مسلكا آخر فقال: قد ظهر أن القصد مخالفة أهل الكتاب في هذه العبادة مع الإتيان بها، وذلك يحصل بأحد أمرين: إما بنقل العاشر إلى التاسع، أو بصيامهما معا، وقوله: ((إذا كان العام المقبل صمنا التاسع)) يحتمل الأمرين، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتبين لنا مراده، فكان الاحتياط صيام اليومين معا، والطريقة التي ذكرناها أصوب إن شاء الله، ومجموع أحاديث ابن عباس عليها تدل"([5]).(/6)
وجاء في أجوبة اللجنة الدائمة للإفتاء ما نصه: "يجوز صيام يوم عاشوراء يوما واحدا فقط، لكن الأفضل صيام يوم قبله أو يوم بعده، وهي السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع))، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يعني مع العاشر)"([6]).
وقال الشيخ ابن باز: "صوم التاسع مع العاشر أفضل، وإن صام العاشر مع الحادي عشر كفى ذلك لمخالفة اليهود، وإن صامهما جميعا مع العاشر فلا بأس لما جاء في بعض الروايات: ((صوموا يوما قبله ويوما بعده))، أما صومه وحده فيكره، والله ولي التوفيق"([7]).
2- إذا وافق عاشوراء يوم سبت:
عن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمضغه))([8]).
قال ابن القيم: "وقد أشكل هذا الحديث على الناس قديما وحديثا:
فقال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن صيام يوم السبت يفرد به، فقال: أما صيام يوم السبت يفرد به فقد جاء فيه ذلك الحديث حديث الصماء، يعني: حديث ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم)).
قال أبو عبد الله: يحيى بن سعيد ينفيه، أبى أن يحدثني به، وقد كان سمعه من ثور، قال: فسمعته من أبي عاصم.
قال الأثرم: حجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر:
منها حديث أم سلمة حين سئلت: أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياما لها؟ فقالت: السبت والأحد.
ومنها حديث جويرية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها يوم الجمعة: ((أصمت أمس؟)) قالت: لا، قال: ((أتريدين أن صومي غدا؟!)) فالغد هو يوم السبت.
وحديث أبى هريرة: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة إلا مقرونا بيوم قبله أو يوم بعده، فاليوم الذي بعده هو يوم السبت.
وقال: ((من صام رمضان وأتبعه بست من شوال))، وقد يكون فيها السبت.
وحث على صيام الأيام البيض، وقد يكون فيها السبت، ومثل هذا كثير.
فقد فهم الأثرم من كلام أبي عبد الله أنه توقف عن الأخذ بالحديث، وأنه رخص في صومه، حيث ذكر الحديث الذي يحتج به على الكراهة، وذكر أن الإمام علل حديث يحيى بن سعيد وكان ينفيه وأبى أن يحدث به فهذا تضعيف للحديث.
واحتج الأثرم بما ذكر في النصوص المتواترة على صوم يوم السبت، يعني أن يقال: يمكن حمل النصوص الدالة على صومه على ما إذا صامه مع غيره، وحديث النهي على صومه وحده، وعلى هذا تتفق النصوص.
وهذه طريقة جيدة لولا أن قوله في الحديث: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم)) دليل على المنع من صومه مفردا أو مضافا؛ لأن الاستثناء دليل التناول، وهو يقتضي أن النهي عنه يتناول كل صور صومه إلا صورة الفرض، ولو كان إنما يتناول صورة الإفراد لقال: لا تصوموا يوم السبت إلا أن تصوموا يوما قبله أو يوما بعده، كما قال في الجمعة، فلما خص الصورة المأذون في صومها بالفرضية علم تناول النهي لما قابلها.
وقد ثبت صوم يوم السبت مع غيره بما تقدم من الأحاديث وغيرها، كقوله في يوم الجمعة: ((إلا أن تصوموا يوما قبله أو يوما بعده))، فدل على أنه غير محفوظ وأنه شاذ، وقد قال أبو داود: قال مالك: هذا كذب، وذكر بإسناده عن الزهري أنه كان إذا ذكر له النهي عن صيام يوم السبت يقول: هذا حديث حمصي، وعن الأوزاعي قال: ما زلت كاتما له حتى رأيته انتشر، يعني حديث ابن بسر هذا.
وقالت طائفة منهم أبو داود: هذا حديث منسوخ.
وقالت طائفة وهم أكثر أصحاب أحمد: محكم، وأخذوا به في كراهية إفراده بالصوم، وأخذوا بسائر الأحاديث في صومه مع ما يليه. قالوا: وجواب أحمد يدل على هذا التفصيل، فإنه سئل في رواية الأثرم عنه فأجاب بالحديث، وقاعدة مذهبه أنه إذا سئل عن حكم فأجاب فيه بنص يدل على أن جوابه بالنص دليل على أنه قائل به؛ لأنه ذكره في معرض الجواب، فهو متضمن للجواب والاستدلال معا، قالوا: وأما ما ذكره عن يحيى بن سعيد فإنما هو بيان لما وقع من الشبهة في الحديث، قالوا: وإسناده صحيح، ورواته غير مجروحين ولا متهمين، وذلك يوجب العمل به، وسائر الأحاديث ليس فيها ما يعارضه؛ لأنها تدل على صومه مضافا، فيحمل النهي على صومه مفردا كما ثبت في يوم الجمعة.
ونظير هذا الحكم أيضا كراهية إفراد رجب بالصوم، وعدم كراهيته موصولا بما قبله أو بعده، ونظيره أيضا ما حمل الإمام أحمد عليه حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى هريرة في النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان، أنه النهي عن ابتداء الصوم فيه، وأما صومه مع ما قبله من نصفه الأول فلا يكره.(/7)
قالوا: وقد جاء هذا مصرحا به في صوم يوم السبت، ففي مسند الإمام أحمد من حديث ابن لهيعة حدثنا موسى بن وردان، عن عبيد الأعرج حدثتني جدتي يعني: الصماء أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت وهو يتغدى، فقال: ((تعالَي تغدي))، فقالت: إني صائمة، فقال لها: ((أصمت أمس؟)) قالت: لا، قال: ((كلي، فإن صيام يوم السبت لا لك ولا عليك)). وهذا وإن كان في إسناده من لا يحتج به إذا انفرد لكن يدل عليه ما تقدم من الأحاديث، وعلى هذا فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا يوم السبت)) أي: لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض، فإن الرجل يقصد صومه بعينه، بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت فإنه يصومه وحده.
وأيضا فقصده بعينه في الفرض لا يكره، بخلاف قصده بعينه في النفل فإنه يكره ولا تزول الكراهة إلا بضم غيره إليه أو موافقته عادة، فالمزيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضا لا المقارنة بينه وبين غيره، وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه أو موافقته عادة ونحو ذلك.
قالوا: وأما قولكم: إن الاستثناء دليل التناول إلى آخره، فلا ريب أن الاستثناء أخرج صورة الفرض من عموم النهي، فصورة الاقتران بما قبله أو بما بعده أخرجت بالدليل الذي تقدم، فكلا الصورتين مخرج، أما الفرض فبالمخرج المتصل، وأما صومه مضافا فبالمخرج المنفصل، فبقيت صورة الإفراد واللفظ متناول لها، ولا مخرج لها من عمومه، فيتعين حمله عليها.
ثم اختلف هؤلاء في تعليل الكراهة، فعللها ابن عقيل بأنه يوم يمسك فيه اليهود ويخصونه بالإمساك، وهو ترك العمل فيه، والصائم في مظنة ترك العمل، فيصير صومه تشبها بهم، وهذه العلة منتفية في الأحد.
ولا يقال: فهذه العلة موجودة إذا صامه مع غيره ومع هذا فإنه لا يكره، لأنه إذا صامه مع غيره لم يكن قاصدا تخصيصه المقتضي للتشبه، وشاهده استحباب صوم يوم قبل عاشوراء وبعده إليه، لتنتفي صورة الموافقة.
وعلله طائفة أخرى بأنه يوم عيد لأهل الكتاب يعظمونه، فقصده بالصوم دون غيره يكون تعظيما له فكره ذلك، كما كره إفراد يوم عاشوراء بالتعظيم لما عظمه أهل الكتاب، وإفراد رجب أيضا لما عظمه المشركون. وهذا التعليل قد يعارض بيوم الأحد فإنه يوم للنصارى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اليوم لنا، وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى)) ومع ذلك فلا يكره صومه. وأيضا فإذا كان يوم عيد فقد يقال: مخالفتهم فيه يكون بالصوم لا بالفطر، فالصوم فيه تحقيق للمخالفة، ويدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما من حديث كريب مولى ابن عباس قال: أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة أسألها: أي الأيام كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها صياما؟ فقالت: كان يصوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: ((إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم))، وصححه بعض الحفاظ، فهذا نص في استحباب صوم يوم عيدهم لأجل مخالفتهم، فكيف نعلل كراهة صومه بكونه عيدا لهم؟! وفي جامع الترمذي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس، قال الترمذي: حديث حسن، وقد روى ابن مهدي هذا الحديث عن سفيان ولم يرفعه. وهذان الحديثان ليسا بحجة على من كره إفراد السبت بالصوم.
وعلله طائفة بأنهم يتركون العمل فيه، والصوم مظنة ذلك، فإنه إذا ضم إليه الأحد زال الإفراد المكروه، وحصلت المخالفة بصوم يوم فطرهم، وزال عنها صورة التعظيم المكروه بعدم التخصيص المؤذن بالتعظيم، فاتفقت بحمد الله الأحاديث، وزال عنها الاضطراب والاختلاف، وتبين تصديق بعضها بعضا"([9]).
وقال الطحاوي: "ذهب قوم إلى هذا الحديث, فكرهوا صوم يوم السبت تطوعا، وخالفهم في ذلك آخرون, فلم يروا بصومه بأسا.
وكان من الحجة عليهم في ذلك أنه قد جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صوم يوم الجمعة إلا أن يصام قبله يوم أو بعده يوم. وقد ذكرنا ذلك بأسانيده فيما تقدم من كتابنا هذا, فاليوم الذي بعده هو يوم السبت.
ففي هذه الآثار المروية في هذا إباحة صوم يوم السبت تطوعا, وهي أشهر وأظهر في أيدي العلماء من هذا الحديث الشاذ الذي قد خالفها.
وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صوم عاشوراء وحض عليه, ولم يقل: إن كان يوم السبت فلا تصوموه، ففي ذلك دليل على دخول كل الأيام فيه.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود عليه السلام, كان يصوم يوما ويفطر يوما))، وسنذكر ذلك بإسناده في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى. ففي ذلك أيضا التسوية بين يوم السبت وبين سائر الأيام.(/8)
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا بصيام أيام البيض... وقد يدخل السبت في هذه كما يدخل فيها غيره من سائر الأيام، ففيها أيضا إباحة صوم يوم السبت تطوعا.
ولقد أنكر الزهري حديث الصماء في كراهة صوم يوم السبت, ولم يعده من حديث أهل العلم بعد معرفته به... سئل الزهري عن صوم يوم السبت فقال: لا بأس به، فقيل له: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في كراهته, فقال: ذاك حديث حمصي, فلم يعده الزهري حديثا يقال به, وضعفه.
وقد يجوز عندنا ـ والله أعلم إن كان ثابتا ـ أن يكون إنما نهي عن صومه لئلا يعظم بذلك فيمسك عن الطعام والشراب والجماع فيه كما يفعل اليهود، فأما من صامه لا لإرادة تعظيمه ولا لما تريد اليهود بتركها السعي فيه فإن ذلك غير مكروه.
فإن قال قائل: فقد رخص في صيام أيام بعينها مقصودة بالصوم, وهي أيام البيض, فهذا دليل على أن لا بأس بالقصد بالصوم إلى يوم بعينه، قيل له: إنه قد قيل: إن أيام البيض إنما أمر بصومها لأن الكسوف يكون فيها ولا يكون في غيرها, وقد أمرنا بالتقرب إلى الله عز وجل بالصلاة والعتاق ليلتَه وغير ذلك من أعمال البر عند الكسوف، فأمر بصيام هذه الأيام ليكون ذلك برا مفعولا بعقب الكسوف, فذلك صيام غير مقصود به إلى يوم بعينه في نفسه، ولكنه صيام مقصود به في وقت شكرا لله عز وجل لعارض كان فيه, فلا بأس بذلك.
كذلك أيضا يوم الجمعة إذا صامه رجل شكرا لعارض من كسوف شمس أو قمر أو شكرا لله عز وجل, فلا بأس بذلك, وإن لم يصم قبله ولا بعده يوما"([10]).
وقال في المنهاج: "(ويكره إفراد) يوم (الجمعة) بالصوم لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده))، ولكونه يوم عيد... (وإفراد السبت) أو الأحد بالصوم كذلك بجامع أن اليهود تعظم الأول، والنصارى تعظم الثاني، فقصد الشارع بذلك مخالفتهم, ومحل ما تقرر إذا لم يوافق إفراد كل يوم من الأيام الثلاثة عادة له، وإلا كأن كان يصوم يوما ويفطر يوما، أو يصوم عاشوراء أو عرفة، فوافق يوم صومه فلا كراهة كما في صوم يوم الشك، ذكره في المجموع, وهو ظاهر وإن أفتى ابن عبد السلام بخلافه, ويؤخذ من التشبيه أنه لا يكره إفرادهما بنذر وكفارة وقضاء، وخرج بـ(إفراد) ما لو صام أحدهما مع يوم قبله أو يوم بعده، فلا كراهة لانتفاء العلة؛ إذ لم يذهب أحد منهم لتعظيم المجموع, وقضية التعليل بالتقوي بالفطر في كراهة إفراده أنه لا فرق بين إفراده وجمعه, لكنه إذا جمعهما حصل له بفضيلة صوم غيره ما يجبر ما حصل فيه من النقص قاله في المجموع".
3- إذا نوى صيام عاشوراء مع قضاء أو نذر:
قال العراقي: "(ومنها) أن ينوي صوم عاشوراء مع قضاء أو نذر أو كفارة، فالقياس عدم الصحة، وأفتى شرف الدين البارزي بحصوله عنهما, وهو مشكل، أما إذا نوى في يوم عاشوراء الصيام عن نذر أو كفارة أو قضاء وأطلق، فالقياس حصول الفرض فقط، وأفتى البارزي بحصولهما, وهو بعيد وقال صاحب المهمات: القياس أن لا يصح لواحد منهما, وهو مردود أيضا، بل الصواب حصول الفرض فقط".
وجاء في أجوبة اللجنة الدائمة ما نصه: "إذا صام اليوم العاشر والحادي عشر من شهر محرم بنية قضاء ما عليه من الأيام التي أفطرها من شهر رمضان جاز ذلك، وكان قضاءً عن يومين مما عليه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))"([11]).
4- هل يقضي من صام التاسع والعاشر ثم تبين له أنه ليس هو يوم عاشوراء؟
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: "ليس عليه القضاء، وله الأجر إن شاء الله كاملا على حسب نيته، لأنه ظن أن هذا هو التاسع والعاشر حسب التقويمات، فله أجره إن شاء الله، وليس عليه قضاء، وله أجر صوم اليومين".
وفي حالة ما إذا تبين له في اليوم الثاني الذي ظنه العاشرَ أن غدا عاشوراء، فهل يواصل صيام ثلاثة أيام، قال الشيخ رحمه الله: "الأفضل له أن يواصل حتى يصوم العاشر يقينا، هذا هو الأفضل، وإن لم يصم فلا حرج، ويفوته صوم العاشر"([12]).
([1]) أخرجه مسلم في الصيام (1134).
([2]) الاختيارات (ص 110).
([3]) فتح الباري (4/245-246).
([4]) تهذيب السنن (3/323-324).
([5]) زاد المعاد (2/76).
([6]) فتاوى اللجنة الدائمة (10/401).
([7]) فتاوى إسلامية (2/170) جمع المسند.
([8]) أخرجه أحمد (4/189)، وأبو داود في الصوم (2421)، والترمذي في الصوم (744)، والنسائي في الكبرى (2759)، وابن ماجه في الصيام (1726) وغيرهم.
([9]) تهذيب السنن (3/297-301)، وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/569-575).
([10]) شرح معاني الآثار (2/80-81).
([11]) فتاوى اللجنة الدائمة (10/402).
([12]) فتاوى إسلامية (2/170) جمع المسند.
سابعا: بدع ومخالفات:
1ـ بدعة الحزن واتخاذ يوم عاشوراء مأتما:
وهي بدعة أحدثتها الرافضة([1]) في هذا اليوم، ومن مظاهرها النياحة ولطم الخدود وشق الجيوب والتعزي بعزاء الجاهلية وسب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.(/9)
قال ابن تيمية: "وصار الشيطان بسبب قتل الحسين رضي الله عنه يحدث للناس بدعتين: بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء من اللطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاد المراثي وما يفضي إليه ذلك من سب السلف ولعنتهم وإدخال من لا ذنب له مع ذوي الذنوب، حتى يُسب السابقون الأولون، وتُقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها كذب، وكان قصد من سن ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة؛ فإن هذا ليس واجبا ولا مستحبا باتفاق المسلمين، بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أعظم ما حرمه الله ورسوله"([2]).
وقال أيضا: "فصارت طائفة جاهلة ظالمة، إما ملحدة منافقة، وإما ضالة غاوية، تظهر موالاته وموالاة أهل بيته، تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، وتظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود وشق الجيوب والتعزي بعزاء الجاهلية. والذي أمر الله به ورسوله في المصيبة إذا كانت جديدة إنما هو الصبر والاحتساب والاسترجاع، كما قال تعالى: {وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ % الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ % أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صلاتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157]، وفى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية))، وقال: ((أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة))، وقال: ((النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب))، وفي المسند عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين عن النبي أنه قال: ((ما من رجل يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدمت فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها))، وهذا من كرامة الله للمؤمنين، فإن مصيبة الحسين وغيره إذا ذكرت بعد طول العهد فينبغي للمؤمن أن يسترجع فيها كما أمر الله ورسوله، ليعطى من الأجر مثل أجر المصاب يوم أصيب بها، وإذا كان الله تعالى قد أمر بالصبر والاحتساب عند حدثان العهد بالمصيبة، فكيف مع طول الزمان؟! فكان ما زينه الشيطان لأهل الضلال والغي من اتخاذ يوم عاشوراء مأتما، وما يصنعون فيه من الندب والنياحة وإنشاد قصائد الحزن ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير، والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن والتعصب وإثارة الشحناء والحرب وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام والتوسل بذلك إلى سب السابقين الأولين وكثرة الكذب والفتن في الدنيا، ولم يُعرف [في] طوائف الإسلام أكثر كذبا وفتنا ومعاونة للكفار على أهل الإسلام من هذه الطائفة الضالة الغاوية، فإنهم شر من الخوارج المارقين"([3]).
2ـ بدعة الفرح واتخاذ يوم عاشوراء عيدا:
وهي بدعة أحدثتها النواصب([4]) في هذا اليوم، ومن مظاهر ذلك إظهار الفرح والسرور والاغتسال والتجمل والاكتحال والتطيب وإعداد المطاعم وذبح الذبائح والتوسعة على العيال إلى غير ذلك.
وقد سئل شيخ الإسلام عما يفعله الناس في يوم عاشوراء من الكحل والاغتسال والحناء والمصافحة وطبخ الحبوب وإظهار السرور وغير ذلك إلى الشارع: فهل ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح أم لا؟ وإذالم يرد حديث صحيح في شيء من ذلك فهل يكون فعل ذلك بدعة أم لا؟ وما تفعله الطائفة الأخرى من المأتم والحزن والعطش, وغير ذلك من الندب والنياحة وقراءة المصروع وشق الجيوب: هل لذلك أصل أم لا؟
فأجاب: "الحمد لله رب العالمين. لم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه, ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئا, لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين, لا صحيحا ولا ضعيفا, لا في كتب الصحيح, ولا في السنن ولا المسانيد, ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة. ولكن روى بعض المتأخرين في ذلك أحاديث مثل ما رووا أن من اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد من ذلك العام, ومن اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام, وأمثال ذلك. ورووا فضائل في صلاة يوم عاشوراء, ورووا أن في يوم عاشوراء توبة آدم, واستواء السفينة على الجودي, ورد يوسف على يعقوب, وإنجاء إبراهيم من النار, وفداء الذبيح بالكبش ونحو ذلك. ورووا في حديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ((من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر السنة))، ورواية هذا كله عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب, ولكنه معروف من رواية سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه قال: بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته. وإبراهيم بن محمد بن المنتشر من أهل الكوفة، وأهل الكوفة كان فيه طائفتان:
طائفة رافضة يظهرون موالاة أهل البيت, وهم في الباطن إما ملاحدة زنادقة, وإما جهال وأصحاب هوى.(/10)
وطائفة ناصبة تبغض عليًا وأصحابه لما جرى من القتال في الفتنة ما جرى... وكان في الكوفة بين هؤلاء وهؤلاء فتن وقتال، فلما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما يوم عاشوراء قتلته الطائفة الظالمة الباغية, وأكرم الله الحسين بالشهادة, كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته، أكرم بها حمزة وجعفر وأباه عليا وغيرهم, وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته, وأعلى درجته, فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة, والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء... فكان الحسن والحسين قد سبق لهما من الله تعالى ما سبق من المنزلة العالية, ولم يكن قد حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب, فإنهما ولدا في عز الإسلام, وتربيا في عز وكرامة, والمسلمون يعظمونهما ويكرمونهما, ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستكملا سن التمييز, فكانت نعمة الله عليهما أن ابتلاهما بما يلحقهما بأهل بيتهما, كما ابتلي من كان أفضل منهما, فإن علي بن أبي طالب أفضل منهما وقد قتل شهيدا.
وكان مقتل الحسين مما ثارت به الفتن بين الناس، كما كان مقتل عثمان رضي الله عنه من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بين الناس, وبسببه تفرقت الأمة إلى اليوم، ولهذا جاء في الحديث: ((ثلاث من نجا منهن فقد نجا: موتي , وقتل خليفة مصطبر، والدجال)).
وكان ما كان, إلى أن ظهرت الحرورية المارقة, مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم, فقاتلوا أمير المؤمنين عليا ومن معه, فقتلهم بأمر الله ورسوله... فكانت هذه الحرورية هي المارقة, وكان بين المؤمنين فرقة, والقتال بين المؤمنين لا يخرجهم من الإيمان... ثم إن عبد الرحمن بن ملجم من هؤلاء المارقين, قتل أمير المؤمنين عليا فصار إلى كرامة الله ورضوانه شهيدا, وبايع الصحابة للحسن ابنه, فظهرت فضيلته التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حيث قال: ((إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين))، فنزل عن الولاية وأصلح الله به بين الطائفتين, وكان هذا مما مدحه به النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه, ودل ذلك على أن الإصلاح بينهما مما يحبه الله ورسوله، ويحمده الله ورسوله، ثم إنه مات وصار إلى كرامة الله ورضوانه, وقامت طوائف كاتبوا الحسين ووعدوه بالنصر والمعاونة إذا قام بالأمر, ولم يكونوا من أهل ذلك, بل لما أرسل إليهم ابن عمه أخلفوا وعده, ونقضوا عهده, وأعانوا عليه من وعدوه أن يدفعوه عنه, ويقاتلوه معه. وكان أهل الرأي والمحبة للحسين كابن عباس وابن عمر وغيرهما أشاروا عليه بأن لا يذهب إليهم, ولا يقبل منهم, ورأوا أن خروجه إليهم ليس بمصلحة, ولا يترتب عليه ما يسر, وكان الأمر كما قالوا, وكان أمر الله قدرا مقدورا.
فلما خرج الحسين رضي الله عنه، ورأى أن الأمور قد تغيرت, طلب منهم أن يدعوه يرجع, أو يلحق ببعض الثغور, أو يلحق بابن عمه يزيد, فمنعوه هذا وهذا حتى يستأسر, وقاتلوه فقاتلهم، فقتلوه وطائفة ممن معه مظلوما شهيدا شهادة أكرمه الله بها وألحقه بأهل بيته الطيبين الطاهرين، وأهان بها من ظلمه واعتدى عليه.
وأوجب ذلك شرًا بين الناس، فصارت طائفة جاهلة ظالمة إما ملحدة منافقة, وإما ضالة غاوية, تظهر موالاته وموالاة أهل بيته، تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة, وتظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود, وشق الجيوب, والتعزي بعزاء الجاهلية... فعارض هؤلاء قوم إما من النواصب المتعصبين على الحسين وأهل بيته, وإما من الجهال الذين قابلوا الفاسد بالفاسد, والكذب بالكذب, والشر بالشر, والبدعة بالبدعة, فوضعوا الآثار في شعائر الفرح والسرور يوم عاشوراء كالاكتحال والاختضاب وتوسيع النفقات على العيال وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة، ونحو ذلك مما يفعل في الأعياد والمواسم, فصار هؤلاء يتخذون يوم عاشوراء موسما كمواسم الأعياد والأفراح، وأولئك يتخذونه مأتما يقيمون فيه الأحزان والأتراح.
وكلا الطائفتين مخطئة خارجة عن السنة, وإن كان أولئك أسوأ قصدا، وأعظم جهلا, وأظهر ظلما, لكن الله أمر بالعدل والإحسان...
ولم يسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون في يوم عاشوراء شيئا من هذه الأمور, لا شعائر الحزن والترح, ولا شعائر السرور والفرح.
وأما سائر الأمور مثل اتخاذ طعام خارج عن العادة, إما حبوب وإما غير حبوب, أو تجديد لباس وتوسيع نفقة, أو اشتراء حوائج العام ذلك اليوم, أو فعل عبادة مختصة كصلاة مختصة به, أو قصد الذبح, أو ادخار لحوم الأضاحي ليطبخ بها الحبوب, أو الاكتحال والاختضاب, أو الاغتسال أو التصافح, أو التزاور أو زيارة المساجد والمشاهد ونحو ذلك, فهذا من البدع المنكرة التي لم يسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون, ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين، لا مالك ولا الثوري ولا الليث بن سعد ولا أبو حنيفة ولا الأوزاعي ولا الشافعي ولا أحمد بن حنبل ولا إسحاق بن راهويه ولا أمثال هؤلاء من أئمة المسلمين وعلماء المسلمين.(/11)
وإن كان بعض المتأخرين من أتباع الأئمة قد كانوا يأمرون ببعض ذلك ويروون في ذلك أحاديث وآثارا, ويقولون: إن بعض ذلك صحيح، فهم مخطئون غالطون بلا ريب عند أهل المعرفة بحقائق الأمور، وقد قال حرب الكرماني في مسائله: سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث: ((من وسع على أهله يوم عاشوراء)) فلم يره شيئا. وأعلى ما عندهم أثر يروى عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه أنه قال: بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته، قال سفيان بن عيينة: جربناه منذ ستين عاما فوجدناه صحيحا، وإبراهيم بن محمد كان من أهل الكوفة, ولم يذكر ممن سمع هذا ولا عمن بلغه, فلعل الذي قال هذا من أهل البدع الذين يبغضون عليا وأصحابه، ويريدون أن يقابلوا الرافضة بالكذب مقابلة الفاسد بالفاسد والبدعة بالبدعة.
وأما قول ابن عيينة فإنه لا حجة فيه, فإن الله سبحانه أنعم عليه برزقه, وليس في إنعام الله بذلك ما يدل على أن سبب ذلك كان التوسيع يوم عاشوراء, وقد وسع الله على من هم أفضل الخلق من المهاجرين والأنصار ولم يكونوا يقصدون أن يوسعوا على أهليهم يوم عاشوراء بخصوصه. وهذا كما أن كثيرا من الناس ينذرون نذرا لحاجة يطلبها, فيقضي الله حاجته, فيظن أن النذر كان السبب, وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر, وقال: ((إنه لا يأتي بخير, وإنما يستخرج به من البخيل))، فمن ظن أن حاجته إنما قضيت بالنذر فقد كذب على الله ورسوله...
وقد اتفق أهل المعرفة والتحقيق أن الرجل لو طار في الهواء, أو مشى على الماء, لم يتبع إلا أن يكون موافقا لأمر الله ورسوله, ومن رأى من رجل مكاشفة أو تأثيرا فاتبعه في خلاف الكتاب والسنة كان من جنس أتباع الدجال...
ودين الإسلام مبني على أصلين: على أن لا نعبد إلا الله, وأن نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع، قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} [الكهف:110]، فالعمل الصالح ما أحبه الله ورسوله, وهو المشروع المسنون, ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: (اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا, ولا تجعل لأحد فيه شيئا)"([5]).
وقال ابن القيم: "أحاديث الاكتحال يوم عاشوراء والتزين والتوسعة والصلاة فيه وغير ذلك من فضائل لا يصح منها شيء، ولا حديث واحد، ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء غير أحاديث صيامه، وما عداها فباطل.
وأمثل ما فيها: ((من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته))، قال الإمام أحمد: لا يصح هذا الحديث.
وأما أحاديث الاكتحال والادهان والتطيب فمن وضع الكذابين، وقابلهم آخرون فاتخذوه يوم تألم وحزن، والطائفتان مبتدعتان خارجتان على السنة، وأهل السنة يفعلون فيه ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصوم، ويجتنبون ما أمر به الشيطان من البدع"([6]).
3- تخصيصه بإخراج الزكاة فيه:
قال ابن الحاج رحمه الله: "ثم إنهم يضمون إلى ذلك بدعة أو محرما، وذلك أنه يجب على بعضهم الزكاة مثلا في شهر صفر أو ربيع أو غيرهما من شهور السنة، فيؤخرون إعطاء ما وجب عليهم إلى يوم عاشوراء، وفيه من التغرير بمال الصدقة ما فيه، فقد يموت في أثناء السنة أو يفلس، فيبقى ذلك في ذمته، وأقبح ما فيه أن صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه شهد فيه بأنه ظالم بقوله عليه الصلاة والسلام: ((مطل الغني ظلم))، وفيه بدعة أخرى وهو أن الشارع صلوات الله عليه وسلامه حدَّ للزكاة حولا كاملا وهو اثنا عشر شهرا، وفي فعلهم المذكور زيادة على الحول بحسب ما جاءهم يوم عاشوراء، فقد يكون كثيرا وقد يكون قليلا، وعند بعض من ذُكر نقيض ذلك، وهو أن يخرج الزكاة قبل وقتها لأجل يوم عاشوراء، فيكون ذلك قرضا منه للمساكين، ومذهب مالك رحمه الله أن ذلك لا يجزيه كما لو أحرم بصلاة الفرض قبل وقتها فإنه لا يجزيه عند الجميع، فكذلك فيما نحن بسبيله، وعند الشافعي رحمه الله يجزيه بشرط أن يكون دافع الزكاة وآخذها باقيين على وصفيهما من الحياة والجدة والفقر حتى يتم حول ذلك المال المزكى عنه، وفي هذا من التغرير بمال الصدقة كالأول"([7]).
4- زيارة القبور فيه:
قال ابن الحاج: "ومما أحدثوه فيه من البدع زيارة القبور، ونفس زيارة القبور في هذا اليوم المعلوم بدعة مطلقا للرجال والنساء"([8]).
5- من بدع النساء في هذا اليوم:
قال ابن الحاج: "ومن البدع التي أحدثها النساء فيه استعمال الحناء على كل حال، فمن لم يفعلها منهن فكأنها ما قامت بحق عاشوراء.
ومن البدع أيضا محرهن([9]) فيه الكتان وتسريحه وغزله وتبييضه في ذلك اليوم بعينه، ويشلنه ليخِطن به الكفن، ويزعمن أن منكرا ونكيرا لا يأتيان من كفنُه مخيطٌ بذلك الغزل، وهذا فيه من الافتراء والتحكم في دين الله ما هو ظاهر بيِّن لكل من سمعه، فكيف بمن رآه؟!(/12)
ومما أحدثوه فيه من البدع البخور، فمن لم يشتره منهن في ذلك اليوم ويتبخر به فكأنما ارتكب أمرا عظيما، وكونه سنة عندهن لا بد من فعلها وادخارهن له طول السنة يتبركن به ويتبخرن إلى أن يأتي مثله يوم عاشوراء الثاني، ويزعمن أنه إذا بخر به المسجون خرج من سجنه، وأنه يبرئ من العين والنظرة والمصاب والموعوك، وهذا أمر خطر؛ لأنه مما يحتاج فيه إلى توقيف من صاحب الشريعة صلوات الله عليه وسلامه، فلم يبق إلا أنه أمر باطل فعلنه من تلقاء أنفسهن"([10]).
([1]) قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (4/471-472): "إن الرافضة أمة ليس لها عقل صريح، ولا نقل صحيح، ولا دين مقبول، ولا دنيا منصورة، بل هم من أعظم الطوائف كذبا وجهلا، ودينهم يُدخل على المسلمين كلَّ زنديق ومرتد، كما دخل فيه النصيرية والإسماعيلية وغيرهم، فإنهم يعمدون إلى خيار الأمة يعادونهم، وإلى أعداء الله من اليهود والنصارى والمشركين يوالونهم، ويعمدون إلى الصدق الظاهر المتواتر يدفعونه، وإلى الكذب المختلق الذي يعلم فساده يقيمونه، فهم كما قال فيهم الشعبي رحمه الله ـ وكان من أعلم الناس بهم ـ: لو كانوا من البهائم لكانوا حمرا، ولو كانوا من الطير لكانوا رخمًا".
([2]) منهاج السنة (4/554).
([3]) مجموع الفتاوى (25/307-309).
([4]) طائفة من الخوارج يكفرون علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويفسقونه، ويتنقصون بحرمة أهل البيت، مثل من كان يعاديهم على الملك، أو يعرض عن حقوقهم الواجبة، أو يغلو في تعظيم يزيد بن معاوية بغير الحق. انظر: مجموع الفتاوى (28/492-493).
([5]) مجموع الفتاوى (25/299-317)، وانظر: (4/513-514)، والفتاوى الكبرى (4/560)، ومنهاج السنة (4/554) وما بعدها.
([6]) المنار المنيف (ص 89).
([7]) المدخل (1/290).
([8]) المدخل (1/290).
([9]) كذا في المطبوع من المدخل، والظاهر أنه خطأ، ولا أدري ما هو.
([10]) المدخل (1/291).
ثامنا: ما جاء في كسوة الكعبة في عاشوراء:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان، وكان يوما تُستَر فيه الكعبة([1]).
قال الحافظ ابن حجر: "يفيد أن الجاهلية كانوا يعظمون الكعبة قديما بالستور ويقومون بها... ويستفاد من الحديث أيضا معرفة الوقت الذي كانت الكعبة تكسى فيه من كل سنة، وهو يوم عاشوراء، وكذا ذكر الواقدي بإسناده عن أبي جعفر الباقر أن الأمر استمر على ذلك في زمانهم، وقد تغير ذلك بعد، فصارت تكسى في يوم النحر، وصاروا يعمدون إليه في ذي القعدة، فيعلقون كسوته إلى نحو نصفه، ثم صاروا يقطعونها فيصير البيت كهيئة المحرم، فإذا حل الناس يوم النحر كسوه الكسوة"([2]).
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقوله الناس، إنما كان يوم تستر فيه الكعبة وتقلس فيه الحبشة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يدور في السنة، وكان الناس يأتون فلانا اليهودي فيسألونه، فلما مات اليهودي أتوا زيد بن ثابت فسألوه([3]).
قال الحافظ ابن حجر: "قال شيخنا الهيثمى في زوائد المسانيد: لا أدري ما معنى هذا، قلت: ظفرت بمعناه في كتاب الآثار القديمة لأبي الريحان البيروني، فذكر ما حاصله أن جهلة اليهود يعتمدون في صيامهم وأعيادهم حساب النجوم، فالسنة عندهم شمسية لا هلالية، قلت: فمن ثم احتاجوا إلى من يعرف الحساب ليعتمدوا عليه في ذلك"([4]).(/13)
وقال في شرح قول ابن عباس رضي الله عنهما: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء): "استشكل هذا لأن قدومه صلى الله عليه وسلم إنما كان في ربيع الأول، وأجيب باحتمال أن يكون علمه بذلك تأخر إلى أن دخلت السنة الثانية، قال بعض المتأخرين: يحتمل أن يكون صيامهم كان على حساب الأشهر الشمسية، فلا يمتنع أن يقع عاشوراء في ربيع الأول، ويرتفع الإشكال بالكلية، هكذا قرره ابن القيم في الهدي، قال: وصيام أهل الكتاب إنما هو بحساب سير الشمس، قلت: وما ادعاه من رفع الإشكال عجيب؛ لأنه يلزم منه إشكال آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين أن يصوموا عاشوراء بالحساب، والمعروف من حال المسلمين في كل عصر في صيام عاشوراء أنه في المحرم لا في غيره من الشهور، نعم وجدت في الطبراني بإسناد جيد عن زيد بن ثابت قال: ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقول الناس، إنما كان يوم تستر فيه الكعبة وتقلس فيه الحبشة، وكان يدور في السنة، وكان الناس يأتون فلانا اليهودي يسألونه، فلما مات أتوا زيد بن ثابت فسألوه. فعلى هذا فطريق الجمع أن تقول: كان الأصل فيه ذلك، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء رده إلى حكم شرعه، وهو الاعتبار بالأهلة، فأخذ أهل الإسلام بذلك، لكن في الذي ادعاه أن أهل الكتاب يبنون صومهم على حساب الشمس نظر، فإن اليهود لا يعتبرون في صومهم إلا بالأهلة، هذا الذي شاهدناه منهم، فيحتمل أن يكون فيهم من كان يعتبر الشهور بحساب الشمس، لكن لا وجود له الآن، كما انقرض الذين أخبر الله عنهم أنهم يقولون، عزير ابن الله تعالى الله عن ذلك"([5]).
قال الحافظ: "حكى الأزرقي أن معاوية كساها الديباج والقباطي والحبرات, فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء، والقباطي في آخر رمضان... وسيأتي في أوائل غزوة الفتح ما يشعر أنها كانت تكسى في رمضان"([6]).
وقال في أوائل غزوة الفتح في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: ((هذا يوم يعظِّم الله فيه الكعبة، ويومٌ تُكسى فيه الكعبة))([7]): "قيل: إن قريشا كانوا يكسون الكعبة في رمضان فصادف ذلك اليوم, أو المراد باليوم الزمان كما قال: يوم الفتح, فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه هو الذي يكسوها في ذلك العام, ووقع ذلك"([8]).
([1]) أخرجه البخاري في الحج (1592).
([2]) فتح الباري (3/455).
([3]) أخرجه الطبراني في الكبير (5/138)، وقال الهيثمي في المجمع (3/187): "لا أدري ما معناه، وفيه عبد الرحمن بن أبي الزناد، وفيه كلام كثير، وقد وثق"، وحسن الحافظ إسناده في الفتح (4/248).
([4]) فتح الباري (4/248).
([5]) فتح الباري (7/276).
([6]) فتح الباري (3/459).
([7]) جزء من حديث، أخرجه البخاري في قصة الفتح (4280).
([8]) فتح الباري (8/9-10).
تاسعا: مساجلة علمية لطيفة حول التوسعة على العيال يوم عاشوراء:
بمناسبة يوم عاشوراء ننقل فيما يلي مساجلة علمية لطيفة، حصلت بين عالمين كبيرين من علماء الجزائر الداعين إلى السنة والمحاربين للبدع، حول مسألة التوسعة على العيال في هذا اليوم، وفيها من الفوائد والدروس ما لا يخفى على اللبيب:
ورد على قسم الفتوى من جريدة البصائر العدد (15)([1]) ـ لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ـ استفتاءٌ هذا نصه:
"سأل السيد محمد بن عبد الله الطنجي الساكن في البُلَيدة بقوله: أفتى بعض الطلبة بجواز التوسعة على العيال يوم عاشوراء، واعتمد في فتواه تلك حديث: ((من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته))، وهل هذا الحديث الذي استدل به صحيح أو حسن أو ضعيف أو موضوع؟ أفيدونا تؤجروا".
فأجاب على هذا الاستفتاء الشيخ أبو يعلى الزواوي رحمه الله ـ وكان هو المتولي قسم الفتوى بالجريدة ـ فأجابه بالتالي:
"أصاب من أفتى بذلك، وإن التوسعة على العيال مطلوبة في المواسم كلها، وفي غير المواسم، قال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7]، والحديث في معجم الطبراني ولفظه: ((من وسع على عياله في يوم عاشوراء وسع الله عليه في سنته كلها)).
قلت: وأجبنا هذا السائل أخذًا لخاطره فقط، ومن حيث السؤال على الحديث، وإلا فإن الإنفاق على العيال لا يُستفتى فيه، إنما يستفتى في عدم الإنفاق إن استطاع وبخل".
وفي العدد (20)([2]) ورد مقال للشيخ عمر بن البسكري بعنوان: (وتعانوا على البر والتقوى. كتاب كريم إلى أخ كريم) وهذا نصّه:
"من عبد ربه عمر بن البسكري إلى أخيه بل والده الإصلاحي شيخ المصلحين، ومصلح الشيوخ سيدي أبي يعلى سعيد الزواوي أمد الله في عمره لنفع المسلمين، السلام عليكم ورحمة الله، وبعد: فقد اطلعت لفضيلتكم بجريدة "البصائر" على ما يتحتم التنبيه عليه؛ والدعوة إلى إصلاح خلله، لما في الأثر: ((المؤمن للمؤمن كالمرآة))، ولما في الصحيح: ((المؤمن لأخيه المؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)).(/14)
ذلك سيدي ما أفتيتم به في العدد الخامس عشر من الجريدة المذكور تحت عنوان: (قسم الفتوى) من تأييد من يقول بجواز التوسعة على العيال يوم عاشوراء، ومعتمد كل منكما على حديث: ((من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته)) لقولكم حرفيًا: أصاب من أفتى بذلك وإن التوسعة على العيال مطلوبة في المواسم كلها وفي غير المواسم قال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ اللَّهُ}، والحديث في معجم الطبراني ولفظه: ((من وسع على عياله في يوم عاشوراء وسع الله عليه في سنته كلها)) هكذا قلتم حرفيًا.
سيدي أحيط جنابكم علمًا بأن الحديث المذكور يقول فيه حجة الإسلام ابن تيمية ما نصه حرفيًا في كتابه منهاج السنة (ج 4/ص 114): وقد يروي كثير ممن ينتسب إلى السنة أحاديث يظنونها من السنة وهي كذب، كالأحاديث المروية في فضل عاشوراء ـ غير الصوم ـ وفضل الكحل فيه والاغتسال والحديث والخضاب والمصافحة وتوسعة النفقة على العيال فيه ونحو ذلك، وليس في أحاديث عاشوراء حديث صحيح غير الصوم ـ هكذا يقول حرفيًا ـ وتبعه تلميذه ابن القيم وابن رجب وغيرهم. ثم لا يخفى على جنابكم أن الجرح مقدم على التعديل.
وأما الآية التي استدللتم بها فهي غير مطابقة لمحل النزاع لأنها في أصل النفقة العامة في سائر الأيام التي تقل وتكثر بحسب رزق المنفق، وهي لم يسألكم عنها السائل وإنما تبرعتم بها توسعة للإفادة العلمية، وذلك حسن ولكن بعد الإفادة المسئول عنها؛ لأن السائل إنما سألكم عن توسعة مخصوصة، في يوم مخصوص، كما لا يخفى ذلك عليكم وما ورد عاما لا يستدل به على أمر خاص، ولو كان ذلك الخاص داخلاً تحت ذلك العام في الجملة كمسألتنا هذه.
فإذا سأل سائل آخر مثلاً عن التقرب بصلاة مخصوصة ليلة المولد النبوي أو القراءة عند القبور فلا يجاب بأن الصلاة مطلوبة في كل وقت لقوله تعالى: {وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً} [الإسراء:79]، ولا بأن تلاوة القرآن مطلوبة لقوله تعالى: {فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20]، أو بقوله تعالى: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْءانَ} [النمل:92].
هذا ومما زاد في تشجيعي على إسداء هذه الكلمة والنصيحة لجنابكم قولكم حرفيًا في العدد السابع عشر من البصائر: (وعلى كل حال فإنني لست ممن يقول: لا أقبل النصيحة ـ إلى أن قلتم ـ: بل إني أقبل النصيحة من أهلها بشرطها).
وختامًا سيدي أرجو إقرار كتابي إن كان حقًا، أو رده إن كان خطأ، والسلام عليكم. معاد من أخيكم".
وفي العدد الذي بعده([3]) أجاب الشيخ أبو يعلى على تعقب الشيخ عمر، وذلك تحت عنوان: (وتعاونوا على البر والتقوى. إلى أخ فاضل) وكان نص جوابه:
"بسم الله الرحمن الرحيم. من أبي يعلى إلى أخيه في الله ومحبه من أجله سيدي عمر بن البسكري، كثير السلام وبعد: فقد اطلعت على خطابكم الموجه إلي في شأن ذكري الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط جوابًا إلى السائل عن توسعة النفقة على العيال في عاشوراء إلخ ما وقفتم عليه، فالجواب: إني معتمدٌ ذلك كما اعتمده جملة من شراح المختصر الذي به الفتوى في مذهبنا المالكي مثل الدسوقي والعدوي على الخرشي وقال الدسوقي تعليقًا على قول الدردير: ونَدْبُ توسعة على الأهل ما لفظه: (قوله وندب فيه توسعة على الأهل إلخ) اقتصر عليها مع أنه يندب فيه عشر خصال جمعها بعضهم في قوله:
صُم صَلِّ صِل زُرْ عالمًا ثم اغتسل رأس اليتيم امسح تصدَّق واكتحل
وسِّع على العيال قلم ظفرًا وسورة الإخلاص قل ألفًا تَصِل
لقوة حديث التوسعة" اهـ بالحرف، وقال العدوي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من وسع...)) الحديث، وذكر الحديث بلفظه ولم يعزه للطبراني، وذكره الشرنوبي في خُطَبه، وإني نفسي راجعت الجامع الصغير بعد أن بعثت بالفتيا إلى الجريدة فوجدت الشارح العزيزي يقول بضعف أسانيد الحديث، وهكذا تساهلوا في إيراد الأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال فتساهلنا، والحق أن لا يتساهل في الحديث على الإطلاق، وأن لا يعتبر إلا الصحيح تحفظًا من الخطأ والوقوع في الكذب عليه صلى الله عليه وسلم، ولكن ما الحيلة وقد طفح الكيل في كتب الفقهاء ولذلك أقول لك ما قال الأول: وجدت آجرًا وجصًا فبنيت ومكان القول ذا سعة، فإن معضلة الحديث ومشاكله والخلاف فيه أعيى الفحول، وأعجبني ابن كثير الذي تكلم في أصنافه حيث يقول: لا يلزم تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، إنما يلزم اعتبار الصحيح والضعيف فقط. يعني رحمه الله: لا يلزم في الحديث إلا الصحيح حبذاك.(/15)
ألا ترون إلى ما جرى ويجري في شأن الحديث الذي أورده ابن حبيب من أتباع مالك في القراءة على الجنازة وهو ـ الحديث ـ ضعيف ثم اعتمده جميع شراح المختصر وكادوا يضربون بذلك على قول إمامهم مالك القائل بالكراهة، والحال أنهم عالمون أن ابن حبيب ضعيف في الحديث كما ذكروا ذلك في ترجمته في الديباج المذهب في أعيان المذهب وقال ابن رشد في بداية المجتهد في باب الجمعة: وأحاديث ابن حبيب لا يحتج بها لأنه ضعيف، ومع ذلك فنحن في ردود مستمرة على هذا الشأن. وإنه مما يجب التحري في الاستدلال [ألاّ يستدل] بالحديث إلا إذا كان صحيحًا وهو صواب ولكنه صعب.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وألهمنا وألهم الأمة للصواب أن تتحفظ وتحذر من الوقوع في الكذب على نبيها. والله المستعان وعليه التكلان".
([1]) الصادر يوم الجمعة 25 المحرم الحرام 1355هـ، الموافق ليوم 17 أبريل 1936م.
([2]) الصادر يوم الجمعة أول ربيع الأول 1355هـ، الموافق ليوم 22 مايو 1936م.
([3]) الصادر يوم الجمعة 8 ربيع الأول(/16)
[1] عاصٍ ... يبني الحياء
... إنه أنا ذلك الشاب الذي هتك ستار عفته بيده سعيًا وراء لذة تستمر بضع لحظات ثم ما تلبث أن تزول، فأسعى وراءها من جديد تتملكني ونشغل على كياني وفكري، لكنني اليوم تعرضت لموقف عجيب، رأيته أمامي واقفًا يتحدث وصديق لي يحاوره ويسأله: ألم ترتبك كذا قط؟أم تمتد يدك لفعل كذا فقط؟وهو يجيب متعجبًا: الحمد لله، كلا لم يحدث، ويضيف متعجبًا 'أنا لا أظن أن هذا الفعل بهذه الدرجة من المتعة والتلذذ، وأنا أصون نفسي حتى يمن الله تعالى عليَّ بالزواج، ظننته في بادئ الأمر يكذب أو يداري أو يريد أن يتفاخر علينا بحفظه لنفسه، ولكني لمحت في وجهه أمارات الصدق، ورأيت مِن تربيته في بيته وحرصه على الطاعة، وحرص أبويه ما جعلني أرجح صدقه.لكن أكثر ما لفت انتباهي هو معنى جديد دفعني هذا الحوار إلى تأمله، فقد كنا وما زلنا في مجتمعاتنا نحرص على عرض المرأة وشرفها، ونفرق بين العفيفة الشريفة وغيرها، ولكن لم يخطر ببالي قط أن تقع عيني على شاب عفيف في سعار الشهوة القائم من حولنا والشباب الباحثين عن وسيلة لتصريفها بأقل الأضرار كما يدعون، أو بما هو أفضل من غيرهم الذين يهتكون ستر الحياء والعفة ويعيشون في الأرض فسادًا.لكن ها هو الآن ماثل أمام عيني يضحك ويتحدث ويعيش حياة طبيعية ظاهرها كباطنها بوجه واحد لا بوجهين، وقد دفعني هذا الموقف إلى أن تثور في ذهني تساؤلات عدة دفعني إليها تأمل تاج العفة على رأس المتعففين، ذلك التاج الذي لا يراه إلا من هتك ستر عفته واعتدى على حد ربه، وكانت أول هذه التساؤلات:أيمكن لمن هتك ستر عفته أن يستعيده من جديد؟هل يعقل أن يتحول من ولغ في أشكال المعصية وألوانها وأضحى خبيرًا فيها وعمر فيها زمنًا إلى عفيفي طاهر شديد الحياء؟وانطلق عقلي يؤكد استحالة ذلك، فما تم كسره لا يمكن إصلاحه.ومن فتح عينه ليس كن أغمضها وهو قدري ولا بد لي من التسليم به.وبعد أن أطمأن عقلي أني قد أرخيت ذراعي وسلمت بما أخبرني هو أنه قدري حانت مني التفاته سريعة إلى مشهدين رئيسيين:الأول:صور الأشخاص من الماضي والحاضر؟ أسماء رنانة لفنانين وفنانات وممثلين وممثلات، بل ونماذج أخرى ممن حولنا ممن نعرف شدة الولوغ فيما حرم الله وفجأة تجد من يأتي ليخبرك بلبس فلانة للحجاب، والتزام الآخر بالصلاة فتبادر غير مصدق لرؤيتهم والتأكد، فترى عجبًا: هذه التي بذلت عمرها تتكشف بجسدها وتتفنن في إبراز مفاتنها هي اليوم قد ارتدت هذا الثوب الواسع الفضفاضي، ولا تملك نفسها من أن تمد يدها كل دقيقة إلى حجابها ليس لتتأكد من بقاء الخصلة الأمامية من شعرها ظاهرة، بل تمد إحدى يديها لتدفع بشعرها إلى الداخل، والأخرى تشد طرف حجابها إلى الأمام تستر به جبهتها، أخرى صوتها كان يسبق مرآها إذا به ينخفض إلى درجة احتياج المحاور الاستفهام عما تقول، وفي ذات الوقت صور من الماضي للصحابة والتابعين التائبين الراجعين إلى الله تعالى، وقد كانوا يرتكبون عظيم المعاصي ثم إذا بهم ينقلبون آية في الحياء والعفة.الثاني: تأملت في حال البشر فرأيت للكل أماني وأحلام ورأيت كذلك عزمًا وهمة، فمن البشر من حلمه عظيم وهمته ضعيفة فيظل يحلم حتى يموت، ومنهم من حلمه ضئيل أو دنيء وهو يسعى حثيثًا لتحصيله ومنهم .. ومنهم...ولكن لا أحد يمنع أحدًا من الحلم بما شاء، وهمة المرء هي الحكم الفصل في تحصيل حلمه بعد إرادة الله تعالى.ثم عدت فتأملت في خطاب عقلي وهو يمنعني من المحاولة ويفقدني الأمل في التجربة, فإذا به يبحث عن مصلحته ويسعى لتحصيل راحته العاجلة لعدم رغبته في بذل الجهد والمحاولة.ثم أعدت التأمل فرأيت الحياة لا قيمة لها بدون المحاولة والتجربة وأن تحلم وتسعى لتحقيق حلمك، ثم تأملت ثالثة فرأيت المحاولات وإن كثرت والفشل وإن تكرر إلا أنه يثبت قيمة الإنسان, فهو يحلم ويسعى, ولذا رتب الله الأجر في القرآن على المحاولة ابتداءً ما دامت بإصرار ومثابرة:{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّه}...ثم تأملت أخيرًا فإذا معامل القوة والضعف الحقيقي بداخلي لا من الخارج وأن المسألة كلها تتعلق بالإجابة الصادقة على سؤالي: هل أريد؟ولما حسمت الإجابة على التساؤل الأول الذي انبعث في عقلي اندفع الثاني يبحث عن إجابة وهو كيف؟كيف يمكن لمن ولغ في المعاصي وهتك ستر عفته أن يستعيد ما تم كسره ويعيد إصلاحه؟لكن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى طول فكر وتأمل فنرجئها بإذن الله إلى لقاء آخر.
[2] عاصٍ ... يبني الحياة
'ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء'
بهذا الحديث النبوي الشريف يفتح العلامة ابن قيم الجوزية ـ رحمه الله كتابه المبارك 'الداء والدواء' أو 'الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي'(/1)
مؤصلاً لقاعدة جلية ومبينًا لمسلك المسلم تجاه المواقف والأحداث وكذا المشاكل والعقبات، فالله تعالى أرحم بعباده من الأم بوليدها, وهو جل وعلا لم يخلقنا ليعذبنا بل لنشكره ونؤمن به, ولذا فهو سبحانه لم يخلق في هذه الأرض مشكلة إلا وجاء حلها معها, ولكن أين تكمن المشكلة؟
إنها تكمن في أحد أمرين:
الأول: عدم رؤية الحل واليأس من العثور عليه فندفع إلى الحلول الوهمية الخاطئة.
الثاني: رؤية حلول غير صحيحة وغير ناجحة في إنهاء الأزمة والموقف ونتصور أنها الحق.
وفي ظل هذا التصور يمكننا هنا أن نفهم الشق الثاني من الحديث النبوي المذكور في أول المقال وهو 'ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء .. علمه من علمه وجهله من جهله ..'.
وإذا كان السبب الأول في تطور الأزمات وتفاقمها وهو عدم رؤية الحل واليأس من العثور عليه أو اليأس من إمكانية تحقيقه يظهر بوضوح في أزمة الشهوة لدى الشباب التي يتمحور أصل خطاب الشيطان للشباب فيها على استحالة احتمال الزواج ومشقته, فهيا إلى حلول أخرى مؤقتة ولكنها مدمرة.
فإننا في مقالنا هذا ونحن نعالج تصورًا مفاده أن من هتك الستر ليس له أن يستعيده من جديد، نحن هنا نعاني من شقي المشكلة الأول والثاني فما بين وسائل طرح لقضية الحياء ومفومه جامدة إلا فيما ندر من الكتابات والخطابات التي تعني بيان كيفية زراعته وإنمائه وما بين توجيهه لحول أخرى لمن ولغوا في المعصية تحاول مساعدتهم على الخلاص من براثنها والهروب من أسرها، لكنها حلول ثانوية مؤقتة تنتهج سياسة التسكين المؤقت والإنقاذ من فورة الموقف.
وما بين هذا أو ذاك يتوه الشباب في تجربة مختلف أشكال الحلول، والله تعالى الرحيم بعباده قد أورد لنا في كتابه دواءً لكل داء وحلاً لكل مشكلة.
وقد أورد للوقاية من المعاصي قاعدة جليلة يظهر لنا من خلالها موطن الداء وشكل العلاج وعلى من تقع المسئولية الحقيقية في الوقوع في الخطأ ألا وهي قوله تعالى في سورة النازعات: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 ـ 41]
إذن فهي معادلة لها طرفان الأول خوف مقام الله تعالى والثاني إلزام النفس بمنعها عن الهوى والخلل المؤدي إلى وقوع المعصية لن يتجاوز هذان الطرفان إلى غيرهما، فهو إما ناشئ عن ضعف في أحدهما أو خلل في التصور الواحد من هذين الطرفين.
ودعونا نضرب أمثلة من الواقع قد أصاب أصحابها الحيرة من أنفسهم للتناقض العجيب الواقع داخل نفوسهم.
فهذا واحد شديد الخوف من الله ويقف في الصلاة يبكي خلف الإمام حين يدعو، وهو بعد ارتكابه للمعصية يجلس يبكي ويبكي بشدة تجعلك تتعجب أليس هذا هو الذي ارتكب هذه المعصية منذ قليل منذ لحظات وثوان؟ بلى هو؟ ولا يفهم الشاب أين المشكلة فيدخل الشيطان متطوعًا بإعطاء التفسير بالتصور الشيطاني الذي يبدو في أوله ربانيًا:
وهو أنك منافق بوجهين، ثم بعد ترسيخ هذا المفهوم تنقل إلى الذي يليه وهو أنك باستمرار الوقوع في المعصية وعدم القدرة على التخلص منها، ثم بعد ذلك الدخول في الحلقة المفرغة من ارتكاب للذنب فبكاء فتوبة فندم فسكون فشهوة فارتكاب للذنب, وهكذا يتبين أنه لا يمكن أن أكون صالحًا فعلى الأقل لن أكون منافقًا فعلي أن أترك المحاولة للتوبة وامتنع عن البكاء والندم فلم يُجدِ شيئًا وأرضى بالأمر الواقع. {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}.
بينما لو أحسن صاحبنا الشاب النظر والتأمل فهم أنه ليس منافقًا كلا بل هو قد حقق الشق الأول في الوقاية من المعصية ولكنه أهمل بشدة الشق الثاني وهو نهي النفس عن الهوى أو التربية أو ضبط النفس وملكها فسلطانها عليه شديد وهذه لا بد من تقييدها بلجام الأمر والشرع لا الهوى، وهذا يتأتى بمحاولات مستمرة على مدى طويل لبناء الحياء وكسر الحلقات المفرغة التي يدفعنا إليها الشيطان حتى تتحقق مقولة الخنساء ـ رضي الله عنها ـ 'عودوا جوارحكم الطاعة تستوحش المعصية'.
إن تحديد مكمن الداء هو نصف الطريق إلى العلاج الصحيح، وأن أعظم سعي للشيطان إنما يكون في رسم أوهام لأسباب الداء يدفع الشخص إلى التعلق بها، ولو تأملها العاقل لرأى في نهاية الإيمان بها وتيقنها هلاكه ودفعه إلى قعر الجحيم فهو المقسم على الله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.
فدعونا أولاً نطرح التصورات الفاسدة جانبًا، وتسألني كيف أعرف الفاسد من التصورات من غير الفاسد؟ فأجيب عليك بقاعدة ذهبية: انظر إلى آخر التصور إلى أين يذهب بك إلى عمل وبذل وارتقاء وصعود وتفاؤل، أم إلى هزيمة ويأس وفقد أمل وهبوط وتشاؤم.
واعلم أن طريق الجنة درجات بعضها فوق بعض لمن أرادوا الصعود فوق بعض لمن أرادوا الصعود كما أن طريق النار دركات بعضها تحت بعض لمن راد الهبوط.(/2)
إن الآية الكريمة توضح لنا بما لا يدع مجالاً للتوهم والتردد أنه لا بد من حاجز بين العبد وبين المعصية ومن ثم توضح لنا مكوناته أو شقيه الأساسيين وهما:
[1] خوف من مقام الله تعالى.
[2] نهي النفس وزجر لها عن هواها متى خالف أمر الله تعالى.
وهذا الشق الثاني يكون عن طريق زراعة موانع ومعوقات وبناء حواجز وسدد داخل النفس ترفع مستوى تحكم وسيطرة الإنسان على نفسه بما يحقق قيادته لها حيث شاء.
هذا المانع والحاجز لا بد أن يكون داخليًا ينبع من البناء الأخلاقي للإنسان، وهذا البناء هو الذي يصوغ فكره وتصوراته ومفاهيمه وسلوكيات، وبناءً عليه تتبلور أهدافه وتوجهاته لذا كانت العناية الربانية ثم النبوية بهذا البناء عظيمة كما جاءت في الحديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: 'إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق'.
ومما يؤكد لنا أهمية الشق الثاني المكون للحاجز الرباني بين العبد والمعصية الحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه وحسنه الألباني.
1ـ النبي صلى الله عليه وسلم قال: 'إن لكل دين خلقًا وخلق الإسلام الحياء'.
إن الحياء كما عرفه أهل العلم في اللغة أنه انقباض وانزواء وانكسار في النفس يصيب الإنسان عند الخوف من فعل شيء يعيبه وهو مشتق من الحياة، ولذا قال بعض الفصحاء: حياة الوجه بحيائه كما أن حياة الغرس بمائه.
كما عرف علماء الشريعة بأنه صفة وخلق يكون في النفس يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق صاحب الحق.
أو هو بمعنى آخر مرادنا هنا الذي نسعى إليه وهو خلق نزرعه في نفوسنا يقوم بالدور المطلوب وهو نهى هذه النفس عن القبيح وهو كل ما يغضب الله تبارك وتعالى.
ولكن كيف نزرع الحياء في نفوسنا؟ هل الحياء خلق مكتسب أم موهوب؟
الإجابة عن هذه الأسئلة سنتابعها معًا في الجزء الثالث والأخير من هذه المقالة بإذن الله تعالى.
عاصٍ يبني الحياء [3]
إننا ونحن نسعى لبناء حاجز الحياء صيانة ووقاية للنفس من المعاصي لا بد لنا من نظرة دقيقة إلى النصوص النبوية والقرآنية ليس من جهة بيان فضيلة الحياء أو عظم أجر المستحقين من الله فقط, ولكننا سنجد في كوامن النصوص النبوية إشارات إلى كيفية بناء الحياء في النفوس وإيضاح الوسائل المستخدمة لذلك.
1ـ إن أول النصوص التي ستوقفتنا في مبحث الحياء هو هذا المشهد لصاحبي يعاتب أخاه على شدة حيائه وكأنما يقول له: 'قد أضر بك الحياء' فيقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له 'دعه .. فإن الحياء من الإيمان'.
وانظر إلى تفسير الأمام أبي عبيد الهروي لهذا الحديث بقوله: 'معناه أن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي .. فصار كالإيمان القاطع بينه وبين المعاصي'
وعندما تجمع هذا الحديث مع قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صحيح سنن ابن ماجه 'الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة والبذاء من الجفاء والجفاء في النار'.
نلمح ارتباطًا وثيقًا بين الحياء والإيمان، ولما كان الإيمان كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والحياء من الإيمان, فإن الحياء كذلك يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، أو بمعنى أدق يزيد بالطاعات المؤكدة على معنى الحياء وينقص بالمعاصي التي تخدش الحياء وتهتك ستره، ومنها كما ذكر في الحديث السابق البذاء, وهو الفحش في القول والعمل, وهذه أولى الوقفات معنا هنا أن الحياء يزيد وينقص يزيد بما يصون ستره وينقص بما يهتكه.
2ـ ثاني هذه النصوص الأثر الوارد في صحيح البخاري في كتاب الأدب عن بشير بن كعب في كعب: 'مكتوب في الحكمة أن من الحياء وقارًا وأن من الحياء سكينة' يوضح لنا ذلك الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ بقوله: 'أي أن من الحياء ما يحمل صاحبه على الوقار بأن يوقر غيره ويتوقر هو في نفسه، ومنه ما يحمله أن يسكن عن كثير مما يتحرك الناس فيه من الأمور التي لا تليق بذيء المروءة'.
ـ وبذا يضع لنا الإمام القرطبي فائدة أخرى جلية في وسائل زراعة الحياء وهي الوقار والسكون, وقار يتكلفه المرء يكون بتوقير الغير بداية واحترامهم وإجلالهم لكبر في سنهم أو لمزيد فضل أو علم أو خلافه.
ثم بعد ذلك يتوقر العبد في نفسه بأن يكبر بها لا على الناس ولكن على نفسه, فينضج في تصرفاته ويقبح لنفسه التصرفات التي تقلل من شأنها بين الناس كإصدار الأصوات المزعجة، والمشي بطرق ليس فيها وقار وارتكاب الأفعال التي تجعل الناس ينظرون إلى المرء على أنه لا يراعي قيمًا ولا تقاليد ولا أعرافًا, فيصون العبد نفسه عن ذلك كله فلا ينادي مثلاً على أصحابه بصوت مرتفع في الطريق بل يصعد على شققهم يسأل عنهم على الأبواب, ويجتنب عند ذلك أن يقف في مواجهة الباب لتكشف عينه ما يستره أهل البيت، وهذا كمثال فقط على توقير الإنسان نفسه.
ـ والشق الثاني من الأثر هو السكينة أو 'أن يسكن عن كثير مما يتحرك الناس فيه من الأمور التي لا تليق بذي المروءة'.(/3)
إن من أسهل الأشياء أن ترد على من شتمك وسبك وعابك وأن تؤذي من آذاك وأن تكون صاحب جناب خشاك الناس لشرك سواء شر اللسان أو الفعل، ولكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلمنا أن هذا المسلك هو مسلك فاقدي الحياء مع الله تعالى ومع الخلق فيقول: 'إن من شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه'.
فإذا كنت تقود سيارتك وآذاك آخر بسيارته فكن صاحب الحياء الذي يدفع إلى السكون عن الحركة والاندفاع في رد الإيذاء بإيذاء، والصوت المرتفع بأعلى منه، وثق أن مكسبك من هذا السكون أعظم من الاندفاع هدوءًا في الأعصاب، وصيانة للنفس عن النزول بمستواها، ورفعًا لقيمة الحياء عندك، وقد ضمن الله تعالى أعلى درجات الإيمان وهو الإحسان لمن صنع ذلك فقال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
فمن وسائل زارعة الحياء الوقار والسكينة، وقار توقر به غيرك إجلالاً واحترامًا لكبر سن أو مزية فضل أو علم أو إجلال أو غيره، وتوقر به نفسك صيانة عن سلوكيات لا تليق بمثلك وهو كذلك سكينة تدفع إلى السكون عن كثير من الأفعال التي يعاب على صاحبها, هذا بالطبع في المجتمع الملتزم بالقيم والآداب العامة. وهذه ثاني الوقفات.
3ـ ثالث هذه النصوص ما ورد عندما سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال عريانًا في الخلوة فأجاب بقوله: 'الله أحق أن يستحيا منه من الناس'.
[حسنه الترمذي من معلقات البخاري]
والذي يستحي من ربه إن كشف عورته في خلوته حري به أن يمنعه الحياء عن الإقدام على معصية، وسيلة أخرى لزراعة وبناء قدر جديد من الحياء في النفس ألا وهي حب التستر، حتى وإن الواحد منا بمفرده في منزله وخلوته، فقد نبهنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لا بد للمرء أن يجعل حياءه من الله أشد من حيائه من الناس، وهذه طريقة أساسية لبناء الحياء من الله في النفس خاصة عند التعامل مع أعضاء جسده, فمن الناس من تعود على الجلوس عريانًا في منزله إذا كان خاليا منفردًا, أو لا يغطي جسده إلا ورقة التوت وهو يرى في ذلك راحة واطمئنانًا، ولا يرضى أن يراه أحد من الناس على هذه الحالة لكنه لا يأبه أن تراه الملائكة ويراه الله عز وجل.
إن وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأحد أصحابه 'أوصيك أن تستحي من الله تعالى كما تستحي من الرجل الصالح من قومك'. [رواه الطبراني]
هي من التوجيهات المباشرة لكيفية بناء الحياة في النفس البشرية أن يتلمح المرء نفسه كيف تستحي من الصالحين في أهله وجيرانه ومعارفه, ويلزمها أن تنقل هذا الاستحياء إلى عالم الغيب مع الله تعالى، وإن مشهد الرجل الممسك بالسيجارة في يده ينفث بها الدخان من فمه مشهد هذا الرجل وهو يفاجأ في الطريق بعابد أو عالم يعرفه، مشهده وهو يقذف بسيجارته جانبًا أو يخفيها وراء ظهره ليجعلك تتلمس فيه بعض معاني الحياء التي تدعوه أن يتأمل نفسه في هذا الموقف فيرتقى بها مخاطبًا إياها 'فالله أحق أن يُستحيا منه'.
وفي المقابل تجد مشهدًا آخر لمن ينسفون ما بقي من آثار الحياء داخل نفوسهم ويضحك عليهم الشيطان بأنهم عندما يفعلون المعصية ويراهم عليها أهل الطاعة فليقاوموا هذا الدافع داخل نفوسهم للاختفاء والهرب فماداموا لا يختفون من الله فلا داعي للاختفاء من البشر وهم لا يعلمون أنهم بذلك يفتكون بباقي ثوب الحياء في نفوسهم ويحولونها إلى فريسة سهلة للشيطان وأعوانه للجرأة على الله والتفاخر بمعصيته, فيفقدون بذلك الصلة الباقية بينهم وبين الله من أثر الحياء الواردة في الحديث القدسي:
'يا ابن آدم إنك ما استحييت مني أنسيت الناس عيوبك وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك ومحوت من أم الكتاب زلاتك، وإلا ناقشتك الحساب يوم القيامة'.
ويتعرضون للسخط الوارد في الحديث النبوي:
'كل أمتي معافى إلا المجاهرين. قالوا: ومن المجاهرون يا رسول الله؟ قال: الذين يذنبون الذنب بالليل فيسترهم الله فيصبحون يكشفون ستر الله عليهم'.
وهم مع ذلك يظنون في جرأتهم على الصالحين وفضح أنفسهم بروز معاني الرجولة والقوة ولا يعلمون أنهم من أسهل فرائس الشطيان لكسر وهتك ما بقي من ستر حيائهم.
إن التوجيه النبوي المباشر بالحياء من الله كما يستحي المرء من صالح قومه يتم عبر خطاب قوي مستمر للنفس أن الله تعالى أحق بالحياء منه من فلان وفلان، وهو بناء للغيبي بالمادي، أي إنني أبني الحياء من الغيب وهو الله تعالى بالحياء من المادة وهم البشر الصالحون الذين أعايشهم أمامي.
4ـ من النصوص النبوية التي ستقف عندها أيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الحاكم في مستدركه: 'الحياء والإيمان قرناء جميعًا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر'.(/4)
فمن وسائل بناء الحياء في النفوس زيادة الإيمان والثبات على المستوى الإيماني وعدم التذبذب فيه, فهو مما يعود جوارح المرء على الطاعات فيدفعها إلى استيحاش المعصية والحرص على مجانبتها، فلابد من العناية الشديدة بوسائل الثبات على دين الله تعالى خاصة في الفتور، ونضمن لك بذلك الحفاظ على مستوى الحياء الواقي من المعاصي كما في الحديث.
'وإن لكل عمل شره ولكل شرة فترة .. فمن كانت فترته إلى سنتي فقد هدي' فمن كانت فترته على السنة فقد ضمن له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الهداية.
5ـ خامس الآثار قول الجنيد: 'الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء' وهذا مشهد آخر من مشاهد بناء الحياء في النفس, فإن النفس مجبولة على الحياء ممن أسدى إليها معروفًا ومفطورة على رد النعمة بمثلها وكذا نفوس الكرام، فمن الأمور التي تعظم الحياء استشعار عظم نعم الله على العبد وكثرتها وتتابعها الواحدة تلو الأخرى بغير أداء لحقها أو رد بمثلها بل قد تقابل بالجرأة على الله وعدم الأدب معه سبحانه فيتولد منها شعور بالحياء لا يزال ينمو ما استشعر العبد تقصيره ونعم الله عليه لما احتضر الأسود بن يزيد النخعي بكى فقيل له: ما هذا الجزع؟ فقال: ما لي لا أجزع ومن أحق بذلك مني والله لو أنبئت بالمغفرة من الله لأهابن الحياء منه مما صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحيًا منه.
وللحديث بقية في الجزء الرابع
عاصي يبني الحياء [4]
سادس النصوص ما رواه ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: 'إن الله إذا أراد أن يهلك عبدًا نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتًا ممقتًا [أشد ما تبغض وتكره إنسانًا], فإذا لم يلقه إلا مقيتًا ممقتًا نزعت منه الأمانة, فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنًا مخونًا, فإذا لم تلقه إلا خائنًا مخونًا نزعت منه الرحمة, فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيمًا ملعنًا, فإذا لم تلقه إلا رجيمًا ملعنًا نزعت منه ربقة الإسلام'. [رواه ابن ماجه]
الحديث فياض بمعايير جليلة منها:
[1] أن نزع الحياء علامة الهلاك ولذا كان لا بد للعبد من بذلك قصارى جهده لبنائه وزيادته ونموه لا لهتك ستره وإزالته.
[2] لقد أوتي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جوامع الكلم, إذًا فلا بد أن للتكرار في الحديث فائدة وغرضًا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم تلقه إلا مقيتًا ممقتًا, فإذا لم تلقه إلا مقيتًا ممقتًا ....', وكذا في باقي الحديث يجعلنا هذا نتلمح في التكرار فائدة ألا وهي بيان أول الفعل وآخره أو أقل الفعل وأكثره أي بمعنى أوضح كأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخبرها أن نزع الحياء على درجات, أقله سبب في أن تلقي الرجل أحيانًا مقيتًا ممقتًا، فإذا استمرأ الفعل ونزع الحياء كان ذلك دأبًا له, وكان هذا سببًا في نزع ما وراءه وهكذا تدور السلسلة.
[3] حياء فأمانة فرحمة، ومقت فخيانة فلعنة هكذا تترتب السلسلة، كما أخبرنا بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونفسهما بصورتين الأولى: بقدر فقد الأمانة والرحمة بقدر ضعف الحياء في النفوس, والثانية ارتباط كل من الأمانة والرحمة كخلقتين منفصلتين بالحياء مع جعل الحياء أصلاً لهما إذن فالعناية أيضًا بهذين الخلقين مما يرفع درجة الحياء وينميه ويزكيه ويبنيه في النفس البشرية.
[4] نزعت منه ربقة الإسلام 'تنبه معي عزيزي القارئ أننا نتكلم هنا عن أخلاق يصف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صاحبها المتخلي عنها جميعًا 'بأنه في الطريق إلى نزع ربقة الإسلام من عنقه.
إن العبادات والمعاملات أي وعلاقة العبد بربه وعلاقته بخلقه ربه إذا صيغت وفق شرع ربه لا بد أن تثمر تحولاً جذريًا في خلقه وسلوكه مع ربه وخلق ربه.
قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ 'إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق'.
وقوله: 'من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له'.
أي من لم تثمر صلاته حياءً في القلب يحجز الجوارح عن معصية ربه فلن تثمر ما أمره بزراعتها من أجله.
7ـ آخر النصوص النبوية معناها توجيه مباشر آخر لوسائل بناء الحياء في النفس البشرية عن عبد الله ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: 'استحيوا من الله حق الحياء' قلنا: يا رسول الله إنا نستحي والحمد لله. قال: 'ليس ذلك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى, فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء'. [رواه الترمذي]
ولنا مع هذا الحديث لمحات ووقفات في وسائل بناء الحياء في القلوب والنفوس:(/5)
[1] استحيوا من الله حق الحياء 'فعل الأمر من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقتضي الوجوب والوجوب هنا ليس منصبًا على أصل وجود الحياء ولكن على تحقيق هذا الحياء، وتحصيل أعلى الدرجات وهو الحياء الحق وليس مجرد الحياء.
[2] يا رسول الله إنا نستحي والحمد لله قال: ليس ذلك: تصحيح التصورات والأفهام والتنبيه إلى عدم حسن الظن بالنفس، ووضع مقاييس ربانية يقيس بها العبد الحياء الحق في وجوده وعدمه فلا يكون المرء مستحيًا من الله حق الحياء حتى يستوفيها ويجمع أصولها، وهذه هي المقاييس والعلامات لا مقاييس أهل الأرض والأعراف الخاصة بهم.
[3] 'استحيوا' الألف والسين والتاء في اللغة للطلب أي اسعوا وابذلوا الجهد في طلب تحصيل منزلة حق الحياء وهو تنبيه ورد على القائلين بأن الحياء هبة وليس اكتسابًا فها هو أمر نبوي صريح واضح بتحصيل الأسباب المؤدية للوصول إلى منزلة حق الحياء, وعلى قدر بذل الجهد يكون تحصيل المنزلة والمرتبة.
[4] 'أن تحفظ الرأس وما وعى' هذه أولى وسائل بناء الحياء ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينبهنا أن الحياء وهو خلق قلبي لا بد أن يبدو أثره على الجوارح, ولكن يزيد قدره في القلب لا بد من زيادة العناية بتكوينه وإنمائه في الجوارح، وكأننا مطالبون بالتعامل مع كل عضو على حدة نقيس مستوى الحياء فيه ثم نقوم بزيادته ورفع درجته، فقد يكون الإنسان حييًا في التعامل بأنفه أو أذنه فليس من خلقه التصنت على الناس وتلمس أخبارهم، وكذا ليس من خلق أذنه سماع ما يغضب الله تعالى, لكنه في الوقت ذاته تنطلق عينه هاتكة ستر حيائها مجترأة على ما يكون سببًا في غضب ربها منه، إذن الوسيلة الأولى حفظ الرأس وما حوى وهو يتكون من مفردات هي العين والأنف والأذن واللسان وقبل كل ذلك وبعده الفكر, فهو كذلك من أهم الأمور التي ينبغي الحرص على الحياء فيها، فأية فكرة ترد على الذهن سل نفسك هل تحب أن يطلع عليها أحب الناس إليك من صالحي أهلك أو أصدقائك، فإذا كانت الإجابة بلا فأسرع بطردها وعدم الاسترسال معها.
[5] 'والبطن وما حوى' تنبيه إلى الحياء في طيب المطعم وطهارة اليد واستشعار الاكتفاء والقناعة بما رزق الله عما حرم الله 'اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عمن سواك'.
[6] 'ذكر الموت والبلى', وهو تحقيق الشعور بأن الآخرة حاضرة عيان ليست غيبًا بعيدًا هذا من وسائل تحقيق الحياء، إذا تذكر المرء علاقاته للملائكة وأن الله سيقبضه على خاتمته التي كان يعمل ويفكر بها في الدنيا وتشغل عليه كيانه.
[7] 'ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى' وكأنها سلسلة متصلة لا تنفصل عن بعضها، فالحيي مستحضر لله في كل حياته مستصحب لآلائه ونعمائه عليه في كل حين وآن، مستشعر للقيمة الحقيقية للدنيا مؤثر للآخرة عليها.
[8] 'فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء' من فعل, أما من لم يفعل فليس بمستحيٍ وهي عودة ثانية إلى التأكيد أن الحياء يكتسب بالاستحياء وأن مجالات هذا الاستحياء هي الرأس وما وعى والبطن وما حوى وتذكر الموت والبلى وإيثار الآخرة على الأولى.
وختامًا فقد ورد الحديث المروي في صحيح سنن النسائي أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: 'إن الله عز وجل حليم حيي ستير يحب الحياء والستر ....'
ربما كان لاقتران الحياء والستر فيما يحب الله إشارة إلى أنه حيث وجد الحياء وجد الستر والعفاف، وحيث تحل الجرأة على القبائح يحل معها التكشف والفضائح وعيوب النفوس مستورة بجلباب الحياء، فإذا ما نزع الستر تكشفت أمراض النفوس وتجرأ الصغير على الكبير، وانطلق الناس من كل قيد وتحرروا من كل وازع وغرقوا في أوحال الرذيلة, وستبقى الفطرة السوية السليمة ميالة إلى الحياء والستر.
وبعد,
فهذه جملة وسائل عملية يراد بها أن ينتقل العاصي من ستر للحياء مهتوك وأدب مع الله مفقود إلى صاحب حياء تستحي منه الملائكة، وصاحب أدب أدبه به رب العالمين، ولكن أين العزيمة والإرادة؟ أين الرغبة والتصديق؟ أين البذل والجهد:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]
'ألا إن سلعة الله غالية إلا إن سلعة الله الجنة ألا هل من مشمر'
المراجع:
[1] وقفة مع الحياء ـ ياسر عبد الرحمن
[2] هذه أخلاقنا ـ محمود الخازندار
[3] أين نحن من أخلاق السلف ـ عبد العزيز الجلي(/6)
عالم الجن والإنس
سلمان بن يحي المالكي
أولا: بدء خلقهما:
يقول الله - تعالى - في سورة الحجر:"ولقد خلقنا الإنسان من حمئ مسنون * والجان خلقناه من قبل من نار السموم"فهذا نص قرآني يدل على أن الجن خلقت قبل الإنس، لكن هل عمروا الأرض أو لا..؟ هذا سؤال عائم لا نستطيع أن نجيب عليه، لكن هناك شواهد وقرائن ليست منطوقة لكنها مفهومه في أن الجن عمروا الأرض، ومنها: قول الله - تعالى - على لسان ملائكته لما أخبرهم - سبحانه وتعالى - أنه سيخلق بشرا قالوا"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"وقد كثرت أقوال علماء التفسير حول هذه الآية وقالوا: أن ذلك القول من الملائكة ناجم عن أن الجن كانت تفسد في الأرض، وهذا هو مفهوم الآية لا منطوقها.
ثانيا: المادة التي خلق منها الجن والإنس.. ؟
من ناحية المادة التي خلق منها كل من الجن والإنس، فمن المعلوم أن الجن خلقهم الله - تعالى -من نار، والإنس خلقوا من طين لأنهما يرجعان إلى أبائهما، فآدم خلق من تراب وإبليس خلق من نار، قال الله على لسان إبليس"قال أنا خير منه خلقته من نار وخلقتني من طين"وفي آية"أأسجد لمن خلقت طينا".
ثالثا: ما هي الهيئة التي خلق عليها كل من الإنس والجن. ؟
أما الهيئة التي خلق الله - تعالى -عليها الإنس فهي جميلة، يقول الله - تعالى -: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"فالإنسان مكرم في خلقه، قال الله - تعالى -: "ولقد كرمنا بني آدم"ولهذا قال بعض العلماء كالشافعية أن الإنسان لو كانت امرأته في غاية الحسن، ثم قال لها: أنت طالق إن لم تكوني كالقمر، فلا تطلق المرأة بهذا القول، لأن الله - تعالى – يقول: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" هذا من ناحية الإنس، أما الجني فإنا لم نراهم قطعا كما قال الله: "إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم" لكن الجن مستقر في أذهان البشر جميعا أنه قبيح الخِلقة، وهذا يؤيده ظاهر القرآن، قال الله - تعالى -عن شجرة الزقوم: "طلعها كأنه رؤوس الشياطين"وهذا من أساليب العرب في كلامها، فالعرب لم تر الشياطين حتى تُشبَه لهم شجرة الزقوم بأن طلعها كأنه رؤوس الشياطين، لكن استقر في الأذهان وفي طباع الأنفس عند الناس جميعا أن الجن والشياطين منهم على وجه الخصوص قبيحي الخلقة، فعاملهم الله - تعالى - بنفس أساليب كلامهم، والقرآن الكريم نزل عربيا، فالجن في الأظهر أنهم غيرُ حسنِ الخلقة، وقد يُقال أن هذا منصرفٌ لشياطينهم فقط وهذا قول جيد، لكن لا نستطيع أن نجزم به.
رابعا: القدرة التي منحوا إياها.. !
أعطى الله - تعالى -الجن القدرة على التشكل، وهذا يؤيده حديث أبي السائد - رحمه الله تعالى -عن أبي سعيد الخدري رضي الله - تعالى -عنه في صحيح مسلم وأخرجه الإمام مالك في الموطأ، وذلك أن أبا السائد وهو من التابعين دخل على أبي سعيد الخدري الصحابي المعروف، فإذا هو يصلي، ولما كان أبو السائد ينتظر أبو سعيد من صلاته إذ سمع حركة في عراجين البيت، فنظر فإذا هي حية عظيمة، فهمَّ أن يقتلها، فأشار إليه أبو سعيد وهو فصلاته أن مكانك، فتريث أبو السائد - رحمه الله - فلم فرغ أبو سعيد من صلاته أخذ بيد أبي السائد وأخرجه من الدار، وأشار إلى دار أخرى فقال له: أرأيت تلك الدار.. ؟ فإنها كانت دارا لفتى منا معشر الأنصار، كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخندق، وكان الفتى حديث عهد بعرس، فاستأذن الفتى النبيَ - صلى الله عليه وسلم - أنصاف النهار أن يأتي أهله، فأذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك مكر بني يهود، فأخذ سلاحه وقدم على داره، فوجد عروسه على باب الدار، فأخذته الغيرة وهم أن يطعنها بالرمح، فقالت له: أكفُف عليك رمحك وادخل الدار، فلما دخل الدار، وجد حية عظيمة ملتوية على فراشه، فطعنها فاضطربت عليه، فمات الاثنان، الحية والفتى، قال أبو سعيد: فلا يُدرى أيهما أسبق موتا، فأُخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن بالمدينة إخوانا لكم من الجن، فإذا رأيتم مثل هذا فآذنوه ثلاثا، فإن بدا لكم أن تقتلوه فاقتلوه فإنما هو شيطان"، يتحرر من هذه القصة أن تلك الحية لا تخلوا أن تكون واحدا من ثلاث.
أولا.. إما أن تكون حية حقيقة فهذا يجوز قتلها بعد ثلاث.
ثانيا.. وإما أن يكون شيطانا فيقتل لأنه شيطان.
ثالثا.. وإما أن يكون جنيا فسيخرج بعد الثلاث. فإذا لم يخرج في هذه الحالة فستبقى الحالة محصورة في اثنين: إما حية حقيقة فيجوز قتلها لأنها من الفواسق وذوات الضرر، وإما شيطانا فكذلك يجوز قتله.
هذا التشكل العظيم أمر لم يعطه الله - تعالى -لبني آدم.(/1)
هذه الزاوية من الحديث تدعينا لأن نتكلم عن الملائكة، فالملائكة يتفقون مع الجن في قضية ألا وهي أننا لا نراهم، في حين أن الجن والإنس يتفقان في قضية وهي أن كلاهما مكلف، كما أن الصورة المأخوذة عن الملائكة أنهم قوم حِسان، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض أصحابه وهو جرير بن عبد الله البجلي يقول في شأنه: عليه مسحةُ ملك، وهذا دلالة على وسامته وقَسامته، وكذلك صواحب يوسف النسوة لما رأينه انبهرن جماله وقلن"حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم"لذلك استقرّ في الأذهان أن الملائكة رمز للجمال، كما أن الجن رمز للقبح، ولهذا مما استطرف في هذا المجال أن الجاحظ الأديب العباسي المعروف جاءته مرة امرأة وهو في السوق، فقالت إني أريدك في أمر ما، قال: ما لديكِ. ؟ قال اتبعني، فتبعها حتى وصلا إلى صائغ يبيع الذهب، فوقفا أمام الصائغ، فقالت المرأة للصائغ وهي تشير بيدها إلى الجاحظ: مثلُ هذا؟ ثم انصرفت، فوقف الجاحظ حائرا لا يدري ما الأمر، فسأل الصائغ ما الأمر. ؟ قال: إن هذه المرأة أتتني قبلك وطلبت مني أن أصنع لها خاتما فُصُه على شكل عفريت، فقلت لها: إنني لم أرى العفريت قط، فاستدعتك وأخبرتك بما سمعت، وكان الجاحظ قبيح الخلقة.
خامسا: أيهما أقوى وأقدر.. الجن أم الإنس.. ؟
من حيث القدرة على العمل والصناعة الجن أقوى من الإنس، فهم يفْضلون الإنس من هذه الناحية، ولهذا نجد أن القرآن الكريم في أسلوبه يفرّق إذا تكلم عن الجن والإنس في أي حديث يتحدث عنهما، يقول الله - جل وعلا -"قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا"ويقول - جل وعلا - في سورة الرحمن"يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان"فنرى أن الله - تعالى - قدم الإنس في سورة الإسراء وقدم الجن في آية الرحمن والسبب في هذا.. أن آية الإسراء تتحدث عن القدرة البيانية البلاغية وهي أن يؤتى بمثل هذا القرآن، فقدم لله - تعالى -الإنس لأنهم أفصح بيانا من الجن، في حين أن آية الرحمن تتحدث عن القدرة القوية البدنية وهي النفوذ من سلطان السموات والأرض فقدم الجن على الإنس لأنهم أقدر على ذلك منهم، ونظير هذا أيضا في القرآن أن الله - تعالى -لما ذكر سليمان - عليه السلام - قال"وحشر لسليمانَ جنودُه من الجن والإنس والطير"فقدم الجن على الإنس في هذه الآية لأن القدرة العسكرية الحربية القتالية لديهم أقوى من الإنس، ولهذا استقر في طباع الإنس حتى قبل الإسلام أن الجن أقوياء فكانوا يهابونهم، ومنه قول الله - تعالى -على لسان الجن"وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا"ويقول الفرزدق وهو يفتخر على جرير:
أحلامنا تزن الجبالَ رزانة *** وتخالُنا جنا إذا ما نجهلُ
إنا لنضربُ رأسَ كلِ قبيلةٍ *** وأبوك خلف أتانه يتقمّلُ
فالفرزدق يفتخر على جرير عندما يحاربون ويظلمون أنهم يصبحون كالجن في القوة والشدة والبطش.
سادسا: تسميتهم..
يقول بن عبد البر - رحمه الله تعالى -: أن العرب يسمون الجن حسب التالي:
أولا.. الجن الخالص يقولون له جني.
ثانيا.. فإذا كان مما يعمرون البيوت يسمونهم: عمار جمع عامر.
ثالثا.. إذا كان مما يتعرض للصبيان يسمونه أرواح.
رابعا.. إذا خبث وتعرض يسمونه شيطان.
خامسا.. إذا تمادى وطغى يسمونه عفريت.
سابعا: ما الفرق بين العفريت والشيطان.. ؟
الشيطان دل عليه أكثر القرآن لأنه لا يسمى شيطاناً إلا إذا كان خبيثاً خبثاً معنوياً، وقد يطلق على الإنسي حتى إذا خبث شيطان، ومنه قول الله - تعالى -: "شياطين الإنس والجن" أما عفريت فإنه يدل على القوة والجبروت ويدل على التمرد ومنه قول الله - تعالى -على لسان سليمان: "قال أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين * قال عفريت من الجن أن أتيك به..."ومع هذه القوة التي منحها الله - تعالى -لهم إلا أنهم لا يستطيعون أن يتشكلوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم – قال: "من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي" فهذا الشيطان العفريت الذي يأتي بعرش من مكان إلى مكان في لحظات محدودة يعجز أن يتمثل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثامنا: التكليف للجميع:
كلا من الإنس والجن مكلف بدليل "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين"وبهذا التكليف ينفك الجن عن عالم الملائكة؛ لأن عالم الملائكة غير مكلفين "لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون" أما الإنس والجن فكلاهما مكلف، فمن آمن منهم واهتدى كان مآله الجنة، ومن تكبر منهم وعصى وطغى ورد على الله كلامه، كان مآله النار، ولهذا قال الله - تعالى -عن الحور العين"فلم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان"وهذا فيه دلالة على أن الإنس والجن سيدخل الجنة إذا أطاع الله.
تاسعاً: مؤمني الجن:(/2)
النبي - صلى الله عليه وسلم - أكرمه الله - تعالى - بأن ختم الله به الرسالات وأتم به النبوات، وأنزل عليه آخر الكتب السماوية الذي هو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والجن كما مرّ معنا أنهم مخلوقون من نار، ومع ذلك لما رزق بعضهم الإيمان رزق التأثرَ بالقرآن، ولما ذهب نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام فرده أهلها فرجع حزينا مكلوما - عليه الصلاة والسلام -، رجع من الطائف متجها إلى مكة حتى وصل إلى واد نخلة فوقف - عليه الصلاة والسلام - يصلي يناجي ربه- تبارك وتعالى -ويدعوه"اللهم أنت ربي ورب المستضعفين في الحديث المعروف"فأخذ يصلي ويقرأ القرآن - عليه الصلاة والسلام -، فاجتمعت الجن الطائفة التي كانت متوجهة إلى وادي نخلة، تنظر لماذا أغلقت في وجهها أبوابَ السماء قال الله"وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا"فوقفوا يستمعون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تكالب بعضهم على بعض، يقول الله - تعالى -مصورا لذلك المشهد العظيم"وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا"فالداعي هنا هو نبينا - صلى الله عليه وسلم -، والذين كادوا يكونون عليه لبدا هم الجن، فاستمعوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن يشعر بوجودهم - عليه الصلاة والسلام -، فلما انصرفوا أخبر الله - تعالى -نبيه بالذي كان، قال الله - تعالى -"قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فأمنا به ولن نشركَ بربنا أحدا"ولهذا سميت السورة باسهم، ثم ذكر الله - تعالى -الأمر تفصيلا في سورة الأحقاف فقال جل شأنه: "وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم" وهذا فيه إشارة إلى أن أولئك الجن كانوا من اليهود، وأنهم قالوا"أنزل من بعد موسى"ولم يذكروا عيسى - عليه الصلاة والسلام -، وموسى إنما بعث لليهود.
عاشرا: مدح الله للجن:
مدح الله - تعالى - الجن لأنهم كانوا ذوي أدب مع كلام الله - تعالى -، وهذا دل عليه القرآن الكريم في موضعين:
الأول: روى الترمذي بسند حسن من حديث جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ على مؤمني الجن سورة الرحمن وفيه يتكرر قول الله - جل وعلا -"فبأي آلاء ربكما تكذبان"فلما قرأها النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصحابة قال لهم: ألا تجيبوني كما أجابني إخوانكم من الجن.. ؟ قالوا ماذا أجابوا يا رسول الله؟ قال كانوا يقولون: ولا بأيٍ من آلاء ربنا نكذب"..
الموضع الثاني: لما ذكروا الخير والشر في قضية إرسال الرسل، نسبوا الخير والرشد والفلاح إلى الله، ونسبوا الشر إلى ما لم يُسمى فاعله، وذلك أدبا مع الله - تعالى -، قال الله - تعالى -في سورة الجن"وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض [فنسبوا الشر هنا إلى مجهول] أم أراد بهم ربهم رشدا"فلما ذكروا الرشد نسبوه إلى الله - تعالى -، والأدب مع الله - تعالى -من دلائل الإيمان وقرائن العلم وبواني الحكمة، وهذا الأدب دليل على حسن كلامهم وخطابهم، والعاقل المؤمن ينبغي أن يكون ذوو أدب مع من يتحدث معه، وأعظم الأدب وجوبا مع الرب - جل وعلا -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان أعظم الخلق أدبا مع الله - تعالى -، عن أنس - رضي الله عنه - قال: أصاب أهل المدينة في عهده قحط فبينما هو يخطبنا يوم جمعة إذ قام رجل فقال يا رسول الله هلك الكراع هلك الشاء فادع الله أن يسقينا فمد يديه ودعا، قال أنس: وإن السماء لمثل الزجاجة فهاجت ريح ثم أنشأت سحابة ثم اجتمعت ثم أرسلت السماء عزاليها فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا فلم يزل المطر إلى الجمعة الأخرى فقام إليه ذلك الرجل أو غيره فقال يا رسول الله تهدمت البيوت فادع الله أن يحبسه فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم دعا وقال اللهم حوالينا ولا علينا، ولم يقل - عليه الصلاة والسلام - اللهم أمسك رحمتك علينا وهذا من عظيم أدبه مع الله - تعالى -، يقول أنس: فنظرت إلى السحاب يتصدع حول المدينة كأنه إكليل [رواه أبو داود]
الحادي عشر: الجن وقصة الذئب:
العرب في تأريخها تزعم أن الجن تخشى الذئاب فيقولون عن الذيب مدحا:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ** صروفَ المنايا فهو يقضانُ نائم
وقد قصدوا من هذا أن الجن متوثِّبٌ دائما، ويزعمون أن الجن تهاب الذيب، ولهذا نسمع أن بعض القراء في عصرنا يضعون رأس الذئب أو جلده عن باب منازلهم، يوهمون بهذا وهم يقرؤون على الشخص الذي به مس أن الجني يهرب لما يرى رأس الذئب، وهذا أمر خطير وخطره في العقيدة؛ لأنه يعتقد أن الله هو الذي يحي ويميت وينفع ويضر، وأنه يجب أن تكون الرقية الشرعية رقية شرعية، وقد رقى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يستعن بمثل هذه الأمور.(/3)
هذا أيها الأحبة ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده عن عالم الإنس والجن، وهذا العالم يحتوي العديد من الأمور العجيبة لكنها إشارات في هذا العالم العجيب، وسنتكلم في الأسبوع القادم عن علم آخر من هذه الأعلام وهي [جبريل وميكائيل] علمنا الله وإياكم ما ينفعنا ونفعنا بما علمنا، وجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://www.saaid.net المصدر:(/4)
عالمية الدعوة و قضية اللغة
(الشبكة الإسلامية) رياض أدهمي
تعتبر قضية اللغة من القضايا الهامة التي مازالت تحتمل المزيد من التأمل والتحرير والضبط ، إذ تتكرر الإشارات و التنبيهات على أهمية معرفة العربية و أهمية إتقانها لفهم الشريعة و مصادرها ، واعتبارها عاملاً أساسياً جامعاً عند الحديث عن أيّ محاولة جادة للوحدة الثقافية بين المسلمين . و في هذا السياق تبرز مسألةٌ خطيرة لا بد من معالجتها بجرأة و أناة لما يترتب عليها من واجبات و مسؤوليات مضيّعة في حياتنا الفكرية و العملية .وتتمثل هذا المسألة في أنه لابد من التنبيه على قضية الدعوة و البيان و إقامة الحجة على الناس تحقيقاً للعدل الذي كتبه الله سبحانه على نفسه {و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} .
خاتم النبيين
فمن الحقائق الدينية المعلومة لدى الخاصة و العامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرسل للناس كافة ، وأنه خاتم النبيين ، وأنه لا نبي بعده ، و أنه أرسل رحمةً للعالمين . ومن الحقائق الدينية المعلومة بالضرورة أن القرآن الكريم عربي ، وأنه نزل بلسان عربي مبين، فلا بد لمعرفة معاني القرآن و لمعرفة مراد الله سبحانه من آياته وأحكامه ، لابد من معرفة لسان العرب و معرفة تصاريف استعمالاتهم للعبارات والتراكيب ، حتى أن الإمام الشاطبي يقرر أن كل ما لا تفهمه العرب من القرآن فليس من الشريعة ، و يفوت المرء من معرفة القرآن بقدر ما فاته من معرفة كلام العرب .
وضوح الحجة
ومن الحقائق الدينية المعلومة كذلك أن الله تعالى أراد أن تقع الحجة على الناس ببيان يفهمونه وهديٍ يدركون معانيه {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة} ، {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}. وقد امتنّ الله سبحانه على العرب أنه أرسل إليهم رسولاً من أنفسهم يعرف طباعهم ويفهم طبيعتهم ومواضع حساسياتهم فوصفه الله تعالى بأنه {عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
ومن جهةٍ أُخرى ، فإن من الحقائق المعلومة أن نسبة من يفهمون العربية من سكان الأرض لا تعدو واحداً في المائة على أحسن تقدير . و هنا لا بد من سؤال : ما هي الوسائل التي يجب على المسلمين في كل جيل وفي كل عصر اتباعها ليؤدوا مهمة البلاغ المبين ؟
إن طرح هذا السؤال لا يأتي من قبيل الترف و السفسطة وإنما يأتي في إطار الاستجابة الواعية للمسؤولية التي حمّلها الله سبحانه لأمة القرآن بقوله تعالى : {وإنه لذكرٌ لك و لقومك وسوف تسألون} . و لعل من البداهة أن ننظر في الوسائل التي اتبعها المسلمون لتحقيق البلاغ المبين بين الأمم و الشعوب التي أُرسل إليها محمد صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من لا يفهم لغته و لا يدرك من معاني قرآنه شيئاً ؟
والجواب على هذا السؤال على بساطته لا بد له من تحرير وضبط ، رغم أن المرء يحسبُ أن الأمر كان على درجةٍ من البداهة بحيث لم يجد من رواة الأخبار اهتماماً كافياً . فرغم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بكتبه ورسله إلى أربعة من ملوك عصره ممن لا يتكلمون العربية وهم هرقل و كسرى و المقوقس و النجاشي ، إلا أنه لم ترد تفاصيل الحديث عن الترجمة و الترجمان إلا في حديث هرقل مع أبي سفيان . والمهم في الموضوع أن النبي صلى الله عليه و سلم أرسل هذه الكتب بالعربية إلى من يتحدث بغير لسانها ثقةً و معرفةً بوجود الترجمة والمترجمين . فكتبه ورسائله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك عصره تشهد أن الحجة تُقام برسالةٍ مترجمةٍ و بيانٍ مترجم .
روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركبٍ من قريش و كانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم عاهد فيها أبا سفيان و كفار قريش . فأتوه و هم بإيلياء فدعاهم في مجلسه و حوله عظماء الروم ثم دعاهم و دعا بترجمانه (إلى آخر الحديث) ..
و أفرد البخاري في صحيحه باباً لما يجوز من تفسير التوراة و غيرها من كتب الله بالعربية و غيرها ، لقوله تعالى )فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين(. وقال ابن عباس: أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا بترجمانه ثم دعا بكتاب النبي صلى الله عليه و سلم فقرأه : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى هرقل و {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ..} الآية .
وذكر البخاري في كتاب الأحكام عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره أن يتعلم كتاب اليهود "حتى كتبت للنبي صلى الله عليه و سلم كتبه وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه" . وروى البخاري في كتاب الجزية و الموادعة عن جبير بن حية قال : ندبنا عمر و استعمل علينا النعمان بن مقرن حتى إذا كنا بأرض العدو و خرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً ، فقام ترجمان فقال ليكلمني رجل منكم ، فقال المغيرة سل عما شئت… الحديث .
تغير اللسان آية ومنة(/1)
ومن المعلوم أن الله سبحانه و تعالى لا يمتن على عباده في كتابه وعلى لسان أنبيائه بما يطالبون بإلغائه والبعد عنه والتحرج منه، فإذا اعتبر الله سبحانه اختلاف الألسنة و الألوان من آياته الدالة على تمام الحكمة و تمام القدرة كان في ذلك دلالة واضحة على أنه لابد من التعامل مع ظاهرة التعددية اللغوية و قبولها و التعايش معها في إطار ثقافي يعترف بهذه التعددية و يبني عليها ليؤصل التعارف و ينفي الحرج والعنت عن الناس و هو يدعوهم إلى شريعة الرحمة . ولقد كان الجيل الاول من المجاهدين الذين ضربوا في الأرض لنشر الهدى و العلم مثالاً لابد من دراسته و كشف آليات الاتصال عنده، إذ لما اتسع سلطان المسلمين و مكن الله لهم في الأرض و اختلط المسلمون بشعوب و أمم مختلفة ، كانت الترجمة والمعايشة هي وسيلة الدعوة لفتح العقول والقلوب لحقائق الإيمان و قيم الإسلام و لم تكن قضية جواز الترجمة مطروحة أصلاً إلا من جهة خصوصية بيان القرآن الكريم ، أما أداء بعض الشعائر كالأذان و الصلاة و الخطبة بغير العربية لمن لا يستطيعها فتحدث فيه الأئمة لينفوا الحرج. ولقد كانت العربية هي لغة الثقافة ولغة الحضارة ، ولم يجد المسلمون حرجاً و لم يضيقوا بوجود اللغات الأُخرى من فارسية و تركية و هندية وغيرها تعايشت في ظل التسامح و التعارف و نقلت معاني أساسيات العقيدة والقيم والأحكام إلى كل لغات الشعوب الإسلامية .
ثغرة ينبغي أن تسد
إنه لابد للعرب الذين نزل القرآن بلغتهم أن يبحثوا هذه القضية بما تستحقه من جهد و تحليل وبحث لوضع و تأصيل خطة ومعيار للترجمة و كيفيّتها و ما يكتنفها من أمور لتكون البيان المبين الذي يقيم الحجة على الناس و يقطع أعذارهم . و لا يغنيهم في هذا أن يشيدوا بفصاحة القرآن و إعجاز القرآن و جمال تعابيره و صوره وتشبيهاته و استعاراته و إشراق بيانه ليعلنوا في نشوة الاستمتاع بلغة القرآن شعار " أن الترجمات لا تغني شيئاً ". وراجع إن شئت في هذا الباب كتاب كيف نتعامل مع القرآن للشيخ الغزالي رحمه الله .
إنه لابد من الإشارة إلى وجود هذه الثغرة في حياتنا الثقافية و من ثم لابد من فتح ملف هذه القضية الكبيرة التي تتصل بصلب عقيدة المسلم و تصوره عن مهمته و دوره في المجتمع الذي يعيش فيه . و على سبيل المثال يشتكى بعض إخوتنا من المسلمين الأمريكيين أن الكتب التي تتحدث عن الإسلام بالانكليزية لا تستحضر ثقافة وروح أساليب ومصطلحات المخاطب ولا تستعمل لغته التي يفهمها أو النموذج العقلي الذي يألفه و يرتاح إليه ، فتغدو هذه الكتب غير مفهومة ومحدثة لبعض التشويش و الاضطراب ، بالإضافة إلى أن هذه الكتب تتحدث عن أمور و مشكلات مستوردة لا تتعلق بحقيقة ما يعانيه أو يهتم به إخوتنا الأمريكيون . و يؤرق هؤلاء الاخوة أن الأمر يُعرض عليهم بصورة أن الفهم للإسلام لا يمكن إلا بتعلم العربية و إتقانها ، بكل ما يحمله هذا الاقتراح من عبء وجهد و وقت لا يملكونه .
وما يزيد المشكلة تعقيداً أنه ليس هناك جهد على مستوى خطورة المهمة لتطوير تعليم اللغة العربية ، و ليس هناك كتب مناسبة أو أدوات متخصصة لأداء هذه الأمانة. و يكاد المرء يذهل من غياب هذا الأمر و محدودية الجهود المبذولة فيه لدعوةٍ عالميةٍ حمَل الله أتباعها مهمة القيام بالبلاغ المبين والشهادة على العالمين .
كما يزيد الأمر خطورةً زهد العاملين و من يُصنّفون في زمرة الدعاة بقضية اللغة ، فيكاد الواحد منهم يمضي السنوات الطويلة في بعض البلاد غير العربية دون جهد حقيقي لتطوير لغته و فهم منطق وثقافة القوم الذين يعيش بينهم ليتمكن من تحرير معاني الإسلام ورسالته العالمية الخالدة بلُغةٍ سهلة قريبة بعيداً عن العبء الثقيل لخصوصيات التاريخ و الثقافة العربية و الشرقية على وجه العموم .
وفيما يأتي نطرح بعض الاقتراحات في هذا الباب عسى أن تكون على الأقل فاتحةً ومقدمةً للحوار الجدّي التفصيلي في هذا الأمر الحسّاس:
· لابد من فتح ملف هذا الموضوع الخطير ليتم البيان المبين و تقوم الحجة على العالمين .
إعادة صياغة الحقائق(/2)
لابد من البدء بإعادة صياغة حقائق العقيدة الاسلامية بشكل بسيط مباشر يربط حقائق العقيدة بالتغيير المطلوب على مستوى النفس البشرية و العلاقات الاجتماعية والتفاعلات مع الكون والحياة . وقد يكون في ما ذكره الإمام الشاطبي بعض العون على تحرير هذه القضية و خدمتها . فقد ذكر الشاطبي في كتاب المقاصد من "الموافقات" أن في اللغة العربية من حيث هي ألفاظ دالّة على معان نظران أحدهما : من جهة كونها ألفاظاً و عبارات مطلقة دالّة على معان مطلقة و هي الدلالة الأصلية . و الثاني : من جهة كونها ألفاظاً و عبارات مقيدة دالة على معانٍ خادمة و هي الدلالة التابعة. فالجهة الأولى هي التي تشترك فيها جميع الألسنة وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين و لا تختص بأمة دون أُخرى . ويقرر الإمام أن أهل الإسلام اتفقوا على جواز ترجمة و تفسير معاني القرآن على جهة الدلالة الأصلية ، أما الوجه الثاني من الدلالة فهو كالتكملة والتتميم و لا يمكن ترجمة الكلام باعتبار هذا الوجه .
. لابد من تحرير حقائق العقيدة و تخليصها من العبء التاريخي لواقع المسلمين و المعارك الكلامية و الخلافيات و الجدل بين الفرق عبر العصور .
· لابد من تحرير قيم الشريعة وتخليصها من مؤثرات الواقع المعاصر للمسلمين و مشكلاتهم الداخلية و الخارجية.
· لابد من استيعاب الدراسات اللغوية ومنهجية تعليم اللغات وارتباطها بالثقافات و عادات التفكير عند مختلف الأمم .
· لابد من تطوير طرائق تعليم العربية و إخراج المحاولات المتقدمة في مخاطبة جميع شرائح المجتمع يشكل يتناسب مع طبيعة كلٍّ منها.(/3)
عامل البناء يصبح "بروفيسور"
حكاية عادية أن يتحول تلميذ عبقري تحت ضغط الظروف المعيشية الصعبة إلى "عامل بناء" ليعول أسرة من 13 فردًا، لكن غير العادي أن يظل شيء ما يهتف داخله: لم تخلق لهذا.. ويظل الصوت يعلو رويدًا رويدًا إلى أن يصنف الفلسطيني "ماجد إغبارية" عام 1997م الباحث الأول عالميا في مجال الأنظمة المعلوماتية وحتى آخر يوم في حياته 3-8-2002م.
أخ حانٍ وتلميذ صموت
وُلِد البروفيسور "ماجد حردان إغبارية" في 16 شباط/ فبراير 1958م في قرية معاوية، بمدينة أم الفحم - فلسطين 48، لوالدين فقيرين، فقد والدته عام 1967م، وعلى الرغم من أنه لم يكن الأكبر فإنه تحمل المسئولية كاملة، حيث خرج للعمل ولم يتجاوز عمره 14 عامًا؛ ليساهم في الإنفاق على أشقائه الخمسة وشقيقاته السبع.
وتدمع عينا شقيقه حاتم وهو يقول: "لقد كان أحنّ مَن في العائلة، همه إخوته وأخواته، لكل منا ذكريات جميلة معه، فهو قدوة الجميع".
أما أستاذه د. حاتم محاميد فيصف ماجد في فصله الدراسي قائلا: لقد كان تلميذًا سكوتًا هادئ الطبع إذا سُئِل أجاب وإلا بقي صامتًا، ولكنه في العادة "عبقري".
ومن البسطاء أيضًا.. عباقرة
عمِل في البناء كأي فتى فلسطيني فقير، بل إنه اضطر تحت وطأة الحاجة وبعد أن أنهى المرحلة الثانوية أن يتوقف عن الدراسة لعام كي يعمل، بدأ عام 1978م مشواره الأكاديمي في الجامعة العبرية بالقدس ليحصل على البكالوريوس بامتياز في تخصص "الإحصاء والاقتصاد"، وبعدها بعام عُيِّن معيدًا في الجامعة، ثم أكمل دراسة الماجستير في نفس الجامعة بتخصص "إدارة الأعمال".
لم يكن قد أكمل الرابعة والعشرين إلا وتلقى منحة من جامعة تل أبيب لدراسة الدكتوراه في تخصص الأنظمة المعلوماتية، وخلال سنتين فقط حصل ماجد على درجة الدكتوراه من الجامعة ليحاضر بعدها في جامعة هاواي بالولايات المتحدة أستاذًا زائرًا، ثم محاضرا في جامعة دروكسل في ولاية فيلادلفيا لمدة أربع سنوات، وفي تلك الأثناء حصل على لقب "بروفيسور".
تواضع لله.. فرفعه
بدأ نجم البروفيسور ماجد يسطع تدريجيًّا بعد أن حصل على شهادة الدكتوراه في فترة وجيزة، وبتقدير امتياز فتعاقد مع شركة أبحاث أمريكية وتنقل بين الجامعات الأمريكية مكرسًا حياته للعلم والبحث العلمي.
وحول انتشار اسم البروفيسور ماجد عالميًّا يقول شقيقه جمال إغبارية: "لقد ترأس ماجد 17 مؤتمرًا دوليًّا حول الأنظمة المعلوماتية، ومنذ عام 1991م حصل على عدد من المراكز الأولى في الحقل البحثي تم رصدها في دراسات عالمية".
ومنذ عام 1996م تنقل بين جامعتي تل أبيب الإسرائيلية وكليرمونت الأمريكية، وانضم عام 1998م للهيئة الأكاديمية لجامعة تل أبيب، وهو العربي الوحيد الذي حصل على هذه الصفة، وقد ترأس بعض الأقسام في كلية الإدارة بجامعة تل أبيب، وكان آخرها رئيس قسم الأنظمة المعلوماتية.
ويحدِّث عنه صديقه الحميم المحامي حسين أبو حسين قائلاً: "كان إنسانًا مثالاً في البساطة، ومثالاً للجندي المجهول في مفهوم الإنجازات العلمية الكثيرة، ولا أذكر أنه قال يومًا عملت كذا وأنجزت كذا. ومن الطريف عنه أنه لم يكن يعرّف نفسه بأنه "دكتور" أو "بروفيسور" بعكس الكثيرين الذين يرون بذلك مفخرة، لقد كانت قامته أطول بكثير مما كان الناس يرونها بسبب تواضعه الجم".
ويضيف: "دائمًا اكتشفت لهذا الإنسان قيمته العالمية والمحلية من خلال معارف مشتركين تعرفت عليهم من خلاله، كلهم كانوا يثنون على إنجازاته، وعلى دماثة خلقه، وأهم شيء بساطته، فهو لم يتنكر للبيئة التي خرج منها".
أما الخصلة الأخرى المميزة التي يتحدث عنها أبو حسين واكتسبها ماجد فهي الإرادة الفولاذية التي ساعدته في مقاومته للمرض، يقول: "لم يتذمَّر من المرض أبدا، ولم يكن حين نقابله يتكلم عن أنه سيجري عملية أو زيارة لمستشفى، أو سيقوم بتحليل ما، وكنا ندري بذلك دائمًا من خلال أقاربه".
لا ينسى د. حاتم محاميد -وكان أصلاً أستاذًا لماجد في السابق- أنه يوم حصوله على درجة الدكتوراه من جامعة تل أبيب، كان البروفيسور ماجد -تلميذه السابق- عضوًا في الهيئة العلمية لجامعة تل أبيب التي يحق لها المصادقة على رسائل الدكتوراه.
لاعب كرة.. وزوج رائع
لم يكن ماجد ذلك الأكاديمي الجاف، ولا العالم القابع في برجه العاجي.. فقريته كلها عرفت عنه مدى حبه لكرة القدم، لعب ضمن صفوف فريق قريته "معاوية" في صغره، وحين كسرت قدمه في إحدى المباريات وتوقف عن اللعب ظلَّ يتابع أخباره، وحين ذهب إلى أمريكا اهتم بكرة القدم الأمريكية.
وكما يقول أحد زملائه من الأساتذة الأمريكيين: كنت على مدار ثلاثين عامًا أهتم بلعبة كرة القدم وأشاهد المباريات وأعرف الفرق جميعها، وأشهر اللاعبين وجميع القوانين المتعلقة باللعبة وترتيب الفرق في لوائح الدوري، أما ماجد فبعد ثلاثة أشهر فقط من سكنه بأمريكا كان يعرف كل هذه المعلومات وأكثر مني بكثير.(/1)
تزوَّج ماجد عام 1999م ورزق بطفل أسماه "محمد"، أحب ماجد أسرته جدًّا، وكان يستمتع بأن يشارك زوجته أعباء تربية صغيرهما. يذكر الدكتور "حاتم محاميد" أنه زاره قبل أسبوعين من وفاته فوجده يحمل ابنه، ويلاعبه بعطف أبوي واضح، ويحاول إسكاته، بينما كان الطفل يبكي بشدة، ولم يعطه ماجد لزوجته التي كانت مشغولة بأمر ما تفهمًا منه لانشغالها.
رحلته مع المرض
في تشرين أول/ أكتوبر من عام 1996م شعر ماجد بألم في رجليه نقل على إثره إلى المستشفى للفحص وتبين وجود مشاكل عنده في الظهر. وبينت صور الأشعة وجود أورام سرطانية في عموده الفقري، وخلال أسبوعين أجرى عملية أخبره بعدها الطبيب أنه سيعيش لمدة ثلاثة أشهر لا أكثر، ولكن إرادة الله شاءت غير ذلك فبعد ثلاثة أسابيع مشى على قدميه وعاد للتدريس، ثم اضطر للعودة إلى البلاد لإجراء عملية أخرى في مستشفى إيخيلوف.
ومنذ عام 1996م حتى وفاته أجرى سبع عمليات لم تعقه أبدًا عن إكمال مشواره الأكاديمي، كان مؤمنًا بالله عز وجل ومخلصًا في عمله، حارب المرض بقوة وصلابة، الأطباء كانوا يستغربون منه كيف ينهض كل مرة من العملية أو الفحوصات ويعود إلى عمله مباشرة، كان متفائلاً لإيمانه القوي بقدر الله سبحانه وتعالى.
وقبل شهرين أخذت حالته الصحية في التدهور، ودخل المستشفى في كليرمونت يوم 18-7-2002، ووضعوا له جهاز تنفس اصطناعيًّا ووضع تحت التخدير المتواصل حتى فارق الحياة بتاريخ 3-8-2002.
نبوغه العلمي أثار اهتمام أكاديميي العالم
المطالع لمسيرة الرجل العلمية سيفاجأ بكمٍّ هائل من الإشادات، فيكفي أنه في أكثر من أربع دراسات قامت بها أربع دوريات بحثية متخصصة احتل المركز الأول كأكثر الباحثين في مجال الأنظمة المعلوماتية نشراً للأبحاث في الفترة من 1981 إلى 1991، ثم أعيد تصنيفه أيضاً ليكون الباحث الأكثر إنتاجاً في مجاله للفترة من 1991 إلى 1997، وكان دائماً الفارق واسعا بينه وبين من يليه من الباحثين.
ففي الدراسة الأخيرة التي قامت بها الدورية الخاصة بـ "جمعية نظم المعلومات AIS" بعنوان "تقييم للإنتاجية البحثية في الحقل الأكاديمي لتكنولوجيا المعلومات" وصلت عدد أبحاثه المنشورة إلى 23 بحثاً بمقدار تقييمي 10.58 في حين وصل عدد أبحاث من تلاه مباشرة 13 بحثا منشوراً بمقدار تقييمي 6.5.
الصلاة أول اهتماماته.. وآخر وصاياه
كانت وصيته الأخيرة لأهله وأقاربه قبل سفره الأخير إلى الولايات المتحدة قوله: "صلوا.. صلوا.. صلوا.." وكأنها صدى وصية الرسول صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت ليتكرر ذات المشهد، ولكن هذه المرة ليس مع نبي بل مع واحد من ورثة الأنبياء.
يقول أستاذه وصديقه الحميم د.حاتم محاميد: كان يحرص على الصلاة في المسجد، ويروي أنه في ذات يوم بينما كان البروفيسور عائدا من الولايات المتحدة بعد سفر 11 ساعة متواصلة بالطائرة وصل إلى القرية عند أذان الفجر، فبدلا من الذهاب إلى بيته ليستريح توجه للمسجد للصلاة. ويؤكد شقيقه حاتم حردان –41 عاما- أن علاقة العلم والإيمان في معادلة أخيه ماجد كانت مطردة، فحين حصل على الدكتوراه كان يقوم ببناء مدرسة أهلية ومسجد للجالية الإسلامية في كليرمونت بالولايات المتحدة، ورفض تماما أي محاولات لتخليه عن الصيام رغم أن الأطباء منعوه عنه بسبب إصابته بمرض السرطان.
يمكن للبسطاء أن يفعلوا شيئا.. ويمكن للإنسان - إذا أراد - أن يكون كنسمة باردة في ليلة حارة.. ترتسم البسمة على وجوهنا كلما تذكرناها.. هكذا كان "ماجد" وسيظل.
كاتب المقال: أشرف سلفيتي
المصدر: إسلام أون لاين(/2)
عامل طفلك كأنه المستقبل والتاريخ
أولى الإسلام تربية الأبناء ، ورعايتهم ، والعناية بهم ، والوقوف إلى جانبهم حيزا كبيرا من اهتماماته، فلفت أنظار الوالدين إلى الطرق الصحيحة الراجحة في تنشئة جيل الغد، ومشاعل المستقبل في ضوء تعاليم الإسلام، وما نادي به من مقومات أخلاقية ونفسية واجتماعية وتربوية حث الآباء على الاقتداء بها، والسير على دربها.. لكي تكون سفينة أبنائنا في منجي ومنأى عن الأفكار المنحرفة والدعوات المرذولة، وصولا إلى المجتمع الصالح الذي يتعرف فيه أطفال اليوم عندما يكبرون على الطرق والوسائل الكثيرة التي اتبعها آباؤهم عندما أرادوا تعليمهم كل ما يفيد في الحياة، وساعتها يكتشفون تعب والديهم عندما واجهتهم المصاعب في تشكيل وجدان أبنائهم على القيم الفاضلة والمبادئ الأصيلة ليتسلموا الراية، ويقوموا بأداء نفس الدور - ولكن كآباء - مع الجيل الجديد.. وهكذا تسير دفة الحياة في المجتمع المسلم ، بالنصيحة والقدوة ، والتربية السليمة !!
إذن فتربية صغارنا.. ليست مهمة سهلة مثلما يهون من أمرها البعض، كما أنها ليست مسألة عويصة كما يضخم من حجمها الكثيرون، ولكنها تجمع بين الاثنين، بين السهولة والصعوبة، بين المشقة والفرح، بين المعايشة الدائمة - وكأننا أطفال - لنقدم لهم الأنموذج الحي الصحيح لما نبغي أن نزرعه في ضمائرهم وأخلاقهم البريئة.
أطفال اليوم بحاجة إلى أن يتسلح آباؤهم وأمهاتهم بعلوم شتي ، وخبرات كثيرة ، وأخلاق أصيلة ، لكي يشب الطفل وهو يري مثالا ناضجا يطبق ما ينادي به ، فيقوم على الفور بالاقتداء به ، وتمثله تمثلا وجدانيا يكون اللبنة التي تؤسس كيانه وعالمه الجديد في المستقبل ، بعيدا عن الماديات الزائفة ، والأفكارالبالية، والسقوط في مستنقع الرذيلة والفواحش!!
ومن هنا تبرز قيمة كتاب "كيف تربي أبناءك في هذا الزمان؟" للدكتور حسان شمس باشا - استشاري أمراض القلب في مستشفي الملك فهد للقوات المسلحة بجدة - وهو كتاب يجمع بين الأصالة والمعاصرة وفق الأساليب التي اتبعها أجدادنا العظام في كتاباتهم الباهرة التي استقت من المعين القرآني والسنة النبوية وأقوال السلف الصالح ، وعلماء التربية المسلمين على مر العصور، إلى جانب الاطلاع النهم على آخر وأحدث ما توصل إليه العلم الحديث في مسألة تربية الأطفال.
قسم المؤلف كتابه إلى أربعة وعشرين فصلا شاملة لمرحلة الطفولة بدءا من الولادة وحتى سن الشباب.
الحب والتربية
فالتربية لا تتم بدون الحب ، حب من الجانبين; لأن الأطفال الذين يجدون من مربيهم عاطفة واهتماما ينجذبون نحوهم ، ويصغون إليهم أسماعهم وقلوبهم ، ويستجيبون لما يأمرونهم بفعله ، ولهذا ينبغي على الأبوين أن يحرصا على حب الأطفال، وألا يقوما بأعمال تبغضهم منهم ، كالإهانة الدائمة، والعقاب المتكرر، والحرمان، وعدم تلبية مطالبهم المشروعة; لأن ذلك لا يؤدي إلى التربية الصحيحة كما يتوقع الآباء، بقدر ما يقود إلى نفور الأطفال من آبائهم ، وارتكاب ما ينهاهم عنه والداهم.
وليس معني ذلك أن يستولي الأطفال على الحكم في البيت والمدرسة والنادي، دون نظام أو رادع ، فليس هذا حبا ، بل إنه خراب ودمار، وإن حب الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه لم يمنعه من تكليفهم بالواجبات، وسوقهم إلى ميادين الجهاد، وحتى إنزال العقوبة بمن أثم وخرج على حدود الدين، وكل ذلك لم يسبب فتورا في محبة الصحابة لنبيهم ، بل كانت تزيد من محبتهم له ، وطاعتهم لأوامره.
أسئلة مقلقة.. لها حل
يبدأ الطفل عادة في سن 3 - 4 سنوات بإلقاء أسئلة مختلفة ، محرجة ، مربكة ، مفرحة ، ذات طبيعة خاصة تتعلق بخيال الطفولة، وعالمها السحري، وعلى الأبوين أن يتعاملا بيسر مع هذه النوعية من التساؤلات، وألا يصادرا على أبنائهم حق التساؤل وطرح الاستفسار عما بداخلهم من أمور وقضايا عادية، لكنها بحاجة إلى إجابة ذات طبيعة خاصة تناسب المرحلة السنية للأبناء.
وعلى الأبوين أن ينظرا إلى أسئلة أبنائهم على أنها جزء من عملية التعليم الطويلة في حياتهم ، وأن تكون عملية الإجابة بسيطة وسهلة وبلا تعقيد، وحاوية للمعلومات ، وليس الامتناع عن أية إجابة ، حتى لا يؤدي ذلك إلى استقاء الأطفال لمعلوماتهم حول استفساراتهم التي عجز آباؤهم عنها إلى بديل آخر، تكون أجوبته أسلحة خطرة في مستقبل الأطفال، وفي تكوين مداركهم القادمة.
اختيار الأصدقاء(/1)
هذه قضية صعبة ، يقع في شركها الآباء والأمهات ، وبدلا من أن يختاروا أصدقاء بنيهم ، نراهم على العكس يرفضون وجود صداقات لأبنائهم بحجة أن من يصادقونهم ليست أخلاقهم على ما يرام ، أو لأسباب أخري ، وهنا يترك الوالدان مسرح الأحداث للأطفال من دون أية رقابة ، لكي يمارسوا حريتهم في اختيار أصدقائهم ، بلا ضوابط أو محاذير، وهنا تقع الكوارث الأخلاقية التي نسمع عنها كثيرا ، ولا نجد لها حلا سوي البدء مبكرا بالتنسيق مع الأبناء في التدقيق على نماذج أصيلة ذات بيئات قويمة ليصادقهم أبناؤهم . وعلى الوالد ألا يعنف ولده أمام أصدقائه، حتى وإن أتي ابنه بصديق سيء، فلا يزجره أمامه ، ولكن تكون المراجعة فوريا بعد مغادرة الصديق ، باتباع منهج تربوي في إسداء النصيحة كقصة مثلا أو حكاية عن الصديق السيء، ليتعلم منها الابن - بطريقة مباشرة - خطأه ، الذي يسارع في علاجه على الفور.
الطفل العصبي
يري علماء النفس أن أهم أسباب عصبية الأطفال وقلقهم النفسي ترجع إلى الحرمان من الدفء العاطفي في الأسرة، وعدم إشباع حاجة الطفل من الحب والقبول والتقدير، فضلا عن سيطرة الآباء التسلطية، وعدم إشعار الطفل بقيمته ودوره، وقسوة الآباء، والتفرقة بين الإخوة. وقد يتعلم الطفل العصبية من أمه مثلا أو من المدرسة، كما أن الأم المتسلطة تصبح مصدرا ثابتا لمضايقة الطفل، فيقاومها في كل شيء، بعكس الأم المرنة التي يحبها الطفل، ويقبل علىها، فإنه يخضع لها، وينفذ مقترحاتها بسرور، وكلما كبر الطفل يقلد من يعلمه.
تربية بدقيقة
يقول الدكتور "سبنسر جونسون" في كتابه "أب الدقيقة الواحدة": أسلوب الدقيقة الواحدة أسلوب حديث، ربما تشعر في بداية تطبيقه بأنه أسلوب غريب، ولكنك سترتاح بعد ذلك وتمارسه بشكل طبيعي، أخبر أبناءك أولا بأنك لا تريد أن تحكمهم أو يحكموك، ولا تريد أن تكون ديكتاتورا في البيت، أخبر أبناءك أنك ستتبع هذا الأسلوب معهم ، وأنه ستكون هناك بداية جديدة لطريقة التأديب ، دع أبناءك يشعرون بعدم الرضا عن تصرفهم الخاطئ، ولكن بالرضا عن أنفسهم ، فإذا ما ارتكب ابنك خطأ ما انظر في عينيه مباشرة ، وأعد عليه ما فعله باختصار دون أن يأخذ من وقتك إلا ثوان معدودات، أشعره بعدها أنك غاضب من فعله، ودعه يشعر بما تحس به في النصف الأول من الدقيقة، فلا يكفي أن يتلقى الابن أو الابنة التأنيب ، ولكن المهم جدا أن يشعروا بهذا التأنيب، دعه يشعر بأنك لا تحب ما فعل، وقد يرافق ذلك إحساس بالانزعاج منك، خذ نفسا عميقا، واشعر بهدوء نفسي، وانظر إلى وجهه في نصف الدقيقة الثاني، بطريقة تجعله يشعر أنك إلى جانبه ولست ضده، وأنك تحبه، ولكنك لا تحب سلوكه فقط، أخبره أنه ولد طيب، وأنك راض عنه، ولكنك لست راضيا عن سلوكه، وأنك ما أنبته إلا لأنك تحبه، وهكذا في كل الأمور عامله بنفس الطريقة في سهولة ويسر.< font>(/2)
عباد الرحمن
د.عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
العبد مفرد ، جمعه عباد وعبيد...
فإذا أضيف الجمع إلى الله تعالى ناله الشرف فاستُعمل الجمع " عباد " كقوله تعالى : أن أدوا إليَ عبادَ الله .... يشرب بها عباد الله .... وعباد الرحمن الذي يمشون على الأرض هوناً ...
- وقد يضاف إلى الله تعالى بلفظ الضمير الدال عليه : ... وأدخلني برحمتك في عبادك اصالحين ... فوجد عبداً من عبادنا... وهو القاهر فوق عباده ... وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ..
- وقد يحذف الضمير المضاف إليه " الياء " :... فبشر عبادِ... يا عبادِ لا خوف عليكم اليوم...
- وقد يستعمل هذا الجمع معرفاً ، والمقصود به البشر حميعاً . وقد استعمل معرفاً ب"الـ " مرة واحدة في القرآن الكريم ... والله رؤوف بالعباد ...
وقد يضاف الجمع " عباد " إلى ضمير البشر : وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم.
أما الجمع " العبيد " فقد قصد به الذين ظلموا وأشركوا وأساءوا إلى أنفسهم حصراً. وذكر في القرآن خمس مرات فقط . مثاله " وما ربك بظلام للعبيد " .
أما كلمة " عباد الرحمن " فقد ذكرت في القرآن الكريم مرة واحدة ، في الآية الثالثة والستين من سورة الفرقان . فمن هم عباد الرحمن وما صفاتهم ؟
- قبل أن نبدأ الحديث عنهم نريد أن ننبه إلى أن جذر كلمتي " الرحمن والرحيم " هو –رحم – ومع ذلك فإن كل واحدة تمتاز بسمات خاصة ، وهذا من جمال اللغة العربية وروعتها ، ولهذا مدح الله تعالى هذه اللغة مرات عديدة في كتابه الكريم .
فالرحيم : كلمة تدل على اللطف والرحمة ، والعطف والغفران ، والسماح والصفح .. ونجدها في كل الآيات الداعية إلى الإيمان والاستغفار والتوبة ، ترد مع الحلم والمغفرة والعفو و.....مثال ذلك في الآيات التالية :
فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم
فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم
أولئك يرجون رحمة الله ، والله غفور رحيم
واستغفروا ربكم ، ثم توبوا إليه ، إن ربي رحيم ودود
إن ربكم لرؤوف رحيم .....
والرحمن : كلمة تدل على القوة والعظمة ، والقدرة والقهر ، والسيطرة والهيمنة . ونجدها ترد مع العذاب وتهديد العاصي والمشرك وتهديد الكافر ، وترد مع الدعوة إلى الإيما بالرحمن والسجود له و.. مثال ذلك :
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً
إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب
ومن يعشُ عن ذكر الرحمن نقيّضْ له شيطاناً فهو له قرين
أمّن هذا الذي ينصركم من دون الرحمن ؟
قل : هو الرحمن آمنا به ، وعليه توكلنا .
وقد تردان معاُ لتدلان على الأمر كله :
إنه من سليمان ، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم
وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم
والملاحظ أن الصفتين حين تجتمعان ترى كلمة الرحمن قبل كلمة الرحيم . فهو الذي يفعل ما يشاء ويقدر عليه ولا يحتاج لأحد ( هو الصمد)، وهو رحيم بعباده حين يقبلون عليه سبحانه .
صفات عباد الرحمن :
1- الذين يمشون على الأرض هوناً، والهَون بفتح الهاء غير الهُون بضمها .. فأما مضمومة الهاء فمعناها الذل والهوان ، والمؤمنون أعزاء كرام لا يتصفون بذلك . إنما المقصود بالحديث" الهَوْنُ" وهي تحتمل معاني كثيرة – كما قال المفسرون من تواضع للناس و رحمة بهم بعيداً عن الكبر والطغيان ، يعلمون أن من له بداية لا بد أن تكون له نهاية ، ومن كان عبداً لله أطاعه وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه ، وكان مثالاً للرجل المهذب والمؤمن التقي الذي يكره التعالي على غيره لأنه داعية يحمل مبادئ سامية يعمل بها ويدعو إليها .
ومن مشى مشية المتكبر المتجبر في الدنيا قُصم ظهره في الآخرة ووطئه الناس احتقاراً ، ولماذا يختال الإنسان في مشيته و" أوله نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة ، وهو بينهما يحمل العَذَرَةَ ؟! " ولوسألنا أنفسنا : لِمَ ذكرت الأرض والإنسان لا يمشي إلا عليها؟ فال جواب أن هذا تنبيه إلى أننا منها خلقنا ، وإليها نعود ، ومنها نبعث . فعلام التكبر والتفاخر؟! ألم ينهَنا المولى تعالى أن نتهادى في سيرنا تعاظماً كاذباً في قوله سبحانه " ولا تمشِ في الأرض مَرَحاً ، إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً " . وما ألطف قول الشاعر المعرّي :
خفف الوطء ، ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا ، وإن قَدُم العهد هَوانُ الآباء والأجداد
سِرْ إنِ اسطَعْتَ في الهواء رويدا لا اختيالاً على رفات العباد
وهل يستحسن الإنسان أن يتعاظم على ذرات الأسلاف من آباء وأجداد؟! وسيكون إن عاجلاً أو آجلاً ذرة تراب يدوسها الأحفاد .
ولا يظنّنّ أحد أن هذه دعوة إلى التماوُت في الحركة والبطء في التنقل والبلادة في العمل فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك ، وكان في سيره يتقلع كأنما يتحدّر من صَبَب ، وكان سريع المشي واسع الخطوات .. إنه صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخُيَلاء والكِبر .(/1)
2- وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، لابُدّ من الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة كما يقرر القرآن الكريم .والتلطّفُ في الحديث والحُسْنُ في المعاملة يجعل العدو صديقاً والمبغضَ محباً . ألم يقل الشاعر الذكي :
أحسِنْ إلى الناس تستعبدْ قلوبَهُمُ فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
وقد كان القدوة الأول نبينا صلى الله عليه وسلم المثال الناصع في الرحمة والماثة وروعة التصرف فمدحه الله تعالى " فبما رحمة من الله لنتَ لهم ، ولو كنتَ فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر " .
إني لأعلم أن الداعية هو الذي يبدأ الحديث ، ويخاطب الناس ، ويتقرب إليهم ناصحاً رفيقاً ، فكيف نفهم هنا بدء الجاهلين الحديث ؟ " وإذا خاطبهم الجاهلون .. " إن هذا تنويه إلى أكثر من أمر دقيق يجب ملاحظته والترتيب له :
1- أن على الداعية أن يتوقع الردّ السلبي عليه ابتداءً وقبل أن يدعو الناس فللجاهل بدَوات وتصرفات عفوية غير مدروسة تدل على النزق والطيش .
2- أن الصبر على الناس يؤتي بثماره المرجُوّة ، وكل أمر وإن كان سهلاً فله استحقاقات لا بد من دفعها والتأني في تناولها .
3- أن ينأى الداعية عن ردّ الفعل كي يكون المتحكم بزمام الامر ، القادر على تسيير دفّته .
4- وأن استيعاب المدعوّين هو المقصود بكلمة " قالوا سلاماً " .
إن تحمل الآخرين والبعد عن ردّة الفعل تجعل الداعية ممسكاً بخيوط الحديث ، ويترك مجالاً لإعادة الكرة والحفاظ على التواصل . أما التسرّع فيقطع الخيوط أولاً وينزل بمستوى الداعية ثانياً ، ويجرئ الآخرين عليه والسخرية منه ثالثاُ . وقد نبهنا القرآن الكريم مرات عديدة إلى الصب في دعوة الناس ومخاطبتهم " من ذلك ما قاله إبراهين عليه السلام لوالده الذي هدده بالرجم والعذاب إن خالفه " قال سلام عليك ، سأستغفر لك ربي ، إنه كان بي حفيّاً " ومنها أمر الله تعالى لنبيه الكريم محمد عليه الصلاة والسلام " فاصفح عنهم وقل سلام ، فسوف يعلمون " و في سورة ياسين نجد النصيحة الغالية كذلك " سلامٌ قولاً من رب رحيم " وفي سورة القصص نجد التعالي عن الخصام واللغو " وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه ، وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، سلام عليكم ، لا نبتغي الجاهلين " .
3- والذين يبيتون لربهم سُجَّداً وقياماً، الأصل في البيات أن يدركني الليل أنمْتً أم لم أنمْ .
قال زهيربن أبي سُلمى في ذلك :
فبتنا قياماُ عند رأس جوادنا يزاولنا عن نفسه ونزاوله
فمن الناس من ينام ملء جفنيه الليل كله ، ومنهم من يسهر في اللعب واللهو، ومنهم – وهؤلاء قليل – مَنْ يعبدون الله تعالى ويكثرون من الصلاة والاستغفار " كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون ، وبالأسحار هم يستغفرون " وهؤلاء هم الأتقياء الأولياء :
امنع جفونك أن تذوق مناماً واذْرِ الموعَ على الخدود سِجاما
واعلمْ بانك ميّت ومحاسب يا من على سُخط الجليل أقاما
لله قومٌ أخلصوا في حبه فرضِي بهم ، واختصّهم خدّاما
قومٌ إذا جنَّ الظلام عليهِمُ با توا هنالك سُجّداً وقياما
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدأ وقائماً . ولا شك أن قيام الليل دأب الصالحين وتجارة المؤمنين ، وهؤلاء من سماتهم أنهم " تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً " ويقول النبي صلى الله عليه وسلم محبباً بقيام الليل " عليكم بقيام الليل ، فإنه دأب الصالحين قبلكم ، وقربة إلى الله تعالى ، ومكفرة للسيئات ، ومطردة للداء عن الجسد " ففوائده معنوية ومادية ، دنيوية وأُخروية .ومما قاله جبريل للنبي الكريم " واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل " وقد روى أبو داوود " من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين، ومن قام بمئة آية كتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كُتب من المقنطرين" والمقنطرون الذين حازوا قنطاراً من الأجر .
قال الحسن البصري : لم أجد شيئاً من العبادة أشد من الصلاة في جوف الليل .
وكان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كأنه حبة على مَقلى ، ثم يقول : اللهم إن جهنم لا تدَعُني أنام ، فيقوم إلى مصلاّه ....وكان زمعة العابد يصلي كثيراً ثم إذا أسحر نادى بأعلى صوته : أيها الركب المعرّسون ، أكل هذا الليل ترقدون؟ ... ألا تقومون فترحلون ؟! ...فإذا طلع الفجر نادى : عند الصباح يحمد القوم السرى .
وكان طاووس يثب عن فراشه ، ثم يتطهر ، ويستقبل القبلة ، ويقول : طيّر ذكر جهنم نوم العابدين .
- 4 والذين يقولون : ربنا اصرف عنا عذابَ جهنم ، ألم يقل الله تعالى " وإن منكم إلا واردها، كان على ربك حتماً مقضياً " فالبشر والجن لا بد أن يردوا النار صالحهم وطالحهم ، قد قال علماء التفسير واللغة في بعض ما قالوه :
لا يعني الورودُ الدخولَ فيها ، فإنك تقول : وردتُ الماء أي ذهبت إليه ، فقد تشرب منه وقد لا تشرب . وكذلك يرد البشر والجن النار فتعلق الكافرَ ، وينجو المؤمن منها .(/2)
وقيل : بل يطرح الكفار والمشركون فيها أما المؤمنون برهم وفاجرهم فيجوزون الصراط ، فمن استحق العقوبة جرجرته كلاليبها إلى النار فمكثوا فيها ما شاء الله تعالى أن يمكثوا حتى يتطهّروا ثم يخرجون منها بإذن الله تعالى ... ويجوز الناجون الصراط كل حسب عمله فمنهم من ينطلق كالبرق الخاطف ، ومنهم كالريح الشديدة ومنهم بسرعة الخيل ، ومنهم ركضاً ، ومنهم مشياً سريعا، ومنهم من يمشي حبواً أو يزحف زحفاً تخمشهم كلاليبها .. نسأل الله العافية والنجاة فعذابها أيها الأحباب كما وصفها المولى شديد :
" إن عذابها كان غراماً ، إنها ساءت مستقرّاً ومُقاماً "
وللغرام معان عدة : كالشديد ، والملازم الذي لا يفارق ، والمولع بالشيء لا يدعه ،والغرم عكس الغنم .. وهكذاالعذاب فيها – أعاذنا الله منه – خسارة شديدة يأبى العاقل أن يكون من أهلها ، وكيف لا تسوء مُقاماً وهي مأوى الظالمين يصطلون بنارها صِليّاً ، ويُشوَوْن بلظاها شيّاً ؟! طعامهم الزقوم ، كأن طلعه رؤوس الشياطين ، وشرابهم الحميم الآني يُصهَر به ما في بطونهم والجلود ، ويتلقاهم الزبانية بمقامع من حديد ، وهي عليهم مؤصدة بعمد ممدّدة !! ،فبئس المستقر وبئس المُقام نسأل الله حسن الختام والفوز بالجنة ورضا الله تعالى ..
وإذا كان هذا قولَ عباد الرحمن - وهم أعرف بما يقولون لمكانتهم من الله تعالى - حق على الناس أن ينتصحوا ، فيقولوا مثل قولهم " ربنا اصرف عنا عذاب جهنم " ويفعلوا مثل فعلهم ، فيعبدون الله راضين مرضيين يطيعون فيما أمر ونهى سبحانه .
5- والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ، ولم يقتُروا، وكان بين ذلك قواما :
لابد من الإنفاق على أن لايكون إفراط ولا تفريط . ألم يقل الله تعالى معلماً ومسدداً "
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك
ولا تبسطها كل البسط...
فتقعد ملوماً محسوراً " ؟
فما الإسراف وما التقتير ؟
قال ابن عباس : من أنفق مئة ألف في حق فليس بسرف ، ومن أنفق درهماً في غير حقه فهو سرف ، وقاله مجاهد وغيره . ويؤكد ذلك ما رواه عَبْدِالله قَالَ قَالَ رَسُولُ الله عليه وسلم : " لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ ، رَجُلٌ آتَاهُ الله مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ ، وَآخَرُ آتَاهُ الله حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا الناس "
قال النحاس : من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف ، ومن أمسك عن طاعة الله عز وجل فهو التقتير... وقال عون بن عبد الله : الإسراف أن تنفق مال غيرك .
ولا ينبغي الإفراط في النفقة فيضيع حق الآخرين أو عيالهم ، ولا التضييق والتقتير فيجوع العيال من فرط الشح .
والمطلوب العدل والتوسط وهذا ما يسمى " القوام " وقد وُصف أصحاب رسول الله بأنهم لا يأكلون طعاماً للذة وتنعم ، ولا يلبسون ثياباً للجمال ، ، ولكن كانوا يأكلون ليسدوا جوعتهم ، ويلبسون لستر عورتهم . وقال الخليفة الفاروق في هذا : كفى بالمرء سَرَفاً أن ألاّ يشتهي شيئاً إلا اشتراه فأكله . وفي سنن ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت " .
ولله در الشاعر حين قال :
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ولم ينْهها تاقتْ إلى كل باطل
وساقَتْ إليه الإثمَ والعار بالذي دعتْهُ إليه من حلاوة عاجل
وقال عمر لابنه عاصم : يا بنيّ كل في نصف بطنك ، ولا تطرح ثوباً حتى تستخلقه ، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم .
فأين نحن من هؤلاء القوم ؟ وما مدى قربنا أو بعدنا منهم ؟
6- والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر :
من الظلم أن يكرمك أحدهم فتأكل على مائدته ، وتلبس من ثيابه ، وتنام على فراشه ، ثم تشكر غيره ، وتثني على غير المتفضل ، فهذا ظلم ما بعده ظلم ، وسفاهة ما بعدها سفاهة . فكيف والله تعالى خلقك ، ويسّر كل شيء لخدمتك " يا بن آدم خلقت كل شيء لك ، وخلقتك لنفسي " وجعلك سيد المخلوقات ، ووهبك العقل وجعلك أجملهم " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " ثم ترضى لنفسك الضياع والسقوط فتعبد إلهاً غير الله ،
عن ابن مسعود قال : قلت يا رسول الله أي الذنب أكبر ؟ قال: " أن تدعو لله نداً وهو خلقك .. "
وعن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن ربه :
إني والإنس والجن في نبإ عظيم
أخلق ويعبد غيري ،أرزق ويشكر سواي
خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد
أتودد إليهم برحمتي ، وأنا الغني عنهم
ويتبغضون إلي بالمعاصي،وهم أفقر ما يكونون إلي!
أهل ذكري أهل مجالستي،فمن أراد أن يجالسني فليذكرني
أهل طاعتي أهل محبتي
أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي
إن تابوا إلي فأنا حسبهم
من أتاني منهم تائبا تلقيته من بعيد
ومن أعرض عني ناديته من قريب
أقول له : ألك رب سواي؟!!
الحسنة بعشر أمثالها ، وأزيد!
والسيئة عندي بمثلها ، وأعفو!
" وعزتي وجلالي، لو استغفروني منها لغفرتها لهم"
رواه البيهقي والحكيم الترمذي(/3)
أو تتقرب إلى آلهة ليس لها وجود ، وهل هناك إله غير الله ؟ تعالى الله عن الشريك -أيّاً كان - علوّاً كبيراً . أما عباد الرحمن الذين عرفوه فأحبوه ، فعبدوه سبحانه يقولون بقلوب مؤمنة وألسنة موحدة " لا إله إلا الله محمد رسول الله " .
7- ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق :
لا يختلف المسلمون فى تحريم الاعتداء على الأنفس المعصومة فى دين الاسلام ، والنفس المعصومة في الإسلام إما أن تكون مسلمة أو لا تكون .فإن كانت مسلمة فلا يجوز بحال الاعتداء عليها وقتلها بغير حق ومن فعل ذلك فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب العظام يقول الله تعالى " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً ".
ويقول سبحانه " من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل انه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد فى الأرض فكانما قتل الناس جميعا .."
قال مجاهد رحمه الله : وهذا يدل على عظم قتل النفس بغير حق.
ويقول النبى صلى الله عليه وسلم " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا اله الا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس والثيب الزانى والمارق من الدين التارك للجماعة " ويقول النبى صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فاذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله " .
وفى سنن النسائى عن عبدالله بن عمرو رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم ".
ونظر ابن عمر رضى الله عنهما يوماً الى البيت أو الى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك .
كل هذه الأدلة وغيرها كثير تدل على عظم حرمة دم المرء المسلم وتحريم قتله لأى سبب من الأسباب إلا ما دلت عليه النصوص الشرعية فلا يحل لأحد أن يعتدى على مسلم بغير حق.
يقول اسامة بن زيد رضى الله عنهما .. بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الانصار رجلاً منهم فلما غشيناه قال لا إله إلا الله فكف الانصاري ، فطعنته برمحى حتى قتلته فلما قدمنا بلغ النبى صلى الله عليه وسلم فقال" يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله " قلت كان متعوذاً .فما زال يكررها حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم متفق عليه .
فهذا رجل مشرك وهم مجاهدون فى ساحة القتال لما ظفروا به وتمكنوا منه نطق بالتوحيد فتأول أسامة رضى الله عنه قتله على أنه ما قالها إلا ليكفوا عن قتله ولم يقبل النبى صلى الله عليه وسلم عذره وتأويله. وهذا من أعظم ما يدل على حرمة دماء المسلمين وعظيم جرم من يتعرض لها .
ومن الأنفس المعصومة فى الإسلام .. المعاهدون وأهل الذمة والمستأمنون . فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة اربعين عاماً "أخرجه البخاري .
ولما أجارت أم هانئ رضى الله عنها رجلاً مشركاً عام الفتح وأراد أخوها على بن أبى طالب رضى الله عنه أن يقتله ذهبت للنبى صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال صلى الله عليه وسلم " قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ " أخرجه البخارى ومسلم .
8- ولا يزنون : فالزنا مفسدة أيّما مفسدة ، ينأى عنها ذوو الأخلاق والشرف والمروءة . ففيه خلال الشر كلها من ذهاب الدين " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " وفساد المروءة ، وقلة الورع ، وقتل الحياء ، مع الاتسام بالفجور والصفاقة والوقاحة . كما أن الوجه تعلوه ظلمة وكآبة تنفر منه نفوس المتقين ، وتراه يحتقر نفسه وإن لم يصرح بذلك .
كما أن من صفات الزاني الفقر لما ورد في الأثر " أنا مهلك الطغاة ومفقر الزناة " ، وينظر الناس إليه نظرة الشك والريبة ، ولا يأمنونه على أعراضهم
وقد يعفو أحدنا عن السارق والقاتل . أما هاتك العرض والشرف فليس له إلا العقوبة القاسية التي لا ترحم ، ولو بلغ الرجل أن ابنته أو زوجته أو أخته قُتلت أسهل عليه أن يبلغه أنها زنت .
ومن عرف عنه الزنا سقطت مهابته ، وضعفت مهابته حرمته ، ولربما سهُل على نسائه بذل أعراضهنّ إن لم يُربّين التربية الصالحة التي تمنعهن أن يكنّ مثل رجالهنّ .
وللزنا أضرار صحية جسيمة يصعب تجنبها أو علاجها والسيطرة عليها ، وهي خطيرة قد تهلك الزاني وتؤدي به إلى الموت والهلاك أمثال الإيدز- ضعف المناعة - والزهري والسيلان والهربس ، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أمراض الزنا فقال : " ما ظهرت الفاحشة في قوم قط ، بعمل بها فيهم علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم " وخص مرتكب الزنا إن كان محصناً بالرجم ، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بماعز والغامدية . أما غير المحصن فبالجلد مئة جلدة على أعين الناس الأتقياء دون رأفة ولا رحمة . " "(/4)
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة
ولا تأخذكم بهما رافة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " .
ولما كان الشرك بالله وقتل النفس بغير حق والزنا أشد أنواع الاعتداء على الحقوق
فالشرك اعتداء على حق الله تعالى
والقتل اعتداء على حق الآخرين في الحياة
والزنا اعتداء على الشرف والكرامة والنسل
كان الهلاك للمشركين في الدنيا والنار لهم في الآخرة " قال : أما من ظلم فسوف نعذبه ، ثم يُرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نُكرا"
وكان القَوَد من القاتل الظالم في الدنيا والخلود في النار " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها ، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً "
وكان الحد رجماً حتى القتل للزاني المحصن ، ومن نجا في الدنيا فأمره إلى الله في الآخرة ، أما عقوبة الزاني غير المحصن فمئة جلدة كماذكرت آية الجلد في أول سورة النور كما ذكرنا آنفاً وتغريب سنة.
ومن ثّم يأتي دور التوبة والإيمان والعمل الصالح الذي يقرب غفران الله تعالى ، ويقلب السيئات حسنات . وهذا فضل من الله تعالى على المؤمن التائب " إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ، وكان الله غفوراً رحيما ً "
ولعل التبديل يكون في الدنيا ويكون في الآخرة .. فأما في الدنيا فإن الله يبدلهم الإيمان من الشرك والإحصان من الفجور ، والرشاد من الفساد . وأما في الآخرة فنرى الحسنة مكان السيئة والرضا مكان السخط ، والعفو مكان العقوبة . ألم يقل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم موضحاً معنى الآية السابقة : " وأتْبع السيئة الحسنة تمحُها، وخالق الناس بخُلثق حسن " اللهم اجعلنا ممن ترضى عنهم فتبدل سيئاتنا حسنات ، وتكرمنا بفضلك ومنك يارب ... وتعال معي نقرأ هذا الحديث الشريف الذي يوزن بميزان الذهب ، بل بالنور والضياء ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي ذر:
" أني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنّة ، وآخر أهل النار خروجاً منها ، رجلٌ يُؤتى به يوم القيامة ، فيُقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، وارفعوا عنه كبارَها . فتُعرض عليه صغارُ ذنوبه ، فيُقال : عملتَ يوم كذا وكذا كذا وكذا ، فيقول : نعم . لا يستطيع أن ينكر ، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تُعرَض عليه . فيُقال له : فإن لك مكانَ كل سيئة حسنةً . فيقول : يارب عملتُ أشياء لا أراها ههنا ،،فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه ، فقال أبو طويل – رجل من كندة - : يا رسول الله ، أرأيتَ رجلاً عمل الذنوبَ كلها ولم يترك منها شيئاً ، وهو في ذلك لم يترك حاجّةً ولا داجّةً – يعني قطع الطريق على الحجاج – إلا اقتطعها ، فهل له من توبة ؟ قال" هل أسلمتَ " قال : أنا أشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنك عبد الله ورسوله . قال :" نعم ، تفعل الخيرات ، وتترك السيئات ، يجعلهن الله كلَّهن خيرات " قال : وغَدَراتي وفجَراتي يا نبي الله ؟! قال " نعم " قال : الله أكبر ! فما زال يكررها حتى توارى " .
قال عثمان كاتب هذا المقال ، راجي عفو ربه :
ياربِّ سبحانك أنت الإله الحقّ
للمسلم المذنبْ قولٌ لذاتك رقّ
÷÷÷÷
من فضلك النارُ ولّتْ فلا دارُ
إلا رُبا الجنّه ْ فلوجهِك المِنّه
÷÷÷÷
أرسلتَ هادينا يُهدي لنا دينا
نورٌ على نورِ بالخير منثورِ
÷÷÷÷
فارفعْه مقدارا أعلى الورى دارا
صلى عليه اللهْ من فضله أولاهْ
9- والذين لا يشهدون الزور :
إن المسلم التقيّ من دخل في زمرة " عباد الرحمن" لا يحضر الكذب ولا الزور، فلا يشهدهما ، ولا يشاهدهما . قال تعالى " .. واجتنبوا قول الزور " . وجعله المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم من أكبر الكبائر " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ...... وكان متكئاً فجلس ، فقال : ألا وقول الزور ، ! فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " وتكرار العبارة تنبيه إلى خطورتها ...
والزور من أشد أنواع الكذب – كما قال ابن العربي المالكيّ الأندلسي صاحب" العواصم من القواصم " والزور كما يقول العلماء : كل باطل زُوِّر وزُخرِف ، وأعظمُه الشرك وتعظيم الأنداد . وعلى هذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما : الزور أعياد المشركين . وقد حذر منه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام " من كثّر سوادَ قوم فهو منهم . " .
من الزور القمار والملاهي التي تبعد عن الله تعالى وتوغر الصدور . والتغنّي بالشعر الفاحش .والشطط في القول الخارج عن الإيمان كقول ابن هانئ الأندلسي يمدح الخليفة الفاطمي :
ما شئت لا ما شاءت الأقدارُ فاحكم فأنت الواحد القهّارُ
فجعل له صفا ت لا تليق إلا بالله تعالى من وحدانية قدرة مطلقة في التصرف واستعلاء قاهر !! .
وكذلك المبالغة الممجة كقول الشاعر :
لا تغرّنّك الأشكال والصوَرُ تسعة أعشار من ترى بقر
وسمع أحد الشعراء هذا البيت فزاد المعنى حشفاً وسوء كيلة ً حين قال :
لا تغرّنّك الأشكال والصور فجُلّ من ترى بل كلهم بقر(/5)
ولا شك أنه أدخل نفسه في الكل البقريّ ! دون أن يدري ، وانطبق عليه قول مثيله من الشعراء
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة أو كنتَ تدري فالمصيبة أعظمُ
10- وإذا مروا باللغو مرّوا كراماً : فما اللغوُ؟ إنه كل سَقَط من قول أو فعل ويدخل فيه كثرة الغناء واللهو ، والحديث الذي لا فائدة منه .. وقيل : هو المعاصي عامّةً . وقيل :هو الشرك ، قاله الضحّاك . فما المقصود بكلمة " كراماً " ؟ إنه الإنكار وعدم الرضا ، والبعد عن مجالسة اللاغين ، والنأي عن الدخول في الباطل وتكريم النفس عما يشينها . وروي أن عبد الله بن مسعود سمع غناء فأسرع وذهب ، فبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما فعله ابن مسعود فقال : " لقد أصبح ابن أم عبد كريماً "
وكلمة " مروا باللغو " تدل على امتناع المرء أن يقصد مجالس اللغو . فإذا وجد نفسه عرضاً فيها أسرع مبتعداً كي لا يسمع أو يقول كما فعل ابن مسعود رضي الله عنه.
ويكفي اللغو مأثماُ أنه يضيّع الوقت سدى ، ويبذر الشقاق ، ويؤدي إلى البغضاء والفراق ، ويفرق القلوب ، ويُكثر الذنوب ، ويهدم الفضيلة ، ويزرع الرذيلة ، ويؤجج التنافس الذميم ، ويفرح الشيطان الرجيم .
11- والذي إذا ذُكّروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صمّاً وعمياناً :
عباد الرحن قلوبهم مع الله ، وأعمالهم يبتغون بها وجه الله . يشكرون من يذكرهم بالله ويسعدون بذلك وهم نقيض المنافق ضعيف الإيمان الذي " .. إذا قيل له : اتق الله أخذته العزة بالإثم .." فمن صفاتهم الإيمانية قوله تعالى" إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وإذا تُليَت عليهم آياته زادتهم إيماناً، وعلى ربهم يتوكلون " وما أدق التعبير " لم يخروا عليها" الدالة على الإعراض وعدم المبالاة والتكبر والإصرار على البعد والتبلّد . فعباد الرحمن يستمعون الذكر فيخرون سجّداً وبكياً " ... إذا ذُكروا بآيات ربهم خرّوا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون " يتململون تململ السليم ، ويبكون بكاء الثكلى . يذكرون يوماً تتقلب في القلوب والأبصار . ويقولون بلسان الحال والمقال " إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً " فمن خاف أدلج ، ومن أدلج سلم .
ولا بد أن نشير إلى أمر هام نبهنا إليه قوله تعالى " إذا ذُكّروا بآيات ربهم " فالمسلم داعية إلى الله يذكر نفسه وإخوانه بالله . ألم يأمرنا ربنا بذلك فقال : " فذكر إن نفعت الذكرى " ؟ فمن الذي يتذكر سوى من يحب ربه ويخشاه ويرجو ثوابه ويخاف عقابه؟! " سيذّكر من يخشى .. " .
وقد أعذر الله تعالى إلى الناس حين أرسل إليهم الرسل بالآيات والبراهين الناصعة ، يذكرونهم بربهم ويعلمونهم الطريق الموصل إلى رضاه سبحانه ، فوضحوها لهم وأقاموا عليهم الحجة .
12- والذين يقولون :
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين
واجعلنا للمتقين إماماً .
في هذه الآية نجد فوائد عدة منها:
1- أن يدعو الإنسان ربه ويبتهل إليه ويطلب منه العون ، فالإنسان ضعيف بنفسه قوي بلجوئه إلى ربه " إياك نعبد وإياك نستعين " " إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله "
2- ما ينال الإنسان من خير فمن الله تعالى . فالرزق الحلال هبة " إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " والزوجة الصالحة هبة " الدنيا متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة " والذرية الصالحة هبة " وأصلح لي في ذريتي "......وهبنا له إسحاق ويعقوب "
3- سعادة الإنسان حين تكون أسرته – الزوجة والأبناء – صالحين تقر بهم عيناه ، فيعيش بهم في نعيم " قال رب هب لي من الصالحين، فبشرناه بغلام حليم " وقرة العين بهم كما قال الضحاك أيضاً أن يكونوا طائعين . " قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة " ولا ننس دعاء زكريا عليه السلام " فهب لي من لدنك وليّاً " والولي المطيع ، فلم يقل هب لي ولداً. فقد لا يكون الولد مطيعاً . وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك " اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه " فقرت عينه بأهله وولده وماله.
4- على المسلم أن يكون داعية كي يكون قدوة " واجعلنا للمتقين إماماً " والمسلم يطلب أن يكون قدوة في الدين قبل كل شيء ، فهو سبيل إرضاء المولى عز وجل . ولهذا ينبغي أن يجتهد في طاعة ربه .
5- يدعو الإنسان بالخير للمسلمين جميعاً ولأهله وقرابته قبل الآخرين ، فالأقربون أولى بالمعروف . ومن كان في أهله سعيداً مرتاحاً كان أقدر على الدعوة وأنشط.
عباد الرحمن هؤلاء الذين جمعوا من أوصاف التحلية والتخلية التواضع ، والحلم ، والتهجد ، والخوف ، والاعتدال في النفقات ، والنزاهة عن الشرك والزنا والقتل ، والتوبة والصدق ، والعفو ، وتقبل الموعظة والابتهال إلى الله استحقوا ثواباً من الله تعالى عظيماً .. إنه " الغرفة " أعلى منازل الجنة وأفضلها لأنهم صبروا على طاعة ربهم فابتعدوا عن الحرام ، وقنعوا بالحلال ، " أولئك يُجزَوْن الغرفة بما صبروا " . فالدنيا دار ابتلاء واختبار نجحوا فيه فاستحقوا كرامة الله تعالى لهم .(/6)
يخصهم ملائكة ربهم بالتحية والإكبار كلما رأوهم وحيثما التقوهم " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " قال تعالى " ويُلَقّوْن فيها تحية وسلاماً " .
هل النعيم ينقطع أو هو دائم ؟ لو كان ينقطع فليس نعيماً إنه لو انقطع لأورث الغصة ، وظل أصحابه ينتظرون انقطاعه فتضيع لذته ... إنه نعيم دائم في كنف الله تعالى ذي الفضل والمنّة يرتعون في ربض الجنة أبد الآبدين " خالدين فيها ، حسُنتْ مستقراً ومُقاماً "
" إن هذا لهو الفوز العظيم ، لمثل هذا فليعمل العاملون " صدق الله العظيم
اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين الفائزين ، واحشرنا في زمرة عبادك الصالحين ، مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً .(/7)
عبادة العمر
لو كان العلم يدرك بالمنى ما كان يبقى بالبرية جاهل
فاجهد ولا تكسل ولا تك غافلا فندامة العقبى لمن يتكاسل
• أخي الشاب ـ زادك الله حرصاً وتوفيقاً ـ :
إن طلب العلم .. وثني الركب عند العلماء الراسخين..واقتناص الفوائد الشوارد من أفواههم وتقييدها..من أهم المهمات..وأجل العبادات.. يقول تعالى : {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}..
• فبه ـ أي : بطلب العلم ـ تسد باب الشبهات التي قد تفسد عليك قلبك ـ نسأل الله تعالى السلامة ـ .. وبه ترضي الرحمن.. وتدحر الشيطان..يقول الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" (أخرجه الشيخان من حديث معاوية).
• لكن المعضلة الكبيرة والمشكلة الخطيرة؛ هي انصراف أكثر شباب الصحوة عن هذا العلم..والتعذر عن ذلك بالانشغال في دعوة أو عمل أو وظيفة أو نشاط ...!!!
• فما هذا ـ والله إلا خور الهمة.. وقلة الفقه .. وسوء التدبير.. وقصور التفكير.. فقل لي بربك أي دعوة أو عمل ستقوم بها بلا علم ؟؟!!
علم العليم وعقل العاقل اختلفا أي الذي منهما قد أحرز الشرفا
فالعلم قال أنا أحرزت غايته والعقل قال أنا الرحمن بي عرفا
فأفصح العلم إفصاحاً وقال له بأينا الله في فرقانه اتصفا
فبان للعقل أن العلم سيده وقبل العقل رأس العلم وانصرفا
• يقول الله جل جلاله لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : {وقل ربي زدني علماً}، قال سفيان بن عيينة : فلم يزل ـ صلى الله عليه وسلم ـ في زيادة حتى توفاه الله تعالى.
• أخي الشاب ـ وفقك الله لما يحب ويرضى ـ :
اعلم أن كل شيء إذا كثر رخص إلا العلم فإنه إذا كثر غلا.. فهذه بعض الإشارات اليسيرة ، والهمسات السريعة، والوصايا النافعة:
قد تنطلق في طريق طلب العلم فتعرض لك نية فاسدة (حب تصدر ـ رياء ـ عجب ـ ...): فاستعن بالله وجاهد نفسك فهذا الدارقطني ـ أمير المؤمنين في الحديث ـ يقول : طلبنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله..
احذر من عدم العمل بالعلم ؛ فإن فعلت فهو سبب لمحق بركة العلم.. يقول علي ـ رضي الله عنه ـ (يهتف العلم بالعمل فإن أجابه و إلا ارتحل ).. وليس العلم ما حفظ إنما العلم ما نفع..
احذر من أن تدعي علم ما لم تعلم ، وعليك بـ (لا أعلم ) ..فهي ـ كما قيل ـ نصف العلم ؛ ويقول ابن عباس :إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله..
من كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة ، فقد قيل للشعبي ـ رحمه الله ـ : من أين لك هذا العلم ؟؟ فقال : بنفي الاعتماد ، والسير في البلاد ، وصبر كصبر الجماد ، وبكور كبكور الغراب..
إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي متى؟؟
إياك والحسد .. فهو حجاب كثيف عن العلم ..ومانع عظيم عن تحصيله..وإن كان ولابد فعليك بكتمانه ؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
ما خلا جسد من حسد ولكن الكريم يخفيه واللئيم يبديه ـ والله المستعان وعليه التكلان ـ..
إياك والتذرع بكثرة الأشغال عن تحصيل العلم ، فقد قال عمرـ رضي الله عنه ـ :(تفقهوا قبل أن تسودوا )،[رواه البخاري تعليقاً مجزوماً به] ؛ وقال ـ أي البخاري ـ : وبعد أن تسودوا فقد تعلم أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كبر سنهم..
وأخيراً..حسبي من القلادة ما أحاط بالعنق..ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى مظان هذه الوصايا..وميض : ـ
كان بعض السلف يتحسر ويقول : إذا مر علي يوم لم أزدد فيه علماً فلا بورك لي فيه..
وكتب..
أبو عبدالرحمن البقمي(/1)
عبارة في مستقر رحمته "
عبد الله بن محمد زقيل
الحمد لله وبعد؛
نسمع كثيرا لفظة " في مستقر رحمتك " في الدعاء، وقد وردت الكراهة بقولها عن بعض السلف. وفي هذا البحث جمعت شتات الموضوع. أسأل الله أن ينفع به.
ما ورد من نصوص بخصوص " مستقر رحمتك ":
الأثر الأول:
عن أبي وجزة، عن أبيه قال: حضرت الخنساء بنت عمرو السلمية حرب القادسية، ومعها بنوها أربعة رجال، فذكر موعظتها لهم وتحريضهم على القتال، وعدم الفرار، وفيها: إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وإنكم لبنوا أب واحد وأم واحدة ما هجنت آباءكم، ولا فضحت أخوالكم فلما أصبحوا باشروا القتال واحدا بعد واحد حتى قتلوا، وكان منهم أنشد قبل أن يستشهد رجزا فأنشد الأول:
يا إخوتي إن العجوز الناصحة * قد نصحتنا إذ دعتنا البارحة
بمقالة ذات بيان واضحة * وإنما تلقون عند الصائحة
من آل ساسان كلابا نابحة
وأنشد الثاني:
إن العجوز ذات حزم وجلد * قد أمرتنا بالسداد والرشد
نصيحة منها وبرا بالولد * فباكروا الحرب حماة في العدد
وأنشد الثالث:
والله لا نعصي العجوز حرفا * نصحا وبرا صادقا ولطفا
فبادروا الحرب الضروس زحفا * حتى تلفوا آل كسرى لفا
وأنشد الرابع:
لست لخنساء ولا للأخرم * ولا لعمرو ذي السناء الأقدم
إن لم أرد في الجيش جيش الأعجم * ماض على الهول خضم حضرمي
قال: فبلغها الخبر فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته، قالوا: وكان عمر بن الخطاب يعطي الخنساء أرزاق أولادها الأربعة حتى قبض.
أخرج القصة ابن عبد البر في " الاستيعاب " (12/294 298 حاشية الإصابة)، وابن الأثير في " أسد الغابة " (7/90) بسياق ليس فيه الشعر المذكور من أبناءها، والحافظ في " الإصابة " (12/227 228)، بإسناد:
وذكر الزبير بن بكار، عن محمد بن الحسن المخزومي، وهو المعروف بابن زبالة، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه، عن أبي وجزة به.
وسياق القصة للحافظ ابن حجر، وإلا فهي عند ابن عبد البر أطول من هذا السياق.
وأعل الحافظ ابن حجر سندها فقال في سياق سندها: عن محمد بن الحسن المخزومي، وهو المعروف بابن زبالة، أحد المتروكين. ا. هـ.
ومحمد بن الحسن بن زَبَالة كلام أهل العلم بالجرح والتعديل فيه معروفٌ، ولخص الحافظ ابن حجر كلام أهل العلم في " التقريب ": كذبوه.
فالقصة واهية بهذا الرجل فقط، فما بالك إذا وجد في سندها غيره؟
والشاهد من القصة قولها: " وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته "
الأثر الثاني:
عن أبي الحارث الكرماني قال: سمعت رجلا قال لأبي رجاء: أقرأ عليك السلام، وأسأل الله أن يجمع بيني وبينك في مستقر رحمته. قال: وهل يستطيع أحد ذلك؟ قال: فما مستقر رحمته؟ قال: الجنة. قال: لم تُصِب. قال: فما مستقر رحمته؟ قال: رب العالمين.
أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (768)، وأورده المزي في " تهذيب الكمال " (33/215) عند ترجمة أحد رجال السند وهو " أبو الحارث الكرماني ".
بوب له البخاري في " الأدب المفرد ": باب من كره أن يقال: " اللهم اجعلني في مستقر رحمتك ".
وصححه إسناده العلامة الألباني - رحمه الله - في صحيح الأدب المفرد (591). وصحح إسناده أيضا أبو إسحاق الحويني في كتاب " الصمت وآداب اللسان " لابن أبي الدنيا (ص 194).
ومن خلال تبويب الإمام البخاري يظهر أن بعض السلف كرهوا هذه اللفظة.
الأثر الثالث:
قَالَ وَهْب أَيْضًا وَغَيْره: وَلَمَّا اِشْتَرَى مَالِكُ بْن دعر يُوسُف مِنْ إِخْوَته كَتَبَ بَيْنهمْ وَبَيْنه كِتَابًا: هَذَا مَا اِشْتَرَى مَالِك بْن دعر مِنْ بَنِي يَعْقُوب، وَهُمْ فُلَان وَفُلَان مَمْلُوكًا لَهُمْ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَقَدْ شَرَطُوا لَهُ أَنَّهُ آبِق، وَأَنَّهُ لَا يَنْقَلِب بِهِ إِلَّا مُقَيَّدًا مُسَلْسَلًا، وَأَعْطَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ عَهْد اللَّه. قَالَ: فَوَدَّعَهُمْ يُوسُف عِنْد ذَلِكَ، وَجَعَلَ يَقُول: حَفِظَكُمْ اللَّه وَإِنْ ضَيَّعْتُمُونِي، نَصَرَكُمْ اللَّه وَإِنْ خَذَلْتُمُونِي، رَحِمَكُمْ اللَّه وَإِنْ لَمْ تَرْحَمُونِي ; قَالُوا: فَأَلْقَتْ الْأَغْنَام مَا فِي بُطُونهَا دَمًا عَبِيطًا لِشِدَّةِ هَذَا التَّوْدِيع، وَحَمَلُوهُ عَلَى قَتَب بِغَيْرِ غِطَاء وَلَا وِطَاء، مُقَيَّدًا مُكَبَّلًا مُسَلْسَلًا، فَمَرَّ عَلَى مَقْبَرَة آل كَنْعَان فَرَأَى قَبْر أُمّه - وَقَدْ كَانَ وُكِّلَ بِهِ أَسْوَد يَحْرُسهُ فَغَفَلَ الْأَسْوَد - فَأَلْقَى يُوسُف نَفْسه عَلَى قَبْر أُمّه فَجَعَلَ يَتَمَرَّغ وَيَعْتَنِق الْقَبْر وَيَضْطَرِب وَيَقُول: يَا أُمَّاهُ! اِرْفَعِي رَأْسك تَرَيْ وَلَدك مُكَبَّلًا مُقَيَّدًا مُسَلْسَلًا مَغْلُولًا ; فَرَّقُوا بَيْنِي وَبَيْن وَالِدِي، فَاسْأَلِي اللَّه أَنْ يَجْمَع بَيْننَا فِي مُسْتَقَرّ رَحْمَته إِنَّهُ أَرْحَم الرَّاحِمِينَ...القصة.(/1)
وهذه القصة من الإسرائيليات أوردها القرطبي في " الجامع " (9/105) عند تفسير قوله - تعالى -: " وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ " [يوسف: 21]، والتي لا يعول عليها، وخاصة أنها من رواية وهب بن منبه وهو ممن عرف برواية الإسرائيليات.
الأثر الرابع:
عن مجاهد أنه كان يكره أن يقول: اللهم أدخلني في مستقر من رحمتك، فإن مستقر رحمته هو نفسه.
أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب " الصمت وآداب اللسان " (347) بسنده فقال:
حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا عبد الله بن قُبَيصة، عن ليث، عن مجاهد به.
وضعف إسناده المحقق الشيخ أبو إسحاق الحويني فقال: إسناده ضعيف. وعبد الله بن قبيصة، قال العقيلي: " لا يتابع على كثير من حديثه ". وقال ابن عدي: " له مناكير " كما في " الميزان "، وليث هو ابن أبي سليم فيه مقال أيضا، ولم أقف عليه من قول مجاهد. ا. هـ.
كلام أهل العلم عليها:
تكلم أهل العلم عن لفظة: " في مستقر رحمته "، وهذه أقوالهم فيها:
1 - قال الإمام النووي في " الأذكار " (ص 547):
فصل: ومن ذلك ما رواه النحاسُ عن أبي بكر محمد بن يحيى قال: وكان من الفقهاء الأدباء العلماء، قال: لا تقلْ: جمعَ اللّه بيننا في مستقرُ رحمته، فرحمةُ اللّه أوسعُ من أن يكون لها قرار؛ قال: لا تقلْ: ارحمنا برحمتك.
قلت: لا نعلمُ لما قاله في اللفظين حجة، ولا دليلَ له فيما ذكره، فإن مرادَ القائل بمستقرّ الرحمة: الجنة، ومعناه: جمعَ بيننا في الجنة التي هي دار القرار ودار المقامة ومحل الاستقرار، وإنما يدخلها الداخلون برحمة اللّه - تعالى -، ثم من دخلَها استقرّ فيها أبداً، وأمِنَ الحوادث والأكدار، وإنما حصل له ذلك برحمة اللّه - تعالى -، فكأنه يقول: اجمع بيننا في مستقرّ نناله برحمتك. ا. هـ.
2 - ونقل البعلي عن شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاختيارات الفقهية " (ص 460) ما نصه:
وَيُكْرَهُ الدُّعَاءُ بِالْبَقَاءِ لِكُلِّ أَحَدٍ لِأَنَّهُ شَيْءٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي أَصْرَمَ.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ جَمَعَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ فِي مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِهِ فَقَالَ: لَا تَقُلْ هَذَا.
وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ - يعني شيخ الإسلام -: يَمِيلُ إلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الدُّعَاءُ بِذَلِكَ.
وَيَقُولُ: إنَّ الرَّحْمَةَ هَهُنَا الْمُرَادُ بِهَا الرَّحْمَةُ الْمَخْلُوقَةُ، وَمُسْتَقَرُّهَا الْجَنَّةُ، وَهُو قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ. ا. هـ.
3 - وقال الإمام ابن القيم في " بدائع الفوائد " (2/253 -254):
وعلى هذا فلا يمتنع الدعاء المشهور بين الناس قديما وحديثا وهو قول الداعي اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك، وذكره البخاري في كتاب " الأدب المفرد " له عن بعض السلف، وحكى فيه الكراهة قال: إن مستقر رحمته ذاته، وهذا بناء على أن الرحمة صفة، وليس مراد الداعي ذلك بل مراده الرحمة المخلوقة التي هي الجنة.
ولكن الذين كرهوا ذلك لهم نظر دقيق جدا، وهو أنه إذا كان المراد بالرحمة الجنة نفسها لم يحسن إضافة المستقر إليها، ولهذا لا يحسن أن يقال اجمعنا في مستقر جنتك فإن الجنة نفسها هي دار القرار، وهي المستقر نفسه كما قال: " حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا " [الفرقان: 76] فكيف يضاف المستقر إليها؟ والمستقر هو المكان الذي يستقر فيه الشيء، ولا يصح أن يطلب الداعي الجمع في المكان الذي تستقر فيه الجنة فتأمله، ولهذا قال مستقر رحمته ذاته،
والصواب: أن هذا لا يمتنع، حتى ولو قال صريحا: " اجمعنا في مستقر جنتك "، لم يمتنع، وذلك أن المستقر أعم من أن يكون رحمة أو عذابا، فإذا أضيف إلى أحد أنواعه أضيف إلى ما يبينه ويميزه من غيره، كأنه قيل في المستقر الذي هو رحمتك لا في المستقر الآخر.
ونظير هذا أن يقال: " اجلس في مستقر المسجد "، أي: المستقر الذي هو المسجد، والإضافة في مثل ذلك غير ممتنعة ولا مستكرهة، وأيضا: فإن الجنة وإن سميت رحمة لم يمتنع أن يسمى ما فيها من أنواع النعيم رحمة، ولا ريب أن مستقر ذلك النعيم هو الجنة فالداعي يطلب أن يجمعه الله ومن يحب في المكان الذي تستقر فيه تلك الرحمة المخلوقة في الجنة، وهذا ظاهر جدا فلا يمتنع الدعاء بوجه والله أعلم. ا. هـ.
وقال في موضع آخر (4/95 -96):
ومن مسائل أحمد بن أحرم بن خزيمة بن عباد بن عبد الله ابن حسان بن عبد الله بن المغفل المزني الصحابي
سمعته وقال له رجل: " جمعنا الله - تعالى -وإياك في مستقر رحمته "، فقال: " لا تقل " هكذا.
قلت: اختلف السلف في هذه الدعوة، وذكرها البخاري في كتاب " الأدب المفرد " له، وحكى عن بعض السلف أنه كرهها، وقال: " مستقر رحمته ذاته "، هذا معنى كلامه، وحجة من أجازها ولم يكرهها، الرحمة ههنا المراد: الرحمة المخلوقة، ومستقرها الجنة، وكان شيخنا يميل إلى هذا القول. ا. هـ.(/2)
ويقصد بشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد مر معنا رأيه كما نقله عنه البعلي في " الاختيارات ".
4 - وقال السيوطي في " الحاوي " (1/253):
مسألة: رجل قال: اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك، فأنكر عليه شخص فمن المصيب؟
الجواب: هذا الكلام أنكره بعض العلماء، ورد عليه الأئمة منهم النووي وقال: الصواب جواز ذلك، ومستقر الرحمة هو الجنة. ا. هـ.
5 - وقال العلامة الألباني في تعليقه على أثر أبي العطاردي في " صحيح الأدب المفرد " (ص 286 287):
وهذا الأثر عنه - أي عن أبي رجاء العطاردي - يدل على فضله وعلمه، ودقة ملاحظته، فإن الجنة لا يمكن أن تكون مستقر رحمته - تعالى -؛ لأنها صفة من صفاته، بخلاف الجنة فإنها خلق من خلق الله، وإن كان استقرار المؤمنين فيها إنما هو برحمته - تعالى -، كما في قوله - تعالى -: " وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " [آل عمران: 107] يعني الجنة. ا. هـ.
6 - وذكر الشيخ بكر أبو زيد في " معجم المناهي اللفظية " مبحث عبارة " مستقر رحمتك " في عدة مواضع وهي:
نقل في (ص 333 334) عند عبارة " صباح الخير " كلاما لابن حجر الهيتمي من الفتاوى الحديثية، وفي آخره:... وزعم أنه يكره أن يقول: ارحمنا برحمتك، كاجمع بيننا في مستقر رحمتك، يردهما أنه لا دليل له بوجه إذ المراد: اجمع بيننا في الجنة التي هي دار القرار ولا تنال إلا بالرحمة. ا. هـ.
ونقل في (ص 599) عند عبارة " ارحمنا برحمتك " كلام الإمام النووي الذي ذكرناه آنفا.
وقال في (ص 604) عند عبارة " الهم اجمعنا في مستقر رحمتك ":
حرر ابن القيم - رحمه الله - القول في هذا الدعاء، مرجحا جواز الدعاء بذلك على قول من قال بالكراهة من السلف فقال - رحمه الله تعالى - في مبحث كلامه على الرحمة والبركة من تحية الإسلام المضافتين إلى الله - تعالى -على نوعين:
أحدهما: مضاف إليه إضافة مفعول إلى فاعله، والثاني: مضاف إليه إضافة صفة إلى الموصوف بها. وذكر للأول منهما عدة نصوص: منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: " خلق الله الرحمة يوم خلقها مئة رحمة " الحديث. ثم قال:... ا. هـ.
ونقل كلام ابن القيم الآنف الذكر.
وذكر في (ص 633) عند عبارة " جمعنا الله في مستقر رحمته " حديث البخاري في " الأدب المفرد"، ثم قال: والذي رجحه ابن القيم - رحمه الله تعالى - في " البدائع 2/184 " جواز الدعاء به، وفي " بدائع الفوائد 4/72 " ذكر أن شيخه مال إليه. والله أعلم. ا. هـ.
وبعد هذه النقول نجد أن بعض السلف كره هذه اللفظة، والبعض الآخر من العلماء أجازوها ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
وقد وجدت بعض المؤلفين يستخدم هذه العبارة حال الدعاء، ولو ذكرت أمثلة لطال بنا المقام. وفي هذا القدر كفاية. والله أعلم.
http://saaid.net المصدر:(/3)
عبث الصغار...!
بقلم: أحمد بن عبد المحسن العساف*
الأطفال زينةُ الحياة الدنيا وبهجتها ؛ بهم تزدان البيوت وبضجيجهم العذب تأنس النفوس، وكم يقاسي المحروم منهم من لوعة وأسىً وغصصٍ لا يهونها إلا رجاء الأجر والمثوبة من عند الله الوهاب.
ولأن الأطفال - صغار البيوت - لا يعرفون نظام المنزل ولا يلتزمون رسومه فهم سبب أكيد في بعض المشكلات ما بين إشعال حريق أو إثارة جمر كامن أو كسر زجاج أو بعثرة أثاث أوإفساد ذات بين مما يجعل الأبوان – كبار البيوت – في مقام التربية وتقويم الأود وإصلاح النفوس بما يحميها من مهامه الفساد والغواية فينتفع منها أهل البيت أو على أقل تقدير يرتدع الصغار عن الشر بالزواجر التي تمنع الاستفحال والشر المستطير.
وقد كان من القضاء الماضي أن يكون لكل كبار صغار ؛ ومن الواجب على صغار القوم توقير كبارهم واحترامهم والصدور عن مشورتهم ؛ ومن مسؤولية الكبار تقديم القدوة الحسنة للصغار وهدايتهم للمحامد والمكارم وتجنبيهم المهالك والسوءات مع ضرورة الاحتفاء بوهجهم الذهني ونشاطهم البدني واحتواء طاقاتهم المتدفقة بما يجعلها إيجابية نافعة . ومن الطبيعي أن يصاحب منع الصغار من محبوباتهم المؤذية بعض التذمر واللجج الذي لا يأبه له المربي ولا يلتفت إليه البتة لأن مصلحة المجموع مقدمة على مصلحة الفرد غالباً فكيف إن لم يكن للفرد مصلحة فيما يفعل !
وليس تهالك الصغار على الأخطاء والانغماس فيها بدوافع الشر والإجرام دوماً ؛ فقد يكون لخلل في التفكير أو نقص في التجربة أو انسياقاً وراء المجهول وحباً للمغامرات واغتراراً ببعض الشعارات والقناعات التي لاتصمد أمام رجاحة العقل وهدوء الطباع وسابق التجربة.وليس بلازم أن يكون الصغار صغار سنيٍ وأيام فقط ؛ فلربما اكتهل المرء ولما يزل صغيراً بعدُ، وقد يكون الإنسان كبيراً وهو في ميعة الصبا وعنفوان الشباب.
والصغير الذي لم يُفطم عن المخازي يصعب خلاصه منها فتكبر مخازيه وتزداد ويظل هو في تنامي صغاره فتضج من شناعاته الأرض ومَنْ فوقها ولايرتاح أحد منه حتى يقلع عن غيه أو تنقطع خطاه وتنمحى آثاره. وكم شقي الناس بصغير يفتي من غير إجازة ويعلم بلا حكمة ويدعو دون بصيرة ويحكم من غير برهان ويعاقب ويكافيء من غير نظام ويأمر وينهى بلا زمام من علم ولا خطام من مصلحة ويفتئت على شريعة الله دونما حياء ويهجم على منابر الخير وأهله بلا حجة ويفتح الباب للمجون دون نظر للعواقب ولا اعتبار بحالٍ أو مآل ويسفك الدماء بلا حق ويتلف الممتلكات والأموال لمجرد الزهو بالخراب ؛ إلى غير ذلك مما يطول سرده ولا ينقضي حصره من البلاء الذي يجر مثله في السوء وإن خالفه في الاتجاه.
وحيث لا يرتدع الصغار عن صَغَارِهم إلا بمواقف الكبار وصبرهم باستصحاب العزم والحزم فلا بد من أداء الواجب المنوط بكل أحد بحسبه ؛ فعلى من بسط الله يده بالسلطان والقوة أن يقيموا ما أعوج من حال الصغار حتى تستقيم الأمور على سنن واضح وقسطاس مستقيم يأمن فيه الناس على دينهم وأوطانهم وأعراضهم ودماءهم وأموالهم ؛ وعلى أهل العلم واجب البيان والبلاغ بالدليل الشرعي والحجج الدامغة ؛ وواجب على المحتسبين الاستمرار في حسبتهم من سبلها ومنافذها التي تمنع الشر وتمكن الخير ولا تثير الإحن ؛ وعلى من جعل الله عقول الناشئة وأفئدتهم تحت يديه واجب كبير جليل في التربية والتعليم والهداية وقمين بمن هذه مهمته تهيئة نفسه لهذا العبء وتبرئة ذمته أمام الله ثم التاريخ.
ومما ينبغي التنبيه إليه أن " نفخ " الصغار وتكبيرهم طريقة أهل الأهواء ومسلكهم ليتخذوا من صغيرهم المُكَبَّر ركناً يأوون إليه ومأرزاًً يجتمعون عنده ؛ ومن ذلك ما فعله قوم الكذاب مسيلمة معه ؛ وما يفعله أصحاب التوجهات والأفكار مع مَنْ يمثلهم بخلع الصفات البراقة عليه وقد يعلم هو قبل غيره بطلانها ؛ ومثل ما يفعله المعجبون بمن يفتتنون به لحسن صوته أو جمال صورته أو قدرته الفائقة على التحكم بجسده أو ببعضه ؛ وكذلك سلوك عمي البصائر مع الذين يسوغون خطلهم باسم الدين أو المصلحة أو غير ذلك. وأكثر من يمارس هذا التزوير المشين علانية بعض الإعلاميين فيقومون بعملين منكرين متناقضين : تقزيم العمالقة وتضخيم التافهين لهوى مريض في نفوسهم أو لثارات قديمة وتصفية حسابات لم تغلق وخصومات لم تنته.
ومهما يكن من أمر ؛ فإن الكبير عند الله وصالح المؤمنين سيبقى كبيراً وإن تناوشه البطالون بكل نقيصة ؛ وليس يضير الصادق والمخلص شيئاً فغاية مطلوبه رضا الله وإن سخط عليه أبالسة الأرض وإمعاتها.(/1)
عبد الحميد الكاتب
(من رسالته إلى الكتّاب)
هو عبد الحميد بن يحيى، الكاتب.
نشأ في "الأنبار".
ثم احترف التعليم في "الكوفة".
وما لبث أن اتّصل بخلفاء بني أمية، حتى انقطع إلى آخرهم: مروان بن محمد، فعظمت منزلته عند مروان، وكان كاتباً له وصديقاً.
وارتقت على يديه صناعة الكتابة، فعدّ من أساتذة البلاغة العربية ورائد كتّاب الرسائل عامة.
قُتِلَ مع مروان بن محمد سنة 132هـ.
ولعبد الحميد عدة رسائل، ما بين مطوّلة ومختصرة، منها:
رسالته إلى أهله وهو منهزم مع مروان.
ورسالة في الشطرنج.
ورسالته إلى الكتّاب.
وفي الرسالة الأخيرة يوجه النصح إلى الكتّاب، ويرسم لهم الطريق الذي يسيرون عليه ليرتفع شأنهم، كما يتحدث عن مكانتهم من الدولة، وعن ألوان الثقافة التي يجب أن يأخذوا أنفسهم بها..
ومن هذه الرسالة اخترنا المقاطع التالية:
1 – أما بعد: حفظكم الله يا أهل صناعةِ الكتابة، وحاطَكم وأرشدكم..
ليس أحدٌ من أهل الصناعات كلِّها، أحوجَ إلى اجتماع خِلالِ الخير المحمودة، وخِصال الفضل المذكورة الممدودة، منكم أيها الكتاب.. فإن الكاتب يحتاج من نفسه، ويحتاج منه صاحبُه الذي يثقُ به في مهمات أموره:
أن يكون حليماً في موضع الحلم.
فهيماً في موضع الحُكم.
مِقداماً في موضع الإقدام.
محجاماً في موضع الإحجام.
مؤثراً للعفاف، والعدل والإنصاف.
كتوماً للأسرار، وفياً عند الشدائد..
قد نظر في كل فنٍ من فنون العلم فأحكمه، فإن لم يُحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به.
يعرف بغريزة عقله وحُسن أدبه، وفضل تجربته، ما يردُ عليه قبل وُروده، وعاقبةَ ما يصدر عنه قبل صدوره، فيُمدّ لكل أمر عدّته وعَتاده(1)، ويهيئ لكل وجهٍ هيئته(2) وعادته.
2 – فتنافسوا، يا معشر الكتّاب، في صنوف الآداب..
وارووا الأشعار، واعرفوا غريبها ومعانيها.
وأيام العرب والعجم(3)، وأحاديثها وسيرَها، فإن ذلك معينٌ لكم على ما تسمو إليه هممكم.. وارغبوا بأنفسكم عن المطامع: سنيّها ودنيّها(3) وسفاسف الأمور(4) ومحاقرها، فإنها مذلة للرقاب، مفسدة للكتاب.
ونزّهوا صناعتكم عن الدناءات.
واربؤوا(5) بأنفسكم عن السعاية(6) والنميمة، وما فيه أهلُ الجهالات.
وإياكم والكبر والصلف(7) والعظمة فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة(8).
وتحابوا في الله عز وجل في صناعتكم، وتواصَوا عليها بالذي هو أليقُ بأهل الفضل والعدل والنُّبل من سلفكم.
3 – وإن نبا الزمانُ برجلٍ منكم(9) فاعطفوا عليه وواسوه حتى يرجع إليه حاله، ويثوب إليه أمره، وإن أقعدَ أحدكم الكبرُ عن مكسبه ولقاء إخوانه، فزوروه وعظّموه، وشاوروه، واستظهروا(10) بفضل تجربته، وقِدَم معرفته.
الهوامش:
(1) العتاد: عُدّة كل شيء، ويقال: عتاد الحرب: للأسلحة والدواب وغيرها. ج أعتدة.
(2) الهيئة: الحال التي يكون عليها الشيء، محسوسة كانت أو معقولة.
(3) الأيام: الوقائع والمعارك.
(4) أي رفيعها، وضدها: الدني.
(5) السفساف: الرديء من كل شيء.
(6) ربأ: علا وارتفع.
(7) السّعاية: الوشاية والنميمة.
(8) صلف الرجل: ادّعى فوق قدره تكبراً.
(9) الإحنة: الحقد والضغينة.
(10) جفاه وكدر عليه عيشه.
(11) تقوَّوا.(/1)
عبد الرحمن الداخل
شعر: محمد الخضر حسين
خَلّ نفسَ الحُرّ تصلَى النُوَبا لا تُبالي
ليست الأخطارُ إلا سبباً للمعالي
يا مُكبّاً بين ظبيٍ أدعجا ومَهاةِ
إنما الهمَّةُ في حِجر الحجى كالنباتِ
أفلا تذبُل إذ تقضي الدُجى في سُباتِ
فإذا بتَّ تُجاري الكوكبا في مجالِ
كنتَ كالضرغام يمشي الهيدَبا للنزالِ
ما لهذي السّمهرياتِ فَخارْ في الحِرابْ
غيرُ عزمٍ هزَّه حامي الذَمارْ بالتهابْ
أتُرى الرامحَ ذا قلب يغارْ فيُهابْ
جرَّ في الآفاق رمحاً سَهلَبا باختيالِ
وهو كالأعْزَل لا يَلقى الظِبا والعوالي
رُبّ كِنٍّ لا نُسميه عَرينا في البيانِ
والذي يحميه لا يلوي جَبينا عن طعانِ
يحطم الطاغيَ لا يبقي مَهينا في هوانِ
وهِزَبْرُ الغاب يعدو خبباً في الدِغالِ
عضّه الجوعُ فمدّ المِخلَبا لاغتيالِ
عاشِقَ العلياء خُض في لججِ من رماحْ
وتَرْشفْ من عصير المُهجِ لا جُناحْ
يضحك الملكُ بثغرٍ بهجِ كالصباحْ
إن نَكى الخصمَ فماجوا هرَباً كالثعالي
وابتغاه السلم من باني الزبى كالمحالِ
خاطرُ اليأس لدى باغي العُلى غيرُ سائغْ
إن توخّى عبقريٌ أملاً فهو بالغ
وحياة الصقر أرقى مثلاً للنوابغْ
إذ بدا في (دير حنّا) وشبا كالهلالِ
وليالي الشام في عهد الصِبا كاللآلى
ذاق في الخامس من عقد سِنيهِ مَضَضا
والرَدى سيفٌ –كرأي ابن أبيه- منتضى
أرهف الحدّ وأودى بأبيه حرَضا
هل ذوتْ زهرتُه حتى هبا في كلالِ
إن في نفسٍ تسامتْ حَسَبا خيرَ والِ
أبصر الجَدُّ به روحَ الهمامِ باديا
كالشذا يُنبئ عن زهر الكمام هاديا
وتريك الشمسُ في قوس الغمامِ ماهيا
حفّه عطفاً كما تسري الصَّبا باعتدالِ
ويدٌ ظلّت تحابي الأنجَبا لم تُغالِ
ضربَ الخطبُ على المُلْكِ الأثيلِ مُحدِقاً
كم دها السفاحُ من حُرّ نبيلِ مُرهقا
وجرى المنصورُ في هذا السبيلِ موبقا
ذهبت عصبته أيدي سبا في نَكال
وتَداعى عرشُهُ مُنتحباً للزوالِ
حدَّق الصقر برأيٍ لا عجلْ لا حَسيرْ
وانبرى يطوي الفلا يطوي الأملْ في الضميرْ
ككَميٍّ فرّ من وقع الأسَلْ ليُغيرْ
عَميتْ عنه عيونُ الرقبا والموالي
راح كالشمس تؤمّ المغربا بارتحال
جمرةُ الأضغان في ذاك الوطن لافحهْ
كم قلوب بتباريج الأحَنْ طافحهْ
فُرْصةٌ ظلّتْ على وجه الزمنْ سانحة
إنما الفرصة تدني الأربا بارتجال
والفتى يرقبها محتسباً لليالي
نفضَ البرْدَين من نَقع السفرْ في ( مَليله )
ماله جندٌ سوى الرأي الأغرّ والفضيلهْ
بث لُسناً نفثتْ نفثَ السحر في الخميلهْ
دعوةٌ حلَّ لها الشعبُ الحُبا باحتفالِ
يرتجي عزّاً وعدلاً ذهباً في ضلالِ
أب (بدرٌ) بفؤادٍِ يتألّقْ كالجُمانِ
إذ رمى عن قوس داهٍ وتفوّقْ في الرهانِ
ورأى غصنَ الأماني كيف أورق في تدان
آن للصمَّصامِ أن ينتصبا للصقال
ولغالي الدم أن ينسكبا بابتذال
نهض الصقرُ ولا صيدَ سوى تاج ملكِ
يتهادى بعد شجو ونوى بين أيكِ
يسبك السيرة في نهج سُوى خير سبك
عبر البحر انتوى المنكتبا في جلالِ
أقبل الأبعدُ يتلو الأقربا ويُوالي
زجَّ بالجند حوالَي قُرطبهْ في اتّساقِ
وغدا يوسف مما كرَ به في خناقِ
هو صَبٌّ كيف يلوي الرقبهْ للفراق
هاله الخَطبُ غداة اقترَبا للقتال
لاذ بالرأي فأكدى وكبا في خيالِ
خال ما نمَّقَ كيدا يرشقهْ كسهام
لا يبيع المجدَ شهمٌ يعشقه بالحُطام
لا تسليه فتاةٌ ترمقه بابتسام
فأراه الصقرُ برقاً خُلّبا في المقالِ
وأراه الأحوذيَّ القُلَّبا بالفَعال
هجم الداخلُ في وجه الزعيمْ كائدا
فطوَى ما خَلفَه طيّ الظليمْ شاردا
واقتفى آثارَه الجيشُ النظيم صائدا
رام غرناطةَ يبغي مَركبا للنضال
أملٌ أبرقَ حيناً وخَبا كالذُبال
أغمد السيفَ ومدَّ العنقا للسلامْ
فأراه الصقرُ عزماً ذلقا لا ينامْ
أُحرَزَ ابنيه ليأبى الرَهقا في الذمامْ
كان في الناس زعيماً فاحتبا باعتزالِ
لم يُطقْ كالطل صبراً إذ نبا عن فصالِ
تَبَّ ليلٌ شدّ فيه المئزَرا لانتقامِ
وامتطى رأياً عقيماً أغبرا كالجهام
ليته ماسَلٌ ذيلاً وانبرى في احتدامِ
في مغاني آل هُودٍ وثبا للصيالِ
هزَّ جذع الأمن ألفى الطُنبا في اختلال
أرهق ابنيه جَفاءً وهفا للرئاسهْ
ما تَحامى أن يكونا هدفاً للسياسهْ
ركبت من قتل هذا سرَفا في الشراسه
وطوت هذا ليبقى حقبا في اعتقالِ
سلْ به إذ فرّ ماذا ارتكبا من محال
قذفت نارُ الوغى في (ماردهْ) بالشرارِ
أشرع الصقرُ قناة سائده بانتصار
أطلق الفهري رِجلاً جاهده في الفرار
لحق الموتُ به وأعجَبا للنصالِ
تنهض الحتف إذا ما نشبا في عقال
بلغ الصقرُ من العزّ أشدَّه واستوى
لبس الحزمَ لمن صاعر خدَّه والتوى
هو لولا بأسُه يحرسُ بندَه لانطوى
سار بالأمة شوطاً عَجباً في اعتدالِ
لا يُرَى أسرى بها أو أوَّبا في مَلالِ
بعث العرفانَ من مَرْقَدهِ في رُواءِ
وعَلتْ عنقُ الهدَى في عهده كاللواء
ردَّتِ الشركَ مواضي جِدّه في انزواء
نفثتْ في (شرلمانَ) الرَّهَبا كالسعالي
هابها (المنصورُ) يخشى الغلبا في السجال
لقي العمرانَ مقصوص الجناحِ خاملا
راشه فانساب في تلك البطاح جائلا(/1)
يضبط الشكوى كخصر في وشاح عادلا
يمتطي المنبرَ يلقي خطبا ذاتَ بالِ
يقدمُ الناسَ إماماً مجتبى بابتهالِ
رحم الله الفتى أنضى العتاقْ في العُلى
وغدا إن عُدَّ فرسانُ السباقْ أوّلا
شرب الحكمةَ بالكأس الدِهاقْ عَللا
عزمه كالفجر يفري الغيهبا في تعالي
فهو جنديٌ سياسيٌّ رَبا في كمالِ(/2)
عبد الرحمن السميط خادم فقراء أفريقيا
الكويت - رجب الدمنهوري - إسلام أونلاين
عبد الرحمن السميط
قبل أن يصبح أحد فرسان العمل الخيري، كان طبيبا متخصصا في الأمراض الباطنية والجهاز الهضمي، لم يكن طبيبا عاديا، بل طبيبا فوق العادة، إذ بعد أن ينتهي من عمله المهني، كان يتفقد أحوال المرضى، في أجنحة مستشفى الصباح (أشهر مستشفيات الكويت)، ويسألهم عن ظروفهم وأحوالهم الأسرية والاجتماعية والاقتصادية، ويسعى في قضاء حوائجهم، ويطمئنهم على حالاتهم الصحية.
واستمرت معه عادته وحرصه على الوقوف إلى جانب المعوزين وأصحاب الحاجة، حينما شعر صاحبها بخطر المجاعة يهدد المسلمين في أفريقيا، وأدرك خطورة حملات التنصير التي تجتاح صفوف فقرائهم في أدغال القارة السوداء، وعلى إثر ذلك آثر أن يترك عمله الطبي طواعية، ليجسد مشروعا خيريا رائدا في مواجهة غول الفقر وخطر التنصير، واستقطب معه فريقا من المخلصين، الذين انخرطوا في تدشين هذا المشروع الإنساني، الذي تتمثل معالمه في مداواة المرضى، وتضميد جراح المنكوبين، ومواساة الفقراء والمحتاجين، والمسح على رأس اليتيم، وإطعام الجائعين، وإغاثة الملهوفين.
مولده ونشأته
ولد د. عبد الرحمن حمود السميط رئيس مجلس إدارة تخرج في جامعة بغداد بعد أن حصل على بكالوريوس الطب والجراحة، وفي الجامعة كان يخصص الجزء الأكبر من مصروفه لشراء الكتيبات الإسلامية ليقوم بتوزيعها على المساجد، وعندما حصل على منحة دراسية قدرها 42 دينارًا كان لا يأكل إلا وجبة واحدة وكان يستكثر على نفسه أن ينام على سرير رغم أن ثمنه لا يتجاوز دينارين معتبرا ذلك نوعا من الرفاهية.
حصل على دبلوم أمراض مناطق حارة من جامعة ليفربول عام 1974م، واستكمل دراساته العليا في جامعة ماكجل الكندية متخصصًا في الأمراض الباطنية والجهاز الهضمي، وأثناء دراساته العليا في الغرب كان يجمع من كل طالب مسلم دولارًا شهريا ثم يقوم بطباعة الكتيبات ويقوم بتوصيلها إلى جنوب شرق آسيا وأفريقيا وغير ذلك من أعمال البر والتقوى.
حياة حافلة بالإنجازات
عمل إخصائيا في مستشفى الصباح في الفترة من 1980 – 1983م، ونشر العديد من الأبحاث العلمية والطبية في مجال القولون والفحص بالمنظار لأورام السرطان، كما أصدر أربعة كتب هي: لبيك أفريقيا، دمعة على أفريقيا، رسالة إلى ولدي، العرب والمسلمون في مدغشقر، بالإضافة إلى العديد من البحوث وأوراق العمل ومئات المقالات التي نشرت في صحف متنوعة، تولى منصب أمين عام جمعية مسلمي أفريقيا عام 1981م، وما زال على رأس الجمعية بعد أن تغير اسمها إلى جمعية العون المباشر في 1999م.
شارك في تأسيس ورئاسة جمعية الأطباء المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا 1976م. كما شارك في تأسيس فروع جمعية الطلبة المسلمين في مونتريال 1974- 1976، ولجنة مسلمي ملاوي في الكويت عام 1980م، واللجنة الكويتية المشتركة للإغاثة 1987م، وهو عضو مؤسس في الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، وعضو مؤسس في المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة، وعضو في جمعية النجاة الخيرية الكويتية، وعضو جمعية الهلال الأحمر الكويتي، ورئيس تحرير مجلة الكوثر المتخصصة في الشأن الأفريقي، وعضو مجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية في السودان، وعضو مجلس أمناء جامعة العلوم والتكنولوجيا في اليمن، ورئيس مجلس إدارة كلية التربية في زنجبار ورئيس مجلس إدارة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في كينيا.
نال السميط عددا من الأوسمة والجوائز والدروع والشهادات التقديرية، مكافأة له على جهوده في الأعمال الخيرية، ومن أرفع هذه الجوائز جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، والتي تبرع بمكافأتها (750 ألف ريال سعودي) لتكون نواة للوقف التعليمي لأبناء أفريقيا، ومن عائد هذا الوقف تلقت أعداد كبيرة من أبناء أفريقيا تعليمها في الجامعات المختلفة.
الخير في قارة تحتاج إليه
تركز جل نشاط السميط من خلال لجنة مسلمي أفريقيا بعد أن وضعت أجندة خيرية تنطلق في مسارات عدة منها: من أجل أن تمسح دمعة يتيم مسلم، من أجل رعاية قرية مسلمة تعليميا أو صحيا أو اجتماعيا، من أجل حفر أو صيانة بئر مياه للشرب، من أجل بناء أو صيانة مدرسة، من أجل رعاية الآلاف من المتشردين، من أجل مواجهة الخطر التنصيري الزاحف، من أجل استمرارية العمل الخيري الإسلامي. وكان اهتمامه بأفريقيا بعد أن أكدت دراسات ميدانية للجنة أن ملايين المسلمين في القارة السوداء لا يعرفون عن الإسلام إلا خرافات وأساطير لا أساس لها من الصحة، وبالتالي فغالبيتهم –خاصة أطفالهم في المدارس– عرضة لخطر التنصير، وقد نتج عن ذلك أن عشرات الآلاف في تنزانيا وملاوي ومدغشقر وجنوب السودان وكينيا والنيجر وغيرها من الدول الأفريقية صاروا ينتسبون إلى النصرانية، بينما آباؤهم وأمهاتهم من المسلمين.
قصة دخوله أفريقيا(/1)
والسميط من المؤمنين بأن الإسلام سبق جميع النظريات والحضارات والمدنيات في العمل التطوعي الاجتماعي والإنساني، وتعود قصة ولعه بالعمل في أفريقيا حين عاد إلى الكويت في أعقاب استكمال دراساته العليا، حيث كان مسكونا بطاقة خيرية هائلة أراد تفجيرها فذهب إلى وزارة الأوقاف وعرض على المسئولين رغبته في التطوع للمشاركة في الأعمال الخيرية، غير أن البيروقراطية الرسمية كادت أن تحبطه وتقتل حماسه، لكن الله شاء له أن يسافر إلى أفريقيا لبناء مسجد لإحدى المحسنات الكويتيات في ملاوي، فيرى ملايين البشر يقتلهم الجوع والفقر والجهل والتخلف والمرض، ويشاهد وقوع المسلمين تحت وطأة المنصرين الذين يقدمون إليهم الفتات والتعليم لأبنائهم في مدارسهم التنصيرية، ومن ثم فقد وقع حب هذه البقعة في قلبه ووجدانه وسيطرت على تفكيره.
وكان أكثر ما يؤثر في السميط إلى حد البكاء حينما يذهب إلى منطقة ويدخل بعض أبنائها في الإسلام ثم يصرخون ويبكون على آبائهم وأمهاتهم الذين ماتوا على غير الإسلام، وهم يسألون: أين أنتم يا مسلمون؟ ولماذا تأخرتم عنا كل هذه السنين؟ كانت هذه الكلمات تجعله يبكي بمرارة، ويشعر بجزء من المسئولية تجاه هؤلاء الذين ماتوا على الكفر.
تعرض في أفريقيا للاغتيال مرات عديدة من قبل المليشيات المسلحة بسبب حضوره الطاغي في أوساط الفقراء والمحتاجين، كما حاصرته أفعى الكوبرا في موزمبيق وكينيا وملاوي غير مرة لكن الله نجاه.
التنصير أبرز التحديات
وعن أبرز التحديات التي تواجه المسلمين في أفريقيا يقول الدكتور عبد الرحمن: ما زال التنصير هو سيد الموقف، مشيرا إلى ما ذكره د. دافيد بارت خبير الإحصاء في العمل التنصيري بالولايات المتحدة من أن عدد المنصرين العاملين الآن في هيئات ولجان تنصيرية يزيدون على أكثر من 51 مليون منصر، ويبلغ عدد الطوائف النصرانية في العالم اليوم 35 ألف طائفة، ويملك العاملون في هذا المجال 365 ألف جهاز كمبيوتر لمتابعة الأعمال التي تقدمها الهيئات التنصيرية ولجانها العاملة، ويملكون أسطولا جويا لا يقل عن 360 طائرة تحمل المعونات والمواد التي يوزعونها والكتب التي تطير إلى مختلف أرجاء المعمورة بمعدل طائرة كل أربع دقائق على مدار الساعة، ويبلغ عدد الإذاعات التي يملكونها وتبث برامجها يوميا أكثر من 4050 إذاعة وتليفزيون، وأن حجم الأموال التي جمعت العام الماضي لأغراض الكنيسة تزيد على 300 مليار دولار، وحظ أفريقيا من النشاط التنصيري هو الأوفر...
ومن أمثلة تبرعات غير المسلمين للنشاط التنصيري كما يرصدها د. السميط أن تبرعات صاحب شركة مايكروسوفت بلغت في عام واحد تقريبا مليار دولار، ورجل أعمال هولندي تبرع بمبلغ 114 مليون دولار دفعة واحدة وقيل بأن هذا المبلغ كان كل ما يملكه، وفي أحد الاحتفالات التي أقامها أحد داعمي العمل التنصيري في نيويورك قرر أن يوزع نسخة من الإنجيل على كل بيت في العالم وكانت تكلفة فكرته 300 مليون دولار حتى ينفذها، ولم تمر ليلة واحدة حتى كان حصيلة ما جمعه أكثر من 41 مليون دولار.
حصيلة مشاريع العون المباشر
وكانت حصيلة المشاريع التي نفذت في أفريقيا -كما يذكر د. السميط- حتى أواخر عام 2002م: بناء 1200 مسجد، دفع رواتب 3288 داعية ومعلما شهريا، رعاية 9500 يتيم، حفر 2750 بئرا ارتوازية ومئات الآبار السطحية في مناطق الجفاف التي يسكنها المسلمون، بناء 124 مستشفى ومستوصفا، توزيع 160 ألف طن من الأغذية والأدوية والملابس، توزيع أكثر من 51 مليون نسخة من المصحف، طبع وتوزيع 605 ملايين كتيب إسلامي بلغات أفريقية مختلفة، بناء وتشغيل 102 مركز إسلامي متكامل، عقد 1450 دورة للمعلمين وأئمة المساجد، دفع رسوم الدراسة عن 95 ألف طالب مسلم فقير، تنفيذ وتسيير عدة مشاريع زراعية على مساحة 10 ملايين متر مربع، بناء وتشغيل 200 مركز لتدريب النساء، تنفيذ عدد من السدود المائية في مناطق الجفاف، إقامة عدد من المخيمات الطبية ومخيمات العيون للمحتاجين مجانا للتخفيف على الموارد الصحية القليلة في إطار برنامج مكافحة العمى، تقديم أكثر من 200 منحة دراسية للدراسات العليا في الدول الغربية (تخصصات طب، هندسة، تكنولوجيا).
وما زالت الطموحات مستمرة(/2)
وأشار إلى أن طموحات جمعية العون المباشر في أفريقيا لا تتوقف عند حد معين؛ فالجهود مستمرة لإعداد الدراسات اللازمة لإنشاء كلية لتدريب المعلمين في ملاوي؛ لأن الحاجة هناك ماسة جدا لتخريج معلمين مسلمين، فرغم أن المسلمين يشكلون 50% من عدد السكان فإن عدد المدرسين المسلمين المؤهلين لا يزيد على 40 مدرسا، فضلا عن أن الدولة تفقد سنويا ما بين 12% - 13% من العاملين في التدريس بسبب مرض الإيدز المنتشر، والاستقالات والموت الطبيعي، ويبلغ تعداد المدرسين المفقودين سنويا قرابة تسعة آلاف مدرس من أصل 90 ألفا هم مجموع المدرسين العاملين في ملاوي؛ وهو ما تسبب في خلق فجوة كبيرة وعجز واضح في المدرسين المسلمين، وبالتالي فهذا الظرف فرصة كبيرة في سد هذا الفراغ التربوي بالمعلمين المسلمين، هذا بالإضافة إلى إنشاء محطات إذاعية للقرآن الكريم، بدأت بإنشاء محطة في جمهورية توجو وهناك مائة محطة يجري العمل في مراحل تنفيذها المختلفة بمناطق مختلفة من أفريقيا، وتبلغ تكلفة المحطة الواحدة عشرة آلاف دينار كويتي، تتضمن المعدات اللازمة ومصاريف التشغيل عاما كاملا.
ولم تؤثر حملة ما يسمى الحرب العالمية على الإرهاب -في تقدير د. السميط- على العمل الخيري في أفريقيا مقارنة بالضغوط التي مورست على الهيئات الخيرية العاملة في جنوب شرق آسيا خاصة في أفغانستان وباكستان والجمهوريات الإسلامية المستقلة، يقول: "الضغوط التي تمارس ضد العمل الخيري ومنظماته هي جزء من مخطط كبير ضد الإسلام والمسلمين، ويجب أن نعمل ولا نتأثر بهذه الحملات، المهم أن نعمل عملا مدروسا ومؤسسيا، له كوادره ومتخصصوه، وقد دعوت جامعة الكويت والجامعات الخليجية إلى تدريس مادة إدارة العمل الخيري إلى أبنائنا لسد العجز في الكوادر المتخصصة التي تحتاجها الجمعيات الخيرية، خاصة أنها في حاجة ماسة إلى أفراد مدربين ومعدين إعدادا جيدا، يمكنهم الولوج في العمل الإداري على أسسه العلمية الصحيحة".
زكاة أثرياء المسلمين
ويرى د. السميط أن زكاة أموال أثرياء العرب تكفي لسد حاجة 250 مليون مسلم؛ إذ يبلغ حجم الأموال المستثمرة داخل وخارج البلاد العربية 2275 مليار دولار أمريكي، ولو أخرج هؤلاء الأغنياء الزكاة عن أموالهم لبلغت 56.875 مليار دولار، ولو افترضنا أن عدد فقراء المسلمين في العالم كله يبلغ 250 مليون فقير لكان نصيب كل فقير منهم 227 دولارا، وهو مبلغ كاف لبدء الفقير في عمل منتج يمكن أن يعيش على دخله.
وبعد أن وضعت الحرب الأنجلو-أمريكية أوزارها ضد العراق قام السميط بمهمة خيرية لإعانة الشعب العراقي، وكانت جمعية العون المباشر قد خصصت مليوني دولار لدعم الطلاب العراقيين الفقراء وإغاثة الأسر المتعففة، وفي تلك الأثناء تعرض رئيس الجمعية إلى حادث مروري في منطقة الكوت (160 كيلومترًا غرب بغداد) بعد أن اصطدمت السيارة التي كانت تقله ومرافقيه بشاحنة، توقفت فجأة؛ وهو ما أسفر عن إصابته بكسور وجروح متفرقة عولج خلالها في أحد مستشفيات الكوت ثم نقل إلى مستشفى الرازي بالكويت لاستكمال علا(/3)
عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة )
عبد الرحمن بن عوف أحد الثمانية السابقين الى الإسلام ، عرض عليه أبو بكر الإسلام فما غُمَّ عليه الأمر ولا أبطأ ، بل سارع الى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبايعه وفور إسلامه حمل حظه من اضطهاد المشركين ، هاجر الى الحبشة الهجرة الأولى والثانية ، كما هاجر الى المدينة مع المسلمين وشهد المشاهد كلها ، فأصيب يوم أُحُد بعشرين جراحا إحداها تركت عرجا دائما في ساقه ، كما سقطت بعض ثناياه فتركت هتما واضحا في نطقه وحديثه.
التجارة
كان -رضي الله عنه- محظوظا بالتجارة إلى حد أثار عَجَبه فقال :( لقد رأيتني لو رفعت حجرا لوجدت تحته فضة وذهبا ) وكانت التجارة عند عبد الرحمن بن عوف عملاً وسعياً لا لجمع المال ولكن للعيش الشريف ، وهذا ما نراه حين آخى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار ، فآخى بين عبد الرحمن بن عوف و سعد بن ربيع ،فقال سعد لعبد الرحمن :( أخي أنا أكثر أهل المدينة مالا ، فانظر شطر مالي فخذه ، وتحتي امرأتان ، فانظر أيتهما أعجب لك حتى أطلّقها وتتزوجها ) فقال عبد الرحمن :( بارك الله لك في أهلك ومالك ، دُلوني على السوق ) وخرج الى السوق فاشترى وباع وربح.
حق الله
كانت تجارة عبد الرحمن بن عوف ليست له وحده ، وإنما لله والمسلمون حقا فيها ، فقد سمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول يوما :( يا بن عوف إنك من الأغنياء ، وإنك ستدخل الجنة حَبْوا ، فأقرض الله يُطلق لك قدميك ) ومنذ ذاك الحين وهو يقرض الله قرضا حسنا ، فيضاعفه الله له أضعافا ، فقد باع يوما أرضا بأربعين ألف دينار فرّقها جميعا على أهله من بني زُهرة وأمهات المسلمين وفقراء المسلمين ،وقدّم خمسمائة فرس لجيوش الإسلام ، ويوما آخر ألفا وخمسمائة راحلة.
وعند موته أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله ، وأربعمائة دينار لكل من بقي ممن شهدوا بدرا حتى وصل للخليفة عثمان نصيبا من الوصية فأخذها وقال :( إن مال عبد الرحمن حلال صَفْو ، وإن الطُعْمَة منه عافية وبركة ) وبلغ من جود عبد الرحمن بن عوف أنه قيل :( أهل المدينة جميعا شركاء لابن عوف في ماله ، ثُلث يقرضهم ، وثُلث يقضي عنهم ديونهم ، وثلث يصِلَهم ويُعطيهم ) وخلّف بعده ذهبُ كثير ، ضُرب بالفؤوس حتى مجلت منه أيدي الرجال.
قافلة الإيمان
في أحد الأيام اقترب على المدينة ريح تهب قادمة اليها حسبها الناس عاصفة تثير الرمال ، لكن سرعان ما تبين أنها قافلة كبيرة موقَرة الأحمال تزحم المدينة وترجَّها رجّا ، وسألت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- :( ما هذا الذي يحدث في المدينة ؟) وأُجيبت أنها قافلة لعبد الرحمن بن عوف أتت من الشام تحمل تجارة له فَعَجِبَت أم المؤمنين :( قافلة تحدث كل هذه الرجّة ؟) فقالوا لها :( أجل يا أم المؤمنين ، إنها سبعمائة راحلة ).
وهزّت أم المؤمنين رأسها وتذكرت :( أما أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول :( رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حَبْوا ) ووصلت هذه الكلمات الى عبد الرحمن بن عوف ، فتذكر أنه سمع هذا الحديث من النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر من مرة ، فحثَّ خُطاه الى السيدة عائشة وقال لها :( لقد ذكَّرتني بحديث لم أنسه ) ثم قال :( أما إني أشهدك أن هذه القافلة بأحمالها وأقتابها وأحْلاسِها في سبيل الله ) ووزِّعَت حُمولة سبعمائة راحلة على أهل المدينة وما حوله.
الخوف
وثراء عبد الرحمن -رضي الله عنه- كان مصدر إزعاج له وخوف ، فقد جيء له يوما بطعام الإفطار وكان صائما ، فلما وقعت عليه عيناه فقد شهيته وبكى ثم قال :( استشهد مصعب بن عمير وهو خير مني فكُفّن في بردة إن غطّت رأسه بدت رجلاه ، وإن غطّت رجلاه بدا رأسه ، واستشهد حمزة وهو خير مني ، فلم يوجد له ما يُكَفّن فيه إلا بردة ، ثم بُسِطَ لنا في الدنيا ما بُسط ، وأعطينا منها ما أعطينا وإني لأخشى أن نكون قد عُجّلت لنا حسناتنا ).
كما وضع الطعام أمامه يوما وهو جالس مع أصحابه فبكى ، وسألوه :( ما يبكيك يا أبا محمد ؟) قال :( لقد مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما شبع هو وأهل بيته من خبز الشعير ، ما أرانا أخّرنا لما هو خير لنا ). وخوفه هذا جعل الكبر لا يعرف له طريقا ، فقد قيل :( أنه لو رآه غريب لا يعرفه وهو جالس مع خدمه ، ما استطاع أن يميزه من بينهم ).
الهروب من السلطة(/1)
كان عبد الرحمن بن عوف من الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر الخلافة لهم من بعده قائلا :( لقد توفي رسول الله وهو عنهم راض ) وأشار الجميع الى عبد الرحمن في أنه الأحق بالخلافة فقال :( والله لأن تُؤخذ مُدْية فتوضع في حَلْقي ، ثم يُنْفَذ بها إلى الجانب الآخر ، أحب إليّ من ذلك ) وفور اجتماع الستة لإختيار خليفة الفاروق تنازل عبد الرحمن بن عوف عن حقه الذي أعطاه إياه عمر ، وجعل الأمر بين الخمسة الباقين ، فاختاروه ليكون الحكم بينهم وقال له علي -كرم الله وجهه- :( لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصفَك بأنك أمين في أهل السماء ، وأمين في أهل الأرض ) فاختار عبد الرحمن بن عوف ( عثمان بن عفان ) للخلافة ، ووافق الجميع على إختياره.
وفاته
في العام الثاني والثلاثين للهجرة جاد بأنفاسه -رضي الله عنه- وأرادت أم المؤمنين أن تخُصَّه بشرف لم تخصّ به سواه ، فعرضت عليه أن يُدفن في حجرتها الى جوار الرسول وأبي بكر وعمر ، لكنه استحى أن يرفع نفسه الى هذا الجوار ، وطلب دفنه بجوار عثمان بن مظعون إذ تواثقا يوما أيهما مات بعد الآخر يدفن الى جوار صاحبه وكانت يتمتم وعيناه تفيضان بالدمع :( إني أخاف أن أحبس عن أصحابي لكثرة ما كان لي من مال ) ولكن سرعان ما غشته السكينة واشرق وجهه وأرْهِفَت أذناه للسمع كما لو كان هناك من يحادثه ، ولعله سمع ما وعده الرسول -صلى الله عليه وسلم- :( عبد الرحمن بن عوف في الجنة ).
" يا بن عوف إنك من الأغنياء ، وإنك ستدخل الجنة حَبْوا ، فأقرض الله يُطلق لك قدميك " حديث شريف.(/2)
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه )
(43ق.هـ ـ 32هـ)
عبد الرحمن بن عوف، أحد العشرة، وأحد الستة أهل الشورى، وأحد السابقين البدريين القرشي الزهري. وهو أحد الثمانية الذين بادروا إلى الإسلام.
هو عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة القرشي الزهري وكان اسمه في الجاهلية عبد عمرو، وقيل عبد الكعبة، فسمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن. وأمه الشفاء بنت عوف الزهرية، وكنيته أبو محمد وهو من العشرة المبشرين بالجنة.
ولد في مكة المكرمة سنة 43 قبل الهجرة، وأسلم مبكراً فكان ثامن ثمانية دخلوا الإسلام،
ومن مناقبه: أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة، فقال: "يا بن عوف إنك من الأغنياء، وإنك ستدخل الجنة حَبْوا، فأقرض الله يُطلق لك قدميك "
عرض عليه أبو بكر الإسلام، فما غُمَّ عليه الأمر ولا أبطأ، بل سارع إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبايعه. وفور إسلامه حمل حظه من اضطهاد المشركين، وأنه من أهل بدر، ومن أهل هذه الآية:{ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه.
عن عمرو بن وهب الثقفي قال: كنا مع المغيرة بن شعبة، فسئل: هل أم النبي صلى الله عليه وسلم أحدٌ من هذه الأمة غيرُ أبي بكر ؟ فقال: نعم. فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، ومسح على خُفيه وعمامته، وأنه صلى خلفَ عبد الرحمن بن عوف، وأنا معه، رَكعة من الصبح، وقضينا الركعة التي سُبقنا.
قال عنه ابن عباس: جلسنا مع عمر، فقال: هل سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أمر به المرءَ المسلم إذا سها في صلاته، كيف يصنع ؟ فقلت: لا والله، أو سمعتَ أنت يا أمير المؤمنين من رسول الله في ذلك شيئاً ؟ فقال: لا والله. فبينا نحن في ذلك أتى عبد الرحمن بن عوف فقال: فيم أنتما ؟ فقال عمر: سألتُه، فأخبره. فقال له عبد الرحمن: لكني قد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر في ذلك، فقال له عمر: فأنت عندنا عدلٌ، فما سمعت؟ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سها أحدُكم في صلاته حتى لا يدري أزاد أم نقص، فإن كان شكَ في الواحدة والثنتين فليجعلها واحدة، وإذا شك في الثنتين أو الثلاث فليجعلها ثنتين، وإذا شك في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثاً حتى يكونَ الوهم في الزيادة، ثم يسجد سجدتين، وهو جالس، قبل أن يسلِّم ثم يسلِّم).
وعن قتادة:{ الذين يلمزون المُطوعين من المؤمنين في الصدقات } التوبة 79 قال: تصدَق عبدُ الرحمن بن عوف بشطر ماله أربعة آلاف دينار. فقال أناسٌ من المنافقين: إن عبد الرحمن لعظيم الرياء.
وعن شقيق قال: دخل عبد الرحمن على أمِّ سلمة فقال: يا أمَّ المؤمنين ! إني أخشى أن أكون قد هلكت، إني من أكثر قريش مالاً، بعتُ أرضاً لي بأربعين ألف دينار. قالت: يا بنيَّ ! أنفق، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أصحابي من لن يراني بعد أن أفارقه) فأتيتُ عمر فأخبرته، فأتاها، فقال: بالله أنا منهم ؟ قالت: اللهم لا، ولن أبرئ أحداً بعدك.
وعن أبي هريرة قال: كان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( دعوا لي أصحابي أو أصيحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً لم يُدرك مُدَّ أحدهم ولا نَصيفه).
ومن أفضل أعمال عبد الرحمن عزلُه نفسه من الأمر وقت الشورى، واختياره للأمة من أشار به أهلُ الحلِّ والعقد، فنهض في ذلك أتمََ نهوض على جمع الأمة على عثمان، ولو كان محابياً فيها لأخذها لنفسه، أو لولاها ابن عمه وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص.
أسلم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، هاجر هجرته الأولى إلى الحبشة ثم عاد إلى مكة المكرمة فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عثمان بن عفان، ثم هاجر الهجرة الثانية إلى المدينة فآخى الرسول عليه السلام بينه وبين سعد بن الربيع الخزرجي، فعرض عليه سعد أن يشاطره ماله، وأن يطلق أحسن زوجتيه ويزوجها له، فأبى عبد الرحمن وقال: بارك الله لك في أهلك ومالك، وطلب منه أن يدله على السوق، لممارسة التجارة فيه، وكان ماهراً فيها، وما لبث أن صار من كبار التجار والأغنياء في المدينة.
اشترك في معركة بدر سنة 2هـ، وقتل فيها عدداً من المشركين، وأسر أمية بن خلف ـ أحد زعماء قريش ـ فقتله جماعة من المسلمين بين يديه، واشترك في معركة أحد سنة 3هـ، وقتل فيها عدداً من المشركين أيضاً، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين انهزم الناس عنه، وكان أحد المدافعين عنه وجُرح أكثر من عشرين جرحاً وكُسرت ساقه وسقطت ثنيتاه وصار أهتم الثغر.(/1)
وشهد في السنة السادسة الهجرية غزوة الحديبية، وشهد صلح الحديبية، وبايع بيعة الشجرة، وفي الطريق إلى غزوة تبوك، صلى عبد الرحمن بالمسلمين وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ركعة من الصلاة، وعينه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائداً على سرية إلى دومة الجندل، وفيها أسلم على يديه ملكها الأصبغ بن ثعلبة الكلبي وجماعة من قومه، وتزوج ابنته تماضر بنت الأصبغ بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أم ولده أبي سلمة الفقيه، وولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات بني كلب لأمانته ونزاهته، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راضٍ، وأصبح مستشاراً أميناً للخليفة أبي بكر الصديق، وفي خلافة عمر بن الخطاب حج عبد الرحمن بالناس، وفي سنة أخرى حج بأزواج الرسول عليه السلام، وكان الخليفة عمر يستشيره في كثير من الأمور لأمانته وثقته به.
ولما طُعن عمر بن الخطاب، كان أحد الستة من أهل الشورى الذين اختارهم عمر للخلافة وقد خلع نفسه عن الخلافة، وقام باختيار خليفة المسلمين الجديد، عثمان بن عفان، فكان موضع ثقة عثمان ومستشاره كما كان من قبل موضع ثقة أبي بكر وعمر.
كان عبد الرحمن تاجراً كبيراً ومن كبار أغنياء المسلمين، وكما جاهد بنفسه وبسيفه جاهد بأمواله، فكان كثير الإنفاق والصدقات على المسلمين، حيث تصدق بمئات الآلاف من الدراهم والدنانير، وجهز ألف راحلة في سبيل الله، وتبرع مرة بمائة راحلة بما تحمل من المؤن على فقراء المدينة، ووضع مرة أخرى قافلة كاملة جاءته من الشام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له عليه السلام بالجنة، وكان يقال أهل المدينة عيال على عبد الرحمن بن عوف، فهم: ثلث يقرضهم ماله، وثلث يقضي عنهم ديونهم، وثلث يصلهم ويتصدق عليهم، وكان كثير الإنفاق على نساء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، قالت السيدة عائشة بعدما رأته ينفق عليها وعلى بقية نساء الرسول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحنو عليكن بعدي إلا الصابرون ". سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة.
وكان تقياً ورعاً فقيها، وكان يفتي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عهد أبي بكر وعمر، وله ذكر في كتب الحديث، وروى مجموعة من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك وأولاده، وجبير بن مطعم وجابر بن عبد الله، وآخرون.
وكان قوي الجسم تزوج عدداً من النساء وأنجب منهن ذرية كثيرة العدد.
سرية أميرها عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل
في شعبان سنة ست
عن ابن عمر قال دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف فقال وتجهز فإني باعثك في سرية من يومك هذا، أومن غد إن شاء الله. قال ابن عمر: فسمعت ذلك فقلت: لأدخلن فلأصلين مع النبي الغداة فلأسمعن وصيته لعبد الرحمن بن عوف. قال فغدوت فصليت فإذا أبو بكر، وعمر، وناس من المهاجرين فيهم عبد الرحمن بن عوف، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان أمره أن يسير من الليل إلى دومة الجندل فيدعوهم إلى الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن ما خلفك عن أصحابك ؟ قال ابن عمر وقد مضى أصحابه في السحر فهم معسكرون بالجرف وكانوا سبعمائة رجل فقال أحببت يا رسول الله أن يكون آخر عهدي بك، وعلي ثياب سفري. قال وعلى عبد الرحمن بن عوف عمامة قد لفها على رأسه. قال ابن عمر فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأقعده بين يديه فنقض عمامته بيده ثم عممه بعمامة سوداء فأرخى بين كتفيه منها، ثم قال هكذا فاعتم يا ابن عوف قال وعلى ابن عوف السيف متوشحه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اغز باسم الله وفي سبيل الله فقاتل من كفر بالله لا تغل ولا تغدر ولا تقتل وليدا. قال ابن عمر ثم بسط يده فقال يا أيها الناس اتقوا خمسا قبل أن يحل بكم ما نقض مكيال قوم إلا أخذهم الله بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يرجعون وما نكث قوم عهدهم إلا سلط الله عليهم عدوهم وما منع قوم الزكاة إلا أمسك الله عليهم قطر السماء ولولا البهائم لم يسقوا، وما ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الطاعون وما حكم قوم بغير آي القرآن إلا ألبسهم الله شيعا، وأذاق بعضهم بأس بعض.
وقد أوصى عند احتضاره بخمسين ألف دينار وألف فرس في سبيل الله وأوصى لمن بقي ممن شهد بدراً ب (400) دينار لكل رجل منهم وكانوا (100) رجل ومنهم الخليفة عثمان بن عفان، وخلف وراءه مالاً عظيماً من الذهب والإبل والشاة والخيل والمزارع، وتوفي في المدينة سنة 32هـ في خلافة عثمان بن عفان وعمره (75) سنة، ودفن في البقيع رحمه الله ورضي عنه.(/2)
عبد العزيز بن ناصر بن سعد الجليل
تعرف على الشيخ
* النسب :
عبد العزيز بن ناصر بن سعد الجليل
* النشأة والدراسة :
الرياض – بكالوريوس صيدلة وعلوم صيدلة
* الأعمال الوظيفية :
ـ مدير دار طيبة للنشر والتوزيع ( 20سنة ) .
ـ ثم مشرف على المكتب العلمي في الدار .
* العلماء الذين درس عليهم :
ـ الشيخ / عبد الله الجبرين .
ـ الشيخ عبد الرحمن البراك ، حفظه الله تعالى
* وكتب ورسائل :
ـ وقفات تربوية في ضوء القران الكريم ( 7 سبة مجلدات ) .
ـ ـ منارات في الطريق ج 1 .
ـ أين نحن من أخلاق السلف ؛ بالإشتراك مع الأخ بها الدين بن عقيل(/1)
عبد القادر طاش.. الإعلامي الداعية الإنسان
عبد الحليم عويس (*) 15/2/1425
05/04/2004
لم يكن يدور بخلدي – والغيب بيد الله – أن تذبل هذه الزهرة اليانعة بهذه السرعة، فهذا الصديق الإعلامي المتقد حرارة وإيماناً ونشاطاً –يوحي مظهره الودود المتفائل الهادئ وعمله الدؤوب –بأن لديه الكثير مما يحلم في القيام به... خدمة لدينه الذي يتعرض لحرب عالمية جنودها في الداخل لا يقلون عن جنودها من الخارج، وخدمة لأمته التي يريد أعداؤها تغيير قلبها وعقلها في هذه الظروف الصعبة!! ... لكن الله غالب على أمره... ولا نملك إلا أن نقول محتسبين:
( إنا لله وإنا إليه راجعون).
- عملت خمسة عشر عامًا مع الدكتور/ عبد القادر طاش في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، وكنا – معاً- من الجهاز الاستشاري العامل مع معالي الأستاذ الدكتور/ عبد الله التركي (مدير الجامعة الأسبق والوزير السابق والأمين العام الحالي لرابطة العالم الإسلامي) فكانت تجمعنا نشاطات متعددة دعوية وإعلامية وتحضيرات لمؤتمرات وندوات .... كما أننا اشتركنا في أعمال دعوية وإعلامية خارج الجامعة على كثير من الأصعدة.
- وكنا نتزامل أيضاً في تحرير مجلة "الدعوة" السعودية الغراء، ولا سيما في عهد رئيس تحريرها الداعية الفاضل الشيخ/ سعد آل فريان (وكل رؤساء تحريرها أفاضل).. وكان لنا اجتماع أسبوعي تحت رئاسة الشيخ سعد (جزاه الله خيراً)... وقد استمر ذلك لعدة سنوات.
- وقد جمعتنا -إلى جانب ذلك- ندوات ولقاءات كثيرة خارج هذين الإطارين الوظيفيين.
- ويعلم الله أنني طيلة هذه السنوات التي تقترب من عقدين من الزمان ما رأيت في الدكتور الحبيب عبد القادر طاش (رحمه الله رحمة واسعة) إلا القلب النقي، والعقل الذكي، والسمت الهادئ الوقور، والأخلاق النبيلة، والابتعاد عن مواطن الخلاف والشحناء، والإخلاص لهذا الإسلام العظيم من خلال جهوده التنظيرية والتطبيقية في مجال الإعلام الإسلامي .. خروجاً بهذا الإعلام الإسلامي من دائرة الرؤية التقليدية والممارسة العاطفية العفوية – إلى مرحلة (العلمية) الممزوجة بروح الدعوة وفكر العالم الأكاديمي، والداعية الذي يخلص لقضيته من كل كيانه، بغير حماس ظاهر أو ردود أفعال تبتعد بصاحبها عن الموضوعية..
- وما زلت أتذكر عندما اتصلت به في الأيام الأخيرة من ذي الحجة الماضي
(1424هـ) أطمئن على صحته وعافيته أثناء وجودي في مكة المكرمة مشاركًا في مؤتمر رابطة العالم الإسلامي... ما زلت أتذكر أنه –مع ما يعانيه من المرض– يطلب مني بإلحاح أن أكتب له شيئاً عن الجمعيات الأهلية الإسلامية... فحتى في هذه اللحظة المرَضية وفي هذا الظرف الاستثنائي من حياته، كان يعيش أخي عبد القادر طاش لدينه وأمته حاملاً الهم الإسلامي العام إلى آخر لحظة.
- فجزاك الله يا أخي الحبيب خير الجزاء وألحقك بالشهيد (أحمد ياسين) في الفردوس الأعلى في الجنة.. ففضلُ الله عظيم وأبواب الجهاد واسعة وقد كنت على باب من أبواب الجهاد وسلام عليك في الآخرين.* وأستاذ التاريخ والحضارة الإسلام(/1)
عبد الله بن سبأ ظاهرة تاريخية
يستطيع المرء أن يجزم ـ في ضوء الكشوف العلمية المتلاحقة ـ أن معطيات علم النفس في جلّ نظرياته، لم تصل ـ بعد ـ عتبات اليقين الأولى. وثمة عبارة ذات بعد منهجي، نجدها في كتاب «طبيعة العقل» لسوليفان.
تكاد تشكل سمة من سمات الفكر الوضعي في الغرب، في تألقه وسقوطه على السواء، تلك هي «أن مفهوم الدافع الجنسي عند فرويد مثلاً قد أريد به تفسير أشياء كثيرة جداً إلى درجة أنه لم يفسّر شيئاً محدداً»..
وهكذا ـ وفي ضوء هذا الاستنتاج الذي يقدمه سوليفان ـ يبدو أن مفهوم «العقل الكلّي» لدى «هيغل» قد أريد به ـ كذلك ـ تفسير أشياء كثيرة جداً في العالم إلى درجة أنه لم يفسر شيئاً محدداً. وتبدّل وسائل الإنتاج في النظرية المادية التاريخية، قد أريد به تفسير أشياء كثيرة جداً في التاريخ إلى درجة أنه لم يُفسّر شيئاً محدداً.
وما يقال عن «المثالية» و«المادية» يمكن أن يقال عن «الوجودية» و«العبثية» وسائر المذاهب الغربية على المستويات كافة.
إن بعداً نفسياً يكمن وراء هذه الرؤية التعميمية للكشوف ذات الطابع الجزئي. إن العالم أو الأديب أو الفيلسوف، وقد اكتشف بذكائه وجهده مفتاحاً من المفاتيح التي يمكن أن تسلط ضوءاً على الوجود و التاريخ ، يسعى إلى مدّ اكتشافه هذا لكي يغطي سائر مساحات الوجود والتاريخ ، ومنحنياتهما الطويلة المعقدة المتشابكة.. إنه يريد أن يحتكر حق الكشف والتفسير، ويحجب عن الآخرين حريتهم العقلية وحتى الوجدانية في أن يرحلوا هم أيضاً ويكتشفوا ويبتكروا نظريات ونظماً وأعرافاً..
وإنها لنرجسية ولا ريب هي أقسى أنماط النرجسية التي عرفتها مناهج البحث البشري وطرائقه .. إنها لتصل بهم ـ أو هكذا يخيّل إليهم ـ إلى عتبات الألوهية.. ولم لا ؟ وهم يجدون من المعجبين والأتباع عباداً خاضعين يسبّحون بحمدهم ويمنحونهم طائعين صفة التوحّد والتفرّد ؟
ها قد آن الأوان لكي يقول العلم كلمته.. إنه ليس ثمة حقيقة في أي ميدان من ميادين العلم المادي أو الحيوي، يمكن أن يفسّر بها العالم كلّه.. إنها تفسّر جانباً من العالم.. نعم.. ولكن ليس العالم كلّه بأية حال من الأحوال.
ليس هذا فحسب بل إن العلماء المحدثين يؤكدون على أن المفاهيم الأساسية التي أمكن استخلاصها وعزلها حتى الآن ، والتي تعتبر وافية إلى حدّ معقول ، لهي تلك المرتبطة بالعلوم التي تعالج الظواهر المادية الجامدة.
ونقول «وافية إلى حد معقول» لأن نظريتي «النسبية» و«الكم» قد أدّتا حديثاً إلى إعادة النظر في هذه المفاهيم ومراجعتها مراجعة شاملة.
وعلى أية حال فقد أثبتت تلك المفاهيم نجاحاً فذاً خلال القرون الثلاثة الماضية، وإنه لمن المشكوك فيه أن يؤدي هذا النجاح إلى نجاح أية تجربة تقوم على تطبيق هذه المفاهيم في مجالات لا تقبل بطبيعتها التطبيق فيها.
وهكذا فإنه حتى العلوم التي تعالج الظواهر المادية الجامدة لم تسلم معطياتها من الهزات، فها هي ذيّ نظريتا «النسبية» و «الكم» تغيران وتبدلان في الكثير من المفاهيم العلمية السائدة، والمسلمات، أو هكذا كانت توصف، والتي صمدت خلال القرون الثلاثة الماضية. ومهما يكن من أمر فإن النجاح النسبي لمفاهيم التعامل مع المادة يجب ألاّ يدفعنا إلى الطريق الخاطئ وهو قصر تجربة الحياة على الخضوع للمفاهيم نفسها، لأن مصير قصر كهذا هو الفشل بعينه، وهذا يؤكد ضرورة البحث عن معايير أخرى لدراسة علوم الحياة، وإلى التسليم بالغائية كمفتاح لكثير من الأبواب الموصدة ها هنا: (فَقَالَ لَهَا ولِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) ، (وإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..).
مجلة المنار ، العدد 75 ، شوال 1424هـ(/1)
عبد الله بن عباس المؤرخ الإسلامي الأول
هيء لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إليها ما لم يتهيأ لغيرها من المدن في شتى أرجاء المعمورة ، إذ صارت مهبط الوحي ، وصلة الأرض بالسماء ، وحاضرة الإسلام الأولى , وسكنها جيل فريد من صحابته , قلما شهد العالم مثله في سموه ورفعة أخلاقه ، وكيف لا ؟! وقد رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعه على عينه ، حتى صار أفراده مصابيح هدىً تضيء للناس.
وقد قدر لهذا الجيل أن يشاهد بنفسه الأحداث التاريخية التي وقعت عند بزوغ الإسلام – حيث كانت المدينة مسرحاً لأكثرها – فحكاها كما شاهدها لمن خلفه دون زيادة أو نقصان ، مستشعراً في ذلك المسئولية الملقاة على عاتقه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار " ( صحيح ابن حبان ) وواضعاً نصب عينيه حديث نبينا صلى الله عليه وسلم : " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" ( البخاري) وعلى أيدي هؤلاء وضعت النواة الأولى لمدرسة المدينة التاريخية ، حيث كان لها بذلك ما يميزها على غيرها من المدارس التاريخية الأخرى .
وكان على رأس هؤلاء الصحابة الأجلاء الذين خدموا التاريخ في بدايته عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، والذي تنوعت معارفه وتعددت حتى شملت سائر العلوم الإسلامية من تفسير وحديث وفقه ولغة وتاريخ ومغازٍ حتى " سمي البحر لغزارة علمه " وانتهت إليه الرياسة في الفتوى والتفسير .
قال عطاء : ما رأيت أكرم من مجلس ابن عباس ، أصحاب الفقه عنده ، وأصحاب القرآن عنده ، وأصحاب الشعر عنده ، يصدرهم كأنه في واد واسع , وبلغ من منزلته ومكانته أن الخليفتين عمر وعثمان ـ رضى الله عنهما ـ كانا يدعوانه ليشير عليهما مع أهل بدر ـ رغم حداثة سنه ـ ولا غرو فقد أصابته دعوة رسول الله r " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " ( البخاري ) وفي رواية أخرى " وعلمه الحكمة " .
أما الدليل على أنه كان للتاريخ عنده حظه ونصيبه فهو قول عبيد الله بن عتبة : " كان ابن عباس يجلس يوماً ما يذكر فيه إلا الفقه ، ويوماً التأويل ، ويوماً المغازي ، ويوماً الشعر ، ويوماً أيام العرب " وقول الواقدي : " حدثني فائد مولى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن جدته سلمى قالت : رأيت عبد الله بن عباس معه ألواح , يكتب عليها شيئاً من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
ويقول ابن عباس نفسه : " كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ، فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نزل من القرآن في ذلك".
وقول عطاء : " كان ناس يأتون ابن عباس للشعر ، وناس للأنساب ، وناس لأيام العرب ووقائعها ، فما منهم من صنف إلا يقبل عليه بما شاء " .
وقد وردت إلينا عن ابن عباس مرويات تاريخية كثيرة عند ابن إسحاق والواقدي وابن سعد والطبري ، تظهر لنا مدى الحس التاريخي المبكر لديه ، وتؤكد لنا صحة ما قيل عنه .
وقد تناولت هذه المرويات : نشأة الكون , وعمر الأرض , وخلق الليل والنهار , وابتداء الخلق , وسلطان إبليس في الأرض قبل خلق آدم عليه السلام , وقصة خلق آدم عليه السلام , وقصة هبوط آدم وحواء إلى الأرض, وبداية ظهور عبادة الأصنام , وقصة نوح ـ عليه السلام ـ وحاله مع قومه, وخبر الطوفان , وعدد من نجا مع نوح ـ عليه السلام ـ وتفرق أولاد نوح ـ عليه السلام ـ في الأرض .
وقصة إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع النمرود ( الملك الذي حآجه ) وأخباره مع قومه, ونقل إبراهيم هاجر وإسماعيل ـ عليهم السلام إلى مكة ـ وبناء إبراهيم وإسماعيل البيت الحرام, ودعوة إبراهيم الناس إلى الحج , وقصة نذر إبراهيم ذبح إسماعيل ـ عليهما السلام ـ وميلاد إسحاق بن إبراهيم ـ عليهما السلام ـ وقصة لوط ـ عليه السلام ـ مع قومه , وقصة يوسف ـ عليه السلام ـ وقصة موسى ـ عليه السلام ـ مع الخضر , وقصة موسى مع فرعون , وعبور بني إسرائيل البحر وإغراق فرعون , وقصة قارون مع موسى ـ عليه السلام ـ وظهور العمالقة على بني إسرائيل.
وقصة سليمان ـ عليه السلام ـ وحمل مريم بالمسيح ـ عليهما السلام ـ وقصة بني إسرائيل مع يحيى بن زكريا , وقصة أصحاب الكهف , وهذه الأخبار لم يتناولها ابن عباس لذاتها , وإنما من خلال تفسيره للآيات القرآنية التي أشارت إليها .
كما ورد عنه أيضاً بعض الأخبار التي تتحدث عن تاريخ العرب قبل الإسلام, مثل أخباره عن ملوك حمير باليمن , وغلبة الحبشة على اليمن , ومحاولة ملكهم صرف الناس العرب عن الحج إلى مكة إلى كنيسته التي بناها , وبعض الأخبار عن سيرة رسول الله مثل : حادث ميلاده ـ صلى الله عليه وسلم ـ وضم أبي طالب رسول الله إليه بعد وفاة عبد المطلب , وزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بخديجة بنت خويلد , ونزول الوحي عليه وهو في سن الأربعين .(/1)
وإعلان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة الله بعد أن نزل عليه من القرآن " وأنذر عشيرتك الأقربين " (سورة الشعراء : الآية 214) ، وموقف أبي لهب من إعلان الدعوة , وجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني هاشم في بيته على مأدبة طعام لدعوتهم إلى الله , ومحاولة قريش إغراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمال والملك ليتخلى عن دعوته , وما كان يلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيذاء المشركين له , وتاريخ هجرته .
كما تحدث عن بعض الغزوات والسرايا مثل : سرية نخلة , وغزوة بدر , وقصة مقتل كعب بن الأشرف اليهودي ؛ بسبب تحريضه المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم , وغزوة أحد , وحمراء الأسد , وحصار بني النضير , وصلح الحديبية , وفتح مكة , وغزوة حنين .
كما ورد عنه بعض المرويات عن أحداث وقعت في عصر الخلفاء الراشدين مثل خبر وقوع عبد الله بن حذافة في أسر الروم , ومقتل الخليفة عثمان بن عفان على أيدي السبئية .
ومروياته حول هذا الأمر تبين إعظامه لمقتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ حتى قال : " لو أن الناس أجمعوا على قتل عثمان لرموا بالحجارة كما رمي قوم لوط " كما أنها ترد على من زعم أن علياً رضي بقتل عثمان أو لم ينكره فقال : " أشهد على علي أنه قال في قتل عثمان : لقد نهيت عنه ، ولقد كنت كارهاً ، ولكني غُلبت " , وليس هناك شهادة تعلو فوق شهادة ابن عباس في هذا الأمر فقد كان من أقرب الناس إلى علي , وأعلمهم به .
هذا وقد ساعدت معرفة ابن عباس الواسعة بالتفسير , وأسباب نزول الآيات في أن يدعم أكثر مروياته التاريخية بالآيات القرآنية التي لها صلة بالحادثة , أو مرتبطة بها مثل قوله : هذه الآيات نزلت في بني قينقاع " قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ …" (سورة آل عمران : الآية 12 ).
ومثل قوله عن الآية " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ..." (سورة النحل : آية 126) قال : نزلت لما قتل حمزة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله لئن أظفرنا الله عليهم يوماً من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب ". وعن قوله تعالى : " لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ....... " (سورة آل عمران : آية رقم 169) قال : نزلت لما أصيب أصحاب الرجيع , وقال فيهم رجال من المنافقين : يا ويح هؤلاء الذين هلكوا , لا هم قعدوا في أهليهم ولا هم أدوا رسالة صاحبهم, وهكذا نرى ذلك في كثير من مروياته عن غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وابن عباس بهذا الفعل قد أكد منذ وقت مبكر على أن علم التاريخ هو جزء من الثقافة الإسلامية , وينبغي ألا يدرس بمنأى عنها , وسلك هذا المنهج بعده واتبعه كل من كتب في سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتاريخ الإسلامي من الكتاب الأوائل , لكن مع انضمام الأخباريين إلى ساحة الكتابة التاريخية , وحصر غاية التاريخ في كثير من الأحيان على مجرد جمع الأخبار وتدوينها ضعفت صلة التاريخ شيئا فشيئا بسائر فروع العلم الإسلامية...
ورغم عظم دور ابن عباس في مجال الرواية التاريخية إلا أنه لا يمكن التسيلم بصحة كل ما نسب إليه من المرويات التاريخية ؛ لأن شخصيته من الشخصيات التي استغلها الوضاعون لمكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم من جانب ، ومن جانب آخر لأنه كان من نسله الخلفاء العباسيون الذين كان يتقرب إليهم مرضى القلوب بكثرة المروي عن جدهم , ليس في التاريخ فحسب , وإنما في كثير من الفنون حتى قال الشافعي : " لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث " رغم أنه لا تكاد تخلو آية من القرآن إلا ويورد له فيها قول , وهذا يدل على مدى ما كان يختلقه الوضاعون وينسبونه إليه .
هذا في مجال الحديث والتفسير ، فإذا ما جئنا إلى التاريخ الذي هو مجال بحثنا ، وجدنا روايات متعددة منسوبة إليه ولا يمكن التسليم بصحتها , مثال ذلك ما ذكره السيوطي في الخصائص عن المسور بن مخرمة عن ابن عباس أنه قال : قال عبد المطلب : قدمنا إلى اليمن في رحلة الشتاء فنزلت على حبر من اليهود ، فقال رجل من أهل الزبور : ممن الرجل ؟ قلت : من قريش ، قال : من أيهم ؟ قلت : من بني هشام ، قال : أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك ؟ ! قلت : نعم ، ما لم يكن عورة , قال : ففتح إحدى منخري فنظر فيه , ثم نظر في الأخرى فقال : أشهد أن في إحدى يديك ملكاً وفي الأخرى نبوة . وإنا نجد ذلك في بني زهرة (1)
ولست أدري ما علاقة النبوة بالأنف ، ولو سلمنا جدلاً أن الكتب السابقة بشرت بذلك ، فهل في الكتب السابقة أن عبد المطلب وابنه عبد الله سيتزوجان من بني زهرة؟! وهل فيها ما يبشر أو يشير إلى ملك بني العباس ؟! أظن ذلك من القصص التي وضعها القصاصون بعد استقرار الخلافة العباسية .(/2)
وأعجب من ذلك ما أورده السيوطي منسوباً إليه أنه " كان من دلالات حمل رسول الله أن كل دابة كانت لقريش نطقت تلك الليلة ، وقالت حمل برسول الله – ورب الكعبة – وهو إمام الدنيا وسراج أهلها ، ولم تبق كاهنة في قريش , ولا في قبيلة من قبائل العرب إلا حجبت عن صاحبها , وانتزع علم الكهنة منها … وسرت وحوش المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات ، وكذلك أهل البحار " (2) .
ومن ذلك أيضاً الروايات التي وردت حول النزاع بين علي ومعاوية – رضي الله عنهما – والتي تبرز ابن عباس دائماً على أنه صاحب الرأي السديد , وأن علياً ما أحاطت به الشدائد إلا لمخالفته رأي ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ انظر مثلاً في رواية الطبري عن خروج عائشة ـ رضي الله عنها ـ إلى البصرة دون الكوفة , وفرح علي لذلك , فقال ابن عباس : " إن الذي سرك من ذلك ليسوؤني , إن الكوفة فسطاط فيه أعلام من أعلام الكوفة "(3).
وعند التحكيم يقول – أي ابن عباس – قبح الله رأي أبي موسى ، حذرته وأمرته بالرأي فما عقل (4) ومثل قوله لعلي بن أبي طالب : يا أمير المؤمنين ، أنت رجل شجاع لست بأرب الحرب ، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الحرب خدعة . . . . " أما والله لإن أطعتني لأصدرن بهم بعد ورود , ولأتركنهم في دبر الأرض , لا يعرفون ما كان في وجهها , في غير نقصان عليك ولا إثم . . . . . فقال علي : يابن عباس لست من هنياتك وهنيات معاوية في شيء (5).
وقد يكون في هذه المرويات بعض الصحة ، ولكنها أخذت طابع المبالغة ، وعلى كل حال فإنه رغم الشكوك التي دارت حول بعض مرويات ابن عباس , وما لفقه أو نسبه له الوضاعون ، فإن ذلك لا يقلل من مكانته الريادية في هذا الفن .
خاصة وأن النقاد قد اتبعوا سلسلة رواته , فعدلوا بعضاً , وجرحوا بعضاً حتى يكون القارئ على بينة , وحتى لا يقف وقفة المرتاب تجاه مروياته , فقالوا مثلاً : طريق معاوية بن صالح عن علي بن طلحة عن ابن عباس من أجود الطرق عنه ، إذ اعتمد عليها البخاري , وكذلك ابن جرير الطبري , وابن أبي حاتم , وابن المنذر ومسلم.
وطريق عبد الملك بن جريج عن ابن عباس تحتاج إلى دقة في البحث ليعرف الصحيح منها والسقيم (6) .
وطريق الضحاك بن مزاحم الهلالي عن ابن عباس غير مرضية (7) .وطريق محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أوهى طرقه , فإذا انضم إلى ذلك محمد بن مروان السدي الصغير فهي سلسلة الكذب(8) .
هذا وقد تتلمذ على ابن عباس كثير من التابعين الذين كان لهم دور كبير في نمو وازدهار الدراسات التاريخية مثل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة , وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار , وعروة بن الزبير وغيرهم .
ولكن اشتهر من بين تلاميذ ابن عباس الذين سبق ذكرهم رجلان كان لهما عناية خاصة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحداث التاريخ الإسلامي في عصر الخلفاء الراشدين وهما : سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير بن العوام .
المصدر : إدارة الموقع
الهوامش :
(1) جلال الدين السيوطي الخصائص الكبرى جـ1 صـ100 تحقيق د / محمد خليل هراس – دار الكتب الحديثة
(2) المصدر السابق : جـ1 صـ 118
(3)الطبري جـ4 صـ 459
(4) المصدرالسابق : جـ5 صـ 71
(5)المصدرالسابق : حـ4 صـ 441
(6)السابق صـ85
(7)السابق صـ85
(8) السابق صـ87 وانظر كذلك فجر الإسلام أ / أحمد أمين صـ 203 .(/3)
عبد الله بن عباس
طريق القرآن
الحمد لله الذي أنزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان وأشهد أن لا إله إلا الله القائل في محكم كتابه: ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ? [الحجر: 9 ]، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال في حديثه عن ربه - عز وجل -: ( من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وفضل كلام الله تعالى على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ) [رواه الترمذي في سننه حديث رقم (2850) ]، وبعد
فقد اقتضت حكمة الله تعالى وإرادته أن جعل قلوب بعض عباده المؤمنين أوعية للقرآن فحفظوه وفهموه وعملوا بتعاليمه، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وتأدبوا بآدابه، وتخلقوا بأخلاقه، ثم علموه للمسلمين حتى وصل إلينا صحيحا مرتلاً، فقد تلقاه الخلف عن السلف وتعلمه جيل بعد جيل، وهكذا ستظل طائفة من المسلمين - بعون الله تعالى - لا هم لهم إلا حفظ كتابه ثم تعليمه للناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ومن الذين حفظ الله بهم كتابه الكريم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عباس - رضي الله تعالى عنهما- الإمام العلم الحبر البحر الحجة في التفسير وغيره من العلوم الذي دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ( اللهم فقه الدين وعلمه التأويل ) [رواه البخاري في الصحيح حديث رقم (140) ].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن مناف القرشي ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
أمه: لبابة الكبرى بنت الحارث أخت ميمونة زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت خالته.
مولده: ولد والنبي - صلى الله عليه وسلم- بالشعب فأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم- فحنكه بريقه وذلك قبل الهجرة بثلاث سنوات.
لازم النبي - صلى الله عليه وسلم - في صغره لقرابته منه، وتوفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله من العمر 13سنة وقيل 15سنة.
كان - رضي الله تعالى عنه- يلقب بالحبر والبحر لكثرة علمه وكان على درجة كبيرة من الاجتهاد والمعرفة لمعاني القرآن وانتهت إليه الرياسة في الفتوى والتفسير.
وكان عمر يُجلسه في مجلسه مع كبار الصحابة ويدنيه منه ويقول: « ذاكم فتى الكهول، إن له لساناً سؤولاً وقلباً عقولاً ».
وقال فيه ابن مسعود: « نعم ترجمان القرآن ابن عباس ».
وقال عنه عطاء: ما رأيت أكرم من مجلس ابن عباس، أصحاب القرآن عنده، وأصحاب الفقه عنده، وأصحاب السير عنده يصدرهم كلهم من واد واسع ».
قال عبد الله بن عتبة: « كان ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما- قد فات الناس بخصال:
بعلم ما سبق، وفقه فيما احتيج إليه، وحلمٍ ونسب، وتأويل، وما رأيت أحداً كان أعلم بما سبق من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - منه ولا بأقضية أبي بكر وعمر وعثمان وعلي منه ».
قيل لطاووس لزمت هذا الغلام - يعني ابن عباس – وتركت الأكابر قال: إني رأيت سبعين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- إذا تدارءوا أمراً صاروا إلى قول ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما-.
قرأ القرآن على أبي بن كعب وزيد بن ثابت، وقرأ عليه مجاهد وسعيد وطائفة.
وروى عنه علي ابنه، وأخوه عكرمة مولاه، وأنس بن مالك، وأبو الطفيل، وأبو أمامة، وابن أبي مليحة وغيرهم كثير،بلغ عددهم مئتى نفس كما ذُكر ذلك في التهذيب.
ولابن عباس - رضي الله تعالى عنهما- تفسير رواه عنه مجاهد وروى هذا التفسير عن مجاهد حميد بن قيس.
قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: جمعت المحكم في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وقبض وأنا ابن عشر حجج.
وقال أيضاً -رضي الله تعالى عنهما-: كل القرآن أعلمه إلا ثلاثا الرقيم، غسلين، حناناً.
عن ابن أبي مليكة قال: صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة فكان إذا نزل قام شطر الليل فسأله أيوب: كيف كانت قراءته؟ قال: قرأ ? وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ .... ? [ق: 19 ]، فجعل يرتل ويكثر - في ذلك- النشيج.
وقال طاووس: ما رأيت أحداً أشد تعظيماً لحرمات الله من ابن عباس.
وعن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: لما توفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت لرجل من الأنصار: هلم نسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم اليوم كثير فقال: واعجباً لك يا ابن عباس أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من ترى؟ فترك ذلك وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن رجل فآتيه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه فتسفي الريح التراب فيخرج فيراني فيقول يا ابن عم رسول الله ألا أرسلت إلي فآتيك فأقول: أنا أحق أن آتيك فأسألك، قال فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس علي فقال: هذا الفتى أعقل مني.
قال عمر لابن عباس: لقد علمت علماً ما علمناه.
وقال عمر: لا يلومني أحد على حب ابن عباس.(/1)
وقال الأعمش: حدثنا أبو وائل قال خطبنا ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما- وهو أمير على الموصل فافتتح سورة النور فجعل يقرأ ويفسر فجعلت أقول: ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثل هذا، لو سمعته فارس والروم والترك لأسلمت.
قال تلميذه مجاهد: إنه إذا فسر الشيء رأيت عليه النور.
قال علي: كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق.
قال ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما-: ابن عباس أعلم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وختاماًنقول:
ليس الهدف من سرد السير هو التسلية وملأ السطور والفراغ، إنما الهدف هو أن نتخذ من هؤلاء القدوة والأسوة، وأن نجعلهم لنا هدفاً سامياً لابد أن نصل إليه وأن نتشبه بهم، فمن رمى هدفاً بسهم إما أن يصيبه فيكون بذلك قد تمكن من بغيته، وإما إن لم يصبه فلا شك أن سهمه اقترب إلى الهدف وأصبح دونه.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح(/2)
عبد الله بن مسعود ...
...
عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُوْدِ بنِ غَافِلِ بنِ حَبِيْبٍ الهُذَلِيُّ
الإِمَامُ الحَبْرُ، فَقِيْهُ الأُمَّةِ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الهُذَلِيُّ، المَكِّيُّ، المُهَاجِرِيُّ، البَدْرِيُّ، حَلِيْفُ بَنِي زُهْرَةَ.
كَانَ مِنَ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ، وَمِنَ النُّجَبَاءِ العَالِمِيْنَ، شَهِدَ بَدْراً، وَهَاجَرَ الهِجْرَتَيْنِ، وَكَانَ يَوْمَ اليَرْمُوْكِ عَلَى النَّفْلِ، وَمَنَاقِبُهُ غَزِيْرَةٌ، رَوَى عِلْماً كَثِيْراً.
كَانَ عَبْدُ اللهِ رَجُلاً نَحِيْفاً، أَحْمَشَ السَّاقَيْنِ. -رفيع الساقين- , قَصِيْراً، شَدِيْدَ الأُدْمَةِ، وَكَانَ لاَ يُغَيِّرُ شَيْبَهُ.
كَانَ عَبْدُ اللهِ لَطِيْفاً، فَطِناً. وكَانَ مَعْدُوْداً فِي أَذْكِيَاءِ العُلَمَاءِ.
قُلْتُ: رَآهُ سَعِيْدٌ لَمَّا قَدِمَ المَدِيْنَةَ عَامَ تُوُفِّيَ، سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِيْنَ، وَكَانَ يُعْرَفُ أَيْضاً بِأُمِّهِ، فَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ سَعْدٍ: أُمُّهُ: هِيَ أُمُّ عَبْدٍ بِنْتُ عَبْدِ وُدٍّ بنِ سُوَيٍّ، مِنْ بَنِي زُهْرَةَ.
اسلامه
وكَانَ عَبْدُ اللهِ مِنْ أَجْوَدِ النَّاسِ ثَوْباً أَبْيَضَ، وَأَطْيَبَ النَّاسِ رِيْحاً.
قَالَ عَبْدُ اللهِ: إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ عَلِمْتُهُ مِنْ أَمْرِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قَدِمْتُ مَكَّةَ مَعَ عُمُوْمَةٍ لِي -أَوْ أُنَاسٍ مِنْ قَوْمِي- نَبْتَاعُ مِنْهَا مَتَاعاً، وَكَانَ فِي بُغْيَتِنَا شِرَاءُ عِطْرٍ، فَأَرْشَدُوْنَا عَلَى العَبَّاسِ.
فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِ، وَهُوَ جَالِسٌ إِلَى زَمْزَمَ، فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ، فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ، إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَابِ الصَّفَا، أَبْيَضُ، تَعْلُوْهُ حُمْرَةٌ، لَهُ وَفْرَةٌ جَعْدَةٌ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ، أَشَمُّ، أَقْنَى، أَذْلَفُ، أَدْعَجُ العَيْنَيْنِ، بَرَّاقُ الثَّنَايَا، دَقِيْقُ المَسْرُبَةِ، شَثْنُ الكَفَّيْنِ وَالقَدَمَيْنِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَبْيَضَانِ، كَأَنَّهُ القَمَرُ لَيْلَةَ البَدْرِ، يَمْشِي عَلَى يَمِيْنِهِ غُلاَمٌ حَسَنُ الوَجْهِ، مُرَاهِقٌ، أَوْ مُحْتَلِمٌ، تَقْفُوْهُمُ امْرَأَةٌ قَدْ سَتَرَتْ مَحَاسِنَهَا، حَتَّى قَصَدَ نَحْوَ الحَجَرِ، فَاسْتَلَمَ، ثُمَّ اسْتَلَمَ الغُلاَمُ، وَاسْتَلَمَتِ المَرْأَةُ.
ثُمَّ طَافَ بِالبَيْتِ سَبْعاً، وَهُمَا يَطُوْفَانِ مَعَهُ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الرُّكْنَ، فَرَفَعَ يَدَهُ وَكَبَّرَ، وَقَامَ ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ، فَرَأَيْنَا شَيْئاً أَنْكَرْنَاهُ، لَمْ نَكُنْ نَعْرِفُهُ بِمَكَّةَ.
فَأَقْبَلْنَا عَلَى العَبَّاسِ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا الفَضْلِ! إِنَّ هَذَا الدِّيْنَ حَدَثٌ فِيْكُم، أَوْ أَمْرٌ لَمْ نَكُنْ نَعْرِفُهُ؟
قَالَ: أَجَلْ - وَاللهِ - مَا تَعْرِفُوْنَ هَذَا، هَذَا ابْنُ أَخِي مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ، وَالغُلاَمُ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالمَرْأَةُ خَدِيْجَةُ بِنْتُ خُوَيْلدٍ امْرَأَتُهُ، أَمَا وَاللهِ مَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَحَدٌ نَعْلَمُهُ يَعْبُدُ اللهَ بِهَذَا الدِّيْنِ، إِلاَّ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ.
عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ، قَالَ: كُنْتُ أَرْعَى غَنَماً لِعُقْبَةَ بنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَمَرَّ بِي رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: (يَا غُلاَمُ! هَلْ مِنْ لَبَنٍ؟) قُلْتُ: نَعَمْ، وَلَكِنِّي مُؤْتَمَنٌ.
قَالَ: فَهَلْ مِنْ شَاةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الفَحْلُ؟
فَأَتَيْتُهُ بِشَاةٍ، فَمَسَحَ ضِرْعَهَا، فَنَزَلَ لَبَنٌ، فَحَلَبَ فِي إِنَاءٍ، فَشَرِبَ، وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ.
ثُمَّ قَالَ لِلضِّرْعِ: (اقْلُصْ). فَقَلَصَ.
قَالَ: فَأَسْلَمْتُ، وَأَتَيْتُهُ.
عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ جَهَرَ بِالقُرْآنِ بِمَكَّةَ بَعْدَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُوْدٍ.
وكان عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُوْدٍ َمِمَّنْ قَدِمَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الحَبَشَةِ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى المَدِيْنَةِ.
جهاده فى سبيل الله
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَقِيَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ أُحُدٍ إِلاَّ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهُمُ ابْنُ مَسْعُوْدٍ.(/1)
عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بن مسعود : انْتَهَيْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ صَرِيْعٌ، وَهُوَ يَذُبُّ النَّاسَ بِسَيْفِهِ، فَقُلْتُ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَخْزَاكَ يَا عَدُوَّ اللهِ!. قَالَ: هَلْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ قَتَلَهُ قَوْمُهُ، فَجَعَلْتُ أَتَنَاوَلُهُ بِسَيْفٍ لِي، فَأَصَبْتُ يَدَهُ، فَنَدَرَ سَيْفُهُ، فَأَخَذَتْهُ، فَضَرَبْتُهُ بِهِ حَتَّى بَرَدَ، ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَأَنَّمَا أَقَلَّ مِنَ الأَرْضِ.
فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: (اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ).
قَالَ: فَقَامَ مَعِي حَتَّى خَرَجَ يَمْشِي مَعِي حَتَّى قَامَ عَلَيْهِ.
فَقَالَ: (الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَخْزَاكَ يَا عَدُوَّ اللهِ، هَذَا كَانَ فِرْعُوْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ).
صاحب سواد رسول الله
وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيْثِ أَبِي مُوْسَى، قَالَ: قَدِمْتُ أَنَا وَأَخِي مِنَ اليَمَنِ، فَمَكَثْنَا حِيْناً، وَمَا نَحْسِبُ ابْنَ مَسْعُوْدٍ وَأُمَّهُ إِلاَّ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِكَثْرَةِ دُخُوْلِهِم وَخُرُوْجِهِم عَلَيْهِ.
عَنْ أَبِي مُوْسَى، قَالَ: وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ اللهِ، وَمَا أَرَاهُ إِلاَّ عَبْدَ آلِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُوْدٍ صَاحِبَ سِوَادِ رَسُوْلِ اللهِ - يَعْنِي سِرَّهُ - وَوِسَادِهِ - يَعْنِي فِرَاشَهُ - وَسِوَاكِهِ، وَنَعْلَيْهِ، وَطَهُوْرِهِ، وَهَذَا يَكُوْنُ فِي السَّفَرِ.
عَنِ القَاسِمِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ يُلْبِسُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَعْلَيْهِ، ثُمَّ يَمْشِي أَمَامَهُ بِالعَصَا، حَتَّى إِذَا أَتَى مَجْلِسَهُ نَزَعَ نَعْلَيْهِ، فَأَدْخَلَهُمَا فِي ذِرَاعِهِ، وَأَعْطَاهُ العَصَا، وَكَانَ يَدْخُلُ الحُجْرَةَ أَمَامَهُ بِالعَصَا.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ شَدَّادٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ صَاحِبَ الوِسَادِ، وَالسِّوَاكِ، وَالنَّعْلِيْنِ.
اقرأ على القرآن
عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاَ يَزَالُ يَسْمُرُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ اللَّيْلَةَ كَذَلِكَ فِي الأَمْرِ مِنْ أَمْرِ المُسْلِمِيْنَ، وَإِنَّهُ سَمَرَ عِنْدَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَأَنَا مَعَهُ، فَخَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَخَرَجْنَا مَعَهُ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المَسْجِدِ.
فَقَامَ رَسُوْلُ اللهِ يَسْمَعُ قِرَاءتَهُ، فَلَمَّا كِدْنَا أَنْ نَعْرِفَهُ، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ القُرْآنَ رَطْباً كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ).
قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ يَدْعُو، فَجَعَلَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ لَهُ: (سَلْ تُعْطَهُ).
فَقُلْتُ: وَاللهِ لأَغْدُوَنَّ إِلَيْهِ، فَلأُبَشِّرُهُ.
قَالَ: فَغَدَوْتُ، فَوَجَدْتُ أَبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقَنِي.
عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ).
عَنْ عَبْدِ الله بن مسعود، قَالَ: قَالَ لِي رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اقْرَأْ عَلَيَّ القُرْآنَ).
قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟!
قَالَ: (إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي).
فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُوْرَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيْدٍ، وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيْداً} فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَا النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ القُرْآنَ غَضّاً كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْ عَلَى قِرَاءةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ).
حب رسول الله له
عَنْ أُمِّ مُوْسَى: سَمِعْتُ عَلِيّاً يَقُوْلُ: أَمَرَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْنَ مَسْعُوْدٍ، فَصَعَدَ شَجَرَةً يَأْتِيْهِ مِنْهَا بِشَيْءٍ، فَنَظَرَ أَصْحَابُهُ إِلَى سَاقِ عَبْدِ اللهِ، فَضَحِكُوا مِنْ حُمُوْشَةِ سَاقَيْهِ.
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا تَضحكُوْنَ؟ لَرِجْلُ عَبْدِ اللهِ أَثْقَلُ فِي المِيْزَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ أُحُدٍ).(/2)
قَالَ عَمْرُو بنُ العَاصِ فِي مَرَضِهِ، وَقَدْ جَزِعَ، فَقِيْلَ لَهُ: قَدْ كَانَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُدْنِيْكَ وَيَسْتَعْمِلُكَ؟!
قَالَ: وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا كَانَ ذَاكَ مِنْهُ، أَحُبٌّ أَوْ كَانَ يَتَأَلَّفُنِي، وَلَكِنْ أَشْهَدُ عَلَى رَجُلَيْنِ أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ يُحِبُّهُمَا: ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، وَابْنِ سُمَيَّةَ
علمه و ورعه
قَالَ عَبْدُ اللهِ بن مسعود: وَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ، لَقَدْ قَرَأتُ مِنْ فِيِّ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِضْعاً وَسَبْعِيْنَ سُوْرَةً، وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَداً أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللهِ مِنِّي تُبَلِّغُنِيْهُ الإِبِلُ لأَتَيْتُهُ.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود، قَالَ: مَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلاَّ وَأَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ نَزَلَتْ، وَفِيْمَا نَزَلَتْ
عَنْ عَبْدِ الله بن مسعود، قَالَ: كُنَّا إِذَا تَعَلَّمْنَا مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ آيَاتٍ، لَمْ نَتَعَلَّمْ مِنَ العَشْرِ الَّتِي نَزَلَتْ بَعْدَهَا حَتَّى نَعْلمَ مَا فِيْهَا -يَعْنِي: مِنَ العِلْم-.
عَنْ أَخِيْهِ عُبَيْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ إِذَا هَدَأَتِ العُيُوْنُ قَامَ، فَسَمِعْتُ لَهُ دَوِيّاً كَدَوِيِّ النَّحْلِ.
عَنْ زَيْدِ بنِ وَهْبٍ، قَالَ: رَأَيْتُ بِعَيْنَيْ عَبْدِ الله بن مسعود لهِ أَثَرَيْنِ أَسْوَدَيْنِ مِنَ البُكَاءِ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بن مسعود: لَوْ تَعْلَمُوْنَ ذُنُوْبِي، مَا وَطِئَ عَقِبِي اثْنَانِ، وَلَحَثَيْتُمُ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِي، وَلَوَدِدْتُ أَنَّ اللهَ غَفَرَ لِي ذَنْباً مِنْ ذُنُوْبِي، وَأَنِّي دُعِيْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ رَوْثَةَ.
أَنَّ ابْنَ مَسْعُوْدٍ كَانَ يَقُوْلُ فِي دُعَائِهِ: خَائِفٌ مُسْتَجِيْرٌ، تَائِبٌ مُسْتَغْفِرٌ، رَاغِبٌ رَاهِبٌ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُوْدٍ: لَوْ سَخِرْتُ مِنْ كَلْبٍ، لَخَشِيْتُ أَنْ أَكُوْنَ كَلْباً، وَإِنِّي لأَكْرَهُ أَنْ أَرَى الرَّجُلَ فَارِغاً لَيْسَ فِي عَمَلِ آخِرَةٍ وَلاَ دُنْيَا ا
أقوال الصحابة و شهادتهم له
عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ يَزِيْدَ، قَالَ: قُلْنَا لِحُذَيْفَةَ: أَخْبِرْنَا بِرَجُلٍ قَرِيْبِ السَّمْتِ وَالدَّلِّ بِرَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى نَلْزَمَهُ.
قَالَ: مَا أَعْلَمُ أَحَداً أَقْرَبَ سَمْتاً وَلاَ هَدْياً وَلاَ دَلاًّ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى يُوَارِيَهُ جِدَارُ بَيْتِهِ مِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ.
كَتَبَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ إِلَى أَهْلِ الكُوْفَةِ: إِنَّنِي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَمَّاراً أَمِيْراً، وَابْنَ مَسْعُوْدٍ مُعَلِّماً وَوَزِيْراً، وَهُمَا مِنَ النُّجَبَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، فَاسْمَعُوا لَهُمَا، وَاقْتَدُوا بِهِمَا، وَقَدْ آثَرْتُكُم بِعَبْدِ اللهِ عَلَى نَفْسِي.
عَنْ خَيْثَمَةَ، قَالَ: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، فَذَكَرَ ابْنَ مَسْعُوْدٍ، فَقَالَ: لاَ أَزَالُ أُحِبُّهُ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (اسْتَقْرِئُوا القُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدٍ - فَبَدَأَ بِهِ - وَأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بنِ جَبَلٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ).
عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: سَافَرَ عَبْدُ اللهِ سَفَراً يَذْكُرُوْنَ أَنَّ العَطَشَ قَتَلَهُ وَأَصْحَابَهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ، فَقَالَ: لَهُوَ أَنْ يُفَجِّرَ اللهُ لَهُ عَيْناً يَسْقِيْهِ مِنْهَا وَأَصْحَابَهُ أَظَنُّ عِنْدِي مِنْ أَنْ يَقْتُلَهُ عَطَشاً.
عَنْ أَبِي وَائِلٍ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُوْدٍ رَأَى رَجُلاً قَدْ أَسْبَلَ، فَقَالَ: ارْفَعْ إِزَارَكَ.
فَقَالَ: وَأَنْتَ يَا ابْنَ مَسْعُوْدٍ فَارْفَعْ إِزَارَكَ.
قَالَ: إِنّ بِسَاقَيَّ حُمُوْشَةً، وَأَنَا أَؤُمُّ النَّاسَ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، فَجَعَلَ يَضْرِبُ الرَّجُلَ، وَيَقُوْلُ: أَتَرُدُّ عَلَى ابْنِ مَسْعُوْدٍ؟
عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: أَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدٍ يَسْأَلُهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ رَاجَعَهَا حِيْنَ دَخَلَتْ فِي الحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ.
فَقَالَ أَبِي: وَكَيْف يُفْتِي مُنَافِقٌ؟
فَقَالَ عُثْمَانُ: نُعِيْذُكَ بِاللهِ أَنْ تَكُوْنَ هَكَذَا.
قَالَ: هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنَ الحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ.(/3)
عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ: إِنَّ أَبَا مُوْسَى اسْتُفْتِيَ فِي شَيْءٍ مِنَ الفَرَائِضِ، فَغَلِطَ، وَخَالَفَهُ ابْنُ مَسْعُوْدٍ.
فَقَالَ أَبُو مُوْسَى: لاَ تَسْأَلُوْنِي عَنْ شَيْءٍ مَا دَامَ هَذَا الحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُم.
سَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى يَقُوْلُ: مَجْلِسٌ كُنْتٌ أُجَالِسُهُ ابْنَ مَسْعُوْدٍ، أَوْثَقُ فِي نَفْسِي مِنْ عَمَلِ سَنَةٍ.
عَنْ مَسْرُوْقٍ، قَالَ: شَامَمْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَجَدْتُ عِلْمَهُمُ انْتَهَى إِلَى سِتَّةٍ: عَلِيٍّ، وَعُمَرَ، وَعَبْدِ اللهِ، وَزَيْدٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأُبِيٍّ.
ثُمَّ شَامَمْتُ السِّتَّةَ، فَوَجَدْتُ عِلْمَهُمُ انْتَهَى إِلَى عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللهِ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا دَخَلَ الكُوْفَةَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْفَعَ عِلْماً، وَلاَ أَفْقَهَ صَاحِباً مِنْ عَبْدِ اللهِ.
قَالَ عَلْقَمَةُ: جَلَسْتُ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنَ الكُوْفَةِ.
فَقَالَ: أَوَلَيْسَ عِنْدَكُمُ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ صَاحِبُ النَّعْلَيْنِ، وَالوِسَادِ، وَالمِطْهَرَةِ، وَفِيْكُمْ صَاحِبُ السِّرِّ، وَفِيْكُمُ الَّذِي أَجَارَهُ اللهُ مِنَ الشَّيْطَانِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ؟
وصيته قبل موته
عَنْ عَامِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: أَوْصَى ابْنُ مَسْعُوْدٍ، وَكَتَبَ: إِنَّ وَصِيَّتِي إِلَى اللهِ، وَإِلَى الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ، وَإِلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّهُمَا فِي حِلٍّ وَبِلٍّ مِمَّا قَضَيَا فِي تَرِكَتِي، وَإِنَّهُ لاَ تُزَوَّجُ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِي إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا.
وكَانَ ابن مسعود قَدْ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ بالمدينة، وَشَهِدَ فِي طَرِيْقِهِ بِالرَّبَذَةِ أَبَا ذَرٍّ، وَصَلَّى عَلَيْهِ.
وفاته
مَرِضَ عَبْدُ اللهِ، فَعَادَهُ عُثْمَانُ، وَقَالَ: مَا تَشْتَكِي؟
قَالَ: ذُنُوْبِي.
قَالَ: فَمَا تَشْتَهِي؟
قَالَ: رَحْمَةَ رَبِّي.
قَالَ: أَلاَ آمُرُ لَكَ بِطَبِيْبٍ؟
قَالَ: الطَّبِيْبُ أَمْرَضَنِي.
قَالَ: أَلاَ آمُرُ لَكَ بِعَطَاءٍ؟
قَالَ: لاَ حَاجَةَ لِي فِيْهِ.
دَخَلَ الزُّبَيْرُ عَلَى عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بَعْدَ وَفَاةِ عَبْدِ اللهِ، فَقَالَ: أَعْطِنِي عَطَاءَ عَبْدِ اللهِ، فَعِيَالُ عَبْدِ اللهِ أَحَقُّ بِهِ مِنْ بَيْتِ المَالِ.
فَأَعْطَاهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفاً.
إَنَّ ابْنَ مَسْعُوْدٍ أَوْصَى إِلَى الزُّبَيْرِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: مَاتَ ابْنُ مَسْعُوْدٍ بِالمَدِيْنَةِ، وَدُفِنَ بِالبَقِيْعِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِيْنَ، وَكَانَ نَحِيْفاً، قَصِيْراً، شَدِيْدَ الأُدْمَةِ.(/4)
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز
ـ 1 ـ
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
هذا واحد من أولئك الرجال الذين قد لا نعرف عنهم الكثير... وإنه لامرؤ ـ فيما عرفنا عنه ـ قد أسلم نفسه لله ... فكان سعيه دائماً لمرضاته ... وأيقن بالآخرة ... فجعل من أعماله مركباً يوصله إليها ... ومن أجل هذا هانت عليه الدنيا ... وكان الحق كبيراً كبيراً في نظره ... وأصبح صاحب الكلمة المسموعة عند والده خامس الخلفاء الراشدين رحمه الله ... لما أنه ينطق بلسان أهل الآخرة ... مستعلياً على كل الحطام الذي يختصم فيه الناس ويقطعون أرحامهم ... وبذلك استطاع ـ أكرم الله مثواه ـ أن يكون صداعاً بالحق لا يخاف في الله لومة لائم ... مطمئن النفس إلى ما عند مولاه عز وجل فهو في تطلعاته وآماله يسير على الأرض ... وكأنه ليس من العاجلة الفانية في قليل ولا كثير... فشغله الشاغل أن يكون في مرضاة الله عبادة وعملاً ... حتى ذكر أنه ـ بسلوكه ـ قد أثر في نهج والده من حيث العبادة ... والتخلق في العمل بأخلاق أهل الآخرة .
حدث يعلى المحاربي عن بعض مشيخة أهل الشام قال :
(كنا نرى أن عمر بن عبد العزيز إنما أدخله في العبادة ما رأى من ابنه عبد الملك)
ولقد كان من أحب الناس إليه رحمهما الله . وقال ابن عبد الحكم : أعان الله عمر بن عبد العزيز بثلاثة أحدهم ابنه عبد الملك . توفي سنة 101 هـ قبيل وفاة أبيه .
ولكم كان عمر رضي الله عنه ـ وقد أدرك ما عليه ولده ـ دقيق النظرة ، متأنياً في السماع لما يقول ، فتراه يقدر شجاعته في الحق قدرها وفي الوقت نفسه يعمل على حسن التوجيه والموعظة . فعن خالد بن يزيد عن جعونة قال : دخل عبد الملك على أبيه عمر فقال :
يا أمير المؤمنين ماذا تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقاً لم تحيه ، وباطلاً لم تمته ؟
قال : اقعد بنيّ إن آباءك وأجدادك خدعوا الناس عن الحق ، فانتهت الأمور إلي ، وقد أقبل شرها وأدبر خيرها ، ولكن أليس حسبي جميلاً أن لا تطلع الشمس علي في يوم إلا أحييت فيه حقاً ، وأمت فيه باطلاً حتى يأتيني الموت وأنا على ذلك .
ورضي الله عن عمر، فقد كان كثير الشكر لمولاه على ما أنعم بواحد من أولاده كعبد الملك فيما كان عليه من صدع بالحق وحب للخير وحس مرهف في رد المظالم هذا إسماعيل بن حكيم كاتب الخليفة عمر بن عبد العزيز بالمدينة والشام يقول : دخل عبد الملك على أبيه عمر فقال :
أين وقع رأيك فيما ذكر لك مزاحم من رد المظالم ؟
قال : علي إنفاذه ، فرفع عمر يديه ثم قال : الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني ، نعم يا بني أصلي الظهر إن شاء الله ثم أصعد المنبر فأردها على رؤوس الناس ،
فقال عبد الملك : يا أمير المؤمنين من لك بالظهر، ومن لك يا أمير المؤمنين إن بقيت أن تسلم لك نيتك للظهر؟
قال عمر: فقد تفرق الناس للقائلة ،
فقال عبد الملك : تأمر مناديك فينادي : الصلاة جامعة حتى يجتمع الناس ،
فأمر مناديه ، فنادى ، فاجتمع الناس ، وقد جيء بسفط أو جونة فيها تلك الكتب ، وفي يد عمر جلم يقصه حتى نودي بالظهر.
وفي رواية أنه قال : يا أبت قد أخرت أموراً كنت أحسبك لو وليت ساعة من النهار عجلتها ، لوددت أنك قد فعلت ذلك ولو فارت بي وبك القدور .
ألا نعم الولد والوالد ... ورحم الله أفضل رحماته عمر بن عبد العزيز وابنه عبد الملك .. روى أبو عمر والحزري عن أبي عبلة أن عمر جلس يوماً للناس ، فلما انتصف النهار أصابه الكلال ومل ، فقال للناس : مكانكم حتى أنصرف إليكم ، فدخل ليستريح فجاء ابنه عبد الملك ، فسأل عنه فقالوا : دخل ، فاستأذن عليه فأذن له ، فلما دخل ، قال يا أمير المؤمنين ما أدخلك قال : أردت أن أستريح ساعة ، قال : أو أمنت الموت أن يأتيك ورعيتك على بابك ينتظرونك ، وأنت محتجب عنهم ؟ فقام عمر من ساعته ، وخرج إلى الناس .
تلك هي صياغة الإسلام لأولئك الذين رسموا في تاريخنا معالم الحق ... وما أحوج أمتنا لأمثال هذه النماذج من الربانيين في مخافتهم من الله ، وشعورهم بثقل الأمانة الملقاة على عواتقهم في سياسة الرعية ... والنظر إلى الآخرة ويوم الحساب قبل النظر إلى أن تكون الولاية مغنماً وفرصة سانحة لكذا ... ولكذا ... ولا حول ولا قوة إلا بالله ...
ـ 2 ـ
هكذا يسعد القلب بحديث هؤلاء الأبرار.. وتطرب النفس لجميل آثارهم .. ويرى كل من في قلبه ذرة من غيرة على هذه الأمة أن سيرة هؤلاء الربانيين عنصر هام من عناصر التكوين والإعداد على طريق التربية المحمدية علماً وعملاً إن شاء الله ...
ولقد أشرنا في العدد الماضي إلى أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان حفياً بآراء ولده عبد الملك ، وما يشير به من إسراع في إنفاذ الخير ورد المظالم ، واغتنام الحياة قبل الموت ، فربما فجأ الأجل ولم تصل الحقوق إلى أصحابها بعد ، وكيف أن عمر رحمه الله قال مرة : الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني .(/1)
ونرى اليوم مع هذه الكلمات كلام عمر رضي الله عنه في ولده حين وافته المنية إذ كل نفس ذائقة الموت ... حيث نرى كريم تقدير الوالد للولد . على أساس من مقاييس الخير والدعاء له بالمغفرة والرحمة ، كما نرى كمال الرضا بقضاء الله وقدره ، وحسن التسليم لأمره فيما أخذ وفيما أعطى إذ أنه المحمود على كل حال .
قال زياد بن أبي حسان ـ وقد شهد عمر بن عبد العزيز حيث دفن ابنه عبد الملك لما دفنه وسوى عليه قبره بالأرض وضعوا عنده خشبتين من زيتون إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه ، ثم جعل قبره بينه وبين القبلة واستوى قائماً ، وأحاط به الناس ، فقال :
(رحمك الله يا بني لقد كنت باراً بأبيك ، والله ما زلت منذ وهبك الله لي مسروراً بك ، ولا والله ما كنت قط أشد بك سروراً ، ولا أرجى بحظي من الله فيك منذ وضعتك في هذا المنزل الذي صيرك الله إليه ، فرحمك الله وغفر لك ذنبك وجزاك بأحسن عملك ، ورحم الله كل شافع لك بخير من شاهد أو غائب . رضينا بقضاء الله ، وسلمنا لأمر الله ، والحمد لله رب العالمين) ثم انصرف .
وعن عبد الجبار العطار حدثنا حزم قال : بلغنا أن عمر كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن في شأن ابنه عبد الملك حين توفي :
(أما بعد : فإن الله تبارك اسمه وتعالى ذكره ، كتب على خلقه حين خلقهم الموت ، وجعل مصيرهم إليه ، فقال فيما أنزله من كتابه الصادق الذي حفظه بعلمه ، وأشهد ملائكته على حقه ، أنه يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون . ثم قال لنبيه عليه السلام : [وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفئن مت فهم الخالدون] ثم قال : [منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى] فالموت سبيل الناس في الدنيا ، لم يكتب الله لمحسن ولا لمسيء فيها خلداً ، ولم يرض ما أعجب أهلها ثواباً لأهل طاعته ، ولم يرض ببلائها نقمة لأهل معصيته ، فكل شيء منها أعجب أهلها ، أو كرهوا منه شيئاً متروك ، لذلك خلقت حين خلقت ، ولذلك سكنت منذ سكنت ، ليبلو الله فيها عباده أيهم أحسن عملاً ، فمن قدم عند خروجه من الدنيا إلى أهل طاعته ورضوانه من أنبيائه وأئمة الهدى الذين أمر الله نبيه بهداهم .. خالد دار المقامة من فضله ، لا يمسه فيها نصب ، ولا يمسه فيها لغوب . ومن كانت مفارقته الدنيا إلى غيرهم وغير منازلهم ، فقد قابل الشر، وأقام على ما لا قبل له به . أسأل الله برحمته أن يبقينا ما أبقانا في الدنيا مطيعين لأمره ، متبعين لكتابه ، وجعلنا إذا خرجنا من الدنيا إلى نبينا ومن أمرنا أن نقتدي بهداه من المصطفين الأخيار، وأسأله برحمته أن يقينا أعمال السوء في الدنيا والسيئات يوم القيامة .
ثم إن عبد الملك بن أمير المؤمنين كان عبداً من عباد الله أحسن الله إليه في نفسه ، وأحسن إلى أبيه فيه ، أعاشه الله ما أحب أن يعيشه ، ثم قبضه إليه حين أحب أن يقبضه ، وهو فيما علمت بالموت مغتبط ، يرجو فيه من الله رجاء حسناً ، فأعوذ بالله أن تكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله ، فإن خلاف ذلك لا يصلح في بلائه عندي وإحسانه إلي ، ونعمته علي ، وقد قلت فيما كان من سبيله والحمد لله ، ما رجوت به ثواب الله وموعده الصادق من المغفرة ؛ إنا لله وإنا إليه راجعون ، ثم لم أجد والحمد لله بعده في نفسي خيراً من رضى بقضاء الله ، واحتساب لما كان من المعصية ، فحمداً لله على ما مضى وعلى ما بقي ، وعلى كل حال من أمر الدنيا والآخرة .
أحببت أن أكتب إليك بذلك وأعلمك من قضاء الله ، فلا أعلم ما عليه في شيء من قبلك ، ولا اجتمع على ذلك أحد من الناس ، ولا رخصت فيه لقريب من الناس ولا لبعيد ، واكفني ذلك بكفاية الله ، ولا ألومنك فيه إن شاء الله والسلام عليك .
مرة ثانية وثالثة ... وبلا حدود ... رحم الله عبد الملك ورحم والده عمر بن عبد العزيز الذي كان ربانياً في ساعات الحكم والسلطة ... في ساعات العسر واليسر... عند النعمة تفيض عليه .. وعند المصيبة تصيبه .. ويا نعم ما علّم هؤلاء الرجال ... وكانوا قدوة بأقوالهم وأفعالهم وهم على إرث النبوة .
والخير كل الخير في العمل على الانتفاع بهذا النهج الذي هو على ذلك الإرث العظيم إرث النبوة . والله يتولى الصالحين .
الهوامش :
*" حضارة الإسلام " السنة 16 العدد الخامس والسادس رجب وشعبان 1395 آب ـ أيلول ـ 1975 .(/2)
عبد الواحد بن زيد
ـ 1 ـ *
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
كان من إكرام الله لهذه الأمة المحمدية أن فتح لها بالقرآن مغاليق القلوب ومهد لها معارج الصلة بين العبد وربه سبحانه .. حتى بت ترى على مدى التاريخ رجالاً يعلمون الناس بالعمل قبل القول وبالسلوك قبل الموعظة ، معاني الصلة بالله عز وجل ويسلكون بهم سبل القرب إليه سبحانه وتعالى . ومن هؤلاء الرجال : عبد الواحد بن زيد الذي كان معاصراً لصالح المري وعتبة الفلاح وأضرابهما .
لم يقتصر جهاده رحمه الله على ميدان واحد وإنما كان يخوض معارك الجهاد مع الأعداء ولا يني يجاهد نفسه ليحملها دائماً على الجادة ، وينأى بها عن كل ما يصرفه عن مراتب المحبين في تطلع دائم إلى دار الكرامة يوم يصدق في المؤمنين قوله تعالى : [وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة] .
ولم يكن ـ رحمه الله ـ يحب أن يستأثر بتلك الأذواق الإيمانية والتنقل في مدارج السالكين وحده ، وإنما يريد أن يكون إخوانه وأحباؤه ممن تغمرهم تلك الرحمات ، وتسعدهم تلك النفحات ..
حدث عبد الله بن عبيد عن مضر القارئ قال : سمعت عبد الواحد ابن زيد يقول :
وعزتك لا أعلم لمحبتك فرحاً دون لقائك والاشتفاء من النظر إلى جلال وجهك في دار كرامتك .. فيا من أحل الصادقين دار الكرامة ، وأورث المبطلين منازل الندامة ، اجعلني ومن حضرني من أفضل أوليائك زلفى وأعظمهم منزلة وقربا .. تفضلاً منك علي وعلى إخواني ، يوم تجزي الصادقين بصدقهم جنات قطوفها دانية ، متدلية عليهم ثمرها .
وليس بدعاً أن تعمل الطاعة عملها في قلب عبد الواحد ، فيطلق لسانه بالحكمة وتسلم له مقاييس أهل الآخرة . قال مسمع بن عاصم : شهدت عبد الواحد بن زيد عاد مريضاً من إخوانه فقال : ما تشتهي ؟ قال : الجنة . قال : فعلام تأسى على الدنيا إذا كانت هذه شهوتك ؟ قال : آسى والله على مجالس الذكر ومذاكرة الرجال بتعداد نعم الله ! قال عبد الواحد : هذا والله خير الدنيا وبه يدرك خير الآخرة .
ولقد كان من حبه للجهاد وأنه طريق المؤمن إلى الجنة يذكر قول الحسن رحمه الله :
لكل طريق مختصر، ومختصر طريق الجنة الجهاد .
وعلى سنة أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كان الجهاد في النهار لا يشغله عن العبادة وصحبة كتاب الله في الليل شأن أولئك الذين كانوا رهباناً في الليل أسوداً في النهار، وتلك هي الفتوة في تاريخ الإسلام ، قال أبو عاصم العباداني حدثني عبد الواحد بن زيد قال :
كنا في غزاة لنا ونحن في العسكر الأعظم ، فنزلنا منزلاً ، فنام أصحابي وقمت أقرأ جزئي ـ أي حصته من القرآن الكريم ـ قال : فجعلت عيناي تغلبانني وأغالبهما حتى استتممت جزئي. فلما فرغت وأخذت مضجعي قلت : لو كنت نمت كما نام أصحابي كان أروح لبدني فإذا أصبحت قرأت جزئي . قال : فقلت هذه المقالة في نفسي والله ما تحركت بها شفتاي ، ولا سمعها أحد من الناس مني ، قال : ثم نمت فرأيت في منامي كأني أرى شاباً جميلاً قد وقف علي وبيده ورقة بيضاء وكأنها الفضة ، فقلت : يا فتى ما هذه الورقة التي أراها بيدك ؟ قال : فدفعها إلي فنظرت فإذا مكتوب فيها :
ينام من شاء على غفلة والنوم كالموت فلا تتكل
تنقطع الأعمال فيه كما تنقطع الدنيا عن المنتقل
قال : وتغيب الفتى عني فلم أره ! قال : فكان عبد الواحد يردد هذا الكلام كثيراً ويبكي ، ويقول : فرق النوم بين المصلين وبين لذتهم في الصلاة ، وبين الصائمين وبين لذتهم في الصيام ..
ويذكر أصناف الخير..
ذلكم هو الإعداد النفسي للمجاهد في الإسلام .. قتال لأعداء الله وجهاد للنفس كيما تكون وقافة عند حدود رب العالمين الذي يقاتل المؤمن تحت رايته ويجاهد في سبيله ..
ويكرم الله عباده الصالحين بمزيد من الثبات ... والاستقامة على الطريق الذي يوصلهم إلى واحة المحبة ، فهم يذكرون ويخشعون ويتلون كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار ويناجون ويتقربون إلى الله بالنوافل وبذلك يفوزون بنعيم المحبة محبة الله تبارك وتعالى لهم مصداقاً لما جاء في الحديث القدسي:
" ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ...الحديث " (1)
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
ـ 2 ـ **
ولكم دعا عبد الواحد بن زيد إلى الإخلاص في العمل ، ثمرة تذوقه لمعناه وأبعاده ؛ وكان يربط الإجابة به فيقول : الإجابة مقرونة بالإخلاص لا فرقة بينهما .
وعندما يتحدث عبد الواحد عن الصبر والرضا وعن المحبة والرجاء تراه كأنه يغترف من معين العطاء الإلهي ، ونحس من كلماته ذلك الندى الذي يخلفه صدق التوجه إلى الله .
قال خلف بن يزيد القسام : سمعت مضر القارئ يقول : قال لي عبد الواحد بن زيد : ما أحسب شيئاً يتقدم الصبر إلا الرضا ، ولا أعلم درجة أرفع ولا أشرف من الرضا ، وهو رأس المحبة .(/1)
ويريد لنفسه وللسالكين طريق تزكية النفس والتربية الإيمانية قدراً أكبر من العزيمة وصدق النية فيما يريدونه ويتوجهون إليه . فإذا رسخت أقدامهم على طريق أهل الفتوة وخلصت نياتهم ، وصدقت عزائمهم كان لهم عند الله ما يريدون . وهؤلاء هم الذين يجمعون دائماً بين الخوف والرجاء يعملون ما وسعهم العمل .ويحسنون الظن بمن أسلموا الوجه إليه .فسائله لا يخيب . ويداه مبسوطتان بالعطاء سبحانه. يقول حكيم بن جعفر: سمعت مسمع بن عاصم قال : قال عبد الواحد بن زيد : من نوى الصبر على طاعة الله صبره الله عليها ، ومن نوى الصبر عن معاصي الله أعانه الله على ذلك وعصمه منها .
وكل الطاعات ـ بعد كونها التزاماً بأوامر الشريعة ـ لابد أن تكون طريق الأنس بالله والرضا عنه في كل الحالات . والقناعة الكاملة بما عنده سبحانه ، وإلا كان العمل مدخولاً لا يتجاوز الخروج من العهدة وكفى . وتلك هي مرحلة الذوق الحقيقي لمعنى العبادة والطاعة . حيث لا يجد العابد أنه إلا بمولاه. ولا يعرف إلا الرضا عن الله . ولا مكان في نفسه لغير القناعة بما تجود به العناية الإلهية فالخير منه وإليه سبحانه . وهو المعطي المتفضل على كل حال . قيل لعبد الواحد بن زيد : إن بالبصرة رجلاً يصلي ويصوم منذ خمسين سنة . وحين لقيه قال له : هل قنعت منه بعد ؟ قال : لا ! قال : فهل رضيت عنه ؟ قال : لا ! قال : فهل أنست به بعد ؟ قال : لا ! قال : فإنما ثوابك من عملك التزيد في الصوم والصلاة ؟ قال :نعم ! قال : لولا أني أستحي منك لأعلمتك أن عملك مدخول .
وفي يقين هذا الرجل الرباني أن من قدر على اقتحام العقبة ، فصبر لمحبة الله على هواه لم يكن الله ليخيب صبره ، ومن ظن غير ذلك فقد أساء الظن بربه . والله تعالى يقول في الحديث القدسي : " أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه، فإذا ذكرني " (2) قال عبد الواحد : يا سيار، أتراك تصبر لمحبته على هواك فيخيب صبرك ؟ لقد أساء بسيده الظن من ظن به هذا وشبهه ، يقول الرجل : ثم بكى عبد الواحد حتى خفت أن يغشى عليه ، ثم قال : بأبي أنت يا مسمع نعمة غادية ورائحة على أهل معصيته ، فكيف ييأس من رحمته أهل محبته !!
ألا ما أكرم أن يكون من ندير الحديث عنه رحمه الله قدوة العالمين والسالكين ، لما أنه على قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . الذين تجافت جنوبهم عن المضاجع والناس نيام . وقاتلوا أعداء الله ما وسعتهم القدرة على ذلك فجمعوا الخير من أطرافه ، وكان لهم شرف الجهاد في شتى ميادينه .
ورحمك الله يا ابن زيد عابداً زاهداً في الدنيا ، وخاشعاً تتلو كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار، ومجاهداً صادقاً تتقرب إلى الله بإعلاء كلمته ، وقتال الكفرة المظاهرين عن الحق ، وزادك من فضله في دار كرامته ، إنه أكرم مسؤول وأعظم مأمول ، والحمد لله رب العالمين.
الهوامش :
* " حضارة الإسلام " السنة 15 شعبان 1394 أيلول 1974 العدد 6
(1)روى البخاري في الجامع الصحيح (كتاب الرقاق . باب التواضع) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله قال : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه واستعاذني لأعيذنه . وما ترددت عن شيء أنا فاعله .. الحديث ".
** " حضارة الإسلام " العدد الثاني السنة الخامسة عشرة شوال 1394 تشرين الثاني 1974 .
(2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى عليه وسلم : " يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً ، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً وإن أتاني ماشياً أتيته هرولةً " رواه البخاري في كتاب التوحيد والجامع الصحيح انظر الجامع الصحيح مع فتح الباري (13/384) ومسلم (4/2061) باب الذكر والدعاء والترمذي (7/581) باب حسن الظن بالله عز وجل من كتاب الدعوات .(/2)
عبرة من تاريخ الدولة العثمانية
الكاتب: الشيخ د.سعيد بن ناصر الغامدي
بسم الله الرحمن الرحيم
في تاريخ الأمم عبر وعظات لمن ألقى السمع وهو شهيد , ومن تاريخنا نحن المسلمين الدولة العثمانية التي حكمت معظم بلاد الإسلام قروناً عديدة , ثم أصابها الوهن والضعف وانحل جسدها حتى انهدم وتلاشى
ويذكر المؤرخون بأن من بدايات مرض الدولة العثمانية تطبيقاتها المخالفة لإعلاناتها , فقد كانت الآستانة تعلن تطبيق الإسلام في كل شؤون الحياة , ثم تصدر الأوامر التنفيذية بعكس ذلك أحياناً , وكانت البداية في عهد سليمان القانوني, ثم تفاقم الأمر واتسعت المسافة بين الشعار المعلن والتطبيق المنفذ في الواقع , فساء ظن العلماء والقضاة بالدولة , ثم ساء ظن الناس بها , وبدأ التمرد داخلياً يتراكم حتى انفجر بثورات في اليمن والحجاز ونجد وبلاد الشام وطرابلس , وأخذت الدولة العثمانية تفقد مصداقيتها لدى الناس قليلاً قليلاً , وطفق الثائرون ضدها يحركون المشاعر ويهيجون العواطف مستغلين المظالم والمفاسد الإدارية , معلقين ذلك كله على شماعة تخلي الدولة العثمانية عن أحكام الإسلام وتطبيقاته , والذي يطلع على ما كتب في بلاد الشام ومصر ونجد في فترات الصراع بين من يدعو لبقاء الدولة وإصلاح مفاسدها , ومن ينادي بزوالها لأنها تعلن مالا تطبق , يجد أن الآستانة أسأت إلى نفسها من حيث ظنت أنها تتقدم وتتحضر , وأخلت بجوهر مشروعيتها من حيث اعتقدت أنها تسكت الأعداء أو تنال رضاهم .
وأنست بقول ضعفاء العلم والإيمان , واستبعدت من يذكرها وينبهها , وفرحت بضعف العلماء والقضاة واستخذائهم , فكان ذلك من أسباب وهنها وضعفها ثم تلاشيها .
ومما يستخلص من هذا :
أن للدولة كما للإنسان (طاقة أصلية جوهرية) و(طاقة حيوية عملية ) والكمال والقوة والنشاط استمرار الطاقتين معاً وتعاضدهما , والضعف والوهن يأتي إذا أصيبت الطاقة الحيوية العملية , مثل تعطل عضو من أعضاء الإنسان , ولكن الهلاك والموت بأتي إذا أصيبت الطاقة الأصلية الجوهرية , مثل طاقة القلب والدماغ, والتي يمثلها في الدول أساس الدولة ومصدر مشروعيتها وسبب بقائها , مثل النظام الأساسي والدستور والقضاء والعدالة , والتي ليس عند المسلمين مصدراً لها غير الكتاب والسنة (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب(/1)
عبقرية خالد العسكرية
(الشبكة الإسلامية) الشيخ علي طنطاوي ـ بتصرف
ليست سيرة أبي بكر ، ولا سيرة عمر ، وليست سيرة سعد وخالد ، وأولئك الأبطال العظماء - رضي الله عنهم - إلا فصولاً متشابهة ، أو نسخًا مكررة ، من سيرة المعجزة الكبرى في تاريخ البشر ، سيرة الانبعاث الأعظم لقوى الخير في الإنسان ، سيرة الفتح الذي حير نوابغ القواد ، وأعلام المؤرخين .
سيرة الصحارى المتسعرات المقفرات ، التي لبثت دهورًا لا تسقى بغير الدم ، ولا تنبت غير الأحقاد والثارات ، فلما مرّت يد محمد - صلى الله عليه وسلم - على هذه الصحارى ، أنبتت رمالها الدوحة الباسقة التي ظللت الشام ذات الأعناب ، والعراق ذات النخيل ، ومصر ذات النيل ، والقسطنطينية ذات الأبراج والقباب ، وما شرّق من الأرض وما غرّب ، دوحة العدل والحضارة والخير .
سيرة (الجندي) الذي كان منزويًا وراء الرمال ، نائمًا في وهج الشمس ، لا يعرف المجد إلا في الحب والحرب ، في كأس أو قصيدة ، أو غزوة سلب ونهب ، فلما هذبته مدرسة محمد - صلى الله عليه وسلم - صيرته الجندي الأكمل في تاريخ الحروب ، لم يعرف التاريخ جنديًا أخلص منه لفكرته ، ولا أقدم منه إلى غايته ، ولا يعرف نفسًا أطهر من نفسه ، ولا سيفًا أمضى من سيفه ، الجندي الذي مشى في كل وادٍ ، وصعد كل جبل ، خاض البحار ، وعبر الأنهار ، وجاب الأرض كلها ، حتى نصب للإسلام على كل رابية راية ، وأبقى للإسلام في كل أرض وطنًا لا تقوى على استلابه من أهله مردة الشياطين .
المدرسة التي أخرجت هؤلاء القواد الذين دانوا التاريخ ، وكانوا أعاجيب في الذكاء والمضاء والعبقرية ، وما تعلموا في كلية عسكرية ، ولكنهم تعلموا في هذه المدرسة فخرجوا منها بـ (شهادة) الدنيا التي فتحوها ، والحضارات التي أقاموها ، والمآثر التي تركوها ، أعظم القواد وأجل الأبطال سعد هادم عرش الطغيان الفارسي في القادسية ، وعمرو باني صرح الحضارة الإسلامية في مصر ، وابن نافع بطل المغرب ، وقتيبة وابن القاسم بطلا المشرق ، والعشرات الذين ساروا في موكب النبوغ العسكري العربي إلى سوح الخلود ، وكان أعظمهم بلا جدال ، بل كان أعظم قائد في التاريخ القديم كله بشهادة نابليون ، وغيره ، وشهادة سيرته وأخباره وشهادة من سماه الرسول صلى الله عليه وسلم (سيف الإسلام) وحسبكم بها وحدها شهادة : خالد بن الوليد - رضي الله تعالى عنه - .
خالد - رضي الله عنه - الذي بدأ نبوغه العسكرية من صغره ، فكان قائد فرسان قريش ، ولولا الإسلام ، لبقي نبوغه حبيس مكة ، واسمه لقريش وحدها ، ولكان منتهى أمره أن يكون فارس قبيلته ، ولولا الإسلام لما خرج نبوغ خالد من بوادي الحجاز ، خاض خالد - رضي الله عنه - المعارك حياته كلها فما أخطأه النصر ، ولا أفلت منه بعدما ظن أنه أمسكه بيده إلا مرة واحدة كان خصيمه فيها رجلاً لا يقاس به الرجال ، وكان خصمه رجلاً لا يعاب أحد بالهزيمة أمامه ؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يحارب الله ورسوله .
أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرماة في أُحد ، على الجبل ، وأمرهم ألا يزايلوه ، فلما انهزمت قريش وولت ، وأقبل المسلمون على الغنائم ، وخالف الرماة وظنوا أنه النصر الأكيد ، رأى ذلك خالد ، وكان قائد فرسان قريش ، فوثبت عبقريته وتيقظت ، لتحوّل هزيمة قريش نصرًا ، وهجم فزلزل بعض المسلمين وفوجئوا وهربوا ، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف أمامه بقليل من الرجال المثخنين بالجراح ، المحطمين من التعب ، فلم يستطع خالد بعبقريته وفرسانه اختراق هذا السد من الأجساد ؛ لأن في هذه الأجساد إيمانًا بالله تعالى وإيمانًا برسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وإذا كان البارود يرتد أمام الأسمنت المسلح بالحديد ، فإن قوى الشرى كلها ، والقنبلة الذرية معها ، ترتد كلها أمام اللحم والدم ، إذا كان مسلحًا بالإيمان .
وكان خالد - رضي الله عنه - يعلم مدى نبوغه وقدرته ، فلما رآها لم تصنع شيئًا ، ورأى النصر قد انتزع بعدما صار في كفه ، تيقن أنه ليس أمام بشر مثله ، ولكنه حيال شيء فوق البشرية ، وما طالت به الأيام حتى علم أنها النبوة .
وضعفت عبقرية الأرض أمام وحي السماء ، وأسلم خالد - رضي الله عنه - إسلام اقتناع ويقين ، ونقله الإسلام من أفق إلى أفق ، ورفعه من جوّ إلى جوّ ، حتى أشرف به على الدنيا كلها فأراها هذه العبقرية التي كانت حبيسة في بطن مكة لا تراها الدنيا .
كان يرى الظفر ، أن تنكل قبيلة من العرب ، بقبيلة من العرب ، وأن يذبح العربي ابن عمه العربي ، ابتغاء الغزو ، أو إظهار الشجاعة ، أو طمعًا بغنيمة وكسب ، فصار بعد الإسلام يرى الظفر في أن يدفع عن الحق ، أعداء الحق ، ولو كان أشد قوة ، وأعز نفرًا ، وكان أول امتحان له في الدرس الجديد الذي تلقاه في مدرسة محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم مؤنة .(/1)
حين التقى ثلاث آلاف عربي ، ممن تخرج في هذه المدرسة ، بمائتي ألف ، وحين قضى القائد الإسلامي زيد شهيدًا في المعركة ، فأخذ الراية خلفه جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقضى ، فأخذ الراية عبد الله بن أبي رواحة - رضي الله عنه - فقضي ، فلم يجدوا من يولونه القيادة إلا خالدًا - رضي الله عنه - .
وحمل الراية ، وما معه إلا بقية الثلاث آلاف ، وحوله من العدو مائتي ألف ، وليس في الدنيا قائد يستطيع أن ينقذ هذه القبضة من الرجال ، من وسط هذا اللج ، إلا أن يأتي بأعجوبة ، وقد أتى بها خالد - رضي الله عنه - .
واستطاع أن يخرج من لجة البحر من غير أن يبتل ، وأن (ينسحب) من وسط اللهب من غير أن يحترق ، وأن يسجل للذكاء العربي ، الذي هذبه الإسلام هذه المنقبة في تاريخ الحروب .
ولم تكن بعد ذلك معركة في تاريخ الجهاد الإسلامي ، إلا كان فيها خالدٌ - رضي الله عنه - البطل المعلم ، والقائد العبقري ، ويوم نفخ الشيطان في آناف الأعراب فارتدوا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا أن يزلزلوا بناء الإسلام ، كان من نعم الله تعالى على خالدٌ - رضي الله عنه - أن جعل على يديه تثبيت البناء ، وأن يرد عنه عادية المخربين .
فلما استقر الأمر في الجزيرة ، وثبت العرب على الإسلام ، وكتب الله لهم شرف حمل النور الهادي ، الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى آفاق الأرض ، ليضيئوا القلوب بالإيمان ، والعقول بالعلم ، والأرض بالعدالة والأمان ، كان خالد - رضي الله عنه - في مقدمة الأبطال الذين قادوا هذا الزحف المبارك ، فمشى أولاً إلى العراق ، ليواجه الدولة الطاغية المتجبرة ، دولة كسرى ، فخاض في سلسلة من الوقائع المظفرة ، كانت المعارك الأولى التي صدعت هذا الصرح العالي .
ولما جاءه أمر الخليفة بأن يذهب إلى الشام ، أتى بما لم يأت بمثله إلا نفر من عباقرة القواد في تاريخ الحروب في الدنيا ، حين اقتحم البادية ، بادية الشام .
ومن المعروف أن الجيش العربي أجرأ جيش وأخفه وأسرعه انتقالاً ، شهد بذلك الأصدقاء والأعداء على السواء ، ولكن الجيش العربي لم يعرف حركة أجرأ ولا أسرع ولا أعجب من انتقال خالد - رضي الله عنه - بعشرة آلاف من العراق (من الحيرة) إلى الشام ، مخترقًا الصحراء التي ليس فيها نقطة ماء إلا ما حمله على ظهور الإبل ، وما ابتكره من حمل الماء في بطونها ، وكان جنده يطيعونه ويتبعونه راضين واثقين ولو كلفهم خرط القتاد ، رحلة عجيبة لا يتسع الوقت لوصفها ، فارجعوا إلى من شئتم من المؤرخين فسألوهم ما خبرها ، تسمعوا قصة من أروع قصص المغامرة ، ومثلاً من أعلى أمثلة الرجولة والعزم .
وماذا تظنون صنع بعدما وصل ديار الشام ؟
إن الواحد منا يقطع هذا الطريق اليوم بالسيارة مضطجعًا ، يأكل ويتحدث وينام ، وعنده المدفأة في الشتاء ، والمروحة في الصيف ، فلا يشكو بردًا ولا حرًا ، ثم إذا وصل استلقى من تعبه على الفراش ، وخالد - رضي الله عنه - قطعها على ظهور الإبل ، تحت شمس الهاجرة ، ووسط برد الليل ، مع الجوع والعطش والخوف ، فلما وصل رأى أمامه جيشًا كثيفًا من الروم ، وجيشًا أكثف منه يتجمع قريبًا منه ، والمسلمون فصائل ليس لها قيادة موحدة ، فما شكا تعبًا ، ولا ابتغى راحة ، ولا انتظر الأوامر من المدينة ، بل حمل التبعة كاملة ، وبادر إلى العمل ، فجمع الفصائل الإسلامية وقادها ، وعمد إلى الجيش الرومي الأدنى ، فضربه في (أجنادين) ضربة أذهبت روعه ، وأطارت صوابه ، ومزقته شر ممزق ، ثم وثب إلى الجيش الآخر في (اليرموك) .
واليرموك هو اليوم الأغرّ في سيرة خالد - رضي الله عنه - وهو من أيام الإسلام المعدودات .
وكان العرب لا يزيدون على خمسة وأربعين ألفًا ، سلاحهم ضعيف ، ومنزلهم بعيد ، والميرة والمدد منقطعان عنهم إلا أن ينتظروا أيامًا لا تنتظرها المعركة ، والروم نحو مائتي ألف ، قد احتلوا من اليرموك موقعًا حصينًا ، ومعهم الذخائر والميرة ، وهم في بلاد كانوا يحكمونها ، ويملكون مواردها وخيراتها ، وإن تكن بلادًا عربية من الأزل ، وكانوا على تعبئة فنية ، والعرب بشجاعتهم ، وقوة قلوبهم ، لا يعرفون التعبئة ، إنما يعرفون الهجوم هجوم النمر الكاسر .
ولم يكن خالد -رضي الله عنه - رأى تعبئة حربية من قبل ، فلما رآها لم يُستَطر لبه ، ولم ينخلع قلبه ، بل أحاط بها بنظره ، وتعلمها في لحظة ، وعبأ الجيش العربي تعبئة كانت هي الأولى في تاريخ العرب .
فانظروا إلى عبقرية خالد - رضي الله عنه - حين تعلم من نظرة ، ما تفنى الأيام ، وتنقطع السنون دون تعلّمه ، وإلى مرونة الجيش العربي ، وذكائه وسرعة اقتباسه ، حين تلقى هذا الدرس من مرة واحدة ، وأدى فيه - الامتحان - العاجل ، وكان من الناجحين .
وطهرت هاتان المعركتان أرض الشام من الروم ، وعادت عربية مسلمة ، وكانت إحدى حسنات خالد - رضي الله عنه - .(/2)
واسمعوا الآن خبر أعظم نصر ناله خالد - رضي الله عنه - : لقد انتصر على خصوص قريش في الجاهلية ، وانتصر على مشركي قريش في الإسلام ، وانتصر على المرتدين حتى ردّهم عن ردّتهم ، وأيقظهم من سكرتهم فعادوا إلى طريق الحق والهدى ، وصاروا جندهما وأعوانهما ، وخضع لعبقريته أكبر جيشين عرفهما التاريخ القديم ، جيش كسرى وجيش قيصر ، ولكن أعظم انتصار ناله خالد - رضي الله عنه - هو انتصاره على نفسه .
تلك الانتصارات حاز مثلها قواد كثيروان ، من قواد المبادئ كسعد وابن العاص - رضي الله عنهم - وقواد المطامع كالإسكندر ، ونابليون ، وقواد التخريب والتدمير كجنكيز وهولاكو وتيمور ، ولكن هذا الانتصار لم يحزه قائد قط قبل خالد - رضي الله عنه - ولا سمعنا أنه حازه قائد بعده هو انتصاره على نفسه على ميوله وغرائزه ، على طبيعته الأرضية .
وذلك أنه لم يكد يفرغ من اليرموك ، ويقف ليقطف ثمرة النصر ، التهاني والدعوات ، وحتى لقيه كتاب العزل ، وكان قد وصل من قبل المعركة ، ولكن أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - كتمه حرصًا على المصلحة ، ووفاء لخالد - رضي الله عنه - .
وعمر - رضي الله عنه - لم يعزله بغضًا به ، ولكن ضحى به في سبيل المبدأ ، في سبيل التوحيد ، رأى الجند متعلقين به ، معتمدين على عبقريته ، فعزله ليفهمهم أن النصر من الله تعالى ، وأن الله تعالى ينصرهم بخالد وبغير خالد ، وليتكلوا على الله عز وجل لا على بشر مهما سما .
ثم إن عمر - رضي الله عنه - لم يعزله ، إنما يعزل من يولي ، وخالد لم يولّ القيادة العامة ، بل كانت (شاغرة) فعين لها أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنهم .
ولسنا في الكلام عن عمر - رضي الله عنه - ولكنا في الكلام عن خالد - رضي الله عنه - أفتدرون ماذا كان أثر العزل في نفسه ؟
قال : والله لو ولّى عليَّ عمر امرأة لسمعت وأطعت !
الله أكبر .. هذا والله هو النصر الحق .
رحم الله خالدًا ، ورضي عنه وجزاه خيرًا .<B(/3)
عبودية الشهوات ... مَكْمَنُ الدَّاءِ و سُبُلُ الدَّوَاءِ
رئيسي :الرقائق :الاثنين 29 صفر 1425هـ - 19 أبريل 2004م
إن الناظر إلى واقعنا الحاضر يرى أنواعاً من التعلق بالشهوات والافتتان بها، فما أكثر المسلمين الذين أشربوا حب الشهوات من النساء والأموال، والملبوسات والمركوبات، والمناصب والرياسات، والولع بالألعاب والملاهي.وسوف نتحدث عن جملة من تلك الشهوات التي استحكمت بأفئدة كثير من الناس وعقولهم.
ومن المناسب أن نتحدث ابتداءً عن الموقف الصحيح تجاه الشهوات إجمالاً قبل الحديث عن بعض أفرادها تفصيلاً.
إن المسلك العدل إزاء الشهوات وسط: بين أهل الفجور ، وأصحاب الرهبانية؛ فأهل الفجور أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات؛ وأهل الرهبانية حرّموا ما أحل الله من الطيبات. ودين الله يراعي أحوال الناس، ويدرك ما هم عليه من الغرائز والشهوات؛ لذا فهو يبيحها ويعترف بها، لكنه يضبطها ويهذبها.
يقول ابن القيم مقرراً ذلك: [لما كان العبد لا ينفك عن الهوى ما دام حياً فإن هواه لازم له كان الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية كالممتنع، ولكن المقدور له والمأمور به أن يصرف هواه عن مراتع الهَلَكة إلى مواطن الأمن والسلامة؛ مثاله أن الله لم يأمره بصرف قلبه عن هوى النساء جملة؛ بل أمره بصرف ذلك إلى نكاح ما طاب له منهن من واحدة إلى أربع، ومن الإماء ما شاء، فانصرف مجرى الهوى من محل إلى محل، وكانت الريح دبوراً فاستحالت صباً][ روضة المحبين، ص11].
واتباع الشهوات والانكباب عليها يؤول إلى استيلائها على القلب، فيصير القلب عبداً وأسيراً لتلك الشهوات، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن المتبعين لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس يستولي على قلب أحدهم ما يشتهيه حتى يقهره ويملكه، ويبقى أسير ما يهواه يصرفه كيف تصرّف ذلك المطلوب...].
وإذا كان الإفراط والانهماك في الشهوات مذموماً شرعاً، كما قال عز وجل :{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا[59]}[سورة مريم] . فكذلك اتباع الشهوات مذموم عقلاً؛ فإن العاقل البصير ينظر في عواقب الأمور، فلا يُؤْثِرُ العاجلة الفانية على الآخرة الباقية، بل ينهى نفسه عن لذةٍ يعقبها ألم، وشهوة تُورث ندماً، وكفى بهذا القدر مدحاً للعقل وذماً للهوى.
وليعلم العبد أن الصبر عن الشهوات وما فيها من الإغراء والبريق والافتتان أيسر من الصبر على عواقب الشهوات وآلامها وحسراتها، كما بينه ابن القيم بقوله: [الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة، فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حسرة وندامة، وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه، وإما أن تُذهب مالاً بقاؤه خير له من ذهابه، وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضعه، وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تنسي علماً ذكره ألذ من نيل الشهوة، وإما أن تُشمت عدواً وتحزن ولياً، وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيباً يبقى صفة لا تزول؛ فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق][الفوائد، ص131].
من أنواع الشهوات:
1- شهوة النساء:
وأما عن شهوة النساء، أو بالأحرى شهوة الجنس عموماً فإن المتأمل في أحوال المسلمين فضلاً عمن دونهم يرى سُعاراً تجاه هذه الشهوات، وولوغاً في مستنقعاتها الآسنة، فما أكثر المسلمين العاكفين على متابعة الأطباق الفضائية وشبكة الإنترنت، وقد سمّروا أعينهم في سبيل ملاحقة برامج الفحش، وما أكثر الذين يشدّون رحالهم إلى بلاد الكفر والفجور في سبيل تلبية شهواتهم المحرمة.
لقد تكالب شياطين الإنس والجن مع النفوس الأمّارة بالسوء على إفساد عفاف المسلمين وأخلاقهم، قال سبحانه:{ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا[27]}[سورة النساء].
ومن أرخى لشهوته العنان؛ فإن سعار هذه الشهوة لا حد له ولا انقضاء، والمولع بشهوة الجنس بدون ضابط، أو رادع؛ لا يقف ولا يرعوي، يقول الشيخ علي الطنطاوي: [لو أوتيتَ مال قارون، وجسد هرقل، وواصلتك عشر آلاف من أجمل النساء من كل لون وكل شكل، وكل نوع من أنواع الجمال، هل تظن أنك تكتفي؟ لا، أقولها بالصوت العالي: لا.. أكتبها بالقلم العريض..ولكن واحدة بالحلال تكفيك. لا تطلبوا مني الدليل؛ فحيثما تلفّتم حولكم وجدتم في الحياة الدليل قائماً ظاهراً مرئياً][فتاوى علي الطنطاوي، ص146].(/1)
وفي الأدب الكبير، لابن المقفع: [اعلم أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأجلبها للعار، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار: الغرام بالنساء. ومن العجب أن الرجل لا بأس بلبّه ورأيه يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصوّر لها في قلبه الحُسن والجمال حتى تعلق بها نفسه من غير رؤية ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح، وأدمّ الدمامة، فلا يعظه ذلك؛ ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشغوفاً بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة، لظن أن لها شأناً غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق والشقاء والسفه].
إن أشد الفتن وأعظمها: الفتنة بالنساء، فعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ]رواه البخاري ومسلم. قال الإمام طاووس عند قوله:{...وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا[28]}[سورة النساء] : [إذا نظر إلى النساء لم يصبر]. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [لم يكن كفر من مضى إلا من قِبل النساء، وهو كائن كفر من بقي من قِبل النساء]. وهاك أخي القارئ حكايتين واقعيتين تكشفان أن من أسباب الكفر بالله: عشق النساء.
فأما الحكاية الأولى: فقد ساقها أبو الفرج ابن الجوزي بقوله: [بلغني عن رجل كان ببغداد يُقال له: صالح المؤذن، أذّن أربعين سنة، وكان يُعرف بالصلاح، أنه صعد يوماً إلى المنارة ليؤذن، فرأى بنت رجل نصراني كان بيته إلى جانب المسجد، فافتتن بها، فجاء فطرق الباب، فقالت: من؟ فقال: أنا صالح المؤذن، ففتحت له، فلما دخل ضمها إليه، فقالت: أنتم أصحاب الأمانات فما هذه الخيانة؟ فقال: إن وافقتني على ما أريد وإلا قتلتك. فقالت: لا؛ إلا أن تترك دينك، فقال: أنا بريء من الإسلام ومما جاء به محمد، ثم دنا إليها، فقالت: إنما قلت هذا لتقضي غرضك ثم تعود إلى دينك، فكُلْ من لحم الخنزير، فأكل، قالت: فاشرب الخمر، فشرب، فلما دبّ الشراب فيه دنا إليها، فدخلت بيتاً وأغلقت الباب، وقالت: اصعد إلى السطح حتى إذا جاء أبي زوّجني منك، فصعد فسقط فمات، فخرجت فلفّته في ثوب، فجاء أبوها، فقصّت عليه القصة، فأخرجه في الليل فرماه في السكة، فظهر حديثه، فرُمي في مزبلة][ ذم الهوى، ص 409].
أما الحكاية الثانية: فذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين ما يلي:
[وفيها توفي عبده بن عبد الرحيم قبحه الله، ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون يحاصرون بلدة من بلاد الروم، إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، فهويها، فراسلها: ما السبيل إلى الوصول إليك؟ فقالت: أن تتنصر وتصعد إليّ، فأجابها إلى ذلك، فما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم المسلمون بسبب ذلك غماً شديداً، وشق عليهم مشقة عظيمة، فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن، فقالوا: يا فلان ما فعل قرآنك؟ ما فعل علمك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعلت صلاتك؟ فقال: اعلموا أني أُنسيت القرآنَ كله إلا قوله:{ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ[2]ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ[3]}[سورة الحجر]. وقد صار لي فيهم مال وولد][ البداية والنهاية، 11/64].
إن الولوغ في الفواحش وارتكابها له وسائل متعددة وأسباب كثيرة، وأدناها: سماع الأغاني؛ فإن الغناء رقية الزنا، وداعية الفاحشة.
وقال يزيد بن الوليد: [يا بني أمية! إياكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السّكْر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنّبوه النساء؛ فإن الغناء داعية الزنا][ انظر: إغاثة اللهفان، 1/369]. وقال ابن القيم: [ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أن يُسمعها صوت الغناء، فحينئذٍ تعطي الليان]؛ [أما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدّف والشبابة والرقص بالتخنث والتكسر، فلو حبلت المرأة من صوت لحبلت من هذا الغناء.
فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حرّ أصبح به عبداً للصبيان أو الصبايا، وكم من غيور تبدّل به اسماً قبيحاً بين البرايا، وكم من معافى تعرّض له فأمسى وقد حلّت به أنواع البلايا][ إغاثة اللهفان، 1/370، 371].(/2)
ومن أشد الوسائل فتكاً: النظر المحرم: فكم من نظرة إلى صورة جميلة في السوق، أو في شاشة، أو مجلة؛ أعقبت فواحش وآلاماً وحسرات. يقول ابن الجوزي: [اعلم-وفقك الله- أن البصر صاحب خبر القلب ينقل إليه أخبار المبصرات، وينقش فيه صورها، فيجول فيها الفكر، فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه من أمر الآخرة. ولما كان إطلاق البصر سبباً لوقوع الهوى في القلب، أمرك الشارع بغضّ البصر عما يُخاف عواقبه. قال الله تعالى:{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ...[30]وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ...[31]}[سورة النور] . ثم أشار إلى مُسبب هذا السبب، ونبّه على ما يؤول إليه هذا الشر بقوله:{...وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ...[30]... وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ...[31]}[سورة النور].][ ذم الهوى، ص106].
وقد تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن النظر المحرم، وما يؤول إليه من الوقوع في الفواحش.. بل وقد ينتهي بصاحبه إلى الشرك بالله تعالى فكان مما قاله: [وأما النظر والمباشرة فاللمم منها مغفور باجتناب الكبائر، فإن أصر على النظر أو على المباشرة صار كبيرة، وقد يكون الإصرار على ذلك أعظم من قليل الفواحش؛ فإن دوام النظر بالشهوة وما يتصل به من العشق والمعاشرة والمباشرة أعظم بكثير من فساد زنا لا إصرار عليه؛ ولهذا قال الفقهاء في الشاهد العدل: أن لا يأتي كبيرة، ولا يصر على صغيرة. بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك، كما قال تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ...[165]}[سورة البقرة] . ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان. والله تعالى إنما ذكره في القرآن عن امرأة العزيز المشركة، وعن قوم لوط المشركين][ مجموع الفتاوى، 15/292، 293].
وقال ابن القيم رحمه الله: [وقد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب فإذا غضّ العبد بصره، غضّ القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته...- إلى أن قال-: والنظرة إذا أثّرت في القلب، فإن عجل الحازم، وحسم المادة من أولها؛ سهُل علاجه، وإن كرر النظر، ونقّب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب فارغ فنقشها فيه؛ تمكنت المحبة، وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة، فلا تزال شجرة الحب تنمو حتى يفسد القلب، ويعرض عن الفكر فيما أمر به، فيخرج بصاحبه إلى المحن، ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن][روضة المحبين، ص92، 94، 95].
ومن أشد الوسائل ضرراً وشراً: اختلاط النساء بالرجال: فإن هذا الاختلاط أنكى وسيلة في الانغماس في الفواحش والقاذورات، وقد كثر في هذا الزمان من يطالب بهذا الاختلاط ويدعو إليه؛ حيث ينادون بمزاحمة النساء للرجال في جميع المجالات والأعمال، زاعمين أنهم يريدون الخير والإصلاح لمجتمعاتهم، ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.
قال ابن القيم متحدثاً عن مفاسد الاختلاط: [ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة.. وهو من أسباب الموت العام والطواعين المهلكة. ولما اختلط البغايا بعسكر موسى عليه السلام، وفشت فيهم الفاحشة أرسل الله عليهم الطاعون فمات في يوم واحد سبعون ألفاً، والقصة مشهورة في كتب التفسير؛ فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، والمشي بينهم متبرجات متجملات][ الطرق الحكمية، ص259].
الانكباب على الشهوات سببه ضعف التوحيد: فإن القلب كلما كان أضعف توحيداً، وأقل إخلاصاً لله تعالى كان أكثر فاحشة وشهوة [انظر: الفوائد، لابن القيم، ص75]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة: [وهذا-أي: العشق والشهوات- إنما يبتلى به أهل الإعراض عن الإخلاص لله الذين فيهم نوع من الشرك، وإلا فأهل الإخلاص، كما قال الله تعالى في حق يوسف عليه السلام:{...كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ[24]}[سورة يوسف]. فامرأة العزيز كانت مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف عليه السلام مع عزوبته، ومراودتها له، واستعانتها عليه بالنسوة، وعقوبتها له بالحبس على العفة، عصمه الله بإخلاصه له؛ تحقيقاً لقوله:{ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ[82]إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[83]}[سورة ص]، قال تعالى:{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ[42]}[سورة الحجر]. والغي هو اتباع الهوى][ مجموع الفتاوى، 51/421].
الافتتان بالنساء والولع بهن يورث أنواعاً من العقوبات والمفاسد في الدنيا والآخرة:(/3)
تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية عن عقوبات الشهوة المحرمة، فكان مما قاله: [فأما من استعبد قلبه صورة محرمة: امرأة أو صبي، فهذا هو العذاب الذي لا يَدان فيه، وهؤلاء من أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً؛ فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها، مستعبَداً لها، اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد. ومن أعظم هذا البلاء إعراض القلب عن الله؛ فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له، لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب][ مجموع الفتاوى، 10/187].
وقال ابن القيم: [وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها، وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها؛ لأنها قد صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بد لهم منه، ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذ بهما عشر معشار من يفعله نادراً في الأحيان][روضة المحبين، ص470].
علاج شهوة النساء:
بعد أن فصّلنا الحديث عن هذه الشهوة نورد علاجها وسبيل النجاة منها، وقد بسط أبو الفرج ابن الجوزي في 'ذم الهوى' وابن القيم في 'روضة المحبين' الحديث عن العلاج، قال ابن الجوزي: [فإن تكرار النظر قد نقش صورة المحبوب في القلب نقشاً متمكناً؛ وعلامة ذلك: امتلاء القلب بالحبيب؛ فكأنه يراه حالاّ في الصدر، وكأنه يضمه إليه عند النوم ويحادثه في الخلوة، فاعلم أن سبب هذا الطمع في نيل المطلوب، وكفى بالطمع مرضاً، وقلّ أن يقع الفسق إلا في المطموع فيه؛ فإن الإنسان لو رأى زوجة الملك فهويها لم يكد قلبه يتعلق بها؛ لأجل اليأس من مثلها. فأما من طمع في شيء فإن الطمع يحمله على طلبه، ويعذّبه إن لم يدركه.. وعلاج هذا المرض: العزم القوي على البعد عن المحبوب، والقطع الجازم على غض البصر عنه، وهجران الطمع فيه، وتوطين النفس على اليأس منه].
وقال في موضع آخر: [ومما يُداوى به الباطن أن تفكّر، فتعلم أن محبوبك ليس كما في نفسك، فأعمل فكرك في عيوبه تَسْلُ؛ فإن الآدمي محشوّ بالأنجاس والأقذار، وإنما يرى العاشق معشوقه في حال الكمال، ولا يُصور له الهوى عيباً؛ لأن الحقائق لا تنكشف إلا مع الاعتدال، وسلطان الهوى حاكم جائر يغطي المعايب، فيرى العاشق القبيح من معشوقه حسناً. ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه : [إذا أعجبت أحدَكم امرأةٌ فليذكر مناتنها].
وأما ما حرّره ابن القيم في سبيل التخلص من شراك هذه الشهوات، فنختار منها بعضها:
فمن ذلك قوله:[التفكر في أنه لم يُخلق للهوى، وإنما هُيّئ لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصيته للهوى كما قيل:
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ
[أن يأنف لنفسه من ذل طاعة الهوى؛ فإنه ما أطاع أحد هواه قط إلا وجد في نفسه ذلاّ، ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكِبرهم؛ فهم أذل الناس بواطنَ، قد جمعوا بين خصلتي الكبر والذل].
[أن يعلم أن الهوى ما خالط شيئاً إلا أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء، وإن وقع في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة، وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم وصدّه عن الحق، وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين حيث يولّي بهواه ويعزل بهواه].
[إن اتباع الهوى يغلق عن العبد أبواب التوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان، فتراه يلهج بأن الله لو وفّقه لكان كذا وكذا، وقد سدّ على نفسه طرق التوفيق باتباعه هواه. قال الفضيل بن عياض: من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات انقطعت عنه موارد التوفيق].
[إن التوحيد واتباع الهوى متضادان، فإن الهوى صنم ولكل عبد صنم في قلبه بحسب هواه، وإنما بعث الله رسله بكسر الأصنام وعبادته وحده لا شريك له، وليس مراد الله تعالى كسر الأصنام المجسّدة وترك الأصنام التي في القلب، بل المراد كسرها من القلب أولاً].
[إن لكل عبد بداية ونهاية، فمن كانت بدايته اتباع الهوى، كانت نهايته الذل والصغار والحرمان والبلاء المتبوع بحسب ما اتبع هواه، بل يصير له ذلك في نهايته عذاباً يُعذّب به في قلبه كما قال القائل:
مآرب كانت في الشباب لأهلها عِذاباً فصارت في المشيب عَذاباً
فلو تأملت حال كل ذي حالة سيئة زرية لرأيت بدايته الذهاب مع هواه وإيثاره على عقله، ومن كانت بدايته مخالفة هواه وطاعة داعي رشده كانت نهايته العز والشرف والغنى والجاه عند الله وعند الناس. قيل للمهلب ابن أبي صفرة: بِمَ نلت ما نلت؟ قال: بطاعة الحزم وعصيان الهوى. فهذا في بداية الدنيا ونهايتها، وأما الآخرة فقد جعل الله سبحانه الجنة نهاية من خالف هواه، والنار نهاية من اتبع هواه].(/4)
وبالجملة: فإنه ما من داء إلا وله دواء عَلِمه من علمه، وَجهِله من جهله، والمتعيّن على من ابتلي بشيء من هذه الشهوات أن يبادر إلى أسباب النجاة ووسائلها.. بالعزيمة الصادقة، والصبر والمصابرة، وعلو الهمة، والاشتغال بمعالي الأمور، والابتعاد عن سفاسفها، والمجاهدة في ذات الله، ونهي النفس عن الهوى وإصلاح الخواطر والإرادات، وصحبة الصالحين، ودوام التضرع إلى الله والانكسار بين يديه سبحانه.
شهوة المال:
استولى على أفئدة كثير من الناس الولع بالمال، فأُشربوا حبه والتعلق به، فاستعبدهم الدرهم والدينار، وصار مقصودهم وجلّ حديثهم واهتمامهم، فإن أحبوا فلا يحبون إلا لأجل المال، وإن أبغضوا فلا يبغضون إلا لأجل المال: إن أُعطوا رضوا، وإن لم يُعطَوْا إذا هم يسخطون.
ولقد ذمّ الله تعالى الدنيا في كتابه في غير موضع، كقوله تعالى:{...وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ[20]}[سورة الحديد]. وأما الأحاديث في ذم الدنيا وفضل الزهد، فكثيرة جداً؛ منها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ فَقَالَ: [إِنِّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا]رواه البخاري ومسلم.
و قال صلى الله عليه وسلم: [قَالَ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ]رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ] رواه الترمذي وأحمد.
وعن الحسن البصري قال: [أهينوا الدنيا فو الله لأهنأ ما تكون إذا أهنتها]. وكان يحلف بالله ما أعز أحدٌ الدرهمَ إلا أذله الله.
ولابن القيم رحمه الله كلام نفيس في الترغيب بالزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة، نورد منه ما ذكره في 'عدة الصابرين': [جميع الأمم المكذبة لأنبيائهم إنما حملهم على كفرهم وهلاكهم حب الدنيا، فإن الرسل لما نهوهم عن الشرك والمعاصي التي كانوا يكسبون بها الدنيا حملهم حبها على مخالفتهم وتكذيبهم؛ فكل خطيئة في العالم أصلها حب الدنيا... فحب الدنيا والرياسة هو الذي عمر النار بأهلها، والزهد في الدنيا والرياسة هو الذي عمر الجنة بأهلها، والسكر بحب الدنيا أعظم من السكر بشرب الخمر بكثير، وصاحب هذا السكر لا يفيق منه إلا في ظلمة اللحد... والدنيا تسحر العقول أعظم سحر.
قال مالك بن دينار:'اتقوا السحّارة، اتقوا السحّارة؛ فإنها تسحر قلوب العلماء'. وأقل ما في حبها أنه يلهي عن حب الله وذكره، ومن ألهاه ماله عن ذكر الله تعالى فهو من الخاسرين، وإذا لها القلب عن ذكر الله سكنه الشيطان وصرفه حيث أراد].
من أوجه الحرص على المال:
والحرص على المال يكون على وجهين؛ كما قرر الحافظ ابن رجب بقوله: [أحدهما: شدة محبة المال مع طلبه من وجوه مباحة، والمبالغة في طلبه والجد في تحصيله واكتسابه من وجوهه مع الجهد والمشقة...ولو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف فيما لا قيمة له، وقد يُمكّن صاحبه فيه اكتساب الدرجات العلى، والنعيم المقيم، فضيعه بالحرص في طلب رزق مضمون مقسوم لا يأتي منه إلا ما قُدّر وقُسم؛ ثم لا ينتفع به بل يتركه لغيره ويرتحل عنه، فيبقى حسابه عليه ونفعه لغيره، فيجمع لمن لا يحمده، ويقدم على من لا يعذره لكفاه بذلك ذماً للحرص؛ فالحريص يضيع زمانه الشريف، ويخاطر بنفسه في الأسفار وركوب الأخطار لجمع مال ينتفع به غيره.
النوع الثاني من الحرص على المال: أن يزيد على ما سبق ذكره في النوع الأول، حتى يطلب المال من الوجوه المحرمة، ويمنع الحقوق الواجبة، فهذا من الشح المذموم، قال الله تعالى:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[16]}[سورة التغابن].
وفي صحيح مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ]].
وإنما يصير حب المال مذموماً إذا كان سبباً في ارتكاب المعاصي، أو ترك الواجبات، يقول شيخ الإسلام في هذا الصدد: [حب المال والشرف يفسد الدين، والذي يعاقب عليه الشخص هو الحب الذي يدعو إلى المعاصي مثل الظلم والكذب والفواحش، ولا ريب أن فرط الحرص على المال والرياسة يوجب ذلك، أما مجرد حب القلب إذا كان الإنسان يفعل ما أمر الله به ويترك ما نهى عنه، ويخاف مقام ربه، وينهى النفس عن الهوى؛ فإن الله تعالى لا يعاقب على مثل هذا إذا لم يكن معه عمل.(/5)
وجمع المال إذا قام فيه بالواجبات ولم يكتسبه من الحرام لا يعاقب عليه، لكن إخراج الفضل والاقتصار على الكفاية أفضل وأسلم، وأفرغ للقلب وأجمع للهم، وأنفع للدنيا والآخرة].
وينبغي التوسط إزاء المال بين الشره والانهماك عليه، وبين تركه والإعراض عنه: كما في حديث أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: [لَا وَاللَّهِ مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ إِلَّا مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا] فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: [كَيْفَ قُلْتَ] قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ أَوَ خَيْرٌ هُوَ إِنَّ كُلَّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ ثَلَطَتْ أَوْ بَالَتْ ثُمَّ اجْتَرَّتْ فَعَادَتْ فَأَكَلَتْ فَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِحَقِّهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِغَيْرِ حَقِّهِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ]رواه البخاري ومسلم.
وقد شرح ابن القيم هذا الحديث وبيّن المسلك الوسط تجاه المال فقال: [قوله: [ إِنَّ كُلَّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ] هذا من أحسن التمثيل المتضمن للتحذير من الدنيا والانهماك عليها والمسرة فيها، وذلك أن الماشية يروقها نبت الربيع فتأكل منه بأعينها فربما هلكت حبطاً-والحبط انتفاخ بطن الدابة من الامتلاء أو من المرض- ، فكذلك الشَرِه في المال يقتله شرهه وحرصه، فإن لم يقتله قارب أن يقتله، وهو قوله: [أَوْ يُلِمُّ] وكثير من أرباب الأموال إنما قتلهم أموالهم؛ فإنهم شرهوا في جمعها، واحتاج إليها غيرهم، فلم يصلوا إليها إلا بقتلهم، أو ما يقاربه من إذلالهم وقهرهم.
وقوله: [ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ] هذا تمثيل لمن أخذ من الدنيا حاجته، مثّله بالشاة الآكلة من الخضر بقدر حاجتها، أكلت حتى امتلأت خاصرتاها... وفي قوله: [اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ ثَلَطَتْ أَوْ بَالَتْ] ثلاث فوائد: أحدها: أنها لما أخذت حاجتها من المرعى تركته وبركت مستقبلة الشمس لتستمرئ بذلك ما أكلته. الثانية: أنها أعرضت عما يضرها من الشره في المرعى، وأقبلت على ما ينفعها من استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها إنضاح ما أكلته وإخراجه.
الثالثة: أنها استفرغت بالبول والثلط ما جمعته من المرعى في بطنها، فاستراحت بإخراجه، ولو بقي فيها لقتلها، فكذلك جامع المال مصلحته أن يفعل به كما فعلت هذه الشاة... وفي هذا الحديث إشارة إلى الاعتدال والتوسط بين الشره في المرعى القاتل بكثرته، وبين الإعراض عنه وتركه بالكلية فتهلك جوعاً. وتضمّن الخبر أيضاً إرشاد المكثر من المال إلى ما يحفظ عليه قوته وصحته في بدنه وقلبه وهو الإخراج منه وإنفاقه ولا يحبسه فيضره حبسه][عدة الصابرين، ص 198، 199].
وإذا تقررت هذه الوسطية تجاه المال فإن على العلماء والدعاة خصوصاً أن يُعْنَوْا بتحقيق الكفاف والاستغناء عن الناس كما يُعْنَوْا بالزهد والتقلل من الدنيا؛ فإن استغناء العلماء عن الناس عموماً والحكام خصوصاً من أعظم الأسباب في حفظ مكانة العلماء وعظم شأنهم، يقول سفيان الثوري رحمه الله: [لأن أخلّف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها أحب إليّ من أن أحتاج إلى الناس... ولولا هذه الدراهم لتمندل بنا هؤلاء الملوك].
ويقول ابن الجوزي- حاثاً على الاستغناء عن الناس-: [ليس في الدنيا أنفع للعلماء من جمع المال للاستغناء عن الناس، فإنه إذا ضم إلى العلم حيز الكمال، وإن جمهور العلماء شغلهم العلم عن الكسب، فاحتاجوا إلى ما لا بد منه، وقلّ الصبر فدخلوا مداخل شانتهم وإن تأوّلوا فيها...ولقد رأينا جماعة من المتصوفة والعلماء يَغْشَون الولاة لأجل نيل ما في أيديهم؛ فمنهم من يداهن ويرائي، ومنهم من يمدح بما لا يجوز، ومنهم من يسكت عن منكرات إلى غير ذلك من المداهنات، وسببها الفقر، فعلمنا أن كمال العز وبُعد الرياء إنما يكون في البعد عن العمال الظّلَمَة، ولم نرَ من صح له هذا إلا في أحد رجلين:(/6)
أما من كان له مال كسعيد بن المسيب كان يتجر في الزيت وغيره، وسفيان الثوري كانت له بضائع، وابن المبارك. وأما من كان شديد الصبر قنوعاً بما رزق وإن لم يكفه كبشر الحافي وأحمد بن حنبل؛ ومتى لم يجد الإنسان كصبر هذين، ولا كمال أولئك، فالظاهر تقلبه في المحن والآفات، وربما تلف دينه. فعليك يا طالب العلم بالاجتهاد في جمع المال للغنى عن الناس؛ فإنه يجمع لك دينك، فما رأينا في الأغلب منافقاً في التدين والتزهد والتخشع، ولا آفة طرأت على عالم إلا بحبّ الدنيا، وغالب ذلك الفقر، فإن كان من له ما يكفيه ثم يطلب بتلك المخالطة الزيادة فذلك معدود في أهل الشّرَهِ، خارج عن حيّز العلماء].
والمقصود: أن على العبد أن يقنع بالكفاف من هذا المال، مما يحتاجه في مطعمه ومشربه ومسكنه وملبسه ونحو ذلك، وأن يطلب ذلك من الله تعالى وحده ويرغب إليه فيه، وأن لا يكون سائلاً للمال بلسانه إلا لضرورة، أو مستشرفاً إليه بقلبه..وأما ما لا يحتاج إليه العبد فلا ينبغي له الاشتغال به؛ لأن ذلك يؤول إلى تعلق القلب بالمال واستعباده له، كما يفوت عمره في تحصيل رزق مقسوم، وقد يحمله الحرص على المال على اكتسابه بالحرام ومنع الحقوق الواجبة.
شهوة الرياسة:
شهوة حب الرياسة والمنصب إحدى الشهوات التي استعبدت كثيراً من الناس وأحكمت على أفئدتهم، فصارت الولايات والمناصب وما يتبعها من الشهرة والظهور مقصودهم ومرادهم. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ]رواه الترمذي والدارمي وأحمد.
يقول ابن رجب رحمه الله في شرح هذا الحديث: [فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه ليس بأقل من إفساد الذئبين لهذه الغنم، بل إما أن يكون مساوياً وإما أكثر، يشير أنه لا يسلم من دين المسلم مع حرصه على المال والشرف في الدنيا إلا القليل، كما أنه لا يسلم من الغنم مع إفساد الذئبين المذكورين فيها إلا القليل. فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا].
إلى أن قال: [وأما حرص المرء على الشرف فهو أشد إهلاكاً من الحرص على المال؛ فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها، والرياسة على الناس والعلو في الأرض أضر على العبد من طلب المال، وضرره أعظم والزهد فيه أصعب؛ فإن المال يبذل في طلب الرياسة والشرف].
ثم ذكر رحمه الله أقسام الحرص على الشرف فقال: [والحرص على الشرف قسمان:
أحدها: طلب الشرف بالولاية والسلطان والمال، وهذا خطر جداً، وهو في الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها وعزها. قال الله تعالى :{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[83]}[سورة القصص]، وقلّ من يحرص على رياسة الدنيا بطلب الولايات فيوفق بل يوكَل إلى نفسه]. إلى أن قال: [ومن دقيق آفات حب الشرف: طلب الولايات والحرص عليها، وهو باب غامض لا يعرفه إلا العلماء بالله العارفون به المحبون له...
القسم الثاني: طلب الشرف والعلو على الناس بالأمور الدينية كالعلم والعمل والزهد؛ فهذا أفحش من الأول، وأقبح وأشد فساداً وخطراً؛ فإن العلم والعمل والزهد إنما يُطلب به ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم، والقربى منه والزلفى لديه...].
ومما يؤكد خطر هذه الشهوة أن جنس بني آدم مولع بحب الرياسة والظهور، كما بيّنه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: [إن الإنسان إذا اعتبر وتعرف نفسه والناس؛ رأى الواحد يريد نفسه أن تطاع وتعلو بحسب الإمكان، والنفوس مشحونة بحب العلو والرئاسة بحسب إمكانها، فتجده يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه، وإنما معبوده ما يهواه وما يريده].
إن حب الرئاسة وطلبها لا ينفك عن مفاسد متعددة وشرور متنوعة، وقد أشار ابن رجب إلى بعضها بقوله: [إن حب المال والرئاسة والحرص عليهما يفسد دين المرء حتى لا يبقى منه إلا ما شاء الله... والنفس تحب الرفعة والعلو على أبناء جنسها، ومن هنا نشأ الكبر والحسد].(/7)
وذكر ابن القيم رحمه الله بعض مفاسد هذه الشهوة، فقال: [إن طلاب الرياسة ليسعون في تحصيلها لينالوا بها أغراضهم من العلو في الأرض، وتعبّد القلوب لهم، وميلها إليهم، ومساعدتهم لهم على جميع أغراضهم مع كونهم عالين عليهم قاهرين لهم، فترتب على هذا المطلب من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله من البغي والحسد والطغيان والحقد والظلم والفتنة والحمية للنفس دون حق الله، وتعظيم من حقّره الله، واحتقار من أكرمه الله، ولا تتم الرياسة الدنيوية إلا بذلك، ولا تُنال إلا به وبأضعافه من المفاسد، والرؤساء في عمىً عن هذا؛ فإذا كُشف الغطاء تبيّن لهم فساد ما كانوا عليه، ولا سيما إذا حُشِروا في صُوَرِ الذرّ يطؤهم أهل الموقف بأرجلهم إهانة لهم وتصغيراً كما صغّروا أمر الله وحقروا عباده].
إن على أهل العلم وطلابه أن يحذروا من شهوة حب الرياسة والشهرة، فإنه داء عضال ينبغي المسارعة في علاجه بالتوبة إلى الله تعالى، وتزكية النفس ومحاسبتها، يقول سفيان الثوري: [الرياسة أحب إلى القراء من الذهب الأحمر].
وقد تحدث أبو الفرج ابن الجوزي عن أولئك العلماء المولعين بالرياسات والشهرة فقال: [واليوم صارت الرياسات من كل جانب، وما تتمكن الرياسات حتى يتمكن من القلب: الغفلة، ورؤية الخلق، ونسيان الحق؛ فحينئذ تطلب الرياسة على أهل الدنيا. ولقد رأيت من الناس عجباً حتى من يتزيا بالعلم، إن رآني أمشي وحدي أنكر عليّ، وإن رآني أزور فقيراً عظّم ذلك، وإن رآني أنبسط بتبسم نقصت من عينه، فقلت: فوا عجباً هذه كانت طريق الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة رضي الله عنهم ، فصارت أحوال الخلق نواميس لإقامة الجاه، لا جَرَمَ واللهِ! سقطتم من عين الحق، فأسقطكم من عين الخلق...فالتفِتوا إخواني إلى إصلاح النيات، وترك التزين للخلق، ولتكن عُمدتكم الاستقامة مع الحق؛ فبذلك صعد السلف وسعدوا].
وفي الختام نسأل الله أن يرزقنا الهدى والتقوى والعفاف والغنى، وأن يجنبنا شهوات الغي ومضلات الهوى، وبالله التوفيق.
من:' عبودية الشهوات' د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف(/8)
عتاب أب
شعر: أمية بن أبي الصَّلْت
غذوتُك مولوداً وعلتُك يافعاً تَعُلّ بما أجني عليك وتنهلُ
إذا ليلةٌ ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلاّ ساهراً أتململُ
كأني أنا المطروقُ دونك بالذي طُرِقتَ به دوني فعينيَ تَهمِلُ
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجَّلُ
فلما بلغتَ السنَّ والغايةَ التي إليها مدى ما كنتُ فيك أؤمِّلُ
جعلتَ جزائي غلظةً وفظاظةً كأنك أنت المنعم المتفضِّلُ
فليتك إذ لم ترعَ حق أبوّتي فعلتَ كما الجارُ المجاورُ يفعلُ
فأوليتني حقَّ الجوارِ فلم تكن عليَّ بمالٍ دون مالك تبخلُ(/1)
عثمان بن عفان رضي الله عنه )
لم تتحقق الدولة الإسلامية بصورتها المثلى في عهد أيٍّ من عهود الخلفاء والحكام مثلما تحققت في عهد الخليفة الثاني "عمر بن الخطاب" (رضي الله عنه) الذي جمع بين النزاهة والحزم، والرحمة والعدل، والهيبة والتواضع، والشدة والزهد. ونجح الفاروق (رضي الله عنه) في سنوات خلافته العشر في أن يؤسس أقوى إمبراطورية عرفها التاريخ، فقامت دولة الإسلام، بعد سقوط إمبراطوريتي "الفرس" و"الروم" - لتمتد من بلاد فارس وحدود الصين شرقًا إلى مصر وإفريقية غربًا، ومن بحر قزوين شمالا إلى السودان واليمن جنوبًا، لقد استطاع "عمر" (رضي الله عنه) أن يقهر هاتين الإمبراطوريتين بهؤلاء العرب الذين كانوا إلى عهد قريب قبائل بدوية، يدبُّ بينها الشقاق، وتثور الحروب لأوهى الأسباب، تحرِّكها العصبية القبلية، وتعميها عادات الجاهلية وأعرافها البائدة، فإذا بها - بعد الإسلام - تتوحَّد تحت مظلَّة هذا الدين الذي ربط بينها بوشائج الإيمان، وعُرى الأخوة والمحبة، وتحقق من الأمجاد والبطولات ما يفوق الخيال، بعد أن قيَّض الله لها ذلك الرجل الفذّ الذي قاد مسيرتها، وحمل لواءها حتى سادت العالم، وامتلكت الدنيا.
مولد عمر ونشأته
عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العُزَّى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزَاح بن عديّ بن كعب. وفي كعب يجتمع نسبه مع نسب محمد بن عبد الله رسول الإسلام. أمه حنتمة بنت هشام المخزوميه أخت أبي جهل.
ولد في مكة قبل بعثة رسول الله بثلاثين سنة وكان عدد المسلمين يوم أسلم تسعة وثلاثين مسلماً. لقبه الفاروق. وكنيته أبو حفص، والحفص هو شبل الأسد، وقد لقب بالفاروق لأنه كان يفرق بين الحق والباطل ولا يخاف في الله لومة لائم.
وكان أبوه "الخطاب" معروفًا بشدَّته وغلظته، وكان رجلاً ذكيًّا، ذا مكانة في قومه، شجاعًا جريئا، كما كان فارسًا من فرسان العرب، شارك في العديد من الحروب والمعارك، وكان على رأس بني عدي في حرب الفجار، وقد تزوَّج "الخطاب" عددًا من النساء، وأنجب كثيرًا من الأبناء. قد ورث عمر عن أبيه ميلاً إلى كثرة الزوجات، فتزوَّج في حياته تسع نساء، وَلَدْن له اثني عشر ولدًا، ستة من الذكور هم:عبد الله وعبد الرحمن وزيد وعبيد الله وعاصم وعياض، وستا من الإناث: وهن حفصة ورقية وفاطمة وصفية وزينب وأم الوليد.
وحظي عمر (رضي الله عنه) - في طفولته - بما لم يَحْظَ به كثير من أقرانه من أبناء قريش، فقد تعلَّم القراءة والكتابة، ولم يكن يجيدها في قريش كلها غير سبعة عشر رجلاً.
ولما شبَّ كان يرعى في إبل أبيه، وكان يأخذ نفسه بشيء من الرياضة، وقد آتاه الله بسطة من الجسم، فأجاد المصارعة، وركوب الخيل، كما أتقن الفروسية والرمي.
وكان كغيره من شباب "مكة" قبل الإسلام - محبًّا للهو والشراب، ولم يكن كثير المال، إلا أنه عرف بشدة اعتداده بنفسه حتى إنه ليتعصب لرأيه ولا يقبل فيه جدلاً.
وعندما جاء الإسلام وبدأت دعوة التوحيد تنتشر، أخذ المتعصِّبون من أهل مكة يتعرضون للمسلمين ليردوهم عن دينهم، وكان "عمر" من أشدِّ هؤلاء حربًا على الإسلام والمسلمين، ومن أشدهم عداء للنبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه.
إسلامه
ظلَّ عمر على حربه للمسلمين وعدائه للنبي (صلى الله عليه وسلم) حتى كانت الهجرة الأولى إلى الحبشة، وبدأ عمر يشعر بشيء من الحزن والأسى لفراق بني قومه وطنهم بعدما تحمَّلوا من التعذيب والتنكيل، واستقرَّ عزمه على الخلاص من محمد؛ لتعود إلى قريش وحدتها التي مزَّقها هذا الدين الجديد! فتوشَّح سيفه، وانطلق إلى حيث يجتمع محمد وأصحابه في دار الأرقم، وبينما هو في طريقه لقي رجلاً من بني زهرة فقال: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدًا، فقال: أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم! وأخبره بإسلام أخته "فاطمة بنت الخطاب"، وزوجها "سعيد بن زيد بن عمر" (رضي الله عنه)، فأسرع "عمر" إلى دارهما، وكان عندهما "خبَّاب بن الأرت" (رضي الله عنه) يقرئهما سورة "طه"، فلما سمعوا صوته اختبأ "خباب"، وأخفت "فاطمة" الصحيفة، فدخل عمر ثائرًا، فوثب على سعيد فضربه، ولطم أخته فأدمى وجهها، فلما رأى الصحيفة تناولها فقرأ ما بها، فشرح الله صدره للإسلام؛ إذ لم يكد يتلو القرآن المسطور في الصحيفة حتى صاح صيحته المباركة:( دلوني على محمد )0وسمع خباب كلمات عمر، فخرج من مخبئه وصاح:( يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فإني سمعته بالأمس يقول:( اللهم أيد الإسلام بعمر بن الخطاب )000فسأله عمر من فوره:( وأين أجد الرسول الآن يا خباب ؟)000وأجاب خباب:( عند الصفا في دار الأرقم بن أبي الأرقم )000(/1)
وسار إلى حيث النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، فلما دخل عليهم وجل القوم، فخرج إليه النبي (صلى الله عليه وسلم)، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف فقال:( أما أنت منتهيا يا عمر حتى يُنزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة ؟ اللهم هذا عمر بن الخطاب، اللهم أعزّ الدين بعمر بن الخطاب )000فقال عمر:( أشهد أنّك رسول الله جئتك لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله، فكبَّر رسول الله والمسلمون)
وبإسلامه ظهر الإسلام في مكة اذ قال للرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في دار الأرقم: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: بلى، قال: ففيم الاختفاء؟ فخرج المسلمون في صفين حتى دخلوا المسجد الحرام وصلوا حول الكعبة، فلما رأتهم قريش أصابتها كآبة لم تصبها مثلها، وكان ذلك أول ظهور للمسلمين على المشركين، فسمَّاه النبي (صلى الله عليه وسلم) "الفاروق" منذ ذلك العهد؛ لأن الله فرق بين الحق والباطل
كان إسلام "الفاروق" عمر في ذي الحجة من السنة السادسة للدعوة، وهو ابن ست وعشرين سنة، وقد أسلم بعده نحو أربعين رجلاً، ودخل "عمر" في الإسلام بالحمية التي كان يحاربه بها من قبل، فكان حريصًا على أن يذيع نبأ إسلامه في قريش كلها.
الهجرة إلى المدينة
وزادت قريش في حربها وعدائها للنبي وأصحابه؛ حتى بدأ المسلمون يهاجرون إلى "المدينة" فرارًا بدينهم من أذى المشركين، وكانوا يهاجرون إليها خفية، فلما أراد عمر الهجرة تقلد سيفه، ومضى إلى الكعبة فطاف بالبيت سبعًا، ثم أتى المقام فصلى، ثم نادى في جموع المشركين: "من أراد أن يثكل أمه أو ييتم ولده أو يرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي". وفي "المدينة" آخى النبي (صلى الله عليه وسلم) بينه وبين "عتبان بن مالك" وقيل: "معاذ بن عفراء.
موافقة القرآن لرأي عمر
وافق ًالقرآن الكريم رأيه في مواقف عديدة من أبرزها: قوله للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى: فنزلت الآية ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) [ البقرة: 125]، وقوله يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب: (وإذا سألتموهن متاعًا فسألوهن من وراء حجاب) [الأحزاب: 53]. وقوله لنساء النبي (صلى الله عليه وسلم) وقد اجتمعن عليه في الغيرة: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن) [ التحريم: 5] فنزلت ذلك.
يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه".
وروي عن ابن عمر: "ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر بن الخطاب، إلا نزل القرآن على نحو ما قال عمر رضي الله عنه".
الفاروق خليفة للمسلمين
توفي النبي (صلى الله عليه وسلم) وتولى الصديق "أبو بكر"، خلافة المسلمين، فكان عمر بن الخطاب، وزيره ومستشاره الأمين، وحمل عنه عبء القضاء فقام به خير قيام، وكان "عمر" يخفي وراء شدته، رقة ووداعة ورحمة عظيمة، وكأنه يجعل من تلك الشدة والغلظة والصرامة ستارًا يخفي وراءه فيضا من المشاعر الإنسانية العظيمة التي يعدها كثير من الناس ضعفًا لا يليق بالرجال لا سيما القادة والزعماء،
استشار أبو بكر الصديق عددا من الصحابة مهاجرين وأنصارا فأثنوا على عمر خيرا. ومما قاله عثمان بن عفان: (اللهم علمي به أن سريرته أفضل من علانيته، وأنه ليس فينا مثله) وبناء على تلك المشورة وحرصا على وحدة المسلمين ورعاية مصلحتهم، أوصى أبو بكر الصديق بخلافة عمر من بعده، قائلا: (اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة فعملت فيهم بما أنت أعلم، واجتهدت لهم رأيا فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليهم). ثم أخذ البيعة العامة له بالمسجد قائلا: (أترضون بمن أستخلف عليكم ؟ فوالله ما آليت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قربى، واني قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا) فرد المسلمون: (سمعنا وأطعنا) وبايعوه خليفة للمسلمين في اليوم التالي لوفاة "أبي بكر الصديق" [ 22 من جمادى الآخرة 13 هـ: 23 من أغسطس 632م].
الفتوحات الإسلامية في عهد الفاروق
بعد هزيمة لحقت بالمسلمين "في موقعة الجسر" سعى "المثنى بن حارثة" إلى رفع الروح المعنوية لجيش المسلمين في محاولة لمحو آثار الهزيمة، فعمل على استدراج قوات الفرس للعبور غربي النهر، ونجح في دفعهم إلى العبور بعد أن غرهم ذلك النصر السريع الذي حققوه على المسلمين، ففاجأهم "المثنى" بقواته فألحق بهم هزيمة منكرة على حافة نهر "البويب" الذي سميت به تلك المعركة.
ووصلت أنباء ذلك النصر إلى "الفاروق" في "المدينة"، فأراد الخروج بنفسه على رأس جيش لقتال الفرس، ولكن الصحابة أشاروا عليه أن يختار واحدًا غيره من قادة المسلمين ليكون على رأس الجيش، ورشحوا له "سعد بن أبي وقاص" فأمره "عمر" على الجيش الذي اتجه إلى الشام حيث عسكر في "القادسية".(/2)
وأرسل "سعد" وفدًا من رجاله إلى "يزدجرد الثالث" ملك الفرس؛ ليعرض عليه الإسلام على أن يبقى في ملكه ويخيره بين ذلك أو الجزية أو الحرب، ولكن الملك قابل الوفد بصلف وغرور وأبى إلا الحرب، فدارت الحرب بين الفريقين، واستمرت المعركة أربعة أيام حتى أسفرت عن انتصار المسلمين في "القادسية"، ومني جيش الفرس بهزيمة ساحقة، وقتل قائده "رستم"، وكانت هذه المعركة من أهم المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي، فقد أعادت "العراق" إلى العرب والمسلمين بعد أن خضع لسيطرة الفرس قرونًا طويلة، وفتح ذلك النصر الطريق أمام المسلمين للمزيد من الفتوحات.
الطريق من المدائن إلى نهاوند
أصبح الطريق إلى "المدائن" عاصمة الفرس ـ ممهدًا أمام المسلمين، فأسرعوا بعبور نهر "دجلة" واقتحموا المدائن، بعد أن فر منها الملك الفارسي، ودخل "سعد" القصر الأبيض ـ مقر ملك الأكاسرة ـ فصلى في إيوان كسرى شكرا لله على ما أنعم عليهم من النصر العظيم، وأرسل إلى "عمر" يبشره بالنصر، ويسوق إليه ما غنمه المسلمون من غنائم وأسلاب.
بعد فرار ملك الفرس من "المدائن" اتجه إلى "نهاوند" حيث احتشد في جموع هائلة بلغت مائتي ألف جندي، فلما علم عمر بذلك استشار أصحابه، فأشاروا عليه بتجهيز جيش لردع الفرس والقضاء عليهم فبل أن ينقضوا على المسلمين، فأرس عمر جيشًا كبيرًا بقيادة النعمان بن مقرن على رأس أربعين ألف مقاتل فاتجه إلى "نهاوند"، ودارت معركة كبيرة انتهت بانتصار المسلمين وإلحاق هزيمة ساحقة بالفرس، فتفرقوا وتشتت جمعهم بعد هذا النصر العظيم الذي أطلق عليه "فتح الفتوح".
فتح مصر
اتسعت أركان الإمبراطورية الإسلامية في عهد الفاروق عمر، خاصة بعد القضاء نهائيًا على الإمبراطورية الفارسية في "القادسية" ونهاوند ـ فاستطاع فتح الشام وفلسطين، واتجهت جيوش المسلمين غربًا نحو أفريقيا، حيث تمكن "عمرو بن العاص" من فتح "مصر" في أربعة آلاف مقاتل، فدخل العريش دون قتال، ثم فتح الفرما بعد معركة سريعة مع حاميتها، الرومية، واتجه إلى بلبيس فهزم جيش الرومان بقيادة "أرطبون" ثم حاصر "حصن بابليون" حتى فتحه، واتجه بعد ذلك إلى "الإسكندرية" ففتحها، وفي نحو عامين أصبحت "مصر" كلها جزءًا من الإمبراطورية الإسلامية العظيمة.
فتح الله عليه في خلافته دمشق ثم القادسية حتى انتهى الفتح الى حمص، وجلولاء والرقة والرّهاء وحرّان ورأس العين والخابور ونصيبين وعسقلان وطرابلس وما يليها من الساحل وبيت المقدس وبَيْسان واليرموك والجابية والأهواز والبربر والبُرلُسّ000وقد ذلّ لوطأته ملوك الفرس والروم وعُتاة العرب حتى قال بعضهم:( كانت درَّة عمر أهيب من سيف الحجاج )000
عمر أمير المؤمنين
كان "عمر بن الخطاب" نموذجًا فريدًا للحاكم الذي يستشعر مسئوليته أمام الله وأمام الأمة، فقد كان مثالا نادرًا للزهد والورع، والتواضع والإحساس بثقل التبعة وخطورة مسئولية الحكم، حتى إنه كان يخرج ليلا يتفقد أحوال المسلمين، ويلتمس حاجات رعيته التي استودعه الله أمانتها، وله في ذلك قصص عجيبة وأخبار طريفة، من ذلك ما روي أنه بينما كان يعس بالمدينة إذا بخيمة يصدر منها أنين امرأة، فلما اقترب رأى رجلا قاعدًا فاقترب منه وسلم عليه، وسأله عن خبره، فعلم أنه جاء من البادية، وأن امرأته جاءها المخاض وليس عندها أحد، فانطلق عمر إلى بيته فقال لامرأته "أم كلثوم بنت علي" ـ هل لك في أجر ساقه الله إليك؟ فقالت: وما هو؟ قال: امرأة غريبة تمخض وليس عندها أحد ـ قالت نعم إن شئت فانطلقت معه، وحملت إليها ما تحتاجه من سمن وحبوب وطعام، فدخلت على المرأة، وراح عمر يوقد النار حتى انبعث الدخان من لحيته، والرجل ينظر إليه متعجبًا وهو لا يعرفه، فلما ولدت المرأة نادت أم كلثوم "عمر" يا أمير المؤمنين، بشر صاحبك بغلام، فلما سمع الرجل أخذ يتراجع وقد أخذته الهيبة والدهشة، فسكن عمر من روعه وحمل الطعام إلى زوجته لتطعم امرأة الرجل، ثم قام ووضع شيئًا من الطعام بين يدي الرجل وهو يقول له: كل ويحك فإنك قد سهرت الليل!
وكان "عمر" عفيفًا مترفعًا عن أموال المسلمين، حتى إنه جعل نفقته ونفقة عياله كل يوم درهمين، في الوقت الذي كان يأتيه الخراج لا يدري له عدا فيفرقه على المسلمين، ولا يبقي لنفسه منه شيئا.
وكان يقول: أنزلت مال الله مني منزلة مال اليتيم، فإن استغنيت عففت عنه، وإن افتقرت أكلت بالمعروف.
وخرج يومًا حتى أتى المنبر، وكان قد اشتكى ألمًا في بطنه فوصف له العسل، وكان في بيت المال آنية منه، فقال يستأذن الرعية: إن أذنتم لي فيها أخذتها، وإلا فإنها علي حرام، فأذنوا له فيها.
عدل عمر وورعه
كان عمر دائم الرقابة لله في نفسه وفي عماله وفي رعيته، بل إنه ليشعر بوطأة المسئولية عليه حتى تجاه البهائم العجماء فيقول: "والله لو أن بغلة عثرت بشط الفرات لكنت مسئولا عنها أمام الله، لماذا لم أعبد لها الطريق".(/3)
وكان "عمر" إذا بعث عاملاً كتب ماله، حتى يحاسبه إذا ما استعفاه أو عزله عن ثروته وأمواله، وكان يدقق الاختيار لمن يتولون أمور الرعية، أو يتعرضون لحوائج المسلمين، ويعد نفسه شريكًا لهم في أفعالهم.
واستشعر عمر خطورة الحكم والمسئولية، فكان إذا أتاه الخصمان برك على ركبته وقال: اللهم أعني عليهم، فإن كل واحد منهما يريدني على ديني.
وقد بلغ من شدة عدل عمر وورعه أنه لما أقام "عمرو بن العاص" الحد على "عبد الرحمن بن عمر" في شرب الخمر، نهره وهدده بالعزل؛ لأنه لم يقم عليه الحد علانية أمام الناس، وأمره أن يرسل إليه ولده "عبد الرحمن" فلما دخل عليه وكان ضعيفًا منهكًا من الجلد، أمر "عمر" بإقامة الحد عليه مرة أخرى علانية، وتدخل بعض الصحابة ليقنعوه بأنه قد أقيم عليه الحد مرة فلا يقام عليه ثانية، ولكنه عنفهم، وضربه ثانية و"عبد الرحمن" يصيح: أنا مريض وأنت قاتلي، فلا يصغي إليه. وبعد أن ضربه حبسه فمرض فمات!!
إنجازات عمر الإدارية والحضارية
وقد اتسم عهد الفاروق "عمر" بالعديد من الإنجازات الإدارية والحضارية، لعل من أهمها أنه أول من اتخذ الهجرة مبدأ للتاريخ الإسلامي، كما أنه أول من دون الدواوين، وقد اقتبس هذا النظام من الفرس، وهو أول من اتخذ بيت المال، وأول من اهتم بإنشاء المدن الجديدة، وهو ما كان يطلق عليه "تمصير الأمصار"، وكانت أول توسعة لمسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) في عهده، فأدخل فيه دار "العباس بن عبد المطلب"، وفرشه بالحجارة الصغيرة، كما أنه أول من قنن الجزية على أهل الذمة، فأعفى منها الشيوخ والنساء والأطفال، وجعلها ثمانية وأربعين درهمًا على الأغنياء، وأربعة وعشرين على متوسطي الحال، واثني عشر درهمًا على الفقراء.
استشهاده
كان عمر -رضي الله عنه- يتمنى الشهادة في سبيل الله ويدعو ربه لينال شرفها:( اللهم أرزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك)000وفي ذات يوم وبينما كان يؤدي صلاة الفجر بالمسجد طعنه أبو لؤلؤة المجوسي ( غلام للمغيرة بن شعبة ) عدة طعنات في ظهره أدت الى استشهاده ليلة الأربعاء لثلاث ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة000 ولما علم قبل وفاته أن الذي طعنه ذلك المجوسي حمد الله تعالى أن لم يقتله رجل سجد لله تعالى سجدة000ودفن الى جوار الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في الحجرة النبوية الشريفة الموجودة الآن في المسجد النبوي في المدينة.
كان قويا في الحق لا يخشى فيه لومة لائم، فقد استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وعنده نسوة من قريش، يكلمنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن على صوته، فلما استأذن عمر بن الخطاب قمن فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فدخل عمر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- يضحك، فقال عمر:( أضحك الله سنك يا رسول الله )000فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- :( عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب )000فقال عمر:( فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله )000ثم قال عمر :( يا عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-)000 فقلن:( نعم، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم-)000 فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- :( إيها يا ابن الخطاب ، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك )000
عمر في الأحاديث النبوية
( إن الله سبحانه جعل الحق على لسان عمر وقلبه )000( الحق بعدي مع عمر حيث كان ) 000( لو كان بعدي نبيّ لكان عمر بن الخطاب )000( إن الشيطان لم يلق عمر منذ أسلم إلا خرَّ لوجهه )000( ما في السماء ملك إلا وهو يوقّر عمر، ولا في الأرض شيطان إلا وهو يفرق من عمر )000
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-:( رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأةِ أبي طلحة وسمعت خشفاً أمامي، فقلت: ما هذا يا جبريل ؟ قال: هذا بلال، ورأيت قصرا أبيض بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا القصر ؟ قالوا: لعمر بن الخطاب، فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيْرتك )000فقال عمر:( بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار !)000
وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-:( بيْنا أنا نائم إذ أتيت بقدح لبنٍ، فشربت منه حتى إنّي لأرى الريّ يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضْلي عمر بن الخطاب )000قالوا:( فما أوّلته يا رسول الله ؟)000 قال:( العلم )000
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-:( بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليّ وعليهم قمصٌ، منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ أسفل من ذلك، وعُرِضَ عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرّه )000قالوا:( فما أوَّلته يا رسول الله ؟)000قال:( الدين )000(/4)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- :( لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر )وفي رواية:( لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر )000 قال ابن عباس - رضي الله عنهما-:( من نبي ولا محدث )000
انجازاته
استمرت خلافته عشر سنين تم فيها كثير من الانجازات المهمة000لهذا وصفه ابن مسعود -رضي الله عنه- فقال:( كان اسلام عمر فتحا، وكانت هجرته نصرا، وكانت إمامته رحمه، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي الى البيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا فصلينا)000
فهو أول من جمع الناس لقيام رمضان في شهر رمضان سنة ( 14 هـ )، وأول من كتب التاريخ من الهجرة في شهر ربيع الأول سنة ( 16 هـ )، وأول من عسّ في عمله، يتفقد رعيته في الليل وهو واضع الخراج، كما أنه مصّر الأمصار، واستقضى القضاة، ودون الدواوين، وفرض الأعطية، وحج بالناس عشر حِجَجٍ متوالية، وحج بأمهات المؤمنين في آخر حجة حجها000
وزاد في مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأدخل دار العباس بن عبد المطلب فيما زاد، ووسّعه وبناه لمّا كثر الناس بالمدينة، وهو أول من ألقى الحصى في المسجد النبوي، فقد كان الناس إذا رفعوا رؤوسهم من السجود نفضوا أيديهم، فأمر عمر بالحصى فجيء به من العقيق، فبُسِط في مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم-000
وعمر -رضي الله عنه- هو أول من أخرج اليهود وأجلاهم من جزيرة العرب الى الشام، وأخرج أهل نجران وأنزلهم ناحية الكوفة000
هَيْبَتِه و تواضعه
وبلغ -رضي الله عنه- من هيبته أن الناس تركوا الجلوس في الأفنية، وكان الصبيان إذا رأوه وهم يلعبون فرّوا، مع أنه لم يكن جبّارا ولا متكبّرا، بل كان حاله بعد الولاية كما كان قبلها بل زاد تواضعه، وكان يسير منفردا من غير حرس ولا حُجّاب، ولم يغرّه الأمر ولم تبطره النعمة000
فارس الاسلام وأمير المؤمنين، عبقري الملة، وقطب رحى المسلمين، وباني مجدهم، ومؤسس شوكتهم، وفاتح القيصرية، وهازم الكسروية، ورافع راية الإسلام، ومعلي كلمته، موصل الدين من قلب الجزيرة الى أقصى العالم، وناشر العدل، ومنفذ الشريعة الغراء على كل قريب وبعيد، ومساو بين كل جبار عنيد ومحتقر حقير، غير خائف في الحق لومة لائم، ولا آبه من عذل عاذل،ماحي الشرك والبدعة والكفر والضلال، حامى الحق والشريعة،الفاروق بين الحق والباطل، العادل بين الرعية خاصتهم وعامتهم أميرهم ومأمورهم،المعز لدين الله والحق، والمذل للطاغوت والكفر والأوثان، الأمين الراشد المرشد المصلح رضي الله عنه. قال فيه صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة …رأيت قصراً بفناءه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب".
وقال صلى الله عليه وسلم :بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة (الصديق) فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف، والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غربا فأخذها عمر بن الخطاب فلم أر عبقريا ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بعطن وفي رواية- حتى روى الناس وضربوا بعطن.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه
ذهب نقى الثوب قليل العيب أصاب خيرها وسبق شرها، أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقه(/5)
عثمان بن عفان ذو النورين )
هو أبو عبد الله عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية القرشى الأموى أمير المؤمنين . ذو النورين ثالث الخلفاء الراشدين وأحد المبشرين بالجنة ورابع من دخل فى الإسلام . زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته رقية ، وهاجرت معه إلى الحبشة الهجرتين ثم عاد إلى مكة وهاجر إلى المدينة . لم يشهد بدراً لأن زوجته كانت فى مرض الوفاة فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالإقامة عندها وضرب له بسهمه ، فصار كمن شهد بدراً . وله من السيدة رقية ( عبد الله ) الذى عاش ست سنوات ثم مات ، ثم زوجه الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها بابنته الثانية أم كلثوم ، فلما توفيت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أن لنا ثالثة لزوجناك . وله مناقب عظيمة ، منها أنه جهز نصف جيش العسرة بماله فبذل ثلاثمائة بعير بأقتابها وأحلاسها وتبرع بألف دينار ، ومنها أنه اشترى بئر رومة وأوقفه للمسلمين . ويروى أنه استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بئر أريس فأذن له وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه . يقول عنه علي رضى الله عنه: ذاك امرؤ يدعى فى الملأ الأعلى ذا النورين كان ختن ( صهر ) رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه وضمن له بيتاً فى الجنة.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لكل نبى رفيق ورفيقى ــ يعنى فى الجنة ــ عثمان . وهو ممن نزل فيهم قوله تعالى ( ونزعنا ما فى صدورهم من غل ) وروي أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صعد أحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف الجبل فقال : أثبت أحد ، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان . بويع بالخلافة بعد وفاة عمر بن الخطاب، افتتحت فى أيامه أرمينية والقوقاز وخراسان وكرمان وسجستان وإفريقية وقبرص . وأتم جمع القرآن الكريم فنسخ المصحف الذى جمعه أبو بكر الصديق وأحرق ما عداه . وهو أول من أمر بالأذان الأول ، وقدم خطبة العيد على الصلاة واتخذ الشرطة واتخذ داراً للقضاء ،وكان أبو بكر وعمر يقضيان فى المسجد . حدثت فى الفترة الأخيرة من خلافته فتنة فنقم الناس عليه لاختصاصه أقاربه من بنى أمية ببعض الولايات ، وأجج هذه الفتنة رجل يهودى هو ( عبد الله بن سبأ ) فجاءت الوفود من مصر والكوفة والبصرة وحاصروا داره ومنعوا عنه الماء والخروج إلى الصلاة حتى يتنازل عن الخلافة ، فرفض لأن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : يا عثمان إنه لعل الله يقمصك قميصاً فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم . وبلغ أصحاب الفتنة أن جيشاً من الشام قادم لنجدته فاقتحموا عليه داره وهو يقرأ القرآن وقتلوه رضي الله عنه ، وذلك فى شهر ذى الحجة سنة 35 هـ .(/1)
عجباً لأمر المؤمن
عبد العليم صديق*
إنّ للكون رباً وسيداً وخالقاً ومدبراً (لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ولا غالب لأمره)، الأمر كله بيده كما قال تعالى:(الأمر كله لله) (بيده ملكوت كل شيء) (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين). والمؤمن بهذا حقاً عجباً لأمره.
نواصي العباد والخلائق كلها بيده (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين)، والمؤمن بهذا عجباً لأمره.
الأمور تسير وفق ما قدره وأراده لا يتخلف من ذلك شيء كما قال: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) (ذلك تقدير العزيز العليم) (إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون)، والمؤمن بهذا عجباً لأمره.
من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً عجباً لأمره.
روى الإمام مسلم في صحيحه قوله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إنّ أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
إنّ هذا الحديث يشفي صدور المؤمنين ويذهب الحزن عنهم؛ ذلك لأنه يسلي المؤمن ويبيِّن له أنه الكاسب في الحالتين: في السراء والضراء، وفي الفرح والحزن، وفي حالة السلم والحرب، وفي الغنى والفقر، والصحة والمرض، وفي أحواله كلها.
ففي حال العسر يرضى بما قدره له ربه اللطيف الخبير, فعندما يصيبه أمر يكرهه يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه, وعندما يفوته متاع من الدنيا يتذكر أنّ ما أخطأه لم يكن ليصبه؛ فينجلي ـ بهذا الإيمان ـ الحزن ويذهب الهم ويسعد القلب ويزداد أجرا بإيمانه بالأقدار ويحقق أمر الله (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم) (آل عمران 153) وفي هذه الحال يقوم مقام الصبر محتسباً متذكراً أنّ الله عز وجل أراد اختباره؛ ليكفر عنه من سيئاته ويرفع درجاته.
وفي الرخاء لا يبطر ولا يقول كما قال الأول (إنما أوتيته على علم عندي) بل يقول كما قال الصالحون (هذا من فضل ربي), ويتذكر أن المنع والعطاء للامتحان حتى يتبين الصادقين من الكاذبين والشاكرين من المتكبرين كما قال المولى جلا وعلا:(ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) قال ابن كثير رحمه الله تعالى:"وقوله: :(ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) [الأنبياء:53] أي نختبركم بالمصائب تارة وبالنعم أخرى، فننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ( ونبلوكم ) يقول: نبتليكم :( بالشر والخير فتنة) (الأنبياء:53) بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال. وقوله: (وإلينا ترجعون) أي فنجازيكم بأعمالكم".
والمؤمن في حال الحرب ـ وقبلها ـ يعد نفسه للجهاد في سبيل الله معنوياً وبدنياً وينفق من أمواله ويجاهد بوقته وفكره ولسانه وقلمه.
وفي حال السلم ـ وكذلك في أحواله كلها ـ يلتف حول العلماء العاملين المصلحين يسأل عن ما يجب عليه عمله وكيف يتعامل مع إخوانه وكيف يتعامل مع أعدائه امتثالا لأمر الله:
(وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) فيجد ما يشفي غليله ويُذهب همه وما يشغله فتطيب ـ حينئذٍ ـ نفسه ويتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم ـ في شأن المؤمن ـ (إنّ أمره كله له خير).
ومن عجيب أمر المؤمن أنه لا يحزن ولا يأسى على ما مضى؛ وكذلك لا يخاف مما هو مقبل خوفاً يشتت فكره ويصيبه بالهموم والغموم فيستسلم بين الخوف والحزن فيقعد عن العمل، فقد كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن) فالحزن على ما مضى والهم سببه الخوف مما هو آت.
إنّ التسليم بالخيرية في أمر المؤمن لا يعني ترك الأخذ بالأسباب، دفعاً للمضار وجلباً للمصالح؛ بل يأخذ بها ولكنه لا يعتمد عليها بل يتوكل على العليم القدير.
ومن أعجب الخير الذي أصاب المؤمن والذي يستلزم الشكر الدائم والحمد والثناء على المنعم أنّه فطرَه مسلماً نعمة منه وفضل: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم) وتمام شكر نعمة الله أن نثق بمولانا وأن نعتز بديننا فهو الدين الحق: (إن الدين عند الله الإسلام) ونبينا صلى الله عليه وسلم، خاتم المرسلين: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله و خاتم النبيين)، والقرآن خاتمة الكتب المنزلة من رب العالمين كما قال مولانا:(وأنزلنا عليك الكتاب مصدقاً لما بين يديه ومهيمناً عليه)، وأنّ دين الإسلام هو الدين الذي تولى الله عز وجل حفظه ونصره كما قال الملك الحق: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون).(/1)
كيف لا نعتز بديننا وكل من لم يؤمن به ممن سمع به من المخلدين في النار كما قال الله رب العالمين: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)، وقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) (رواه مسلم).
إنا أسلمنا لربنا كيف لا وقد (أسلم له ما في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً)، وهذا الإسلام استسلام لشرعنا ظاهراً وباطناً عقيدة وشريعة وحكماً وتحاكماً له نعيش ومن أجله نجاهد وفي سبيله نموت. ونحن في ذلك كله نستشعر قول نبينا عليه الصلاة والسلام (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير).(/2)
عجوز عامي يقيم الحجة على رأس مرجئي! ...
على منصة التدريس يجلس شيخ مرجئي يعظ الناس ، وحوله أناس كثيرون منهم الخواص ، ومنهم العوام ، وبينما كان الشيخ مندمجاً في الشرح والتفصيل ، وإذا به يفاجئ بعجوز عامي يستوقفه قائلاً :
أيها الشيخ الجليل .
الشيخ بدهشة ما بك ؟
العجوز : أريد أن أسألك عن مسألة .
الشيخ : بكل سرور .
العجوز : إن لي أبناً يعقني ، ولا يبالي بأمري ، وأنا كما ترى شيخ كبير .
الشيخ : وماذا أيضاَ ؟
العجوز : وهو فوق ذلك لا يصل الأرحام ، ولا يحسن الكلام ، ويكثر الآثام ، ويؤذي الأنام .
الشيخ : وماذا بعد ؟
العجوز : لا يأمر أهله بالصلاة ، ولا يؤتي الزكاة ، ولا يغضب من أبنائه العصاة ، ولا يضرب المذنبين بالعصا .
الشيخ : وهل بعد ذلك جرم ؟
العجوز : تخرج نساؤه متبرجات ،وهن على كل فاحشة متفرجات ، ومع أهل الفسق والزيغ مندمجات ، وكل طريق باطل منتهجات .
الشيخ : إنها كبيرة ، ليس فوقها جريرة .
العجوز : لا يخرج للجهاد ، ولا يعمل لإصلاح البلاد ، وعن الآثام لا ينهى العباد .
الشيخ : إنه شيء عظيم ، وخطره واضح جسيم .
العجوز : وهو فوق ذلك ، يقصي عنه المؤمنين ، ويدني منه الكافرين ، ويرفع شأن المنافقين ، ولا يرحم المساكين ، ولا ينصر المستضعفين ، ولا يخفف آلام الثكلى والأيتام المحرومين .
الشيخ : إنه زنديق زنديق .
العجوز : يقاتل إخوانه مع الأعداء ، ويثقل عليهم بالبلاء ، ويقتل من سمع منه للحق النداء .
الشيخ : هذا أفاك أثيم .
العجوز : ويقتل القتيل ، ويمنع عن أهله المُعيل ،ولا يرحم الصغير مهما اشتد به العويل، ولكنه يقول : إني عظيم الإيمان ، فقلبي ممتلئ بالإحسان .
الشيخ : هذا كذوب كذوب ، فلو استقر الإيمان في قلبه لما وقع في ما وقع فيه من الآثام ، ولما آذى الأنام ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول : وأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد القلب كله ، ألا وهي القلب .
العجوز: وما حكم هذا الرجل ؟
الشيخ : إذا كان الأمر ما ذكر ، فهذا أمره عسر ، يقام عليه حد المحارب لله والرسول ، ويضرب بالسيف الصارم المسلول .
العجوز : وهل ينطبق ذلك على الحكام ؟
الشيخ ، كلا بلا كلام .
العجوز : وما الفرق يا حاذق ، حتى تفرق بين مارق ومارق ؟
الشيخ : الفتنة يا عجوز ، وهذا أمر لا يجوز .
العجوز : أما أمر الله سبحانه أن تبذل لدفع الفتنة النفوس ، وبذلك نزل على النبي الناموس .
الشيخ : الأمر متوقف على الاستحلال ، وهذا حق بلا محال .
العجوز : أما قلت إن صلاح الأبدان من صلاح القلوب ، أم هنالك فرق بين عيوب وعيوب ؟
الشيخ في مأزق : الباب يا هذا مفتوح ، والعيون بالأسرار تبوح .
العجوز : القلوب هي القلوب ، فمن صلح قلبه صلح عمله ، ومن فسد قلبه فسد عمله ، لا فرق بين محبوب ، ومحجوب .
الشيخ : آه ... آه... آه .(/1)
عجوز على باب المقابر
مفكرة الإسلام: أخبرني أحد أصدقائي المقربين بقصة طريفة حدثت معه, ولكنها أثّرت في نفسه تأثيرًا كبيرًا.
حكى يقول: 'كان يصلي معنا في المسجد القريب من المنزل رجل طاعن في السن, انحنى ظهره وضعف بصره وارتعشت يداه, ولكنه على الرغم من ذلك كان حريصًا على الصلاة في المسجد وفي جميع الصلوات.
تراه قبل الفجر بدقائق سائرًا في الطريق وحيدًا وسط الظلام, يجر قدميْه المنهكتين بخطوات وئيدة نحو المسجد, وفي يوم من الأيام أخبرني أحد الأصدقاء أن هناك جنازة اليوم لرجل من أهل المسجد, فوقع في بالي أنه ذلك الرجل الطيب, فحزنت حزنًا شديدًا عليه, وأخذت أدعو له بظهر الغيب أن يرحمه الله تعالى, وعندما وصلت إلى الجنازة تأكدت من أنه هو الذي مات؛ لأنني وجدت أبناءه في مقدمة الجنازة يبدو عليهم الحزن.
وبعد أن دفناه وعاد الجميع إلى أعمالهم وقفت على قبره فترة من الزمن أدعو له بالرحمة والمغفرة, ثم انصرفت إلى البيت, فإذا بذلك الرجل واقف على باب المقابر يتقبل العزاء في قريبه الذي دفناه منذ قليل ولم يكن هو الذي مات كما كنت أظن.
وعندها قلت لنفسي: لماذا كان هذا الشيخ المسن هو أول من خطر ببالي عند سماعي عن الجنازة؟! وكان الجواب: لأنه كبير السن, وهنا علمت الخدعة الكبرى التي اخترعناها ثم صدقناها, وهي أن الموت لا يأخذ إلا كبار السن'.
نعم أخي الحبيب.. هذه الخدعة مستقرة في نفوسنا بصورة واضحة جلية, ولا أعرف من أين لنا بها, وهي التي تجعلنا نغفل عن الموت ولا نتوقعه في مرحلة الشباب.
أيها الحبيب..
الموت لا يعرف صغيرًا ولا كبيرًا, وقصص الموتى من صغار السن تملأ الصحف والمجلات, وإن كنت لا تصدق فاقرأ بنفسك عن حالات الوفيات في مرحلة الشباب ولأسباب مختلفة؛ منها الحوادث ومنها الأمراض ومنها من ليس له سبب واضح غير إرادة الله عز وجل.
أعرف شابًا صغيرًا كان في الثانوية العامة, وكان رياضيًا ذا بنيان قوي, وفي يوم من الأيام كان يقف في شرفة بيته ويسحب حبلاً مربوطًا فيه إناء وزنه لا يتعدى الـ500 جرام, فتعلق الإناء بشجرة قريبة, فجذبه بشدة فسقط من الشرفة فمات.
إذن أيها الحبيب.. نحن معرضون للموت في أية لحظة, وليس الأمر مقتصرًا على كبار السن.
أخي الحبيب.. هل أنت ممن يحبون لقاء الله فيحب الله لقاءهم؟! أم أنت غير ذلك؟!!
في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 'من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه, ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه'.
قالت عائشة: يا رسول الله.. أكراهية الموت؟ كلنا يكره الموت.
قال: 'لا يا عائشة، ولكن المؤمن إذا بُشّر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بُشّر بسخط الله وعذابه كره لقاء الله وكره الله لقاءه'[1].
جاء في التاريخ أن هارون الرشيد الخليفة العباسي المجاهد الذي تحدى الغمام والسحب أن تمطر خارج أرضه دخل عليه أبو العتاهية الزاهد فقال لهارون في قصيدة:
عش ما بدا لك سالمًا في ظل شاهقة القصور
فقال هارون وقد ارتاح وانبسط وهش وبش: هيه. يعني زد.
فقال أبو العتاهية:
يجري عليك بما أردت مع الغدوّ مع البكور
فقال:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقنًا ما كنت إلا في غرور
فهوى يبكي حتى أغمي عليه...
هكذا كان دأب الصالحين في كل زمان ومكان, على الرغم من أعمالهم الصالحة إلا أنهم كانوا يخافون الموت, وخاصة موت الفجأة الذي لا يسبقه إنذار ولا تحذير.
أخي الحبيب.. أنت معرض للموت في أية لحظة.
ربما في حادثة..
ربما بمرض..
وربما من غير سبب واضح..
ولكن المهم أنك ستموت..
فهل أنت مستعد؟!!(/1)
عدالة الصحابة ومكانتهم في الإسلام
عبد الله بن محمد العسكر
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود، قال: " إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيئ "
إن عدالتهم عند أهل السنة من مسائل العقيدة القطعية، ومما هو معلوم من الدين بالضرورة ويستدلون لذلك بأدلة لا تحصى من الكتاب والسنة.
ففي القرآن يقول عز و جل: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار، رحماء بينهم تريهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) وقال - سبحانه -: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}.
قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: " كنا ألفا وأربعمائة ".
(ومن رضي عنه - تعالى -لا يمكن موته على الكفر، لأن العبرة بالوفاء على الإسلام، فلا يقع الرضا منه - تعالى -إلا على من علم موته على الإسلام، وأما من علم موته على الكفر فلا يمكن أن يخبر الله - تعالى -بأنه رضي عنه. ومما يؤكد هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله يقول: أخبرتني أمُّ مبشر أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول عند حفصة: لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها "
وروى الشيخان عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ".
وروى الإمام أحمد في الفضائل وصححه الألباني عن عبد الله بن عمر: "لا تسبوا أصحاب محمد، فلمقام أحدهم ساعةً خير من عمل أحدكم عمرَه "، وفى رواية: " خير من عبادة أحدكم أربعين سنة ".
وقال ابن حزم: " فمن أخبرنا الله - عز وجل - أنه علم ما في قلوبهم، و-رضي الله عنهم، وأنزل السكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم، أو الشك فيهم ألبتة ".
وفي مسند البزار رجاله موثوقون من حديث سعيد بن المسيب عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) إن الله اختار أصحابي على الثقلين سوى النبيين والمرسلين )
وقال الإمام أحمد: " فأدناهم صحبة هو أفضل من القرن الذين لم يروه ولو لقوا الله بجميع الأعمال "
وإلى وصف دقيق لحالهم من أحدهم بل ومن خيارهم وهو صهر رسول الله - عليه السلام - علي بن أبي طالب حيث يروي لنا ابن أبي الدنيا والحافظ ابن كثير عن أبي أراكة قال: " صليت مع علي بن أبي طالب رضي الله - تعالى -عنه صلاة الفجر فلما انتفل عن يمينه مكث كأن عليه كآبة، حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح صلى ركعتين ثم قلب يده فقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فما أرى اليوم شيئا يشبههم لقد كانوا يصبحون صفرا شعثا غبرا، بين أعينهم كأمثال ركب المعزى قد باتوا لله سجدا وقياما يتلون كتاب الله يتراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين. ثم نهض فما رئي بعد ذلك مفترا يضحك حتى قتل - رضي الله عنه - "
ولقد كان بينهم من المحبة والوئام والألفة قدر كبير وجليل مع ما حدث بين بعضهم من القتال إلا أن المحبة في قلوبهم لبعضهم كالجبال الرواسي، وهذا من أعجب العجب، ولكنه يزول حين نعلم أن أولئك هم تلاميذ محمد بن عبدالله، يأتي أحدهم إلى علي بن أبي طالب فيقول ما تقول فيمن قاتلوك (يعني معاوية وطلحة والزبير ومن كان معهم من الصحابة) فيقول: إخواننا بغوا علينا.(/1)
ويروي لنا أبو نعيم في الحلية عن أبي صالح قال: " دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية فقال له: صف لي عليا ؟ فقال: أو تعفني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك قال: أما إذا ولا بد فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب، كان والله كأحدنا يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارة نجومه، يميل في محرابه قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا يا ربنا يتضرع إليه، ثم يقول للدنيا إلي تغررت؟ إلي تشوفت؟ هيهات هيهات، غري غيري، قد بتتك ثلاثا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق، فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها وجعل ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء فقال معاوية - رضي الله عنه -: كذا كان أبو الحسن - رحمه الله -، كيف وجدك عليه يا ضرار؟ قال: وجد من ذبح واحدها في حجرها لا ترقأ دمعتها ولا يسكن حزنها ثم قام فخرج ".
هكذا كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فحق لأمة أن تفخر بهم وتباهي سائر الأمم:
أولئك أصحاب النبي وحزبُه *** ولولاهم ما كان في الأرض مسلم
ولولاهم كادت تميد بأهلها *** ولكن رواسيها وأوتادُها هم
ولولاهم كانت ظلاما بأهلها *** ولكن هم فيها بدور وأنجم[1]
اللهم اجمعنا بهم في أعالي الجنان واغفر لنا ولهم أجمعين والحمد لله رب العالمين،،،
--------------------------------
[1] من أبيات لابن القيم في ميميته الشهيرة
http://saaid.net المصدر:(/2)
عدالة الصحابة
اتخذ الطعن في السنة أشكالاً متعددة، وطرقاً متنوعة، فتارة عن طريق الطعن في حجيتها ومكانتها، وتارة عن طريق الطعن في الأسانيد والتقليل من شأنها، وتارة عن طريق الطعن في منهج المحدثين في النقد والجرح والتعديل، وتارة عن طريق الطعن في المرويات بالتشكيك فيها وادعاء التناقض والتعارض بينها، إلى غير ذلك من مطاعن سبق الحديث عنها في مواضيع سابقة.
ومن تلك الوسائل التي اتخذها أعداء الإسلام للطعن في السنة وإسقاط الثقة بها، الطعن في حَملة الأحاديث ورواة السنن من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى شككوا في عدالة الصحابة عموماً، وكالوا التهم والافتراءات لبعضهم على وجه الخصوص، وغرضهم من ذلك تقويض صرح الإسلام، وزعزعة الثقة بأصوله، فإن الصحابة - رضي الله عنهم - هم الذين أبلغونا هذا الدين، وإذا زالت الثقة عنهم أصبح كل الذي بين أيدينا مشكوكاً فيه، ورحم الله الإمام أبا زرعة الرازي حين قال: " إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى،، وهم الزنادقة " أهـ.
فقد نسب المستشرقون الوضع في الأحاديث إلى رجال الإسلام القدامى، ويعنون بذلك جيل الصحابة، يقول المستشرق اليهودي " جولد زيهر ": " ولا نستطيع أن نعزو الأحاديث الموضوعة للأجيال المتأخرة وحدها، بل هناك أحاديث عليها طابع القدم، وهذه إما قالها الرسول أو هي من عمل رجال الإسلام القدامى "، ثم قال: " وقد اعترف أنس بن مالك الذي صاحب الرسول عن قرب عشر سنوات، عندما سئل عما يحدث عن النبي هل حدثه به فعلاً فقال: " ليس كل ما حدثنا به سمعناه عن النبي ولكننا لا نكذب بعضنا ".
وطالب من تبعهم من المستغربين بعدم تمييز الصحابة عن غيرهم، ووضعهم في ميزان النقد والجرح والتعديل كما يوضع غيرهم.
فقال " أبو رية " في كتابه " أضواء على السنة المحمدية ": إنهم - أي العلماء - قد جعلوا جرح الرواة وتعديلهم واجباً تطبيقه على كل راوٍ مهما كان قدره - فإنهم قد وقفوا دون عتبة الصحابة فلم يتجاوزوها، إذ اعتبروهم جميعاً عدولاً لا يجوز عليهم نقد، ولا يتجه إليهم تجريح، ومن قولهم في ذلك: " إن بساطهم قد طوي "، ومن العجيب أنهم يقفون هذا الموقف على حين أن الصحابة أنفسهم قد انتقد بعضهم بعضاً ".
وقال أيضاً: " إذا كان الجمهور على أن الصحابة كلهم عدول، ولم يقبلوا الجرح والتعديل فيهم كما قبلوه في سائر الرواة، واعتبروهم جميعاً معصومين من الخطأ والسهو والنسيان، فإن هناك كثيراً من المحققين لم يأخذوا بهذه العدالة المطلقة، وإنما قالوا كما قال العلامة المقبلي: إنها أغلبية لا عامة، وأنه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من الغلط والنسيان والسهو، بل والهوى، ويؤيدون رأيهم بأن الصحابة إن هم إلا بشر يقع منهم ما يقع من غيرهم، مما يرجع إلى الطبيعة البشرية، وأن سيدهم الذي اصطفاه الله صلوات الله عليه - والله أعلم حيث يجعل رسالته - قد قال: ((إنما أنا بشر أصيب وأخطئ))، ويعززون حكمهم بمن كان منهم في عهده صلوات الله عليه من المنافقين والكاذبين، وبأن كثيراً منهم قد ارتد عن دينه بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، بله ما وقع من الحروب والفتن التي أهلكت الحرث والنسل، ولا تزال آثارها ولن تزال إلى اليوم وما بعد اليوم، وكأن الرسول صلوات الله عليه قد رأى بعيني بصيرته النافذة ما سيقع من أصحابه بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فقال في حجة الوداع: " ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))، وروى البخاري عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنكم تحشرون حفاة عراة، وإن ناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي، أصحابي، فيقول: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم}(المائدة 117).
وقال " أحمد أمين " في " فجر الإسلام ": " وأكثر هؤلاء النقاد - أي نقاد الحديث - عدلوا الصحابة كلهم إجمالا وتفصيلاً، فلم يتعرضوا لأحد منهم بسوء، ولم ينسبوا لأحد منهم كذباً، وقليل منهم من أجرى على الصحابة ما أجرى على غيرهم...... إلى أن قال: وعلى كلٍّ فالذي جرى عليه العمل من أكثر نقاد الحديث - وخاصة المتأخرين - على أنهم عدلوا كل صحابي، ولم يرموا أحداً منهم بكذب، ولا وضع، وإنما جرحوا من بعدهم "، وقال في موضع آخر: " ويظهر أن الصحابة أنفسهم في زمنهم كان يضع بعضهم بعضاً موضع النقد، وينزلون بعضاً منزلة أسمى من بعض، فقد رأيت قبل أن منهم من كان إذا روي له حديث طلب من المحدثين برهاناً " أهـ.(/1)
وللجواب على هذه الشبهة نقول: إن تعديل الصحابة - رضي الله عنهم - وتنزيههم عن الكذب والوضع، هو مما اتفق عليه أئمة الإسلام ونقاد الحديث من أهل السنة والجماعة، ولا يعرف من طعن فيهم وشكك في عدالتهم إلا الشذاذ من أصحاب الأهواء والفرق الضالة المنحرفة ممن لا يلتفت إلى أقوالهم، ولا يعتد بها في خلاف ولا وفاق.
كيف وقد عدلهم الله في كتابه، وأثنى عليهم ومدحهم في غير ما آية فقال - جل وعلا -: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود..... الآية}(الفتح 29)، وقال - سبحانه -: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان - رضي الله عنهم - ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}(التوبة 100)، وقال: {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون}(التوبة 88)، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تزكيهم، وتشيد بفضلهم ومآثرهم، وصدق إيمانهم وإخلاصهم، وأي تزكية بعد تزكية الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء؟!.
كما عدلهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبين منزلتهم، ودعا إلى حفظ حقهم وإكرامهم، وعدم إيذائهم بقول أو فعل، فقال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، وقال: (لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) أخرجاه في الصحيحين، وقال أيضاً: (الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه)، رواه الترمذي.
وأجمع المسلمون من أهل السنة والجماعة على عدالتهم وفضلهم وشرفهم، وإليك طرفاً من أقوال أئمة الإسلام وجهابذة النقاد فيهم، قال ابن عبد البر - رحمه الله - كما في الاستيعاب: " قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول ".
وقال ابن الصلاح في مقدمته: " ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتنة منهم فكذلك، بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحساناً للظن بهم، ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكأن الله - سبحانه وتعالى - أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة " أهـ.
وقال الإمام الذهبي: " فأما الصحابة - رضي الله عنهم - فبساطهم مطوي، وإن جرى ما جرى.....، إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل، وبه ندين الله - تعالى -".
وقال ابن كثير: " والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة " ثم قال: " وقول المعتزلة: الصحابة كلهم عدول إلا من قاتل علياً قول باطل مردود "، ثم قال: " وأما طوائف الروافض وجهلهم وقلة عقلهم، ودعاويهم أن الصحابة كفروا إلا سبعة عشر صحابياً - وسموهم- فهذا من الهذيان بلا دليل ".
على أنه - كما قال الخطيب في الكفاية - لو لم يرد من الله ورسوله فيهم شيء مما ذكر لأوجب الحال التي كانوا عليها - من الهجرة، وترك الأهل والمال والولد، والجهاد ونصرة الإسلام، وبذل المهج وقتل الآباء والأبناء في سبيل الله - القطع بتعديلهم واعتقاد نزاهتهم وأمانتهم، وأنهم كانوا أفضل من كل من جاء بعدهم.
والطعن في الصحابة - رضي الله عنهم - طعن في مقام النبوة والرسالة، فإن كل مسلم يجب أن يعتقد بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أدى الأمانة وبلغ الرسالة، وقام بما أمره الله به، ومن ذلك أنه بلغ أصحابه العلم وزكاهم ورباهم على عينه، قال - عز وجل -: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (الجمعة: 2)، والحكم بعدالتهم من الدين، ومن الشهادة بأن - الرسول - صلى الله عليه وسلم - قام بما أمره الله به، والطعن فيهم يعني الطعن بإمامهم ومربيهم ومعلمهم - صلى الله عليه وسلم -، كما أن الطعن فيهم مدخل للطعن في القرآن الكريم، فأين التواتر في تبليغه؟ وكيف نقطع بذلك إذا كانت عدالة حملته ونقلته مشكوكاً فيها؟!.
وأما الزعم بأن أكثر النقاد عدَّلوا الصحابة مغالطة وتلبيس، لأن النقاد كلهم قالوا بتعديل الصحابة وليس أكثرهم، والذين تكلموا في الصحابة ليسوا من نقاد الحديث، بل من أصحاب الميول المعروفة في التاريخ الإسلامي بالتعصب والهوى والابتداع في الدين، لتمرير بدعهم وترويج انحرافهم، حيث لم يجدوا لذلك سبيلاً إلا بالطعن في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(/2)
صحيح أن الصحابة - رضي الله عنه - كانوا بشراً، وليسوا بالمعصومين، لكنهم كانوا في القمة ديناً وخلقاً، وصدقاً وأمانة، والذين قالوا: إن الصحابة عدول، لم يقولوا قط إنهم معصومون من المعاصي، ولا من الخطأ والسهو والنسيان، وإنما أثبتوا لهم حالة من الاستقامة في الدين تمنعهم من تعمد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
حتى الذين أقيم عليهم حدُُّ أو قارفوا ذنباً وتابوا منه، لا يمكن أن يتعمدوا الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهؤلاء قلة نادرة لا ينبغي أن يغلب شأنهم وحالهم على حال الألوف المؤلفة من الصحابة، الذين جانبوا المآثم والمعاصي لا سيما الكبائر منها.
وأما الذين لابسوا الفتن فكانوا مجتهدين يعتقد كل منهم أن الحق معه، وعليه أن يدافع عنه، والمجتهد مأجور على اجتهاده أخطأ أم أصاب، ومع ذلك فهم قليل جداً بالنسبة لأكثر الصحابة الذين اعتزلوا هذه الفتن، كما قال محمد بن سيرين: " هاجت الفتن وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف فما خف لها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين ".
ولا يلتفت إلى استشهاد أبي رية بكلام " المقبلي " لأن " المقبلي " نشأ في بيئة اعتزالية المعتقد، هادوية الفقه، شيعية تشيعاً مختلفاً، يغلظ فيه أناس ويخف آخرون، فجاء حكمه متأثراً بتلك الأجواء التي عاشها، والبيئة التي تربى فيها، وقد بين ذلك العلامة المعلمي - رحمه الله - في الأنوار الكاشفة.
ونحن حينما نصف صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما هم له أهل، فإنما نريد صحابته المخلصين الذين أخلصوا دينهم، وثبتوا على إيمانهم، ولم يغمطوا بكذب أو نفاق، فالمنافقون الذين كشف الله سترهم، ووقف المسلمون على حقيقة أمرهم، والمرتدون الذين ارتدوا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بعده، ولم يتوبوا أو يرجعوا إلى الإسلام، وماتوا على ردتهم، هؤلاء وأولئك لا يدخلون في هذا الوصف إطلاقاً، ولا تنطبق عليهم هذه الشروط أبداً، وهم بمعزل عن شرف الصحبة، وبالتالي هم بمعزل عن أن يكونوا من المرادين بقول العلماء والأئمة: " إنهم عدول "، وفي تعريف العلماء للصحابي ما يبين ذلك بجلاء، حيث عرفوه بأنه من لقي - النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على ذلك.
وأما الزعم بأن الصحابة - أنفسهم في زمنهم - كان يضع بعضهم بعضاً موضع النقد، وينزلون بعضاً منزلة أسمى من بعض، وهو يعني بعض المراجعات التي كانت تدور بينهم حول بعض الأحاديث، فلم يكن ذلك عن تكذيب منهم للآخر كما جاء عن أنس - رضي الله عنه -: " لم يكن يكذب بعضنا بعضاً "، بل كانت الثقة متوفرة بينهم، ولكنهم بشر لم يخرجوا عن بشريتهم، فلا يمنع أن يراجع بعضهم بعضاً في بعض الأمور والأحكام، إما للتثبت والتأكد، لأن الإنسان قد ينسى أو يسهو أو يغلط عن غير قصد، ومن ذلك ما ثبت من مراجعة الخليفتين أبي بكر و عمر - رضي الله عنهما - لبعض الصحابة في بعض مروياتهم، وطلبهم شاهداً ثانياً، فلم يكن ذلك منهم عن تهمة ولا تجريح، وإنما هو لزيادة اليقين والتثبت في الرواية، وليقتدي بهم في ذلك من بعدهم، وليس أدل على ذلك من قول عمر - رضي الله عنه -، لأبي موسى الأشعري - وقد طلب منه أن يأتي بمن يشهد معه على سماعه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما إني لم أتهمك ولكنه الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد تكون هذه المراجعة لأنه ثبت عند الصحابي ما يخالف الحديث، أو ما يخصصه أو يقيده، أو لأنه رأى مخالفته لظاهر القرآن، أو لظاهر ما حفظه من سنة إلى غير ذلك، وما دار بينهم من مراجعات مدون ومحصور في كتب الحديث، ومشفوع بأجوبته، وهم فيها بين مصيب له أجران، ومخطئ له أجر واحد.
فليس من الإنصاف إذاً، أن تُجعل هذه المراجعات دليلاً على اتهام الصحابة بعضهم لبعض، وتكذيب بعضهم لبعض كما يزعم المرجفون.
إذاً فتعديل الصحابة - رضي الله عنهم - أمر متفق عليه بين المسلمين، ولا يطعن فيهم إلا من غُمص في دينه وعقيدته، ورضي بأن يسلم عقله وفكره لأعدائه، معرضاً عن كلام الله وكلام رسوله وإجماع أئمة الإسلام.
---------------------------------------
المراجع:
- دفاع عن السنة د. محمد أبو شهبة.
- منهج المدرسة العقلية الأمين الصادق الأمين.
- السنة ومكانتها في التشريع د. مصطفى السباعي.
- الحديث والمحدثون محمد أبو زهو.
30/11/2004
http://www.islamweb.net المصدر:(/3)
عدة الصابرين وذخيرة المساهمين
د. نايف بن أحمد الحمد 21/3/1427
19/04/2006
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد فقد أصيب المضاربون في الأسهم بانهيارات متتابعة خلال الأسابيع الماضية، حيث هبطت أسعار كثير من الأسهم أكثر من ستين في المائة ولا زالت في هبوط وقد سمعت وقرأت شيئا مما أصاب الناس بسبب ذلك من وفاة بعض المساهمين وجنون آخرين، وهلوسة آخرين، وأصبح هذا الهم هو حديث الناس في مجالسهم فأحببت أن أواسي إخواني بشيء مما جاء في فضيلة الصبر وحرمة الجزع والسخط فأقول مستعينا بالله تعالى :
أولا : لا يخفى على الجميع أن جملة من الأسهم المتداولة هي محرمة شرعا، باتفاق العلماء كأسهم البنوك الربوية/ ومع ذلك فإنك ترى من يتداولها بيعا، وشراء، ولا شك أن هذا من السحت الذي تُمحق بسببه البركة قال تعالى ( يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) (البقرة:276) فهذا المرابي خسر ماله في الدنيا، وبقي حسابه يوم القيامة إن لم يتب من ذلك قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ) (البقرة:279) ولعل ما حدث يكون درسا لهؤلاء وبابا للتوبة . عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما ظَهَرَ في قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا إلا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ عز وجل ) رواه أحمد (3809) وأبو يعلى (4981) وابن حبان (4410) قال الهيثمي : " رواه أبو يعلى وإسناده جيد " ا.هـ مجمع الزوائد 4/118فهذا الذي حدث عقوبة للمرابين قال تعالى ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) (الشُّورى:30) وابتلاء لغيرهم قال تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ] {البقرة:155}
ثانياً : لعل من أسباب الانهيار امتناع جملة من المساهمين من إخراج زكاة الأسهم متذرعين بأسباب واهية كعدم وجود السيولة لديهم فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يقول : ( ما خالطت الزكاة مالا قط إلا أهلكته ) رواه الشافعي، والبخاري في تاريخه والحميدي (237) والبيهقي 4/159 وقيل في تفسير الحديث : " يكون قد وجب عليك صدقة فلا تخرجها فيُهلك الحرامُ الحلالَ " . ( مشكاة المصابيح 1/562 المطالب العالية 5/589 مرقاة المفاتيح 4/250) وقال تعالى ذاكرا عقوبة من منع المساكين حقهم [إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا اليَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (:27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ العَذَابُ وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] (القلم:33) فإن قيل: هناك المزكون وغير المرابين في السوق، وقد شملتهم الخسارة، أقول: أذكرهم بحديث أم المؤمنين زينب بنت جحش - رضي الله عنها – قالت : قلت : يا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟ قال : ( نعم إذا كَثُرَ الْخَبَثُ ) رواه البخاري (3403) ومسلم ( 2880) .
ولعل من أهم ما ينبغي فعله عند هذا الابتلاء :
أولا : الرجوع إلى الله تعالى وتذكر أحكامه والعمل بها قال تعالى : ( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) (الأعراف:130) .(/1)
ثانياً : الصبر وهو : حبس النفس عن الجزع والتسخط وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عن التشويش . ( مدارج السالكين 2/ 156خطب السعدي /290) " والصبر هو الأساس الأكبر لكل خلق جميل , والتنزه من كل خلق رذيل، وهو حبس النفس على ما تكره , وعلى خلاف مرادها طلبا لرضى الله وثوابه " ( فتح الرحيم الملك العلام للسعدي /107 ) .
وهو عبادة غفل عنها الكثير، لذا لابد منه، واستحضار الأجر العظيم، والثواب الكبير، الذي أعده الله تعالى للصابرين ومن ذلك :
1/ محبة الله تعالى لهم : قال تعالى [وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] (آل عمران:146) وعن أنس -رضي الله عنه - قال : قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : ( إن عِظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط ) رواه الترمذي وقال : حديث حسن . ( رياض الصالحين /18 الترغيب والترهيب 4/143) .
2/ أن الصبر سبب لرفع الدرجات وتكفير السيئات قال تعالى [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] {الزُّمر:10} قال سليمان بن القاسم : كل عمل يُعرف ثوابه إلا الصبر . عدة الصابرين /58 عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها ) رواه البخاري 5324 وقال – صلى الله عليه وسلم – ( ليس من مُؤْمِنٍ يُصِيبُهُ نَكْبَةٌ شَوْكَةٌ وَلاَ وَجَعٌ إِلاَّ رَفَعَ الله عز وجل له بها دَرَجَةً وَحَطَّ بها عنه خَطِيئَةً ) رواه أحمد (25846) وابن حبان (2919) من حديث عائشة - رضي الله عنها – .
والصبر مثل اسمه مر مذاقته *** لكن عواقبه أحلى من العسل
(مدارج السالكين 2/158)
3/ انه سبحانه جعل الصبر على المصائب من عزم الأمور، أي مما يعزم من الأمور التي إنما يعزم على أجلِّها وأشرفها فقال [وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] {الشُّورى:43} وقال لقمان لابنه [وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] {لقمان:17} .
4/ قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- :" إنه تعالى جمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم وهى الصلاة منه عليهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم، قال تعالى [وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {:155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ {:156} أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ] {البقرة:157} وقال بعض السلف وقد عُزِّي على مصيبة نالته فقال : ما لي لا أصبر وقد وعدني الله على الصبر ثلاث خصال، كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها " ا.هـ عدة الصابرين / 58
صابر الصبرَ فا ستغاث به الصبرُ *** فصاح المحبُّ بالصبر صبرا
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني *** صبرت على شيء أمرَّ من الصبر
5/ أنه سبحانه جعل الصبر عونا، وعدة، وأمر بالاستعانة به، فقال [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ] {البقرة:45} فمن لا صبر له، لا عون له . عدة الصابرين / 58
ثالثاً : أن نعلم أن الله تعالى هو المعطي، وهو المانع، بيده ملكوت كل شيء قال تعالى (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (النحل:96) وفي الحديث القدسي ( يا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلا من أَطْعَمْتُهُ، فاستطعمونى أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلا من كَسَوْتُهُ فاستكسونى أَكْسُكُمْ - إلى قوله - يا عِبَادِي لو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ ما نَقَصَ ذلك مِمَّا عِنْدِي إلا كما يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذا أُدْخِلَ الْبَحْر ) رواه مسلم ( 2577) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - .(/2)
رابعاً : أن نعلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يخش الفقر علينا فعن عمرو بن عوف – رضي الله عنه – قال : قَدِمَ أبو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ من الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتْ الْأَنْصَارُ بِقُدُومِ أبي عُبَيْدَةَ فَوَافَوْا صَلَاةَ الْفَجْرِ مع رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - فلما صلى رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- انْصَرَفَ فَتَعَرَّضُوا له فَتَبَسَّمَ رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حين رَآهُمْ ثُمَّ قال : ( أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ من الْبَحْرَيْنِ ) فَقَالُوا : أَجَلْ يا رَسُولَ اللَّهِ . قال : (فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا ما يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ ما الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كما بُسِطَتْ على من كان قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ ) رواه البخاري (2988) ومسلم (2961) .
وكيف أخاف الفقر والله رازقي *** ورازق هذا الخلق في العسر واليسر
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم *** وللوحش في الصحراء والحوت في البحر
( من أعذب الشعر لليامي / 105)
خامساً : سوق الأسهم من أكثر الأسواق صدمات :
فيومٌ علينا ويوم لنا *** ويوم نساء ويوم نسر
وقال أبو الأسود :
وإن امرئ قد جرب الدهر لم يخف *** تقلب عصريه لغير لبيب
وما الدهر والأيام إلا كما ترى *** رزية مال أو فراق حبيب
وقيل :
إذا ما أتاك الدهر يوما بنكبة *** فافرغ لها صبرا ووسع لها صدرا
فإن تصاريف الزمان عجيبة *** فيوما ترى يسرا ويوما ترى عسرا
قال محمود الوراق :
إني رأيت الصبر خير معول *** في النائبات لمن أراد معولا
(المستطرف 2/142 )
لذا لابد أن يربي المشارك في الأسهم نفسه ويهيئها لتحمل الصدمات مع الاحتساب، ففي الحديث ( إنما الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى ) رواه البخاري ( 1223) ومسلم (926) من حديث أنس - رضي الله عنه - .والاسترجاع عند وقوع المصيبة من العبادات التي نسيها كثير من المساهمين قال تعالى ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إذا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) وفي صحيح مسلم عن أم سلمة – رضي الله عنها - قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها ) فهذا إخبار الصادق المصدوق، بأن من قال ذلك سيُعوضه الله خيرا مما فقد لذا لابد من التزام ذلك والثقة به، مع عدم الاستعجال، عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ ما لم يَعْجَلْ يقول دَعَوْتُ فلم يُسْتَجَبْ لي ) رواه البخاري ( 5981) ومسلم (2735) وهذا " يقتضي الإلحاح على الله في المسألة، وأن لا ييأس الداعي من الإجابة ولا يسأم الرغبة، فإنه يستجاب له، أو يكفر عنه من سيئاته، أو يدخر له " ا.هـ الاستذكار 2/526 فالدعاء تجارة رابحة على كل حال .
وما مسني عسر ففوضت أمره *** إلى الملك الجبار إلا تيسرا
( المستظرف 2/142)
قال العلامة السعدي – رحمه الله تعالى - : " متى مرن العبد نفسه على الصبر ووطنها على تحمل المشاق والمصاعب وجد واجتهد في تكميل ذلك , صار عاقبته الفلاح والنجاح , وقل من جد في أمر تطلبه واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر " ا.هـ فتح الرحيم الملك العلام / 108
قال نهشل :
صبرنا له صبرا جميلا وإنما *** تفرج أبواب الكريهة بالصبر
( المستظرف 2/142)
سادساً: أن نعلم أن الصبر يحتاج إلى مجاهدة وتحمل، فلا يأتي بسهولة ويسر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ الله وما أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ من الصَّبْرِ ) رواه البخاري (1400) ومسلم (1053) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه –
فصبرا يا بني الأحرار صبرا *** فإن الدهر ذو سعة وضيق
وهذه سنة الله تعالى الكونية في تغير أحوال الناس، كتغير فصول العام، من غنى، وفقر، وصحة، وسقم.
اصبر لدهر نال منـ *** ـنك فهكذا مضت الدهورُ
فرحٌ وحزنٌ تارةً *** لا الحزنُ دام ولا السرورُ
( من أعذب الشعر / 105 )2/158)(/3)
سابعاً : لابد أن نعلم أن من أركان الإيمان : أن نؤمن بالقضاء، والقدر، خيره وشره، قال تعالى ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) (الحديد:22) وعَنِ ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما – قال : كنت رَدِيفَ النبي -صلى الله عليه وسلم – فقال : ( يا غُلاَمُ أو يا غُلَيِّمُ أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ الله بِهِنَّ ) ؟ فقلت : بَلَى . فقال : ( احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إليه في الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ في الشِّدَّةِ وإذا سَأَلْتَ فسأل اللَّهَ وإذا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ قد جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هو كَائِنٌ فَلَوْ أن الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعاً أَرَادُوا أن يَنْفَعُوكَ بشيء لم يَكْتُبْهُ الله عَلَيْكَ لم يَقْدِرُوا عليه وإن أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بشيء لم يَكْتُبْهُ الله عَلَيْكَ لم يَقْدِرُوا عليه وَاعْلَمْ أن في الصَّبْرِ على ما تَكْرَهُ خَيْراً كَثِيراً وأن النَّصْرَ مع الصَّبْرِ وأن الْفَرَجَ مع الْكَرْبِ وان مع الْعُسْرِ يُسْراً ) رواه أحمد (2804) .لذا ذكر العلماء أن أنواع الصبر ثلاثة : صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على امتحان الله . مدارج السالكين 2/156
" ولهذا قال غير واحد من السلف، والصحابة، والتابعين لهم بإحسان، لا يبلغ الرجل حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فالإيمان بالقدر والرضا بما قدره الله من المصائب، والتسليم لذلك هو من حقيقة الإيمان " ا.هـ منهاج السنة 3/26
هوِّن عليك فإن الأمو *** ر بكف الإله مقاديرها
فليس بآتيك منهيُّها *** ولا قاصر عنك مأمورها
( من أعذب الشعر / 120 )
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - : " إنه سبحانه قرن الصبر بأركان الإسلام، ومقامات الإيمان كلها، فقرنه بالصلاة، كقوله [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ] {البقرة:45} وقرنه بالأعمال الصالحة عموما، كقوله [إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] {هود:11} وجعله قرين التقوى، كقوله [إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ ] {يوسف:90} وجعله قرين الشكر، كقوله [ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ] {إبراهيم:5} وجعله قرين الحق، كقوله [وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] {العصر:3} وجعله قرين الرحمة، كقوله [وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالمَرْحَمَةِ] {البلد:17} وجعله قرين اليقين، كقوله [لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ] {السجدة:24} وجعله قرين الصدق، كقوله [وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ] {الأحزاب:35} وجعله سبب محبته، ومعيته، ونصره، وعونه، وحسن جزائه، ويكفي بعض ذلك شرفا وفضلا " ا.هـ عدة الصابرين /61 ولأهمية الصبر فقد ذكره الله تعالى في مواضع كثيرة قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - : ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعا .ا.هـ عدة الصابرين /57 مدارج السالكين 2/152رسالة في التوبة لابن تيمية /250 التحفة العراقية /54 طريق الهجرتين /400
قال الأبشيهي : " فلو لم يكن الصبر من أعلى المراتب وأمنى المواهب، لما أمر الله تعالى به رسله ذوي الحزم وسماهم بسبب صبرهم، أولى العزم وفتح لهم بصبرهم أبواب مرادهم، وسؤالهم، ومنحهم من لدنه غاية أمرهم ومأمولهم ومرامهم، فما أسعد من اهتدى بهداهم، واقتدى بهم، وإن قصر عن مداهم، وقيل العسر يعقبه اليسر، والشدة يعقبها الرخاء، والتعب يعقبه الراحة " ا.هـ المستطرف 2/149
ثامناً : أن نعلم أن بعد العسر يسرا قال تعالى [فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا] {الشرح:6} وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود بإسناد جيد من طريق قتادة قال ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر أصحابه بهذه الآية فقال : ( لن يغلب عسر يسرين إن شاء الله ) . فتح الباري 8/712 وقال في تغليق التعليق 4/372 " رواه عبد بن حميد من حديث ابن مسعود موقوفا بسند جيد " ا.هـ
قال ابن مسعود -رضي الله عنه- : " لو كان العسر في جحر لدخل عليه اليسر حتى يخرجه " الطبراني في المعجم الكبير ( 9977 )
إذا ضاقت بك الدنيا *** ففكر في " ألم نشرح "
فعسر بين يسرين *** متى تذكرهما تفرح
وقيل :
أيها البائس صبرا *** إن بعد العسر يسرا
وقيل :
اصبر قليلا فبعد العسر تيسير *** وكل أمر له وقت وتدبير
فكم من رجل رأيناه باكيا *** فما دارت الأيام حتى تبسما
وهذه ليست بأول شدة تمر على البلاد، أو العباد، بل قد مر عليها غير ذلك، وكشفها الرحمن الرحيم
هي شدةٌ يأتي الرخاء عقيبها *** وأسى يبشر بالسرور العاجل
وقيل :
وكل شديدة نزلت بقوم ***سيأتي بعد شدتها الرخاء
وقيل :(/4)
اصبر لأحداث الزمان فإنما***فرج الشدائد مثل حلِّ عقال
وقيل :
بالصبر تدرك ما ترجوه من أمل*** فاصبر فلا ضيق إلا بعده فرج
أما والذي لا يعلم الغيب غيره*** ومن ليس في كل الأمور له كفو
لئن كان بدء الصبر مرا مذاقه *** لقد يجتني من بعده الثمر الحلو
( المستطرف 2/144 )
تاسعاً : أنه عند حلول المصائب انظر إلى من مصيبته أعظم من مصيبتك وخسارته أكثر من خسارتك فسيهون ذلك عليك عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عن – قال : قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( انْظُرُوا إلى من أَسْفَلَ مِنْكُمْ ولا تَنْظُرُوا إلى من هو فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ ) رواه مسلم ( 2963 ) .
بنا فوق ما تشكو فصبرا لعلنا *** نرى فرجا يشفي السقام قريبا
أما الجزع عند المصائب فهو من المحرمات عن عبد اللَّهِ بن مسعود - رضي الله عنه – قال : قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : ( ليس مِنَّا من لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ) رواه البخاري ( 1232) "وكل هذا حرام باتفاق العلماء " (الكبائر 1/183)
للبكاء النساءُ عند الرزايا ولحسن العزاء الرجالُ
وعن أنس -رضي الله عنه - قال : قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : ( إن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط ) رواه الترمذي وقال : حديث حسن . ( رياض الصالحين /18 الترغيب والترهيب 4/143) . قال تعالى [وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ] {النحل:126} .
ما أحسن الصبر في الدنيا وأجمله*** عند الإله وأنجاه من الجزع
من شد بالصبر كفا عند مؤلمه *** ألوت يداه بحبل غير منقطع
( المستطرف 2/144 )
قال ابن القيم – رحمه الله تعالى - " الصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام : صبر على الأوامر، والطاعات، حتى يؤديها , وصبر عن المناهي، والمخالفات، حتى لا يقع فيها , وصبر على الأقدار، والأقضية، حتى لا يتسخطها " العدة / 19 مدارج السالكين 2/156 وانظر : التحفة العراقية /54 طريق الهجرتين /400 مؤلفات السعدي 1/76
وجاء في الحديث ( ولا يحبط جزعُك أجرَك فتندم، واعلم أن الجزع لا يرد شيئا ولا يدفع حزنا وما هو نازل فكان قد ) رواه الحاكم 3/306 والطبراني في الأوسط (83) والكبير 20/155 وابن عساكر في التاريخ 58/449 من حديث معاذ بن جبل – رضي الله عنه – وقال الحاكم : " غريب حسن إلا أن مجاشع بن عمرو ليس من شرط هذا الكتاب " ا.هـ قلت : مجاشع ضعيف ، ومعنى الحديث صحيح .
ضجرُ الفتى في الحادثات مذمَّة *** والصبر أحسن بالرجال وأليق
قال أبو بكر - رضي الله عنه - : " ليس مع العزاء مصيبة، وليس مع الجزع فائدة " ا.هـ رواه ابن عبد البر في التمهيد 19/325 وابن عساكر في التاريخ 30/336
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : " إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك وأنت مأثوم " ا.هـ رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق 9/139وأنظر : كنز العمال 15/315 وفيض القدير 4/378 .
واصبر ففي الصبر خير لو علمت به *** لكنت باركت شكرا صاحب النعم
واعلم بأنك إن لم تصطبر كرما *** صبرت قهرا على ما خُط بالقلم
قال يحيى بن زياد – رحمه الله تعالى - : " أما بعد فإن المصيبة واحدة إن صبرت، ومصائب إن لم تصبر " ا.هـ تاريخ دمشق 64/222 .
وقال ابن السماك - رحمه الله تعالى -: " عليكم بتقوى الله والصبر، فإن المصيبة واحدة إن صبر لها أهلها، وهي اثنتان إن جزعوا " ا.هـ شعب الإيمان 7/248 حلية الأولياء 8/208.
وقال ابن القيم – رحمه الله تعالى - : " وأُمر المصاب بأنفع الأمور له وهو الصبر والاحتساب، فإن ذلك يخفف مصيبته، ويوفر أجره، والجزع والتسخط والتشكي، يزيد في المصيبة ويذهب الأجر " ا.هـ مدارج السالكين 2/155وقال السيخ السعدي – رحمه لاله تعالى - : " إن العبد لا بد أن يصاب بشيء من الخوف والجوع , ونقص من الأموال والأنفس والثمرات , وهو بين أمرين : إما أن يجزع ويضعف صبره, فيفوته الخير والثواب , ويستحق على ذلك العقاب , ومصيبته لم تقلع ولم تخف , بل الجزع يزيدها ; وإما أن يصبر فيحظى بثوابها , والصبر لا يقوم إلا على الإيمان ; وأما الصبر الذي لا يقوم على الإيمان كالتجلد ونحوه , فما أقل فائدته , وما أسرع ما يعقبه الجزع , فالمؤمنون أعظم الناس صبرا، ويقينا، وثباتا في مواضع الشدة " ا.هـ تيسير اللطيف المنان /214
لا تيأسن إذا ما ضقت من فرج *** يأتي به الله في الروحات والدلج
وإن تضايق باب عنك مرتتج *** فاطلب لنفسك بابا غير مرتتج
فما تجرع كأس الصبر معتصم *** بالله إلا أتاه الله بالفرج
( من أعذب الشعر / 63 )(/5)
ومهما يكن فإنه مع كل ما حدث، وزعْم أكثر المساهمين أنه قد أخطأ في دخول سوق الأسهم، وأنه يتمنى الخروج منه برأس، المال مع ذلك كله، وكثرة مرددي ذلك، إلا أني أجزم بأن السوق لو عاد إلى هيئته لعادوا إليه ونسوا كل ما حدث [وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ] (الأنعام:28) أسأل الله تعالى أن يفرج هم المهمومين، وينفس كرب المكروبين، ويقضي الدين عن المدينين، إنه جواد كريم، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(/6)
عدم الإنصات لأشرطة التلاوة
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد السؤال
هل يجوز تشغيل شرائط القرآن الكريم وعدم الاستماع لها والانشغال عنها بالحديث مع الزملاء والحديث في الهاتف والعمل وما إلى ذلك، وعند التنبيه لذلك يقول هذه الشرائط خلفية للعمل وهي أحسن من الموسيقى والغناء؟
الإجابة
الحمد لله، نقل ابن المنذر في كتابه "الأشراف" إجماع أهل العلم على أنه لا يجب الاستماع لقراءة القرآن في غير الصلاة والخطبة. وهو المراد بقوله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) الآية.
ولكن يستحب الاستماع للقراءة وهذا قول الشافعية، ويكره الحديث عندها بما لا فائدة فيه.
القراءة في الأسواق وعند التشاغل بأمور الدنيا فيها قولان لأهل العلم:
الجواز، لعل الله ينفع بها وهو الذي يظهر لي رجحانه، والثاني عدم الجواز.
أما أنها أحسن من الشرائط المشغولة بالغناء والموسيقى فليس هناك وجه للمقارنة بين قرآن الرحمن وقرآن الشيطان.
والعلم عند من لا تخفى عليه خافية.(/1)
عدم الالتفات إلى كثرة العدو وما عنده
- أخرج البيهقي عن ابي هريرة - رضي الله عنه - قال: (شهدت مؤتة، فلما دنا منا المشركون رأينا ما لا قبل لأحد به من العدة والسلاح والكُراع (النخيل)، والديباج والحرير والذهب، فبرق بصري، فقال لي ثابت بن قرم، رضي اللَّه عنه: يا أبا هريرة، كأنك ترى جموعاً كثيرة؟! قلت: نعم، قال: إنك لم تشهد بدراً معنا، إنا لم ننصر بالكثرة) ذكره ابن حجر في الإصابة.
- وأخرج الطيالسي عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم - وأخرج نحوه الطبراني في الأوسط قال: كتب أبو بكر - رضي الله عنه - إلى عمرو بن العاص: (سلام عليك، أما بعد، فقد جاءني كتابك تذكر ما جمعت الروم من الجموع، وإن اللَّه لم ينصرنا مع نبيه - صلى الله عليه وسلم - بكثرة عدد، ولا بكثرة جنود، وقد كنا يوم أحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما معنا إلا فَرَسان، وإن نحن إلا نتعاقب الإبل، وكنا يوم أحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما معنا إلا فرس واحد، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركبه، ولقد كان يظهرنا ويعيننا على من خالفنا، واعلم يا عمرو أن اطوع الناس لله أشدهم بغضاً للمعاصي، فأطع الله ومر أصحابك بطاعته).
- وأخرج ابن جرير في تاريخه عن عبادة وخالد، رضي الله عنهما، قالا: قال رجل لخالد: ما أكثر الروم وأقلّ المسلمين؟! فقال خالد: ما أقل الروم وأكثر المسلمين؟! إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان، لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر (فرس خالد) براء من توجّيه (شكوى الفرس من باطن حافره) وأنهم أُضْعِفوا في العدد، وكان فرسه قد حفي في مسيره (من العراق إلى الشام).
- أخرج أحمد بن مروان بن المالكي في المجالسة عن أبي اسحاق، (وكذا في البداية، وابن عساكر عن ابن اسحاق بنحوه)، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يثبت لهم العدو فواق ناقة عند اللقاء، فقال هرقل، وهو على انطاكية، لما قدمت منهزمة الروم: ويلكم!! أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم، أليسوا بشراً مثلكم؟! قالوا: بلى، قال: فأنتم أكثر أم هم؟! قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافاً في كل موطن، قال: فما بالكم تنهزمون؟! فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم. ومن أجل أنا نشرب الخمر، ونزني ونركب الحرام، وننقض العهد، ونغصب، ونظلم، ونأمر بالسخط، وننهى عما يرضي الله، ونفسد في الارض، فقال: أنت صدقتن(/1)
عدم التثبت واليقين
يتناول الدرس توضيح مفهوم عدم التثبت ثم ذكر أسباب عدم التثبت واليقين، وما هي عواقب ذلك وآثاره على العمل الإسلامي وعلى العاملين، ثم عرض للخطوات والوسائل المعينة على علاج عدم التثبت .
وهذه الآفةلا يكاد يسلم من شرها إلا من كان ذا صلة قوية متينة بربّه، وكان حصيفًا، وحتى يتحرر من ابتلوا بها، ويتقيها من عافاهم الله عز وجل منها، فلابد من تقديم تصور دقيق عن أبعادها ومعالمها، وذلك من خلال الجوانب التالية:
مفهوم عدم التثبت واليقين :
يطلق التثبت في اللغة على أمور، منها :
1- طلب ما يكون به الثبات على الأمر، وبعبارة أخرى: طلب الدليل الموصل إلى الثبات على الأمر.
2- التأكد من حقيقة ما يعين على الثبات في الأمر، تقول:' أثبت الأمر: حققه، وصححه، وأثبت الكتاب: سجّله، وأثبت الحق: أقام حجّته، وأثبت الشيء: عرفه حقّ المعرفة'.
3- التأنّي، أو التريث وعدم الاستعجال، تقول:'تثبت في الأمر والرأي، استثبت: تأنى فيه ولم يعجل، واستثبت في أمره: إذا شاور وفحص عنه'.ويطلق التبين في اللغة على نفس المعاني التي يطلق عليها التثبت.
عدم التثبت لغة: يعني:السرعة في الحكم على الشيء دون طلب دليله، ودون فحص وتأمل هذا الدليل.
عدم التثبت أو التبين في الاصطلاح الإسلامي والدعوي: هو السرعة، أو عدم التأني والتريث، في كل ما يمس المسلمين بل الناس جميعًا، من أحكام، أوتصورات، ومن تناقل وتداول لهذه الأحكام، وتلك التصورات، دون فهم دقيق للواقع، وما يحيط به من ظروف وملابسات.
وإلى هذا أشار القرآن الكريم في تعليقه على حادثة الإفك، حين قال:} إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ... [15]{ [سورة النور]. لأن من المعلوم بداهة أن التلقي إنما يكون بالأذن، ثم يعرض على العقل والقلب، وحينئذ يكون الكلام باللسان، أو عدم الكلام فإذا ما عبّر القرآن الكريم بأن التلقّي إنما كان باللسان، فإنما هي لفتة إلى السرعة، وعدم التروي في إصدار الحكم، بل في تداوله والتحرك به، كأن الإفك عندما وقع من ابن سلول صمت الآذان، وسترت العقول، وغلّفت القلوب، فلم يبق إلا أن لاكته الألسن، وتحركت به الشفاه، دون فهم للواقع، ودون معرفة بالظروف والملابسات، ولقد صوّر صاحب الظلال رحمه الله ذلك تصويرًا بديعًا حين قال:'وهي صورة فيها الخفة، والاستهتار، وقلة الحرج، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام: :} إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ{ لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبر ولا تروٍ، ولا فحص ولا إنعام نظر، حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرءوس، ولا تتدبره القلوب }وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ { بأفواهكم لا بوعيكم، ولا بعقلكم، ولا بقلبكم، إنما هي كلمات تقذف بها الأفواه قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقاها العقول '.
أسباب عدم التثبت واليقين:
1- النشأة الأولى: فقد ينشأ المرء بين أبوين سمتهما عدم التثبت أو التبين، وحينئذ يسري ذلك إلى نفسه، فإذا به صورة منهما، وهنا يتجلّى دور التزام الآباء بأخلاق وآداب الإسلام، أجل: إن ذلك لو روعي لجنّب الآباء أبناءهم كثيرًا من الانحرافات، دون الحاجة إلى خطب، أو مواعظ.
2- الصحبة العارية من هذا الخلق الإسلامي: وقد يعيش المرء في وسط غير ملتزم بهذا الخلق الإسلامي، فإذا به يحاكي، ويتأسى لاسيما إذا كان ضعيف الشخصية، غير واثق من نفسه، ومن تصرفاته وسلوكه، وهنا يأتي دور الارتماء بين أحضان الصحبة الطيبة الملتزمة بالمنهاج الإسلامي، إنّ هذا لو وقع، لصحت الأعصاب، ولتنبّهت المشاعر والأحاسيس، والجوارح.
3- الغفلة أو النسيان: وقد تؤدي الغفلة، أو النسيان بالإنسان إلى عدم التثبت أو التبين، وحينئذ يجب أن يتعلم من ذلك درسًا لا ينساه على مدار الزمان، فلا يتكرر منه هذا الخطأ، وصدق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ] رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي وأحمد .
4- الاغترار ببريق الألفاظ : وقد يقرع أذن المرء طائفة من الألفاظ المعسولة، والعبارات الخلّابة، وإذا به يغتر بما لهذه الألفاظ، وتلك العبارات من بريق وزخرف، وحينئذ يكون منه عدم التثبت أو التبين، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا] رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبوداود وابن ماجه ومالك وأحمد .(/1)
5- الجهل بأساليب أو طرق التثبيت: وقد يجهل بأساليب أو طرق التثبت أو التبين، فيؤدي ذلك إلى السرعة في الحكم، وتداوله هنا وهناك، ذلك أن للتثبت أو للتبين أساليب أو طرقًا كثيرة توصل إليه، ومن هذه الطرق:
رد الأمر إلى الله ورسوله، و إلى ذوي الرأي والنهى: قال الله تعالى:} وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ...[83]{ [سورة النساء].
السؤال والمناقشة لصاحب الشأن حتى يتضح موقفه: وخير ما يوضّح ذلك موقفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حاطب بن أبي بلتعة، لما كتب إلى أهل مكة يخبرهم بغزو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم، وأطلع الله عز وجل نبيه على الكتاب، وجيء به إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعاه، وسأله قبل أن يقضي في أمره قائلاً: [ يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟] فقال يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَقَدْ صَدَقَكُمْ] قَالَ عُمَرُ: [ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ] قَالَ: [ إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود وأحمد .
الإصغاء الجيد والمراجعة إذا لزم أو أشكل الأمر: لما أعطى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الراية لعلي يوم خيبر، قال له: [ امْشِ وَلَا تَلْتَفِتْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ] فَسَارَ عَلِيٌّ شَيْئًا ثُمَّ وَقَفَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ فَصَرَخَ: [ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاسَ] قَالَ قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ]رواه مسلم.
التجربة والملاحظة من خلال المعايشة والمصاحبة: فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يثني رجل على آخر في مجلسه، فيقول عمر للرجل الذي أثنى: [ هل صحبته في سفر قط؟] قال: لا، فقال له:' هل ائتمنته على أمانة قط؟' قال: لا، فقال له: [ هل كان بينك وبينه معاملة في حق؟] قال: لا. فقال له: [ اسكت فلا أرى لك علمًا به؛ أظنك والله رأيته في المسجد يخفض رأسه ويرفعه] رواه البيهقي، وقال الألباني في الإرواء: صحيح.
الجمع بين كل الأطراف مع المواجهة: فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أرسل عليًا لليمن قال له: [ إِنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي قَلْبَكَ وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ فَإِذَا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْكَ الْخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِيَنَّ حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنْ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ] رواه أبو داود وأحمد، وقال الألباني في الإرواء:حسن.
6- الحماس أو العاطفة الإسلامية الجياشة المتأججة: ذلك أن هذا الحماس أو هذه العاطفة مالم تكن موزونةبميزان الشرع، ومحكومة بلجام العقل، فإنها تسلب صاحبها الإدراك، وإذا به يخطئ كثيرًا، ويضيع في بيداء هذه الحياة. ويمكن أن نستشف هذا السبب من هذا الحديث:
عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:' بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُرَقَةِ فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: [ يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ] قُلْتُ كَانَ مُتَعَوِّذًا فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ ' رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد .(/2)
أجل لقد كان الحامل لأسامة على قتل الرجل مع نطقه بلا إله إلا الله، تلك التي تعصم الدم إلا بحقها، إنما هو الحماس، أو العاطفة الإسلامية الجياشة، التي انطوى عليها قلب أسامة بن زيد رضي الله عنه بحيث حالت بينه وبين الاقتناع بما صدر عن الرجل، من الإسلام، والنص بالشهادة، واتهمه بأنه يظهر خلاف ما يبطن، ناسيًا أن الله وحده هو المطلع على ما تكنّه القلوب، وتخفيه الصدور:} يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ[19] { [سورة غافر].
7- التعلق بعرض زائل من الدنيا: وذلك أن حب الشيء يعمي ويصم، ويحول بين الإنسان وبين استطلاع الموقف وتبين الحقيقة، ولعل هذا السبب هو المشار إليه في قوله سبحانه:}يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا، وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ[94]{ [سورة النساء].
8- الغفلة عن العواقب والآثار المترتبة على عدم التثبت أو اليقين: وأخيرًا .. قد تؤدي الغفلة عن العواقب والآثار المترتبة على عدم الالتزام بهذا الخلق الإسلامي إلى السرعة، أو العجلة في الأمر، وعدم التريث أو التأني، فإن من غفل عن عاقبة أمر ما، وقع فيه لا محالة إلا من عصم الله عز وجل.
مظاهر عدم التثبت أو اليقين:
1- معاداة كثير من الأفراد والهيئات العاملة للإسلام استجابة لحملات التشويه دون التثبت.
2- التركيز على المظهر والشكل، مع إهمال المخبر والجوهر: فإن كثيرًا من الهيئات العاملة للإسلام تهتم كثيرًا بالمظهر والشكل من اللحية، والسواك وقصر الجلباب، وإرخاء العذبة، وحمل العصا، والعمامة، مع الإهمال التام للمخبر والجوهر، الأمر الذي يجعلهم لا يميزون بين الصالح والطالح، بين الصادق والكاذب. ولا يُفهم ذلك أنه استهانة أو تحقير لتلك الأشياء، فقد وردت بذلك أحاديث تتفاوت صحة وضعفًا، ليس هنا مجال لتحقيقها الآن، ولكننا نريد من المسلم أن يكون لديه ترتيب الأولويات، وتقدير لمخبر الإنسان وجوهره .
3- عدم التماس المعاذير وعدم سماع الحجج والآراء: بزعم أنه لا عقبات ولا صعوبات في حياة الناس.
4- المبادرة بالتفوه لمجرد السماع والتلقي، أو لمجرد الرؤية والمشاهدة.
5- المبادرة بالتنفيذ لمجرد صدور التكليف: دون الإحاطة بكل الظروف والملابسات، ودون معرفة دقيقة بمن له التكليف والإلزام.
آثار عدم التثبت:
آثاره على العاملين:
1- اتهام الأبرياء من الناس زورًا وبهتانًا: فقد اتهمت أم المؤمنين عائشة زورًا وبهتانًا، الأمر الذي أقلقها، وأقلق أبويها، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين جميعًا، شهرًا كاملاً، حتى نزلت البراءة بشأنها من فوق سبع سموات.وكان سبب هذا الاتهام هو عدم التثبت أو التبين، حين قال الله عز وجل:}لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [12] لَوْلاَ جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِندَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ[13]{ [سورة النور]. وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ] قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: [ الَّذِينَ إِذَا رُءُوا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى] ثُمَّ قَالَ: [ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ] رواه أحمد واللفظ له، وابن ماجه مختصرا .
وفي حديث آخر: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إِذَا رُءُوا ذُكِرَ اللَّهُ وَشِرَارُ عِبَادِ اللَّهِ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ] رواه أحمد .
2- سفك الدماء وسلب الأموال: قال تعالى:}يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا، وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ[94]{ [سورة النساء].(/3)
3- الحسرة والندم :فإن بعض الصحابة الذين خاضوا في الإفك، وطاروا به من غير تثبت ولا تبين، من أمثال حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وغيرهما، وكذلك الذين قتلوا الرجل بعد أن شهد أن لا إله إلا الله مثل أسامة بن زيد رضي الله عنهم كل أولئك أصابتهم الحسرة، وعمّهم الندم، لما نزل الوحي من السماء، بكشف الموقف،وتمنّوا أن لم يكونوا أسلموا قبل ذلك اليوم، ولعل هذا الأثر هو ما يشير إليه قوله تعالى :} فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[6]{ [سورة الحجرات].
4- فقد ثقة الناس مع النفور والكراهية: فمن عرف عنه العجلة في الرأي والحكم، أو عدم التثبت؛ ينظر إليه الناس على أنه أرعن أحمق، ومثل هذا يسحب الناس ثقتهم منه، بل وينفرون منه، ويكرهونه بشدة، وإذا ذهبت الثقة، وكان النفور والكراهية، لم يعد في يد المسلم ما يكسب به الأنصار أو المؤيدين.
5- التعرض للغضب الإلهي:فمن تجرد من التثبت؛ كثرت أخطاؤه، وتضاعفت عثراته، ومن ثمّ يستوجب غضب الله وسخطه، ومن حَل عليه غضب الله وسخطه، فقد أضاع دنياه وأخراه، وخسر خسرانًا مبينًا، وصدق الله:} وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى[81]{ [سورة طه].
آثاره على العمل:
1- خلل واضطراب الصف: فإن عدم التثبت من شأنه أن يؤدي إلى خلل أو اضطراب في الصف،
ومن ذلك ما وقع بين الأنصار: أوسهم وخزرجهم، حين استمعوا إلى هذا الدخيل الذي بثّه بينهم أحد اليهود في ساعات الصفاء، والحبّ في الله، ليذكّرهم بيوم بعاث، وثاراتهم القديمة، لقد تنادوا قائلين: السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة - أي: الحرة- وخرجوا إليها، وانضمّت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، ولولا رحمة الله ولطفه بهم، ثم خروج الرسول إليهم، وتذكيرهم بنعمة الله عليهم، وهدايته لهم، بعد الكفر والضلالة، قائلاً: [يا معشر المسلمين: الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر، وألّف بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارًا ] رواه الطبري في تفسيره وابن إسحاق في السيرة .
2- الفتور أو التراخي في العمل: فإن عدم الالتزام بالتثبت من شأنه أن يؤدي إلى الفتور، أو التراخي في العمل مباشرة، أو بعد سلسلة من المكدّرات والمنغصّات، كما يصوره صاحب الظلال إذ يقول:'.. فإن إشاعة أمر الأمن مثلاً في معسكر متأهب، مستيقظ، متوقع لحركة العدو، إشاعة أمر الأمن في مثل هذا المعسكر، تحدث نوعًا من التراخي، مهما تكن الأوامر باليقظة؛ لأن اليقظة النابعة من التحفّز للخطر، غير اليقظة النابعة من مجرد الأوامر، وفي ذلك التراخي تكون القاضية'.
4- إفساح المجال للأدعياء والدخلاء :فإن عدم الالتزام بهذه الخلق الإسلامي، جعل أكثر الجمعيات، والجماعات العاملة للإسلام، مخترقة، ومكشوفة من قبل الأدعياء، والدخلاء، وهذا فيه من الخطورة ما فيه، حسبنا أن هذه الجمعيات والجماعات يُكاد لها بواسطة هؤلاء الأدعياء والدخلاء، والمنشئون أو المؤسسون الحقيقيون لها، نائمون غافلون، لا يدرون من أمرها شيئًا.
5- خسارة بعض الأنصار والمؤيدين: وقد يخسر العمل الإسلامي بسبب عدم التثبت أو التبين، بعض الأنصار والمؤيدين، وربما انقلبوا رأس حربة على العمل الإسلامي، والعاملين لدين الله، بعد أن كانوا مرجوًا منهم أنهم مساندون، أو مؤيدون.
6- الانطلاق من الخيال لا من الواقع: فإن من كان شأنهم عدم التثبت؛ سينقلون الأمور على غير وجهها، ويحكون الواقع بصورة غير صورته الحقيقية التي هو عليها، وعليه فإذا كانت خطة أو منهاج أو رأي، فإنما يكون مصدره، أو منبعه الخيال لا الواقع، وتلك أولى عوامل الفشل والخسران.
7- الحرمان من العون والتأييد الإلهي: فإن عدم الالتزام بخلق التثبت؛ سيؤدي إلى دخن في القلوب، وغلّ في الصدور، فضلاً عن باقي الآثار والسلبيات التي ذكرنا آنفًا، وهذا بدوره يؤدي إلى الحرمان من العون والتأييد الإلهي، إذ إن عونه سبحانه وتوفيقه وهدايته لنا، ذلك كله مقرون باستقامتنا وثباتنا في الطريق:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[7]{ [سورة محمد]، }وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ[171]إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ[172]وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ[173]{ [سورة الصافات].
علاج عدم التثبت:(/4)
1- تقوية ملكة التقوى والمراقبة لله: فإن هذه إن تأكدت في النفس، فسوف تحمل صاحبها حملاً على التأني والتروي، والإنصاف، ونقل الحقيقة كما هي دون زيادة أو نقص، بل ستكون سببًا في نور القلب، ونفاذ البصيرة، كما قال سبحانه:}يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا[29]{ [سورة الأنفال] ولعلنا نلمح هذه الوسيلة العلاجية من قوله صلى الله عليه وسلم: [التأني من الله، والعجلة من الشيطان] رواه البيهقي .
2- تذكر الوقوف بين يدي الله للمساءلة والجزاء :}وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْؤُولُون[24]{ [سورة الصافات]. }فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ[92]عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ[93]{ [سورة الحجر ]. }وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[36]{ [سورة الإسراء].
3- معايشة الكتاب والسنة من خلال النصوص المتصلة بقضية التثبت: }وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ[83]{ [سورة النساء]. }يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فِاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا[27]{ [سورة الحجرات].وفي قصة سليمان مع الهدهد: }سَنَنظُرْ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكَاذِبِينَ[27]{ [سورة النمل].
4- دوام النظر في سير وأخبار السلف: فإنها طافحة بالنماذج الحية التي تجسد هذا التثبت، وتجعله ماثلاً أمامنا كالعيان، وحسبنا من هذه السير، وتلك الأخبار، قصّة عمر بن الخطاب مع سعيد بن عامر الجمحي، واليه على حمص، إذ قدّر الله لعمر أن يزور هذه البلدة، ويسأل أهلها: [ كيف وجدتم عاملكم؟] فيشكونه له قائلين:نشكو أربعًا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: [ أعظم بهذا، وماذا؟] قالوا: لا يجيب أحدًا بليل، قال: [ وعظيمة، وماذا؟] قالوا: وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا، قال: [ عظيمة، وماذا؟] قالوا: يغنط الغنطة بين الأيام -أي: يغمى عليه، ويغيب عن حسّه- فلم يفصل عمر في الأمر، إلا بعد أن جمع بينهم وبينه، ودعا ربه قائلاً: [اللهم لا تفيّل رأيي فيه] وكان عمر حسن الظن به، وبدأت المحاكمة، فقال عمر لهم أمامه: [ما تشكون منه؟] قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار. قال: [ما تقول؟] قال: [والله إن كنت لأكره ذكره: ليس لأهلي خادم، فأعجن عجيني، ثم أجلس حتى يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ، ثم أخرج إليهم] فقال : [ما تشكون منه؟] قالوا: لا يجيب أحدًا بليل، قال: [ما تقول؟] قال: [إن كنت لأكره ذكره: إني جعلت النهار لهم، والليل لله عز وجل] قال: [وما تشكون منه؟] قالوا: إن له يومًا في الشهر لا يخرج إلينا فيه،قال: [ما تقول؟] قال: [ ليس لي خادم يغسل ثيابي، ولا لي ثياب أبدلها، فأجلس حتى تجف، ثم أدلكها، ثم أخرج إليهم من آخر النهار' قال:'ما تشكون منه؟] قالوا: يغنط الغنطة بين الأيام، قال: [ما تقول؟] قال: [ شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة، وقد بضعت قريش من لحمه، ثم حملوه على جذعة، فقالوا: أتحب أن محمدًا مكانك؟ فقال: والله ما أحب أني في أهلي وولدي وأن محمدًا e شيك بشوكة، ثم نادى يا محمد، فما ذكرت ذلك اليوم، وتركي نصرته في تلك الحال، وأنا مشرك لا أؤمن بالله العظيم، إلا ظننت أن الله عز وجل لا يغفر لي بذلك الذنب أبدًا، فتصيبني تلك الغنطة]. فقال عمر ـ بعد أن أظهر براءته أمامهم ـ: [ الحمد لله الذي لم يُفيّل فراستي، وبعث إليه بألف دينار، وقال: استعن بها على أمرك] ففرقها.
5- التربية على ذلك من خلال الأحداث والوقائع: على نحو ما جاء في قصة أسامة بن زيد مع الجهني في سورة النساء وعلى نحو ما جاء في حادثة الإفك في سورة النور، وعلى نحو ما جاء في قصة داود مع الخصمين في سورة ص، وعلى نحو ما جاء في : قصة سليمان مع الهدهد في سورة النمل، فإن هذا اللون من التربية يثبت في النفس، ولا ينسى، نظرًا لارتباطه بالحديث أو بالقصة.
6- التذكير بقواعد ومعالم وطرق التثبت: فإن الإنسان مجبول على النسيان وعلاج هذا النسيان دوام التذكير:} وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ[55]{ [سورة الذاريات] } فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى[9] { [سورة الأعلى].
7- تقدير العواقب المترتبة على ترك التثبت في الدنيا والآخرة: فإن هذا التقدير من شأنه أن يبعث الإنسان من داخله، ويحمله على التروي، والتأني .
8- معايشة ومخالطة من اشتهروا بخلق التثبت: فإن هذا يفيد الإنسان كثيرًا، ويدعوه إلى محاكاتهم، والنسج على منواله، لتقلّ العثرات، وتسلم الخطوات.
9- الحكمة في التعامل مع الناس: فلا تخدعنا المظاهر ولا نبالغ في البحث عن البواطن .
10- أن يتصور المسلم نفسه في موطن من يؤخذ بغير تثبت.(/5)
11- التعويد على إحسان الظن بالمسلمين : :}لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [12] { [ سورة النور] .
من كتاب:آفات على الطريق للدكتور/ السيد محمد نوح .(/6)
عدم التسديد للبنك العقاري
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 25/7/1423هـ
السؤال
أنا مشترك في نظام البنك العقاري ولا أسدد بحجة أن لي نصيبا في بيت مال المسلمين (وزارة المالية) وهم لا يعطوننا إياه.
الجواب
لا يجوز لك الامتناع عن تسديد أقساط البنك العقاري لأنه حق واجب متعين عليك حسب العقد الذي أبرمته مع البنك لقوله - تعالى – "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الآية، [المائدة: 1]، وقوله – صلى الله عليه وسلم – "المؤمنون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً" الترمذي (1352)، أبو داود (3594)، مالك (2/273)، وهذا العقد مع البنك لم يحل حراماً ولم يحرم حلالاً فهو لازم التنفيذ، نعم لك حق ثابت في بيت مال المسلمين، ولكنه حق شائع غير معين لفلان وفلان، أما الحق الذي عليك – الأقساط – فهي معينة تخصك دون غيرك، وكونك لم تحصل على حقك من بيت المال فهذه ديون محتملة الصدق والكذب، إذ يحتمل أن تكون حصلت عليها مقابل الخدمات المجانية، ولا يجوز لك الامتناع عن التسديد بدعوى المقاصة، لأن حقك لم يثبت بعينه، وإن منعت منه فالإثم على من منعك، والحساب والمقاصة غداً عند الله سبحانه.(/1)
عدم موالاة غير المؤمنين
يتناول الدرس بيان دستور هام، وقاعدة أساسية؛ تفتح عيون المسلمين، وتوقظ قلوبهم على عدو شديد الخطر، عظيم الأثر، يعمل داخل بلاد المسلمين وبالقرب منه، وإذا أتته الفرصة ضرب ضربته، وأوضح الكثير من مؤامرات اليهود في العالم كله، وتناول أهمية مفهوم الولاء والبراء ودلائله.
قال تعالى:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [118]{ [سورة آل عمران].
? إن هذه الآية الكريمة دستور هام، وقاعدة أساسية؛ تفتح عيون المسلمين، وتوقظ قلوبهم على عدو شديد الخطر، عظيم الأثر، يعمل داخل بلاد المسلمين وبالقرب منه، وإذا أتته الفرصة ضرب ضربته، وأبدى صفحته وكشر عن أنيابه، ولم يرع في المسلمين إلاًّ ولا ذمة.
? والآية الكريمة وثيقة الصلة بما قبلها وما بعدها من الآيات، وهي من مثل قوله تعالى:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [100]{ [سورة آل عمران]. هذه تنهى عن الطاعة مطلقًا، والآية التي نحن بصدد تفهمها وتدبر معانيها، تنهى عن اتخاذ بطانة من غير المسلمين، وهذا الاتخاذ وسيلة ذات خطر كبير في التأثير في المسلمين، وإيقاعهم في أحابيل قد تؤدي بهم إلى الشر الكبير، فآية النهي عن الطاعة عامة تشمل كل وسيلة تؤدي إلى الطاعة، والآية الكريمة ـ هذه ـ خاصة في حال معينة قد تؤدي لا إلى حمل المسلمين إلى طاعة الكافرين فحسب بل قد تؤدي إلى ضياع سلطانهم وتمزق أمرهم.
? وفي سبيل إيضاح شيء من إعجاز هذه الآية الكريمة ـ التي تحذر المسلمين من الطوائف المعادية للمسلمين عامة ـ ننقل شيئًا يسيرًا من عمل اليهود ومكرهم في العالم كله- فضلاً- عن العالم الإسلامي:
يقول مؤلف كتاب 'الدنيا لعبة إسرائيل' ـ وهذه الكتاب جدير بالمطالعة مؤلفه ضابط أميركي عمل في المخابرات الأمريكية زمنًا طويلاً وجاب البلاد طولاً وعرضًا، وهو يقول: إن أبحاثه استمرت أربعين عامًا حتى وصل أخيرًا إلى لب الحقيقة، والكتاب مترجم إلى العربية ـ بشأن القضية الفلسطينية في أول ظهورها 'ص 195': 'وضعت الصهيونية السياسية نُصب عينيها تحقيق الهدفين التاليين:
1- إجبار دول العالم على الاعتراف بالوطن القومي لليهود في فلسطين، وبالتالي إنشاء دولة مستقلة تكون هي وطن المؤامرة وقاعدة المستقبل.
2- تأمين السيطرة على ثروات المنطقة بأكملها .
كانت الخطوة الأولى إصدار وعد بلفور عام 1917م الذي تعهدت بموجبه إنكلترا وفرنسا والولايات المتحدة بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، وتلا ذلك فورًا بدء التنفيذ العملي: فأصدرت الأوامر إلى الجنرال اللنبي قائد الجيش الإنكليزي في الشرق الأوسط بطرد الأتراك من الشرق الأدنى واحتلال الأراضي المقدسة ـ أي فلسطين ـ وقد قامت السلطات البريطانية بعملية غادرة فتفادت الكشف عن تصريح بلفور حتى تمت جميع العمليات الحربية بمعونة العرب .
أما المرابون الماليون اليهود: فما أن تم احتلال فلسطين حتى طلبوا من الحكومة البريطانية تعيين لجنة صهيونية في فلسطين، وتعيين مندوبيهم السياسيين أعضاء لها، على أن تكون مهمة هذه البعثة تقديم النصح للجنرال كلايتون الحاكم العسكري لفلسطين.
وقد باشرت هذه اللجنة عملها بالفعل في آذار 1918م وكان أعضاؤها الرئيسيين:
الكولونيل أورمبسي رغور: الذي عين فيما بعد مديرًا لبنك ستاندارد في جنوب إفريقية، وهو البنك الذي يسيطر على مناجم الذهب والماس في جنوب إفريقية. كما أنه هو الذي يمول أيضًا سياسة التفرقة العنصرية التي تتبعها تلك البلاد .
الكولونيل جيمس دي روتشلد ابن أدموند دي روتشيلد رئيس الفرع الفرنسي لأسرة روتشيلد، ومنشئ تل أبيب وعدد من المستعمرات اليهودية. وقد أصبح جيم سدي روتشيلد عضوًا في مجلس العموم البريطاني من 1919 ـ 1945 ثم عينه تشرشل وزيرًا للشئون البرلمانية في حكومته .
الملازم أدوين صموئيل اليهودي الذي عين مديرًا للرقابة البريطانية في حكومة تشرشل أثناء الحرب العالمية الثانية، وعندما تأسست إسرائيل عام 1948 عين مديرًا للإذاعة الإسرائيلية.
المستر إسرائيل سيف الذي لعب دورًا مجهولاً من أخطر الأدوار في الحياة السياسية البريطانية المعاصرة، فقد أصبح فيما بعد رئيس لجنة التخطيط الاقتصادية والشئون السياسية للوزارات المتعاقبة في الحكم . حاييم وايزمان: وهو لا يحتاج إلى تعريف ...- إلى أن يقول المؤلف :-(/1)
بدأت المفاوضات أخيرًا في مؤتمر السلام فكانت مهزلة شبه مكشوفة أسقط فيها سادة المال العالميون القناع وبدأ نفوذهم جليًا. ولسنا بحاجة إلى كبير جهد لتوضيح ذلك؛ إذ يكفي أن تذكر أن رئيس الوفد الأمريكي كان بول واربورغ وهو اليهودي الممثل الرئيسي لمجموعة المرابين العالميين ـ اليهود في أمريكا ـ ولم يكن رئيس الوفد الألماني سوى شقيقه بالذات ماكس واربورغ].
ثم يقول المؤلف : [يسهل علينا والحالة هذه أن ندرك كيف تحول مؤتمر السلام إلى مؤتمر استعماري شرس، وكيف وافق دون تردد على كل القرارات ذات الغايات الخبيثة، أو ذات النتائج الخطرة ... وفيما يتعلق بفلسطين فقد وضع مشروع الانتداب الإنكليزي عدد من كبار الصهيونيين العالميين وعلى رأسهم:
البروفيسور فيليكس فرانكفورتر : وهو يهودي صهيوني أصبح فيما بعد مستشارًا رئيسيًا في البيت الأبيض في عهد رئاسة فرانكلين روزفلت .
السير هربرت صامويل: وهو أول مندوب سام في فلسطين بعد احتلال الانكليزي.
لوشيان وولف : المستشار الخاص لرئيس الوزراء الإنكليزي لويد جورج].
? كل هذا يبين لنا كيف يتلاعب اليهود بالعالم كله وليس ذلك كله إلا حين نامت أعين الرجال وغفت قلوب المؤمنين .. وهكذا يتبين لنا أن على المسلمين أن يحذروا أفراد المجتمعات المناوئة المعادية.
? إن الغالب على المجتمعات التي لا تؤمن بالإسلام:
أن تظل على جاهلية وكفر وبُعد عن الخلق الكريم .
ولا تقيم للحق وزنًا ولا ترى للمثل الفاضلة حقًا.
ويغلب عليها المتسلطون الطامعون الماكرون.
ويساق فيها الضعفاء سوقًا إلى طاعة أسيادهم وأتباعهم؛ ولذا كان عداؤها للمجتمعات الإسلامية قائمًا على معاداة الشر للخير والباطل للحق، والشر لا يرضى أن تعلو دولة الخير، والباطل لا يطمئن إذا غلب صوت الحق.
ولذلك كان بين دعاة الإيمان ودعاة الباطل نزاع دائم وكان بين المجتمعات القائمة على الحق والمجتمعات القائمة على الشرور صراع مستمر .
وعلى المؤمنين أن يعرفوا هذا ويستيقنوه ويؤمنوا بأن الذين لا يقبلون كلمة الحق لابد وأن يتعرض المؤمنون لكيدهم وعدائهم، وقد يستثني من هذه القاعدة أناس لم يتضح الحق لهم جليًا وهم ليسوا على طوية سيئة، ومثل هؤلاء يتقبلون الحق ولا يعادونه. وقد قال تعالى في شأنهم إقامة للعدل في أعلى درجاته: }لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[8]{ [سورة الممتحنة].
وإذا بحثنا بالمجتمعات غير الإسلامية عن هؤلاء الذين لا يقاتلون أفراد المجتمع الإسلامي ولا يعادونه، لرأيناهم في ندرة تامة، ولو بحثا في أيامنا الحاضرة لوجدنا الناس جميعًا يرمون المسلمين عن قوس واحدة، فالمجتمعات الأوربية والأمريكية والنصرانية، باستثناء أفراد على ندرة تامة، والشيوعية والاشتراكية والصهيونية كل هذه ترى في الإسلام عدوًا لدودًا تخشاه ونحمل له أشد الكراهية، ويصدق على هؤلاء جميعًا قوله تعالى: }قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ[118]{ [سورة آل عمران]، وهم كما ذكر الله: أعداء، ألداء.
? وفي الموضوع نفسه: قوله تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ[1] إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ[2]{ [سورة الممتحنة]. الآية الكريمة:
نهت عن موالاة المشركين.
ونهت عن إلقاء المودة إليهم.
وبينت أن من يتخذ الكافرين أولياء فقد ضل سواء السبيل.
? ولم تقدم النهي خاليًا عن بيان أسبابه، ولم تطلب أمرًا من غير إظهار حججه بينة قاطعة:
أولاً: قد كفروا بما نزل على المؤمنين من الحق.
ثانيًا: أخرجوا الرسول والمؤمنين من ديارهم بغير حق، لا لسبب إلا لإيمانهم بالله ربهم.
والأمر الثالث: هؤلاء إن يظفروا بالمؤمنين؛ فليس لهم ومنهم إلا العداء، والحرب، وبسط الأيدي بالقتل، وبسط الألسنة بالشتم.
والأمر الرابع: إن هؤلاء لا يقرون ولا يستقرون حتى يعود المسلمون إلى الكفر .
?والآية الكريمة التي نحن بصددها: تنهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة من دونهم، والمراد بالبطانة هنا: اليهود والمنافقون وجميع أصناف الكفار .(/2)
نفسية الكافرين : يقول الله تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ[118]هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[119]إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْوَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[120]{[سورة آل عمران].
بينت الآية الكريمة أسباب النهي بالكشف عن نوايا هؤلاء الأعداء ودخائل نفوسهم السيئة:
الأمر الأول: قوله تعالى:} لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا{ والخبال في الأصل: الفساد الذي يلحق الإنسان، فيورثه اضطرابًا كالمرض والجنون. والمعنى: لا يقصرون في فساد أمرهم، بل يجهدون فيه ما وسعهم الجهد، واختيار لفظة الخبال في الآية الكريمة للإشارة إلى أنه نوع من الفساد لا يصلح معه رأي، ولا ينفع فيه تدبير.
والأمر الثاني: قوله تعالى:} وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ{: والعنت دخول المشقة على الإنسان لقاء الشدة، أعنته: أوقعه في الهلكة، وقوله عز وجل :} وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ [7]{ [سورة الحجرات] أي: لوقعتم في العنت أي الفساد والهلاك. وفي التنزيل:} وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ[220]{[سورة البقرة] . معناه: لو شاء لشدد عليكم، وتعبدكم بما يصعب عليكم أداؤه كما فعل بمن كان قبلكم، وقد يوضع العنت موضع الهلاك فيجوز أن يكون معناه، لو شاء الله لأعنتكم أي لأهلككم. وعلى هذا فقوله تعالى: }وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ{ أي: تمنوا ما يهلككم.
والأمر الثالث: قوله تعالى:} قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ { أي: ظهرت أمارات العداوة من فلتات ألسنتهم، وفحوى كلماتهم؛ لأنهم لشدة بغضهم لا يملكون أنفسهم، ولا يقدرون أن يحفظوا ألسنتهم، ولكن ما تخفي صدورهم: من كيد، وغل، وحنق، وبغض؛ أكبر مما ظهر منهم، وهكذا تصرح الآية الكريمة أن قلوبهم تنطوي على أكبر أنواع البغض والكراهية.
وقد ذيلت الآية الكريمة بما يحض المسلمين على توقي هذه الشرور، وتجنب مكر هؤلاء ؛ ذلك أن الأمر بيّن، والحجج واضحة كالنهار إن كانوا يعقلون، قال تعالى:} قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ[118]{.
الأمر الرابع: قوله تعالى:} هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ {. وفي الآية الكريمة ما يدل على سلامة قلب المؤمن، ورغبته في الخير، ولكن الكافر منطو قلبه على اللؤم، فهو يستغل سلامة قلب المؤمن لإيذائه، وإيقاع الشر به. والآية تشير إلى سوء أخلاق الكافرين، وما نطوت عليه نفوسهم الخبيثة، فالإنسان من طبعه أن يقابل الإحسان بالإحسان، ولكن هؤلاء يقابلون الإحسان بالإساءة، ولذلك يلام المؤمنون على حبهم وموالاتهم. قال الزمخشري: فيه توبيخ شديد بأن الكافرين في باطلهم أصلب من المسلمين في حقهم.
الأمر الخامس: قوله تعالى:} وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ {. وفي هذا بيان لضعف نفوسهم وخسة ضمائرهم، فهم ليسوا بالرجال الذين يعلنون حقيقتهم، ولكنهم يظهرون إيمانًا ويبطنون كفرًا ويبدون مودة ويسرون أشد أنواع العداوة، وهذا الوصف وصف المنافقين واليهود، وشأن هؤلاء أنهم يستحقون أن يموتوا بغيظهم، وهم يشهدون بأم أعينهم رفعة الإسلام وعزة أهله، قال تعالى:} قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {.
الأمر السادس: قوله تعالى :} إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا {. وليس هذا شأن الصديق المحب، بل هو شأن العدو الموغل في عداوته.
وإن المتأمل في الآيات الكريمة ليعجب غاية الإعجاب: بأحكامها، ودقة وصفها، وعمق بيانها لصفات هؤلاء الأعداء، واستخراج خفايا نفوسهم:
? يبغون للمسلمين الخبال، والشر والفساد، وأن ينقضي أمرهم، ويذهب تدبيرهم،وهم يسعون في ذلك دائبين لا يصيبهم كلل، ولا يعتريهم ملل.
? وهم يتمنون بعد فساد أمر المسلمين أن تصيبهم الشدائد فتهلكهم، وتقطع دابرهم.(/3)
?وهم يكنّون في أنفسهم العداوة والبغضاء، ويبدو ذلك في فلتات لسانهم، والمؤمنون يضمرون لهم الخير، ويظهرون لهم المودة، ويؤمنون بكتابهم، وهؤلاء يحملون في قرارة نفوسهم قابل ذلك كرهًا وحقدًا وغلاً.
? وهؤلاء بلغت بهم الخسة أنهم يظهرون بمظهر الود والموافقة للمؤمنين في إيمانهم وعقيدتهم، فإذا خلوا إلى أنفسهم أظهروا عداوتهم، وأكل الغيظ قلوبهم.. وهل يستحق أمثال هؤلاء إلا أن يموتوا بغيظهم .. إن الله عليم بخفايا صدورهم.
?وهؤلاء إن أصاب السلمين أدنى خير قتلهم الكيد، وإن أصاب المسلمين الشر طاروا من الفرح . أينبغي للمؤمنين أن يوادوا هؤلاء ويتخذوا منهم بطانتهم ؟!
?والآيات الكريمة تحذر الماضين والحاضرين من المؤمنين بأروع بيان، وأوضح دليل، وليس للمسلمين بعد هذا كله أن يخشوا شر هؤلاء، وحسب المسلمين الصبر والتقوى، فهما الدرعان اللذان يقيان كل عادية، ويدفعان كل كيد، فليس الله بغافل عنهم، ولا مهمل أمرهم، قال تعالى :} وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[120]{ [سورة آل عمران].
مآل طاعة الكافرين الخسران: وقال الله تباركت أسماؤه :} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[149]بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ[150]سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ[151]{ [سورة آل عمران].
? تؤكد الآيات: أن طاعة المؤمنين للكافرين من ورائها الارتداد إلى الكفر، والانقلاب إلى الخسارة في الدنيا والآخرة، وليس للمؤمنين أن يحسبوا للكافرين حسابًا مهما عظم أمرهم، واشتد سلطانهم، ذلك أن للمؤمنين في نصر الله ما هو حسبهم، ولهم في عون الله جل شأن ما يكفيهم عن عون كل ما سواه.
? وكأن سائلاً يسأل، فيقول: كيف يتم عون الله، وكيف ينزل نصره إذا اشتد الخطب واحلولك الظلام؟
وتجيب الآية الكريمة إجابة مصدرة بنون العظمة، ويتحول الخطاب من الغيبة إلى الحضور ليسمع المؤمن كلام ربه جل شأنه ليس بينه وبينه حجاب، وليستيقن المؤمن أن الأمر واقع ليس له دافع، قال تعالى: } سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ{ كلمة تدوي في الكون كله يشهدها الكون، ويشهد بها كل ذي عقل .. قلوب الكافرين ممتلئة رعبًا، وقلوب المؤمنين تحيط بها السكينة، وتحفها الرحمة، وإن حرب الأمر، وأحاط الأعداء من كل جانب.
وليس مثال هذا الوعد لمؤمني اليوم، فليست القلوب هي تلك القلوب وليس الرجال هم أولئك الرجال .. لقد خالفوا عن أمره جل ثناؤه، ولقد قال تعالى:} فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[63] {[سورة النور].
? وكأني بسائل يقول: كيف يلقى الرعب في قلوب الأعداء، وهم غالبون محصنون متمكنون؟
وتجيب الآية الكريمة، فتقول:} بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا {. وهكذا تكشف الآية الكريمة عن حقيقة نفسية، وقاعدة اجتماعية: الجماعة الجاحدة لله، المشتركة بالله ما لم ينزل به سلطانًا هي جماعة تكون أفرادها تكونًا غير سيلم، ونشأوا نشأة غير صحيحة، وهي جماعة غير متزنة، وغير سالمة من الآفات النفسية والعيوب الاجتماعية، ذلك أن المبادئ التي تقوم عليها، والمناهج التي تنتهجها ليست المناهج التي تصلح لفطرتها، وليست بالذي يقوم أمرها. أوضحت الآية الكريمة طابع مثل هذه الجماعة، وكشفت عن خاصتها، طابعها الرعب وخاصتها الجبن.
? وإن هذا المعنى ليشاهد في كل جولة تتم بين المؤمنين، وأعدائهم حين يكون للمؤمنين نصيب يسير من صفاتهم الأولى.. إن الفضائل الكاملة: من اعتدال واتزان، وإقدام في مواطن الإقدام، كل هذه ليست إلا لذوي الأمزجة المعتدلة، والعقول الراجحة، والأذواق السليمة التي آمنت بأن لهذا الكون إلهًا لا يصح أن يعبد سواه.
? والمشكلة الكبرى التي نواجهها اليوم فتنة كثير من أبنائنا بالمدنية الغربية، كيف يمكن أن يصدق على هؤلاء ـ الذين بلغوا ما بلغوا من معرفة بالكون وسننه في النواحي الكونية والنفسية والاجتماعية واستطاعوا بذلك خدمة الإنسانية وتخفيف آلامها ـ قوله تعالى:}يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[7]{ [سورة الروم] .
? كيف يصدق عليهم أنهم ذوو قلوب مريضة، وشخصيات ضعيفة، وعقول هزيلة، يملأ الرعب جنباتها؟(/4)
والإجابة عن هذا ما قاله الكسيس كارل ـ الطبيب العالم الباحث في معاهد ووكفلر العلمية بنيويورك المتوفي عام 1944 ـ إنه يوضح في كتابه:'الإنسان ذلك المجهول':' أن المدنية الحاضرة لا تصلح لهذا الإنسان؛ لأنها تجهله جهلاً تامًا، وهو يقول لئن كانت العلوم التي تتعلق بالجماد قد تقدمت فإن العلوم التي تتعلق بالإنسان في تأخر مخيف. يقول:'إن الجماعات والأمم التي بلغت فيها الحضارة الصناعية أعظم نمو وتقدم هي على وجه الدقة الجماعات والأمم الآخذة في الضعف، والتي ستكون عودتها إلى البربرية، والبهيمية أسرع من عودة غيرها إليها .. إن القلق والهموم التي يعانيها سكان المدن العصرية تتولد من نظمهم السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية .. إننا ضحايا تأخر علم الحياة عن علوم الجماد '.
إلى أن يقول:'إن كثرة عدد مرضى الأعصاب والنفوس؛ دليل حاسم على النقص الخطير الذي تعاني منه المدنية العصرية، وعلى أن عادات الحياة الجديدة لم تؤد مطلقًا إلى تحسين صحتنا العقلية'.
? إنه لموضوع جدير بدراسة المسلمين: أن يعلموا إلى أين تسير الحضارة الغربية؟ وما النهاية التي تنتهي إليها. ومن المؤسف جدًا أن المسلمين لا يحصلون في هذا الموضوع وغيره إلا على فتات ما تلقيه إليهم الموائد الغربية، ولا يستطيعون أن يعرفوا الحقيقة إلا كما يريد هؤلاء أن يرفعوهم بها.
? إن المسلمين قد انتهى أمرهم إلى ضآلة دون ضآلة أعدائهم الذين لا يؤمنون بالله لسوء التربية التي يتلقونها، ولفقدان الهدي القرآني، فنشأوا غثاء كغثاء السيل، ونزعت مهابتهم من قلوب عدوهم كما وصف الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام .
? ومع كل ذلك: فما يزال العدو يخشى جانبهم، ويرصد أعمالهم ويرقب أنفاسهم، وما تزال طائفة منهم ظاهرين على الحق يقاتلون عليه لا يضرهم من خالفهم، وما تزال بذور الإيمان كامنة تنطوي عليها النفوس، وتنتظر ساعة انطلاقها؛ لتمتد فروعها في الفضاء، وتظل العالم بأفياء السلام.
من كتاب :'سبيل الدعوة الإسلامية' للدكتور/ محمد أمين المصري(/5)
عذاب القبر ونعيمه
كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر يبكى حتى يبل لحيته ، فقيل له : تذكر الجنة والنار فلا تبكي ، وتبكي من هذا! ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ( القبر أول منازل الآخرة ، فإن ينج منه فما بعده أيسرُ منه ، وإن لم ينج منه فما بعده أشدُّ منه . قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله ما رأيت منظرا قط إلا والقبر أفظع منه ) رواه أحمد و الترمذي وحسنه الشيخ الألباني .
وهذا الموقف من عثمان رضي الله عنه وما ينتابه من خوف وفزع من رؤية القبر ، نابع عن تصور صحيح لذلك المكان الموحش ، فبعد أن كان الإنسان يحيا حياة الأنس والسرور ، إذا به يأوي إلى مكان ليس فيه أنيس ولا جليس ، وبعد أن كان مبجَّلاً معظماً في هذه الحياة إذا به يهال عليه التراب ، ويرمى في قعر بعيد ، إنه أمرٌ لو تفكر فيه المتفكرون ، واعتبر به المعتبرون ، ما التذوا بعيش ، ولا هنئوا بسعادة .
أتيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقر
وأين المذلُّ بسلطانه وأين القوي إذا ما قدر
تفانوا جميعا فما مخبر وماتوا جميعا ومات الخبر
ومما يروى في هذا المعنى أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله وعظ يوماً أصحابه في حال أهل القبور ، فقال : إذا مررت بهم فنادهم إن كنت منادياً ، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم .. سل غنيهم ، ما بقي من غناه ؟ .. واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون .. واسألهم عن الجلود الرقيقة ، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان تحت الأكفان؟! .. أكلت الألسن، وغفرت الوجوه، ومحيت المحاسن، وكسرت الفقار، وبانت الأعضاء ، ومزقت الأشلاء ، فأين حجابهم وقبابهم ؟ وأين خدمهم وعبيدهم ؟ وجمعهم وكنوزهم ؟ أليسوا في منازل الخلوات ؟ أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء ؟ قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة والمال والأهل.
فيا ساكن القبر غداً ! ما الذي غرك من الدنيا ؟ أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد؟ وأين ثمارك اليانعة؟ وأين رقاق ثيابك؟ وأين طيبك وبخورك؟ وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟ .. ليت شعري بأي خديك بدأ البلى .. يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموت .. ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا ..وما يأتيني به من رسالة ربي .. ثم انصرف رحمه الله فما عاش بعد ذلك إلا أسبوعا واحداً .
وبعد هذه الموعظة القصيرة التي أحببنا من خلالها أن نستشعر صورة تلك الحفرة الضيقة المظلمة ، نقول وبالله التوفيق : القبر هو أول منازل الآخرة وهو إما أن يكون روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، فإن العبد إذا أدخل في قبره ضمه القبر ضمة تتداخل معها أضلاعه ، وهذه الضمة لا ينجو منها أحد ، سواء أكان مؤمنا تقياً أم كافرا شقياً ، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن للقبر ضغطة ، ولو كان أحدٌ ناجياً منها نجا منها سعد بن معاذ ) رواه أحمد .
حتى إذا فُرِّج عن العبد من ضمة القبر أقعد للسؤال - مؤمناً كان أم كافراً - فيسأل عن ربه ودينه والرجل الذي بعث فيهم ، فأما المؤمن فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام ، والرجل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فينادي منادٍ من السماء ، أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة ، وافتحوا له بابا إلى الجنة ، وألبسوه من الجنة ، فيأتيه من روحها وطيبها ، ويفتح له فيها مد بصره ، وأما الكافر فيأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان : من ربك ؟ فيقول : هاه ، هاه ، هاه لا أدري ، فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : هاه ، هاه لا أدري ، فيقولان : ما هذا الرجل الذي بُعثَ فيكم ؟ فيقول : هاه ، هاه لا أدري ، فينادي منادٍ من السماء أن كذب ، فافرشوه من النار ، وألبسوه من النار ، وافتحوا له بابا إلى النار ، فيأتيه من حرها وسمومها ، ويُضيَّق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، ثم يُوكل له أعمى أبكم ، معه مطرقة من حديد لو ضُرب بها جبل لصار تراباً ، فيضربه بها ضربةً يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير تراباً ، ثم تعاد فيه الروح . كما روى ذلك أبو داود وصححه الشيخ الألباني .
وما يحصل في القبر من عذاب أو نعيم هو مما تواترت الأدلة على إثباته ، وتقدم ذكر بعض الأحاديث في ذلك، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا في نحو قوله تعالى عن آل فرعون : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } ( غافر:46) وفي قوله: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } (الأنعام: 93 ) .(/1)
والفتنة في القبر بالسؤال وإن كانت عامة إلا أن الله اختص بعض عباده فنجاهم منها ، وممن اختصهم الله بالنجاة من هذه الفتنة الأنبياء والشهداء فقد (سئل النبي صلى الله عليه وسلم ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ قال : كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة ) رواه النسائي وصححه الألباني . وممن ينجيه الله عز وجل من فتنة القبر من مات مرابطاً في سبيله ، فقد روى فضالةُ بنُ عبيد ٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كل ميت يُختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله فإنه يُنْمَي - أي يزيد - له عمله يوم القيامة ، ويأمن من فتنة القبر ) رواه الترمذي و أبو داود .
فهذا هو القبر بما فيه ، عذاباً ، وجحيماً ، سرورا ، ونعيماً ، عذابا وجحيما على الكافرين ، وسرورا ونعيما للمؤمنين ، فينبغي للمسلم أن يسارع إلى ما ينجيه من القبر ووحشته ، كي لا تكون حاله - والعياذ بالله - كحال الذي فرَّط في فعل الصالحات حتى إذا جاءه الموت صاح بعد فوات الأوان { رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } (المؤمنون:99- 100 ) . ولتحرص - أخي الكريم - على الاستعاذة من عذاب القبر ، فقد كان صلى الله عليه وسلم : يدعو في الصلاة فيقول : ( اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر .. ) رواه البخاري ، وكان يأمر الصحابة ( أن يتعوذوا من عذاب القبر ) كما رواه البخاري
ولتجتهد - أخي المسلم - أن تجتنب المعاصي ما ظهر منها وما بطن فإنها من أسباب عذاب القبر ، فقد ( مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال : أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة ، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله ) متفق عليه . نسأل المولى عز وجل أن يثبتنا في قبورنا ، وأن يجعلها روضة من رياض الجنة ، لا حفرة من حفر النيران . والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .(/2)
عذراً .. أمتي
الكاتب : القسم العلمي
براكين ثائرة في الصدور .. دموع كالحمم تحرق الوجنات .. ومرارة غصّت بها الحلوق .. وبسمة اختفت وتلاشت .. بل توارت خجلاً .. فلم يعد لها مكان .. وإن ارتسمت على الشفاه .. فهي بسمة مزيفه .. لاتدل على مكنون النفس .. فكيف يهنأ موجوع ؟؟ وكيف يسلوا مفجوع ؟؟ وكيف لعين جريح ان تعرف معنى الهجوع ؟؟ أينما نظرت لاترى إلا جراحاً نازفه ..اشلاء متناثرة.. براءة طفوله مغتاله .. كرامة شيوخ مذلّه .. و اعراض حرائر منتهكه ..
شربتي يا أمتى كأساً من الذلِّ والهوان .. تجرعتي من كؤوس المرارة أصنافاً وألوان .. فنصرناك بمظاهرات مشت .. واعلام احرقت .. وهتافات علت .. ومالبثت تلك الجموع أن تفرقت .. و ذلك الهتاف أن خفت ..
آلمني وأحرق وجداني .. وزلل فكري وكل كياني .. سؤالك من الجاني ؟؟ من بالذلّ رماني ؟؟ قلي بربك مادهاني ؟؟
أي بني ..
تربص بي الأعداء منذ بزوغ فجري .. وحشدت الحشود لوئدي.. فلم يفتّ ذلك في عضدي .. ولم يضعف من مكانتي وقدري ..
نصرني الله وأعزني بأبناء مولاهم الله .. وإمامهم محمد .. وبيتهم المسجد .. ومذكرتهم القرآن .. وزادهم التقوى .. ولباسهم الزهد .. ومركبهم اليقين .. وطريقهم الهدى ..
قل لي بربك أين هم ؟؟
أواه يا أمتي .. لم أكن لأتخيل يوماً بأنني على مجدك قد جنيت .. وعلى أملك قد قضيت .. لم أكن لأصدق يوماً أنني كنت سبباً في ذلّك وهوانك .. لم أكن لأفكر يوماً بأنني بطعنة في القلب قابلت احسانك .. قضيت حياتي كلها في الإسقاطات .. وكالببغاء أردد الشعارات .. رميت القادة العرب بتهمة التخاذل .. ونسيت انني أول من تخاذل .. اطلقت الصفر على الألف مليون .. ونسيت بأنني أول أصفارها ..
نعم أصبحت صفراً عندما تناسيت بأنني جزءاً منك إن صلحت رفعت من قدرك .. وإن فسدت كنت عدداً زائداً عليك .. لا يغير الله مابقوم حتى يغيروا بأنفسهم .. ولا يعز من ابتغى العزة بغير الله .. وعدنا الله بالنصر إن نحن نصرناه .. وكيف ينصره من عصاه ؟؟ وبعد عن هداه .. واتخذ الهه هواه .. ينبغي أن نعترف صراحة بأننا السبب في ذلك وهوانك .. ينبغي لنا أن نبدأ من اليوم بترميم بناء ك .. ينبغي لنا أن نعي بأننا في بناءك لبنات .. فلنغير من انفسنا لنزيد بناءك قوة وثبات .. حتى تعود لك عزتك .. وتعودي لسابق مجدك ورفعتك ..
فهيّا أخي .. وهيّا أخيتي ..
لنصنع فجراً جديداً لمجد أمتنا ..
ونسأل الله العون لنا في مسيرتنا ..
وليكن شعارنا
" إصلاح النفس أولاً "
وليكن شعارنا
" حتى لا تكون كلا
وليكن شعارنا
" حتى لاتكون صفراً
وليكن شعارنا
" فلتكن الرجل الألف
" ولتكوني المرأة الألف(/1)
عذراً رسول الله فقد بطل حديث الغزاة
شريف عبد العزيز
مفكرة الإسلام: قاطعوا المنتجات الدانماركية، اطردوا السفراء الدانماركيين، اضربوا مصالحهم الاقتصادية، اللعنة والويل لكل من سب رسول الله، إلا رسول الله، بالروح بالدم نفديك يا نبينا، وغيرها من الشعارات القوية الرنانة التي أطلقها الملايين الذين خرجوا في تظاهرات عارمة وحاشدة في جميع أنحاء العالم، والتي توعد فيها المسلمون بالانتقام لإهانة نبيهم صلى الله عليه وسلم بأشد الانتقام.
والذي كان يرى حجم الانتفاضة الشعبية للمسلمين وقتها يظن أن الروح قد دبت في أوصال جسد الأمة المنكوبة, وأن شبح اليأس قد أخذ في الابتعاد عنها وفارق قلوب أبنائها, وأن هذه النازلة قد وحّدت بين طوائف الأمة، وبشائر الخير أقبلت والمحن ألقت بالمنح، والمؤتمرات الشعبية واللقاءات المفتوحة والخطب والدروس كلها توجهت لتوعية الأمة بحق النبي صلى الله عليه وسلم وكيفية نصرته، وأطلقت الكثير من المواقع الإسلامية على شبكة الإنترنت من أجل مخاطبة العالم كله بقدر ومكانة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن خلال هذا الزخم الضخم وردود الأفعال القوية للمسلمين ظلت الحكومة الدانماركية صامدة ورافضة لتقديم أي اعتذار [وإن كان حتى الاعتذار لا يكفى] عما بدر من صحفها، وظلت أيضًا الدول الأوروبية توالي نشر الصور المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم في تحدّ واضح ومقصود لمشاعر أمة المليار وربع، وكأن شيئاً عجيباً يدفعهم إلى هذا الثبات والعناد، وكأن علماً راسخاً عندهم بأن انتفاضة المسلمين ما هي إلا سحابة صيف سرعان ما ستنقشع, وزوبعة في فنجان لا تجاوز حافته، فهل صدق علينا ظنهم؟!
الواقع المرير الذي لا مفر منه أن الظن قد أصبح يقيناً، فقد انفضت التظاهرات ووقفت المؤتمرات, وانحلت اللجان, وسكتت الأصوات, واختفت المقالات, وتبخرت وعود المقاطعات, وانشق صف الدعاة بين من يريد محاربة الغرب والتقرب منهم ومهادنتهم وبين من يريد بقاء المقاطعة، وحتى صف من يريد المقاطعة أخذ في التنازل والاستثناء لبعض الشركات والمنتجات وذلك بحجة تقديم الاعتذارات, وبالجملة بطل حديث النصرة.
وهذا الواقع المرير يذكّرنا بما سطّره من قبل العلامة الكبير المؤرخ ابن الأثير في كتابة النفيس الكامل في التاريخ وهو يصف واقعاً شديد الشبه بحال الأمة الإسلامية الآن؛ إذ يقول في أحداث سنة 361 هجرية, وكانت الخلافة العباسية وقتها قد بلغت حالة شديدة من الضعف والتردي بسبب ضعف مركز الخلافة وتسلط الدولة البويهية الشيعية على العراق, حتى أن السلطان البويهي كان هو الحاكم الفعلي والحقيقي للخلافة، والخليفة مجرد صورة ومنصب شرفي ورمز ديني لا أمر له ولا نهي، وهذه الحالة بالغة السوء شجعت أعداء الإسلام في الهجوم على بلاد الإسلام, واسمع ما قاله ابن الأثير:
[في هذه السنة 'يقصد 361 هجرية' أغار ملك الروم على 'الرها' ونواحيها, وساروا في ديار الجزيرة حتى بلغوا نصيبين - في 'سوريا الآن' - فغنموا وسبوا وأحرقوا وضربوا البلاد, وفعل مثل ذلك بديار بكر, ولم يكن من أبي تغلب بن حمدان 'والي الموصل' في ذلك حركة ولا سعي في دفعه, ولكنه دفع إليه مالاً عظيماً ليرده، فسار جماعة من أهل تلك البلاد إلى بغداد مستنفرين, وقاموا في الجوامع والمشاهد واستنفروا المسلمين, وذكروا ما فعله الروم من النهب والقتل والأسر والسبي فاستعظمه الناس، وخوّفهم أهل الجزيرة من انفتاح الطريق وطمع الروم، فهاجت العامة وقصدوا دار الخليفة وأغلقت الأسواق, وكان [بختيار السلطان البويهي] وقتها يتنزه بنواحي الكوفة ويصطاد هناك، فخرج إليه علماء بغداد ووجوهها منكرين عليه اشتغاله بالصيد وقتال 'عمران بن شاهين' أمير البطائح وهو مسلم، وترك جهاد الروم ومنعهم عن ديار الإسلام حتى توغلوا فيها، فوعدهم بالتجهّز للغزاة, وأرسل لقائد جيشه يأمره بالتجهيز للغزو واستنفار الناس، ففعل القائد ذلك واجتمع من المسلمين عددًا كثيرًا لا يحصون كثرة، وكتب 'بختيار' إلى 'أبي تغلب الحمداني' يأمره بإعداد المسيرة والعلوفات اللازمة، ثم أرسل 'بختيار' إلى الخليفة 'المطيع لله' يطلب منه مالاً يخرجه في الغزوة، فقال 'المطيع': [إن الغزاة والنفقة عليها وغيرها من مصالح المسلمين تلزمني إذا كانت الدنيا في يدي وتجبى إليّ الأموال، وأما إذا كانت حالي هذه فلا يلزمني شيء من ذلك, وإنما يلزم مَن البلاد في يده, وليس لي إلا الخطبة, فإن شئتم أن اعتزل فعلت], وترددت الرسائل بينهما حتى بلغوا إلى التهديد، فبذل 'المطيع لله' أربعمائة ألف درهم, فاحتاج إلى بيع ثيابه وأنقاض منزله وغير ذلك, وشاع في الناس حتى خراسان أن الخليفة قد صودر ماله, فلما قبض 'بختيار' المال صرفه في مصالحه، ثم يعلّق ابن الأثير على الحادثة بأبلغ عبارة فقال: [وبطل حديث الغزاة].(/1)
ونحن نعلق على الأحداث التي أعقبت الانتفاضات والتظاهرات العارمة, وحالة الهدوء والخفوت والسكون التي عاد إليها المسلمون فنقول: [عذراً رسول الله فقد بطل حديث الغزاة].(/2)
عذرًا رسولَ الله لم يعرفوا قدرَك...!!
د. جمال نصار 13/1/1427
12/02/2006
الأمة الإسلامية تعيش منذ فترة موجة عداء ضد عقيدتها ومقدساتها وقيمها، بدأت منذ بداية الدعوة الإسلامية، حيث وصَمَ المشركون النبى الكريم - صلى الله عليه وسلم - بعبارات كثيرة منها: أنه ساحر وكاهن وشاعر ومجنون، ودائمًا كان القرآن الكريم يرد عنه - صلى الله عليه وسلم - (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) (الطور:29). (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ) (الحاقة:41). وهذا يدل على مكانة النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - عند ربه، وقد أوجب الله على المؤمنين محبته وتعظيمه، وهذا من معالم كمال الإيمان "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين".
وتعظيم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من صُلب إيمان المسلم، فهو خليل الله المصطفى من خلقه، وخاتم الأنبياء الذي بانتهاء رسالته انقطع وحي السماء، ولم يغفل المسلمون – منذ جيل الصحابة الكرام – عن قدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن محبته وتعظيمه.
وعظمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفوسنا أعلى من قُبة الفلك، ولن ينال منها أي أفّاك أو جاحد ، فلولاه - صلى الله عليه وسلم - لكنا حيارى في دياجير الظلام.
وما قام به البعض من الإساءة لرسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم – من خلال رسومات في صحف دنمركية ونرويجية وغيرها، إنما هي سلسلة وحلقة من الإساءة للإسلام في شخصه الكريم، وهذا يدل على حقدهم الدفين على هذا الدين العظيم، وسيُرد هذا العبث إلى نحورهم وستبوء محاولاتهم بالفشل بهذا التفكير العبثي الذي أرادوا به النيل المشين من نبي الإسلام محمد - صلى الله عليه وسلم - وبعيدًا عن كل التسويغات التي حاول مسؤولو الصحيفة تقديمها، وفي مقدمتها أنهم أرادوا أن يستشعروا مدى تقديس المسلمين لنبيهم، وبدعوى حرية الرأي والتعبير التي يعدونها واجبًا يفوق بقداسته قداسة الأديان وحرمتها، في الوقت الذي أقاموا الدنيا، ولم يقعدوها حينما نشر المفكر الفرنسي "روجيه جارودي" كتابه "الأساطير المُؤسسة للدولة الإسرائيلية"؛ فحاكموه وصادروا كتابه بتهمة معاداة السامية، وكذلك عندما قامت مجموعة من حركة طالبان في أفغانستان بتدمير تمثال "بوذا" فتحرك العالم الغربي ضدهم، وقالوا: إنهم يحاربون الأديان ممن يخالفونهم في العقيدة.
ونحن من جانبنا نعلم أنه لا شيء أشرف من كرامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه آخر الحصون التي بقيت ملاذنا، بعد أن سقطت كل حصوننا في معارك الشرف والنزاهة والمعرفة .. وأنه إن مسّ اسمه بسوء، وهو الطاهر المُطهر، فإن العالم بأسره سيشهد ما ستسفر عنه هذه الحرب القذرة؛ وعلينا أن نعي أن الجناب النبوي أعظم وأشرف من أن تناله حفنة من التائهين في ميدان الحياة بسوء.
عذراً رسولَ الله لم يعرفوا قدرَك ... ...
حين نادَوا باسمِك وشوهوا رسمَكْ
هم لم يفعلوا ما فعلوا إلا بجهلٍ ... ...
ولو علموا الحقيقةَ لقبّلوا قدمَكْ
لو علموا أنّك المصباحُ المنيرُ ... ...
لما قبلوا الاستضاءةَ إلا بضوئك
وليقرأ هؤلاء الذين لا يعرفون قدر النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – ما سطّره بعض الغربيين المنصفين:
يقول "سيروليام موير" في كتابه "سيرة محمد" صلى الله عليه وسلم:
"امتاز محمد بوضوح كلامه، ويُسر دينه، وأنه أتم من الأعمال ما يدهش الألباب، فلم يشهد التاريخ مصلحًا أيقظ النفوس، وأحيا الأخلاق، ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير، كما فعل محمد".
ويقول "توماس كارليل" الفيلسوف الإنجليزي في "كتابه الأبطال":
"قوم يضربون في الصحراء عدة قرون لا يُؤبه لهم، فلما جاءهم النبي العربي أصبحوا قبلة الأنظار في العلوم والعرفان، وكثروا بعد قلة، وعزوا بعد ذلة، ولم يمض قرن حتى استضاءت أطراف الأرض بعقولهم وعلومهم".
وعلينا كمسلمين شعوبًا وحكومات أن نتحرك لرد هذه الهجمة الشرسة عن الإسلام ورسوله بشتى السبل والوسائل ومن ذلك:
- قيام الحكومات العربية والإسلامية بالضغط على الهيئات الدولية لسن قوانين تحمي المقدسات والأنبياء ومقاطعة حكومات الدول التى تصدر بها تلك الصحف سياسيًا واقتصاديًا؛ إذ كان رد فعل أغلبها سلبيًا تجاه الأزمة.
- ومن واجبات الأمة حيال هذا الأمر أن يقوموا بمقاطعة بضائع كل من تجرّأ على سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وواجب الحكومات المقاطعة السياسية بسحب السفراء لدى تلك الدول وإغلاق سفاراتها لديهم.
- إقامة المؤتمرات والندوات في أوروبا وأمريكا لمعالجة هذه القضية، وعرض نصاعة السيرة المشرفة وعظمة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.(/1)
عرس المجد
عمر أبو ريشة
"ألقيت في الحفلة التذكارية التي أقيمت في حلب، ابتهاجاً بجلاء الفرنسيين عن سوريا".
يا عروس المجد، تيهي واسحبي
لن تريْ حفنة رمل iiفوقها
درجَ البغيُ عليها iiحقبةً
وارتمى كبرُ الليالي iiدونها
لا يموتُ الحق، مهما iiلطمتْ
* * ii*
من هنا شقَّ الهدى iiأكمامه
وأتى الدنيا فرفَّتْ iiطرباً
وتغنّتْ بالمروءات iiالتي
أصيدٌ، ضاقتْ به iiصحراؤه
هبَّ للفتح، فأدمى تحته
وأمانيه انتفاضُ الأرض iiمن
وانطلاق النور حتى iiيرتوي
حلمٌ ولَّى، ولم يُجرحْ iiبه
* * ii*
يا عروسَ المجد، طال iiالملتقى
سكرتْ أجيالنا في iiزهوها
وصحونا، فإذا iiأعناقنا
فدعوناكِ فلم نسمع iiسوى
قد عرفنا مهرك الغالي iiفلم
فحملنا لك إكليل الوفا
وأرقناها دماء iiحرّة
وامسحي دمع اليتامى iiوابسمي
نحن من ضعف بنينا iiقوةً
كم لنا من ميسلون iiنفضتْ
كم نَبَتْ أسيافنا في iiملعبٍ
من نضالٍ عاثرٍ iiمصطخبٍ
شرفُ الوثبةِ أن تُرضي iiالعلى
* * ii*
فالتفِتْ من كوّة الفردوس يا
أترى كيف اشتفى الثأرُ من
وطوى ما طال من iiراياته
ما نسينا دمعة iiعاصيتها
رجفتْ بالأمس سكرى iiألمٍ
يا لنعمى خفّ في iiأظلالها
أينما جالَ بنا الطرف iiانثنى
هذه تربتنا، لن iiتزدهيْ
فلنصن من حَرَمِ الملك iiلها
ولنُسل حنجرة الشدو iiبها
ضلَّت الأمة إن أرختْ iiعلى
* * ii*
ما بلغنا بعدُ من iiأحلامنا
أين في القدس ضلوعٌ غضةٌ
وقفَ التاريخُ في iiمحرابها
كم روى عنها أناشيدَ iiالنهى
أي أنشودة خزيٍ غصّ iiفي
ما لأبناء السبايا iiركبوا
ومتى هزّوا علينا iiرايةً
ومَن الطاغي الذي مدَّ iiلهم
أو ما كنا له في خطبه
ما لنا نلمح في iiمشيته
يا لذلّ العهد إن أغضى iiأسىً
يا روابي القدس، يا مجلى iiالسنا
دون عليائك في الرحب المدى
لَمّتِ الآلام منا iiشملنا
فإذا مصرُ أغاني iiجلقٍ
ذهبتْ أعلامها iiخافقةً
كلما انقضّ عليها iiعاصفٌ
بورك الخطبُ، فكم لفّ iiعلى
* * ii*
يا عروس المجد حسبي iiعزة
أنا لولاهُ لما طوّفتُ iiفي
رُبَّ لحنٍ سال عن قيثارتي
لبلادي ولروّادِ iiالسنا ... في مغانينا ذيولَ iiالشهبِ
لم تعطَّر بدما حرّ iiأبي
وهوى دونَ بلوغ iiالأربِ
ليّنَ النابِ، كليلَ iiالمخلبِ
عارضيه، قبضةُ المغتصبِ!
* * ii*
وتهادى موكباً في iiموكبِ
وانتشتْ من عبقه المنسكبِ
عرفتها في فتاها العربي
فأعدّتهُ لأفقٍ iiأرحبِ
حافرُ المهر جبينَ iiالكوكبِ!!
غيهب الذلّ، وذلَّ iiالغيهبِ
كل جفن بالثرى iiمختضبِ
شرفُ المسعى ونبل iiالمطلبِ!
* * ii*
بعدما طالَ جوى iiالمغتربِ
وغفتْ عن كيد دهرٍ iiقُلّبِ
مثفلات بقيود iiالأجنبي
زفرةٍ من صدرك iiالمكتئبِ
نُرخص المهرَ ولم iiنحتسبِ
ومشينا فوق هام النُّوَبِ
فاغرفي ما شئتِ منها iiواشربي!
والمسي جرح الحزانى iiواطربي
لم تلن للمارج iiالملتهبِ
عن جناحيها غبارَ iiالتعبِ
وكَبتْ أفراسنا في ملعبِ
لنضالٍ عاثرٍ iiمصطخبِ
غلَبَ الواثبُ أم لم يَغْلِبِ!!
* * ii*
فيصل العلياء وانظر iiواعجبِ
الفاتح المسترق iiالمستلبِ
في ثنايا نجمه iiالمحتجبِ
في وداع الأمل المرتقبِ
فأسلها اليوم سكرى iiطربِ!
ما حملنا في ركاب iiالحقبِ
وطيوفُ الزهو فوق iiالهدبِ
بسوانا من حُماةٍ iiنُدُبِ
منبرَ الحقد وسيفَ iiالغضبِ
بين أطلال الضحايا iiالغيّبِ
جرحِ ماضيها كثيفَ الحجبِ!
* * ii*
ذلك الحلمَ الكريم الذهبي
لم تلامسها ذنابى iiعقربِ؟
وقفةَ المرتجف iiالمضطربِ
في سماع العالم iiالمستغربِ
بثها بين الأسى iiوالكربِ
للأماني البيضِ أشهى iiمركبِ
ما انطوت بين رخيص iiالسلَبِ؟
من سرابِ الحق أوهى iiسَبَبِ
معقلَ الأمنِ وجسرَ الهربِ
مخلبَ الذئب وجلدَ iiالثعلبِ
فوق صدر الشرف iiالمنتحبِ!
يا رؤى عيسى على جفن النبي
صهلةُ الخيل ووهجُ iiالقضُبِ!
ونمتْ ما بيننا من iiنسبِ
وإذا بغداد نجوى iiيثربِ
والتقى مشرقها بالمغربِ
دفنته في ضلوع iiالسُّحُبِ
سهمه أشتات شعب iiمغضبِ
* * ii*
أن أرى المجد انثنى يعتز iiبي
كل قفرٍ مترامٍ iiمجدبِ
هزَّ أعطاف الجهاد iiالأشيبِ
كلّ ما ألهمتني من iiأدبِ(/1)
عرض أعمال الأحياء على الأموات
عبد الرحمن بن ناصر البراك
السؤال :
حول مسألة عرض أعمال الأحياء على الأموات، وما هو الصحيح في ذلك مع الإحالة على المراجع قدر الاستطاعة.
-حول مسألة تزاور الأموات فيما بينهم وما الصحيح في ذلك؟ مع الإحالة على المراجع قدر الاستطاعة.
الجواب :
الحمد لله، الأموات في عالم البرزخ وهو ما بين الدنيا والآخرة من الموت إلى البعث، فلهم في هذه الدار أحوال وهم على منازلهم ومراتبهم من الخير والشر، قد دلت النصوص من الكتاب والسنة على جملة ذلك، فدلت على أن الأموات إما في نعيم وإما في عذاب، وهذا مما يجب الإيمان به، وهو من الإيمان بالغيب الذي أثنى الله به على المتقين، والعباد في هذه الدنيا لا يعلمون من أحوال أهل القبور شيئاً إلا النادر مما قد يكشف لبعض الناس، كما جاء في أخبار وروايات كثيرة منها الصحيح وغير الصحيح، وكذلك الأموات الأصل أنهم لا يعلمون من أحوال أهل الدنيا شيئاً؛ لأنهم غائبون عنها، فلا يجوز أن نثبت اطلاعهم على شيء من أحوال أهل الدنيا إلا بدليل، وقد جاءت آثار وروايات تدل على أن بعض الأموات يشعر بأحوال أهله، وما يكون منهم، ولا أعلم شيئاً عن صحّة هذه الآثار، وقد أوردها العلامة ابن القيم في كتباه المعروف كتاب (الروح)، ومن أصح ما ورد مما يتعلق بهذا المعنى، حديث: "إن الميت ليعذّب ببكاء أهله عليه" رواه البخاري (1286) ومسلم (928) من حديث ابن عمر –رضي الله عنهما-، وكذلك ثبت أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- تعرض عليه صلاة أمته وسلامهم عليه –صلى الله عليه وسلم-، انظر ما رواه أبو داود (1047-1531) والنسائي (1374) وابن ماجة (1636) من حديث أوس بن أوس –رضي الله عنه-، وأما مسألة تزاور الأموات فهو من جنس ما قبله، تذكر فيه آثار، وقد أورده ابن القيم في نفس الكتاب، ولا أذكر شيئاً مما يعول عليه لإثبات هذه الحال، ولكن نعلم أن أرواح المؤمنين مع بعضها في الجملة، وكذلك أرواح الكافرين، والله أعلم بالغيب، ومما يتعلق بمسألة عرض أعمال الأحياء على الأموات أو شعورهم بشيء عنها مسألة سماع الموتى، وقد دلّ القرآن على أن الأموات لا يسمعون، كما قال –سبحانه وتعالى-: "إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين" [النمل:80]، وقال –سبحانه وتعالى-: "وما أنت بمسمع من في القبور" [فاطر:22]، لكن ورد أن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم، انظر ما رواه البخاري (1338) ومسلم (2870) من حديث أنس –رضي الله عنه-، وما صحّ من الأحاديث في زيارة القبور والسلام على أهلها يأخذ منه بعض أهل العلم أنهم يسمعون كلام المسلِّم عليهم بدليل التوجّه إليهم بالخطاب، وأضف على ذلك ما روي من قوله –صلى الله عليه وسلم-: "ما من رجل يمرُّ على قبر أخ له كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه فيرد عليه السلام"، أو كما جاء في الحديث، انظر العلل المتناهية (1523) ومعجم الشيوخ (333) وهذه الأحاديث لا يصح الاستدلال بها على أن الأموات يسمعون كل ما يقال عند قبورهم فضلاً عمّا بعد عنهم، فيجب الاقتصار على ما ورد به الدليل، فنقول: الأصل أن الأموات لا يسمعون شيئاً من أقوال الأحياء إلاّ ما دلّ عليه الدليل، ولا يسمعون من يناديهم ليخبرهم بشيء من الأمور، فضلاً أن يسمعوا من يناديهم يستغيث بهم، ويطلب منهم الشفاعة عند الله، ولو كان ذلك قريباً من قبورهم، فضلاً عمّا يكون بعيداً عنهم، ومع إثبات ما ورد من السماع فإننا لا نثبته إلا على الإطلاق، لا نشهد لمعين بأنه يسمع سلام المُسلِّم عليه أو يسمع مشي المشيِّعين له عند الانصراف عنه، لكن نثبت ذلك على وجه الإجمال والإطلاق، وقوفاً على حدّ ما يقتضيه الدليل، والدليل جاء مطلقاً ليس فيه تعيين لمن يحصل له ذلك، وإنما جاء مطلقاً عاماً، فيجب الوقوف مع دلالته دون زيادة، وبهذا يعلم أن ما يفعله القبوريون عند قبور من يعظمونه من دعائهم والاستغاثة بهم أو دعاء الله عند قبورهم أن ذلك دائر بين البدعة والشرك، فيجب الوقوف عند حدود الله في زيارة القبور وغيرها، فإن زيارة القبور إنما شرعت إحساناً للموتى بالدعاء لهم، وانتفاعاً للحيّ بتذكر الآخرة، نسأل الله البصيرة في الدين والفرقان المبين .
موقع الإسلام اليوم(/1)
عرفت فالزم
أبو صلاح
ثباتاً أخي .. لا تقل الطريق طويل ومليء بالصعوبات والابتلاءات
فإن الجنة ليست بالقليل .. لن تنالها وأنت نائم على سريرك
الطريق طويل وشاق .. وعليك التحمل والصبر
ثم من قال بأن الجنة مقدارها الصلاة والصوم فحسب .. ألم تعلم أن الأعمال بالخواتيم
أخي / لا تقل أنا مستقيم منذ فترة بعيدة .. تذكر بأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيفما شاء
علمت فالزم
علمت بأن الله حق والقرآن حق والإسلام حق فلم لا تثبت..؟
عرفت فاثبت
عرفت بأن الجنة والنار حق فلم لا تثبت..؟
علمت فالزم
علمت بأن الدنيا فناء وكل ما فيها زائل فلم لا تثبت..؟
عرفت فاثبت
عرفت بأن السعادة في القرآن والصحبة الصالحة والطاعات فلم لا تثبت..؟
علمت فالزم
علمت بأن الحياة دقائق وثوان فلم لا تثبت..؟
عرفت فاثبت
عرفت بأن الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة ,, بالطاعة والاستقامة وعبادة مولا ك فلم لا تثبت..؟
أخي الكريم / لن تفوز وأنت على كسل .. لن تنال المجد والرفعة في الدارين إلا بالصبر والمجاهدة
أخي المبارك / أنت بلا استقامة .. بلا تضحية للدين .. بلا إيمان .. بلا قرآن لا شيء .. حقاً لا شيء
علمت فاثبت .. الجنة غالية .. النعيم لا يدرك بالنعيم
إذا أردت الوصول إلا القمة والى الفردوس الأعلى .. فالزم طاعة الله .. الزم الصحبة الصالحة ..وتذكر دائما وأبداً أنك علمت فلم لا تثبت؟؟(/1)
عرفنا
فؤاد المنشاوي
عرفنا الحياة لرب iiودين
ولولا الذي كان في iiمحنتي
عرفنا الحياة كظل iiظليل
وأن الشهادة شيء iiجميل
عرفنا الجنان iiبطلابها
لهيب السياط iiبأعتابها
عرفنا القلوب ومنها iiالحجر
وأن السجون لخير iiالبشر
عرفنا الصدوق من الكاذب
وسد الثغور من iiالواجب
عرفنا الإله بأحكامه
عرفنا الكريم iiبإقدامه ... وأن المروءة في iiالسابقين
لساد الخؤون وغاب iiالأمين
وفيها الأمانة حملٌ iiثقيل
بها المرء يمسي مع الخالدين
وأن المشانق في بابها
ومفتاحها لهو كنز iiثمين
عرفنا العيون وفيها iiالشرر
عرفنا العداوة iiوالحاقدين
وأن الخؤون مع iiالغالب
عرفنا الحقيقة عين iiاليقين
عرفنا الجهول بأوهامه
وأن الشهادة للمتقين(/1)
عروس المجد
شعر: عمر أبو ريشة
يا عروسَ المجدِ تيهي واسحبي في مغانينا ذيولَ الشّهبِ
لن ترَي حبّةَ رملٍ فوقَها لم تُعطَّر بدما حرٍّ أبي
درجَ البغيُ عليها حقبةً وهوى دونَ بلوغِ الأربِ
وارتمى كِبرُ الليالي دونَها ليّنَ النابِ ، كليلَ المخلبِ
لا يموتُ الحقُّ مهما لطمتْ عارضيهِ قبضةُ المغتصبِ!
من هُنا شقَّ الهدى أكمامهُ وتهادى موكباً في موكبِ
وأتى الدنيا فرفّتْ طرباً وانتشتْ من عبقهِ المنسكبِ
وتغنّت بالمروءاتِ التي عرفتها في فتاها العربي
أصيدٌ ، ضاقتْ بهِ صحراؤهُ فأعدّته لأفقٍ أرحبِ
هبَّ للفتح ِ، فأدمى تحتهُ حافرُ المهرِ جبينَ الكوكبِ!
وأمانيه انتفاضُ الأرضِ من غيهبِ الذل ِّ، وذلِّ الغيهبِ
وانطلاقُ النورِ حتّى يرتوي كلُّ جفنٍ بالثرى مختضبِ
حلمٌ ولّى ، و لم يُجرحْ بهِ شرفُ المسعى ونبلُ المطلبِ
يا عروسَ المجدِ، طالَ المُلتقى بعدما طالَ جوى المغتربِ
سكرتْ أجيالنا في زهوها وغفتْ عن كيدِ دهرٍ قُلّبِ
و صحَونا ، فإذا أعناقُنا مثقلاتٌ بقيودِ الأجنبي
فدعوناكِ فلم نسمعْ سوى زفرةٍ من صدركِ المكتئبِ
قد عرفنا مهركِ الغالي فلم نرخص ِ المهرَ و لم نحتسبِ
فحملنا لكِ إكليلَ الوفا ومشينا فوقَ هامِ النوبِ
وأرقناها دماءً حرّةً فاغرُفي ما شئتِ منها واشربي!
نحن ُ من ضعفٍ بنينا قوةً لم تلنْ للمارجِ الملتهبِ
كم لنا من ميسلونٍ نفضتْ عن جناحيها غبارَ التعبِ
كم نَبتْ أسيافُنا في ملعبٍ وكبتْ أفراسُنا في ملعبِ
من نضالٍ عاثرٍ مصطخبٍ لنضالٍ عاثرٍ مصطخبِ
شرفُ الوثبةِ أن تُرضي العُلى غلبَ الـ واثبُ أم لم يغلبِ!
فالتفِت من كوّةِ الفردوسِ يا فيصلَ العلياءَ وانظرْ واعجبِ
أترى كيفَ اشتفى الثأرُ من الـ ـفاتحِ المسترقِ المستلبِ ؟
و طوى ما طالَ من راياته في ثنايا نجمهِ المحتجبِ
ما نسينا دمعةً عاصيتَها في وداعِ الأملِ المرتقبِ
رجفتْ بالأمسِ سكرى ألمٍ فأسلها اليومَ سكرى طربِ !
يا لنعمى خفَّ في أظلالها ما حملنا في ركابِ الحقبِ
أينما جالَ بنا الطرفُ انثنى وطيوفُ الزهوِ فوقَ الهدبِ
هذه تربتُنا لن تزدهي بسوانا من حُماةٍ نُدبِ
فلنصنْ مَن حَرَمَ الملكَ لها منبرَ الحقدِ وسيفَ الغضبِ
و لنُسلْ حنجرةَ الشدوِ بها بينَ أطلالِ الضحايا الغيّبِ
ضلّت الأمّةُ إن أرختْ على جرحِ ماضيها كثيفَ الحجبِ !
ما بلغنا بعدُ من أحلامنا ذلكَ الحلمَ الكريمَ الذهبي
أينَ في القدسِ ضلوعٌ غضّةٌ لم تلامسها ذنابى عقربِ؟
وقفَ التاريخُ في محرابها وقفةَ المرتجفِ المضطربِ
كم روى عنها أناشيدَ النّهى في سماعِ العالمِ المستغربِ؟
أيُّ أنشودةِ خزيٍ غصَّ في بثّها بينَ الأسى والكربِ
من لأبناءِ السبايا ركبوا للأماني البيضِ أشهى مركبِ
و متى هزّوا علينا رايةً ما انطوتْ بينَ رخيصِ السَّلَبِ؟
ومَنِ الطاغي الذي مدَّ لهم من سرابِ الحقِّ أوهى سببِ؟
أو ما كنّا له في خطبهِ معقلَ الأمن ِ وجسرَ الهربِ؟
ما لنا نلمحُ في مشيتهِ مخلبَ الذئبِ وجلدَ الثعلبِ؟
يا لذلِّ العهدِ إن أغضى أسىً فوقَ صدرِ الشرفِ المنتحبِ!
يا روابي القدسِ يا مجلى السّنا يا رؤى عيسى على جفنِ النبي
دونَ عليائكِ في الرحبِ المدى صهلةُ الخيلِ ووهجُ القضُبِ !
لمّتِ الآمالُ منّا شملنا ونمتْ ما بيننا من نسبِ
فإذا مصرُ أغاني جلّقٍ وإذا بغدادُ نجوى يثربِ
ذهبتْ أعلامُها خافقةً والتقى مشرقُها بالمغربِ
كلّما انقضَّ عليها عاصفٌ دفنتهُ في ضلوعِ السّحبِ
بوركَ الخطبُ، فكم لفَّ على سهمهِ أشتاتَ شعبٍ مغضبِ
يا عروسَ المجدِ حسبي عزّةً أن أرى المجدَ انثنى يعتزُّ بي
أنا لولاهُ لما طوّفتُ في كلِّ قفرٍ مترامٍ مجدبِ
ربَّ لحنٍ سالَ عن قيثارتي هزَّ أعطافَ الجهادِ الأشيبِ
لبلادي ولروّادِ السّنا كلُّ ما ألهمتِني من أدبِ(/1)
عروس المشرقين
شعر: بدوي الجبل
أهذي مَغاني جِلّقٍ والمعالِمُ لكَ الخيرُ، أم هل أنتَ وسنانُ حالمُ؟
بلى هذه أمُّ العواصم جلّقٌ وهذي ليوث الغوطتين الضراغم
هنا عرشُ أقمار العُلى من أميّةٍ هنا ارتكزتْ سُمرُ العوالي اللهاذِم
هنا النفر البيض الميامينُ للعُلى مَلامحُ في غُرّاتهم وعلائم
هنا العَرب الأحرارُ إن قام ظالمٌ مشوا بالقنا، أو يُرجعَ الحقّ ظالم
إذا انتسبوا في ندوة المجد حلَّقتْ بهم للعلى قيسٌ وذُهل ودارِم
سلاماً عروسَ المشرقين، ولا مشتْ بظلّ مَغانيكِ الخطوب الغواشم
خُذي قلّدي ما شئتِ جيداً ومِعصماً من اللؤلؤ الرَّطْب الذي أنا ناظم
سليني دمي يا أمُّ أسفِكْهُ راضياً وما أنا هيّابٌ ، ولا أنا نادم
تبيّنتُ في أبنائك الصِّيدِ نهضةً سيسعد فيها عبدُ شمس وهاشم
وبشّرني بالفوز يا أمُّ أنها على العلم تُبنى في حِماكِ الدعائم
فما للذي يُبنى على الجهل رافعٌ ولا للذي يبنى على العلم هادم
وللبُطْل صَولاتٌ على الحقِّ جمةٌ وتُسفِر عن فوز المحقّ الخواتم
طلاسمُ ها الذلّ دقت، وإنما تُفَكُّ بسرّ العلم هي الطلاسم
يقولون: جَدُّ اليعربيين نائم ! لقد وهموا، فالسعيُ لا الجَدُّ نائم
وما الناس إلا اثنان مهما تخالفوا ميولاً: فمهزومٌ ضعيف ، وهازم
وما الحقُّ إلا للقويّ، ولا العلى لغير الذي يغشى الوغى ويصادم
فقل لضعيفٍ راح يسأل رحمةً : رُويدَك، ما للضعف في الناس راحم(/1)
عزة الإيمان
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
أَرى اللَّيْلَ غَارَتْ في السَّماءِ كَوَاكِبُهْ
فَغَارَ فُؤادِي والهُمومُ نَوَادِبُهْ
أَنَا ابْنُ هُمُومِ الدَّهْرِ حِينَ تَمَخَّضَتْ
مَصَائِبُهُ عَنْ عُسْرَةٍ ونَوائِبُهْ
تَسَرْبَلْتُ جِلْبابَاً مِنَ الصَّبْرِ ضافِياً
ولِلْصَّبْرِ جِلْبابٌ تَطُولُ ذَوَائِبُهْ
أَسِيرُ على نُورٍ مِنَ الله في الدُّجَى
وَأَحْدُو ركَابي حَيْثُ تَبْدُو مَضَاربُهْ
وَلي رَائدٌ يَحْدُو رِكابَي لِلْعُلا
وَيَبْغي مَنَالاً قَدْ تَعزُّ مَرَاتبهْ
ومَا يَئِسَتْ نَفْسي الطَّموحَةُ إذْ رَأَتْ
عَلى الأُفْقِ جَوْناً قَدْ تَعَكَّرَ جَانِبُهْ
وَلي هِمَّةٌ مَا فَلَّ غَرْبَ (1) مَضَائِهَا
زَمَانٌ إِذا جَارَتْ عَلَيْهَا مَصائِبُهْ
فَلي عِزَّةُ الإِيْمانَ أَغْلى مَرامِهَا
جِنانٌ ! فَأَنْعِمْ بالَّذِي أَنْتَ طَالِبُهْ
أَغَابَ زَمَانٌ كانَ يَحْلو دَوَامُهْ
وَجَاءَ زَمَانٌ لاَ تُعَدُّ مَعَايِبُهْ
تَوَارَتْ بِهِ الآسَادُ خَلْفَ حِيَاضِهَا !
أَطَلَّتْ عَلى الآجَامِ فِيْهِ أَرانِبُهْ
فَذَاكَ صَدِيقٌ كُنْتَ تَرْجُو وَفَاءَهْ
تَنَمَّرَ وَامْتَدَّتْ إِلَيْكَ مَخَالِبُهْ
وَذَاكَ خَلِيْلٌ كُنْتَ تَأْمَنُ جَنْبَهْ
تَقَلَّبَ أَفْعَى فَانْبَرَيْتَ تُجانِبُهْ
وَذَاكَ عَزِيزٌ كُنْتَ تَشْهَدُ عِزَّه
فَصَارَتْ عَلى ذُلٍّ تَنَام ُ جَوانِبُهْ
وَذَاكَ خَلِيٌّ قَدْ أَمِنْتَ صِلاَتِهُ
تَكَشَّفَ مِنْهُ خُبْثُهُ وَغَيَاهِبُهْ
فَهذِي حَيَاةُ قَدْ بَلَوْتَ غِمَارَهَا
وَهَذا زَمَانٌ قَدْ أَتَتْكَ عَجائِبُهْ
عَلى صَفْحَةِ التَّاريخِ خَطَّ مَواعِظاً
وفي حُفرِ الآبَاءِ سُنَّتْ مَذاهِبُهْ
وَفي جَبْهَةِ الشَّيْخِ العَجُوزِ لَهُ يَدٌ
وَفي قَلْبِهِ آيَاتُهُ وَمَآرِبُهْ
هُوَ اللهُ رَبُّ الكَوْنِ دَبَّرَ أَمْرَهُ
وَكُلُّ الَّذِي تَلْقَى ستَبْدُو عَوَاقِبُهْ
هِوَ الحَقُّ ، وَالآيَاتُ بَيَّنَها لِمَنْ
أَرَادَ لَها سَمْعاً وَصَحَّتْ رَغَائِبُهْ
****
****
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان الأرض المباركة .
(1) غَرْب : نشاط ، حدة .(/1)
عزة المسلم في زمن الانكسار
12/8/1424
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم، وبعد:
لا شك أن العزة معنى ينشده كل سوي من بني البشر، وقد تمدح الناس بها وبالسعي لتحصيلها منذ القدم، وكثير منا يحفظ قول المتنبي:
عِشْ عَزِيزاً أَوْ متْ وَأَنْتَ كَرِيمٌ
بَيْنَ طَعْنِ القَنَا وَخَفْقِ البُنُودِ
وقوله:
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيْهِ
مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيْلاَمُ
ومن منا لم يسمع أبيات أبي فراس:
ونحن أناس لا توسط بيننا
لنا الصدر دون العالمين أوالقبرُ
تَهُونُ عَلَيْنَا فِي المَعالِي نُفُوسنَا
وَمَنْ خَطَبَ الحَسْناء لَمْ يُغْلِهَا المَهْرُ
أعزُّ بني الدنيا وأعلى ذوي العُلا
وأكرم من فوق التراب ولا فخر
فما هي هذه العزة، وبماذا تكون؟ وهل لأهل الباطل عزة؟ وهل ثمة عزة غير شرعية؟ ولماذا ينسى بعض أهل الحق عزتهم فيخنس أمام بعض أهل الباطل؟
لعلي في هذه الكلمات أسلط بعض الأضواء على هذه المعاني، ولعل بسطها يتهيأ له موطن آخر _بإذن الله_.
أما العزة في اللغة فمأخوذة من العز،وهو: ضد الذل، تقول منه عز يعز عزاً فهو عزيز، أي: قوي، والعزيز من صفات الله _عز وجل_، قال الزجاج: الممتنع فلا يغلبه شيء، وقال غيره: هو القوي الغالب على كل شيء.
ومن أسمائه: العزيز، وهو الذي يهب العز لمن يشاء من عباده "تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (آل عمران: من الآية26).
والعزة التي نتحدث عنها: هي حالة نفسية تصاحبها قوة معنوية، وتنبثق منهما أقوال وأفعال تدل على الشعور بالفخر والاستعلاء والاستقلال عن الكافرين وصدق الانتماء لهذا الدين مع تواضع ورحمة بالمؤمنين.
والأمة اليوم أحوج ما تكون إلى الالتزام بالعزة والأخذ بمقوماتها على مستوى الحكومات والشعوب والأفراد، والاعتزاز بالدين من أقوى ما نواجه به أعداءنا في زمن تداعت فيه الأمم علينا كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فهلم إلى طريق العزة والمجد والخلود.
مقومات العزة:
1- الإيمان المطلق بأن الله هو العزيز، وأنه هو وحده مصدر العزة وواهبها، وأنه لا أحد يملك العزة أو يهبها سواه "مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً" [فاطر: من الآية10]، "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ" [المنافقون: من الآية8]، "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [آل عمران: من الآية26].
2- اليقين بأن عزة الظالمين إلى زوال، وأنهم لايملكون دوامها فضلاً عن أن يهبوها غيرهم: "وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً" [مريم:81، 82]،" الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا" [النساء: من الآية139]، وعندما أثبت بعض الضالين لنفسه عزة زائفة "يقولون لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ" قال الله: "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ولكن المنافقين لايعلمون" [المنافقون: من الآية8]، ولما اختل مفهوم العزة الحقيقية عند قوم شعيب، فقالوا: "قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ"، "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ" [هود:92].
3- صدق الانتماء لهذا الدين، وإن صاحبه هو العزيز، وغيره هو الذليل، كما قال الله: "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ" (المنافقون: من الآية8)، "وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (آل عمران:139)، أما الكافر وإن كان عزيزاً في الدنيا فمآله:"ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ" (الدخان:49)، "أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ" (السجدة:18).(/1)
4- عدم الانخداع بما عليه الكفار من قوة مادية أو عسكرية، فإنها لاتعني في موازين العزة الحقيقية شيئاً، "لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ" (آل عمران:196، 197)، وعز الآخرة وبؤسها لايقارن بما يكون في الدنيا، لا في حجمه أو نوعه أو مدته، ولا مرحباً بعز محدود يعقبه ذل ممدود، ومع هذا فإن الدنيا دار مدافعة يرفع الله فيها أقوماً ويخفض آخرين، ومن سنته أن جعل أيامها دولاً، ثم إن العاقبة للتقوى.
5- الاستقلال عن الأعداء، والاستغناء عنهم، وعدم الاعتماد عليهم في شتى شؤون الحياة، وهذا لايتعارض مع الإفادة مما عندهم من تقدم مادي من أجل تسخيره لخدمة هذا الدين، وتقوية المؤمنين، دون ذل أو خضوع أو تنازل.
لاتسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
"وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً" (النساء: من الآية141).
كيف نحقق العزة في المجتمع المسلم؟
1- الأخذ بمقومات العزة، والالتزام بها.
2- تربية أبناء المسلمين على العزة وصدق الانتماء، وتجريد الولاء لله ولرسوله، والبراءة من المشركين، وعدم الاعتماد على ثقافة الغرب أو التأثر بها.
3- . استقلال وسائل الإعلام عن الاعتماد على الغرب والخروج من عبودية الغرب إلى حرية الإسلام.
4- الاستقلال السياسي، وهذا لايتعارض مع إقامة العلاقات الدولية على أسس العدل والتعاون ورفع الظلم.
5- الاستقلال الاقتصادي، في شتى شؤونه وفروعه، وبناء الاقتصاد الإسلامي على أسس شرعية بعيدة عن مقومات الاقتصاد الغربي ودعائمه، وأن يكون تبادل المنافع المادية والاقتصادية مبنياً على الندية وحريةالقرار.
6- إيجاد مراكز الدراسات الاستراتيجية التي يتحقق من خلالها رسم السياسات بعيدة المدى في شتى شؤون الحياة الشرعية والثقافية والسياسية والإعلامية والاقتصادية، وعدم الاعتماد على مراكز الدراسات الغربية وتحليلاتها.
7- إقامة المنابر التي تبث في الأمة روح العزة والكرامة والاستعلاء، والاستغناء عن الآخرين، وتحميها من المؤثرات الوافدة بشتى صنوفها وأشكالها وأخص الإعلامية منها.
وقفات مهمة
1- شعور المسلم بالعزة على الكافرين وتعامله بها يجعله يعيش حياة غير عادية فيها الانشراح والسعادة والغبطة.
2- ليس من العزة التكبر على المؤمنين والاستعلاء عليهم، فهذه عزة مذمومة، قال _صلى الله عليه وسلم_ فيما يرويه عن ربه: "العز إزاري، والكبر ردائي، فمن ينازعني فيهما عذبته"، و قال: (الكبر بطر الحق، وغمط الناس)، بل إن من كمال عزة المسلم تذلله للمسلمين وتواضعه لهم، وهذا لاينقصه بل يزيده، فما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه، وقد أثنى الله على المؤمنين بأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين.
3- ليس من عزة المسلم ظلم الآخرين والتعدي عليهم في مال أو عرض أو دماء ولو كانوا كفاراً إلا بحق، وهذا باب ضل فيه كثيرون "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا" (المائدة: من الآية2).
4- من تمام عزة المسلم: حسن الخلق حتى مع الكفار، وحسن الخلق لايعني الضعف والذلة والمسكنة، وإنما العدل والإنصاف وتحري الحق "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" (المائدة: من الآية8)، "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" (الممتحنة:8).
5- خطورة العصبية والحزبية لقبيلة أو بلد أو جماعة داخل الصف المسلم، فإن المؤمنين حزب واحد "وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ" (المائدة: من الآية56)، أما العصبيات والنعرات الجاهلية فهي من أخطر قوادح العزة التي نريد، وقد استغلها الأعداء مراراً لتفريق صف المسلمين، وتفريق كلمتهم، وقد ذم الله الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، فقال: "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ".
6- جماع الذل في قوله _صلى الله عليه وسلم_: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أناب البقر، ورضيتم بالزرع، سلط الله عليكم ذلاً لاينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم" [رواه أبو داود وصححه الألباني].
7- لا يلزم من عدم قدرة المسلمين على مواجهة أعدائهم عسكرياً أن يذلوا لهم ويتنازلوا عن دينهم، فقد تعذر في عدم قدرتك على إقامة الحق، ولكن لاعذر لك في قول الباطل.(/2)
8- أي تنازل من المسلمين في شؤون دينهم وعقيدتم وبلادهم سيغري عدوهم فيهم، فالثبات الثبات "فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ"، "ولاتخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض".
9- لاينافي العزة الشرعية تأليف الكفار عند دعوتهم بالكلام الطيب أو مجادلتهم بالتي هي أحسن، فقد قال الله: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (العنكبوت: من الآية46)، وعرض مجادلة عملية، فقال: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ".
10- العزة الحقيقة تقتضي التقيد بضوابط الشرع في معاملتنا لبعضنا، وفي تعاملنا مع غيرنا، من أهل الملل الأخرى، فإذا نص الشرع على ألا يقال للكافر سيد، فلا يجوز أن نجامل ونقول له سيد، أو مافي معناها كـ( مستر)، وإذا نص شرعنا على عدم بدئهم بالسلام فلا نبدؤهم بذلك، وإذا سلموا رددنا عليهم السلام، وهكذا نتبع شرعنا في كل ما يحكم علاقة المسلم بغيره.
11- من العزة بالدين إظهار شعائر الإسلام في أي مكان إلا إذا خاف المرء على نفسه لاضعفاً أو هواناً.
12- من أهم مقتضيات العزة عدم التحاكم إليهم، أو الاستنصار بهم "فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً".
خاتماً
وختاماً، يعيش المسلمون ضعفاً في جوانب كثيرة، لكنهم مع ذلك يتفوقون في الدين والأخلاق والقيم، ومتى راجع المسلمون دينهم واستقاموا على سنة نبيهم –صلى الله عليه وسلم- واتقوا ربهم، فإن العز حليفهم، فوصيتي لنفسي وللمسلمين بالاستقامة على الدين، ولنتفاءل فالعاقبة للمتقين "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ" [الأنبياء: 105-106].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(/3)
عشر ذي الحجة وأحكام الأضحية
رئيسي :فضائل :الأربعاء غرة ذي الحجة 1425هـ - 12 يناير 2005 م
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد،،،
فقد ثبت في فضل أيام العشر حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ] قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: [وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ] رواه البخاري و أبوداود- واللفظ له- .
فحري بالمؤمن أن يغتنم هذا الفضل العظيم بالإكثار من الأعمال الصالحة بأنواعها، و مما ورد من أنواع العبادة مختصاً بهذه الأيام :
1- الحج: فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ]رواه البخاري و مسلم .
2- صوم يوم عرفة لغير الحاج: فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ] رواه مسلم . فكيف يفرط المؤمن بهذا الأجر العظيم .
3- التكبير: ويسن الجهر به ، أما المرأة فلا تجهر . وهو نوعان:
الأول: التكبير المطلق [ أي غير مقيد بأدبار الصلوات الخمس ]: فله أن يكبر في أي وقت، وفي أي مكان ، في أيام العشر وأيام التشريق . ومن الأدلة عليه:
حديث ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَ التَّحْمِيدِ] رواه أحمد، وهو حسن بمجموع طرقه وشواهده .
وعن نافع: ' أن ابن عمر كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى ، ثم يكبر حتى يأتي الإمام ، فيكبر بتكبيره ' أخرجه الدارقطني بسند صحيح .
وعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما :'كَانَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الْأَيَّامَ وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ وَعَلَى فِرَاشِهِ وَفِي فُسْطَاطِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَمْشَاهُ تِلْكَ الْأَيَّامَ جَمِيعًا ' رواه ابن المنذر في الأوسط بسند جيد، و البخاري تعليقاً بصيغة الجزم.
النوع الثاني: التكبير المقيد [ أي المقيد بأدبار الصلوات الخمس ] : ويبدأ من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، وهو الثالث عشر من ذي الحجة. فعن شقيق بن سلمة رحمه الله قال:' كان علي رضي الله عنه يكبر بعد صلاة الفجر غداة عرفة ثم لا يقطع حتى يصلي الإمام من آخر أيام التشريق ثم يكبر بعد العصر' رواه ابن المنذر والبيهقي .و صححه النووي وابن حجر .وثبت مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قال ابن تيمية:' أصح الأقوال في التكبير الذي عليه جمهور السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة: أن يكبر من فجر عرفة إلى آخر أيام التشريق عقب كل صلاة .. ' [مجموع الفتاوى 24/20] . وقال ابن حجر:'وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود: إنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى . أخرجه ابن المنذر وغيره والله أعلم '[ الفتح 2/536].
أما صفة التكبير : فقد قد ثبت عن الصحابة أكثر من صيغة منها:
أثر ابن مسعود رضي الله عنه:' أنه كان يكبر أيام التشريق : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، و الله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد ' رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح .
4- الأضحية يوم العيد : فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: ' ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا ' رواه البخاري ومسلم. [ الصفحة هي جانب العنق ] .
والسنة أن يشهد المضحي أضحيته، وأن يباشرها بنفسه، وأن يأكل منها شيئاً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم . وإن وكَّل غيره كالجمعيات والهيئات الخيرية جاز، ولو كانت خارج البلاد، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بيده ثلاثاً وستين من هديه في الحج ، ووكَّل علياً رضي الله عنه في البقية ، ولأن الأصل هو الجواز و لا دليل على منعه .(/1)
- و تجزئ الشاة عن الواحد وأهل بيته ، لقول أبي أيوب رضي الله عنه لما سئل: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله ؟ فقال: ' كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته' رواه مالك والترمذي و ابن ماجة وسنده صحيح .
- و تجزئ البدنة أوالبقرة عن سبعةٍ وأهلِ بيوتهم ؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: 'حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحرنا البعير عن سبعة والبقرة عن سبعة ' رواه مسلم .
- و أقل ما يجزئ من الضأن ما له نصف سنة ، وهو الجذع ؛ لقول عقبة بن عامر رضي الله عنه قال:' ضحينا مع رسول الله بجذع من الضأن ' أخرجه النسائي بسند جيد .
- وأقل ما يجزئ من الإبل والبقر والمعز مُسنَّة ؛ [ وهي من المعز ما له سنة، ومن البقر ما له سنتان، ومن الإبل ما له خمس سنوات ] لحديث جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنْ الضَّأْنِ] رواه مسلم .
- أربع لا تجوز في الأضاحي ، كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ الْعَوْرَاءُ بَيِّنٌ عَوَرُهَا وَالْمَرِيضَةُ بَيِّنٌ مَرَضُهَا وَالْعَرْجَاءُ بَيِّنٌ ظَلْعُهَا وَالْكَسِيرُ الَّتِي لَا تَنْقَى] رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة والنسائي وأحمد بسند صحيح.
- و إذا دخلت العشر حرم على من أراد أن يضحي أخذَ شيء من شعره أو أظفاره أو بشرته حتى يذبح أضحيته ؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا] رواه مسلم ، وفي رواية أخرى لمسلم: [إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ].
وهذا النهي مختص بصاحب الأضحية ، أما المُضَحَّى عنهم من الزوجة والأولاد فلا يعمهم النهي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المُضَحِّي، ولم يذكر المُضَحَّى عنهم . ومن أخذ شيئاً من شعره أو أظفاره في العشر متعمداً من غير عذر وهو يريد أن يضحي، فإن ذلك لا يمنعه من الأضحية، و لا كفارة عليه، و لكن عليه التوبة إلى الله .
- والأضحية عن الميت لها أحوال :
الحال الأولى: إذا كانت إنفاذاً للوصية، فهي صحيحة، ويصل أجرها إلى الميت- إن شاء الله تعالى- .
الحال الثانية: أن يفرد الميت بأضحية تبرعاً، فهذا ليس من السنة؛ لظاهر قوله تعالى:{ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى[39]}[سورة النجم]. وقد مات عم النبي صلى الله عليه وسلم حمزة وزوجته خديجة، وثلاث بنات متزوجات، وثلاثة أبناء صغار، ولم يرد عنه أنه أفردهم، أو أحداً منهم بأضحية، ولم يثبت أيضاً إفراد الميت بأضحية عن أحد الصحابه رضي الله عنهم ، ولو كان فيه فضل لسبقنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . والخير كل الخير في هدي النبي صلى الله عليه وسلم و أصحابه .
الحال الثالثة: إن ضحى الرجل عنه وعن أهل بيته ونوى بهم الأحياء والأموات، فيرجى أن يشملهم الأجر إن شاء الله. والحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين .
من رسالة:'عشر ذي الحجة وأحكام الأضحية' للشيخ/ يوسف بن عبدالله الأحمد(/2)
عشر ذي الحجة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ?[ آل عمران : 102] ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً? [النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
قال الله تعالى : ? وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ?[الفجر:1-2]، وقال سبحانه: ?...وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ...?[ الحج:28]. قال ابن عباس - رضي الله عنه - : الأيام المعدودات : أيام التشريق، والمعلومات : أيام العشر. وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، فقالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع في ذلك من شيء"(1)، لقد استغرب الصحابة رضوان الله عليهم من هذا الأجر العظيم الذي يؤتيه الله تعالى لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات في هذه الأيام العشر من ذي الحجة، فقالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟
لأن فضل الجهاد عندهم مقرر، وكأنهم استفادوا فضل الجهاد ومنزلته من آيات القرآن الكريم ومن حديث الرسول r في جواب من سأله عن عمل يعدل الجهاد ، كما في صحيح البخاري ومسلم أن رجلاً سأل رسول الله قائلاً: يا رسول الله دلني على عمل يعد الجهاد، قال: لا أجده، ثم قال هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟ قال: من يستطيع ذلك.(2) 0
وفي رواية أن النبي r سئل: قيل يا رسول الله ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال : "لا تستطيعونه، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يقول لا تستطيعونه. ثم قال: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر عن صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله"(3) .
وإذا كان العمل الصالح في أيام عشر ذي الحجة أفضل وأحب إلى الله من العمل في غيرها من أيام السنة وإن كان العمل مفضولاً ، يكون أفضل من العمل في غيرها وإن كان أفضل من العمل في غيرها وإن كان فاضلاً؟ ولهذا قال الصحابة ولا الجهاد في سبيل الله ، قال ولا الجهاد في سبيل الله، ثم استثنى جهاداً واحداً هو أفضل الجهاد، وهو من خرج للجهاد في سبيل الله بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء، وذلك بأن يرزقه الله الشهادة ، وقد سئل رسول الله عن أفضل الجهاد ، فقال: من عقر جواده وأهريق دمه، فهذا أفضل الناس درجة عند الله. (4)
أيها المؤمنون .. إننا في أمس الحاجة إلى أن نغتنم أوقات الفضائل ومواسم الطاعات في العبادة والذكر والاجتهاد في ذلك ، وقد جاء في بعض الأحاديث والآثار الحث على الإكثار من الذكر في هذه الأيام المباركة فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده، عن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد"(5).
فأكثروا أيها الناس في هذه الأيام المباركات من الذكر والدعاء والتكبير والتحميد والتهليل ، والذكر عظيم الأثر في إصلاح النفوس وإحياء القلوب، عظيم النفع كثير الأجر. أمر الله عباده بالإكثار من ذكره وتعظيمه فقال سبحانه: ? أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً?[النساء : 41-42].
بالذكر يتخلص الإنسان من الغفلة والنسيان، ذكر الله هو غذاء قلوب المؤمنين . به يستدفعون الآفات ويستكشفون الكربات، وتهون عليهم به المصيبات والمراد بالذكر هو الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها، مثل الباقيات الصالحات ، وهي سبحان الله والحمد لله والله أكبر، وما يلحق بذلك من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، والبسملة وقول حسبي الله ونعم الوكيل، والاستغفار ، والدعاء بخيري الدنيا والآخرة والصلاة والسلام على النبي والمواظبة على تلاوة القرآن وقراءة الحديث ومدارسة العلم وغير ذلك.
وقد وردت أحاديث كثيرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تبين فضل الذكر وترغب فيه نذكر ببعض منها.(/1)
ففي سنن الترمذي وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله"(6) وقال: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله"(7) .
وفي موطأ الإمام مالك ومستدرك الحاكم وغيرهم عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ألا أُنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى ، قال ذكر الله تعالى"(8) .
وفي الصحيحين عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت"(9) .
وفي الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في الحديث القدسي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الله عز وجل: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هم خير منهم"(10) .
وفي الصحيحين أن رسول الله r قال: يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد ، يضرب على مكان كل عقدة، عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان"(11).
وفي صحيح مسلم عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله وبحمده ولا إله إلا الله والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت"(12).
وفي صحيح مسلم عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلاً من المسلمين قد خَفُتَ ـ ضعف ـ فصار مثل الفرخ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل كنت تدعوا بشيء أو تسأله إياه، قال: نعم كنت أقول: اللهم ماكنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبحان الله سبحان الله لا تطيقه ـ أو لا تستطيقه ـ أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قال فدعا الله له فشفاه"(13).
وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر"(14).
وعن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرار، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل"(15).
وفي الصحيحين : "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب ، وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء إلا رجل عمل أكثر منه"(16).
وعن خولة بنت حكيم السلمية رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نزل منزلاً ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك"(17).
أيها المؤمنون .. أكثروا من ذكر الله والعمل الصالح في هذه الأيام واغتنموا مواسم الخير وتزودوا لآخرتكم كما قال تعالى: ? وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ?[البقرة :197].
إن الشيطان عدوٌ مبين للإنسان لا يريد له الخير بل يثبطه عن الخير والعمل الصالح، ويثقله عليه ويزين له الباطل ويغريه به، ويأمر بالفحشاء والمنكر ، والإنسان لا محالة واقع بين دوافع الخير ونوازع الشر، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان، فإيعاد بالشر، وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ، فليحمد الله ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم قرأ : "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء"(18).
وفي سنن النسائي عن سَبْرَة بن أبي فاكه - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، قعد في طريق الإسلام، فقال تُسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟ فعصاه وأسلم، وقعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتذر أرضك وسماءك؟ وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول ـ يعني أنه مربوط بحبل ـ فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد ، فقال: تجاهد؟ فهو جَهْد النفس والمال، فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال؟ فعصاه فجاهد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فمن فعل ذلك كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة"(19)(/2)
أيها المؤمنون .. إن الله تعالى يقول في كتابه العظيم: ? إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ?[فاطر:6]، فراغموا عدوكم وآمنوا وجاهدوا وأنفقوا، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة .. إننا وبعد أن مررنا في الأسبوع الماضي بعملية التصويت والاقتراع وعلى الرغم من كل السلبيات والأخطاء والتجاوزات، وبغض النظر عن نتائجها فإننا نذكر الجميع بالحب في الله والتآخي والتعاون على البر والتقوى ونبذ الفرقة والخلاف، وتضميد الجراح والاستعلاء بإيماننا وديننا ، فنحن أمة واحدة يجمعنا الدين والعقيدة كلنا نؤمن بالقرآن ونتبع محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، نلتقي جميعاً في بيوت الله عز وجل نعبد إلهاً واحداً خالقنا ورازقنا ومدبر أمورنا ، نرجوا رحمته ونخشى عذابه ونؤمن بلقائه ، فلا يجوز ولا ينبغي أن تفرقنا المطامع أو الأهواء، أو الصراعات، فإن الاختلاف في وجهات النظر والاجتهادات التي ترمي إلى خدمة الأمة وتحقيق مصلحتها لا ينبغي أن تكون سبباً في إلقاء العداوة والبغضاء بين المؤمنين بالله ورسوله، قال عز وجل:? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ...?[ الحجرات:10] وقال سبحانه: ? وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ...?[ آل عمران:103]، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح المتفق عليه: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث"(20) .
اتقوا الله أيها الناس وتذكروا وقوفكم بين يديه واعلموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث الصحيح: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر أمامه فلا يلقى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد بكلمة طيبة"(21).
أروا الله أيها الناس من أنفسكم خيراً ، تفقدوا المساكين والمحتاجين وواسوهم. أصلحوا ذات بينكم وحافظوا على دينكم ، صلوا أرحامكم تعاونوا على الخير وتذكروا إخوانكم في فلسطين والشيشان وكشمير وفي كل مكان ، لا تبخلوا عليهم بالبذل والدعاء.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال سبحانه: ? إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ?[ الأحزاب:56].
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "من صلى علي صلاة واحدة ، - صلى الله عليه وسلم - عليه عشر صلوات، وحطت عنه عشر خطيئات ورفعت له عشر درجات"(22).
راجعه: عبد الحميد أحمد مرشد.
ـ صححه أحمد شاكر في مسند أحمد 7 / 224 والألباني في تمام المنة : 352.
ـ صحيح البخاريج2 كتاب الجهاد والسير باب: فضل الجهاد والسير.الحديث رقم: 2633
ـ صحيح البخاري ج2 كتاب الجهاد والسير.باب: أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله. الحديث رقم: 2635 ولفظه: (مثل المجاهد في سبيل الله، والله أعلم بمن يجاهد في سبيله، كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه: أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر أوغنيمة)
ـ مسند الإمام أحمد. 3/ 300، حديث رقم: 14284، وقال شعيب الأرنؤوط : حديث صحيح، وهذا إسناد قوي على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي سفيان - وهو طلحة بن نافع الواسطي - فمن رجال مسلم وهو صدوق لا بأس به.
ـ مسند الإمام أحمد. 2/ 131 ، حديث رقم: 6154، وصححه شعيب الأرنؤوط.
ـ صححه الألباني في صحيح ابن ماجة ج2 ص 319 رقم الحديث: 3065
ـ حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة ج4 ص6 رقم الحديث: 1503 ولفظه: (أفضل ما قلت أنا والنبيون عشية عرفة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير)
ـ صححه الألباني في صحيح ابن ماجة ج2 ص316 رقم الحديث: 3075
ـ صحيح البخاري، ج4 باب: فضل ذكر الله عز وجل.الحديث رقم: 6044
ـ صحيح البخاري، ج4 باب: قول الله تعالى: {ويحذِّركم الله نفسه} الحديث رقم :6970 وصحيح مسلم. ج4 باب الحث على ذكر الله تعالى. الحديث رقم: 2675.
ـ صحيح البخاري، ج1 باب: عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصل بالليل.الحديث رقم: 1091 و صحيح مسلم ج1 كتاب صلاة المسافرين وقصرها.باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح.الحديث رقم: 776
ـ صحيح مسلم ج3 باب: كراهة التسمية بالأسماء القبيحة، وبنافع ونحوه. وجدت الكلمات في الحديث رقم: 2137
ـ صحيح مسلم .ج4 باب كراهة الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا. الحديث رقم: 2688.
ـ صحيح البخاري ج4 باب: فضل التسبيح. الحديث رقم: 6042، و صحيح مسلم ج1باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفة. الحديث رقم: 597.(/3)
ـ صحيح البخاري، ج4 باب: فضل التهليل. الحديث رقم: 6041 -صحيح مسلم. ج4 باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء. الحديث رقم: 2693.
ـ صحيح البخاري، ج2 باب: صفة إبليس وجنوده. الحديث رقم: 3119و صحيح مسلم. ج4 باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء. الحديث رقم: 2691.
ـ صحيح مسلم ج4 باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره. الحديث رقم: 2708.
ـ سنن الترمذي.5/219 ، حديث رقم: 2988، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وهو حديث أبي الأحوص لا نعلمه مرفوعا إلا من حديث أبي الأحوص، وضعفه الشيخ الألباني.
ـ سنن النسائي، 6/21، 3134 ، وصححه الألباني.
ـ صحيح البخاري ج4 باب: ما ينهى عن التحاسد والتدابر. الحديث رقم: 5718 صحيح مسلم ج4 باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر.الحديث رقم: 2558
ـ صحيح البخاري، ج2 كتاب المناقب. باب: علامات النبوة في الإسلام.الحديث رقم: 3400 صحيح مسلم ج2 باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، وأنها حجاب من النار. الحديث رقم: 1016 .
ـ سنن النسائي 3/50، حديث رقم:1297 ، وصححه الألباني.(/4)
عشر قواعد في التعامل مع الشهوات ...
إن الناظر بعين بصره وبصيرته في عالم اليوم ، يرى حقيقة ما وصل إليه أبناء هذا العصر مما يسره الله لهم من اكتشافاتٍ واختراعات في وسائلِ متعددة وتقنيات مختلفة من أنواعِ الهواتف وشبكات المعلومات وقنواتِ البث وغيرها من وسائل الاتصال والإعلام من مسموع ومقروء ومشاهد ، مما حدا بالقائمين عليها إلا ما رحم ربي بتسخيرها وتوظيفها واستغلالها في إثارة الشهوة وإخمار العقل وإفساد الروح من نشر للأغاني الساقطة والأفلام الآثمة والقصص الداعرة وإشاعة الفاحشة ونشر بواعثها ومثيراتها وتعرية المرأة وتحريرها واستعبادها وإخراجها من بيتها ، حتى هلك الكثير من بني الإنسان في مستنقع الرذيلة ومغريات الشهوة ، وانسلخت من النفوس المروءة والعفة والغيرة والطهر والعفاف ، نعم .. إنها الشهوة الباعثة على مقارفة المنكرات وإتيان المعاصي واقتراف المحرمات ، إنها الشهوة الفطرةٌ الغريزية البشرية واللذةٌ الجثمانيةٌ الجسدية ، نعم .. تلك الشهوة ، إن لم تُضبط بضوابط الشرع فإنه يزداد سعارها وتتأجج نارها وتهوي بصاحبها في مهاوي الردى وتلبسه لباس الحيوانات والبهائم التي تحركها غرائزها وتدفعها شهواتها ، إنها الشهوة إذا انفلت سعارها وانخرط خطامها فإنها ما تزال تعظم وتعظم حتى تقع الفواحش وتنتشر الأمراض وتكثر المحن وصدق الله " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا " وإليك أخي الكريم .. أختي العفيفة عشر قواعد للتعامل مع هذه الشهوات في النقاط التالية :
1. التربية الإيمانية المتكاملة التي تتضمن معاني التقوى والمراقبة والخوف والرجاء والمحبة ، حتى يصبح العبد إنسانا سويا شابا تقيا نقيا لا تستهويه مادة ولا تستعبده شهوة " قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي " " ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله "
2. الحذر من النظرة المسمومة ، فهي رائدة الشهوة وسهم من سهام إبليس ، فالنظرة تولّد خطرة ، والخطرة تولد الفكرة ، والفكرة تولد الشهوة ، فاحذر هذه النظرة ، وقديما قيل : حبس اللحظات أيسر من دوام الحسرات، وصدق القائل :
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
3. التفطن لمدافعة الخطرات إذا تولدت في الذهن ، لأنها مبدأ الخير والشر ، ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم ، ومن ثم توجب التصورات ، والتصورات تدعو إلى الإرادات ، والارادات تقتضي الفعل ، ولذلك فإن من راع خطراته ملك زمام نفسه وقهر هواه وشهوته .
4. لزوم الاستقامة والسعي الجاد في تحقيقها ، والاستعانة قبل ذلك بالحي القيوم الذي لكمال حياته وقيوميّته لا تأخذه سنة ولا نوم .
5. التعفف والاستعانة بالصوم ، فإنه يكسر جماح الشهوة ، ويخفف من لهيبها " يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " [ رواه البخاري ] .
6. المسارعة إلى الزواج وتحصين الفرج واختيار الزوجة الصالحة فبها تحصل العفة ويتزن العقل وتخبو الشهوة " ثلاثة حق على الله عونهم .. ومنهم : والناكح الذي يريد العفاف " [ رواه الترمذي ]
7. الابتعاد عن كل ما يثير مكامن الشهوة من ألفاظ غزلية ، ونكت فاحشة ، وقصص هابطة وروايات تافهة " ليس المؤمن بالطعّان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا بالبذيء " [ السلسلة الصحيحة 320 ]
8. الفرار من الأماكن العامة ومنتديات الترفيه والأسواق لما فيها من اختلاط وتبرج ودعوة إلى الإثارة والإغراءات المحرمة فالفرار الفرار فإن كان لا بد وارتياد هذه الأماكن فليكن الوقت على قدر الحاجة .
9. النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية ، وهذه قاعدة لا مناص للنفس منها ، وإن كان أهل الجنة يتحسرون على ساعة لم يذكروا الله فيها ، فكيف بمن أضاع وقته وأمضى عمره في المعاصي والشهوات .
10. الدعاء الدعاء فهو وربي السلاح الذي لا يخون ، وخاصة في زمن يُسِّرت فيه الفاحشة وكُثِّرت فيه سبل الغواية ، ولا تيأس وأكثر فالله أكثر وعليك بقول " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " و " اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى "
سلمان بن يحيى المالكي(/1)
عشر قواعد في التعامل مع الشهوات
إن الناظر بعين بصره وبصيرته في عالم اليوم ، يرى حقيقة ما وصل إليه أبناء هذا العصر مما يسره الله لهم من اكتشافاتٍ واختراعات في وسائلِ متعددة وتقنيات مختلفة من أنواعِ الهواتف وشبكات المعلومات وقنواتِ البث وغيرها من وسائل الاتصال والإعلام من مسموع ومقروء ومشاهد ، مما حدا بالقائمين عليها إلا ما رحم ربي بتسخيرها وتوظيفها واستغلالها في إثارة الشهوة وإخمار العقل وإفساد الروح من نشر للأغاني الساقطة والأفلام الآثمة والقصص الداعرة وإشاعة الفاحشة ونشر بواعثها ومثيراتها وتعرية المرأة وتحريرها واستعبادها وإخراجها من بيتها ، حتى هلك الكثير من بني الإنسان في مستنقع الرذيلة ومغريات الشهوة ، وانسلخت من النفوس المروءة والعفة والغيرة والطهر والعفاف ، نعم .. إنها الشهوة الباعثة على مقارفة المنكرات وإتيان المعاصي واقتراف المحرمات ، إنها الشهوة الفطرةٌ الغريزية البشرية واللذةٌ الجثمانيةٌ الجسدية ، نعم .. تلك الشهوة ، إن لم تُضبط بضوابط الشرع فإنه يزداد سعارها وتتأجج نارها وتهوي بصاحبها في مهاوي الردى وتلبسه لباس الحيوانات والبهائم التي تحركها غرائزها وتدفعها شهواتها ، إنها الشهوة إذا انفلت سعارها وانخرط خطامها فإنها ما تزال تعظم وتعظم حتى تقع الفواحش وتنتشر الأمراض وتكثر المحن وصدق الله " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا " وإليك أخي الكريم .. أختي العفيفة عشر قواعد للتعامل مع هذه الشهوات في النقاط التالية :
1. التربية الإيمانية المتكاملة التي تتضمن معاني التقوى والمراقبة والخوف والرجاء والمحبة ، حتى يصبح العبد إنسانا سويا شابا تقيا نقيا لا تستهويه مادة ولا تستعبده شهوة " قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي " " ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله "
2. الحذر من النظرة المسمومة ، فهي رائدة الشهوة وسهم من سهام إبليس ، فالنظرة تولّد خطرة ، والخطرة تولد الفكرة ، والفكرة تولد الشهوة ، فاحذر هذه النظرة ، وقديما قيل : حبس اللحظات أيسر من دوام الحسرات ، وصدق القائل :
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
3. التفطن لمدافعة الخطرات إذا تولدت في الذهن ، لأنها مبدأ الخير والشر ، ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم ، ومن ثم توجب التصورات ، والتصورات تدعو إلى الإرادات ، والارادات تقتضي الفعل ، ولذلك فإن من راع خطراته ملك زمام نفسه وقهر هواه وشهوته .
4. لزوم الاستقامة والسعي الجاد في تحقيقها ، والاستعانة قبل ذلك بالحي القيوم الذي لكمال حياته وقيوميّته لا تأخذه سنة ولا نوم .
5. التعفف والاستعانة بالصوم ، فإنه يكسر جماح الشهوة ، ويخفف من لهيبها " يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " [ رواه البخاري ] .
6. المسارعة إلى الزواج وتحصين الفرج واختيار الزوجة الصالحة فبها تحصل العفة ويتزن العقل وتخبو الشهوة " ثلاثة حق على الله عونهم .. ومنهم : والناكح الذي يريد العفاف " [ رواه الترمذي ]
7. الابتعاد عن كل ما يثير مكامن الشهوة من ألفاظ غزلية ، ونكت فاحشة ، وقصص هابطة وروايات تافهة " ليس المؤمن بالطعّان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا بالبذيء " [ السلسلة الصحيحة 320 ]
8. الفرار من الأماكن العامة ومنتديات الترفيه والأسواق لما فيها من اختلاط وتبرج ودعوة إلى الإثارة والإغراءات المحرمة فالفرار الفرار فإن كان لا بد وارتياد هذه الأماكن فليكن الوقت على قدر الحاجة .
9. النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية ، وهذه قاعدة لا مناص للنفس منها ، وإن كان أهل الجنة يتحسرون على ساعة لم يذكروا الله فيها ، فكيف بمن أضاع وقته وأمضى عمره في المعاصي والشهوات .
10. الدعاء الدعاء فهو وربي السلاح الذي لا يخون ، وخاصة في زمن يُسِّرت فيه الفاحشة وكُثِّرت فيه سبل الغواية ، ولا تيأس وأكثر فالله أكثر وعليك بقول " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " و " اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى "
سلمان بن يحي المالكي
slman_955@hotmail.com(/1)
عشرة ضوابط للصحوة الاسلامية
يتناول الدرس الضوابط التي يجب تحققها في الصحوة الإسلامية لتكون صحوة راشدة، ومن هذه الضوابط ما يتعلق بحملة الدعوة ومنها ما يتعلق بمنهج ومقاصد الدعوة ومنها ما يتعلق بوسائل الدعوة، ثم الحث على الإنابة إلى الله .
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وبعد،،، فالمسلمون يعيشون صحوة بعد نوم طويل، ويقظة بعد سبات، وحياة بعد موت ولهذه الصحوة ضوابط عشرة لتكون صحوة راشدة .
الضابط الأول: إخلاص أصحابها وصدقهم مع الله عزوجل: وهذا الضابط فرقان بين المسلم والكافر في القول والعمل والقصد، وإن أحبطت كثير من الدعوات فلفساد مقاصدها ولسوء نواياها .
نصوص تدعم هذا الضابط: قال تعالى: } أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [3] {'سورة الزمر' وقال عزوجل:} وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[5] { 'سورة البينة' وقال في المشركين المرائين:} وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[23]{ 'سورة الفرقان' وقال جلت قدرته:} فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[110]{ 'سورة الكهف' .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد. وصح عنه أنه قال: [مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ] رواه مسلم . وفي حديث صحيح : [ أن أول من تسعر بهم النار ثلاثة ... عالم وجواد وشجاع ما قصدوا الله بأعمالهم ]، وفي حديث صحيح: [ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ] رواه مسلم وابن ماجه وأحمد.
يخاف على رجال الصحوة: ثلاثة أمور تفسد عليهم سيرهم ودعوتهم, وستحبط أعمالهم :
أولها: حب الرئاسة والمركزية والمكانة، وهذه من بنات الحزبية وقى الله الدعاة شرها .
ثانيها: المكايدة والمعاندة وحب البروز والظهور على الآخرين، وهذا مفسد ثان .
ثالثها: العمل بلا نية ولا قصد، وإنما مجاملة وحب ثناء وتبجيل .
قطعت عنق صاحبك: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يمدح رجلا في وجهه قال وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ - يَقُولُهُ مِرَارًا-] رواه البخاري ومسلم وابن ماجه وأحمد . وهذه نقولها للإخوة الذين معهم شباب ناشئون يخاف عليهم من المدح وكثرة الثناء؛ فإنه مادة العجب ومعين الزهو، فلا تفسدوا قلوبهم بالإطراء وكثر المديح .
فعلنا وفعلنا: التبجح بالأعمال، والتشبع بالدعاوى حمى تصيب الإخلاص فتمرضه، والهالات وتعداد الأعمال ينافي الصدق وطلب الأجر من الله تعالى .
دواء يذهب الرياء: معرفة الخالق تبارك وتعالى، واعتقاد نفعه وضره؛ يوجب طلب الأجر منه. ومعرفة المخلوق ونقصه وتقصيره وعجزه؛ يقطع اليأس من مدحه وإعجابه.. وسؤال الله دائماً الإخلاص، والتعوذ به من الرياء كلها أدوية تذهب الرياء بعون الله تعالى .
ضابط الإخلاص: إذا شككت في أمر هل تفعله لله أو للناس؛ فاسأل نفسك: هل تعمله لو كنت وحدك؟ فإن كنت تفعله فما عليك، وإلا فالحذر الحذر !
النشاط مع الناس: من المجرب أن المسلم ينشط في العبادة بين إخوانه في المخيمات والنزهات، فإذا كان وحده ربما كسل، وهذا غير ما قبله .
الضابط الثاني :الإهتمام بالعلم الشرعي وإحياء روح التحصيل في نفوس الشباب: العلم أشرف مطلب، وأحسن مقصود، بالعلم يعبد الله ويعرف، وبالعلم تهذب النفوس وتصلح القلوب وتحيا الأرواح، قال سبحانه:} فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ... [19] {'سورة محمد' . } يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[11] {'سورة المجادلة' . } قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ[9] {'سورة الزمر' . وصح عنه صلى الله عليه وسلم: [ مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ] رواه البخاري ومسلم وابن ماجه ومالك والدارمي وأحمد. وقال: [... إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ...] رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد .
لاتسمع لمثبط: لا تصغي لمن يهون عليك شأن التحصيل، أو يشغلك عن طلب العلم ويسلب منك وقتك بحجة الدعوة والتحرك في الميدان، فقل له: لا دعوة إلا بالعلم، والدعاة هم العلماء، والعلماء هم الدعاة والسلام .(/1)
صحوة تاجها العلم: لن نتغلب على المعاصي والفتن والغزو الفكري إلا بالعلم.. لن نصحح المسيرة، ونجمع الشمل، ونصلح حال الأمة إلا بالعلم.. لن نبني جيلاً ولن نؤسس حضارة إلا بالعلم، هذه حقائق يصدقها النقل والعقل والواقع والتأريخ.
العلم الشرعي هو الأصل: إذا أطلقنا الكلام عن العلم فإنما نقصد به العلم الشرعي: علم الكتاب والسنة، قال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، والعلم الدنيوي مطلوب لابد منه، لكن الأصل الأصل .
بين العلم الشرعي والثقافة العامة: المجلات الإسلامية والصحف والأخبار والنشرات وأخبار الواقع ثقافة.. الكتاب، السنة، الفقه، التفسير: علم، فكن عالماً مثقفاً، ولاتكن مثقفاً فحسب فلا يكن في رأسك إلا كلام .
شباب الصحوة أقسام ثلاثة:
قسم منهم يدعو ويبذل وليس عنده وقت للتحصيل، فأجاد يوم وصل، وقصر يوم ما حصل .
وقسم عكف على التحصيل وأهمل نشر العلم والدعوة، فأحسن في تحصيله، وقصر في توصيله .
وقسم كمل، أهل فطنة وفقه، وهم أهل التحصيل وأهل النشر والنفع والدعوة .
مخيمات أحبت العلم: رأيت كثيراً من المخيمات عندهم دروس وحفظ ومطالعة ومناقشة، فأولئك مجالسهم رياض من رياض الجنة . ورأيت مخيمات أكثر ما عندهم نشيد ومسرحيات وتمارين، ولو اقتصدوا في هذا كان أحسن، ومجالس هؤلاء من مجالس الدنيا العادية المباحة .
لا يكفينا عودة الشباب: ليس من مقاصد الدعوة عودة الشباب إلى الاستقامة فحسب، بل وتعليمهم وتفقيههم وتحفيظهم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.. هذا هو الهدف المنشود 0
الضابط الثالث: نبذ الخلاف والفرقة والبعد عن التباغض والشحناء: قال سبحانه:}وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [105]{ 'سورة آل عمران' وقال:} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [10]{ 'سورة الحجرات' وقال في وصف المؤمنين: } أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ[54] { 'سورة المائدة' .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ... رواه مسلم .
البغضاء الحالقة: ثبت في الحديث أن البغضاء تحلق الدين، وصحوة بينها تباغض وتشاحن ليست بصحوة، ومجالس الدعوة إذا رأيت فيها الغيبة والتشفي؛ تمزقت الأمة، والأحسن جمع الشمل والدعاء للعاملين المخلصين، والله المعين .
لا تصغي للشائعات: كأن في الساحة قوم تبرعوا بنشر الشائعات بين الأحبة، وهؤلاء أجرهم على إبليس، لماذا الشائعات؟! لماذا نقل الكلام؟! لماذا ننكأ الجرح؟! .. من لم تشغله بالحق شغلك بالباطل، ومن لم يعبد الرحمن استخدمه الشيطان .
إذا سمعت شائعة: إذا سمعت شائعة؛ اسأل: من نقلت عنه؟ وحاوره وناقشه: ماذا أردت؟ ومن نقل لك الكلام؟ ولقنه درساً لا ينساه من الأدب .
ثلم الآخرين مسبة: قيل فيما قيل: من ثلم أخاه فإنما سب نفسه، والمريب أجرب، والمصدور به حمى، ومن دعا الناس إلى سبه سبوه بالحق وبالباطل، والجزاء من جنس العمل .. والساكت العامل كالقمر الهادئ الوادع، والفاشل السباب يهر ولا يستقر .
تناصح لا تفاضح : لماذا لانتناصح ؟! لماذا لا نتواصى بالخير ؟! لماذا يفضح بعضنا بعضاً على رءوس الأشهاد ؟!
إن لوازم الصحوة إذا أرادت أن تكون صحوة أن يعمل أفرادها بقوله تعالى:} وَالْعَصْرِ[1]إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ[2]إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[3] { 'سورة العصر' .
حرارة اللقاء: مما يعين على سل سخيمة القلوب، وإذهاب الأحقاد؛ حرارة اللقاء، وبشاشة الوجه، والتبسم في وجه المسلم. أما العبوس، أوالانقباض، أو الامتعاض، فهذه تناسب وجوه الذين ماعرفوا النور، ولا ذاقوا طعم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .
الضابط الرابع: العمل على منهج عقدي مفصل على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة: هذا شرط الاتفاق، وعقد الوفاق، وصك العمل، وهذا هو الميثاق، عقيدة أهل السنة الصافية الوافية الرائعة، معتقد السلف الجميل الأصيل النبيل، بلا غبش، بلا تمييع، بلا مجاملة . أما الاتفاق على أمور مجملة وعموميات في العقيدة، فهذه وحدها لا تكفي أبداً، فإنه يمكن إدخال أهل البدع في هذه المظلة 0
جملة لابد أن تفهم: 'نعمل فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه' هذه الكلمة قالها بعض الدعاة، ولعله يقصد: فيما اختلفنا عليه من الفرعيات الجزئية، التي ما أجمع عليها السلف الصالح؛ إذ لو كان المعنى: 'ما اختلفنا فيه' كل خلاف؛ لعملنا مع الجهمية والروافض، بل مع البهائية وأمثالهم؛ إذ لابد أن نتفق معهم في شئ من الأصول .(/2)
لا نلتقي مع مبتدع: المحدث في دين الله ما ليس منه؛ عدو الله ، وموالاته عداوة لله ولرسوله، فكان من حزم السلف الصالح معاداة المبتدع، والتشهير به، وتحذير الناس، وهذا لابد أن يعيه رواد الصحوة تماماً؛ ليكونوا حملة مباديء يلتقون عليها ويعملون لها .
نفهم الكتاب والسنة بفهم السلف: لا يكفي الدعوة إلى الكتاب والسنة حتى يضاف إليها:' بفهم السلف الصالح لهما' إذ لو كانت هذه الدعوة كافيه لكفت الخوارج وسائر المبتدعة؛ لأنهم يدعون ذلك، لكنهم أخذوا الكتاب والسنة بفهمهم لا بفهم السلف .
كتب الصحوة في العقيدة: مع الكتاب والسنة هناك كتب في العقيدة أثبتت صفاءها وأصالتها وعمقها ككتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكتاب معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي، والطحاويه، وكتب ابن تيمية وابن القيم .
بيان الخطأ واجب: الدعوة إلى جمع الشمل، واتحاد الكلمة لا تعني ترك الرد على مبتدع وتبيين الخطأ، وبعضهم إذا سمع التشهير بالمبتدع نادى وصاح: لا تثيروا الخلاف، ولا تفرقوا الكلمة . وأي خلاف وأي كلمة؟! أسكوت وانطواء والعقيدة تثلم وتمزق؟! أكلمة تجمع على الباطل ؟ أصف يوحد على خواء؟!
غبش المنهج خلل في السيرة: إذا لم يعرف منهج عقدي مفصل، فإنه سوف يكون هناك تباين في المدارس، وتعدد في الطرق، وتفرق في الخلايا، فيدخل الصوفي والأ شعري والرافضي في مسمى الجماعة، وينتظم في المسيرة؛ لأنه ليس هناك ما يمنعه أن ينتظم.. ولماذا هذا التجميع بلا ضوابط ؟ وما هذا الركام بلا تصفية ؟
من جهل الأصول حرم الوصول: أصل الأصول هي العقيدة، ومن جهلها فلن يصل إلى خير بعدها أبداً، وأول ما يعلم الناس العقيدة، وأول ما يدعون إليه العقيدة، ومن ظن أنه يكفيه في تعليم العقيدة وراثته من جدته فهو سطحي أرعن، صحيح أن العقيدة سهلة ميسرة ولكن ليس معنى ذلك أنها لا تحتاج إلى تعلم وفهم .
الضابط الخامس: ماهي المقاصد التي تعمل من أجلها هذه الصحوة: لابد للعامل من هدف يسعى إليه، ومن مقصد يعمل من أجله، وأهل الصحوة أذكى من أن يعملوا على غير تصور لمقاصدهم، أو على عدم رؤية لأهدافهم . والمقاصد أربعة :
1- إقامة شرع الله في الأرض .
2- جمع كلمة المسلمين .
3- الجهاد في سبيل الله تعالى .
4- تربية الناس على تعاليم الكتاب والسنة .
الضابط السادس: ماهي الوسائل التي تنتهجها هذه الصحوة في إيصال دعوتها للناس: أعظم هذه الوسائل هي الوسائل التي نهجها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في تبليغ دين الله تبارك وتعالى: القدوة الحسنة، الخطابة، الموعظة العامة، الدعوة الفردية، الدروس العلمية، وهذا العصر زاد بوسائل الإعلام: الصحف، الإذاعة المرئية والمسموعة، المجلات، الدوريات، الأندية الأدبية، الندوات العامة، والأصل في ذلك: المسجد، فمنه تنطلق الدعوة - وليس المسجد وحده - ولكن لزاماً على رواد الصحوة أن يرتادوا الأماكن العامة، وأوكار الباطل، ودور اللهو، والمنتديات العابثة؛ ليوصلوا الدعوة إلى أولئك .
الضابط السابع : الوسطية بلا إفراط ولا تفريط في الأقوال والأعمال والأحوال: وهذا الضابط مهم، ودين الله وسط بين الغالي والجافي: } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا[143] {'سورة البقرة' [... وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا]رواه البخاري ومسلم.
إن من مقاصد الدين الإسلامي بناء حياة المجتمع المسلم على الوسط، وإن الغلو أو الجفاء يخالف كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، غلا قوم فخرجوا بغلوهم إلى البدع، وجفا قوم فسقطوا بجفائهم في البدعة 0
دعوة الناشئة إلى الوسط: قال علي رضي الله عنه:'الحكيم كل الحكيم من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمن من مكر الله' وهذا من أحسن الكلام؛ فإن المربي الداعية إذا أنشأ جيلاً ورخص له في الالتزام، وأوجد له المعاذير للأخطاء؛ أصبح هذا الجيل كسولا ًفاتراً بارداً . وإذا ذهب الداعية إلى تكبير الصغائر، وتضخيم الفلتات، وتهويل الهنات؛ أوجد جيلاً متشنجاً حاداً حاراً. والوسط نهج محمد صلى الله عليه وسلم، بين الخوف والرجاء:} لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [21]{ 'سورة الأحزاب' .
ليس الوسط هو البرود: ربما يظن ظانّ أن معنى الوسط: تمييع القضايا، والتسويف في القيام بالواجبات، وهذا خطأ، فلابد من أخذ الكتاب بقوة، لكن الوسط أخذ أمر الله، وأمر رسوله؛ حباً وتسليماً وانقياداً كما أراد الله ورسوله بلا زيادة ولا نقص .
التطرف ليس من صفات الصحوة: يقول بعض الناس: 'إن في الصحوة تطرفاً' وهذا ليس بصحيح؛ فليس هذا ظاهرة وقد يأتي نادراً، والنادر لا حكم له .(/3)
الضابط الثامن: سد الثغرات، وإشباع التخصصات، وتصنيف الدعاة: ثلاث قضايا كبرى، فلا تبقى ثغرة مفتوحة على المسلمين إلا سدت بالمخلصين، ولا يترك تخصص مما ينفع في الدنيا والدين إلا أشبع من أبناء المسلمين، ثم يصنف الدعاة حسب الأهلية والقدرات والمال والمكان والزمان، كل ينفع في جانب لتكامل شخصية الصحوة الإسلامية والله الموفق .
الإسلام يقر التخصص: الشخصية الكاملة نادرة، ومن برع في فن قد يضعف في فن آخر، والصحابة أهل تخصصات: أبي بن كعب أقرؤهم، معاذ أعلمهم بالحلال والحرام، علي أقضاهم، خالد رجل السيف والرمح، حسان أستاذ القوافي، زيد عالم المواريث.. قد علم كل أناس مشربهم . وحاجتنا إلى عالم وواعظ ومدرس وطبيب ومهندس وطيار وتاجر، وإلى كل ما ينفع المسلمين في أي حقل . لا نقل للعالم كن طبيباً، وللطبيب كن واعظاً، وللمهندس كن عالماً .. نقل انفع الإسلام في ميدانك والله معك .
أعداء الله أهل تخصص: أما ترى أهل الحضارة الغربية كيف بنوا حضاراتهم على مبدأ التخصص، إنها حضارة الجزئيات كل يقوم بجزئيته حتى اكتمل البناء، ألا ينبغي أن نستفيد من هذا والحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنّى وجدها !
الضابط التاسع: ضرورة الجمع بين علم الكتاب والسنة وعلم الواقع: من عرف النصوص وعلمها ولم يعلم واقعه كان كمن عنده دواء ولكن لا يعرف المرض، ومن عرف الواقع وليس له علم بالنصوص كان كمن يعرف المرض وليس عنده دواء .
عكوف على النصوص: مما يجب على أبناء الصحوة العكوف على النصوص كتاباً وسنة، ذاك الكنز الثمين، والخير العميم. هذا العكوف بطريقة الحفظ والمطالعة والمذاكرة والمناقشة؛ يثمر لنا علماء ودعاة وأدباء يوجهون المسيرة .
علم الواقع سهل: الخير لابد أن يعرف مفصلاً، والشر لك أن تعرفه مجملاً، وعلم الواقع سهل التناول لمن عاش عصره، فمعرفة الأفكار الهدامة، والدعوات المغرضة، والفرق والطوائف ضرورة للدعوة ولو بشيء من الإجمال؛ لأن معرفة كل جزئية وكل مسألة في الواقع أمر صعب، وربما ألهى عن غيره إلا المتخصصين .
صحوة تقرأ التأريخ: معرفة العبر والدروس من التاريخ يعرفها الرواد ويجيدها الأفذاذ، وصحوة هذا شأنها حق عليها أن تقرأ تاريخها وتاريخ غيرها؛ لتحيط بالتجارب، وتبصر الواقع، وتعيش الأحاديث، ومصائب قوم عند قوم فوائد. قال شوقي:
إقرأ التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر
الضابط العاشر: الاعتراف بالتقصير، وتجديد التوبة، وكثرة الاستغفار:
والمعنى: ألا نزكي أنفسنا، وأن نبتعد عن الفخر والعجب والتيه الكبر، وأن نتهم أنفسنا، وأن نعترف بالتقصير } فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى[32] {'سورة النجم'.
لا ندعي الكمال: نبذل ونجاهد وندعو ونسعى ونقول: مذنبون نحن، مقصرون نحن، الكمال لله وحده، والعصمة لرسوله صلى الله عليه وسلم .
صحوة تجتنب الكبائر: الصغائر تقع، والهنات حاصلة، أما الكبائر فهذا هو الهلاك والدمار:} إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا[31] { 'سورة النساء' . الصغائر تكفرها الأعمال الصالحة وهي تقع منا كثيراً، أما الكبائر فنسأل الله أن يحول بيننا وبينها.
قلة المعين: السلف صلحوا واستقاموا وأبدعوا في النبل والفضل؛ لصفاء عصرهم، ولقلة الفتن والمغريات في عهدهم، ولوجود المعين من علماء ودعاة وزهاد وعبّاد . أما نحن فحدث عن عصرنا ما تشاء: فتن طامة، ومفاسد عامة، ومغريات جمة، ولا منجى ولا ملجأ إلا إلى الله تعالى، ولكن نقول: منا من يقوم بالفرائض ويجتنب الكبائر، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
نحن مع آيات الأحقاف: قال سبحانه في المؤمنين:} أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ[16] { فنحن ياأهل الصحوة مع هذه الآية .. سلام على أبناء الصحوة المباركة، ورحمة الله وبركاته.
الشيخ/ عائض القرني(/4)
عشرون معجزة
1- قال تعالى : ( ثٌمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاْءِ وَهِيَ دُخَاْنٌ ) فصلت 11 :
- أُلقِيَت هذه الآيات في المؤتمر العلمي للإعجاز القرآني الذي عقد في القاهرة و لما سمع البروفيسور الياباني ( يوشيدي كوزاي) تلك الآية نهض مندهشاً و قال لم يصل العلم و العلماء إلى هذه الحقيقة المذهلة إلا منذ عهد قريب بعد أن التَقَطِت كاميرات الأقمار الاصطناعية القوية صوراً و أفلاماً حية تظهر نجماً و هو يتكون من كتلة كبيرة من الدخان الكثيف القاتم ثم أردف قائلاً ( إن معلوماتنا السابقة قبل هذه الأفلام و الصور الحية كانت مبنية على نظريات خاطئة مفادها أن السماء كانت ضباباً ) و قال ( بهذا نكون قد أضفنا إلى معجزات القرآن معجزة جديدة مذهلة أكدت أن الذي أخبر عنها هو الله الذي خلق الكون قبل مليارات السنين ).
2- قال تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِيْنَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَوَاْتِ وَ الأَرْضَ كَاْنَتَاْ رَتْقَاً فَفَتَقْنَاْهُمَاْ ) الأنبياء 3 :
- لقد بلغ ذهول العلماء في مؤتمر الشباب الإسلامي الذي عقد في الرياض 1979م ذروته عندما سمعوا الآية الكريمة و قالوا: حقاً لقد كان الكون في بدايته عبارة عن سحابة سديمية دخانية غازية هائلة متلاصقة ثم تحولت بالتدريج إلى ملايين الملايين من النجوم التي تملأ السماء . عندها صرح البروفيسور الأمريكي (بالمر) قائلاً إن ما قيل لا يمكن بحال من الأحوال أن ينسب إلى شخص مات قبل 1400 سنة لأنه لم يكن لديه تليسكوبات و لا سفن فضائية تساعد على اكتشاف هذه الحقائق فلا بد أن الذي أخبر محمداً هو الله و قد أعلن البروفيسور(بالمر) إسلامه في نهاية المؤتمر.
3- قال تعالى : ( وَ جَعَلْنَاْ مِنَ المَاْءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاْ يُؤْمِنُوْنَ ) الأنبياء30 :
- و قد أثبت العلم الحديث أن أي كائن حي يتكون من نسبة عالية من ا لماء و إذا فقد 25 بالمائة من مائه فإنه سيقضي نحبه لا محالة لأن جميع التفاعلات الكيماوية داخل خلايا أي كائن حي لا تتم إلا في وسط مائي. فمن أين لمحمد صلى الله عليه و سلم بهذه المعلومات الطبية؟؟
4- قال تعالى : ( وَ السَّمَاْءَ بَنَيْنَاْهَاْ بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوْسِعُوْنَ ) الذاريات 47 :
- و قد أثبت العلم الحديث أن السماء تزداد سعة باستمرار فمن أخبر محمداً صلى الله عليه و سلم بهذه الحقيقة في تلك العصور المتخلفة؟ هل كان يملك تليسكوبات و أقماراً اصطناعية؟!! أم أنه وحي من عند الله خالق هذا الكون العظيم؟؟؟ أليس هذا دليلاً قاطعاً على أن هذا القرآن حق من الله ؟؟؟
5- قال تعالى : ( وَ الشَّمْسُ تَجْرِيْ لِمُسْتَقَرٍّ لَهَاْ ذَلِكَ تَقْدِيْرٌ الْعَزِيْزِ الْعَلِيْمِ ) يس 38 :
- و قد أثبت العلم الحديث أن الشمس تسير بسرعة 43200 ميل في الساعة و بما أن المسافة بيننا و بين الشمس 92مليون ميل فإننا نراها ثابتة لا تتحرك و قد دهش بروفيسور أمريكي لدى سماعه تلك الآية القرآنية و قال إني لأجد صعوبة بالغة في تصور ذلك العلم القرآني الذي توصل إلى مثل هذه الحقائق العلمية التي لم نتمكن منها إلا منذ عهد قريب .
6- قال تعالى : ( وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقَاً حَرَجَاً كَأَنَّمَاْ يَصَّعَّدُ فِيْ السَّمَاْءِ ) الأنعام 125 :
- و الآن عندما تركب طائرة و تطير بك و تصعد في السماء بماذا تشعر؟ ألا تشعر بضيق في الصدر؟ فبرأيك من الذي أخبر محمداً صلى الله عليه و سلم بذلك قبل 1400 سنة؟ هل كان يملك مركبة فضائية خاصة به استطاع من خلالها أن يعرف هذه الظاهرة الفيزيائية؟ أم أنه وحي من الله تعالى؟؟؟
7- قال تعالى :( وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَاْرَ فَإِذَاْ هُمْ مُظْلِمُوْنَ ) يس 37 , و قال تعالى : ( وَ لَقَدْ زَيَّنَّاْ السَّمَاْءَ الدُّنْيَاْ بِمَصَاْبِيْحَ ) الملك 5 :
- حسبما تشير إليه الآيتان الكريمتان فإن الكون غارق في الظلام الداكن و إن كنا في وضح النهار على سطح الأرض ، و لقد شاهد العلماء الأرض و باقي الكواكب التابعة للمجموعة الشمسية مضاءة في وضح النهار بينما السموات من حولها غارقة في الظلام فمن كان يدري أيام محمد صلى الله عليه و سلم أن الظلام هو الحالة المهيمنة على الكون ؟ و أن هذه المجرات و النجوم ليست إلا مصابيح صغيرة واهنة لا تكاد تبدد ظلام الكون الدامس المحيط بها فبدت كالزينة و المصابيح لا أكثر؟ و عندما قُرِأَت هذه الآيات على مسمع احد العلماء الامريكيين بهت و ازداد إعجابه إعجاباً و دهشته دهشة بجلال و عظمة هذا القرآن و قال فيه لا يمكن أن يكون هذا القرآن إلا كلام مص مم هذا الكون ، العليم بأسراره و دقائقه.
8- قال تعالى : ( وَ جَعَلْنَاْ السَّمَاْءَ سَقْفَاً مَحْفُوْظَا ً) الأنبياء 32 :(/1)
- و قد أثبت العلم الحديث وجود الغلاف الجوي المحيط بالأرض و الذي يحميها من الأشعة الشمسية الضارة و النيازك المدمرة فعندما تلامس هذه النيازك الغلاف الجوي للأرض فإنها تستعر بفعل احتكاكها به فتبدو لنا ليلاً على شكل كتل صغيرة مضيئة تهبط من السماء بسرعة كبيرة قدرت بحوالي 150 ميل في الثانية ثم تنطفئ بسرعة و تختفي و هذا ما نسميه بالشهب، فمن أخبر محمداً صلى الله عليه و سلم بأن السماء كالسقف تحفظ الأرض من النيازك و الأشعة الشمسية الضارة؟ أليس هذا من الأدلة القطعية على أن هذا القرآن من عند خالق هذا الكون العظيم؟؟؟
9- قال تعالى : ( وَ الْجِبَاْلَ أَوْتَاْدَاً ) النبأ 7 , و قال تعالى : ( وَ أَلْق َى فِيْ الأَرْضِ رَوَاْسِيَ أَنْ تَمِيْدَ بِكُمْ ) لقمان10 :
- بما أن قشرة الأرض و ما عليها من جبال و هضاب و صحاري تقوم فوق الأعماق السائلة و الرخوة المتحركة المعروفة باسم (طبقة السيما) فإن القشرة الأرضية و ما عليها ستميد و تتحرك باستمرار و سينجم عن حركتها تشققات و زلازل هائلة تدمر كل شيء .. و لكن شيئاً من هذا لم يحدث.. فما السبب ؟
- لقد تبين منذ عهد قريب أن ثلثي أي جبل مغروس في أعماق الأرض و في (طبقة السيما) و ثلثه فقط بارز فوق سطح الأرض لذا فقد شبه الله تعالى الجبال بالأوتاد التي تمسك الخيمة بالأرض كما في الآية السابقة ، و قد أُلقِيَت هذه الآيات في مؤتمر الشباب الإسلامي الذي عقد في الرياض عام 1979 و قد ذهل البروفيسور الأمريكي (بالمر) و العالم الجيولوجي الياباني (سياردو) و قالا ليس من المعقول بشكل من الأشكال أن يكون هذا كلام بشر و خاصة أنه قيل قبل 1400 سنة لأننا لم نتوصل إلى هذه الحقائق العلمية إلا بعد دراسات مستفيضة مستعينين بتكنولوجيا القرن العشرين التي لم تكن موجودة في عصر ساد فيه الجهل و التخلف كافة أنحاء الأرض) كما حضر النقاش العالم (فرانك بريس) مستشار الرئيس الأمريكي (كارتر) و المتخصص في علوم الجيولوجيا و البحار و قال مندهشاً لا يمكن لمحمد أن يلم بهذه المعلومات و لا بد أن الذي لقنه إياها هو خالق هذا الكون ، العليم بأسراره و قوانينه و تصميماته) .
10- قال تعالى : ( وَ تَرَى الْجِبَاْلَ تَحْسَبُهَاْ جَاْمِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَاْبِ صُنْعَ اللهِ الَّذِيْ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) النمل 88 :
- كلنا يعلم أن الجبال ثابتات في مكانها ، و لكننا لو ارتفعنا عن الأرض بعيداً عن جاذبيتها و غلافها الجوي فإننا سنرى الأرض تدور بسرعة هائلة (100ميل في الساعة) و عندها سنرى الجبال و كأنها تسير سير السحاب أي أن حركتها ليست ذاتية بل مرتبطة بحركة الأرض تماماً كالسحاب الذي لا يتحرك بنفسه بل تدفعه الرياح ، و هذا دليل على حركة الأرض ،فمن أخبر محمداً صلى الله عليه و سلم بهذا ؟ أليس الله ؟؟
11- قال تعالى : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَاْنِ*بَيْنَهُمَاْ بَرْزَخٌ لاْ يَبْغِيَاْنِ ) الرحمن : 19-20 :
- لقد تبين من خلال الدراسات الحديثة أن لكل بحر صفاته الخاصة به و التي تميزه عن غيره من البحار كشدة الملوحة و الوزن الن وعي للماء حتى لونه الذي يتغير من مكان إلى آخر بسبب التفاوت في درجة الحرارة و العمق و عوامل أخرى ، و الأغرب من هذا اكتشاف الخط الأبيض الدقيق الذي يرتسم نتيجة التقاء مياه بحرين ببعضهما و هذا تماماً ما ذكر في الآيتين السابقتين ، و عندما نوقش هذا النص القرآني مع عالم البحار الأمريكي البروفيسور (هيل) و كذلك العالم الجيولوجي الألماني (شرايدر) أجابا قائلين أن هذا العلم إلهي مئة بالمئة و به إعجاز بيّن و أنه من المستحيل على إنسان أمي بسيط كمحمد أن يلم بهذا العلم في عصور ساد فيها التخلف و الجهل .
12 - قال تعالى : ( وَ أَرْسَلْنَاْ الرِّيَاْحَ لَوَاْقِحَ ) سورة الحجر 22 :
- و هذا ما أثبته العلم الحديث إذ أن من فوائد الرياح أنها تحمل حبات الطلع لتلقيح الأزهار التي ستصبح فيما بعد ثماراً، فمن أخبر محمداً صلى الله عليه و سلم بأن الرياح تقوم بتلقيح الأزهار؟ أليس هذا من الأدلة التي تؤكد أن هذا القرآن كلام الله ؟؟؟
13- قال تعالى : ( كُلَّمَاْ نَضَجَتْ جُلُوْدُهُمْ بَدَّلْنَاْهُمْ جُلُوْدَاً غَيْرَهَاْ لِيَذُوْقُواْ الْعَذَاْبَ ) النساء 56 :
- و قد أثبت العلم الحديث أن الجسيمات الحسية المختصة بالألم و الحرارة تكون موجودة في طبقة الجلد وحدها، و مع أن الجلد سيحترق مع ما تحته من العضلات و غيرها إلا أن القرآن لم يذكرها لأن الشعور بالألم تختص به طبقة الجلد وحدها. فمن أخبر محمداً بهذه المعلومة الطبية؟ أليس الله ؟؟(/2)
14- قال تعالى : ( أَوْ كَظُلُمَاْتٍ فِيْ بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاْهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَاْبٌ ظُلُمَاْتٌ بَعْضُهَاْ فَوْقَ بَعْضٍ إِذَاْ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكُدْ يَرَاْهَاْ وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوْرَاً فَمَاْلَهُ مِنْ نُّوْرٍ ) النور40 :
- لم يكن بإمكان الإنسان القديم أن يغوص أكثر من 15 متر لأنه كان عاجزاً عن البقاء بدون تنفس أكثر من دقيقتين و لأن عروق جسمه ستنفجر من ضغط الماء و بعد أن توفرت الغواصات في القرن العشرين تبين للعلماء أن قيعان البحار شديدة الظلمة كما اكتشفوا أن لكل بحر لجي طبقتين من المياه، الأولى عميقة و هي شديدة الظلمة و يغطيها موج شديد متحرك و طبقة أخرى سطحية و هي مظلمة أيضاً و تغطيها الأمواج التي نراها على سطح البحر، و قد دهش العالم الأمريكي (هيل) من عظمة هذا القرآن و زادت دهشته عندما نوقش معه الإعجاز الموجود في الشطر الثاني من الآية قال تعالى : ( سَحَاْبٌ ظُلُمَاْتٌ بَعْضُهَاْ فَوْقَ بَعْضٍ إِذَاْ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكُدْ يَرَاْهَاْ ) و قال إن مثل هذا السحاب لم تشهده الجزيرة العربية المشرقة أبداً و هذه الحالة الجوية لا تحدث إلا في شمال أمريكا و روسيا و الدول الاسكندنافية القريبة من القطب و التي لم تكن مكتشفة أيام محمد صلى الله عليه و سلم و لا بد أن يكون هذا القرآن كلام الله .
15- قال تعالى : ( غُلِبَتِ الرُّوْمُ*فِيْ أَدْنَى الأَرْضِ ) الروم 2-3 :
- أدنى الأرض : البقعة الأكثر انخفاضاً على سطح الأرض و قد غُلِبَت الروم في فلسطين قرب البحر الميت, ولما نوقشت هذه الآية مع العالم الجيولوجي الشهير (بالمر) في المؤتمر العلمي الدولي الذي أقيم في الرياض عام 1979 أنكر هذا الأمر فوراً و أعلن للملأ أن هناك أماكن عديدة على سطح الأرض أكثر انخفاضاً فسأله العلماء أن يتأكد من معلوماته، و من مراجعة مخططانه الجغرافية فوجئ العالم (بالمر) بخريطة من خرائطه تبين تضاريس فلسطين و قد رسم عليها سهم غليظ يشير إلى منطقة البحر الميت و قد كتب عند قمته (أخفض منطقة على سطح الأرض) فدهش البروفيسور و أعلن إعجابه و تقديره و أكد أن هذا القرآن لا بد أن يكون كلام الله .
16- قال تعالى : ( يَخْلُقُكُمْ فِيْ بُطُوْنِ أُمَّهَاْتِكُمْ خَلْقَاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِيْ ظُلُمَاْتٍ ثَلاْثٍ ) الزمر 6 :
- لم يكن محمد طبيباً ، و لم يتسن له تشريح سيدة حامل ، و لم يتلقى دروساً في علم التشريح و الأجنة ، بل و لم هذا العلم معروفاً قبل القرن التاسع عشر ، إن معنى الآية واضح تماماً وقد أثبت العلم الحديث أن هناك ثلاثة أغشية تحيط بالجنين و هي:
- أولاً : الأغشية الملتصقة التي تحيط بالجنين و تتألف من الغشاء الذي تتكون منه بطانة الرحم و الغشاء المشيمي و الغشاء السلي و هذه الأغشية الثلاث تشكل الظلمة الأولى لالتصاقها ببعضها.
- ثانياً : جدار الرحم و هو الظلمة الثانية.ثالثاً:جدار البطن و هو الظلمة الثالثة . فمن أين لمحمد محمد صلى الله عليه و سلم بهذه المعلومات الطبية؟؟؟
17- قال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِيْ سَحَاْبَاً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاْمَاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاْلِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاْءِ مِنْ جِبَاْلٍ فِيْهَاْ مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيْبُ بِهِ مَنْ يَشَاْءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاْءُ يَكَاْدُ سَنَاْ بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَاْرِ ) النور 43 :
- يقول العلماء : يبدأ تكون السحب الركامية بعدة خلايا قليلة كنتف القطن تدفعها الرياح لتدمج بعضها في بعض مشكلة سحابة عملاقة كالجبل يصل ارتفاعها إلى 45ألف قدم و تكون قمة السحابة شديدة البرودة بالنسبة إلى قاعدتها، و بسبب هذا الاختلاف في درجات الحرارة تنشأ دوامات تؤدي إلى تشكل حبات البرد في ذروة السحابة الجبلية الشكل كم تؤدي إلى حدوث تفريغات كهربائية تطلق شرارات باهرة الضوء تصيب الطيارين في صفحة السماء بما يسمى (بالعمى المؤقت) و هذا ما وصفته الآية تماماً. فهل لمحمد صلى الله عليه و سلم أن يأتي بهذه المعلومات الدقيقة من عنده؟؟؟
18- قال تعالى : ( وَ لَبِثُواْ فِيْ كَهْفِهِمْ ثَلاْثَ مِائَةٍ سِنِيْنَ وَ ازْدَاْدُواْ تِسْعَاً ) الكهف 25 :
- المقصود في الآية أن أصحاب الكهف قد لبثوا في كهفهم 300 سنة شمسية و 309 سنة قمرية، و قد تأكد لعلماء الرياضيات أن السنة الشمسية أطول من السنة القمرية بـ 11يوماً، فإذا ضربنا الـ 11يوماً بـ 300 سنة يكون الناتج 3300 و بتقسيم هذا الرقم على عدد أيام السنة (365) يصبح الناتج 9 سنين. فهل كان بإمكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يعرف مدة مكوث أهل الكهف بالتقويم القمري و الشمسي ؟؟؟(/3)
19- قال تعالى :(وَ إِنْ يَسْلُبُهُمُ الذُّبَاْبُ شَيْئَاً لاْ يَسْتَنْفِذُوْهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّاْلِبُ وَ المطْلُوْبُ) الحج 73 :
- و قد أثبت العلم الحديث وجود إفرازات عند الذباب بحيث تحول ما تلتقطه إلى مواد مغايرة تماماً لما التقطته لذا فنحن لا نستطيع معرفة حقيقة المادة التي التقطتها و بالتالي لا نستطيع استنفاذ هذا المادة منها أبداً. فمن أخبر محمداً بهذا أيضاً؟أليس الله عز وجل العالم بدقائق الأمور هو الذي أخبره؟
20- قال تعالى : ( وَ لَقَدْ خَلَقْنَاْ الإِنْسَاْنَ مِنْ سُلاْلَةٍ مِنْ طِيْنٍ*ثُمَّ جَعَلْنَاْهُ نُطْفَةً فِيْ قَرَاْرٍ مَكِيْنٍ*ثُمَّ خَلَقْنا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَاْ الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَاْ الْمُضْغَةَ عِظَاْمَاً فَكَسَوْنَاْ الْعِظَاْمَ لَحْمَاً ثُمَّ أَنْشَأْنَاْهُ خَلْقَاً آخَرَ فَتَبَاْرَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَاْلِقِيْنَ ) المؤمنون 11-13
و قال تعالى : ( يَاْ أَيُّهَاْ النَّاْسُ إِنْ كُنْتُمْ فِيْ رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّاْ خَلَقْنَاْكُمْ مِنْ تُرَاْبٍ ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِن ْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ) الحج 5 :
- من الآيات الكريمة السابقة يتبين أن خلق الإنسان يتم على مراحل على النحو التالي :
1- التراب : و دليل ذلك أن كافة العناصر المعدنية و العضوية التي يتركب منها جسم الإنسان موجودة في التراب و الطين و الدليل الثاني أنه بعد مماته سيصير تراباً لا يختلف عن التراب في شيء.
2- النطفة : و هي التي تخرق جدار البويضة و ينجم عن ذلك البيضة الملقحة (النطفة الأمشاج) التي تحرض الانقسامات الخلوية التي تجعل النطفة الأمشاج تنمو و تتكاثر حتى تصبح جنيناً متكاملاً كما في قوله تعالى : ( إِنَّاْ خَلَقْنَاْ الإِنْسَاْنَ مِنْ نُّطْفَةٍ أَمْشَاْجٍ ) الإنسان2 .
3- العلقة: بعد الانقسامات الخلوية التي تحدث في البيضة الملقحة تتشكل كتلة من الخلايا تشبه في شكلها المجهري ثمرة التوت (العلقة) و التي تتميز بقدرتها العجيبة على التعلق على جدار الرحم لتستمد الغذاء اللازم لها من الأوعية الدموية الموجودة فيه.
4- المضغة : تتخلق خلايا المضغة لتعطي براعم الأطراف و أعضاء و أجهزة الجسم المختلفة فهي تتكون إذاً من خلايا مخلقة أما الأغشية المحيطة بالمضغة ( الغشاء المشيمي و كذلك الزغابات التي ستتحول إلى الخلاص لاحقاً ) فإنها خلايا غير مخلقة، و تحت الدراسة المجهرية تبين أن الجنين في مرحلة المضغة يبدو كقطعة لحم أو صمغ ممضوغ و عليها علامة أسنان و أضراس ماضغة.
ألا يؤكد هذا قوله تعالى : ( مِنْ مُضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) فهل كان لمحمد صلى الله عليه و سلم جهاز(إيكو) عرف من خلاله هذه الحقيقة ؟!
5- ظهور العظام : ثبت علمياً أن العظام تبدأ بالظهور في نهاية مرحلة المضغة و هذا يوافق الترتيب الذي ذكرته الآية ( فَخَلَقْنَاْ الْمُضْغَةَ عِظَاْمَاً ) .
6- كساء العظام باللحم : لقد أثبت علم الأجنة الحديث أن العضلات (اللحم) تتشكل بعد العظام ببضعة أسابيع و يترافق الكساء العضلي بالكساء الجلدي للجنين و هذا يوافق تماماً قوله تعالى : ( فَكَسَوْنَاْ الْعِظَاْمَ لَحْمَاً ) .
عندما يشرف الأسبوع السابع من الحمل على الانتهاء تكون مراحل تخلق الجنين قد انتهت و صار شكله قريب الشبه بالجنين و يحتاج بعض الوقت ليكبر و يكتمل نموه و طوله و وزنه و يأخذ شك له المعروف.
و الآن: هل كان من الممكن لمحمد محمد صلى الله عليه و سلم أن يدلي بهذه المعلومات الطبية و قد عاش في عصر يسود فيه الجهل و التخلف؟؟؟
لقد أُلقِيَت هذه الآيات العظيمة في مؤتمر الإعجاز الطبي السابع للقرآن الكريم عام 1982 و ما إن سمع العالم التايلاندي (تاجاس) المتخصص بعلم الأجنة تلك الآيات حتى أعلن على الفور و بدون تردد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، كما حضر المؤتمر البروفيسور الشهير ( كيث مور) و هو أستاذ كبير في الجامعات الأميركية و الكندية و قال (من المستحيل أن يكون نبيكم قد عرف كل هذه التفصيلات الدقيقة عن أطوار تخلق و تصور الجنين من نفسه و لا بد أنه كان على اتصال مع عالم كبير أطلعه على هذه العلوم المختلفة ألا و هو الله) و قد أعلن إسلامه في المؤتمر الذي عقد عام 1983 و سطّر معجزات القرآن باللغة العربية في كتابه الجامعي الشهير الذي يُدَرّس لطلاب الطب في كليات أمريكا و كندا.
المعجزات العددية
الكلمة ... كم مرة ذكرت
الدنيا ... 115
الآخرة ... 115
الملائكة ... 88
الشيطان ... 88
الحياة ... 145
الموت ... 145
الرجل ... 24
المرآة ... 24
كيد الشيطان ... 11
الاستعاذة منه ... 11
اليوم ... 365
الشهر ... 12
صلاة المسلمين ... 5
و قد ذكرت كلمة البحر ... 32
و ذكرت كلمة البرّ ... 13
- و بإجراء المعادلتين التاليتين نحصل على ما يلي :(/4)
المعادلة "1" : عدد كلمات البحر (الماء) ÷ مجموع عدد كلمات البر و البحر × 100
المعادلة "2" : عدد كلمات البر (اليابسة) ÷ مجموع عدد كلمات البر و البحر × 100
بناء على المعادلة الأولى : 32 ÷45 × 100 ==== 71,111111111 بالمائة
وبناء على المعادلة الثانية : 13÷45 × 100 ==== 28,88888889 بالمائة
وقد أثبت العلم الحديث أن المحيط المائي يشكل 71,111111111 بالمائة من حجم الكرة الأرضية و أن المحيط اليابس (البر) يشكل 28,88888889 بال مائة (فهل هذا كله صدفة)!!!!
* القرآن الكريم المعجزة الخالدة قال تعالى : ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) .
* عن أبى أُمامة – رضى الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،قال : " إنَّ الله ومَلائكتهُ وأهل السمَواتِ والأرضِ حَتّى النمْلَةَ في جُحرِها وحتى الحُوتَ ليصلونَ عَلى مُعَلِّمى الناسِ الخَيْرَ " رواه الترمذى(/5)
عشرون وصية لتجنب القلق
الدكتور حسان شمسي باشا
القلق حالة نفسية تتصف بالخوف والتوتر ، وكثرة التوقعات ، وينجم القلق عن الخوف من المستقبل ، أو توقع لشيء ما ، أو عن صراع في داخل النفس بين النوازع والقيود التي تحول دون تلك النوازع .
والقلق أكثر الاضطرابات النفسية شيوعا ، فهو يصيب 10 – 15 % من الناس ، ويزداد حدوثه في الفترات الانتقالية من العمر ، كالانتقال من مرحلة البيت إلى المدرسة ، أو من مرحلة الطفولة إلى المراهقة ، وعند الانتقال إلى سن الشيخوخة والتقاعد ، أو سن اليأس عند النساء .
كما قد يحدث القلق عند تغيير المنزل أو العمل أو ما شابه ذلك . وقد يصاب الإنسان بالقلق كانفعال طارئ يزول بزوال السبب ، وقد يصبح مزمنا يبقى مع الإنسان لساعات أو أيام .
ومن أشكال القلق قلق الأم على ابنها إن تأخر عن موعد وصوله ، وقلق الإنسان على وظيفته وعمله ، أو قلق المرء على صحته حين يمرض ، وقلق الطالب على نتائج امتحاناته ، أو قلق التاجر على تجارته .. وهناك أشكال كثيرة من القلق لا مجال لحصرها . ويصاب الإنسان القلق بأعراض مختلفة ، منها الإحساس بالانقباض ، وعدم الارتياح والشعور بعدم الطمأنينة، والتفكير الملح والأرق ، كما قد يشكو القلق من الخفقان وإحساس بتشنج في المعدة أو برودة في الأطراف ..
وليس منا من لا يقلق في لحظة من اللحظات ، أو موقف من المواقف ، فهذا أمر طبيعي ، أما أن يستمر القلق لأيام ، بل لشهور أو سنين ، فهذا ما لا تحمد عقباه . ومن الناس من يقلق لأتفه الأسباب ، فتساوره الهموم والشكوك ، ويعيش أيامه بين القلق والاكتئاب .
فإذا أردت اجتناب القلق عليك مراجعة نفسك وموازينك ، وتدبر أمورك وأحوالك .
وإليك بعض الوصايا التي يمكن أن تساعدك في التخلص من القلق ..
1. عش في حدود يومك ولا تقلق على المستقبل ، ولا تخش قلة الرزق ، فالرزق بيد الله تعالى : ( وفي السماء رزقكم وما توعدون ) سورة الذاريات آية 22 .
2. ذكر نفسك بالثمن الفادح الذي يدفعه جسمك ثمنا للقلق .
3. دع التفكير في الماضي ، فإنه لن يعود مهما حاولت .. يقول الرسول عليه السلام : " وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان " رواه مسلم وأحمد
4. تدبر الحقائق بعناية قبل صنع القرار ، ومتى اتخذت قرارا حصيفا ، أقدم على تنفيذه واستعن بالله ولا تتردد .. وتذكر قول رسول الله عليه السلام : " إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف " رواه الترمذي وأحمد في مسنده .
5. ارض بقضاء الله تعالى وقدره . فالمؤمن لا يخشى مصائب الحياة ، فكل أمره خير .. يقول عليه السلام : " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " رواه مسلم وأحمد . ويقول تعالى : ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) سورة البقرة 216
6. أحص نعم الله عليك ، بدلا من أن تحصي همومك ومتاعبك . يقول تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) سورة إبراهيم 34 . واسأل نفسك دوما : هل تستبدك مليون ريال بما تملك ؟ أتبيع عينيك مقابل بليون دولار ، وكم من الثمن ترى يكفيك مقابل يديك أو ساقيك أو أولادك ؟ احسب ثروتك بندا بندا ، ثم اجمع هذه البنود ، وسوف ترى أنها لا تقدر بثمن . يقول شوبنهور : " ما أقل ما نفكر فيما لدينا ، وما أكثر ما نفكر فيما ينقصنا " .
7. لا تهتم بتوافه الأمور ، ولا تجعل صغائر المشاكل تهدم سعادتك ، ولا تسمح لنفسك بالثورة من أجل أشياء تافهة .
8. لا تعط الأمور أكثر مما تستحق ، قدر قيمة الشيء ، وأعط كل شيء حقه من الاهتمام .
9. استغرق في عملك ، فإذا ساورك القلق أشغل نفسك بما تعمل أو بأمر آخر مفيد ..
10. لا تكن أنانيا ، وصب اهتمامك على الآخرين ، واصنع في كل يوم عملا طيبا يرسم الابتسامة على وجه إنسان.
يقول عليه السلام : " أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سرورا ، أو تقضي عنه دينا ، أو تطعمه خبزا " أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي . قال الألباني : حديث حسن .
11. اجعل عملك خالصا لله تعالى ، ولا تنظر الشكر من أحد . قال عليه السلام : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى " رواه الشيخان .
12. ركز جهودك في العمل الذي تشعر من أعماقك أنه صواب ، ولا تستمع للوم اللائمين ، وإذا ما وجدت نفسك على خطأ فالتراجع عنه فضيلة .(/1)
13. احتفظ لنفسك بسجل تدون فيه الأخطاء التي ارتكبتها ، واستحققت النقد من أجلها ، عد إليها من حين لآخر ، لتستخلص منه العبر التي تفيدك في مستقبلك . واعلم أنه من العسير أن تكون على صواب طوال الوقت ولا تستنكف أن تسأل الناس النقد النزيه الأمين وتقبل نصيحة الراشدين ، فالنبي عليه السلام يقول : " الدين النصيحة " رواه مسلم وأحمد
14. لا تفكر في محاولة الاقتصاص من أعدائك ، فإن حاولت ذلك أذيت نفسك أكثر مما تؤذي أعداءك . قالت تعالى : ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) فصلت 34 . واكظم غيظك ولا تغضب ، فالله تعالى يمتدح الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس . قال تعالى : ( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين )
15. حاول أن تغير الأشياء السلبية إلى إيجابية .. ويضرب ديل كارنجي مثلا فيقول : " إذا لقيت بين يديك ليمونة مالحة ، فحاول أن تصنع منها شرابا سائغا حلوا " .. وفكر دوما في السعادة ، واصطنعها لنفسك تجد السعادة ملك يديك ...
16. اعرف نفسك ولا تحاول التشبه بغيرك ، ولا تحسد أحدا من الناس ، فقد رفع الله الناس بعضهم فوق بعض،قال تعالى : ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ) الأنعام 165
17. التزم في عملك بالقواعد التالية : - استرح قبل أن يدركك التعب .
- حين تعترضك مشكلة احسمها فور ظهورها .
- أضف إلى عمك ما يزيد استمتاعك به .
- تعود النظام والترتيب .
- افعل الأهم ثم المهم .
- لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد .
- لا تحمل نفسك ما لا تطيق . قال تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )
18. تحر الحكمة في إنفاقك ولا تقتر على عيالك .. قال عليه السلام : " أفضل الدنانير دينا ينفقه الرجل على عياله ، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله ، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله عز وجل " رواه مسلم وأحمد وقال تعالى : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) الإسراء 29
19. لا تستسلم لعقدة الإحساس بالذنب ، فالله تعالى غفور رحيم .. قال تعالى : ( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ) سورة طه 82 . وقال أيضا في محكم كتابه : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) الزمر 53
20. إذا أصابتك لحظات من القلق والخوف ، فلا تجزع ولا تيئس فقد تكون ابتلاء من الله تعالى ، فعليك بالصبر والاستعانة بذكر الله تعالى .. قال تعالى : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ، وأولئك هم المهتدون ) سورة البقرة 155 – 157
وقال تعالى : ( إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون ) سورة يوسف 87(/2)
عشية وضحاها
هبطت ليلة الثلاثاء (15 رجب 484 هـ) على قصر الملك الشاعر، وهو لا يزال على العهد به مذ عشرين عاماً، سابحاً في النور, رافلاً في حلل النعيم, ولا يزال أهله سادرين في أفراحهم واثقين بدهرهم, مطمئنين إلى سعدهم, ولم يخفهم ما رأوا البارحة من طلائع الفاجعة ونذرها إذ أطبقت سحبها سوداً متراكماً ترتجس بالرعد, وتنبجس بالبَرَد، وتعزف رياحها الهوج العاتيات.. لأنهم كانوا على يقين من زوالها, وكانوا يرجون من بعدها صباحاً طلقاً, ضاحك الطلعة, ساجع الطير, مزهر الروض.
كذلك عودتهم الأيام حين غمرتهم بنعمها, وأفاضت عليهم متعها، لم تمسك عنهم خيراً يطمع فيه عاشق ولا شاعر ولا ماجد شريف. وكان للملك من نفسه الكبيرة جيش إذا افتقد الجيش، وكان عظيم الثقة بها، والاعتماد بعد الله عليها، وكان فذاً قد جعلته خلائقه وما ورثه الجدود، بطلاً من الأبطال، فلم تنل من حماسته هذه الأحدث التي كرث عليه فجأة بعدما طال أنسه بالدعة، وبعدما نام عنه الدهر فطالت نومته، وأضفى عليه ثوب السعادة فامتدت سعادته.
وكان قد نزل به في يومه، ما لو نزل بملك غيره لطارت نفسه شعاعاً، فحار وسُقط في يده، فلم يعرف له مضطرباً. أو انصدع قلبه، وانخلع فؤاده، واستسلم، ولكن المعتمد بن عباد لم يكن ليذل وليجزع، بل احتمل هذه الشدائد، صابرا عليها؛ معداً العدة لدفعها.
لقد تجمعت عليه في يومه بلايا ثلاث، كانت كالحلقات في سلسلة أسره، انقلب عليه حليفه القوي أمير المؤمنين ابن تاشفين الذي أعانه على حرب الإسبان، وجاءته الأخبار عنه أنه قطع المجاز أمس بالخميس العرمرم ولم يعدّه هذه المرة للأسبان، ولم يسقه ليذودهم به عن الوطن الإسلامي، وإنما أعده لحرب ابن عباد، وساقه، عليه ليزيله به عن عرشه، ويقتلعه من كرسيه. ولقد أذكى ابن تاشفين عن حميّة جنده، بأن أراهم في هذا الزحف قربة إلى الله، وأنه في سبيله، وأنه ما أراد به إلا عز الإسلام، بحطم هذه العروش الصغيرة، وهذه الممالك المزورة:
ألقاب مملكة في غير موضعها * * * كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
فقد أطمع هذا التفرق العدو، حتى أقدم على هذه الدويلات، فذلت له وخضعت، ورضحت له بالاتاوة، وكان الأعداء هم يؤدونها عن يد وهم صاغرون وما ينبغي للمسلمين إلا دولة واحدة، عليها أمير واحد، وما جزيرة (الأندلس) إلا ولاية في دولة المسلمين..
بذلك أضرم أمير المسلمين الحماسة في صدور قواده وجدنه البربر، فأقبلوا يطوون المراحل شوقاً إلى حرب هذا الذي فرق جماعة المسلمين، وأطمع العدو فيهم، (المعتمد) الذي كان بالأمس الداني صديقهم وحليفهم، وكان وضيفهم، وكانوا يتغنون بما رأوا منه من عجيب الكرم، وما أوتيه من بارع الخلال.
ثم أن هؤلاء الأجناد الذين كان بعث بهم أمير المسلمين ليكونوا في ثغور الأندلس جنداً للمعتمد وعوناً له على عدوه وعدو الإسلام: الإسبان، واختارهم – لغرض يريده – من فرسان المرابطين، وأهل الشدة والنجدة فيهم، هؤلاء الفرسان قد تركوا بالأمس ثغورهم لما بلغهم زحف أميرهم، وأقبلوا على حرب الملك العربي النبيل يؤثرونها على مواقعة الإسبان، ومروا يطحنون في طريقهم الأرباض والقرى، يأخذونها أخذ الفجاءة، ويدعسون مآثر العمران ويحطمون الجنان. وجابوا في هذه الكرة الجائرة أودية كانت تميس بغلائل الربيع، وربا حالية بالزهر، وضياعاً عامرة ممرعة، فتركوها من ورائهم قاعاً صفصفاً، وخلّوها بلاقع، فكأنما مرت عليها ريح سموم محرقة لا تبقي ولا تذر!
وكانت ثالثة الأثافي، هذه الثورة التي قدح زنادها، ونفخ فيها دعاة الخصم المغير، ومن شرى ضمائرهم بماله، فكادت تجعل على المعتمد دارة ملكه ناراً، ولكن الله أمكنه منا فأطفأها قبل أن تضرى، وحكمه في مجرميها، فأبى له نبل محتدة، وكرم طبعه إلا العفو عنهم عفو القادر المتمكن، وحباءهم حباء الجواد المحسن!
* * * * * * * * *
لم يحفل الملك وقطان قصره هذه الرزايا، وعادوا منها بما عودتهم الأيام، من غلبة الجد وتمام السعد، وظنوها في جنب ما ألفوا من الخفض، وعرفوا من اللين، كالخال الأسود في وجه الغانية الغيداء، لا يجيء ليسوده، ولكن ليتم جمال بياضه. والخدر يعرف الصحيح قيمة صحته، وسحابة الصيف لا تغيم حتى تنقشع..
وأوى الملك إلى سريره بعدما صرم أكثر ليله، يعدّ قوته، ويقيم مسالحه، وكان يؤنسه أن يسمع في هدأة الليل إلى هذا الهتاف البعيد، وإلى صليل الأبواق، وهزيم الطبول، وهو يطرز حواشي السكون في هذا الليل الساجي، إنهم جنده الذين خاضوا معه لجج القتال المر، وشاركوه جني النصر الحلو، على أبواب قرطبة دار الصيد الأعزة من بني أمية، يوم فتحت له أبواب قرطبة، وفي (الزلاقة) يوم ساق (الأذفونش) فيالقه وجيوشه، ليمحو بزعمه الإسلام من الأندلس فمحي جيشه، ولولا المعتمد وجنده ما هزم الأذفونش، ولكان المرابطون هم أصحاب الهزيمة يوم الزلاقة..(/1)
وأغفى الملك وهو يداعب ذكر ذلك الظفر، ويطوي سمعه على ضجيج جيشه الذي يحبه ويعتز به، ويود لو أن هذا الجيش قصر عزمه وبأسه على قتال الإسبان ولم يسيء إلى البطولة بحربه الإخوة المسلمين.. ورأى الملك في منامه كأن هذا النشيد المدوي الذي نام عليه قد قوي واستفاض، حتى رجعت أصلاد إشبيلية صليله وعزيفه، وعظم أرعاد تلك الطبول حتى أوشك أن يهز سريره بين جدران قصره، وخالطه صراخ وضوضاء، ففتح عينيه وأفاق مرتجفاً، وأصاخ فسرعان ما أدر: أنه العدو قد طرق المدينة، وإنهم فرسان البربر الذين قلبوا له ظهر المجان، فتخلوا عن ظهورهم حيال الإسبان، وأقبلوا عليه إقبال الذئاب الكواسر.. أولئك هم الذين كانت تؤنسه أصواتهم، فيطوي عليها سمعه حين أغفى.
* * * * * * * * *
وتلفت حوله فلم يجد إلا حرس القصر، وما كان حرس القصر رجال حرب، ولا فرسان ضراب؛ وأحس بالخطر، ورأى أنه قد كاد يفقد كل شيء. ولكنه لم يفقد الشرف ولا الشجاعة ولا النبل:
إن يسلب القوم العدى * * * ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه * * * لم تسلم القلب الضلوع
لم أستلب شرف الطباع أيسـ * * * ـلب الشرف الرفيع
ولا يزال سيفه في يديه، فخرج به وما عليه إلا غلالة رقيقة، لم يمهلوه حتى الألبسة ويدّرع.
وأراد حرسه وأهله أن يجنبوه هذا الهلاك الأكيد، وأن يحسنوا له الموادعة حتى تنكسر حدة الهجوم، وتمكن البادرة:
قالوا الخضوع سياسة * * * فليبد منك لهم خضوع
وبرزت ليس سوى القميص * * * عن الحشا شيء دفوع
فأبت له مروءته وحميته، ونفس تعاف العار حتى كأنما هو الكفر يوم الروع، أو دونه الكفر، وأبت له ذكريات نص ومواريث الجدود...
وألذ من طعم الخضوع * * * على فمي السم النقيع
أمن الموت يفر وقد كان يتعشّقه ويطلبه ويسعى إليه، ولا يفكر إذا خرج للقائه في أهل ولا والد.
ما سرت قط إلى القتال * * * وكان من أملي الرجوع
شيم الأولى أنا منهم * * * والأصل تتبعه الفروع
ولكنه كأنه يريدها موتاً شريفاً نقياً كالفتاة المكنونة في الحجاب، لم تدنسها نظرات الإثم ولم تعلق بجمالها الريب، وكان يهوى لقائه الملحمة الحمراء.
فيلحقه فيفر منه وأرى ويتأبى عليه! أما هذا الموت الذي يقبل عليه في غرفته اللص، ويلقاه في ضيق الدهاليز لا في رحب الميدان، وفي سدفة الليل لا في سفر النهار، ويريده في غلالة الشاعر لا في درع البطل، فهو لا يطلبه ولا يحبه، بل لقد أحنقه ذلك عليه ،وملأ صدره غيظاً منه، وكرهاً له، حتى نذر لئن واجه الموت هذه الليلة ليقتلن الموت!
ولئن هو لم يقتل الموت، فلقد أحيا لمملكته الحياة، ولقد وفى نذره فرد هذه الغاشية التي اقتحمت علي حصنه، على حين غفلة من أهله.
* * * * * * * * *
وضوّأ النهار إشبيلية، وهي مقسمة الفؤاد بين فرح بالنصر، وجزع من لخطر، وكان جند الملك الأشاوس قد وقفوا للدفاع عنها، لا يفتؤون كلما سمعوا همة ريح، أو هدير نهر، أو صفير طائر، أو نبأة خفية بيم الأرض والسماء، يثبون إلى سيوفهم، يتطلعون أبداً إلى الطرق، من فرط تشوقهم للقاء هذا الخصم المغير، الذي كان بالأمس الحليف النصير... فإذا لم يروا أحداً، رجعوا إلى مسالحهم، يقظين مترقبين. وكانت الحصون حول البلد وفي أطراف المملكة، محشوداً فيها الجند من كل كمي كأن قلبه من ثباته جلمد الصفا، وكان في أكبرها وأمنعها. شبلا ذلك الأسد، وفرعا تلك الدوحة الكريمة الباسقة، الراضي بالله والمعتد بالله، ولدا المعتمد بن عباد.
وكان عصر ذلك اليوم وأهل إشبيلية لا يزالون يتغنون بأثرة الملك الفارس، وقد فترت يقظة الجند حين توالى الأمان، واطمأنوا إلى بعد العدو، فاستراحوا قليلاً بعد هذه الليلة الجاهدة؛ في تلك الساعة صرخ النذير، كما ينفخ في الصور، فتجمع العسكر المكدود على عجل، وصدمتهم فرسان البربر، من جهة البر، ومن الوادي، صدمة تحط الصخر من ذراه، ولكنهم وجدوا المعتمد أثبت من الصخر، وأيقظ من الصقر، فارتدوا بعدما فعلوا بالمدينة فعل الزلزال.
واستراحت إشبيلية أياماً، ثم جاء يوم الواقعة!؟
* * * * * * * * *
وفي يوم الأحد 20 رجب سنة 484 هـ ارتجت إشبيلية بأضخم جيش وطئ ثراها، جيش أمير المسلمين ابن تاشفين، الذي حشد له من غطارفة المرابطين كل بطل غَشَمشَم يقوده ابن أخيه، كبش القوم وفارسهم، سير بن أبي بكر، وجمع له فيه من قبائل البربر جنا مقاتلة، كأنهم من طول ما ألفوا الخيل، قد ولدوا على ظهورها، بعدة لهم ضخمة وعديد، فسدوا مطلع الشمس، وحطوا على البلد حط الجراد، وطوقوه تطويق القيد، وانضم إليهم فرسان الثغور، ثم أطبقوا على ابن عباد كالسيل الآتي الدفع.(/2)
أثار المعتمد في نفوس جنده حميتهم وكبرياءهم، وأنشدهم أبرع أناشيد البطولة، ولون لهم الموت بأجمل الألوان، وعرض عليهم تحاسين المجد وتهاويله، فتبتوا وجاؤوا من فنون القتال بأعجبها وأشرفها، وناضل الملك البطل حتى لم يبق مناضل، وضارب حتى تحطمت في يده السيوف، ودافع حتى استنفذ آخر نقطة من القوة البشرية التي أودعها الله فيه، ثم سقط مغسلا بدماء جراحه، وتحطم السد فانطلق السيل… ونفضت قصور الملك من غيدها وكنوزها، فعادت أطلالاً… وهوة الصرح الذي أقامه النبل والحزم والكرم الغر البهاليل بنو عباد.
* * * * * * * * *
إن البطل الحق لا يستهويه الظفر حتى يستخفه، ولا تعزه الهزيمة حتى تسحقه، بل يتلقاها بعزم وجلد وفؤاد ثابت، وكذلك فعل المعتمد فلم تذل نفسه، ولم يضرع، ولم يتهافت. بل تلقى قضاء الله تلقي المؤمن… وكتب إلى ولديه يستنزلهما من حصنيهما، حين قسره الغالبون فلم يجد إلا ذاك، وكتبت السيدة الكبرى أمهما، وكانا في حصنين أمنع من النجم. تهاوت الحصون وهما ثابتان… ولكن ماذا ينفع حصنان، وقد باد الملك، وماد العرش، وساد المرابطون.
فلما أطاعا ونزلا قتل الراضي على باب حصنه، واستصفى مال أخيه وترك على شر حال، ثم اقتيد المعتمد وأهله مجردين من الأموال، مقيدين بالقيود الثقال، ليلقوا ما قدر عليهم في صحراء المغرب.
* * * * * * * * *
كان إذا خرج موكب المعتد أطلت عليه كل فتاة في حمص (حمص المغرب هي إشبيلية وتدعى الجنة) تختزن صورته لتزين بها أجمل رؤاها، وأحلى أحلامها، وتطلع إليه كل شاب ينقش رسمه على شفاف قلبه ليجعله مثلاً له في المعالي، وملأ عينه منه كل أندلسي، لأنهم كانوا يحسون أنه عز لهم وفخر، وأنه حبيب إلى قلب كل أندلسي، وإن عاد مظفراً قاموا على طريقه يرشقونه بأجمل أزهار الجنة.
أما اليوم فقد خرجوا بغير ورد ولا زهر. خرجوا وما أعدوا إلا عيوناً تبكي لو استطاعت بدل الدمع دماً، وقلوباً تفديها بحبّاتها لو كانت تملك الفداء، وجرى النهر ذلك اليوم متطامناً خافت الخرير، ولا يصخب ولا يهدر، كأنه هو الآخر قد أحس بالألأم:
والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا * * * من لؤلؤ صافيات فوق أزباد
وكانوا ساكتين قد عقدت الذهلة ألسنتهم. وأمسكت الأحزان وسيوف المرابطين أفواههم، حتى الأطفال لم يكن فيهم من يصرخ أو يبكي، حتى إذا قُدمت بنات الملك الأسير يجرهم جند من البربر جرّ الشياه إلى المسلخ وقد:
حط الفناع فلم تستر مخدرة * * * ومزقت أوجه تمزيق أبراد
أوجه تزري بالأقمار، وأجسام ألطف من الياسمين الغض، وأرق من شعاع البدر على البحرية الصافية في ليلة غرام. ثم طلع الملك لا تاج على رأسه، ولا سيف في يده، ولا ولاء يخفق على هامته، ولا جند من حوله يفدونه بالأرواح، ويبذلون دونه حر الدماء؛ بل حوله جند من البربر، وفي يديه قيود ثقال، وما عليه إلا أطمار – تفجرت الأحزان مدامع، وانشقت القلوب صرخات، وتحركوا لنصرة الملك، ولكن البربر كانوا خلالهم ومن فوقهم ومن تحتهم…
حان الوداع فضجت كل صارخة * * * وصارخ من مفداة ومن فادي
ووضعوا الملك في السفينة، ومن حوله نساءه وبناته مقرونات بالحبال، مطرقات كاسرات الطرف، تلوح قطرات دموعهن في ضياء الشمس كالآلي:
حموا حريمهم حتى إذا غلبوا * * * سيقوا على نسق في حبل مقتاد
ورفع الملك رأسه ونظر إلى جنده، وانتزع من آلامه ابتسامة لاحت على شفتيه كما تلوح خيوط الشمس لحظة، خلال السحاب، في يوم غائم، وحاول أن يقول فضاع صوته في عويل الناي، وصخب البربر، وأراد أن يشير بيده التي طالما هز بها أعواد منبر، وطالما أشار بها إلى ظفر. فحركت إليه الكتائب السود، وطالما أغنى بها فقيراً، وفك أسيراً، وأجاز شاعراً، وفعل بها المكرمات؛ أراد أن يشير بها فأثقلها حديد القيود، فأحنى رأيه وأطرق و…
سارت سفائنهم والنوح يتبعها * * * وكأنها إبل يحدو بها الحادي
* * * * * * * * *(/3)
وعاد الناس إلى بيوتهم وما يصدقون أنهم فقدوا المعتمد بن عباد… أفي عشية وضحاها يطمس كتاب كله مجد وكرم، ألف في عشرين سنة؟ ألم يعد يطلع عليهم موكب الشاعر الذي يغني للحياة أجمل أغانيها، ولا الفارس الذي ينظم للبطولة أروع أناشيدها. إنهم لا يستطيعون أن يصدقوا، فهرعوا إلى تلك القصور، التي ارتضاها لسكناه المجد، واختارها الفن وأقام فيها النبل فلما بلغوا أسوارها لاحت لهم من بعيد كأنها لا تزال عامرة بالملك الهمام. فلما اقتربوا منها لم يصافح أسماعهم صوت شاعر بنشيد، ولا قائد بنداء، ولم تأخذ أبصارهم علماً يخفق، ولا راية ترفرف، ثم بدت لهم الرياض، وقد جف نبتها، وصوّح زهرها، والدور قد هدمت جدرانها وهدت أركانها. وإذا القصر الذي كان يعبق بريا القرنفل، وشذا الفل، تفوح منه روائح الموت. وإذا تلك الغرف والمقاصير التي كانت تسطع فيها الأضواء، فترقص أشعتها على العمد المزخرف، والأساطين المنقوشة؛ قد محي نقشها، وطمس زخرفها، وعشش فيها البلى… هناك علموا أنها قد وقعت الواقعة وكان ما قدر الله أن يكون:
عرينة دخلتها النائبات على * * * أساود لهم فيها وآساد
وكعبة كانت الآمال تعمرها * * * فاليوم لا عاكف فيها ولا بادي
فمن للعفاة تعمهم جداوه؟ من للجيران تحميهم بواتره وتحييهم عطاياه؟ من للفرسان الغطاريف يقودهم إلى النصر، حين يخفى على الدليل سبيل النصر؟
لقد ذهب من كان لهم… فيا من يقصد الملك الشاعر، إنه لم يبقَ هنا ملك، إنها قد خلت منه داره، وبعد مزاره:
يا ضيف، اقفز بيت المكرمات فخذ * * * في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد
ويا مؤمل واديهم ليسكنه * * * خف القطين وجف الزرع في الوادي
وأنت يا فارس الخيل التي جعلت * * * تختال في عدد منها وأعداد
ألقِ السلاح وخلّ المشرفي فقد * * * أصبحت في لهوات الضيم العادي
* * * * * * * * *
ضلت سبيل الندى يا ابن السبيل فسر * * * لغير قصد فما يهديك من هادي
كذلك ذهب الملك الشاعر البطل الذي كان في ملوكيته وفنه ونبله، تمثالاً للإنسان الذي كانت تتمنى كل حامل في الأندلس أن تلده، كل ناشئ متطلع إلى العلا أن يكونه.
الملك، الذي كان زمانه كله فجراً رخياً ناعماً، وأيامه كلها ربيعاً بهياً باسماً.
الشاعر، الذي كان شعره لحن كل قلب مدلهّ بالجمال، مفتون بالفن.
البطل، الذي بنى لقومه مفاخر في السناء ومآثر.
وكذلك ألقى الستار (بين عشية وضحاها) على ملحمة فخمة فيها أجمل مشاهد الهوى والشباب، والبطولة والظفر، والسماحة والكرم، والشعر والطرب، والغنى والترف، ورفع عن مأساة من أفجع المآسي التي (عرضت) على مسرح هذا الكون! (ولعل الله يلهم هذا القلم الضعيف حديث المأساة ليكتبه للقراء).(/4)
عصمة الأنبياء شبهات وردود
الأنبياء عليهم السلام هم أشرف الخلق وأزكاهم، وأتقاهم لله وأخشاهم، ومقامهم مقام الاصطفاء والاجتباء، وواجب الخلق نحوهم التأسي والاقتداء.
فالواجب أن يُحفظ لهم هذا المقام، وأن ينزهوا عن مد الألسن إليهم بالنقد والاتهام، غير أن نفوسا قد غلبها الفسق، مدت ألسنتها إلى الأنبياء بالعيب والتهم، فلم تدع نبيا إلا ما ندر – لم ترمه بدعوى العيب والإثم، تريد بذلك انتقاصهم، والحط من أقدارهم، بل والطعن في القرآن الكريم الذي ذكر عنهم أحوالهم، فكان الذب عن أنبياء الله عز وجل متعينا، صونا لدين الله، وحفظا لحق أنبيائه عليهم السلام.
لكن قبل الخوض في تفاصيل رد ما رمي به الأنبياء عليهم السلام، نحب أن نبين أن المقرر عند السلف أن الأنبياء عليهم السلام لا يتصور في حقهم الخطأ في مقام الوحي والتبليغ، أما في غير ذلك من صغائر الذنوب مما ليس في فعله خسة ولا دناءة، فإنه إن صدر من أحدهم شيء فإنه لا يقر عليه، بل يتبعه بالتوبة والإنابة.وبهذا يبطل ما تعلل به الطاعنون من قولهم: كيف يجوز على الأنبياء الخطأ وهم في مقام الأسوة والقدوة؟ ونجيب على ذلك بالقول: إن الخوف من أن يحصل اللبس في مقام التأسي بالأنبياء إنما يتصور فيما لو أخطؤوا، واستمروا على الخطأ، ثم لم ينبهوا عليه، فيشتبه حينئذ على المقتدي الحال التي يجب فيها متابعة النبي من الحال الأخرى، أما إن نبهوا على التقصير فلن يحصل اشتباه، بل سيتحول المجال إلى مجال متابعة من وجه آخر، وهو المتابعة في حسن الرجوع إلى الله سبحانه بالتوبة، وبهذا يسلم للأنبياء مقام القدوة والأسوة، ويحصل لهم شرف التعبد لله عز وجل بالتوبة إليه سبحانه.
وقد تبين لنا من خلال بحثنا أن ما أورده الطاعنون في حق الأنبياء – بعد استبعاد المكذوب عليهم لا يخرج عن أن يكون سوء فهم للنص، أو أن يكون شيئا وقع منهم قبل نبوتهم، أو أمرا فعلوه وكان على خلاف الأولى، أو خطأً تابوا منه فتاب الله عليهم، فلا يحق لأي كان أن يتخذ ذلك ذريعة لانتقاصهم وثلمهم.
وقد فصلنا فيما يلي هذه الوجوه، وقررنّاها بأمثلتها حتى يتضح للقارئ الكريم أن نتاج الدراسة الجادة لشبهات الطاعنين في الإسلام لن تكون إلا في صالح الإسلام، وأن الحق لا يزيده طعن الطاعنين إلا ثباتا وظهوراً:
الوجه الأول: ما نسب إلى الأنبياء من مطاعن مبناها على سوء الفهم
من ذلك ما ادعوه في حق إبراهيم عليه السلام من أنه قد وقع في الشرك بادعائه ربوبية الكواكب، مستشهدين على ذلك بقوله تعالى: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جنَّ عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين}(الأنعام: 7677)، والجواب على ذلك أن إبراهيم عليه السلام إنما قال ما قال في مقام المناظرة والمخاصمة لقومه، إذ استعرض لهم الكواكب شمسا وقمرا ونجما، وبين لهم بالدليل العقلي انتفاء الربوبية عنها، ثم توجه إليهم مخاطبا إياهم بالنتيجة المنطقية لبطلان معبوداتهم فقال: {يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين}.
فإن قيل: كيف يتأتى لإبراهيم عليه السلام مناظرة قومه في نفي ربوبية الكواكب وهم إنما يعبدون أصناماً من الحجارة؟ قلنا إن إبراهيم عليه السلام ناظرهم في نفي ربوبية الكواكب حتى يتبين لهم انتفاء الربوبية عن آلهتهم التي يعبدونها بطريق الأولى، وذلك أنه إذا تبين انتفاء ربوبية الكواكب وهي الأكبر والأنفع للخلق، كان ذلك دليلا على انتفاء ربوبية ما دونها من أصنامهم التي يعبدونها، لعظم الفارق بين الكواكب وبين أصنامهم التي يجهدون في خدمتها دون أدنى نفع منها تجاههم.
ومن ذلك ما ادعوه في حق إبراهيم عليه السلام أيضاً من أنه شك في قدرة الله سبحانه، حين سأله عن كيفية إحيائه الموتى، قالوا: والشك في قدرة الله كفر، واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم} (البقرة: 260)، وأوردوا أيضا ما رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحي الموتى، قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي).(/1)
والجواب على ما أوردوه ببيان أن ما صدر عن إبراهيم عليه السلام لم يكن شكا في قدرة الباري سبحانه، فهو لم يسأل قائلا: هل تستطيع يا رب أن تحيى الموتى؟ فيكون سؤاله سؤال شك، وإنما سأل الله عز وجل عن كيفية إحيائه الموتى، والاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء متقرر الوجود عند السائل والمسؤول، لا عن شيء مشكوك في وجوده أصلا، ولو كان السؤال سؤال شك في القدرة لكانت صيغته: " هل تستطيع يا رب أن تحيى الموتى؟ " وكيف يشك إبراهيم في قدرة الباري سبحانه وهو الذي حاج النمرود بها، فقال: ربي الذي يحيى ويميت، وهو الذي يأتي بالشمس من المشرق، فاستدل بعموم قدرة الباري على ربوبيته.
والسبب المحرّك لإبراهيم على طلب رؤية كيفية إحياء الموتى هو أنه عليه السلام عندما حاجَّ النمرود قائلا: إن الله يحيى ويميت، ادعى النمرود هذا الأمر لنفسه وأرى إبراهيم كيف يحيى ويميت، فأحب عليه السلام أن يرى ذلك من ربه ليزداد يقينا، وليترقى في إيمانه من درجة يقين الخبر "علم اليقين" إلى درجة يقين المشاهدة "عين اليقين"، وكما جاء في الحديث (ليس الخبر كالمعاينة) رواه أحمد.
قال الإمام القرطبي: "لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكاً في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به "، وقال الإمام الطبري: ".. مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، كانت ليرى عياناً ما كان عنده من علم ذلك خبراً ".
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) فمعناه أنه لو كان إبراهيم شاكاً لكنا نحن أحق بالشك منه، ونحن لا نشك فإبراهيم عليه السلام أيضا لا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام.
ومن أمثلة سوء فهم النص وتحميله ما لا يحتمل بغية الطعن في الأنبياء ما قاله قوم من أن لوطا عليه السلام كان قليل التوكل على الله عز وجل معتمدا على الأسباب اعتمادا كليا، واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى: {قال لو أني لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد}(هود: 80)، قالوا: والذي يدل على صحة فهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عاتبه على قوله ذاك، بقوله: (ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد) متفق عليه.
وجواباً على ذلك نقول لهم: إن هذا سوء فهم منكم للحال التي قال فيها لوط عليه السلام ما قال، والسبب الذي حمله على ذلك القول؟ فالأنبياء عليهم السلام كانوا يُبعثون في منعة من أقوامهم، فيُبعث النبي من أشرف قبائل قومه وأمنعهم، فتكون قبيلته وإن لم تؤمن به سندا له تحميه من كيد أعدائه ومكرهم، كما قال تعالى عن شعيب {ولولا رهطك لرجمناك}(هود: 91)، وكما كان بنو هاشم للنبي صلى الله عليه وسلم حماة وسندا.
وأما لوط عليه السلام فلم يبعث في قومه، وإنما بعث في مكان هجرته من أرض الشام، فكان غريبا في القوم الذين بعث فيهم، إذ لم يكن له فيهم عشيرة، لذلك عندما خاف عليه السلام أن يوقع قومه الفضيحة بأضيافه تمنى أن لو كان بين عشيرته ليمنعوه، وهذا من باب طلب الأسباب، وهو طلب مشروع كما لا يخفى، لكن لما كانت هذه الأسباب غير متوفرة، كان الأولى أن يتوجه العبد بطلب العون من الله سبحانه، فهو المعين والناصر، ومن هنا جاء عتاب النبي صلى الله عليه وسلم داعيا له بالمغفرة والرحمة، فقال عليه الصلاة والسلام: (يغفر الله للوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد) رواه البخاري، وقال: (ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد) رواه البخاري.
الوجه الثاني: ما نسب إلى الأنبياء من مطاعن وقعت منهم قبل النبوة
من ذلك ما ادعوه في حق آدم عليه السلام من أنه عصى وأزله الشيطان، قالوا والذي يدل على قولنا، قوله تعالى: {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (طه: 121) وقوله في الآية الأخرى: {فأزلهما الشيطان عنها}(البقرة: 36) والجواب على ما أورده هؤلاء أن ما وقع من آدم عليه السلام كان قبل نبوته، فلا يصح أن يتخذ ذريعة للطعن فيه عليه السلام، قال الإمام أبو بكر بن فورك: " كان هذا من آدم قبل النبوة، ودليل ذلك قوله تعالى: {ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان، وإذا كان هذا قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب وجهاً واحداً، لأن قبل النبوة لا شرع علينا في تصديقهم، فإذا بعثهم الله تعالى إلى خلقه وكانوا مأمونين في الأداء معصومين لم يضر ما قد سلف منهم من الذنوب".(/2)
فإن قيل كيف يقال: إن ما وقع من آدم عليه السلام كان قبل نبوته، أوَ ليست النبوة هي الوحي من الله؟ والله كان يكلم آدم قبل أن يخرجه من الجنة كما تدل على ذلك الآيات والأحاديث، قلنا: النبوة المنفية هنا ليست هي مجرد الوحي، وإنما هي الوحي إلى شخص النبي بشرع جديد أو بتجديد شرع سبقه، وهذا ما لم تدل الأدلة على أن آدم أعطيه عندما كان في الجنة مع زوجته، فصح بذلك القول بأن ما وقع منه عليه السلام كان قبل نبوته بالمعنى الخاص.
ومع أن ما وقع من آدم عليه السلام كان قبل نبوته إلا أنه أتبعه بالتوبة والإنابة إليه سبحانه، وذلك لصفاء نفسه ومعرفته بمقام ربه، قال تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم}(البقرة: 37).
ومن أمثلة ما أورده الطاعنون في حق الأنبياء عليهم السلام، وشنعوا به على القرآن، وكان قبل النبوة ما أوردوه في حق موسى عليه السلام من أنه ارتكب جريمة القتل، مستشهدين على ذلك بقوله تعالى: {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين}(القصص: 15) قالوا: وقد ندم موسى عليه السلام على هذه الجريمة، ومنعه ندمه أن يتقدم بالشفاعة إلى رب العالمين، كما في حديث الشفاعة الطويل: (فيأتون موسى، فيقولون: يا موسى أنت رسول الله، فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها، نفسي، نفسي، نفسي).
والجواب على ما أورده هؤلاء الطاعنون في حق نبي الله موسى عليه السلام أن ما وقع منه عليه السلام كان قبل نبوته، بدليل قوله تعالى: {قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين * قال فعلتها إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي رب حكما وجعلني من المرسلين} (الشعراء: 1821) ثم لم يكن قصد موسى عليه السلام قتله، وإنما قصد دفعه عن أخيه، فقتله خطأ، وقد استغفر موسى ربه من هذه الفعلة، فغفر له سبحانه، قال تعالى: {قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم} (القصص: 16).
الوجه الثالث: ما نسب إلى الأنبياء من مطاعن وكانت في حقيقتها أمورا على خلاف الأولى
من ذلك ما ادعوه في حق نبي الله سليمان عليه السلام من أنه قعد يتفرج ويتمتع بالنظر لخيوله حتى خرج وقت الصلاة، ثم عندما علم بتضييع وقت الصلاة بسبب تلك الخيول قام بذبحها فكان في ذلك إهداراً للمال، وإزهاقاً لأرواح الخيل في غير وجه حق، وزيادة تأخير للصلاة، قالوا والذي يدل على ما قلنا قوله تعالى: {ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب * إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد * فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب * ردوها علي فطفق مسحاً بالسوق والأعناق} (ص: 3033).
وجواباً على ذلك نقول: إنه ليس في الآيات محل البحث تصريح بأن سليمان عليه السلام قد ضيع الصلاة الواجبة، والتصريح الذي في الآيات هو أن الخيل قد شغلته عن ذكر الله، وهنا يحتمل أن يكون المراد بذكر الله الصلاة المفروضة، ويحتمل أن يكون المراد بها صلاة النافلة، أو الذكر، وعلى أي احتمال فليس في الآية أنه عليه السلام ترك الذكر متعمدا، بل ظاهرها أنه نسي ذكر ربه باشتغاله بأمر الخيل.
وكذلك ليس في الآية تصريح بأن سليمان ذبح الخيل وأزهق أرواحها ورماها عبثا، وإنما في الآية التصريح بأنه مسح سوقها وأعناقها، وقد قال بعض المفسرين أنه مسح الغبار عنها حبا فيها، ومن قال: "ذبحها" لم يقل رمى لحمها، والظن به عليه السلام إذا ذبحها أن يتصدق بلحمها، إذ في ذبحها والتصدق بلحمها ما يكون أرضى للرب سبحانه، فكأنه عليه السلام يقول لربه سبحانه: هذه التي شغلتني عن ذكرك ذبحتها لك، وتصدقت بها على عبادك.
وبهذا يتبين أن ما وقع من سليمان عليه السلام من اشتغاله بالخيل عن ذكر الله إنما هو خلاف الأولى، وليس من باب المعاصي والآثام، بل هو من ربما كان من باب النسيان الذي لا يؤاخذ عليه الإنسان.
هذا بعض ما أورده الطاعنون في حق الأنبياء عليهم السلام، وقد أجبنا عنه بما لا نزعم أنه لا مزيد عليه، ولكننا نحسب أننا فتحنا أبوابا للحق، تضيء بنورها ظلمات الباطل فتزيلها، وينبغي للمسلم إذا عرضت له شبهة من الشبهات تجاه أنبياء الله ودينه أن يواجهها بالحجة والبرهان فيبحث في مظان كتب أهل العلم، ويسأل المختصين، عملا بقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}(النحل: 43).
13/06/2005
http://www.islamweb.net المصدر:(/3)
عضو لا يعرف الإجازة!
التاريخ : 14/06/2006
الكاتب : يسري صابر فنجر ... الزوار : 1489
< tr>
جاءت الإجازة بما فيها من فراغ مغبون فيه كثير من الناس فيبحث كل إنسان عما يجعل من إجازته راحة لبدنه وقلبه وعقله من جو جميل مريح ويصرف العقل عن الشواغل ويتعدد تعلق القلب فمنا من تعلق قلبه بمعصية الله ـ عز وجل ـ فيقضي إجازته فيها ـ نسأل الله الهداية والعافيةـ ومنا من تعلق قلبه بالمباح كالسفر والقصور والمرأة والأولاد والسيارة ......الخ ومنا من تعلق قلبه بطاعة الله ـ عز وجل ـ من أداء الفروض والنوافل وحفظ القرآن والأذكار الشرعية وتعلم العلم ..........الخ أسأل الله ـ سبحانه وتعالىـ أن يكثر سوادهم ولكني أذكر بظلٍ ظليل ذلك هو ظل عرش الرحمن ـ جل وعلا ـ الوارد في الحديث الذي رواه البخاري (660) ومسلم ( 1031) من حديث أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل،وشاب نشأ في عبادة ربه،ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه،ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله،ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه"
وقال النبي المصطفى إن سبعة يظلهم الله الكريم بظله
محبٌ عفيفٌ ناشئٌ متصدقٌ وباك مصل والإمام بعدله
والسؤال الذي يطرح نفسه أين أنا من هؤلاء السبعة حتى أنعم بظل الرحمن
وأسارع في الخيرات حتى أثقل ميزاني يوم القيامة وأخاف من الندم والحسرة "وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً"[الفرقان:27]
"أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ" [الزمر:56]
روى مسلم (1028) من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : "من أصبح منكم اليوم صائما قال أبو بكر أنا قال فمن تبع منكم اليوم جنازة قال أبو بكر أنا قال فمن اطعم منكم اليوم مسكينا قال أبو بكر انا قال فمن عاد منكم اليوم مريضا قال أبو بكر أنا فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة "
هل تعلم أن لديك عضو في جسدك لا يأخذ إجازة ؟!!!
نعم لا يأخذ إجازة ولو أخذ إجازة لأقل من ثانية قد تموت كل أعضاء الجسد لأن به حياة الجسم كله فهو عضو نابض تحيا بنبضه كل الأعضاء....
ومن أئمتنا من لا يعرف الإجازة وليست واردة في مفكرتهم ولا قاموسهم ولا دواوينهم حتى قال الإمام أحمد رحمه الله مع المحبرة حتى المقبرة فالمحبرة لا تنفك عنه لا صيفا ولا شتاءً ولا غيره .
وذكر عند الإمام الطبري رحمه الله وهو يحتضر حديثاً لا يعرفه فقام وكتبه حتى في مثل هذا الوقت...!!!
وختاماً. أين أنت من الجنائز؟
أين أنت من عيادة المريض ؟
أين أنت من طاعة خالقك؟
أين أنت من جنة مولاك؟
أين أنت من ......؟
ربنا بارك لنا في أعمارنا وارزقنا طاعتك وتقواك.(/1)
عظمة السياسة النبوية د. محمد عمر دولة*
الحمد لله ربِّ العالَمِين، والصلاة والسلام على رسولِ الله الأمين، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين. وبعد، ففي هذا الزمانِ الذي انحطَّتْ فيه السياسةُ في العالَم الإسلامي وبعُدَت عن الأصُولِ الإسلامية والأخلاقِ النبوية ـ إلا مَن رَحِمَ الله ـ تشرَئبُّ الأعناقُ وتتطلعُ الأشواقُ إلى السياسة النبوية الرشيدة؛ فقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قائداً مُوفَّقاًً حكيماً، وزعيماً سياسياًّ عظيماً، وقد شهدَ بذلك الغربيون بمثلِ شهادتِهم بعظمةِ القيادةِ النبوية.
فقد قال كولد تسيهر في كتابه (العقيدة والشريعة في الإسلام): "في هذا العصرِ نرى النبيَّ يستخدمُ حِنْكتَه المفكِّرة ورَوِيَّتَه الدقيقة وتبصُّرَه العالَمي في مُقاومةِ خُصُومِه الذين شَرعُوا في مُعارَضةِ مَقاصِدِه وغاياتِه في داخلِ مَوطنِه وخارجِه".
وقد اختارَ بعضُ الْمُنصِفِين من عُلماءِ الغربِ نبيَّنا محمَّداً صلى الله عليه وسلم ليكونَ أعظمَ السياسيِّين الذين عرفَهم التاريخُ الإنساني: من حيث تربيةُ الآخرين على مكارمِ الأخلاق، وحسنُ التعاملِ معهم، وقوةُ التأثيرِ فيهم، والقدرةُ على إقناعِهم، وزرعُ محبتِه في قلوبهم، ومشاركتُه لهم في أفراحِهم وأتراحِهم، وحسنُ إدارتِه لِدينِهم ودُنياهم، كما قال مايكل هارث في كتابه (الخالدون مائة): "إنَّ اختياري لمحمد ليكون رأس القائمة التي تضمُّ الأشخاصَ الذين كان لهم أعظمُ تأثيرٍ عالَمِيٍّ في مختلَفِ المجالات، ربما أدهش كثيرًا من القراء، ولكنْ في اعتقادي أنَّ محمدًا كان الرجلَ الوحيدَ في التاريخ الذي نجح بشكلٍ أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي".
وقال كذلك: "لقد أسَّسَ محمد ونشرَ أحدَ أعظمِ الأديانِ في العالم، وأصبحَ أحدَ الزعماءِ العالَمِيين السياسيِّين العظام. ففي هذه الأيام وبعد مرورِ ثلاثة عشر قرنًا تقريبًا على وفاته، فإنَّ تأثيرَه لا يزال قويًا وعارمًا". وقال: "مِن وِجْهةِ النظرِ الدينِية الصِّرفة يبدو أنَّ محمدًا كان له تأثيرٌ على البشريةِ عبرَ التاريخِ كما كان للمسيح". وقال أيضا: "إنَّ محمدًا يختلف عن المسيحِ بأنه كان زعيمًا دُنيويًا فضلاً عن أنه زعيمٌ دينِيٌّ، وفي الحقيقة إذا أخَذْنا بعينِ الاعتبارِ القوى الدافعة وراء الفتوحات الإسلامية؛ فإنَّ محمدًا يُصبِحُ أعظمَ قائدٍ سياسيٍّ على مدى الأجيال"!
وقد فصَّلَ بعضُهم عظمةَ السياسةِ النبوية وعزاها إلى التوفيقِ في رؤيةِ المستقبلِ والحكمةِ السياسية والبراعةِ الإدارية، كما قال (مونتغمري وات) في كتابه (محمد في مكة): "لولا هذا المزيجُ الرائعُ من الصِّفات المختلِفة الذي نَجِدُه عند محمدٍ لكان من غير الممكنِ أن يتمَّ هذا التوسُّع... ونستطيعُ أنْ نُميِّزَ ثلاثَ هِباتٍ مُهِمة أُوتِيَها محمد. وكانت كلُّ واحدةٍ منها ضَرُوريةً لإتمامِ عَملِ محمدٍ بأكملِه؛ لقد أوتِيَ أولاً: مَوهِبةً خاصةً على رؤيةِ المستقبل، فكان للعالَمِ العربي بِفَضلِه أو بِفَضلِ الوحيِ الذي ينزل عليه حسبَ رأيِ المسلمين أساسٌ فكريٌّ إيديولوجي حُلَّت به الصعوباتُ الاجتماعية، وكان تكوينُ هذا الأساسِ الفِكري يتطلبُ في نفسِ الوقتِ حَدَسًا ينظرُ في الأسبابِ الأساسية للاضطِرابِ الاجتماعي في ذلك العصر، والعبقرية الضرورية للتعبيرِ عن هذا الحدَسِ في صورةٍ تستطيعُ إثارةَ العربِ حتى أعمق كيانِها. وكان محمد ثانيًا رجلَ دولةٍ حكيمًا، ولم يكن هَدفُ البناء الأساسي الذي نجدُه في القرآن سوى دعمِ التدابيرِ السياسية الملموسة والمؤسسات الواقعية. ولقد ألْحَحْنا خلالَ هذا الكتابِ غالبًا على استراتيجيةِ محمد السياسية البعيدة النظرِ على إصلاحاته الاجتماعية. ولقد دلَّ على بُعدِ نَظرِه في هذه المسائلِ الانتشارُ السريعُ الذي جعلَ مِن دولتِه الصغيرة إمبراطورية، وتطبيق المؤسسات الاجتماعية على الظروف المجاورة واستمرارها خلال أكثر من ثلاثة عشر قرنًا. وكان محمد ثالثًا: رجل إدارة بارعًا، فكان ذا بصيرة رائعة في اختيارِ الرجالِ الذين يندبُهم للمسائلِ الإدارية؛ إذْ لن يكونَ للمؤسسات المتينة والسياسةِ الحكيمة أثرٌ إذا كان التطبيقُ خاطئًا متردِّدًا. وكانت الدولة التي أسَّسها محمد عند وفاته مؤسَّسةً مُزدهِرةً تستطيعُ الصُّمودَ في وجهِ الصدمة التي أحدثَها غيابُ مؤسِّسها، ثم إذا بها بعد فترةٍ تتلاءمُ مع الوَضعِ الجديدِ وتتسعُ بسُرعةٍ خارقةٍ اتساعًا رائعًا".(/1)
وذكر بعضُ المفكِّرين بعضَ صفاتِ النجاح الذي حظيت به السياسة النبوية، مثل: قوة التنظيم وشدة الحيوية والورع والقتالية والعفو عند المقدرة، والتوفيق في إدراك مصلحة الدولة المسلمة بين القوة العسكرية والمعاهدات السياسية، كما عبَّر عن ذلك مارسيل بوازار في كتابه (إنسانية الإسلام) بقولِه: "لم يكنْ محمد على الصعيدِ التاريخي مُبشِّرًا بدينٍ وحسبُ، بل كان كذلك مؤسِّسَ سياسةٍ غيَّرَت مجرى التاريخ، وأثَّرَت في تطوُّرِ انتشارِ الإسلامِ فيما بعدُ على أوسَعِ نطاق". وقال كذلك: "منذ استقرَّ النبيُّ محمد في المدينة، غدت حياتُه جزءًا لا ينفصلُ من التاريخ الإسلامي. فقد نقلت إلينا أفعالَه وتصرُّفاته في أدقِّ تفاصيلها. ولما كان مُنظَّمًا شديدَ الحيوية، فقد أثبتَ نِضاليةً في الدفاعِ عن المجتمعِ الإسلامي الجنيني، وفي بثِّ الدعوة. وبالرغم من قِتاليتِه ومُنافحتِه، فقد كان يعفو عند المقدِرة، لكنه لم يكنْ يَلِينُ أو يتسامحُ مع أعداءِ الدين. ويبدو أنَّ مزايا النبيِّ الثلاث: الورع والقتالية والعفو عند المقدرة قد طبعت المجتمعَ الإسلامي في إبان قيامه وجسَّدت المناخ الروحي للإسلام. وكما يظهر التاريخ الرسولَ قائدًا عظيماً ملء قلبه الرأفة، يُصوِّره كذلك رجلَ دولةٍ صريحًا قويَّ الشكيمة له سِياستُه الحكيمة التي تتعاملُ مع الجميع على قدمِ المساواة وتُعطي كلَّ صاحبِ حقٍّ حقَّه. ولقد استطاع بدبلوماسِيته ونزاهتِه أن ينتزعَ الاعترافَ بالجماعة الإسلامية عن طريقِ المعاهداتِ في الوقتِ الذي كان النصرُ العسكريُّ قد بدأ يُحالِفُه. وإذا تذكَّرْنا أخيرًا على الصعيدِ النفساني هشاشةَ السُّلطان الذي كان يتمتع به زعيمٌ من زعماءِ العرب، والفضائل التي كان أفراد المجتمع يطالبونه بالتحلِّي بها، استطعْنا أنْ نستخلِصَ أنه لابدَّ أن يكون محمد الذي عرفَ كيف ينتزعُ رضا أوسعِ الجماهيرِ به إنسانًا فوق مُستوى البشرِ حقًا، وأنه لابدَّ أن يكونَ نبِيًا حقيقيًا مِن أنبياءِ الله".
وسيأتي بإذنِ الله في ذِكْرِ خواطِرِ السِّيرةِ النبوية من (شم الطيب من شمائل الحبيب) الإشارةُ إلى الجوانبِ العظمة القيادية والسياسية للنبي صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسولِ الله، وعلى آلِه وصحبِه ومن والاه.(/2)
عظمة القيادة النبوية د. محمد عمر دولة*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فإنها والله أمانةٌ عظيمةٌ أن يتصدى العاجِزون القاصِرون لبيانِ عظمةِ أشرفِ المرسَلين وإمام المتقين وسيدِ الأولين والآخِرين! فهذه مُهِمةٌ لا يُعِينُ على تيسيرِها إلا ربُّ العالَمِين.
ولكنَّها خواطرُ من هَدْيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وسُنَّتِه نؤدِّبُ بها أنفُسَنا، ودُروسٌ من سِيرَتِه وشَمائلِه نُعَطِّر بها أنفاسَنا، ونزدادُ بها صلاةً على رسولِنا العظيم وحُبًّا له وتوقيراً لِمَقامِه الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.
وليست الشمائلُ المحمدية والسيرةُ النبوية تأريخاً للسنوات وعداًّ للغزوات ومجرَّدَ قِصَصٍ وروايات. بل هي روائعُ من المكارِمِ الأخلاقية والكمالات النفسية والصِّلات الاجتماعية والسياسة الشرعية والإدارية والعسكرية.
وصدقَ (مونتغمري وات) حين قال في كتابه (محمد في مكة): "لا يكفي في ذِكرِ فضائلِ محمد أنْ نكتفِيَ بأمانتِه وعزيمتِه إذا أرَدْنا أن نفهَمَ كلَّ شيءٍ عنه"![1] وقال مايكل هارث في كتابه (الخالدون مائة) مُتحدِّثاً عن شخصيةِ النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ هذا الاتحادَ الفريدَ لا نظيرَ له للتأثيرِ الديني والدنيوي معًا يُخَوِّلُ محمدًا أن يُعتبَرَ أعظمَ شَخصية مفرَدة ذات تأثير في تاريخ البشرية".
فمِن جوانبِ العظمةِ النبوية ما جَمعَه الله عزَّ وجلَّ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم من مراتبِ الكمالِ النظرية والعملية.. الفِكرية والقِيادية. وهذه حقيقةٌ يعرفها حُذَّاقُ الإدارةِ وعظماءُ القادة الذين يُدرِكُون قيمةَ تكامل الأفكارِ وإيمان القيادة بها في صناعةِ النجاح، كما عبَّرَ عن ذلك (هتلر) في كتابه (كفاحي) فقد قرَّرَ ذلك بقوله: "من النادرِ أن يكونَ واضِعُ النظرياتِ قائدًا عظيمًا، أما الْمُحرِّك الاجتماعي أو السياسي فامتلاكُه لتلك الصفاتِ التي ترشِّحُه للقيادة أرجح إلى حدٍّ بعيدٍ، فهو دائمًا قائدٌ أفضل؛ فالقيادةُ تعني القدرةَ على تحريكِ جُموعِ البشر. والقدرةُ على تقديمِ الأفكارِ لا علاقةَ لها بالقدرةِ على القِيادة. إنَّ اتحادَ صفاتِ وَضْعِ النظرياتِ والتنظيمِ والقيادةِ في شخصٍ واحدٍ هي ظاهرةٌ من النادرِ جِدًا حُدُوثُها في هذا العالَم. وهنالك تكمنُ العَظمة"!
فقد قال مايكل هارت في كتابه (الخالدون مائة): "إنَّ اختياري لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ليأتي في المرتبة الأولى من قائمة أكثرِ أشخاصِ العالَم تأثيرًا في البشرية قد يُدهِشُ بعضَ القراء! وقد يعترِضُ عليه البعض، ولكنه كان الرجلَ الوحِيدَ في التاريخ الذي حقَّّقَ نجاحًا بارزًا على كلٍّ مِن المستوى الدينِي والدنيوي".[2]
فالدعوة إلى الأفكار السامية منزلة ساميةٌ وتحقيق ذلك في واقع الناس منزلة أسمى وأرقى، كما عَبَّرَ عن ذلك اينين دينيه في كتابه (محمد رسول الله) تعبيراً حسناً، فقال: "لقد دعا عيسى إلى المساواة والأخوة، أما محمد فوُفِّقَ إلى تحقيقِ المساواة والأخوَّة بين المؤمِنين أثناء حياته".[3]
وقد شهدَ بذلك المؤرخ البريطاني (توينبي) في كتابه (مختصر دراسة التاريخ) حين قال: "لقد كرَّسَ محمد حياته لتحقيقِ رسالتِه في كفالةِ هذين المظهَرَين في البيئة الاجتماعية العربية: وهما الوِحدانية في الفِكرة الدينية، والقانون والنظام في الحكم، وتم ذلك فعلاً بفِضلِ نظامِ الإسلامِ الشاملِ الذي ضَمَّ بين ظهرانَيه الوحدانية والسلطة التنفيذية معًا".[4]
وقال الفيلسوف الفرنسي (كارديفو): "إن محمداً كان هو النبيَّ الملهَم والمؤمن، ولم يستطعْ أحدٌ أن يُنازِعَه المكانة العالية التي كان عليها! إنَّ شعورَ المساواةِ والإخاءِ الذي أسَّسَه محمدٌ بين أعضاءِ الكُتلة الإسلامية كان يُطبَّقُ عَملِياًّ حتى على النبيِّ نفسِه".[5]
وشتانَ بين فِكرةٍ صغيرةٍ سرعان ما تضمَحلُّ وبين فِكرةٍ حَيةٍ باقيةٍ لا تزدادُ مع الأيام إلا نورا وضياءً. (وأما الزبدُ فيذهب جُفاءً وأما ما ينفعُ الناسَ فيمكثُ في الأرض). وقال الكاتب البريطاني ولز في كتابه (موجز تاريخ العالم): "لقد منحَ العربُ العالَمَ ثقافةً جديدةً، وأقاموا عقيدةً لا تزالُ إلى اليومِ مِن أعظمِ القوى الحيوية في العالَم، أما الرجلُ الذي أشعلَ ذلك القبسَ العربِي فهو محمد".[6] وقال الكاتب النصراني اللبناني نصري سلهب: "هنا عظمة محمد؛ لقد استطاع خلال تلك الحقبة القصيرة من الزمن أنْ يُحدِثَ ثورةً خُلُقية ورُوحِيةً واجتِماعِيةً، لم يَستَطِعْها أحدٌ في التاريخ بِمِثلِ تلك السُّرعة المذهِلة".[7](/1)
وقال ديورانت في كتابه (قصة الحضارة): "إذا ما حَكَمْنا على العَظمة بما كان للعظيمِ مِن أثرٍ في الناسِ قُلنا: إنَّ محمدًا كان من أعظمِ عُظماءِ التاريخ، فلقد أخذَ على نفسِه أن يرفعَ المستوى الرُّوحِي والأخلاقي لِشَعبٍ ألقَتْ به في دياجيرِ الهمَجية حرارةُ الجو وجَدبُ الصحراء، وقد نجحَ في تحقيقِ هذا الغرضِ نجاحًا لم يُدانِهِ فيه أيُّ مُصلحٍ آخرَ في التاريخِ كلِّه. وقلَّ أنْ نجدَ إنسانًا غيرَه حقَّقَ ما كان يحلمُ به؛ ولم يكنْ ذلك لأنه هو نفسُه كان شديدَ التمسك بالدِّين وكفى، بل لأنه لم يكنْ ثمة قوةٌ غيرُ قوةِ الدِّين تدفعُ العربَ في أيامِه إلى سُلوكِ ذلك الطريقِ الذي سلَكُوه، وكانت بلادُ العرب لما بدأ الدعوةَ صحراءً جدباء، تسكنها قبائلُ من عبَدَةِ الأوثان قليلٌ عَدَدُها، متفرقةٌ كلمتُها، وكانت عند وفاتِهِِ أُمةً مُوحَّدةً مُتماسِكة. وقد كبحَ جِماحَ التعصُّبِ والخرافات، وأقام فوق اليهودية والمسيحيةِ ودينِ بلادِه القديمِ دِينًا سَهْلاً واضِحًا قويًا، وصَرْحًا خُلقيًا قِوامُه البَسالة والعِزةُ القومية. واستطاع في جيلٍ واحدٍ أن ينتصرَ في مائة معركة، وفي قرنٍ واحد أن يُنشِىءَ دولةً عظيمة، وأن يبقى إلى يومِنا هذا قوةً ذاتَ خطرٍ عظيمٍ في نصف العالم".[8]
وإذا كان بعضُ المسلِمين اليومَ لا يدرُون مِن جوانبِ عظمةِ النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلا أنه صادقٌ أمينٌ؛ فقد أنطقَ الله عزَّ وجلَّ رِجالاً لا يَدِينُون بالإسلامِ بالشهادةِ لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم بأنه كان مُربِّياً صالِحاً ومُعلِّماً ناصِحاً ومُصلِحاً اجتماعياًّ ناجِحاً وقائداً حكيماً مُوَفَّقاً! وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43) (الرعد 43)0 فقد قال مونتغمري وات في كتابه (محمد في مكة): "كلما فكَّرْنا في تاريخِ محمد وتاريخِ أوائل الإسلام تَملَّكَنا الذهولُ أمامَ عظمةِ مثلِ هذا العمل. ولا شك أنَّ الظروفَ كانت مُواتِيةً لمحمد؛ فأتاحت له فُرصًا للنجاح لم تُتِحْها لسوى القليلِ من الرجال غير أنَّ الرجلَ كان على مستوى الظروفِ تمامًا. فلو لم يكنْ نبيًًّا ورجلَ دولةٍ وإدارة، ولو لم يضَعْ ثِقَتَه بالله ويقتنِعْ بشكلٍ ثابتٍ أنَّ الله أرسلَه؛ لَما كتبَ فَصلاً مُهِمًًّا في تاريخِ الإنسانية. ولي أملٌ أنَّ هذه الدراسةَ عن حياةِ محمدٍ يُمْكِنُها أنْ تُساعِدَ على إثارةِ الاهتمامِ من جديدٍ برجلٍ هو أعظمُ رِجالِ أبناءِ آدم".[9]
ورَحِم الله أبا العتاهية حيث قال:
وَالناسُ يَبتَدِعونَ في أَهوائِهِم ** بِدَعاً فَقَد قَعَدوا بِهِنَّ وَقاموا
وَمُحَمَّدٌ لَكَ إِن سَلَكتَ سَبيلَهُ ** في كُلِّ خَيرٍ قائِدٌ وَإِمامُ!
- - - -
[1] محمد في مكة لمونتغمري وات ص94.
[2] الخالدون مائة، مايكل هارت، ص33. تصنيف لأكثر الأشخاص تأثيراً في التاريخ. نيويورك شركة هارت للنشر سنة 1978.
[3] محمد رسول الله لاينين دينيه ص 323.
[4] مختصر دراسة التاريخ لأرنولد توينبي 10/381.
[5] ذكره الكاتب المغربي إدريس الكنبوري في (النبي صلى الله عليه وسلم كما تحدث عنه المنصفون والعقلاء في الغرب:
الاعتراف بعالمية الإسلام وفضل رسوله على البشرية والحضارة الغربية). موقع صيد الفوائد.
[6] موجز تاريخ العالم لولز ص200-201.
[7] في خطى محمد لنصري سلهب ص 196. دار الكتاب العربي، بيروت 1970م.
[8] قصة الحضارة لديورانت 13/47.
[9]محمد في مكة لمونتغمري وات ص512.(/2)
عظمة الله جل وعلا
إن عظمة الله لا يعلمها إلا الله جل وعلا، ولكن الله جل وعلا بين لنا ما يدل على عظمته بقدر ما تتسع له عقولنا وإلا فإن عظمة الله تعالى لا يحيط بها ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وقد عرفنا الله سبحانه وتعالى بعظمته في قرآنه الكريم من أجل أن نجله ونعظمه ونعبده حق عبادته..
يقول الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - فإذا قيل لك بما عرفت ربك فقل بآياته ومخلوقاته {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر} [فصلت: 37]. ومن مخلوقاته السموات السبع والأرضين السبع وما فيهن.
ومن مخلوقاته ما ذرأه في هذا الكون من البحار والجبال والبراري والأشجار والأنهار وغير ذلك مما لا تحيط به العقول ولا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى..
فإذا تأملت في هذا الكون وتدبرته عرفت عظمة خالقه وحكمته وقدرته ورحمته {قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} [يونس: 101]، أولم يتذكروا فيما خلق الله في السموات والأرض {قل انظروا ماذا في السموات والأرض }، فالله جل وعلا أمرنا أن نتفكر وننظر فيما خلق، وأولي الألباب يتفكرون في خلق السموات والأرض ويقولون {ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران: 191]. فعلى العاقل أن يتفكر في خلق السموات والأرض والبر والبحر بل ويتفكر في خلقه هو {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21]. وكذلك يتفكر في آيات الله المقروءة في القرآن الكريم ليعرف بذلك عظمة الله سبحانه وتعالى الذي تكلم بهذا القرآن وأنزله وجعله كتابا مشتملا على مصالح العباد ماضيا وحاضرا ومستقبلا {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38]، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي وحي من الله {وما ينطق عن الهوى) (3)إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3 -4].. {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} [ص: 29].
الله تعرف إلينا
و ليس الغرض من حفظ القرآن أو تلاوته مجرد التلاوة والتغني بالصوت وإنما المقصود التدبر في آياته وأسراره وما تضمنه من العجائب الدالة على عظمة الله سبحانه وتعالى، الله جل وعلا تعرف إلينا بهذا القرآن وذكر لنا شيئا من أسمائه وصفاته لنعرفه بها ونعبده حق عبادته، قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} [الأعراف: 180]، فلا تمر على الآيات مرور المستعجل الذي يريد أن يختم القرآن كم مرة أو عددا من المرات دون أن يتأمل ويتدبر ويستفيد ويخرج بنتيجة، فالقرآن لا يمل ولا يحاط بأسراره ولكن كل يأخذ بقدر ما أعطاه الله من الفهم والإدراك، الكل يستفيد من القرآن العامي والمتعلم والعالم والمتخصص بحسب مقدرته وما أعطاه الله، ولكن من المهم استحضار القلب {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } [ق: 37].
أعظم آية في القرآن
فالله جل وعلا قال: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف: 180]، وأسماء الله كثيرة لا يعلمها إلا الله ولكنه سبحانه ذكر لنا منها أسماء في القرآن وأخبر عن نفسه جل وعلا من ذلك قوله تعالى: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم ...} [البقرة: 255]، وهذه أعظم آية في كتاب الله لما تشتمل عليه من التعريف بالله عز وجل. وفي آية الكرسي ثمان جمل تشتمل على نفي وإثبات، إثبات الكمال لله عز وجل ونفي النقائص والعيوب عنه سبحانه وتعالى، فقوله: {لا إله إلا هو} أي لا معبود سواه جل وعلا وما عداه فإن عبادته باطلة من كل معبود من شجر أو حجر أو حي أو ميت أو جن أو إنس أو ملك أو نبي أو ولي كل ما عبد من دونه فهو باطل، وكما قال الشاعر:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
{لا إله إلا هو} فيه إبطال للشرك وإبطال لكل ما عبد من دون الله عز وجل، وهذه جملة عظيمة تقضي على الشرك وتثبت التوحيد، وهي اشتملت على إثبات التوحيد لله ونفي الشرك، والشريك عن الله سبحانه وتعالي. وقوله تعالى: {الحي القيوم} هذا إثبات الحي أي الذي له الحياة الكاملة التي لا يعتريها نوم ولا موت ولا زوال، المخلوقات فيها حياة إما حياة حركة وأما حياة نمو ولكنها حياة موهوبة من الله وحياة زائلة وتعتريها النقائص، أما حياة الله جل وعلا فإنها حياة ذاتية باقية لا بداية لها ولا نهاية ولا يعتريها نقص أو عيب.(/1)
{القيوم} أي قام بنفسه واستغنى عن غيره وقام بالمخلوقات بمعنى أنه أقامها وخلقها ورزقها ودبرها، وهو القائم على عباده سبحانه وتعالى، وهو الغني في ذاته المغني لغيره وما سواه، فهو فقير إلى الله سبحانه كل الناس فقراء إلى الله {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} [فاطر: 15]. يا أيها الناس هذا عام للملوك والصعاليك والأغنياء والفقراء والجن والإنس كلهم فقراء إلى الله ولو كان عندهم الأموال الطائلة. وعلى هذين الاسمين: الحي القيوم جميع الأسماء والصفات، فالحي يشتمل على جميع صفات الذات من السمع والبصر والحياة والقدرة، والقيوم يشتمل على جميع صفات الأفعال من الخلق والرزق والإحياء والإماتة. فجميع الأسماء والصفات تدور على هذين الاسمين {الحي القيوم}، ولهذا قيل إن هذا هو الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب.
هذا ما توجبه معرفة الله
إن الواجب على العبد أن يعبد الله وحده لا شريك له وأن نفرد الله جل وعلا بالعبادة والخوف والرجاء والرهبة والرغبة والتوكل والاستعاذة والاستعانة والصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وسائر العبادات نفرده جل وعلا بهذه العبادات القولية والفعلية والقلبية ولا نلتفت إلى غيره كما يفعل المشركون قديما وحديثا الذين يتعلقون بغير الله من الأموات والأضرحة ويدعونهم من دون الله ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله. كذبوا على الله جل وعلا، فالله لم يأمر باتخاذ الشفعاء بينه وبين عباده، بل أمر عباده أن يعبدوه مباشرة وأن يدعوه مباشرة بدون وسطاء وهو قريب مجيب سبحانه، فهذا ما توجبه معرفة عظمة الله سبحانه وتعالى أن نفرده بالعبادة وحده لا شريك له لأنه هو المستحق للعبادة وكل ما عداه فهو مخلوق فقير إلى الله.
معرفة الله توجب شكره
إن معرفة عظمة الله جل وعلا توجب علينا أن نشكره ونذكره ونحمده ونستغفره ونكثر من ذكره وتعظيمه وتسبيحه جل وعلا قياما وقعودا وعلى جنوبنا دائما وأبدا وفي كل وقت نذكرالله جل وعلا ونداوم على ذكره سبحانه لأننا عرفنا عظمته وكبرياءه وجلاله {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن} [الإسراء: 44]، {سبح لله ما في السموات}، {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44]، {ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه} [النور: 41]، فبنو آدم أولى بذلك أن يكثروا من تسبيح الله وتعظيمه وتنزيهه، لأن ذكر الله تحيا به القلوب {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 28]، وفي الحديث: (مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله مثل الحي والميت).
لماذا يتجرأ هؤلاء على الله؟
و الإنسان إذا جهل عظمة الله جل وعلا فإنه يتجرأ على ربه جل وعلا {وكان الكافر على) ربه ظهيرا} [الفرقان: 55]، فالمشرك حينما دعا غير الله وعبد غير الله هذا لم يقدر الله حق قدره {وما قدروا الله حق قدره}، ولذلك عبد غيره معه سبحانه، وكذلك كالذي يجحد أسماء الله وصفاته وينكرها كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة ويؤولونها على غير معناها ويحرفونها، هؤلاء ما قدروا الله حق قدره وتجرأوا على الله وتنقصوه سبحانه وتعالى، وقد حذر الله جل وعلا من الإلحاد في أسمائه {وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} [الأعراف: 180]، {إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة} [فصلت: 40].
وكذلك الذي يظن أن الله يرفع الباطل على الحق وأن الحق يزول ويذهب وأن الباطل يستمر هذا ما قدر الله حق قدره، فإن الله جل وعلا لا يليق بحكمته أن يرفع الباطل على الحق رفعا مستمرا وإن حصل شيء على أهل الحق من الهزيمة أو من النكبة فإن هذا شيء مؤقت، فإذا تابوا ورجعوا إلى الله أعاد الله لهم العزة والكرامة، فالباطل لا يعلو على الحق دائما، والذي يظن ذلك ما قدر الله حق قدره لأنه اتهم الله بالعجز أن ينصر الحق وأن ينصر أولياءه، لكن قد يصل شيء على أهل الحق من النقص والهزيمة والفتنة إذا حصل منهم خلل، فإذا أصلحوا خللهم عادت إليهم عزتهم وعادت إليهم مكانتهم، والباطل يزول ويضمحل وإذا ارتفع فهو مثل الدخان يعلو ثم ما يلبث أن يذهب وينقشع لكن الحق يبقى دائما وأبدا {والعاقبة للمتقين}، {والعاقبة للتقوى}.
ولما تخلف المنافقون على الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءوا يعتذرون إليه {شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا (11) {بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا} [الفتح: 11 - 21]، فالذي يظن أن الله ينصر الباطل على الحق وأن الحق زائل والباطل باق فهذا ظن بالله ظن السوء ولم يقدر الله حق قدره.(/2)
وكذلك الذي يجحد البعث والنشور وينكر ذلك ويجحد الحساب والجنة والنار ويقول ما فيه إلا الحياة الدنيا هذا ما قدر الله حق قدره..
ومثل هذه الأمور تذكر بعظمة الله سبحانه وتعالى وتذكر عظمة الله ليس هو المقصود لذاته وإنما مقصود لغيره وله ما بعده فإذا تذكرت عظمة الله فماذا تعمل؟ تعمل في الطاعات والأعمال الصالحة والإكثار من فعل الخير ومن ذكر الله وتجنب المعاصي والسيئات، وهذه هي فائدة عظمة الله سبحانه وتعالى.
الشيخ / صالح الفوزان(/3)
عظيم الأجر في المحافظة على صلاة الفجر
دار الوطن
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن والاه.
أيها الحبيب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أما بعد:
فقد ذكر الله عمار المساجد فوصفهم بالإيمان النافع وبالقيام بالأعمال الصالحة التي أمها الصلاة والزكاة وبخشية الله التي هي أصل كل خير فقال تعالى: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين [التوبة:18].
وحضورك إلى المسجد لأداء الصلاة مع الجماعة إنما هو عمارة لبيوت الله. والوصية لي ولك، أن نحافظ على هذه الصلاة مع الجماعة لتكون لنا نوراً وبرهاناً يوم القيامة، ولا تنس أنفسهم، وضعف إيمانهم وقل ورعهم، وماتت غيرتهم، فلا يحرصون على حضور صلاة الفجر مع الجماعة ويتذرعون بحجج وأعذار هي أوعى من بيت العنكبوت، وهم بصنيعهم هذا قد آثروا حب النفس وحب النوم على محاب الله ورسوله: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين [التوبة:24].
أخا الإسلام: ألا تحب أن تسعد ببشرى نبيك وهو يقول فيما أخرجه الترمزي وأبو داود وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه: { بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة } كسب آخر، إلى جانب النور التام لمن حافظ على صلاة الفجر، ولكنه ليس كسبا دنيويا بل هو أرفع وأسمى من ذلك، وهو الغاية الني يشمر لها المؤمنون، ويتعبد من أجلها العابدون، إنها الجنة وأي تجارة رابحة كالجنة قال عليه الصلاة والسلام: { من صلى البردين دخل الجنة } أي من صلى الفجر والعصر. [أخرجه مسلم].
فيا له من فضل عظيم أن تدخل الجنة بسبب محافظتك على هاتين الصلاتين، صلاة الصبح والعصر، ولكن إذا أردت أن تعلم هذا فأقرأ كتاب ربك وتدبر وتفهم ما فيه فالوصف لا يحيط بما فيها: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [السجدة:17].
وليس هذا فحسب بل هناك ما هو أعلى من ذلك كله وهو لذة النظر إلى وجه الله الكريم، فقد ثبت في صحيح البخاري عن جرير بن عبد الله قال: كنا عند النبي ، فنظر إلى القمر ليلة ـ يعني البدر ـ فقال: { إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها } زاد مسلم يعني العصر والفجر.
قال العلماء: "ووجه مناسبة ذكر هاتين الصلاتين عند ذكر الرؤية، أن الصلاة أفضل الطاعات فناسب أن يجازى المحافظ عليهما بأفضل العطايا وهو النظر إلى الله تعالى".
وينبغي أن تعلم أخي المسلم، أن إيمان المرء يتمثل بحضور صلاة الفجر حين يستيقظ الإنسان من فراشه الناعم تاركاً لذة النوم وراحة النفس طلباً لما عند الله، كما أخبر النبي بقوله: { من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم } [أخرجه مسلم]، من حديث جندب بن عبد الله.
إن النفس الزكية الطاهرة تسارع إلى ربها لأداء صلاة الفجر مع الجماعة، فهي غالية الأجر وصعبة المنال إلا لمن وفقه الله لذلك.
وكثير من الناس اليوم إذا آووا إلى فرشهم للنوم غطوا في سبات عميق قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم: { يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام مكل عقدة يضرب عليك ليلا طويلا فإذا استيقظ، فذكر الله انحلت عقدة وإذا توضأ، انحلت عنه العقد فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان } من رواية أبي هريرة.
فانظر أخي المسلم إلى عظيم المسؤولية وأهميتها فهذا رسولنا وحبيبنا عليه الصلاة والسلام محذرنا من أن تصبح النفس خبيثة خاصة إذا نامت عن صلاة الفجر. فما بال هذا التقصير فينا؟ لماذا هذا التساهل عندنا؟ وكيف نأمل أن ينصرنا الله عز وجل، وأن يرزقنا، ويهزم أعداءنا، وأن يمكن لنا في الأرض ونحن في تقصير وتفريط في حق الله. نسمع نداءه كل يوم حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح ـ الصلاة خير من النوم ونحن لا نجيب ولا نستجيب أي بعد عن الله بعد هذا. هل أمنا مكر الله؟ هل نسينا وقوفنا بين يدي الله؟ والله لتوقفنّ غداً عند من لا تخفى علية خافية ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون [الأنعام:94].
لا يا أخي قم عن فراشك وانهض من نومك واستعن بالله رب العالمين ولا تتثاقل نفسك عن صلاة الفجر ولو ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبواً.(/1)
إن الواحد منا ليسر حينما يدخل المسجد لصلاة الظهر أو المغرب أو العشاء ويجد جموع المصلين في الصف والصفين والثلاثة صغاراً وكباراً، فيحمد الله ثم يأتي لصلاة الفجر ولا يجد إلا شطر العدد أو أقل من ذلك. أين ذهب أولئك المصلون؟: إنهم صرعى ضربات الشيطان بعقده الثلاث يغطون في سبات عميق فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولو قيل لأحدهم إن عملك يدعوك قبل الفجر بساعة لأعد نفسه واستعد وأخذ بالأسباب حتى يستيقظ في الوقت المحدد بل لو أراد أحدنا أن يسافر قبل أذان الفجر لاحتاط لنفسه وأوصى أهله أن يوقظوه.لكنا لا نصنع هذا في صلاة الفجر.
فليتق الله أمرؤ عرف الحق فلم يتبعه وإذا سمعت أذان الفجر، يدوي في أفواه الموحدين فانهض بنفس شجاعة إلى المسجد، وكن من الذين يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.
ثم اعلم يا أخا الإسلام أنك إذا أرخيت العنان لنفسك وتخلفت عن صلاة الفجر عرضت نفسك لسخط الله ومقته فانتبه لنفسك قبل أن يأتيك الموت بغتة وأنت لا تدري وقبل أن تقول نفس: يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين ، وتقول: لو أن لي كرة فأكون من المحسنين [الزمر:56-58].
والآن قد جاءك النذير وتبين لك القول، فانفذ بنفسك من حجب الهوى إلى سبيل الهدى وابحث عن الوسائل المعينة لحضور هذه الفريضة.
وهاكها باختصار:
1-إخلاص النية لله تعالى والعزم الأكيد على القيام للصلاة عند النوم.
2-الابتعاد عن السهر والتبكير بالنوم متى استطعت إلى ذلك.
3-الاستعانة بمن يوقظك عند الصلاة من أب أو أم أو أخ أو أخت أو زوجة أو جار أو منبه.
4-الحرص على الطهارة وقراءة الأوراد النبويه قبل النوم.
فبادر إلى الصلاة وأجب داعي الله، ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء [الأخقاف:32].
ألهمنا الله وإياك البرّ والرشاد ووفقنا للخير والسداد وسلك بنا وبك طريق الأخيار الأبرار.
وأخيراً تذكر قول ربك: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد [ق:37]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/2)
عرّة في عرّة!!.
حامد بن عبدالله العلي
لك أن تنقّط العنوان كيفما شئت ، ثم لاتثريب عليك أن تقرأه : عِزّة في غَزّة ، أو غَزّة في عِزّة ، أو عِزّة في عِزّة ، أو غَزّة في غَزّة ، أو غَزّة في عرّة ، أو عرّة في غزّة ، أو حتّى عَرّة في عّرّة ، والعَرّة الشدة ، وقيل الشدة في الحرب !
فكلّ ذلك صحيحٌ ، وواقع بوجه من الوجوه !
صحيحٌ أننا تعودنا أن كلّ إنسحاب صهيوني إنما هو رسولُ شؤم بنار خطر قادم ، يشعلها المكر الصهيوني المتحالف مع الصليبية العالمية ، من قبل وعد بلفور المشؤوم.
فالإنسحاب من سيناء ـ مثلا ـ كان في حقيقته إنسحاب مصر من الصف العربي ، لشقه ، وتمزيقه ، وقد كانت قلوبهم مهيّئة ، إذ هي ممزقة أصلا بالكفر والنفاق ، وعداوة الله ورسوله بالفجور ، والشقاق ، والإنسحاب من لبنان كان تهيئة لإخراج الوجود السوري في لبنان تمهيدا لما هو أدهى وأمر ، فقد كانت عصابة الأشرار الصهيوصليبية تعدّ المنطقة برمتها ، لآخر ما أنتجته شياطينهم في وكريها : البيت الأسود ، وتل أبيب ، منذ حرب الخليج 1990 م ، بل قبل ذلك
وصحيحٌ أن نحو السبعة آلاف صهيوني الذين سيتم إخراجهم من غزة ، إنما هم أقل من سكان مستوطنة واحدة في الضفة الغربية ، فكأنّهم إنما وُضعوا هناك ، كتحريك قطعة الشطرنج طُعْما ، طَمَعا في مكاسب أكبر عند الإنسحاب يوما ما ، ذلك أن الصهاينة كانوا دائما يلعنون غزة ومخيماتها ، ذات المليون وثلاثمائة ألف قنبلة بشرية ، على ثلاثمائة وخمسين كم مربع فقط ، وودوا أنها غارت في البحر وأراحتهم !
وصحيحٌ أن شارون يريد أن تَفهم البشرية البائسة لأنّه معدود فيها ، أنّ الإنسحاب من غزة ـ بعد إضافة سياجين جديدين موازيين للسور الذي يحيط بها حاليا ، وحوائط خرسانية ارتفاعها سبعة امتار ، أي تحويلها إلى سجن كبير ، ومواصلة المؤامرات لجعل غزّة ساحة قتال بين عصابات دحلان وأضرابه من أمراء الحرب ، وبين الإسلاميين ـ هي تلك التضحية الكبيرة التي يستحق الصهاينة بعدها ، كلّ الدعم من جميع دول العالم ، وعلى رأسها واشنطن عش الصهيونية ، ومأواها ، وملجؤها وملفاها :
كلّ الدعم ، لإبتلاع الضفة الغربية ذات العمق الإستراتيجي للصهاينة ،والتهديد الأكبر لكيانهم ، وتهويد القدس ، وفرض واقع جدار الفصل ، وتطبيع علاقات الصهاينة بالدول العربية ، وإلغاء حق العودة .. إلخ
كأنّ لسان حالهم يقول : ألا لم يُعد للقطيعة ـ حتى وهي شكليّة ـ معنى ، وهاهمالصهاينة يتنازلون عن أرضهم ، ويجبرون مواطنيهم على إخلاء مساكنهم ، ويمدُّون يدالسلام ، ببراءة الأطهار الأنقياء ، لبني عمومتهم العرب، فلماذا تبقون أيهاالعرب قساة القلب إلى هذه الدرجة
وإلى متى كلّ هذه الأحقاد على جلادكم ، ومغتصب أرضكم ، وقاتل أبناءكم ، ونساءكم ؟!!
ألم يتنازل لكم عن واحد ونصف بالمائة من كامل الأرض الفلسطينية من النهر إلى البحر ، بعد نحو 57 عاما من الكفاح الفلسطيني ، وأكثر من مائة ألف شهيد ، وأكثر من أربعة آلاف شهيد في الإنتفاضة الأخيرة فقط !!
ألا يستحق في مقابل هذا التنازل المؤلم ، والسخاء الهائل ، ومقابل تنازله عن سوق غزة ـ وهي سوق من الدرجة الثانية لمنتوجات الكيان ـ أن يحصل على أسواق الدول العربية ، لاسيما الخليج ، الذي ينفق أهله عطاء من لايخشى الفقر لاسيما بعد ارتفاع أسعار النفط !
وعلى تطبيعها بعد تقطيعها !!
صحيح هذا كلّه !!
غير أن هذا الدجل اليهودي ، وإن كان ينفق عند خونة القضية الفلسطينية وتُجّارها ، فإنه لم ، ولن ينفق في سوق الجهاد في فلسطين .
ذلك أن صفقة البيع في سوق الجهاد الإسلامي ، لونٌ آخر ، لايفهمها عبدة الذهب ، وعباد الدنيا ، اللاهثون وراء ما يلقيه عليهم الصهاينة من فتات ما سرقته أمريكا من العراق ، وخزائن النفط العربي ،
إنها صفقة مع ربّ العالمين ،
وتلكم والله بيعة ، لاتقبل التنازل ، ولا تعرف عن الحق التخاذل .
( إنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ).
وليمكروا ما شاءوا أن يمكروا ، وليُعدّوا لمكرهم ما قدروا عليه من الكفر ، والبغي ، والإثم والعدوان ، فسيرجع ذلك كله عليهم ، وسيأتي الجهاد بنيانهم من القواعد ، فيخر عليهم السقف من فوقهم ، وسيتهاوى بنيانهم الصهيوني الذي بنوه ، ولم يزل ريبة في قلوبهم ، سيتهاوى بالله تعالى ، ثم بسواعد المجاهدين ، وإن طال الزمن .(/1)
بالله أولا ، ثم بأولئك الأبطال المجهولين لنا ، المعروفين في ملكوت السماء ، المتوجين هناك بتاج العز ، المدثرين برداء المجد ، الذين خطّ لهم الشيخ أحمد ياسين ، والرنتيسي ، وأمثالهم من أسود الإسلام ، منذ استشهاد القسام ، خطّوا لهم الطريق واضحا بينا ، لالبس فيه ، وصارما لا تهاون فيه ، وحازما لالين فيه ،
تلكم والله خارطة الطريق التي خطّها صاحب اللواء المنصور ، الموعود بالنصر في القرآن ، والتوراة ، والأنجيل ، والزبور ،
محمد صلى الله عليه وسلم : " َكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ "
وبعد ،،
فإن غزّة ستبقى أرض العزّة ، ( غَزّة ) في جنب الصهاينة ، وستبقى عَرّة على أعداء الله ،
فهنيئا لأهل غزة إذلالهم الصهاينة وطردهم ، ومبارك عليهم نصرهم ،
( َولْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ ) ،
وليستعدوا لما هو آت ، فإنّه (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً ) .
فإن الصهاينة يعدون لشدّة ، غير أن جحافل الجهاد في فلسطين لهم مستعدة ،،
وليبشروا بالنصر ـ فإن العدو بخلاف ما يحاول إظهاره من التجلّد ـ مثكلٌ بالجراح ، مثقل بالآلام من ضرب السيوف وطعن الرماح ، وقريبا سيموت طاغيتهم شارون ، ويموج أمرهم ، وتدنو ثمار الكفاح ، ( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) .(/2)
عقيدتنا ومنهجنا
بسم الله الرحمن الرحيم
نؤمن أن الله واحد لا شريك له وأنه المألوه المعبود وحده لا معبود بحق سواه .
نؤمن أن الله سبحانه الخالق المالك المدبر بيده الخلق والأمر .
نؤمن أن لله سبحانه وتعالى أسماء وصفات عليا , نثبتها له كما جاء ت في الكتاب والسنه الصحيحة من غير تشبيه ولا تكييف ولا تمثيل ولا تأويل ولا تعطيل .
نؤمن انه لا مطاع لذاته ولا محبوب لذاته إلا الله وكل ما سوى الله فطاعته ومحبته إنما هي لله وفي الله .
نؤمن أن الحكم والتشريع من خصائص الله وحده , وان حكمه هو العدل المطلق وكل ما خالفه فظلم مردود .وان من لوازم الأيمان وشروط صحته رد الأمور إلى حكم الله وتشريعه , وان كل من رد أمرا إلى غير حكم الله وحكم بغير ما انزل الله اتبع تشريعا حادثا لم يأذن به الله فهو كافر خارج عن ملة الإسلام متبع حكم الجاهلية .
نؤمن أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى كافة الخلق انسهم وجنهم , يجب إتباعه وطاعته في جميع ما أمر به وتصديقه والتسليم له في جميع ما اخبر به , وان ذلك من لوازم صحة إيمان المرء , ومن طاعته صلى الله عليه وسلم التحاكم أليه والى سنته فمن رد حكمه فقد رد حكم الله ومن رد حكم الله فقد كفر .
نؤمن أن الأيمان قول وعمل , قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح وان هذه الأربعة هي أركان الأيمان ينتقض إيمان المرء ويزول بزوالها .
نؤمن أن ترك جنس عمل الجوارح كفر اكبر مخرج من الملة .
نؤمن أن التكفير حكم شرعي مرده ُ إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واجماع الأمة .
نؤمن بأنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب دون الشرك مالم يستحله .
نؤمن أن كل من قال أو فعل ما هو كفر كَفرَ بذلك وإن لم يقصد الكفر بذلك .
نؤمن أن الكفر يكون بالقلب واللسان والعمل .
نؤمن أن الكفر العملي منه الأكبر ومنه الصغر والكفر الإعتقادي منه الأكبر ومنه الأصغر .
نؤمن أن عامة كفر الناس هو العناد والأعراض وهو الكفر الذي قاتل رسول الله الناس عليه .
نؤمن بأن ( من اظهر لنا الإسلام حكمنا بإسلامه وعاملناه معاملة المسلمين ومن اظهر لنا الكفر من غير مانع شرعي معتبر كفرناه ظاهرا وباطنا وعاملناه معاملة الكافرين) .
نؤمن أن تارك الصلاة كافر كفرا اكبر مخرج من الملة .
نؤمن أن من صرف شيئا من وجوه العبادة كالطاعة والمحبة والخوف والرجاء و الاستعانة والدعاء و الاستغاثة بغير الله انه كافر كفرا اكبر مخرج من الملة .
نؤمن أن من ظاهر المشركين على المسلمين بأي نوع من أنواع المظاهرة انه كافر كفرا اكبر .
نؤمن أن الحاكم بغير ما انزل الله وطائفته المبدلين للشريعة هم كفار مرتدون والخروج عليهم بالسلاح والقوة فرض عين على كل مسلم .
نؤمن أن العلمانية على اختلاف راياتها ومسمياتها وأحزابها هي كفر بواح مخرج من الملة , فمن اعتقدها أو دعا إليها أو ناصرها أو حكم بها فهو كافر مشرك مهما تسمى بالإسلام وزعم انه من المسلمين .
نؤمن أن الديمقراطية فتنة العصر تكرس ألوهية المخلوق وحاكميته وترد له خاصية الحكم والتشريع من دون الله , فهي كفر اكبر مخرج من الملة فمن اعتقدها بمفهومها هذا أو دعا إليها أو ناصرها أو حكم بها فهو مرتد مهما انتسب إلى الإسلام وزعم انه من المسلمين .
نؤمن أن أي طائفة من الناس اجتمعوا على مبدأ غير الإسلام هي طائفة ردة وكفر كالأحزاب القومية والوطنية والشيوعية والبعثية والاشتراكية .
نؤمن أن الشيعة الروافض طائفة كفر وردة وهم شر الخلق تحت أديم السماء .
نؤمن أن الجهل المعجز الذي لا يمكن دفعه عذر معتبر شرعا يمنع لحوق الوعيد المطلق بالمعين .
نؤمن أن كفر المعين متوقف على ثبوت شروط التكفير في حقه وانتفاء موانعه عنه .
نؤمن أن الدنيا دار سنن لا يجوز تركها مع القدرة عليها والإلتفات إليها شرك وتركها معصية وعدم اعتبارها زندقة .
نؤمن أن الجماعات الإسلامية التي تدخل الانتخابات والمجالس التشريعية هي جماعات بدعية نبرأ إلى الله من أفعالها .
نؤمن أن مقولة ( أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم على أرضكم ) هي عند أصحابها على معنى جبري إرجائي .
نبرأ إلى الله من ضلالات الخبثاء أهل التجهم والإرجاء بطانة الطواغيت المرتدين وعينهم الحارسة على أمنهم وسلامتهم ونحذر منهم ومن غيهم و إفسادهم وإضلالهم .
نبرأ إلى الله من ضلالات الخوارج وغلوهم ومن تابعهم من غلاة التكفير في هذا الزمان ونحذر منهم ومن مجالستهم ومن فادهم وإضلالهم .
نؤمن أن الوعود الإلهية في كتاب الله وسنة رسوله هي أوامر للمسلمين لتحصيل أسبابها والسعي في إدراكها .
نؤمن أن الطائفة المنصورة طائفة علم وجهاد .
نؤمن أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة مع كل بر وفاجر وفي كل زمان ومكان وبإمام ومن دون إمام ويمضي بفرد واحد فما فوق لا يوقفه جور الجائرين ولا إرجاف المثبطين .(/1)
نؤمن أن الجهاد في سبيل الله هو الطريق الشرعي الصحيح الذي يمكن الأمة من استئناف حياة إسلامية وقيام خلافة راشدة على منهاج النبوة .
نؤمن بكل ما جاء به رسول الله من أمور الغيب على الحقيقة كالجنة والنار والكرسي والعرش والصراط والميزان .
نؤمن بالوسطية في القدر بين الجبرية والقدرية فأفعالنا ومشيئتنا مخلوقتان والإنسان فاعل مختار له إرادة ومشيئة وهو فاعل لأفعاله على الحقيقة .
نؤمن بجميع أنبياء الله ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وبكتبه المنزلة على رسله وبملائكته وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
نترضى على جميع أصحاب النبي ( صلى الله عليه و سلم) الأنصار والمهاجرين وغيرهم ممن اسلم بعد الفتح فنواليهم ونوالي من والاهم وأحبهم ونعادي من عاداهم وأبغضهم ونلعن من لعنهم ونكفر من كفرهم ,وأنهم كلهم عدول وهم خير الخلق بعد الأنبياء والمرسلين .
نؤمن أن خير الناس بعد قرن النبي وأصحابه قرن التابعين لهم بإحسان الثاني والثالث ثم يفشو الكذب وتضعف الأمانة .
نحترم علمائنا ونجلهم ونعرف لهم فضلهم وحقهم ولا نعتقد بعصمتهم ولا نتعصب لهم ولأقوالهم فيما يخالف الحق ولا نتابعهم فيما اخطأوا فيه فالحق أولى بالإتباع وهو أحب إلينا مما سواه .
منبر الفاروق الإخباري(/2)
علاج الهموم
يتناول الدرس بيان الوسائل الكفيلة بإزالة الهموم التي لا يخلو منها أحد، وبيان ماورد في الكتاب والسنة من آداب يتعامل بها المسلم إذا اعتراه الهم، والأدعية والأذكار التي تقال عند وجود الهم .
الحمد لله؛ رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين ، و أشهد أن لا إله إلا هو ، رب الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، و أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وعلى من سار على هديه، واقتفى أثره إلى يوم الدين، وبعد ،،،
اشك أن للعقيدة الصحيحة تأثيرا بالغا في دفع الهموم و علاجها ، و على العكس ترى كثيراً من الكفار ، وكذلك ضعفاء الإيمان يُصابون بالانهيار ، أو يُقدمون على الانتحار ؛ للتخلص من الكآبة والحبوط واليأس إذا ما وقعوا في ورطة، أو أصابتهم مصيبة . وكم ملئت المستشفيات من مرضى الانهيارات العصبية، والصدمات النفسية !! وكم أثرت هذه الأمور على كثير من الأقوياء ، فضلاً عن الضعفاء !! وكم أدت إلى العجز التام أو فقدان العقل والجنون !! أما من اهتدى بهدي الإسلام فإنه يجد العلاج فيما أتى من لدن العليم الخبير الذي خلق الخلق ، وهو أعلم بما يصلحهم : } أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [ 14 ]{ سورة الملك .
فهلم إلى استعراض شيء من أنواع العلاجات التي جاءت في هذه الشريعة :
أولاً : التسلّح بالإيمان المقرون بالعمل الصالح
قال الله تعالى: } مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [ 97 ] { سورة النحل .
وسبب ذلك واضح؛ فإن المؤمنين بالله _ الإيمان الصحيح , المثمر للعمل الصالح , و المصلح للقلوب ، والأخلاق والدنيا والآخرة معهم أصول وأسس يتعاملون بها مع كلّ ما يرد عليهم من أنواع المسرات والأحزان .
فيتلقون النّعم والمسارّ بقبول لها، وشكر عليها، ويستعملونها فيما ينفع، فإذا فعلوا ذلك أحسوا ببهجتها ، وطمعوا في بقائها ، وبركتها ، ورجاء ثواب شكرها ... وغير ذلك من الأمور العظيمة التي تفوق بخيراتها ، وبركاتها تلك المسرات.
ويتلقون المكاره والمضار والهم والغم بالمقاومة لِما يمكنهم مقاومته , وتخفيف ما يمكنهم تخفيفه , والصبر الجميل لما ليس لهم عنه بد , فيحصّلون منافع كثيرة من جراء حصول المكاره، ومن ذلك: المقاومات النافعة ... والتجارب المفيدة ... وقوة النفس ... وأيضا الصبر ... واحتساب الأجر والثواب ... وغير ذلك من الفوائد العظيمة، التي تضمحل معها المكاره، وتحل محلها المسار، والآمال الطيبة، والطمع في فضل الله، وثوابه، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم : [ عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ ] رواه مسلم، وأحمد، والدارمي , وهذا النظر الإيجابي إلى الابتلاء ، مما يدفع الهم ، و يعين على الصبر .
ثانياً : النظر فيما يحصل للمسلم من تكفير الذنوب، وتمحيص القلب، ورفع الدرجة ؛ إذا أصابته غموم الدنيا وهمومها
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ، وَلا حُزْنٍ ، وَلا أَذًى، وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ ] وفي رواية: [ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ، وَلا نَصَبٍ، وَلا سَقَمٍ، وَلا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ ]رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، وأحمد .
فليعلم المهموم ... أن ما يصيبه من الأذى النفسي؛ نتيجة للهمّ لا يذهب سدى، بل هو مفيد في تكثير حسناته، وتكفير سيئاته ...
ليعلم ... أنه لولا المصائب، لوردنا يوم القيامة مفاليس _كما ذكر بعض السلف _ ولذلك كان أحدهم : يفرح بالبلاء كما يفرح أحدنا بالرخاء .(/1)
وإذا علم العبد أن ما يصيبه من المصائب يكفّر عنه سيئاته فرح واستبشر وخصوصاً إذا عوجل بشيء بعد الذنب مباشرة كما وقع لبعض الصحابة رضي الله عنهم ، فعن عَبْد اللَّهِ بْن مُغَفَّلٍ رضي الله عنه : أَنَّ رَجُلا لَقِيَ امْرَأَةً كَانَتْ بَغِيًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَجَعَلَ يُلاعِبُهَا حَتَّى بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ : مَهْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ ذَهَبَ بِالشِّرْكِ ، وَجَاءَنَا بِالإِسْلامِ، فَوَلَّى الرَّجُلُ، فَأَصَابَ وَجْهَهُ الْحَائِطُ، فَشَجَّهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ : [ أَنْتَ عَبْدٌ أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرًا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْراً عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرّاً أَمْسَكَ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ عَيْرٌ ] رواه أحمد .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ] رواه الترمذي [ وهو في صحيح الجامع رقم 308 ] .
ثالثاً : معرفة حقيقة الدنيا
فمما يدفع الهموم ، و يعين على تحملها علم المؤمن بأن الدنيا فانية، ومتاعها قليل، وما فيها من لذة ، فهي مكدّرة ، ولا تصفو لأحد ... إن أضحكت قليلاً ؛ أبكت طويلاً... وإن أعطت يسيراً ؛ منعت كثيراً ... والمؤمن فيها محبوس ، كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ ] رواه مسلم، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد .
وهي كذلك : نصب، وأذى، وشقاء، وعناء؛ ولذلك يستريح المؤمن إذا فارقها ؛ فعن أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ , فَقَالَ : [ مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ ] . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ :مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ ؟قَالَ : [ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا ، وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ، وَالْبِلادُ، وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ ] رواه البخاري، ومسلم، والنسائي، ومالك، وأحمد .
وموت المؤمن راحة له من غموم دار الدنيا، وهمومها، وآلامها كما في الحديث : [ إِذَا حُضِرَ الْمُؤْمِن ُ؛ أَتَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ، فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي رَاضِيَةً ، مَرْضِيّاً عَنْكِ إِلَى رَوْحِ اللَّهِ ، وَرَيْحَانٍ ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ ، فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ حَتَّى أَنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ السَّمَاءِ ، فَيَقُولُونَ : مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتِي جَاءَتْكُمْ مِنَ الأَرْضِ !! فَيَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحاً بِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ يَقْدَمُ عَلَيْهِ فَيَسْأَلُونَهُ : مَاذَا فَعَلَ فُلانٌ ؟ مَاذَا فَعَلَ فُلانٌ ؟ فَيَقُولُونَ : دَعُوهُ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا ، فَإِذَا قَالَ : أَمَا أَتَاكُمْ ؟ قَالُوا : ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ , وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتُضِرَ ؛ أَتَتْهُ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ بِمِسْحٍ ، فَيَقُولُونَ : اخْرُجِي سَاخِطَةً ، مَسْخُوطاً عَلَيْكِ ؛ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ الأَرْضِ ، فَيَقُولُونَ : مَا أَنْتَنَ هَذِهِ الرِّيحَ !! حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ ] رواه النسائي [ وصححه الألباني في صحيح النسائي 1309]
إن هذا المعنى الذي يدركه المؤمن لحقيقة الدنيا : يهوّن عليه كثيراً من وقع المصاب ، وألم الغمّ ، ونكد الهمّ ؛ لأنه يعلم أنه أمر لابدّ منه ، فهو من طبيعة هذه الحياة الدنيا.
رابعاً : التأسي بالرسل والصالحين واتخاذهم مثلاً وقدوة(/2)
فهم أشد الناس بلاءً في الدنيا ، والمرء يبتلى على قدر دينه ، و إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه ، فقد سأل سعد رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً ؟قَالَ : [ الأَنْبِيَاءُ ، ثُمَّ الأَمْثَلُ ، فَالأَمْثَلُ ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْباً ؛ اشْتَدَّ بَلاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ؛ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ] رواه الترمذي، وابن ماجه، وأحمد، والدارمي [ وهو في صحيح سنن الترمذي للألباني رقم 1956] .
خامساً : أن يجعل العبد الآخرة همه
لكي يجمع الله له شمله ؛ لما رواه أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ ؛ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا ، وَهِيَ رَاغِمَةٌ . وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ ؛ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ ] رواه الترمذي [ وصححه الألباني في صحيح الجامع 6510 ] .
قال ابن القيم رحمه الله: إذا أصبح العبد، وأمسى ؛ وليس همه إلا الله وحده؛ تحمّل الله عنه _ سبحانه_ حوائجه كلها، وحمل عنه كلّ ما أهمّه، وفرّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته. وإن أصبح، وأمسى، والدنيا همه؛ حمّله الله همومها، وغمومها، وأنكادها، و وكله إلى نفسه؛ فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق؛ ولسانه عن ذكره بذكرهم؛ وجوارحه عن طاعته بخدمتهم، وأشغالهم . فهو يكدح كدح الوحوش في خدمة غيره ... فكلّ من أعرض عن عبودية الله، وطاعته، ومحبته ؛ بلي بعبودية المخلوق، ومحبته، وخدمته، قال تعالى : }وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [ 36 ] { سورة الزخرف . [ الفوائد ط. دار البيان ص: 159 ] .
سادساً : ذكر الموت
لقوله صلى الله عليه وسلم : [ أكثروا ذكر هادم اللذات : الموت فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيَّقها عليه ] رواه البزار عن أنس، وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم 1211 ، وصححه كذلك في إرواء الغليل رقم 682 .
سابعاً : دعاء الله تعالى
وهذا نافع جداً , ومنه ما هو وقاية , ومنه ما هو علاج ...
فأما الوقاية : فتكون بأن يلجأ المسلم إلى الله تعالى، ويدعوه متضرعاً إليه بأن يعيذه من الهموم ، ويباعد بينه وبينها ، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقد أخبرنا خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه عن حاله معه بقوله: كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل فكنت أسمعه كثيراً يقول : [ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ] رواه البخاري , وأحمد .
وهذا الدعاء مفيد لدفع الهم قبل وقوعه ، والدفع أسهل من الرفع .
ومن أنفع ما يكون في الوقاية من الهموم في مستقبل الأمور : استعمال هذا الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به ، وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ] رواه مسلم .
فإذا وقع الهم , وألمّ بالمرء ، فباب الدعاء مفتوح غير مغلق... والكريم عز وجل إن طُرق بابه وسُئل ؛ أعطى وأجاب... يقول جلّ وعلا : } وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [ 186 ] { سورة البقرة .
من أدعية تفريج الكروب(/3)
ومن أعظم الأدعية في إذهاب الهمّ والغم والإتيان بعده بالفرج : الدعاء العظيم المشهور الذي حثّ النبي صلى الله عليه وسلم كلّ من سمعه أن يتعلّمه، ويحفظه ، و هو قوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَا أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمٌّ ، وَلا حَزَنٌ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ ، وَابْنُ عَبْدِكَ ، وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ : أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي ، وَنُورَ صَدْرِي ، وَجِلاءَ حُزْنِي ، وَذَهَابَ هَمِّي إِلا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ ، وَحُزْنَهُ ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجا ] فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا نَتَعَلَّمُهَا ؟ فَقَالَ : [ بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا ] رواه الإمام أحمد [ وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 198] .
فهذا الحديث العظيم يتضمن : اعتراف العبد أنه مملوك لله ، وأنه لا غنى له عنه، وليس له سيد سواه والتزام بعبوديته، وإعلان الخضوع والامتثال لأمره ونهيه , وأن الله يصرّفه، ويتحكّم فيه كيف يشاء، وإذعان لحكم الله، و رضى بقضائه، وتوسل إلى الله بجميع أسمائه قاطبة، ثم سؤال المطلوب، ونشدان المرغوب
وقد ورد في السنّة النبوية أدعية أخرى بشأن الغم والهم والكرب، ومنها :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ : [ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ] رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ : [ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ ] رواه الترمذي [ وحسنه في صحيح الجامع 4653 ].
وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ أَلا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ ، أَوْ فِي الْكَرْبِ : اللَّهُ اللَّهُ رَبِّي لا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ] رواه أبو داود، وابن ماجه، وأحمد [ وهو في صحيح الجامع 2620 ] .
ومن الأدعية النافعة في هذا الباب أيضا ما علمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : [ دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ ] رواه أبوداود، وأحمد [ وحسنه في صحيح الجامع 3388 ] .
فإذا لهج العبد بهذه الأدعية بقلب حاضر، ونية صادقة، مع اجتهاده في تحصيل أسباب الإجابة، حقق الله له ما دعاه ورجاه وعمل له ، وانقلب همه فرحاً وسروراً.
ثامناً : الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
وهي من أعظم ما يفرج الله به الهموم , فعن الطُّفَيْلُ بْنُ أُبَيِّ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ : [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ ، اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ ] قَالَ أُبَيٌّ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلاتِي ؟ فَقَالَ : [ مَا شِئْتَ ] قُلْتُ : الرُّبُعَ ؟ قَالَ : [ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ] قُلْتُ : النِّصْفَ ؟ قَالَ : [ مَا شِئْتَ ، فَإِنْ زِدْتَ ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ] قُلْتُ : فَالثُّلُثَيْنِ ؟ قَالَ مَا شِئْتَ ، فَإِنْ زِدْتَ ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ] قُلْتُ : أَجْعَلُ لَكَ صَلاتِي كُلَّهَا ؟ قَالَ : [ إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ ] رواه الترمذي وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ [ وحسنه الألباني في المشكاة 929 ] .
تاسعاً : التوكل على الله عز وجل وتفويض الأمر إليه
' فمن علم أن الله على كل شيء قدير، وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير، وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه، وأنه أعلم بمصلحة العبد من العبد، وأقدر على جلبها وتحصيلها منه، وأنصح للعبد لنفسه، و أرحم به منه بنفسه، و أبرّ به منه بنفسه.(/4)
وعلم مع ذلك : أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة، ولا يتأخر عن تدبيره له خطوة واحدة، فلا متقدم له بين يدي قضائه وقدره ولا متأخر، فألقى نفسه بين يديه، وسلم الأمر كله إليه، وانطرح بين يديه انطراح عبد مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قاهر له التصرف في عبده بما شاء ، وليس للعبد التصرف فيه بوجه من الوجوه ؛ فاستراح حينئذ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات , وحمل كل حوائجه، ومصالحه من لا يبالي بحملها، ولا يثقله، ولا يكترث بها؛ فتولاها دونه، و أراه لطفه وبره و رحمته، وإحسانه فيها من غير تعب من العبد ولا نصب ، ولا اهتمام منه؛ لأنه قد صرف اهتمامه كله إليه، وجعله وحده همه ؛ فصرف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه ، وفرغ قلبه منها ، فما أطيب عيشه ! وما أنعم قلبه ! وأعظم سروره وفرحه !
وأما من أبى إلا تدبيره لنفسه، واختياره لها ، واهتمامه بحظه دون حق ربه؛ خلاه وما اختاره ، و ولاه ما تولى؛ فحضره الهم، والغم، والحزن، والنكد، والخوف، والتعب، وكسف البال، وسوء الحال: فلا قلب يصفو، ولا عمل يزكو، ولا أمل يحصل ، ولا راحة يفوز بها ، ولا لذة يتهنى بها، بل قد حيل بينه، وبين مسرته، وفرحه، وقرة عينه؛ فهو يكدح في الدنيا كدح الوحش، ولا يظفر منها بأمل ولا يتزود منها لمعاد ' [ الفوائد لابن القيم ص : 209 ]
ومتى اعتمد القلب على الله ، وتوكل عليه ، ولم يستسلم للأوهام ولا ملكته الخيالات السيئة ، و وثق بالله ، وطمع في فضله ، اندفعت عنه بذلك الهموم والغموم ، وزالت عنه كثير من الأسقام القلبية والبدنية ، وحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور ما لا يمكن التعبير عنه ، والمعافى من عافاه الله ، و وفقه لجهاد نفسه لتحصيل الأسباب النافعة المقوية للقلب ، الدافعة لقلقه ، قال تعالى :
} وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [ 3 ] { سورة الطلاق. أي : كافيه جميع ما يهمه من أمر دينه ودنياه ؛ فالمتوكل على الله قوي القلب ، لا تؤثر فيه الأوهام ، ولا تزعجه الحوادث؛ لعلمه أن ذلك من ضعف النفس، ومن الخور، والخوف الذي لا حقيقة له .
ويعلم مع ذلك : أن الله قد تكفل لمن توكل عليه بالكفاية التامة؛ فيثق بالله، ويطمئن لوعده ؛ فيزول همه وقلقه ، ويتبدل عسره يسرا ، وترحه فرحا، وخوفه أمنا ، فنسأله تعالى العافية، وأن يتفضل علينا بقوة القلب وثباته بالتوكل الكامل، الذي تكفل الله لأهله بكل خير، ودفع كل مكروه وضير ' [ الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي ] .
عاشراً : الحرص على ما ينفع ، واجتماع الفكر كله على الاهتمام بعمل اليوم الحاضر ، وقطعه عن الاهتمام في الوقت المستقبل ، وعن الحزن على الوقت الماضي
ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الهم والحزن، فالحزن على الأمور الماضية التي لا يمكن ردها ولا استدراكها ، والهم الذي يحدث بسببه الخوف من المستقبل ، فيكون العبد ابن يومه ، يجمع جده واجتهاده في إصلاح يومه و وقته الحاضر ، فإن جمع القلب على ذلك يوجب تكميل الأعمال، ويتسلى به العبد عن الهم والحزن .
و النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا بدعاء ، أو أرشد أمته إلى دعاء ، فهو يحث ـ مع الاستعانة بالله ، والطمع في فضله ـ على الجد ، والاجتهاد في التحقق لحصول ما يدعو لدفعه؛ لأن الدعاء مقارن للعمل .
العبد يجتهد فيما ينفعه في الدين والدنيا ، ويسأل ربه نجاح مقصده ، ويستعينه على ذلك ، كما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ]رواه مسلم ، وابن ماجه، و أحمد , فجمع صلى الله عليه وسلم بين الأمر بالحرص على الأمور النافعة في كل حال، والاستعانة بالله وعدم الانقياد للعجز - الذي هو : الكسل الضار - و بين الاستسلام للأمور الماضية النافذة ، ومشاهدة قضاء الله وقدره، وجعل الأمور قسمين :
· قسماً يمكن للعبد السعي في تحصيله ، أو تحصيل ما يمكن منه ، أو دفعه، أو تخفيفه : فهذا يبدي فيه العبد مجهوده ، ويستعين بمعبوده.
· قسماً لا يمكن فيه ذلك ، فهذا يطمئن له العبد ، ويرضى ويسلم . ولاريب أن مراعاة هذا الأصل سبب للسرور ، وزوال الهم، والغم' [ الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي ] .(/5)
والحديث المذكور يدلّ على : السعي في إزالة الأسباب الجالبة للهموم , وفي تحصيل الأسباب الجالبة للسرور ، وذلك بنسيان ما مضى عليه من المكاره التي لا يمكنه ردها، ومعرفته أن اشتغال فكره فيها من باب العبث والمحال ، وأن ذلك حمق وجنون ، فيجاهد قلبه عن التفكر فيها، وكذلك يجاهد قلبه عن قلقه لما يستقبله مما يتوهمه من فقر أو خوف أو غيرهما من المكاره التي يتخيلها في مستقبل حياته .
فيعلم أن الأمور المستقبلة مجهول ما يقع فيها من خير وشر، وآمال وآلام ، وأنها بيد العزيز الحكيم ، ليس بيد العباد منها شيء إلا السعي في تحصيل خيراتها، ودفع مضراتها ، ويعلم العبد أنه إذا صرف فكره عن قلقه من أجل مستقبل أمره ، واتكل على ربه في إصلاحه ، واطمأن إليه في ذلك صلحت أحواله ، وزال عنه همه وقلقه ' [ الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي ] .
الحادي عشر : ومن أكبر الأسباب لانشراح الصدر وطمأنينته الإكثار من ذكر الله
فإن لذلك تأثيراً عجيباً في انشراح الصدر وطمأنينته ، وزوال همه وغمه ، قال الله تعالى : } أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [ 28 ] { سورة الرعد .
وأعظم الأذكار لعلاج الهمّ العظيم الحاصل عند نزول الموت : لا إله إلا الله ؛ وذلك لحديث طلحة رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : [ كَلِمَةٌ لا يَقُولُهَا عَبْدٌ عِنْدَ مَوْتِهِ إِلا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَتَهُ وَأَشْرَقَ لَوْنُهُ ] فَمَا مَنَعَنِي أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْهَا إِلا الْقُدْرَةُ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ : إِنِّي لأَعْلَمُهَا ، فَقَالَ لَهُ طَلْحَةُ : وَمَا هِيَ ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ : هَلْ تَعْلَمُ كَلِمَةً هِيَ أَعْظَمَ مِنْ كَلِمَةٍ أَمَرَ بِهَا عَمَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، فَقَالَ طَلْحَةُ : هِيَ وَاللَّهِ هِيَ . رواه أحمد.
الثاني عشر: اللجوء إلى الصلاة
قال الله تعالى : } وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ [ 45 ] { سورة البقرة .
وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : [ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى ] رواه أبو داود ، وأحمد [ وحسنه في صحيح الجامع رقم 4703 ] .
الثالث عشر : ومما يفرج الهم أيضا الجهاد في سبيل الله
كما قال عليه الصلاة والسلام : [ عَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُذْهِبُ اللَّهُ بِهِ الْهَمَّ وَالْغَمَّ ] رواه أحمد [ وصححه في صحيح الجامع 4063 ] .
الرابع عشر : التحدث بنعم الله الظاهرة والباطنة
فإن معرفتها، والتحدث بها ؛ يدفع الهم والغم ، ويحث العبد على الشكر الذي هو أرفع المراتب وأعلاها ؛ حتى ولو كان العبد في حالة فقر ، أو مرض ، أو غيرهما من أنواع البلايا.
فإن العبد إذا قابل بين نعم الله عليه التي لا تحصى ، ولا تعدّ ، وبين ما أصابه من مكروه ؛ لم يكن للمكروه إلى النعم نسبة ، بل المكروه والمصائب إذا ابتلى الله بها العبد ، وأدى فيها وظيفة الصبر والرضى والتسليم ؛ هانت وطأتها ، وخفت مؤنتها ، وكان تأميل العبد لأجرها وثوابها ، والتعبد لله بالقيام بوظيفة الصبر والرضا يدع الأشياء المرة حلوة ، فتنسيه حلاوة أجرها ، مرارة صبرها.
ومن أنفع الأشياء في هذا الموضع : استعمال ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ] رواه الترمذي [ وهو في صحيح الجامع 1507 ] . فإن العبد إذا نصب بين عينيه هذا الملحظ الجليل؛ رأى نفسه يفوق قطعاً كثيراً من الخلق في العافية وتوابعها ، وفي الرزق وتوابعه مهما بلغت به الحال ، فيزول قلقه، وهمه، وغمه ، ويزداد سروره ، واغتباطه بنعم الله التي فاق فيها غيره ممن هو دونه فيها .
وكلما طال تأمل العبد في نِعم الله الظاهرة والباطنة ، الدينية والدنيوية ؛ رأى ربه قد أعطاه خيراً كثيراً ، ودفع عنه شروراً متعددة ، ولا شك أن هذا يدفع الهموم والغموم ، ويوجب الفرح والسرور. [ الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي ] .
الخامس عشر : الانشغال بعمل من الأعمال ، أو علم من العلوم النافعة(/6)
فإنها تلهي القلب عن اشتغاله بذلك الأمر الذي أقلقه، وربما نسي بسبب ذلك الأسباب التي أوجبت له الهم والغم ، ففرحت نفسه ، وازداد نشاطه ، وهذا السبب أيضا مشترك بين المؤمن وغيره ولكن المؤمن يمتاز بإيمانه، وإخلاصه، واحتسابه في اشتغاله بذلك العلم الذي يتعلمه أو يعلمه ، ويعمل الخير الذي يعمله , إن كان عبادة ، فهو عبادة ، وإن كان شغله دنيوياً ، أو عادة دنيوية أصحبها النية الصالحة،وقصد الاستعانة بذلك على طاعة الله، فلذلك أثره الفعال في دفع الهموم والغموم والأحزان ، فكم من إنسان ابتلي بالقلق وملازمة الأكدار ، فحلت به الأمراض المتنوعة، فصار دواءه الناجح : نسيانه السبب الذي كدره وأقلقه، واشتغاله بعمل من مهماته.
وينبغي أن يكون الشغل الذي يشتغل فيه مما تأنس به النفس وتشتاقه ؛ فإن هذا أدعى لحصول هذا المقصود النافع والله أعلم [ الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي ] .
السادس عشر : النظر إلى الجوانب الإيجابية للأحداث التي يظهر منها بعض ما يُكره
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ ] رواه مسلم، وأحمد .
ومن فوائد هذا الحديث : زوال الهم والقلق وبقاء الصفاء والمداومة على القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة، وحصول الراحة بين الطرفين .
ومن لم يسترشد بهذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم،بل عكس القضية، فلحظ المساوىء ، وعمي عن المحاسن ؛ فلا بد أن يقلق ، ولابد أن يتكدر ما بينه، وبين من يتصل به من المحبة ، ويخلّ بكثير من الحقوق التي على كل منهما المحافظة عليها.[ الوسائل المفيدة للحياة السعيدة:ابن سعدي ] .
السابع عشر : معرفة القيمة الحقيقية للحياة ، وأنها قصيرة ، وأنّ الوقت أغلى من أن يذهب في الهمّ والغمّ
فالعاقل يعلم أن حياته الصحيحة : حياة السعادة والطمأنينة ، وأنها قصيرة جداً ، فلا ينبغي له أن يقصرها بالهم ، والاسترسال مع الأكدار ؛ فإن ذلك ضد الحياة الصحيحة ، فيشح بحياته أن يذهب كثير منها نهباً للهموم والأكدار .
ولا فرق في هذا بين البر والفاجر، ولكن المؤمن له من التحقق بهذا الوصف الحظ الأوفر ،والنصيب النافع العاجل ، والآجل . وينبغي أيضا إذا أصابه مكروه ، أو خاف منه أن يقارن بين النعم الحاصلة له : دينية أو دنيوية , وبين ما أصابه من مكروه .
فعند المقارنة يتضح كثرة ما هو فيه من النعم ، واضمحلال ما أصابه من المكاره .
وكذلك يقارن بين ما يخافه من حدوث ضرر عليه ، وبين الاحتمالات الكثيرة في السلامة منها : فلا يدع الاحتمال الضعيف ، يغلب الاحتمالات الكثيرة القوية ؛ وبذلك يزول همه وخوفه ، ويقدر أعم ما يكون من الاحتمالات التي يمكن أن تصيبه ، فيوطن نفسه لحدوثها إن حدثت ، ويسعى في دفع ما لم يقع منها ، وفي رفع ما وقع أو تخفيفه.
اجعل الأمور النافعة نصب عينيك واعمل على تحقيقها، ولا تلتفت إلى الأمور الضارة ؛ لتلهو بذلك عن الأسباب الجالبة للهم والحزن ، واستعن بالراحة وإجماع النفس على الأعمال المهمة. [ الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي ] .
الثامن عشر : ومن الأمور النافعة عدم السماح بتراكم الأعمال ، والواجبات
وذلك بحسمها في الحال ، والتفرغ للمستقبل ؛ لأن الأعمال إذا لم تُحسم ؛ اجتمعت عليك الأعمال السابقة ، وانضافت إليها الأعمال اللاحقة ، فتشتد وطأتها ، فإذا حسمت كل شيء في وقته تفّرغت للأمور المستقبلة بقوة تفكير ، و قوة عمل.
وينبغي أن تتخير من الأعمال النافعة الأهم فالأهم ... وميز بين ما تميل نفسك إليه ، وتشتد رغبتك فيه، فإن ضده يحدث السآمة والملل والكدر...واستعن على ذلك بالفكر الصحيح والمشاورة ، فما ندم من استشار ... وادرس ما تريد فعله درساً دقيقاً ، فإذا تحققت المصلحة وعزمت ، فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين . [ الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي ـ بتصرف ] .
التاسع عشر : التوقع المستمر ، والاستعداد النفسي لجميع الاحتمالات
فإن الإنسان إذا استحضر في نفسه فقد عزيز ، أو مرض قريب ، أو وقوعاً في دين ، أو قهر عدو، أو أي احتمال سيئ مما لم يحدث بعد - مع استعاذته بالله من ذلك ، ورجاء السلامة - فإنه لو وقع له شيء من ذلك حقيقة ، سيكون أهون عليه ، وأخف وطأة ؛ لتوقعه المسبق .
ومما ينبغي التنبّه له : أن كثيراً من الناس من ذوي الهمم العالية يوطنون أنفسهم عند وقوع الكوارث ، والمزعجات على الصبر ، والطمأنينة ، لكن عند الأمور التافهة البسيطة يقلقون ، ويتكدر الصفاء ، والسبب في هذا أنهم وطنوا نفوسهم عند الأمور الكبار ، وتركوها عند الأمور الصغار ؛ فضرتهم ، وأثرت في راحتهم .(/7)
فالحازم يوطن نفسه على الأمور الصغيرة ، والكبيرة ، ويسأل الله الإعانة عليها ، وأن لا يكله إلى نفسه طرفة عين ، فعند ذلك يسهل عليه الصغير ، كما سهل عليه الكبير ، ويبقى مطمئن النفس ، ساكن القلب ، مستريحاً.
العشرون : ومن العلاجات أيضا : الشكوى إلى أهل العلم والدين وطلب النصح والمشورة منهم
فإن نصائحهم ، وآراءهم من أعظم المثبتات في المصائب .
وقد شكى الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يلقون من تعذيب , فهذا خَبَّاب بْن الأَرَتِّ رضي الله عنه يقول : شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ : أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا ؟ قَالَ : [ كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ] رواه البخاري، وأبوداود، وأحمد .
وكذلك شكى التابعون إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول الزبير بن عدي : أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ ، فَقَالَ : [ اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ ] سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رواه البخاري، والترمذي، وأحمد .
فيسمع المسلم من أهل العلم والقدوة ما يسليه ، ويخفف عنه آلام غمومه وهمومه.
ومن هذا الباب أيضا : اللجوء إلى إخوان الصدق ، والأقرباء العقلاء ، والأزواج ، والزوجات الأوفياء ، والوفيات .
من أمثلة ذلك فهذه فاطمة رضى الله عنها لمّا أصابها الهمّ ، شكت إلى زوجها عليٍّ رضي الله عنه ، و إليك قصة ذلك : عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فَاطِمَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا فَوَجَدَ عَلَى بَابِهَا سِتْراً فَلَمْ يَدْخُلْ قَالَ وَقَلَّمَا كَانَ يَدْخُلُ إِلا بَدَأَ بِهَا فَجَاءَ عَلِيٌّ رَضِي اللَّه عَنْه فَرَآهَا مُهْتَمَّةً ، فَقَالَ : مَا لَكِ ؟ قَالَتْ : جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ ، فَلَمْ يَدْخُلْ . فَأَتَاهُ عَلِيٌّ رَضِي اللَّه عَنْه ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَاطِمَةَ اشْتَدَّ عَلَيْهَا أَنَّكَ جِئْتَهَا ، فَلَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهَا . قَالَ : [ وَمَا أَنَا وَالدُّنْيَا وَمَا أَنَا وَالرَّقْمَ ] فَذَهَبَ إِلَى فَاطِمَةَ ، فَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : قُلْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا يَأْمُرُنِي بِهِ ؟ قَالَ : [ قُلْ لَهَا فَلْتُرْسِلْ بِهِ إِلَى بَنِي فُلانٍ ] [ وَكَانَ سِتْراً مَوْشِيّاً ] [أي مزخرفاً منقوشاً] رواه البخاري، وأبو داود، وأحمد .
الحادي والعشرون : أن يعلم المهموم والمغموم أن بعد العسر يسراً ، وأن بعد الضيق فرجاً
فليحسن الظن بالله ؛ فإنه جاعل له فرجاً ومخرجاً ... وكلما استحكم الضيق ، وازدادت الكربة ؛ قرب الفرج ، والمخرج ... وقد قال الله تعالى: } فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [ 5 ] إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [ 6 ] فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ [ 7 ] وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [ 8 ] { سورة الشرح .
فذكر عسراً واحداً ، ويسرين ، فالعسر المقترن بأل في الآية الأولى : هو العسر في الآية الثانية . أما اليسر في الآية الثانية : فهو يسر آخر ، غير الذي في الآية الأولى .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما : [ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ] رواه أحمد [ وصححه الألباني ] .
الثاني والعشرون : ومن علاجات الهموم ما يكون بالأطعمة
فعن عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينِ لِلْمَرِيضِ ، وَلِلْمَحْزُونِ عَلَى الْهَالِكِ ، وَكَانَتْ تَقُولُ : إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : [ إِنَّ التَّلْبِينَةَ تُجِمُّ فُؤَادَ الْمَرِيضِ ، وَتَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ ] رواه البخاري، ومسلم .(/8)
وعَنْ عَائِشَةَ _ أيضا _ رَضِي اللَّه عَنْهَا : أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا ، فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ ، ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلا أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ ، ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ ، فَصُبَّتِ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا ، ثُمَّ قَالَتْ : كُلْنَ مِنْهَا ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : [ التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ ] رواه البخاري، ومسلم .
والتلبينة : هي حساء يعمل من دقيق ، أو نخالة، ويجعل فيه عسل . وسميت تلبينة لشبهها باللبن ، وهي تطبخ من الشعير مطحوناً . ومعنى مُجِمَّة : أي تريح ، وتنشط ، وتزيل الهمّ .
و في رواية للإمام أحمد عنْها قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قِيلَ لَهُ : إِنَّ فُلانًا وَجِعٌ لا يَطْعَمُ الطَّعَامَ قَالَ : [ عَلَيْكُمْ بِالتَّلْبِينَةِ فَحَسُّوهُ إِيَّاهَا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَغْسِلُ بَطْنَ أَحَدِكُمْ كَمَا يَغْسِلُ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ مِنَ الْوَسَخِ ] .
و في رواية للترمذي عَنْها قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَخَذَ أَهْلَهُ الْوَعَكُ أَمَرَ بِالْحِسَاءِ ، فَصُنِعَ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَحَسَوْا مِنْهُ وَكَانَ يَقُولُ : [ إِنَّهُ لَيَرْتُقُ _ وفي رواية لأحمد وابن ماجه : ليرتو _ فُؤَادَ الْحَزِينِ ، و يَسْرُو عَنْ فُؤَادِ السَّقِيمِ كَمَا تَسْرُو إِحْدَاكُنَّ الْوَسَخَ بِالْمَاءِ عَنْ وَجْهِهَا ] ويرتو ، أو يرتق : أي يشدّ ويقوي، ويسرو: أي يكشف .
وهذا الأمر حق وصدق - وإن استغربه بعض الناس - ما دام أنه قد ثبت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ، والله خلق الأطعمة وهو أعلم بخصائصها وبالتالي فإن حساء الشعير المذكور هو من الأغذية المفرحة ، والله أعلم . [ يُراجع زاد المعاد لابن القيم رحمه الله 5/120 ] .
أما عن طريقة طبخه لمريض الجسد ، ومحزون القلب ، فيقول ابن حجر رحمه الله : ولعل اللائق بالمريض ماء الشعير إذا طبخ صحيحاً ، وبالحزين ماؤه إذا طبخ مطحوناً ، والله أعلم . [ انظر فتح الباري ]147.
وقد لخص ابن القيم هذه الأدوية ، والعلاجات في خمسة عشر نوعاً من الدواء يذهب الله بها الهم والحزن وهي :
الأول: توحيد الربوبية.
الثاني: توحيد الإلهية.
الثالث: التوحيد العلمي الاعتقادي _ وهو توحيد الأسماء والصفات _.
الرابع : تنزيه الرب تعالى عن أن يظلم عبده ، أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك .
الخامس: اعتراف العبد بأنه هو الظالم.
السادس : التوسل إلى الرب تعالى بأحب الأشياء ، وهو أسماؤه وصفاته ، ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات : الحي القيوم.
السابع : الاستعانة به وحده .
الثامن : إقرار العبد له بالرجاء .
التاسع : تحقيق التوكل عليه ، والتفويض إليه ، والاعتراف له بأن ناصيته في يده ، يصرفه كيف يشاء ، وأنه ماض فيه حكمه ، عدل فيه قضاؤه .
العاشر: أن يرتع قلبه في رياض القرآن ، ويتعزى به عن كل مصيبة ، ويستشفي به من أدواء صدره ، فيكون جلاء حزنه ، وشفاء همه وغمه .
الحادي عشر : الاستغفار.
الثاني عشر: التوبة.
الثالث عشر : الجهاد.
الرابع عشر : الصلاة.
الخامس عشر : البراءة من الحول ، والقوة ، وتفويضهما إلى من هما بيده.
نسأل الله تعالى أن يعافينا من الهموم ، وأن يفرج عنا الكروب ، ويزيل عنا الغموم إنه هو السميع المجيب، وهو الحي القيوم.
وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله، وصحبه خير قوم ، والحمد لله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم .
ملخص من كتيب : علاج الهموم
المؤلف : الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق(/9)
عفوا هل أنت رجل؟!!
مفكرة الإسلام: هل استفزك العنوان فأردت معرفة المقصود؟ الواقع أني لم أقصد بكلمة 'رجل' المعنى العام المتعارف عليه في الأذهان للرجال الذي هو ضد 'الإناث', ولكن ما قصدته هو معنى آخر للرجولة, معنى يسمح للفتى الصغير الذي لم يبلغ الحلم بعدُ بالانتساب إليه, وقد تعجب إذا علمت أن للفتيات أيضًا الحق الكامل في الانتساب لمفهوم تلك الكلمة, فهل أصابك العجب حقًا الآن؟ ربما, على كل حال قبل أن نعرج على المفهوم الرباني لمعنى الرجولة تعالَ معي لنتعرف على ما تعنيه هذه الكلمة في معجم أغلب شباب أمتنا إلا من رحم الله وهم قليل:
فأكثر الشباب اليوم يعتقدون أن:
1- الرجل هو المدخن:
وهذا المفهوم للأسف الشديد انتشر كثيرًا وترسخ في أذهان العديد من شباب الأمة, بل وأطفالها إذا أردنا أن نكون أكثر تحديدًا, وتتعدد العوامل والوسائل التي تنشر مفهوم أن الطريق إلى الرجولة بالتدخين, ومن هذه العوامل أن التدخين يعتبر في غالب المجتمعات الإسلامية:
وسيلة لتصريف الضيق والكآبة والتخفيف عن النفس.
وسيلة للإحساس بالذات والنضج وتقليد الكبار.
وسيلة للامتناع عن الغضب الشديد بارتكاب ما يظنه المدخن جريمة فينفس عنها بالتدخين.
كل هذه التصورات المسبقة تتم زراعتها في المجتمع عبر وسائل الإعلام حيث ينطلق البطل الذي تنجذب إليه الأبصار للتنفيس عن غضبه إلى التدخين, ثم يظهر أنه يهدأ بذلك أو يهديه تفكيره وهو يدخن - أي في لحظة تركيزه بفضل التدخين بالطبع - إلى الحل الذي لا مثيل له, ومن وسائل الاستزراع في العقليات لشباب الأمة وشاباتها ما يتناقله الكبار من هذه المفاهيم فيما بينهم, وما يظهر منهم من سلوكيات تؤكدها وتدعمها.
2- الرجل هو الذكر صاحب الصوت المرتفع:
وهكذا في كل الأمور لا ترى منه إلا صوتًا مرتفعًا, فبه تحل المشاكل ويعرف الناس مكانته بعلو صوته, ويخشاه كل من حوله, فتراه لا يتفاهم في أمر إلا ويحسمه بحنجرته لا بعقله, وهو قادر على أن يتغلب على الجميع.
3- الرجولة انحراف:
لكي تكون رجلاً لا بد أن تكون منحرفًا, فلسانك مثلاً لا يترك مخلوقًا في حاله, وهو كذلك مبدع في ناحية اختراع القذارات والإهانات لبني البشر, ويداك لا تسكن مكانها, بل هي أداة بطش مستمرة لا تتوقف عن العمل والإيذاء, وعينك لا تترك امرأة تعبر إلا وتمر تحت أجهزة استشعارك الدقيقة, وكذا كل جارحة من جوارحه تقوم بدورها في رسم صورة الانحراف للحصول على لقب الرجولة المستحق عن جدارة.
4- الرجل هو صاحب العلاقات العاطفية [الدون جوان] صائد الفتيات:
الرجل هو صاحب القدرة العالية على الإيقاع بالفتيات في حبائله, الذي لا يباريه أحد في سرعة هذا الإيقاع, وسرعة الحصول على ما يريد من الفتاة بدافع وهم الحب والهيام, أو هو الباحث عن الحب العفيف الرومانسي الحالم هو الباحث عن عبارات الحب والذوبان التي تؤكد رجولته من أمثال: 'لا يمكنني العيش بدونك', 'أنت الرجل الذي كنت أبحث عنه طول حياتي', 'أنت تملأ خيالي طول الوقت ولا أتوقف عن التفكير فيك', وغير ذلك من العبارات المعسولة 'أي المنقوعة في العسل, وهي ليست كذلك على الحقيقة, فمن الواضح أن هذا العسل مستخرج من زهرة الحنظل على ما يبدو, إن كان للحنظل زهرة, هذه العبارات المعسولة يهرع إليها الشاب كلما أراد تغذية شعوره الداخلي بالرجولة, وقد تكون الرجولة عند البعض فيما يتعلق بالفتيات في القدرة على الزنا بهن ومواقعتهن والتنافس بين الشباب على ذلك, وهذه لا تختلف كثيرًا عن أيام الجاهلية الأولى وعن صور معيشة المجتمع الغربي في أيامنا هذه في التسابق والمنافسة على التدني إلى الصورة الحيوانية أي الشباب الأسرع.
5- الرجل هو صاحب المواقف الرجولية وتحمل المسؤولية 'الجدع':
وهو مفهوم للرجولة رفيع ومحترم, فالرجل الذي تجده وقت الحاجة وتطلبه في المهمات هو المتحقق لمعاني الرجولة, وهو وإن كان مفهومًا يحمل قدرًا من الصحة والصواب ويلتقي مع المفهوم الرباني للرجولة في جزئية تحمل المسؤولية وخلافها, إلا أنه يختلف عنه في كيفية التعبير عن هذا المفهوم وتطبيقه, بالإضافة إلى أننا نواجه مشكلتين تجاهه في الواقع هما:
أنه ليس منتشرًا بين شباب الأمة بهذه الدرجة بحيث نتوقع أن المسافة بين مفاهيم الرجولة المنتشرة والمفاهيم السليمة مسافة قريبة يمكن اجتيازها بسهولة, بل المفاهيم الأخرى السابقة هي السائدة حقًا في أغلب مجتمعاتنا الإسلامية.
أن هذا المفهوم لا ضابط له يضبطه, فهو يتغير من مجتمع لآخر ومن وسط لآخر, فلا بد من ضبطه بالمفهوم الرباني للرجولة.
أما الرجال كما عرفهم رب البرية جل وعلا فلهم علامات أخرى أبلغنا إياها ربنا في كتابه:(/1)
قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36, 37].
في هذه الآية يأتي الخبر من الله تعالى أن الرجل هو الذي لا تلهيه تجارته ولا بيعه عن أداء حقوق الله تعالى من ذكر وصلاة وزكاة, ولاحظ معي أن التجارة والبيع من المباحات وليست مما حرمه الله تعالى على عباده, ولكن هذا لم يكن سببًا لمنع وصف من ألهته المباحات عن أداء واجب الله بأنه انتقص من معنى الرجولة بقدر ما انتقص من الواجب عليه, فما بالنا بمن تلهيه المحرمات؟ ما بالنا بمن تلهيه المسلسلات والأفلام؟ ما بالنا بمن تلهيه مطاردة الفتيات وملاحقتهم؟ بل ما بالنا بمن تلهيه المباريات؟ هل هذا رجل بالمقياس الرباني؟
وقال تعالى في ملمح آخر من ملامح الرجولة القرآنية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
وهنا يظهر النص القرآني الرجل على أنه الذي يصدق الله تعالى فيما عاهد الله تعالى عليه, ولكي يتضح مفهوم الآية لا بد من ذكر سبب النزول, فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن ثابت قال: 'عمي أنس بن النضر لم يشهد مع النبي صلي الله عليه وسلم يوم بدر, فشق عليه [كان صعبًا عليه] وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه!! والله لئن أراني الله تعالى مشهدًا آخر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع! قال: فهاب أن يقول غيرها, فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد, فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال له أنس: يا أبا عمرو واهًا لريح الجنة, إني لأجده دون أحد!! قال: فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه, قال: فوجد في جسده بضع وثمانون ضربة, بين طعنة رمح وضربة سيف ورمية سهم, فقالت أخته الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه, قال: فنزلت هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ...}.
تُرى هل أدركنا الآن معنى الرجولة الحقيقية؟ ومن هم الرجال عند الله تعالى؟ ترى أين تقف مفاهيم الرجولة السابقة أمام هذه المفاهيم الربانية, فالرجولة التزام بأمر الله تعالى والعهد الذي يقطعه العبد على نفسه, وبذا يستحق من دفع ثمن هذه الرجولة هذا الجزاء المبارك الذي عقب الله تعالى به على الآية الثانية فقال تعالى: {... لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. وعدهم الله تعالى أن يجازيهم عما يفعلون من الخيرات بل ويزيدهم من فضله, فهنيئًا لمن كان هذا مقامه, وبادر أخي الحبيب بالحركة لتحصيل هذا المقام العالي من الشرف وأنت له أهل بإذن الله تعالى.
مشهد الختام:
وختامًا, هذا مشهد لفتيان حدثان لم يتجاوزا الخامسة عشر من عمرهما, إنهما فتيان خلد الإسلام ذكرهما لأنهما قتلا رأس الكفر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أبا جهل لعنة الله عليه, أسوقها لأؤكد لك أخي الشاب العزيز أن الرجولة فعل أكثر منها سن تبلغه فنهنئك بالوصول إليه, وها هي:
قال عبد الرحمن بن عوف: '... إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت, فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن, فلم آمن بمكانهما, إذ قال لي أحدهما سرًا: يا عم أرني أبا جهل, فقلت: ولم يا ابن أخي ما تصنع به؟ قال: سمعت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم, والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده [ظلي ظله] حتى يموت الأعجل منا. فتعجبت لذلك!! وغمزني الآخر فقال لي مثلها, فلم أنشب أن رأيت أبا جهل يجول في الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه, قال: فابتدراه فضرباه حتى قتلاه, ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما: أنا يا رسول الله, فقال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا, فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السيفين فقال: كلاكما قتله. [والفتيان هما معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء].
لا بد في الختام من العود على بدء أخي الحبيب فعفوًا ... هل أنت رجل؟
أنا على يقين من أنك في الطريق لاستكمال معاني رجولتك بحياتك لأمتك وصلاح نفسك.
وإلى لقاء قريب بإذن الله تعالى, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إعداد: فريق الاستشارات التربوية بموقع مفكرة الإسلام(/2)
عقاب الفطرة
أ. د. عماد الدين خليل 12/5/1426
19/06/2005
بموازاة الهجوم الذي فرضه "الحجاب" والظاهرة الإسلامية عموماً في ديار الغرب، تلقّت الحياة الغربية في مسألة المرأة والأسرة هجمات لا تقل إلحاحاً، انطلقت هذه المرة من مطالب الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والسنن التي ركزها الخالق سبحانه في لحمة الخلق، والتي اعتدي عليها وأُريد لها أن تنحرف عن مسارها الأصيل، إلى الحد الذي تصير فيه فلسفة امرأة كالأديبة الفرنسية المعروفة (سيمون دو بوفوار) (وسنعتمد مفرداتها بالحرف): " إن المرأة لاتخلق امرأة بل تصبح امرأة. فليس هناك مصير بيولوجي او نفسي او اقتصادي يحدد الدور الذي تؤديه انثى البشر في المجتمع. إن المدنية ككل هي المسؤولة عن انتاج هذا الكائن الذي يوصف على أنه أنثوي" !!
أي تبديل هذا لخلق الله؟ وأي منطلق يتناقض ابتداء مع التفرد المؤكد للمرأة على المستويات البيولوجية والنفسية والاجتماعية؟ وهو التميّز الذي يؤكده كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ويتعاملان معه من أكثر من زاوية ، ليس من أجل وضع (الأنثى)
في درجة أدنى من الرجل، وإنما من أجل الاستجابة لطبيعة مطالبها الأساسية ووظيفتها الأولى، وهو الأمر الذي يجعل المرأة على المستوى الإنساني، ليس فقط في حالة توازٍ مع الرجل يكمل من خلاله أحدهما الآخر. بل إن المرأة قد تحتل موقعاً أعلى من الرجل في كثير من الحلقات الأساسية للحياة البشرية، كما يُلحظ من معطيات هذا الدين في العقيدة والتشريع والسلوك على السواء.
وعلى أية حال فإن (سيمون دوبوفوار) انسياقاً وراء نزوعها المضاد للأنثى، فضّلت أن تظل عشيقة لرفيقها (جان بول سارتر) لمدى نصف القرن على أن تصير زوجة له، عندما طلب منها الزواج، معتقدة ان العلاقة التي تجمعهما كانت أقوى وأهم من "ورقة" تحدّد هذه الرابطة!
بل إنها اصطرعت مع (الأنثى) باتجاه آخر لايقل خطورة، فإذا كانت في الحالة السابقة ترفض الرابطة الزوجية التي هي أساس كل علاقة إنسانية بين الرجل والمرأة، فإنها في الحالة الثانية رفضت أن تصير المرأة أماً وأن تكون كائناً يحرس استمرارية الحياة بحكم قوانين الفطرة. ففي عام 1971 وقعت مع (340) امرأة بياناً يفيد بخضوعها لعملية إجهاض تحدّياً للقانون الفرنسي آنذاك، والآن لندع (سيمون دوبوفوار)، ولنتحدث بمنطق الأرقام الذي ينطوي على مصداقيته بقوة "الاحصاء".
بين يدي أرقام تستند إلى دراسات استطلاعية قام بها (معهد سامبل) في المانيا، وإلى دراسات أخرى نُفّذت بتكليف من وزارة الأسرة والشباب في ألمانيا، فضلاً عن منشورات الدائرة الاتحادية للإحصاء، وهي من إعداد الأستاذ (نبيل شبيب)، وقد نشرها في تقرير
" قضايا دولية" التي تصدر في إسلام أباد (العدد 249 أكتوبر 1994 م):
1-تناقص عدد الزيجات منذ عام 1950 إلى عام 1992 بمعدل 25 % ، وازدادت معدلات الطلاق بنسبة 16% وصلت إلى 34% من حالات الزواج بمجموعها.
2- 25% من الأمهات دون أزواج. ويعيش 25 % من الأطفال دون أم أو دون أب . ويولد 25 % من الأطفال دون زواج.
3- يعيش حوالي (12) مليون شخص على انفراد من أصل (80) مليون نسمة.
4- وصلت نسب "أسر المعاشرة" إلى أسر الزواج إلى حوالي 10 %.
5- يوجد (8.6) ملايين وحدة أسروية دون أطفال و (5.2) ملايين بطفل واحد من أصل (35) مليون وحدة أسروية .
6- 90% من فئة أعمار (20 – 30) سنة يؤكدن الرغبة في الإنجاب.
7 - 56% من المتزوجين والمعاشرين يريدون إنجاب طفلين على الأقل.
8 - 26% لا يتمكنون من إنجاب أكثر من طفل واحد.
9 - 25% يعللون عدم الإنجاب بالعمل و 25% بتضييق الحرية الشخصية
و 27% بسبب الأعباء المالية.
10 - رغم الإباحية فإن:
- حالات الاغتصاب السنوية التي تم التبليغ عنها للسلطات (6300).
- التقدير الرسمي لحالات الاغتصاب دون تبليغ (200) ألف.
- حالات التحرش دون التبليغ غير قابلة للتقدير.
- حوادث الاعتداء الجنسي على الأطفال المعروضة أمام القضاء (16500).
- التقدير الرسمي لحوادث الاعتداء الجنسي على الأطفال دون وصولها إلى القضاء (300) ألف.
- (11- 5) ملايين امرأة أو 33% من النساء المتزوجات والمعاشرات يتعرضن للضرب من الزوج أو العشير. وتصل حوادث الاعتداء بالضرب الذي يترك آثاراً جسدية دائمة على الأطفال إلى (300) ألف سنوياً، ويموت أكثر من ألف سنويا "ضرباً".
12- تقول دراسة جامعية: إن متوسط توزيع وقت الأم أو الأب يومياً يتضمن ما يعادل (30) دقيقة للمكالمات الهاتفية و خمس ساعات للهوايات".
**********(/1)
لنترك الآن ظاهرة دمار الحياة الأسرية، وضياع المرأة، وتحوّلها إلى آلية للمتعة الصرفة أو الربح السريع، وهوانها على نفسها وعلى الآخرين، فهذه مسألة معروفة تماماً. ولنقف لحظات عند اثنتين من الهجمات المضادة الأكثر حداثة: ندرة المواليد وتعرض ديموغرافية الغرب للانكماش، ووباء الإيدز الذي يهدّد بافتراس الرجال والنساء معاً ممن تجاوزوا الإشارات الحمراء التي ركزت في فطرتهم، وانحدروا في تيار الشهوة، ومالوا بالإنسان الميل العظيم الذي حذّر منه كتاب الله: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) [النساء:27] ومن بين التقارير والبحوث والتحذيرات العديدة التي كتبت عن المسألة الأولى أكتفي بهذا التقرير الذي أعلنته وكالة (رويتر) في واشنطن والذي ينطوي على دلالته الواضحة في هذا المجال: "اذا كان السيد بن واتنبيرغ على حق، فإن النساء اللائي يفضلن الاهتمام بعملهن أكثر من إنجاب الأطفال، سيكن السبب في فصم عُرى المجتمع الصناعي الغربي".
ان المشكلة - في تحليله - تتمثل في تناقض منتظم في معدل المواليد في الدول الصناعية الغربية، الأمر الذي يمكن أن يقوّض هذه المجتمعات(وإذا لم يتغير هذا الاتجاه فسينتهي أمرنا) .. وما أراه جديراً بالاهتمام لدرجة كبيرة هو مدى نقص وعي الناس به بالرغم من أهميته واستمراره لفترة طويلة للغاية.. إن كندا وأوروبا الغربية واليابان واستراليا ونيوزيلندا و (إسرائيل) وايسلندا تعاني كلها من مشكلة ندرة المواليد، وتحتاج إلى اتباع سياسات تحفز السكان على الإنجاب. أما عن الولايات المتحدة فيقول مكتب التعداد:
إن (65) طفلاً فقط ولدوا لكل (1.000) امرأة في سن الإنجاب عام 1986، وهو أدنى مستوى في تاريخ الولايات المتحدة، وقد تناقص معدل الخصوبة فيها من مستوى عال سُجل
سنة 1957 م، وبلغ (3.77) ليصل إلى أقل من (2.1) عام 1972، وهو المستوى الضروري ليبقى عدد السكان ثابتاً. ومنذ ذلك الحين ومعدل المواليد حول رقم (1.8)، ويقول (واتنبيرغ) الذي يكتب عن الاتجاهات السكانية منذ (25) عاماً، وأصدر كتاباً بعنوان "ندرة المواليد": (أمامنا في الغرب جيل واحد لنفهم المشكلة أولاً ثم نعكس هذا الانهيار الاختياري في معدلات الخصوبة، وإلاّ فسوف ندفع الثمن.. وأيا كان التحليل الصحيح لأثر الظاهرة فبالنظر إلى الانفجار السكاني المستمر في معدل المواليد في العالم الثالث، فربما يمثل سكان دول الغرب 9% فقط من سكان العالم عام 2025 بالمقارنة مع 15% في الوقت الحاضر، و 22% في 1950. ويعزو الخبراء تناقص معدلات الخصوبة في الغرب إلى مجموعة من الأسباب المختلفة، منها: تزايد عدد النساء العاملات خارج البيت، وتناقص معدلات الزواج، وارتفاع معدلات الطلاق .. وتوافر وسائل أفضل لمنع الحمل وإباحة الإجهاض ... ومن بين الدول المتقدمة فإن الحكومة الفرنسية هي الأكثر نشاطاً في تشجيع الإنجاب حتى إنها تنشر إعلانات تحمل صورة طفل كُتب تحتها: فرنسا تحتاج إلى أطفال".
أما غزو الإيدز (أو مرض فقدان المناعة المكتسبة) فالحديث عنه يطول وموجة الموت والتآكل والفناء تنداح بسرعة رهيبة في ديار الغرب لكي تأتي على حشود الرجال والنساء الذين جرفتهم الشهوات، واندفعوا فيما وراء حافات الإشباع باتجاه بؤر الإسراف والشذوذ.
الإحصائيات كثيرة، وهي تزداد كماً يوماً بعد يوم .. إحداها تذكر أن المصابين في البرازيل وحدها عام 1992 تجاوزوا الربع مليون، وإن هذا العدد آخذ في الازدياد بمعدلات سريعة، وثمة باحثون في الحكومة الأمريكية ذكروا لصحيفة نقباء الأطباء الأمريكية في
عام 1991 أن نسبة النساء بين مرضى الإيدز في الولايات المتحدة قد زاد على عشرة في المائة. فقد ارتفعت النسبة هناك من 6.6 % في عام 1985 إلى 11.5 % في عام 1990 م، وكان من بين مرضى الإيدز المسجلين مع نهاية عام 1990 والذين بلغ عددهم (158279) شخصاً، 10% أو 15492 من النساء. وقد أصيب 51 % من النساء نتيجة المشاركة في الحقن بالوريد عند تعاطي المخدرات، بينما أصيب 29 % منهن بالمرض عن طريق المعاشرة الجنسية.
وثمة هجوم مضاد من محور آخر، لتطويق الشطط والانحراف الذي قاد الحياة الغربية في قضية المرأة والأسرة إلى الميل العظيم، بقوة التنطير والادعاءات العلمية، ويتمثل هذا الهجوم بسلسلة من البحوث والكشوف العلمية التي تناولت أحد أدعياء النبوة الكاذبين. (سيكموند فرويد) صاحب النظريات المعروفة في (التحليل النفسي) .
هاهو ذا فرويد الذي مارس لأكثر من نصف القرن في ديار الغرب والشرق معاً دور (العرّاب) الذي برّر وبارك كل صيغ الانفلات والشذوذ في المسألة الجنسية وقضية المرأة والأسرة عموماً .. هاهو ذا يتعرض منذ عقود عديدة، وأحيانا من تلامذته أنفسهم، لسهام النقد العلمي الذي كاد يأتي على نظرياته، في جل حلقاتها الأساسية، من القواعد.(/2)
هاهنا يطول الحديث ويمكن - من ثم - الاكتفاء بشاهد واحد أكثر حداثة يتمثل بتلك البحوث (السيكولوجية) التي أنجزها البروفيسور (هانز ايزينك) على مدى ثلاثين عاماً، وكان آخرها كتابه الموسوم بـ (تدهور وسقوط الإمبراطورية الفرويدية) الذي يُعدّ الضربة القاضية للتحليل النفسي.
ولقد أوضح (ايزينك) في بحوثه كافة، وفي كتابه الأخير -على وجه الخصوص- أن العلاج النفسي المبني على التحليل النفسي لاينطوي على قيمة تُذكر، وأن فرويد لم يكن عبقرية علمية، بل عبقرية اتقنت فنون الدعاية وأساليبها، وأنه كان يتميز بمقدرة لغوية كبيرة أعانته على نحت مفردات ومصطلحات جذابة مثل (عقدة أوديب) أو (مبدأ المتعة) وهذه بدورها جعلت من سرده الجديد لقصة قديمة جذاباً ومثيراً ، وبخاصة لأولئك الذين يفتقرون إلى معرفة علمية في موضوع علم النفس.
إن ما كان جديداً في أعمال فرويد - والرأي للبروفيسور ايزينك - لم يكن حقيقياً، وما كان حقيقياً لم يكن جديداً، وإن فكر فرويد لايتضمن شيئاً سوى تفسيرات خيالية لأحداث زائفة وإخفاقات علاجية ونظريات لامنطقية، واستعارات فاضحة غير معترف بها (واستبصارات) خاطئة.
ويقدم كتاب ايزينك طروحات قيمة مثل تأكيده على أهمية علم الوراثة في السلوك، وهو الدور الذي حاول التحليل النفسي إغفاله .. باختصار شديد فإن عشاق فرويد - في التحليل النهائي لقناعات ايزينك - هم ضحايا الدعاية وتضليل الذات.
ومن بعد فرويد جاء دور الوجودية الإلحادية التي كان سقوطها هذه المرة بصيغة دراماتيكية على يد مؤسسها نفسه (جان بول سارتر) عبر لقائه الأخير مع عشيقته (سيمنو دو بوفوار) في نيسان عام 1980 م، وإذ كان للوجودية دورها هي الأخرى في تأكيد "الميل العظيم" في علاقات الرجل بالمرأة، وتبريرها باسم ضرورات التحقق الذاتي وحرية
الاختيار، فإن لنا أن نتصور كيف كان انهيارها بمثابة هجوم آخر من الهجمات التي تستهدف المعطيات المضادة للفطرة، والتي تطلّ دائماً من تحت الأتربة والأنقاض لكي تعيد للحياة البشرية ألقها المنطمس وتوازنها المفقود.
وفي هذا السياق نفسه يمكن اعتبار سقوط الماركسية وعودة النبض الديني إلى الحياة الغربية ضربة أخرى لدعاة الميل العظيم وأنبيائه الكذبة، وتنظيراته الشاملة، ودعوة ملحة للعودة إلى الطهر والنظافة والاحتشام التي تليق بكرامة الإنسان وتفرده على الخلائق، وتنسجم مع مطالب الحياة البشرية المتوحدة الآمنة.
ففي غياب الدافع الديني لن يقوم - بحال من الاحوال - مجتمع نظيف متوازن مستقر، وبانهيار هذا الدافع يجيء الزهري والإيدز فيأكلان الاخضر واليابس، ولايأمن الزوج على زوجته، ولا هذه على زوجها .. ويتكاثر أولاد الحرام فلاتكاد تستوعبهم المحاضن والملاجئ، ويصير الفعل الجنسي المحرم نزوة عابرة يتحتم إطفاؤها سريعاً كما يشرب الإنسان العطشان كاساً من الماء، فيما قالت به يوماً تنظيرات الماركسية البائدة في بدايات تشكل الاتحاد السوفياتي المنحلّ على يد عالم النفس الماركسي المعروف (ولهلم رايخ) فيما دفع (لينين) نفسه بعد سنتين فحسب، إلى أن ينهض محتجاً ويدعو إلى الاحتشام والتعفف واحترام قوانين العائلة، وإلاّ أصبح الجيل التالي من الروس وأتباعهم كله من أولاد الحرام!!(/3)
عقبات على طريق الدعوة
يتناول الدرس أهم العقبات التي تواجه الدعاة إلى الله، ومنها مخططات أعداء الإسلام في الخارج والداخل، ومحاولة القضاء على القرآن الكريم، وتشويه وتحريق التاريخ والفكر الإسلامي، والقضاء على وحدة المسلمين إلى غير ذلك مما ذكره من عقبات .
إن طريق الدعوة طريق الأنبياء والمرسلين , وطريق العاملين والدعاة الصديقين، وهو طريق وعر شاق طريق مليء بالعقبات، وأهم هذه العقبات ما يلي :
العقبة الأولى : أعداء الإسلام في الخارج والداخل :
فهو مستهدف من قبل أعدائه الذين لا يتفقون على شيء قدر اتفاقهم على القضاء على الإسلام، ولم يدعوا سبيلاً إلا وسلكوه ، ومن هذه السبُل ما يلي:
أولاً: القضاء على الحكم الإسلامي متمثلاً في الخلافة .
وقد نجحوا بالفعل في القضاء على الخلافة الإسلامية وفصل الدين عن الدولة في أوئل هذا القرن على يد [كمال أتاتورك] في معاهدة لوزان عام 1922م ، وكانت بنود هذه المعاهدة التي اشترطها ووضعها [كرزون] وزير خارجية انجلترا هي كما يلي:
أولاً: إلغاء الخلافة [الإسلامية] إلغاءً تامًا , وطرد الخليفة السلطان عبدالحميد رحمه الله خارج الحدود ومصادرة أمواله.
ثانيًا: إعلان علمانية الدولة؛ أي فصل الدين عن الدولة .
ثالثًا: أن تضمن تركيا تجميد وشلّ حركة جميع العناصر الإسلامية الباقية.
رابعًا: أن يستبدل الدستور العثماني القائم على الإسلام بدستور مدني وضعي بحت.
ووقع المعاهدة عن دولة الخلافة المهزومة العميل الخائن [عصمت إينونو] وأصدر قوانينًا تقطع علاقة الأتراك بدينهم؛ منها:
1 - إلغاء الزي الإسلامي، واستبداله بالزي الغربي.
2 - وجوب لبس القبعة التي كانت رمزًا أجنبيًا.
3 - استبدال تحية الإسلام [السلام عليكم ورحمة الله] بخلع القبعة أو بالانحناء كما يفعل أربابه الغربيون!!
4 - إلغاء تدريس العلوم الشرعية.
5 - يرفع الأذان باللغة التركية وليس بالعربية.
6 - تسوية المرأة بالرجل في الميراث.
7 - إلغاء نظام تعدد الزوجات.
8 - استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية.
9 - ألغي يوم الجمعة كعطلة رسمية، وجعل بدلاً منه [يوم الأحد].
ثانيًا: القضاء على القرآن الكريم .
فهو الذي حول المسلمين في أرض الجزيرة من رعاة لغنم إلى سادة وقادة لجميع الأمم؛ لذا لم يدخر أعداؤنا وسعًا في القضاء عليه , لا على آياته أو كلماته أو حروفه، ولكن بالحيلولة بينه وبين واقع المسلمين , وتحويله إلى أحجبة وتمائم أو إلى مجرد كتاب يقرأ فقط ؛ لا إلى كتاب حكم وتشريع يجب على الأمة أن تنفّذ أوامره.
وهاهو المنصّر الصليبي الحقود [كاتلي] يقول: [يجب أن نستخدم القرآن وهو أمضى سلاح في الإسلام ضد الإسلام نفسه حتى نقضي عليه تمامًا , يجب أن نبيّن للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديدًا، وأن الجديد ليس صحيحًا] .
ويقول المنصّر الصليبي [وليم جيفورد بالكراف] : [متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب؛ يمكننا أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيدًا عن محمّد وكتابه].
بل وأعلنها [جلار ستون] رئيس وزراء انجلترا ـ سابقًا ـ صريحة فقال: [ما دام هذا القرآن موجودًا في أيدي المسلمين ؛ فلن تستطع أوربة السيطرة على الشرق ولا أن تكون هي نفسها في أمان] , ويقول نفسه في إحدى خطبه: [إن هناك أربعة عقبات أمامنا للقضاء على الإسلام؛ وهي: المصحف والكعبة والأزهر وصلاة الجمعة] . ولكن ] وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[21] [ سورة يوسف .
ثالثًا: تشويه وتحريق التاريخ والفكر الإسلامي.
لفصل المسلم عن تاريخه ولتشكيكه في انتمائه ولزعزعة عقيدته نشطوا نشاطًا كبيرًا جدًا في إحياء الأفكار الهدّامة التي تشوّه صفحة التاريخ والفكر الإسلامي , ومن هذه الأفكار الخطيرة التي روجوا لانتشارها ما يلي:
1-إحياء الفكر الوثني الإلحادي.
2-إحياء الفكر الفلسفي في جانب التوحيد والدعوة إلى وحدة الوجود والحلول والإشراق وغيرها.
3-إحياء الفكر الشعوبي الباطني الخبيث وتجديد التفسير للقرآن الكريم من خلاله.
4-إحياء فكر القرامطة.
5-إحياء الفكر المعتزلي.
6-تزييف كتابة التاريخ الإسلامي.
رابعًا: القضاء على وحدة المسلمين .
وذلك ببث روح التناحر والتنازع على الحدود وإحياء روح العنصرية الجاهلية البغيضة لا بين الشعوب الإسلامية وبعضها فحسب؛ بل وبين أبناء الشعب الواحد، ويحشد هذه المعاني المنصّر الصليبي [لورانس براون] فيقول: [إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطرًا ، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذٍ بلا وزن ولا تأثير].
خامسًا: الدعوة إلى الإباحية المطلقة لهدم الأسرة المسلمة وتدمير الأخلاق.(/1)
وفي إحدى البروتوكولات الصهيونية : [يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل مكان ؛ فتسهل سيطرتنا , إن [فرويد] سيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس لكي لا يبقى في نظر الشباب شيء مقدس، ويصبح همه الأكبر إرواء غرائزه الجنسية , وعندئذٍ تنهار أخلاقه].
العقبة الثانية: الهزيمة النفسية أمام تحديات العرف الفكري:
توالت هجمات وحملات الصليبيين المتكررة على المسلمين التي لم تزد المسلمين إلا عزمًا وفشل أسلوب الحديد والنار , ومن ثم فكّر أعداء الإسلام في أسلوب جديد , فحلّ محله الغزو الفكري الذي نجح في أن يوجد جيلاً فُرِّخ في مدارس أعداء الدين , ثم أدى دوره بدقة وأمانة ؛ فمسخ هوية الجيل المسلم وزرع بذور التشكيك والإلحاد والتحرر، ونقل عبيد الغرب هذه الحضارة بكل ما فيها من حلو ومر وخير وشر على أنها وحدها فقط هي سر الحياة وقارب النجاة , وحتى ننطلق انطلاقة صحيحة للقضاء على هذه العقبة؛ فإنه يجب علينا:
1- غرس العقيدة الصحيحة الشاملة من كفر بالطواغيت والأنداد والأرباب والآلهة، وصرف العبادة بجميع أجزائها لله وحده.
2-رد المسلم إلى هويته وانتمائه.
3-أن يكون على يقين أن دولة الإسلام وإن فرضت واعتراها الركود إلى فترات طويلة فإنها لا تموت بإذن الله.
4-العودة مرة أخرى إلى ميادين الحياة لتحويلها إلى واقع عملي حي يشهد للإسلام والمسلمين شهادة عملية؛ وذلك بإعداد الكوادر المسلمة المتخصصة المتقنة في كل مواقع وميادين الإنتاج.
العقبة الثالثة: كثرة أهل الباطل وظهورهم وقل أهل الحق وابتلاؤهم:
وهذا لا شك من أخطر العقبات وأشد الفتن التي تواجه أهل الحق ؛ فهم يرون إقبال الدنيا على المبطلين , ويرونهم ناجحين مرموقين تهتف لهم الدنيا في الوقت الذي يتعرض فيه أهل الحق للأذى والفتن والابتلاء حقًا , إنها فتنة كبيرة قد تعصف بالقلوب القلقة , ولا يثبت لها إلا أصحاب القلوب الحية السليمة العامرة بالإيمان واليقين , ولا بد لأهلها من إعداد خاص , وهذا الإعداد لا يتم إلا بـ:
بالصبر الجميل على جميع الفتن والابتلاءات.
الثقة المطلقة في نصر الله جل وعلا لأهل الحق وإن كانوا قلة , فليست الكثرة دليلاً على الحق أبداً ,
قال سبحانه: ] وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ …......[116][ سورة الأنعام ، وقال سبحانه: ] وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ[103] [ سورة يوسف ، وقال سبحانه: ] إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ[243][ سورة البقرة , وفي الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال [ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطَ وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلَ وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ] رواه البخاري ومسلم , وفي الحديث الصحيح عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ] رواه البخاري وابن ماجة وأحمد ومالك والدارمي , ورحم الله الحسن البصري إذ يقول: [ السنة والله الذي لا إله إلا هو بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله؛ فإن أهل السنة كانوا أقلّ الناس فيما بقي ].
العقبة الرابعة :حب الدنيا وكراهية الموت:
من يوم أن تمكن هذا الداء في الأمة ـ إلا من رحم ربك ـ ذلت الأمة وهانت على جميع الأمم؛ بل وتجرّأ عليها الذليل قبل العزيز وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [ يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ] رواه أحمد.
العقبة الخامسة : اتبع الهوى:(/2)
وهذه هي القاصمة التي تصم الآذان عن سماع الحق ، وتعمي الأبصار عن رؤية الدليل ولو كان صحيحًا ] وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ......[50][ سورة القصص , والخطورة هذا الداء العضال حذر الله جل وعلا منه نبيًا كريمًا من أنبيائه؛ فقال سبحانه: ]يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ[26][ سورة ص .
ورحم الله من قال:
وكل امرئ يدري مواقع رشده ولكنه أعمى أسير هواه
يشير عليه الناصحون بجهده فيأبى قبول النصح وهو يراه
هوى نفسه يعميه عن قصد رشده ويبصر عن فهم عيوب سواه
وما زلنا نرى من أبناء الحركة الإسلامية من إذا تكلم عن جماعة تغاضى عن جميع أخطائها، ولو بُين له ذلك بالدليل من القرآن والسنة ظل يبرر ويبرر حتى تصل أخيرًا هذه الأخطاء ـ أحياناً ـ إلى محاسن! فجماعته هي جماعة المسلمين، وهي وحدها التي على الحق، وما عداها من الجماعات فهي على الباطل .
من كتاب/ خواطر على طريق الدعوة……المؤلف/ محمد حسان(/3)
عقبات ومعوقات أمام التغيير والإصلاح !
د.عدنان علي رضا النحوي
www.alnahwi.com
info@alnahwi.com
إن تغيير ما بالنفس ، كما نصَّت عليه الآية الكريمة في قوله سبحانه وتعالى: [..... إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ....] ، تغيير يتم داخل النفس البشرية ، من خلال عوامل داخلية في النفس وعوامل خارجية ، تتفاعل كلها على سنن ربانية ثابتة ، ومن هذه السنن الربانية الثابتة أنْ يكون الإنسان نفسه مسؤولاً عن إحداث هذا التغيير ، مكلفاً به ومحاسباً عليه ، على امتداد معنى كلمة الإنسان وامتداد مستوياته وأحواله .
ولكن هذا التغيير أمامه عقبات وعوائق ، وهذه العقبات والمعوقات اليوم كثيرة وشديدة . إنَّ التغيير ما زال في نفوس المؤمنين أملاً وأمنية . وهو في نفوس بعض الناس يأس واستسلام ، وفي نفوس الآخرين هروب من الواقع إلى كل ما يوفر لهم الخدر والسكر ، إلى المخدرات والخمور واللهو والجنس . ويهرب آخرون على ردود فعل قاسية كارتكاب الجرائم من قتل أو سرقة أو اغتصاب . وآخرون ينحرفون انحرافاً كبيراً إلى ساحات الكفر الصريح والوثنية المعلنة الفاضحة . ومنهم من جرفته النصرانية بزخارفها ودعايتها وإنفاقها الواسع والتعاون بين مذاهبها ضد الإسلام .
لمعالجة واقع الإنسان في التاريخ السابق ، كان الله يبعث الأنبياء والمرسلين ليحدثوا التغيير أو ينزل الله عقابه في المكذبين ، كما كان مع قوم نوح وعاد وثمود ومدين ولوط وفرعون وغيرهم ، حتى كانت النبوة الخاتمة ، فقامت بأوسع تغيير في الأرض كلها ، في الشعوب كلها ، في الإنسان حين أعادته إلى فطرته السوية وإلى إنسانيته الحقيقية ، إلى الإيمان والتوحيد ، إلى التزام رسالة الله . ثمَّ أصبحت هذه المهمة من مسؤولية الأمة المسلمة في الأرض ، عليها أن تحمل رسالة الله وتلتزمها ، ثم تدعو لها وتبلغها الناس كافَّة وتتعهد الناس عليها ، حتى تكون كلمة الله هي العليا ، فمن أراد أن يصدها عن هذه المهمة العظيمة ، فُرِضَ على الأمة مجاهدتهم في سبيل الله .
إن عدم وجود الأمة المسلمة الواحدة يمثل أكبر عقبة أمام تغيير واقع الإنسان في الأرض ، وإن كل تعطيل لإقامتها دعم لأعداء الله وامتداد للفتنة والفساد في الأرض . وبناء الأمة المسلمة اليوم أمامه عقبات ومعوقات . يمكن أن نقسمها إلى ثلاث مجموعات أو وحدات ، ليسهل تصورها ومعالجتها :
العقبات الخارجية :
امتداد سلطان الغرب ونفوذه الاقتصادي والسياسي ، والفكري والاجتماعي، والعسكري كذلك . فمن الناحية الاقتصادية سيطر النظام الرأسمالي سيطرة واسعة تدعمها طاقات الغرب كلها وشعاراته . والنظام الرأسمالي يقوم كله على قاعدتين حرمهما الإسلام : أكل مال الناس بالباطل ، والربا . ولم يُقِمْ المسلمون نظاماً اقتصادياً إسلامياً بديلاً يدعون العالم إليه ، باستثناء إضافة اسم " إسلامي " هنا وهناك .
وغلب التصور السياسي " المصلحي الميكافيلي " في الكرة الأرضية يدعمه الاقتصاد الرأسمالي ويدعم بدوره الاقتصاد الرأسمالي . ويدعم هذا وذاك القوة العسكرية المدمرة . ومن خلال هذه القوى العاملة كلها تسلل الفكر المادي العلماني بمذاهبه المختلفة ، وتغلغل كثيراً في العالم الإسلامي وسيطر على مواقع كثيرة ، وبناء على هذا كله أخذت المجتمعات الإسلامية تُشَكَّلُ على ضوء العلمانية وتفلتها وإباحتها ، وفرضت فيها التصورات والعادات والعلاقات الغربية فرضاً . وقد ظهر من المسلمين من يحاول أن يوفق بين العلمانية وماديتها ومذاهبها المختلفة وبين الإسلام ، في مجالات لا مجال للتوفيق بينها . وأخذت هذه المحاولات تظهر بصورة علنية يجهر بها أصحابها . فقد أصبح للغرب وعلمانيته ومذاهبها ، وفكره ومذاهبه ، دعاة من المنتسبين إلى الإسلام ، فوفَّروا بذلك جهداً كبيراً على الغرب، وأوجدوا عقبات كثيرة أمام نهوض الأمة المسلمة برسالتها . أصبح هناك صدٌّ واضح عن سبيل الله ، وهجمة شرسة على العالم الإسلامي الغافي ! ولكن رحمة الله أوسع ، فما زال هنالك جهود تبذل في سبيل الله !
ومن أخطر مظاهر الزحف العلمانيّ على العالم الإسلامي التعاون الطارئ بين العلمانية النصرانية والعلمانية اليهودية ، التعاون الذي جعل من فلسطين قاعدة لانطلاقه في العالم الإسلامي بكل قواه العسكرية والفكرية والاقتصادية وغيرها ، ولإقامة قواعد متفرقة في أفغانستان والعراق وغيرها يَثِبُ منها من عدوان إلى عدوان !(/1)
ومن أخطر نتائج هذا الاتفاق الإباحية الجنسية التي تعاونوا على نشرها في الأرض كلها : بالصحف والمجلات ، بالإذاعة والتلفاز ، بالفضائيات ، بأجهزة الكمبيوتر ، وقبل ذلك وبعده بالمجنَّدات للفاحشة والمجنَّدين الذين ينتقلون أفواجاً أفواجاً يقتحمون العالم الإسلامي وينشرون فسادهم وفاحشتهم ، مع نشر الخمور والمخدرات ، وسائر أنواع الفواحش وأدواتها . وأعقب ذلك انتشار الأمراض الجنسية في المجتمعات البشرية ، حتى أصبحت الفاحشة تمارس علانية ، وتُدرَّس في بعض المعاهد تدريساً فاحشاً . هذا خلاف الأندية وملاهي الليل ، والأفلام والتمثيل ، وكثير غير ذلك . وأصبح الملايين من الناس مهددين بالموت من الأمراض الجنسية الفتاكة .
العقبات الداخلية :
إنَّ أول عقبة وأخطرها تمزق العالم الإسلامي قطعاً قطعاً ، لا يجمعها إلا البقية الباقية من العاطفة الإيمانية ، والبقية الباقية من اللغة العربية . والحديث في هذا الموضوع طويل ، إلا أنه أمر واضح لكل مسلم . لقد كان لهذا التمزق سببان:
أ . الأول وهو الأهم : ضعف العالم الإسلامي في ميادين متعددة ، أهمها : الضعف في التصور لقضية الإيمان والتوحيد ، والجهل الواسع بالكتاب والسنَّة ، والجهل بالواقع وما يجري فيه ، وعدم حمل رسالة الله وتبليغها وتعهد الناس عليها، وعدم إعداد القوة اللازمة لحماية الأمة ودينها .
ب. الثاني : الأعداء الذين سعوا ليل نهار إلى تفريق الأمة أقطاراً أو دياراً وتمزيقها فرقاً شتى ، يدور بينها صراع ولا يدور بينها لقاء . فلم يكن هناك نهج ولا تخطيط ، ولا تحديد واضح للأهداف . فظلَّ العمل الإسلامي لا يشرق أمامه السبيل الواحد الجلي ، ولا الصراط المستقيم الذي يجمع الجهود كلها . فاضطرب معنى الدعوة الإسلامية واختلط على الناس بين مفهوم الجماعات والأحزاب والحكومات . ونتيجة هذين العاملين وضغط العوامل الخارجية أخذت تتوالد العقبات والمعوقات أمام التطور في العالم الإسلامي المتردي .
ففي ميدان العمل الإسلامي ، بالإضافة إلى التمزق والعصبيات الجاهلية ، واضطراب أخوة الإيمان ، بالإضافة إلى هذا كله لم يعد هنالك ميزان يُعْتمد يزن الرجال ، ولا ميزان يزن المواقف والبذل والجهد ، واضطربت وسائل التربية ومناهجها ، وغاب عنها قضايا أساسية في البناء والتدريب . وبرز كثير من الضعفاء والمنافقين ! وكثرت وسائل التخدير ، وأقبلت النفوس على الدنيا تؤثرها على الآخرة ، حتى أصبحت الدار الآخرة غائبة عن كثير من القضايا ، وأصبحت النظرة المادية أقوى وأعمق في النفوس ، دون أن يمنع ذلك أن يكون تحت شعار الإسلام . وفي ميدان العمل الإسلامي لم تبرز القضايا الإدارية وقواعدها لتوفر سلامة التذكير والإشراف ، والتقويم والتوجيه ، وتنظيم الوقت وإدارته والاستفادة منه . وغاب النصح والتناصح ، حتى أصبحت النفوس ترفض من حيث المبدأ النصيحة ، وترفض أن تَنْصحَ أو تُنْصَحَ وأخذت النفوس تُطْوى على ما فيها من خير وشر . وأخذت الأخطاء تتراكم حتى حجبت الرؤية السليمة . وتسلل دعاة الفتنة والانحراف ، ظاهرين ومتخفين ، ينشرون دعاواهم ، حتى أصبحت علنية يجهر بها أصحابها ، فمنهم من يقول لا فرق بين مقصود الإسلام ، وبين العلمانية، ومنهم من يريد أن يجعل من الحداثة والبنيوية قواعد إسلامية ، ينسب إليها بعض أئمة الأدب والفقه في تاريخنا بصورة مزخرفة كاذبة مضللة . وانجرف عدد من المسلمين في تيارات مختلفة . واشتدَّ الصراع بين بعض الحركات الإسلامية في أكثر من موقع ، حتى أخذت هذه الفئة أو تلك تستعين بأعداء الله لتحارب الفئة المسلمة الأخرى ، وأصبح المسلم يفرح بمصيبة أخيه المسلم .
وغلبت بين بعض المسلمين العادات والأعراف الخاطئة ، وانتشر الاختلاط . وما كان يحرم بالأمس أصبح حلالاً وأصبح يمارس . واشتدَّ تقليد الغرب بين المسلمين : فمنهم من يقيم حفلات أعياد في بيته للاحتفال بذكرى زواجه أو ميلاده أو ميلاد أحد أولاده . وغلبت العادات المنحرفة في الأفراح والأتراح ، في مخالفات صريحة لنصوص الكتاب والسنَّة ، وأصبح الاعتراض عليها يعتبر تخلفاً !
وأخطر ما في ذلك كله هو عدم رد الأمور إلى منهاج الله ، وعدم تدريب المسلم على ذلك تدريباً منهجياً في البيت والأسرة ، ومراحل التعليم المختلفة ، ليكون للمسلمين مرجع واحد هو الكتاب والسنَّة ، وليعين العلماء والفقهاء والدعاة على تثبيت هذه القاعدة في واقع المسلمين كله .(/2)
وكان من أثر هذه العوامل جميعها أن استسلم بعض المسلمين إلى الفكر المنحرف ، والسياسة المنحرفة ، والاقتصاد المنحرف ، وانجرف بعض " الفقهاء " لتوفير الاجتهاد المناسب لتمرير هذه الانحرافات ، حتى أصبح هذا تياراً له اتجاهه ومؤيدوه من الناس ، وتولى الإعلام الدعاية اللازمة وتوفير الزخرف الضروري له . ولا يجد من يريد أن ينصح أو يوضح بالحجة والبينة الدعم الذي يجده أولئك المنحرفون ! ولم يُدْعَم من خلال هذه الأخطاء والمعوقات والأخطار العمل المنهجي الذي يُمْكنُ أن يعالج هذه الأوضاع ، ولا الدراسات المنهجية ، ولا التفكير الإيماني المنهجي !
المعوقات في الإنسان المسلم :
المعوقات والعقبات موجودة في واقع المسلمين ، في واقع العاملين أنفسهم ، وفي واقع المجتمع بعامة ومستوياته المختلفة . وأصبحت المعوقات في داخل المسلمين تتفاعل مع المعوقات الخارجية ، مما يزيد خطر هذه وتلك ، ويزيد الدرب غموضاً وحيرة أمام الكثيرين ، ولكنه يزيد الدرب إشراقاً وجلاءً أمام المؤمنين الصادقين مهما قلَّوا !
فلم يعد غريباً أن تتأثَّر شخصية المسلم بهذه العوامل الخارجية والداخلية . لقد اهتزت شخصية المسلم كثيراً إلا من رحم الله . فكان من أبرز الآثار نفور عدد غير قليل من العمل الإسلامي . إما بسبب النتائج المؤلمة على الساحة والانحراف الذي ما عاد يمكن إخفاؤه ، والفشل الذي طال أمره . وإما بسبب الخوف الذي غرس في نفسه من الظلم المروع الذي لاقاه بعض الدعاة تحت سياط الجلادين ، وفي أقبية الظالمين ، وعلى أعواد المشانق . أحداث طويلة مروعة زرعت في بعض النفوس الخوف .
ومن أهم الآثار كذلك غياب المسؤولية الفردية ، فلم يعد المسلم يعتقد أن عليه مسؤولية فردية سيحاسبه الله عليها يوم القيامة ، ولم يعد يحمل الشعور بهذه المسؤولية أو البذل الحقيقي لها . غاب عن بال المسلم أنه على عهد مع الله ، وانَّ عهد الله مفصل في الكتاب والسنَّة ، وأنه سيحاسَب عليه يوم القيامة عن مدى الوفاء به . وانصرفت بعض مواهب الأمة المتميزة إلى علوم الدنيا كالطب والهندسة مجردة من العلم الحق المفروض عليهم ، فعمَّ الجهل بالكتاب والسنَّة معظم حياة المسلمين ، وتعطلت المسؤوليات الفردية ، وتعطل التفكير بها . وزاد الأمر سوءاً حين أصبح الإسلام " ثقافة " تُدَرَّس أحياناً ، وليس علماً حقاً ينشط الفكر والقلب والعقل .
بذلك خسر المسلمون في واقعهم الخير العظيم الذي يقدمه منهاج الله ، وفقدوا بذلك مواهب كثيرة وطاقات كثيرة .
يعيش المسلم اليوم في صراع نفسي بين متناقضات كثيرة ممتدة في حياته . وسيظل يعاني من هذا الصراع حتى يهتدي إلى الصراط المستقيم ، فيمضي عليه مطمئناً ، قد عرف مهمته في الحياة ، عرف من أين أتى ، وإلى أين يمضي ، وعرف أنَّ الحياة الدنيا ممر بين بداية ومنتهى ، و أن بداية التغيير تبدأ من نفسه :
[كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]
[ البقرة : 28 ]
[..... إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ] [ الرعد : 11 ](/3)
عقد الكالئ بالكالئ: تدليلاً وتعليلاً
د. سامي بن إبراهيم السويلم 27/1/1426
08/03/2005
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
يمثل النهي عن الكالئ بالكالئ أحد المعالم البارزة من معالم قواعد التبادل في الاقتصاد الإسلامي. وذلك أن المبادلات المالية إما أن تكون حاضرة البدلين، أو مؤجلة أحد البدلين، أو مؤجلة كلا البدلين. والقسمان الأولان جائزان باتفاق الفقهاء، بينما القسم الثالث، وهو الكالئ بالكالئ، ممنوع بالاتفاق. وهذا يعني أن الكالئ بالكالئ يمثل نظريًا ثلث المبادلات المالية. واتفاق العلماء على منعه، خلفًا عن سلف، مع كثرة الفروع والصور التي تنبني على هذه المعاملة، يتطلب دراسة عميقة من أجل فهم قواعد التشريع في هذا الجانب الجوهري من جوانب النشاط الإنساني. وبالرغم من ذلك فإن الدراسات التي عنيت بهذا الحكم، تدليلاً وتعليلاً، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
أضف إلى ذلك أن كثيرًا من الدراسات المعاصرة ركزت عنايتها على دراسة الربا وجوانبه الفقهية والاقتصادية. ومع التقدم الملموس في هذا الجانب، إلا أن فهم الأصول الاقتصادية والفقهية للمبادلات الممنوعة، بما فيها الربا، يتطلب دراسة مقارنة بين العقود الممنوعة، خاصة تلك التي اتضحت معالمها، وانعقد الإجماع على حكمها، بحيث يسهل على الباحث الانطلاق من أرضية ثابتة وواضحة لتحليل الموضوع.
إن كمال الشريعة الإسلامية يستلزم خلوها من التناقض، وهذا يعني أن هناك أصولاً مشتركة تحكم المبادلات المالية، وتحدد معالم النظام الإسلامي للتبادل. ولذلك فإن الاتجاه الذي بدأ يظهر نحو إباحة عقد الكالئ مطلقًا، مع كونه يمثل مخالفة صريحة للإجماع والنصوص القاضية بتحريم هذا العقد، فإنه، كما سيتضح من البحث، يمثل تناقضًا ظاهرًا بين موقف هؤلاء الكتاب من تحريم الربا وفي نفس الوقت إباحة الكالئ، وهذا التناقض يمثل أحد جوانب الخلل في معالجة أصول المعارضات الممنوعة وفي فهم نظرية الإسلام في التبادل.
ومما يلفت النظر في هذه القضية أن الفقهاء عبر القرون لم يعترضوا على منع عقد الكالئ بالرغم من النقد الموجه لبعض أدلة تحريمه. حتى جاء هذا العصر، وبدأت بعض الآراء تستشكل هذا المنع، وتدعو إلى إباحته جملة وتفصيلاً.
والحقيقة أن نشوء هذه الآراء في هذا العصر ليس غريبًا إذا أخذنا في الاعتبار أن القيم الرأسمالية استطاعت أن تبسط هيمنتها على الحياة الاقتصادية اليوم، وازدهرت من ثم تجارة الديون، وتعددت أنواع المداينات، وفرضت نفسها في واقع الحياة العملية، حتى أضحت محورًا رئيسًا من محاور النشاط الاقتصادي اليوم أكثر من أي وقت مضى. في هذه الأجواء وجد كثير من الباحثين أن منع الكالئ بالكالئ يصادم واقعًا ملموسًا، ويقف سدًا أمام كثير من التعاملات التي استجدت في هذا العصر. ولما كانت هذه المستجدات مبنية على مسلّمات وأسس منافية للأسس الإسلامية للاقتصاد، لم يكن مستغربًا أن تظهر الدعوة لإباحة هذا النوع من التعامل والتشكيك أو الإعراض عما أطبقت عليه الأمة أكثر من ألف عام.
لهذه الأسباب جميعًا، تبدو الحاجة ماسة لدراسة عقد الكالئ دراسة تحليلية مقارنة، تستوعب أولاً الأدلة الشرعية على منعه، ثم تتلمس ثانيًا الأصول والأسس التي يمكن أن يستند إليها هذا المنع، ومقارنة ذلك بالعقود الممنوعة الأخرى، خاصة الربا. وهذه الدراسة تعتبر خطوة في هذا المضمار.
منهج البحث:
وقد انطلق البحث من المبدأ القاضي بأن أي نظرية في الاقتصاد الإسلامي يجب أن تحقق شرطين أساسيين:
الأول: ألا تخالف الأحكام الشرعية الثابتة بالنص أو الإجماع.
الثاني: أن تكون سالمة في ذاتها من التناقض.
ولذلك اشتمل البحث على قسمين: الأول يتتبع الأدلة الشرعية، من الكتاب والسنة والإجماع المتعلقة بحكم بيع الكالئ، والخروج بتصور واضح لموقف الشريعة من هذا العقد بحيث يكون هذا الموقف هو الأساس الذي ينطلق منه التحليل.
والقسم الثاني خاص بدراسة أوجه التعليل، الفقهي والاقتصادي، لموقف الشريعة المطهرة من هذا النوع من التبادل. ولذلك اعتمد البحث منهج المقارنة بين عقد الكالئ والبيوع الممنوعة الأخرى. وذلك لأن الافتراض الجوهري الذي سار عليه البحث هو أن البيوع الممنوعة ترجع إلى أصول مشتركة كلية تحكمها وتنظمها جميعًا. وهي فرضية اعتمدها عدد من الفقهاء على سبيل المثال الإمام أبو بكر ابن العربي(1) ، وبناء على ذلك فأي تعليل مقترح لمنع بيع الكالئ يجب أن يكون منسجمًا مع قواعد المبادلات إجمالاً، وألاّ يتخلف أثره إذا وجد في عقد آخر. بعبارة أخرى، فإن التعليل المطروح يجب أن يسلم من التناقض.
كما انطلق البحث من مسلمة أن "النقل الصحيح لا يعارض العقل الصريح" فما استقر عليه حكم الكالئ في الشرع المطهر، لابد أن يكون مصلحة راجحة. ولهذا الغرض تطلب البحث دراسة أوجه المصالح والمفاسد الاقتصادية التي يمكن أن يحققها، وذلك للوصول إلى تقويم متوازن للعقد.(/1)
ويخلص البحث إلى أن عقد الكالئ بالكالئ قد استقر الإجماع على منعه، وأن قواعد المبادلات وأصولها تأبى جوازه، كما أن المفاسد التي يمكن أن تترتب عليه تتجاوز المصالح المرجوة منه. والاحتياجات التي يمكن أن يلبيها العقد يمكن تحقيقها بصيغ أخرى مشروعة تتلافى ما فيه من السلبيات.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
(1) في أحكام القرآن 1/244، والقبس في شرح موطأ مالك بن أنس 2/787.(/2)
عقد صفقات مع الكفار المحاربين
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ ... 5/7/1424هـ
السؤال
بالنسبة للقاعدة الأمريكية في قطر والمعدة لاستقبال أربعين ألف جندي، والتي تجهز حالياً بجميع الاحتياجات من مواد بناء وصيانة وتشغيل وتموين، وبالتالي توجد فرص تجارية كبيرة، وأرباح مغرية، وهم إذا لم يشتروا منا فسيشترون من غيرنا، والفرصة متاحة لجميع التجار، فهل يجوز الدخول في عقود البيع هذه؟ ونحن نعلم الغرض الذي من أجله أتى هؤلاء وأقاموا قاعدتهم، فهل يجوز للتاجر المسلم التعامل مع هؤلاء وجني الأرباح من الصفقات التي تعقد معهم؟ وما الحكم بالنسبة للشخص البائع؟ وما حكم الأموال المجنية من هذه الصفقات؟
الجواب
الدخول في عقود تجارية مع الحكومة الكافرة أو من يمثلها من شركات حرام لا يجوز إذا كان ما يقدم لهم يخدم القضية العسكرية مباشرة، كتشغيل أجهزة الكمبيوتر والمولدات الكهربائية، وتزويد الطائرات والآليات بالوقود، ونحو ذلك، لأن هذه الأعمال أكثر ما تستخدم لحرب المسلمين بقتلهم ونهب ثرواتهم وخيرات بلادهم، أما إذا كان ما يؤمن للعدو لا يستخدم في حرب المسلمين عادة كتأمين الطعام والشراب أو الملابس ونحوها مما لا يلحق المسلمين منه ضرر فلا بأس بالتعاقد مع الكفار عليه، لأن الأصل في مبايعة الكفار فيما لا ضرر منه الجواز، والأولى والأتقى اجتناب مثل هذا، للابتعاد عما فيه شبهة، لحديث النعمان بن بشير – رضي الله عنهما –: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ..." رواه البخاري (52)، ومسلم (1599)، وقد نص العلماء على منع وتحريم بيع السلاح إلى العدو زمن الفتنة، وكل ما يعمل بالمسلمين عمل السلاح محرم بيعه للعدو في مثل هذه الحال، وإذا حرم البيع حرم ما ينتج عنه من ربح، والله أعلم.(/1)
عقد نكاح المسلم في الكنيسة
الكاتب: الشيخ أ.د.سعود بن عبدالله الفنيسان
تقييم:
السؤال
أنا فتاة نصرانية مخطوبة لشاب مسلم، وقد اتفقنا على الزواج، ووافقتُ أن الأولاد سيكونون على الإسلام.
وعلاقتي مع خطيبي مبنية على احترام كل منا لدين الآخر واتباعه له، وأعرف أن للمسلم أن يتزوج المرأة النصرانية، ولكن هل في القرآن ما يمنع أو يحرم الاحتفال بهذا الزواج في الكنيسة؟ لأنه في ديننا أي زواج لا يكون في كنيسة ولا يباركه الراهب فلا يعتبر زواجاً، بل وقوعا في الفاحشة، فيجب أن يتم الزواج بحفل ديني، وبخلاف ذلك تعتبره الكنيسة الكاثوليكية زواجاً باطلاً.
وإذا كان المسلم لا يحق له الاحتفال في الكنيسة فسوف ننهي علاقتنا ولن نتزوج. وأنا موافقة على إجراء الزواج على يد الإمام ومباركته له، ولا نعلم أنا وخطيبي عن حكم الإسلام في ذهابنا للكنيسة لمباركة زواجنا. فما الحكم في ذلك؟
الجواب
ليس ذهاب المسلم -عند تزوجه الكتابية- إلى الكنيسة أو المسجد شرطاً من شروط النكاح في الإسلام، والبركة تطلب من الله مباشرة لا من الراهب أو الإمام أو غيرهما،
وعندي –في هذا المقام –نصيحتان، أوجه أولاهما لهذه المرأة النصرانية وأنا ألمس من سؤالها العقل ومحبة الطهر والعفاف –ألا تصر على الذهاب إلى الكنيسة. ونصيحتي الثانية لهذا الرجل المسلم أن يحرص ويحاول إقناعها بعدم الذهاب إلى الكنيسة لهذا الغرض، ويسمح لها بالذهاب إليها بعد ذلك لو رغبت ويعرفها على الدين الإسلامي بخلقه وسلوكه وتعامله أكثر من الكلام والقراءة بالكتب، وأقول له: إن أصرت الزوجة على عقد الزواج بالكنيسة أو تعطيل الزواج أصلاً فلا حرج عليك في الذهاب معها إلى الكنيسة بشرط أن تعتقد في قلبك بأن ذهابك ليس لشرعية العقد، وإنما هو مجرد إجراء من الإجراءات المدنية البحتة، ولا علاقة للحل والحرمة بذلك.(/1)
عقدة العمل الغائب (1/2 )
عمر بن عبدالله المقبل * 29/8/1424
25/10/2003
الحمد لله ، وبعد:
فإن النفس البشرية مغرمة بالأماني المستقبلة، التي تفزع إليها بحثاً عن تبديد هم الفشل الحاضر، أو تبرير الكسل القائم .
كما أن من طبيعة النفس البشرية التعلق بالغيب، لمعرفة ما وراءه، واستشراف ما بعده ، يظهر ذلك جلياً في عدة صور، منها: التوقان الشديد لمعرفة تعبير الرؤى والأحلام التي تعرض لها في المنام، وما رواج سوق الكهنة والعرّافين إلا برهان على ذلك.
ومنها ـوهو بيت القصيد هناـ : التعلق بأعمال وأحوال لم تتحقق بَعْدُ على أرض الواقع ، وتمنيها ، والمراهنة على فعلها إذا هي وجدت .
إننا نقرأ في آيات القرآن الكريم قصصاً وأخباراً تتحدث عن أناس كانوا يعيشون هذه الإشكالية، وقد ذكر الله منها نموذجاً في بني إسرائيل ، وآخر في هذه الأمة ، ليدل ذلك على أن هذه ظاهرة جلية في جميع الأمم بلا استثناء.
يقول تعالى عن طائفة من بني إسرائيل كانوا يعيشون هذه الأماني ، أو ما عبر عنه هذا المقال بـ(عقدة العمل الغائب):"أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ألاّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا ألاّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إلا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، وحتى الذين صدقوا في دعواهم بادئ الأمر ، وكانوا من جملة من ساروا في ركب جيش طالوت؛ ابتلوا باختبار آخر "فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إلا قَلِيلاً مِنْهُمْ ..." الآية (البقرة:249) .
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً === فقد صاروا أقل من القليل
إنها فئة انتفضت العقيدة في قلوب أصحابها، وتحرك الإيمان في نفوسهم، وشعروا بأنهم أهل دين حق، وعقيدة حقة، وأن أعداءهم على كفر وضلال، فيعرض عليهم نبيهم سؤالاً يستوثق به من صدق عزيمتهم، وقوة تصميمهم، لأنهم الآن في سعة، فأما إذا فرض القتال؛ فلا مناص من النفير في سبيل الله، فيقول لهم: (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ألاّ تُقَاتِلُوا)؟ وهنا ترتفع درجة الحماس لدى هذه الفئة ، ليؤكدوا ما تمنوه وطلبوه ، فيقولون: (وَمَا لَنَا ألاّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)؟! ولكن هذه الحماسة الفائرة في ساعة الرخاء لم تدم ، بل جاء السياق ليبين أنها دعوى كجبال الجليد ، ما لبثت أن ذابت حينما اصطدمت بحرارة الحقيقة (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إلا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) .
إن هذه الآيات الكريمة لتكشف نوعاً من الخلل الذي يعتري بعض أفراد الأمة ـ الذين يرومون عزها ـ لكنهم بعدُ لم تنضج تربيتهم الإيمانية، ولم تصهرها التجارب بعد، فهم مغرقون في الأماني، التي يفزعون بها إلى الترفع عن حالة الإحباط التي يعيشونها ، من غير إدراك لحقيقة الأمر وأبعاده .
وتأمل في قوله : (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فهم ظلموا أنفسهم بنكوصهم عن عهدهم في تنفيذ ما وعدوا بتحقيقه ، وظلموا الحق حينما خذلوه وخذلوا نبيهم ، مع علمهم بأنهم على حق ، ونبيهم على حق .(/1)
وإذا طويتَ صفحاتٍ من التاريخ، وقروناً من الزمن، فقف قليلاً عند فترة تنزل الوحي، التي كشفت وجود هذه المشكلة (عقدة العمل الغائب) عند أكثر من فئة، والذي يعنينا في هذا المقام الحديث عن طائفةٍ من المؤمنين، وممن سار في أكنافهم، وليس منهم من المنافقين ، بدأت تتكرر هذه الإشكالية، وأخذت في الظهور في وقت مبكر، فاستعلت بعض الأصوات تطالب بالجهاد في سبيل الله في وقت لم تكن الحكمة الإلهية تقتضي فرض الجهاد؛ بل إنهم نُهوا عن ذلك، كما نقرأ ذلك بكل جلاء ووضوح في قوله تعالى:(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ والآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء:77].
يقول العلامة السعدي على هذه الآية:"وهذه الحال كثيراً ما تعرض لمن هو غير رزين، واستعجل في الأمور قبل وقتها، فالغالب عليه أنه لا يصبر عليها وقت حلولها، ولا ينوء بحملها، بل يكون قليل الصبر" انتهى .
لقد أثبتت الوقائع المتنوعة على مدار التاريخ ، أن أشد الناس حماسة واندفاعاً ، قد يكونون هم أشد الناس جزعاً وانهياراً وهزيمة عندما يجد الجد ، وتقع الواقعة ؛ لأن سبب ذلك الاندفاع ليس هو الشجاعة والاحتمال والإصرار ، بل هو ـ غالباً ـ ما يكون بسبب قلة الاحتمال للحالة الراهنة ، فيدفعهم ذلك إلى طلب التخلص من الحالة التي يعيشونها بأي شكل ، دون نظر في العواقب ، بل ربما لو تحقق لهم ما أرادوه وطلبوه فسيكون وقعه ثقيلاً عليهم .
وليت الأمر عند هؤلاء يقف عند هذا الحد! بل إنه يتجاوز ذلك لاتهام أولئك الذين يخبرون الأمور ويدركون حقيقتها ، ويأمرون بالصبر والتروي ، واستغلال الفرص المتاحة ـ ربما وصفوهم ـ بالضعف والخور ، وربما وصفوا تأنيهم وتمهلهم جبناً واستخذاء! .
إن الآيات الكريمة من سورة النساء تتحدث عن فئة مؤمنة ـ فيما يظهر ـ وهو قول جماعة من المفسرين ، وقيل : عن طائفة من المنافقين ،و على كلا القولين ، فالاعتبار حاصل .
إنها فئةٌ يظهر من فحوى خطابها العزة والأنفة ، وعدم احتمال الذل والضيم ، ولكنها فئة لم تصهرها التجارب بعد ، ولم تتضح لديها الصورة بشكل جلي ، وإن ظنوا ذلك وحسبوه في قرارة نفوسهم ، وما تتلجلج به صدورهم من حرارة مشاعرهم .
إنها فئة ربما كان يجول في أذهانها مسألة الدفاع عن الذوات والأشخاص ـ وعلى رأس هؤلاء الأشخاص الذين تتقرب إلى الله تعالى بالدفاع عنهم : محمد –صلى الله عليه وسلم- ـ، ولربما غاب عن ذهنها أو لم يكن في حسبانها أن القضية أكبر من ذلك ، فالغاية ـ عند الله ـ أن يكون الدين كله لله ، وأن يتم بسط نفوذ هذا الدين ولكن بشكل ممرحل ومتدرج ، (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً) [الإسراء:106]، (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً) [مريم: من الآية64] .
إننا لنقطع بأن هؤلاء الذين طلبوا الجهاد ، لم يكونوا أشد غيرة على دين الله ،ولا على عباده المضطهدين ـ بسبب اعتناقهم له ـ من محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا من أبي بكر وعمر وغيرهم من كبار وفضلاء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، ولكن القضية أكبر من أن تختصر في رأي لم ينضج بعد ، أو اقتراح ـ على فرض صحته تماماً ـ لا يناسب تنفيذه في ذلك الوقت .
ومن هنا جاء الخطاب الرباني في الفترة المكية للمؤمنين إذ ذاك لتربيتهم على هذا المعنى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:108].
إننا نقرأ قريبا من هذه المطالب ـ التي جاءت في سورة النساء ـ في سورة محمد ( سورة القتال ) ـ وإن اختلفت الفئة ـ ، كما في قوله –عز وجل-:(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ) [محمد:20- 21].(/2)
يقول العلامة السعدي معلقاً على قوله تعالى (فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) : "أي : فأولى لهم أن يمتثلوا الأمر الحاضر المحتم عليهم ، ويجمعوا عليه همهم ، ولا يطلبوا أن يشرع لهم ما هو شاق عليهم ، وليفرحوا بعافية الله تعالى وعفوه (فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ) أي : جاءهم أمر جد ، وأمر محتم ، ففي هذه الحال ، لو صدقوا الله بالاستعانة به ، وبذل الجهد في امتثاله (لكان خيراً لهم ) من حالهم الأولى، وذلك من وجوه:
منها: أن العبد ناقص من كل وجه، لا قدرة له إلا أن أعانه الله ، فلا يطلب زيادة على ما هو قائم بصدده .
ومنها ـ وهذا هو الشاهد ـ : أنه إذا تعلقت نفسه بالمستقبل ، ضعف عن العمل بوظيفة وقته ، وبوظيفة المستقبل ، أما الحال : فلأن الهمة انتقلت عنه إلى غيره ، والعمل تبع للهمة، وأما المستقبل : فإنه لا يجيء حتى تفتر الهمة عن نشاطها فلا يعان عليه .
ومنها: أن العبد المؤمل للآمال المستقبلة ـ مع كسله عن عمل الوقت الحاضر ـ شبيه بالمتألي، الذي يجزم بقدرته على ما يستقبل من أموره ، فأحرى به أن يخذل ، ولا يقوم بما همّ به، ووطن نفسه عليه ، فالذي ينبغي أن يجمع العبد همه وفكرته ونشاطه على وقته الحاضر ، ويؤدي وظيفته بحسب قدرته، ثم كلما جاء وقت استقبله بنشاط وهمة عالية مجتمعة غير متفرقة، مستعيناً بربه في ذلك، فهذا حريّ بالتوفيق والتسديد في جميع أموره" انتهى كلامه رحمه الله.
وحذراً من مغبة الانهماك خلف هذه العقدة ، والأماني العريضة ، يأتي القرآن الكريم ـ أيضاً ـ محذراً أهل الأموال ـ الراغبين في الصدقة ـ من الاسترسال وراء هذه الأماني؛ فيقول سبحانه:(وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون:10]، وهذا معنى الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-: "ولا تمهل ـ أي تتأخر في التصدق ـ حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت : لفلان كذا ، ولفلان كذا ، ألا وقد كان لفلان " .
وبعد هذا الاستعراض لهذه النماذج التي سجلها القرآن على أصحابها، يحسن بنا الوقوف على أسباب وجود هذه (العقدة)، وفي ثنايا ذلك الحديث عن علاجها، وذلك في الحلقة الثانية بإذن الله
كانت المقالة الأولى تأصيلاً لهذه القضية من خلال النماذج التي حفظها القرآن والسنة، أو الصور التي يمكن أن تتكرر على مر العصور، ولكي تتجلى الصورة بشكل أكثر، فسأذكر نماذج لتلك الصور التي سمعناها أو سمعنا بها في عصرنا، ثم أردف ذلك بالحديث عن أسباب وجود هذه المشكلة.
ولتكن هذه النماذج في محيط شداة الإصلاح، ومن سلك طريق الخير، إلا أنه يعيش ـ شعر أم لم يشعر ـ في دوامة هذه العقدة؛ لأن الأمة تعول عليهم أكثر من غيرهم، فيقال:
لا تكاد تخطئ عينك ـ بحمد الله ـ شباباً تحترق نفوسهم، وتذوب كبودهم كمداً على واقع الأمة، وخوفاً على مستقبلها، إلا أنهم ـ عند التأمل فيما قدموه ـ سلبيون حتى في خاصة أنفسهم، ولربما سمعت عقدة ( لولا ) تترد بلسان الحال أو المقال ـ أحياناً ـ على ألسنتهم.
وما دمنا على أبواب هذا الشهر الكريم، وفي أول أيامه؛ فليكن المثال الأول في هذا الموضوع، فإنك لن تعدم أن تسمع ما يؤكد لك تغلغل هذه المشكلة في نفوس الكثيرين، فقد تستمع لمن يحدثك عن برنامجه الرمضاني، وماذا خطط له؟ فإذا جاء الشهر المبارك لم تكد تفرق بين يومه ويوم عامة الناس؛ بل ربما كان يوم العامي أحسن من يومه، حتى إذا جاء أوسط الشهر؛ علق آماله بالعشر الأواخر، فإذا جاءت العشر مرّت مرور الكرام؛ بل مرور الغافلين، حتى إذا كان في آخر ليلة من الشهر، أطلق تلك الزفرات التي تعلن عن الأسى والحزن على فوات الشهر، وتصرم أيامه ولياليه، ثم تبدأ هنا عقدة العمل الغائب عنده، بتمنية النفس برمضان القادم، وهناك يطلق لخياله العنان ليسبح في بحر من الأماني، التي هي رأس أموال المفاليس!.
وإذا قلبت صفحة أخرى في هذه النماذج، وجدتَ أن من جملة من أصيب بهذه العقدة كثير من خريجي الكليات الشرعية، والمحاضن التربوية، الذين كانوا يخططون في أذهانهم أنهم إذا تخرجوا سيفعلون ويفعلون، حتى إذا تهيأت لأحدهم الوظيفة التي تكفل له سبباً من أسباب الرزق، صار هذا غاية مناه، ومنتهى أمله. والميدان هو البرهان، وحسبك أن تقارن أعداد المتخرجين في هذه الكليات والمحاضن بعدد العاملين في الساحة، فستجد أن الأمر محزن جداً.
وعودًا إلى أسباب وجود هذه العقدة عند البعض، فإني أجملها في الأسباب الآتية:(/3)
1 ـ ضعف التربية الذاتية، وهزال النشأة، وهذا ما يجب أن يتنبه له المربي في تعامله مع من تحت يده، وليجتهد في تربيتهم على بعد النظر، وعدم التعجل، والصبر حتى تكون الظروف ملائمة للعمل الذي يراد فعله، حتى لا تجني الأمة مغبة تصرفات، دافعها ـ في الظاهر ـ الحمية والغيرة، وهي في الواقع عجلة غير محمودة، سببها قصور في العلم أو التصور؛ فالعلم وحده لا يكفي، والتصور وحده لا يكفي، (إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء:83].
2 ـ تبرير حالة العجز الراهنة التي يعيشها الشخص، ومن ثم محاولة ملء الفراغ النفسي بهذه الأماني، للتأكيد على الاستمرارية في حمل الهم، وأنه لا زال بإمكانه تقديم ما ينفع، وليس الأمر كذلك؛ بل يغلب على الظن أنه كحال بني إسرائيل، سيتولى وينكص.
وأعرف أناساً من هذا الصنف كانوا يعاتبَون في تقصيرهم في طلب العلم!؛ فكانوا يقولون ـ بنبرة المتأوه ـ: آه لو كان عندنا علماء أو طلبة علم نأخذ عنهم في بلدنا!، فالترحال فيه مشقة وصعوبة!.
وتدور الأيام ويوجد في البلد أكثر من طالب علم، وليس طالب علم واحد، فإذا بنا نلتفت يمنة ويسرة نبحث عنهم؛ فإذا هم ـ لا زالوا في دوامة هذه العقدة ـ، ويفترضون نماذج معينة، لا يوجد في الأمة مثلها إلا القليل. وأحسب ـ بل وأجزم ـ أن هذا الصنف لو كان أحد الأئمة الأربعة في حيهم لما طلبوا العلم عنده؛ لأنهم حينها سيتمنون من هو في طراز معاذ بن جبل أو ابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ ليثنوا ركبهم عنده، وهكذا..
3 ـ وجود فراغ في الجانب العملي، وهذا يظهر لك جلياً في التأمل في أحوال هؤلاء (أصحاب العقدة)، ومقارنتهم بالعاملين حقاً، فستجد أن العاملين هم أقل الناس ترديداً لهذه الاسطوانة (لولا، ليت)، بعكس الفارغين الذين وجدوا في هذه الأماني مراكب وثيرة؛ لكنهم نسوا أنها لا تتحرك بهم.
وأنت إذا تأملت في سير العظماء والأكابر من هذه الأمة ـ الذين تحرروا من هذه العقدة ـ مع إيمانهم بالأحاديث الواردة في المهدي، والأحاديث التي تؤكد عودة الخلافة الراشدة التي تسير على منهاج النبوة، لم يكونوا يعيشون على أمل انتظار خروجه أو عودة الخلافة؛ لأنهم عرفوا أنهم غير متعبدين بذلك؛ بل هم متعبدون بالعمل، وإذا جاء المهدي فله عمله الذي كُلِّف به، وللخلافة الراشدة من يقوم بأعبائها، وفي كلام العلامة السعدي الذي سقته سابقاً ما يجلي هذه القضية.
4 ـ التكوين النفسي للمتمني، وغلبة العجلة عليه، وأعني بذلك القدر الزائد على الجبلة التي خلق الله عليها ابن آدم، إذ إن العجلة من طبعه، كما قال سبحانه: ( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) [الأنبياء: 37].
ولهذا جاءت الآيات القرآنية الكثيرة التي تبين أن الله تعالى لا يعجل لعجلة عباده، كما قال سبحانه: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [يونس:11]، ويقول تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ * قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) [الأنعام:58]، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تنهى عن هذا الخلق، والذي الأصل فيه الذم، وقد يحمد في مواضع، كقول موسى لربه -جل وعلا-: (قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه:84].
والعقلاء مجمعون على ذم هذا الخلق في الجملة، ومن جميل ما قيل في هذا المعنى:
ولا تسبقن الناس بالرأي واتئد ... ...
فإنك إن تعجل إلى القول تزلل
ولكن تصفح رأي من كان حاضراً ... ...
وقل بعدهم رسلاً وبالحق فاعمل
5 ـ حصر العمل الناجع للأمة في العمل الغائب، وأن الحل للمشاكل التي نعانيها إنما هو في تحقق ذلك الأمر، كما نجد ذلك عند بعض من يرون أن التمكين والرفعة لا تأتي إلا بعد التمكن من أزمة الأمور السياسية ومقاليد الحكم، وآخر يختصر ذلك في المواجهة العسكرية، وثالث..، ورابع....(/4)
6 ـ استعجال المردود الدنيوي، ولهذا علاقة قوية بالصدق والإخلاص، فإن غالب الأعمال الكبار تحتاج إلى زمن طويل لكي تجنى ثمرتها القوية، ولهذا لما تكلم ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد عن هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الجهاد، ثم ذكر جهاد المنافقين باللسان والبيان، قال 3/5: "فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة، وورثة الرسل، والقائمون به أفرادٌ في العالم، والمشاركون فيه والمعاونون عليه ـ وإن كانوا هم الأقلين عدداً ـ؛ فهم الأعظمون عند الله قدراً ) اهـ.
وسبب ذلك ظاهر؛ فإن تربية المجاهد في ساحة المعركة قد لا تستغرق وقتاً طويلاً، بل ربما لا تتجاوز بضعة أسابيع، بينما إعداد العلماء الذين يبينون الحق، ويجاهدون بألسنتهم بالحجة والبيان، يحتاج إلى سنوات طويلة، ولذا فإن الصابرين على هذا الطريق قلة قليلة إذا ما قورنوا بأعداد السالكين في البداية، والله المستعان.
7 ـ قلة الإدراك لحقيقة النفس في الوقت الراهن، وضعف تصورها للمرحلة المقبلة والتي ربطت بعملٍ من الأعمال الكبار، وهذا يلحظ جيداً في طلب بني إسرائيل للملك ليجاهدوا في سبيل الله تعالى، ولما كان نبيهم عالماً بطبيعتهم أكثر منهم، طرح عليهم ذلك السؤال الذي يريد أن يستثبت به منهم عن جديتهم في مطلبهم، فإذا هم ما زالوا مصرين، فلما وقع الأمر الذي طلبوه نكصوا على أعقابهم إلا قليلاً منهم، فظلموا أنفسهم إذ لم يعرفوا قدرها، وخذلوا نبيهم، والملك الذي بعثه الله إليهم، فاستحقوا أن يكونوا بذلك من الظالمين.
8 ـ أن بعض من يروم الأعمال الكبار ـ وهو ليس مؤهلا لهاً في الوقت الحاضر ـ قد لا يكون حاضرًا في ذهنه سوى الثمرة التي وصل إليها غيره، ناسياً أو متناسياً الجهود المضنية التي سبقت تلك الثمرة الهضيمة.
إنه ليس من مصلحة من يريد العمل لأمته أن يقرأ التاريخ من آخر صفحاته، لأن القراءة حيئنذ ستكون معكوسة، ولن يقرأ إلا النتائج، أما الأسباب والظروف والأحوال التي أدت إلى تلك النتائج فستكون بمعزل عن نظره وتفكيره.
هذا، وربما يظهر للمتأمل مزيد من الأسباب، سائلاً الله تعالى أن يهيأ لنا من أمرنا رشدًا، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأن يسددنا في الأقوال والأفعال، إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(*) الأستاذ بقسم السنة وعلومها بجامعة الإمام محمد بن سع(/5)
عقيدة أهل السنة والجماعة
محمد بن صالح العثيمين
دار الوطن
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين وإمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله تعالى أرسل رسوله محمداً بالهدى ودين الحق رحمة للعالمين، وقدوة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، بين به وبما أنزل عليه من الكتاب والحكمة كل ما فيه صلاح العباد واستقامة أحوالهم في دينهم ودنياهم، من العقائد الصحيحة و الأعمال القويمة والأخلاق الفاضلة والآداب العالية، فترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فسار على ذلك أمته الذين استجابو لله ورسوله، وهم خيرة الخلق من الصحابة والتابعين والذين اتبعوهم بإحسان، فقاموا بشريعته وتمسكوا بسنته، وعضوا عليها بالنواجذ عقيدة وعبادة وخلقاً وأدباً، فصاروا هم الطائفة الذين لا يزالون على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك.
ونحن - ولله الحمد - على آثارهم سائرون، وبسيرتهم المؤيدة بالكتاب والسنة مهتدون، نقول ذلك تحدثاً بنعمة الله تعالى، وبياناً لما يجب أن يكون عليه كل مؤمن، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا وإخواننا المسلمين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
ولأهمية هذا الموضوع وتفرق أهواء الخلق فيه، أحببت أن أكتب على سبيل الاختصار عقيدتنا - عقيدة أهل السنة و الجماعة - وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، سائلا الله تعالى أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه موفقاً لمرضاته نافعاً لعباده.
عقيدتنا
عقيدتنا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. فنؤمن بربوبية الله تعالى، أي بأنه الرب الخالق المالك المدبر لجميع الأمور. ونؤمن بألوهية الله تعالى، أي بأنه الإله الحق وكل معبود سواه باطل. ونؤمن بأسمائه وصفاته، أي بأنه له الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا. ونؤمن بوحدانيته في ذلك، أي بأنه لا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا في أسمائه وصفاته. قال تعالى: رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا [مريم:65].
ونؤمن بأنه الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم [البقرة:255].
ونؤمن بأنه هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم. هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون. هو الله الخالق الباري المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم [الحشر:22-24].
ونؤمن بأن له ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور. أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير [الشورى:49-50].
ونؤمن بأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . له مقاليد السموات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم [الشورى:11-12].
ونؤمن بأنه ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين [هود:6].
ونؤمن بأنه وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمت الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين [الأنعام:59].
ونؤمن بأن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ما ذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير [لقمان:34].
صفة الكلام
ونؤمن بأن الله يتكلم متى شاء بما شاء كيف شاء وكلم الله موسى تكليما [النساء:164]، ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه [الأعراف:143]، وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا [مريم:52].
ونؤمن بأنه لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي [الكهف:109]، ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من ورائه سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم [لقمان:27].
ونؤمن بأن كلماته أتم الكلمات صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام وحسناً في الحديث، قال تعالى: وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا [الأنعام:115]، وقال: () ومن أصدق من الله حديثا [النساء:87].(/1)
ونؤمن بأن القران الكريم كلام الله تعالى، تكلم به حقا، وألقاه على جبريل، فنزل به جبريل على قلب النبي قل نزله روح القدس من ربك بالحق [النحل:102]، وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين [الشعراء:192- 195].
العلو
ونؤمن بأن الله عز وجل عليّ على خلقه بذاته وصفاته، لقوله تعالى: وهو العلي العظيم [البقرة:255]، وقوله: وهو القاهر فوق عباده [الأنعام:18].
ونؤمن بأنه خلق السموت في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر [يونس:3]، واستواؤه على العرش علوه عليه علوا خاصاً يليق بجلاله وعظمته لا يعلم كيفيته إلا هو.
ونؤمن بأنه تعالى مع خلقه وهو على عرشه يعلم أحوالهم ويسمع أقوالهم ويرى أفعالهم ويبر أمورهم، يرزق الفقير ويجبر الكسير ويؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير، ومن كان هذا شأنه كان مع خلقه حقيقة وإن كان على فوقهم على عرشه حقيقة ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [الشورى:11].
ولا نقول كما تقول الحلولية من الجهمية وغيرهم: إنه مع خلقه على الأرض. ونرى أن من قال ذلك فهو كافر أو ضال؛ لأنه وصف الله بما لا يليق به من النقائص.
النزول
ونؤمن بما أخبر به عنه رسوله أنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: { من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر به }.
ونؤمن بأنه تعالى يأتي يوم المعاد للفصل بين العباد، لقوله تعالى: كلا إذا دكت الأرض دكا دكا، وجاء ربك والملك صفا صفا، وجاىء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى [الفجر:21-23].
أنواع الإرادة
ونؤمن بأنه تعالى فعال لما يريد [البروج:16].
ونؤمن بأن إرادته نوعان: كونية، يقع بها مراده ولا يلزم أن يكون محبوبا له، وهي التي بمعنى المشيئة، كقوله تعالى: ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد [البقرة:253]، وقوله: إن كان الله يريد أن يغويكم [هود:34]، وشرعية لا يلزم بها وقوع المراد ولا يكون المراد فيها إلا محبوبا له، كقوله تعالى: والله يريد أن يتوب عليكم [النساء:27].
ونؤمن أن مراده الكوني والشرعي تابع لحكمته فكل ما قضاه كونا أو تعبد له خلقه شرعا فإنه لحكمة وعلى وفق الحكمة، سواء علمنا منها ما نعلم أو تقاصرت عقولنا عن ذلك أليس الله بأحكم الحاكمين [التين:8]، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون [المائدة:50].
المحبة
ونؤمن بأن الله تعالى يحب أولياءه وهم يحبونه قل إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله [آل عمران:31]، فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه [المائدة:54]، والله يحب الصابرين [آل عمران:146]، وأقسطوا إن الله يحب المقسطين [الحجرات:9]، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين [البقرة:195].
ونؤمن بأن الله تعالى يرضى ما شرعه من الأعمال والأقوال، ويكره ما نهى عنه منها إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم [الزمر:7]، ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين [التوبة:46].
ونؤمن بأن الله يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه [البينة:8].
ونؤمن بأن الله تعالى يغضب على من يستحق الغضب من الكافرين وغيرهم الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم [الفتح:6]، ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم [النحل:106].
ونؤمن بأن لله تعالى وجها موصوفاً بالجلال والإكرام ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [الرحمن:27].
ونؤمن بأن لله تعالى يدين كريمتين عظيمتين بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء [المائدة:64]، وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموت مطويت بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [الزمر:67].
ونؤمن بأن لله تعالى عينين اثنتين حقيقيتين؛ لقوله تعالى: واصنع الفك بأعيننا ووحينا [هود:37]، وقال النبي : { حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه }. وأجمع أهل السنة على أن العينين اثنتين، ويؤيده قول النبي في الدجال: { إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور }.
ونؤمن بأن الله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير [الأنعام:103].
ونؤمن بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [القيامة:22-23].
ونؤمن بأن الله تعالى لا مثل له لكمال صفاته ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [الشورى:11].
ونؤمن بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم [البقرة:255] لكمال حياته وقيوميته.
ونؤمن بأنه لا يظلم أحدا لكمال عدله، وبأنه ليس بغافل عن أعمال عباده لكمال رقابته وإحاطته.(/2)
ونؤمن بأنه لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض لكمال علمه وقدرته إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [يس:82]، وبأنه لا يلحقه تعب ولا إعياء لكمال قوته: ولقد خلقنا السموت والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب [ق:38] أي من تعب أو إعياء.
ونؤمن بثبوت كل ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من الأسماء والصفات، لكننا نبرأ من محذورين عظيمين هما: التمثيل، أن يقول بقلبه أو لسانه صفات الله تعالى كصفات المخلوقين. والتكييف، أن يقول بقلبه أو لسانه كيفية صفات الله تعالى كذا وكذا.
ونؤمن بانتفاء كل ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسو له ، وأن ذلك النفي يتضمن إثباتاً لكمال ضده، ونسكت عما سكت عنه الله ورسوله.
ونرى أن السير على هذا الطريق فرض لا بد منه، وذلك لأن ما أثبته الله لنفسه أو نفاه عنها سبحانه فهو خبر أخبر الله به عن نفسه وهو سبحانه أعلم بنفسه وأصدق قيلا وأحسن حديثاً والعباد لا يحيطون به علماً. وما أثبته له رسوله أو نفاه عنه فهو خبر أخبر به عنه وهو أعلم الناس بربه وأنصح الخلق وأصدقهم وأفصحهم. ففي كلام الله تعالى ورسوله كمال العلم والصدق والبيان فلا عذر في رده أو التردد في قبوله.
فصل
وكل ما ذكرنا من صفات الله تعالى تفصيلاً أو إجمالاً، إثباتاً أو نفياً؛ فإننا في ذلك على كتاب ربنا وسنة نبينا معتمدون، وعلى ما سار عليه سلف الأمة وأئمة الهدى من بعدهم سائرون.
ونرى وجوب إجراء نصوص الكتاب والسنة في ذلك على ظاهرها، وحملها على حقيقتها اللائقة بالله عز وجل، ونتبرأ من طريق المحرفين لها الذين صرفوها إلى غير ما أراد الله بها ورسوله، ومن طريق المعطلين لها الذين عطلوها عن مدلولها الذي أراده الله ورسوله، ومن طريق الغالين فيها الذين حملوها على التمثيل أو تكلفوا لمدلولها التكييف.
ونعلم علم اليقين أن ما جاء في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه فهو حق لا يناقض بعضه بعضاً، لقوله تعالى: أفلا يتدبرون القران ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [النساء:82]، ولأن التناقض في الأخبار يستلزم تكذيب بعضها بعضاً، وهذا محال في خبر الله تعالى ورسوله . ومن ادعى أن في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله أو بينهما تناقضاً فذلك لسوء قصده وزيغ قلبه؛ فليتب إلى الله تعالى ولينزع عن غيه، ومن توهم التناقض في كتاب الله تعالى أو في سنة رسوله أو بينهما، فذلك إما لقلة علمه أو قصور فهمه أو تقصيره في التدبر، فليبحث عن العلم، وليجتهد في التدبر حتى يتبين له الحق، فإن لم يتبين له فليكل الأمر إلى عالمه، وليكف عن توهمه وليقل كما يقول الراسخون في العلم: آمنا به كل من عند ربنا [آل عمران:7]، وليعلم أن الكتاب والسنة لا تناقض فيهما ولا بينهما اختلاف.
فصل
ونؤمن بملائكة الله تعالى وأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون [الأنبياء:26-27]، خلقهم اله تعالى فقاموا بعبادته وانقادوا لطاعته لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهر لا يفترون [الأنبياء:19-20].
حجبهم عنا فلا نراهم، وربما كشفهم لبعض عباده، فقد رأى النبي جبريل على صورته له ستمائة جناح قد سد الأفق، وتمثل جبريل لمريم بشرا سوياً فخاطبته وخاطبها، وأتى إلى النبي صلى الله وعنده الصحابة بصورة رجل لا يعرف ولا يرى عليه أثر السفر، شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، فجلس إلى النبي فأسند ركبتيه إلى ركبتي النبي ، ووضع كفيه على فخذيه، وخاطب النبي ، وخاطبه النبي ، وأخبر النبي أصحابه أنه جبريل.
ونؤمن بأن للملائكة أعمالاً كلفوا بها: فمنهم جبريل الموكل بالوحي ينزل به من عند الله على من يشاء من أنبيائه ورسله، ومنهم ميكائيل: الموكل بالمطر والنبات، ومنهم إسرافيل: الموكل بالنفخ في الصور حين الصعق والنشور، ومنهم ملك الموت: الموكل بقبض الأرواح عند الموت، ومنهم ملك الجبال: الموكل بها، ومنهم مالك: خازن النار، ومنهم ملائكة موكلون الأجنة في الأرحام، وآخرون موكلون بحفظ بني آدم، وآخرون موكلون بكتابة أعمالهم، لكل شخص ملكان عن اليمين وعن الشمال قعيد ز ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق:17-18]، وآخرون موكلون بسؤال الميت بعد الانتهاء من تسليمه إلى مثواه، يأتيه ملكان يسألانه عن ربه و دينه و نبيه فـ يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء [إبراهيم:27]، ومنهم الملائكة الموكلون بأهل الجنة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار [الرعد:23-24]، وقد أخبر النبي أن البيت المعمور في السماء يدخله ـ وفي رواية ـ يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم.
فصل
ونؤمن بأن الله تعالى أنزل على رسله كتبا حجة على العالمين ومحجة للعاملين، يعلمونهم بها الحكمة ويزكونهم.(/3)
ونؤمن بأن الله تعالى أنزل مع كل رسول كتاباً: لقوله تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [الحديد:25].
ونعلم من هذه الكتب:
أ. التوراة: التي أنزلها الله على موسى عليه الصلاة السلام، وهي أعظم كتب بني إسرائيل فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء [المائدة:44].
ب. الإنجيل: الذي أنزله الله تعالى على عيسى عليه الصلاة السلام، وهو مصدق للتوراة ومتمم لها وآتينه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين [المائدة:46]، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم [آل عمران:50].
ج. الزبور: الذي آتاه الله تعالى داود عليه الصلاة السلام.
د. صحف إبراهيم وموسى: عليهما الصلاة والسلام.
هـ. القرآن العظيم: الذي أنزله الله على نبيه محمد خاتم النبيين هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان [البقرة:185]، فكان مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه [المائدة:48]، فنسخ الله به جميع الكتب السابقة، وتكفل بحفظه من عبث العابثين وزيغ المحرفين إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [الحجر:9]، لأنه سيبقى حجة على الخلق أجمعين إلى يوم القيامة.
وأما الكتب السابقة فإنها مؤقتة بأمد ينتهي بنزول ما ينسخها ويبين ما حصل فيها من تحريف وتغيير؛ ولهذا لم تكن معصومة من فقد وقع فيه التحريف والزيادة والنقص، من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه [النساء:46]، فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون [البقرة:79]، قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا [الأنعام:91]، وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون، ما كان لبشر أن يؤتيه الله الحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله [آل عمران:78-79]، يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب إلى قوله: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم [المائدة:15-17].
فصل
ونؤمن بأن الله تعالى بعث إلى خلقه رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما [النساء:165]، ونؤمن بأن أولهم نوح وآخرهم محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده [النساء:163]، ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين [الأحزاب:40]، وأن أفضلهم محمد ثم إبراهيم ثم موسى ثم نوح وعيسى ابن مريم وهم المخصوصون في قوله تعالى وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا [الأحزاب:7].
ونعتقد أن شريعة محمد حاوية لفضائل شرائع هؤلاء الرسل المخصوصين بالفضل لقوله تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه [الشورى:13].
ونؤمن بأن جميع الرسل بشر مخلوقون ليس لهم من خصائص الربوبية شيء، قال الله تعالى عن نوح وهو أولهم: ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك [هود:31]، وأمر الله محمداً وهو آخرهم أن يقول: لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا أقول إني ملك [الأنعام:50]، وأن يقول ( لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله [الأعراف:188]، وأن يقول: إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا، قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا [الجن:21-22].
ونؤمن بأنهم عبيد من عباد الله أكرمهم الله تعالى بالرسالة، ووصفهم بالعبودية في أعلى مقاماتهم وفي سياق الثناء عليهم، فقال عن أولهم نوح: ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا [الإسراء:3]، وقال في آخرهم محمد تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [الفرقان:1]، وقال في رسل آخرين: واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار [ص:45]، ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب [ص:30]، وقال في عيسى ابن مريم: إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلنه مثلا لبني إسرائيل [الزخرف:59].
ونؤمن بأن الله تعالى ختم الرسالات برسالة محمد ، وأرسله إلى جميع الناس لقوله تعالى: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموت والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلمته واتبعوه لعلكم تهتدون [الأعراف:158].(/4)
ونؤمن بأن شريعته هي دين الإسلام الذي ارتضاه اله تعالى لعبادة، وأن الله تعالى لا يقبل من أحد ديناً سواه لقوله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام [آل عمران:19] وقوله: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة:3] وقوله: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [آل عمران:85].
ونوى أن من زعم اليوم ديناً قائماً مقبولا عند الله سوى دين الإسلام، من دين اليهودية أو النصرانية أو غيرهما، فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدا؛ لأنه مكذب للقرآن.
ونرى أن من كفر برسالة محمد إلى الناس جميعا فقد كفر بجميع الرسل، حتى برسوله الذي يزعم أنه مؤمن به متبع له؛ لقوله تعالى: كذبت قوم نوح المرسلين [الشعراء:105]، فجعلهم مكذبين لجميع الرسل مع أنه لم يسبق نوحا رسول. وقال تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا لهم عذابا مهينا [النساء:150-151].
ونؤمن بأنه لا نبي بعد محمد رسول الله ، ومن ادعى النبوة بعده أو صدق من ادعاها فهو كافر؛ لأنه مكذب لله ورسوله وإجماع المسلمين.
ونؤمن بأن للنبي خلفاء راشدين خلفوه في أمته علما ودعوة وولاية على المؤمنين، وبأن أفضلهم وأحقهم بالخلافة أبو بكر الصديق، ثم عمر ابن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. وهكذا كانوا في الخلافة قدرا كما كانوا في الفضيلة. وما كان الله تعالى ـ وله الحكمة البالغة ـ ليولي على خير القرون رجلاً، وفيهم من هو خير منه وأجدر بالخلافة.
ونؤمن بأن المفضول من هؤلاء قد يتميز بخصيصة يفوق فيها من هو أفضل منه، لكنه لا يستحق بها التفضيل المطلق على من فضله؛ لأن موجبات الفضل كثيرة متنوعة.
ونؤمن بأن هذه الأمة خير الأمم وأكرمها على الله عز وجل، لقوله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [آل عمران:110].
ونؤمن بأن خير هذه الأمة الصحابة ثم التابعون ثم تابعوهم، وبأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله عز وجل.
ونعتقد أن ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم من الفتن، فقد صدر عن تأويل اجتهدوا فيه، فمن كان منهم مصيبا كان له أجران، ومن كان منهم مخطئا فله أجر واحد وخطؤه مغفور له، ونرى أنه يجب أن نكف عن مساوئهم، فلا نذكرهم إلا بما يستحقونه من الثناء الجميل، وأن نطهر قلوبنا من الغل والحقد على أحد منهم؛ لقوله تعالى فيهم: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى [الحديد:10] وقوله تعالى: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم [الحشر:10].
فصل
ونؤمن باليوم الآخر، وهو يوم القيامة الذي لا يوم بعده، حين يبعث الله الناس أحياء للبقاء إما في دار النعيم وإما في دار العذاب الأليم.
فنؤمن بالبعث وهو إحياء الله تعالى الموتى حين ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الثانية ونفخ في الصور صعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم ينظرون [الزمر:68]، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين، حفاة بلا نعال عراة بلا ثياب غرلاً بلا ختان كما بدأنا أول خلق نعيده وعد علينا إنا كنا فعلين [الأنبياء:104].
ونؤمن بصحائف الأعمال تعطى باليمين أو من وراء الظهور بالشمال فأما من أوتي كتابه بيمينه، فسوف يحاسب حسابا يسيرا، وينقل إلى أهله مسرورا، وأما من أوتي كتابه بشماله فسوف يدعو ثبورا، ويصلى سعيرا [الانشقاق:7-12]، وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [الإسراء:13-14].
ونؤمن بالموازين توضع يوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة:7-8]، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون. تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون [المؤمنون:102-104]، من جاء بالحسنة فه عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون [الأنعام:160].
ونؤمن بالشفاعة العظمى لرسول الله خاصة، يشفع عند الله تعالى بإذنه ليقضي بين عباده حين يصيبهم من الهم والكرب مالا يطيقون؛ فيذهبون إلى آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى حتى تنتهي إلى رسول الله .
ونؤمن بالشفاعة فيمن دخل النار من المؤمنين أن يخرجوا منها، وهي للنبي وغيره من النبيين والمؤمنين والملائكة، وبأن الله تعالى يخرج من النار أقواما من المؤمنين بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته.(/5)
ونؤمن بحوض رسول الله ، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من رائحة المسك، طوله شهر وعرضه شهر وآنيته كنجوم السماء حسنا وكثرة، يرده المؤمنون من أمته، من شرب منه لم يضمأ بعد ذلك.
ونؤمن بالصراط المنصوب على جهنم، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فيمر أولهم كالبرق ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرجال، والنبي قائم على الصراط يقول: يا رب سلم سلم، حتى تعجز أعمال العباد، فيأتي من يزحف، وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة تأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج ومكردس في النار.
ونؤمن بكل ما جاء في الكتاب والسنة من أخبار ذلك اليوم وأهواله، أعاننا الله عليها.
ونؤمن بشفاعة النبي لأهل الجنة أن يدخلوها، وهي للنبي خاصة.
ونؤمن بالجنة والنار، فالجنة دار النعيم التي أعدها الله للمؤمنين المتقين، فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [السجدة:17]. والنار دار العذاب أعدها الله تعالى للكافرين الظالمين، فيها من العذاب والنكال ما لا يخطر على البال إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا [الكهف:29]. وهما موجودتان الآن، ولن تفنيا أبد الآبدين ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا [الطلاق:11]، إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا، خالدين فيها أبدا لا يجدون فيها وليا ولا نصيرا، يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا [الأحزاب:64-66].
ونشهد بالجنة لكل من شهد له الكتاب والسنة بالعين أو بالوصف، فمن الشهادة بالعين: الشهادة لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم ممن عينهم النبي ، ومن الشهادة بالوصف: الشهادة لكل مؤمن أو تقي.
ونشهد بالنار لكل من شهد له الكتاب والسنة بالعين أو بالوصف، فمن الشهادة بالعين: الشهادة لأبي لهب وعمر بن لحي الخزاعي ونحوهما، ومن الشهادة بالوصف: الشهادة لكل كافر أو مشرك شركا أكبر أو منافق.
ونؤمن بفتنة القبر: وهي سؤال الميت في قبره عن ربه ودينه ونبيه فـ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة [إبراهيم:27]، فيقول المؤمن: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، وأما الكافر والمنافق فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.
ونؤمن بنعيم القبر للمؤمنين الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [النحل:32].
ونؤمن بعذاب القبر للظالمين الكافرين ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون [الأنعام:93].
والأحاديث في هذا كثيرة معلومة، فعلى المؤمن أن يؤمن بكل ما جاء به الكتاب والسنة من هذه الأمور الغيبية، وأن لا يعارضها بما يشاهد في الدنيا، فإن أمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا لظهور الفرق الكبير بينهما. والله المستعان.
فصل
ونؤمن بالقدر خيره وشره، وهو تقدير الله تعالى للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته.
وللقدر أربع مراتب:
المرتبة الأولى: العلم، فنؤمن بأن الله تعالى بكل شيء عليم، علم ما كان وما يكون وكيف يكون بعلمه الأزلي الأبدي، فلا يتجدد له علم بعد جهل، ولا يلحقه نسيان بعد علم.
المرتبة الثانية: الكتابة، فنؤمن بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة ألم تعلم أن الله يعلم ما في السموت والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير [الحج:70].
المرتبة الثالثة: المشيئة، فنؤمن بأن الله تعالى قد شاء كل ما في السموات والأرض، لا يكون شيء إلا بمشيئته، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
المرتبة الرابعة: الخلق، فنؤمن بأن الله تعالى: خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السموت والأرض [الزمر:62-63].
وهذه المراتب الأربع شاملة لما يكون من الله تعالى نفسه ولما يكون من العباد، فكل ما يقوم به العباد من أقوال أو أفعال أو تروك فهي معلومة لله تعالى مكتوبة عنده، والله تعالى قد شاءها وخلقها لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين [التكوير:28-29]، ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد [البقرة:253]، ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون [الأنعام:137]، والله خلقكم وما تعملون [الصافات:96].
ولكننا مع ذلك نؤمن بأن الله تعالى جعل للعبد اختيارا وقدرة بهما يكون الفعل، والدليل على أن فعل العبد باختياره وقدرته أمور:
الأول: قوله تعالى: فأتوا حرثكم أنى شئتم [البقر:223]، وقوله: ولو ارادوا الخروج لأعدوا له عدة [التوبة:46]، فأثبت للعبد إتيانا بمشيئته وإعدادا بإرادته.(/6)
الثاني: توجيه الأمر والنهي إلى العبد، ولو لم يكن له اختيار وقدرة لكان توجيه ذلك إليه من التكليف بما لا يطاق، وهو أمر تأباه حكمة الله تعالى ورحمته وخبره الصادق في قوله: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [البقر:286].
الثالث: مدح المحسن على إحسانه وذم المسيء على إساءته، وإثابة كل منهما بما يستحق، ولولا أن الفعل يقع بإرادة العبد واختياره لكان مدح المحسن عبثاً وعقوبة المسيء ظلماً، والله تعالى منزه عن العبث والظلم.
الرابع: أن الله تعالى أرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [النساء:165]، ولولا أن فعل العبد يقع بإرادته واختياره ما بطلت حجته بإرسال الرسل.
الخامس: أن كل فاعل يحس أنه يفعل الشيء أو يتركه بدون أي شعور بإكراه، فهو يقوم ويقعد، ويدخل ويخرج ويسافر ويقيم بمحض إرادة، ولا يشعر بأم أحدا يكرهه على ذلك، بل يفرق تفريقا واقعيا بين أن يفعل الشيء باختياره وبين أن يكرهه عليه مكره. وكذلك فرق الشرع بينهما تفريقا حكيما، فلم يؤآخذ الفاعل بما فعله مكرها عليه فيما يتعلق بحق الله تعالى.
ونرى أنه لا حجة للعاصي على معصيته بقدر الله تعالى؛ لأن العاصي يقدم على المعصية باختياره من غير أن يعلم أن الله تعالى قدرها عليه، إذ لا يعلم أحد قدر الله تعالى إلا بعد وقوع مقدوره وما تدري نفس ماذا تكسب غدا [لقمان:34]، فكيف يصح الاحتجاج بحجة لا يعلمها المحتج بها حين إقدامه على ما اعتذر بها عنه، وقد ابطل الله تعالى هذه الحجة بقوله تعالى: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [الأنعام:148].
ونقول للعاصي المحتج بالقدر: لماذا لا تقدم على الطاعة مقدرا أن الله تعالى قد كتبها لك، فإنه لا فرق بينها وبين المعصية في الجهل بالمقدور قبل صدور الفعل منك؟ ولهذا لما أخبر النبي الصحابة بأن كل واحد قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار قالوا: أفلا نتكل وندع العمل؟ قال: { لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له }.
ونقول للعاصي المحتج بالقدر: لو كنت تريد السفر لمكة وكان لها طريقان، أخبرك الصادق أن أحدهما مخوف صعب والثاني آمن سهل، فإنك ستسلك الثاني ولا يمكن أن تسلك الأول وتقول: إنه مقدر علي؛ ولو فعلت ذلك لعدك الناس في قسم المجانين.
ونقول أيضا: لو عرض عليك وظيفتان، إحداهما ذات مرتب أكثر، فإنك سوف تعمل فيها دون الناقصة، فكيف تختار لنفسك في عمل الآخرة ما هو الأدنى ثم تحتج بالقدر؟
ونقول له أيضا: نراك إذا أصبت بمرض جسمي طرقت باب كل طبيب لعلاجك، وصبرت على ما ينالك من ألم عملية الجراحة وعلى مرارة الدواء، فلماذا لا تفعل مثل ذلك في مرض قلبك بالمعاصي؟
ونؤمن بأن الشر لا ينسب إلى الله تعالى لكمال رحمته وحكمته، قال النبي : { والشر ليس إليك } [رواه مسلم]، فنفس قضاء الله تعالى ليس فيه شر أبداً، لأنه صادر عن رحمة وحكمة، وإنما يكون الشر في مقضياته؛ لقول النبي صلى اله عليه وسلم في دعاء القنوت الذي علمه الحسن: { وقني شر ما قضيت } فأضاف الشر إلى ما قضاه، ومع هذا فإن الشر بالمقضيات ليس شراً خالصاً محضاً، بل هو شر في محله من وجه، وخير من وجه، أو شر في محله، خير في محل آخر؛ فالفساد في الأرض من الجدب والمرض والفقر والخوف شر، لكنه خير في محل آخر، قال الله تعالى ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون [الروم:41]، وقطع يد السارق ورجم الزاني شر بالنسبة للسارق والزاني في قطع اليد وإزهاق النفس، لكنه خير لهما من وجه آخر، حيث يكون كفارة لهما فلا يجمع لهما بين عقوبتي الدنيا والآخرة، وهو أيضا خير في محل آخر، حيث إن فيه حماية الأموال والأعراض والأنساب.
فصل
هذه العقيدة السامية المتضمنة لهذه الأصول العظيمة تثمر لمعتقدها ثمرات جليلة كثيرة؛ فالإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته يثمر للعبد محبة لله وتعظيمه الموجبين للقيام بأمره واجتناب نهيه، والقيام بأمر الله تعالى واجتناب نهيه يحصل بها كمال السعادة في الدنيا والآخرة للفرد والمجتمع من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [النحل:97].
ومن ثمرات الإيمان بالملائكة:
أولا: العلم بعظمة خالقهم تبارك وتعالى وقوته وسلطانه.
ثانيا: شكره تعالى على عنايته بعباده، حيث وكل بهم من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم وكتابة أعمالهم غير ذلك من مصالحهم.
ثالثا: محبة الملائكة على ما قاموا به من عبادة الله تعالى على الوجه الأكمل ولاستغفارهم للمؤمنين.
ومن ثمرات الإيمان بالكتب:
أولا: العلم برحمة الله تعالى ورحمة بخلقه، حيث أنزل لكل قوم كتابا يهديهم به.(/7)
ثانيا: ظهور حكمة الله تعالى، حيث شرع في هذه الكتب لكل أمة ما يناسبها، وكان خاتم هذه الكتب القران العظيم مناسبا لجميع الخلق في كل عصر ومكان إلى يوم القيامة.
ثالثا: شكر نعمة الله تعالى على ذلك.
ومن ثمرات الإيمان بالرسل:
أولا: العلم برحمة الله تعالى وعنايته بخلقه، حيث أرسل إليهم أولئك الرسل الكرام للهداية والإرشاد.
ثانيا: شكره تعالى على هذه النعمة الكبرى.
ثالثا: محبة الرسل وتوقيرهم والثناء عليهم بما يليق بهم؛ لأنهم رسل الله تعالى وخلاصة عبيده، قاموا لله بعبادته وتبليغ رسالته والنصح لعباده والصبر على أذاهم.
ومن ثمرات الإيمان باليوم الآخر:
أولا: الحرص على طاعة الله تعالى رغبة في ثواب ذلك اليوم، والبعد عن معصيته خوفا من عقاب ذلك اليوم.
ثانيا: تسلية المؤمن عما يفوته من نعيم الدنيا ومتاعها، بما يرجوه من نعيم الآخرة وثوابها.
ومن ثمرات الإيمان بالقدر:
أولاك الاعتماد على الله تعالى عند فعل الأسباب؛ لأن السبب والمسبَب كلاهما بقضاء الله وقدره.
ثانيا: راحة النفس وطمأنينة القلب؛ أنه متى علم أن ذلك بقضاء الله تعالى، وأن المكروه كائن لا محالة، ارتاحت النفس واطمأن القلب ورضي بقضاء الرب، فلا أحد أطيب عيشا وأريح نفسا وأقوى طمأنينة ممن آمن بالقدر.
ثالثا: طرد الإعجاب بالنفس عند حصول المراد؛ لأن حصول ذلك نعمة من الله بما قدره من أسباب الخير والنجاح، فيشكر الله تعالى على ذلك ويدع الإعجاب.
رابعا: طرد القلق والضجر عند فوات المراد أو حصول المكروه؛ لأن ذلك بقضاء الله تعالى الذي له ملك السموات والأرض وهو كائن لا محالة، فيصبر على لك ويحتسب الأجر، وإلى هذا يشير الله تعالى بقوله: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور [الحديد:22-23].
فنسأل الله تعالى أن يثبتنا على هذه العقيدة، وأن يحقق لنا ثمراتها ويزيدنا من فضله، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
تمت بقلم مؤلفها محمد الصالح العثيمين في 30 شوال 1404هـ(/8)
عقيدة الإمام أبي حنيفة - 150 هـ -
هذه طائفة من أقوال الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى ... فيما يعتقده في مسائل أصول الدين ... مع بيان موقفه من علم الكلام :
أ - أقوال الإمام أبي حنيفة في التوحيد :
أولا : عقيدته في توحيد الله وبيان التوسل الشرعي وإبطال التوسل البدعي :
1 - قال أبو حنيفة : ( لا ينبغي لاحد أن يدعو الله إلا به ، والدعاء المأذون فيه ، المأمور به ، ما استفيد من قوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ) [ الدر المختار من حاشية المختار 6/396-397 ] .
(2) قال أبو حنيفة : ( يكره أن يقول الداعي : أسألك بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام ) [ شرح العقيدة الطحاوية 234، واتحاف السادة المتقين 2/285 ، وشرح الفقه الأكبر للقاري 189 ] .
(3) وقال أبو حنيفة : ( لا ينبغي لأحد أن يدعوا الله إلا به ، وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك ، أو بحق خلقك ) . [ التوسل والوسيلة ص82 , وانظر شرح الفقه الأكبرص198]
ثانيا : قوله في إثبات الصفات والرد على الجهمية :
(4) وقال : ( لا يوصف الله تعالى بصفات المخلوقين ، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف ، وهو قول أهل السنة والجماعة ، وهو يغضب ويرضى ، ولا يقال : غضبه عقوبته ، ورضاه ثوابه ، ونصفه كما وصف نفسه ، أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، حي قادر سميع بصير عالم ، يد الله فوق ايديهم ، ليست كايدي خلقه ، ووجهه ليس كوجوه خلقه ) [ الفقه الابسط 56 ] .
(5) وقال : ( وله يد ووجه ونفس ، كما ذكره الله تعالى في القرآن ، فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس ، فهو له صفات بلا كيف ، ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته ، لأن فيه إبطال الصفة ، وهو قول أهل القدر والاعتزال ) [ الفقه الأكبر 302 ] .
(6) وقال : ( لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات الله بشيء ، بل يصفه بما وصف به نفسه ، ولا يقول فيه برأيه شيئا تبارك الله وتعالى رب العالمين ) [ شرح الطحاوية 2/427 ، جلاء العينين 368 ] .
(7) ولما سئل عن النزول الإلهي قال : ( ينزل بلا كيف ) [ عقيدة السلف أصحاب الحديث 42 ، الأسماء والصفات للبيهقي 456 ، شرح الطحاوية 245 ، شرح الفقه الأكبر للقاري 60 ] .
(8) وقال أبو حنيفة : ( والله تعالى يدعى من أعلى لا من اسفل ، لأن الأسفل ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء ) [ الفقه الابسط 51 ] .
(9) وقال : ( وهو يغضب ويرضى ، ولا يقال غضبه عقوبته ورضاه ثوابه ) [ الفقه الأبسط 56 ] .
(10) وقال : ( ولا يشبه شيئا من الاشياء من خلقه ، ولا يشبهه شيء من خلقه ، لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته ) [ الفقه الأكبر 301 ] .
(11) وقال : ( وصفاته بخلاف صفات المخلوقين ، يعلم لا كعلمنا ، ويقدر لا كقدرتنا ، ويرى لا كرؤيتنا ، ويسمع لا كسمعنا ، ويتكلم لا ككلامنا ) [ الفقه الأكبر 302 ] . (12) وقال : ( لا يوصف الله تعالى بصفات المخلوقين ) [ الفقه الابسط 56 ] .
(13) وقال : ( من وصف الله بمعنى من معاني البشر ، فقد كفر ) [ العقيدة الطحاوية ] .
(14) وقال : ( وصفاته الذاتية والفعلية ، أما الذاتية فالحياة والقدرة والعلم والكلام والسمع والبصر والإرادة ، وأما الفعلية فالتخليق والترزيق والإنشاء والإبداع والصنع وغير ذلك من صفات الفعل ، لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته ) [ الفقه الأكبر 301 ] .
(15) وقال : ( ولم يزل فاعلا بفعله ، والفعل صفة في الأزل ، والفاعل هو الله تعالى ، والفعل صفة في الأزل ، والمفعول مخلوق ، وفعل الله تعالى غير مخلوق ) [ الفقه الأكبر 301 ] .
(16) وقال : ( من قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر ، وكذا من قال إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أم في الأرض ) [ الفقه الأبسط 46 ، ونقل نحو هذا شيخ الإسلام في مجموع الفتاوي 48/5 ، وابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية 139 ، والذهبي في العلو 101 -102 ، وابن قدامة في العلو 116 ، وابن أبي العز في شرح الطحاوية 301 ] .
(17) وقال للمرأة التي سألته أين إلهك الذي تعبده ؟ ، قال : ( إن الله سبحانه وتعالى في السماء دون الأرض ) ، فقال له رجل : أرأيت قول الله تعالى { وهو معكم } ؟ قال : ( هو كما تكتب للرجل إني معك وأنت غائب عنه ) [ الأسماء والصفات 429 ] .
(18) وقال كذلك : ( يد الله فو أيديهم ، ليست كأيدي خلقه ) [ الفقه الأبسط 56 ] .
(19) وقال : ( إن الله سبحانه وتعالى في السماء دون الأرض ) ، فقال له رجل : أرأيت قول الله تعالى [ وهو معكم ] ؟ ، قال : ( هو كما تكتب لرجل إني معك ، وأنت غائب عنه ) [ الأسماء والصفات 2/170 ] .
(20) وقال : ( قد كان متكلما ولم يكن ، كلم موسى عليه السلام ) [ الفقه الأكبر 302 ] .
(21) وقال : ( ومتكلما بكلامه ، والكلام صفة في الأزل ) [ الفقه الأكبر 301 ] .(/1)
(22) وقال : ( ويتكلم ، لا ككلامنا ) [ الفقه الأكبر 302 ] .
(23) وقال : ( وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى ، كما قال الله تعالى { وكلم موسى تكليما } ، وقد كان الله تعالى متكلما ولم يكن كلم موسى عليه السلام ) [ الفقه الأكبر 302 ] .
(24) وقال : ( والقرآن كلام الله ، في المصاحف مكتوب ، وفي القلوب محفوظ ، وعلى الألسن مقروء ، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم أنزل ) [ الفقه الأكبر 301 ] .
(25) وقال : ( والقرآن غير مخلوق ) [ الفقه الأكبر 301 ] .
ب - أقوال الإمام أبي حنيفة في القدر :
(1) جاء رجل إلى الإمام أبي حنيفة يجادله في القدر ، فقال له : ( أما علمت أن الناظر في القدر كالناظر في عيني الشمس ، كلما إزداد نظرا إزداد تحيرا ) [ قلائد عقود العقيان ق77ب ] .
(2) يقول الإمام أبو حنيفة : ( وكان الله تعالى عالما في الأزل بالاشياء قبل كونها ) [ الفقه الأكبر 302-303 ] .
(3) وقال : ( يعلم الله تعالى المعدوم في حالة عدمه معدوما ، ويعلم أنه كيف يكون إذا أوجده ، ويعلم الله تعالى الموجود في حالة وجوده موجودا ، ويعلم كيف يكون فناؤه ) [ الفقه الأكبر 302 - 303 ] .
(4) يقول الإمام أبو حنيفة : ( وقدره في اللوح المحفوظ ) [ الفقه الأكبر 302 ] .
(5) وقال : ( ونقر بأن الله تعالى أمر بالقلم أن يكتب ، فقال القلم : ماذا أكتب يا رب ؟ فقال الله تعالى : أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، لقوله تعالى : { وكل شيء فعلوه في الزبر * وكل صغير وكبير مستطر } ) [ الوصية مع شرحها 21 ] .
(6) وقال الإمام أبو حنيفة : ( ولا يكون شيء في الدنيا ولا في الآخرة إلا بمشيئته ) [ الفقه الأكبر 302 ] .
(7) ويقول الإمام أبو حنيفة : ( خلق الله الأشياء لا من شيء ) [ الفقه الأكبر 302 ] .
(8) وقال : ( وكان الله تعالى خالقا قبل ان يخلق ) [ الفقه الأكبر 304 ] .
(9) وقال : ( نقر بأن العبد مع اعماله وإقراره ومعرفته مخلوق ، فلما كان الفاعل مخلوقا ، فأفعاله أولى أن تكون مخلوقة ) [ الوصية مع شرحها 14 ] .
(10) وقال : ( جميع أفعال العباد من الحركة والسكون : كسبهم ، والله تعالى خالقها ، وهي كلها بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره ) [ الفقه الأكبر 303 ] .
(11) قال الإمام أبو حنيفة : ( وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون كسبهم على الحقيقة ، والله تعالى خلقها ، وهي كلها بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره ، والطاعات كلها كانت واجبة بأمر الله تعالى وبمحبته وبرضاه وعلمه ومشيئته وقضائه وتقديره ، والمعاصي كلها بعلمه وقضائه وتقديره ومشيئته ، لا بمحبته ولا برضاه ولا بأمره ) [ الفقه الأكبر 303 ] .
(12) وقال : ( خلق الله تعالى الخلق سليما من الكفر والإيمان ، ثم خاطبهم وأمرهم ونهاهم ، فكفر من كفر بفعله وإنكاره وجحوده الحق بخذلان الله تعالى إياه ، وآمن من أمن بفعله وإقراره وتصديقه بتوفيق الله تعالى ونصرته له ) [ الفقه الأكبر 302-303 ] … والصواب : خلق الله تعالى الخلق على فطرة الإسلام ، كما سيبينه الإمام أبو حنيفة في قوله الآتي .
(13) وقال : ( وأخرج ذرية آدم من صلبه على صور الذر ، فجعلهم عقلاء ، فخاطبهم وأمرهم بالإيمان ، ونهاهم عن الكفر ، فأقروا له بالربوبية ، فكان ذلك منهم إيمانا ، فهم يولدون على تلك الفطرة ، ومن كفر بعد ذلك فقد بدل وغير ، ومن آمن وصدق فقد ثبت عليه وداوم ) [ الفقه الأكبر 302 ] .
(14) وقال : ( وهو الذي قدر الأشياء وقضاها ، ولا يكون في الدنيا ولا في الآخرة شيء إلا بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره ، وكتبه في اللوح المحفوظ ) [ الفقه الأكبر 302 ] .
(15) وقال : ( لم يجبر أحدا من خلقه على الكفر ولا على الإيمان ، ولكن خلقهم اشخاصا ، والإيمان والكفر فعل العباد ، ويعلم الله تعالى من يكفر في حال كفره ، فإذا آمن بعد ذلك ، فإذا علمه مؤمنا أحبه من غير أن يتغير علمه ) [ الفقه الأكبر 303 ] .
ج - أقوال الإمام أبي حنيفة في الإيمان :
(1) قال : ( والإيمان هو الإقرار والتصديق ) [ الفقه الأكبر 304 ] .
(2) وقال : ( الإيمان إقرار باللسان ، وتصديق بالجنان ، والإقرار وحده لا يكون إيمانا ) [ كتاب الوصية مع شرحها 2] ، ونقله الطحاوي عن ابي حنيفة وصاحبه [ شرح الطحاوية 306 ] .
(3) وقال أبو حنيفة : ( والإيمان لا يزيد ولا ينقص ) [ الوصية مع شرحها 3 ] .
قلت : قوله في عدم زيادة الإيمان ونقصانه ، وقوله في مسمى الإيمان ، وأنه تصديق بالجنان وإقرار باللسان ، وأن العمل خارج عن حقيقة الإيمان … قوله هذا هو الفارق بين عقيدة الإمام أبي حنيفة في الإيمان وبين عقيدة سائر أئمة الإسلام - مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والبخاري وغيرهم - والحق معهم ، وقول أبي حنيفة مجانب للصواب ، وهو مأجور في الحالين ، وقد ذكر ابن عبد البر وابن أبي العز ما يشعر أن أبا حنيفة رجع عن قوله [ التمهيد لابن عبد البر 9/247 ، شرح الطحاوية 395 ] … والله أعلم .(/2)
د - أقوال الإمام أبي حنيفة في الصحابة :
(1) قال الإمام أبو حنيفة : ( ولا نذكر أحدا من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بخير ) [ الفقه الأكبر 304 ] .
(2) وقال : ( ولا نتبرأ من أحد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا نوالي أحدا دون أحد ) [ الفقه الأبسط 40 ] .
(3) ويقول : ( مقام أحدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة واحدة ، خير من عمل أحدنا جميع عمره ، وإن طال ) [ مناقب أبي حنيفة للمكي 76 ] .
(4) وقال : ( ونقر بأن أفضل هذه الأمة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : أبو بكر الصديق ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضوان الله عليهم أجمعين ) [ الوصية مع شرحها 14 ] .
(5) وقال : ( افضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، ثم نكف عن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بذكر جميل ) [ النور اللامع ق119-ب ] .
هـ - نهيه عن الكلام والخصومات في الدين :
(1) قال الإمام أبو حنيفة : ( أصحاب الأهواء بالبصرة كثير ، ودخلتها عشرين مرة ونيفا ، وربما أقمت بها سنة أو أكثر أو أقل ظانا أن علم الكلام أجل العلوم ) [ مناقب أبي حنيفة للكردي 137 ] .
(2) وقال : ( كنت أنظر في الكلام حتى بلغت مبلغا يشار إلي فيه بالأصابع ، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حماد بن أبي سليمان ، فجاءتني امرأة فقالت : رجل له امرأة أمة أراد أن يطلقها للسنة كم يطلقها ؟ فلم أدر ما أقول ، فأمرتها أن تسأل حمادا ثم ترجع فتخبرني ، فسألت حمادا ، فقال : يطلقها وهي طاهر من الحيض والجماع تطليقة ثم يتركها حتى تحيض حيضتين فإذا اغتسلت فقد حلت للأزواج ، فرجعت فأخبرتني ، فقلت : لا حاجة لي في الكلام ، وأخذت نعلي فجلست إلى حماد ) [ تاريخ بغداد 13/333 ] .
(3) وقال : ( لعن الله عمرو بن عبيد ، فإنه أحدث للناس الطريق إلى الكلام فيما لا ينفعهم في الكلام ) [ ذم الكلام للهروي 28-31 ] .
(4) وقال حماد بن أبي حنيفة : ( دخل علي أبي رحمه الله يوما وعندي جماعة من أصحاب الكلام ، ونحن نتناظر في باب ، قد علت أصواتنا ، فلما سمعت حسه في الدار خرجت إليه ، فقال لي: يا حماد من عندك ؟ قلت : فلان وفلان وفلان ، سميت من كان عندي ، قال : وفيم انتم ؟ قلت : في باب كذا وكذا ، فقال لي : يا حماد دع الكلام ، قال ولم أعهد أبي صاحب تخليط ولا ممن يأمر بالشيء ثم ينهي عنه ، فقلن له : يا أبت ألست كنت تأمرني به ؟! قال : بلى يا بني وأنا اليوم أنهاك عنه ، قلت : ولم ذاك ؟! فقال : يا بني إن هؤلاء المختلفين في ابواب من الكلام ممن ترى كانوا على قول واحد ودين واحد حتى نزغ الشيطان بينهم فألقى بينهم العداوة والاختلاف فتباينوا … ) [ مناقب أبي حنيفة للمكي 183-184 ] .
(5) وقال أبو حنيفة لأبي يوسف : ( إياك أن تكلم العامة في أصول الدين من الكلام ، فإنهم قوم يقلدونك فيشتغلون بذلك ) [ مناقب أبي حنيفة للمكي 373 ]
هذه طائفة من أقواله رحمه الله … وما يعتقده في مسائل أصول الدين ، وموقفه من الكلام والمتكلمين .
-------------------
(كتاب / اعتقاد أئمة السلف ) جمع / د ز محمد بن عبد الرحمن الخميس(/3)
عقيدة الإمام الشافعي - 204 هـ -
أ - قوله في التوحيد :
1 - أخرج البيهقي عن الربيع بن سليمان قال : قال الشافعي : (( من حلف بالله أو باسم من أسمائه فحنث فعليه الكفارة ومن حلف بشيء غير الله مثل أن يقول الرجل : والكعبة وأبي وكذا , وكذا ما كان , فحنث فلا كفارة عليه ومثل ذلك قوله لعمري . . لا كفارة عليه ويمين بغير الله فهي مكروهة منهي عنها من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم ( إن الله عز وجل نهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت ) . . . ))
وعلل الشافعي لذلك بأن أسماء الله غير مخلوقة فمن حلف باسم الله فحنث فعليه الكفارة .
2 - وأورد ابن القيم في اجتماع الجيوش عن الشافعي أنه قال : (( القول في السنة التي أنا عليها ورأيت أصحابنا عليها أهل الحديث الذين رأيتهم وأخذت عنهم مثل سفيان ومالك وغيرهما الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء ))
3 - وأورد الذهبي عن المزني قال : (( قلت )) إن كان أحد يخرج ما في ضميري وما تعلق به خاطري من أمر التوحيد فالشافعي فصرت إليه وهو في مسجد مصر فلما جثوت بين يديه قلت هجس في ضميري مسألة في التوحيد فعلمت أن أحدا يعلم علمك فما الذي عندك ؟ فغضب ثم قال : (( أتدري أين أنت ؟ )) قلت : نعم . قال : (( هذا الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك ؟ )) قلت : لا قال :(( هل تكلم فيه الصحابة )) قلت : لا . قال : (( تدري كم نجما في السماء ؟ )) . قلت : لا . قال : (( فكوكب منها تعرف جنسه طلوعه أفوله مم خلق ؟ )) . قلت : لا. قال: (( فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه تتكلم في علم خالقه ؟ ))ثم سألني عن مسألة في الوضوء فأخطأت فيها ففرعها على أربعة أوجه فلم أصب في شيء منه فقال : (( تحتاج إليه في اليوم خمس مرات تدع علمه وتتكلف علم الخالق إذا هجس في ضميرك ذلك فارجع إلى قول الله تعالى : [ وإلاهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إن في خلق السموات والأرض ]فاستدل بالمخلوق على الخالق ولا تتكلف علم مالم يبلغه عقلك ))
4 - وأخرج ابن عبد البر عن يونس بن عبد الأعلى قال : سمعت الشافعي يقول : (( إذا سمعت الرجل يقول الاسم غير المسمى أو الشيء غير الشيء فاشهد عليه بالزندقة ))
5 - وقال الشافعي في كتابه الرسالة : ((الحمد لله . . الذي هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصفه به خلقه ))
6- وأورد الذهبي في السير عن الشافعي أنه قال : (( نثبت هذه الصفات التي جاء بها القران ووردت بها السنة وننفي التشبيه عنه كما نفى عن نفسه فقال : [ ليس كمثله شيء ]
7 - وأخرج ابن عبد البر عن الربيع بن سليمان قال : سمعت الشافعي يقول في قول الله عز وجل : [كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ] : (( أعلمنا بذلك أن ثم قوما غير محجوبين ينظرون إليه لا يضامون في رؤيته ))
8 - وأخرج اللالكائي عن الربيع بن سليمان قال : حضرت محمد بن إدريس الشافعي جاءته رقعة من الصعيد فيها ما تقول في قوله تعالى : [ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ] . قال الشافعي : (( فلما أن حجبوا هؤلاء في السخط كان هذا دليلا على أنهم يرونه في الرضا )) قال الربيع : قلت يا أبا عبد الله وبه تقول ؟ قال : (( نعم وبه أدين الله )).
9 - وأخرج ابن عبد البر عن الجارودي قال ذكر عند الشافعي إبراهيم بن إسماعيل بن عليه فقال : (( أنا مخالف له في كل شيء وفي قول لا إله إلا الله لست أقول كما يقول أنا أقول لا إله إلا الله الذي كلم موسى عليه السلام تكليما من وراء حجاب وذاك يقول لا إله إلا الله الذي خلق كلاما أسمعه موسى من وراء حجاب )) .
10 - وأخرج اللالكائي عن الربيع بن سليمان قال الشافعي : ((من قال القرآن مخلوق فهو كافر ))
11- وأخرج البيهقي عن أبي محمد الزبير قال : قال رجل للشافعي أخبرني عن القرآن خالق هو ؟
قال الشافعي : (( اللهم لا )) قال : فمخلوق ؟ قال الشافعي : (( اللهم لا )) قال : فغير مخلوق ؟ قال الشافعي : (( اللهم نعم )) .
قال : فما الدليل على أنه غير مخلوق ؟ فرفع الشافعي رأسه وقال : (( تقر بأن القرآن كلام الله ؟))
قال : نعم . قال الشافعي : (( سبقت في هذه الكلمة قال الله تعالى ذكره : [ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام ] [ وكلم الله موسى تكليما] قال الشافعي : (( فتقر بأن الله كان وكان كلامه ؟ أو كان الله ولم يكن كلامه ؟)) فقال الرجل : بل كان الله وكان كلامه .
قال : فتبسم الشافعي وقال : (( يا كوفيون إنكم لتأتوني بعظيم من القول إذا كنتم تقرون بأن الله كان قبل القبل وكان كلامه فمن أين لكم الكلام : ( إن الكلام الله أو سوى الله أو غير الله أو دون الله )
قال فسكت الرجل وخرج )) .(/1)
12 - وفي جزء الاعتقاد المنسوب للشافعي من رواية أبي طالب العشاري ما نصه قال وقد سئل عن صفات الله عز وجل وما ينبغي أن يؤمن به فقال : (( لله تبارك وتعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته لا يسع أحد من خلق الله عز وجل قامت لديه الحجة إن القرآن نزل به وصحيح عنده قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه العدل خلافه فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر بالله عز وجل فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالدراية والفكر ونحو ذلك أخبار الله عز وجل أنه سميع وأن له يدين بقوله عز وجل : [ بل يداه مبسوطتان ] أن له يمينا بقوله عز وجل : [ والسموات مطويات بيمينه ] وأن له وجها بقوله عز وجل : [ كل شيء هالك إلا وجهه ] وقوله : [ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ] وأن له قدما بقوله صلى الله عليه وسلم : ( حتى يضع الرب عز وجل فيها قدمه ) يعني جهنم لقوله صلى الله عليه وسلم للذي قتل في سبيل الله عز وجل ( أنه لقي الله عز وجل وهو يضحك إليه ) وأنه يهبط كل ليلة إلى السماء الدنيا بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وأنه ليس بأعور لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذ ذكر الدجال فقال إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور وأن المؤمنين يرون ربهم عز وجل يوم القيامة بأبصارهم كما يرون القمر ليلة البدر وأن له أصبعا بقوله صلى الله عليه وسلم : ( ما من قلب إلا هو بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل ) وأن هذه المعاني التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم لا يدرك حقه ذلك بالذكر والدراية ويكفر بجهلها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه وإن كان الوارد بذلك خبرا يقوم في الفهم مقام المشاهدة في السماع (( وجبت الدينونة )) على سامعه بحقيقته والشهادة عليه كم عاين وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن نثبت هذه الصفات وننفي التشبيه كما نفى ذلك عن نفسه تعالى ذكره فقال : [ ليس كمله شيء وهو السميع البصير ] . . )) آخر الاعتقاد
ب - قوله في القدر :
1 - أخرج البهقي عن الربيع بن سليمان قال سئل الشافعي عن القدر فقال :
(( ما شئت كان وإن لم أشأ وما شئت إن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت ففي العلم يجري الفتن والمسن
على ذا مننت وهذا خذلت وهذا أعنت وذا لم تعن
فمنهم شقي ومنهم سعيد ومنهم قبيح ومنهم حسن ))
2 - أورد البيهقي في مناقب الشافعي أن الشافعي قال : (( إن مشيئة العباد هي إلى الله تعالى ولا يشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين فإن الناس لم يخلقوا أعمالهم وهي خلق من خلق الله تعالى أفعال العباد وإن القدر خيره وشره من الله عز وجل وإن عذاب القبر حق ومساءلة أهل القبور حق والبعث حق والحساب حق والجنة والنار حق وغير مما جاءت به السنن )) .
3 - أخرج اللالكائي عن المزني قال : قال الشافعي : (( تدر من القدري ؟ الذي يقول : إن الله لم يخلق شيئا حتى عمل به ))
4 - أورد البهقي عن الشافعي أنه قال : (( القدرية الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هم مجوس هذه الأمة ) الذين يقولون إن الله لا يعلم المعاصي حتى تكون )) .
5 - وأخرج البيهقي عن الربيع بن سليمان عن الشافعي أنه كان يكره الصلاة خلف القدري
ج - قوله في الإيمان :
1- أخرج ابن عبد البر عن الربيع قال : ( سمعت الشافعي يقول : (( الإيمان قول وعمل واعتقاد بالقلب ألا ترى قول الله عز وجل : [ وما كان الله ليضيع إيمانكم ] يعني صلاتكم إلى بيت المقدس فسمى الصلاة إيمانا وهي قول وعمل وعقد ))
2 - وأخرج البيهقي عن الربيع بن سليمان قال : سمعت الشافعي يقول : (( الإيمان قول وعمل يزيد وينقص )) .(/2)
3 - وأخرج البيهقي عن أبي محمد الزبيري قال : قال رجل للشافعي : أي الأعمال عند الله أفضل ؟ قال الشافعي : (( ما لا يقبل عملا إلا به )) قال : وما ذاك ؟ قال : (( الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو أعلى الأعمال درجة وأشرفها منزلة وأسناها حظا )) قال الرجل : ألا تخبرني عن الإيمان قول وعمل أو قول بلا عمل ؟ قال الشافعي : (( الإيمان عمل لله والقول بعض ذلك العمل )) قال الرجل : صف لي ذلك حتى أفهمه . قال الشافعي : (( إن للإيمان حالات ودرجات وطبقات فمنها التام المنتهي تمامه والناقص البين نقصانه والراجح الزائد رجحانه )) قال الرجل : وإن الإيمان لا يتم وينقص ويزيد ؟ قال الشافعي : (( نعم )) قال : وما الدليل على ذلك ؟ قال الشافعي : (( إن الله جل ذكره فرض الإيمان على جوارح بني آدم فقسمه فيها وفرقه عليها فليس من جوارحه جارحة إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما ما وكلت به أختها بفرض من الله تعالى : فمنها : قلبه الذي يعقل به ويفقه ويفهم وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره ومنها : عيناه اللتان ينظر بهما وأذناه اللتان يسمع بهما ويداه اللتان يبطش بهما ورجلاه اللتان يمشي بهما وفرجه الذي ألباه من قبله ولسانه الذي ينطق به ورأسه الذي فيه وجهه فرض على القلب غير ما فرض على اللسان وفرض على السمع غير ما فرض على العينين وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه فأما فرض الله على القلب من الإيمان : فالإقرار والمعرفة والعقد والرضى والتسليم بأن الله لا إله إلا هو وحده لاشريك له لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله والإقرار بما جاء من عند الله من نبي أو كتاب فذلك ما فرض الله جل ثناؤه على القلب وهو عمله [ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدره ] وقال : [ ألا بذكر الله تطمئن القلوب ] وقال : [ من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ] وقال : [ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ] فذلك مافرض الله على القلب من إيمان وهو عمله وهو رأس الإيمان وفرض الله على اللسان : القول والتعبير عن القلب بما عقد وأقر به فقال في ذلك : [ قولوا آمنا بالله ] وقال : [ وقولوا للناس حسنا ] فذلك ما فرض الله على اللسان من القول والتعبير عن القلب وهو عمله والفرض عليه من الإيمان وفرض الله على السمع : أن يتنزه عن الاستماع إلى ما حرم الله وأن يغض عن ما نهى الله عنه فقال في ذلك : [ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ] ثم استثنى موضع النسيان فقال جل وعز
[ وإما ينسينك الشيطان ] أي : فقعدت معهم [ فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ] وقال : [ فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ] وقال : [ قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ] إلى قوله : [ والذين هم للزكاة فاعلون ] وقال : [ وإذا سمعوا اللغوا أعرضوا عنه ] وقال : [ وإذا مروا باللغوا مروا كراما ] فذلك ما فرض الله جل ذكره على السمع من التنزيه عما لا يحل له وهو عمله وهو من الإيمان
((وفرض على العينين )) : ألا ينظر بهما ما حرم الله وأن يغضهما عما نهاه عنه فقال تبارك وتعالى في ذلك : [ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ] الآيتين : أن ينظر أحدهم إلى فرج أخيه ويحفظ فرجه من أن ينظر إليه .
وقال : كل شيء من حفظ الفرج في كتاب الله فهو من الزنا إلا هذه الآية فإنها من النظر .
فذلك ما فرض الله على العينين من غض البصر وهو عملها وهو من الإيمان
ثم أخبر عما فرض على القلب والسمع والبصر في آية واحدة فقال سبحانه وتعالى في ذلك : [ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا ]
قال : يعني وفرض على الفرج : أن لا يهتكه بما حرم الله عليه : [ والذين هم لفروجهم حافظون ] وقال : [ وما كنتم تسترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ] الآية يعني بالجلود : الفروج والأفخاذ فذلك ما فرض الله على الفروج من حفظهما عما لا يحل له وهو عملها .
((وفرض على اليدين )) : ألا يبطش بهما إلى ما حرم الله تعالى وأن يبطش بهما إلى ما أمر الله من الصدقة وصلة الرحم والجهاد في سبيل الله والطهور للصلوات فقال في ذلك : [ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ] إلى آخر الآية وقال : [ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء ] لأن الضرب والحرب وصلة الرحم والصدقة من علاجها.
(( وفرض على الرجلين )) : ألا يمشي بهما إلى ما حرم الله جل ذكره فقال ذلك : [ ولا تمشي في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض لن تبلغ الجبال طولا ](/3)
((وفرض على الوجه )): السجود لله بالليل والنهار ومواقيت الصلاة فقال في ذلك : [ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ] وقال : [ وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ] يعني بالمساجد : ما يسجد عليه ابن آدم في صلاته من الجبهة وغيرها
قال : فذلك ما فرض الله على هذه الجوارح وسمى الطهور والصلوات إيمانا في كتابه وذلك حين صرف الله تعالى وجه نبيه صلى الله عليه وسلم من الصلاة إلى البيت المقدس وأمره بالصلاة إلى الكعبة وكان المسلمون قد صلوا إلى بيت المقدس ستة عشرا شهرا فقالوا يا رسول أرأيت صلاتنا التي كنا نصليها إلى بيت المقدس ما حالها وحالنا ؟ فأنزل الله تعالى : [ وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤف رحيم ] فسمى الصلاة إيمانا فمن لقي الله حافظا لصلواته حافظا لجوارحه مؤديا بكل جارحة من جوارحه ما أمر الله به وفرض عليها - لقي الله مستكمل الإيمان من أهل الجنة ومن كان لشيء منها تاركا متعمدا مما أمر الله به - لقي الله ناقص الإيمان )) . قال : وقد عرفت نقصانه وتمامه فمن أين جاءت زيادته ؟
قال الشافعي : (( قال الله جل ذكره : [ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ] وقال : [ إنهم فتية آمنوا برهم وزدناهم هدى ]
قال الشافعي : ولو كان هذا الإيمان كله واحدا لا نقصان فيه ولا زيادة - لم يكن لأحد فيه فضل واستوى الناس وبطل التفضيل ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله (في الجنة ) وبالنقصان من الإيمان دخل المفرطون النار
قال الشافعي : إن الله جل وعز سابق بين عباده كما سوبق بين الخيل يوم الرهان ثم إنهم على درجاتهم من سبق عليه فجعل كل امرىء على درجة سبقه لا ينقصه فيه حقه ولا يقدم مسبوق على سابق ولا مفضول على فاضل وبذلك فضل أول هذه الأمة على آخرها ولو لم يكن لمن سبق إلى الإيمان فضل على من أبطأ عنه - للحق آخر هذه الأمة بأولها .
د - قوله في الصحابة :
1 - أورد البيهقي عن الشافعي أنه قال : (( أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل وسيق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم فرحمهم الله وهنأهم بما أتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين فهم أدوا إلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدوه والوحي ينزل عليه فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عاما وخاصا وعزما وإرشادا وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وغقل وأمر استدرك به علم واستنبط به وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا والله أعلم )) .
2 - وأخرج البيهقي عن ربيع بن سليمان قال : سمعت الشافعي يقول في التفضيل : (( أبوبكر وعمر ثم عثمان وعلي ))
3- وأخرج البيهقي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : سمعت الشافعي يقول : (( أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي - رضي الله عنهم - ))
4 - واخرج البيهقي عن يوسف بن يحيى البويطي قال : سألت الشافعي أأصلي خلف الرافضي ؟ قال : (( لا تصل خلف الرافضي ولا القدري ولا المرجىء )) قلت : صفهم لنا . قال : (( من قال : الإيمان قول فهو مرجىء ومن قال إن أبابكر وعمر ليسا بإمامين فهو رافضي ومن جعل المشيئة إلى نفسه فهو قدري ))
هـ - نهيه عن الكلام والخصومات في الدين :
1-أخرج الهروي عن الربيع بن سليمان قال : سمعت الشافعي يقول :(( . . . لو أن رجلا أوصى بكتبه من العلم لآخر وكان فيها كتب الكلام لم تدخل في الوصية لأنه ليس من العلم ))
2- وأخرج الهروي عن الحسن الزعفراني قال : سمعت الشافعي يقول : (( ما ناظرت أحدا في الكلام إلا مرة وأنا أستغفر الله من ذلك )) .
3- و أخرج الهروي عن الربيع بن سليمان قال : قال الشافعي : (( لو أردت أن أضع على كل مخالف كتابا كبيرا لفعلت ولكن ليس الكلام من شأني ولا أحب أن ينسب إلي منه شيء )) .
4- وأخرج بن بطة عن أبي ثور قال : قال لي الشافعي :(( ما رأيت أحدا ارتدى شيئا من الكلام فأفلح )) .
5- وأخرج الهروي عنيونس المصري قال : قال الشافعي : (( لأن يبتلي الله المرء بكل مانهى الله عنه خلا الشرك بالله خير من أن يبتليه بالكلام )) .
فهذه أقوال الإمام الشافعي - رحمه الله - في مسائل أصول الدين وهذا موقفه من علم الكلام .
-------------------
نقلا عن كتاب ( اعتقاد أئمة السلف أهل الحديث ) جمع / د . محمد بن عبد الرحمن الخميس .(/4)
عقيدة الإمام مالك بن أنس - 179 هـ -
الحمد لله وبعد ...
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى : ( إن الأئمة المشهورين كلهم يثبتون الصفات لله تعالى ، ويقولون : إن القرآن كلام الله ليس بمخلوق ، ويقولون : إن الله يرى في الآخرة ، هذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أهل البيت وغيرهم ، وهذا مذهب الأئمة المتبوعين مثل الإمام مالك بن أنس والليث بن سعيد والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي وأحمد ) .[منهاج السنة2/106]
وهذه طائفة من اقوال الإمام العالم الرباني مالك بن أنس رحمه الله تعالى فيما يعتقده في مسائل اصول الدين ...
أ - قوله في التوحيد :
(1) أخرج الهروي عن الشافعي قال : سُئل مالك عن الكلام والتوحيد ، فقال مالك : ( محال أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم ، أنه علَّم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد ، والتوحيد ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله )) فما عصم به المال والدم حقيقة التوحيد ) . [ذم الكلام (ق - 210 )].
(2) وأخرج الدارقطني عن الوليد بن مسلم قال : ( سألت مالكاً والثوري والأوزاعي والليث بن سعد عن الأخبار في الصفات فقالوا: أمروها كما جاءت ) . [أخرج هذا الدارقطني في الصفات ص 75 ، والآجري في الشريعة ص 314 ، والبيهقي في الاعتقاد ص 118 ، وابن عبد البر في التمهيد (7/149)] .
(3) وقال ابن عبد البر : ( سُئل مالك أيُرى الله يوم القيامة ؟ فقال : نعم يقول الله عزّ وجل : { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } . وقال لقوم آخرين : { كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون } . [الانتقاء ص 36] .
وأورد القاضي عياض في ترتيب المدارك (2/42) عن ابن نافع وأشهب قالا : وأحدهم يزيد على الآخر يا أبا عبد الله { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } ينظرون إلى الله ؟ قال : نعم بأعينهم هاتين ؛ فقلت له : فإن قوماً يقولون لا ينظر إلى الله ، إن ناظرة بمعنى منتظرة إلى الثواب قال : كذبوا بل ينظر إلى الله ، أما سمعت قول موسى عليه السلام : { رب أرني أنظر إليك } أفترى موسى سأل ربه محالاً ؟ فقال : { لن تراني } أي في الدنيا لأنها دار فناء ، ولا ينظر ما يبقى بما يفنى ، فإذا صاروا إلى دار البقاء نظروا بما يبقى إلى ما يبقى وقال الله : { كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون } .
(4) وأخرج أبو نعيم عن جعفر بن عبد الله قال : ( كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال : يا أبا عبد الله ، الرحمن على العرش استوى ، كيف استوى ؟ ، فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته ، فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرحضاء - يعني العرق - ثم رفع رأسه ورمى بالعود وقال : الكيف منه غير معقول ، والاستواء منه غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة وأظنك صاحب بدعة وأمر به فأخرج ) . [الحلية (6/ 326،325)].
(5) وأخرج أبو نعيم عن يحيى بن الربيع قال : ( كنت عند مالك بن أنس ودخل عليه رجل فقال يا أبا عبد الله ، ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق؟. فقال مالك : زنديق فاقتلوه ، فقال : يا أبا عبد الله ، إنما أحكي كلاماً سمعته . فقال : لم أسمعه من أحد ، إنما سمعته منك ، وعظم هذا القول ) . [الحلية 6/325] .
(6) وأخرج ابن عبر البر عن عبد الله بن نافع قال : ( كان مالك بن أنس يقول من قال القرآن مخلوق يوجع ضرباً ويحبس حتى يتوب ) . [الانتقاء ص 35] .
(7) وأخرج أبو داود عن عبد الله بن نافع قال : ( قال مالك : الله في السماء وعلمه في كل مكان ) . [ رواه أبو دواد في مسائل الإمام أحمد ص 263] .
ب - قوله في القدر :
(1) أخرج أبو نعيم عن ابن وهب قال : ( سمعت مالكاً يقول لرجل سألتني أمس عن القدر ؟ قال : نعم ، قال : إن الله تعالى يقول : { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } . فلا بد أن يكون ما قاله الله تعالى ) . [الحلية (6/326)] .
(2) وقال القاضي عياض : ( سُئل الإمام مالك عن القدرية : مَن هم ؟ قال : من قال : ما خلق المعاصي ، وسُئل كذلك عن القدرية ؟ قال : هم الذين يقولون إن الاستطاعة إليهم إن شاءوا أطاعوا وإن شاءوا عصوا ) . [ترتيب المدارك (2/48)] .
(3) وأخرج ابن أبي عاصم عن سعيد بن عبد الجبار قال : ( سمعت مالك بن أنس يقول : رأيي فيهم أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا - يعني القدرية - ) . [السُنة لابن أبي عاصم (1/ 88،87)] .
(4) وقال ابن عبد البر : ( قال مالك : ما رأيت أحداً من أهل القدر إلا أهل سخافة وطيش وخفة ) . [الانتقاء ص 34] .
(5) وأخرج ابن أبي عاصم عن مروان بن محمد الطاطري قال : ( سمعت مالك بن أنس يسأل عن تزويج القدري ؟ فقرأ : { ولعبد مؤمن خيرٌ من مشرك } . . . ) . [الانتقاء ص 34] .
(6) وقال القاضي عياض : ( قال مالك : لا تجوز شهادة القدري الذي يدعو إلى بدعته ، ولا الخارجي والرافضي ) . [ترتيب المدارك (2/47)] .(/1)
(7) وقال القاضي عياض : ( سُئل مالك عن أهل القدر أنكف عن كلامهم ؟ قال : نعم إذا كان عارفاً بما هو عليه ، وفي رواية أخرى قال : لا يُصلى خلفهم ولا يقبل عنهم الحديث وإن وافيتموهم في ثغر فأخرجوهم منه ) . [ترتيب المدارك (2/47)] .
ج - قوله في الإيمان :
(1) أخرج ابن عبد البر عن عبد الرزاق بن همام قال : ( سمعت ابن جريح وسفيان الثوري ومعمر بن راشد وسفيان بن عيينه ومالك بن أنس يقولون : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ) . [الانتقاء ص 34] .
(2) وأخرج أبو نعيم عن عبد الله بن نافع قال : ( كان مالك بن أنس يقول : الإيمان قول وعمل ) . [الحلية (327/6)] .
وأخرج ابن عبد البر عن أشهب بن عبد العزيز قال : ( قال مالك : فقام الناس يصلون نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً ، ثم أُمروا بالبيت الحرام فقال الله تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي صلاتكم إلى بيت المقدس ، قال مالك : وإني لأذكر بهذه قول المرجئة : إن الصلاة ليست من الإيمان ) . [الانتقاء ص 34] .
د - قوله في الصحابة :
(1) أخرج أبو نعيم عن عبد الله العنبري قال : ( قال مالك بن أنس : من تَنَقَّصَ أحداً من أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم ، أو كان في قلبه عليهم غل ، فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم تلا قوله تعالى : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً } . فمن تنقصهم أو كان في قلبه عليهم غل ، فليس له في الفيء حق ) . [الحلية 327/6] .
(2) وأخرج أبو نعيم عن رجل من ولد الزبير قال : ( كنا عند مالك فذكروا رجلاً يَتّنقَّص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ مالك هذه الآية : { محمد رسول الله والذين معه أشداء - حتى بلغ - يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار } . فقال مالك : من أصبح في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد أصابته الآية ) . [الحلية (327/6)] .
(3) وأورد القاضي عياض عن أشهب بن عبد العزيز قال : ( كنا عند مالك إذ وقف عليه رجل من العلويين وكانوا يقبلون على مجلسه فناداه : يا أبا عبد الله فأشرف له مالك ، ولم يكن إذا ناداه أحد يجيبه أكثر من أن يشرف برأسه ، فقال له الطالبي : إني أريد أن أجعلك حجة فيما بيني وبين الله ، إذا قدمت عليه فسألني ، قلت له : مالك قال لي . فقال له : قُل . فقال : من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟. فقال : أبو بكر ، قال العلوي : ثم مَن ؟ قال مالك : ثم عمر . قال العلوي : ثم من ؟ قال : الخليفة المقتول ظلماً ، عثمان . قال العلوي : والله لا أجالسك أبداً . فقال له مالك : فالخيار إليك ) . [ترتيب المدارك (44/2-45)] .
هـ - نهيه عن الكلام والخصومات في الدين : (1) أخرج ابن عبد البر عن مصعب بن عبد الله الزبيري قال : ( كان مالك بن أنس يقول : الكلام في الدين أكرهه ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه ، نحو الكلام في رأي جهم والقدر وكل ما أشبه ذلك ، ولا يحب الكلام إلا فيما تحته عمل ، فأما الكلام في دين الله وفي الله عزّ وجل فالسكوت أحَبُّ إليَّ لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل ) . [جامع البيان وفضله ص 415 ، ط / دار الكتب الإسلامية] .
(2) وأخرج أبو نعيم عن عبد الله بن نافع قال : ( سمعت مالكاً يقول : لو أن رجلاً ركب الكبائر كلها بعدَ ألا يشرك بالله ثم تخلّى من هذه الأهواء والبدع - وذكر كلاماً - دخل الجنة ) . (3) وأخرج الهروي عن إسحاق بن عيسى قال : ( قال مالك : من طلب الدين بالكلام تزندق ومن طلب المال بالكيمياء أفلس ومن طلب غريب الحديث كذب ) . [ذم الكلام (ق 173-أ) .
(4) وأخرج الخطيب عن إسحاق بن عيسى قال : ( سمعت مالك بن أنس يعيب الجدال في الدين ويقول : كلما جاءنا رجل أجدل من رجل أرادنا أن نرد ما جاء به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ) . [شرف أصحاب الحديث ص 5] .
(5) وأخرج الهروي عن عبد الرحمن بن مهدي قال : ( دخلت على مالك وعنده رجل يسأله فقال : لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد ، لعن الله عمرو بن عبيد فإنه ابتدع هذه البدعة من الكلام ، ولو كان الكلام علماً لتكلَّم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع ) . [ذم الكلام (ق 173-ب)] .
(6) وأخرج الهروي عن أشهب بن عبد العزيز قال : ( سمعت مالكاً يقول : إيّاكم والبدع ، قيل يا أبا عبد الله ، وما البدع ؟ قال : أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعِلْمه وقدرته ولا يسكتون عمّا سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان ) . [ذم الكلام (ق 173-أ)] .
(7) وأخرج أبو نعيم عن الشافعي قال : ( كان مالك بن أنس إذا جاءه بعض أهل الأهواء قال : أما إني على بيّنة من ربي وديني ، وأما أنت فاذهب إلى شاكً فخاصمه ) . [الحيلة (324/6)] .(/2)
(8) روى ابن عبد البر عن محمد بن أحمد بن خويز منداد المصري المالكي قال في كتاب الإجارات من كتابه الخلاف : قال مالك لا تجوز الإجارات في شيء من كتب الأهواء والبدع والتنجيم وذكر كتباً ثم قال : وكتب أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هي كتب أصحاب الكلام من المعتزلة وغيرهم وتفسخ اجارة في ذلك ) . [جامع بيان العلم وفضله ص 416 ، 417 ط / دار الكتب الإسلامية] .
فهذه لمحات من موقف الإمام مالك وأقواله في التوحيد والصحابة والإيمان وعِلم الكلام وغيره .
-------------------
[عن اعتقاد الأئمة الأربعة / لمحمد الخميس ](/3)
عقيدة التثليث حقيقتها وأدلة بطلانها
د. خالد بن عبد الله القاسم 26/11/1426
28/12/2005
الحمد لله وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله أما بعد:
فلابد من توضيح معنى التثليث الذي يؤمن به النصارى، وحيث أن النصارى مختلفون كثيراً في تفسير التثليث فإننا نسوق ما يتفق عليه جل النصارى بل هو عقيدة إيمانهم التي اتفقوا عليها في مجمع نيقية سنة 325م وهو أوضح نص في التثليث يقرون به، بل إن هذا النص هو مرجعهم في تأويل كتبهم المقدسة ويفسرون به كلام أنبيائهم، يقول هذا النص:
”أؤمن بإله واحد أب ضابط الكل خالق السموات والأرض كل ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، ونور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر الذي كان به كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء، وتأنس وصلب وتألم وقبر، وقام في اليوم الثالث على ما في الكتب المقدسة، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الرب، أيضاً سيأتي بمجده ليدين الأحياء والأموات الذي لا فناء لملكه، وبروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب، الذي هو مع الآباء الابن المسجود له“.
فجماهير النصارى من الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت وعامة الكنائس الشرقية والغربية يؤمنون بإله واحد مثلث الأقانيم وفق عقيدة إيمانهم السابقة، فمعبودهم له ثلاثة أقانيم وهي ثلاث ذوات منفصلة اتَّحدتْ وهي: الآب والابن والروح القدس.
ومن هنا فيمكننا أن نقول:
أولاً: هذه العقيدة ”عقيدة التثليث“ بدعة عظيمة أحدثها النصارى لا تعرف في أي دين سماوي، فلم يعرفها أنبياء الله السابقين الذين يعترف بهم أهل الكتاب كنوح وإبراهيم ولوط واسحاق ويعقوب عليهم السلام، بل ولا أنبياء بني إسرائيل التي وصلت إليهم أخبارهم كيعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان عليهم السلام.
فليس في أسفار العهد القديم الذي يؤمن به النصارى والذي ساق أخبار هؤلاء الأنبياء ودعوتهم أن هؤلاء الأنبياء دعوا إلى عبادة إله مثلث الأقانيم أو تلفظوا بلفظ التثليث وما شابه ذلك، بل ما تواتر عنهم أنهم دعوا بدعوة كل الرسل من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم حيث دعوا إلى عبادة إله واحد لا شريك له وهذا أيضاً موجود في أسفار العهد القديم عند اليهود والنصارى ومن ذلك:
-قول الله لإبراهيم عليه السلام كما في العهد القديم سفر التكوين (17/7): ”أقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعد“.
- قول الله لموسى عليه السلام في طور سيناء في كلامه له كما هو في العهد القديم الذي يؤمن به النصارى في سفر الخروج (3/15): ”وقال الله أيضاً لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل يهوه إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب أرسلني إليكم“. وفي نفس السفر (4/5) قول الله لموسى: ”الرب إله آبائهم إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب“ وخطاب الله لموسى هذا جاء بنصه في الإنجيل انظر لوقا (20/37).
- وجاء في العهد القديم في سفر أشعيا (44/6): (هكذا يقول الرب ملك إسرائيل وخادمه رب الجنود: أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيري ومن مثلي) وهذا حزقيا أحد أنبيائهم يخاطب الرب: (أنت هو الإله وحدك) سفر أشعيا (37/16).
فيلزم من القول بالتثليث أن هؤلاء الأنبياء والرسل ضلوا عن معرفة إلههم ومعبودهم وخالقهم واهتدى إليه ضلال النصارى في القرن الرابع الميلادي.
ثانياً: التثليث مخالف لدين المسيح عليه السلام فلم ينطق المسيح عليه السلام بعبادة إله مثلث الأقانيم ولم يرد التثليث والأقانيم في الإنجيل مع أنه صلب عقيدتهم.
جاء في دائرة المعارف الأوروبية باللغة الفرنسية عن عقيدة التثليث: (أنها ليست موجودة في كتب العهد الجديد ولا في أعمال الآباء الرسوليين ولا عند تلاميذهم الأقربين إلا أن الكنيسة الكاثوليكية والمذهب البروتستانتي التقليدي يدعيان أن عقيدة التثليث كانت مقبولة عند المسيحيين في كل زمان). وجاء في دائرة المعارف لبطرس البستاني وهو نصراني: (لفظة ثالوث لا توجد في الكتاب المقدس).
وما يحتجون به من الإنجيل قول المسيح عليه السلام: ”عمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس“. متى إصحاح (28/19). ونقف عدة وقفات مع هذا النص لديهم:
الوقفة الأولى: إثبات صحته وأن المسيح قاله فهو ليس في جميع الأناجيل ومن المعلوم ما طرأ على الأناجيل من الاختلاف والتحريف بل وفقدان الأصل حيث أن متى كتب إنجيله بالإرامية وهو مفقود والموجود باليونانية باعتراف النصارى.(/1)
الوقفة الثانية: يجب أن يفسر كلام المسيح إن صح بلغة كلامه في الإنجيل والكلام المتشابه يرد إلى المحكم والذي يدعو فيه إلى عبادة الله وحده لا شريك له مثل ما جاء في إنجيل يوحنا (17/3) على لسان عيسى عليه السلام وهو يخاطب الله سبحانه وقد رفع عينيه إلى السماء قال المسيح للرب: ”وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته“.
ثالثاً: لفظة الأقانيم التي هي من صميم عقيدتهم لا توجد في الأناجيل بل ولا في شيء من كتب الأنبياء لديهم ولا في كلام الحواريين بل ولا حتى في عقيدة إيمانهم المبتدعة، بل هي لفظة ابتدعوها بعد ذلك.
رابعاً: لفظة ابن الله الواردة في هذه العبارة وفي مواضع أخرى من الإنجيل يجب أن ترد أيضاً إلى لغة المسيح عليه السلام، والرجوع إلى كتب أهل الكتاب حيث تعني الرعاية والمحبة، وهي وصف لم يختص به المسيح عليه السلام. بل في العهد القديم الذي يؤمن به النصارى قول الله لداود عليه السلام: (أنت ابني أنا اليوم ولدتك اسألني فأعطيك) المزامير، المزمور الثاني (7). بل قال المسيح: (طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله). متى (5/9). وفي يوحنا (1/38): (أولاد الله أي المؤمنون باسمه).
خامساً: ليس في هذه العبارة إلا التعميد باسم الآب والابن والروح القدس وهي قد لا تعني العبادة وإنما التبرك والتيمن.
كما أن الأب تعني المحبوب والراعي كما جاء في إنجيل يوحنا (20/17) إني اصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم. بل إن البنوة وصفت في العهد القديم جميع أولاد آدم كما في سفر التكوين الإصحاح السادس في بدايته حيث الحديث عن البشر بعد آدم ”وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم أبناء أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهم حسنات“، وفي سفر أشعيا (64/8) قول أشعيا: ”يا رب أنت أبونا“ والإنجيل مليء بوصف عيسى عليه السلام بأنه ابن الإنسان في عشرات المواضع انظر مثلاً: لوقا (17/22) (18/8). مرقس (2/28) متى (12/33) (18/21) يوحنا (19/27). كما قال المسيح لمن يريد قتله: (تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله) يوحنا (8/40) ثم قال: (لنا أب واحد هو الله) يوحنا (8/41) بل لما قيل لعيسى عليه السلام أنت ابن الله كان خاتمة جوابه أنه ابن الإنسان. يوحنا (1/49-51) وتفسير ربي إذا قيلت للمسيح أي يا معلم كما جاء في يوحنا (1/38) فهذا المحكم المفسر للمتشابه.
وقد أنكر الله سبحانه في القرآن الكريم هذه البنوة بقوله سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} (سورة مريم: 88-92)
وبنوتهم لله من تحريفهم على أنبيائهم لأن الله تعالى أنكر عليهم ذلك فقال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (18) سورة المائدة.
وأما كون عيسى فيه روح الله فقد وردت في أنبياء ومنهم يوسف عليه السلام أنه في روح الله كما في العهد القديم. التكوين (41/38).
سادساً: التثليث مخالف للعقل وكمال الرب سبحانه، حيث يقال لهم هل إلهكم ومعبودكم مركب من ثلاثة أجزاء، فإن قالوا نعم فقد أقروا على أنفسهم بأن ربهم مجزأ إلى أجزاء كل منها يحتاج إلى الآخر وهذا مخالف لصريح العقل وكمال الرب. وإن قالوا بل الله ثالث ثلاثة كما هو قول كثير منهم وذكره سبحانه عنهم في القرآن فنقول هذا إقرار منكم بأن معبودكم ليس هو الله فحسب بل معه غيره وهذا عين الشرك المناقض لما أقررتم به أنكم تعبدون إلهاً واحداً. فإن قالوا بل هي ثلاثة أقانيم اتحدت لتكون إلهاً واحداً فنقول ما حال الرب سبحانه قبل هذا الاتحاد هل هو مفتقر إليه أو صفة كمال اكتسبها بعد إذ لم تكن.
سابعاً: التثليث فيه اضطراب وتناقض مع أنه جملة واحدة، حيث يقولون نؤمن بإله واحد الأب والابن والروح القدس، فإن قالوا إنما هذه الثلاثة صفات للإله كما يقوله بعضهم عند المناظرة، فيقال إن هذه الثلاثة ذوات منفصلة كما يتضح من نص العقيدة الإيمانية وكما هو معلوم من كل واحد منها.
كما أن صفات الإله لا تنحصر في هذه الصفات بل سبحانه له صفات الكمال التي هي أولى من هذه الثلاثة كصفة العلم والقدرة والرحمة وغيرها.(/2)
ثامناً: الحلول أي حلول الإله في خلقه كما قالوا في المسيح أنه لاهوت وناسوت. هذا الحلول وهو من صلب عقيدة النصارى وجزء من عقيدة إيمانهم هذا الحلول لا يدل عليه عقل ولا نقل. فالخالق لا يخالط المخلوقين ولا يتحد معهم كما هو معلوم بضرورة العقل. كما أنه لم ينطق نبي من الأنبياء أن الله اتحد بشيء من مخلوقاته، وإذا ما صح ما في الإنجيل من عبارات مثل : (لست أتكلم من نفسي ولكن الأب الحال فيَّ وهو يعمل الأعمال). يوحنا (14/10) ومثل قول المسيح (أنا والأب واحد) يوحنا (10/30) فإنه يقتضي أن المسيح حل أيضاً في تلامذته حيث جاء في نفس الإنجيل قول المسيح: (أنا في أبي وأنتم فيَّ وأنا فيكم حيث يجب أن تفسر (فيَ) بـ (معي) وأولى من يفسر كلام المسيح المسيح نفسه حيث هم لا يقولون أن المسيح اتحد في تلامذته كما توهمها تلك العبارة. بل يفسرها المحكم وهي عشرات النصوص التي تصف المسيح بأنه إنسان ومنها ما جاء في إنجيل لوقا (24/9) بكل وضوح هذا النص: ”يسوع الناصري الذي كان إنسان نبياً“ فمعنى أنا وأبي واحد مثل قول المولى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} (80) سورة النساء ومثل قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه} (10) سورة الفتح.
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) أي بنور وهدى منه سبحانه.
تاسعاً: النصارى مختلفون بل مضطربون في حقيقة ربهم ومعبودهم الذي جعلوه مثلثاً، حيث نجد أن النساطرة يقولون الإله لم يولد ولم يصلب بل مريم لم تلد الإله وإنما الإنسان وليس فيه لاهوتاً مما حدا بسائر الطوائف أن يكفرونهم ويلعنونهم في مجمع أفسوس سنة 431م. ثم نجد أن الكنيسة الشرقية المصرية تقول أن للمسيح طبيعة واحدة وأن اللحم والدم هو الإله. وبسببهم انعقد مجمع خلدوقنية 451م ليقرر أن المسيح له طبيعتان فانفصلت الكنيسة المصرية عنهم، أما موارنة لبنان فيقولون للمسيح طبيعتان ولكن له مشيئة واحدة. مما حدا أن يعقد مجمع القسطنطينية الثالث سنة 680م ليكفروهم.
ويعاقبة العراق قالوا أن المسيح له طبيعة واحدة تجمع اللاهوت والناسوت خلافاً لسائر الطوائف وفي القرن التاسع الميلادي ظهر خلاف كبير بين النصارى في انبثاق الأقنوم الثالث الروح القدس، حيث قالت الكنائس الشرقية بأنه انبثق من الأب وحده وقالت الغربية أنه من الأب والابن فانفصلت وذلك في مجمع القسطنطينية 879م.
وقد قالت الكنائس الشرقية الأرثوذكسية أن الأقانيم الثلاثة هي مراحل انقلب فيها الإله إلى الإنسان. فيما قالت الغربية (الكاثوليك ومن تبعهم فيما بعد والبروتستانت) أنها ذوات. وقد رد المولى سبحانه على كلا الطائفتين حيث رد على الأولى بقوله سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (72) سورة المائدة ورد على الثانية بقوله: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} (73) سورة المائدة.
ونجد طائفة الريمتين تؤله المسيح وأمه فرد المولى عليهم بقوله سبحانه: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَة} (75) سورة المائدة.
وهكذا يظهر أن التثليث مخالفة للمعلوم بالضرورة من أديان الأنبياء ومخالف للفطرة ولكمال الرب، وللمعقول بل ولم يصرح به المسيح عليه السلام بل صرح بخلافه كما أن النصارى مضطربون فيه مختلفون عليه، حتى قال القائل أن النصارى لا يقفون على حقيقة معناه. وما ذاك إلا لأنه لا حقيقة له، بل هي أسماء سموها ما أنزل الله بها من سلطان.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المراجع:
1- القرآن الكريم.
2- كتب تفسير القرآن الكريم.
3- العهد القديم.
4- العهد الجديد.
5- الملل والنحل، الشهرستاني.
6- الرد الجميل على إلهية عيسى بصريح الإنجيل، الغزالي.
7- الفصل في الأهواء والملل والنحل، ابن حزم الأندلسي.
8- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ابن تيمية.
9- هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، ابن القيم.
10- دائرة المعارف، بطرس البستاني.
11- دائرة معارف القرن العشرين، فريد وجدي.
12- إظهار الحق، رحمة الله الهندي.
13- الموسوعة الميسرة للأديان والمذاهب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلا(/3)
عقيدة الكاتب المسلم
الأستاذ أنور الجندي
تتمثل عقيدة الكاتب المسلم الفكرية في إيمان صادق عميق يتكامل الإسلام وقصور المفهوم الوطني والقومي والأدبي، ويتكامل المواجهة، ليست الماركسية وحدها ولكن الفكر الوافد جملة.
وتقرر هذه النظرة خطر المفهوم الجرئي والانشطاري الذي تنطلق منه النظريات الوافدة وكل منها يتوقف عند بعد من الأبعاد لا يتعداه بينما يستقطب المفهوم الإسلامي جميع الأبعاد: من حيث الزمن واختلافه ومن حيث البيئة وتنوعها ومن حيث جمع العناصر كلها في منظومة واحدة متكاملة.
كذلك فإن مهمة الكاتب المسلم: هي جزء من مهمة الدعاة إلى الله عليهم أن يحرروا الشخصية الإسلامية من التبعية بكل صورها وألوانها والتوصل إلى تأسيس وتأصيل مدارس واتجاهات إسلامية تسعى وتستوعب العلوم الحديثة وتفرغها في إطار إسلامي، وتعمل على تأصيل الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ومن عقيدة الكاتب المسلم الإيمان بأن حركات التحرر من الاستعمار في العصر الحديث لم تنجح إلا عندما ارتكزت على الإسلام، وقد انتصر المسلمون في كل معارك الغزو بالمفهوم الإسلامي لا بالمعنى القومي وكل قضاياهم التي عالجوها بالمفهوم الوطني أو القومي لم تحقق نجاحاً.
ومن عقيدة الكاتب المسلم: الإيمان بأن لإنهيار الأمم أسباباً كثيرة من أخطرها قطع الصلة بالماضي (التاريخ)؛ أو قطع الصلة بما وراء الطبيعة (الغيب)، أو قطع الصلة بالمجتمع، فإذا انقطعت الصلة بواحدة من هذه جاء الخوف والقلق والتمزق. وإن علاقات الإنسان بربه وبنفسه وبالكون وبالناس هي مصدر قوته وأصالته.
ومن عقيدة الكاتب المسلم: الإيمان بأن الحياة ليست منفعة أو مادة ولكنها جماع المعنويات والماديات وإن الإنسان تحركه إرادة حرة ولكنها حرية غير مطلقة لأنها تتحرك داخل إرادة الله. وإن الكون قوانين ثابتة وسنن طبيعية ولكنها تخضع للمعجزة الإلهية وإن الله تبارك وتعالى قادر على نقض هذه القوانين متى شاء وإيقافها متى أراد. وأن في الفكر عقلانية ولكنها ليست كل شيء فهناك الوجدان، وإن هناك مادية ولكنها ليست كل شيء فهناك الروح، وإن حرية الإنسان مقيدة بالضوابط الأخلاقية والمسئولية الفردية التي أقامها الدين، وهناك ضوابط وحدود، والاقتصاد عامل مؤثر في مجرى التاريخ ولكن ليس الأكبر أو النهائي أو الوحيد.
ومن عقيدة الكاتب المسلم أن الفكر الغربي قد سيطرت عليه الفلسفة الماديوة فأصبح لا يعني بالروح أو المعنويات وأصبح انشطارياً غير متكامل، وأن حضارة الغرب تمر الآن بمرحلة الأزمة فقد عجزت عن أن تعطي سكينة النفس وأن الفكر التلمودي أصبح الآن مصاغاً في مناهج وفلسفات منها الوجودية والفرويدية والماركسية ومدرسة العلوم الاجتماعية وأن فردريك ودوركايم وسارتر وماركس يمثلون سيطرة التلمودية على الفكر البشري.
ومن عقيدة الكاتب المسلم التفرقة بين الشريعة الإسلامية وتاريخ الإسلام فهذه هي رسالة السماء وتلك هي تجربة الإنسان في محاولة إقامة المجتكع الرباني على الأرض، والتفرقة أيضاً بين التقاليد والأخلاق فالتقاليد من صنع المجتمع والأخلاق جزء من الحقيدة المنزلة. والتفرقة بين الأصيل والوافد، بين الفكر الرباني والفكر البشري الواقع في الوثنية والمادية والإباحية.
ومن عقيدة الكاتب المسلم أن يواجه ثلاثة تحديات خطيرة في المجتمع الإسلامي:
الأول: التحدي المنبعث من واقع المسلمين: الجمود والجبرية وكتب البدع والخرافات.
الثاني: التحدي المنبعث من الغزو الفكري والتغريب والشعوبية.
الثالث: التحدي المنبعث من الهزيمة النفسية إزاء إباحيات الحضارة.
وأن يؤمن بأن هدف التغريب (في خدمة النفوذ الأجنبي والشيوعية والصهيونية) هو هزيمة العقل الإسلامي بإذاعة الإلحاد وتعويض المجتمع والأسرة بنشر الإباحية وخلق مركب نقس في أعماقنا يشعرنا بالهزيمة إزاء حضارته المادية وأن يستقصي أنفسنا كاملة لها تراثها وتاريخها وعقيدتها التي تتميز على كل العقائد والقيم بأنها وبائية المصدر وأنها سبيل الرشاد والهدي إلى الحق.
ومن عقيدة الكاتب المسلم: رفض التطور على حساب الأصالة ورفض التقدم على حساب التفريط في الجذور والقيم الإسلامية، كما رفض تضحية القيم العليا في سبيل التقدم المادي وأن الإسلام لم يخضع مفاهيمه للحضارات وأهواء الأمم ذلك أنه ليس في المناهج والدعوات والإيديولوجيات المطروحة من شيء إلا وعند المسلمين في ميراثهم وتراثهم نظيره وخير منه وهو في الغرب مقطوع الصلة بالله ولكنه في الإسلام متصل الحلقات، هو في الغرب انشطاري ولكنه في الإسلام جامع متكامل.(/1)
ومن عقيدة الكاتب المسلم: أن المحاولات التي ترمي إلى استقطاب المسلمين واحتوائهم في إطار الحضارة الغربية التي تمر بأسوأ مراحلها والتي يصرخ أهلها طلباً للتحرر منها هي محاولات باطلة غاشة زائفة، فقد كان موقف الإسلام على مدى تاريخه وحياته واضحاً أنه لا يحتوي ولا ينصهر ولا يبرر الواقع الفاسد ولا يؤول ثوابت نصوصه لخدمة الحضارة الزائفة.
ومن عقيدة الكاتب المسلم: أن إنطلاق المسلمين على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن أن يتم دون الارتكاز على قاعدة أساسية تكون هي المصدر والمنطلق. منها نقطة البداية وإليها نقطة النهاية.
هذه القاعدة ليست سوى المنهج الأصيل الذي قدمه الإسلام لبناء المجتمع وعلى هذه القاعدة تقوم الثقافة ويقوم النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي.
ومن عقيدة الكاتب المسلم: أن من طبيعة الإسلام الحسم والثبات وأنه لا يفسح مجالاً لأنصاف الحلول ولا اتفاق مع أعداء الإسلام على حساب المبدأ ولا قبول للتبعية ولا استسلام للاحتواء في إطار الأممية العالمية وإنما يطالب الإسلام المسلمين بتغيير وسائلهم وتحسين أساليب معيشتهم من وقت لآخر داخل الإطار العام لمبادئه الأساسية ولمواجهة الظروف دائمة التغيير في العالم المتطور إيماناً بأن هزائم المجتمعات الإسلامية هي نتيجة انحرافها عن الإسلام.
ومن عقيدة الكاتب المسلم: أن كلاً من التجربتين الغربية والشيوعية مرفوضتان في أفق المجتمع الإسلامي وأن التجربتين كانتا لمجتمعين مختلفين عن مجتمع الإسلام وإن الماركسية ما هي إلا جزء من نظام غربي وأنها رد فعل لواقع الرأسمالية الغربية التي عجزت عن إقامة مجتمع سليم وإن كلا الرأسمالية والماركسية من مصدر واحد قوامه سيطرة الربا على الاقتصاد العالمي.
وأن الفكر الغربي محاضر الآن بثلاث نظريات: هي النظرية المادية والدوافع الاقتصادية والدوافع الجنسية وأهواء الوجودية وكلها تحتقر الإنسان احتقاراً شديداً، وهناك الجبرية التي تريد أن تخلي الإنسان من المسئولية الفردية وتلقي هذه المسئولية على المجتمعات.
وتلقي هذه النظريات على المجتمعات الغربية طوابع المتع الحسية والنهم والقسوة والحقد والبغض والاهتمام بالكم وتضحية النوع والكيف وأن ذلك كله يقوم في نظام مفهوم مادي خالص.
على المفكر المسلم أن يكون على إحساس واع بالنوافذ والأبواب الخارجية وما يهب على المسلمين منها من رياح وتيارات وأن لا يغلق الباب عليه ويظن أنه أصبح في مأمن وأن لا يمنعه قضاء قضاه أو رأي ارتآه في يومه ثم هدي إلى الحق فيه أن يعود إلى الحق وأن يواجه الأمور والقضايا في أسلوب الإسلام الجامع، واقعياً في دراسة المشكلات والقضايا متكامل النظرة في علاجها يجمع بين المثالية والتجريبية، بين خطرة الفكر ونفثة الروح بين العقلانية والوجدانية ويجب أن يعي بأن هناك أفكاراً دخلت على المسلمين من شأنها أن تحطم الشخصية أو تدمر الأسرة هي أفكار عبادة الحياة واللذة والضور المعلقة فوق السرر.
وليعلم أن أعلى درجات الرقى والثراء والغنى هي أعلى درجات التمزق والانتحار والغربة وأن المجتمع المتحضر الآن في ذروته يعكف على الموبقات والمخدرات أو الانتحار ويواجه أزمة النهاية ليفسح مكانة لتجربة أخرى.
وعلى المفكر المسلم أن يؤمن بأنه لم يخلق ليندفع مع التيار ويساير الركب البشري حيث سار بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والحضارة ويفرض عليهم مفهوم لا إله إلا الله وأن يوقن بأن النظرة الإسلامية هسي النظرة الجامعة التي لا تقف عند الجانب المادي أو الدنيوي في أي تجربة من تجارب الحياة فهي تجمع العصر والعلم والتحضر والأخلاقيات بمقياس لذلك كله وميزان وأن يعلم بأن الجسم الإسلامي ما زال يرفض العضو الغريب وأن الكيان الإسلامي ما زال يرفض الجسم الغريب.
وعلى المفكر المسلم أن يؤمن بأن من أخطر المحاولات التي تجرى هي ضرب الإسلام بالإسلام أو ضربه من الداخل أي ضرب الإسلام الأصيل ببعض الفرق الضالة والطوائف الدخيلة مثل القاديانية والبهائية وكلها تتلقى التوجيه والمعونة من المستعمرين والمبشرين واليهود هذه الفرق التي تشرع لإتباعها من الدين ما لم يأذن به الله مستغلة اسم الإسلام لهدم الإسلام ولقد خدعت هذه الفرق بعض كتاب الإسلام وظنوا أنها من علامات اليقظة والنهضة.
وبعد: فإن هناك قدراً ضخماً من المعلومات والأفكار والأخبار تطرح يومياً في أفق المجتمع الإسلامي عن طريق الصحافة والإذاعة والكتب المترجمة أو دور الإعلام المختلفة، هي وجهات نظر متراكمة لمجتمعات أخرى فيها مادة نافعة قليلة وفيها زيف كثير فكيف يكون موقفنا منها نحن. الكتاب المسلمون والصحفيون المسلمون.. وهي تمثل وجهات نظر تختلف الأغلبية وتتعارض في الأكثر مه مفاهيمنا الأساسية وقيمنا الثابتة، ذلك لأن كل ما يطرح من خبر أو فكر إنما يشتمل على جزئين متداخلين.(/2)
حقيقة ما هي عبارة عن خبر ووجهة نظر أو تعليق أو تحليل لهذه الحقيقة تمثل رؤية الذين بثوا هذا الخبر. ونحن نعرف أن هناك غرابيل دقيقة جداً لا تنفذ منها الأخبار حين تبث في العالم الثالث إلا وهي مطعمة بوجهة نظر الصهيونية أو النفوذ الأجنبي أو الشيوعية فكيف يكوون موقفنا نحن المسلمين من هذا الإعصار الضخم المدمر الدائم المستمر يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة.
لقد علمنا الإسلام أن نقف من المعرفة المعروضة علينا موقف اليقظة والحذر: وأن نتعرف عليها في ضوء قيمنا وعقيدتنا وأن نفررق بين العلوم وبين الثقافات، وبين المعارف النافعة والمعارف الضارة من لهو الحديث ليضل الناس بغير علم.
ونعرف أن هذه المحاولة في طرح معلومات بوجهات نظر تختلف عن وجهة نظرنا إنما تهدف إلى احتوائنا والسيطرة علينا وإدخالنا في دائرة الأممية. ومن أجل هذا فإن علينا أن نفرق تفرقة واعية ودقيقة وعميقة بين وجهة نظر الإسلام في كل الأمور وبين وجهة نظر الفكر الغربي بشقه على أساس أصيل ثابت: هو أنا نقوم على أمانة الفكر الرباني القائم على التوحيد الخالص والرحمة والعدل والإخاء الإنساني وأن ذلك الإعصار الجائح الذي يتحرك نحونا هو من الفكر البشري القائم على المادية والعلمانية والوثنية.(/3)
عقيدة اليهود في المواثيق والعهود
الشيخ. مدثر أحمد إسماعيل*
مقدمة:
الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا وأتمّ علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام ديناً فقال سبحانه: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) [سورة المائدة: 3] ، وأمَرَنا أنْ نَستَهدِيَه صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. فقال: (وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه) [سورة الأنعام: 153]، ونهانا عن اتّباع سُبُل المغضوب عليهم و الضالين، فقال: (ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله) [سورة الأعراف: 153].
وأشهد أن لا إله إلاّ الله ، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أرسله بالدين القيّم والملّة الحنيفية، وجعله على شريعة من الأمر، أمر باتباعها فقال (ثمّ جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها) [سورة الجاثية: 18]، وأمر أتباعه باتّباعها فأوحى إليه أنْ (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومن اتبعني) [سورة يوسف: 108].
فمن اتّبَع هُداه فلا يضلّ ولا يشقى، ومن أعرض فإنّ له معيشةً ضنكاً.
أما بعد.
فإنّ القرآن هو كتاب الله إلى هذه الأمّة المحمّدية، وقد حوى القول الفصل. وما هو بالهزل، فيه نبأ من قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا.
ومن أكثر من تحدّث القرآن عنهم وأنبأنا من أخبارهم اليهود. فلم يهتمّ القرآن بقوم اهتمامه ببني إسرائيل. فقد ورد ذكرهم قريباً من اثنتين وأربعين مرّة،(فلا تجد في كتاب الله أُمَّة طال الحديث عنها وتنوع قَصَصُها مرةً بعد مرة كهذه الأمَّة فضح الله خبايا نفوسها وخبيث طباعها وعداوتها للعالمين أجمعين،وحقدها على أهل الخير والحق في كل زمان ومكان حتى الملائكة المطهرين) [الحوالي، سفر بن عبد الرحمن، القدس بين الوعد الحق والوعد المفترى، ص: 6، طبعة مكتبة السنة] فلم يعد أمر اليهود خافياً على المسلم الذي يقرأ القرآن يتدبّره ويُصدِّق بما جاء فيه من أخبار. وفي هذه الأسطر عرض واقعي وبحث استقرائي لخُلُقٍ من أخلاق اليهود له أثره في تعايشهم مع غيرهم من الأمم، ولا شكّ أنه أثرٌ سلبي، على الأمم ألا وهو خُلق الغدر والخيانة، ونقض العهود ونبذ العقود الذي جاء ذكره مُكرّراً ومُفصّلاً في كثيرٍ من سور القرآن التي تحدّثَت عن بني إسرائيل كالبقرة، والأعراف، والإسراء، وغيرها.
1- صفات اليهود الذين لعنهم الله وغضب عليهم:
لا يشك إنسان و لا يختلف اثنان في أنّ لليهود عطاءً في هذه الحياة ـ عطاءٌ متميّز، عطاء لا نهاية له ـ من سُوء الأخلاق وفساد الطويّة. والحقد والأنانية، والكبر والمكر والدهاء، والجمود والجحود والحجاج واللجاج، والتضليل والتدليس، والكفر والفِسق، والغدر والخيانة، ونقض العهود والوعود والمواثيق، والنِّفاق والجبن والقسوة. ومهما عدّدنا من مساوئ الأخلاق، فإنّ كلمة (يهودي) تفوقها بكثير. ويكفي أن نَصِفَ واحداً من النّاس بأنّه يهودي لكي نفهم من وراء هذا الوصف كُلَّ ما لا يُحصى ولا يُعَد من الصفات الذّميمة.
من هنا كان اليهود هم العدو الأوّل لكُلِّ بني الإنسان، ورحم الله الإمام ابن القيّم - حيث وصفهم بالأمّة الغَضَبية فقال: "الأمَّة الغَضَبيةُ وهي اليهود أهل الكذب والبُهت والغدر والمكر والحِيَل، قَتَلَة الأنبياء وأَكَلَة السُّحت -وهو الربا والرشا- أخبَث الأمم طويّةً، وأرداهم سجيَّةً، وأبعدهم من الرّحمة، وأقربهم مِن النِّقمة، عادتهم البغضاء، وديدنهم العداوة والشحناء، بيت السّحر والكذب والحِيَل، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم من الأنبياء حُرمَة، ولا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمَّةً، ولا لمن وافقهم عندهم حقٌّ ولا شفقة، ولا لمن شاركهم عندهم عدلٌ ولا نصفه، ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أَمَنَة، ولا لمن استعملهم عندهم تضحية، بل أخبثُهم أعقلهم، وأحذقهم أغشّهم، وسليم الناصية -وحاشاه أن يوجد بينهم- ليس بيهودي على الحقيقة، أضيق الخلق صدوراً، وأظلمهم بيوتاً، وأنتنهم أفنية، وأوحشهم سجيّة، تحيّتهم لعنة، ولقاؤهم طِيَرة، شعارهم الغضب، ودثارهم المقت"[ابن القيم، محمد بن أبي بكر، هداية الحيارى، ص: 30، لبناشر: المكتبة القيمة، القاهرة مدينة نصر] "انسلخوا من رضوان الله كانسلاخ الحيّة من قشرها، وباءوا بالغضب والخِزي والهوان، وفارقوا أحكام التوراة ونبذوها وراء ظهورهم واشتروا بها القليل من الأثمان، فترحّل عنهم التوفيق وقارنهم الخذلان، واستبدلوا بولاية الله وملائكته ورسله وأوليائه ولاية الشيطان" [نفس لبمصدر، ص: 24].
قال تعالى: (فبِما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حقّ وقولهم قلوبنا غُلفٌ بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلاّ قليلاً، وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيما) [سورة النساء: 155، 156](/1)
ولهذا كتب الله عليهم الذلّةَ والمسكنةَ إلى أبد الآباد، وحكم عليهم بالتشرّد والتشتت في أنحاء الأرض، لا يقر لهم قرار، ولا يهدأ لهم بال، قلقٌ ممتد، وخوفٌ دائم ..وهَلَع واضطراب.كماقال تعالى: (ضُرِبَت عليهم الذلّة أين ما ثُقِفوا إلاّ بحبل مِن الله وحبل مِن الناس وباؤا بغضبٍ من الله، وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عَصَوا وكانوا يعتدون) [سورة آل عمران: 112].
وكذا استحقّ اليهود اللعن والطرد من رحمة الله على لسان أنبيائهم ورسلهم.كماقال تعالى: (لُعِن الذين كفروا مِن بني إسرائيل على لسان داؤود وعيسى ابن مريم ذلك بما عَصَوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) [سورة المائدة: 78، 79].
وقد فصّل القرآن مساوئ أخلاق اليهود، وتعددت الآيات في ذِكر صِفاتهم وطِباعهم، بل وعرَّت النفسيّة اليهوديّة، وكشفت ما تنطوي عليه من الالتواء والخداع والتّلوُّن. فأصبح لدى من يقرءون القرآن من المسلمين المفاتيح الحقيقية لمعرفة النفسيّة اليهودية.
فياليت المسلمين يعقِلون هذه الحقائق عن اليهود، وليتهم يَرجِعون إلى كتاب ربِّهم ليحكموه في تحديد المعاملة الصحيحة مع اليهود، ليتهم يعلمون أنّ اليهود لا ولن يحبونا حتى ولو أحببناهم. كما قال تعالى: (ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه، وإذا لقوكم قالوا آمنّا وإذا خَلَوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ. قل موتوا بغيظكم إن الله عليمٌ بذات الصدور. إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم وإن تُصِبكم سيئةٌ يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إنّ الله بما يعملون محيط) [سورة آل عمران: 119، 120].
ومن أكثر الصفات القبيحة التي أثبتها القرآن لليهود، كما أثبتتها التوراة والإنجيل، نقض العهود والوعود والمواثيق.
فقد أشار القرآن إلى أنّ اليهود لا يحفظون عهوداً مع أحد، ولا يرعون وعداً قطعوه على أنفسهم، حتى ولا عهودهم مع الله جلّ جلاله، ويُعدّ هذا الخلق من أهم الصفات التي ينبغي أن يلتفت إليها العالم أجمع، وليعلم الجميع أنّ اليهود شعبٌ يخُطط دائماً للوصول إلى أغراضه، ولا يتحرك بدون خطّةٍ ومنهج، وفي الوقت ذاته لا يتورع عن سلوك أخسّ وأقذَر الوسائل في الوصول إلى أغراضه -فالميكافيلية تجري فيهم مجرى الدم من العروق- فالغاية تبرر الوسيلة. فلو كان السبيل إلى أهدافهم عقد المواثيق وإبرام العقود ثمّ نقضها فتلك عقيدتهم وذاك دينهم.
وياليت شعري متى يقابل المسلمون هذا التخطيط اليهودي، وهذه العقيدة اليهودية السافرة، بإيمان مُقدَّس منشأه ومَردُّه قول العليم الخبير (أوَ كُلَّما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) [سورة البقرة: 100].وقوله عز وجل: (إنّ شرّ الدوابّ عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون. الذين عاهدْت منهم ثمّ ينقضون عهدهم في كلّ مرّة وهم لا يتّقون) [سورة الأنفال: 55، 56].
إنّ بعض الواهمين من زُعماء هذه الأُمّة المغلوب على أمرها -أقول الواهمين إن جاز لنا أن نُحسِنَ بهم الظَنّ- يسارعون فيهم، ويبادرون إليهم ببعض المواثيق والعهود.ويستجدونهم حتى يقبلوها فيا تُرى ما مستقبل تلك المبادرات والعهود والمواثيق مع اليهود في ظلّ عقيدتهم التي تنبني على ما نصّ عليه تلمودهم: "تتميز أرواح اليهود عن باقي أرواح البشر بأنّها جزء من الله تعالى -كما أنّ الابن جزءٌ من أبيه. وأنّه يجب على كل يهودي أن يبذل جهده لمنع تسلط باقي الأمم في الأرض، وأنّ اليهودي معتبر عند الله أكثر من الملائكة، وأنّ اليهودي جزءٌ من الله، فإذا ضَرَب أُميٌّ إسرائيلياً فكأنّه ضَرَب العِزَّة الإلهية، والفرق بين درجة الإنسان والحيوان هو بقدر الفرق بين اليهود وغير اليهود، وأنّه مصَرّح لليهودي أن يغش غير اليهودي ويحلف له أيماناً كاذبة ..." [الميداني، عبد الرحمن حسن حبنكة، مكايد يهودية عبر التاريخ، ص: 15، دار القلم، بيروت، الطبعة الرابعة].وصدق الله العظيم في وصفه لهم: (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأمِّيين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) .
2- شهادة القرآن:
لقد قصّ لنا القرآن عشرات العهود والمواثيق التي نقضها اليهود وهدموها وخرجوا عليها بكل بجاحةٍ، قال تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوةٍ واذكروا ما فيه لعلّكم تتقون، ثمّ توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين)[سورة البقرة: 63، 64].(/2)
قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى مذكِّراً بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له واتّباع رسله، وأخبر تعالى أنّه لمّا أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل فوق رؤوسهم ليقروا بما عوهدوا عليه، ويأخذوه بقوة وجزم وامتثال، قال ابن عباس: أنهم لما امتنعوا عن الطاعة رُفع عليهم الجبل ليسمعوا. وقال السُّدي فلمّا أبَوْا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم فنظروا إليه وقد غَشِيَهم فسقطوا سُجَّداً فسجدوا على شقٍّ ونظروا بالشقّ الآخر فرحمهم الله فكشفه عنهم، فقالوا والله ما سجدةٌ أحبّ إلى الله من سجدةٍ كشف بها العذاب عنهم فهم يسجدون كذلك ..... فأقروا بذلك أنّهم يأخذون ما أوتوا به بقوّة ..... قال أبو العالية والربيع (واذكروا ما فيه(، يقول: اقرءوا ما في التوراة واعملوا به، وقوله تعالى (ثُمَّ توليتم من بعد ذلك ... ( ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم تولّيتم عنه وانثنيتم ونقضتموه" [ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب بن حفص، تفسير القرآن العظيم: 1/141، جمعية إحياء التراث الإسلامي، الكويت، الطبعة الخامسة، 1420هـ].
ويقول تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. ثمّ توليتم إلاّ قليلاً منكم وأنتم معرضون. وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخُرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون. ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان) [سورة البقرة: 83، 85].فقد بيّن الله تعالى أنّه أخذ الميثاق على بني إسرائيل بأن لا يعبدوا إلاّ الله وبأن يحسنوا للوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين، وأن لا يسفكوا الدماء وقد أقرُّوا بهذا الميثاق واعترفوا به وشهدوا على أنفسهم. وبعد هذا كُلّه نقضوا عهد الله وميثاقه الذي واثقهم به، فسفكوا الدّماء وقتل بعضهم بعضاً وأخرجوا بعضهم من ديارهم.وقد نزلت هذه الآيات في معرض الإنكار على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وما كانوا يعانونه من القِتال مع الأوس والخزرج.
يقول ابن كثير: "وذلك أنّ الأوس والخزرج، وهم الأنصار، كانوا في الجاهلية عُبّاد أصنامٍ وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل: بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريقٍ مع حلفائه فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر، وذلك حرامٌ عليهم في دينهم ونصِّ كتابهم .... وذلك أنّ أهل الملّة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة... (ثم أقررتم وأنتم تشهدون( أي ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحّته وأنتم تشهدون به (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفُسَكم... ( فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حربٌ خرجت بنو قينقاع مع الخزرج وخرجت النضير وقريظة مع الأوس يُظاهر كلّ واحدٍ من الفريقين حُلفاءه على إخوانه حتّى تَسَافكُوا دماءَهم بينهم وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم" [ابن كثير، مصدر سابق].
وقال تعالى: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً، وقال الله إنّي معكم لئِن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برُسلي وعزَّرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأُكفِّرنَّ عنكم سيئاتكم ولأُدخلنَّكم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السبيل. فبما نقضِهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية يُحرّفون الكلم عن مواضِعِه ونسوا حظّاً مما ذُكِّروا به ولا تزال تطّلع على خائنةٍ منهم فاعف عنهم واصفح إنّ الله يُحبّ المحسنين) [سورة المائدة:12، 13].
وهكذا يقصّ علينا القرآن نقضهم المواثيق التي بينهم وبين الله. وإن كانوا قد نقضوا عهودهم مع الله فقد نقضوها مع أنبيائه ورُسُله. وحسبنا من ذلك أن نذكُر جُملةً من العهود والمواثيق التي أبرموها مع نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ثمّ نقضوها.
3-أحبار اليهود ينقضون العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:(/3)
"حضرت عصابةٌ من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم حدِّثنا عن خِلالٍ نسألك عنهنّ لا يعلمهنّ إلاً نبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلوا عمّا شئتم ولكن اجعلوا لي ذمّة الله وما أخذ يعقوب على بنيه لئن حدَّثْتُكم عن شيءٍ فعرفتموه لتتابعُنني على الإسلام). فقالوا: ذلك لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلوا عمّا شئتُم). قالوا: أخبرنا عن أربع خلالٍ نسألك عنهُنّ، أخبرنا أيّ الطعام حَرَّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تُنزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء المرأةِ وماء الرّجل وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمّي في التوراة ومن وليّه من الملائكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعنني؟)، فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق، فقال: (نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أنّ إسرائيل يعقوب مرض مرضاً شديداً فطال سقمه منه فنذر لله نذراً لئن عافاه الله من مرضه ليُحَرِّمَنّ أحبّ الطعام والشراب إليه. وكان أحبّ الطعام إليه لحوم الإبل وأحبّ الشراب إليه ألبانها)، فقالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اشهد عليهم. وأنشدُكم بالله الذي لا إله إلاّ هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أنّ ماء الرجل غليظٌ أبيض وأنّ ماء المرأة رقيق أصفر فأيُّهُما علا كان له الولد والشبه بإذن الله عزّ وجلّ، وإذا علا ماء الرّجل ماء المرأة كان الولد ذكراً بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله عزّ وجلّ)، قالوا: اللهم نعم. قال: (اللهم اشهد. وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أنّ هذا النبي الأميَّ تنام عيناه ولا ينام قلبه). قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد). قالوا: أنت الآن فحدّثنا من وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك. قال: (فإن وليي جبريل ولم يبعث الله نبياً قَطُّ إلا وهو وليّه). قالوا: فعندها نفارقك، ولو كان وليُّك سواه من الملائكة تابعناك وصدّقناك. قال: (فما يمنعُكم أن تُصدِّقوه؟). قالوا: إنّه عدوّنا. فأنزل الله عزّ وجلّ (قل من كان عدوّاً لجبريل فإنه نزّله على قلبك بإذن الله مصدِّقاً لما بين يديه وهدىً وبشرى للمؤمنين ... ( إلى قوله (لو كانوا يعلمون( فعندها باؤوا بغضبٍ على غضب" [ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: 1/172-173، وقد نقله عن ابن جرير الطبري وعزاه إلى مسند الإمام أحمد، وقد ورد بعض المناظرات في صحيح الإمام مسلم وفيها السؤال عن ماء الرجل والمرأة والشبه، وفيها السؤال عن أول طعام أهل الجنة ونحو ذلك].
4- قبائل اليهود نَبَذت العهود والمواثيق:
"لمّا قدمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة... وكتب بينهم وبينه كتاب أمنٍ، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، فحاربته بنو قينقاع بعد ذلك بعد بدرٍ وقدشرقوا بوقعة بدر، وأظهروا البغي والحسد فسارت إليهم جنود الله يقدمهم عبد الله ورسوله... وحاصرهم خمس عشرة ليلةً ـوهُم أوّل من حارب من اليهود وتحصّنوا في حصونهم ـ فحاصرهم أشدّ الحِصار، وقذف الله في قلوبهم الرُّعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم، ونسائهم وذريتهم، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها. فخرجوا إلى أذْرِعات من أرض الشام. فقلّ أن لبثوا فيها حتّى هلك أكثرهم" [ابن القيم، شمس الدين محمد بن أبي بكر الدمشقي، زاد المعاد في هدي خير العباد، 3: 126-127، طبع مؤسسة الرسالة، الطبعة الثلاثون،1418 هـ].(/4)
ثمّ نَقَضَ العهد بنو النضير: قال البخاري: وكان ذلك بعد بدرٍ بستّة أشهر، قاله عروة. وسبَبُ ذلك أنّه صلى الله عليه وسلم خرج إليهم في نفرٍ من أصحابه، وكلّمهم أن يعينوه في دية الكِلابِيَيْنِ الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم. اجلس هاهنا حتى نقضي حاجتك وخلا بعضهم ببعض، وسوّل لهم الشيطان الشقاء الذي كُتِبَ عليهم فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم، وقالوا أيّكم يأخذ هذه الرّحى ويصعَدُ فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش: أنا. فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوه فوالله ليُخبَرَنّ بما هممتم به، وإنّه لنقض العهد الذي بيننا وبينه، وجاء الوحي على الفور إليه من ربّه تبارك وتعالى بما هَمُّوا به فنهض مُسرِعاً وتوجه إلى المدينة ولحقه أصحابه... وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها وقد أجَّلتُكُم عشراً. فمن وجدت بعد ذلك بها ضربتُ عنقه، فأقاموا أيّاماً يتجهّزون. وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أُبي أن لا تخرجوا من دياركم فإنّ معي ألفين يدخلون معكم حِصنَكم فيموتون دونكم، وتنصركم قريظة وحُلفاؤكم من غطفان. فبعثوا إلى رسول الله إنّا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك.فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونهضوا إليهم. وعلي بن أبي طالبٍ يحمل اللواء، فلمّا انتهى إليهم، قاموا على حصونهم يرمون بالنّبل والحجارة. واعتزلتهم قريظة وخانهم ابن أُبي وحلفاؤهم من غطفان...فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع نخلهم وحرّق، فأرسلوا إليه: نحن نخرج عن المدينة، فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم وأنّ لهم ما حملت الإبل إلاّ السلاح" [المصدر السابق، 3: 127-128وأصل القصة في الصحيحين].
"وأمّا قريظة فكانت أشدّ اليهود عداوةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغلظهم كفراً ولذلك جرى عليهم ما لم يجر على إخوانهم، وذلك لمّا أغراهم حييّ بن أخطب بقوله جئتكم بقريشٍ على سادتها، وغطفان على قادتها، وأنتم أهل الشوكة والسلاح، فهلمَّ حتىّ نناجز محمداً ونفرغ منه... فأجابوه إلى ما دعاهم إليه، ونقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظهروا سبّه، فبلغ رسولَ الله صلى الله عله وسلم الخبر، فأرسل يستعلم الأمر، فوجدهم قد نقضوا العهد، فكبّر وقال: (أبشروا يا معشر المسلمين). فلمّا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يكن إلاّ أن وضع سلاحه، فجاءه جبريل فقال: أوضعت السلاح، والله إنّ الملائكة لم تضع أسلحتها فانهض بمن معك إلى بني قريظة، فإني سائرٌ أمامك أزلزل بهم حصونهم وأقذف في قلوبهم الرُّعب، فسار جبريل في موكبه من الملائكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم على أثره في موكبه من المهاجرين والأنصار، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية علي بن أبي طالب... ونازل حصون بني قريظة وحصرهم خمساً وعشرين ليلة، ولمّا اشتدّ عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال، فأبوا عليه أن يجيبوه إلى واحدةٍ مِنهن. وانتهى أمرهم إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه إذ اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: (ألا ترضون أن يحكم فيهم رجلٌ منكم، فذاك إلى سعد بن معاذ)، وجيء بسعد رضي الله عنه فكان حكمه أن تُقتَّل الرجال وتُسبى النساء وتُقسَّم الأموال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات)" [المصدر السابق، بتصرّف، 3: 129-134،والرواية في الصحيحين وآخرها(لقد حكمت فيهم بحكم الله عزوجل)].
"وكان هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا صالح قوماً فنقض بعضهم عهده وصلحه وأقرّهم الباقون ورضوا به، غزا الجميع وجعلهم كلهم ناقضين" [المصدر السابق، ص: 136].
وهذا ما أكَّدَه التاريخ قديماً وحديثاً فقد عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة كما مَرّ معنا ونقضوا عهودهم في خسَّةٍ ونذالةٍ.وأمّا في العصر الحديث فالعالم كُلّه شاهدٌ على نقض العهود والوعود، بل إنّ اليهود يتخذون الوعود والمواثيق أسلوباً وسبيلاً للوصول إلى أغراضهم، فقد يعقدون المعاهدة حتى يلتقطوا أنفاسهم ويُعِدُّوا أنفسهم. فإذا تحقق لهم ما أرادوا ينكثون العهد والوعد كعادتهم.
ومما ينبغي أن نشير إليه، ونحن نستعرض شهادة القُرآن على اليهود، أنّ القرآن الكريم قد أكّد على ثبات هذه الصِّفة في اليهود قديماً وحديثاً، فالآيات القرآنية تربط بين اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وبين آبائهم وأجدادهم الأولين في مختلف أدوارهم ربطاً محكماً كأنّما هي تُقِرُّ أنّ ما عليه اليهود من أخلاقٍ وأحوالٍ وما وقفوه من مواقف إنّما هي مظهرٌ من أصول جِبِلَّةٍ خُلُقِيَّةٍ راسخةٍ يتوارثها الأبناء عن الآباء، بل هذا ما شهدت به التوراة والإنجيل.
5- شهادة التوراة والإنجيل:(/5)
مع أنّ التوراة كتابهم المقدّس، وبرغم تحريفها وتعرُّضها للتزييف على أيديهم إلاّ أنهّا لم تخلُ من الإشارة إلى أخلاقهم الذميمة، سيما خلق الغدر والخيانة ونبذ العهود.
ففي سِفرِ التثنيةِ من الإصحاح 32 عدد 19:
"إنّهم جيلٌ مُتقلّب أولادٌ لا أمانَة فيهم"
وإنّك لتعجب حينما تقرأ في سفر أشعيا الإصحاح 59 ما نصّه:
"خيوطُهم لا تصير ثوباً، ولا يكتسون بأعمالهم، أعمالهم أعمالُ إثم، وفعل الظُلم في أيديهم، أرجلهم إلى الشرِّ تجري وتسرع إلى سفك الدّم. أفكارُهُم أفكار إثم، في طرقهم اغتصاب وسحق، طريق السلام لم يعرفوه، وليس في مسالكهم عدل، جعلوا لأنفسهم سبيلاً معوجّةً كُلّ من يسير فيها لا يعرف سلاماً"
أمّا الإنجيل فقد شهد عليهم بأنّهم سَفَكة دماء وأولاد أفاعي.
ففي إنجيل متّى الإصحاح 23 العدد 25:
"يا أولاد الأفاعي كيف تقدرون أن تتكلموا، بالصالحات، وأنتم أشرار فإنّه من فضلة القلب يتكلم اللسان".
وفي إنجيل متّى أيضاً الإصحاح 23 فقرة 39:
"يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها ..."
فالذي نخلص إليه مما سبق أنّ نقض العهود صفةٌ ملازمةٌ لليهود. في كلّ العهود.إذ إنّ اليهود سلسلةٌ وسلالةٌ واحدةٌ متشابهةٌ في حلقاتها مهما تباعدت الأزمنة وتنوَّعت البيئات. ولعلّ من إعجاز القرآن الكريم أنّ المرء يراهم في أخلاقهم اليوم صورةً طبق الأصل لما وصفهم به القرآن الكريم من صفاتٍ وأخلاق، ولم تزدهم الأيّام فيها إلاّ رسوخاً.
"يقول الدكتور عبد الستّار فتح الله: وإنه لأمرٌ عجيب أن توجد أمّةٌ من البشر على هذا النمط وتمتد في سلسلة واحدةٍ عبر الأزمنة والأمكنة وتتأصّل في أجيالها جميعاً كلّ خلائق السوء إلى هذا الحدّ الرهيب، ويكاد العقل ينكر هذا للوهلة الأولى ولا يصدّق استمرار هذا السعار النفسي في الجيل بعد الجيل على امتداد أكثر من ثلاثة آلاف سنة، ولكن هذا فعلاً هو الواقع، اليهود ودينهم بل هو دينهم الذي وضعوه لأنفسهم، وأُشرِبَته قلوبهم على تعاقب القرون والأجيال حتّى كأنّه صار سليقةً مُكتَسَبةً" [صالح، د. سعد الدين السيد، العقيدة اليهودية وخطرها على الإنسانية، ص: 28، دار التابعين، عين شمس، الطبعة الثانية].
إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد
لقد كان كشف القرآن لطبيعة اليهود في هذا الأمر كافياً لأن يحذرهم المسلم، ولا يجلس معهم ولا يصدقهم . ولكن الذين أهملوا كتاب ربّهم وجعلوه وراء ظهورهم راحوا يعاهدون اليهود ويجلسون معهم ويدّعون لأنفسهم الشّجاعة والإقدام.
ويزعمون أنّهم بهذه المفاوضات والمبادرات إنّما يريدون التغلّب على اليهود في ساحة الصراع السياسي، بدلاً عن ساحة الصراع العسكري، وذلك عبر طاولة المفاوضات.
فهل أفلَحَت تلك القيادات أم فَشِلَت؟ وللإجابة على هذا التساؤل لابُدّ من استعراض سريع لتلك المبادرات -مبادرات السلام- والوقوف في محطّاتها. ثم الخروج بالحكم النهائي من واقع الحقائق، إمّا النّجاح أو الفشل.
6- قراءة لما حققته مبادرات السلام لليهود والفلسطينيين:
نستعرض فيما يلي محاولات السلام مع اليهود. بالرغم من قناعتنا -نحن المسلمين- بأنّ السّلام الدائم مع اليهود أمرٌ مستحيل، فضلاً عن كونه أمراً غير مشروع؛ لعدم جواز الاعتراف لهم باغتصاب أرض فلسطين.
المحاولة الأولى: مؤتمر جنيف 1974م
"وجّه الرئيس المصري السابق أنور السادات يوم 16 أكتوبر 1973م -بعد الحرب بعشرة أيّام- في رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، اقترح فيها مشروعاً للسلام يتضمّن الدعوة إلى إيقاف إطلاق النّار على أن تنسحِب إسرائيل فوراً من جميع الأراضي العربية التي احتلّتها في حرب يونيو 1967م، وأبدى استعداده لحضور مؤتمر سلام دولي لإقرار السِلم في منطقة الشرق الأوسط.
الردّ على مبادرة السادات
تحركت (واشنطن) و(موسكو) وصدر قرار من مجلس الأمن الدولي يدعو لوقف القتال والبدء في المفاوضات بهدف إقامة سِلمٍ دائمٍ وعادلٍ في الشرق الأوسط.
استجابت مصر وسورية والأردن وإسرائيل للقرار وقبلوا قرار وقف إطلاق النّار في حين رفضت العراق ومنظّمة التحرير الفلسطينية" [مجلة البيان، العدد 117 جمادى الأولى 1418هـ، مقال خمسون عاماً من الفشل، بقلم عبد العزيز كامل].
وجاء وقت انعقاد المؤتمر (مؤتمر جنيف)، الذي دعا إليه مجلس الأمن، وعندها حصل المَكر الكُبّار من أمريكا وإسرائيل، حيث لم يرق لهما أن تُبحَث قضيّة السلام دوليّاً، حتّى لا تكون ثمّة ضغوط دوليّة ضدّ إسرائيل، لذلك تقرر فجأةً وفي ظروف مبهمة أن تتولى مصر وحدها منفردةً قضيّة الصراع.
المحاولة الثانية: مؤتمر كامب ديفيد 1978م
حققت أمريكا وإسرائيل مرادهما، حيث انفردت مصر بقضيّة الصراع، وفي الحقيقة أنّ مصر خرجت من ساحة المعركة مع اليهود بهذه الاتفاقيّة.(/6)
فقد أعلنت واشنطن في 17 سبتمبر 1978م عن توصّل كلّ من مصر وإسرائيل إلى صيغةِ اتّفاق بينهما لوضع حدّ نهائي للنزاع العربي الإسرائيلي. وكان هذا الإعلان بعد سلسلة من الاجتماعات استمرت 13 يوماً ضمّت كُلاًّ من الرئيس الأمريكي (جيمي كارتر)، والرئيس المصري السابق (أنور السادات)، ورئيس الوزراء الإسرائيلي (مناحيم بيجن)، وكان ذلك في المنتجع الذي أطلقوا عليه اسم مُخيّم داؤود والذي اشتهر إعلامياً بـ (كامب ديفيد).
وأثمرت هذه الاجتماعات عن توقيع اتفاقيتين منفصلتين.
الأولى: تتعلق بتحديد علاقات السلام بين دولة اليهود والدول العربية الأخرى، وتدعوا بقيّة دُوَل المُواجهة أن تحذو حذو مصر في إنهاء الحرب مع اليهود.
الثانية: تحدد أسس معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل وتتركز في الآتي:
1- إيقاف الأعمال العسكرية بين الطرفين بشكل نهائي.
2- استعداد كل طرف لممارسة علاقات طبيعية مع الطرف الآخر.
وهناك اتّفاقات سرّية. نُصَّ عليها. ثمّ ظهرت من بعد، ذكرها صاحب مقال "خمسون عاماً من الفشل" [المصدر السابق].
ردود الفعل
رفضت أكثر الدول العربية اتفاقيات كامب ديفيد لأنها تتضمّن الاعتراف بدولة إسرائيل، وعلت الأصوات الرافضة، ولكنها سرابٌ يحسبه الظمآن ماءً.
انعقد مؤتمر القمّة العربية في بغداد عام 1979م، وأعلََنَت القمّة العربية أنّها ماضية في حربها لليهود. وتعهّدت بالمُضي في المعركة ضدّ الغاصبين حتّى النهاية، وأُعلِنَت جبهة الصمود والتحدي، والتي ما استهلّت صارخةً، بل ولدت ميّتَةً. فغدت جبهة الخمود والتصدع. فقد بدأ بعض أعضائها في التسلل تحت جُنح الظّلام إلى مُعسكر السّلام.
المحاولة الثالثة
شرع الرافضون لكامب ديفيد (من الصامدين) يتصدّون لطرح مبادرة عربيّة تقول للسلام مع اليهود: نعم ولكن بشكل جماعي. وكان ذلك في مؤتمر فاس في المغرب عام 1982م.
وإنّك لتعجب من قرارات هذا المؤتمر الذي ما هو إلاّ صياغة جديدةً تحمل نفس معنى قمّة كامب ديفيد التي رُفِضَت.وكان لقاء فاس هو الأرضية التي انطلقت منها كل مشروعات التسوية بدءً من الاتفاق الأردني الفلسطيني في عام 1984م المسمّى بمبدأ الأرض مقابل السلام، وحتّى اتفاقيّة أوسلو [المصدر السابق].
المحاولة الرابعة: مشروع إنشاء الدولة الفلسطينية
بدأت منظّمة التحرير الفلسطينية في إجراء اتّصالات مع عناصر إسرائيلية في الفترة ما بين 1986م - 1988م وانتهت باعتراف ياسر عرفات بقرار مجلس الأمن رقم 242 الذي يدعو إلى اعتراف العرب بدولة إسرائيل بحدود ما قبل 1967م، وكان العرب كلّهم مُطْبِقِينَ على رفض هذا القرار لأنّه يعني التنازل مقدّماً عن ثُلُثَي أرض فلسطين، بل كان ياسر عرفات يقول ويكرر أنّه تقطعُ يده ولا يقبل بالقرار 242، ولكن عرفات عاد وقبل بالقرار، وحتّى يُغطي على فعلته؛ أعلن عن قيام دولة فلسطين المستقلّة ورئيسها ياسر عرفات، والذي ذهب من فوره إلى جنيف كرئيس لدولة فلسطين ويعلن أمام الجمعية العامّة للأمم المتّحدة في 13 ديسمبر 1988م ما يلي:
1- أنّه على استعداد للتفاوض مع إسرائيل.
2- تتعهد منظّمة التحرير أن تتعايش بسلام مع إسرائيل، وأن تحترم حقّها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة مُعترف بها.
3- أن تُدين المنظّمة أعمال العُنف الفردي والجماعي وإرهاب الدولة [المصدر السابق].
المحاولة الخامسة: مؤتمر مدريد 1991م
بعد أن سار اليهود على عقيدتهم في نقض العهود، إذ لم يكفّوا ساعةً من نهار عن الكيد والعدوان على الأبرياء، نُفِّذت عملية فدائية قامت بها إحدى الفصائل الفلسطينية بعد أن سُدّ باب السلام في وجوههم.فقررت الإدارة الأمريكية التدخّل وبحزم لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وتقرر أن يُعقَد مؤتمر دولي يكون مجرّد واجهة عَلَنيّة عامّة لمحادثات ثنائيّة بين كلّ الدول العربية وبين إسرائيل. أمّا منظّمة التحرير المعنيّة أصلاً بموضوع السلام، فقد تقرر استبعادها لموقفها في حرب الخليج، على أن يكون البديل عنها وفداً فلسطينياً وليس من المنظّمة وعلى أن يكون ذلك الوفد الفلسطيني جزءاً من الوفد الأردني في المؤتمر.وانعقد المؤتمر وكأنّه تظاهرة تحتفي بهوان أمّة لم تجد من يتكلّم باسمها أو يدافع عن كرامتها أو مقدّساتها. وكان من العجائب أن تُختار النصرانيّة حنان عشراوي لتتكلّم باسم القضيّة الفلسطينية العربية الإسلاميّة [المصدر السابق].
المحاولة السادسة: المحادثات المتعددة في واشنطن
بعد الانتهاء من مؤتمر مدريد، اختِيرَت واشنطن لتكون مقراً لاجتماعات مسارات التفاوض الثنائيّة. ودارت المفاوضات على ما هو متّفقٌ عليه، أو كما أرادت إسرائيل، فقد كانت تخطط لإضاعة الوقت لصالحها. يقول شامير: "كنت أريد المفاوضات أن تمتدّ عشر سنوات، حتى تستكمل خطط الاستيطان وحتّى لا تبقى أرض فلسطينية يتم التفاوض عليها" [المصدر السابق].(/7)
وهذا الكلام من شامير، يُذَكِّرنا بكلام لأحد أسلافه وهو مناحيم بيجن، بعدما وقّع معاهدة السلام، حيث قال: "لن يكون هناك سلامٌ لشعب إسرائيل ولا لأراضي إسرائيل حتّى ولا للعرب ما دمنا لم نحرر وطننا بأجمعه بعد، حتّى لو وقّعنا معاهدات صُلح" [العقيدة اليهودية وخطرها على الإنسانية، ص: 117].
هذا بيان واضح لمن كان له عقلٌ وبصيرة، وقد أثبتت الأيام أنّ اليهود لا عهد لهم وأنّ عقيدتهم في تحقيق حلم إسرائيل الكبرى لم ينته بعد. فهل يفيق المسلمون لحقيقة اليهود ؟!
المحاولة السابعة: أوسلو
اتّجهت الأنظار إلى أوسلو، عاصمة النرويج، وذلك بعد فشل محاولات واشنطن والتي قبلها، لاسيما وأنّه ظهرت مستجدّات على الساحة العربية والدولية، منها:
- انتقال رئاسة الوزراء في إسرائيل من حزب الليكود إلى حزب العمل، أي من شامير إلى رابين.
- استعداد منظّمة التحرير نفسيّاً وعملياً أن تعطي كلّ شيءٍ مقابل الاعتراف بها.
وكان رابين يرى لأجل ذلك أنّه لا مانع من الاعتراف بالمنظّمة بعد اعترافها بإسرائيل، وأن تحيا بعدها حياةً آمنة ضمن حدودها المعترف بها.
وبدأ الفلسطينيون عبر قنوات اتّصال سريّة في التفاوض مع الإسرائيليين لإبرام اتّفاق منفرد، وأثمرت عن اتّفاق مبدئي أُطلِق عليه "غزّة وأريحا أولاً"، وكان المفاوضون قد اتّفقوا في أوسلو على ألاّ يكرروا الخطأ الذي حدث في واشنطن من الوفد الفلسطيني بالبدء بالموضوعات الصّعبة الرئيسة مثل تقرير المصير والمستوطنات، ومستقبل القدس. واختاروا أن يكون البدء بأمور عمليّة. ووقع الاختيار على غزّة وأريحا أولاً. بمعنى تمكين الفلسطينيين من حكم هاتين المنطقتين حكماً ذاتيّاً، وكانت هذه مبادرة إسرائيلية صرفة صادفت هوىً لدى القيادة الفلسطينية، وقد تمّ التوصّل إليها بينهما دون شراكة من طرف ثالث.
تُوّجت هذه المساعي أخيراً بما يُسمّى باتفاق إعلان المبادئ في 8/5/1993م المتعلّق بمنح الفلسطينيين حكماً ذاتياً على غزّة وأريحا.
ومع كل هذا التنازل فإن الطرف اليهودي كان ولا يزال يتعامل مع الطرف الفلسطيني بالازدراء والمكر والخداع وكعادة اليهود في التملّص من العهود، فإنّهم لم يصبروا على اتّفاق أوسلو، رغم حيفه وجوره، وعادوا إلى التمثيليّة المتكررة (تعدد فهم النّص)، تلك التمثيلية التي درجوا على اللجوء إليها كلّما أرادوا التحريف و التزييف فيقولون النَّص هكذا، ولكننا نفهم كذا، وأنتم تفهمون منه كذا، وبهذا يتخلّصون من أي التزام، ويتبرئون من كلّ مسؤولية. لقد قال رابين قبل مصرعه: "إنني أكتشفتُ أنّ هناك قراءتين لاتّفاق أوسلو، قراءة فلسطينية، وقراءة إسرائيلية. ونحن أمام تفسيرات مختلفة لقضيّة كنت أظنّها واضحة في الاتفاق -وقال- إنّ فجوة الاتّفاق بيننا وبين عرفات واسعة" [ مجلّة البيان، العدد 117، خمسون عاماً من الفشل (مرجع سابق)].
نخلص من السرد السابق:
أنّ فصول العملية السلميّة تجري على نمط التلاعب الذي صرّح به رابين في الأسطر السابقة.
فما كان يفهم (شامير) من قواعد اللعبة يمكن أن يختلف غداً عمّا فهمه (بيريز)، وما كان مسلّماً به عند (رابين) يمكن أن ينقلب على أعقابه في مفهوم (نتنياهو)، وما تعاهدت عليه حكومة الليكود اليوم ليس ملزِماً لحكومة العمل غداً، وهكذا تتوالى الفصول في عملية السلام المهزول نقضاً للوعود ونكثاً للعهود. وصدق الله ومن أصدق من الله قيلاً: (أوَ كُلّما عاهدوا عهداً نَبَذَه فريقٌ منهم، بل أكثرهم لا يؤمنون) [سورة البقرة: 100]، (الذين عاهدت منهم ثُمَّ ينقضون عهدهم في كلّ مرّة وهم لا يتّقون) [سورة الأنفال: 56].إن لليهود منطلقاً عقدياً راسخاً مقدساً، يدفعهم بقوة على الإصرار الشديد في نقض العهود ونبذ العهود التي تُبرم وتُعقد مع المسلمين والعرب بشأن الأرض المقدسة (المسجد الأقصى وما حوله)،وما دامت تلك العقيدة راسخةً ثابتةً، فإن موقف اليهود لن يتبدل ولن يتغير.وسيظل مستقبل أي عهد وأي ميثاق ومبادرة سلام هو النبذ والنقض.
وإليك البرهان من توراتهم التي يستندون إليها في أن القدس أرض الميعاد التي كتبها الله لهم فلا ولن يتنازلوا عن شبر فيها، ففي سفر التكوين وهو أول أسفار التوراة تبدأ القصة العجيبة وهي المفتاح لفهم ما يجري: "وابتدأ نوحٌ يكون فلاحاً، وغرس كرماً وشرب من الخمر، وسكر وتعرّى داخل خباءِه، فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجاً فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيها ووجهاهما إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل ما به ابنه الصغير فقال: ملعونٌ كنعان، عبد العبيد يكون لأخويه، وقال: مباركٌ الرب إله سام، وقال: ليكن كنعان عبداً لهما يفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبداً لهم".(/8)
فمنطلق اليهود من نص هذه العقيدة "يفتح الله ليافث فيسكن مساكن سام وليكن كنعان عبداً لهم" فإيمانهم عميق بأن القدس لهم وحدهم دون شريك، وفي الإصحاح السابع عشر: "أقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكاً أبدياً" وأرض كنعان كما حددتها لهم التوراة هي أرضنا المباركة المقدسة.
ففي الإصحاح العاشر وصف تلك الأرض: "كانت تخوم الكنعاني من صيدون -صيدا اليوم- حينما تجيء نحو الجرار إلى غزة، وحينما تجيء من السدوم وعمورة إلى لاشع".
هذه هي حدودها من الشرق إلى الغرب ولذلك فإنهم يستسيغون التنازل عن غزة دون هضبة الجولان. والسر هنا مكشوف فأراضي السلطة الفلسطينية -غزة وأريحا- ليس منصوصاً عليها أنها من أرض كنعان، فليست ذات بالٍ عند اليهود، ومع ذلك فاليهود لم يتركوا عرفات وأعوانه ينعمون بالسلطة أو السيادة فيها.
يقول بن غوريون أول رئيس حكومة يهودية: "تستمد الصهيونية وجودها وحيويتها من مصدرين: مصدر عميق عاطفي دائم، وهو مستقل عن الزمان والمكان، وهو قديم قدم الشعب اليهودي ذاته، وهذا المصدر هو الوعد الإلهي والأمل بالعودة، يرجع الوعد إلى قصة اليهودي الأول الذي أبلغته السماء أن: "وسأعطيك ولذريتك من بعدك جميع أراضي بني كنعان ملكاً خالداً لك". هذا الوعد لوراثة الأراضي رأى فيه الشعب اليهودي جزءاً من ميثاق دائم تعاهدوا مع إلههم على تنفيذه وتحقيقه والإيمان بظهور المسيح لإعادة المملكة أصبح مصدراً أساسياً في الدين اليهودي يردده الفرد في صلواته اليومية إذ يقول بخشوع وابتهال: أؤمن إيماناً مطلقاً بقدوم المسيح وسأبقى حتى لو تأخر أنتظره كل يوم.
أما المصدر الثاني فقد كان مصدر تجديد وعمل وهو ثمرة الفكر السياسي العملي الناشئ عن ظروف الزمان والمكان والمنبعث من التطورات والثورات التي شهدتها شعوب أوروبا في القرن التاسع عشر وما خلفته هذه الأحداث الكبيرة من آثارٍ عميقة في الحياة اليهودية" [الحوالي، مرجع سابق، ص: 24-25].
ومن هنا كان لزاماً علينا أن نحدد الأسلوب المناسب للتعامل معهم. سيّما وقد انجرف البعض من المسلمين في تيّاراتٍ آسنةٍ تدعو إلى إقامة علاقاتٍ مع اليهود، وتحاول تطبيع هذه العلاقات.مع ملاحظة أنَّ"كلمة تطبيع دليلٌ واضح على استحالة إقامة هذه العلاقات من أساسها، وإلاّ لقامت من نفسها، ولما احتاجت إلى تكلّف تطبيع، وإقامة علاقات من أناس بهذه الأخلاق يكون من باب تكليف الأشياء بضدّ طبيعتها كأن نُكلّف الماء أن تُخرِج لنا ناراً، وهذا أمر مستحيل" [العقيدة اليهودية وخطرها على الإنسان، ص: 35].
لقد وصل الأمر باليهود إلى إيذاء المسلمين في عقيدتهم، وفي ديارهم، فسفكوا الدماء، وانتهكوا الأعراض، وسلبوا الأموال، وهدّموا المنازل والمساجد، ودنّسوا المسجد الأقصى بمحاولات التوسيع المستمرّة. وبعد هذا نبادر إليهم باتّفاقيات سلام! في أيّ شريعة يكون هذا؟
ألا إنّ الله سبحانه وتعالى قد شرع الأسلوب المناسب لمعاملتهم، وهو الجهاد والاستشهاد في سبيل الله على كلّ مسلم قادر حيث أصبح الجهاد فريضةً على المسلمين، يجب نبذُ عهودهم، وعدم الالتزام بها.
(وإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين) [سورة الأنفال: 58].
رغم أنّ العهود التي مضت غير شرعية إلاّ أننا نطالب بنبذها على مستوى الأمّة فمن عاقدهم وعاهدهم بعد هذا أو تولاّهم وأقرّهم بشكل من الأشكال على جرائمهم فهو ضالٌ مُضلٌ كافرٌ مرتدٌ.
وختاماً
ليس بعد حديث القرآن والسُنة وشهادة التاريخ وشهادة التوراة والإنجيل اللتين تعرّضَتا للتحريف بأيديهم, ليس بعد ذلك حديث. ولا بعد شهادتها شهادة في وصف اليهود بأنهم نَقَضَة عهود، ونَبَذَة مواثيق، وأهل خيانةٍ وغدرٍ وقتلٍ ومكرٍ. فهم سلسلة متّصلة مِن الفِسق والكُفر والنفاق والفُجور.
وزبدة الكلام أن نقول
لا يجوز إقامة عهد مع اليهود قياساً على معاهدات النبي صلى الله عليه وسلم لأسباب كثيرة منها:
1) أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نقض عهودهم ورفضها, ومن هنا لا يجوز إقامة مواثيق وعهود معهم.
2) أنّ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود كان عهداً مع قوم لهم أرض وحصون ومال وسلطان حصلوا عليه قبل الإسلام وهؤلاء يجوز معاهدتهم تبعاً للمصلحة المعتبرة شرعاً.
أما اليهود اليوم فهم معتدون على المسلمين، وغاصِبون لأرضهم ومالهم ومُظاهرون لأعدائهم فضلاً عن عداوتهم الشّاملة للإسلام وكتابه. ومن هنا لا بُدّ من سبقهم بقطع الطريق عليهم علناً بلا خيانة حتى لا ينسُجوا خيوط غدرهم بنا في ظل هذه العهود المعتمة.
وصدق الشاعر حيث قال:
==============
التعقيب على ورقة (عقيدة اليهود في المواثيق والعهود) كمال عثمان رزق*
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.(/9)
وجزى الله القائمين على هذا المهرجان خيراً.
أيها الأخوة الكرام, نحن جميعاً لا نشك أبداً أن اليهود ينقضون المواثيق. هذا يعلمه حتى الصغار من أبنائنا, ومن يُولد اليوم ربما يولد بهذه المسالة الفطرية. وما سمعناه إنما هو تأكيد.
وكل الذي قيل الآن حقيقة ـ حتى عن واقع المسلمين اليوم والتردّي الذي يعيشون فيه ـ لن يحل القضية.
إنّ الله تعالى عندما بيّن أنّ هؤلاء اليهود سيُجلَوْن يوماً من الأرض حدّد نوعية الرجال الذين سيطردون هؤلاء اليهود من الأرض فقال جل جلاله (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلون علواً كبيراً. فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً) هذه هي صفة الرجال الذين سيحررون فلسطين انظروا إلى هذه الصفات هل تجدونها اليوم في مكان ما؟ (عباداً لنا أولي بأس شديد) (لنا) منسوبين لرب العالمين في السلوك والعقيدة في الهدف في التفكير في الإعداد .. في كل شيء!
هذا الضجيج ـ حقيقة ـ لا يحل شيئاً. وكل الذي يحدث لا يبلغنا المقاصد.
وإنّ الذي يبلغنا المقاصد هو الالتفاف على إخراج هذا الجيل الذي وصفه الله تعالى (عباداً لنا أولي بأس شديد).
التفتوا إلى الوراء قليلاً .. كل الذين حرروا فلسطين كانوا أولي باس شديد: صلاح الدين الفاتح عمر بن الخطاب, سلسة رجال من أولي البأس الشديد! وحرروها وأعادوها إلى ديار المسلمين إننا إذا قتلنا حكام المسلمين اليوم ولا نجد رجالاً أولي بأس شديد فلن نحرر فلسطين, وإنما سيأتي حكام آخرون على نفس المنهج, لن نحرر شيئاً حينئذ!
فلو اتفقنا على إيجاد جيل جديد يُربَى على منهج الإسلام, يشرب من حياض رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفيد من كل وقائع التاريخ الماضية ويستفيد من القرآن وقصصه وتربيته؛ عند ذلك ستحرر فلسطين سواءً بقي الحكام أم زالوا.
سيأتي ذلك الجيل الذي سيحرر فلسطين ويأتي بحكام أولي بأس شديد كذلك. هذه المسألة ينبغي أن ننتبه إليها ويجب أن لا ننوح. فنحن الآن نكثر النواح بالليل والنهار ولكن ننسى القضية الأساسية هل نعِد أنفسنا نحن جميعاً الآن لنكون ذلك الصنف الذي وصفه الله: من أولي البأس الشديد. هل نربي أنفسنا هذه التربية على القيادة وعلى العبادة وعلى الظمأ في الهواجر وعلى قيام الليل وعلى قول الحق وعلى نُصرة المظلوم وعلى أشياء كثيرة؟
أما النواح فلا يُجدي فتيلاً ولو نُحنا بالليل والنهار وتباكينا وعقدنا المناظرات والمحاضرات فلن يُجدي شيئاً إلا إن نُخرج ذلك الجيل من أولي البأس الشديد. فلْيكن ذلك الجيل بعد عام أو عشرة أعوام أو نصف قرن!
إننا نريد أن نحرر فلسطين تحريراً حقيقياً وليس تحريراً زائفاً. فالتحرير الحقيقي يكون تحت ظلال السيوف وبمنهج القرآن! وهذا الذي ينبغي أن بحث عنه؛ لذلك كل المنظمات والمؤسسات الإسلامية تعمل لنصرة الإسلام وبلافتاتهم المختلفة أقول لهم وأنا مخلص في قولي: ربُّوا جيلاً جديداً يحمل الراية ويصدق الله الوعد ويقوم على أمر الله خير قيام .. إننا لا نستعجل فقضيتنا طويلة وتحتاج إلى الزمن والإعداد. فإن فلسطين وقعت في قبضة اليهود تسعين عاماً حتى جاء صلاح الدين بأولئك الرجال من أولي البأس فجاسوا خلال الديار وحرروا فلسطين.
فالسّرد التاريخي إنما هو مجرد معلومات. ولكن ما لم تتحول تلك المعلومات إلى عمل وما لم نلتفت إلى تربية أنفسنا أولاً ونربي من بعدها جيلاً آخر فوالله إنّ الناس يتعبون خيلهم في باطل!
حقيقة إنّ كثيراً من الناس الآن يسمعون فقط, وليسوا مستعدين أن يقدموا شيئاً, لا أقول المال لأن هناك ما هو أغلى من المال وهو الدعوة ولو قليلاً لإخراج جيل يقوم بهذه المهمة العسيرة التي ما أوكلها الله إلى الأغنياء ولا الخاملين ولا الكُسالى؛ وإنما أعد رسوله صلى الله عليه وسلم إعداداً جيداً (إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً) فكان أول الناس من أولي البأس الشديد محمداً صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك جاءت السلسلة المباركة من الرجال الذين قادوا هذه المسيرة وحرروا فلسطين.
إنّ مسؤولية تحرير فلسطين ليست مسؤولية الفلسطينيين فقط وإنما هي على عاتق كل مسلم يقول (لا إله إلا الله) هذه هي مهمتنا جميعاً وليست مسؤولية الفلسطينيين, وليست فلسطين ملكاً للفلسطينيين, وإنما هي ملك لكل المسلمين. إذن هناك حلقة مفقودة إن لم نجدها فإننا سنسكب عبرات ودماء ونضيع كثيراً من الوقت ما لم نُعِدّ ذلك الجيل الذي وصفه الله بأنه من أولي البأس الشديد.
هذه الخصلة التي ينبغي أن تبحثوا عنها في جيلكم في أطفالكم في إعلامكم.
وأنا أشكر الدولة حيث قفلت عنا باب الفساد بمنعها قدوم إحدى المغنيات كانت ستأتي لتفسد في الأرض هنا في السودان فأوقفوها جزاهم الله خيراً.(/10)
ولا بد أن نذكر خير الناس ونشكر جهدهم وبذلهم ونشكر لأخينا عمر رئيس الجمهورية أن أعلن بأنه لن يكون في صلح, وأعلن أنه فتح المعسكرات (ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله) وأنا أعتقد أنّ هذا قرار صائب وهو من الأبواب التي ستؤدي إلى خلق جيل من أولي البأس الشديد, فينبغي أن نستفيد من هذا الباب. ولعل هذه البلاد أن تقود الكتيبة الأولى في سبيل تحرير الأقصى.
وغداً سنحتاج إلى كل واحدٍ من أهل الدعوة مهما اختلفت جماعاتهم.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
==========
التعقيب على ورقة (عقيدة اليهود في المواثيق والعهود) أ.د. الخضر عبد الرحيم*
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير، سيدنا وإمامنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحديث كما سمعتم في هذه الورقة المستفيضة عن بني إسرائيل، ومصادر كثيرة كلها تشهد بمساويهم ومخازيهم، ولكن المصدر الذي نخلص له ونعتمده ونعتقده هو كتاب الله سبحانه وتعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
هذا القرآن قصَّ علينا نبأ بني إسرائيل، قصَّ علينا الماضي والحاضر، ويقصُّ علينا حتى المستقبل، ينبغي ونحن نتدبر هذا القرآن أن نأخذ منه العبرة.
بنو إسرائيل لا نشك في عطائهم كما ذكرت الورقة:
[1] فقد كانت لهم صلة بالله وثيقة على أنبيائهم صلوات الله وسلامه عليهم، وكانوا هم الذين ينشرون توحيد الله سبحانه وتعالى، وصبروا وصابروا وجاهدوا بذلك. ولكن عندما ابتعدوا عن الله سبحانه وتعالى، ولعلنا نرى الابتعاد في عهد نبي الله موسى صلوات الله وسلامه عليه، لم يكن في كتاب الله من ذُكِر كما ذُكِر سيدنا موسى، لا ملكٌ ولا نبيٌّ غيره، ذُكر 130 مرة وهو يسوس الأحلاف النافرة المبتعدة عن الله سبحانه وتعالى.
ولعلنا ونحن نقرأ القرآن في آياته المكية لا بد أن نقف لماذا لم يُخالط النبي صلى الله عليه وسلم اليهود ولم يعاملهم. وذُكِروا لدى الآيات المكية لما كانوا على توحيد وصلةٍ بالله (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) عندما وقفوا بجانب التوحيد، وحتى إن يوسف عليه السلام عندما كان في السجن كان يدعو إلى الله تعالى ويدعو إلى ملة آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب.
ثم ماذا؟ انقلبت هذه الطبائع الشريرة وجنحت عن الله سبحانه وتعالى وابتعدت. وحتى عندما أذاقهم فرعون سوء العذاب وأخرجهم من مصر، كان الشر أصيلاً في نفوسهم، ضرب موسى بأمر الله البحر فانفلق وعبروا ولامسوا الثرى بأرجلهم قالوا لسيدنا موسى (اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)، وهم مع نبي الله سبحانه وتعالى، بل قالوا: (أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا)، ولكن النبي صلوات الله وسلامه عليه نظر إليهم نظرة تشاؤم؛ لأنه أدرى بأخلاقهم قال: (عسى ربكم أن يُهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون)؛ ولذلك عندما أُمروا أن يجاهدوا أعداء الله في هذه الأرض نفسها رفضوا رفضاً باتّاً كما جاء في القرآن الكريم: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين. قالوا يا موسى إنّ فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون. قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون. وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين. قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون).
أنا عندما أذكّر بهذه الآيات أذكّر أنفسنا.. نحن عندما نعود إلى كتاب الله وإلى الإسلام هذه الأراضي ستحرر، لا شك في ذلك؛ سيحررها الإسلام كما حررها الإسلام من طغيان الروم وأعاد إليها قدسيتها؛ فلا بد أن نعتبر من قصص بني إسرائيل حيث أخبرنا القرآن بأخلاقهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى ـ كما ذكر الشيخ في ورقته ـ قد ذكرهم كثيراً في القرآن الكريم، لكن لا بد أن يكون في ذلك عظة لنا.. نحن إذا رجعنا اليوم إلى الإسلام رجوعاً حقيقياً إن شاء الله غداً نحرر أرضنا.
نحن وحكامنا .. فهؤلاء الحكام صنائع .. الأمة مسلمة ونحن نشعر بأوبة حقيقية إلى الله تعالى وإلى ديننا فنحن إن شاء الله على موعد لتحرير هذه الأراضي المقدسة عندما نعود عودة حقيقية وننبذ كل الأيديولوجيات التي دخلت علينا من قومية واشتراكية وعلمانية وما إلى ذلك.(/11)
فهنا ـ يا أيها الإخوة ونحن نتكلم عن بني إسرائيل ـ لا بد أن نتذكر صفاتهم المذكورة في القرآن (إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق) فهؤلاء كفروا بالله وقتلوا الأنبياء وحاولوا قتل عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس. هذه أخلاقهم! لكنهم يعلمون تماماً أنّ الذي يحرر هذه الأرض هو الإسلام؛ ولذلك يغرسون كل الأشياء التي تصرف الأمة عن هذا الدين. هم سَدَنة المفاسد كلها. وهم أئمة الفواحش بأنواعها. وهم الذين قالوا (ليس علينا في الأميين سبيل) ولذلك جاء هؤلاء اليهود إلى المنطقة وعاثوا فيها فساداً فسلط الله عليهم البابلييَن فأجلوهم عنها, ثم رجعوا فعاثوا فيها فساداً فسلط الله عليهم الرومان فأجلوهم عنها, ثم جاء الإسلام وأجلى الرومان. ولم يجيئوا إلا في هذه العهود المتأخرة بهذه المعاهدات التي سمعتم وبهذه الوعود كانت هنالك دولة إسلامية قائمة في تفكيكها.
وللأسف كثيرٌ من المسلمين يجهل تاريخنا. فلا بد أن نعلم أنّ السلطان عبد الحميد الذي كان خليفة للمسلمين رفض رفضاً باتّاً أن ينالوا شبراً واحداً من هذه الأرض ونحن كنا في المراحل الأولى نقرأ قصائد في هجاء هذا الرجل المؤمن الواعي. وما ذاك إلا للغزو القادم الذي غزا عقول هذه الأمة.
وقد أكد لنا القرآن أنّ اليهود أعدى هذه الأمة هم اليهود (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون. قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل. وإذا جاءوكم قالوا آمنا) ـ كعادتهم ـ (وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما يكتمون) إلى آخر هذه الآيات التي تحدثنا عن أخلاق هؤلاء القوم الذين ليس لهم إطلاقاً عهدٌ ولا ذمة ولا ميثاق. ولا يفهمون إلا بالجهاد والاستشهاد. وهذه قضية ينبغي أن نفهمها. فالغرب يتزعم اليوم محاربة الإرهاب الذي يعني به بوش الإسلام. فالجهاد ذروة سنام الإسلام ولهذا يتوارى كثير من قادتنا ومثقفينا. ولكن الجهاد طريق تحرير المسجد الأقصى.
فلا بد من الرجوع إلى ديننا. وهذه المعاهدات ـ كما سمعتم إخوتي ـ باطلة وليست ملزمة, وهي معاهدات استسلام. وهي تُعطي اليهود كل فترة استجماماً حتى يواصلوا زحفهم على المسلمين. ولهذا فإننا ندعو جميع المسلمين إلى العودة الصادقة إلى الإسلام والدعوة إليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وأسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
============
التعقيب على ورقة (عقيدة اليهود في المواثيق والعهود) د. كمال عبيد*
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وشكر الله للإخوة في قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم تنظيم هذا المنتدى العلمي.
وملتزماً بالزمن المقرّر، ولكن قبل أن أبدأ في الحديث لا بد لي من نظرة عبرة في المكان والزمان، نحن الآن في جامعة الخرطوم في العام 2002م، وقبل مائة عام من هذا التاريخ (1902م) وبعد أن دانت هذه البلاد للمستعمر بالغصب والقوة؛ بدأ تأسيس هذه المؤسسة وظن الناس حينها أن شأفة الإسلام قد استأصلت؛ لأن الفكرة في تأسيس هذه الجامعة باسم (كلية غردون التذكارية) كان القصد منها نقل الثقافة الغربية لهذه البلاد، ولكن بعد مائة عام نجلس الآن تحت مظلة قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم لا لِنُدِين دخول الإنجليز وتغييرهم لبلادنا ولكن لمناصرة إخواننا في فلسطين لتقليل الأذى الذي وقع بهم قبل خمسين عاماً؛ لتعود بلادهم بلاداً خالصة للإسلام، هذه العبرة تؤكد لنا أنه مهما طال ليل الغربة فلا بد لديار الإسلام أن تعود لحظيرة الإسلام. هذه القضية لا بد أن نستذكرها ونحن نقدم الدعم لإخواننا، نثق ـ ثقتنا في رؤيتنا ونظرنا إليكم ـ أن بلاد فلسطين ستعود لأهلها خالصة لله عزّ وجل.
أما الحديث عن العقود والعهود فقد تفضّل الأخ الشيخ بأن ساق نقض اليهود للعهود؛ حتى وصل بنا إلى العهود التي تبرع بعض المسلمين بإعطائها لليهود. ولا بد من وقفة شرعية حول هذه العهود التي بُذلت لليهود: ما حكم الشرع فيها؟ لأن بعضهم الآن وهو يجلس أمامي يفكر هل بإمكاننا أن نقول لليهود: إن جزءاً مما تنازل عنه بعض حكام المسلمين ليس ملزماً لنا؟ وكيف؟
أقول: هذه العهود تعارف الناس على مختلف الشرائع أنها تقوم على أركان أساسية. فهل ينطبق ركن واحد من الأركان على هذه العقود و العهود التي وُقِّعت مع اليهود؟
فمن شروط التعاقدات أن تقوم على الرضا؛ فأيما عقد وقع على القسر والغصب والإرهاب يقع باطلاً.
فالتنازلات التي قُدِّمت لإسرائيل منذ قرار التقسيم في الأمم المتحدة سنة 1947م (قرار رقم 194) لم تقم على رضا الشعب الذي أُخرج من بيته وداره وأرضه. أيُّ عقد قام على ذلك فإنه يقع باطلاً.(/12)
فالعقود في كل الشرائع تقع باطلة إذا قامت على غرر. أسألكم بالله هل منكم من يدري تفاصيل (أوسلو) أو تفاصيل (وادي عربة) أو غيرها من العقود. هذه عقود تقوم على الغرر، مثلما شبهها الفقهاء ببيع السمك في الماء والطير في الهواء.
كل العهود والمواثيق التي وُقِّعت حتى الذي يقوله زعماء العرب والذي كرروه في مؤتمرهم الأخير أن السلام خيار استراتيجي لم يستطع واحد منهم أن يفسر لنا ماذا يعني بـ (السلام كخيار استراتيجي)؟
فالذين تعاقدوا مع اليهود تعاقدوا على غرر لا يقع به نفاذ ولا يقع به عقد. فالعقود التي يقوم بها البعض عن البعض تقوم على التفويض. إذا كان الحكام وما يدّعونه أنهم إنما يفاوضون بالنيابة عنا، فما من أحد في هذه الأمة أعطى حكام العرب تفويضاً بالتنازل عن وقف فلسطين، لأن الناس لو كانوا شركاء في أي أمر من الأمور، يُلزم الذي يقوم نيابة عنهم بالتنازل عن حقوقهم أن يكون على تفويض في ذلك. لم تُسْتَفْتَ الشعوب العربية ولم يُسْتَفْتَ حتى الشعب الفلسطيني في التنازل عن شبر واحد من أرض فلسطين؛ فهو عقد قائم على غير تفويض فهو يقع باطلاً كذلك.
لذلك عندما نقول: إن هذه العقود التي سُمّيت بالأماكن والتواريخ والفنادق وغيرها ليست ملزمة لأي واحد من أبناء المسلمين في أي جيل من الأجيال؛ لأنها لم تقم على الرضا ولم تقم على الوضوح ولم تقم على التفويض؛ لذلك ظللنا نطالب حكام أمتنا العربية أن يستجيبوا ـ ولو مرة واحدة ـ ليس لأهوائهم ولا لنَزَواتهم ولا لخوفهم من الغرب، أن يستجيبوا لرغبات شعوبهم التي ما استظلت بظل وما سكت لها صوت وهي تنادي بأنها مستعدة لأن تموت في سبيل الله عز وجل لتسترجع حقوقها. إن كان الحكام ليسوا على استعداد لتقديم ما يستطيعون فإن شعوبهم تملك نفوسها وحياتها، تستطيع أن تقدم ذلك، وعداً غير مكذوب، لأن الأطفال والنساء والشيوخ يقدِّمون أنفسهم الآن، هانت عليهم أنفسهم، يستطيعون أن يقدموا ذلك. ما من شعب من الشعوب امتلك إرادة التغيير إلاّ وغيّر، ما من شعب من الشعوب امتلك إرادة التحرير إلاّ وحرّر، كان على الحق أم كان على الباطل، ونحن على حقنا في إيماننا بالله عز وجل، مستندين إلى قول الله عز وجل في القرآن الكريم في صفة اليهود ونقضهم للعهود، نستند على تجربة ثابتة، وعلى كلام حكيم من ربِّ عليم، نوقن يقيناً مطلقاً أن أرضنا ستعود لنا وأن حقنا سيعود لنا، وأنه مهما طال حكم اليهود لأرض فلسطين فستحكم بحكم الإسلام من غير شائبة ومن غير تأثير.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
==============(/13)
عقيدتنا بين الولاء والبراء ووجوب الحكم بما أنزل الله
بسم الله الرحمن الرحيم
- الحمد لله رب العالمين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
- فإن عقيدتنا تقوم على ركنين أساسيين، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وهذان الركنان هما، الولاء والبراء، ويدلنا على ذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين ) . (36) النحل.
- وهذا ما تدل عليه كلمة التوحيد، لا إله إلا الله، أي لا معبود بحق إلا الله سبحانه، فتضمن المعنى نفياً وإثباتاً، فالنفي – لا إله – فهذه الجملة تدل على نفي الألوهية مطلقاً، والإثبات – إلا الله – وهذه الصيغة من أقوى أساليب الحصر، فأنت حين تقول: الله معبود، لا تنفي وجود معبود غيره، لأنك أتيت بالإثبات دون النفي، أي أثبت أن الله معبود مع عدم نفيك هذه الصفة عن غيره، أما إذا قلت ، لا معبود إلا الله، فأنت نفيت عن غيره هذه الصفة، والفرق بين المعنيين واضح.
- وعلى ذلك تقوم عقيدة المسلم، على النفي والإثبات، قال تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْد مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ). (256) البقرة
- قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها واللّه سميع عليم ) أي من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون اللّه، ووحَّد اللّه فعبده وحده، وشهد أن لا إله إلا هو ( فقد استمسك بالعروة الوثقى)، أي فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم. قال عمر رضي اللّه عنه: إن الجبت السحر، والطاغوت الشيطان، وإن كرم الرجل دينه، وحسبه خلقه وإن كان فارسياً أو نبطياً. ومعنى قوله في الطاغوت إنه الشيطان، قوي جداً فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية: من عبادة الأوثان، والتحاكم إليها، والاستنصار بها.
- وقوله تعالى: ( فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها)، أي فقد استمسك من الدين بأقوى سبب، وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم هي في نفسها محكمة مبرمة قوية، وربطها قوي شديد، ولهذا قال: ( فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ) الآية، قال مجاهد: العروة الوثقى يعني الإيمان، وقال السدي: هو الإسلام، وقال سعيد بن جبير والضحاك: يعني ( لا إله إلا الله ) وعن أنَس بن مالك: العروة الوثقى القرآن، وعن سالم ابن أبي الجعد قال: هو الحب في اللّه والبغض في اللّه، وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها. أهـ تفسير ابن كثير.
- فهذه الآية الكريمة تدل على حقيقة تقوم عليها عقيدة أهل الإيمان، فقد بين الله سبحانه أن الذين يكفرون بالطاغوت، ويؤمنون بالله، قد استمسكوا بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والعروة الوثقى، هي كلمة التوحيد، لا إله إلا الله، وهذه الآية متضمنة لمعنى الشرط، أي الذي يكفر بالطاغوت ـ ويؤمن بالله، فهذا الذي استمسك بالعروة الوثقى، وما يدل عليه مفهوم المخالفة، أن الذي لا يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، لم يستمسك بالعروة الوثقى، وعليه أصبح الاستمساك بالعروة الوثقى له شرطان:
- الأول: الكفر بالطاغوت.
- الثاني: الإيمان بالله سبحانه.(/1)
- وهذا السياق يتضمن معناً بلاغياً، حيث إن الكفر بالطاغوت لا يكون إلا نتيجة الإيمان بالله سبحانه، أي الذين يؤمنون بالله هم الذين يكفرون بالطاغوت، فقدم سبحانه الفرع على الأصل، ليدلنا على حقيقة غائبة عن أذهان كثير من أبناء هذه الأمة، وهي أن الإيمان لا يصح إلا بالكفر بالطاغوت، أي من لم يكفر بالطاغوت، لا يكون مؤمناً بالله سبحانه، قال صلى الله عليه وسلم : (من قال : لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبَدُ من دون الله ). رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك عن أبيه فمن لم يكفر بالطاغوت لا يكون مؤمناً حقيقة وإن كان مقراً بصحة ما أنزله الله سبحانه على محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا فهمت هذا، تعلم أن أصل الخلاف بين الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين قومه لم يكن على مسألة الإقرار على تفرد الله سبحانه بالربوبية، بل هم مقرون بذلك قال تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ). (63) العنكبوت
- قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى مقرراً أنه لا إله إلا هو، لأن المشركين الذين يعبدون معه غيره معترفون بأنه المستقل بخلق السماوات والأرض، والشمس والقمر وتسخير الليل والنهار، وأنه الخالق الرازق لعباده، ومقدر آجالهم وأرزاقهم فتفاوت بينهم، فمنهم الغني والفقير، وهو العليم بما يصلح كلا منهم ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، فذكر أنه المستقل بخلق الأشياء المتفرد بتدبيرها، فإذا كان الأمر كذلك فلمَ يعبد غيره؟ ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنه الواحد في ملكه، فليكن الواحد في عبادته، وكثيراً ما يقرر تعالى (مقام الإلهية) بالاعتراف بتوحيد الربوبية ،وقد كان المشركون يعترفون بذلك، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. أ هـ تفسير ابن كثير
- وقال سبحانه: ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ) . (38) الزمر
- وقال سبحانه: ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) . (25) لقمان
- وقال سبحانه: ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ) . (31)يونس
- وقال سبحانه: ( قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ) . (89) المؤمنون
- يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: يقرر تعالى وحدانيته، واستقلاله بالخلق والتصرف والملك، ليرشد إلى أنه الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له؛ ولهذا قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين العابدين معه غيره، المعترفين له بالربوبية، وأنه لا شريك له فيها، ومع هذا فقد أشركوا معه في الإلهية، فعبدوا غيره معه، مع اعترافهم أن الذين عبدوهم لا يخلقون شيئا، ولا يملكون شيئا، ولا يستبدون بشيء، بل اعتقدوا أنهم يقربونهم إليه زلفى: ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ). الزمر: 3، فقال: ( قل لمن الأرض ومن فيها ). أي: من مالكها الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات، وسائر صنوف المخلوقات (إن كنتم تعلمون. سيقولون لله ) أي: فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك له، فإذا كان ذلك ( قل أفلا تذكرون )أي: لا تذكرون أنه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرازق لا لغيره. أ هـ تفسير ابن كثير.(/2)
- فهذه الآيات وغيرها ، تبين أن كفار قريش كانوا مقرين بوجود الله سبحانه، وأنه الخالق المالك المقدر، ومع ذلك لم يدخلوا في الإيمان، وحقيقة إقرارهم نابع من الفطرة التي فطر الله الناس عليها إذ قال سبحانه: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ). (30) الروم
- فالله سبحانه فطر الناس على التوحيد، إذ أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقيم وجهه للدين حنيفاً مبيناً أن ما أُمر به صلى الله عليه وسلم هو ما فطر الناس عليه فطرة، أي فطر الناس على التوحيد، ويعزز ذلك المعنى قوله تعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) . (173) الأعراف
- فالله سبحانه أخذ على بني آدم الميثاق وهم في ظهر أبيهم آدم عليه السلام بأنه ربهم، قاطعاً عليهم عذري الجهل والتقليد، ( أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) وهذا عذر الجهل. ( أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا وكنا ذرية من بعدهم ). وهذا عذر التقليد، فالله سبحانه خلق العباد مقرين بربوبيته غير جاهلين أو شاكين، ويؤيد ما ذهبنا إليه ما رواه الإمامان البخاري ومسلم عن أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ( يقالُ للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنتَ مفتدياً به؟ قال فيقول: نعم. فيقول: قد أردّت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشركَ بي شيئاً فأبيت إلاّ أن تشرك بي ).
- وكذلك ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه ). متفق عليه.
- وفي رواية صحيحة: ( إلا ويولد على الملة ). وفي صحيح ابن حبان ( إلا ويولد على فطرة الإسلام ). فما من مولود إلا ويولد مقراً بربوبية الله سبحانه، وهذا الخبر شامل لكل مولود دون استثناء، بل قد دلت النصوص الشرعية على أن كفار قريش لم يكونوا يُكذّبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به، كما في قوله تعالى: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ). (33) الأنعام
- فالكافرون رغم إقرارهم بوجود الله سبحانه، كانوا مكذبين بأن العبادة لا تكون إلا له كما في قوله تعالى: ( وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ). (8) ص
- فهم عجبوا أن جعل الآلهة إلهاً واحداً، في الوقت الذي كانوا فيه مقرين بوجود الله سبحانه، وأنه الخالق المالك المقدر.(/3)
- قال القرطبي في تفسير هذه الآية المباركة: وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب فجاءت قريش إليه، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه، قال: وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي ما تريد من قومك؟ فقال: (يا عم إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها الجزية العجم ) فقال: وما هي؟ قال: (لا إله إلا الله) قال: فقالوا: ( أجعل الآلهة إلها واحداً ) قال: فنزل فيهم القرآن: ( ص والقرآن ذي الذكر* بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) حتى بلغ ( إن هذا إلا اختلاق ) خرجه الترمذي أيضا بمعناه. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقيل: لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه شق على قريش إسلامه فاجتمعوا إلى أبي طالب وقالوا: اقض بيننا وبين ابن أخيك. فأرسل أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء، فلا تمل كل الميل على قومك. قال: (وماذا يسألونني) قالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتعطونني كلمة واحدة وتملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم) فقال أبو جهل: لله أبوك لنعطينكها وعشر أمثالها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا لا إله إلا الله) فنفروا من ذلك وقاموا؛ فقالوا: ( أجعل الآلهة إلها واحداً ) فكيف يسع الخلق كلهم إله واحد. فأنزل الله فيهم هذه الآيات إلى قوله: (كذبت قبلهم قوم نوح ). أ هـ الجامع لأحكام القرآن.
- ومن هذا المنطلق فرق العلماء المعتبرون بين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، فليس كل من يقر بتوحيد الربوبية يعتبر موحداً، بل لا بد من أن يدخل عليه توحيد الألوهية، وهو ما يسميه أهل العلم: بتوحيد العبادة.
- قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن تأمل ما في السيرة والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأنه صادق فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً.اهـ زاد المعاد 3 / 42.
- وقال أيضاً: ليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه: لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه، كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له، والذل له، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع والعطاء، والحب والبغض، ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها. مدارج السالكين 1 / 303.
- وعبادة الله سبحانه هي الغاية التي خلق الله سبحانه الجن والإنس لأجلها، قال تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ). (57)الذاريات
- وقال سبحانه: ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ). (5) البينة
- وفي الحديث الصحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: ( يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ )، فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: ( حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا )، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: ( لا تبشرهم فيتكلوا ) متفق عليه. وعبادة الله سبحانه هي الطاعة والتذلل والانقياد، فكل من لم يعبد الله سبحانه لا يكون مؤمناً وإن كان مقراً له بالربوبية، وكذلك من عبد الله سبحانه ولم يتبرأ من كل ما سواه، لا يعتبر مؤمناً، فالإيمان هو توحيد الله سبحانه بالربوبية والألوهية، وهذا يقتضي تفريد الله بالعبادة، وهذا ما خالف فيه الكافرون، فالكافرون وإن كانوا مقرين بأن الله سبحانه هو المتفرد بالخلق والملك، إلا أنهم خالفوا في تفرد الله بالعبادة، فوقعوا في الشرك والكفر، وعليه لا يكون الإنسان مؤمناً بمجرد تصديقه بأن الله هو الخالق المالك المقدر، وأنه المعبود، حتى يتبرأ من كل ما سوى الله سبحانه وهذا ما دلت عليه الآية الكريمة: ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدمِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ). (256) البقرة
- ومن لوازم هذا الإيمان، الولاء والبراء؛ أي موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين.
- الأدلة على موالاة المؤمنين:(/4)
- منها قوله تعالى: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ). (71)التوبة
- وقوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ). (55)المائدة
- وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ). (72) الأنفال
- فهذه الآيات تبين أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وأنهم عابدون لله سبحانه مقيمون الصلاة مؤتون الزكاة، آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر، وهذه صفات أهل الحق، فلا يكون أهل الحق إلا قائمين عليه، داعين إليه .
- أدلة حرمة موالاة الكافرين :
- منها قوله تعالى: ( لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ ). (28) آل عمران
- وقال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ). (52) المائدة
- وقال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ). (57) المائدة
- وقال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ). (23) التوبة
- يقول ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات: نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعدهم على ذلك فقال تعالى: (ومن يفعل ذلك ليس من اللّه في شيء) أي ومن يرتكب نهي اللّه من هذا فقد برِئَ من اللّه، كما قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة - إلى أن قال - ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ). وقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أتريدون أن تجعلوا للّه عليكم سلطاناً مبيناً )، وقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم) الآية. وقوله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة)، أي إلا من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما قال البخاري عن أبي الدرداء إنه قال: ( إنَّا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم) وقال الثوري، قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، ويؤيده قول اللّه تعالى: ( من كفر باللّه من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) الآية. ثم قال تعالى: ( ويحذركم اللّه نفسه ) أي يحذركم نقمته في مخالفته وسطوته، وعذابه لمن والى أعداءه وعادى أولياءه، ثم قال تعالى: ( وإلى اللّه المصير) أي إليه المرجع والمنقلب ليجازى كل عامل بعمله. أ هـ تفسير ابن كثير(/5)
- قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في حكم موالاة الكافرين ما نصه: فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة، فكيف بالمشابهة في أمور دينية، فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد. والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان. قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين)، وقال تعالى فيما يذم به أهل الكتاب: ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون * ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون).
- فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم. وقال سبحانه وتعالى: ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه) فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يوادّ كافراً فمن وادّ الكفار فليس بمؤمن، فالمشابهة الظاهرة مظنة المودة فتكون محرمة كما تقدم تقرير مثل ذلك) اقتضاء الصراط المستقيم ج1 ص221- 222
- وقال رحمه الله تعالى أيضاً: والمؤمن عليه أن يعادى في الله، ويوالى في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه، وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى: ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون أخوة..)، فجعلهم أخوة مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم.
- فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين، فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر، وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك، فان الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه.
- وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة. (مجموع الفتاوى ج28 ص207- 209).
- ما يستفاد من الآيات الكريمة الدالة على حرمة موالاة الكافرين:
1 : حرمة الموالاة بين المؤمنين والكافرين.
2 : أن الذين يتولون الكافرين من المؤمنين، ليسوا من الله في شيء.
3 : أن الذين في قلوبهم مرض أي نفاق، هم الذين يتولون الكافرين.
4 : أن الذين يتولون الكافرين من دون الله، موصوفون بالظلم، وهم الذين نفى الله الإيمان عنهم.
5 : أن من يتولى الكافرين من دون المؤمنين له عذاب عظيم.
6 : أن الذين يتولون الكافرين من دون المؤمنين من جنس الكافرين.
7 : أن من يفعل ذلك سوف يندم ندماً شديداً على سوء فعله في الدنيا والآخرة.
- وعليه لا يكون المؤمن مؤمناً إلا أن يكون متبرئ من الكافرين، وهذا التبرؤ ليس متعلقاً بأشخاص تعلقاً مجرداً، بل بسبب ما يقوم به هؤلاء الأشخاص من مخالفة ومعاداة لله ورسوله.
- من لوازم الولاء :
- إن من أبرز لوازم الولاء أمران؛ 1: الحب . 2: النصرة.
- أدلة على ملازمة المحبة للولاء:
- قال تعالى: ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ). (29) الفتح(/6)
- وقال سبحانه: ( لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ). (9) الحشر
- وفي الحديث الصحيح عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ). متفق عليه
- أدلة على ملازمة النصر ة :
- قال تعالى: ( لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ). (8) الحشر
- وقال تعالى: ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ). (111) التوبة
- وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ). (54) المائدة
- أدلة على ملازمة المعادة للبراء :
- منها قوله تعالى: ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ). (4) الممتحنة
- قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين والتبرئ منهم: ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ) أي وأتباعه الذين آمنوا معه، ( إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ) أي تبرأنا منكم ( ومما تعبدون من دون اللّه كفرنا بكم ) أي بدينكم وطريقكم ( وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً ) يعني وقد شرعت العدواة والبغضاء بيننا وبينكم، ما دمتم على كفركم فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم (حتى تؤمنوا باللّه وحده) أي إلى أن توحدوا اللّه فتعبدوه وحده لا شريك له، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد. أ هـ الجامع لأحكام القرآن.
- ومن أدلة السنة على وجوب الولاء والبراء، وأنهما دليل على صحة الإيمان ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ).
- وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: ( أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله ). رواه الطبراني وحسنه الأرناؤط.
- فالمؤمن الحق هو الذي يجعل حبه وبغضه في الله سبحانه، فهو يحب المؤمن وإن كان لا يربطه به نسب ولا وطن وما شابه ذلك، ويبغض الكافر ولو كان من أقرب المقربين إليه، قال تعالى: ( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ). (22) المجادلة .
- ولو تأملنا النصوص الشرعية المتعلقة بحقيقة العلاقة بين المؤمن والكافر لوجدناها على النحو التالي :(/7)
1: البراءة، وهي قسمان: 1 : من شخص الكافر، 2 : من فعله، وذلك لقوله تعالى: (إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ).
2 : الكفر الدال على انقطاع العلاقة مطلقاً، وذلك لقوله تعالى: (كَفَرْنَا بِكُمْ ).
3: العداوة والبغضاء، لقوله تعالى: (وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً ).
4 : انقطاع المحبة والمودة، وذلك لقوله تعالى: ( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ).
- فالمؤمن، يتبرأ من الكافر ومن عمله، ويبغضه ويعاديه، وهذا من أعظم ما يقطع العلاقة بين بني البشر، فلا علاقة مطلقاً بين الكافرين والمؤمنين، إلا ما استثناه الشارع مع وجوب وقوع البغض والمعاداة، بل إن قيام الحب بين المؤمنين والكافرين، لدليل على عدم وجود الإيمان كما بينا ذلك آنفا.
- فالعلاقة بين الحزبين علاقة بغض وعداء، فهم متناقضون بالهدف والوسيلة، فالكافرون يعملون على ترسيخ الكفر والنفاق والزندقة في الأرض بكل وسيلة توصل إلى ذلك، أما المؤمنون فيعملون على النقيض تماماً قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ). (37)الأنفال
- وقال سبحانه: ( الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ). (76) النساء
- ويرجع ذلك التناقض لاختلاف المقصد بين الفريقين في العبادة، فالمؤمنون يعبدون الله سبحانه، والكافرون يعبدون الشيطان، قال تعالى: ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ). (62) يس
- ومن المعلوم ضرورة أن الشيطان يعمل كل ما بوسعه ليضل الناس عن صراط الله المستقيم، قال تعالى: ( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ). (17) الأعراف
- وقال سبحانه: ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ). (42) الحجر
- وقال سبحانه: ( إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً (117) لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً (118) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً ). (121)النساء
- فإذا كان المقصد مختلفاً بين الحزبين، فلن تكون الولاية بينهما إلا بأحد أمرين، 1 : أن يؤمن الكافرون بما آمن به المسلمون لقوله تعالى: (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ). 2 : أن يكفر المؤمنون، وهذا غاية ما يريده الكافرون قال تعالى: ( وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ). (120) البقرة
وهذا ما يرفضه المؤمنون رفضاً قاطعاً، قال تعالى: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ). (6) الكافرون .(/8)
- وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث من وجدهن وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ) متفق عليه.
وإليك أخي الحبيب نص رسالة تحكيم القوانين لفضيلة الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى رأيت إدراجها لما فيها من فوائد جمة:
نص الرسالة:
يقول رحمه الله تعالى :إن من الكفرِ الأكبرِ المستبينِ، تنزيلُ القانونِ اللعينِ منزلةَ ما نَزَلَ به الروحُ الأمينُ على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسانٍ عربي مبينٍ، في الحكم به بين العالمين، والرَدِّ إليه عند المتنازعين، مناقضةً ومعاندةً لقولِ الله عز وجل: ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ). وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمانَ عن مَّنْ لم يُحَكِّموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما شَجَرَ بينهم، نفياً مؤكداً بتكرارِ أداةِ النفي وبالقسمِ، قال تعالى: ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) ولم يكتفِ تعالى وتقدَّس منهم بمجرد التحكيمِ للرسولِ صلى الله عليه وسلم، حتى يضيفوا إلى ذلك عَدَمَ وجودِ شيءٍ من الحرج في نفوسهم، بقوله جل شأنه: ( ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ). والحَرَجُ: الضِّيقُ. بل لا بد من اتساع صدورهم لذلك وسلامتها من القلق والاضطراب. ولم يكتف تعالى أيضا هنا بهذين الأمرين، حتى يضموا إليهما التسليم وهو كمال الانقيادِ لحكمه صلى الله عليه وسلم، بحيث يتخلَّونَ ها هُنا من أي تعلق للنفس بهذا الشيء، ويسلموا ذلك إلى الحكمِ الحقِّ أَتمَّ تسليم، ذلك بالمصدر المؤكد، وهو قوله جل شأن: ( تَسْلِيماً ) المبين أنه لا يُكْتَفى ها هنا بالتسليم.. بل لا بد من التسليم المُطْلَقِ. وتأمل ما في الآية الأولى، وهي قوله تعالى: ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ). كيف ذكر النكِرَةَ وهي قوله: ( شَيْءٍ ) في سياق الشَرْطِ وهو قوله جل شأنه: ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ ) المفيد للعموم، فيما يُتَصوَّرُ التنازعُ فيه جنساً وقدراً. ثم تأمل كيف جعل ذلك شرطاً في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر، بقوله: ( إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ). ثم قال جل شأنه: ( ذلِكَ خَيْرٌ ) فشيءٌ يُطْلقُ الله عليه أنه خيرٌ لا يتطرَّقُ إليه شرٌّ أبداً، بل هو خيرٌ محضٌ عاجلاً وآجلاً .ثم قال: ( وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) أي: عاقبةً في الدنيا والآخرة، فيفيد أن الرد إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم عند التنازع شرٌ محضٌ وأسوأ عاقبة في الدنيا الآخرة. عكس ما يقولُه المنافقون: ( إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً )، وقولهم: ( إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ )، ولهذا ردَّ الله عليهم قائلاً: ( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ) .وعكس ما عليه القانونيون من حكمهم على القانون بحاجة العالم (بل ضرورتهم) إلى التحاكم إليه وهذا سوءُ ظنّ صرْف بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومحضُ استنقاصٍ لبيان الله ورسوله، والحكم عليه بعدم الكفاية للناس عند التنازع، وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة إن هذا لازم لهم. وتأمل أيضا ما في الآية الثانية من العموم، وذلك في قوله تعالى ( فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) فإن اسم الموصول مع صلته مع صيغ العموم والشمول هو من ناحية الأجناس والأنواع، كما أنه من ناحية القدر فلا فرق هنا بين نوع ونوع، كما أنه لا فرق بين القليل والكثير وقد نفى الله الإيمان عن من أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين، كما قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً ). فإن قوله عز وجل: ( يَزْعُمُونَ ) تكذيب له فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلا، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو: مجاوزة الحد. فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم(/9)
إليه. وذلك أنه من حق كل أحد أن يكون حاكما بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقط لا بخلافه.كما إن من حق كل أحد أن يحاكم إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فمن حكم بخلافه أو حاكم إلى خلافه فقد طغى، وجاوزَ حَدَّه، حُكْماً أو تحكيماً، فصار بذلك طاغوتاً لتجاوزه حَدَّه. وتأمل قوله عز وجل: ( وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ) تعرفْ منه معاندة القوانين، وإرادتهم خلافَ مرادِ الله منهم حولَ هذا الصددِ، فالمرادُ منهم شرعاً والذي تُعُبّدوا به هو: الكفرُ بالطاغوتِ لا تحكيمُهُ، ( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ). ثم تأملْ قوله: ( وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ) كيف دَلَّ على أن ذلك ضلالٌ، وهؤلاء القانونيون يرونه من الهُدَى، كما دلت الآية على أنه من إرادة الشيطان، عكس ما يتصورُ القانونيون من بُعدِهم من الشيطان، وأنَّ فيه مصلحة الإنسان، فتكونُ على زعمهم مراداتُ الشيطان هي صلاح الإنسان، ومرادَ الرحمن. وما بُعث به سيدُ ولد عدنانٍ معزولاً من هذا الوصف، ومُنَحى عن هذا الشأنِ. وقد قال تعالى مُنكراً على هذا الضرب من الناس، ومقرراً ابتغاءَهم أحكام الجاهلية، موضحاً أنه لا حكمَ أحسن من حُكمهِ: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ). فتأملْ هذه الآيةَ الكريمةَ وكيف دلتْ على أن قِسْمةَ الحكم ثنائيةٌ، وأنه ليس بعد حكمِ الله تعالى إلا حكم الجاهلية، الموضِّح أنَّ القانونيين في زمرةِ أهل الجاهلية، شاءوا أم أبوا، بل هم أسوءُ منهم حالاً، وأكذبُ منهم مقالاً، بل أنَّ أهلَ الجاهليةِ لا تَنَاقُضَ لديهم حولَ هذا الصددِ .وأما القانونيون فمتناقضون، حيثُ يزعمون الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتناقضون ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً، وقد قال الله تعالى في أمثال هؤلاء: ( أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ) ثم انظر كيف ردت هذه الآية الكريمة على القانونيين ما زعموه من حسن زبالة أذهانهم، ونحاتة أفكارهم، بقوله عز وجل: ( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ). قال الحافظ بن كثير في تفسير الآية: ينكر تعالى على من خرج من حكم الله المحْكَمِ المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم (جنكيز خان) الذي وضع لهم كتابا مجموعا من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية، والنصرانية، والملّة الإسلامية، وغيرها. وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا مُتَّبَعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتالُهُ، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحكِّمُ سواه في قليل ولا كثير. قال تعالى: ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يَعدلون. ( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) أي: ومن أعدل من الله في حكمِهِ، لمن عَقَل عن الله شرعَه وآمن به وأيقن، وعلم أن الله أحكمُ الحاكمين، وأرحم بخلقِهِ من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء. - انتهى قول الحافظ بن كثير- وقد قال عز شأنه قبل ذلك مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: ( فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ). وقال تعالى: ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ). وقال تعالى مخبراً نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، بين الحكم بين اليهود والإعراض عنهم وإن جاءوه لذلك: ( فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) والقسط هو: العدل . ولا عدل حقا إلا حكم الله ورسوله، والحكم بخلافه هو الجور، والظلم والضلال والكفر، والفسوق، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ )، ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). فانظر كيف سَجَّلَ تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل الله(/10)
الكفر والظلم والفسوق، ومن المُمْتَنِع أن يُسَمِّي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ولا يكون كافراً، بل هو كافر مطلقا، إما كفر عمل وإما كفر اعتقاد، وما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية من رواية طاووس وغيره يدل على أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر: إما كفرُ اعتقاد ناقل عن الملة، وإما كفر عمل لا ينقل عن الملة. أما الأول: وهو كفر الاعتقاد فهو أنواع:
أحدها: أن يجحد الحاكم ُ بغير ما أنزل الله أحقيَّة حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو معنى ما رُوي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي، وهذا مالا نزاعَ فيه بين أهل العلم، فإن الأصول المتقرِّرةَ المتفق عليها بينهم أن من جحد أصلاً من أصول الدين أو فَرْعاً مُجْمَعاً عليه، أو أنكر حرْفاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قَطعيَّاً فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة.
الثاني: أن لا يجحد الحاكمُ بغير ما أنزل الله كونَ حكم الله ورسوله حقّاً، لكن اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسنُ من حكمِهِ، وأتمُّ وأشملُ لما يحتاجُهُ الناسُ من الحكمِ بينهم عند التنازع، إما مطلقاً أو بالنسبة إلى ما استجدَّ من الحوادث، التي نشأتْ عن تطور الزمان وتغيُّر الأحوال، وهذا أيضا لا ريب أنه كفرٌ، لتفضيلِهِ أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان وصِرْفُ حُثَالةِ الأفكار على حُكم الحكيم الحميد. وحكم الله ورسولِهِ لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان، وتطور الأحوال ،وتجدد الحوادث، فإنه ما من قضيةٍ كائنةٍ ما كانتْ إلا وحكمُها في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نصّا أو ظاهراً أو استنباطاً أو غير ذلك ،عَلِمَ ذلك من عَلِمَه وجَهِلَه من جَهِله. وليس معنى ما ذكره العلماءُ من تغيّرِ الفَتْوى بتغيُّر الأحوال ما ظنه من قلَّ نصيبُهم أو عدِمَ من معرفة مدارك الأحكام وعِلَلها، حيث ظنوا أنَّ معنى ذلك بحسب ما يلائم إرادتهم الشهوانية البهيمية، وأعراضَهَم الدنيوية وتصوراتهم، الخاطئة الوبية، ولهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوصَ تابعة لها منقادة إليها، مهما أمكنهم فيحرفون لذلك الكلم عن مواضِعِه. وحينئذ معنى تغيرُّ الفتوى بتغير الأحوال والأزمان مرادُ العلماء منه: ما كان مُسْتَصْحَبة فيه الأصول الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جِنْسُها مرادٌ لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن أرباب القوانين الوضعية عن ذلك بمعزل، وأنهم لا يقولون إلا على ما يلائم مراداتِهم، كائنة ما كانت، والواقع أصدق شاهد.
الثالث: أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله، فهذا كالنوعين اللذين قبله، في كونه كافرا الكفر الناقل عن الملة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة لقوله عز وجل:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ونحوها من الآيات الكريمة، الدالة على تفرد الرب بالكمال، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين، في الذات والصفات والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه.
الرابع: أن لا يعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلاً لحكم الله ورسوله، فضلا عن أن يعتقد كونه أحسن منه، لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله، فهذا كالذي قبله يَصْدُقُ عليه ما يصدق عليه، لاعتقاده جواز ما علم بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة تحريمه.(/11)
الخامس: وهو أعظمُها وأشملُها وأظهرُها معاندةً للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعدادا وإمدادا وإرصاداً وتأصيلا، وتفريعا وتشكيلا وتنويعا وحكما وإلزاما، ومراجع ومستندات. فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستمدات، مرجعُها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلهذه المحاكم مراجع، هي: القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، كالقانون الأمريكي، كالقانون البريطاني، وغيرها من القوانين ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك. فهذه المحاكم في كثير من أمصار الإسلام مهيأةٌ مكملةٌ، مفتوحة الأبواب ،والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب، من أحكام ذلك القانون، تُلْزمُهُم به، وتقرهم عليه، وتحتِّمُه عليهم. فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة .وذِكْرُ أدلة جميع ما قدمنا على وجه البَسْط معلومة معروفة، لا يحتمل ذكرها هذا الموضع. فيا معشر العقلاء! ويا جماعات الأذكياء وأولى النهى! كيف ترضون أن تجري عليكم أحكام أمثالكم، وأفكار أشباهكم، أو من هم دونكم، ممن يجوز عليهم الخطأ، بل خطأهم أكثر من صوابهم بكثير، بل لا صواب في حكمهم إلا ما هو مستمد من حكم الله ورسوله، نصاً أو استنباطاً، تَدَعُونهم يحكمون في أنفسكم ودمائكم وأبشاركم، وأعراضكم وفي أهاليكم من أزواجكم وذراريكم، وفي أموالكم وسائر حقوقِكم ، ويتركون ويرفضون أن يحكموا فيكم بحكم الله ورسوله، الذي لا يتطرق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وخضوع الناس ورضوخهم لحكم ربهم خضوع ورضوخ لحكم من خلقهم تعالى ليعبدوه، فكما لا يسجد الخلق إلا لله، ولا يعبدون إلا إياه ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب أن لا يرضخوا ولا يخضعوا أو ينقادوا إلا لحكم الحكيم العليم الحميد، الرؤوف الرحيم، دون حكم المخلوق، الظلوم الجهول، الذي أهلكته الشكوك والشهوات والشبهات، واستولت على قلوبهم الغفلة والقسوة والظلمات. فيجب على العقلاء أن يربأوا بنفوسهم عنه ، لما فيه من الاستبعاد لهم، والتحكم فيهم بالأهواء والأغراض، والأغلاط والأخطاء، فضلاً عن كونه كفراً بنص قوله تعالى: ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ).
السادس: ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر، والقبائل من البوادي ونحوهم، من حكايات آبائهم وأجدادهم، وعاداتهم التي يسمونها (سلومهم)، يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به ويحصلون على التحاكم إليه عند النزاع، بقاءاَ على أحكام الجاهلية، وأعراضا ورغبة عن حكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وأما القسم الثاني: من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يُخْرِجُ من الملة فقد تقدم أن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عز وجل ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) قد شَمَلَ ذلك القسم، وذلك في قوله رضي الله عنه في الآية: ( كفر دون كفر) وقوله أيضا ( ليس بالكفر الذي تذهبون إليه ) إ.هـ. وذلك أن تَحْمِلَه شهوتُهُ وهَواه على الحكم في القضية، بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكمَ الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ، ومجانبة الهدى. وهذا وإن لم يخرجْه كفرُه عن الملةِ، فإنه معصيةٌ عظمى أكبرُ من الكبائر، كالزِّنا وشرب الخمر، والسرقةِ واليمين الغموس، وغيرها فإن معصيةً سماها الله في كتابه: كفراً، أعظمُ من معصيةٍ لم يسمِّها كُفْراً. نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكُم إلى كتابِهِ، انقياداً ورِضاءاً، إنه وليُّ ذلك والقادر عَلَيه إ.هـ.
` نداء إلى علماء المسلمين :
أيها العلماء: إن منزلتكم عند الله عظيمة، فقد رفع الله درجاتكم إلى أعلى درجات قال سبحانه: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ). (18) آل عمران
وقال سبحانه: ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ). (9) الزمر
وهذا تساؤل بمعنى النفي، أي لا يستوي أهل العلم مع غيرهم من الناس، وقد جاء في الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: ( فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورّثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ). رواه الترمذي.(/12)
فأنتم أيها العلماء من تقومون بما قام به النبي صلى الله عليه وسلم من دعوة الناس إلى توحيد الله سبحانه والتبرؤ من الشرك وأهله قال سبحانه: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ). (36) النحل
فهذا هو ميراث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ورثتموه عنه فلا تضيعوه فتكونوا كالذي قال الله سبحانه فيه: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ ). (177)الأعراف
أيها العلماء إن عليكم مسؤولية عظيمة هي بيان ما يجب أن يكون عليه المسلمون فلا تكتموا العلم فإن كتم العلم من أعظم الكبائر التي تدخل أصحابها نار جهنم والعياذ بالله قال سبحانه: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). (160) البقرة
وفي الحديث عن أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار ). أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم وصححه الحاكم وغيره.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل، من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة، والهدى النافع للقلوب، من بعد ما بينه اللّه تعالى لعباده، في كتبه التي أنزلها على رسله، وقد نزلت في أهل الكتاب كتموا صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وفي الحديث: (من سئل عن عِلْمٍ فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار) أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وروي عن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب اللّه ما حدَّثت أحداً شيئاً ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى) الآية. قال أبو العالية: ( ويلعنهم اللاعنون ) يعني تلعنهم الملائكة والمؤمنون، وقد جاء في الحديث: ( إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحِيتان في البحر)، وجاء في هذه الآية أن كاتم العلم يلعنه اللّه والملائكة والناس أجمعون. ثم استثنى اللّه تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال: ( إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا) أي رجعوا عمّا كانوا فيه، وأصلحوا أعمالهم، وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه ( فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)، أ هـ تفسير ابن كثير.
فكتم العلم من أكبر الذنوب التي يستحق عليها الناس لعنة الله سبحانه، خاصة إذا كان العلم متعلقاً بمسألة من مسائل العقيدة إذ غاية ما يريده الكافرون هو إخراج المسلمين عن دينهم الحق، وإدخالهم في ديانات باطلة ليكونوا معاً في حزب الشيطان، قال تعالى: ( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ). (109) البقرة
وقال سبحانه: ( وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ). (120) البقرة(/13)
قال ابن جرير: يعني بقوله جلّ ثناؤه: ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبداً، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم وأقبل على طلب رضا اللّه في دعائهم إلى ما بعثك اللّه به من الحق. وقوله تعالى: ( قل إن هدى الله هو الهدى) أي قل يا محمد إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى، يعني هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل ( ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) فيه تهديد شديد ووعيد للأمة في اتباع طرائق اليهود والنصارى، بعدما علموا من القرآن والسنّة - عياذاً باللّه من ذلك - فإن الخطاب مع الرسول والأمر لأمته، وقد استدل كثير من الفقهاء بقول: ( حتى تتبع ملتهم) حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة كقوله تعالى: ( لكم دينكم ولي دين)، فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفّار، وكلٌ منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا لأنهم كلهم ملة واحدة. أ هـ تفسير ابن كثير.
فالكافرون لا يريدون لهذه الأمة الخير، ولا يحبونه لها، بل هم يعملون جاهدين حتى يحولوا دون أن تحقق الأمة أي مصلحة تنتفع بها قال سبحانه: ( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ). (105) البقرة
فهم الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله قال سبحانه: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ). (36) الأنفال
إن الكافرين يبذلون كل قوة مستطاعة مادية ومعنوية ليصدوا المسلمين عن دينهم الحق حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، فهل نقع فيما وقعوا فيه فنصد عن سبيل الله عن علم وبينة؟
إن علماء الكفر والزندقة يعرفون الحق كما يعرف أحدهم ابنه ومع ذلك أعرضوا عنه اتباعاً لأهوائهم وشهواتهم قال سبحانه: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ). (146) البقرة
وقال سبحانه: ( آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ). (21)الأنعام
وقال سبحانه: ( كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ). (89) آل عمران
فبماذا يختلف عنهم علماء المسلمين إن هم كتموا الحق وعملوا ضده؟ حتماً سينالهم ما نال غيرهم من الذين كتموا العلم، أبرز ذلك اللعنة أعاذنا الله سبحانه منها.
` كلمة أخيرة لك أخي المسلم :
إن الله سبحانه خلقك لعبادته، ونهاك عن عبادة غيره، ولا يتحقق لك ذلك إلا بالإيمان الذي لا يتخلله شرك، ومن الشرك الذي يجب عليك أن تتبرأ منه وتظهر العداوة والبغضاء له شرك التحاكم إلى غير شرع الله سبحانه، فاعمل أخي حفظك الله تعالى على نشر التوحيد ونبذ الشرك بكافة أشكاله حتى تفوز الفوز العظيم، واعلم أن الجنة لا تنال إلا بالتضحيات العظيمة التي يدل عليها صدق المواقف قال سبحانه: ( الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ). (3) العنكبوت
وقال سبحانه: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ). (214) البقرة(/14)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: يقول تعالى: ( أم حسبتم أن تدخلو الجنة) قبل أن تُبتلوا وتُختبروا وتُمتحنوا، كما فُعل بالذين من قبلكم من الأمم ولهذا قال: ( ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء ) وهي الأمراض والأسقام والآلام، والمصائب والنوائب. قال ابن مسعود: ( البأساء) الفقر، ( الضراء) السقم، ( وزلزلوا) خُوِّفوا من الأعداء زلزالاً شديداً وامتُحنوا امتحاناً عظيماً، كما جاء في الحديث عن خباب بن الأرت قال: قلنا يا رسول اللّه ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا فقال: (إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه، لا يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دينه)، ثم قال: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون) رواه البخاري.
وقال تعالى: ( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضي اللّه تعالى عنهم في يوم الأحزاب، كما قال الله تعالى: ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدا ) ولما سأل هرقل أبا سفيان هل قاتلتموه قال: نعم، قال: فكيف كانت الحرب بينكم؟ قال: سجالاً يدال علينا وندال عليه، قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة.
وقوله تعالى: ( مثل الذين خلوا من قبلكم) أي سنتهم كما قال تعالى: ( فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين) وقوله: ( وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ) أي يستفتحون على أعدائهم ويدعون بقرب الفرج والمخرج عند ضيق الحال والشدة. قال الله تعالى: ( ألا إن نصر اللّه قريب)، كما قال: ( فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسرا) وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها ولهذا قال: ( ألا إن نصر الله قريب) .أهـ تفسير ابن كثير
النصر يحتاج إلى صبر وعزيمة وثبات ، ولكن لا بد أن يحقق المسلمون الصادقون ما سعوا إلى تحقيقه، فهذا وعد الله سبحانه لهم قال سبحانه: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ). (55) النور
وقال الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله: ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ). الآية، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين، يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له سرا وهم خائفون، لا يؤمرون بالقتال، حتى أُمِروا بعد بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح، فغيروا بذلك ما شاء الله. ثم إن رجلاً من أصحابه قال: يا رسول الله، أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا فيه السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لن تغبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيهم حديدة ). وأنزل الله هذه الآية، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله، عز وجل، قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا، فأدخل الله عليهم الخوف فاتخذوا الحجزة والشُرَط وغيروا، فغير بهم. أهـ تفسير ابن كثير.(/15)
يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ منكم ) أيها الناس، ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) يقول: وأطاعوا الله ورسوله فيما أمراه ونهياه ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ ) يقول: ليورثنهم الله أرض المشركين من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وساستها ( كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يقول: كما فعل منْ قبلهم ذلك ببني إسرائيل، إذ أهلك الجبابرة بالشأم، وجعلهم ملوكها وسكانها ( وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ) يقول: وليوطئنّ لهم دينهم، يعني: ملتهم التي ارتضاها لهم، فأمرهم بها. وقيل: وعد الله الذين آمنوا، ثم تلقى ذلك بجواب اليمين بقوله: ( ليستخلفنهم ) لأن الوعد قول يصلح فيه ( أن ) ، وجواب اليمين كقوله: وعدتك أن أكرمك، ووعدتك لأكرمنك. جامع البيان.
روى البخاري في صحيحه وأبو دواد وأحمد والطبري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يارسول الله؟ ألا تستنصر لنا ربك؟ قال: فجلس وكان متكئاً على برد له في ظل الكعبة وقال: ( كان ممن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيحفر له ويدفن إلى قامته، ويشق بمنشار الحديد فلقتين ويمشط ما بين لحمه وعظمه وعصبه بأمشاط الحديد ولا يثنيه ذلك عن دينه شيئاً والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون ).
فالنصر لا يكون إلا بعد الابتلاء والصبر، فمهما طال فساد القوم وغطرستهم سيأتي يوم يكون النصر فيه إن شاء الله للمؤمنين، فكن أحد العالمين لهذا الدين من الذين قال تعالى فيهم : ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) . (23) الأحزاب.
نفعني الله وإياك بهذه الرسالة الموجزة، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتب: إبراهيم بن عبد العزيز بركات
3 صفر 1426 هجري ... ...(/16)
بسم الله الرحمن الرحيم
عقيدتنا بين الولاء والبراء
ووجوب الحكم بما أنزل الله
الحمد لله رب العالمين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن عقيدتنا تقوم على ركنين أساسيين، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وهذان الركنان هما، الولاء والبراء، ويدلنا على ذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين ) . (36) النحل.
وهذا ما تدل عليه كلمة التوحيد، لا إله إلا الله، أي لا معبود بحق إلا الله سبحانه، فتضمن المعنى نفياً وإثباتاً، فالنفي – لا إله – فهذه الجملة تدل على نفي الألوهية مطلقاً، والإثبات – إلا الله – وهذه الصيغة من أقوى أساليب الحصر، فأنت حين تقول: الله معبود، لا تنفي وجود معبود غيره، لأنك أتيت بالإثبات دون النفي، أي أثبت أن الله معبود مع عدم نفيك هذه الصفة عن غيره، أما إذا قلت ، لا معبود إلا الله، فأنت نفيت عن غيره هذه الصفة، والفرق بين المعنيين واضح.
وعلى ذلك تقوم عقيدة المسلم، على النفي والإثبات، قال تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْد مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ). (256) البقرة
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها واللّه سميع عليم ) أي من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون اللّه، ووحَّد اللّه فعبده وحده، وشهد أن لا إله إلا هو ( فقد استمسك بالعروة الوثقى)، أي فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم. قال عمر رضي اللّه عنه: إن الجبت السحر، والطاغوت الشيطان، وإن كرم الرجل دينه، وحسبه خلقه وإن كان فارسياً أو نبطياً. ومعنى قوله في الطاغوت إنه الشيطان، قوي جداً فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية: من عبادة الأوثان، والتحاكم إليها، والاستنصار بها.
وقوله تعالى: ( فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها)، أي فقد استمسك من الدين بأقوى سبب، وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم هي في نفسها محكمة مبرمة قوية، وربطها قوي شديد، ولهذا قال: ( فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ) الآية، قال مجاهد: العروة الوثقى يعني الإيمان، وقال السدي: هو الإسلام، وقال سعيد بن جبير والضحاك: يعني ( لا إله إلا الله ) وعن أنَس بن مالك: العروة الوثقى القرآن، وعن سالم ابن أبي الجعد قال: هو الحب في اللّه والبغض في اللّه، وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها. أهـ تفسير ابن كثير.
فهذه الآية الكريمة تدل على حقيقة تقوم عليها عقيدة أهل الإيمان، فقد بين الله سبحانه أن الذين يكفرون بالطاغوت، ويؤمنون بالله، قد استمسكوا بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والعروة الوثقى، هي كلمة التوحيد، لا إله إلا الله، وهذه الآية متضمنة لمعنى الشرط، أي الذي يكفر بالطاغوت ـ ويؤمن بالله، فهذا الذي استمسك بالعروة الوثقى، وما يدل عليه مفهوم المخالفة، أن الذي لا يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، لم يستمسك بالعروة الوثقى، وعليه أصبح الاستمساك بالعروة الوثقى له شرطان:
الأول: الكفر بالطاغوت.
الثاني: الإيمان بالله سبحانه.(/1)
وهذا السياق يتضمن معناً بلاغياً، حيث إن الكفر بالطاغوت لا يكون إلا نتيجة الإيمان بالله سبحانه، أي الذين يؤمنون بالله هم الذين يكفرون بالطاغوت، فقدم سبحانه الفرع على الأصل، ليدلنا على حقيقة غائبة عن أذهان كثير من أبناء هذه الأمة، وهي أن الإيمان لا يصح إلا بالكفر بالطاغوت، أي من لم يكفر بالطاغوت، لا يكون مؤمناً بالله سبحانه، قال صلى الله عليه وسلم : (من قال : لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبَدُ من دون الله ). رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك عن أبيه فمن لم يكفر بالطاغوت لا يكون مؤمناً حقيقة وإن كان مقراً بصحة ما أنزله الله سبحانه على محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا فهمت هذا، تعلم أن أصل الخلاف بين الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين قومه لم يكن على مسألة الإقرار على تفرد الله سبحانه بالربوبية، بل هم مقرون بذلك قال تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ). (63) العنكبوت
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى مقرراً أنه لا إله إلا هو، لأن المشركين الذين يعبدون معه غيره معترفون بأنه المستقل بخلق السماوات والأرض، والشمس والقمر وتسخير الليل والنهار، وأنه الخالق الرازق لعباده، ومقدر آجالهم وأرزاقهم فتفاوت بينهم، فمنهم الغني والفقير، وهو العليم بما يصلح كلا منهم ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، فذكر أنه المستقل بخلق الأشياء المتفرد بتدبيرها، فإذا كان الأمر كذلك فلمَ يعبد غيره؟ ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنه الواحد في ملكه، فليكن الواحد في عبادته، وكثيراً ما يقرر تعالى (مقام الإلهية) بالاعتراف بتوحيد الربوبية ،وقد كان المشركون يعترفون بذلك، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. أ هـ تفسير ابن كثير
وقال سبحانه: ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ) . (38) الزمر
وقال سبحانه: ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) . (25) لقمان
وقال سبحانه: ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ) . (31)يونس
وقال سبحانه: ( قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ) . (89) المؤمنون
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: يقرر تعالى وحدانيته، واستقلاله بالخلق والتصرف والملك، ليرشد إلى أنه الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له؛ ولهذا قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين العابدين معه غيره، المعترفين له بالربوبية، وأنه لا شريك له فيها، ومع هذا فقد أشركوا معه في الإلهية، فعبدوا غيره معه، مع اعترافهم أن الذين عبدوهم لا يخلقون شيئا، ولا يملكون شيئا، ولا يستبدون بشيء، بل اعتقدوا أنهم يقربونهم إليه زلفى: ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ). الزمر: 3، فقال: ( قل لمن الأرض ومن فيها ). أي: من مالكها الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات، وسائر صنوف المخلوقات (إن كنتم تعلمون. سيقولون لله ) أي: فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك له، فإذا كان ذلك ( قل أفلا تذكرون )أي: لا تذكرون أنه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرازق لا لغيره. أ هـ تفسير ابن كثير.(/2)
فهذه الآيات وغيرها ، تبين أن كفار قريش كانوا مقرين بوجود الله سبحانه، وأنه الخالق المالك المقدر، ومع ذلك لم يدخلوا في الإيمان، وحقيقة إقرارهم نابع من الفطرة التي فطر الله الناس عليها إذ قال سبحانه: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ). (30) الروم
فالله سبحانه فطر الناس على التوحيد، إذ أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقيم وجهه للدين حنيفاً مبيناً أن ما أُمر به صلى الله عليه وسلم هو ما فطر الناس عليه فطرة، أي فطر الناس على التوحيد، ويعزز ذلك المعنى قوله تعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) . (173) الأعراف
فالله سبحانه أخذ على بني آدم الميثاق وهم في ظهر أبيهم آدم عليه السلام بأنه ربهم، قاطعاً عليهم عذري الجهل والتقليد، ( أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) وهذا عذر الجهل. ( أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا وكنا ذرية من بعدهم ). وهذا عذر التقليد، فالله سبحانه خلق العباد مقرين بربوبيته غير جاهلين أو شاكين، ويؤيد ما ذهبنا إليه ما رواه الإمامان البخاري ومسلم عن أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ( يقالُ للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنتَ مفتدياً به؟ قال فيقول: نعم. فيقول: قد أردّت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشركَ بي شيئاً فأبيت إلاّ أن تشرك بي ).
وكذلك ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه ). متفق عليه.
وفي رواية صحيحة: ( إلا ويولد على الملة ). وفي صحيح ابن حبان ( إلا ويولد على فطرة الإسلام ). فما من مولود إلا ويولد مقراً بربوبية الله سبحانه، وهذا الخبر شامل لكل مولود دون استثناء، بل قد دلت النصوص الشرعية على أن كفار قريش لم يكونوا يُكذّبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به، كما في قوله تعالى: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ). (33) الأنعام
فالكافرون رغم إقرارهم بوجود الله سبحانه، كانوا مكذبين بأن العبادة لا تكون إلا له كما في قوله تعالى: ( وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ). (8) ص
فهم عجبوا أن جعل الآلهة إلهاً واحداً، في الوقت الذي كانوا فيه مقرين بوجود الله سبحانه، وأنه الخالق المالك المقدر.(/3)
قال القرطبي في تفسير هذه الآية المباركة: وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب فجاءت قريش إليه، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه، قال: وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي ما تريد من قومك؟ فقال: (يا عم إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها الجزية العجم ) فقال: وما هي؟ قال: (لا إله إلا الله) قال: فقالوا: ( أجعل الآلهة إلها واحداً ) قال: فنزل فيهم القرآن: ( ص والقرآن ذي الذكر* بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) حتى بلغ ( إن هذا إلا اختلاق ) خرجه الترمذي أيضا بمعناه. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقيل: لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه شق على قريش إسلامه فاجتمعوا إلى أبي طالب وقالوا: اقض بيننا وبين ابن أخيك. فأرسل أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء، فلا تمل كل الميل على قومك. قال: (وماذا يسألونني) قالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتعطونني كلمة واحدة وتملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم) فقال أبو جهل: لله أبوك لنعطينكها وعشر أمثالها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا لا إله إلا الله) فنفروا من ذلك وقاموا؛ فقالوا: ( أجعل الآلهة إلها واحداً ) فكيف يسع الخلق كلهم إله واحد. فأنزل الله فيهم هذه الآيات إلى قوله: (كذبت قبلهم قوم نوح ). أ هـ الجامع لأحكام القرآن.
ومن هذا المنطلق فرق العلماء المعتبرون بين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، فليس كل من يقر بتوحيد الربوبية يعتبر موحداً، بل لا بد من أن يدخل عليه توحيد الألوهية، وهو ما يسميه أهل العلم: بتوحيد العبادة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن تأمل ما في السيرة والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأنه صادق فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً.اهـ زاد المعاد 3 / 42.
وقال أيضاً: ليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه: لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه، كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له، والذل له، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع والعطاء، والحب والبغض، ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها. مدارج السالكين 1 / 303.
وعبادة الله سبحانه هي الغاية التي خلق الله سبحانه الجن والإنس لأجلها، قال تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ). (57)الذاريات
وقال سبحانه: ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ). (5) البينة
وفي الحديث الصحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: ( يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ )، فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: ( حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا )، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: ( لا تبشرهم فيتكلوا ) متفق عليه. وعبادة الله سبحانه هي الطاعة والتذلل والانقياد، فكل من لم يعبد الله سبحانه لا يكون مؤمناً وإن كان مقراً له بالربوبية، وكذلك من عبد الله سبحانه ولم يتبرأ من كل ما سواه، لا يعتبر مؤمناً، فالإيمان هو توحيد الله سبحانه بالربوبية والألوهية، وهذا يقتضي تفريد الله بالعبادة، وهذا ما خالف فيه الكافرون، فالكافرون وإن كانوا مقرين بأن الله سبحانه هو المتفرد بالخلق والملك، إلا أنهم خالفوا في تفرد الله بالعبادة، فوقعوا في الشرك والكفر، وعليه لا يكون الإنسان مؤمناً بمجرد تصديقه بأن الله هو الخالق المالك المقدر، وأنه المعبود، حتى يتبرأ من كل ما سوى الله سبحانه وهذا ما دلت عليه الآية الكريمة: ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدمِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ). (256) البقرة
ومن لوازم هذا الإيمان، الولاء والبراء؛ أي موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين.
صدق الله العظيم الأدلة على موالاة المؤمنين:(/4)
منها قوله تعالى: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ). (71)التوبة
وقوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ). (55)المائدة
وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ). (72) الأنفال
فهذه الآيات تبين أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وأنهم عابدون لله سبحانه مقيمون الصلاة مؤتون الزكاة، آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر، وهذه صفات أهل الحق، فلا يكون أهل الحق إلا قائمين عليه، داعين إليه .
صدق الله العظيم أدلة حرمة موالاة الكافرين :
منها قوله تعالى: ( لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ ). (28) آل عمران
وقال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ). (52) المائدة
وقال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ). (57) المائدة
وقال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ). (23) التوبة
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات: نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعدهم على ذلك فقال تعالى: (ومن يفعل ذلك ليس من اللّه في شيء) أي ومن يرتكب نهي اللّه من هذا فقد برِئَ من اللّه، كما قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة - إلى أن قال - ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ). وقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أتريدون أن تجعلوا للّه عليكم سلطاناً مبيناً )، وقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم) الآية. وقوله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة)، أي إلا من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما قال البخاري عن أبي الدرداء إنه قال: ( إنَّا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم) وقال الثوري، قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، ويؤيده قول اللّه تعالى: ( من كفر باللّه من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) الآية. ثم قال تعالى: ( ويحذركم اللّه نفسه ) أي يحذركم نقمته في مخالفته وسطوته، وعذابه لمن والى أعداءه وعادى أولياءه، ثم قال تعالى: ( وإلى اللّه المصير) أي إليه المرجع والمنقلب ليجازى كل عامل بعمله. أ هـ تفسير ابن كثير(/5)
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في حكم موالاة الكافرين ما نصه: فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة، فكيف بالمشابهة في أمور دينية، فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد. والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان. قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين)، وقال تعالى فيما يذم به أهل الكتاب: ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون * ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون).
فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم. وقال سبحانه وتعالى: ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه) فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يوادّ كافراً فمن وادّ الكفار فليس بمؤمن، فالمشابهة الظاهرة مظنة المودة فتكون محرمة كما تقدم تقرير مثل ذلك) اقتضاء الصراط المستقيم ج1 ص221- 222
وقال رحمه الله تعالى أيضاً: والمؤمن عليه أن يعادى في الله، ويوالى في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه، وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى: ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون أخوة..)، فجعلهم أخوة مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم.
فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين، فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر، وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك، فان الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه.
وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة. (مجموع الفتاوى ج28 ص207- 209).
ما يستفاد من الآيات الكريمة الدالة على حرمة موالاة الكافرين:
1 : حرمة الموالاة بين المؤمنين والكافرين.
2 : أن الذين يتولون الكافرين من المؤمنين، ليسوا من الله في شيء.
3 : أن الذين في قلوبهم مرض أي نفاق، هم الذين يتولون الكافرين.
4 : أن الذين يتولون الكافرين من دون الله، موصوفون بالظلم، وهم الذين نفى الله الإيمان عنهم.
5 : أن من يتولى الكافرين من دون المؤمنين له عذاب عظيم.
6 : أن الذين يتولون الكافرين من دون المؤمنين من جنس الكافرين.
7 : أن من يفعل ذلك سوف يندم ندماً شديداً على سوء فعله في الدنيا والآخرة.
وعليه لا يكون المؤمن مؤمناً إلا أن يكون متبرئ من الكافرين، وهذا التبرؤ ليس متعلقاً بأشخاص تعلقاً مجرداً، بل بسبب ما يقوم به هؤلاء الأشخاص من مخالفة ومعاداة لله ورسوله.
صدق الله العظيم من لوازم الولاء :
إن من أبرز لوازم الولاء أمران؛ 1: الحب . 2: النصرة.
أدلة على ملازمة المحبة للولاء:
قال تعالى: ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ). (29) الفتح(/6)
وقال سبحانه: ( لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ). (9) الحشر
وفي الحديث الصحيح عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ). متفق عليه
أدلة على ملازمة النصر ة:
قال تعالى: ( لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ). (8) الحشر
وقال تعالى: ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ). (111) التوبة
وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ). (54) المائدة
أدلة على ملازمة المعادة للبراء:
منها قوله تعالى: ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ). (4) الممتحنة
قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين والتبرئ منهم: ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ) أي وأتباعه الذين آمنوا معه، ( إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ) أي تبرأنا منكم ( ومما تعبدون من دون اللّه كفرنا بكم ) أي بدينكم وطريقكم ( وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً ) يعني وقد شرعت العدواة والبغضاء بيننا وبينكم، ما دمتم على كفركم فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم (حتى تؤمنوا باللّه وحده) أي إلى أن توحدوا اللّه فتعبدوه وحده لا شريك له، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد. أ هـ الجامع لأحكام القرآن.
ومن أدلة السنة على وجوب الولاء والبراء، وأنهما دليل على صحة الإيمان ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: ( أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله ). رواه الطبراني وحسنه الأرناؤط.
فالمؤمن الحق هو الذي يجعل حبه وبغضه في الله سبحانه، فهو يحب المؤمن وإن كان لا يربطه به نسب ولا وطن وما شابه ذلك، ويبغض الكافر ولو كان من أقرب المقربين إليه، قال تعالى: ( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ). (22) المجادلة
ولو تأملنا النصوص الشرعية المتعلقة بحقيقة العلاقة بين المؤمن والكافر لوجدناها على النحو التالي:(/7)
1: البراءة، وهي قسمان: 1 : من شخص الكافر، 2 : من فعله، وذلك لقوله تعالى: (إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ).
2 : الكفر الدال على انقطاع العلاقة مطلقاً، وذلك لقوله تعالى: (كَفَرْنَا بِكُمْ ).
3: العداوة والبغضاء، لقوله تعالى: (وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً ).
4 : انقطاع المحبة والمودة، وذلك لقوله تعالى: ( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ).
فالمؤمن، يتبرأ من الكافر ومن عمله، ويبغضه ويعاديه، وهذا من أعظم ما يقطع العلاقة بين بني البشر، فلا علاقة مطلقاً بين الكافرين والمؤمنين، إلا ما استثناه الشارع مع وجوب وقوع البغض والمعاداة، بل إن قيام الحب بين المؤمنين والكافرين، لدليل على عدم وجود الإيمان كما بينا ذلك آنفا.
فالعلاقة بين الحزبين علاقة بغض وعداء، فهم متناقضون بالهدف والوسيلة، فالكافرون يعملون على ترسيخ الكفر والنفاق والزندقة في الأرض بكل وسيلة توصل إلى ذلك، أما المؤمنون فيعملون على النقيض تماماً قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ). (37)الأنفال
وقال سبحانه: ( الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ). (76) النساء
ويرجع ذلك التناقض لاختلاف المقصد بين الفريقين في العبادة، فالمؤمنون يعبدون الله سبحانه، والكافرون يعبدون الشيطان، قال تعالى: ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ). (62) يس
ومن المعلوم ضرورة أن الشيطان يعمل كل ما بوسعه ليضل الناس عن صراط الله المستقيم، قال تعالى: ( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ). (17) الأعراف
وقال سبحانه: ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ). (42) الحجر
وقال سبحانه: ( إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً (117) لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً (118) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً ). (121)النساء
فإذا كان المقصد مختلفاً بين الحزبين، فلن تكون الولاية بينهما إلا بأحد أمرين، 1 : أن يؤمن الكافرون بما آمن به المسلمون لقوله تعالى: (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ). 2 : أن يكفر المؤمنون، وهذا غاية ما يريده الكافرون قال تعالى: ( وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ). (120) البقرة
وهذا ما يرفضه المؤمنون رفضاً قاطعاً، قال تعالى: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ). (6) الكافرون(/8)
وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث من وجدهن وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ) متفق عليه.
فلن يلتقي المؤمنون والكافرون عند نقطة معينة لاختلاف التوجه والميل، فالمؤمنون قد ترسخ حب الإيمان في نفوسهم فهم أهواؤهم تبع لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، يحبون الإيمان وما يتصل به، ويبغضون الكفر وما يتعلق به قال سبحانه: ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ). (7) الحجرات
على خلاف الكافرين الذين يبغضون الإيمان ويحقدون على أهله، ويحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله، لذا نجد الآيات صريحة بوجوب معادة الكافرين وقتالهم والتغليظ عليهم قال تعالى: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ). (192) البقرة
وقال سبحانه: ( أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ ). (13) التوبة
والأمر بمقاتلة الكافرين لم يكن لأنهم اغتصبوا أرضاً أو سفكوا دماً فحسب، بل لقضية هي أكبر من ذلك، أمرنا الله سبحانه بمقاتلة الكافرين لكفرهم المتولد عن عبادتهم للشيطان وكفرهم بالله سبحانه قال تعالى: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ). (193) البقرة
وقال سبحانه: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ). (39)الأنفال
وقال سبحانه: ( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً ). (16) الفتح
فهذه الآيات تدل على أن الله سبحانه أمرنا بمقاتلة الكافرين حتى نقضي على الكفر ومظاهره، بل وجعل مقاتلة الكافرين دليلاً على صدق الإيمان كما هو ظاهر من الآية الكريمة، ومن أمرنا بمقاتلتهم لكفرهم حتماً لا نلتقي معهم عند أي نقطة كانت.
وعليه فإن عقيدة الولاء والبراء من قواعد هذا الدين، بل إن هذه العقيدة هي الدليل القاطع على صحة الإيمان، لقوله تعالى: ( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ). (22) المجادلة(/9)
روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر والتقوا فهزم الله المشركين فقُتل منهم سبعون رجلاً وأُسر منهم سبعون، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعلياً، فقال أبو بكر: يا نبي الله! هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، فأنا أرى أن تأخذ منهم الفداء، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم فيكونون لنا عضداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما ترى يا ابن الخطاب؟ ) فقال: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنني من فلان ـ قريب لعمر ـ فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قال عمر، فأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد قال عمر: غدوتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو قاعد وأبو بكر وإذا هما يبكيان، فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الذي عرض عليّ أصحابك من الفداء، ولقد عُرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة ) ـ لشجرة قريبة ـ وأنزل الله: ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ). (67) الأنفال
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: يقول تعالى مخبراً عن الكفار المعاندين المحادين لله ورسوله يعني الذين هم في حد والشرع في حد، أي مجانبون للحق مشاقون له، هم في ناحية والهدى في ناحية ( أولئك في الأذلين) أي في الأشقياء المبعدين الأذلين في الدنيا والآخرة، ( كتب اللّه لأغلبن أنا ورُسلي) أي قد حكم وكتب في كتابه الأول، وقدره الذي لايخالف ولايمانع ولايبدل، بأن النصرة له ولكُتُبه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة، ( وأن العاقبة للمتقين)، كما قال تعالى: ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)، وقال ههنا: ( كتب اللّه لأغلبن أنا ورسلي إن اللّه قوي عزيز) أي كتب القوي العزيز أنه الغالب لأعدائه، وهذا قدر محكم وأمر مبرم أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، ثم قال تعالى: ( لا تجد قوماً يؤمنون باللّه واليوم الآخر يوادون من حاد اللّه ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) أي لا يوادون المحادين ولو كانوا من الأقربين، كما قال تعالى: ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من اللّه ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي اللّه بأمره واللّه لا يهدي القوم الفاسقين) أنزلت هذه الآية ( لاتجد قوماً يؤمنون باللّه واليوم الآخر) إلى آخرها، في أبي عبيدة بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه حين جعل الأمر شورى بعده في أولئك الستة رضي اللّه عنهم: ولو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته، وقيل: في قوله تعالى: ( ولو كانوا آباءهم) نزلت في أبي عبيدة قتل أباه يوم بدر، (أو أبناءهم) في الصديق، همَّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن (أو إخوانهم) في مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ، ( أو عشيرتهم ) في عمر قتل قريباً له يومئذ أيضاً، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ، واللّه أعلم. وقوله تعالى: ( أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه) أي من اتصف بأنه لا يواد من حاد اللّه ورسوله، ولو كان أباه أو أخاه فهذا ممن كتب اللّه في قلبه الإيمان، أي كتب له السعادة وقررها في قلبه، وزين الإيمان في بصيرته، قال السدي: (كتب في قلوبهم الإيمان) جعل في قلوبهم الإيمان، وقال ابن عباس ( وأيدهم بروح منه) أي قواهم، وقوله تعالى: (ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي اللّه عنهم ورضوا عنه) كل هذا تقدم تفسيره غير مرة.
وفي قوله تعالى: ( رضي الله عنهم ورضوا عنه) سر بديع وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في اللّه تعالى عوضهم اللّه بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم والفوز العظيم، والفضل العميم، وقوله تعالى: ( أولئك حزب الله ألا إن حزب اللّه هم المفلحون) أي هؤلاء حزب الله أي عباد الله وأهل كرامته، وقوله تعالى: (ألا إن حزب الله هم المفلحون) تنويه بفلاحهم وسعادتهم ونصرتهم في الدنيا والآخرة.(/10)
وفي الحديث: ( أن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يدعوا، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة) فهؤلاء أولياء الله تعالى الذين قال الله: ( أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ). أخرجه ابن أبي حاتم، وقال الحسن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يداً ولا نعمة، فإني وجدت فيما أوحيته إليّ: (لا تجد قوماً يؤمنون باللّه واليوم الآخر يوادون من حاد اللّه ورسوله). أخرجه أبو أحمد العسكري. أ هـ تفسير ابن كثير.
فلا يصح الإيمان في قلب العبد حتى يكون مقيماً لعقيدة الولاء والبراء، أما مجرد دعوى الإيمان فلا تصح حتى يقيم المسلم عقيدة والولاء والبراء في حياته، وبناء على ما تقرر لا تجد مسلماً يعتنق الإسلام حقاً يحب الكافرين أو يقربهم، أو يدافع عنهم، أو يعاونهم خاصة فيما يتعلق بنشر عقائدهم والذود عنها، ناهيك عن العمل بها والدعوة إليها كما هو حال كثير ممن يدعي الإسلام عافنا الله سبحانه، بل الثابت عن سلفنا الصالح إقصاء الكافرين وإن كانوا أصحاب خبرة ومهارات ينتفع بها المسلمون، فقد جاء عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه دخل على قاضيه أبي موسى الأشعري فسأله عن كاتبه فقال: لي كاتب نصراني. فقال: قاتلك الله! أما سمعت قول الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ). (51) المائدة ألا اتخذت كاتباً حنيفاً؟ قال: يا أمير المؤمنين! لي كتابته وله دينه، فقال عمر: ألا لا تكرموهم وقد أهانهم الله، ولا تُعزّوهم وقد أذلهم الله، ولا تدنوهم وقد أقصاهم الله . رواه مسلم في صحيحه والإمام أحمد.
فسبحان الله كيف كان حال سلفنا الصالح، وكيف وصل الحال بنا! فقد أصبح كثير من أبناء جلدتنا يجاهرون بموالاة الكافرين، ومنهم من يعمل على تنفيذ مصالحهم الشيطانية بكل ما أوتي من قوة وما أولئك بالمؤمنين .
وإن من أبرز مظاهر موالاة الكافرين: التحاكم إلى الطاغوت، قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ). (63) النساء(/11)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات: هذا إنكار من الله عزَّ وجلَّ على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنّة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار، ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد، وذاك يقول بيني وبينك كعب بن الأشرف وقيل: في جماعة من المنافقين ممن أظهر الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية، وقيل غير ذلك، والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنّة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا، ولهذا قال: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) إلى آخرها، وقوله: (ويصدون عنك صدوداً) أي يعرضون عنك إعراضاً كالمستكبرين عن ذلك كما قال تعالى عن المشركين: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ) .ثم قال تعالى في ذم المنافقين: ( فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم) أي فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم، واحتاجوا إليك في ذلك؟ (ثم جاؤك يحلفون باللّه إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً) أي يعتذرون إليك ويحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان والتوفيق أي المداراة والمصانعة لا اعتقاداً منا صحة تلك الحكومة، كما في قوله تعالى: ( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم)، عن ابن عباس قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المشركين فأنزل الله عزَّ وجلَّ ( ألم ترى إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك - إلى قوله - إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً ) رواه الطبراني.
ثم قال تعالى: ( أولئك الذين يعلم اللّه ما في قلوبهم) هذا الضرب من الناس هم المنافقون والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك، فإنه لا تخفى عليه خافية، فاكتف به يا محمد فيهم فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم، ولهذا قال له: ( فأعرض عنهم) أي لا تعنفهم على ما في قلوبهم، (وعظهم) أي وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر، ( وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً) أي وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم . أهـ تفسير ابن كثير سورة النساء
وقال القرطبي في تفسير هذه الآيات: روى يزيد بن زريع عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال : كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة . ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم؛ لأنه علم أنهم يأخذون الرشوة في أحكامهم فلما اختلفا اجتمعا على أن يحكما كاهنا في جهينة؛ فأنزل الله تعالى في ذلك ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ) يعني المنافق . ( وما أنزل من قبلك ) يعني اليهودي . ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ) إلى قوله ( ويسلموا تسليما ) قال الضحاك: دعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف وهو ( الطاغوت ) ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال : كان بين رجل من المنافقين يقال له بشر وبين يهودي خصومة؛ فقال اليهودي : انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق : بل إلى كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الله ( الطاغوت ) أي ذو الطغيان فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما رأى ذلك المنافق أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي . فلما خرجا قال المنافق : لا أرضى، انطلق بنا إلى أبي بكر؛ فحكم لليهودي، فلم يرض ذكره الزجاج وقال : انطلق بنا إلى عمر فأقبلا على عمر فقال اليهودي : إنا صرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى أبي بكر فلم يرض؛ فقال عمر للمنافق : أكذلك هو؟ قال : نعم . قال : رويدكما حتى أخرج إليكما . فدخل وأخذ المنافق حتى برد، وقال : هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله؛ وهرب اليهودي، ونزلت الآية. أهـ تفسير القرطبي.(/12)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في هذه الآيات: ( لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم وقد أمروا أن يكفروا بهم. وما أشبه حال هؤلاء المتكلمين بقوله سبحانه وتعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً) (النساء: 60ـ62) فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول - والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته - أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا الإحسان علما وعملا بهذه الطريق التي سلكناها والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية. أ هـ الفتاوى 5/18 .
وقال في تفسير قوله تعالى : ( وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48)وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49)أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ(50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) النور ـ 47 ـ 51
فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين، وليس بمؤمن، وأن المؤمن هو الذي يقول: سمعنا وأطعنا، فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره، مع أن هذا تركٌ محض، وقد يكون سببه الشهوة، فكيف بالتنقص والسب ونحوه؟ أهـ الصارم المسلول تحقيق: محمد حلواني ومحمد شودري، ط: رمادي ، 2/ 81.
قال ابن القيم في أعلام الموقِّعين (1/85): ( ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكّم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لايعلمون أنه طاعة له ).
وقال الإمام ابن القيم: ( أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يُحكِّموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق عن قضائه وحكمه ولم يكتف منهم أيضاً بذلك حتى يسلِّموا تسليماً وينقادوا انقياداً ). ( إعلام الموقعين 1/86 ).
فالتحاكم إلى غير شرع الله سبحانه، تحاكم إلى الطاغوت الذي أمرنا الله سبحانه بالكفر به، وهذا واضح من خلال الآية نفسها: ( وقد أمورا أن يكفروا به ). وهو لا شك شرك وكفر قال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ). (40) يوسف.
فقد قرن الله سبحانه بين الحكم والعبادة، إذ التحاكم إلى الله ورسوله، هو انقياد وطاعة وهذا هو معنى العبادة، فكل من تحاكم إلى غير شرع الله سبحانه، يكون في حقيقة الأمر خاضعاً لحكم الطاغوت الذي هو الشيطان، وكل من خضع للشيطان في حكمه فهو مشرك بالله سبحانه، وعليه لا يكون متبرأ منه محققاً للتوحيد، ومن هذا المنطلق جاء حكم الله سبحانه على الذين لا يحكمون بشرعه بالكفر والنفاق، قال تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ). (61) النساء
وقال سبحانه: ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ). (44) المائدة(/13)
وهذا حكم واضح بأن الذين لا يحكمون بما أنزل الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم كافرون منافقون، لم يثبت الإيمان الحق في قلوبهم، وإن زعموه لقوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ). (61) النساء
فهذه الآية تبين أن المنافقين يدعون الإيمان، ولكنهم يريدون مع ذلك التحاكم إلى الطاغوت، وهذا لا شك تناقض عظيم، إذ كيف يلجأ من وقر الإيمان في قلبه وهو التوحيد إلى حكم الطاغوت الذي لا يصح الإيمان إلا بالكفر به؟
وإذا كانت هذه الآيات تثبت الكفر والنفاق للمعرضين عن حكم الله سبحانه، فهنالك آيات تدل على نفي الإيمان عنهم، من ذلك قوله تعالى: ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ). (65) النساء
يقول ابن تيمية عن هذه الآيات: ذم الله عز وجل المدعين الإيمان بالكتب كلها وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة، ويتحاكمون إلى بعض الطواغيت المعظمة من دون الله، كما يصيب ذلك كثيرًا ممن يدعي الإسلام وينتحله في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أو غيرهم، أو إلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الإسلام من ملوك الترك وغيرهم، وإذا قيل لهم تعالوا إلى كتاب الله وسنة رسوله أعرضوا عن ذلك إعراضاً، وإذا أصابتهم مصيبة في عقولهم ودينهم ودنياهم بالشبهات والشهوات، أو في نفوسهم وأموالهم عقوبة على نفاقهم، قالوا إنما أردنا أن نحسن بتحقيق العلم بالذوق، ونوفق بين الدلائل الشرعية والقواطع العقلية التي هي في الحقيقة ظنون وشبهات. الفتاوى 12/339-340، بتصرف يسير.
ويقول أيضا: ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يجب تحكيم الرسول في كل ما شجر بين الناس في أمر دينهم ودنياهم في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلهم إذا حكم بشيء أن لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما حكم ويسلموا تسليمًا. الفتاوى 7/37-38.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض كما قال تعالى: ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً ). ( مجموع الفتاوى 28/524 ).
وقال أيضاً في مجموع الفتاوى (3/267): ( والإنسان متى حلل الحرام - المجمع عليه - أو حرم الحلال -المجمع عليه - أو بدل الشرع - المجمع عليه - كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء ).
ويقول ابن القيم عن هذه الآية: أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسمًا مؤكدًا بالنفي قبله على عدم إيمان الخلق حتى يُحَكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضا حتى يضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض...البيان في أقسام القرآن ص 270.(/14)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وقوله تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)، يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة، أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى اللّه عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً، ولهذا قال: ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كلياً، من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، كما ورد في الحديث: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، وقال البخاري عن عروة قال: خاصم الزبير رجلاً في شراج الحرة، فقال النبي (اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك) فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلوَّن وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم قال: (اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر ثم أرسل الماء إلى جارك) فاسترجع النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما صلى الله عليه وسلم بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهمْ ). الآية. وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: خاصم الزبير رجلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للزبير، فقال الرجل: إنما قضى له لأنه ابن عمته فنزلت: ( فلا وربك لا يؤمنون) الآية.أهـ
وقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ). (59) النساء
يقول ابن القيم: إن قوله: (...فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ...) نكرة في سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين: دقه وجله، جليه وخفيه، ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله وبيان حكم ما تنازعوا فيه، ولم يكن كافيًا لم يأمر بالرد إليه؛ إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع. ومنها أن جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان، ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، ولا سميا التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم، وأن عاقبته أحسن عاقبة. أهـ أعلام الموقعين 1/49-50.
يقول الشيخ السعدي في هذا الصدد: الرد إلى الكتاب والسنة شرط في الإيمان. فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت كما جاء في الآية: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا) (60) سورة النساء. فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه، في كل أمر من الأمور، فمن زعم أنه مؤمن، واختار حكم الطاغوت على حكم الله، فهو كاذب في ذلك...أهـ تفسير السعدي 2/90، باختصار.
وقوله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (50) المائدة
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (ينكر الله تعالى على من خرج من حكم الله ــ الحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شرـ وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وصفها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يصنعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة من ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظرة وهواه فصارت شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه من كثير ولا قليل). تفسير ابن كثير.(/15)
قال الشيخ أحمد شاكر تعليقاً على ما سبق نقله من كلام ابن كثير حول الياسق الذي كان يتحاكم إليه التتار: أفرأيتم هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير- في القرن الثامن- لذاك القانون الوضعي الذي صنعه عدو الإسلام جنكيز خان؟ ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر في القرن الرابع عشر؟ إلا في فرق واحد أشرنا إليه آنفاً: أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام أتى عليها الزمان سريعاً فاندمجت في الأمة الإسلامية وزال أثر ما صنعت، ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالاً وأشد ظلماً منهم لأن أكثر الأمم الإسلامية الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة والتي هي أشبه شيء بذاك الياسق الذي اصطنعه رجل كافر ظاهر الكفر إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس هي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام كائناً من كان في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها فليحذر امرؤ لنفسه وكل امريء حسيب نفسه ). ( عمدة التفسير 4/ 173-174 ).
قال الشيخ الإمام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: ( إن هؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم وجوب طاعة من دون الله كلهم كفار مرتدون عن الإسلام، كيف لا وهم يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويسعون في الأرض فسادا بقولهم وفعلهم وتأييدهم، ومن جادل عنهم، أو أنكر على من كفرهم، أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلا لا ينقلهم إلى الكفر، فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق، لأنه لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم ). ( الرسائل الشخصية،188 ).
قال الشيخ محمد بن إبرهيم رحمه الله: (( وتحكيم شرع الله وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، إذ مضمون الشهادتين أن الله هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسوله هو المتبع المحكم ما جاء به فقط، ولا جردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك، والقيام به فعلاً وتركاً وتحكيماً عند النزاع . . . )) .( محمد بن إبرهيم، الفتاوى، 215/12).
فهذه الآية والتي قبلها دليل واضح على نفي الإيمان عن الذين لا يرجعون ما تنازعوا فيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو حكم عام يشمل جميع المسائل الأصلية والفرعية لقوله تعالى: (حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) و- ما- هنا موصولة وهي من ألفاظ العموم، وإذا أخذنا هذا الحكم المتضمن لنفي الإيمان عن الذين لا يحكمون بشرع الله، مع ما سبق من الآيات الدالة على كفر ونفاق الذين يحكمون بغير ما أنزل الله سبحانه، علمنا يقيناً أن المقصود بالكفر هو الكفر الأكبر المخرج عن الملة، فلا يصح تقيد ما أطلقه الله سبحانه إلا بدليل، ولا دليل هنا للتقيد فيبقى العام على عمومه، لأن الأصل في الألفاظ إذا أطلقت أنه أريد به الظاهر الدالة عليه، ولا تصرف عنه إلا بوجود بينة، ولا بينة هنا وعلى هذا تنزل سائر الأحكام، وإلا فإن نزاع أهل السنة والجماعة مع غيرهم من أصحاب الفرق الضالة إنما هو بسبب التأويل، أي بسبب صرف الألفاظ عن ظاهرها، لأن إطلاق اللفظ دون إرادة معناه إنما يعرب عن جهل المتكلم أو عدم فصاحته، أو كذبه، وهذا كله منتفٍ عن الله سبحانه فما أنزل الله كتابه إلا هداية ورحمة للعالمين، وقد أثبت كفر ونفاق المتحاكمين إلى غير حكمه في أكثر من موضع من مواضع الكتاب الكريم، ولم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه صرف هذا الحكم عن ظاهره بل أبقاه وهكذا الحال مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أما ما ورد في الأثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ( كفر دون كفر ). وهذا ما طار به بعض المدافعين عن الطواغيت وأخذوا يصولون ويجولون في أعراض من خالفهم، فهو دليل عليهم لا لهم إن صح السند وإلا فقد طعن بصحته كثير من أهل الاختصاص وذلك لما يلي:
1 : هذا القول يدل على حادثة عين ولا يعمم القول به بدليل أن الآية ابتداء تتحدث عن أهل الكتاب وتبين أن الذين لا يحكمون بما أنزل الله منهم كافرون، ولا شك أن كفر اليهود والنصارى كفر أكبر ويدخل المسلمون في هذه الآية تبعاً للعموم اللفظ.
2 : إن ظاهر قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( كفر دون كفر ) عام، أي دون تقيد أو تفصيل، ولا شك أن علماء أهل السنة متفقون على أن الحكم بغير ما أنزل الله يكون كفراً أكبر، ويكون كفراً أصغراً على تفصيل حسب أحوال الحاكم.
3 : قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إما أن يكون أراد بذلك الحكم أو أراد الحكام، وقد علم من الدين بالضرورة أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر، ولا مخالف في ذلك، إذن يبقى الأمر متعلقاً بالحكام، وهم على ثلاثة أحوال، إما أن يحكموا بغير ما أنزل الله عالمين غير مكرهين أو مخطئين، وإما أن يحكموا بغير ما أنزل الله مجتهدين غير متعمدين الخروج عن حكم الله، بل يريدون التحاكم إليه، وإما أن يكونوا جاهلين متأولين، ولا شك أن الحكم على أولئك يختلف، وأن من حكم بغير ما أنزل الله عالماً غير مكره أو متأول فهو كافر الكفر الأكبر.(/16)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فان الحاكم إذا كان دينا لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار. وإن كان عالما لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار. وإذا حكم بلا عدل ولا علم أولى أن يكون من أهل النار. وهذا إذا حكم في قضية لشخص. وأما إذا حكم حكما عاما في دين المسلمين وجعل الحق باطلا والباطل حقا والسنة بدعة والبدعة سنة والمعروف منكراً والمنكر معروفا، ونهى عما أمر الله به ورسوله. وأمر بما نهى الله عنه ورسوله فهذا لون آخر يحكم فيه رب العالمين وإله المرسلين مالك يوم الدين الذي له الحمد في الأولى والآخرة: (له الحكم وإليه ترجعون) (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا) مجموع الفتاوى 35/ 388.
قال الشيخ صالح بن فوزان تعليقاً على قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ففرق رحمه الله بين الحكم الجزئي الذي لا يتكرر وبين الحكم العام الذي هو المرجع في جميع الأحكام أو غالبها وقرر أن هذا الكفر ناقل عن الملة مطلقا وذلك لأن من نحى الشريعة الإسلامية وجعل القانون الوضعي بديلا منها فهذا دليل على أنه يرى أن القانون أحسن وأصلح من الشريعة وهذا لا شك أنه كفر أكبر يخرج من الملة ويناقض التوحيد. كتاب التوحيد.
وعليه لا يصح الاستشهاد بالأثر الوارد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على هذه المسألة إن صح، فكيف بأن يكون الأثر ضعيفاً أصلاً.
ومن باب آخر، فإن إطلاق الأثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تهوين لمسألة الحكم بما أنزل الله سبحانه، وفتح لأبواب الشر والضلال، فهم يعملون على جعل هذه المسألة العظيمة كأي ذنب من الذنوب، وخابوا وخسروا والله، فإن عدم الحكم بما أنزل الله سبحانه يدور أصحابه بين الكفر والزندقة والنفاق، فهو أكبر من الكبائر، فقد صح في الأثر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ( لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً ). فانظر أيه المغتر انظر إلى عظيم هذا الأثر الذي يظهر من خلاله الفرق بين المعصية والشرك، فالكذب من أكبر الكبائر إن لم يصاحبه قسم، فكيف إذا تأكد بالحلف؟ فإن الشرك لا يغفره الله سبحانه على خلاف الكبائر فهي تحت المشيئة إن شاء الله غفر لأصحابها، وإن شاء عذبهم، قال تعالى: ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ). (48) النساء
والشرك في هذه الآية عام يشمل الأكبر والأصغر، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: ( لأن أحلف بالله كاذباً، أحب من أن أحلف بغيره صادقاً )، فهو يعلم رضي الله تعالى عنه أن الحلف بالله كذباً من الكبائر التي يكون صاحبها تحت المشيئة، أما الحلف بغير الله صدقاً، فهو من الشرك الذي لا يغفر الله سبحانه لأصحابه، والحكم بغير ما أنزل الله من الشرك فهو عبادة لغير الله سبحانه، إذ الحكم لا يكون إلا لله فمن شرع قوانيناً من تلقاء نفسه وتحاكم إليها، أو حكم بها، فقد نازع الله سبحانه في ربوبيته قال تعالى: ( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ). (40) يوسف
وكون الحكم بغير ما أنزل الله شركاً فلا بد لكل مسلم أن يعلمه، فكما أن السجود لا يكون إلا لله وحده، كذلك الحكم لا يكون إلا لله، فإن صرف لغير الله سبحانه كان شركاً، والشرك ذنب لا يغفره الله تعالى، فهلا علمت الأمة خطورة الأمر وأنه أعظم من الربا والزنا واللواط وشرب الخمر والميسر وغيرها من المعاصي والذنوب.
أيها المتساهلون في هذا الأمر اعلموا علم اليقين أن الله سبحانه ما بعث رسله إلا لتوحيد العبادة ونفي الشرك ودحضه، فالله سبحانه لا يريد منا أن نقيم العبادة في مساجدنا ودورنا بعيداً عن إقامتها في مجتمعنا لتكون كلمة الله هي العليا في كل شأن من شؤون حياتنا، كما هو دين اليهود والنصارى، إن الله سبحانه يريدنا أن نقيم العبادة له وحده حتى لا تكون على الأرض فتنة، وإن عزل النظام عن الأمة يجعلها تتخبط في ظلمات بعضها فوق بعض، قال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208) فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ). (210) البقرة(/17)
فالله سبحانه يأمرنا بأن ندخل في دينه كله، لا نأخذ منه ما وافق أهواءنا أو أهواء حكامنا، ونترك منه ما خالف ذلك كما فعل اليهود عليهم من الله ما يستحقون، قال تعالى: ( ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ). (86) البقرة
يقول ابن كثير في تفسير هاتين الآيتين: يقول تبارك وتعالى منكراً على اليهود، الذين كانوا في زمان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار- كانوا في الجاهلية عبَّاد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل بنو قينقاع و بنو النضير حلفاء الخزرج و بنو قريظة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم، وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها افتكُّوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة، ولهذا قال تعالى: ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟) ولهذا قال تعالى: ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) أي لا يقتل بعضكم بعضاً، ولا يخرجه من منزله، ولا يظاهر عليه، وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) .
وقوله تعالى: ( ثم أقررتم وأنتم تشهدون) أي ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به، (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم) الآية. عن ابن عباس: ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم) قال: أنبأهم اللّه بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى تسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، ولا يعرفون جنة ولا ناراً ولا بعثاً ولا قيامة، ولا كتاباً ولا حلالاً ولا حراماً، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة وأخذاً به بعضهم من بعض، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم، وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم، يقول اللّه تعالى ذكره: ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) أي تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم، وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا؟ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج - فيما بلغني - نزلت هذه القصة. وقال السدي: نزلت هذه الآية في قيس بن الحطيم ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم) والذي أرشدت إليه الآية الكريمة وهذا السياق ذمَّ اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها، ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما كتموه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعته ومبعثه ومخرجه ومهاجره وغير ذلك من شؤونه، التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام، واليهود - عليهم لعائن الله - يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى: ( فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌّ في الحياة الدنيا ) أي بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره ( ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ) جزاء على مخالفتهم كتاب اللّه الذي بأيديهم ( وما اللّه بغافل عما تعملون أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ) أي استحبوها على الآخرة واختاروها ( فلا يخفف عنهم العذاب ) أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة ( ولا هم ينصرون ) أي وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم عليه. أهـ تفسير ابن كثير.(/18)
أخي المسلم: إن واجبنا هو الدخول في الإسلام كاملاً، فالمسلم الحق لا يقبل بالحلول الجزئية، ولا بالتبعية، فهو عبد لله قد باع نفسه في سبيل الله سبحانه قال سبحانه: ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ). (111) التوبة
فهذه لآية يبين الله سبحانه فيها أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، وهذه صفقة عظيمة عقدت بين الله سبحانه وبين عباده المؤمنين، وقد اشتملت على؛ مشتري وهو الله سبحانه، وبائع وهم المؤمنون، وسلعة وهي الأنفس والأموال، والثمن، وهو الجنة، فالمؤمن قد باع نفسه وماله في سبيل الله، فلا يطلب من ذلك شيئاً فهو موقوف على طاعة الله، ملتزم بأوامر الله، حاله كما قال الله سبحانه: ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ). (162)الأنعام
ومن كان هذا حاله فلا إرادة له تخالف إرادة الله سبحانه، ولا أمر له مع أمر الله، بل هو ملتزم بكل أوامر الله كما بين ذلك الله سبحانه: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً ). (36) الأحزاب
وفي الحديث الصحيح عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ). حسنه النووي.
يقول ابن كثير رضي الله تعالى عنه في تفسير قوله تعالى: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة). فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد ههنا ولا رأي ولا قول، كما قال تبارك وتعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)، وفي الحديث: ( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به )، ولهذا شدد في خلاف ذلك فقال: ( ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً )، كقوله تعالى: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ). أهـ تفسير ابن كثير.
فماذا بعد الهدى إلا الضلال، وماذا بعد الحق إلا الباطل، فإن الإيمان أن تجعل هواك تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهل بعد هذه الأدلة من دليل يجعلك تخرج عن حكم الله سبحانه، أو تبرر مواقف الخارجين عن حكم الله سبحانه المتبعين لأحكام الطاغوت، الذين مالوا كل الميل عن الحق، واتبعوا أهواءهم وما تمليه عليه شياطينهم، بل كيف بك إن كنت مدافعاً عنهم موالياً لهم، متبعاً لأهوائهم، ومع ذلك تدعي أنك من أهل الحق والاتباع والله سبحانه يقول: ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ). (145) البقرة
فالله سبحانه يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من مجرد اتباع أهوائهم، مبيناً له أنه إن اتبع أهواءهم فهو من الظالمين، فاتباع أهواء الكافرين ظلم عظيم، قد حذر الله سبحانه المؤمنين منه، أوليس الخروج عن دين الله من أهواء الكافرين؟ أوليس انتشار الفساد في الأرض من أهواء الكافرين؟ أوليس الصد عن سبيل الله من أهواء الكافرين؟ أوليس من يجاري الكافرين في أهوائهم يكون من الظالمين؟ فإذا كان الله سبحانه قد أعد لمن يركن إلى الظالمين ناراً وبئس المصير قال سبحانه: ( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ). (113) هود
قال ابن عباس: هو الركون إلى الشرك، وقال أبو العالية: لا ترضوا بأعمالهم؛ وقال ابن جرير عن ابن عباس: ولا تميلوا إلى الذين ظلموا؛ وهذا القول حسن، أي لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بأعمالهم، ( فتمسكم النار وما لكم من دون اللّه من أولياء ثم لا تنصرون) أي ليس لكم من دونه من ولي ينقذكم، ولا ناصر يخلصكم من عذابه. أ هـ تفسير ابن كثير.
فكيف بمن يكون من الظالمين؟
وإليك أخي الحبيب نص رسالة تحكيم القوانين لفضيلة الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى رأيت إدراجها لما فيها من فوائد جمة:
نص الرسالة:(/19)
يقول رحمه الله تعالى :إن من الكفرِ الأكبرِ المستبينِ، تنزيلُ القانونِ اللعينِ منزلةَ ما نَزَلَ به الروحُ الأمينُ على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسانٍ عربي مبينٍ، في الحكم به بين العالمين، والرَدِّ إليه عند المتنازعين، مناقضةً ومعاندةً لقولِ الله عز وجل: ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ). وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمانَ عن مَّنْ لم يُحَكِّموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما شَجَرَ بينهم، نفياً مؤكداً بتكرارِ أداةِ النفي وبالقسمِ، قال تعالى: ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) ولم يكتفِ تعالى وتقدَّس منهم بمجرد التحكيمِ للرسولِ صلى الله عليه وسلم، حتى يضيفوا إلى ذلك عَدَمَ وجودِ شيءٍ من الحرج في نفوسهم، بقوله جل شأنه: ( ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ). والحَرَجُ: الضِّيقُ. بل لا بد من اتساع صدورهم لذلك وسلامتها من القلق والاضطراب. ولم يكتف تعالى أيضا هنا بهذين الأمرين، حتى يضموا إليهما التسليم وهو كمال الانقيادِ لحكمه صلى الله عليه وسلم، بحيث يتخلَّونَ ها هُنا من أي تعلق للنفس بهذا الشيء، ويسلموا ذلك إلى الحكمِ الحقِّ أَتمَّ تسليم، ذلك بالمصدر المؤكد، وهو قوله جل شأن: ( تَسْلِيماً ) المبين أنه لا يُكْتَفى ها هنا بالتسليم.. بل لا بد من التسليم المُطْلَقِ. وتأمل ما في الآية الأولى، وهي قوله تعالى: ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ). كيف ذكر النكِرَةَ وهي قوله: ( شَيْءٍ ) في سياق الشَرْطِ وهو قوله جل شأنه: ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ ) المفيد للعموم، فيما يُتَصوَّرُ التنازعُ فيه جنساً وقدراً. ثم تأمل كيف جعل ذلك شرطاً في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر، بقوله: ( إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ). ثم قال جل شأنه: ( ذلِكَ خَيْرٌ ) فشيءٌ يُطْلقُ الله عليه أنه خيرٌ لا يتطرَّقُ إليه شرٌّ أبداً، بل هو خيرٌ محضٌ عاجلاً وآجلاً .ثم قال: ( وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) أي: عاقبةً في الدنيا والآخرة، فيفيد أن الرد إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم عند التنازع شرٌ محضٌ وأسوأ عاقبة في الدنيا الآخرة. عكس ما يقولُه المنافقون: ( إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً )، وقولهم: ( إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ )، ولهذا ردَّ الله عليهم قائلاً: ( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ) .وعكس ما عليه القانونيون من حكمهم على القانون بحاجة العالم (بل ضرورتهم) إلى التحاكم إليه وهذا سوءُ ظنّ صرْف بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومحضُ استنقاصٍ لبيان الله ورسوله، والحكم عليه بعدم الكفاية للناس عند التنازع، وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة إن هذا لازم لهم. وتأمل أيضا ما في الآية الثانية من العموم، وذلك في قوله تعالى ( فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) فإن اسم الموصول مع صلته مع صيغ العموم والشمول هو من ناحية الأجناس والأنواع، كما أنه من ناحية القدر فلا فرق هنا بين نوع ونوع، كما أنه لا فرق بين القليل والكثير وقد نفى الله الإيمان عن من أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين، كما قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً ). فإن قوله عز وجل: ( يَزْعُمُونَ ) تكذيب له فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلا، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو: مجاوزة الحد. فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه. وذلك أنه من حق كل أحد أن يكون حاكما بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقط لا بخلافه.كما إن من حق كل أحد أن يحاكم إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فمن حكم بخلافه أو حاكم إلى خلافه فقد طغى، وجاوزَ حَدَّه، حُكْماً أو تحكيماً، فصار بذلك طاغوتاً لتجاوزه حَدَّه. وتأمل قوله عز وجل: ( وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ) تعرفْ منه معاندة القوانين، وإرادتهم خلافَ مرادِ(/20)
الله منهم حولَ هذا الصددِ، فالمرادُ منهم شرعاً والذي تُعُبّدوا به هو: الكفرُ بالطاغوتِ لا تحكيمُهُ، ( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ). ثم تأملْ قوله: ( وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ) كيف دَلَّ على أن ذلك ضلالٌ، وهؤلاء القانونيون يرونه من الهُدَى، كما دلت الآية على أنه من إرادة الشيطان، عكس ما يتصورُ القانونيون من بُعدِهم من الشيطان، وأنَّ فيه مصلحة الإنسان، فتكونُ على زعمهم مراداتُ الشيطان هي صلاح الإنسان، ومرادَ الرحمن. وما بُعث به سيدُ ولد عدنانٍ معزولاً من هذا الوصف، ومُنَحى عن هذا الشأنِ. وقد قال تعالى مُنكراً على هذا الضرب من الناس، ومقرراً ابتغاءَهم أحكام الجاهلية، موضحاً أنه لا حكمَ أحسن من حُكمهِ: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ). فتأملْ هذه الآيةَ الكريمةَ وكيف دلتْ على أن قِسْمةَ الحكم ثنائيةٌ، وأنه ليس بعد حكمِ الله تعالى إلا حكم الجاهلية، الموضِّح أنَّ القانونيين في زمرةِ أهل الجاهلية، شاءوا أم أبوا، بل هم أسوءُ منهم حالاً، وأكذبُ منهم مقالاً، بل أنَّ أهلَ الجاهليةِ لا تَنَاقُضَ لديهم حولَ هذا الصددِ .وأما القانونيون فمتناقضون، حيثُ يزعمون الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتناقضون ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً، وقد قال الله تعالى في أمثال هؤلاء: ( أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ) ثم انظر كيف ردت هذه الآية الكريمة على القانونيين ما زعموه من حسن زبالة أذهانهم، ونحاتة أفكارهم، بقوله عز وجل: ( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ). قال الحافظ بن كثير في تفسير الآية: ينكر تعالى على من خرج من حكم الله المحْكَمِ المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم (جنكيز خان) الذي وضع لهم كتابا مجموعا من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية، والنصرانية، والملّة الإسلامية، وغيرها. وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا مُتَّبَعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتالُهُ، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحكِّمُ سواه في قليل ولا كثير. قال تعالى: ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يَعدلون. ( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) أي: ومن أعدل من الله في حكمِهِ، لمن عَقَل عن الله شرعَه وآمن به وأيقن، وعلم أن الله أحكمُ الحاكمين، وأرحم بخلقِهِ من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء. - انتهى قول الحافظ بن كثير- وقد قال عز شأنه قبل ذلك مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: ( فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ). وقال تعالى: ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ). وقال تعالى مخبراً نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، بين الحكم بين اليهود والإعراض عنهم وإن جاءوه لذلك: ( فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) والقسط هو: العدل . ولا عدل حقا إلا حكم الله ورسوله، والحكم بخلافه هو الجور، والظلم والضلال والكفر، والفسوق، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ )، ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). فانظر كيف سَجَّلَ تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل الله الكفر والظلم والفسوق، ومن المُمْتَنِع أن يُسَمِّي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ولا يكون كافراً، بل هو كافر مطلقا، إما كفر عمل وإما كفر اعتقاد، وما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية من رواية طاووس وغيره يدل على أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر: إما كفرُ اعتقاد ناقل عن الملة، وإما كفر عمل لا ينقل عن الملة. أما الأول: وهو كفر الاعتقاد فهو أنواع:(/21)
أحدها: أن يجحد الحاكم ُ بغير ما أنزل الله أحقيَّة حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو معنى ما رُوي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي، وهذا مالا نزاعَ فيه بين أهل العلم، فإن الأصول المتقرِّرةَ المتفق عليها بينهم أن من جحد أصلاً من أصول الدين أو فَرْعاً مُجْمَعاً عليه، أو أنكر حرْفاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قَطعيَّاً فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة.
الثاني: أن لا يجحد الحاكمُ بغير ما أنزل الله كونَ حكم الله ورسوله حقّاً، لكن اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسنُ من حكمِهِ، وأتمُّ وأشملُ لما يحتاجُهُ الناسُ من الحكمِ بينهم عند التنازع، إما مطلقاً أو بالنسبة إلى ما استجدَّ من الحوادث، التي نشأتْ عن تطور الزمان وتغيُّر الأحوال، وهذا أيضا لا ريب أنه كفرٌ، لتفضيلِهِ أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان وصِرْفُ حُثَالةِ الأفكار على حُكم الحكيم الحميد. وحكم الله ورسولِهِ لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان، وتطور الأحوال ،وتجدد الحوادث، فإنه ما من قضيةٍ كائنةٍ ما كانتْ إلا وحكمُها في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نصّا أو ظاهراً أو استنباطاً أو غير ذلك ،عَلِمَ ذلك من عَلِمَه وجَهِلَه من جَهِله. وليس معنى ما ذكره العلماءُ من تغيّرِ الفَتْوى بتغيُّر الأحوال ما ظنه من قلَّ نصيبُهم أو عدِمَ من معرفة مدارك الأحكام وعِلَلها، حيث ظنوا أنَّ معنى ذلك بحسب ما يلائم إرادتهم الشهوانية البهيمية، وأعراضَهَم الدنيوية وتصوراتهم، الخاطئة الوبية، ولهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوصَ تابعة لها منقادة إليها، مهما أمكنهم فيحرفون لذلك الكلم عن مواضِعِه. وحينئذ معنى تغيرُّ الفتوى بتغير الأحوال والأزمان مرادُ العلماء منه: ما كان مُسْتَصْحَبة فيه الأصول الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جِنْسُها مرادٌ لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن أرباب القوانين الوضعية عن ذلك بمعزل، وأنهم لا يقولون إلا على ما يلائم مراداتِهم، كائنة ما كانت، والواقع أصدق شاهد.
الثالث: أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله، فهذا كالنوعين اللذين قبله، في كونه كافرا الكفر الناقل عن الملة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة لقوله عز وجل:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ونحوها من الآيات الكريمة، الدالة على تفرد الرب بالكمال، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين، في الذات والصفات والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه.
الرابع: أن لا يعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلاً لحكم الله ورسوله، فضلا عن أن يعتقد كونه أحسن منه، لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله، فهذا كالذي قبله يَصْدُقُ عليه ما يصدق عليه، لاعتقاده جواز ما علم بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة تحريمه.(/22)
الخامس: وهو أعظمُها وأشملُها وأظهرُها معاندةً للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعدادا وإمدادا وإرصاداً وتأصيلا، وتفريعا وتشكيلا وتنويعا وحكما وإلزاما، ومراجع ومستندات. فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستمدات، مرجعُها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلهذه المحاكم مراجع، هي: القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، كالقانون الأمريكي، كالقانون البريطاني، وغيرها من القوانين ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك. فهذه المحاكم في كثير من أمصار الإسلام مهيأةٌ مكملةٌ، مفتوحة الأبواب ،والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب، من أحكام ذلك القانون، تُلْزمُهُم به، وتقرهم عليه، وتحتِّمُه عليهم. فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة .وذِكْرُ أدلة جميع ما قدمنا على وجه البَسْط معلومة معروفة، لا يحتمل ذكرها هذا الموضع. فيا معشر العقلاء! ويا جماعات الأذكياء وأولى النهى! كيف ترضون أن تجري عليكم أحكام أمثالكم، وأفكار أشباهكم، أو من هم دونكم، ممن يجوز عليهم الخطأ، بل خطأهم أكثر من صوابهم بكثير، بل لا صواب في حكمهم إلا ما هو مستمد من حكم الله ورسوله، نصاً أو استنباطاً، تَدَعُونهم يحكمون في أنفسكم ودمائكم وأبشاركم، وأعراضكم وفي أهاليكم من أزواجكم وذراريكم، وفي أموالكم وسائر حقوقِكم ، ويتركون ويرفضون أن يحكموا فيكم بحكم الله ورسوله، الذي لا يتطرق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وخضوع الناس ورضوخهم لحكم ربهم خضوع ورضوخ لحكم من خلقهم تعالى ليعبدوه، فكما لا يسجد الخلق إلا لله، ولا يعبدون إلا إياه ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب أن لا يرضخوا ولا يخضعوا أو ينقادوا إلا لحكم الحكيم العليم الحميد، الرؤوف الرحيم، دون حكم المخلوق، الظلوم الجهول، الذي أهلكته الشكوك والشهوات والشبهات، واستولت على قلوبهم الغفلة والقسوة والظلمات. فيجب على العقلاء أن يربأوا بنفوسهم عنه ، لما فيه من الاستبعاد لهم، والتحكم فيهم بالأهواء والأغراض، والأغلاط والأخطاء، فضلاً عن كونه كفراً بنص قوله تعالى: ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ).
السادس: ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر، والقبائل من البوادي ونحوهم، من حكايات آبائهم وأجدادهم، وعاداتهم التي يسمونها (سلومهم)، يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به ويحصلون على التحاكم إليه عند النزاع، بقاءاَ على أحكام الجاهلية، وأعراضا ورغبة عن حكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وأما القسم الثاني: من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يُخْرِجُ من الملة فقد تقدم أن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عز وجل ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) قد شَمَلَ ذلك القسم، وذلك في قوله رضي الله عنه في الآية: ( كفر دون كفر) وقوله أيضا ( ليس بالكفر الذي تذهبون إليه ) إ.هـ. وذلك أن تَحْمِلَه شهوتُهُ وهَواه على الحكم في القضية، بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكمَ الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ، ومجانبة الهدى. وهذا وإن لم يخرجْه كفرُه عن الملةِ، فإنه معصيةٌ عظمى أكبرُ من الكبائر، كالزِّنا وشرب الخمر، والسرقةِ واليمين الغموس، وغيرها فإن معصيةً سماها الله في كتابه: كفراً، أعظمُ من معصيةٍ لم يسمِّها كُفْراً. نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكُم إلى كتابِهِ، انقياداً ورِضاءاً، إنه وليُّ ذلك والقادر عَلَيه إ.هـ.
صدق الله العظيم نداء إلى علماء المسلمين :
أيها العلماء: إن منزلتكم عند الله عظيمة، فقد رفع الله درجاتكم إلى أعلى درجات قال سبحانه: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ). (18) آل عمران
وقال سبحانه: ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ). (9) الزمر
وهذا تساؤل بمعنى النفي، أي لا يستوي أهل العلم مع غيرهم من الناس، وقد جاء في الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: ( فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورّثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ). رواه الترمذي.(/23)
فأنتم أيها العلماء من تقومون بما قام به النبي صلى الله عليه وسلم من دعوة الناس إلى توحيد الله سبحانه والتبرؤ من الشرك وأهله قال سبحانه: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ). (36) النحل
فهذا هو ميراث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ورثتموه عنه فلا تضيعوه فتكونوا كالذي قال الله سبحانه فيه: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ ). (177)الأعراف
أيها العلماء إن عليكم مسؤولية عظيمة هي بيان ما يجب أن يكون عليه المسلمون فلا تكتموا العلم فإن كتم العلم من أعظم الكبائر التي تدخل أصحابها نار جهنم والعياذ بالله قال سبحانه: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). (160) البقرة
وفي الحديث عن أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار ). أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم وصححه الحاكم وغيره.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل، من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة، والهدى النافع للقلوب، من بعد ما بينه اللّه تعالى لعباده، في كتبه التي أنزلها على رسله، وقد نزلت في أهل الكتاب كتموا صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وفي الحديث: (من سئل عن عِلْمٍ فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار) أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وروي عن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب اللّه ما حدَّثت أحداً شيئاً ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى) الآية. قال أبو العالية: ( ويلعنهم اللاعنون ) يعني تلعنهم الملائكة والمؤمنون، وقد جاء في الحديث: ( إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحِيتان في البحر)، وجاء في هذه الآية أن كاتم العلم يلعنه اللّه والملائكة والناس أجمعون. ثم استثنى اللّه تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال: ( إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا) أي رجعوا عمّا كانوا فيه، وأصلحوا أعمالهم، وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه ( فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)، أ هـ تفسير ابن كثير.
فكتم العلم من أكبر الذنوب التي يستحق عليها الناس لعنة الله سبحانه، خاصة إذا كان العلم متعلقاً بمسألة من مسائل العقيدة إذ غاية ما يريده الكافرون هو إخراج المسلمين عن دينهم الحق، وإدخالهم في ديانات باطلة ليكونوا معاً في حزب الشيطان، قال تعالى: ( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ). (109) البقرة
وقال سبحانه: ( وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ). (120) البقرة(/24)
قال ابن جرير: يعني بقوله جلّ ثناؤه: ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبداً، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم وأقبل على طلب رضا اللّه في دعائهم إلى ما بعثك اللّه به من الحق. وقوله تعالى: ( قل إن هدى الله هو الهدى) أي قل يا محمد إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى، يعني هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل ( ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) فيه تهديد شديد ووعيد للأمة في اتباع طرائق اليهود والنصارى، بعدما علموا من القرآن والسنّة - عياذاً باللّه من ذلك - فإن الخطاب مع الرسول والأمر لأمته، وقد استدل كثير من الفقهاء بقول: ( حتى تتبع ملتهم) حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة كقوله تعالى: ( لكم دينكم ولي دين)، فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفّار، وكلٌ منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا لأنهم كلهم ملة واحدة. أ هـ تفسير ابن كثير.
فالكافرون لا يريدون لهذه الأمة الخير، ولا يحبونه لها، بل هم يعملون جاهدين حتى يحولوا دون أن تحقق الأمة أي مصلحة تنتفع بها قال سبحانه: ( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ). (105) البقرة
فهم الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله قال سبحانه: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ). (36) الأنفال
إن الكافرين يبذلون كل قوة مستطاعة مادية ومعنوية ليصدوا المسلمين عن دينهم الحق حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، فهل نقع فيما وقعوا فيه فنصد عن سبيل الله عن علم وبينة؟
إن علماء الكفر والزندقة يعرفون الحق كما يعرف أحدهم ابنه ومع ذلك أعرضوا عنه اتباعاً لأهوائهم وشهواتهم قال سبحانه: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ). (146) البقرة
وقال سبحانه: ( آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ). (21)الأنعام
وقال سبحانه: ( كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ). (89) آل عمران
فبماذا يختلف عنهم علماء المسلمين إن هم كتموا الحق وعملوا ضده؟ حتماً سينالهم ما نال غيرهم من الذين كتموا العلم، أبرز ذلك اللعنة أعاذنا الله سبحانه منها.
صدق الله العظيم كلمة أخيرة لك أخي المسلم :
إن الله سبحانه خلقك لعبادته، ونهاك عن عبادة غيره، ولا يتحقق لك ذلك إلا بالإيمان الذي لا يتخلله شرك، ومن الشرك الذي يجب عليك أن تتبرأ منه وتظهر العداوة والبغضاء له شرك التحاكم إلى غير شرع الله سبحانه، فاعمل أخي حفظك الله تعالى على نشر التوحيد ونبذ الشرك بكافة أشكاله حتى تفوز الفوز العظيم، واعلم أن الجنة لا تنال إلا بالتضحيات العظيمة التي يدل عليها صدق المواقف قال سبحانه: ( الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ). (3) العنكبوت
وقال سبحانه: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ). (214) البقرة(/25)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: يقول تعالى: ( أم حسبتم أن تدخلو الجنة) قبل أن تُبتلوا وتُختبروا وتُمتحنوا، كما فُعل بالذين من قبلكم من الأمم ولهذا قال: ( ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء ) وهي الأمراض والأسقام والآلام، والمصائب والنوائب. قال ابن مسعود: ( البأساء) الفقر، ( الضراء) السقم، ( وزلزلوا) خُوِّفوا من الأعداء زلزالاً شديداً وامتُحنوا امتحاناً عظيماً، كما جاء في الحديث عن خباب بن الأرت قال: قلنا يا رسول اللّه ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا فقال: (إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه، لا يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دينه)، ثم قال: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون) رواه البخاري.
وقال تعالى: ( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضي اللّه تعالى عنهم في يوم الأحزاب، كما قال الله تعالى: ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدا ) ولما سأل هرقل أبا سفيان هل قاتلتموه قال: نعم، قال: فكيف كانت الحرب بينكم؟ قال: سجالاً يدال علينا وندال عليه، قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة.
وقوله تعالى: ( مثل الذين خلوا من قبلكم) أي سنتهم كما قال تعالى: ( فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين) وقوله: ( وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ) أي يستفتحون على أعدائهم ويدعون بقرب الفرج والمخرج عند ضيق الحال والشدة. قال الله تعالى: ( ألا إن نصر اللّه قريب)، كما قال: ( فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسرا) وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها ولهذا قال: ( ألا إن نصر الله قريب) .أهـ تفسير ابن كثير
النصر يحتاج إلى صبر وعزيمة وثبات ، ولكن لا بد أن يحقق المسلمون الصادقون ما سعوا إلى تحقيقه، فهذا وعد الله سبحانه لهم قال سبحانه: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ). (55) النور
وقال الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله: ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ). الآية، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين، يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له سرا وهم خائفون، لا يؤمرون بالقتال، حتى أُمِروا بعد بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح، فغيروا بذلك ما شاء الله. ثم إن رجلاً من أصحابه قال: يا رسول الله، أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا فيه السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لن تغبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيهم حديدة ). وأنزل الله هذه الآية، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله، عز وجل، قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا، فأدخل الله عليهم الخوف فاتخذوا الحجزة والشُرَط وغيروا، فغير بهم. أهـ تفسير ابن كثير.(/26)
يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ منكم ) أيها الناس، ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) يقول: وأطاعوا الله ورسوله فيما أمراه ونهياه ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ ) يقول: ليورثنهم الله أرض المشركين من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وساستها ( كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يقول: كما فعل منْ قبلهم ذلك ببني إسرائيل، إذ أهلك الجبابرة بالشأم، وجعلهم ملوكها وسكانها ( وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ) يقول: وليوطئنّ لهم دينهم، يعني: ملتهم التي ارتضاها لهم، فأمرهم بها. وقيل: وعد الله الذين آمنوا، ثم تلقى ذلك بجواب اليمين بقوله: ( ليستخلفنهم ) لأن الوعد قول يصلح فيه ( أن ) ، وجواب اليمين كقوله: وعدتك أن أكرمك، ووعدتك لأكرمنك. جامع البيان.
روى البخاري في صحيحه وأبو دواد وأحمد والطبري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يارسول الله؟ ألا تستنصر لنا ربك؟ قال: فجلس وكان متكئاً على برد له في ظل الكعبة وقال: ( كان ممن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيحفر له ويدفن إلى قامته، ويشق بمنشار الحديد فلقتين ويمشط ما بين لحمه وعظمه وعصبه بأمشاط الحديد ولا يثنيه ذلك عن دينه شيئاً والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون ).
فالنصر لا يكون إلا بعد الابتلاء والصبر، فمهما طال فساد القوم وغطرستهم سيأتي يوم يكون النصر فيه إن شاء الله للمؤمنين، فكن أحد العالمين لهذا الدين من الذين قال تعالى فيهم : ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) . (23) الأحزاب.
نفعني الله وإياك بهذه الرسالة الموجزة، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتب: إبراهيم بن عبد العزيز بركات
3 صفر 1426 هجري(/27)
عقيدتنا
فؤاد المنشاوي
هي فرحةٌ عمّتْ حنايا iiمهجتي
هي كوكبٌ يطوي الظلام بنوره
هي كل شيءٍ قائمٍ في iiذاتنا
وتعمق الإيمان وهو iiمعزر
عقيدتي iiعقيدتي
أذود عن iiحياضها
أموت في iiسبيلها
معززاً مكرماً
لا يستوي iiمجاهدٌ
لقبقبٍ iiوذبذبٍ
حياتنا iiعزيزةٌ
طريقنا iiمكارهٌ ... هي زهرةٌ في طيبها iiكالفلة
هي منبرٌ للسيف عند iiالحاجة
هي عزنا وملاذنا في المحنة
بالقوة العظمى وفيض iiالرحمة
أصونها iiبحربتي
والله في iiالمعيّة
مستشهداً يا iiفرحتي
ولاحقاً iiبإخوتي
وقاعدٌ في iiالغرفة
ولقلقٍ للشهوة
رخيصةٌ في iiالحلبة
لقاؤنا في الجنة(/1)
علاء الدين أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني
حلب عاصمة الثقافة الإسلامية
من شخصيات حلب التاريخية
ملك العلماء الإمام
علاء الدين أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني
المتوفى10 من رجب 587 = 9/8/1191
محمد زاهد أبوغدة
كانت حلب الشهباء خلال تاريخها المديد بلداً ينجب العلماء من أبنائه، وموئلاً للعلماء من أقطار العالم الإسلامي الذين قصدوه زواراً يطلبون العلم والمعرفة، أو للإقامة والاستيطان، يحلون على الرحب والسعة، فقد كان أهل حلب منذ القديم يكرمون الضيف ويحلونه مكانة أعز من أنفسهم، ويحبون العلماء ويحرصون على مجالسهم والاتصال بهم والانتفاع منهم بالعمل والتوجيه والقدوة، وكان علماء حلب يتمتعون بسمعة متميزة بين علماء المسلمين لدأبهم على الدراسة وتمكنهم من ناصية العلم ومتانة إنتاجهم العلمي، ولذا كانت حلب بحق من عواصم الثقافة الإسلامية العريقة في علمائها وشعرائها وكتابها وأدبائها، وتتبين عاصمية حلب جلياً في المؤلفات التي أرخت لحلب ولأعلامها مثل تاريخ حلب للصاحب العلامة كمال الدين أبي القاسم عمر بن أحمد الهواري العُقَيلي الحلبي، المعروف بابن العديم المتوفى سنة 660 ه = 1258، الذي استقيت منه معظم هذه السيرة، أو في كتب تاريخ العلماء التي رجعت إليها مثل الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية لعبد القادر بن محمد القرشي المتوفى سنة 775 ه = 1373 م، ومثل تاج التراجم في طبقات الحنفية لزين الدين قاسم بن قطلوبغا المتوفى 879 ه = 1474 م.
وسيرة الإمام الكاساني رحمه الله تعالى، العلامة والفقيه الكبير الذي عاش في القرن السادس الهجري أو الثاني عشر الميلادي من خير الأمثلة على مكانة حلب من الثقافة الإسلامية وكيف وردها العلماء وطلبة العلم من البلاد الإسلامية البعيدة والقريبة، فهذا الأمام الكبير ولد بكاسان وكانت أسرته تنتمي لدار الإمارة فيها، وكاسان تلفظ كما قال السمعاني في الأنساب بفتح الكاف والسين بينهما الألف والنون في آخرها، وقد يقال لها قاشان أحياناً، وهي بلدة حدد جغرافيو المسلمين موقعها بوراء الشاش أو وراء النهر من بلاد الترك، ووصفوها بأنها قلعة حصينة، وهي اليوم مدينة قازان Kazan في جنوبي شرق أوزبكستان، ولا تبعد كثيراً عن مدينة بخارى التي تقع في شمالها الشرقي والتي أقام بها عالمنا واشتغل فيها بطلب بالعلم على شيخه الإمام علاء الدين محمد بن أبي أحمد السمرقندي، وقرأ عليه معظم تصانيفه مثل: التحفة في الفقه الحنفي، وشرح التأويلات في تفسير القرآن العظيم، وغيرهما من كتب الأصول، وسمع منه الحديث، ومن غيره وبرع في علمي الأصول والفروع، وزوّجه شيخه السمرقندي بابنته فاطمة الفقيهة العالمة، وقيل إن سبب تزويجه بابنة شيخه أنها كانت من حسان النساء وتفقهت على أبيها وحفظت كتاب التحفة الذي ألفه والدها، وطلب الزواج بها جماعة من ملوك بلاد الروم فامتنع والدها، ولما جاء الكاساني ولزم والدها ودرس على يديه وبرع في علم الأصول والفروع وصنف كتاب البدائع في شرح كتاب شيخه "التحفة"، وعرضه على شيخه فازداد فرحا به وزوجه ابنته وجعل مهرها منه ذلك، فقال الفقهاء في عصره: شرح تحفته وزوجه ابنته، وكان زوجها الكاساني ربما يعرض له شيء من الوهم في الفتيا فترده إلى الصواب وتعرفه وجه الخطأ فيرجع إلى قولها، وكانت تفتي وكان زوجها يحترمها ويكرمها وكانت الفتوى أولا يخرج عليها خطها وخط أبيها فلما تزوجت الكاساني صارت الفتوى تخرج وعليها خط الثلاثة خطها وخط والدها وخط زوجها.
وتقول كتب التاريخ أنه بعد أن أصبح عالماً يشار إليه بالبنان غادر بخارى مع زوجته إلى "بلاد الروم" وهو اللفظ الذي يطلقه مؤرخو الحقبة المسلمون على مملكة السلاجقة التي بسطت نفوذها على جزء كبير مما يعرف اليوم بتركيا، ويمت ملوكها بوشائج القربى لقبائل وسط شرق آسيا، وكان ملكها السلطان مسعود بن قليج أرسلان السلجوقي وعاصمته قونية، وكانت بينه وبين نور الدين زنكي في حلب علاقات وثيقة وتعاون مضطرد لطرد الصليبيين من هذه البقاع، ولقي الكاساني من لدنه كل احترام وتقدير لا سيما وهو سليل الإمارة ولا تزال لديه كما يقول ابن العديم نخوة الإمارة وعزة النفس وكان ـ خلافاً لعادة الفقهاء في ذلك الوقت ـ يركب الحصان إلى أن مات، وله رمح يصحبه في الحضر والسفر.(/1)
وكان الكاساني متمكناً من علمه معتداً بنفسه وفي أوج شبابه، وقد جرت بينه وبين فقيه من كبار فقهاء الدولة السلجوقية يعرف بالشعراني مناظرة في مسألة المجتهدين هل هما مصيبان أم أحدهما مخطئ، فقال الشعراني: المنقول عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن كل مجتهد مصيب، فقال الكاساني: لا بل الصحيح عن أبي حنيفة: إن المجتهدين مصيب ومخطئ، والحق في جهة واحدة، وهذا الذي تقوله مذهب المعتزلة، واشتد بينهما الكلام في ذلك، وانتهت إلى أن احتد الكاساني ورفع عصاه فأشار بها إلى ذلك الفقيه، وقد وصل خبر ما حدث إلى السلطان مسعود فانزعج من هذا التصرف المخالف للعادة والعرف في احترام قواعد المناظرة مع فقيه من فقهاء دولته وفي سلطانه، لكنه مع ذلك لم يقل للكاساني ما يكرهه تقديراً لغزارة علمه وتمكنه، ولكن الملك قال لوزيره: لقد افتأت الكاساني على الرجل فاصرفه عنا، فقال الوزير: هذا شيخ جليل وله حرمة ولا ينبغي أن يصرف بل ننفذه رسولا إلى نور الدين محمود بن زنكي ونتخلص منه بهذا الطريق، فأرسله بعد فترة رسولاً إلى نور الدين محمود بن زنكي الشهيد في حلب
وكان نور الدين يبحث عن عالم ليوليه أمر المدرسة الحلاوية، وكان قد ولاها من قبل الإمام رضي الدين محمد بن محمد السرخسي صاحب كتاب المحيط الرضوي في الفقه والذي بلغ أربعين مجلداً عندما جاء إلى حلب، وكان السرخسي إماماً جليلاً كما تشهد تآليفه، ولكن كانت في لسانه لكنة، فتعصب عليه جماعة من الفقهاء الحنفية بحلب، وصغروا أمره عند نور الدين إلى أن عزله عن التدريس بها فتوجه إلى دمشق، وكتب نور الدين إلى تاج الشريعة عالي بن إبراهيم بن إسماعيل الغزنوي وكان بالموصل ليقدم حلب ويتولى تدريس المدرسة.
ونقف هنا لنتأمل كيف اجتذبت عاصمة الثقافة الإسلامية في هذه الحقبة عالماً من كاسان في أوزبكستان كان في قونية، وعالماً من مدينة سرخس في شمالي شرقي إيران اليوم قرب حدود تركمانستان، وعالماً من غزنة في شرقي أفغانستان كان في الموصل، وهذا كله أنموذج بسيط للتبادل العلمي والثقافي الذي نعمت به مدينة حلب في تاريخها العريق، والذي يعرفه تمام المعرفة من قرأ التاريخ واستوعب دروسه.
ولما وصل الكاساني رسولا من السلطان مسعود إلى نور الدين لقي في نفسه قبولاً واحترمه وأكرمه، أعجب فقهاء حلب بالكاساني وسعة علمه، واجتمع فقهاء المدرسة الحلاوية وطلبوا من نور الدين أن يوليه التدريس بالمدرسة، فعرض نور الدين عليه ذلك، فدخل المدرسة ورآها فأعجبته وأجاب نور الدين إلى ما عرضه عليه، ولكن الشيخ قال لنور الدين الشهيد: هذه الرسالة أمانة معي فإذا أعدت الجواب إليهم عدت بعد ذلك، وقدمت حلب، وصدر أمر نور الدين بتعيين الكاساني في المدرسة، وبسطت له سجادة التدريس بالمدرسة وكانت تبسط كل يوم وهو غائب ويجتمع الفقهاء حولها في لفتة رمزية تعبر عن الحب والتقدير، وعاد الكاساني بجواب الرسالة إلى السلطان السلجوقي، ولكن ليس قبل أن يحضه نقيب الأشراف فيها الشريف أبو طالب أحمد بن محمد على سرعة العودة إلى حلب.
وعندما عاد الكاساني إلى حلب واقترب منها وصل الخبر بوصوله إليها فخرجت جماعة عظيمة من الفقهاء إلى لقائه إلى باب بزاعا (أي مدينة الباب)، ويبدو أن استقبال القادم خارج المدينة عادة حلبية عريقة، ويروي خليفة بن سليمان أحد مشايخ حلب قصة وصول الكاساني وكيف تضافرت جهود العلماء ليسبق الغزنوي ويحل بالمدرسة الحلاوية فيقول: كنت إذ ذاك صبيا صغيرا، فخرجت مع والدي فيمن خرج، فعهدي بالشيخ الكاساني والفقهاء مجتمعون حوله، وأقام ذلك اليوم بباب بزاعا على عزم الدخول صبيحة تلك الليلة، فجاءه في أثناء النهار رجل من الفقهاء وقال له: عبر ها هنا رجل شيخ فقيه ومعه جماعة من الفقهاء، وقالوا: هذا عالي الغزنوي وقد جاء إلى حلب لأخذ المدرسة، فقال النجيب محمد بن سعد الله بن الوزان وجماعة غيره من الفقهاء للكاساني: المصلحة أن نقوم وندخل إلى حلب، فقام وسار فوصل حلب بكرة، وكان عالي قد وصلها عصر اليوم السابق، ونزل بالحجرة، فوصل الكاساني ودخل المدرسة والفقهاء حوله، فأرسل الفقهاء إلى عالي وقالوا له: تقوم وتخرج لأجل الشيخ، فامتنع فأعادوا له القول ثانيا، وقالوا: المصلحة أنك تخرج بحرمتك وإلا يدخل من يخرجك قسراً بغير اختيارك، فلما رأى الجد في ذلك خرج من الحجرة ومضى إلى حجرة صغيرة كانت في جانب المدرسة فنزلها. جرى كل هذا ونور الدين إذ ذاك غائب عن حلب فكوتب في ذلك فولى الكاساني المدرسة الحلاوية، وولى عالي الغزنوي مدرسة الحدادين في دمشق.
أكرم نور الدين الشهيد الإمام الكاساني وولاه التدريس بالمدرسة الحلاوية المعروفة بمسجد السراجين، وفوض إليه نظرها، وزاوية الحديث بالشرقية بالمسجد الجامع، فحدث بالزاوية المذكورة عند خزانة الكتب، ودرس بالمدرسة الحلاوية وبالجاولية.(/2)
كان الكاساني حريصاً على تعليم العلم ونفع الطلبة، وكان فقيهاً عالماً صحيح الاعتقاد، كثير الذم للمعتزلة وأهل البدع يصرح بشتمهم ولعنهم في دروسه، وصنف كتباً في الفقه والأصول منها كتابه في الفقه الحنفي الذي وسمه ببدائع الصنائع في ترتيب الشرائع رتبه أحسن ترتيب وأوضح مشكلاته بذكر الدلائل في جميع المسائل، ومنها كتابه الذي وسمه بالسلطان المبين في أصول الدين وكان مواظباً على ذكر الدرس ونشر العلم، وكان الكاساني مريضاً بالتهاب المفاصل (النقرس) وكثيراً ما يعرض له ألم النقرس في رجليه والمفاصل، فكان يحمل في محفة من منزله بالمدرسة، ويخرج إلى الفقهاء بالمدرسة ويقدم درسه ولا تمنعه آلامه من أداء واجبه التعليمي والتربوي، فما يذكر عنه أنه أخل بدرسه.
وكعادة علماء ذلك الزمان كان الكاساني يقرض الشعر، وقد وجدت هذه الأبيات له على ظهر نسخة من كتاب البدائع مؤرخة بمنتصف شوال سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة:
سبقنا العالمين إلى المعالي بصائب فكرة وعلو همّه
ولاح لحكمتي نور الهدى في ليال بالضلالة مدلهمّه
يريد الحاسدون ليطفئوه ويأبى الله إلا أن يتمَّه
بقي الكاساني في حلب سنوات مديدة فقد قدمها وهو قوي البنية متماسك الجسم وتوفي فيها وقد أقعده المرض، يقول عنه النقيب السديد داود بن علي البصراوي: كان الشيخ علاء الدين الكاساني لا يركب إلا الحصان ويقول: لا يركب الفحل إلا الفحل، وكان له رمح لا يفارقه وكان شجاعاً، وكان لا يأكل عمره إلا اللحم المطبوخ بالماء والحمص رحمه الله. وكان هذا مستغرباً من الشيخ العلامة لأن المتعارف عليه آنذاك أن يركب الفقهاء البغال أو الحمير تواضعاً، وكانت الخيول من مركوب الأمراء والجنود.
تمتع الكاساني بحب نور الدين الشهيد وتقديره فقد ذكر الراوي أن الإمام الكاساني كان أقعد من رجليه لنقرس عرض له فيها، فنزل إليه نور الدين ودخل إليه يعوده، فتحرك علاء الدين الكاساني له فظن نور الدين أنه يحاول القيام له، فقال له بالفارسية: بنشي بنشي أي اقعد لا تقم، فقال له: يا مولانا بنشي من الله، أي أن هذه الحركة بسبب المرض والحاجة للتقلب.
ولم تزل حرمة الكاساني تعظم وتزيد، ويرتفع أمره عند نور الدين ومن بعده من الملوك وكان يلزم المدرسة فلا يغادرها إن شعر بتغير في قلب السلطان عليه، ويذكر الصفدي في الوافي بالوفيات أنه لما اشتد مرض الملك الناصر اسماعيل بن محمود بن زنكي وصف له الأطباء شرب الخمر للتداوي، فاستفتى علاء الدين الكاساني وأفتاه بجواز شربها، فسأله الملك الناصر: إن كان الله قد قرب أجلي أيؤخره شرب الخمر؟ فقال: لا والله! فقال: والله لا لقيت الله تعالى وقد استعملت ما حرمه علي! ومات رحمه الله عن تسع عشرة سنة ولم يشربها.
واستمر احترام وتقدير الإمام الكاساني في أيام الملك الظاهر إلى أن مات، ويروي النقيب داود البصراوي أن الكاساني كان: يصعد إلى قلعة حلب راكباً وينزل حيث ينزل الملك الظاهر، فاتفق أن صعد يوماً والفقهاء بأجمعهم بين يديه، فلما وصل إلى باب القلعة قام البواب وقال: يدخل الشيخ، ويرجع الفقهاء، فلوى الشيخ عنان حصانه وقال: يرجع الشيخ أيضاً، فبلغ الملك الظاهر، فأرسل في الحال من أدخل الشيخ والفقهاء معه إلى أن نزل الشيخ حيث ينزل، ودخل الشيخ والفقهاء معه إلى مجلسه، وبقي الوفاء والتقدير للكاساني حتى بعد وفاته رحمه الله حيث تولى الملك الظاهر تربية ولده الوحيد وأسكنه القلعة، واجتهد في إشغاله بالفقه فلم يفلح في السير على خطى والديه.
كان الإمام الكاساني من العلماء الذين جمعوا بين الحديث والفقه والتفسير، ولا عجب في ذلك في ذلك فبلاد وراء النهر كانت مجمع المحدثين وعلماء الحديث، وكان في تدريسه يبتغي وجه الله عز وجل وهداية الناس إلى الخير وما فيه صلاح دينهم ودنياهم، فقد ذكر الشريف أبو عبد الله محمد بن عمر البخاري الأصل الحلبي المولد والمربى، والشيخ نظام الدين محمد بن عتيق الديباجي الحنفي: قال الشيخ الإمام علاء الدين أبو بكر الكاساني في أول درسه عن العقيدة الصحيحة: لا شيء أرضى عند الله تعالى من هداية العباد إلى سبيل الرشاد، والإبانة لهم عن المرضي من الاعتقاد، وهو اعتقاد السنة والجماعة إذ به ينال خير الدارين وسعادة المحلين، فمن تمسك به فقد اتبع الهدى، ومن حاد عنه فقد ضل وغوى.(/3)
وكان الكاساني حاضر الحجة قوياً في المناظرة، يذكر شمس الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن الخضر أن علاء الدين الكاساني قدم إلى دمشق فحضر إليه الفقهاء وسألوه عن فتاويه التي ظنوا أنها بخلاف المذهب الحنفي الذي ينتمي إليه، وهو أمر كان مستهجناً في ذلك العصر، فنفى الكاساني ذلك وقال: لم أقل مسألة خالفت فيها المذهب الحنفي، فاذكروا ما تدعون أني خالفت فيه المذهب، قال: فأوردوا مسائل كثيرة أفتى بها الكاساني، فجعل يقول: ذهب إليها من أصحابنا فلان، فلم يزل كذلك حتى أنهم لم يجدوا مسألة إلا وقد ذهب إليها واحد من أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه، فانفض المجلس.
ومن أهم مؤلفات الإمام الكاساني كتابه العظيم في الفقه (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع) والذي يتميز باللغة السهلة الفهم وإيراد الشواهد الحديثية لما يورده من الأحكام الفقهية، وقد صدرت طبعته الأولى في سبع مجلدات كبار في القاهرة قبل مائة عام في عام 1327 هجرية بعناية اثنين من رجالات حلب من آل الجابري كانت مخطوطة الكتاب لدى أحدهما وهما "سعادة محمد أسعد باشا جابري زاده" صاحب المكتبة القيمة وفضيلة الحاج مراد أفندي جابري زاده ابن الحاج عبد القادر بن مراد الجابري الحلبي المشهور بحاجي أفندي، وقد قال عنه الأستاذ الشيخ راغب الطباخ: كان من فضلاء هذه الأسرة، وكان يحب اقتناء الكتب، فجمع لنفسه خزانة نفيسة فيها المطبوع، ووقف مكتبته عند ولده الحاج مراد أفندي إلى سنة 1343هـ، فسَعيْتُ في نقلها إلى المدرسة الشرفية في منتصف جمادى الأول سنة 1345هـ وهي ستمائة مجلد، ومن جملة نفائسها كتاب "بدائع الصنائع" في الفقه الحنفي الذي سعى ولده الحاج مراد ومحمد أسعد باشا الجابري في طبعه في مصر في سبع مجلدات "بتحسين بعض أهل العلم والفضل". ولعله الشيخ راغب الطباخ رحمة الله على الجميع. وقد حاز إعجاب الفقهاء من قبل ومن بعد، ذكر ابن العديم في تاريخه أن الفقيه شمس الدين الخسروشاهي بالقاهرة قال له: لأصحابكم الأحناف في الفقه كتاب البدائع للكاساني وقفت عليه، ما صنف أحد من المصنفين من الحنفية ولا من الشافعية مثله، وجعل يعظمه تعظيماً، ثم قال: ورأيته عند الملك الناصر داود صاحب الكرك أهداه إليه بعض الفقهاء الحنفية، فعجبت ممن يكون عنده مثل ذلك الكتاب ويسمح بإخراجه من ملكه.
والكتاب في أصله شرح لكتاب تحفة الفقهاء الذي ألفه أستاذه علاء الدين السمرقندي المتوفى سنة 539، وهو والد زوجته فاطمة الفقيهة العالمة التي ذكرنا سبب زواجه منها، وكانت في أول قدومهما إلى حلب تحث الكاساني على مغادرتها والعود إلى بلادها، فلما علم الملك العادل نور الدين الشهيد برغبة الشيخ في المغادرة استدعاه وسأله عن جلية الأمر وأبدى له رغبته ورغبة العلماء أن يقيم بحلب، فعرفه السبب وأنه لا يقدر أن يخالف زوجته وابنة شيخه، فأرسل الملك رسالة إليها مع امرأة يرجوها البقاء بحلب فأجابته إلى ذلك وأقامت بحلب إلى أن توفيت رحمها الله تعالى قبل وفاة زوجها بست سنين في عام 581 ودفنت في مسجد إبراهيم الخليل ولم يقطع الكاساني زيارة قبرها كل ليلة جمعة إلى أن مات رحمه الله.
وقد بدأت هذه العالمة الجليلة والسيدة الفاضلة سنة حسنة بأن جعلت للفقهاء إفطاراً في رمضان بالمدرسة الحلاوية فقد ذكر داود بن علي أحد فقهاء الحلاوية بحلب إنها هي التي سنت الفطر في رمضان للفقهاء بالحلاوية، وأنه كان في يديها سواران فأخرجتهما وباعتهما وعملت بالثمن الفطور كل ليلة واستمر الأمر على ذلك.(/4)
انتفع بعلم الإمام الكاساني أثناء وجوده في حلب علماء كثيرون من أبناء حلب ومن قاصديها من البلاد الإسلامية ذكرت كتب التاريخ بعضهم، فمنهم أحمد بن محمود الغزنوي ـ نسبة إلى غزنة في أفغانستان ـ الذي كان معيد درس الإمام الكاساني، ثم أصبح أستاذاً وانتفع به جماعة من الفقهاء وتفقهوا به، وصنف في الفقه والأصول كتبا حسنة مفيدة منها، توفي بحلب بعد سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة ودفن بمقابر الفقهاء الحنفية أمام مقام إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام رحمهم الله، ومنهم خليفة بن سليمان بن الخوارزمي الأصل الحلبي الدار والمولد الذي ولد بحلب سنة ست وستين وخمسمائة، وقرأ الفقه بحلب على الإمام الكاساني، ثم رحل إلى بلاد العجم وتفقه بها، ثم عاد إلى حلب وتوفي بها في ثالث عشرين شوال سنة ثمان وثلاثين وستمائة، ودفن بجبانة مقام إبراهيم الخليل صلى الله عليه وآله وسلم خارج باب العراق، ومنهم محمد بن أحمد الموصلي الحلبي الذي ولد سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة بالموصل، ودرس الفقه على مذهب أبي حنيفة بحلب على الإمام الكاساني، ومات بحلب سنة اثنتين وعشرين وستمائة، ومنهم محمد بن سعيد الحلبي المعروف بابن الركابي، ولد سنة إحدى وستين وخمسمائة، تفقه بحلب على الكاساني وعلى الإمام علي الهاشمي، وكان فقيهاً أديباً صاهره الشيخ أبو حفص بن قسام واستنابه في التدريس بالمدرسة الجردكية التي أسسها الأمير عز الدين جرديك، ومات بحلب في شوال سنة سبع عشرة وستمائة، ومنهم محمد بن يوسف بن الخضر الحلبي ويعرف بقاضي العسكر، ولد في صفر سنة ستين وخمسمائة بحلب ونشأ بها وتفقه على والده يوسف وعلى العلامة الكاساني، ثم صار بدوره أستاذاً تفقه عليه الصاحب كمال الدين ابن العديم مؤرخ حلب، ومات في رمضان سنة أربع عشرة وستمائة بحلب رحمه الله تعالى، ومنهم شمس الدين نجا بن سعد الذي تفقه بحلب على الإمام الكاساني ودرس بمدرسة بصرى وكتب بخطه نسخة البدائع من خط شيخه بيضها في سبع مجلدات وهي وقف بالمدرسة الإشبيلية.
توفي الإمام علاء الدين الكاساني بعد ظهر يوم الأحد عاشر رجب سنة سبع وثمانين وخمسمائة، وذكر ضياء الدين محمد بن خميس الوكيل المعروف بابن المغربي أنه حضر الشيخ علاء الدين الكاساني عند موته، فشرع في قراءة سورة إبراهيم عليه السلام حتى انتهى إلى قوله تعالى: "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة" فخرجت روحه عند فراغه من قوله: "في الآخرة".
دفن رحمه الله في مقبرة يبدو أنها كانت مخصصة للحنفية، داخل مقام إبراهيم عليه السلام ظاهر حلب في قبة من شماليه إلى جانب زوجه فاطمة بنت علاء الدين السمرقندي ويقول ابن العديم: وزرت قبريهما في هذه القبة المذكورة غير مرة رحمهما الله تعالى، ويقول الأستاذ الشيخ راغب الطباخ في ترجمته: وقبره في حجرة عن يمين الداخل إلى مقام إبراهيم الخليل ومحرر على بابها:
بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بعمارته مولانا الملك
الظاهر غياث الدنيا والدين أبو الفتح غازي
ابن الملك الناصر خلد الله ملكه في سنة أربع وتسعين وألف.
رحم الله الكاساني وزوجه، ورحم علماء المسلمين الأخيار، ورعا الله حلب وعلماءها وأهلها وأدامها عاصمة للثقافة الإسلامية في كل حي(/5)
علاج الأرق بين الطب والدين
الدكتور حسان شمسي باشا
الأرق هو عدم القدرة على الدخول في النوم .. أو عدم القدرة على أن ننام المدة التي نعتقد أنه ينبغي أن ننامها . أو حدوث تقطع متكرر في النوم أثناء الليل .
الأرق ظاهرة شائعة جدا في أوروبا وأمريكا ، وقد كتبت عنها الكتب والمقالات ، يقول الدكتور إيفريث في مقال نشرته مجلة American Journal of Medicine : إن مشكلة الأرق هي من أكثر الشكايات شيوعا في عيادات الأطباء في أمريكا .. فثلث الناس يشكو من إحدى مشاكل النوم ولهذا تجد المنومات والمركنات من أكثر الأدوية استعمالا بين الناس هناك .
وحول انتشار استعمال المنومات في أمريكا كتب البروفيسور ديلي في المجلة الطبية Primary Care يقول:
إن نسبة المصابين بأرق شديد في أمريكا تزداد من 9 % عند الشباب إلى أكثر من 35 % عند المسنين .
ويكاد المرء يصاب بالذهول حينما يقرأ ما يقول البروفيسور ديلي في نفس المقال . " يجب عدم الإقلال من أهمية مشاكل النوم في الولايات المتحدة ، فإن 40 % من كل البالغين في أمريكا يستعملون المنومات بانتظام وإن المسنين هناك يستعملون 40 % من الحبوب المنومة !!
ما هي أسباب الأرق ؟
1. القلق والضغوط النفسية : وهو أكثر أسباب الأرق شيوعا .. وكما يقول كتاب Manual of Fitness طبعة 1990 : ربما يكون الضغط النفسي وما ينجم عنه من قلق أهم وأعظم أسباب الأرق على الإطلاق ، فالضغوط النفسية لا تؤدي إلى الأرق فحسب ، بل إن الأرق يزيد من الضغط النفسي ذاته بسبب القلق والمخاوف حول ما إذا كان الشخص الأرق قد نال من النوم ما يكفيه لمواجهة مشاكل الحياة في اليوم التالي أم لا .. وبذلك يدخل المرء في حلقة مفرغة .
وللقلق أسباب : قلق سببه أخبار سيئة سمعها الإنسان في نهاره . أو قد يكون سببه فقر .. يفكر المرء في لقمة عيشه . أو سببه غنى .. يفكر الفتى بمشاريعه وأشغاله . أو سببه مشاكل الزواج .. أو عدم القدرة على الزواج.. أو سببه هموم الحياة بما فيها من أفراح وأتراح .. ولكن الإنسان المؤمن يدرك معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله .. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك .. ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك .. " رواه الترمذي .
فيشعر المؤمن بالسعادة والطمأنينة ، ويسلم أموره لخالق السماء والأرض . وليذكر الإنسان قبل نومه فضل الله تعالى عليه في يومه ، وليحمد الله تعالى كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مأوى " أخرجه مسلم .
وما أجمل الكلمة التي كان يرددها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى مضجعه ( اللهم إني أسلمت نفسي إليك ، ووجهت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك .. ( رواه الشيخان ) . يقول ابن القيم رحمه الله : " وتعويض الأمر إليه رده غلى الله سبحانه ، وذلك يوجب سكون القلب وطمأنينته ، والرضى بما يقضيه ويختاره له مما يحبه ويرضاه .. والتفويض من أشرف مقامات العبودية .. وإلجاء الظهر إليه سبحانه يتضمن قوة الاعتماد عليه ، والثقة به والسكون إليه، والتوكل عليه فإن من أسند ظهره إلى ركن وثيق لم يخف السقوط .
2. والسبب الثاني للأرق مرض في الجسم كتلك التي تسبب آلاما في الظهر أو المفاصل أو البطن أو الصداع أو الحرارة و علاج الأرق في هذه الحالة يكون في علاج المرض الأساسي . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تداووا عباد الله ، فإن الله لم يضع داء غلا وضع له دواء ، غير داء واحد الهرم " .
3. تناول وجبة ثقيلة قبل النوم : ويؤدي ذلك إلى عسر الهضم الذي يسبب الأرق ، وقد يتناول المرء حينئذ مزيدا من السوائل أو الطعام ليشغل نفسه ، فيزداد أرقا . يقول بيار فلوشير : إن ثلث البشر يموتون باكرا لأنهم لا يملكون ما يكفي من الطعام وإن ثلثا آخر من البشر ( ويقصد أبناء الغرب ، ولكن ذلك ينطبق على كل من يعيش حياتهم ولا يطبق السنن الإسلامية في الطعام ) يموتون باكرا لأنهم يأكلون فوق اللزوم . ولكن حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإفراط في الطعام والتخمة . فعن ابن عمر رضي الله عنه قال : تجشأ رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " كف عنا جشاءك ، فإن أكثرهم شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة " . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليؤتين يوم القيامة بالعظيم ، الطويل ، الأكول الشروب ، فلا يزيد عند الله جناح بعوضة .(/1)
4. التدخين : من المعروف أن النيكوتين الموجود في التبغ مادة مثيرة للدماغ ، يمكن أن تسبب الأرق . وقد أفتى كثير من العلماء بتحريم التدخين لما فيه من ضرر بالغ للجسم ، وما يسببه من جلطة في القلب ، أو سرطان في الرئة ، أو التهاب مزمن في القصبات .. الخ
5. المسكرات والمخدرات : ليس هناك أدنى شك في أن تناول الخمر يسبب اضطرابا شديدا في النوم ، فالنوم مليء بالكوابيس والأحلام المزعجة التي توقظ شارب الخمر من حين إلى آخر ومدمن المخدرات في وضع أشد سوءا من شارب الخمر .
6. تناول القهوة أو الشاي قبل وقت قصير من النوم .
من المعروف أن تناول القهوة أو الشاي بعد الساعة السابعة مساء قد يسبب الأرق عند الكثيرين . يقول الدكتور رجستين في مجال نشر في مجلة American Journal of Medicine : إن مفعول الكافئين في القهوة أو الشاي يستمر لمدة 12 – 20 ساعة ، وأن تناول فنجانين من قهوة نسكافية مثلا ( يحتويان على 150 – 200 ملغ من الكافئين ) قبل النوم يؤدي غلى اضطراب شديد في النوم .
7. الضجيج : فبعض الناس لا يستطيع النوم بسبب ما حوله من ضجيج .
8. الطيران البعيد والعمل في الليل : ويحدث ذلك عند الطيارين والممرضات والعاملين في فترات متغيرة من اليوم
9. الأدوية المنومة : يؤدي استعمال الأدوية المنومة غلى اضطراب في نوعية الدم وقد تسبب نعاسا أثناء النهار .
10. عدم القيام بجهد جسماني : فيكثر الأرق عند الذين يعملون في المكاتب أو الذين لا يبذلون جهدا جسديا كبيرا ، وقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمشي إلى المساجد فقال : " من تظهر في بيته ، ثم مضى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته ، إحداهما تحظ خطيئة ، والأخرى ترفع درجة .
الوصايا العشر للمصابين بالأرق :
ينصح كتاب Family Medical Reference Book طبعة 1990 المصابين بالأرق باتباع الإرشادات التالية :
1. قم ببعض الجهد ( كالمشي مثلا ) خلال النهار ، بشكل تشعر فيه بالتعب في وقت النوم ، ويمكن المشي لفترة طويلة قبل النوم أن يساعد على النوم .
2. تجنب القهوة والشاي في المساء ، واشرب بعض الحليب الساخن ، فالحليب يحتوي على مادة تساعد على النوم
3. لا تأخذ وجبة العشاء في وقت متأخر من الليل ، وحاول أن تأكل قبل ثلاث ساعات على الأقل من موعد النوم . وتجنب الأطعمة الدسمة التي تحتاج إلى وقت أطول للهضم .
4. حاول أن تأخذ " حماما " بدلا من " الدوش " فالاستلقاء في ماء فاتر يرخي العضلات ويزيل التوتر .
5. اقرأ شيئا يسيرا وخفيفا قبل النوم .
6. اتبع نظاما معينا للنوم وانهض باكرا في الصباح .
7. لا تسرف في تبريد أو تدفئة نفسك في الليل.. واجعل حرارة الغرفة حرارة مقبولة .
8. إذا استيقظت في الليل فحاول أن تقرأ شيئا ما .
9. لا تدخن قبل النوم .
10. لا يأخذنك الرعب والقلق إن لم تن بسرعة ، بل حاول الاسترخاء ما استطعت .
العسل .. والأرق :
يقول الدكتور أولدفيلد في كتاب Honey For Health إنني أداوي الأرق عند المسنين بالوصفة التالية : كأس ماء فاتر تذاب فيه ملعقة كبيرة من العسل .
ويقول الدكتور تساندر : " ليست هناك مادة مهيئة لنوم طبيعي ، أكثر من محلول عسلي مائي ساخن " .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالشفاءين : العسل والقرآن " .
ما يقوله المسلم إلى أصابه الأرق :
هناك من ينصح بالعد ( كأن يقول : واحد .. اثنين .. واحد .. اثنين ) ويكرر ذلك باستمرار ، ولمثل هؤلاء نقول : إن في ذكر الله ما يغني عن هذا وذاك .. والمسلم يعلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول : أنا الملك ، أنا الملك ، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له ؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه ؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له ؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر " رواه مسلم .
وروى ابن السني عن محمد بن يحي : " أن خالدا بن الوليد رضي الله عنه أصابه أرق ، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يتعوذ عند منامه بكلمات الله التامات من غضبه ، ومن شر عباده ، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون " .
وروى الترمذي عن بريدة رضي الله عنه قال : شكا خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله . ما أنام الليل من الأرق . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أويت إلى فراشك فقل :
اللهم رب السماوات السبع وما أظلت ، ورب الأرضين وما أقلت ، ورب الشياطين وما أضلت ، كن لي جارا من شر خلقك كلهم جميعا أن يفرط علي أحد منهم أو أن يبغى علي . عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك ولا إله إلا أنت "
المنومات والمهدئات :
ينبغي محاولة الابتعاد ما أمكن عن المنومات والمهدئات .. فيقول كتاب British National Formulary ( وهو أوثق مرجع دوائي في بريطانيا ) يجب ألا توصف المهدئات والمركنات والمنومات بشكل عشوائي ، بل ينبغي أن توصف لفترة قصيرة في تهدئة حالة المريض .(/2)
من شاء التوسع فليراجع كتابنا : " النوم والأرق والأحلام : بين الطب والقرآن " وهو من منشورات دار المنارة بجدة(/3)
علاج الهموم 1
إن من طبيعة الحياة الدنيا، الهموم و الغموم التي تصيب الانسان فيها ، فهي دار الأدواء و الشدة و الضنك....
و هذه هي طبيعة الحياة الدنيا المعاناة و المقاساة التي يواجهها الانسان في ظروفه المختلفة و أحواله المتنوعة ...
لهذا كان مما تميزت الجنة به عن الدنيا أنه ليس فيها هم و لا غم ”لا يمسهم فيها نصب و ما هم منها بمخرجين ...“
فاليكم اخوتي في الله بعض الطرق لعلاج هذه الهموم ..
و نتمنى من الله أن يبعد عناا لهموم و ان يغفر لنا و يثبت قلوبنا على دينه و أن يرزقنا الجنة فانه على كل شيء قدير .....
• ... التسلح بالايمان المقرون بالعمل الصالح:
” من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم
بأحسن ما كانوا يعملون“.
و يقول رسولنا الكريم“عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير و ليس ذاك لأحد الا للمؤمن
ان اصابته سراء شكر و ان أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ”.
• ... النظر لفوائد الابتلاء:
قال رسول الله“ما يصيب المسلم من نصب و لا وصب و لا هم و لا حزن و لا أذى و لا غم
حتى الشوكة يشاكها الا كفر الله بها من خطاياه“.
و قال رسول الله“إن الله إذا أراد بعبد خيراً عجل له العقوبة في الدنيا ، و إذا أراد بعبد
شراً أمسك عنه حتى يوافى القيامة بذنبه“.
• ... معرفة حقيقة الدنيا :
المؤمن يعلم أن الدنيا فانية، و متاعها قليل ... ان أضحكت قليلا أبكت طويلا و ان أعطت يسيراً منعت كثيراً و المؤمن فيها محبوس كما قال رسول الله“الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر“.
النفس تبكي على الدنيا و قد علمت ..... أن السعادة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها ..... الا التي كان قبل الموت بانيها
فان بناها بخير طاب مسكنه ..... و ان بناها بشر خاب بانيها
فهذه هي حقيقة الدنيا فما هي الا ممر لدار مقر !!؟؟
و موت المؤمن راحة له من غموم دار الدنيا و همومها و آلامها كما في الحديث:
“اذا حًًٌََُُضر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون: اخرجي راضية
مرضياً عنك إلى روح الله و ريحان و رب غير غضبان فتخرج كأطيب ريح المسك
حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً حتى يأتون به باب السماء فيقولون:ما أطيب هذه الريح
التي جاءتكم من الأرض فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشد فرحاً به من أحدكم بغائبه
يقدم عليه فيسألونه ماذا فعل فلان؟ماذا فعل فلان؟فيقولون:دعوه فإه كان في غم الدنيا ..
... و إن الكافر اذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون:اخرجي ساخطة مسخوطاً
عليك الى عذاب الله عز و جل فتخرج كأنتن ريح جيفة حتى يأتون به باب الأرض
فيقولون: ما أنتن هذه الريح حتى يأتون به أرواح الكفار“
إن هذا المعنى الذي يدركه المؤمن لحقيقة الدنيا يهون عليه كثيراً من وقع المصاب و
ألم الغم و نكد الهم لأنه يعلم أنه أمر لابد منه فهو من طبيعة هذه الدنيا ....
• ... ابتغاء الأسوة بالرسل و الصالحين :
و هم أشد الناس في الدنيا ابتلاء و المرء يبتلى على قدر دينه والله اذا أحب عبدا ابتلاه .
• ... أن يجعل العبد الآخرة همه:
هموم الدنيا تشتت النفس و تفرق شملها فاذا جعل العبد الآخرة همه جمع الله له شمله
و قويت عزيمته.
قال بن القيم رحمه الله:إذا أصبح العبد و أمسى و ليس همه إلا الله وحده ، تحمل الله
عنه سبحانه حوائجه كلها ، و حمل عنه كل ما أهمه ، و فرغ قلبه لمحبته ، و لسانه
لذكره ،و جوارحه لطاعته، و إن أصبح و أمسى و الدنيا همه ، حمله الله همومها و
غمومها و أنكادها ووكله الى نفسه فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق ،و لسانه عن
ذكره بذكرهم و جوارحه عن طاعته بخدمتهم و أشغالهم ، فهو يكدح كدح الوحوش في
خدمة غيره .. فكل من أعرض عن عبودية الله و طاعته و محبته بلي بعبودية المخلوق
و محبته و خدمته .
• ... دعاء الله تعالى:
و هذا نافع جداً و منه ما هو وقاية و منه ما هو علاج ، فأما الوقاية فعن أنس بن مالك قال : كنت أخدم رسول الله ، إذا نزل فكنت أسمعه كثيراً يقول:
” اللهم إني أعوذ بك من الهم و الحزن و العجز و الكسل و البخل و الجبن و ضلع الدين و غلبة الرجال“
و هذا الدعاء مفيد لدفع الهم قبل وقوعه .
فإذا وقع الهم و ألم بالمرء ، فباب الدعء مفتوح غير مغلق، و الكريم عز و جل إن طرق لديه الباب و سئل أعطى و أجاب ...
يقول عز و جل:“و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي و ليؤمنوا بي لعلهم يؤشدون“
دعاء الفرج
أهديكم هذا الدعاء العظيم المشهور الذي حث النبي كل من سمعه أن يتعلمه و
يحفظه : قال رسول الله:“ما أصاب أحد قط هم و لا حزن فقال: اللهم إني عبدك و
ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك
سميت به نفسك ، أو علمته أحد من خلقك ، أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به
في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي و نور صدري ، و جلاء(/1)
حزني ، و ذهاب همي إلا أذهب الله همه و حزنه أبدله مكانه فرجاً“
قال:فقيل:يا رسول الله ، أفلا نتعلمها ؟ فقال : بل ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها“.
دعاء الكرب
عن ابن عباس أن رسول الله كان يقول عند الكرب“لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا اله الا الله رب العرش العظيم ، لا اله الا الله رب السموات و رب الأرض و رب العرش الكريم.
”دعوات المكروب:اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني الى نفسي طرفة عين و أصلح لي شأني كله لا اله الا أنت“.
• ... و لا تزال هناك العديد من الأشياء لعلاج الهموم مثل:
• ... التوكل على الله عز و جل.
• ... ترك الحزن على ما مضى و الخوف مما يأتي.
• ... الاكثار من ذكر الله.
• ... اللجوء الى الصلاة.
• ... قصر الدنيا و غلاء العمر.
• ... حسن الظن بالله.
• ... التحدث بنعم الله.
• ... العلم النافع و العمل الصالح.
• ... النظر الى محاسن ما يكره.
• ... عدم السماح بتراكم الأعمال و الواجبات.
• ... التوقع المستمر و الاستعداد النفسي.
• ... مشاورة أهل العلم و طلب نصيحتهم.
تذكرة
و أخيراً نذكر أنفسنا بأن هموم الدنيا - و ان كانت عظيمة و كثيرة- فان هموم الآخرة أعظم و غمومها و كروبها أشد و من ذلك ما يصيب الناس في أرض المحشر ...
فيقول رسول الله“.... أنا سيد الناس يوم القيامة و هل تدرون مم ذلك ؟ يجمع الله الناس الأولين و الآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي و ينفذهم البصر و تدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم و الكرب ما لا يطيقون و لا يحتملون فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم ، ألا تنظرون من يشفع لكم الى ربكم فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم ....... ”
و لا علاج لغموم و كروب ذلك اليوم الا بالاقبال على الله في هذا اليوم ....
و أخيراً فلنذكر دائما ان الدنيا و الله زائلة و أنها ليست الا ممر لدار مقر و تذكروا دوماً قول الشاعر
تزود من التقوى فانك لا تدري .... اذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر؟؟
فكم من صحيح مات من غير علة .... و كم من عليل عاش حيناً من الدهر ؟
و كم من صبي يرتجى طول عمره .... و قد نسجت أكفانه و هو لا يدري ؟!!!
و لا تنسونا في فلسطين و في العراق و لكل المسلمين من دعائكم
و السلام عليكم و رحمة الله(/2)
علاج الهموم 3
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين ، أشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من سار على هديه واقتفى أثره إلى يوم الدين، وبعد..
فإن من طبيعة الحياة الدنيا الهموم والغموم التي تصيب الإنسان فيها، فهي دار اللأواء والشدة والضنك، ولهذا كان مما تميزت الجنة به عن الدنيا أنه ليس فيها هم ولا غم " لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين" ، وأهلها لا تتكدر خواطرهم ولا بكلمة " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاماً " وطبيعة الحياة الدنيا المعاناة والمقاساة التي يواجهها الإنسان في ظروفه المختلفة وأحواله المتنوعة، كما دل عليه قول الحق تعالى : " لقد خلقنا الإنسان في كبد ". فهو حزين على ما مضى، مهموم بما يستقبل ، مغموم في الحال.
والمكروه الوارد على القلب إن كان من أمر ماض أحدث الحزن، وإن كان من مستقبل أحدث الهم، وإن كان من أمر حاضر أحدث الغم.
والقلوب تتفاوت في الهم والغمّ كثرة واستمراراً بحسب ما فيها من الإيمان أو الفسوق والعصيان فهي على قلبين : قلب هو عرش الرحمن ، ففيه النور والحياة والفرح والسرور والبهجة وذخائر الخير، وقلب هو عرش الشيطان فهناك الضيق والظلمة والموت والحزن والغم والهم . من فوائد ابن القيم.
والناس يتفاوتون في الهموم بتفاوت بواعثهم وأحوالهم وما يحمله كل واحد منهم من المسئوليات.
فمن الهموم هموم سامية ، ذات دلالات طيبة ، كهموم العالم في حلّ المعضلات التي يحتاج المسلمون فيها إلى جواب وخصوصا إذا استعصت المسألة واستغلقت ، وكذلك همّ إمام المسلمين بمشكلات رعيته وهذا مما أقلق العمرين وغيرهما فكان الأول يجهّز الجيش في الصلاة وهو معذور في ذلك ويحمل همّ الدواب أن تعثر بأرض العراق ، والثاني كان يعبّر عما يعانيه بقوله : إني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله قد فني عليه الكبير وكبر عليه الصغير وفصح عليه الأعجمي وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينا لا يرون الحقّ غيره.سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص : 37
وكلما كان القرار أكثر تعلقاً بمصير المسلمين كان الهمّ أعظم ولذلك لما أوكل إلى عبد الرحمن بن عوف اختيار خليفة المسلمين بعد عمر لم يكتحل بنوم ليشاور المسلمين حتى العجائز البخاري الفتح 7207.
ومن الهموم الشريفة همّ الداعية في نشر الدين وحمل الرسالة والأخذ بيد المدعو إلى طريق الهداية، وهموم العابد في تصحيح عبادته في القصد والأداء، وهم المسلم بما يصيب إخوانه في أقطار الأرض..
ومن الهموم ما يكون ناشئاً عن المعاصي ، كالهموم التي تصيب المذنب بعد ذنبه كما يحدث في هم من أصاب دماً حراماً، أو هم الزانية بحملها.
ومن الغموم ما يكون بسبب ظلم الآخرين كظلم الأقرباء كما قال الشاعر :
وظلم ذوى القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
وكذلك الغموم الحاصلة بسبب مصائب الدنيا ، كالأمراض المزمنة والخطيرة ، وعقوق الأبناء وتسلط الزوجة، واعوجاج الزوج.
ومن الهموم ما يكون بسبب الخوف من المستقبل وما يخبئه الزمان كهموم الأب بذريته من بعده وخاصة إذا كانوا ضعفاء وليس لديه ما يخلفه لهم .
وهكذا تتنوع الغموم والهموم، وفيما يلي شيء من البيان والتفصيل :
الهم الذي يعتري الداعية أثناء دعوته لقومه، وقد نال منه الأنبياء النصيب الأوفى، فهذه عائشة رضى الله عنها تحدث ابن أختها عروة أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا رواه البخاري الفتح 3231(/1)
وكذلك أصابه الكرب صلى الله عليه وسلم لما كذبه قومه في مسراه فروى مسلم رحمه الله تعالى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ قَالَ فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ .. صحيح مسلم، ط. عبد الباقي، رقم 172
ومن الهموم هم العبادات ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهمه أمر إعلام الناس بالصلاة : فعَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ اهْتَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ النَّاسَ لَهَا فَقِيلَ لَهُ انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلاةِ فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ قَالَ فَذُكِرَ لَهُ الْقُنْعُ يَعْنِي الشَّبُّورَ وَقَالَ زِيَادٌ شَبُّورُ الْيَهُودِ فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ وَقَالَ هُوَ مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ قَالَ فَذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ فَقَالَ هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ وَهُوَ مُهْتَمٌّ لِهَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُرِيَ الأَذَانَ فِي مَنَامِهِ قَالَ فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَبَيْنَ نَائِمٍ وَيَقْظَانَ إِذْ أَتَانِي آتٍ فَأَرَانِي الأَذَانَ…" رواه أبو داود في سننه : كتاب الصلاة باب بدء الأذان
ومنها همّ الصادق بتكذيبه ، كما وقع للصحابي الجليل زيد بن الأرقم رضي الله عنه لما سمع رأس المنافقين يقول لأَصْحَابِهِ : لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ (يعني بالأعز نفسه، ويقصد بالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه ) ، قَالَ زَيْدٌ : فَأَخْبَرْتُ عَمِّي فَانْطَلَقَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَفَ وَجَحَدَ قَالَ فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَنِي قَالَ فَجَاءَ عَمِّي إِلَيَّ فَقَالَ مَا أَرَدْتَ إِلا أَنْ مَقَتَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَكَ وَالْمُسْلِمُونَ قَالَ فَوَقَعَ عَلَيَّ مِنَ الْهَمِّ مَا لَمْ يَقَعْ عَلَى أَحَدٍ قَالَ فَبَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ قَدْ خَفَقْتُ بِرَأْسِي مِنَ الْهَمِّ إِذْ أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَكَ أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي فَمَا كَانَ يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الْخُلْدَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَحِقَنِي فَقَالَ مَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ مَا قَالَ لِي شَيْئًا إِلا أَنَّهُ عَرَكَ أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي فَقَالَ أَبْشِرْ ثُمَّ لَحِقَنِي عُمَرُ فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ قَوْلِي لأَبِي بَكْرٍ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ رواه الترمذي وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، السنن ط. شاكر رقم 3313.
وفي رواية مسلم للقصة قَالَ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَسَأَلَهُ فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ فَقَالَ كَذَبَ زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمَّا قَالُوهُ شِدَّةٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقِي (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ). صحيح مسلم رقم 2772(/2)
ومنها هم البريء بسبب التهمة الباطلة ، وقد نالت زوجة رسولنا الكريم عائشة رضى الله عنها من هذا الهم نصيبا وافرا فعندما رماها المنافقون في غزوة المريسيع بما رموها به من الفاحشة ، وكانت مريضة، علمت بالخبر من إحدى نساء بيتها فازداد مرضها، وركبها الهم، قَالَتْ فَقُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ أَوَلَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا قَالَتْ فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ حَتَّى أَصْبَحْتُ أَبْكِي.. ثم قَالَتْ : فَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ قَالَتْ فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي قَالَتْ فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي قَالَتْ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ قَالَتْ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي قَالَتْ فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَتْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً فَقُلْتُ لأَبِي أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ قَالَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لأُمِّي أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لَكُمْ مَثَلاً إِلا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ قَالَ (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) قَالَتْ ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي قَالَتْ وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي يُنْزَلُ عَلَيْهِ قَالَتْ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَتْ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ بَرَّأَكِ فَقَالَتْ أُمِّي قُومِي إِلَيْهِ قَالَتْ فَقُلْتُ لا وَاللَّهِ لا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلا أَحْمَدُ إِلا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسِبُوهُ) الْعَشْرَ الآيَاتِ كُلَّهَا. رواه البخاري الفتح رقم 2661(/3)
وكذلك قصة المرأة التي اتُّهمت ظلماً وروت قصتها عَائِشَةُ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ لِبَعْضِ الْعَرَبِ وَكَانَ لَهَا حِفْشٌ فِي الْمَسْجِدِ قَالَتْ فَكَانَتْ تَأْتِينَا فَتَحَدَّثُ عِنْدَنَا فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَدِيثِهَا قَالَتْ وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا أَلا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي فَلَمَّا أَكْثَرَتْ قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ وَمَا يَوْمُ الْوِشَاحِ قَالَتْ خَرَجَتْ جُوَيْرِيَةٌ لِبَعْضِ أَهْلِي وَعَلَيْهَا وِشَاحٌ مِنْ أَدَمٍ فَسَقَطَ مِنْهَا فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِ الْحُدَيَّا وَهِيَ تَحْسِبُهُ لَحْمًا فَأَخَذَتْهُ فَاتَّهَمُونِي بِهِ فَعَذَّبُونِي حَتَّى بَلَغَ مِنْ أَمْرِي أَنَّهُمْ طَلَبُوا فِي قُبُلِي فَبَيْنَاهُمْ حَوْلِي وَأَنَا فِي كَرْبِي إِذْ أَقْبَلَتِ الْحُدَيَّا حَتَّى وَازَتْ بِرُءُوسِنَا ثُمَّ أَلْقَتْهُ فَأَخَذُوهُ فَقُلْتُ لَهُمْ هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ البخاري الفتح 3835
ومنها الهم بما قد يحصل للزوجة والذرية بعد الموت
عن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِنَّ أَمْرَكُنَّ مِمَّا يُهِمُّنِي بَعْدِي وَلَنْ يَصْبِرَ عَلَيْكُنَّ إِلا الصَّابِرُونَ قَالَ ثُمَّ تَقُولُ عَائِشَةُ فَسَقَى اللَّهُ أَبَاكَ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ تُرِيدُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَكَانَ قَدْ وَصَلَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ يُقَالُ بِيعَتْ بِأَرْبَعِينَ أَلْفاً رواه الترمذي وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، سنن الترمذى رقم 3682 وحسنه في مشكاة المصابيح رقم 6121
عن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِنَّ أَمْرَكُنَّ مِمَّا يُهِمُّنِي بَعْدِي وَلَنْ يَصْبِرَ عَلَيْكُنَّ إِلا الصَّابِرُونَ قَالَ ثُمَّ تَقُولُ عَائِشَةُ فَسَقَى اللَّهُ أَبَاكَ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ تُرِيدُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَكَانَ قَدْ وَصَلَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ يُقَالُ بِيعَتْ بِأَرْبَعِينَ أَلْفاً رواه الترمذي وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، سنن الترمذى رقم 3682 وحسنه في مشكاة المصابيح رقم 6121(/4)
ومنها الهمّ بسبب الدَّيْن ومن أمثلة ذلك ما وقع للزبير رضي الله عنه كما روى قصته ولده عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعَانِي فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ يَا بُنَيِّ إِنَّهُ لا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ وَإِنِّي لا أُرَانِي إِلا سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُومًا وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي أَفَتُرَى يُبْقِي دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئًا فَقَالَ يَا بُنَيِّ بِعْ مَالَنَا فَاقْضِ دَيْنِي وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ يَعْنِي بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ يَقُولُ ثُلُثُ الثُّلُثِ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ قَالَ هِشَامٌ وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ قَدْ وَازَى بَعْضَ بَنِي الزُّبَيْرِ خُبَيْبٌ وَعَبَّادٌ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ بَنِينَ وَتِسْعُ بَنَاتٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَجَعَلَ يُوصِينِي بِدَيْنِهِ وَيَقُولُ يَا بُنَيِّ إِنْ عَجَزْتَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلايَ قَالَ فَوَاللَّهِ مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ يَا أَبَتِ مَنْ مَوْلاكَ قَالَ اللَّهُ قَالَ فَوَاللَّهِ مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلاّ قُلْتُ يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ فَيَقْضِيهِ.. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ فَوَجَدْتُهُ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ.. (واستبعد بعض أصحاب الزبير رضي الله عنه إمكان قضاء الدّين من هوله وكثرته ولكن بارك الله في أرض كانت للزبير بركة عظيمة ومدهشة فقسّمت وبيعت وسُدّد الدّين وبقيت بقية) فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا قَالَ لا وَاللَّهِ لا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أُنَادِيَ بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ أَلا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَلْنَقْضِهِ قَالَ فَجَعَلَ كُلَّ سَنَةٍ يُنَادِي بِالْمَوْسِمِ فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ قَالَ فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَرَفَعَ الثُّلُثَ فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ البخاري : الفتح رقم 3129
ومنها الهم للرؤيا يراها المرء، وقد وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِخَزَائِنِ الأَرْضِ فَوُضِعَ فِي كَفِّي سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَبُرَا عَلَيَّ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ أَنِ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَذَهَبَا فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا صَاحِبَ صَنْعَاءَ وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ البخارى : الفتح رقم 4375
ووقع لابن عمر رضي الله عنهما همّ بسبب رؤيا رآها وقد حدثنا عن ذلك فقَالَ كُنْتُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا لِي مَبِيتٌ إِلا فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصْبَحَ يَأْتُونَهُ فَيَقُصُّونَ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا قَالَ فَقُلْتُ مَا لِي لا أَرَى شَيْئًا فَرَأَيْتُ كَأَنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ فَيُرْمَى بِهِمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ فِي رَكِيٍّ فَأُخِذْتُ فَلَمَّا دَنَا إِلَى الْبِئْرِ قَالَ رَجُلٌ خُذُوا بِهِ ذَاتَ الْيَمِينِ فَلَمَّا اسْتَيْقَظْتُ هَمَّتْنِي رُؤْيَايَ وَأَشْفَقْتُ مِنْهَا فَسَأَلْتُ حَفْصَةَ عَنْهَا فَقَالَتْ نِعْمَ مَا رَأَيْتَ فَقُلْتُ لَهَا سَلِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ خَالِدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَكُنْتُ إِذَا نِمْتُ لَمْ أَقُمْ حَتَّى أُصْبِحَ قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي اللَّيْلَ رواه الدارمي، كتاب الصلاة، باب النوم في المسجد(/5)
وروى البخاري رحمه الله تعالى القصة عن ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ إِنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَرَوْنَ الرُّؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُصُّونَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَأَنَا غُلامٌ حَدِيثُ السِّنِّ وَبَيْتِي الْمَسْجِدُ قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي لَوْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ لَرَأَيْتَ مِثْلَ مَا يَرَى هَؤُلاءِ فَلَمَّا اضْطَجَعْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ فِيَّ خَيْراً فَأَرِنِي رُؤْيَا فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ جَاءَنِي مَلَكَانِ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ يُقْبِلانِ بِي إِلَى جَهَنَّمَ وَأَنَا بَيْنَهُمَا أَدْعُو اللَّهَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهَنَّمَ ثُمَّ أُرَانِي لَقِيَنِي مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ لَنْ تُرَاعَ نِعْمَ الرَّجُلُ أَنْتَ لَوْ كُنْتَ تُكْثِرُ الصَّلاةَ فَانْطَلَقُوا بِي حَتَّى وَقَفُوا بِي عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ لَهُ قُرُونٌ كَقَرْنِ الْبِئْرِ بَيْنَ كُلِّ قَرْنَيْنِ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ وَأَرَى فِيهَا رِجَالاً مُعَلَّقِينَ بِالسَّلاسِلِ رُؤوسُهُمْ أَسْفَلَهُمْ عَرَفْتُ فِيهَا رِجَالاً مِنْ قُرَيْشٍ فَانْصَرَفُوا بِي عَنْ ذَاتِ الْيَمِينِ فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ نَافِعٌ فَلَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْثِرُ الصَّلاةَ البخاري : الفتح رقم 7029
وفي الشريعة علاجات للهمّ الحاصل بسبب المنامات والأحلام المقلقة. ومنها التفل عن الشمال ثلاثاً والاستعاذة بالله من الشيطان ثلاثاً والاستعاذة بالله من شرّ ما رأى ثلاثاً وأن يغير الجنب الذي كان نائماً عليه أو يقوم يصلي ولا يحدّث برؤياه تلك أحداً من الناس
وبعد هذا العرض لطائفة من أنواع هموم الدنيا فقد آن الأوان للحديث عن العلاج.
ولا شك أن العقيدة تؤثر في المعالجة، فترى كثيراً من الكفار وكذلك ضعفاء الإيمان يُصابون بالانهيار أو يُقدمون على الانتحار للتخلص من الكآبة والحبوط واليأس إذا ما وقعوا في ورطة أو أصابتهم مصيبة وكم ملئت المستشفيات من مرضى الانهيارات العصبية والصدمات النفسية وكم أثرت هذه الأمور على كثير من الأقوياء ، فضلاً عن الضعفاء ، وكم أدت إلى العجز التام أو فقدان العقل والجنون.
أما من اهتدى بهدي الإسلام فإنه يجد العلاج فيما أتى من لدن العليم الخبير الذي خلق الخلق وهو أعلم بما يصلحهم " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " .
فهلم إلى استعراض شيء من أنواع العلاجات التي جاءت في هذه الشريعة :
أولاً : التسلّح بالإيمان المقرون بالعمل الصالح
قال الله تعالى: " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون "
وسبب ذلك واضح، فإن المؤمنين بالله الإيمان الصحيح، المثمر للعمل الصالح المصلح للقلوب والأخلاق والدنيا والآخرة، معهم أصول وأسس يتعاملون بها مع كلّ ما يرد عليهم من أنواع المسرات والأحزان. فيتلقون النّعم والمسارّ بقبول لها، وشكر عليها، ويستعملونها فيما ينفع، فإذا فعلوا ذلك أحسوا ببهجتها وطمعوا في بقائها وبركتها ورجاء ثواب شكرها وغير ذلك من الأمور العظيمة التي تفوق بخيراتها وبركاتها تلك المسرات.
ويتلقون المكاره والمضار والهم والغم بالمقاومة لِما يمكنهم مقاومته وتخفيف ما يمكنهم تخفيفه ، والصبر الجميل لما ليس لهم عنه بد ، فيحصّلون منافع كثيرة من جراء حصول المكاره، ومن ذلك: المقاومات النافعة ، والتجارب المفيدة ، وقوة النفس ، وأيضا الصبر واحتساب الأجر والثواب وغير ذلك من الفوائد العظيمة التي تضمحل معها المكاره، وتحل محلها المسار والآمال الطيبة، والطمع في فضل الله وثوابه، كما عبّر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى في الحديث الصحيح بقوله : عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ رواه مسلم في صحيحه رقم 2999
وهكذا يكون النظر الإيجابي إلى الابتلاء ، ومن ذلك :(/6)
ثانياً : النظر فيما يحصل للمسلم من تكفير الذنوب وتمحيص القلب ورفع الدرجة ، إذا أصابته غموم الدنيا وهمومها :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ رواه البخاري الفتح 5642
وفي رواية مسلم : (مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلا نَصَبٍ وَلا سَقَمٍ وَلا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ) صحيح مسلم رقم 2573
فليعلم المهموم أن ما يصيبه من الأذى النفسي نتيجة للهمّ لا يذهب سدى بل هو مفيد في تكثير حسناته وتكفير سيئاته، وأن يعلم المسلم أنه لولا المصائب لوردنا يوم القيامة مفاليس كما ذكر بعض السلف ولذلك كان أحدهم يفرح بالبلاء كما يفرح أحدنا بالرخاء.
وإذا علم العبد أن ما يصيبه من المصائب يكفّر عنه سيئاته فرح واستبشر، وخصوصاً إذا عوجل بشيء بعد الذنب مباشرة كما وقع لبعض الصحابة رضي الله عنهم فيما رواه عَبْد اللَّهِ بْن مُغَفَّلٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلا لَقِيَ امْرَأَةً كَانَتْ بَغِيًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَجَعَلَ يُلاعِبُهَا حَتَّى بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ مَهْ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ ذَهَبَ بِالشِّرْكِ وَقَالَ عَفَّانُ مَرَّةً ذَهَبَ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَجَاءَنَا بِالإِسْلامِ فَوَلَّى الرَّجُلُ فَأَصَابَ وَجْهَهُ الْحَائِطُ فَشَجَّهُ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ أَنْتَ عَبْدٌ أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرًا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْراً عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرّاً أَمْسَكَ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ عَيْرٌ رواه أحمد رحمه الله المسند 4/87 والحاكم في المستدرك 1/349 وفي إسناده الحسن عن عبد الله بن مغفل والحسن مدلس وقد عنعن ولكن روى صالح بن أحمد ببن حنبل قال : قال أبي : سمع الحسن من أنس بن مالك ومن ابن مغفل - يعني عبد الله بن مغفل - : كتاب المراسيل لابن أبي حاتم ص: 45 باب ما يثبت للحسن البصري سماعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الذهبي رحمه الله : قال قائل : إنما أعرض أهل الصحيح عن كثير مما يقول فيه الحسن : عن فلان، وإن كان مما قد ثبت لقيُّه فيه لفلان المعين لأن الحسن معروف بالتدليس ويدلّس عن الضعفاء فيبقى في النفس من ذلك.. السير 4/588
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا أراد بعبد خيراً عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبد شراً أمسك عنه حتى يوافى يوم القيامة بذنبه ) رواه الترمذي السنن رقم 2396 وهو في صحيح الجامع رقم 308
ثالثاً : معرفة حقيقة الدنيا
فإذا علم المؤمن أن الدنيا فانية، ومتاعها قليل، وما فيها من لذة فهي مكدّرة ولا تصفو لأحد. إن أضحكت قليلاً أبكت طويلاً، وإن أعطت يسيراً منعت كثيراً، والمؤمن فيها محبوس كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ رواه مسلم رقم 2956
وهي كذلك نصب وأذى وشقاء وعناء ولذلك يستريح المؤمن إذا فارقها كما جاء عن أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ رواه البخاري : الفتح رقم 6512(/7)
وموت المؤمن راحة له من غموم دار الدنيا وهمومها وآلامها كما في الحديث : إِذَا حُضِرَ الْمُؤْمِنُ أَتَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ فَيَقُولُونَ اخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيّاً عَنْكِ إِلَى رَوْحِ اللَّهِ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ حَتَّى أَنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ السَّمَاءِ فَيَقُولُونَ مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتِي جَاءَتْكُمْ مِنَ الأَرْضِ فَيَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحاً بِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ يَقْدَمُ عَلَيْهِ فَيَسْأَلُونَهُ مَاذَا فَعَلَ فُلانٌ مَاذَا فَعَلَ فُلانٌ فَيَقُولُونَ دَعُوهُ فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا فَإِذَا قَالَ أَمَا أَتَاكُمْ قَالُوا ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتُضِرَ أَتَتْهُ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ بِمِسْحٍ فَيَقُولُونَ اخْرُجِي سَاخِطَةً مَسْخُوطاً عَلَيْكِ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ الأَرْضِ فَيَقُولُونَ مَا أَنْتَنَ هَذِهِ الرِّيحَ حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ المجتبى من سنن النسائي رقم 1810 وصححه الألباني في صحيح النسائي 1309
إن هذا المعنى الذي يدركه المؤمن لحقيقة الدنيا يهوّن عليه كثيراً من وقع المصاب وألم الغمّ ونكد الهمّ لأنه يعلم أنه أمر لا بدّ منه فهو من طبيعة هذه الحياة الدنيا.
رابعاً : ابتغاء الأسوة بالرسل والصالحين واتخاذهم مثلاً وقدوة
وهم أشد الناس بلاءً في الدنيا ، والمرء يبتلى على قدر دينه ، والله إذا أحب عبداً ابتلاه وقد سأل سعد رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً قَالَ الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْباً اشْتَدَّ بَلاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ رواه الترمذي وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، السنن : رقم 2398 وهو في صحيح سنن الترمذي للألباني رقم 1956
خامساً : أن يجعل العبد الآخرة همه
لكي يجمع الله له شمله لما رواه أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ رواه الترمذي رقم 2389 وصححه الألباني في صحيح الجامع 6510
قال ابن القيم رحمه الله: إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمّل الله عنه سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كلّ ما أهمّه، وفرّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكَلَه إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحوش في خدمة غيره.. فكلّ من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلِيَ بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته. قال تعالى : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين). الفوائد ط. دار البيان ص: 159
سادساً : علاج مفيد ومدهش وهو ذكر الموت
لقوله صلى الله عليه وسلم : (أكثروا ذكر هادم اللذات : الموت فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيَّقها عليه) رواه البزار عن أنس وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم 1211 وصححه كذلك في إرواء الغليل رقم 682
سابعاً : دعاء الله تعالى
وهذا نافع جداً ومنه ما هو وقاية ومنه ما هو علاج، فأما الوقاية فإن على المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى ويدعوه متضرعاً إليه بأن يعيذه من الهموم ويباعد بينه وبينها ، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقد أخبرنا خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه عن حاله معه بقوله: (كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل فكنت أسمعه كثيراً يقول :( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ) رواه البخاري الفتح رقم 2893
وهذا الدعاء مفيد لدفع الهم قبل وقوعه والدفع أسهل من الرفع.(/8)
ومن أنفع ما يكون في ملاحظة مستقبل الأمور استعمال هذا الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ رواه مسلم رقم 2720.
فإذا وقع الهم وألمّ بالمرء، فباب الدعاء مفتوح غير مغلق، والكريم عز وجل إن طُرق بابه وسُئل أعطى وأجاب.. يقول جلّ وعلا : " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون " .
ومن أعظم الأدعية في إذهاب الهمّ والغم والإتيان بعده بالفرج : الدعاء العظيم المشهور الذي حثّ النبي صلى الله عليه وسلم كلّ من سمعه أن يتعلّمه ويحفظه :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمٌّ وَلا حَزَنٌ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجِلاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي إِلا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجا قَالَ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا نَتَعَلَّمُهَا فَقَالَ بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا رواه الإمام أحمد في المسند 1/391 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 198
هذا الحديث العظيم الذي يتضمن اعتراف العبد أنه مملوك لله وأنه لا غنى له عنه وليس له سيد سواه والتزام بعبوديته وإعلان الخضوع والامتثال لأمره ونهيه ، وأن الله يصرّفه ويتحكّم فيه كيف يشاء وإذعان لحكم الله ورضى بقضائه وتوسل إلى الله بجميع أسمائه قاطبة ثم سؤال المطلوب ونشدان المرغوب
وقد ورد في السنّة النبوية أدعية أخرى بشأن الغم والهم والكرب ومنها :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ رواه البخاري، الفتح رقم 6346
وعن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر قال : (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ) الترمذي رقم 3524 وحسنه في صحيح الجامع 4653
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ أَوْ فِي الْكَرْبِ اللَّهُ اللَّهُ رَبِّي لا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. رواه أبو داود كتاب الصلاة : باب في الاستغفار، وهو في صحيح الجامع 2620
ومن الأدعية النافعة في هذا الباب أيضا ما علمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :.. دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ.. رواه أبوداود في كتاب الأدب رقم 5090.وحسنه في صحيح الجامع 3388 وفي صحيح سنن أبي داود رقم 4246.
فإذا لهج العبد بهذه الأدعية بقلب حاضر، ونية صادقة، مع اجتهاده في تحصيل أسباب الإجابة، حقق الله له ما دعاه ورجاه وعمل له ، وانقلب همه فرحاً وسروراً.
ثامناً : الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
وهي من أعظم ما يفرج الله به الهموم :(/9)
روى الطُّفَيْلُ بْنُ أُبَيِّ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ قَالَ أُبَيٌّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلاتِي فَقَالَ مَا شِئْتَ قَالَ قُلْتُ الرُّبُعَ قَالَ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قُلْتُ النِّصْفَ قَالَ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قَالَ قُلْتُ فَالثُّلُثَيْنِ قَالَ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قُلْتُ أَجْعَلُ لَكَ صَلاتِي كُلَّهَا قَالَ إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ رواه الترمذي وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. السنن رقم 2457/وحسنه الألباني في المشكاة 929
تاسعاً : التوكل على الله عز وجل وتفويض الأمر إليه
" فمن علم أن الله على كل شيء قدير، وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير. وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه وأنه أعلم بمصلحة العبد من العبد وأقدر على جلبها وتحصيلها منه وأنصح للعبد لنفسه وأرحم به منه بنفسه، وأبرّ به منه بنفسه. وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة ولا يتأخر عن تدبيره له خطوة واحدة، فلا متقدم له بين يدي قضائه وقدره ولا متأخر، فألقى نفسه بين يديه وسلم الأمر كله إليه، وانطرح بين يديه انطراح عبد مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قاهر. له التصرف في عبده بما شاء ، وليس للعبد التصرف فيه بوجه من الوجوه ، فاستراح حينئذ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات. وحمل كل حوائجه ومصالحه من لا يبالي بحملها ولا يثقله ولا يكترث بها. فتولاها دونه وأراه لطفه وبره ورحمته وإحسانه فيها من غير تعب من العبد ولا نصب ، ولا اهتمام منه، لأنه قد صرف اهتمامه كله إليه وجعله وحده همه. فصرف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه ، وفرغ قلبه منها ، فما أطيب عيشه وما أنعم قلبه وأعظم سروره وفرحه.
وأما من أبى إلا تدبيره لنفسه واختياره لها واهتمامه بحظه دون حق ربه، خلاه وما اختاره وولاه ما تولى فحضره الهم والغم والحزن والنكد والخوف والتعب، وكسف البال وسوء الحال ، فلا قلب يصفو، ولا عمل يزكو، ولا أمل يحصل ، ولا راحة يفوز بها ، ولا لذة يتهنى بها، بل قد حيل بينه وبين مسرته وفرحه وقرة عينه . فهو يكدح في الدنيا كدح الوحش ولا يظفر منها بأمل ولا يتزود منها لمعاد. الفوائد لابن القيم ص : 209
" ومتى اعتمد القلب على الله ، وتوكل عليه ، ولم يستسلم للأوهام ولا ملكته الخيالات السيئة ، ووثق بالله وطمع في فضله ، اندفعت عنه بذلك الهموم والغموم ، وزالت عنه كثير من الأسقام القلبية والبدنية ، وحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور ما لا يمكن التعبير عنه ، والمعافى من عافاه الله ووفقه لجهاد نفسه لتحصيل الأسباب النافعة المقوية للقلب ، الدافعة لقلقه ، قال تعالى " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " أي كافيه جميع ما يهمه من أمر دينه ودنياه .
فالمتوكل على الله قوي القلب لا تؤثر فيه الأوهام ، ولا تزعجه الحوادث لعلمه أن ذلك من ضعف النفس ومن الخور والخوف الذي لا حقيقة له ، ويعلم مع ذلك أن الله قد تكفل لمن توكل عليه بالكفاية التامة، فيثق بالله ويطمئن لوعده ، فيزول همه وقلقه ، ويتبدل عسره يسرا ، وترحه فرحا، وخوفه أمنا فنسأله تعالى العافية وأن يتفضل علينا بقوة القلب وثباته بالتوكل الكامل الذي تكفل الله لأهله بكل خير، ودفع كل مكروه وضير. " الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي
عاشراً : ومما يدفع الهم والقلق الحرص على ما ينفع واجتماع الفكر كله على الاهتمام بعمل اليوم الحاضر ، وقطعه عن الاهتمام في الوقت المستقبل ، وعن الحزن على الوقت الماضي(/10)